المدخل
المقالة الأولى
المقالة الأولى من الفن الأول من الجملة الأولى وهي في علم المنطق
الفصل الأول
في الإشارة إلى ما يشتمل عليه الكتاب
قال الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا، أحسن الله إليه: وبعد حمد الله، والثناء عليه كما هو أهله، والصلاة على نبيه محمد وآله الطاهرين، فإنَّ غَرَضَنا في هذا الكتاب الذي نرجو أن يُمْهلَنا الزمان إلى ختمه، ويصحَبَنَا التوفيق من الله في نَظْمه، أن نودعه لباب ما تحققناه من الأصول في العلوم الفلسفية المنسوبة إلى الأقدمين، المبنية على النظر المرتب المحقق، والأصول المستنبطة بالأَفْهام المتعاونة على إدراك الحق المجتهد فيه زمانا طويلا، حتى استقام آخره على جملةٍ اتفقت عليها أكثر الآراء، وهجرت معها غواشي الأهواء. وتحريت أَن أُودِعَه أكثَر الصناعة، وأن أشير في كل موضعٍ إلى موقع الشبهة، وأحلَّها بإيضاح الحقيقة بقدر الطاقة، وأوردَ الفروعَ مع الأصول إلا ما أثق بانكشافه لمن استبصر بما نُبَصِّره ، وتَحَقَّقَ ما نُصَوِّره، أو ماعزب عن ذكرى ولم يَلُح لفكر. وأجتهدت في اختصار الألفاظ جدا " ، ومجانبة التكرار أصلا، إلا ما يقع خطأ أو سهوا " ، وتنكبت التطويل في مناقضة مذاهب جلية البطلان أو مكفية الشغل بما نقرره من الأصول، ونعرفه من القوانين. ولا يوجد في كتب القدماء شئ يعتد به إلا وقد ضمّناه كتابنا هذا؛ فإنْ لم يوجد في الموضع الجاري بإثباته فيه العادة وُجِدَ في موضع آخر رأيتُ أنه أليق به؛ وقد أضفتُ إلى ذلك مما أدركتُه بفكري، وحصلتُه بنظري، وخصوصا في علم الطبيعة وما بعدها، وفي علم المنطق.
وقد جرت العادة بأن تطول مبادئ المنطق بأشياء ليست منطقية، وإنما هي للصناعة الحِكْمِية أعنى الفلسفة الأولى، فتجنبت إيرادَ شئٍ من ذلك، وإضاعة الزمان به وأخَّرتُهُ إلى موضعه.
ثم رأيتُ أن أتلو هذا الكتاب بكتاب آخر، أسميه " كتاب اللواحق " ، يتم مع عمري، ويُؤَرَّخُ بما يفرغ منه في كل سنة، يكون كالشرح لهذا الكتاب، وكتفريع الأصول فيه، وبسط المُوجز من معانيه.
ولي كتاب غير هذين الكتابين، أوردت فيه الفلسفَةَ على ماهي في الطبع، وعلى ما يوجبه الرأي الصريح الذي لايراعى فيه جانب الشركاء في الصناعة، ولايُتَّقَى فيه مِنْ شَقِّ عصاهم ما يُتَّقَى في غيره، وهو كتابي في " الفلسفة المشرقية " .
وأما هذا الكتاب فأكثر بْسطا، وأشدُّ مع الشركاء من المشّائين مساعدة.
ومن أراد الحق الذي لامَجْمَجَة فيه، فعليه بطلب ذلك الكتاب، ومن أراد الحق على فيه ترضّ مّا إلى الشركاء وبسْطٌ كثير، وتلويح بما لو فُطِن له أستُغْنى عن الكتاب الآخر، فعليه بهذا الكتاب ولما أفتتحتُ هذا الكتابَ أبتدأتُ بالمنطق وتحريت أن أحاذىَ به ترتيبَ كتب صاحب المنطق، وأوردت في ذلك من الأسرار واللطائف ما تخلو عنه الكتب الموجودة. ثم تلوته بالعلم الطبيعي، فلم يتفق لي في أكثر الأشياء محاذاة تصنيف المُؤْتِّم به في هذه الصناعة وتذاكيره. ثم تلوته بالهندسة، فاختصرت كتاب الأسْطُقسات لأوقليدس اختصارا لطيفا، وحلَلْتُ فيه الشُبَه واقتصرت عليه. ثم اردفته باختصارٍ كذلك لكتاب المجسطي في الهيئة يتضمن مع الاختصار بيانا وتفهيما، وألحقتُ به من الزيادات بعد الفَرَاغ منه ما وجب أن يعلم المتعلم حتى تَتِم به الصناعة، ويطابق فيه بين الأحكام الرصدية والقوانين الطبيعية. ثم تلوتُه باختصار لطيف لكتاب المدخل في الحساب. ثم ختمت صناعة الرياضيين بعلم الموسيقى على الوجه الذي انكشف لي، مع بحث طويل، ونظر دقيق، على الاختصار. ثم ختمتُ الكتابَ بالعلم المنسوب إلى ما بعد الطبيعة على أقسامه ووجوهه، مشارا فيه إلى جُمَلٍ من علم الأخلاق والسياسات، إلى أن أصنِّف فيها كتابا جامعا مُفْرَدا.
وهذا الكتاب، وإنْ كان صغيرَ الحجم، فهو كثير العلم، ويكاد لايفوت متأملَه ومتدبرَه أكثرُ الصناعة، إلى زيادات لم تجر العادة بسماعها من كتب أخرى؛ وأول الجمل التي فيه هو علم المنطق.
وقبل أن نشرع في علم المنطق، فنحن نشير إلى ماهية هذه العلوم إشارةً موجزة، ليكون المتدبرُ لكتابنا هذا كالمطلع على جُمَلٍ من الأغراض.
الفصل الثاني
في التنبيه على العلوم والمنطق(1/1)
فنقول: إنَّ الغرضَ في الفلسفة أنْ يُوقَفَ على حقائِق الأشياءِ كلِّها على قدر مايمكن الإنسان أن يقف عليه. والأشياء الموجودةُ إما أشياء موجودةٌ ليس وجودُها باختيارنا وفِعُلِنا، وإما أشياء وجودها باختيارنا وفعلنا. ومعرفة الامور التي من القسم الأول تسمى فلسفةً نظرية، ومعرفة الأمور التي من القسم الثاني تسمى فلسفةً عملية. والفلسفة النظرية إنما الغاية فيها تكميل النفس بأن تعلم فقط، والفلسفة العملية إنما الغاية فيها تكميل النفس، لا بأن تعلم فقط، بل بأن تعلم ما يُعْمَل به فتَعْمَل. فالنظريةُ غايَتُها اعتقادُ رأىٍ ليس بعمل، والعملية غايَتُها معرفة رأى هو في عمل، فالنظرية أوْلى بأن تُنْسب إلى الرأى.
والأشياء الموجودةُ في الأعيان التي ليس وجودُها باختيارنا وفعلنا هي بالقسمة الأولى على قسمين: أحدهما الأمور التي تخالط الحركة، والثاني الأمورُ التي لاتخالط الحركة، مثل العقل والبارى. والأمور التي تخالط الحركة على ضربين: فإنها إما أن تكون لاوجود لها إلا بحيث يجوز أن تخالط الحركة، مثل الإنسانية والتربيع، وما شابه ذلك، وإما أن يكون لها وجود من دون ذلك. فالموجودات التي لاوجود لها إلا بحيث يجوز عليها مخالطة الحركة على قسمين: فإنّها إمّا أَنْ تكون، لا القِوام ولا في الوهم، يصح عليها أن تُجَرَّد عن مادة مُعَيَّنة، كصورة الإنسانية والفَرَسية، وإما أن تكون يصح عليها ذلك في الوهم دون القِوام، مثل التربيع، فإنه لا يُحْوِج تصوُّرُه إلى أن يُخَص بنوع مادة، أو يُلْتَفت إلى حال حركة. وأما الأمور التي يصح أن تخالط الحركة، ولها وجود دون ذلك، فهي مثل الهوية، والوحدة، والكثرة، والعِلِّية. فتكون الأمور التي يصح عليها أن تجرَّد عن الحركة، إما أن تكون صحتُها صحةَ الوجوب، وإما ألا تكون صحتُها صحةَ الوجوب، بل تكون بحيث لايمتنع لها ذلك، مثل حال الوحدة، والهوية، والعلية، والعدد الذي هو الكثرة. وهذه فإما أنْ يُنْظَر إليها من حيث هى هى، فلا يفارق ذلك النظرُ النظرَ إليها من حيث هى مجردة، فإنها تكون من جملة النظر الذي يكون في الأشياء، لا من حيث هى في مادة، إِذْ هى، من حيث هى هى، لا في مادة، وإمَّا أن يُنْظر اليها من حيث عَرَضَ لها عرضٌ لايكون في وجود إلا في المادة. وهذا على قسمين: إمَّا أن يكون ذلك العرض لايصح توهمه أن يكون إلا مع نسبةٍ إلى المادة النوعية والحركة، مثل النظر في الواحد، من حيث هو نارٌ أو هواء، وفي الكثير، من حيث هو أُسْطقسات، وفي العلة، من حيث هي مثلا حرارة أو برودة، وفي الجوهر العقلي، من حيث هو نفس، أى مبدأ حركةِ بدنٍ، وإِنْ كان يجوز مفارقته بذاته. وإمّا أنْ يكون ذلك العرض - وإِنْ كان لايَعْرِض إلا مع نسبةٍ إلى مادة ومخالطة حركة - فإنه قد تُتَوهَّمُ أحوالُه وتُسْتَبانُ من غير نظرٍ في المادة المعيَّنة والحركة النظرَ المذكورَ، مثل الجمع والتفريق، والضرب والقسمة، والتجذير والتكعيب، وسائر الأحوال التي تَلْحَق العدد، فإنَّ ذلك يلحق العدد وهو في أوهام الناس، أو في موجودات متحركة منقسمة متفرقة ومجتمعة، ولكن تصوّر ذلك قد يتجرد تجردا مّا حتى لايُحْتاج فيه إلى تعيين مواد نوعية.
فأصناف العلوم إمَّا أنْ تتناول إذن اعتبارَ الموجودات، من حيث هى في الحركة تصورا وقواما، وتتعلق بمواد مخصوصِة الأنواع،وإمَّا أنْ تتناول اعتبارَ الموجودات، من حيث هى مفارقة لتلك تصورا لاقواما، وإمّا أَنْ تتناول اعتبارَ الموجودات، من حيث هى مفارقة قواما وتصورا.
فالقسم الأول من العلوم هو العلم الطبيعى.والقسم الثاني هو العلم الرياضى المحض، وعلم العدد المشهور منه، وأما معرفةُ طبيعِة العدِد، من حيث هو عدد، فليس لذلك العلم. والقسم الثالث هو العلم الإلهى. وإذْ الموجودات في الطبع على هذه الأقسام الثلاثة، فالعلوم الفلسفية النظرية هى هذه.(1/2)
وأَمّا الفلسفةُ العملية: فإمّا أَنْ تتعلق بتعليم الآراء التي تنتظم باستعمالها المشاركة الإنسانية العامية، وتُعْرَف بتدبير المدينة، وتسمى علم السياسة، وإِمّا أنْ يكون ذلك التعلّقُ بما تنتظم به المشاركة الإنسانية الخاصية، وتُعرْف بتدبير المنزل؛ وإمّا أَنْ يكون ذلك التعلق بما تنتظم به حال الشخص الواحد في زكاء نفسه، ويسمى علم الأخلاق. وجميع ذلك إنما تُحَقَّقُ صحة جملته بالبرهان النظرى، وبالشهادة الشرعية، ويحقق تفصيلُه وتقديره بالشريعة الإلهية.
والغاية في الفلسفة النظرية معرفةُ الحقِّ، والغاية في الفلسفة العلمية معرفةُ الخير.
وماهيات الأشياء قد تكون في أعيان الأشياء، وقد تكون في التصور، فيكون لها اعتبارات ثلاثة: اعتبار الماهية بما هى تلك الماهية غير مضافة إلى أحد الوجودين وما يلحقها، من حيث هى كذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في الأعيان، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك؛ واعتبار لها، من حيث هى في التصور، فيلحقها حينئذ أعراض تخص وجودها ذلك، مثل الوضع والحَمْل، ومثل الكلية والجزئية في الحمل، والذاتية والعرضية في الحمل، وغير ذلك مما ستعلمه؛ فإنه ليس في الموجودات الخارجية ذاتية ولا عرضية حملا، ولا كون الشئ مبتدأ ولا كونه خبرا، ولا مقدمة ولا قياسا، ولا غير ذلك. وإذا أردنا أن نتفكر في الاشياء ونعلمها، فنحتاج ضرورةً إلى أن نُدْخِلها في التصور، فتعرض لها ضرورةً الأحوال التي تكون في التصور فنحتاج ضرورةً إلى أن نعتبر الأحوالَ التي لها في التصور، وخصوصا ونحن نروم بالفكرة أَنْ نستدرك المجهولات، وأن يكون ذلك من المعلومات. والأمور إنما تكون مجهولةً بالقياس إلى الذهن لامحالة، وكذلك إنما تكون معلومة بالقياس إليه.والحال والعارض الذي يَعْرِض لها حتى ننتقل من معلومها إلى مجهولها، هو حال وعارض يعرض لها في التصور، وإِن كان مالها في ذاتها أيضا موجودا مع ذلك، فمن الضرورة أن يكون لنا علم بهذه الأحوال، وأنها كم هى، وكيف هى، وكيف تُعتبر في هذا العارض. ولأن هذا النظر ليس نظرا في الأمور، من حيث هى موجودة أحدَ نحوى الوجودين المذكورين، بل من حيث ينفع في إدراك أحوال ذينك الوجودين، فَمَنْ تكونُ الفلسفةُ عنده متناوِلةً للبحث عن الأشياء، من حيث هى موجودة، ومنقسمة إلى الوجودين المذكورين، فلا يكون هذا العلمُ عنده جزأ من الفلسفة؛ ومن حيث هو نافع في ذلك، فيكون عنده آلة في الفلسفة؛ ومَنْ تكون الفلسفةُ عنده متناولةً لكل بحث نظري، ومِنْ كل وجه، يكون أيضا هذا عنده جزأ من الفلسفة، وآلة لسائر أجزاء الفلسفة. وسنزيد هذا شرحا فيما بعد.
والمشاجرات التي تجري في مثل هذه المسألة فهى من الباطل ومن الفضول: أما من الباطل، فلأنه لاتناقض بين القولين، فإنَّ كل واحد منهما يعنىِ بالفلسفة معنى آخر؛ وأما من الفضول، فإنَّ الشغل بأمثال هذه الأشياء ليس مما يُجدى نفعا.
وهذا النوع من النظر هو المسمى علم المنطق، وهو النظر في هذه الأمور المذكورة، من حيث يتأدى منها إلى أعلام المجهول، وما يعرض لها من حيث كذلك لاغير.
الفصل الثالث
فصل في منفعة المنطق
لما كان استكمال الانسان - من جهة ما هو إنسان ذو عقل - على ماسيتضح ذلك في موضعه، هو في أن يعلم الحق لأجل نفسه، والخير لأجل العمل به واقتباسه، وكانت الفطرة الأولى والبديهة من الإنسان وحدهما قليلى المعونة على ذلك، وكان جلُّ ما يحصل له من ذلك إنما يحصل بالاكتساب، وكان هذا الاكتساب هو اكتساب المجهول، وكان مُكْسِبُ المجهول هو المعلوم، وجب أن يكون الإنسان يبتدئ أولا فيعلم أنه كيف يكون له اكتساب المجهول من المعلوم وكيف يكون حال المعلومات وانتظامها في أنفسها، حتى تُفيدَ العلمَ بالمجهول، أي حتى إذا ترتبت في الذهن الترتب الواجب، فتقررت فيه صورة تلك المعلومات على الترتيب الواجب، انتقل الذهن منها إلى المجهول المطلوب فعلمه.(1/3)
وكما أن الشئ يُعْلَم من وجهين: أحدهما أن يُتَصور فقط حتى إذا كان له إسم فنُطِق به، تمثل معناه في الذهن، وإن لم يكن هناك صدق أو كذب، كما إذا قيل: إنسان، أو قيل: افعل كذا؛ فإنك إذا وقَفْتَ على معنى ماتخاطب به من ذلك، كنتَ تصورته. والثاني أن يكون مع التصور تصديق، فيكون إذا قيل لك مثلاً: إن كلَّ بياضٍ عرضٌ، لم يحصل لك من هذا تصور معنى هذا القول فقط، بل صدَّقْتَ أنه كذلك. فأما إذا شككت أنه كذلك أو ليس كذلك، وقد تصورت مايقال؛ فإنك لاتشك فيما لاتتصوره ولا تفهمه، ولكنك لم تصدق به بَعْد؛ وكل تصديق فيكون مع تصور، ولا ينعكس. والتصور في مثل هذا المعنى يفيدك أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف، وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والتصديق هو أن يحصل في الذهن نسبةُ هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقةٌ لها، والتكذيب يخالف ذلك. كذلك الشئ يُجْهَل من وجهين: أحدهما من جهة التصور، والثاني من جهة التصديق؛ فيكون كل واحد منهما لايحصل معلوما الإ بالكسب، ويكون كسبُ كلِّ واحد منهما بمعلوم سابق متقدم، وبهيئةٍ وصفةٍ تكون لذلك المعلوم، لأجلها ينتقل الذهن من العلم بها إلى العلم بالمجهول. فها هنا شئ من شأنه أن يفيد العلمَ بالمجهول تصوُّرُه، وشئٌ من شأنه أن يفيد العلمَ بالمجهول تصديقُه. ولم تجر العادة بأن يُفْرض للمعنى الجامع - من حيث علمه يفيد علم تصور شئ - اسمٌ جامع، أو لم يبلغنا؛ لأنَّ منه حدًّا، ومنه رسما، ومنه مثالا، ومنه علامة، ومنه اسما، على ما سيتضح لك، وليس لما يشترك فيه اسم عام جامع. وأما الشئ الذي يتريب أولا معلوما، ثم يُعْلم به غيره على سبيل التصديق، فإنَّ ذلك الشئ يسمى - كيف كان - حجة؛ فمنه قياس، ومنه استقراء، ومنه تمثيل، ومنه أشياء أخرى.
فغاية علم المنطق أن يفيد الذهنَ معرفةَ هذين الشيئين فقط؛ وهو أن يعرف الإنسان أنه كيف يجب أن يكون القول المُوقِعُ للتصور، حتى يكون مُعَرِّفاً حقيقة ذات الشئ؛ وكيف يكون، حتى يكون دالا عليه، وإنْ لم يُتَوصل به إلى حقيقة ذاته؛ وكيف يكون فاسدا، مُخَيِّلا أنه يفعل ذلك، ولا يكون يفعل ذلك، ولمَ يكون ذلك، وما الفصول التي بينها؛ وأيضا أن يعرف الإنسان أنه كيف يكون القول الموقع للتصديق، حتى يكون موقعا تصديقا يقينيا بالحقيقة لايصح انتقاضه؛ وكيف يكون حتى يكون موقعا تصديقا يقارب اليقين؛ وكيف يكون بحيث يُظَن به أنه على إحدى الصورتين، ولا يكون كذلك، بل يكون باطلا فاسدا؛ وكيف يكون حتى يوقع عليه ظن وميلُ نفسٍ وقناعة من غير تصديق جَزْم؛ وكيف يكون القول حتى يُؤَثِّرَ في النفس ما يؤثره التصديق والتكذيب من إقدام وامتناع، وانبساط وانقباض، لا من حيث يوقع تصديقا، بل من حيث يخيّل، فكثير من الخيالات يفعل في هذا الباب فعل التصديق؛ فإنك إذا قلت للعسل إنه مُرَّةٌ مقيئة، نفرت الطبيعة عن تناوله مع تكذيب لذلك ألبتة، كما تنفر لو كان هناك تصديق، أو شبيه به قريب منه، وما الفصول بينها ؟ ولم كانت كذلك ؟ وهذه الصناعة يحتاج متعلمها القاصد فيها قصد هذين الغرضين إلى مقدمات منها يُتَوصل إلى معرفة الغرضين؛ وهذه الصتاعة هي المنطق.(1/4)
وقد يتفق للإنسان أن ينبعث في غريزته حدٌّ مُوقِعٌ للتصور، وحجَّةٌ موقعة للتصديق، إلا أنَّ ذلك يكون شيئا غيَر صناعي، ولا يُؤْمَن غلطه في غيره؛ فإنه لو كانت الغريزة والقريحة في ذلك مما يكفينا طلب الصناعة، كما في كثير من الأمور، لكان لا يعرض من الاختلاف والتناقض في المذاهب ما عرض، ولكان الإنسان الواحد لا يناقض نفسه وقتا بعد وقت إذا اعتمد قريحته؛ بل الفطرة الإنسانية غيركافية في ذلك ما لم تكتسب الصناعة، كما أنها غير كافية في كثير من الأعمال الأخر، وإِنْ كان يقع له في بعضها إصابةٌ كَرَمْيةٍ من غير رام. وليس أيضا إذا حصلت له الصناعة بالمبلغ الذى للإنسان أن يحصل له منها كانت كافية من كل وجه، حتى لا يغلط ألبتة؛ إذ الصناعة قد يذهب عنها ويقع العدول عن استعمالها في كثير من الأحوال، لا أنَّ الصناعة في نفسها غير ضابطة، وغير صادَّةٍ عن الغلط، لكنه يعرض هناك أمور: أحدها من جهة أن يكون الصانع لم يستوف الصناعة بكمالها؛ والثاني أن يكون قد استوفاها، لكنه في بعض المواضع أهملها، واكتفى بالقريحة؛ والثالث أنه قد يعرض له كثيرا أن يعجز عن استعمالها، أو يذهب عنها. على أنه وإن كان كذلك، فإنَّ صاحب العلم، إذا كان صاحبَ الصناعة واستعملها، لم يكن ما يقع له من السهو مثل ما يقع لعادمها؛ ومع ذلك فإنه إذا عاود فعلا من أفعال صناعته مرارا كثيرا تَمَكَّن من تدارك إهمال، إن كان وقع منه فيه؛ لأن صاحب الصناعة، إذا أفسد عمله مرة أو مرارا، تمكن من الاستصلاح، إلا أن يكون متناهيا في البلادة؛ فإذا كان كذلك فلا يقع له السهو في مهمات صناعته التي تعينه المعاودة فيها، وإن وقع له سهو في نوافلها. وللإنسان في معتقداته أمور مهمة جدا، وأمور تليها في الاهتمام. فصاحب صناعة المنطق يتأتى له أن يجتهد في تأكيد الأمر في تلك المهمات بمراجعات عَرْض عمله على قانونه. والمراجعات الصناعية فقد يُبلغ بها أمان من الغلط، كمن يجمع تفاصيلَ حساب واحد مرارا للاستظهار، فتزول عنه الشبهة في عقد الجملة.
فهذه الصناعة لابد منها في استكمال الإنسان الذي لم يؤيد بخاصية تكفيه الكسب. ونسبة هذه الصناعة إلى الرويَّة الباطنة التي تسمى النطق الداخلي، كنسبة النحو إلى العبارة الظاهرة التي تسمى النطق الخارجي، وكنسبة العَرُوض إلى الشعر؛ لكن العروض ليس ينفع كثيرا في قرض الشعر، بل الذوق السليم يغنى عنه، والنحو العربي قد تغنى عنه أيضا الفطرة البدوية، وأما هذه الصناعة فلا غنى عنها للإنسان المكتسب للعلم بالنظر والرويَّة، إلا أن يكون إنسانا مؤيدا من عند الله،فتكون نسبته إلى المرويّن نسبة البدوي الى المتعربين.
الفصل الرابع
فصل في موضوع المنطق
ليس يمكن أن ينتقل الذهن من معنى واحد مفرد إلى تصديق شئ؛ فإنَّ ذلك المعنى ليس حكم وجوده وعدمه حكما واحدا في إيقاع ذلك التصديق؛ فإنه إن كان التصديق يقع، سواء فرض المعنى موجودا أو معدوما، فليس للمعنى مدخلٌ في إيقاع التصديق بوجه؛ لأن موقع التصديق هو علة التصديق، وليس يجوز أن يكون شئٌ علةً لشئ في حالتى عدمه ووجوده. فإذا لم يقع بالمفرد كفاية من غير تحصيل وجوده، أو عدمه في ذاته، أو في حاله، لم يكن مؤديا إلى التصديق بغيره؛ وإذا قرنت بالمعنى وجودا أو عدما فقد أضفت إليه معنى آخر. وأما التصور فإنه كثيراً ما يقع بمعنى مفرد، وذلك كما سيتضح لك في موضعه، وذلك في قليل من الأشياء، ومع ذلك فهو في أكثر الأمر ناقص ردئ، بل الموقع للتصور في أكثر الأشياء معان مؤلفة، وكل تأليف فإنما يؤلف من أمور كثيرة، وكل أشياء كثيرة ففيها أشياء واحدة، ففي كل تأليف أشياء واحدة. والواحد في كل مركب هو الذي يسمى بسيطا، ولما كان الشئ المؤلف من عدة أشياء يستحيل أن تعرف طبيعته مع الجهل ببسائطه، فبالحرى أن يكون العلم بالمفردات قبل العلم بالمؤلفات.(1/5)
والعلم بالمفردات يكون على وجهين: لأنه إما أن يكون علما بها، من حيث هي مستعدة لأن يؤلف منها التأليف المذكور، وإما أن يكون علما بها، من حيث هى طبائع وأمور يعرض لها ذلك المعنى. ومثال هذا أنَّ البيت الذي يؤلف من خشب وغيره يحتاج مؤلفه إلى أن يعرف بسائط البيت من الخشب واللبن والطين؛ لكنَّ للخشب واللبن والطين أحوالا بسببها تصلح للبيت وللتأليف، وأحوالا أخرى خارجة من ذلك. فأما أنَّ الخشب هو من جوهرٍ فيه نفس نباتية، وأنِّ طبيعته حارةٌ أو باردة، أو أنَّ قياسَه من الموجودات قياسُ كذا، فهذا لايحتاج إليه باني البيت أنْ يعلمه، وأما أنَّ الخشبَ صلبٌ ورخو، وصحيح ومتسوس، وغير ذلك، فإنه مما يحتاج باني البيت إلى أن يعلمه. وكذلك صناعة المنطق فإنها ليست تنظر في مفردات هذه الأمور، من حيث هى على أحد نحوى الوجود الذي في الأعيان والذي في الأذهان، ولا أيضا في ماهيات الأشياء، من حيث هى ماهيات، بل من حيث هى محمولات وموضوعات وكليات وجزئيات، وغير ذلك مما إنما يعرض لهذه المعانى من جهة ما قلناه فيما سلف.
وأما النظر في الألفاظ فهو أمر تدعو إليه الضرورة، وليس للمنطقى - من حيث هو منطقى - شغل أول بالألفاظ إلا من جهة المخاطبة والمحاورة. ولو أمكن أن يُتَعلم المنطقُ بفكرة ساذجة، إنما تُلحظ فيها المعاني وحدها، لكان ذلك كافيا، ولو أمكن أن يتطلع المحاور فيه على ما في نفسه بحيلة أخرى، لكان يغنى عن اللفظ ألبتة. ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ، وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعانى من غير أن تتخيل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاةً من الإنسان ذهنَه بألفاظ متخيلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعانى حتى يصير لها أحكام لولا الألفاظ لم تكن، فاضطرت صناعة المنطق إلى أن يصير بعض أجزائها نظرا في احوال الألفاظ؛ ولولا ما قلناه لما احتاجت أيضا إلى أن يكون لها هذا الجزء. ومع هذه الضرورة، فأنَّ الكلام على الألفاظ المطابقة لمعانيها كالكلام على معانيها، إلا أن وضع الألفاظ أحسن عملا.
وأما فيما سوى ذلك، فلا خير في قول من يقول إنَّ المنطق موضوعُهُ النظر في الألفاظ، من حيث تدل على المعانى، وإنَّ المنطقى إنما صناعته أنْ يتكلم على الألفاظ، من حيث تدل على المعانى؛ بل يجب أنّ يتصور أن الامر على النحو الذي ذكرناه. وإنما تبلد في هذا مَنْ تبلد، وتشوَّش مَنْ تشوش، بسبب أنهم لم يحصِّلوا بالحقيقة موضوع المنطق، والصنف من الموجودات الذى يختص به، إذْ وجدوا الموجود على نحوين: وجود الأشياء من خارج، ووجودها في الذهن، فجعلوا النظرَ في الوجود الذي من خارج لصناعة أو صناعات فلسفية، والنظرَ في الوجود الذى في الذهن وأنه كيف يتصور فيه لصناعة أو جزء صناعة، ولم يفصلوا فيعلموا أنَّ الأمور التي في الذهن إمَّا أمورٌ تُصُوِّرت في الذهن مستفادة من خارج ، وإمَّا أمورٌ تَعْرِضُ لها، من حيث هي في الذهن لا يُحاذى بها أمر من خارج. فتكون معرفة هذين الأمرين لصناعةٍ، ثم يصير أحد هذين الامرين موضوعا لصناعة المنطق من جهة عَرٍَض يعرض له. وأمّا أى هذين الأمرين ذلك، فهو القسم الثاني، وأمّا أى عارض يعرض، فهو أنه يصير موصلا إلى أنْ تحصل في النفس صورة أخرى عقلية لم تكن، أو نافعا في ذلك الوصول، أو ما يعاوق ذلك الوصول.
فلما لم يتميز لهؤلاء بالحقيقة موضوعُ صناعة المنطق، ولا الجهةُ التي بها هى موضوعُهُ، تتعتعوا وتبلدوا، وأنت ستعلم بعد هذا، بوجهٍ أشد شرحا، أنَّ لكل صناعة نظريةٍ موضوعا، وأنها إنما تبحث عن أعراضه وأحواله، وتعلم أنَّ النظرَ في ذات الموضوع قد يكون في صناعة، والنظرَ في عوارضه يكون من صناعة أخرى. فهكذا يجب أن تعلم من حال المنطق.
الفصل الخامس
في تعريف اللفظ المفرد والمؤلف
وتعريف الكلي والجزئي، والذاتي والعرضي، والذي يقال في جواب ما هو والذى لا يقال(1/6)
وإذ لا بد لنا في التعليم والتعلم من الألفاظ، فإنّا نقول: إنَّ اللفظَ إمّا مفرد وإما مركب. والمركب هو الذى قد يوجد له جزء يدل على معنى هو جزء من المعنى المقصود بالجملة دلالةً بالذات، مثل قولنا: الإنسان وكاتب، من قولنا: الإنسان كاتب؛ فإنَّ لفظة الإنسان منه تدل على معنى، ولفظة كاتب أيضا تدل على معنى، وكل واحد منهما جزء قولنا: الإنسان كاتب، ومعناه جزء المعنى المقصود من قولنا: الإنسان كاتب، دلالة مقصودة في اللفظ، ليس كما نقول: حيوان، فَيُظَن أنَّ الحى منه مثلا دال إما على جملة المعنى، وإما على بعض منه، لو كان من غير أن كان يقصد في إطلاق لفظة الحيوان أن يدل الحي منه تلك الدلالة.
وأما المفرد فهو الذى لا يدل جزء منه على جزء من معنى الكل المقصود به دلالةً بالذات، مثل قولنا " الإنسان " ، فإنَّ " الإن " و " السان " لا يدلان على جزأين من معنى الإنسان، منهما يأتلف معنى الإنسان. ولا يُلْتَفت في هذه الصناعة إلى التركيب الذى يكون بحسب المسموع، إذا كان لا يدل جزء منه على جزء من المعنى، كقولنا: عبد شمس، إذا أريد به اسم لقب ولم يرُد عبد للشمس. وهذا وأمثاله لا يعد في الألفاظ المؤُلفة، بل في المفردة. والموجود فى التعليم الأقدم من رسم الألفاظ المفردة أنها هى التى لا تدل أجزاؤها على شىء. واستنقص فريق من أهل النظر هذا الرسم، وأوجب أنه يجب أن يزاد فيه: أنها التى لا تدل أجزاؤها على شىء من معنى الكل، إذ قد تدل أجزاء الألفاظ المفردة على معان، لكنها لا تكون أجزاء معاني الجملة. وأنا أرى أنّ هذا الاستنقاص من مستنقصه سهو، وأنَّ هذه الزيادة غيرُ محتاج إليها للتتميم بل للتفهيم. وذلك أنَّ اللفظ بنفسه لا يدل ألبتة، ولولا ذلك لكان لكل لفظ حق من المعنى لا يجاوزه، بل إنما يدل بإرادة اللافظ؛ فكما أن اللافظ يطلقه دالاً على معنى، كالعين على ينبوع الماء، فيكون ذلك دلالته، ثم يطلقه دالا على معنى اَخر، كالعين على الدينار، فيكون ذلك دلالته. كذلك إذا أخلاه في إطلاقه عن الدلالة بقى غير دال، وعند كثير من أهل النظر غير لفظ فإن الحرفَ والصوت - فيما أظن - لا يكون، بحسب التعارف عند كثير من المنطقيين، لفظا، أو يشتمل على دلالة. وإذا كان ذلك كذلك، فالمتكلم باللفظ المفرد لا يريد أن يدل بجزئه على جزء من معنى الكل، ولا أيضا يريد أن يدل بجزئه على معنى اَخر من شأنه أن يدل به عليه، وقد انعقد الاصطلاح على ذلك. فلا يكون جزؤه ألبتة دالا على شىء - حين هو جزؤه - بالفعل، اللهم إلا بالقوة، حين نجد الإضافة المشار إليها، وهي مقارنة إرادة القائل دلالة به. وبالجملة فإنه إنْ دلَّ، فإنما يدل، لا حين ما يكون جزءًا من اللفظ المفرد، بل إذا كان لفظا قائما بنفسه؛ فأما وهو جزء فلا يدل على معنى ألبتة.(1/7)
واللفظ إما مفرد وإما مركب، وقد عُلِم أنَّ النظر فى المفرد قبل النظر في المركب. ثم اللفظ المفرد إما أن يكون معناه الواحد الذى يدل عليه لا يمتنع في الذهن، من حيث تصوره، اشتراك الكثرة فيه على السوية، بأن يقال لكل واحد منهم إنه هو، اشتراكا على درجة واحدة، مثل قولنا: الإنسان؛ فإنَّ له معنى في النفس، وذلك المعنى مطابق لزيد ولعمرو ولخالد على وجه واحد؛ لأن كلَّ واحدٍ منهم إنسان. ولفظة الكرة المحيطة بذى عشرين قاعدِة مثلثاتٍ، بل لفظ الشمس والقمر، وغير ذلك، كل منها يدل على معنى لا يمنع تصوره فى الذهن من اشتراك كثرة فيه، وإن لم يوجد مثلا بالفعل، كالكرة المذكورة، أو كان يمتنع ذلك بسبٍب خارج عن مفهوم اللفظ نفسه كالشمس. وإما أن يكون معناه بحيث يمتنع في الذهن إيقاع الشركة فيه، أعنى في المحصل الواحد المقصود به، كقولنا زيد؛ فإِنَّ لفظ زيد، وإنْ كان قد يشترك فيه كثيرون، فإنما يشتركون من حيث المسموع؛ وأما معناه الواحد فيستحيل أن يجعل واحد منه مشتركا فيه؛ فإنَّ الواحد من معانيه هو ذات المشار إليه، وذات هذا المشار إليه يمتنع فى الذهن أن يجعل لغيره، اللهم إلا أن لا يراد بزيد ألبتة ذاته، بل صفة من صفاته المشترك فيها. وهذا القسم، وإن لم تمتنع الشركة في مسموعه، فقد يمتنع أن يوجد فى المعنى الواحد من المدلول يه عليه شركةً. فالقسم الأول يسمى كليا، والثانى يسمى جزئيا. وأنت تعلم أنَّ من الألفاظ ما هو على سبيل القسم الأول، ومن المعانى ما هو على سبيل معنى القسم الأول، وهو المعنى الذى المفهوم منه فى النفس لا تمتنع نسبته إلى أشياء كثيرة تطابقها نسبة متشاكلة. ولا عليك - من حيث أنت منطقى - أنه كيف تكون هذه النسبة، وهل لهذا المعنى - من حيث هو واحد مشترك فيه - وجود في ذوات الأمور التى جعلت لها شركة فيه؛ وبالجملة وجود مفارق وخارج غير الذى في ذهنك أو كيف حصوله في الذهن؛ فإنَّ النظر في هذه لصناعة أخرى أو لصناعتين. فقد علمتَ أنَّ اللفظ إمّا أنْ يكون مفردا، وإما أنْ يكون كليا، وإما أن يكون جزئيا. وقد علمتَ أَنّا أوجبنا تأخيرَ النظر في المركب.
واعلم أيضا أَنّا لا نشتغل بالنظر فى الألفاظ الجزئية ومعانيها، فإنها غير متناهية فتحصر، ولا - لو كانت متناهية - كان علمنا بها - من حيث هى جزئية - يفيدنا كمالا حكْميا، أو يبلغنا غاية حكْمية، كما تعلم هذا فى موضع العلم به، بل الذى يهمنا النظر في مثله، هو معرفة اللفظ الكلى.
وأنت تعلم أنَّ اللفظ الكلى إنما يصير كليا، بأنَّ له نسبةً ما، إمّا بالوجود، وإمّا بصحة التةهم، إلى جزئيات يُحمل عليها.
والحمل على وجهين: حمل مواطأة، كقولك: زيد إنسان؛ فإنّ الإنسان محمول على زيد بالحقيقة والمواطأة؛ وحمل اشتقاق، كحال البياض بالقياس إلى الإنسان؛ فإنه يقال: إنّ الإنسان أبيض أو ذو بياض، ولا يقال: إنه بياض. وإنْ اتفق أَن قيل: جسم أبيض، ولون أبيض، فلا يُحْمل حَمْلَ المحمول على الموضوع؛ وإنما غرضنا ها هنا مما يحمل هو ما كان على سبيل المواطأة.(1/8)
فلنذكر أقسامَ الكلى الذى إنما ينسب إلى جزئيات مواطأة عليها، ةيعطيها الاسم والحد، لكنه قد تضطرنا إصابتنا لبعض الأغراض أن لا نسلك المعتاد من الطرق في قسمة هذه الألفاظ فى أول الأمر، يل نعود إليه ثانيا. فنقول: إنّ لكل شىء ماهيةً هو بها ما هو، وهى حقيقته، بل هى ذاته. وذات كل شىء واحد ربما كان معنى واحدا مطلقا ليس يصير هو ما هو بمعان كثيرة، إذا التأمت يحصل منها ذات للشىء واحدة. وقلما تجد لهذا من الظاهرات مثالا، فيجب أن يُسَلَّم وجوده. وربما كان واحدا ليس بمطلق، بل تلتئم حقيقة وجوده من أمور ومعان إذا التأمت حصل منها ماهية الشىء، مثال ذلك الإنسان، فإنه يحتاج أن يكون جوهرا، ويكون له امتداد في أبعاد تفرض فيه طولا وعرضا وعمقا، ةأن يكون مع ذلك ذا نفس، وأن تكون نفسه نفساً يغتذى بها ويحس ويتحرك بالإرادة، ومع ذلك يكون بحيث يصلح أن يتفهم المعقولات، ويتعلم صناعات ويعلمها - إن لم يكن عائق من خارج - لا من جملة الإنسانية؛ فإذا التأم جميع هذا حصل من جملتها ذات واحدة هى ذات الإنسان. ثم تخالطه معان وأسباب أخرى، يتحصل بها واحدٌ واحدٌ من الأشخاص الإنسانية، ويتميز بها شخٍص، مثل أن يكون هذا قصيرا وذاك طويلا، وهذا أبيضَ وذاك أسود. ولا يكون شىء من هذه بحيث لو لم يكن موجودا لذات الشخص، وكان بدله غيره، لزم منه أن يفسد لأجله؛ بل هذه أمور تتبع وتلزم. وإ نما تكون حقيقة وجوده بالإنسانية، فتكون ماهية كل شخص هى بإنسانيته، لكن إنيته الشخصية تتحصل من كيفية وكمية وغير ذلك. وقد يكون أيضا له من الأوصاف أوصاٌف أخرى غير الإنسانية، يشترك فيها مع الإنسانية، بل تكون بالحقيقة أوصافا للإنسان العام مثل كونه ناطقا، أى ذا نفس ناطقة، ومثل كونه ضاحكا بالطبع. لكن كونه ناطقا أمر هو أحد الأمور التى، لما التأمت، اجتمع من جملتها الإنسان، وكونه ضاحكا بالطبع هو أمر، لما التأمت الإنسانية بما التأمت منه، لم يكن بدُّ من عروضه لازما؛ فإنَّ الشىءَ إذا صار إنسانا بمقارنة النفس الناطقة لمادته، أعرض للتعجب الموجب في مادته هيئة الضحك، كما أعرض لأمور أخرى: من الخجل والبكاء والحسد والاستعداد للكتابة وقبول العلم، ليس واحد منها لما حصل، أعرض الشىء لحصول النفس الناطقة له، فيكون حصول النفس الناطقة إذن سابقا لها، ويتم به حصول الإنسانية؛ وتكون هذه لوازم بعدها، إذا استثبتت الإنسانية لم يكن بُدٌّ منها.
فقد لاح لك من هذا أنَّ ها هنا ذاتا حقيقية للشىء، وأن له أوصافا بعضها تلتئم منه ومن غيره حقيقة الشىء، وبعضها عوارض لا تلزم ذاته لزوما في وجوده، وبعضها عوارض لازمة له في وجوده. فما كان من الألفاظ الكلية يدل على حقيقة ذات شىء أو أشياء، فذلك هو الدال على الماهية؛ وما لم يكن كذلك فلا يكون دالا على الماهية؛ فإنْ دل على الأمور التي لا بد من أن تكون متقدمة في الوجود على ذات الشىء، حتى يكون بالتئامها يحصل ذات الشىء، ولا يكون الواحد منها وحده ذات الشىء، ولا اللفظ الدال عليه يدل على حقيقة ذات الشىء بكمالها، بل على جزء منه؛ فذلك ينبغي أن يقال له اللفظ الذاتي الغير الدال على الماهية. وأما ما يدل على صفة هى خارجة عن الأمرين، لازمة كانت أو غير لازمة، فإنه يقال له لفظ عرضي، ولمعناه معنى عرضى.(1/9)
ثم ها هنا موضع نظر: أنه هل يجب أن يكون معنى اللفظ الذاتي مشتملا على معنى اللفظ الدال على الماهية اشتمال العام على الخاص أو لا يكون ؟ فإن قولنا: لفظ ذاتي، يدل على لفظ لمعناه نسبة إلى ذات الشىء، ومعنى ذات الشىء لا يكون منسوبا إلى ذات الشىء، إنما ينسب إلى الشىء ما ليس هو. فلهذا بالحرى أنْ يظن أنَّ لفظ الذاتى إنمْا الأوْلى به أن يشتمل على المعاني التي تقوِّم الماهية، ولا يكون اللفظ الدال على الماهية ذاتيا ، فلا يكون الإنسان ذاتيا للإنسان، لكن الحيوان والناطق يكونا ن ذاتيين للإنسان. فإن لم يجعل الإنسان ذاتيا للإنسان، بما هو إنسان، بل لشخصٍ شخصٍ، لم يخل إما أن تكون نسبته بالذاتية إلى حقيقة ماهية الشخص، وذلك هو الإنسان أيضا؛ وإما أن تكون نسبته بها إلى الجملة التى بها يتشخص، فيكون ليس هو بكماله، بل هو جزء مما هو منه، من حيث هو جملة. فحينئذ يعرض أن لا يكون الحيوان الناطق والإنسان وما يجرى مجراها ذاتيا لشخصِ شخصِ فقط ، بل الأمور العرضية أيضا، مثل لونه، وكونه قصيرا، وكونه ابن فلان، وما يجرى هذا المجرى قد تكون ذاتية، لأنها أجزاء مقومة للجملة. فحينئذ لا يكون للإنسان ، من حيث هو ذاتى للشخص، إلا ما لهذه.
فهذه الأفكار تدعو إلى أن لا يكون الذاتي مشمتلا على المقول في جواب ما هو؛ لكن قولنا ذاتى، وإن كان بحسب قانون اللغة يدل على هذا المعنى النسبى، فإنه بحسب اصطلاح وقع بين المنطقيين يدل على معنى آخر. وذلك لأنَّ اللفظ الكلى، إذا دل على معنى - نسبته إلى الجزئيات التى تعرض لمعناه نسبةً يجب، إذا تُوُهمت غير موجودة، أن لا يكون ذات ذلك الشىء من الجزئيات موجودا، لا أن ذات ذلك الشىء يجب أن يكون يرفع أولا، حتى يصح توهم رفع هذا، بل لأن رفع هذا موجب رفع ذلك الشىء، سواء كان لأن هذا المرفوع هو حقيقة ذاته، أو كان هذا المرفوع مما تحتاج إليه حقيقة ذاته ليتقوم - فإنه يقال له ذاتى. فإنْ لم يكن هكذا - وكان يصح في الوجود أو في التوهم أن يكون الشىء الموصوف به حاصلا مع رفعه، أو كان لا يصح في الوجود، ولكن ليس رفعه سبب رفعه، بل إنما لا يصح ذلك في الوجود لأن رفعه لا يصح إلا أن يكون ذلك، ارتفع أولا في نفسه، حتى يكون رفعه بالجملة ليس سبب رفعه - فهو عرضى . فأما المرتفع فى الوجود فكالقيام والقعود، وذلك مما يسرع رفعه، وكالشباب فإنه يبطؤ رفعه وكغضب الحليم فإنه يسهل إزالته، وكالخلق فإنه يصعب إزالته. وأما المرتفع في الوهم دون الوجود فكسواد الحبشي. وأما الذي لايرتفع، ولا يرفع رفع السبب، فككون الإنسان بطبعه معرضا للتعجب والضحك، وهو كونه ضحاكا بالطبع، فإنه لايجوز أن يرفع عن الإنسان في الوجود؛ فإنْ تُوُهِم مرفوعا، فإنَّ الإنسانية تكون مرفوعة، لا أنَّ رفع الأعراض بالطبع لهذا المعنى هو سبب رفع الإنسانية، بل لأنه لايتأتى أن يرفع، الإ أن تكون الإنسانية أولا مرفوعة، كما أنها ليست سببا لثبوت الإنسانية، بل الإنسانية سبب لثبوتها.
فقد بان اختلاف ما بين نسبة الحيوان والناطق والإنسان إلى الأشخاص، وبين نسبة الأعراض إليها؛ فإنّ النسبة الأولى إذا رفعتها، أوجب رفع الشخص؛ وأما النسبة الثانية فنفس رفعها لايوجب رفعَ الشخص، بل منها مايرتفع، ومنها ما لايجوز أن يرتفع أو يرتفع الشخص؛ وأما رفعها فلا يرفع الشخص ألبتة. وإذا كان الأمر على هذه الجهة، فالذاتى يشتمل على الدال على الماهية.
فقد اتضح لك أن اللفظ المفرد الكلى منه ذاتى يدل على الماهية، ومنه ذاتى لايدل على الماهية، ومنه عرضى.
الفصل السادس
في تعقب ما قاله الناس في الذاتي والعرضي(1/10)
قد قيل في التمييز بين الذاتى والعرضى: إن الذاتىَّ مقوِّمٌ والعرضىَّ غيرُ مقوِّم ، ثم لم يُحَصَّل، ولم يتبين أنه كيف يكون مُقَوّما، أو غير مقوّم. وقيل أيضا: إنَّ الذاتى لايصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشئ، والعرضىَّ يصح توهمه مرفوعا مع بقاء الشئ. فيجب أَنْ نُحَصِّل نحن صحة ما قيل أو اختلاله، فنقول: أما قولهم إنَّ الذاتى هو المقوّم، فإنما يتناول ماكان من الذاتيات غيرَ دالٍ على الماهية، فإنَّ المقوّم مقوّم لغيره. وقد علمتَ مايعرض من هذا، اللهم إلا أن يَعْنوا بالمقوّم ما لايفهم من ظاهر لفظه، ولكن يعنون به ما عنينا بالذاتى، فيكونوا إنما أتوا باسم مرادف صُرِف عن الاستعمال الأول، ولم يدل على المعنى الذي نقل إليه، ويكون الخطب في المقوّم كالخطب في الذاتى، وتكون حاجة كل واحد منهما إلى البيان واحدة. وأما اعتمادهم على أمر الرفع في التوهم، فيجب أن تتذكر ما أعطيناك سالفا: أنّ المعنى الكلى قد يكون له اوصاف يحتاج إليها أولا حتى يحصل ذلك المعنى، ويكون له أوصاف أخرى تَلْزَمه وتتبعه، إذا صار ذلك المعنى حاصلا. فأمّا جميع الأوصاف التي يحتاج إليها الشئ حتى تحصل ماهيته، فلن يحصل معقولا مع سلب تلك الأوصاف منه. وذلك أنه قد سلف لك أنَّ للأشياء ماهيات، وأن تلك الماهيات قد تكون موجودة في الأعيان، وقد تكون موجودة في الأوهام، وأنّ الماهية لايوجب لها تحصيل أحد الوجودين وأن كل واحد من الوجودين لايَثْبُتُ إلا بعد ثبوت تلك الماهية، وأنَّ كل واحد من الوجودين يلحق بالماهية خواص وعوارض تكون للماهية عند ذلك الوجود، ويجوز أن لاتكون له في الوجود الآخر. وربما كانت له لوازم تلزمه من حيث الماهية، لكن الماهية تكون متقررة أولا، ثم تلزمها هى، فإنَّ الاثنينية يلزمها الزوجية، والمثلث يلزمه أن تكون زواياه الثلاث مساوية لقائمتين، لا لأحد الوجودين، بل لأنه مثلث. وهذه الماهية إذا كان لها مقومات متقدمة - من حيث هى ماهية - لم تحصل ماهية دون تقدمها؛ وإذا لم تحصل ماهية، لم تحصل معقولة ولاعينا. فإذن إذا حصلت معقولة، حصلت وقد حصل ماتتقوم به العقل معها على الجهة التي تتقوم به؛ فإذا كان ذلك حاصلا في العقل، لم يمكن السلب فيجب أن تكون هذه المقومات معقولة مع تصور الشئ،بحيث لايجهل وجودها له، ولا يجوز سلبها عنه، حتى تثبتَ الماهية في الذهن، مع رفعها في الذهن بالفعل. ولست أعني بحصولها في العقل خطورَها بالبال بالفعل، فكثير من المعقولات لاتكون خاطرة بالبال، بل أعنى أنها لايمكن مع إخطارها بالبال، وإخطارها ما هي مقوِّمة له بالبال، حتى تكون هذه مُخطَرَةً بالبال، وذلك مُخْطَرًا بالبال بالفعل، أن يسلبها عنه، كأنك تجد الماهية بالفعل خالية عنها مع تصورها، أعنى تصورَ الماهية في الذهن. وإذا كان كذلك، فالصفات التى نسميها ذاتية للمعاني المعقولة، يجب ضرورة أن تُعقل للشئ على هذا الوجه إذ لاتتصور الماهية في الذهن دون تقدم تصورها.(1/11)
وأما سائر العوارض، فإِذْ ليست مما يتقدم تصورُها في الذهن تصور الماهية فيه، ولا أيضا هي مع تصور الماهية، بل توابع ولوازم ليست مما يحقق الماهية، بل مما يتلو الماهية، فالماهية تثبت دونها، وإذا ثبتت دونها، لم يتعذر أن تعقل الماهية، وإن لم تتقدم، أو إن لم يلزم تعقلها. وقد علمتَ أنى لست أعنى في هذا التعقل أن يكون، إذا تصورت الشئ بالفعل ملحوظة إليه، يكون مع ذلك تصورت أفراد المقومات له أيضا بالفعل، فربما لم تلحض الأجزاء بذهنك، بل أعنى بهذا أنك إذا أخطرت الأمرين معا بالبال، لم يمكنك أن تَسْلب الذي هو مقوِّم عن الذي هو مقوَّم له سلبا يصح معه وجود المقوَّم بماهيته في الذهن من دون وجود مايقوِّمه فيه. فإذا كان كذلك، فيجب أن لايمكنك سلبه عنه، بل يعقل وجوده له لامحالة. وأما العوارض فلا أمنع صحةَ أستثباتك في الذهن معنى الماهية، ولايُعقل وجودها للماهية، بل يسلبها سلبا كاذبا. ولا أوجب ذلك أيضا في كل العوارض، فإنَّ من العوارض مايَلْزَم الماهية لزوما أوليا بيِّنا ليس بواسطة عارض آخر، فيكون سلبه عن الماهية مع استثبات الماهية وإخطارهما معا بالبال مستحيلا، إذا كان ليس هو له بسبب وسط بينه وبينه. وذلك مثل كون المثلث بحيث يمكن إخراج أحد أضلاعه على الاستقامة توهما، أو معنى آخر مما يشبه هذا مما هو عارض له. وقد يمكن أن يكون وجود العارض بواسطة، فإذا لم تخطر تلك الواسطة بالبال، أمكن سلبه، مثل كون كل زاويتين من المثلث أصغر من قائمتين. ولولا صحة وجود القسم الثاني لما كانت لوازم مجهولة؛ ولولا صحة القسم الأول لما كان ما نُبَيِّن لك بعد من إثبات عارض لازم للماهية بتوسط شىء حقا. وذلك لأنَّ المتوسط، إِنْ كان لايزال يكون لازما للماهية غير بَيِّن الوجود لها، ذهب الأمر إلى غير النهاية؛ وإِنْ كان من المقومات، صار اللازمُ المجهولُ - كما تعلم - لازماً لهذا المقوم، لا مقوماً، إذْ مقوم المقوم مقومٌ، وكان لازما آخر الأمر بلا واسطة. فما كان من اللوازم غير بيِّن للشىء صح في الذهن أن يتوهم الشىء مرفوعا عنه ذلك اللازم من جهةٍ، ولم يصح من جهة. أَمَّا جهة الصحة فمن حيث أنَّ تصوُّرَه قد يحصل في الذهن مع سلب اللازم عنه بالفعل، واعتبار هذه الصحة والجواز بحسب الذهن المطلق. وأَمَّا جهة الاستحالة فَأَنْ يُتَوهم أنه يجوز أن لو كان يحصل في الأعيان، وقد سلب عنه فيها اللازم، حتى يكون مثلا كما يصح أن لو كان يكون هذا الشخص موجودا، ولا الندب الذى لزمه في أصل الخلقة، فصار يصح أيضا أنه كان يكون هذا المثلث موجودا، ولا زاويتاه أقل من قائمتين؛ فإِنّ هذا التوهم فاسد لا يجوز وجود حكمه، وليس كالمذكور معه. واعتبار هذه الصحة والجواز بحسب ذهن مطابق للموجود.
فقد بان لك من هذا أنّ من الصفات ما يصح سلبه وجودا، ومنها ما يصح سلبه توهماً لا فى الوجود، ومنها ما يصح سلبه توهما مطلقا، ومنها ما لا يصح سلبه بوجه وهو عارض، ومنها ما لا يصح سلبه وهو ذاتى، لكن يتميز من العارض بأن الذهن لا يوجب سبقَ ثبوت ما الذاتى له ذاتى قبل ثبوت الذاتى، بل ربما أوجب سبق ثبوت الذاتى. وأما العرض فإنّ الذهن يجعله تاليا، وإن وجب ولم ينسلب.
فقد اتضح لك كيف لم يُحَصِّلْ معنى الذاتى والعرضى من اقتصر على البيانين المذكوريين.
الفصل السابع
في تعقب ما قاله الناس في الدال على الماهية
إنّ الدال على الماهية قد قيل فيه: إنه هو الدال على ذاتى مشتركٍ كيف كان، ولم يبلغنا ما هو أشد شرحا من هذا. فلننظر الآن هل المفهوم من هذه اللفظة، بحسب التعارف العامى، هو هذا المعنى أولا، وهل ما تعارفه الخاص واتفقوا عليه بسبيل النقل يدل عليه ؟ فإنَّا إذا فعلنا هذا، اتضح لنا غرض كبير.(1/12)
أما المفهوم بحسب التعارف العامى فليس يدل عليه؛ وذلك لأنّ الدال على ماهية الشىء هو الذى يدل على المعنى الذى به الشىء هو ما هو. والشىء إنما يصير هو ما هو بحصول جميع أوصاف الذاتية المشترك فيها، والتى تخص أيضا؛ فإِنّ الإنسان ليس هو ما هو بأنه حيوان، وإلا لكانت الحيوانية تحصل الإنسانية. نعم الحيوانية محتاج إليها في أن يكون هو ما هو، وليس كل ما يحتاج إليه في أن يكون شىء هو ما هو، يكون هو الذى يحصل بحصوله وحده الشىء هو هو. فإذا كان كذلك لم يكن الذاتى مشترك للشىء مع غيره وحده، ولا الخاص وحده هو ماهية الشئ بل جزء ماهيته. والعجب أنَّ جماعةً ممن يرى أنَّ الذاتى والدالَّ على الماهية واحدٌ لايجعل الذاتى الخاص دالا على ماهية ماهو ذاتى له، وهو الذي نسميه بعد فصلا؛ فهذا هذا.
وأمَّا تعرف الحال في الدال على الماهية على سبيل الوضع الثاني والتعارف الخاص، فهو أنا نجد الحيوان والحساس محمولين على الإنسان والفرس والثور، ثم نجد أهل الصناعة يجعلون الحساس وما يجرى مجراه من جملة أمور يسمونها فصولا لأمور يسمونها أجناسا ذاتية، ثم لايجعلونها من جملة مايسمونه أجناسا، ويجعلون كل ما يكون دالا على الماهية لعدة أشياء علوية مختلفة جنسا لها. وكذلك حال الإنسان والناطق بالقياس إلى أشخاص الناس، فيجعلون الإنسان يدل عليها بالماهية، ولايجعلون الناطق كذلك، ويجعلون الإنسان لذلك نوعا للحيوان دون الناطق. فإنّ الشئ الذي يقولون إِنه دال على الإنية الذاتية المشتركة، يجعلونه شيئا غير الدال على الماهية الذاتية المشتركة، ولا يجعلون الشئ الواحد صالحا لأن يكون بالقياس إلى أشياء إنية وماهية، حتى يكون، من حيث يشترك فيه، هو ماهية لها، ومن حيث يتميز به عن أشياء أخرى هو إنية لها، حتى يكون الشئ المقول على الكثرة من حيث تشترك فيه الكثرة جنساً أو نوعاً، ونم حيث تتميز به فصلا. فيكون ذلك الشئ لتلك الأشياء جنسا أو نوعا، ومع ذلك يكون لها فصلا، بل إذا وجدوا جنسا ارتادوا شيئا آخر ليكون فصلا يقوِّم الجنس، إن كان جنسا له فصل يقوِّمه وكذلك إذا وجدوا نوعا طلبوا شيئا من ذاته هو الفصل، ولو كان الشئ إنما هو دال على الماهية، حتى هو جنس ونوع، لأنه دال على ذاتى مشترك فيه، لكان الأمر بخلاف هذه الأحكام.
وهاهنا موانع أخرى عن أن يكون ما قالوه من كون الدال على ذاتى مشترك، دالا على الماهية حقا. فإنْ زاد أحدهم شرطا ليتخصص به مايسمونه جنسا ونوعا في كونه دالا على الماهية، وهو أنه يجب أن يكون أعم الذاتيات المشتركة مضمونا في الدلالة التى للذاتى المشترك، وذلك الأعم هو الأعم الذي لايدل على إنية أصلا، حتى يكون الفرق بين الأمرين أنّ الدال على الإنية هو الذي لكليته وكما هو يدل على الإنية. وأما هذا الذي يتضمن الدلالة على أعم الذاتيات المشتركة فإنما يدل على الإنية بالعرض، لأنه يدل بجزء منه دون جزء، كالحيوان فإنه وإنْ تميز به أشياء عن النبات، فإنه ليس ذلك بجميع مابحصوله الحيوان حيوان، بل بشئ منه؛ فإنه لايفعل ذلك بأنه جسم، بل بأنه حساس، وهذا هو الدال على الإنية أولا، ولأجله يدل الحيوان على التمييز والإنية.فيكون الحيوان ليس لذاته صالحا للتمييز، بل بجزء منه، ويكْون الحساس كذلك لذاته، فنقول: إنّ هذا أيضا تكلف غير مستقيم. أما أولا فلأنه لو كان كذلك لكان إذا أخذنا أعم المعانى كالجوهر، وقرنّا به أخص ما يدل على الشئ فقلنا مثلا: جوهر ناطق، لكان يكون دالا على ماهية، وكان يكون نوع الإنسان أو جنسه، وكان يكون حد الإنسان أو حد جنسه أنه جوهر ناطق. وليس كذلك عندهم، بل حده أنه حيوان ناطق، وليس الحيوان والجوهر واحدا؛ ومن المحال أن يكون للشئ الواحد حد تام حقيقي إلا الواحد. وإنْ تكلفوا أن يوجهوا مع المشترك الأول سائر التى في الوسط على الترتيب كله، فقد حصل ما نذهب إليه من أن الدال على الماهية يجب أنْ يكون مشتملا على كمال الحقيقة، فيكون حينئذ هذا التكلف يؤدي إلى أن لايحتاج إلى نقل هذه اللفظة عن الموضوع في اللغة إلى اصلاح ثان؛ فإنَّا سنوضح من بعد أنّ استعمال هذه اللفظة على ماهى عليه يحفظ الوضع الأول لها مع استمرارٍ في الوجوه التي يتعوق معها ما يتعوق.(1/13)
وبعد هذا كله، فإنّ ذلك يفسد بوجوه أخرى، منها أنّ الحساسَ أيضا حكمه حكم الحيوان، وأنه أيضا محصل من معان عامة وخاصةٍ، وأنّ المعانى العامة فيه، ككون الجسم أو الشئ ذا قوة أو صورة أو كيفية لاتمييز بها، إنما تميز بما هو أخص منها، وهو كون الجسم أو الشئ ذا قوة درّاكة للشخصيات على سبيل كذا. ومنها أنّ الحيوان وإِنْ كان لايميز بجزء من معناه كالجسم، ويميز بجزء كالحساس، فليس سبيلنا في هذا الأعتبار هذا السبيل، ولا نظرنا هذا النظر. وذلك لأنا إنما ننظر في الحيوان من حيث هو حيوان؛والحيوان، من حيث هو حيوان شئ واحد؛ ومن حيث هو ذلك الوتحد لايخلو إما أنْ يميز التمييز الذي عن النبات أو لايميز، فإنْ لم يميز وجب أن يكون النبات يشارك الحيوان في أنه حيوان وهذا خُلْفً؛ وإن ميز، فقد صدر عنه بما هو حيوان تَمَيُّز، وإن كان قد يصدر أيضا عن جزء له، وكان الجزء علةً أولى في ذلك التمييز ، وليس إذا كان للشئ علة بها يصير بحال، وللعلة تلك الحال، يجب أن تكون الحال له بالعرض، فكثير من الأشياء بهذه الصفة.
ثم لا أمنع أن يكون هاهنا شروط أخرى تلحق بالبيان الذي جعلوه للدال على الماهية، يتميز بها ما يسمى جنسا أو نوعا عن الفصل؛ وشروط أخرى تلحق بالتمييز يكون ذلك للحساس دون حيوان؛ إلا أنَّ ذلك لايكون بحسب الوضع الأول، ولا بحسب نقلٍ منصوصٍ عليه من المستعملين لهذه الألفاظ في أول ما استعملوا ، بل يكون اضطرارات ألجأ إليها أمثال هذه. وإذا وجد في ظاهر المفهوم من لفظ ماهو مايقع به استغناء واقتصار، كان المصير عنه إلى غيره ضربا من العجز ومن اللجاج الذي تدعو إليه الأنفة من الإذعان للحق، والاعتراف بذهاب ذلك على من لم يخطر بباله ما أوردناه من المباحث إلى حين سماعها.
الفصل الثامن
في قسمة اللفظ المفرد الكلى إلى أقسامه الخمسة
نقول الآن: إنه قد تبين لك أن اللفظ المفرد الكلى إما ذاتى وإما عرضى، وأنّ الذاتى للشئ إما صالح للدلالة على الماهية بوجه، وإما غير صالح للدلالة على الماهية أصلا. والدال على الماهية إما أن يدل على ماهية شئ واحد أو أشياء لاتختلف أختلافا ذاتيا؛ وإما أن تكون دلالة على الماهية إنما هى بحسب أشياء تختلف ذواتها أختلافا ذاتيا. مثال الأول لفظة الشمس إذا وقعت على هذه المشار إليها؛ ولفظة الإنسان إذا وقعت على زيد وعمرو؛ ومثال الثاني دلالة لفظة الحيوان إذا وقعت على الثور والحمار والفرس معا، فسأل سائل مثلا: ما هذه الأشياء ؟ فقيل: حيوانات، فإنَّ لفظة الحيوان تدل على كمال حقيقتها، من حيث هو مسئول عنها جملتها، ومطلوب كنه الحقيقة التي لها بالشركة. والفرق بين الوجهين أنَّ الوجه الأول يكون دالا على ماهية الجملة، وماهية كل واحد؛ فإنَّ لفظة الإنسان تدل أيضا على كمال الحقيقة الذاتية التي لزيد وعمرو، وإنما يفضل عليها ويخرج عنها ما يختص كل واحد منهما به من الأوصاف العرضية، كما قد فهمته مما قيل سالفا.(1/14)
وأما الوجه الثاني فإنك تعلم أن الحيوانية وحدها لاتكون دالة على ماهية الإنسان والفرس وحدها، فليس بها وحدها كل واحد منهما هو هو، وليس إنما يفضل عليها بالعرضيات بل بالفصول الذاتية؛ وأما الذي لها من الماهية بالشركة فلفظة الحيوان تدل عليه. وأما الحساس فيدل على جزء من جملة ما تشتمل عليه دلالة لفظ الحيوان، فهو جزء من كمال حقيقتها المشترك فيها دون تمامها؛ وكذلك حال الناطق بالقياس إلى الإنسان. لكن لقائل أن يقول: إنه لا دلالة للحيوان إلا ومثلها للحساس، وكما أنه لايكون الحيوان إلا جسما ذا نفس، كذلك لايكون الحساس إلا جسما ذا نفس. فنقول في جوابه: إنّ قولنا إنَّ اللفظ يدل على معنى ليس على الوجه الذي فهمته، أعنى أن يكون إذا دل اللفظ لم يكن بد من وجود ذلك المعنى، فإنك تعلم أنّ لفظ المتحرك إذا دَلَّ، لم يكن بد من أن يكون هناك محرك، ولفظة السقف، إذا دلت، لم يكن بد من أن يكون هناك أساس، ومع ذلك لا نقول إنَّ لفظة المتحرك مفهومها ودلالتها المحرك، ولفظة السقف مفهومها ودلالتها الأساس؛ وذلك لأن معنى دلالة اللفظ هو أن يكون اللفظ اسما لذلك المعنى على سبيل القصد الأول، فإِنْ كان هناك معنى آخر يقارن ذلك المعنى مقارنه من خارج. يشعر الذهن به مع شعوره بذلك المعنى الأول، فليس اللفظ دالا عليه بالقصد الأول؛ وربما كان ذلك المعنى محمولا على ما يُحْمل عليه معنى اللفظ، كمعنى الجسم مع معنى الحساس؛ وربما لم يكن محمولا كمعنى المحرك مع المتحرك. والمعنى الذي يتناوله اللفظ بالدلالة أيضا يكون على وجهين: أحدهما أولا والآخر ثانيا؛ أما أولا فكقولنا الحيوان، فإِنه يدل على جملة الجسم ذي النفس الحساس، وأما ثانيا فكدلالته على الجسم، فإنَّ معنى الجسم مضمنً في معنى الحيوانية ضرورةً، فما دل على الحيوانية اشتمل على معنى الجسم، لا على أنه يشير إليه من خارج، فيكون هاهنا دلالة بالحقيقة إما أولية وإما ثانية، ودلالة خارجية، إذا دل اللفظ على ما يدل عليه، عرف الذهن أن شيئا آخر من خارج يقارنه، وليس داخلا في مفهوم اللفظ دخولَ اندراجٍ ولا دخول مطابق.
فإن أردنا أن نختصر هذا كله ونحصله، جعلنا الدلالة التي للألفاظ على ثلاثة أوجه: دلالة مطابقة، كما يدل الحيوان على جملة الجسم ذي النفس الحساس؛ ودلالة تَضَمُّن، كما تدل لفظة الحيوان على الجسم؛ ودلالة لزوم كما تدل لفظة السقف على الأساس. فإذا كان ذلك فلنرجع إلى مانحن فيه فنقول: إنَّ المفهوم من الحساس هو أنه شئ له حِسُّ تَمَّ من خارج مّا، نعلم أنه يجب أن يكون جسما وذا نفس، فتكون دلالةُ الحساس على الجسم دلالةَ لزوم. وأما الحيوان فإنما نعنى به بحسب الاصطلاح الذي لأهل هذه الصناعة، أنه جسم ذو نفس حساس فتكون دلالته على كمال الحقيقة دلالة مطابقة، وعلى أجزائها دلالة تضمن. وأما دلالة الحساس على سبيل المطابقة، فإنما هي على جزء فقط، وأما الكل وسائر الأجزاء، فإنما تدل عليها على سبيل اللزوم.
ولسنا نذهب هاهنا في قولنا لفظ دال، إلى هذا النمط من الدلالة؛ فقط تقرر أنَّ اللفظَ الدال على الماهية ماهو وكيف هو، ومن هاهنا تزول الشبهة المذكورة. فأما اللفظ الذاتى للشئ الذي لايدل على ماهية مااعتبر ذاتيته له، لابسبيل شركة ولاخصوصٍ، فانه لايجوز أن يكون أعم الذاتيات المشتركة وإلا لدل على الماهية المشتركة بوجهٍ، فهو إذن أخص منه، فهو صالح لتمييز بعض ماتحته عن بعض، فهو صالح للإنية؛ فكل ذاتى لايدل بوجه على ماهية الشئ فهو دال على الإنية.(1/15)
فإنْ قال قائل: إنَّ الذي يصلح للإنية هو بعينه يصلح للماهية، فإنَّ الحساس، وإنْ رَذَّلْتَ كونَه دالا على ماهية الإنسان والثور والفرس، بحال خصوصً أو شركة، فإنك لاتُرَذِّل دلالته على ماهية مشتركة للسميع والبصير واللامس؛ فليس يجب أنْ يكون الذاتي ينقسم إلى مقول في جواب ماهو، ومقولٍ في جواب أى شىء، انقساما على أن لايدخل أحدهما في الآخر، ولذلك لم يتبين لك أنه إذا كان الشىء دالا على الماهية، فليس بدالٍ على الإنية، بل يلزمك ما ألزمت القوم، فنقول له: أما التشكك المقدم فينحل بأن تَعْرِف أنَّا لانمنع أن يكون ماهو دال على إنية أشياء دالا على ماهية أشياء أخرى، بل ربما أوجبنا ذلك؛ إنما نمنع أن يكون الحساس مثلا دالا على ماهية خاصة أو مشتركة للإنسان والفرس والثور، كدلالة الحيوان مع مشاركة الحيوان الحساس في الذاتية للإنسان والفرس والثور؛ فإنَّ الحساس ذاتى مشترك لعدة أشياء، كما أن الحيوان ذاتى مشترك لها؛ إنما تمنع حكما آخر فنقول: إنهما بعد الاشتراك في الذاتية المشترك فيها، يفترقان فيكون الحيوان وحده منهما دالا على ماهية مشتركة للأمور التي هما ذاتيان لها.
ويجب أن تعلم أنا إذا قلنا: لفظ ذاتي، عنينا ذاتيا لشىء، ثم نقول: ماهية أو غير ماهية، فنعني بذلك أنه كذلك لذلك الشىء لاغيره. وإذا خلينا عن هذا فيكون ماهو أبعد من هذا، فإن الذاتي للشىء، كاللون للبياض، قد يكون عرضيا لشىء آخر، كما هو للجسم، وهذا لايوجب منعَ قولنا: إن الذاتي لايكون عرضيا؛ فإن غرضنا يتوجه إلى أنه لايكون عرضيا لذلك الشىء الذي هو له ذاتي.
وأما التشكك الآخر فينحل بأن نقول: إنّا نعني بالدال على الإنية ما إنما صلوحه للإنية فقط دون الماهية، حتى إنه لاتكون دلالته على معنى مقوم يتمم ما هية مشتركة أو خاصة، بل على معنى مقوم يخص؛ فإذا قلنا: الدال على الإنية عنينا هذا المعنى. فإن تشكك متشكك، واستبان حالَ قول الحيوان على السميع والبصير واللامس، هل هو قول في جواب ماهو أو ليس، وكيف يجوز أن يكون مقولا في جواب ماهو، فتكون هذه أنواعَ الحيوان وأمورا مختلفة متباينة أيضا، فحينئذ لايكون الحساس مقولا عليها في جواب ماهو، لأن الحيوان أتمُّ دلالة. وكيف لايكون كذلك وهو أكمل محمول على مانحمله علية بالشركة ؟ فيجب أن ينتظر هذا المتشكك أصولا وأحوالا نعطيها إياه في حمل الجنس على الفصل، وذلك بعد فصول. فإذْ قد تبين هذا فنقول: إنَّ الذاتى الدالَ على الماهية يقال له: المقول فى جواب ما هو؛ والذاتى الدال على الإنية يقال له: المقول فى جواب أى شىء هو في ذاته، أو أى ما هو.
وأما العرضى فربما كان خاصاً بطبيعة المحمول عليه لا يَعْرِض لغيره كالضحاك والكاتب للإنسان، ويُسَمَّى خاصةً؛ وربما كان عارضا له ولغيره كالأبيض للإنسان ولغيره ويسمى عرضا عاما. فيكون كل لفظ كلى ذاتى إما دالا على ما ماهية أعم، ويسمى جنسا ، وإما دالا على ماهية أخص، ويسمى وإما دالا على إنية ويسمى فصلا. وأمّا الكلى العرضى فيكون إما خاصيا ويسمى خاصة، وإما مشتركا فيه ويسمى عرضا عاما.
فكل لفظ إما جنسٌ وإما فصل، وإما نوع، وإما خاصة، وإما عرض عام. وهذا الذى هو جنس ليس جنسا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل جنسا لتلك الأمور التى تشترك فيه. وكذلك النوع ليس هو نوعا فى نفسه، ولا بالقياس إلى كل شىء، بل بالقياس إلى الأمور التى هو أعم منها. وكذلك الفصل إنما هو فصل بالقياس إلى ما يتميز به فى ذاته. والخاصة أيضا إنما هى خاصة بالقياس إلى ما يعرض لطبيعته وحده. وكذلك العرض إنما هو عرض عام بالقياس إلى ما يعرض له لا وحده.
فلنتكلم الآن فى كل واحد منها بانفراده، ثم لنبحث عن مشاركاتها ومبايناتها، على حسب العادة الجارية، سالكين في مسلك الجماعة.
الفصل التاسع
في الجنس(1/16)
فنقول: إن ّ اللفظة التى كانت في لغة اليونانيين تدل على معنى الجنس، كانت تدل عندهم بحسب الوضع الأول على غير ذلك، ثم نُقِلت بالوضع الثانى إلى المعنى الذى يسمى عند المنطقيين جنسا. وكانوا أولئك يُسمون المعنى الذى يشترك فيه أشخاصٌ كثيرةٌ جنسا ً، مثل ولديتهم كالعَلَوِية ، أو بلديتهم كالمصرية. فإنَّ مثل العلوية كانت تسمى عندهم باسم الجنس بالقياس إلى أشخاص العلويين، وكذلك المصرية كانت تسمى عندهم جنسا بالقياس إلى أشخاص المولودين بمصر، أو الساكنين بها؛ وكانوا أيضا يسمون الواحد المنسوب إليه الذى تشترك فيه الكثرة جنسا لهم، وكان علىُّ مثلا عندهم يُجْعل جنسا للعلويين ، ومصر جنسا للمصريين؛ وكان هذا القسم أَوْلى عندهم بالجنسية، لأنَّ عليا سببٌ لكون العلوية جنسا للعلويين، ومصر سببٌ لكون المصرية جنسا للمصريين. ونظن أنّ السبب أولى بالاسم من المسبب إذا وافقه فى معناه، أو قاربه. ويشبه أيضا أنهم كانوا يسمون الحِرَفَ والصناعاتِ أنفسها أجناسا للمشتركين فيها، والشركةَ نفسها أيضا جنسا. فلما كان المعنى الذى يسمى الأن عند المنطقيين جنسا هو معقول واحد له نسبة إلى أشياء كثيرة تشترك فيه، ولم يكن له فى الوضع الأول أسم ، نُقِل له من اسم هذه الأمور المتشابهة له اسم، فسمى جنسا، وهو الذى يتكلم فيه المنطقيون ويرسمونه بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو. وقبل أن نَشْرَع في شرح هذا التحديد، فيجب أن نُشير إشارةً خفيفة إلى معنى الحدِّ والرسم، ونؤخر تحقيقه بالشرح إلى الجزء الذي نشرح فيه حال البرهان فنقول: إن الغرض الأول في التحديد هو الدلالة باللفظ على ماهية الشئ، فإنْ كان الشئ معناه معنى مفردا غير ملتئم من معانى، فلن يصلح أن يدل على ذاته إلا بلفظ يتناول تلك الذات وحدها، ويكون هو اسمها لاغير، ولايكون له ما يشرح ماهيته بأكثر من لفظٍ هو اسم؛ وربما أتى باسم مرادف لاسمه يكون أكثر شرحا له. لكن دلالة الاسم إذا لم تُفد علما بمجهول، احْتِيج إلى بيان آخر لايتناول ذاته فقط، بل يتناول نِسَبا وعوارض ولواحق ولوازم لذاته، إذا فُهِمَت تنبه الذهن حينئذ لمعناه منتقلا منها إلى معناه، أو يقتصر على العلامات دون الماهية، فلا ينتقل إليها، وعلى ماهو أقرب إلى فهمك في هذا الوقت. فمثل هذا الشئ لاحَدَّ له، بل له لفظ يشرح لواحقه من أعراضه ولوازمه.
وأما إنْ كان معنى ذاته مؤلفا من معان، فله حد، وهو القول الذي يُؤَلف من المعانى التي منها تحصل ماهيته حتىتحصل ماهيته، ولأن أخص الذاتيات بالشئ إما جنسه، وإما فصله، على مايجب أن نتنبه له مما سلف ذكره؛ فأما فصل الفصل، والجنس الجنس، وما يتركب من ذلك، فهو له بواسطة، فهو في ضمن الجنس والفصل. فيجب أن يكون الحد مؤلفا من الجنس والفصل؛ فإذا أحضر الجنس القريب، والفصول التي تليه، حصل منها الحد، كما نقول في حد الإنسان: إنه حيوان ناطق. فإنْ كان الجنسُ لااسم له، أتى أيضا بحده، كما لو لم يكن للحيوان اسم أتى بحده فقيل: جسم ذو نَفْس حساس، ثم ألحق به ناطق. وكذلك من جانب الفصل.(1/17)
فالحد بالجملة يشتمل على جميع المعانى الذاتية للشئ، فيدل عليه إما دلالة مطابقة، فعلى المعنى الواحد المتحصل من الجملة، وإِمّا دلالة تضمن، فعلى الأجزاء. وأَمَّا الرسم فإنما يتوخى به أن يؤلف قول من لواحق الشئ يساويه، فيكون لجميع ما يدخل تحت ذلك الشئ لالشئ غيره، حتى يدل عليه دلالة العلامة. وأحسن أحواله أن يُرَتَّبَ فيه أولا جنس، إما قريب وإما بعيد، ثم يؤتى بجملة أعراض وخواص، فإن لم يفعل ذلك كان أيضا رسما، مثال ذلك أن يقال: إنَّ الإنسان حيوانٌ عريض الأظفار، منتصبُ القامة، بادى البشرة، ضحاك، أو تذكر هذه دون الحيوان. فالمقول في شرح اسم الجنس هو كالجنس للشئ الذي يسمى جنسا، فمن المقول ما يقال على واحد فقط، ومنه مايقال على كثيرين، فيكون المقول على كثيرين كالجنس الأقرب. وأما المقول لا على كثيرين، فلا يتناول الجنس. ثم المقول على كثيرين الخمس المذكورة، الإ أَنَّا لما قلنا: مختلفين بالنوع في جواب ماهو، اختص بالجنس؛ ونعنى بالمختلفين بالنوع المختلفين بالحقائق الذاتية، فإن النوع قد يُقال لحقيقة كل شئ في ماهيته وصورته غير ملتفت إلى نسبته إلى شئ آخر، خصوصا إذا كان يصح في الذهن حَمْلُه على كثيرين، تشترك فيه بالفعل أو لاتشترك فيه بالفعل بل بالقوة، أو احتمال التوهم؛ وليس يحتاج في تحقيق الجنس إلى أن يُلْتفت إلى شئ من ذلك. وإذا كانت أشياء مختلفة الماهيات، ثم قيل عليها شئ آخر هذا القول، كان ذلك الشئ الآخر جنسا. فافهم من قولنا: إنَّ هذا الشىء يقال على هولاء الكثيرين فى جواب ما هو، أنَّ ذلك بحال الشركة كما علمتَ.
وأما الفصل، فإنه غير مقول في جواب ما هو بوجه. وأما النوع، فإنه ليس، من حيث هو نوع، مقولا على شىء قولا بهذه الصفة، بل مقولا عليه، فإنْ اتفق أَنْ قيل هو بعينه هذا القول، فقد صار جنسا. فإنا يلزمنا أن نعلم فى الحدود التي للأشياء الداخلة في المضاف، أنّا نريد بها كونها لشىء، من حيث هى لها معنى الحدود، كأنّا لما قلنا هذا الحد للجنس، استشعرنا في انفسنا زيادةً يدل عليها قولنا: من حيث هو كذلك، لو صرحنا بها. وأما الشىء الذي يخص من بعد باسم النوع ، فستعلم أنه لايقال على كثيرين مختلفين بالنوع، بل بالعدد.
وأما العرضيات، فلايقال شىء منها في جواب ماهو، فلا شىء غير الجنس موصوفا بهذه الصفة، وكل جنس موصوف بهذه الصفة، لأنا حَصَّلْنا معنى هذا الحد، وجعلنا لفظ الجنس اسما له.
وقد يعرض هاهنا شُبَهٌ: من ذلك أنه إذا كان للجنس شىء كالجنس، وهو المقول على كثيرين، كان للجنس جنس، إذا قيل الجنس على المقول على الكثيرين الذي هو جنسه وكان الجنس مقولا على الجنس نفسه، فنقول في جوابه: إنّ المقول على الكثيرين يُقال على الجنس كقول الجنس، والجنس يقال عليه لاكقول الجنس بل كقول العرض له؛ إذ ليس يقال: إنّ كل مقول على كثيرين جنس، وكل ماهو جنس، فإنما يقال على كل ماهو له جنس، بل المقول على كثيرين تَعْرِض له الجنسية عند اعتبارٍ مَّا، كما تعرض للحيوان الجنسية باعتبار ما، وهو اعتبار العموم بحال، وكما نشرح لك كل هذا عن قريب، من غير أن تكون الجنسية مقومة للحيوان ألبتة. ولايمنع أن يكون المعنى الأخص قد يقال على الأعم، لاعلى كله؛ ولو كان الجنس يقال على المقول على الكثيرين قول المقول على الكثيرين لكان شططا محالا.(1/18)
ومما يشكك هاهنا أستعمال لفظة النوع في حد الجنس. فإنك إذا أردتَ أن تَحُدَّ النوعَ، يُشْبِه أنْ لاتجد بُدَّا من أن تدخل فيه اسم الجنس، كما يُبَيَّنُ لك بَعْد إذ يقال لك إن النوع هو المرتب تحت الجنس، وكلاهما للمتعلم مجهول، وتعريف المجهول بالمجهول ليس بتعريفٍ ولا بيان؛ وكل تحديد أو رسم فهو بيان. وقد أجيب عن هذا فقيل: إنه لما كان المضافان إنما تقال ما هيةُ كلِّ واحدٍ منهما بالقياس إلى الآخر، وكان الجنسُ والنوع مضافين، وَجَبَ أَنْ يؤخذ كلٌّ ُ واحد منهما في بيان الآخر ضرورةً إذْ كان كلُّ واحد منهما إنما هو هو بالقياس إلى الآخر .فهذا الجواب هو زيادة شك في أمور أخرى غير الجنس والنوع، يشكل فيها ما يشكل في الجنس والنوع. وزيادة الإشكال ليست بحل، فإن المحقق يقول: ورُدَّ حدود المضافات على حد الجنس والنوع، وعَرِّفْنى أنها إذا كانت مجهولةً معا، فكيف يُعرف الواحد منها بالآخر ؟ وأيضا فإنَّ من شأن الحل أنْ تقصد فيه مقدمات.الشك فتنكر جميعها، أو واحدة منها. وليس في الحل الذي أَوْرَده هذا الحالُّ تَعَرضً لشئ من تلك المقدمات؛ فإنه لم يقل إن الجنس والنوع ليسا معا مجهولين عند المبتدئ المتعلم، ولم يقل إنه إذا عُرِّف كلُّ واحد منهما بالآخر وهو مجهول، فليس هو تعريف مجهول بمجهول، فإنّ هذا لايمكن إنكاره؛ ولا أيضا يسوغ إنكار الثالثة وهي أن تعريف المجهول بالمجهول ليس ببيان، ولا الترتيب الذي لهذه المقدمات غير موجب لصحة المطلوب بها؛ فإذا كان هذا الحالُّ لم يتعرض لمقدمة من قياس الشك ولا لتأليفه، فلم يعمل شيئا. وأيضا فقد وقع فيه غلط عظيم: أنه لم يميز فيه الفرق بين الذي يعرف مع الشئ، وبين الذي يعرف به الشئ؛ فإن الذي يعرف به الشئ هو مما يعرف بنفسه ويصير جزءا من تعريف الشئ، إذا أضيف إليه جزء آخر تُوُصل إلى معرفة الشئ، ويكون هو قد عرف قبل الشئ. وأما الذي يعرف مع الشئ فهو الذي استتمت المعرفة بتوافي المعرفات للشئ معا عُرِف الشئ وعرف هو معه، ولا تكون المعرفة به تسبق معرفةَ الشئ حتى يعرف به الشئُ، فذلك لايكون جءا من جملة تعريف الشئ؛ فإنَّ أجزاء الجملة التي تعرّف الشئ ما لم تجتمع معا، لم تعرّف الشئ، والواحد منها يكون دالا على جزء من المعنى الذي للشئ فقط. فما دامت الأجزاء تذكر ولم تستوف جميعها، يكون الشئ بَعْد مجهولا؛ فإذا توافت عرف الشئ حينئذ، وعرف ما يعرف مع الشئ. والمضافات إنما تعرف معا، ليس بعضها يعرف بالبعض فتكون معرفة بعضها قبل معرفة البعض فتكون معرفة البعض لامع معرفته. وبالجملة ما يُعْرف مع الشئ غير الذى يعرف به الشىء؛ فإنّ الذى يعرف به الشىء هو فى المعرفة قبل الشىء. وكذلك فإنَّا نقول: إنَّ المتضايقات لا تحد على هذه المجازفة التى أومأ إليها مَنْ ظن أنه يحل هذا الشكَّ، بل في تحديدها ضربٌ من التلطف يزول به هذا الانغلاق؛ ولهذا موضع بيان آخر. وأما مثاله فى العاجل، فهو أنك أذا سئِلت: ما الأخ ؟ لم تعمل شيئا إن أجبتَ؛ أنه الذى له أخ، بل تقول: إنه الذى أبوه هو بعينه أبو إنسان آخر الذى يقال إنه أخوه، فتأتى بأجزاء بيان ليس واحد منها متحددا بالمضاف الآخر؛ فإذا فرغت تكون قد دللت على المتضايفين معاً. وإذْ قد تقرر أن هذا الحل غير مغن، فلنرجع نحن إلى حيث فارقناه فنقول: إنَّ تحديد الجنس يتم، وإنْ لم يؤخذ النوع فيه نوعا من حيث هو مضاف إليه، بل من حيث هو الذات؛ فإنك إذا عنيت بالنوع الماهيةَ والحقيقةَ والصورةَ، وقد يعنى به ذلك كثيرا في عادتهم، لم يكن النوع من المضاف إلى الجنس. وإذا عنيت بالمختلفين بالنوع المختلفين بالماهية والصورة، تَمْ لك تحديدُ الجنس. فإنك إذا قلت: إنّ الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق والماهيات والصور الذاتية في جواب ما هو، تَمَّ تحديدُ الجنس، ولم تحتج إلى أن تأخذ النوع من حيث هو مضاف فتورده فى حده، وإن كانت الإضافة تندرج فى ذلك اندراجا لا يكون معه جزء الحد متحددا بالمحدود بالحد. أما الاندراج فلأنك إذا قلتَ: مقول على المختلف بالماهية، جعلتَ المختلف بالماهية مقولا عليه، وهذه إشارة إلى ما عرض لها من الإضافة. وأما أنك لم تجعل جزءَ الحدِّ متحددا بالمحدود بالحد، فلأن جزءَ الحد هو الماهية، أو كلية تخالف بالماهية؛ والماهية من حيث هى ماهية، والكلية المخالفة بالماهية(1/19)
غيرُ متحددة بالجنس، فتكون قد حددت. متحددة بالجنس، فتكون قد حددت.
المقالة الثانية
من الفن الثاني
الفصل الأول
فصل (1)
في حال مناسبة الأجناس
وفصولها المقسِّمة والمقومة، وتفهيم هذه الأجناس العشرة العالية، وحال قسمة الموجود إليها، وابتداء القول فى أنها عشرة لا تدخل تحت جنس ولا يدخل بعصها فى بعض ولا جنس خارج عنها.
إن الأجناس العالية لا يوجد لها فصول مقومة بل تنفصل بذواتها، وإنما كان يكون لها فصول مقومة لو كانت لها أجناس فوقها، وبالجملة معانٍ أهم منها داخلة فى جوهرها، فتحتاج أن تنفصل في جواهرها عنها بغيرها، كما تبين فى صناعة أخرى؛ ولكن إنما توجد لها الفصول المقسمة.
والأنواع السافلة لا توجد لها فصول مقسمة. نعم، قد يكون لها أعراض وخواص مقسمة. وإنما كان يكون لها فصول مقسمة لو صلح أن يكون لها أنواع تحتها. وأما الأجناس والأنواع المتوسطة فإنها هى التى يوجد لها فصول مقومة وفصول مقسمة. ففصولها المقومة هى التى تقسِّم أجناساً فوقها؛ وفصولها المقسمة هى التى تقِّوم أنواعا تحتها؛ وكل ما قوم جنسا هو فوق فإنه يقوِّم كل ما تحته؛ لكن تقويمه الأولى لما قَسِّم إليه الجنس قسمة أولى؛ وكل ما قسِّم جنسا أو نوعا هو تحت فإنه يقسِّم ما فوقه.
ولا يبعد أيضا أن يكون الأقدم هو المعنى الآخر؛ فلما كان هذا المعنى يلزمه أنْ يكون نوع الأنواع، ويختص في إضافاته بالنوعية فقط من غير جنس، جُعِل أَوْلى باسم النوعية، وَسُمى من حيث هو ملاصق للأشخاص نوعا أيضا. وهذا شئ ليس يمكننى تحصيله، وإن كان أكثر ميلى هو إلى أنّض أول التسمية وقع بحسب اعتبار النوع المضايف، لكنه يجب علينا أن نعلم أنّ النوع الذي هو أحد الخمسة في القسمة الأولى، هو بأى المعنيين نوع، فنقول: إنه قد يمكن أن تخرج القسمة المخمسة على وجه يتناول كل واحد منهما دون الآخر، فإنه إذا قيل: إن اللفظ الكلى الذاتى، إما أن يكون مقولا بالماهية أو لايكون، والمقول بالماهية إما أن يكون مقولا بالماهية المشتركة لمختلفين بالنوع، أو لمختلفين بالعدد دون النوع، كان قسمة المقول بالماهية تتناول الجنسَ والنوعَ الملاصق للأشخاص، فيضيع اعتبار النوع بالمعنى الذي يكون بالاضافة إلى الجنس في القسمة الأولى، بل ينقسم بعد ذلك ماهو مقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب ما هو إلى ما هو كذلك، ولا يقال عليه مثل ذلك، فيكون الذي يسمى جنسا فقط، وإلى مايكون مقولا على كثيرين، ويقال عليه آخر هذا القول فيصير هذا الاعتبار نوعا. لكن هذه القسمة لاتُخْرج طبيعة النوعية بالمعنى المضاف مطلقا، بل تخرج قسما من هذه النوعية بهذا الاعتبار، وهو ماكان جنسا وله نوعية، وتخرج طبيعة النوع بالاعتبار الخاص سالما صحيحا. وقد يمكن أن يقسم بحيث يخرج النوع بمعنى الأعم، فيكون النوع بالمعنى الخاص في القسمة الثانية، حتى يكون ماهو نوع : إما الذي هو نوع الأنواع الذي يَعْرِض له أن يكون النوعَ بالمعنى الذي يجعله أخص، وإما الذي هو نوع يتجنس.
لكنك إذا قسمت الكلى - من حيث هو كلى - فأَوْلى الاعتبارات به أن تقسمه قسمةً تكون له بالقياس إلى موضوعاته التي هو كلى بحسبها، فهنالك يذهب النوع الذي بالمعنى الأعم؛ وإنما يحصل من بَعْد باعتبار ثان، وهنالك يصير النوع المشعور به أولا هو النوع بالمعنى الخاص. وإن لم يراع هذا - بل روعى أحوال الكليات وعوارضها فيما بينها من حيث هي كلية، مثل الزيادة في العموم والخصوص التي لبعضها عند بعض، لاعند الجزئيات - خرج لك النوع المضاف، على مانورده عن قريب.(1/20)
وليبس يجب أن يكون هذا التخميس مشتملا على كل معنى تكون إليه قسمة الكلى؛ فإنّ الشئَ قد ينقسم أقساما قسمة تامة، وتفلت منها أقسام له أخرى إنما تأتى سليمةً بقسمة أخرى؛ فإنَّ الحيوان، إذا قسمته إلى ناطق وأعجم، لم يكن إلا قسمين، وأفلت المشاء والطائر، واحتاج إلى ابتداء قسمة. وليس يجب أن تنعسر ونقول: إنَّ هذه القسمة المخمسة يجب أنْ تشتمل على كل معنى يكون من أقسام الكلى واعتباراته، بل يجب أنْ تعلم أنه إنما يحمل على هذا التعسر اشتراك قسمين متباينين في اسم وهو اسم النوع، بل الأحرى أَنْ نقول: إنَّ هذه الخمسة إذا تحصلت، حصل من المناسبات التي بينها أمر آخر، هو حال الأخص من المقولات في جواب ماهو عند الأعم، حتى يكون ذلك نوعية الأخص، وكما يعرض مثل ذلك أيضا شخصية وجزئية، ولكن تلك قد تركت إذ لا التفات إليها. فإنْ آثره أن نجعل القسمة مخرجةً للنوع بالمعنى المضاف الذى هو أعم، وجب أن نقول: إنَّ اللفظ الذاتى إما مقول في جواب ماهو، وإما غير مقول؛ ونعنى بالمقول في جواب ماهو، ما يصلح أن يكون - إذا سئل وهذه الأمثلة التي أوردناها ليست تدل التسع منها على المقولة دلالة الاسم على المعنى، بل دلالة الاسم على ذي المعنى، إذ كان هذا أعرف. ثم ننتقل منه إلى المعنى؛ وذلك لأن قولنا أبيض ليس اسما للكيفية بل اسما لشئ هو ذو كيفية، وهو الجوهر. لكن من ههنا تنبيه على وجود الكيفية؛ فإن الأبيض كزيدٍ وككرباس أعرف عند التخيلِ من البياض الذي هو مجرد الكيفية، والتخيل أسبق إلينا في هذه الأمور من العقل. فإذا أخطرت ببالك الأبيض، فكان شيئا ذا بياض، دلّك هذا على البياض دلالة المعنى على المعنى والأمرِ على الأمر. فالمقولة ليست هي الأبيض، بل البياض. وكذلك ليست الكمية هي شيئا ذا ذراعين، بل نفس الذراعين. وكذلك الحال في البواقي.
فالألفاظ التي تدل على الجواهر تدل على ذات فقط دلالة الاسم؛ ولا تدل على أمر تنسب إليه هذه الذات، دلالة الاسم ولا دلالة المعنى. وأما إذا قلت بياض، فإن هذا اللفظ يدل لك على معنى البياض دلالة الاسم ويدلك على معنى آخر؛ وذلك أنك كما تسمع لفظ البياض وتفهم،يبادر بك ذهنك في أكثر الأمر إلى أن تخطر بالبال شيئا آخر هو الأبيض. وكذلك الحال في كل واحد من التسعة. فالمقولات التسع هى مايدل عليه البياض والمقدار والعدد والأبوة والكون في المكان، كقولك الإنجاد والإتهام، والكون في الزمان، كقولك العتاقة والحداثة، والوضع كقولك القيام والجلوس، وأيضا ما يدل عليه التسلح، وصدور الفعل كالقطع، وقبوله كالانقطاع مادام ينقطع.
والمباحث في أمر هذه العشرة كثيرة. منها أنه هل يمكن أن تستند كلها إلى جنس واحد، كما ظُن أن الموجود جنس لها ؟ ومنها أنه إن لم يمكن ذلك فيها، فهل يمكن أن يفرد الجوهر جنسا ويجعل العرض جنساً واحدا يعم التسعة ؟ ومنها أنه إن لم يمكن هذا، فهل يمكن أن تجمع في أكثر من اثنتين وأقل من عشرة ؟ ومنها أن هذه هل تشتمل على جميع الموجودات، فلا يشذ منها شئ، أو لاتشتمل، بل ههنا أمور أخرى لا تدخل في شئ من المقولات ؟ ومنها أن الموجود كيف يتشعب إلى هذه العشرة مع كون أمور أخرى خارجة عنها أو مع لاكون أمور أخرى خارجة عنها ؟ فنقول: أما البحث الأول، وهو حال نسبةْ الموْجود إلى هذه العشرة فإن المشهور من النظر فيه أن يعدّوا وجوه قسمة الواحد إلى الكثرة، فيبطلوا وجها وجها منها حتى يبقى مايؤثرون بقاءه. وليس في تعديدنا ذلك كله فائدة؛ إذ من المعلوم أن الموجود مقول على هذه العشرة، وأنه إنما يتكثر فيها تكثير المقول، لاتكثير وجوهٍ أخرى مما يطولون به كلامهم. وتكثير المقول يكون على وجوه ثلاثة: إما أن يتكثر تكثر المتواطئ في موضوعاته أو تكثر المتفق الصرف الذي يشمل التشابه والاشتراك، أو تكثر المشكك. ثم من امتنع أن يعقل أن للموجود معنى واحدا في هذه العشرة، فقد فارق الفطرة؛ وخصوصا إذا قال: إن الدليل على اختلاف هذه العشرة في معنى الوجود أن الجوهر موجود بذاته والعرض موجود بغيره، وأن الجوهر موجود لايحتاج في وجوده إلى وجودِ آخر، والعرض موجود يحتاج في وجوده إلى ذلك، فقد أشرك هذين الشيئين في شئ وهو لفظ الموجود، ثم فرق بعد ذلك بأنه بذاته أو بغيره وأنه محتاج أو غير محتاج.(1/21)
فهذا الموجود المستعمل، أن كان يدل على معنى يجتمع فيه العرض والجوهر ثم يفترقان من بعد، فقد حصل معنى جامع؛ وإن لم يدل على معنى جامع، فكيف فارق أحدهما الآخر؟ بل لكل واحد منهما معنى غير معنى الآخر، وأحدهما بذاته والآخر بغيره؛ وقد يفرق أيضا بين النوع والفصول التي تُقال على كثيرين مختلفين بالنوع؛ مثال هذا الفصل المنقسم بالمتساويين فإنه فصل الزوج في ظاهر الأمر، وقد يقال على الخط والسطح والجسم في ظاهر الأمر؛ فليس الزوج وحده منقسما بمتساويين في ظاهر الأمر؛ فإنه إذا أضيف إلى العدد الذي هو كالجنس، كان مساويا للزوج، ولا يفرق بين النوع والفصل الذي هو خاص بالنوع فالناطق، أعنى الذي له مبدأ قوة التمييز، فإنه هذا الإنسان وحده. وأما الذي يقال للملكِ فهو بمعنى آخر ليس يشارك الإنسان الملك فيه؛ ولكن قد يمكن لبعض المتشحطين أن يُخْرج من هذا الحد من هذه الجهة وجها يفرق بين النوع والفصل، وذلك الوجه هو أن طبيعة النوع بهذا المعنى تقتضي أن لايقال إلا على كثيرين مختلفين بالعدد، وطبيعة الفصل لاتقتضى ذلك؛ وهو وجه متكلف. لكن قوله: " في جواب ماهو " يفرق بين الفصل وبينه تفريقا مطلقا، ويفرق بين الخاصة وبين النوع أيضا؛ فإنّ الخاصة لامدخل لها في جواب ماهو. فهذا الرسم متقن محقق مطابق للمعنى الذى يقال عليه النوع، الذي لايطابق إلا نوع الأنواع. وأما رسوم النوع بالمعنى الذي فيه الإضافة فذلك عندهم رسمان: أحدهما قولهم: إنه المرتب تحت الجنس، والثاني: إنه الذي يقال عليه الجنس من طريق ماهو. فيجب أن ننظر في حاله فنقول: إنه إن عنى بالمرتب تحت الجنس مايكون أخص منه حملا، أنى يكون حمله على بعض ما يحمل عليه مما هو تحته، فإنَّ الشخصَ والنوعَ والفصلَ والخاصة تشترك جميعها فيه، وإنْ عنى بذلك ماكان كليا وحده دون الشخص، فقد عنى ماهو خارج عن مقتضى اللفظ؛ ومع ذلك فإنَّ الفصلَ والنوع والخاصة تشترك فيه. وإنْ لم يٌعْن بالمرتب هذا، بل عنُىِ به ماهو أخص وملاصق لايتوسط شئ بينهما، وهو مايتلوه في المرتبة، خرج الشخص ودخل الخاصة والفصل؛ وإنْ عنُىِ بالمرتب ما كان ملاصقا ليس في ترتيب العموم فقط، بل في ترتيب المعنى أيضا، خرج الخاصة ودخل الفصل؛ وإن عنى بالمرتب مايكون خاصا مدخولا في طبيعته، أعنى ما يكون ما فوقه مضمنا في معناه، اختص هذا الرسم بالنوع؛ فإنّ الجنس ليس داخلا في طبيعة الفصل ولا الخاصة، بل هو شئ كالموضوع لهما ليس داخلا فيهما، ونسبته إليهما نسبة الأمر اللازم الذي لابد منه، ليس نسبة الداخل في الجوهر، على ما علمت. لكن لفظة " المرتب " ليس تدل على هذا المعنى المحدد بكل هذه الاشتراطات، لابحسب الوضع الأول، ولا بحسب النقل، فليس يذكر في موضع من كتب أهل هذه الصناعة أنه إذا قيل: مرتب تحت كذا، عنى هذا المعنى.
وأما الرسم الثاني، وهو أنه الذي يُقال عليه جنسه من طريق ماهو - إِنْ عنى بالمقول من طريق ماهو ما حققناه نحن - فيجب أن يُزاد عليه أنه الذي يقال عليه وعلى غيره جنسه من طريق ماهو، أو يقال: هو الذي يقال عليه جنسه من طريق ماهو بالشركة، فيكون هذا خاصا للنوع؛ فإنَّ الفصل لايقال عليه الجنس من طريق ماهو ألبتة، وكذلك الخاصة والعرض. وأما الشخص فلا تتم ماهيته بالجنس. وأما إِنْ عنُىِ بذلك ما يعنونه، وبين الفصل بل تكون الماهية موجبة له ومقتضية إياه. وأما ماتكون الماهية لاتوجبه ويجوز أن يكون من شئٍ خارجٍ يفيده فليس مقوما للماهية. والجنس إنما يكون من المعانى التي تشبه الشكل مما يصير به المعنى معنى والماهية ماهية. وأما الوجود فأمر يلحق الماهية تارة في الأعيان وتارة في الذهن.
فقد بان أن اسم الموجود ليس يقع على العشرة بالتواطؤ؛ وبان أنه لو كان يقع عليها بالتواطؤ، لم يكن من الأمور المقومة للماهية؛ فالوجود إذن ليس بجنس. وقد قيل في الأجوبة المشهورة: إنّ من الدليل على أن الموجود ليس بجنس أنه لو كان جنسا لكان فصله إما موجودا وإما غير موجود؛ فإن كان موجودا وجب أن يكون الفصل مكان النوع؛ إذ يحمل عليه الجنس؛ وإن كان غير موجود فكيف يفِصل ؟ وهذا الاحتجاج ليس بمغنٍ في هذا الباب، فإن فصول الجواهر جواهر؛ وهى مع ذلك فصول. وأما كيفية الصورة في هذا فهى لصناعة أخرى مما لا يفى به المنطق.(1/22)
وقد يتشكك على ما قلناه من سلبِ الجنسية عن الموجود، فيقال إن كثيرا من الأجناس قد يقع على أنواع متقدمةٍ ومتأخرةٍ كالكم على المنفِصل والمتصل؛ والمنفصل أقدم من المتصل؛ ومع ذلك فقد يعرِض له؛ وأيضا فإن الكم يتوسط العدد، بل العدد نفسه يقع على الاثنين والثلاثة والأربعة؛ وهذه مختلفة في التقدم والتأخر، وكما يقع الجوهر على الجوهرِ الأول والجوهرِ الثاني، وكما يقع على البسيطِ والمركبِ. لكن الأولى أن نتكلم على هذا الشك من بعد هذا الموضع.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في أن العرض ليس بجِنٍس للتسعة
وتعقبِ ما قيل في ذلك
وأما العرض فقد قيل في منعِ جنسيته لهذه التسعة أقوال مشهورة منها قولهم: إن حد العرض لايتناول التسعة تناولا حقيقيا؛ ويحاولون تصحيحه بأسئلةٍ منها قولهم: أمس وعام أوّل كل واحدٍ منهما أمر واحد وموضوعاته كثيرة؛ ومستحيل أن يكون هو موجودا في جميعها؛ فإن العرض الواحد بالعدد لن يكون في موضوعات كثيرة على أنه موجود في كل واحدٍ منها؛ فإذن ليس شئ من ذلك في موضوع وهو عرض.
وهذه خرافة؛ فإنه إن عنىِ بإمِس وعام أول معنى متى، وهو الكون في الزمان، فإن كل واحدٍ من الموضوعات له نسبة خاصة هو بها دون غيره في زمانه؛ فإنه ليس كون زيدٍ في زمانه هو بعينه كون عمرو في ذلك الزمان، على أن الكونين واحد بالعدد؛ وإن عنىِ به الزمان نفسه، فإن الزمان في الموضوع الذي فيه الحركة التي الزمان عددها، وهو موضوع واحد عند قوم، وموضوعات كثيرة عند قوم، ويكون عندهم زمان من الأزمنة متقدما وهو الذي تعتبر به الأشياء، فيقال إنها في زمان واحد.
وأما تفاريق الأشياء المتحركة فلكل واحدٍ منها عند هؤلاء زمان خاص؛ إلا أن الاعتبار عندهم في قول الناس إن كذا وكذا في زمانٍ واحدٍ بالعدد ليس إلا بالزمان الثابت الواحد الأول. ولست أشير إلى أن هذا المذهب أو غيره صحيح، بل إلى أن هذا المأخذ من الاحتجاج، ليتبين به أن حد العرضِ لايتناول الزمان، باطل. وقوم قالوا: إن الزمان لايتعلق بموضوع؛ فهناك قالوا: إنه جوهر. فأما معرفة الصحيح والباطلِ من هذه المذاهب ففى صناعة الطبيعيين.
فهى مفهومات مختلفة. وإذا جُعِل اسم النوع اسماً لواحدٍ واحدٍ من هذه المعانى، يكون مقولا على هذه الثلاثة باشتراك الاسم، وتكون حدودُ مفهوماته مختلفةً؛ فإنْ جُعِل اسماً لواحد منها فقط، كان ذلك القولُ الذي لذلك الواحد حدَّا له، والقول الذي للآخر رسما ليس هو مفهوم الاسم بل علامة لازمة له. وكما أنَّ تحت نوع الأنواع موضوعات كلية - وإنْ كانت ليست بأنواع - مثل الكاتب والملاح والتركى تحت الإنسان، فكذلك لايَبْعد أن يكون فوق جنس الأجناس محمولات ليست بأجناس، بل معان لازمة قد تشترك فيها أجناس من أجناس الأجناس، كالوجود والعَرَضية، وكأمور تُحْمل على عدة أجناس عالية مما ستفطن لها بَعْد.
وأما هذه القسمة التى أوردت للجوهر وبلغت الإنسان، فإنها غير مستقيمة، وإنْ كانت غير ضارة في تفهم الغرض المقصود؛ وذلك أنَّ الجسم ذا النفس، إذا تناول النبات مع الحيوانات، لم يتناول الملائكة إلا باشتراك الاسم، فلم يكن الجسم ذو النفس جنسا تدخل فيه الملائكة؛ وكذلك إذا قيل ناطق للإنسان وللمَلَك، لم يكن إلا باشتراك الاسم، والناطق الذي هو فصلٌ مُقَوِّم للإنسان غير مقول على الملائكة؛ وإذا كان كذلك، لم يكن الحىُّ الناطق جنساً للإنسان والملائكة، ولا الجسم ذو النفس جنسا للنبات والملائكة والحيوانات؛ فإذا كان كذلك، لم يكن إدخال الميت فصلا يقسم الحيوان الناطق إلى إنسان وغير إنسان محتاجا إليه.
فصل
في الطبيعي والعقلي والمنطقي
وما قَبْل الكثرة وفي الكثرة وبَعْد الكثرة من هذه المعانى الخمسة(1/23)
إنه قد جرت العادة في تفهم هذه الخمسة أن يقال: إنّ منها ماهو طبيعى، ومنها ماهو منطقى، ومنها ماهو عقلى؛ وربما قيل: إنَّ منها ماهو قَبْل الكثرة، ومنها ماهو في الكثرة، ومنها ماهو بعد الكثرة.وجرت العادة بأن يُجْعل البحث عن ذلك متصلا بالبحث عن أمر الجنس والنوع - وإنْ كان ذلك عاما للكليات الخمس - فنقول متشبهين بمن سلف: إنَّ كلَّ واحدٍ من الأمور التى تأتى أمثلة لإحدى هذه الخمسة، هو في نفسه شئ، وفي أنه جنس أو نوع أو فصل أو خاصة أو عرض عام شئ؛ولنجعل مثال ذلك من الجنس فنقول: إنّ الحيوان في نفسه معنى، سواء كان موجودا في الأعيان أو مُتَصوَّرا في النفس، وليس بنفسه بعام ولا خاص؛ ولو كان في نفسه عاما حتى كانت الحيوانيةُ - لأنها حيوانية - عامةً، لوجب أن لايكون حيوان شخصى، بل كان كل حيوان عاما؛ ولو كان الحيوان - لأنه حيوان - شخصيا أيضا، لما كان يجوز أن يكون إلا شخصاً واحدا، ذلك الشخص الذى تقتضيه الحيوانية، وكان لايجوز أن يكون شخص آخر حيوانا، بل الحيوان في نفسه شئٌ يُتَصور في الذهن حيوانا، وبحسب تصوره حيوانا لايكون إلا حيوانا فقط؛ فإنْ تُصُوِّر معه أنه عام وخاص وغير ذلك، فقد تصور معه معنى زائد على أنه حيوان يعْرِض للحيوانية؛ فإنَّ للحيوانية لا تصير شخصاً مشارا ثم يشك في كثير منها فلا يدرى أنها محتاجة إلى موضوع حتى يبرهن عليه في صناعة الفلسفة الأولى؛ وحتى إن قوما جعلوا هذه الأمور جواهر. فنسبة العرض إلى هذه نسبة الموجود إلى ماهيات العشرة من حيث ليس داخلا في الماهية. وكما أن الموجود ليس مقوِّماً لماهية هذه العشرة، كذلك العرضية ليست مقومة لماهية التسعة، فلذلك لايوجد في حد شئٍ منها أنه عرض.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في تعقب أقوالِ من أوجب فيها نقصانا أو مداخلة
وأما الذين تكلفوا أن يجعلوا بعض هذه داخلا في بعض وأن يحصروها في مقولات أقل عددا، فمنهم من جعل المقولات أربعا: الجوهر والكمية والمضاف والكيفية، وجعل المضاف يعم البواقى؛ لأنها كانت منسوبة. ومنهم من جمع الست في جنسٍ خامسٍ؛ إذ عد الأربعة؛ ثم قال والخامس الأطراف التي تأخذ من الكيفية شيئا. وبطلان هذا المذهِب وما يجانسه يظهر لك حيث نعلمك رسوم هذه وخواصها؛ فإنه يتضح لك أنها متباينة. وليس الذي قيل في تباينها: إن الدليل على أن الكمية منها تخالف الكيفية أن الجسم ربما زادت كميته وحجمه وضعفت كيفيته؛ وبالعكس، فالكمية مخالفة للكيفية شيئا؛ فإن من لايسلم تخالف الكيفية والكمية يقول: إن كمية مازادت فانتقصت كمية ما أخرى؛ أو كيفية ما زادت فا نتقصت كيفية ما أخرى؛ وليس إذا اختلف هذان اللذان أشرت إليهما يمتنع أن يدخلا في مقولةٍ واحدةٍ؛ فإن الأضداد التي لاتجتمع معا، بل تتعاقب، قد تجتمع في مقولةٍ، بل في جنسٍ قريبٍ واحد؛ ولا يوِجب اختلافهما البالغ تباينهما في المقولة. وأنت تعلم أنّ هذا التنافر الذي بينها أشد من التنافرِ بين ماذِكر سالفا؛ ولكن المعوَّل في معرفة الفصول بين هذه من الرسوم التي سنوضح لها، فتعلم أن بعضها غير داخلٍ في بعض.
وأما أن عدة منها هل تدخل في جملةٍ، كمن ظن أن المضاف يشتمل على البواقى، فسنبين بطلان ذلك من أن نحقق لك في باب المضاف أن المضاف الحقيقي لايحمل على شئٍ من المقولات الأخرى حمل الجنس؛ ولكن يوجد في كل واحدٍ منها بأن يعرِض له فيكون له نسبة إلى شئٍ يصير بها مضافا إليه، من غير أن يصير المضاف جِنسا له، ونعرفك أن الشئ لايصير، بسبب أن له شيئا، وأنه في شئٍ أو مع شئٍ، مضافا إليه، بل بأن تأخذه بعد ذلك، منحيث له ذلك؛ فيعرض له أن تكون ماهيته من جهة هذا الاعتبار مقولة بالقياس إلى غيره؛ فإن كون زيد في الدار هو نسبته التى هو بها أين. وهذه النسبة ليست إضافة بل أيناً.
ثم إذا اعتبرت التكرير وجدت الموصوف بالأين يعرض له من حيث هو ذو أين، أن يصير مقول الماهية بالقياس إلى ماهو فيه، من حيث هو محوى وذلك حاو؛ لامن حيث هو أين فقط، بل من حيث أنه محوى حاويه، وجدته قد عرضت له الإضافة؛ كالبياض فإنه من حيث هو بياض شئ؛ ومن حيث أنه لذى البياض، أى للأبيض فإن ماهيته مقولة بالقياس إلى ذى البياض، لاماهيته أنه بياض، بل ماهية أنه للأبيض.(1/24)
وذلك لأنَّ الإنسان الذي هو نوعُ الحيوان - من جهة أنه حيوانٌ - فلا يحمل عليه مع الحيوانية ماعرض للحيوانية من الجنسية، لا اسما ولا حدا؛ فإنّ الإنسان لايجب أن يصير جنسا، من جهة حمل الحيوانية عليه، لا باسم ولا بحد، كما يجب أن يصير جسما، من جهة حَمْلِ الحيوانية عليه باسم وحد؛ فإنْ صار شئٌ من الأنواع جنسا، فذلك له، لا من جهة طبيعة جنسه الذي فوقه، بل من جهة الأمور التي تحته. وأما الجنس الطبيعي فإنه يعطي ماتحته اسمه وحده من حيث هو طبيعة، أى من حيث الجنس الذي هو مثلا الحيوان، حيوان لا من حيث هو جنس طبيعى، أى معنى يصلح إذا تُصُوِّر أن يصير جنسا من حيث هو كذلك، فإنه ليس يجب هذا لما تحته. وبالجملة إذا قالوا: إن الجنس الطبيعي يعطى ما تحته اسمه وحدَّه، فهذا أيضا قولٌ غيرُ محقق، فإنه يعطى بالعرض، لأنه ليس يعطى من حيث هو جنس طبيعى، كما لم يعط أيضا من حيث هو جنس منطقى، ولكن إنما يعطيهما الطبيعةَ الموضوعة لأَنْ يكون جنسا طبيعيا؛ وهذه الطبيعة بنفسها أيضا ليست جنسا طبيعيا كما ليست جنسا منطقيا، اللهم إلا أنْ لا نعنى بالجنس الطبيعى إلا مجرد الطبيعة الموضوعة للجنسية، ولا نعنى بالجنس الطبيعى ما عنيناه، فحينئذ يصلح أن يقال: إن الجنس الطبيعى يعطى ماتحته اسمه وحدّه، وحينئذ لايكون الحيوان جنسا طبيعيا إلا لأنه حيوان فقط. ثم انظر أنه هل يستقيم هذا ؟ وأما العقلى ففيه أيضا موضوعٌ وجنسيةٌ وتركيب، وحكم جميع ذلك في العقلى كحكم الطبيعى. والأخرى أن تكون الحيوانية في نفسها تسمى صورةً طبيعية تارة، وصورة عقلية أخرى، ولا تكون في أنها حيوانية جنسا بوجه من الوجوه، لا في العقل ولا خارجا، بل إنما تصير جنسا إذا قُرِن بها اعتبار، إِما في العقل وإما في الخارج، وقد أشرنا إلى الاعتبارين جميعا؛ لكن الشئ الذي هو طبيعة الجنس المعقول قد يكون على وجهين: فإنه ربما كان معقولا أولا ثم حصل في الأعيان، وحصل في الكثر ة الخارجة، كمن يعقل أولا شيئا من الأمور الصناعية ثم يحصله مصنوعا؛ وربما كان حاصلا في الأعيان ثم يصور في العقل، كمن عرض له أن رأى أشخاصَ الناسِ واستثبت الصورةَ الإنسانية.
وبالجملة ربما كانت الصورة المعقولة سبباً بوجهٍ مّا لحصول الصورة الموجودة في الأعيان، وربما كانت الصورة الموجودة في الأعيان سببا بوجهٍ مّا للصورة المعقولة، أى يكون إنما حصلت في العقل بَعْد أن كانت قد حصلت في الأعيان. ولأن جميع الأمور الموجودة فإنّ نسبتها إلى الله والملائكة نسبة المصنوعات التى عندنا إلى النفس الصانعة، فيكون ماهو في علم الله والملائكة من حقيقة المعلوم والمدرك من الأمور الطبيعية موجودا قبل الكثرة، وكل معقول منها معنى واحد، ثم يحصل لهذه المعانى الوجودُ الذى في الكثرة، فيحصل في الكثرة ولا يتحد فيها بوجهٍ من الوجوه، إذ ليس في خارج الأعيان شئ واحد عام، بل تفريق فقط؛ ثم تحصل مرة أخرى بعد الحصول في الكثرة معقولة عندنا. وأما أنّ كونها قبل الكثرة على أى جهة هو، أعلى أنها معلومة ذات واحدة تتكثر بها أو لاتتكثر، أو على أنها مثل قائمة، فليس بحثنا هذا بواف به، فإنّ لذلك نظرا علميا آخر.(1/25)
واعلم أنّ ما قلناه في الجنس هو مثال لك في النوع والفصل والخاصة والعرض، يهديك سبيل الإحاطة بعقليته ومنطقيته وطبيعته، وما في الكثرة منه وقبلها وبعدها. واعلم أنَّ الأمور التي هي في الطبيعة أجناس الأجناس،فهى فوق واحدة ومتناهية، كما سيتضح لك بعد. وأما الأمور التي هى أنواع الأنواع، فالمستحفظات منها في الطبيعة متناهية، وأما هي في أنفسها فغير متناهية في القوة، فإنّ أنواعٍ كثيرةٍ من المقولات، التي تأتيك بعد، لاتتناهى، كأنواع الأنواع الكمية والكيفية والوضع غير ذلك. وأما الأشخاص فإنها غير متناهية بحسب التكون والتقدم والتأخر. وأما المحسوس المحصور منها في زمان محدود فمتناهٍ ضرورةً؛ والشخص إنما يصير شخصا بأن تقترن بطبيعة النوع خواص عرضية لازمة وغير لازمة، وتتعين لها مادة مشار إليها، ولا يمكن أن تقترن بالنوع خواص معقولة كم كانت، وليس فيها آخر الأمر إشارةُ إلى معنى متشخص فيتقوم به الشخص في العقل؛ فإنك لو قلتَ: زيد هو الطويل الكاتب الوسيم الكذا والكذا، وكم شئت من الاوصاف، فإنه لايتعين لك في العقل شخصية زيد، بل يجوز أن يكون المعنى الذي يجتمع من جملة جميع ذلك بأكثر من واحد، بل إنما يعينه الوجود والإشارة إلى معنى شخصي، كما تقول: إنه ابن فلان، الموجود في وقت فلان، الطويل، الفيلسوف، ثم يكون اتفق أن لم يكن في ذلك الوقت مشارك له في هذه الصفات، ويكون قد سبق لك المعرفة أيضا بهذا الاتفاق، ويكون ذلك بالإدراك الذي ينحو نحوَ ما يشار إليه من الحس، نحو مايشار إلى فلان بعينه وزمان بعينه، فهنالك تتحقق شخصية زيد، ويكون هذا القول دالا على شخصيته. وأما طبيعة النوع وحده، فما لم يلحقه أمر زائد عليه لايجوز أن تقع فيه كثرة. وليس قولنا لزيد وعمرو إنه شخص اسما بالاشتراك،كما يظنه أكثرهم، إلا أن نعنى بالشخص شخصا بعينه؛ وأما الشخص مطلقا، فهو يدل على معنى واحد عام، فإنّا إذا قلنا لزيد إنه شخص، لم نُرِد بذلك أنه زيد، بل أردنا أنه بحيث لايصح إيقاع الشركة في مفهومه؛ وهذا المعنى يشاركه فيه غيره؛ فالشخصية من الأحوال التي تعرض للطبائع الموضوعة للجنسية والنوعية، كما تعرض لها الجنسية والنوعية. والفرق بين الإنسان الذي هو النوع، وبين شخص الإنسان الذي يعم، لابالاسم فقط، بل بالقول أيضا، أن قولنا: الإنسان، معناه أنه حيوان ناطق، وقولنا: الإنسان شخصي، هو هذه الطبيعة مأخوذة ماعرض يعرض لهذه الطبيعة عند مقارنتها للمادة المشار إليها، وهو كقولنا: إنسان واحد، أى حيوان ناطق مخصص، فيكون الحيوان الناطق أعم من هذا؛ إذ الحيوان الناطق قد يكون نوعا، وقد يكون شخصا، أى هذا الواحد المذكور فإنَِّ النوعَ حيوان ناطق، كما أنَّ الحيوانَ الناطقَ الشخصيَّ حيوانٌ ناطق. والعموم قد يختلف في الأمور العامة: فمن العموم ما يكون بحسب الموضوعات الجزئية، كالعموم الذي الحيوان أعم به من الإنسان، وقد يكون بحسب الاعتبارات اللاحقة كالعموم الذي الحيوان أعمُّ به من الحيوان، وهو مأخوذ جنسا، ومن الحيوان، وهو مأخوذ نوعا، ومن الحيوان، وهو مأخوذ شخصا. وليست الجنسية والنوعية والشخصية من الموضوعات الجزئية التي لها درجة واحدة في الترتيب تحت الحيوان، بل هي اعتبارات تلحقه وتخصصه؛ وكما أن الإنسان قد يوجد ما عرض من الأعراض كالإنسان الضحاك، فيقال على جميع مايقال عليه الإنسان وحده من الجزئيات الموضوعة، كذلك الإنسان الشخصي؛ وذلك لأن الوحدة هي من اللوازم التي تلزم الأشياء - وسنبين أنها ليست مقومة لماهياتها - فإذا اقترنت الوحدة بالإنسانية على الوجه المذكور حدث منهما الإنسان الشخصي الذي فيه كل شخص، ولا يكون لذلك نوعا؛ لأنه مجموع طبيعة وعارض لها لازم غير مقوم؛ وأمثال هذه ليست تكون أنواعا، كما أنَّ الإنسان مع الضحاك ومع البَكَّاء ومع المتحرك والساكن، بل مع قابل الملاحة وغير ذلك، لايكون نوعا آخر، بل الإنسان بجوهره نوعٌ، فتلحقه لواحق تكون تلك اللواحق لواحق النوع، وليست أمورا توجب النوعية الجديدة. وهذا مما تتحققه في الفلسفة الأولى.
الفصل الثالث عشر
( يج )
فصل في الفصل(1/26)
وأما الفصل فإنَّ اسمه يُدَلُّ به عند المنطقيين على معنى أول وعلى معنى ثان؛ وليس سبيلهما سبيل ما قبلهما فى الجنس والنوع؛ إذ كان الوضع الأول فيهما للجمهور؛ بل المنطقيون أنفسهم يستعملونه على وضع أول وعلى نقل. أما الوضع الأول فإنهم كانوا يُسَمون كل معنى يتميز به شىء عن شىء - شخصيا كان أو كليا - فصلا، ثم نقلوه بعد ذلك إلى ما يتميز به الشىء فى ذاته. وإذ فعلوا هذا، فقد كان لهم أن يجعلوا الفصل مقولا على أشياء ثلاثة بحسب التقديم والتأخير: حتى كان من الفصل ما هو عام، ومنه ما هو خاص، ومنه ما هو خاص الخاص. والفصل العام هو الذى يجوز أن ينفصل به شىء عن غيره، ثم يعود فينفصل به ذلك الغير عنه، ويجوز أن ينفصل الشىء به عن نفسه بحسب وقتين، مثال ذلك: العوارض المفارقة كالقيام والقعود؛ فإنَّ زيدا قد ينفصل عن عمرو بأنه قاعد، وعمرو ليس بقاعد، ثم كرة أخرى ينفصل عنه عمرو بأنه قاعد، وأنَّ زيدا ليس بقاعد، فيكون هذا الانفصال بالقوة مشتركا بينهما. وكذلك زيد ينفصل عن نفسه فى وقتين: بأن يكون مرة قاعدا، ومرة ليس بقاعد؛ فهذا هو الفصل العام.
وأما الفصل الخاص فذلك هو المحمول اللازم من العرضيات، فإنه إذا وقع الانفصال بعرض غير مفارق للمنفصل به، فإنه لا يزال انفصالا خاصا له، مثل انفصال الإنسان عن الفرس بإنه بادى البشرة، فإن هذا الانفصال الواقع به خاص للإنسان بالقياس إلى الفرس، ولا يقع به مرة أخرى انفصال الفرس عن الإنسان؛ وذلك لأنه لا يخلو إما أن لا يجوز ألبتة أن تعرض هذه الصفة للفرس، وإما أن يجوز؛ فإنْ لم يَجُز أن تعرض له ألبتة، لم يجز إلا أن يكون هذا الانفصال بينهما قائما؛ وإنْ جاز أن يعرض مثلا ذلك للفرس - لو جاز - لم يكن للفرس به انفصال عن الإنسان بل مشاركة؛ فهذا إذا فصل، لم يفصل إلا أحد الشيئين دون الآخر؛ فمنه ما لا يزال فاصلا مثل المثل الذى ضربناه، وهو الخاصة، ومنه ما يخص فصله إذا فصل، وليس لا يزال فاصلا، مثل السواد الذى ينفصل به الزنجى عن إنسان آخر؛ فإنّ الزنجي لا يفارقه السواد، وذلك الإنسان يجوز أن يسود، فحينئذ لا يكون بينهما انفصال بالسواد؛ فحيث كان السواد فصلا كان خاصا بالحبشى، وحيث لم يخص لم يكن فصلا.
وأما العام فلم يكن هذا، بل كان هو بعينه تارة يفصل هذا عن ذاك، وتارة يفصل ذاك عن هذا؛ فالفصل العام، وهذا القسم من الخاص، قد يصلح أن تنفصل بهما أشخاص نوعٍ واحد. وأما القسم الأول من قسمي الفصل الخاص فإنه لاتنفصل به أشخاص نوع واحد بعضها عن بعض؛ إذ كان لازما لطبيعة النوع؛ ولو كان عارضا لبعض الأشخاص لم يمتنع أن يعرض مثله لأشخاص أخر، فيبطل دوم الانفصال به، اللهم إلا أن يكون من جملة مايعرض لما يعرض له من ابتداء الوجود، كما للناس في ابتداء الولادة، ولا يجوز أن يعرض بعد ذلك. فيجوز أن يكون في هذا الفصل ما إذا فصل عن شخص موجود استحال أن لايفصل ألبتة؛ إذ كان ذلك الشخص بعد وجوده قد فاته ابتداء الوجود، فيكون هذا أيضا مما يقع به الفصل بين أشخاص النوع.(1/27)
وأما الفصل الذي يقال له خاص الخاص، فإنه الفصل المقوّم للنوع، وهو الذي إذا اقترن بطبيعة الجنس قومه نوعا، وبعد ذلك يلزمه مايلزمه، ويعرض له ما يعرض له، فهو ذاتي لطبيعة الجنس المقوم في الوجود نوعا، وهو يقررها ويفرزها ويعينها، وهذا كالنطق للإنسان. وهذا الفصل ينفصل من سائر الأمور التي معه بأنه هو الذي يلقى أولا طبيعة الجنس فيحصله ويفرزه، وأن سائر تلك إنما تلحق تلك الطبيعة العامة بعد مالقيها هذا وأفرزها، فاستعدت للزوم مايلزمها، ولحوق مايلحقها، فهي إنما تلزمها وتلحقها بعد التخصص، وهذا النطق للإنسان؛ فإنّ القوة التي تسمى نفسا ناطقة لما اقترنت بالمادة فصار حينئذ الحيوان ناطقا، استعد لقبول العلم والصنائع كالملاحة والفلاحة والكتابة، واستعد أيضا لأن يتعجب فيضحك من العجائب، وأنْ يبكي ويخجل، ويفعل غير ذلك من لأمور التي للإنسان، ليس أنَّ واحدا من هذه الأمور اقترن بالحيوانية عند الذهن أولا، فصار بسبب ذلك للحيوان الاستعدادُ لأن يكون ناطقا، بل الاستعداد الكلى والقوة الكلية الإنسانية هي التي يسمى بها ناطقا، وهذه رواضع لها وتواضع. وأنت تعلم هذا بأدنى تأمل، وتتحقق أنه لولا أن قوة أولى هي مستعدة للتمييز والفهم قد وجدت للإنسان، لما كانت له هذه الاستعدادات الجزئية، وأن تلك القوة هي التي تسمى النطق فصار بها ناطقا؛ وهذا هو الفصل المقوِّم الذاتي لطبيعة النوع. وأما أنه أسود أو أبيض أو غير ذلك، فليست من جملة الأشياء التي لحقت بطبيعة الجنس فأفردته شيئا عرض له ولحقه أن كان إنسانا.
فيجب أن تتحقق أن الفصل بين الفصل الذي هوخاص الخاص وبين تلك الفصول هو هذا. فلذلك لك أن تقول: إنّ من الفصول ماهو مفارق، ومنها ماهو غير مفارق؛ ومن جملة غير المفارقة ماهو ذاتي، ومنها ماهو عرضي. ولك أن تقول: إنّ من الفصول مايُحْدث غَيْريه، ومنها ما يحدث آخريه، والآخر هو الذي جوهره غير، والغير أعم من الآخر، وكل مايخالف فهو غير، وليس كل ما يخالف شيئا فهو آخر، إذا عنيت بالآخر المخالف في جوهره. فمن الفصول مايكون من قبله الغيريه فقط؛ كان مفارقا كالقعود والقيام، أو غير مفارق كالضحاك وعريض الأظفار؛ فإنّ الضحاك أيضا - وإنْ كان يجب أن يكون في جوهره مخالفا لما ليس بضحاك - فليس كونه ضحاكا كما هو الذي أوقع هذا الخلاف في الجوهر، بل الضحاك لحق ثانيا، بعد أن وقع الخلاف في الجوهر دونه، ثم عرض هو، فموجبه الأوْلى لذاته هو الخلاف فقط، إذْ لايجوز أن لايوجب الضحاك خلافا بين ما يوصف بالضحاك، وبين ما لا يوصف به؛ ولكن كون هذا الخلاف جوهريا ليس هو من موجب الضحاك، بل من موجب شئ آخر وهو الناطق. فالفصل الذي هو خاص الخاص هو العلة الذاتية للخلاف الموجب للآخرية، بحسب اصطلاح أهل الصناعة في استعمال لفظ الآخر.
ومقصودنا في هذا الموضع مقصور على هذا الفصل، وهو الذي هو أحد الخمسة دون ذينك الآخرين؛ ورسمه الحقيقي هو أنه الكلى المفرد المقول على النوع في جواب أى شئ هو في ذاته من جنسه، وهو الذي اصطلح على أن قيل له: إنه المقول على النوع في جواب أيما هو؛ ثم له رسوم مشهورة مثل قولهم: إنَّ الفصل هو الذي يفصل بين النوع والجنس؛ وأيضا: إنه الذي يَفْضُل به النوع على الجنس؛ وأيضا: إنه الذي به تختلف أشياء لاتختلف في الجنس؛ وأيضا: إنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع في جواب أى شئ هو.(1/28)
فلنتأمل هذه الرسوم، ولنتحققها، ولنقض فيها بما عندنا من أمرها فنقول: إنه إذا ألحق لكل واحدٍ واحدٍ من هذه الرسوم زيادةً تساوي الفصل، وتلك الزيادة أن يقال في ذاته أو لذاته أو ذاتى أو الذاتى، فيكون الشئ الذاتى الذي يفصل لذاته بين ذات النوع والجنس هو الفصل، فإنّ الخاصة - وإنْ فَصَلت - فليست ذاتية، وليس فصلها ذاتيا. وكذلك يجب أن يقال: إنه الذي يفضل به النوع على الجنس في ذاته. وكذلك: إنه الذي به تختلف أشياء لاتختلف في الجنس بذاتها. وكذلك: إنه المقول على كثيرين كذا في جواب أى شئ هو في ذاته. لكن الرسوم الثلاثة المتقدمة - وإن ساوت الفصل - فليست تتضمن الشئ الذى يحل من الفصل محل الجنس، وبذلك الشىء يتنم التحديد، وإن كان قد يكون بإسقاطه دلالة ذاتية مساوية، كما لو قال قائل: إنّ الإنسان ناطق مائت، دل على طبيعة الإنسانية وساواها؛ ولكن إنما يتم بأن يُذْكر الشىء الذى هو الجنس، وهو الحيوان؛ فأمّا لم هذا، وكيف هذا، فسيأتيك فى موضعه. وهذا الشىء الذى هو كالجنس للفصل هو الكلى، فيجب أن يلحق هذا به.
وأما الرسم الآخر فقد ذكر فيه الكلى، إذ قيل: " مقول على كثيرين " والمقول على كثيرين هو رسم الكلى؛ فقد أُتِىَ فيه برسم ما هو كالجنس، وإن لم يُؤْت فيه باسمه، لكن لقوله على كثيرين مختلفين بالنوع ثلاثة مفهومات: أحدها مما لا يفطن له من قصَد تقديم هذا الكتاب؛ وسنوضحه فى موضعه، ومفهومان أقرب من الظاهر، أحدهما أنّ طبيعة الفصل تكون متناولة بالحمل أنواعا كثيرة لا محالة غير النوع الواحد المفصول، والآخر أنّ طبيعة الفصل هى التى توجب إنية الأشياء الكثيرة المختلفة بالنوع بعضها عند بعض، كأنه قال: إنه المقول على الأنواع فى جواب أى شىء هو، لا جملتها، بل واحد واحد منها، كقول القائل: إن السيف هو الذى يضرب به الناس، ليس أنه يضرب به الناس معا، بل واحد واحد من الناس؛ وهذا التأويل بعيد غير مستقيم. فإن أمكن أن يفهم هذا من هذا اللفظ كان رسما مطابقا للفصل، وإن تعذر تفهم هذا من هذا اللفظ، وإنما يفهم منه الوجه الأول؛ فهذا الحد على الوجه الذى يفهمونه منه مختل؛ وذلك لأن طبيعة الفصل - بما هو فصل - ليس يلزمها كما علمتَ أن لا تختص بالنوع الواحد، بل هذا عارض ربما عرض لبعض الفصول، فيكون هذا عارضا لطبيعة الفصل، لا فصلا للفصل؛ ومع ذلك فليس بعارض يعم جميع الفصول حتى يَقُوم فى الرسوم مقام الفصل فى الحدود، فهذا مختل.
وهاهنا موضع بحث وتشكك يلوح فى قولك: إنه مقول فى جواب أى شىء هو، تركنا كشفه إلى وقت ما نتكلم فى المباينات. على أننا إِنْ فهمنا هذا الرسم على حسب أصولنا، وعلى ما نشرحه فى موضع آخر، تم الرسم رسما؛ لكنا إنما نتعقب فى هذا الموضع هذا الرسم بحسب ما يفهمه القوم المستعملون إياه. وأيضا يجب أنْ تعلم أنّ كل فصل إنما يقوم من الأنواع القريبة نوعا واحدا فقط. ثم إنّ الفصول لها نسبتان: نسبة إلى ما تقسمه وهو الجنس، ونسبة إلى ما تُقَسَّم إليه وهو النوع؛ فإنّ الناطق يقسم الحيوان إلى الإنسان، ويقوِّم الإنسان، فيكون مُقَسِّما للجنس، مُقَوِّما للنوع. فإن كان الجنس جنسا عاليا، لم يكن له إلى فصول مقسمة؛ وإنْ كان دون العالى، كانت له فصول مقسمة ومقومة. فأما الفصول المقومة فهى التى قسمت جنسه وقومته نوعا؛ إذْ الفصل يُحْدث النوع تحت الجنس؛ وأما المقسمة فهى التى تقسمه ولا تقوم النوع تحته. ومقومات الجنس لا تكون أخصَّ منه؛ ومقسماته تكون أخص منه؛ فالجنس الأعلى له فصول مقسمة، وليس له فصول مقوِّمة ؛ والنوع الأخير له فصل مقوم، وليس له فصل مقسم، وليس من الفصول المقومة ما لا يقسم.(1/29)
ومن الفصول المقسمة فى ظاهر الأمر ما لا يقوِّم ، ولا يكون ذلك ألبتة إلا للفصول السلبية التى ليست بالحقيقة فصولا؛ فإنا إذا قلنا: إن الحيوان منه ناطق ومنه غير ناطق، لم نثبت غير الناطق نوعا محصلا بإزاء الناطق، اللهم إلا أن يتفق أن يكون ما ليس بناطق نوعا واحدا، كالذى ليس بمنقسم بمتساويين تحت العدد؛ فإنه صنف واحد وهو الفرد؛ أو يكون الإنسان لا يرى بأسا بأن يجعل الحيوان الغير الناطق جنسا للعجم، ونوعا من الحيوان. فإنْ فعل هذا فاعلٌ عَرَّفناه بأنَّ غير الناطق بالحقيقة ليس بفصل، بل هو أمر لازم، وكذلك جميع أمثال هذه السلوب؛ فإن َّ الاسلوب لوازمُ للأشياء بالقياس إلى اعتبار معان ليست لها؛ فإنَّ غير الناطق أمرٌ يعقل باعتبار الناطق، فيكون النوع معناه وفصله الذى له، أمرا فى ذاته، ثم يلزمه أن يكون غير موصوف بشىء غيره؛ لكن ربما اضطر المضطر إلى استعمال لفظ السلب فى المعنى الذى يكون للشىء فى ذاته، إذا لم يكن له اسم محصل، وذلك لا يدل على أن السلب بالحقيقة اسمه، بل الاسم لازم له عُدل به عن وجهه إليه؛ فلو لم يكن من الحيوانات غير الإنسان شىء إلا الصاهل، وكان الصاهل فى نفسه فصلا لذلك الغير، ثم لم يكن مسمى، فقيل غبر الناطق وعنى به الصاهل، لكان غير الناطق يدل دلالة الفصل؛ فأما وغير الناطق أمر أعم من فصل كل واحدٍ واحدٍ من انواع الحيوانات، وليس لها شئ واحد مشترك محصل إثباتى يمكن أن يجعل غير الناطق المشترك فيه دالا عليه إلا نفس معنى سلب الناطق. والسلوب لاتكون معانى مُقَوِّمة للأشياء من حيث هي سلوب، بل هي عوارض ولوازم إضافية بعد تقرر ذواتها، فلا يكون غير الناطق بالحقيقة فصلا تشترك فيه العجم مقوما لها. فإنْ أحب مُحِبُّ أن يجعل ذلك فصلا، ويثبت الحيوان الغير الناطق نوعا، ثم جنسا، ويجعل الحيوان قد انقسم قسمة معتدلة واحدة إلى نوع آخر، وإلى جنس معا، فليفعل؛ فيكون أيضا كل فصلٍ مقسِّم مقوِّما؛ وإِنْ آثر الوجه المحصل المحقق، لم تكن هذه فصولا؛ وكيف تكون فصولا وليست مقومات للأنواع، ولم تكن الفصول الحقيقية إلا مقومة عند ما تقسِّم ؟ والذي يظنه الظانون أَنَّ من الفصول المحصلة ما يقسم، ثم ينتظر فصلا آخر يرد حتى يقوما معا، مثل الناطق الذي ربما ظُنَّ أنه يقسم الحى، ثم يتوقف في تقويم النوع إلى أن ينضم إليه الميت، فهو ظن كذب: وذلك أنه ليس من شرط الفصل إذا قسم فأوجب تقويم النوع أن يكون مقوما للنوع الأخير لامحالة؛ فإنه فرق بين أن نقول يقوم نوعا، وبين أن نقول يُقَوِّم نوعا أخيرا. والناطق، وإن كان لايقوم الإنسان الذي هو النوع الأخير، فإنه يقوم الحى الناطق الذي هو نوعٌ للحى وجنسٌ للإنسان، أن كان ما يقولونه من كون الناطق أعم من الإنسان حقا، وكان الحى الناطق يقع على الإنسان وعلى المَلَك، لا باشتراك الاسم، بل وقوع اللفظ بمعنى واحد. ثم قولنا: الحى الناطق، قول لمجموعه معنى معقول، وهو أخص من الحى، وليس فصلا، بل الفصل جزء منه وهو الناطق، ولا خاصة، فهو لامحالة نوع له. وكذلك يتبين أنه جنس الإنسان، وقد يصرح بمثل هذا صاحب إيسا غوجى نفسه في موضع؛ فالناطق إذن قد قَوَّم نوعا هو الجنسٌ، فحين قَسَّم قَوَّم لامحالة. ونعلم من هذا أن الفصل إنما هو مقول قولا أوليا على نوع واحد دائما، وإنما يقال على انواع كثيرة في جواب أى شئ هو قولا ثانيا بتوسط.(1/30)
ونقول الآن: إنك تعلم أنّ ذات كل شئ واحدٌ، فيجب أن يكون ذات الشئ لايزداد ولا ينتقص؛ فأنه إن كان ماهية الشئ، وذاته هو الأنقص من حدود الزيادة والنقصان، والأزيد غير الأنقص، فالأزيد غير ذاته. وكذلك إن كان الأزيد، وكذلك إن كان الأوسط. وأما المعنى المشترك للثلاثة الذي ليس واحدا بالعدد، بل بالعموم، فليس هو ذات الشئ الواحد بالعدد، فليس لك أن تقول: إن الزائد والناقص والوسط تشترك في معنى واحد، هو ذات الشئ، فإذن ذات الشئ لايحتمل الزيادة والنقصان، فما كان مقوما لذاته لايحتمل الزيادة والنقصان؛ فإنه إنْ كان، إذا زاد قوّم ذاته بزيادته، فذاته هو الأزيد، وإن كان لايقوّم ذاته بزيادته ويقوم بنقصانه، فذاته هو الناقص؛ وإن كان لايقوم في إحدى الأحوال، فليس بمقوم من حيث هو يزيد وينقص، اللهم إلا بالمعنى العام، وفيه ما قلناه. وعلى أن هذه المعانى لايمكن أن يقال فيها عند الزيادة إنَّ الأصل موجود، وقد أضيف إليه شئ، بل إذا ازدادت فقد بطل الموجود أولا، وفي بطلانه بطلان المقوم، وفي بطلانه بطلان المتقوم. وكذلك في اعتبار النقصان إذا كان الأصل ليس بعينه عند الحالة الأولى، وعند الحالة الثانية وهى النقصان. فقد تَبَيَّن أنّ الفصل الذى هو خاص الخاص لا يقبل الزيادة والنقصان.
وأما سائر الفصول فإنها لما كانت بعد الذات، فلا مانع يمنع أن تقبل الزيادة والنقصان - كانت مفارقة كحمرة الخجل وصفرة الوجل، أو غير مفارقة كسواد الحبشى - وليس إذا كان بعضُ الناس أفهمَ، وبعضُهم أبلد، فقد قبلت القوة النطقية زيادة ونقصانا، بل ولا لو كان واحد من الناس لايفهم ألبتة كالطفل، فإن ذلك لايكون عارضا في فصله؛ وذلك لأن فصله هو أنّ له في جوهره القوةَ التي إذا لم يكن مانع، فَعَل الأفاعيل النطقية؛ وتلك القوة واحدة، ولكنها يعرض لها تارة عوز الآلات، وتارة معاسرتها وعصيانها، فتختلف بحسب ذلك أفعالها تارةً بالبطول والسقوط، وتارةً بالزيادة والنقصان، ومعناها المذكور ثابت، كنار واحدة تختلف أفعالها بحسب اختلاف المنفعلات عنها هذه الوجوه من الاختلافات، فتكون تارة أشد اشتعالا، وتارة أضعف، وذلك بسبب المادة التي تفعل بها وفيها. وكذلك القلب والدماغ آلتان للقوة النطقية، بهما يتم أول فعلها من الفهم والتمييز، وغير ذلك؛ فبحسب اعتدال مزاجيهما ولا اعتداله، تختلف هذه الأفعال، وليس الذهن ولا الفهم ولا شئ من أمثال ذلك فصلا يقوّم الإنسان، بل هى عوارض وخواص؛ والزيادة فى مثل هذا الاستعداد المذكور والنقصان فيه أمر يحصل في الاستعداد المتولد من استعدادين: استعداد الفاعل، واستعداد المنفعل؛ فأما الذي للفاعل نفسه فغير مختلف.
واعلم أنّ الفصل، الذي هو أحد الخمسة، هو الناطق الذي يحمل على النوع مطلقا، لا النطق الذي يحمل على النوع بالاشتقاق؛لأن هذه الخمسة أقسام شئ واحد، وهو اللفظ الكلى. وصورة اللفظ الكلى في جميعها أن يكون مقولا على جزيئاته، ويشترك فيه بأن يعطيها اسمها وحدّها، والنطق لايعطى شيئا من الجزيئات اسمه ولا حدَّه؛ وهذا - إنْ قيل فصل - فهو فصل بمعنى غير الذي كلامنا فيه. وكذلك فافهم الحال في الخاصة والعرض؛ فإنه يجب أن يكون حمل هذه الخمسة على قياس حمل الجنس والنوع، من حيث هو حمل، وإن لم يكن من حيث الذاتية والعرضية.
الفصل الرابع عشر
(يد)
في الخاصة والعرض العام(1/31)
فأما الخاصة فإنها تستعمل عند المنطقيين أيضا على وجهين: أحدهما أنها تقال على كل معنى يخص شيئا، كان على الإطلاق، أو بالقياس إلى شئ؛ والثاني أنها تقال على ما خص شيئا من الأنواع في نفسه دون الأشياء الأخرى، ثم قد يخص من هذا القسم باسم الخاصة ما كان مع ذلك شيئا موجودا لكل النوع في كل زمان. والخاصة التى هى إحدى الخمسة فى هذا المكان عند المنطقيين - فيما أظن - هى الوسط من هذه، وهى المقول على الأشخاص من نوع واحد فى جواب أى شىء هو لا بالذات، سواء كان نوعا أخيرا أو متوسطا، سواء كان عاما فى كل وقت، أو لم يكن؛ فإن العام الموجود فى كل وقت - سواء كان نوعا أخيرا أو متوسطا - هو أخص من هذا؛ ولو كانت الخاصة التى هى إحدى الخمس هى هذه، لكانت القسمة تزيد على خمسة، وإن كان الأولى باسم الخاصة - باعتبار اختصاصها بالنوع - غيرها ومعنى أخص منها. ولا يبعد أن نعنى بالخاصة كل عارض خاص بأى كلى كان، ولو كان الكلى جنسا أعلى، ويكون ذلك حسنا جدا. وتخرجها القسمة على هذا الوجه: وهو أنّ الكلى العرضى إما أن يكون خاصا بما يقال. عليه، أو غير خاص بما يقال عليه سواء كان ما يقال عليه جنسا أعلى أو متوسطا أو نوعا أخيرا؛ لكن التعارف قد جرى فى إيراد الخاصة على أنها خاصة لنوع، وتالية للفصل، فتكون الخاصة التى هى إحدى الخمسة هى ما يقال على أشخاص نوع ولا يقال على غيرها، عمت تلك الأشخاص أو لم تعم، وكان النوع متوسطا أو أخيرا، وربما أوجبوا أن يكون النوعُ أخيرا.
وقد ذهب قوم إلى أن يجعلوا كلَّ ما هو سوى أخص الخواص من جملة العرض العام، حتى لو كان مثلا لا يوجد إلا لنوع واحد، لكنه مع ذلك لا يوجد لكله بل لبعضه، ويكون مما يجوز أن يكون وأن لا يكون لذلك البعض، فهو العرض العام، حتى يكون العرضى إما موجودً لنوع واحد ولكله دائما، فيكون خاصة، وإما ألا يكون كذلك، بل يكون إما موجودا لأنواع، وإما موجودا لنوع، ولكن لا بالصفة المذكورة، فيكون عرضا عاما. وهذا القول مضطرب، ولا يدل على الشىء من جهة عمومه وخصوصه وكليته، بل من جهة أخرى، ويجعل اسم العرض العام هذرا، فإنّ العرض العام موضوع بإزاء الخاص. وإذ الخاص إنما يحسن أن يصير خاصا لأنه لنوع واحد، فإذن ليس أن يجُمل أخص الوجوه الثلاثة فى استعمال لفظة الخاصة دالا على المعنى الذى هو أحد الخمسة. وهذا الاستعمال الأعم يجعل الخواص مقسومة إلى أقسام أربعة: خاصة للنوع ولغيره كذى الرجلين للإنسان بالقياس إلى الفرس، وأحراه بذلك ما كان للنوع كله؛ وخاصة للنوع وحده، وهذا إما لكله، وإما لكله كالملاحة والفلاحة للإنسان؛ والذى لكله إما دائما فى كل وقت مثل ما يكون الإنسان ضحاكا أو ذا رجلين فى طبعه، وإما لا دائما كالشباب للإنسان. فالخاصة - من حيث هى أَوْل أن تكون إحدى الخمسة - هى ما ذكرناه، وأما من حيث هى أَوْلى بأن تكون خاصة فهى اللازمة المداومة التى لجميع النوع فى كل زمان. ولا يتناقض قولنا: إنَّ كذا خاصة حقيقية، من حيث الاختصاص بالنوع، وليس هو الذى إليه قسمة الخمسة، وقولنا: إن الذى إليه قسمة الخمسة فهو خاصة حقيقية بحسب ذلك، ليس هو الذى هو الخاصة الحقيقية باختصاصه بالنوع. واعلم أنّ الخاصة التى هى إحدى الخمس هى الضحاك لا الضحك، والملاح لا المِلاحة، وعلى ما قيل فى الفصل، وإن كنا نتجوز فى الاستعمال أحيانا فنأخذ الضحك مكان ذلك.
وأما العرض العام فهو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع لا بالذات، وهو أيضا كالأبيض لا كالبياض. وليس هذا العرض هو العرض الذى يناظر الجوهر كما يظنه أكثر الناس؛ فإنّ ذلك لا يحمل على موضوعه بأنه هو، بل يشتق له منه الاسم.(1/32)
وهذه الخمسة حملها حملُ واحد، كما قد سبق لك مرارا. والعرض العام الذى ها هنا هو كالأبيض وكالواحد وما أشبه ذلك، فإنك تقول: زيد أبيض، أى زيد شىء ذو بياض، والشىء ذو البياض محمولُ حملا صادقا على زيد؛ والشىء ذو البياض ليس بعرٍض بالمعنى الذى يناظر الجوهر، بل البياض هو العرض بذلك المعنى. وكذلك تقول: إن الجسم محدث وقديم، وليس القديم إو المحدث جنسا ولا فصلا ولا خاصة ولا نوعاً للجسم، بل من جملة هذا الصنف من المحمولات، وليس المحدث عرضا بهذا المعنى، وإلا لكان الجسم موصوفا بالعرض من غير اشتقاق، فكان الجسم عرضا؛ بل معنى العرض ها هنا العرضى، وإنْ كان ليس بعرٍض بالمعنى الآخر؛ فمن العرضى ما هو خاص ومنه ما هو عام؛ فإنّ العرضى بإزاء الذاتى والجوهرى، والعرض بإزاء الجوهر. والذاتى قد يكون عرضا كجنس العرض للعرض كاللون للبياض، وقد يكون جوهرا، والعرضى قد يكون عرضا وقد يكون جوهرا؛ وفى هذا الموضع إنما نعنى بالعرض العرضى.
ولم تعلم بَعْد حالَ العرض الذى هو نظير الجوهر، وهذا شىء لم يَلْتفت اليه أولُ من قدم معرفة هذه الخمسة على المنطق، بل جعل للعرض العام حدودا مشهورة، مثل قولهم: (( إن العرض هو الذى يكون ويفسد من غير فساد الموضوع أى حامله ))؛ ومثل هذا قولهم: (( هو الذى يمكن أَنْ يوجد لشىء واحد بعينه وأن لا يوجد، وأنه الذى ليس بجنس ولا فصل ولا خاصة ولا نوع، وهو أبداً قائم فى موضوع )).
فلنتأمل هذه الحدود والرسوم المشهورة. فأما الأول فإنّ فيه وجوها من الخلل: أحدها أنه لم يذكر فيه المعنى الذى كالجنس له وقد أشرنا إلى مثل ذلك فى بعض حدود الفصل. والخلل الثانى أنه إنْ عنى بالكون والفساد حال ما يكون ويفسد فى الوجود، فالأعراض العامة الغير المفارقة ليست كذلك، وهم مُقِرُّون أنَّ مِن العرض العام ماهو مفارق، ومنه ماهو غير مفارق. وإنْ عنى مايكون في الوجود والوهم جميعا، فقد استعمل لفظا مشتركا عنده؛ فإنْ لفظة " يكون " وقوعُها على الموجود وعلى المتوهم عنده إنما هو بالاشتباه، وهذا مما حذروا عنه؛ وسيتضح لك ذلك فيما بعد.
وبعد ذلك، فإنّ من الأمور العرضية التى ليست بذاتية ما إذا رفع بالتوهم استحال أن يكون الشئ قد بقى موجوداً غير فاسد، كما مر لك فيما سلف.نعم ربما لم يستحل أن يتوهمه الوهم باقيا بعده لم يفسد، وهذا غير مذكور في هذا الرسم. وتجد هذه المغامز كلها محصلة في الرسم الثاني؛ فإنّ كثيرا من الأعراض لازمة دائمة، والدائم لايكون ممكنا أن لايوجد إلا في الوهم؛ ولم يشترط الوهم، وفي اشتراط الوهم أيضا ما قلنا. وأما الرسم السلبى الثالث، فأنّ الشخص من الأعراض يشارك فيه، والطبائع، من حيث هى طبائع، لامن حيث هى كلية، فإنْ أُلْحقَ به أنه كلىُّ بهذه الصفة، خص العرض العام. لكن صاحب هذا القول قد الحق به شيئا، وهو أنه قائم فى موضوع، وإنما ألحق هذا إذ ظَنَّ أنَّ هذا العرض، الذي هو أحدُ الخمسة، وهو العرض الذي يناظر الجوهر. وقد قالوا: إن الفائدة في إِلحاقه ذلك، هى أن يفرقوا بينه وبين اللفظ غير الدال، مثل قول القائل: شيصبان، وهذه خرافة؛ وذلك لأنه إنما يعنى بقوله(( الذي ليس بجنس )) اللفظَ الدال على معنى كلى، ليس ذلك المعنى معنى جنس ولانوع ولافصل ولاخاصة؛ فلا شركة في هذا اللفظ الغير الدال؛ لأنه ليس يحد في لفظ العرض هذا المسموع،حتى إذا قال: إنه ليس بجنس ولانوع ولافصل ولاخاصة، شاركه في هذا اللفظ لفظ آخر لايدل على شئ، فيلزم إيراد الفصل بينه وبين ذلك. ولو كان إنما يعنى بهذا اللفظ من حيث هو مسموع، لكان يشاركه في أنه ليس بجنس ولافصل ولانوع ولاخاصة ألفاظ أخرى مسموعة مما هى دالة.
تمت المقالة الأولى من الفن الأول. ولواهب العقل أكمل الحمد والفضل كما هو له أهله
المقالة الثالثة
من الفن الأول من الجملة الأولى
الفصل الأول
في المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة
وأولها بعد العامة ما بين الجنس والفصل(1/33)
إنَّ في الوقوف على ما فَصَّلناه من أمر هذه الخمسة عنى للمحصلين عن إيراد المشاركات والمباينات بين هذه الخمسة، لكنه قد جرت العادة في الكتب المدخلية بإيراد ذلك، فلنتحذ في ذلك حذَوهم، ولنقتصر على ماأوردوه منه، ولنبدأ بالمشاركات فنقول: إنّ المشاركة التي تعم الخمسة هى أنها كلية أى معقولة على كثيرين. وإذا اعترف بهذا مُصَنِّف المدخل، فقد اعترف بنقص الرسوم التي للفصل والخاصة والعرض، إذْ أغفل فيها ذكر الكلية.
وتشترك جميعها في شئ آخر، وهو أنَّ كل ما يحمل على المحمول منها الحملَ الذي يحمل به المحمول على موضوعه، فإنه يحمل على موضوعه؛ فطبيعة جنس الجنس محمولة على ما يحمل عليه الجنس، وكذلك جنس الفصل، وفصل الفصل؛ وكذلك ما يحمل على الخاصة والعرض؛ فإنّ الملوَّن الذي هو جنس الأبيض يحمل على زيد الأبيض، إذْ يحمل على عرضه العام؛ وكذلك المرئى، الذي هو عرض الأبيض،يحمل على زيد الأبيض، إذْ يقال لزيد والأبيض مرئى؛ وكذلك المتعجب الذي هو جنس الضحاك، فإنَّ جميع هذه تحمل بالتواطؤ، أى تعطى ماتحمل عليه أسماءها وحدودها؛ والجنس والفصل يعمهما.
في المشهور أنَّ طبيعةَ الجنس يجب فيها أنْ تقالَ على أنواع، وإن لم يجب ذلك فيها، فليس ذلك يمتنع فيها، وعلى الشرط الذي ستفهمه وقتا ما. وكذلك ليس يمتنع في طبيعة الفصل أن يقال على غير نوعه، لكن على هذا ما فرغنا عن ذكره سالفا. وقد مَثَّلوا لذلك الناطقَ، فإنه يحوى أنواعا، وقد علمتَ ما في هذا، ومع ماقد علمتَ فلم يُحسنوا في إيرادهم هذا المثال؛ فإنَّ الناطق إنما يحوى أنواعا كثيرة ليست هى الأنواع القريبة منه، بل عى أنواع النوع الواحد الذى قوَّمه الناطق عندهم، حين أضيف إلى الحى؛ وهذا أيضا قد فرغنا منه. فإنْ لم يعنوا بذلك الأنواع القريبة، بل أى أنواع كانت، فيجب أن لاينسوا هذا حين يشاركون بين الجنس والنوع؛ فإنَّ مِنَ الأنواع مايحوى أنواعا، ولا يجعلون هذا مشاركة بين الجنس والنوع.
والمشاركة الثانية المشهورة هى أنّ الجنس والفصل يشتركان في أن كل مايحمل عليها من طريق ماهو، فإنه يحمل على ماتحتهما من الأنواع. وقد علمتَ أنّ هذه المشاركة ليست تخص الجنس والفصل، بل هذه عامة، ألا أن يُقال إنّ مايحمل عليهما من طريق ماهو، يحمل على ماتحتهما من طريق ماهو. وهذا شئ لم ينطق به مُصَرَّحا، ولو نُطِق به لصَحَّ، إذا عنى بالحمل من طريق ماهو غير مايعنى بالحمل في جواب ماهو، كما سنوضح لك عن قريب.
والمشاركة الثالثة المشهورة أن رفعهما علةُ رفع ماتحتهما من الأنواع؛ فإنه إذا رفعت الحيوانية والنطق ارتفع الإنسان والفرس وغير ذلك. وهذه المشاركة تابعةٌ لمشاركة هى الأصل، وهى أن كل واحد منهما جزءُ ماهية النوع ومقومٌ له، فهذا هو ألاصل وذلك الفرع، وهذه خاصية مشتركة بين الجنس والفصل لاتوجد لغيرهما.
وأما الخواص التي يباين بها الجنس غيره، فأول المشهورات منها هو أنَّ الجنسَ يحمل على أكثر مما يحمل عليه الفصل والنوع والخاصة والعرض. أمّا أنّ الجنس أكثر حُوِيا من الفصل والنوع والخاصة، فهو أمرٌ ظاهر؛ فإنَّ الخاصةَ تخص النوع؛ وكذلك الفصل، ولكن بشرط لم يشرطه، وهو أن يقايس بين الجنس وبين فصلٍ تحته وخاصةٍ تحته. وأما العرض فليس بينِّا بنفسه أنه يجب أن يكون أقل من الجنس، وذلك أنّ خواص المقولات العشر التى نذكرها بعد، هى أعراض عامة لأنواعها، وليست أقل من الجنس فى عمومها، بل منها ماهو أعم وأكثر، كماأنَّ كون الجوهر ثابتا على حدٍّ واحد فلا يقبل الأشد والأضعف هو أعم من الجوهر. فإنْ قال قائل: إنَّ هذا سلبٌ، وليس تحته معنى،فقد يمكننا أن نجد لوازم وعوارض أعم من مقولةٍ مقولةٍ، كالواحد وكالموجود،بل كالمحدث، بل مثل الحركة فإنها أكثر من الحيوان الناطق، وهو جنس عنده للإنسان.
والمباينة الثانية المذكورة بين الجنس والفصل فهى أنَّ الجنس يحوى الفصل بالقوة، أى إذا التفت إلى الطبيعة الموضوعة للجنسية، لم يجب ثبوت الفصل لها، ولم يمتنع، بل كان وجوده لها بالإمكان، فكان إمكانه إمكانا لايستوفى طبيعة الجنس، بل يبقى لمقابله من طبيعته فصل. وهذا معنى الحوىّ، فإنّ الحاوى هو الذي يطابق كل شئ ويفضل عليه.(1/34)
والمباينة الثالثة هى أنَّ الجنسَ أقدمُ من الفصل؛ وذلك لأن الجنس قد يوجد له الفصل المعين، وقد لايوجد له، والفصل إنما وجوده فى الجنس، ولذك لاترتفع طبيعة الجنس برفع طبيعة الفصل، وترتفع طبيعة الفصل برفع طبيعة الجنس. وفى هاتين المباينتين موضعُ شكٍ، فإنَّ من الفصول مايقع خارجا عن طبيعة الجنس، مثل الانقسام بمتساويين، فإنه فصل الزوج فيما يُظَن، ويقع خارجا عن العدد؛ لكن الجواب عن هذا سيلوح لك فى مواضع أخرى.
والمباينة الرابعة هى أنَّ الفصل َ يُحْمل من طريق أى شئ هو، والجنس يحمل من طريق ماهو وهذا القول بانفراده لايكون دالا على المباينة؛ فإنّ شيئين إذا وُصِفا بوصفتين مختلفتين لم يكن ذلك دليلا على مباينتهما. فأنّ قائلا لو قال: إنّ المباينة بين زيد وبين عمرو هى أن هذا حساس وذلك ناطق، أو أنّ هذا ملاح وذلك صائغ، لم يكن هذا القدر كافيا في التفريق، فإنّ الوصفتين المختلفتين فى المفهوم ربما جاز أن يجتمعا، فلا يَبعُد أن يكون كونُ زيدٍ حساسا - وإنْ كان فى المفهوم مخالفاً لكون عمرو ناطقا - هو مما لايوجب أن يباين به زيدٌ عمرا، فلا يستحيل أن يكونَ كل واحد منهما - مع أنه حساس - ناطقا أيضا؛ لأنَّ الأوصافَ المختلفة المفهومات قد تجتمع فى موصوف واحد؛ وكذلك الملاح والصائغ، بل يجب أن يكون بينهما قوة السلب، حتى يكون الحساس يلزمه أن لايكون ناطقا، والناطق أن لايكون حساسا. ثم كون الجنس مقولا فى جواب ماهو لايمنع أن يكون مقولا فى جواب أى شئ هو، على أصول هؤلاء، ولا بينهما قوة هذا السلب، فإنه لايمتنع أن يكون مايقوم ماهية الشئ يميزه عما ليست له تلك الماهية، حتى يكون بالقياس إلى مايشترك فيه مقولا فى جواب ماهو، وبالقياس إلى مايفترق به مقولا فى جواب أى شئ هو؛ فهذا القدر لايمنع أن يكون جنس الشئ هو أيضا فصلا له باعتبارين، إنْ كانت المباينة المطلوبة هى هذه، ولا يوجب أن يكون جنس الشئ ألبتة فصلا له. وأما أن يكون فصل الشئ جنس شئ آخر فذلك مما لايمنعونه فيما أُقدر، وذلك كالحساس فإنه جنسٌ بوجهٍ للسميع والبصير، وفصلٌ للحيوان. فإنْ قال قائل: إنَّ الشئ الواحد قد يكون جنسا وفصلا لشئ واحد؛ فإنه، وإنْ كان جنسا وفصلا لشئ واحد، فإنَّ اعتبار أنه جنسٌ غيرُ اعتبارِ أنه فصل، وقال: نحن إنما نريد أن نوضح الفرق بين الاعتبارين اللذين يطلق على أحدهما اسم الجنسية، وعلى الآخر اسم الفَصْلية، لم نخالفه، ولم نبكته، ولم ننازعه فى التسمية، ولكنه يكون غَيَّر مِنْ كلامنا معه؛ لأنَّ كلامنا مع الذى دل باسم الجنس والفصل على طبيعتين مختلفتين اختلافا لايكون الشئ الواحد بالقياس إلى موضوع واحد موصوفا بكلا الطبيعتين، بل يجعل إحدى الطبيعتين صالحة لأحد الجوابين، والطبيعة الأخرى صالحةً للجواب الآخر؛ لكن الوجه الذي ذهبنا نحن إليه فى تفهم المقول في جواب ماهو، والمقول في جواب أى شئ هو، يعلمك أنّ المقول في جواب ماهو، لايكون مقولا في جواب أى شئ هو، وبالعكس، فتكون هذه المباينةُ على ذلك الوجه صحيحةً. لكن لقائل أنْ يقول: إنكم قد أطلقتم القول في عدة مواضع إن الفصل أيضا قد يقال من طريق ماهو، وخصوصا فى كتاب البرهان فنقول: إنه فرق بين قولنا إنّ الشئ مقول في جواب ماهو، وبين قولنا إنه مقول في طريق ماهو؛ كما أنه فرقٌ بين قولنا " الماهية " وبين قولنا " الداخل فى الماهية " فالمقول من طريق ماهو كل ما يدخل فى الماهية،ويكون فى ذلك الطريق، وإنْ لم يكن وحده دالا على الماهية؛ والمقول في جواب ماهو، هو الذي وحده يكون جوابا إذا سُئِل عما هو. فالفصل يدخل في الماهية ويكون مقولا من طريق ماهو؛ إذْ هو جزءُ الشئ الذي يكون جوابا عن ماهو، لكنه ليس هو وحده مقولا في جواب ماهو.(1/35)
وقد قال بعض الفضلاء: إنّ الفصل قد يكون مقولا في جواب ماهو أيضا في بعض الأشياء دون بعض، والجنس دائما دالٌّ على ماهو؛ ذلك لأن الجنس يدل دائما على أصل ذات الشئ؛ وأما الفصول فربما كانت مناسبات وأضافات إلى أفعال وانفعالات أو أمور أخرى؛ فلذلك يجعل الجنس أوْلى منه بما هو. وفى هذا الكلام خللان: أحدهما أنّ ما كان من الفصول يجرى هذا المجرى، فلا يكون فصلا مقوما، بل يكون من الفصول اللوازم؛ والآخر أنّ الشئ إذا أريد أن يفرق بينه وبين الشئ الآخر بوصف، يجب أن يكون الوصفُ الذي يفرق بينه وبين الآخر موجودا له دون الآخر وجودا على الثبات، اللهم إلا أن لاتجعل التفرقة بالوصف، بل بأكثرية الوصف وأخلقيته؛ فيقال مثلا:إن الجنس هو الذي هو أَحْرى بأن يكون مقولا في جواب ماهو، والفصل هو الذي ليس هو بأحرى؛ فيكون الاختلاف ليس من جهة هذا الوصف، بل من جهة القَمِن، إذ هو موجود لأحدهما دون الآخر؛ فإنْ فُعِل ذلك كان فيه عدول عن حقيقة التعريف إلى أمر إضافى عرضى؛ وإن لم يفعل ذلك فيكون بين الجنس وبعض الفصول مشاركة في الحد، وبين الجنس وبعضها مباينة في الحد.
والمباينة التي بعد هذه هى أنّ الجنس لايكون للأنواع إلا واحدا، والفصل قد يكون أكثر من واحد، كالناطق والمائت للإنسان. وفى إطلاق هذه المباينة بهذا المثال خلل؛ لأنه إِنْ أخذ الجنس كيف كان، لا قريبا ملاصقا فقط، وجد للشئ أجناس كثيرة أيضا؛ فإن الأجناس فى العموم قد يوجد الكثير منها للشئ الواحد، ولكنها لاتكون كلها أجناسَ الشئ بالحقيقة، بل بعضها أجناس جنسه. وكذلك قد توجد فصول كثير ة متفاوتة في الترتيب، ولكنها لاتكون كلها فصول الشئ بالحقيقة، بل بعضها فصول جنسه، كما مُثِّل به؛ فإنَّ الناطق ليس فصلا قريبا للإنسان على هذه الطريقة التي رتبوا عليها قسمتهم، بل هو فصل جنسه. وإنما فصله الملاصق على هذا المذهب هو المائت، وهذا في مثاله واحد، بل كما أن الجنس الأقرب الذي ليس بجنس الجنس هو في مثاله واحد، كذلك الفصل الأقرب الذي ليس بفصل الجنس هو في مثاله واحد، وهو المائت. لكن قد يوجد لهذا الموضع أمثلة أخرى مثل الحساس والمتحرك بالإرادة؛ فإنهما على ظاهر الأمر فصلان قريبان للحيوان، فيكون الجنس القريب ليس إلا واحدا، والفصول القريبة قد تكون أكثر من واحد. وأيضا فإنَّ هاهنا وجهاً آخر، وهو أنَّ الأجناس الكثيرة ينحصر بعضها في بعض، حتى يحصل آخرها جنسا واحدا؛ والفصول الكثيرة تكون متباينة لايدخل بعضها في بعض. وإشباع القولِ في هذا من حق صناعةٍ أخرى.
والمباينة التي بعد هذا هى أن الجنس كالمادة، والفصل كالصورة؛ ويتم بيان ذلك بأن يقال: والذي كالمادة يخالف الذي كالصورة. وأمّا أنَّ الجنس ليس بمادة، بل كالمادة، فلأن المادة لاتحمل على المركب حمل أنه هو، والجنس يحمل على النوع حمل أنَّ الجنس هو، وأنَّ المادة الموضوعة لصورتين متقابلتين لاتنتسب إليهما بالفعل إلا في زمانين، والجنس يكون مشتملا على الفصلين المتقابلين في زمان واحد. وهاهنا فروق أخرى تُذكر في غير هذا الموضع. وإذْ الجنس ليس مادةً، فليس الفصلُ صورةً. وأما أنه كالمادة، فلأن طبيعته عند الذهن قابل للفصل، وإذا لحقه الفصل صار شيئا مُقوما بالفعل، كما هو حال المادة عند الصورة. وإذْ الجنسُ للفصل كالمادة للصورة، فالفصل للجنس كالصورة للمادة.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في المشاركة والمباينة بين الجنس والنوع
وأما المشاركة الأولى المشهورة بين الجنس والنوع، فمشاركة كانت مع الفصل، وهى أنهما يتقدمان ما يحملان عليه، أى ماهما له جنس ونوع.
والثانية مشاركة، عامة وهى أنَّ كل واحد منهما كلى. وقد نسى موردهما أنَّ هذه مشاركة جامعة قد ذُكرت مرة؛ فإنْ أرادوا أن يجعلوا هذا وجها خارجا عن ذلك، فيجب أن يعنى بالكلى غير الكلى على الإطلاق، بل كلى هو ماهية جزيئاته بالشركة.
وأما المباينة الأولى فمثل ما كان مع الفصل، وهو أنَّ النوعَ مَحْوِى للجنس، والجنس ليس بمحوى للنوع.
وأخرى في قوتها وهى أنّ طبيعة الجنس أقدم من طبيعة النوع، أى إذا وجدت طبيعة الجنس، لم يجب أن توجد طبيعة النوع، بل إذا رُفعت ارتفعت هى، وإذا رفعت طبيعةُ النوع، لم يجب أن ترفع طبيعة الجنس، بل إذا وجدت وجدت.(1/36)
وثالثة قريبة من تينك، وهى أنّ الجنس يحمل على النوع بالتواطؤ حملا كليا، والنوع لايحمل على طبيعة الجنس حملا كليا، وهذا فى ضمن المباينة التي قيلت من جهة الحوى وغير الحوى؛ وهذه المباينة ليست من المباينات التي في قوة السلب والإيجاب في أول الأمر؛ لأن ذلك إنما يكون أنْ لو قيل أنَّ الجنس يحمل على النوع بالتواطؤ كليا، ثم تسلب هذه الصفة بعينها عن النوع، بل إنما تسلب عن النوع في هذه المباينة صفة أخرى، وهى أنه لايحمل على الجنس بالتواطؤ حملا كليا، وليس هذا المسلوب هو ذلك الموجب، لكن صورة هذه المباينة أن النوع لا يكافئ الجنس فيما للجنس عند النوع، وهذا لايتأتى إلا بين مختلفين.
ومباينة أخرى أن كل واحد من الجنس والنوع يفضل على الآخر بوجه لا يفضل به الآخر عليه؛ فالجنس يفضل بالعموم، إذْ يحوى أمورا وموضوعات غير موضوعات النوع، والنوع يفضل بالمعنى، إذ يتضمن معنى الجنس ومعنى الفصل زائدا عليه؛ فإنه كما أن الحيوان يتضمن بالعموم الإنسان وما ليس بإنسان مما هو خارج عن الإنسانية، كذلك الإنسان يتضمن بالمعنى معنى الحيوانية، ومعنى خارجا عن الحيوانية وهو النطق.
ومباينة أخرى متكلفة، وهى أنه ليس في النوع جنس أجناس، ولا في الجنس نوع أنواع، وإنْ كان في كل واحد منهما متوسط.
وأما الجنس والخاصة فقد يشتركان في أنهما محمولان على النوع وتابعان؛ أى إذا وُجِد النوع وجدت الخاصة؛ والجنس أيضا. وهذه المشاركة قد توجد مع غير الخاصة؛ وهذه المشاركة هى مع الخاصة العامة.
وذكرت مشاركة أخرى وهى أن طبيعة الجنس تحمل على ما تحته بالسوية؛ إذْ أنواع الحيوان بالسوية حيوان، ولا تقبل الأشد والأضعف. وكذلك الخاصة كالضحاك على أشخاص الناس. وهذه المشاركة لو ذكرت في مشاركات الجنس والفصل والنوع، لكان ذلك أحرى؛ فنسى هناك وأورد في هذا الموضع؛ على أنه ليس هذا موافقا للخواص كلها؛ فإنّ الخجل بالفعل من خواص الناس وليس يستوى فيهم؛ وكذلك أمور أخرى لأمور أخرى. وبالجملة أي برهان قدمه الرجل على أن الخاصة هكذا، أو أى استقراء بَيَّنَهُ له ؟ وإنما أورد له مثالا واحدا؛ وليس هذا وجه البيان العلمى للشئ الي ليس بيِّنا بنفسه وبالحقيقة فإن هذا الحكم إنما يصدق في بعض الخواص دون جميعها، وهى من الخواص الاستعدادية التي تتبع الصور فتكون للكل ودائما. وأما الخواص الدائمة التي تتبع المواد، فكثيرا ما تقبل الأشد والأضعف. والرجل ينسى هذا الاعتبار عن قريب، ويأخذ في تعريف الخاصة على جهة لا يستوى معها إعطاء هذه المباينة الخاصة، كما ستعرفه.
وذكرت مشاركة أخرى وهى أنهما كلاهما يحملان على ماتحتهما بالتواطؤ، وهو أنْ يكون حملهما حملا بالاسم والحدِّ. وهذا أيضا قد كان يليق به أن يذكره لغيرهما؛ لكنه يجب لمن سمع هذا وتصوره وأقرَّ به أن لاينسى حكمه في كتاب قاطيغورياس، حيث يُظَن أن المقول على الموضوع، وهو المقول بالتواطؤ، هو الذاتى فقط.
وأما المباينات، فالأُولى منها هى أن الجنس متقدم بالذات، والخاصة متأخرة؛ إذ كانت الخاصة إنما تحدث مع حدوث النوع، فتنبعث إما من المادة كَعْرض الأظفار أو مثال آخر، وإما من الصورة كقبول العلم، وإما منهما جميعا كالضحك.
والثانية أنّ الجنس يحوى أنواعا، والخاصة نوعا منها.
ومباينة أخرى أنَّ الجنسَ يُحمل على كل واحد من الأنواع حَمْلا كليا، ولا ينعكس؛ إذْ لايقال: وكل حيوان إنسان، كما يقال: كل إنسان حيوان. وأما الخاصة فإنها تنعكس، إذْ كل إنسان مستعد للضحك، وكل مستعد للضحك إنسان. وهذه المباينة بين الجنس والخاصة الدائمة العامة، أو بين طبيعتى الجنس والخاصة مطلقا؛ إذ تلك لا تحتمل وهذه تحتمل، أعنى هذا العكس. ويتبع هذه مباينة هى في ضمن تلك، وهى أنّ الخاصة، وإن كانت لكل النوع ودائما كالجنس، فإنها لاتكون لغير النوع، والجنس يكون.(1/37)
ومباينة أخرى منتزعة من المباينة الأولى، وهى أن الجنسيرفع الخاصة برفعه، من غير عكس. ومَنْ شاء أن يجعل هذه مباينة غير المباينة المعلقة بالتقدم والتأخر، لم تعوزه الحيلة فيه، ولكنه يكون قد أمعن في التكلف. وأما الجنس والعرض فيشتركان في أن كلَّ واحد منهما يقال على كثيرين، وهو المشاركة العامة؛ وليته قال ((على كثيرين مختلفين بالنوع))، فكان أورد مشاركة خاصة بين العرض والجنس، خصوصا ولم يذكر مشاركة أخرى. وأما المباينة الأولى فإن الجنس قبل النوع كما علمت. فإما النوع فهو قبل ما يعرض له، لأنه إنْ كان ما يعرض له منبعثا عن نوعيته، فتكون نوعيته قد تقررت بفصله، ثم لحقه ما لحقه، وهذا قد فرغ لك من شرحه. وإن كان من الأعراض التي تَعْرِض من خارج، فيكون النوع أولا قد حصل موضوعا حتى استعد لقبول ذلك العارض من خارج؛ لكن هذه المباينة موجودة أيضا بين الجنس والخاصة.
والمباينة الأخرى قد ذكرت هكذا: إن الأشياء التي تحت الجنس تشترك فيه بالسوية. وهذه عبارة محرفة ردية؛ لأنها تشير إلى فرق موجود بين موضوعاتهما، ليعاد ثانيا فيستدل بذلك على الفرق بينهما، بل كان يجب أن يقول: إنّ الجنس لايحمل على الأشياء التي تحته إلا بالسوية، وذلك يحمل لا بالسوية، فيكون الفرق واقعا في أول البيان، بل كان يجب أن يقول: والأعراض ربما حملت لا بالسوية؛ فإنه ليس جميع الأعراض تحمل إلا بالسوية كالمربع والمثلث وأمور أخرى. ولفظ الرجل يُوهم أن كل عرض يُحمل لا بالسوية، ثم يأمل من هذا أنه إذا جاز في الأعراض أن يكون فيها محمولٌ لا بالسوية، فما المانع أن يكون كذلك في الخواص ؟ فعسى أن يكون كونُ هذا أعم وذلك مساويا، مما يرخص لهذا فيما لايرخص فيه لذلك.
والمباينة التي هى بعد هذه أنّ الأعراض توجد في الأشخاص على القصد الأول. وأما الأجناس والأنواع فهى أقدم من الأشخاص. وهذه المباينة عجيبة التحريف والتشويش؛ فإنه كان يجب أن يقول: إنّ الأعراض توجد في الأشخاص على القصد الأول، والأجناسَ والأنواعَ لاتوجد على القصد الأول. أو يقول: إنّ الأجناس والأنواع أقدمُ من الأشخاص، والأعراض ليست أقدم، وما المانع من أن يكون الشئُ أقدَم وموجوداً على القصد الأول ؟ ثم إنْ كان معنى القصد الأول هو أن يحمل عليها لا بواسطة شئ، فإنّ النوع كذلك. وأما الجنس فعساه أنْ لايكون كذلك؛ فإنه يحمل على الشخص بتوسط النوع. وأما النوع، فإنه محمول على الشخص بالقصد الأول، أو يشبه أن يكون الرجل قَدْ سَهَا في إيراد لفظة النوع، فقد كان مستغنيا عنه، إذْ كان وكدُه الاشتغالَ بالتمييز بين الجنس والعرض.
والمباينة التي بعد هذه هى أنّ الأجناس تقال من طريق ماهو، والأعراض لاتقال. وهذه المباينة موجودةٌ أيضا بين الجنس والخاصة، وقد أغفلها هنالك.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في المشاركات والمباينات الباقية
وأما الفصل والنوع فيشتركان بأنهما يحملان على ماتحتهما بالسوية.
والمشاركة الأخرى أنهما ذاتيان؛ وهذه تقع أيضا بين الجنس والفصل، ولم يذكرها.
وأما المباينة فإنَّ حَمْلَ النوع من طريق ماهو، وحَمْلَ الفصل من طريق أي شئ هو، وإنَّ الأنسان، وإنْ صَلُحَ أن يكون جوابا عن أى الحيوان، فليس ذلك له أولا وبذاته، بل بسبب الناطق. وقد بُحِث عن هذا قبل.
والمباينة الأخرى هى أن النوع لايوجد ألبتة إلا محمولا على كثيرين مختلفين بالعدد فقط، والفصل في أكثر الأحوال أو في كثير من الأحوال يحمل على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذه المباينة بين الفصل والنوع السافل، لابين الفصل والنوع المطلق.
والمباينة الثالثة هى أنّ الفصل أقدم من النوع؛ وأَوْرَد مثاله من طريق الرفع بأن قال: إن الناطق يرفع برفعه الإنسان، ولا يرتفع برفع الإنسان، إذ المَلَك ناطق؛ ولم يأت بالفصل والنوع اللذين هما معا، بل أخذ فصلَ جنِس الإنسان، وقايسه بالإنسان، وفعل نظير ما لفاعل أن يفعله قائلا: إنَّ النوع أقدم من الفصل، إذْ الحى نوع للجسم، وهو أقدم من الفصل الذي هو الناطق. وكما أنَّ هذا القائل مُحَرِّف للحق بعدوله عن إيراد فصل ونوع متعادلين في الوضع، كذلك ذلك؛ لكن الفصل أقدمُ من النوع من جهة أنه علة وجوب وجوده، ونسبته إليه نسبة الصورة إلى المركب.(1/38)
وأورد مباينة أخرى وهى أنَّ فصلين يأتلفان فُيَقِّومان نوعا، والنوعان لايأتلفان فيقَّوم منهما نوع؛ وجعل مثال الفصلين الناطق والمائت، وقد عُلِم أنهما غير متساويى التركيب، كما شرحناه قبل. لكن هذه المباينة تستمر على أحد اعتبارين: إما أن يُجْعل الفصلان من جنس فصلى الحساس والمتحرك بالإرادة، وإمَّا أن يقال: إنَّ الفصلين المختلفى الترتيب يجتمعان، فيحدث من اجتماعهما إلى ماتجتمع معه نوع، هو غير كل واحد منهما. وأما النوعان المختلفا الترتيب فلا يأتلفان، حتى يحدث منهما، غير كل واحد منهما، نوع آخر، بل يكون الأعم منهما جزءا من الأخص، ويكون الحاصل لاشيئا حاصلا من اجتماعهما، بل هو شئ هو أحدهما. والنوعان اللذان لايختلفان في الترتيب بل يكونان متباينين، لايجتمعان ألبتة. لكن لقائل أن يقول: إنَّ الناطقَ والمائت في أنفسهما نوعان من أشياء أخرى، وإنْ لم يكونا نوعين للناس، وقد اجتمعا فإحدثا نوعا، وكذلك كثير من الطبائع المختلفة الأنواع تجتمع فيكون منها نوع ثالث بالاجتماع، كالاثنينية والثلاثية يفعلان بالاجتماع الخماسية، وهى نوع ثالث غيرهما، فإنّ الجواب أن الاعتبار الذي ذهب إليه في ذكر هذه المباينة غير هذا الاعتبار؛ وذلك أن الغرض فيما يقوله متوجه نحو أشياء محمولة على أشياء بأعيانها يشترك فيها؛ فإنها إذا كانت فصولا كالناطق والمائت اللذين قد يُقالان على موضوعات بأعيانها، فإنها إذا اجتمعت فعلت شيئا ثالثا يكون نوعا من الأنواع لتلك الأشياء، وتكون تلك الأشياء موضوعات له، كما توضع الأشخاص للأنواع، ولا يكون كذلك الناطق؛ لأن الحيوان داخل في ماهية تلك الأشخاص، وليس داخلا في ماهية الناطق والمائت؛ فليس الناطق والمائت نوعين بالقياس إليها، وإن كانا محمولين عليها، وإلا كانا متوسطين بينهما وبين الجنس الذي هو الحيوان، وكانا نوعين تحت الحيوان لا فصلين قاسمين؛ فقد وُجِد في الفصول فصلان يقومان نوعا مشاركا في الموضوعات، ولايوجد ذلك في الأنواع. وأما أن تكون أنواع مختلفة فتفعل باجتماعها نوعا - موضوع ذلك النوع غير موضوعاتها - فذلك غير منكر، مثل موضوعات الخمسية فإنها غير موضوعات الاثنينية والثلاثية.
وأما الفصل والخاصة فيشتركان في أنهما يحملان على ما تحتهما بالسوية. ويجب أن تعلم أن هذا إنما هو فى بعض الخواص التى منها الخاصة العامة الدائمة الصورية، فإن الضاحكين ضاحكون بالسوية كما أن الناطقين ناطقون بالسوية. ويشتركان فى أنهما للكل ودائما، وهذا أيضا للخاصة العامة الدائمة. وأما المباينات فلأن الخاصة الحقيقية هى لنوع واحد، والفصل قد يكون لأنواع، وقد علمتَ ما فى هذا.
وأتبع ذلك مباينة هى كأنها تلك أو لازمة لتلك، فقال: إنَّ الفصل قد لا ينعكس فى الحمل؛ فلا يقال كل ناطق إنسان، كما يقال كل إنسان ناطق؛ وأما الخاصة الحقيقية فتنعكس.
وأما المشاركة بين الفصل وبين العرض الغير المفارق، فدوام وجودهما لموضوعاتهما.
وأما المباينات فالأولى منها أنَّ الفصل يحوى دائما ما هو له فصل، ولا يُحْوَى ألبتة. قال الرجل: وأما الأعراض فإنها تحوي غيرها، وذلك من حيث هى عامة، وتُحْوَى أيضا من غيرها من قِبَل أنَّ الموضوع لايختص بقبول واحد منا محمولا عليه أو فيه، بل يوضع لغيره، فهو لذلك يحويه كما كان العرض يحويه؛ لأنه لايختص بالحمل على الواحد من موضوعاته، بل يعرض لغيره. وقد نسى الرجل ما قاله: ((إنّ الموضوع الواحد قد تكون له فصول كثيرة تجتمع فيه)). ثم الحوى كإنه لفظ مشكك غير علمى، لاينبغى أن يستعمل؛ فإنَّ مفهومَ وجه الحوى المثبِت للعرض والجنس مباينٌ للوجه المسلوب. وقد كان له وجه آخر لو قاله لكان أصوب. وهو أن العرض قد يَحوِى ويُحَوى، إذ هو من جهةِ أعم ومن جهةٍ أخص، كالأبيض فإنه كما يحمل على غير الإنسان، فكذلك الإنسان قد يحمل على غير الأبيض، فيكون لاكل إنسان أبيض؛ ولا كل أبيض إنسان، بل بعض هذا ذاك، وبعض ذاك هذا؛ ولكن هذه مباينة مع بعض الأعراض. فتأمل أنه كيف جَعَل العارض للشئ ولا يعمه خارجا من جملة العرض؛ وكان تَوَهَّم فيما سلف أنه فيه ومنه. وأما أنه كيف جعله كذلك، فلأنه جعل من شروط العرض التي بها يباين أنه يحوى النوع ويزيد عليه، اللهم إلا أن يكون أراد أنّ هذه مباينة، لا لكل عرض، بل لعرض ما.(1/39)
والمباينة الأخرى أنْ لاشئَ من الفصول يقبل الزيادة والنقصان، بل طبيعة الفَصْيلة تمتنع أن تقبل الزيادة والنقصان، وكون الشئ عَرَضاً لايمنع ذلك؛ لكن الرجل أطلق أنَّ الأعراض تقبل الزيادة والنقصان.
ومباينة أخرى هى أنَّ الفَصْيلة تمنع أن يوجد لمقابلاتها موضوع واحد بعينه، فيكون هو ناطقا وغير ناطق، والعرضية لاتمنع ذلك؛ فإن الأعراض الغير المفارقة قد يكون للمتضادات منها موضوع واحد.
وأما النوع فيشارك الخاصة الحقيقية فى أن كل واحد منهما ينعكس على الآخر، فكل إنسان ضحاك، وكل ضحاك إنسان؛ وفي انهما يوجدان معا لموضوعاتهما دائما.
أما المباينات فأولاها أنَّ الشئ الذي هو نوع لشئ يصير جنسا لشئ آخر، وأما الخاصة فلا تكون خاصة لشئ آخر؛ وهذه المباينة متشوشة ردية جدا. أمّا أولا فلإنه كان فيما سلف لايلتفت إلى إيراد المباينة بين النوع المضايف للجنس وبين غيره، بل يشتغل بالنوع السافل، والآن فقد أعرض عن ذلك، واشتغل بالنوع المضايف للجنس، ثم الخطب فى هذا يسير. لكنه لو كان قال: إنَّ النوع للشئ قد يصير خاصة لشئ آخر، ثم قال: إنَّ الخاصة لاتصير خاصة لشئ آخر، لكانت مباينة حسنة؛ ولكن الحكم فى النوع كاذب. ولو قال: إنَّ النوع للشئ يصير جنسا لشئ آخر، والخاصة لاتصير جنسا لشئ آخر، لكان هذا أيضا صحيحا؛ ولكن الحكم فى الخاصة كاذب. فكما أنَّ النوع الذي ليس بسافل يصير جنسا، كذلك الخاصة لنوع غير سافل تصير جنسا، فتكون خاصةً لنوع عال، وجنسا لأنواع لها، كاللون فإنه خاصة وجنس. ولو كان قال: إنَّ النوع للشئ قد يصير خاصة لشئ آخر، والخاصة لاتصير خاصة لشئ آخر لكان مستقيما.
ومباينة أخرى وهى أن النوع متقدمٌ فى الوجود، والخاصةَ متأخرةٌ؛ وهذا مسلم معقول، كما قد سلف.
ثم أورد مباينة أخرى وهى أنَّ النوع موجود بالفعل دائما، وأما الخاصة فتوجد فى بعض الأوقات. وهاهنا تشويش أيضا؛ وذلك أنه إنْ عنى بالخاصة مثل الضحك الذي بالفعل، فقد خرج عن المذهب الذي كان يسلكه إلى الآن؛ وإنْ عنى بالخاصة الاستعدادَ الطبيعى، فذلك موجود بالفعل دائما، فإنَّ كون الإنسان ضحاكا بالطبع موجود له بالفعل دائما. وهذه المباينة - إنْ صحت - فكان يجب أن يذكرها للجنس والفصل مع الخاصة أيضا.
ومباينة أخرى هى أنَّ حدَّيهما مختلفان، وهذه المباينة موجودة بين الجميع ليست تخص اعتبار الحال بين النوع والخاصة؛ وأمّا النوع والعرض فيعمهما أنهما كليان. قال: ولا يوجد لهما أشياء كثيرة يشتركان فيها لبعد ما بينهما؛ وأما المباينة فلإن هذه الماهية وذلك ليس، ولأن الجوهر الواحد نوعه واحد، وأعراضه لايجب أن تكون واحدة. وهذه المباينة توجد أيضا بين الجنس والعرض، وبين النوع والخاصة، وبين الجنس والخاصة. وأيضا فإن النوع قبل العرض وجودا وتوهما، وإن النوع يستوى لموضوعاته المشتركة فيه، والعرض قد لايستوى، وإنْ كان غير مفارق كسواد الزنوج. وأما الخاصة والعرض الغير المفارق فيشتركان فى أنهما دائمان لموضوعاتهما؛ وقد كان يجب أن لاينسى هذه المشاركة بين النوع وبين العرض الغير المفارق. ويختلفان بأن الخاصة توجد للنوع وحده، والعرض الغير المفارق يوجد لأكثر من نوع كالسواد للزنجى والغراب ويجب أن تتذكر هذا إذا رجعت إلى ماسلف فى المقالة الأولى.
ومباينة أخرى أن الاشتراك فى العرض لايجب أن يكون بالسوية، وفى الخاصة يجب أن يكون بالسوية، وقد عرفتَ ما فيه.
فهذه هى الاشتراكات والمباينات المشهورة التي أوردها أول من أفرد لهذه الخمسة الكليات كتابا، وقد ذكرناها على منهاج ذكره وترتيبه. وجميع ما أورده من المباينات التي ليست مباينة عامة، فيمكن أن يُعَبر عنه فيقال مثلا: الفصل ليس من شأنه أن يكون كذا، ومن شأن بعض ماهو فى طبيعة العرض مثلا أن يكون كذا، فيكون هذا تحسينا لقوله:((ومع ذلك مستمرا)). ولو أنه وفق لكان يورد أولا المشاركات التي بين الخمسة، ثم التي بين أربعة أربعة، ثم التي بين ثلاثة ثلاثة،ثم التي بين اثنين اثنين، وكذلك كان يورد المباينات التي بين واحد وبين أربعة، ثم التي بيناثنين وثلاثة، ثم التي بينكل واحدة وواحدة أخرى خاصة، فيكون قد حفظ ماهو الواجب، ولا يكون قد ترك مشاركة ومباينة هى بين اثنين اثنين منها تركا مهملا، ويذكرهما بين اثنين آخرين، ربما كان ذكره فيما أهمله أوقع وأحسن.(1/40)
الفصل الرابع
(د) فصل
في مناسبة بعض هذه الخمسة مع بعض
وإذْ قد عرفنا هذه الألفاظ الكلية الخمسة، فيجب أنْ نعلم أنَّ الشئ الذي هو منها جنس ليس جنسا لكل شئ، بل لنوعه فقط. وكذلك الفصل ليس يجب أن يكون فصلا لكل شئ، بل إما من حيث هو مقسم فلجنسه، وإما من حيث هو مُقَوِّم فلنوع ذلك الجنس. وأن الشئ الواحد قد يجوز أن يكون جنسا أو كجنس، وفصلا ونوعا وخاصة وعرضا؛ فإنّ الحساس كالنوع من المدرك، وجنسٌ للسامع والمبصر، وفصل للحيوان؛ والماشى جنس لذى الرجلين ولذى أربع أرجل، ونوعٌ للمتنقل، وخاصةٌ للحيوانات، وعرضٌ عام للإنسان. وربما اجتمعت الخمسة فى واحد.
والجنس ليس جنسا للفصل ألبتة، ولا الفصل نوعا للجنس، وإلا لاحتاج إلى فصل آخر، بل الفصل معنى خارج عن طبيعة الجنس؛ فإنّ الناطق ليس هو حيوانا ذا نطق، بل شئ ذو نطق، وإن كان يلزم أن يكون ذلك الشئ حيوانا، وأما الحيوان ذو النطق فهو الإنسان؛ ولو كان الحيوان داخلا فى معنى الناطق لكان إذا قلت: حيوان ناطق، فقد قلت: حيوان هو حيوان ذو نطق، فإنّ ذا النطق والناطقَ شئٌ واحد. وأذا قيل الجنس على الفصل فهو كما يقال العرض اللازم على الشئ الذي يقال عليه ولا يدخل في ماهيته، لكنه كالمادة للفصل، ونسبة الفصل إليه من وجهٍ كنسبة الخاصة التي توجد فى البعض، لكن الفصل يقومه موجودا بالفعل، وإن لم يدخل فى حده وماهيته دخوله فى إنيته، ككثير من العلل وكالصورة للمادة، هذا إن كان الفصل أخص على الإطلاق من الجنس، ولم يقع خارجا عنه ألبتة أو بالحقيقة، فإنَّ قول كل واحد منهما عند التحصيل هو على النوع. وهذه الأشياء تتحصل لك فى الفلسفة الأولى.
والجنس تكون نسبته إلى الفصل كنسبة عارض عام؛ وأما العارض العام فإنه قد يكون بالقياس إلى الجنس خاصة، وبالقياس إلى النوع عرضا عاما، مثل الانتقال بالإرادة فإنه خاصة من خواص الحيوان، وعارض عام للإنسان؛ وربما كان خاصةً لجنس أعلى، مثل البياض فإنه من خواص الجسم المركب، وعارض عام للانسان، وربما كان من خواص أعلى الأجناس كلها؛ وربما لم يكن العارض العام خاصةً لشىء من الاجناس، إذا كان قد يعرض لغير تلك المقولة، مثل امتناع قبول الأشد والأضعف، فإنه من لوازم الجوهر على سبيل العموم له ولغيره، وليس خاصةً لجنس من أجناسه، إذْ ستعلم أنَّ ذلك قد يقع فى غير أعلى أجناسه. والحيوان نسبته إلى هذا الحيوان - من حيث هو حيوان ألحق به الإشارة ولم يعتبر فيع النطق - نسبة النوع إلى الأشخاص، فإنه مقول عليه قول النوع الذي هو نوع بالقياس إلى الأشخاص فقط على الأشخاص، لا نسبة الجنس، بل إنما هو جنس بالقياس إلى أشخاص الحيوان من حيث صارت ناطقة، وكذلك الناطق بالقياس إلى هذا الناطق غير مأخوذ معه الحيوانية، فإنه كنوع له بالمعنى المذكور لا كفصل، بل هو فصل لأشخاص الحيوان من حيث هى حيوان. والضحاك أيضا فإنه كالنوع لهذا الضحاك من غير أن يعتبر إنسانا، وإنما هو خاصة للإنسان ولأشخاص الناس؛ وكذلك الأبيض أيضا لهذا الأبيض، من حيث هو أبيض مشار إليه، فإنه كالنوع له.
والعرض العام إنما هو عرضٌ عام للشئ الذي هو موضوعٌ لكونه هذا الأبيض، لا لهذا الأبيض، من حيث هو هذا الأبيض.
واعلم أن هذه الخمسة قد يتركب بعضها مع بعض تركبا بعد تركب، فالجنس يتركب مع الفصل، فإن المدرك جنس فصل الإنسان الذي هو الناطق مثلا، أو ذو النفس فإنه جنس للناطق، فهو جنس الفصل، وقد عرض له أن كان فصل الجنس، لأنَّ ذا النفس فصلُ بعض الأجناس المتوسطة التي للإنسان. وقد يتركب الجنس مع العرض، مثل أنَّ الملون جنسُ عرض الإنسان الذي هو الأسود والأبيض، لكن هذا التركيب يخالف الأول؛ فإنه ليس يجب أن يكون جنس الفصل المقوم جنسا مقوما للنوع، وجنس العرض يجب أن يكون عرضا لاحقا لذلك النوع. نعم قد يكون جنس الفصل فصلا مقوما لجنس النوع، وكذلك قد يكون جنس العرض عرضا لاحقا لجنس النوع.
وأما تركيب الجنس مع الخاصة فمثل أنَّ المتعجب بالفعل جنسٌ للضحاك بالفعل الذي هو خاصة، والصَيَّاح جنس للصاهل الذي هو خاصة.(1/41)
والفصل أيضا قد يتركب مع الجنس، كالحساس فإنه فصل جنس الإنسان؛ ويتركب مع الخاصة، مثل النسبة إلى قائمتين من قولنا: مساوى الزوايا الثلاث لقائمتين، فإنه فصلُ خاصة المثلث؛ وقد يتركب مع العرض، كالمفرق للبصر فإنه فصل عرض القطن.
والخاصة قد تتركب مع الجنس، فإن المشى خاصة جنس الإنسان؛ وقد تتركب مع الفصل، فلا تفارق فى كثير من المواضع خاصة النوع، وربما كان أعم من خاصة النوع وذلك إذا كان الفصل أعم، مثل المنقسم بمتساويين الذي هو فصل الزوج، فإنَّ ذا النصف خاصةً لهذا.
وقد تتركب مع العرض العام فإن المبصر خاصة الملون، والملون عرضٌ عام للإنسان.والعرض قد يتركب مع الجنس فلا يفارق عرضَ النوع، لأنه يكون عرضا للنوع، لكن من أعراض النوع ماهو خاصةَ للجنس، وليس عرضا عاما للجنس بل خاصة، ومنه ماهو عرض عام لهما، وكذلك عرض الفصل وعرض الخاصة.
تم كتاب إيساغوجى. والحمد لمولى النعم ومرادف الآلاء والقسم
المقولات
المقالة الأولى
من الفن الثاني من الجملة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الفن الثاني من الجملة الأولى من المنطق في المقولات وهى سبع مقالات
المقالة الأولى
ستة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في غرض المقولات
قد علمتَ فيما سلف مائيةَ اللفظ المركب ومائيةَ اللفظ المفرد، وعلمت أن اللفظ المركب إنما يتألف من اللفظ المفرد، وعلمت أن الألفاظ المفردة، من حيث هى كلية وجزئية وذاتية وعرضية، منقسمةٌ خمسة أقسام؛ فمن الواجب الآن أن تعلم أن معرفة هذه الأحوال الخمسة للألفاظ المفردة مُعينَةٌ على معرفة الألفاظ المركبة، من حيث تقصد المعرفة بها، وأن تعتقد أن ههنا أحوالا أخرى للألفاظ المفردة غير محتاج إليها في معرفة الألفاظ المركبة؛ فليس كل أحوال الألفاظ المفردة يحتاج إليها لينتفع بها في معرفة أحوال الألفاظ المركبة التركيب المقصود في المنطق، أما هذه فمما يُنتفع بالوقوف عليها في صناعة المنطق؛ وأنَّ الألفاظ المركبة إنما تركب بحسب صناعة المنطق ليوقف على السبيل النافع في إفادة التصديق والتصور؛ وهذه الإفادة تتم بالقياسات وبالحدود وبالرسوم.
والقياسات مؤلفة من مقدمات، كما ستعرف، وتحتاج أن تكون موضوعاتها كلية لتدخل فى العلوم؛ وتحتاج أن تكون موضوعاتها ومحمولاتها على نِسَبٍ من النِّسب المذكورة فى الذاتية والعرضية حتى تدخل فى البرهان.
والقسمة أيضا إحدى الطرق الموصلة إلى اكتساب العلم بالمجهول. والقسمة الفاصلة هى التي تكون للأجناس إلى الأنواع بالفصول محفوظا فيها الترتيب، لئلا تقع طفرة من درجة إلى غير التى تليها. وقد تكون أيضا بالخواص والأعراض.
فمعرفة هذه المفردات الخمسة نافعة فى القياسات؛ ومنفعتها فى الحدود والرسوم أظهر: فإنَّ الحدود من الأجناس والفصول؛ والرسوم من الأجناس والخواص والأعراض، وهى فى أكثر الأمر للأنواع.
فتقديم تعُّرِف هذه الأحوال اللاحقة للألفاظ المفردة قبل الشروع فى معرفة المركبات تقديمٌ إما ضرورى وإما كالضرورى.
وللألفاظ المفردة أحوال أخرى وهى دلالاتها على الأمور الموجودة أحدَ الوجوديْن اللذين بَّيناهما حين عَّرفنا موضوع المنطق. ولا ضرورة ألبتة إلى معرفة تلك، أعنى فى أن نتعلم صناعة المنطق، ولا شبه ضرورة، لا من جهة حال دلالتها على الأشخاص الجزئية؛ فإن ذلك مما لاينتفع به فى شئ من العلوم أصلا، فضلا عن المنطق، ولا من جهة حال دلالتها على الأنواع؛ لأن هذا أمر لم يعن به أحد فى صناعة المنطق، وتمت صناعة المنطق دون ذلك، ولا من جهة حال دلالتها على الأجناس العالية، التى جرت العادة بتسميتها مقولات وإفراد كتاب فى فاتحة علم المنطق لأجلها الذى يسمى قاطيغورياس؛ فإنَّ المتعلم للمنطق، إذا انتقل بعد معرفته بما عرفنا من أحوال الألفاظ المفردة، وعرف الاسم والكلمة، أمكن أن ينتقل إلى تعلم القضايا وأقسامها، والقياسات والتحديدات وأصنافها، ومواد القياسات والحدود البرهانية وغير البرهانية وأجناسها وأنواعها، وإن لم يخطر بباله أن ههنا مقولات عشرا، وأنها هى التى تدل عليها أنفسها أو على مايدخل فيها بالألفاظ المفردة.(1/42)
ولا يعرض من إغفال ذلك خلل يُعْتَد به؛ ولا إنْ ظن أحدٌ أنَّ هذه المقولات أكثر عددا أو أقل عددا دخله من ذلك وَهنٌ فى المنطق؛ وليس أن يعلم أنه هل هذه الأمور توصف بالجنسية أوجبُ عليه من أن يعلم أنه هل أمور أخرى توصف بالنوعية، بل معرفة هذه. أما من جهة كيفية الوجود، فإلى الفلسفة الأولى؛ ومعرفتُها من جهة تصور النفس لها، فإلى حد من العلم الطبيعى يصاقب الفلسفة الأولى؛ ومعرفة أنها تستحق ألفاظا توقع عليها، فإلى صناعة اللغويين.
ومعرفة أن الألفاظ المفردة تقع على شئ منها، من غير تعيين الألفاظ التى تقع عليها، هى كمعرفة أن الأمور الموجودة لها ألفاظ مفردة موضوعة بالفعل أو فى القوة. وليس أنْ يعرف المنطقى، من حيث هو منطقى، ذلك فيها أوْلى من معرفة ذلك فى غيرها؛ فإنه ليس يلزمه، من حيث هو منطقى، أن يشتغل بأن يعرف أن الألفاظ المفردة موضوعة لصنف من الأمور، وهو الكليات العامة، دون أن يعرف ذلك فى صنف من الأمور، وهى الكليات الخاصة. نعم ههنا شئ واحد وهو أن المتعلم قد ينتفع بهذا التلقين انتفاعا من وجه،وهو أنه تحصل له إحاطةٌ ما بالأمور ويقتدر على إيراد الأمثلة.
وإذا كانت الحدود قد يعرض فيها اختلافٌ باختلاف وقوع المحدودات فى مقولات شتى، كحال الشئ الذى من مقولة المضاف مثلا، فإنه يعرض له أن يحتاج في تحديده إلى أحوال لاتعرض لما يقع فى مقولة الجوهر. وربما خَص أنواعَ الكمية فى التحديد خواصُّ هى لها دون أنواع الكيفية.
وإذا كانت هذه الأشياء مفهومةً على حيالها، كان تَعَلّمُ ذلك سهلا. بعد أن الحاجة إلى إفراد هذا التعليم غير ماسة فى هذا المعنى؛ فإنه يمكن أن تعلم صناعة التحديد بكمالها من غير أن يحتاج إلى إفراد هذا الفن، وأن يقال: إن كانت أمور من المضاف فحكمها كذا، وأن كانت قوى وكيفيات فحكمها كذا. فيجب أن لاتتجاوز هذا القدر بطمعك فى هذا الفن، وأن تتيقن أنه دخيل فى صناعة المنطق، وأن تعلم شيئا آخر، وهو أن واضع هذا الكتاب لم يضعه على سبيل التعليم، بل على سبيل الوضع والتقليد؛ فإنه لاسبيل بالبيان المناسب للمنطق إلى أن تعلم ما يعلم فيه بالتحقيق.
ويجب أن تعلم أنّ كل ما يحاولون به إثبات العدد لهذه العشرة، وأنه لاعلم لها، وأنه لاتداخل فيها، وأن لكل واحد منها خاصية كذا، وأن تسعة منها مخالفة للواحد الأول فى أنه جوهر وهى أعراض، وما أشبه ذلك فإنها بيانات مجتلبة من صناعات أخرى ومقصر فيها كل التقصير. إذ لاسبيل إلى معرفة ذلك إلا بالاستقصاء؛ ولا سبيل إلى الاستقصاء لا بعد الوصول إلى درجة العلم الذى يسمى فلسفة أولى.
فيجب أن تتحقق أنَّ الغرض في هذا الكتاب هو أن تعتقد أن أموراً عشرة هى أجناس عالية تحوى الموجودات، وعليها تقع الألفاظ المفردة اعتقادا موضوعا مسّلما، وأن تعلم أن واحدا منها جوهرٌ وأن التسعة الباقية أعراض، من غير أن يبرهن لك أن التسعة أعراض، بل يجب أن تقبله قبولا.
فلا سبيل إلى أن نبرهن لك الآن أن الكيفيات والكميات أعراضٌ من غير أن نبرهن لك ضرورة ذلك العدد، بل تقبله قبولا، ومن غير أن نبرهن لك أن كل واحد منها جنس بالحقيقة، لالفظ مشكك، ولا دال على لازم غير مقوم. فلا سبيل لك، فى ابتداء التعليم، أن تعلم مثلا أن الكيفية تقع على الأنواع التي تحتها وقوع الجنس، وأنه ليست اسما مشتركا أو مشككا أو متواطئا، ولكنه مقوِّم لماهية ماتحته؛ وكذلك الكمية. ومن اشتغل بذلك فى هذا الكتاب فقد تكلف ما لايفى به وسعه. وكذا حال الخواص التى تذكر، فإنها إنما تذكر ذكرا.
والدليل على أن الحق ما أقوله لك هو أن هذه المباحث قد تُرِكت فى الكتاب الذى هو الأصل. وأيضا فقد اشمأز كافة المنطقيين المحصلين عن أن يكون هذا الكتاب نظرا فى طبائع الموجودات، بل قالوا: إنه نظر فيها، من حيث هى مَدلول عليها بالألفاظ المفردة. وليست البراهين التى تصحح أن هذه التسعة أعراض غير البراهين التى تدل على أحوال وجودها؛ ولا يوجد برهان على ذلك فيها، من حيث هى مدلول عليها بالألفاظ المفردة؛ وكذلك الحال فى تلك المباحث الأخرى.(1/43)
فإذا كان بيان هذه الأحوال فيها متعلقا بالنظر من حيث هى موجودة، لم يكن للاشمئزاز الذى يعتقدونه معنى؛ بل يكون هذا النظر فيها نظرا من حيث هى موجودة، ثم من حيث هى مدلول عليها باللفظ، فيكون قد جمع فيه وَجْهَا النظر.
على أن كل ماينظر فى أحواله، من حيث هو موجود، فقد يُشْعِر مع ذلك بحاله، من حيث هو مدلول عليه؛ فإنَّ لكل حقيقة من الوجود مطابقة من اللفظ. نعم لو كان لكونها مدلولا عليها خواص لاتتناول صرافة الوجود، وكان البحث فى هذا الكتاب مقتصرا عليها ومنصرفا إليها، لكان بالحرى أن يظن أن هذا الذي عرفوه من أمره غرض هذا الكتاب، حتى جردوه نظرا منطقيا، ليس فلسفة أولى ولا فلسفة طبيعية، أمر دقيق وإخراج لطيف وفصل غامض.
ولو كانوا يضعون هذه الأمور كلها وضعا على سبيل التسليم، ويقولون إن هذه جِماع الأمور التي عليها تقع الألفاظ المفردة ومنها تؤلف الألفاظ المركبة، بل هى الأمور التى معانيها فى النفس هى مواد أجزاء المعانى المركبة فى النفس التركيب الذى يتوصل به إلى إدراك المجهولات، وإن لم يكن هناك لفظ البتة، لكانوا يقولون أيضا شيئا. وأما إصرارهم على أن هذا بحث منطقى، وأن هذا متعلق بأن ألفاظا لامحالة، فتكلف بحت، فلذلك تبلدوا وتحيروا.
وأما نحن فنقول ماقلناه ثم نتبع منهاج القوم وعاداتهم، شئنا أو بينا، ونقول: إن هذا الكتاب وتقديمه، مع أنه ليس بكثير النفع؛ فإنه ربما ضر فى بادئ الأمر؛ فما أكثر من شاهدته قد تشوشت نفسه بسبب قراءته هذا الكتاب، حتى تخيل منه أمورا لاسبيل إلى تحققها على كنهها فى هذا الكتاب، فامتدت له خيالات مصروفة عن الحقيقة، وانبنت له عليها مذاهبُ وآراء دنست بذلك نفسه، وانسطر فى لوح عقله ما لا ينمحى بانسطار غيره، وإذا خالطه شَوَّشَهُ.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في الألفاظ المتفقة والمتواطئة
والمتباينة والمشتقة وما يجرى مجراها
إن من الأمور المختلفة المتكثرة ما يشترك فى اسم واحد، وذلك على وجهين: فإنه إما أن يكون على طريق التواطؤ، وإما أن يكون على غير طريق التواطؤ.
وطريق التواطؤ أن يكون الاسم لها واحدا وقولُ الجوهر، أعنى حد الذات أو رسمه الذب بحسب ما يفهم من ذلك الاسم، واحدا من كل وجه؛ مثل قولنا الحيوان على الإنسان والفرس والثور، بل على زيد وعمرو وهذا الفرس وذلك الثور؛ فإن جميع ذلك يسمى حيوانا. وإذا أراد أحد أن يحد أو يرسم، وبالجملة أن يأتى بقول الجوهر، أى اللفظ المفصل الدال على معنى الذات فيها كلها، كان رسما أو حدا، فإن القول أعم من كل واحد منهما، وحدُّه واحد فيها من كل وجه؛ أى يكون واحدا بالمعنى، وواحدا بالاستحقاق، لايختلف فيها بالأولى والأحرى، والتقدم والتأخر، والشدة والضعف. ويجب أن تكون هذه المواطأة في القول الذى بحسب هذا الاسم؛ فإنه إذا وجد قول آخر يتحد فيه ويتشارك، ولم يكن بحسب هذا الاسم، لم يصر له الاسم مقولا بالتواطؤ.
ونحن نعنى ههنا بالاسم كل لفظ دال، سواء كان مايُخَصُّ باسم الاسم، أو كان ما يخص باسم الكلمة، أو الثالث الذى لايدل إلا بالمشاركة، كما سيأتيك بيانه بعد. فهذا ما يقال على سبيل التواطؤ.
فأما ما ليس على سبيل التواطؤ فإن جميعه قد يقال إنه باتفاق الاسم، وينقسم إلى أقسام ثلاثة: وذلك لأنه إما أن يكون المعنى فيها واحدا في نفسه، وإن اختلف من جهة أخرى، وإما أن لايكون واحدا، ولكن يكون بينهما مشابهة ما، وإما أن لايكون واحدا، ولا يكون أيضا بينهما مشابهة.
والذى يكون المعنى فيها واحدا، ولكن يختلف بعد ذلك، فمثل معنى الوجود: فإنه واحد فى أشياء كثيرة، لكنه يختلف فيها؛ فإنه ليس موجودا فيها على صورة واحدة من كل وجه؛ فإنه موجود لبعضها قبل ولبعضها بعد؛ فإن الوجود للجوهر قبل الوجود لسائر ما يتبعه؛ وأيضا فإن الوجود لبعض الجواهر قبله لبعض الجواهر؛ وكذلك الوجود لبعض الأعراض قبله لبعض الأعراض. فهذا طريق التقدم والتأخر.
وكذلك قد يختلف من طريق الأوْلى والأحْرى؛ فإن الوجود لبعض الأشياء من ذاته، ولبعضها من غيره. والموجود بذاته أوْلى بالوجود من الموجود بغيره، وكل ماهو متقدم بمعنى فهو أولى به، من غير عكس؛ فقد يكون شيئان يشتركان فى معنى من المعانى وليس هو لأحدهما قبل، بل هما فيه معا؛ لكن أحدهما أولى به لأنه أتم فيه وأثبت.(1/44)
وأما الذي يختلف بالشدة والضعف فذلك إنما يكون فى المعانى التى تقبل الشدة والضعف مثل البياض؛ فلذلك ماليس يقال البياض على الذى فى الثلج والذى فى العاج على التواطؤ المطلق؛ ولا تقال الفلسفة على التى فى المشائين والتي فى الرواقيين على التواطؤ المطلق. وإنما نأتيك بأمثلة مشهورة يجب أن يسامح فيها بعد الوقوف على الغرض.
فما كان المفهوم من اللفظ فيه واحدا إذا جرد ولم يكن واحدا من كل جهة متشابها فى الاشياء المتحدة فى ذلك اللفظ فإنه يسمى اسما مشككا؛ وربما سمى باسم آخر.
والاسم المشكك قد يكون مطلقا، كما قلنا؛ وقد يكون بحسب النسبة إلى مبدإ واحد، كقولنا طبى للكتاب وللمبضع وللدواء؛ أو إلى غاية واحدة كقولنا صحى للدواء وللرياضة وللفصد، وربما كانت بحسب النسبة إلى مبدأ وغاية واحدة، كقولنا لجميع الأشياء إنها إلهية.
وأما الذى فيه اتفاق فى قول الجوهر وشرح الاسم، لكن يكون اتفاق فى معنى يتشابه به، فمثل قولنا الحيوان للفرس، والحيوان للمصَّور،والقائمة لرجل الحيوان، ولما يُقِلّْ السرير، فإنه يسمى تشابه الاسم، وهو من جملة الاتفاق فى الاسم؛ فإن المسميات بمثله إنما تتفق فى الاسم ولا تتفق فى قول الجوهر الذى بحسب الاسم؛ وذلك أنك إذا أتيت بقول الجوهر، حيث يقال حيوان للفرس، قلت إنه جسم ذو نفس حساس متحرك بالإرادة، ولا تجد هذا القول هو القول الذى تأتى به إذا شرحتَ اسم الحيوان ، من حيث يقال على الصورة فى الحائط، فإنك تقول شكل صناعى يحاكى به ظاهر صورة الجسم الحساس المتحرك بالإرادة؛ وكذلك إذا شرحت اسم القائمة فى الحيوان قلت: إنه عضو طبيعى يقوم عليه الحيوان ويمشى به: ولا تجد هذا الرسم فى قائمة السرير، بل تقول: إنه جسم صناعى مُسْتدقُ مبان من السرير يقل السرير. ومع ذلك فإنك تجد بين الأمرين شبها إما فى شكل وإما فى سائر الأحوال؛ فيكون ذلك الشبه هو الداعى إلى أن تعطى أحد الأمرين اسم الآخر، ويكون الاسم فى أحد الأمرين موضوعا وضعا متقدما، ويكون فى الثانى موضوعا ثانيا. فإذا قيس ذلك الاسم إلى الأمرين جميعا، سمى بالاسم المتشابه، وإذا قيس إلى الثانى منهما سمى بالاسم المنقول. وربما كان المعنى المتشابه به معنى متقررا بنفسه، كالذى للحيوان المصور مع الحيوان الطبيعى؛ وربما كان نسبة ما؛ كما نقول لطرف الخط مبدأ، وللعلة مبدأ.(1/45)
وربما كان هذا الاشتباه اشتباها حقيقيا، وربما كان اشتباها مجازيا بعيدا، مثل قولهم كلب للنجم وللكلب الحيوانى؛ وذلك لأنه لا تشابه بينهما فى أمر حقيقى إلا فى أمر مستعار؛ وذلك لأن النجم ربى كالتابع للصورة التى جعلت كالإنسان، ثم وجد الكلب أتبع الحيوانات للإنسان فسمى باسمه. فما كان سبيل نقل الاسم اإليه هذا السبيل فلا ينبغى أن يجعل فى هذا القسم، بل هو من القسم الثالث الذى لا اشتراك حقيقيا ولا تشابع فيه، مثل قولنا عين للبصروعين للدينار. والسبب فى وقوع هذا الاسم ليس ما ذهب إليه من قال إن الأمور، لما كانت غير متناهية، وكانت الألفاظ متناهية، من حيث تركيبها من حروف متناهية، وجب أن يكون الاسم الواحد تشترك فيه عدة أمور تلزمه. وليس كذلك؛ لا من جهة أن الحروف المتناهية قد يمكن أن تتركب منها تركيبات غير متناهية؛ وذلك لأن هذا الإمكان متعلق بتزيد مقادير ما يركب من الحروف. ثم اللسان والعادة لا تحتمل كل تطويل للتركيبات من الحروف، بل هناك حد تنفر الطباع من استعمال ما هو أطول منه. وإذا كان كذلك، فقد حصل لصلوح التركيب حد محدود وجب له أن يتناهى ما يركب من الحروف؛ ولا لأن غير المتناهى إنما هو فى الأشخاص دون الأنواع على ما يرون. ويقولون: إنه لو كان الاشتراك فى الاسم إ نما يوجبه غير المتناهى، لكان يجب أن تكون أسماء الأنواع أيضا لا يقع فيها اشتراك، فإن هذا البيان مختل لأن الأنواع قد لا تتناهى من وجه، كما علمت؛ ولأن الأشخاص إذا كانت غير متناهية، فأخذت من حيث هى أمور شاركتها الأنواع، فصارت الأمور غير متناهية وفيها الأنواع، وكانت الأنواع من جملة الأمور التى لا تتناهى؛ والتسمية إنما تقع على الأمور، من جهة ما هى أمور، لا من حيث هى أشخاص. فهذان الاعتراضان لا يكشفان ما فى هذا من الغلط، بل وجه بيان الغلط فى اشتغال من اشتغل بتعليل ذلك من كون الأشياء غير متناهية هو أن الأمور وإن كانت، من حيث هى أمور غير متناهية، فإنها، من حيث يقصدها المسمون بالتسمية، متناهية؛ فإن المسمين ليسوا يشرعون فى أن يسموا كل واحد مما لا نهاية له؛ فإن ذلك لا يخطر ببالهم؛ فكيف يقصدون التسمية له ؟ بل كل ما قصد تسميته فهو متناه. وقد كان يمكن أن يكون لكل واحد منه اسم مفرد؛ والدليل على ذلك أنك الآن لو شئت لأفردت لجميع ما وقعت فيه الشركة فى الاسم اسما مفردا؛ لأن جميع ذلك متناه. فهخذا القول إنما يبطل من هذا الوجه؛ وإن كان يمكن أن يعبر عن هذا القول بعبارة أخرى على وجه من وجوه التكلف.
والمحل يستمر؛ إلا أنه يرجع إلى بعض ما نريد أن نعطيه من السبب وذلك فنقول: إن السبب فى وقوع هذه الشركة أحد شيئيين: إما التشبيهات الاستعارية المجازية كما هى فى لفظة " العين " فإنه لما كان اسما للبصر، وكان البصر من فعله المعاينة، وكانت المعاينة تدل بوجهٍ مَّا على الحضور، والحضور يدل على النقد، وكان النقد الحقيقى هو للدينار، سمى الدينار لذلك فيما نظن عينا، أو لأنه عزيزِ عزَّ العين، أو شىء آخر من هذه الوجوه وربما كان ذلك على سبيل التذكر والتبرك، أو على سبيل الرجاء؛ وأكثر هذه فى الجزئيات كمن يرغب فى التسمية باسم نبى، أو يسمى ابنه باسم أبيه ليتذكره به. وأما الاتفاقات البخْنِية الواقعة فلاختلاف المسمين التسميةَ الأولى؛ كأن بعضهم اتفق له أن أوقع اسم العين على شىء والآخر اتفق له أن أوقعه على غيره؛ فيجوز إذن أن يكون سبب الاتفاق هو اختلاف حال مسميين، أو لاختلاف حال مسم واحد فى زمانين صار فيهما كشخصين.(1/46)
وهذا القسم الواقع فيه من الأسباب م عددناه هو المخصوص باسم اشتراك الاسم؛ ويشارك التشابه بالاسم فى أن الاسم يكون واحدا ومعناه ليس بواحد؛ ولا يرفع اشتراكَ الاسم ولا اتفاقه؛ بل يكون هناك قولٌ واحد متفق واسمٌ واحد متفق كل واحد منهما فى الجميع؛ فإن هذا لا يمنع أن يكون القول الُمَّتَفُق فيه ليس بحسب هذا الاسم، مثل أن قائمة السرير وقائمة الحيوان يتفقان فى اسم القائمة، ويتفقان فى أن كل واحد منهما جوهرٌ ذو طول وعرض وعمق، وهذا لا يمنع أن يكون اسم القائمة مقولا عليهما بالاشتراك أو التشابه؛ وذلك لأن هذا ليس بحسب اسم القائمة بل بحسب لفظ آخر، وهو الجسم؛ ولا يمنع أن يكون لهذا القول اسمٌ آخر موضوع؛ وليس إذا لم يكن له اسم موضوع دلَّ ذلك على أنه بحسب هذا الاسم الذى هو القائمة.
وقد يتفق أن يكون الاسم الواحد مقولا على شيئين بالاتفاق وبالتواطؤ معا، مثل الأسود إذا قيل على رجل اسمه أسود وهو أيضا ملون بالسواد، وقيل على القير؛ فإنه إذا أِخذ هذا الاسم على أنه اسم شخص الرجل، كان قوله عليه وعلى القير بالاتفاق، وإذا أخذ على أنه اسم الملون كان قوله عليهما بالتواطؤ. وقد يكون اللفظ الواحد أيضا مقولا على الشىء الواحد مع شيئين بالاتفاق والتواطؤ، كالعين للبصر مع بصر ومع ينبوع الماء وقد يكون مقولا على أشياء بأعيانها من جهتين بالتواطؤ والاتفاق، كما كان اتفق أن دل بالأسود، وهو لفظ واحد، على رجلين يسميام أسودين. والاسم الواحد قد يقال على الشىء الواحد من جهتين قولا بالاشتراك، مثل الأسود على المسمى بأسود ولونه أسود.
وربما كانت المعانى المختلفة فى شىء واحد اختلافها بالعموم والخصوص ثم يقال عليها اسم واحد فيكون مقولا بالاشتراك، وذلك من حيث يدل على معان مختلفة. ويقع بسبب ذلك غلط كثير، كما يقال ممكن على غير الممتنع وعلى غير الضرورى.
والأسماء المستعارة والمجازية إذا استقرت فَفُهِمَ منها المعنى صار حكمها حكم المشتركة، إلا أنها تكون كذلك عند من يفهم معناها، ويجب أن تكون حينئذ من جملة المتشابهات المنقولة. وكما أنها فى دلالتها قبل ذلك كانت مستعارة، كذلك كونها مشتركة قبل ذلك إنما هو بالاستعارة. والكليات كلها، إلا الجنس والنوع والفصل وحدها، فإنها تقع على جزئياتها التى تشترك فيها بالسوية وقوعا بالتواطؤ.
وليس ما يُظَنُّ من أنَّ الجنس والنوع والفصل وحدها هى التى تقع بالتواطؤ دون غيرها بشىء؛ وذلك لأن التواطؤ لم يكن تواطؤا بسبب كون المعنى ذاتيا، بل بسبب كونه واحدا فى المعنى غير مختلف. وهذه الوحدة قد توجد فيما هو ذاتى، وقد توجد فيما هو عرضى من الخواص والأعراض العامة.
وكما أنَّ للاشياء المتكثرة اعتباراً بحسب الاتفاق فى الاسم الواحد، فكذلك لها اعتبار بحسب الاختلاف فى الاسم؛ فإن الأشياء إذا تكثرت بالأسامى لم يَحْل إما أن يكون تكثرها مقارنا لتكثر مفهوماتها فيها فتسمى تلك الأمور متباينةَ الأسماء، كقولهم: حجر وإنسان وثور، وهذه هى التى تختلف بالأسامى وتختلف فى قول الجوهر الذى بحسب تلك الأسامى؛ وإمَّا أن يكون التكثر فى الأسامى ومفهوماتها واحدة، كما يقال: عسل وأَرْى، فإن مفهومات هذه كلها واحدة، فتسمى أسماء مترادفة.
والتباين قد يقع على وجوه، فيقع فى أشياء مختلفة الموضوعات، مثل الحجر والفرس؛ وقد يقع فى شىء واحد متفق الموضوع مختلف الاعتبارات؛ فمن ذلك أن يكون أحد الاسمين له من حيث موضوعه، والآخر من حيث هو له وصف، كقولنا: سيف وصارم؛ فإن السيف يدل على ذات الآله، والصارم يدل على حِدَّتِها. ومن ذلك أن يكون كل واحد من الاسمين يدل على وصٍف خاص مثل الصارم والمهند؛ فإن الصارم يدل على حدِته والمهند على نسبته. ومن ذلك أن يكون أحدهما بسبب وصف، والآخر بسبب وصٍف للوصف، كقولك: ناطق وفصيح؛ فإن الناطق يدل على وصف، والفصيح يدل على وصف الوصف.(1/47)
وفى جلة المتباينات ما يسمى مشتقة ومنسوبة، وهى التى هى من جهة ما ليس اسمها بواحدٍ ولا معناها واحدَّا؛ فهى متباينة؛ لكن من حيث أنَّ بين الاسمين والمعنيين مشاكلًة مَّ لا تبلغ أن تجعلها اسما واحدا أو معنى واحدا، فهى مشتقة. وليس هذا قسما خامسا يُحْوج إلى أن يُشترط فى المتباينات من أنها هي التى تتباين فى جميع الوجوه، فلا يكون فيها مشاركة فى لفظٍ ولا معنى؛ فإن هذا تكلفٌ ويحُوج الى زيادة أقسام؛ بل المشتقة من جملة المتباينة.
والمشتق له الاسم هو الذى لما كانت له نسبة ما، أى نسبةٍ كانت إلى معنى من المعانى، سواء كان المعنى موجودا فيه كالفصاحة، أو له كالمال، أو موضوعا لعمل من أعماله كالحديد، فأريد أن يُدَل على وجود هذه النسبة له بلفٍظ يَدُل على اللفظ الذى لذلك المعنى الأول، ولا يكون هو بعينه ليدل على مخالفة معنى النسبة لمعنى المنسوب إليه، وليس مباينا له من كل وجه فلا يصلح للإيماء إليه، خولف بين اللفظين بالشكل والتصريف مخالفة تدل بالاصطلاح اللغوى على النحو من التعلق الذى بينهما، فقيل: فصيح أو متمول أو حداد؛ أو زيدت فيه زيادة تدل على النسبة، فقيل: نحوى وقرشى؛ أو فُعِل به فِعْلٌ يوجبه اصطلاح لغةٍ دون لغة. ومن شأن هذا اللفظ الذى للثانى أن يقال له إنه مشتقٌ من الأول، أو منسوبٌ إليه، كما لو كان مأخوذا بعينه، لقيل منقول بالاشتباه، كما لو لم يُسَمَّ مَنْ فيه العدلُ عادلا بل سُمِّى عدلا أيضا، لم يكن هذا من جملة ما سموه مشتقا ومنسوبا، بل من جملة ما يقال باشتباه الاسم واتفاقه، وكان منقولا من الأول إلى الثانى لا مشتقا.
والمشتق يحتاج الى اسمٍ موضوعٍ لمعنى، وإلى شىءٍ آخر له نسبة إلى ذلك المعنى، وإلى مشاركةٍ لاسم هذا الآخر مع اسم الأول، وإلى تغييرٍ مَّا يلحقه.
ولمفَرٍِّق أن يفرق بين المشتق والمنسوب فيجعل المنسوبَ ما يدل باٍلحاق لفظة النسبة بلفظ الشىء، كالهندى؛ ويجعل المشتق ما يدل بتغييرٍ يلحق اللفظ كالمهند. ولليونانية فى الأمرين اصطلاح آخر.
الفصل الثالث
فصل ( ج )
في بيان ما يقال على موضوع
أو لا يقال ويوجد في موضوع أو لا يوجد
أقول أولا إنه ربما أوْجَب استقصاءُ النظر عدولا عن المشهور؛ فإذا قرع سمعك ذلك فظن خيرا ولا تنقبض بسبب ورود ما لم تألفه عليك. واعلم أن العاقل لا يحيد عن المشهور ما وجد عنه محيصا. وبعد ذلك فاعلم أن صفات الأمور على أقسام: لأنه إما أن يكون الموصوف قد استقر ذاته معنى قائما، ثم إن الصفة التى يوصف بها تلحقه خارجةً عنه لحوقَ عارٍض أو لازمٍ؛ وإما أن يكون الموصوف أِخذ بحيث قد استقر ذاته، لكن الصفة التى يوصف بها ليست تلحقه لحوق أمرٍ خارج بل هو جزء من قوامه؛ وإما أن يكون أِخذ بحيث لا يكون قد استقر ذاته بعد، والصفة تلحقه لتقرر ذاته وليست جزءا من ذاته؛ وإما أن يكون أِخذ بحيث لا يكون قد استقر ذاته بعد، والصفة ليست تلحقه من خارج، بل هو جزء من وجوده؛ وإما أن لا يكون قد استقر ذاته، والصفة تلحقه لا لنفس ذاته، بل لحوق لازم لما يقرره أو عارٍض له أول.
مثال الأول قولك: الإنسات أبيض أو ضحاك.
ومثال الثانى قولك: الإنسان حيوان؛ فإن الإنسان طبيعة متحصلة لا تحتاج إلى ما يقومها، بعد ما هو إنسان. وإن أشكل عليك هذا فخذ مكانه زيدا؛ ومع ذلك، فإن الحيوان جزء من ماهيته.
ومثال الثالث الهيولى والصورة؛ فإن الصورة صفة للهيولى خارجة عن ذاتها تتقرر بها ذاتها قائمةً بالفعل، ولولاها لاستحال وجودها، لاعلى أن الصورة لازمة بعد التقوم، بل مقومة مثبتة، وليست مع ذلك جزءا من الهيولى. وقد فَهِمْتَ الفصلَ بين هذين.
ومثال الرابع الجوهر للجسم المحمول على الحيوان؛ فإن الجسم مطلقا لايتقرر له وجود محصَّل لايكون بعده إلا العوارض واللواحق الخارجة، بل يحتاج إلى أمور خارجة فَصْلية تلحقه وتقوِّمه، والجوهر مع ذلك جزءٌ من ماهيته، أى جزءُ حَدِّه.(1/48)
ومثال الخامس الهيولى إذا وصفت بالبياض أو السواد أو التحيز وما أشبه ذلك، وكذلك الجسم المطلق إذا وُصُف بأنه مستعد للحركة والسكون فى الأين وغير ذلك؛ فإن الهيولى غير متقررة الوجود بنفسها، وكذلك الجسم غير متقرر الوجود فى نفسه. وهذه الأحوال ليست مما تقرر هذه أو ذاك، وإن كانت تلزم من بعد كل ما يتقرر بما تقرره أو تتبعه وتلحقه. فما كان من هذه الجملة له صفة ليست لاحقةً من خارج لتقوِّمه، بل كان الموصوف متقوما فى ذاته أو غير متقوم، فإنه يسمى موضوعا لتلك الصفة؛ فلا تكون الهيولى موضوعةً للشئ الذي يسمى صورة؛ لأنها صفة خارجية مقوِّمة للهيولى شيئا بالفعل؛ ويكون الإنسان موضوعا للحيوان، لأن الحيوان ليس لاحقا له من الخارج، وإن كان يقومه، بل هو جزء وجودهِ؛ ويكون الجسم موضوعا للبياضِ، لأنه وإن لم يتقوم بعد، فليس يتقوم إذا تقوم بالبياض، بل إنما يتقوم بأشياء أخرى؛ فهو إذا قيس إلى البياض يكون قد تقوم دونه؛ ويكون البياض موضوعا للون، لأنه ليس يتقوم به على أنه من خارج؛ ويكون جميع ما نسبته إلى الصفة ليست على نسبة شئ إلى الخارج المقوم موضوعا، سواء كانت الصفة مقومة وليست خارجة، أو كانت خارجة وليست مقومة.فيجب أن تفهم من الموضوع ههنا هذا، وإن كان قد يستعمل فى مواضع أخرى استعمالات كثيرة.
وفى هذا التفصيل فوايد: أحدها الشعور بهذا الاختلاف؛ والثانى ليكون الموضوع المستعمل فى نسبتى " فى " و " على " المذكورين بعد معنى كالجامع، ثم تفصل النسبة إليهما، أعنى إلى نسبة " فى " وإلى نسبة " على " ، وأن يكون بين العرض والصورة فرق، وأن يحتاج إلى أن يقال إن شيئا واحدا قد يكون عرضا وجوهرا؛ وهذه أشياء ستعرفها عن قريب، وتعرف ما فى إغفال هذا الأصل الذي أعطيناك من الخلل.(1/49)
فنقول: إن الأمر الذي ينسب إلى موضوع تكون نسبته إليه على وجهين: فإنه إمِّا أن يكون بحيث يمكن أن يقال إن الموضوع هو كالحيوان الذي يمكن أن يقال إن الإنسان هو، حين يقال إن الإنسان حيوان، ومثل هذا، فهو المحمول على الشئ والمحمول على الموضوع؛ وإما أن لايكون بحيث يمكن أن يقال إنه هو، بل يقال إن فيه ذلك كالبياض الذي لايمكن أن يقال لموضوعه، إذا فرِض ثوبا أو خشبة، إنه هو، فلا يقال ألبتة إن الثوب بياض أو الخشبة بياض ولأنه موجود للموضوع، فإما أن يقال: إن الثوب ذو بياض، أو يقال: إن الثوب مبيض أو أبيض. وهذا لايكون بالحقيقة محمولا بالمعنى على الموضوع كما هو، بل إنما يكون المحمول بالمعنى لفظا مشتقا من لفِظِه، أو مؤلفا من لفِظه ولفِظ النسبة، أو يكون حمله بالاشتراك فى الاسم لا فى المعنى؛ ولكن مثل هذا، وإن لم يكن محمولا على الموضوع، فهو لامحالة يكون موجودا فيه. والموضوع، لما يحمل عليه إذا اعتبر مأخوذا بنفسه، من غير إلحاقِ سُورٍ به، فإنه لايخلو إما أن يكون كليا أو جزئيا فإن كان جزئيا فالمحمول عليه إما أن يكون كليا أو جزئيا، فإن كان جزئيا لم يكن ذلك الجزئى غيره؛ فإن الجزئيين المتباينين لايحمل أحدهما على الآخر. وإذا كان كذلك لم يكن هو فى الحقيقة موضوعا ومحمولا على نفسه بحسب الطبع، بل بحسب القول واللسان، كما تقول: إن زيدا هو أبو القاسم أو هو ابن عمرو، اللهم إلا أن تعنى بابن عمرو معنى يجوز أن يشاركه فيه آخر فيكون كليا. فإن خصصته به، لم يكن ابن عمرو إلا هذا، وهذا هو زيد. وكذلك لو قلت هذا الأبيض هو هذا الكاتب، فإنما تشير إلى موضوع واحد؛ وليس كونه هذا الأبيض أولى بأن يوضع أو يحمل من الآخر، وإن كانت طبيعة الإنسان فيه أولى بأن توضع من طبيعة الكاتب، أعنى المطلقين؛ وأما هذا الكاتب فهو بعينه هذا الإنسان. وإن أخذت أحدهما، من حيث هو هذا الإنسان بلا شرط فوق هذه الإنسانية، وأخذت الآخر بإزائه كذلك أيضا، لم يحمل أحدهما على الآخر؛ فإنه ليس إنسان ما، من حيث هو هذا الإنسان، هو هذا الكاتب؛ ولا هذا الكاتب، من حيث هو هذا الكاتب، هو هذا الإنسان؛ أعنى من حيث الاعتباران المختلفان، إذا وجهت الالتفات فى كل واحد منهما إلى اعتباره الواحد مجردا بشرط أن لاتلتفِت إلى شئ آخر. ثم الاعتباران متباينان؛ ولهذا ليس هذا الكاتب، من حيث هو هذا الكاتب، هو هذا الطويل، من حيث هو هذا الطويل؛ بل أحدهما مسلوب عن الآخر؛ ولا حمل ولا وضع، وليس أحدهما موضوعا للآخر ولا مقولا عليه، أى بالإيجاب. وأما إن كان الموضوع كليا، فإن المحمول عليه بالحقيقة لايكون إلا كليا؛ فإن طبيعة الكلى لاتكون موضوعة بنفسها للشخصية من غير إلحاق سور الجزئى، وإلا لكانت الطبيعة الكلية تستحق فى طبعها لأن تكون هذا المشار إليه.
وإذا كان الأمر على هذه الصورة فيكون كل ما يقال على موضوع يلزمه أن يكون كليا؛ هذا إن كان كونه على موضوع مفهوما على ما قلناه، وإن لم يُجعل كذلك، بل جُعِل كونه على موضوع دالا على أنه مقول على كثيرين، كان هذا القول مرادفا لهذا الاسم، وكان فى ترك اللفظ المشهور، وهو لفظ الكلية ولفظ المقول على كثيرين واختراع هذا اللفظ زيادة شغل لافائدة فيه؛ وكان تصير الأمور، التى تنسب إلى أمور موضوعة لها على قسمين: أمور تقال على موضوعاتها، وأمور توجد فى موضوعاتها تكلفا قد استعمل فيه لفظ الموضوع فى موضع واحد على معنيين غير متفقين ولا متشاكلين متقاربين. وهذا شطط وفضل؛ بل الأحرى أن نسلك السبيل الذى سلكناه. وليس ولا فى واحد من السبيلين ضرورة؛ ولو قيل كلى وجزئى لكان فيه الكفاية.(1/50)
فإذ قد تكُلف هذا التكلف، فبالحرى أن نجعل له وجها مفيدا على ما أوردناه فنقول الآن: إن كل ما هو على موضوع بالحقيقة فهو كلى، وكل كلى فإنه محمول على موضوع ضرورةً؛ لأن له جزيئات بفعل أو بقوة يقال عليها الكلى هذا القول؛ وكل موجود فى موضوع فهو الذى يقال له عرض؛ وإذا كان كذلك فكل عرض فهو موجود فى موضوع؛ فإن العرض اسم موضوع لهذا المعنى؛ ولا يلزمنا فى هذه الجهة من الشناعة المنوطة بترادف الاسم ما لزم فى الجهة الأخرى التى للكلى؛ وذلك لأن تلك الجهة إذا أمكن أن يقال فيها ماقيل، ولم يكن بالترادف، بقيت هذه الجهة على الترادف، ولم تلزم الأمور التى كانت تلزم. وذلك لأن الفائدة فى استعمال لفظ الموجود فى موضوع اسما مرادفا للعرض أو قولا مرادفا لاسمه يحصل بسبب القسم الذى فى إيراده غير مرادف فائدة. على أن هذا ليس بالحقيقة اسما مرادفا للعرض بل قولا يشرح اسمه، إذ يلتفت إلى دلالة جزءٍ جزءٍ منه.
وأما الكلى فإنما يشرح اسمه قولك: " المقول على كثيرين " والمقول على موضوع اسم له معنى يلزمه أن يكون مقولا على كثيرين بالحجة التى أومأنا إليها. وأما الموجود فى موضوع فهو قول مرادف لاسم العرض، فإن العرضية ليست معناها إلا أن يكون للشئ وجود فى موضوع ويكون المعنى بالموجود فى الموضوع مانقرره بعد. وإذ تقرر هذا فنقول: إن ما ليس من الأشياء مقولا على موضوع هو الجزئى، وبالعكس؛ وما ليس بموجود فى موضوع فهو الذى نسميه الجوهر.
ثم إن قوما اشترطوا في المقول على الموضوع أن يكون ذاتيا مقوما للماهية، وفى الموجود فى الموضوع أن يكون عرضيا، إذ كان العرض عندهم والعرضى شيئا واحدا، وإن كان كثيرا ما يختلفان؛ فلم يخطر لهم فى هذا المكان كثرة اختلافهما ببال.
فهولاء حكموا بأن الأبيض إذا قيل على هذا الشىء الأبيض لم يكن مقولا على موضوع، بل موجودا فى موضوع، إذ ظنوا أن الأبيض موجود فى موضوع إذ ظنوا أن الأبيض عرض؛ بل جاوزوا هذا إلى أن قالوا: إن الكلى هو المقوم لماهية الشىء؛ فكأن غيره ليس بكل. فلنورد لفظ بعض مقدميهم فى تصحيح هذا المعنى، ولندل على الفضيحة التى فى ليتضح أن الصواب ما ذهبنا إليه. قال: وإنما قلت إن الكلى هو الذى يحمل على جزيئاته عن طريق " ما الشىء " ، وهو الذى يقال على موضوع، لأنه قد يحمل على الموضوع أشياء على غير هذه الجهة؛ مثال ذلك أن نحمل على زيد أنه يمشى، فنقول: إن زيدا يمشى؛ لكن معنى يمشى ليس يحمل على زيد على أنه أمر كلى وزيد جزئيه؛ لأنه ليس يحمل على زيد عند المسألة عنه ما هو؛ لأنه إن سأل سائل: ما هو زيد، فأجابه المسؤول:بأنه يمشى، كان جوابه له خطأ وكذبا؛ لأن معنى يمشى ليس يدل على ماهية زيد، بل إنما هو فعل من أفعاله. فانظر إلى هذا المنطقى جعل مطلوبه ودعواه أن الكلى هو الذى يُحمل على جزيئاته من طريق ما الشىء، ثم أراد أن يبين هذه الدعوى فجعل بيان ذلك من أن ما يحمل لا من طريق " ما الشىء " لا يكون كليا؛ وهذا عكس النقيض للمطلوب. ولوكان بيَنِّاً أو مسلماً لكان الأول لازما عن كثب. ثم نَصَّ المسألةَ في جزئى، وهو أنه يمشى وترك الماشى، لأن هذه المغالطة كانت تظهر فى الماشى أكثر، إذ كان الماشى اسما، وكان يمشى فعلا.(1/51)
ويجب أن لا نضايق فى هذا أيضا، بل نقول: فلما أراد أنْ يبين أنَّ " يمشى " ليس كليا، أخذ المطلوب الأول المشكوك فيه مقدمة كبرى فى بيان أنَّ هذا ليس كليا، فقال: لأن " يمشى " لا يدل على ماهيته، وكل ما لا يكون مقولا فى ماهية الشىء فلا يكون كليا، وهذا هو الأمر الذى انصرف عن المطلوب إلى بيانه على أنه والمطلوب سواء فى الحكم. فإن ظن أن هذا غير المطلوب، بل يلزم عنه المطلوب، ومن شأن القياسات أن تأخذ أشياء هى ملزومات المطلوب، إذ كانت أعرف، فيقال له: لا يخلو إما أن تأخذ هذه المقدمة فى، هذا الموضع على أنها بينة، أو تتبين أولا ثم يتبين منها المطلوب. فإن كانت بينة بنفسها، فلا يحتاج إلى تكلف هذه القياسات، بل يجب أن يؤخذ هذا، قيقال: لما كان ما لا يكون مقولا فى ماهية الشىء لا يكون كليا ، فكلُّ كلى مقولٌ فى جواب ماهو. ثم دعوى أنها بينة وأبين من أن كل كلى مقولٌ فى جواب ما هو دعوى بعيدةٌ عن العقول؛ فإن من يقول: ليس كل كلى مقولا فى جواب ما هو، يقول مع ذلك: ليس كل ما ليس مقوْلا فى جواب ما هو فليس بكلى؛ وإن كان يحتاج إلى أن تبين هى ليبين منها المطلوب؛ فلم أخذت نفسها جزء القياس الذى يبينها ليتبين بها المطلوب ؟ ثم هل لإدخال " يمشي " ههنا فائدة إلا أن يجعل ذلك مكان المحمولات على الشىء التى ليست كلية ؟ فتبين أن المحمولات لا من طريق ما هو لا تكون كلية، فكيف يكون ذلك بأن يؤخذ أن المحمولات لا من طريق ما هو ليست كلية ؟ وقد أومأ فى هذا الفصل إلى شىء ولم يفصح به، وهو أشبه ما قاله فى ما يخيل وهو أن " يمشى " ليس كليا، لأن زيدا ليس جزئى " يمشى " . فإن قوله: لأن زيدا ليس جزئيا " يمشى " هو مما يسبق إلى الذهن قبوله، إذ قد سبق إلى الذهن أن زيداً شخصٌ من نوع الإنسان، والشخص جزئي للنوع، فيسبق إلى الظن أنه جزئى للنوع، ليس جزئيا لغيره؛ كأن الشئ لايجوز أن يكون جزئى شيئين.
لكن يجب أن يحصل المفهوم من قولنا إن كذا جزئى كذا، فنقول: إن قولنا كذا جزئى كذا، معناه أنه أحد مليوصف بكذا، فيكون كذا، لايلزم أن يوصف ذلك الجزئى به وحده، فيكون كذا صفِّة له ولغيره بفعل أو قوة. فإذا كان الوصف مما يحمل عليه وحده بالفعل والقوة معا، إن كان كذلك، لم يكن هو جزئى ذلك الوصف. وأما إذا كان يوصف به هو وغيره وصفاً بمفهوم واحد، وحدَّ واحدٍ، ووصفاً على سبيل أنه هو من غير اشتقاق، فهو أعم فى الوقوع منه، وذلك أخص منه؛ فإن زيدا أخص من " يمشى " " ويمشى " أعم من زيد. فإن زيدا لايقال إلا على واحد، و " يمشى " يقال على ما يقال له زيد وعلى غيره؛ فيكون زيد أحد الأمور الجزئية التى يحمل عليها " يمشى " . وإنما نعنى بالجزئى هذا.
وأما أن المحمول العام على زيد وغيره يجب أن يكون أمرا يحمل عليه فى ذاته فهو شرط زائد لزيد على الجزئية وللصفة على الكلية. وقد أجمع الناس على أن الخواص والأعراض كلية؛ ولها، من حيث هى خواص وأعراض، جزئيات غريبة عنها؛ فإن الضحاك بالقياس إلى هذا الضحاك، من حيث هو هذا الضحاك، ليس خاصة، بل نوع ومقوم لماهيته كما علمت، بل هو خاصة للإنسان. وجزئيات الضحاك، من حيث هو خاصة هى أشخاص الإنسان. وأشخاص الناس، من حيث هى أناس، فلا تتقوم بالضحاك؛ فإنه غير داخل في ماهيتها؛ وذلك لأنه ليس يقوم ماهيته، ومع ذلك فهو كلى مقول على كثيرين هى جزيئاته، من حيث هو خاصة ثم إن كان الأبيض للإنسان و " يمشى " لزيد ليس مما يكون مقولا على موضوع، بل هو عرض، لم يخل إما أن يكون اسم العرض يقال على العرضى وعلى العرض الحقيقى باشتراك بحتٍ، لاتشكيك ولاتواطؤ فيه، أوْلا يكون مقولا بالاشتراك.
فإن كان مقولا باشتراك وجب أن تكون الأقسام بحسب المعانى أكثر من الأقسام التى يوردونها؛ إذ أصول الأقسام حينئذ تكون ستة: كلى وجزئى وجوهر وعرض، الذي بأحد المعنيين، وجوهر وعرض، الذي هو بمعنى الجوهرى والعرضى؛ وكل واحد من العرضين قد استعمل فى الأمثلة التى لهم فى هذا الباب؛ أعنى قد استعمل هؤلاء المدخلون هذه الشروط الفاسدة. لست أعنى أن أول من علمنا هذا أدخل شيئا من ذلك.(1/52)
وأما إن كان وقوع العرض عليهما بالتواطؤ، فليدلَّ على هذا المعنى؛ لكنهم اتفقوا أن الذى فى موضوع لا يشاركه موضوعه فى الحد والاسم جميعا، بل ربما يشاركه فى الاسم فقط، ولا يحمل عليه حده. ثم إذا قلنا لزيد إنه يمشى وإنه أبيض، وطلبنا حد " يمشى " وهو أنه شىء ينتقل من مكان إلى مكان بتقديم قَدَمٍ واعتمادٍ على أخرى، وطلبنا حد الأبيض وهو شىء ملون بلون مُفَرِّق للبصر، فنجد هذين الحدين كليهما مما يقال على زيد؛ فإن زيدا كما يقال له يمشى، كذلك يقال إنه ينتقل من مكان إلى مكان بتقديم قدم واعتماد على أخرى؛ وكما يقال إنه أبيض، كذلك يقال إنه جسم ملون بلون مفرق للبصر. فمن البين أن هذا الكلام مما يجب ان لا يلتفت إليه.
ويجب أن تتذكر ههنا ما قيل فى المشاركات والمباينات المتفق منهم على تسليمها إن الخمسة تحمل على تواطؤ وإن الخاصة أيضا تحمل بتواطؤ، فتعلم أنهم سريعا ما ينسون؛ اللهم إلا أن يقولوا إن المشاركة فى الحدّ هو أن يكون الحد ليس محمولا فقط، بل أن يكون حدا، فتكون الأجناس الطبيعية لا تشاركها الأنواع فى الحدود بل فى الأسماء فقط؛ فإن حدود الأجناس ليست حدوداً للأنواع؛ وأيضا فإن الأشخاص لا حدود لها، فكيف تشارك الأجناس فى الحدود. فإن تكلفوا شططا آخر وقالوا: إن المشاركة فى الحد هى أن يكون ما هو حد لأحدهما إما حدا للآخر أو جزء حد للآخر، فيكذبهم تصديقهم أن الجنس يشارك الخاصة فى أن الجنس والخاصة تحملان على ما تحتهما بالتواطؤ وبالاسم وبالحد؛ وقد أقروا كلهم بهذا.
فليس إذن معنى المشاركة في الحد هو هذا، بل أن يكون ما هو مفهومٌ للاسم وحدُّ أو رسمٌ له يحمل على الشىء الذى يحمل عليه الاسم؛ فيوصف الشىء بمعنى الاسم كما يسمى بلفظه، وإن لم يكن ذلك حدا له.
فبهذه الأشياء يتبين أنهم أغفلوا إغفالا كثيرا.ويتبين أن السبب فى ذلك ظنهم أن العرض، الذى هو أحد الخمسة، هو العرض الذى نتكلم فيه فى هذا الكتاب. بل قد يتبين بذلك أن كل معنى عام يقال على أكثر من واحد، كيف قيل، فهو كلى؛ والمعنى الخاص جزئى؛ وأن العرض الذى يقابل الجوهر هو الذى سنحده؛ وأن الأمور : إما مقولة له على موضوع، غير موجودة فى موضوع، وهى كليات أشياء هى جواهر؛فلأنها كليات، فهى تقال " على " ؛ ولأنها جواهر، فلا توجد " فى " ؛ وإما موجودة فى موضوع غير مقولة على موضوع وهى جزئيات الأعراض، فإنها، لأنها أعراض، موجودة " فى " ، ولأنها جزئية، ليست " على " ؛ وإما مقولة على موضوع، موجودة فى موضوع وهى كليات الأعراض، فإنها، بالقياس إلى جزئياتها، كالبياض بالقياس إلى بياض ما مقولة على موضوع؛ ولأنها أعراض فهى موجودة فى موضوع؛ وإما لا مقولة " على " ولا موجودة " فى " ، وهى جزئيات الجواهر، كزيد وعمرو وهذه المادة وهذه الصورة وهذه النفس؛ ولأنها جواهر، ليست موجودةً فى موضوع؛ ولأنها جزئية، ليست مقولةً على موضوع.
الفصل الرابع
فصل ( د )
في شرح حد العرض
وهو أنه موجود في موضوع
فلنبين الآن معنى قولنا الموجود فى موضوع. فقد رِسم أنه: " الموجود فى شىء لا كجزء منه، ولا يصح قوامه من دون ما هو فيه " . فقولنا إنه الموجود فى شىء يقع على أشياء كثيرة: على بعضها بالتواطؤ، وعلى بعضها بالتشكيك، وعلى بعضها بالاشتباه. وليس وقوعه على جميع تلك الأشياء وقوع لفظ متواطئ ، ولا وقوع لفظٍ مشكك، بل وقوع لفظ مشترك، أعنى إذا قيس إلى جميعها؛ ولا هذا البيان المبنى عليه بيان حَدِّىٌ ولا رسمٌ حقيقى؛ بل هو نوع من البيان المحالِ به على الاسم، كما يبين اسمٌ باسمٍ أشهر وأعرف.(1/53)
ومأخذ ذلك هو أن الجمهور يعرفون أشياء يقال لها إنها فى شىء؛ فيريد الآتى بهذا البيان أن يقول: إن هذا العرض هو الكائن فى الموضوع وإن كونه فى الموضوع ليس كذا من الكون فى شىء ولا كذا حتى يزول الاشتراك فى الاسم؛ فيبقى معنى واحد ينبه عليه بالمثال، بعد أن أزيلت الشبهة التى من اشتراك الاسم. فإن إزالة الشُّبَهِ باشتراك الاسم قد يمكن على نحوين: أحدهما أن يؤتى بالحد المراد بالاسم، أو يؤتى بالرسم؛ والثانى أن تنفى المعانى الداخلة تحت اشتراك الاسم حتى يدل على الباقى، لا من ذاته، ولكن بسلب ما ليس له. فقوله: " الموجود فى شىء " يفرق بين حال العرض وبين حال الكل فى الأجزاء؛ فإنَّ للكل صورة تمامية لا توجد قائمة بنفسها، ولكن فى أجزائها جملتها، لا فى واحدٍ واحدٍ منها، فإن العَشْرية كليةَ ما ولا توجد حاصلةً فى واحدٍ واحدٍ، بل فى الأجزاء كلها؛ فإنها، إذا توافت واجتمعت، حصلت حينئذ صورة العشرية. ويتضح لك هذا على كنهه من الفلسفة الأولى. فإذا قيل " الموجود فى شىء " فقد زالت مشابهة العرض للكلية.
ولقائل أن يقول: إن الإضافات كالمماسة وكالمؤاخاة وغير ذلك إنما توجد فى شيئين لا فى شىء واحد، فيكون جوابه ما نقوله فى موضعه من تعريفنا المضاف ز ولقائل أن يقول: إن الزمان عندكم عرض وليس فى شىء، فيكون جوابه: إنه فى شىء؛ وبيانه فى العلم الطبيعى.
ولقائل أن يقول: إن المكان أيضا عرض وليس فى المتمكن، فيكون جوابه: إنه فى شىء آخر؛ وبيانه أيضا فى العلم الطبيعى. فإن المنطقي لا يفى ببيان ذلك؛ بل يجب أن ينبه حتى لا يحسب أن هذه المقدمة، وهى أن الزمان ليس فى شىء، مسلمة؛ وكذلك غيرها.
ولقائل أن يقول: إن الكل، وإن كان قد يكون جوهرا، فإنَّ الكليَّةَ هى فى أشياء وهى عرض؛ لأن الكلية، وهى مثل العَشْرية وغيرها، لا تعدّ عندكم جواهر، بل هى أعراض، وليس وجودها فى شىء واحد؛ فيقال: إنه ليس يمنع أن يكون الموضوع الأول للعرض مؤلفاً من أشياء كثيرة تكون جملتها قد صارت موضوعل للعرض؛ وتكون تلك الجملة هى الموضوع لذلك العرض،من حيث هو جملة،وتكون، من حيث هى جملة،شيئا واحدا. فإن كانت الكلية عرضا ولها موضوع، فالموضوع الذى يحملها ليس موضوعا لها، من حيث هو أشياء، حتى يكون كل واحد منها يحمل ذلك العرض، بل من حيث هناك حاصل من اجتماعها، وإنما يمنع من أن يكون العرض فى أشياء على أن يكون الواحد منه عرضا فى كل واحد منها.
فإن قال قائل: فلِم لم يكن جوابكم فى وجود الكل فى الأجزاء هذا الجواب؟ ولِم احتجتم أن تفِصلوا بين العرض وبين الكل بأن الكل فى الأشياء، إذ ليس الكل فى واحدٍ واحدٍ منها، بل فى الجملة، وتلك الجملة واحدة، من حيث هى جملة ؟ فنقول: إن الكل ليس يجوز أن يقال لإنه فى جملة الأجزاء، لأنه نفسه جملة الأجزاء، فلا يكون مجموع الأجزاء شيئا دون الكل؛ فكيف يكون الكل فى نفسه ؟ وأما الكلية فهى التى يقال فيها ذلك، وهى حال هذه الجملة، من حيث هى جملة. وبالحقيقة فإن قول القائل " إنَّ الكل فى الأجزاء " قول مجازى، ومعناه أن وجود الكلية التى بها الكل هو ما هو فى الأجزاء، كأن الأجزاء أشياء يعرض لها هيئة ما يكون منها الكل، وتلك الهيئة هى الكلية، وتلك الهيئة عرض جامع، والكل هو المؤلف من تلك الهيئةِ والأفرادِ؛ فيكون بالعرض ما يقال للكل إنه فى الأجزاء، أى كليته فى الأجزاء وقوامه فى الأجزاء. وبالحرى أن لا تحتاج أن تشتغل بهذا الفرق كل الاشتغال إلا لما يقع من الالتباس فى بادئ الأمر بين المستعمَل بالحقيقة وبين المجازى.
وفى أمثال هذه المواضع فقد يحسن أن تعرف الفرق أيضا بين الحقيقي وبين المجازى الذي ربما لم تعرف فى بادئ الأمر أنه مجازى. ويشبه أن لاتكون بنا حاجة داعية إلى هذا الفرق.
وأظن أن الراسم الأول لم يذهب ذهنه إلى شئ فى أمر هذا الفرق، بل اخترعه المتكلفون. فيكون الوجه المتكلف لهذا الفرق هو أنه إذا قيل للكل إنه فى أمر، فإنما يقال إنه فى أشياء؛ وإن كان هو بالحقيقة لافى شئ ولا فى أشياء منها.
وأما العرضُ فإنما هو عرضٌ، لأنه فى شئ؛ فإن اتفق أن كان بوجهٍ مَّا فى أشياء، فليس هو عرضا من أجل ذلك، بل من أجل أنه فى شئ، إما مجموعها أو غير ذلك وأما الكل فإن كونه كلا إنما هو بحسب مايقال مجازا إنه فى أشياء لا فى شئ.(1/54)
فهذا وجه بيان هذا الفرق. وما أراه يحتاج إليه؛ وإن احتيج إلى ذلك، كان فرقا أيضا بين وجود العرض فى الموضوع، وبين وجود الجنس فى الأنواع، من حيث العموم، ووجوِد النوع فى الأشخاص؛ وبالجملة بينه وبين وجود الكلى في الجزيئات من حيث هو كلى.
وإذا عنينا بقولنا " الموجود فى شئ " ، أى فى شئ متحصل القوام بنفسه، قد تمت شيئيته دون ما يوجد فيه، أو يتم دونها فلا يقومه ما يحله، كان فرقا بين حال العرض فى الموضوع وحال الصورة فى المادة؛ فإن الصورة هى الأمر الذي يجعل محله موجودا بالفعل؛ ومحله ليس بنفسه شيئا بالفعل إلا بالصورة.
وقوله: " لاكجزء منه " يفرق بين ذلك وبين وجود الجزء فى الكل وبين وجود طبيعة الجنس فى طبيعة النوع الواحد، من حيث هما طبيعتان، وبين وجود عمومية النوع في عمومية الجنس، من حيث هما عامان؛ وبالجملة يفرق بين حال العرض في الموضوع وبين حال الجزئى فى الكلى الذى من هذه الجهة يقال للجزئى أنه فى الكلى؛ وكذلك يفرق بينه وبين وجود المادة فى المركب والصورة فى المركب.
وقوله: " ولا يمكن قوامه مفارقا له " يفرق بين كون العرض فى موضوعه وكون الشئ فى الزمان؛ لأن الشئ فى أى زمان فَرَضْتَه يمكنك أن تجعله مفارقا له إلى زمان آخر، ولا كذلك حال العرض فى موضوعه.
وكذلك الشئ فى المكان؛ فإن كونه فى المكان لايوجب أن يكون هو بحيث لايقوم دون المكان؛ فإنه، لا من حيث هو ذو مكان، ولا من حيث ذلك مكان، يلزم أن لايفارق ذو المكان المكانَ؛ بل إنْ كان ولابد، فلسبب آخر. وكون العرض فى موضوع، يوجب ذلك، من حيث هذا موضوع، وذلك عرض.
وكذلك كون الشئ فى الغاية؛ فإنَّ كون الشئ فى الغاية قد يفارق الغاية، كالإنسان فى السعادة، والبدن فى الصحة، والسايس فى السياسة.
وكذلك كون الجوهر فى العرض؛ فإنَّ الجوهرَ يفارق العرض ويصح له دونه قوام. وكذلك المادة ، من حيث لها معنى المادة، لايمتنع عليها أن تفارق الصورة إلى أخرى. وطبيعة الجنس قد توجد مفارقة لطبيعة النوع فى نوع آخر. على أنَّ فى مثل هذا نظراً ليس يفى به المنطق.
لكن الشكوك على هذا كثيرة، ولنذكرها ولنحلها حلا. من ذلك أن الشئ يقال إنه فى الزمان المطلق ولا يفارق الزمان المطلق؛ وأن الشئ يقال له إنه فى المكان المطلق، ولا يفارق المكان المطلق؛ والجوهر يقال إنه فى العرض المطلق كذلك، ولا يفارق العرض المطلق. وبعض الأجسام لايصح لها أن توجد إلا فى المكان الذى هى فيه وليست أعراضا، كالقمر فى فلكه. وبعض المواد لاتفارق الصورة التى لها إلى أخرى كمادة الفلك، وليست أعراضا. ولا شئَ من الصورة يصح أن يفارق المادة.
وقد قلتم: ليس كون الصورة فى المادة كون الشئ فى موضوع؛ فنقول أولا: إن معنى قولنا: ولا يمكن مفارقته لما هو فيه، أن أى موجود معيَّن منه أخذته فى الشئ المتعين الذي هو فيه موجود لم يجز مفارقته لذلك المعينّ، بل علة قوامه هى أنه فيه، لا أن يكون ذلك أمرا لزمه بعد تقوِّمه بالفعل. ولأجل هذا ما خُصذض العرض باسم الموجود فى الموضوع؛ إذ هو اعتبار الوجود؛ وخُصَّ الآخر بلفظ القول على الموضوع؛ إذ الكلى إنما يكون موجودا فى اللفظ أو فى التصَوُّرِ؛ وكلاهما قول. فهذا غرضنا فيما نقوله؛ فتزول شبهة المكان والزمان والعرض المطلقات لأجل ما اشترطناه من التعيين.
ومن جهة أن الشىء إنما يكون فى المطلقات بحسب الوهم، وكلامنا بحسب الوجود، وليس فى الوجود، كما تعلم، إلا أعيانٌ موجودة فى أعيانٍ كلها شخصية، وكلامنا فى نحو وجودها الذى لها، لا فى نحو التوهم. ولو اعتبرنا نحوَ التوهم، لم يبعد أن نجعل كثيرا من الأعراض مفارقةً للموضوعات فى التوهم. وأما القمر فى فلكه فذلك أمرٌ لزمه من خارج لزوما، لا أنَّ علة وجود القمر، من حيث هى طبيعة القَمَرِيَّة، كونه فى مكانه. ولذلك يصح أن يُفرض للقمر جزءٌ بوجهٍ ما؛ لأن كل جسم يصح أن يفرض له جزء بوجهٍ ما، وما يفرض من أجزائه يكون غير موصوف بأنه يكون فى مكان الكل أو فى مكانٍ البتة. تعلم هذا فى علم الطبيعة؛ ومع هذا، فليس ذلك لأنه فى المكان حتى يوجب كونه فى المكان أن لايفارق المكان؛ بل إنما يوِجب ذلك فيه شئ غير كونه فى المكان. وأما العرض فإنما ذلك له لأنه فى موضوع.(1/55)
وأما الصورة التي فى المادة، فإنها ليست المادة علة قوامها عند الفلاسفة المحصلين، بل علة الصورة شئ هو أيضا علة المادة، لكنها كذلك بتوسط الصورة؛ ويلزم الصورة أن تكون ذاتها ملاقيةً لما تقوِّمه موجودا بالفعل.
قال قوم: إن الفرق بين وجود الصورة فى المادة وبين وجود العرض فى الموضوع أن الصورة تكون جزاء من المركب؛ وأما العرض فلا هو جزءٌ من الموضوع ولا من المركب. وصاروا من هذا إلى أن قال قوم: إنك إن لم تِقس الصورة إلى المركب، بل إلى القابل، كانت عرضا؛ وإن قِست العرض إلى الحاصل منه ومن الموضوع كان صورة.
وهذا كلام ردئ جدا مشوَّش. وذلك لأن الرسم المقدم لم يُشْترط فيه أن العرض لايكون جزءا من شئ البتة، ولا فيه أن يكون جزءا من المركب؛ بل فيه أن لايكون جزءا من الموضوع، حين قيل إنه لاكجزء منه، أى من الموضوع، أى من الذي هو عرض فيه. فليكن هذا فرقا بين وجود العرض فى الموضوع، وبين وجود الصورة فى المركب.
وليس المطلوب هذا؛ بل المطلوب هو الفرق بين وجود العرض فى الموضوع ووجود الصورة فى المادة الذي هو اعتبار غير اعتبار وجود الصورةَ فى المركبَ منها ومن المادة. فلو كان قيل فى الرسم إن العرض موجود فى شئ لاكجزء من شئ البتة، لكان الأمر على مايقولونه؛ ولو كان مع ذلك لايكون العرض جزءا من شئ البتة، لامن الموضوع ولا من المركب، وكانت الصورة جزءا من أحدهما، وهو المركب، وليست جزءا من المادة وكان ربما فرق هذا القول؛ ولكن ليس يفهم ذلك من قولنا: موجود فى شئ لاكجزء منه، وإنما يفهم من هذا القول إنه لايكون جزءا من الشئ الذى هو موجود فيه وجود الشئ فى محله؛ وإذ ليس ذلك مقولا، وليس أيضا حقا، فما ذهبوا إليه هذيان.
وإنما لم يكن ذلك حقا؛ لأن الأعراض قد تكون أجزاء من مركبات منها ومن الجواهر؛ فقد يحدث من تركيب جوهرٍ وعرضٍ معنى مركبٌ منهما، كل واحد منهما جزءا منه، كالكرسي من الخشب ومن عارضٍ فيه، والخشب موضوع له بالحقيقة ليس بمادة؛ وكالتقعير فإنه يحدث منه ومن الأنفِ شئ وهو الأفطس فإذن هذا الأعتبار ردئ فاسد.
وههنا شئ يجب أن تميل إليه كل الميل؛ وهو إنه يشبه أن يكون هذا الرسم الذى رسم به العرض لم يعن فيه بعرضٍ ما، إذا تغلغل الإنسان فى الفلسفة، شعر به وبالفرق بينه وبين الصورة، بل عنى به معنى أعم من معنى هذا العرض، وهو المعنى الذى يعم هذا العرض والصورة، وهو الكون فى المحل، والحاصل هيئة له، سواء أكان ذلك المحل مادة أم موضوعا. فإن اسم العرض لايبعد أن يقال على الأمرين قولا يتفقان فيه وفى مفهومه بوجه؛ ولكن هذا الاشتباه ليس أمرا لامحيد عنه ولامحيص. وأما أمر المادة الكائنة فى صورةٍ، لاتفارق المادة تلك الصورة إلى غيرها، فهو أمر مشكل؛ وكإنه يعيب هذا الرسم فينقصه، إذ يجعله عاما لهذه المادة والعرض؛ ومع ذلك فإن المادة يقال إنها فى هذه الصورة بتلك الشرائط الأخرى، فيشبه أن يكون من الوجوه التى يُجاب بها عن هذا، ويكون جوابا عن أشياء أخرى أيضا، أن هذا الكتاب إنما يخاطب به الجمهور؛ فإن المبتدئ يعد فى درجة الجمهور، وهذا الرسم مبنى على لفظٍ متعارفٍ؛ وإنما تفسر أحواله بحسب اللفظ.
ثم التعارف المشهور فى استعمال لفظة " فى " ليس يتناول نسبة الصورة إلى المادة، ولا المادة إلى الصورة، بل يتناول نسبة الجواهر إلى الأعراض، كقولهم: زيد في راحة؛ ونسبة الأعراض إلى الجواهر، كقولهم البياض في جسم، مع أمور أخرى جرى التعارف بها، كالشئ فى الزمان والمكان والإناء، والجزء فى الكل، وما جرى ذلك المجرى. وإن الفرق إذا حصل، باستثناء هذه الوجوه المشهورة، لم يبق فى المشهور شئ يقال إنه في شئ غير العرض، حتى يسبقَ إذا ظن المتعلم أن ذلك الوجودَ وجودُ العرض فى الجوهر، ولا يكون.
فقد أخبرنا أن هذا التعريف بحسب اللفظ، ليس بحسب معنى جامع، وضع عاما ثم ألحق به فصول؛ وإذا كان بحسب اللفظ وتفصيله، وعلى نحو ما أخبرنا به،لم يبعد أن يُلتفت فى ذلك إلى الاستعمال الجمهوري لا على اصطلاحات، حصلت بعد تعارف الجمهور، التى يمكن أن تقع عند الإمعان فى العلوم فليس يمكن أن تُدرْك لذلك غاية.(1/56)
فإن إيقاع الاسم على الأشياء أو الاشتباه ليس مما يضبط أو يحد، إنما يضبط أو يحد مايرام فيه مراعاة المعنى أما بالتواطؤ أو التشكيك الذى ذكرناه. وكأن المادة والصورة، إذا كانتا بالصفة المذكورة لهما، لم يطلِق الجمهور اللفظ بأن إحدهما فى الأخرى، بل مع الأخرى، وخصوصا المادة فى الصورة.
فإنْ أراد مريدٌ أنْ يزول هذا الاشتباه الواقع الآن مع وجود الاصطلاحات التى تجددت بعد الاصطلاح المشهور، فيجب أن يزاد الموجود فى الشئ جاعلا إياه بصفةٍ ونعتٍ؛ فإن هذا ليس أشد تشكيكا بل اتفاقا من لفظ الموجود فى شئ؛ فتكون المادة لاتجعل الصورة بصفةٍ ونعتٍ، أعنى المادة التى فيها الشك، بل الصورة هى التى تنعتها وتصفها.
فإن قال قائل: إن الفرق هو أن المادة فى طباعها تستبدل صورة تُقَوَّمُ بها كهذه الصورة لكن الصورة ليست تزول عنها، فيكون ذلك قَسْرا عرض لها من هذه الصورة؛ وأما العرض ففى طباعه ما هو متقوم بالموضوع، وليس فى طباعه الانتقال عنه، لم يقبل منه هذا القول. فإن المادة التى فيها الشك محصل مِن أمرها فى العلوم أنها لاتقوم بلا صورة، وأنها ليس فى طباعها أن تقبل صورة أخرى، فيكون طباعها موقوفا على هذه الصورة.
على أنا ضمنا عبارتنا عن هذه التفرقةِ جهةً لاتبعد عن إصابة موقع فى الفرق؛ وهو أنا قلنا: إن المادة، لكونها مادة، لايلزمها أن تكون متعلقة مقارنة لصورة بعينها، بل ربما وجب لها ذلك لنوعيةٍ أو طبيعةٍ، كيف كانت، بعد كونها مادة. وأما العرض، فتعلقه بالموضوع لأعم معانيه، وهو كونه عرضا، وهذا أيضا مقنع.
ومما يُتشكك به أيضا أمرُ الأعراض التى لاتفارق ولايوجد الجوهر قائما دونها؛ لكنها ليست إنما لاتفارق لأن الجوهر يتقوَّم بالكون فيها، حتى لايصح قوامه دونها؛ بل ذلك أمر لازم له؛ وهو يقومها. وأما العرض، فإن معنى أنه لايفارق أنه لايصح قوامه بنفسه مفارقا؛ بل قوامه مستفاد مما لايفارق.
وأما التفريق الذى يفعله الوهم فليس فيه فرق بين الجوهر وبين العرض؛ فإن العرض قد يفرقه الوهم عن الجوهر.
ومما يتشكك على هذا الرسم هو أن من الأعراض مايفارِق الجوهر ببطلانه؛ وقد قلتم: إن العرض لايفارق الجوهر، فيقال: إنا نعنى بهذا أنه لايفارق قائما دونه وأما أنه يفارِقه بأن يبقى الجوهر ويبطل العرض فذلك مما لا ننكره، ألا ترى أنا قلنا: ولا يصح أن يكون له قوام دون ماهو فيه؟ ومما يتشكك به على هذا أن يقال: إن الرائحة عندكم عرض، فيجب ألا تقوم مفارقة للتفاحة، ونرى الرائحة تقوم مفارِقة للتفاحة فى موضوع آخر؛ فيقال فى ذلك: إن الرائحة ليست إذا وجدت فى الهواء عن التفاح فقد انتقلت عن التفاح وتركت التفاح؛ ولا الحرارة إذا وجدت فى الهواء عن النار فقد اتنقلت عن النار وتركت النار؛ بل ذلك إما على سبيل حدوث حرارةٍ أخرى ورائحةٍ أخرى فى الهواء؛ وإما على سبيل انبثاث أجزاء متحللة منها فى الهواء.
والعلم الطبيعى يصحح الحق فى ذلك. فلو كان صحيحا أن الهواء إذا أروح وإذا سخن يكون حينئذ النار والتفاح لازالت عنهما كيفيتهما، فوجدنا بلا لتك الكيفية؛ وكان صحيحا مع ذلك أن الكيفيتين لم تُعْدَمَا مِن النار والتفاح عدما بلا انتقال؛ وما وجُدنا فى الهواء ابتداء؛ بل الذى كان فى النار والتفاح قد انتقل بعينه، من غير عدّمِه ولا حدوث مثله؛ لكان هذا حقا. لكن العلم الطبيعى يبين أن الأمر ليس على هذه الصورة. فإذا لم تكن هذه المقدمة مسلمة، لم تلزم هذه المناقضة. وقصارى أمر المنطقى أَن يعرِف أن هذا لايلزم. وأما أن هذا كيف يكون، فاشتغال المنطقى بشرِحِه وبيانهِ، على ماجرت به العادة، خروجٌ عن صناعته من غير وفاءٍ يمكن أن يقع منه مايرومه.
الفصل الخامس
فصل (ه)
في مزاجات تقع بين " قول على " و " وجود في "
وأنها إلى أى شئ تتأدى(1/57)
فنقول الآن: إنه إذا حُمِل شئٌ على شئٍ حَمل المقوِل على موضوع، ثم حُمِل ذلك الشئُ على شئٍ آخر حمل المقوِل على موضوع ، حتى يكون طرفان ووسط، فإن هذا الذى قيل على المقول على الموضوع، يقال على الشئ الذى حمِل عليه المقول الأول. مثال ذلك أن الحيوان لما قيل على الإنسان حمل المقوِل على الموضوع، وقيل الإنسان على زيدٍ وعمرو هذا القول بعينه، فإن الحيوان أيضا يقال على زيدٍ هذا القول بعينه؛ إذْ زيدٌ حيوانٌ، ويشترك مع الحيوان فى حده؛ أى حد الحيوان يحمل عليه، لأن الحيوان يقال على طبيعة الإنسان، فكل مايقال له إنسان يقال له حيوان، وزيد قيل له إنسان.
وقد يُتَشكك على هذا فيقال: إن الجنس يحمل على الحيوان، والحيوان يحمل على الإنسان، والجنس لايحمل على الإنسان، فنقول: إن الجنس ليس يحمل على طبيعة الحيوان حمل " على " ؛ فإن طبيعة الحيوان ليس بجنسٍ، ولو كان طبيعة الحيوان يحمل عليه الجنس حمل الكلى، لكان يلزم ما يلزمون، ويكون كل حيوانٍ جنسا، كما لما كانت طبيعة الحيوان يحمل عليها الجسم حتى كان كل حيوان جسما،كان الإنسان جسما لامحالة، بل إن الذي تحمل عليه الجنسية هو طبيعة الحيوان عند إيقاع اعتبار فيها بالفعل، وذلك الاعتبار تجريدها في الذهن، بحيث تصلح لإ يقاع الشركة فيها. وإيقاع هذا التجريد فيها اعتبار أخص من اعتبار الحيوان، بما هو حيوان فقط، الذي هو طبيعة الحيوانية؛ فإن الحيوان، بما هو حيوان فقط، بلا شرط تجريدٍ أو غير تجريد، فهو أعم اعتبارا من الحيوان باعتبار شرط التجريد؛ وذلك لأن الحيوان، بلا شرط، يصلح أن يقرن به شرط التجريد، فيفرض حيوانا قد نٌزِع عن الخواص المنِّوعة والمشِّخصة، ويصلح أن يُقْرن به شرط الخلط، فيقرن بالخواص المنوعة والمشخصة، وأما إذا أخذ بشرط التجريد، لم يصلح أن يقرن به أحد الشرطين: أما أحدهما، فلأنه قد حُصِّل فلا يصلح تحصيله وقرنه من ذي قبل؛ وأما الثاني، فلأنه لايجتمع مع شرط التجريد. فلطبيعة الحيوان، لابشرط تجريد، ولابشرط خلط، اعتبارٌ أعم؛ ولطبيعة الحيوان، بشرط التجريد، اعتبار أخص. وإنما تقال عليه الجنسية، إذا أعتبر في الذهن بشرط لاخلطٍ بالفعل وقبول خلطٍ بالقوة، لعدم مقارنٍ عائقٍ عن ذلك، مثل فصلٍ ينوِّع وعوارض جزئية تشخِّص. وإنما تكون طبيعة الحيوان، إذا اعتبر لابشرط خلط ولا بشرط لاخلط، فلما كان الموضوع للجنسية حيوانا بشرط لاخلطٍ وبشرط التجريد، ولم يكن الحيوان، بشرط لاخلط وبشرط التجريد، مقولا على الإنسان، بل بلا شرط خلطٍ، لم يوجد الجنس مقولا على الشىء الذي هو مقول على الإنسان.
ثم الجنسية عرض في هذه الطبيعة موجود فيها وجود الشىء في موضوع. وأما الجنس فقوله على ما يقال عليه من هذه الطبيعة، أعنى على ما يخصصه به الشرط المذكور، ليس هو قول العرض على المعروض له، بل قول المركب من العرض والحامل على الموضوع له، أي ليس قول البياض على الإنسان، بل قول الأبيض على زيد. ولو كان الشئ الذي يقال عليه الجنس مما يقال على الإنسان، لم يكن يمنع كون الجنس بهذه الصفة من أن يقال على الإنسان؛ وهذا تعلمه مما يلي هذا الموضع. وبالحقيقة إن هذا يرجع إلى أن الطرف الأكبر يحمل على بعض الوسط وعلى البعض الذي لايحمل على الطرف الأصغر.(1/58)
ويجب أن تعتبر " المقول على " و " الموجود في " في هذه الأمثلة كليا، فإنك إذا جوزت الجزئى حتى يكون الطرف الأكبر على بعض من الواسطة، لم يجب فى اتفاق القولين بِ على أن يقال الطرف الأكبر على الأصغر، فإن الناطق يحمل على بعض الحيوان بِ على، والحيوان يحمل على كل فرسٍ بِ على؛ وليس يلزم أن يحمل الناطق على الفرس ِ بِ على؛ ولو اتفق أن كان بدل الجنس شئ آخر،هو على حكم الجنس وصفته، من حيث العموم، وكان يحمل على الواسطة، ماكان يمنع كونه غير ذاتى أن يحمل على ماتحت الواسطة. فإن اختلفت نسبة الطرف، الذى هو مكان الحيوان، ولنسمه الطرف الأكبر إلى الواسطة، الذى هو كالإنسان، ونسبة الواسطة إلى الطرف الآخر، الذى هو مكان زيد، ولنسمه الأصغر، وكان الطرف الأكبر مقولا على الأوسط، والأوسط موجودا فى الأصغر، فإن الجواب المشهور فيه عن المفسرين جوابان: أحدهما أنه لايُحمل على الآخر ولا فى الآخر، ومثالهم أن اللون محمول على الأبيض حملَ المحمول على الموضوع والأبيض محمول على الطائر المسمى قُقْنُس حَمْل المحمول فى موضوع. قالوا: واللون لايحمل على ققنس حمل " على " ؛ لأنه ليس من طريق ماهو، ولاحمل " فى " لما يقولون. قال بعضهم ماهذا لفظه: ولا أيضا يقال عليه حمل المحمول فى الموضوع، أعنى أنه ولا باسم يسمى ققنس. فهذا التشويش سبق إلى وهمهِ من قولهم: إن المقول " على " يعطى اسمه وحدَّه، والموجود " فى " لايعطى حدَّه بل اسمه، أنه يجب فى كل موضع أن يعطى اسمه، لا أن معناه أنه ربما اتفق أنْ شاركه الموضوع فى اسمه، حتى إذا كان عرضٌ من الأعراض كالفلسفة، موجوداً فى موضوع، أى فى النفس ولم تسم النفسُ فلسفةً، أو عرضٌ آخر لجوهر آخر فلم يسمّ مثلا الحجر صلابة، أو التفاحة رائحة، لم يكن ذلك الشئ عرضا، أو كان طبائع الأشياء تتغير بأن يجرى فى العادة فى أن يعطى اسمها وحده، دون معناها، أمورا أخرى؛ ألا يجرى ذلك فى العادة؛ حتى إذا لم يعقد اصطلاح " فى " على تسمية الأمور بأسماء أمور ليس لها حدودها، من غير أن أوجب ذلك مشاركة فى الحدود، صارت لذلك أشياء أخرى.
وأما الجواب الآخر فهو مارام رائمٌ أن يُصْلِح ما قاله هذا فقال: إن الحق فى بعض المواضع ما قال هذا؛ وفى بعض المواضع قد يُحْمل،كما يقول، الأبيضُ على أبيضٍ مَّا،لأنه ذاتى، وأبيضٌ مَّا موجودٌ فى بيضانى ما، ثم يقال للبيضانى إنه أبيض. فليت هذا القائل نفسه درى أنه يعنى بالأبيض البياضَ أو الشئ ذا البياض؛ فإنه إن عَنَى به البياض، كان كإنه قال: البياض يقال على بياض ما، وبياض ما موجود فى البيضانى، ثم البياض موجود أيضا فى البيضانى. وهذا لايفارق ذلك المثال؛ فإن اللون موجود أيضا فى البيضانى وإن عنى بالأبيض شيئا ذا بياض كان الأبيض موجودا فى البيضانى على رأيه، إذ يرى أنه وصف عرضا؛ فما أورد على أصله مثالا مخالفا لمقتضى ما أورده من يتشكك على كلامه. فأما نحن فنقول؛ إن الأول يكون على كلِّ حالٍ موجودا فى الثالث؛ فإن الشئ، إذا كان فيه اللون الأبيض، كان فيه جميع الأمور التي تقال على اللون قولا كليا، ويوصف بها اللونُ وصفاً عاما؛ وإلا كان في ذلك الشئ بياض ولم يكن فيه لون، وكان ذلك البياض ليس بلون؛ فلم يكن حمل اللون على البياض كليا، بل أى شى وجِدت فيه طبيعة عرض من الأعراض فتوجد فيه طبائع الأمور التي يوصف بها ذلك العرض وصفا كليا. ولكن إذا كان ذلك المعنى مما يقال على العرض وعلى موضوعه، إن أمكن أن يكون ذلك المعنى شيئا عاما لموضوعٍ مَّا وعرضا فيه، فيجوز أن يقال ذلك على موضوعه، لامن جهة العرض، بل الذى من جهة العرض لايقال عليه.
مثاله: أنه إذا كان الواحد مثلا يقال على العرض قول " على " حتى يقال إن البياض واحد، وكان الواحد مما يقال على البياض وعلى موضوعه، فإن الواحد حينئذ لايمتنع أن يقال على الموضوع قول " على " وليس من جهة البياض، لأن الواحد الذى قيل عن البياض هو هو البياض؛ إذ البياض هو ذلك الواحد؛ فاذْ البياض فى موضوعه، فذلك الواحد هو فى ذلك الموضوع لامقول عليه، حتى يكون من جهته واحدا، بل هو من جهته ذو واحدٍ لا واحدٌ؛ وإنْ كان في نفسه واحداً فهو واحد آخر.(1/59)
فالواحد يقال على الموضوع فى نفسه ويوجد فيه من جهة بياضه، إذ ذلك الواحد، الذى هو البياض، ليس هو الواحد الذى هو الموضوع، بل فيه؛ وهذا كالجوهر يقال على الإنسان ويقال على نفسه؛ والجوهر الذى هو نفسه لايقال عليه، بل هو موجود فيه،وإن كان كوجود الجزء لاكوجود العرض. فبينٌ أنه لايمتنع حينئذ أن يكون الشئُ موصوفاً بصفة، وشئٌ آخر فيه هو أيضا موصوف بتلك الصفة؛ فتكون الصفة مقولة عليه من جهة، ومقولة فيه من جهة؛ فإنْ لم يوجد شئ من هذا القبيل فالمانع عن ذلك فقدان هذا القسم لانفس النسبة المذكورة. وأما إذا كان الوصف المقول على العرض خاصا به، لاتشاركه تلك الطبيعة فيه، فإنه يكون موجودا فى الموضوع لاغير. وأما إذا قلبنا النسبة، فجعلنا الطرف الأكبر موجودا " فى " والطرف الأوسط مقولا " على " فالجواب المشهور أنه تارة يُحْمل حمل " فى " كالبياض فى الققنس والققنس على الققنس مَّا والبياض فى ققنس ما، وتارة لايحمل؛ كالجنس فى الحيوان، والحيوان على الإنسان؛ والجنس لايحمل على الإنسان.
ويجب أن تتذكر ماقلناه إن الجنس لايحمل على الحيوان الذى هو بعينه مقول على الإنسان؛ فى تكون الواسطة واحدة بعينها؛ وإنما يجب أن تحفظ وحدة الواسطة؛ وإن الحق هو أن الواسطة، إذا كانت واحدة. فإن الموجود فى الواسطة، إذا كان وجوده فيها كليا، كان هو موجودا فى الطرف الأصغر؛ وإن كان فى بعضها، افترقت فى الواسطة؛ فلم يجب ذلك ههنا ولا فى غيره. وليس يخرج المثال المورد من الجنس من أن يكون من جملة ما الحمل فيه هو على بعض الواسطة. وليس يجب أن يؤخذ الأمران إلا كليين فى هذه الأمثلة؛ فإنك إذا اعتبرت الوجود أو القول فى بعضٍ وفى كل تغيَّرتْ المسائل كلها.
واعلم أن الطرف الأكبر إذا كان على الأوسط، والأوسط على الأصغر، ولم يكن القول على شئٍ منهما على معنى الذاتى فالطرف الأكبر أيضا يكون مقولا على الأصغر، مثل الضحاك على كل إنسان، والماشى على كل ضحاك، فالماشى على كل إنسان؛ وإن كان الطرف الأكبر موجودا في الواسطة والواسطة موجودة فى الأصغر فالجواب المشهور فيه أن هذا ممتنع؛ وذلك لأن العرض لايحمل على العرض؛ فإذا كانت الواسطة عرضا لم يَجُزْ أن يكون الطرف الأكبر عرضا فى الواسطة، فيكون عرضا فى عرض وهذا الذى يقولونه شىءٌ لم يجب من حد العرضِ، ولا قام عليه برهان. أما أنه لا يجب من حد العرض، فلأن العرض: قد قيل إنه الموجود فى شىء بهذه الصفة، ولم يبين أن ذلك الشىء هو جوهر لا محالة أو عرض. وأما البرهام فلم يحاولوا هؤلاء إقامته فى منطقهم، ولا فى سائر علومهم، ولا أيضا هو فى نفسه مما يقوم عليه البرهان؛ فإن القَّ نقيضُ هذه الدعوى، ولا أيضا يمكنهم أن يقولوا إن هذا بيِّن بنفسه.
فأمَّ أنَّ الحقِّ نقيضُ هذه الدعوى فذلك لأن كثيرا من الأعراض إنما يوجد فى الجواهر بتوسطِ أعراضٍ أخرى كما تبين لك فى موضعه، فإن الملامسة توجد فى الجسم لأنها توجد فى السطح، والتثليث يوجد فى الجسم لأنه فى السطح، وكونه مرئيا يوجد فى الجسم لأنه فى اللون؛ وليس إذا كان الموجود فى السطح لا يوجد إلا فى الجسم الذى فيه السطح، فيكون أيضا كونه موجودا فى الجسم يمنع أن يكون موجودا فى السطح؛ كما أنَّ قولَ الحيوان على أشخاص الناس لا يمنع أن يكون مقولا على الإنسان المقولِ على أشخاص الناس، بل يجوز أن يجتمع القولان أو الوجودان معا؛ لكن أحدهما أوّل والثانى ثان؛ فإن الملاسة توجد فى السطح أولا ثم فى الجسم، والزمان يعرض للحركة أولا ثم للمتحرك. وهذه أمور تُبينِّ لك فى مواضع أخرى؛ بل ما يعرِض فى العرض يكون هو والعرض كلاهما فى موضوع العرض كونَ الشىء فى شىء، لا كجزء منه، ولا يصح قِوامهُ مفارقاَ له؛ فيكون أيضا الموجود فى موضوع هو موجود فى موضوع ثان موجودا فى الموضوع الثانى؛ فيكون بالحقيقة الموضوعِ ( " على " والموضوع ) " فى " لا يوجب أحدهما أن يكون الموضوع هو الموضوع الذى هو الجوهر؛ فإنَّ اللونَ مقولٌ على موضوعات، كالسواد والبياض وهى أعراض، والزمانَ موجودٌ فى الحركة وهى أيضا عرض. وأما الموضوعات التى هى جواهر فأمثلتها ظاهرة.(1/60)
ولنرجع إلى الرأس فنقول: كلُّ ذاتينْ يَحْصُلَ أحَدهما فى الآخر حصولا أولياَّ لا يتميز منه شىء عن الآخر، لا كالوتد فى الحائط، إذ باطن الوتد متبرىء عن الحائط، ويكون لو وقعت إشارة إلى تلك الذات لتناولتهما جميعا، فأيهما جعل صاحبه بصفةٍ وهيئةٍ ونعتٍ، فإنه أماِّ عرضٌ فى صاحبه وإما صورةٍ؛ وذلك لأنه إنْ كان صاحبه المتصف به متقوم الذات، وهذا إنما يتقوّم به، فهو عرضٌ؛ وإن كان صاحبه لم يتقوم بعد إلا به وله حق فى تقويم صاحبه فهو صورة؛ ويشتركان فى أنهما فى محل؛ لكنَّ محل أحدهما يسمى مادةً، ومحل الآخر يسمى موضوعا.
الفصل السادس
فصل (و)
كون الشيء عرضاً ووجهاً
في إفساد قول من قال: إن شيئا واحدا يكون عرضا وجوهرا من وجهين
وقد نبعث مذاهب عجيبة فى أمر العرضِ والجوهر دعا إليها الإشكال الواقع فى الفرق بين العرضِ والصورة، وظن أربابها أن الصورة أيضا فى موضوع، إذْ كان الموضوع يقال باشتراك الاسم على ما قلناه وعلى المادة، بل على المعنى الذى يعم الموضوع والمادة، الذى بالحرى أن نسميه حاملا، بل والموضوعِ الذى بالحرى أن نسميه مبتدأ فى الخبر. وسمعوا أن الصورة يكون لها استحقاق لأن تكون فى حالٍ جوهرا، ومن جهة أن اسم الكيفية اسم مشترك كما يعرف تفصيله فى الفلسفة الأولى. ثم إنهم قد سمعوا أن فصول الجواهر جواهر، وسمعوا أن فصول الجواهر كيفيات، ولم يعلموا أن فصول الجواهر إنما تسمى بهذا الاسم بالاشتراك، فظنوا أن الكيفية، التى هى المقولة التى سنذكرها بعد، تكون مشتملة على فصول الجواهر، وكانت هذه الكيفية عندهم عرضا، صارت فصول الجواهر أعراضا عندهم؛ وكانت فصول الجواهر عندهم أيضا جواهر؛ فكأن الشىء يكون عرضا وجوهرا؛ وأيضا كانت الصورة فى حامل الصورة، لا كجزءٍ منه، فكانت عرضا؛ وكانت فى الجوهر المركب جزءا منه، فكانت جوهرا؛ إذ جزء الجوهر جوهر؛ فكان الشىء الواحد جوهرا وعرضا. والبياض أيضا جزء من الأبيض، إذ الأبيض مجموع جوهر وبياض، فالبياض موجود فى الأبيض الذى هو جوهر وجود الجزء، فلم يكن فيه نحو وجودِ العرض فى الشىء؛ فهو فيه إذن جوهر؛ وهو بعينه فى موضوعه عرض، إذ هو فيه لا كجزء منه، وسائر ذلك. فتهوست طبقة وظنت ان شيئا واحدا يكون جوهرا وعرضا.
وأما نحن فنقول: إن هذا مستحيل فاسد؛ فإن هذه المقاييس كلها فاسدة. ونقول أولا إنا نعنى بالجوهر الشئ الذى حقيقة ذاتِه توجد من غير أن يكون فى موضوع البتة أى حقيقة ذاته لا توجد فى شىء البتة لا كجزء منه وجودا يكون مع ذلك بحيث لا يمكن مفارقته إياه وهو قائم وحده؛ وإن العرض هو الأمر الذى لا بد لوجوده من أن يكون فى شىء من الأشياء بهذه الصفة حتى أن ماهيته لا تحصل موجودة إلا أن يكون لها شىء يكون هو فى ذلك الشىء بهذه الصفة.
وإذ الأشياء على قسمين: شىء ذاته وحقيقته مستغنية عن أن يكون فى شىء من الأشياء كوجود الشىء فى موضوعه، وشىء لا بد له أن يكون فى شىءٍ من الأشياء بهذه الصفة. فكل شىء إما جوهر وإما عرض. وإذ من الممتنع أن يكون شىء واحد ماهيته مفتقرة فى الوجود إلى أن يكون شىء من الأشياء هو فيه كالشىء فى الموضوع، وتكون مع ذلك ماهيته غير محتاجة إلى أن يكون شىء من الأشياء البتة هو فيه كالشىء فى الموضوع؛ فليس شىء من الأشياء هو عرض وجوهر.
فلنرجع إلى شكوك هؤلاء فنقول: إن الصورة ليس لها موضوع البتة هى فيه. لأنها إما أن تكون فى المركب وهى فى المركب كجزء منه، فليست فيه كالشىء فى الموضوع. وأما فى المادة فقد بينا أنها ليست فيها كالشىء فى الموضوع. وإذا لم يكن لها وجود فى شىء يتوهم أنها فيه كالشىء فى الموضوع إلا فى هذين. وتعلم أنها ليست فى شىء من الأشياء غير هذين كالشىء فى الموضوع. فالصورة لا تحتاج ذاتها أن تكون فى شىء من الأشياء كالشىء فى الموضوع.
فليست الصورة عرضا البتة، بل هى جوهر على الإطلاق. فإن الطبيعة التى هى صورة فى النار، ليست، أعنى هذه الكيفية المحسوسة، وجودها فى النار كالجزء فى المركب؛ وهى فى مادة النار لا كشىء فى موضوع، بل كشىءٍ فى مادة.(1/61)
وفصول الجواهر، أعنى الفصول البسيطة التى لا تحمل على الجواهر التى هى مثل النطق وغير ذلك، فإنها أيضا ليست فى شىء من الأشياء، كما يكون العرض فى موضوع، لا فى النوع فإنها جزؤه؛ ولا فى الجنس، فإن طبيعة الجنس بالحقيقة ليست موضوعة ولا مادة لها، كما تعلم فى موضعه. ثم ولو كان للجنس طبيعة معينة متقررة تتصور بالفصل من خارج، لكان الجنس كالمادة التى إنما تتقوم بالصورةبالفعل، وكان الفصل كالصورة، فلم يكن عرضا البتة، ولا من المقولة التى كانت هى الكيفية؛ بل إن قيل له كيفية فهو باشتراك الاسم؛ فإن الكيفية تقال باشتراك الاسم على أشياء تقع فى مقولات مختلفة، فتسمى كل قوة وكل مبدأ فعلٍ وكل شىء يحلى شيئا ويخصصه كيفية، ولو كان كمية أو غير ذلك، وذلك باشتراك الاسم. وليست المقولة إلا واحدا من معانى الاسم المشترك التى سنوضح أن ذلك المعنى من شرطهِ أن يكون متقوما بموضوعه، فإن الاسم المشترك لا يكون جنسا البتة.
وقولهم أن العرض فى المركب هو فيه ليس لا كجزء منه؛ وكل ما هو فى شىء لا لا كجزِء منه فليس هو عرضا فيه؛ وكل ما ليس عرضا فى شىء فهو جوهر فيه؛ فهو قياسان مركبان قياسا واحدا وفيها مقدمات ثلاث إذا أضمرت النتائج.
فقوله: إن العرض فى المركب، ليس لا كجزِء منه، مسلم صحيح.
وقوله: وكل ما هو فى شىء، لا لا كجزِء منه فليس عرضا فيه، إن عنى به أن كل ما هو فى المركب لا لا كجزء منه، ليس فى نفسه عرضا وهو فيه، فهو غير مسلم؛ فإنه إذا كان فيه، لا لا كجزء منه، لم يخل: إما ان يكون شىئا ماهيته محتاجة إلى موضوع ما، فيكون حينئذ فيه ليس لا كجزء منه، ومع هذا هو عرض وهو فيه؛ وإن لم تكن ماهيته كذلك كان جوهرا وهو فيه. وإن لم يعن هذا، بل عنى أنه لا يكون هو فيه على أن ذلك موضوعة وهو فيه فى موضوع، فهذا صحيح، فتكون النتيجة أن العرض ليس فى المركب على أن المركب موضوعة وهو فيه فى موضوع.
ثم المقدمة الثالثة، وهى أن كل ما كان فى شىء وليس عرضا فيه فهو جوهر فيه، يفهم منه أيضا معان: أحدُها أن كل شىء هو فى شىء، وليس فى نفسه عرضا، وهو أيضا فيه، فهو جوهر وهو فيه، فهذه مسلمة. والثانى أن كل شىء هو فى شىء وليس فيه على أن ذلك الشىء موضوع يكون هو فيه كون العرض فى موضوْع، فيجب أن يكون بالقياس إلى كونه فيه جوهرا، فهذا غير صحيح؛ وذلك أنه ليس إذا لم يكن الشىء عرضا فى الشىء الفلانى، الذى هو فيه كالجزِء، يجب أن يصير جوهرا فيه؛ فإنه ليس ما لم يكن عرضا فى شىء هو فيه فهو جوهر فيه، بل ما لم يكنْ عَرَضاً فى نفسه، فهو جوهر فى نفسه إذ لم يكنْ الجوَهر ما ليس فى موضوع، هو ذلك المركب أو شىء آخر معّين، بل ما كان ليس فى موضوع البتة. وكونه ليس فى كذا كائناً فى موضوع لا يثبت أنه ليس فى شىء من الأشياء كائناً فى موضوع. فلو كان، إذا كان الشىء ليس فى شىء هو فيه كائناً على معنى كون الشىء فى موضوع، كان ذلك يعطىه الجوهرية بالقياس إلى ذلك الشىء، لكان هذا القدر يجعله جوهرا فيه، بل إنما كان معنى الجوهرية هو أنه ليس فى شىء من الأشياء البتة كائناً فى موضوع، لا أنه ليس فى شىء كذا كائناً فى موضوع.
فبيّن أنه إذا لم يكن الشىء فى كذا كائنا فى موضوع، كان من الواجب أن ينظر بعد ذلك: فإن كان ليس فى شىء من الأشياء غيره كائنا فى موضوع، فهو جوهر؛ وإن كان هناك شىء آخر هو فيه كالشىء فى موضوع، ثم لم يكن فى هذا الشىء، ولا فى ألف شىء آخر على أنه فى موضوع، بل على أنه فى المركب أو فى الجنس أو غير ذلك، فالشىء عرض.(1/62)
وكما أن الجوهرية لم تكن لأجل أن الشىء بالقياس إلى شىءٍ ما هو لا فى موضوع، بل لأنه فى نفسه كذلك، فكذلك العرضية ليست لأن الشىء بالقياس إلى شىء بعينه هو فى موضوع أو ليس فى موضوع، بل لأنه فى نفسه يحتاج إلى موضوع ما كيف كان وأى شىءٍ كان؛ فإذا كان له ذلك فهو عرض، وإن لم يكن ذلك الشىء هو هذا الشىء وكان هو فى هذا الشىء، لا على أنه فى موضوع، فليس يمنع ذلك أنه فى نفسه فى موضوع. وإنما هو عرض لأنه فى نفسه فى موضوع يعمّ العرضية والجوهرية، أعنى كون الشىء عرضيا للشىءِ أو جوهريا له، فذلك مما يكون على هذا الاعتبار؛ فإنه إذا أضيف إلى شىء فكان فيه، وكان كالشىء فى الموضوع فهو عرض وعرضى. أما عرض فلانّ ذاته قد حصل موجودا فى موضوع، لأنه موجود فى هذا الموضوع؛ فدَلّ ذلك على أنه محتاج فى نفسه إلى موضوع ما، إذا احتاج إلى هذا الموضوع. وأما عرضى فهو أمر له بالقياس إلى هذا الموضوع؛ فإنه بالقياس إلى هذا الموضوع غير مقِّوم له ولا جزء من وجودِه فهو عرضى.
فالشىء عرض لأنه فى نفسه مفتقر إلى موضوع؛ وعرضى لأنه لغيره بحال كذا. ولما اتفق أن كان الموضوع هذا وليس مقِّوما له فهو عرض فيه. وهذان المعنيان، وإن تلازما فى هذا الموضع، فاعتبارهما مختلف، ولكل واحد منهما مقابل آخر بوجه من وجوه المقابلة. أما للعرض فالجوهر؛ وأما للعرضى فالجوهرى؛ أى الذاتى سواء كان جوهراً كالحيوان للأنسان أو عرضا كاللون للسواد. بعد أن يكون مقوما لما هو فيه. فإذا كان العرض فى شىء لا لا كجزء بل كجزء، وهو مقوم له، فهو جوهرى فيه وليس جوهراً.
ومعنى الجوهرى الذاتى؛ فإن ذات كل شىء، كان عرضا أو جوهرا، فقد يسمى جوهرا؛ فيكون لفظ الجوهر الذى نسب إليه الجوهرى ليس يدل علىَ المعنى الذى وضعناه مقابل العرض حتى يكون الجوهرى منسوبا إلى ذلك الجوهر؛ بل يدل على الذات فيكون الجوهرىُّ مكانَ الذاتى. فهؤلاء كأنهم أخذوا الجوهر والجوهرى واحدا، فقالوا كذا جوهر فى كذا، والشىء ليس جوهراً بالقياس إلى شىء، وإن كان جوهريا بالقياس إلى الشىء الذى هو فيه.
ونقول من رأس أيضا: إنه لو كنا قلنا إن الشىء إذا قيس إلى شىء هو فيه لم يخل إما أن يكون فيه على أنه فى موضوع، أى على أنه موضوعه، أو لا يكون؛ فإن كان فهو عرض، وإن لم يكن كذلك، وهو فيه، فهو جوهر فيه، لكان هذا المذهب صحيحا؛ لكنا لسنا نقول هكذا، بل نقول: إن الشىء إذا كان فى نفسه غير مفتقر إلى موضوع البتة، هذا الذى هو فيه، إن كان فى شىء أو غيره فهو جوهر، وإن كان فى نفسه محتاجا إلى موضوع يكون فيه، أى شىء كان هذا الموضوع، كان هذا أو آخر غير هذا فهو عرض. وأظن أن من سمع هذا ثم ثبت على أن شيئا واحدا يكون جوهرا وعرضا فقد خلع الإنصاف.
تمت المقالة الأولى
المقالة الثانية
من الفن الثانى من الجملة الأولى الجنس حدا نبهت فى آخره وبالقوة معه على تحديد النوع الذى يضافيه، من غير أن جعلته بالفعل - من حيث هو مضاف - جزء حده. وأما شرح هذا التدبير فى الحدود التى للمتضايفات، وأنه لم ينبغى أن يكون هكذا، وكيف يحصل معه مراعاة ما لكل واحد من المتضايفين من خاصية القول بالقياس إلى الآخر، فسترى ذلك فى مكان آخر.
الفصل العاشر
(ى) فصل
في النوع ووجه انقسام الكلي إليه(1/63)
والنوع أيضا قد يقال فى لغة اليونانيين على معنى غير معنى النوع المنطقى؛ فإنّ اللفظ الذى نقلته الفلاسفة اليونانيين فجعلته لمعنى النوع المنطقى، كان مستعملا فى الوضع الأول عند اليونانيين على معنى صورة كل شئ وحقيقته التى له دون شئ آخر، فوجدوا صورا وماهيات للأشياء التى تحت الجنس، يختص كل واحد منها بها، فسموها، من حيث هى كذلك، أنواعا. وكما أَنَّ لفظة الجنس كانت تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، ولفظةَ النوع مطلقا كانت تتناول المعنى العامى والمعنى المنطقى، فكذلك لفظة النوع المنطقى تتناول عند المنطقيين معنيين: أحدهما أعم والآخر أخص. فإما المعنى الأعم فهو الذى يرونه مضايفا للجنس، ويحدونه بأنه المرتب تحت الجنس، أو الذى يقال عليه الجنس، وعلى غيره بالذات، وما يجرى هذا المجرى. وأما المعنى الخاص فهو الذى ربما سموه باعتبارٍ ما، نوع الأنواع، وهو الذى يدل على ماهية مشتركة لجزيئات لاتختلف بأمور ذاتية. فهذا المعنى يقال له نوع بالمعنى الأول؛ إذْ لايخلو فى الوجود من وقوعه تحت الجنس؛ ويقال له نوع بالمعنى الثانى.
وبَيْن المفهومين فرقٌ، وكيف لا ! وهو بالمعنى الأول مضافٌ إلى الجنس، وبالمعنى الثانى غير مضاف إلى الجنس؛ فإنه لايحتاج، فى تصوره مقولا على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ماهو، إلى أن يكون شئ آخر أيضا أعم منه مقولا عليه.
ومعنى النوع بالوجه الأول ليس كالجنس بمعنى النوع بالوجه الثاني، وذلك لأنه ليس مقوما له؛ إذ قد يجوز فى التوهم أن لايكون الشئ الذى هو نوع بهذه الصفة نوعاً بالصفة الثانية؛ إذ لايمتنع في الذهن أن نتصور كليا هو رأس ليس تحت كلى آخر، وهو مع ذلك ليس مما ينقسم بالفصول، كالنقطة عند قوم. وما كان حمله هكذا وعلى هذه الصورة، وجاز رفعه فى التوهم، لم يكن - كما علمت - ذاتيا، وما لم يكن ذاتيا لم يكن جنسا، بل إنْ كان لابد فهو عارض لازم له. وقد يقال لهذا نوع الأنواع؛ وليس المفهوم من كونه نوعَ الأنواع هو المفهوم من كونه نوعاً، بمعنى أنه مقول على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ماهو، وكيف ومن حيث هو نوع الأنواع. فإن النوع المطلق له كالجنس وداخل فى تحديده، وهو به مضاف إلى أنواعٍ فوقه. ثم لست أحقق أنَّ أىَّ الوجهين هو فى اصطلاح المنطقيين أقدم؛ فإنه لايبعد أن يكون أول نقل اسم النوع إنما هو إلى هذا المطلق على الأفراد، ثم لما عرض له أَنْ كان عليه عام آخر، سمى كونه تحت العام بهذه الصفة نوعية.
لكن ربما لم تكن قسمته له أولى؛ فإن الناطق وغير الناطق يقسِّم الحيوان قسمة أولية ويقسم الجسم قسمة لكنه ليس يقسمه قسمة أولية؛ فإن الجسم مالم يكن حيوانا، لم يستعد للانفصال بالنطق. ومع ذلك فإن الغير الناطق الذى تحت الحيوان لايبعد أن يدل عليه بالعُجْمة، وإن لم تكن العجمة بالحقيقة فصلا مقوِّما؛ وإذا أقيمت العجمة مقامه، لم يتم بها قسمة الجسم كما تمت قسمة الحيوان؛ فإنك تقول: كل حيوان إما ناطق وإما أعجم، وتقف عنده؛ ولا تقول:كل جسم إما ناطق وإما أعجم، وتقف عنده؛ لأن النبات والجماد جسم وليس بناطق ولا أعجم. فإن قسمت الجسم إلى ناطق وغير ناطق قسمة يكمل معها الكلام، لم يكن غيرُ الناطق دالا على المعنى الذى نقصد إليه فى قولنا: حيوان غير ناطق.
فيجتمع من هذا أن الفصول المقسمة للجنس الأسفل، ربما لم تكن مقسمة لما فوقه قسمة أولية ولا قسمة مستوفاة؛ والفصول المقسمة لما فوق، فى الأكثر من الأمر، لاتقسم ماتحت، بل تقوِّمه. مثل الجسمِ ذى النفسِ الحساسِ، فإن الحساس لايقسم شيئا من أنواع الجسم ذى النفس.(1/64)
لكنه قد يوجد فى بعض المواضع فصول تقسم ما فوق وما تحت معا وجودا بحسب المشهور، وذلك حيث يكون للجنس فصول قريبة متداخلة، فإن الحيوان يقسَّم بالناطقِ وغيرِ الناطقِ قسمة أولية، ويقسم أيضا بالمائتِ وغير المائتِ قسمة قريبة أولية، وكذلك يقسم بالماشى والسابح والطائر، فإذا ابتدِئ فَقُسِّم بأحدِ هذه الوجوه، حتى كان مثلا حيوان ناطق وغير ناطق، أمكن أن يقسم الحيوان الناطق من القسمين بالمائت وغير المائت وغير المائت؛ وإذا ابتدِئ فقسم بالماشى والسابح والطائر، أمكن أن يقسم الماشى بالناطق وغير الناطق؛ ومع ذلك فإن القسمة بالناطق وغير الناطق كان يجوز أن توافى الجنس أول شئ قبل القسمة بالمائت وغير المائت؛ والقسمة بالمائت وغير المائت كان يجوز أن توافى الجنس قبل القسمة بالناطق وغير الناطق. فما كان يبعد أن يقسم الحيوان إلى المائت وغير المائت، ثم يقسم المائت إلى الناطق وغير الناطق.
وقد بقى ههنا شئ واحد وهو أنه: هل المائت وغير المائت من الفصول الذاتية أو من اللوازم ؟ وكذلك هل الماشى ونظائره هى من الفصول الذاتية أو من اللوازم ؟ وإن كان المائت وغير المائت والماشى وما ذكر معه من اللوازم الغير المقوِّمة، فهل يمكن هذا التداخل فى الفصول الذاتية الحقيقية ؟ لكن هذا النظر مما يخلق أن لاتفى به صناعة المنطقى، فليؤخر إلى موضعه.
والأجناس العالية قد تبين من أمرها أنها لايجوز أن يكون لها فصول مقوِّمة، فلا يبعد أن يقع فى الأوهام أن الجنس العالى واحد؛ ولو كان كثيرا لانحصرت الكثرة فى جامع يحوج إلى فصل بعده. لكن الحق هو أن الأجناس العالية كثيرة؛ فلنبدأ أولا ولنضع هذه الأجناس وضعا، ثم نبحث عن أمرها بما يحوج إليه هذا النظر من البحث فنقول: إن جميع المعانى المفردة التى يصلح أن يدل عليها بالألفاظ المفردة لاتخلو عن أحد هذه العشرة. فإنها: إما أن تدل على جوهر، كقولنا: إنسان وشجرة؛ وإما أن تدل على كمية، كقولنا: ذو ذراعين؛ وإما أن تدل على كيفية، كقولنا: أبيض؛ وإما أن تدل على إضافة، كقولنا: أب، وإما أن تدل على أين، كقولنا: فى السوق؛ وإما أن تدل على متى، كقولنا: كان أمس وعام أول؛ وإما أن تدل على الوضع، كقولنا: جالس وقائم؛ وإما أن تدل على الجِدة والملك، كقولنا: منتعِل ومتسلح؛ وإما أن تدل على يفعل كقولنا: يقطع؛ وإما أن تدل على ينفعِل، كقولنا: ينقطع عن أشياء كثيرة ما هى - جوابا. ثم نقول: والمقول فى جواب ما هو قد يختلف بالعموم والخصوص فيكون بعضها أعم وبعضها أخص، فأعم المقولين فى جواب ما هو جنس للأخص، وأخصهما نوع للأعم. فإذا وجدنا النوع فهناك يقسم قسمة أخرى فنقول: إنه لا يخلو إما أن يكون النوع من شأنه أن يصير جنسا لنوع آخر، وإما أن لا يكون ذلك من شأنه، فهذه القسمة تنتهى إلى الخمسة انتهاءً ظاهرا، وتكون طبيعةُ النوِع متحصلةَ فيه، والنوع بالمعنى الآخر يدخل فيه بوجه. وأما القسمة الأولى فلم تكن كذلك.
وأما القسمة المشهورة التى لهذه الخمسة، فهى أقرب من القسمة الأولى، وذلك لأنهم يقسمون هكذا: إنّ كل لفظ مفرد إما يدل على واحد أو على كثير، والدال على الواحد هو اللفظ الشخصى، وأما الدال على الكثير فإما أن يدل على كثيرير مختلفين بالنوع، أو كثيرين مختلفين بالعدد. والدال على كثيرين مختلفين بالنوع إما أن يكون ذاتيا، وإما أن يكون عرضيا؛ فإن كان ذاتيا، فإما أن يكون فى جواب ما هو، وإما أن يكون فى جواب أى شىء هو. فيجعلون الدال على كثيرين بالنوع فى جواب ما هو جنسا، والدال عليه فى جواب أى شىء هو فصلا. وأما العرضى فهو العرض العام. ثم يقولون: إن الدال على كثيرين مختلفين بالعدد إما أن يكون فى جواب ما هو، وهو النوع، وإما فى جواب أى شىء هو، وهو الخاصة.(1/65)
فهذه القسمة منهم قد فاتها النوع بالمعنى المضاف، وفاتها طبيعة الفصل، بما هو فصل؛ بل إنما دخل فيها من الفصول ما يحمل على أنواع كثيرة، وليس ذلك هو طبيعة الفصل، بما هو فصل؛ إذ ليس كل فصل كذلك، على ما سيتضح لك، إلا أن يراعى شىء ستعرفه، وتعلم أنهم لم يراعوه ولم يفطنوا له، فليس يمكننا أن نجعل ذلك عذرا لهم، اللهم إلا أن يكون المعلم الأول راعاه. وأيضا فإن هذه القسمة لم يفرق فيها بين الخاصة وبين الفصل الذى لا يكون إلا للنوع، وفاتها الخاصة التى هى خاصة نوع متوسط بالقياس إليه، فلم يوردوا الخاصة بما هى خاصة للنوع، بل بما هى خاصة لنوع أخير، كما لم يوردوا النوع إلا نوعا أخيرا.
الفصل الحادى عشر
(يا) فصل
في تعقب رسوم النوع
فلنتحقق الآن حال الحدود التى هى مشهورة للنوع فنقول: أما النوع بالمعنى الذى لا إضافة فيه إلى الجنس، فقد وفوا حده، إذ حدوه بأنه: المقول على كثيرين مختلفين بالعدد فى جواب ما هو؛ وذلك لأن الجنس والعرض العام لا يشاركانه؛ أذ كل واحد منهما مقول على كثيرين مختلفين بالنوع، لا على كثيرين مختلفين بالعدد؛ إذ يجب أن يفهم من قولهم: مقول على كثيرين مختلفين بالعدد، أنه مقول على ذلك فقط؛ لأنك إن لم تفهم ذلك، لم يكن كونه مقولا على كثيرين مختلفين بالعدد مانعا من كونه مقولا على كثيرين مختلفين بالنوع؛ فإنَّ المقولً على كثيرين مختلفين بالنوع قد يكون أيضامقولا. على كثيرين مختلفين بالعدد. فإذا علمت إَنَّ التخصيص بهذا الاسم إنما لما لا يُقال إلا كذلك، خرج ما يقال على كثيرين مختلفين بالنوع من مفهومه. فهذا ما يفرق بينه وبين الجنس والعرض العام.فانه ليس يستحيل أن يكون الشىء الواحد له معنيان أحدهما بذاته والآخر بغيره، ولا يكون ذلك فرقا بينه وبين ذاته، إلا أن يقال إنه من حيث له المعنى الذى بذاته غيره من حيث له المعنى الآخر الذى له بغيره.
وهم لم يسلكوا فى هذا الموضع هذا السلوك؛ ولا هذا مما يحسن أن يعتبر فى هذا الموضع؛ ولا يمكنهم أن يدلوا على المعنيين المختلفين البتة بشىء غير الوجود، فإنهم لا يمكنهم أن يحصِّلوا معنى يدلون عليه بالوجود فى أحدهما هو غير المعنى الذى يدلون عليه بالوجود. فى الآخر حتى يعودوا فيضيفوا إلى أحدهما من خارجٍ بذاته وإلى الآخر بغيره؛ بل الحق هو أن الأشياء تشترك فى الثبوت والوجود بمفهوم محصَّلٍ عند الذهن.
وهذا بينٌ بنفسه لا يمكن أن يبيَّن؛ ومن ينكره فهو يغلِّط نفسه بإزالة فِكرِه عن الغرض إلى غيره؛ ولولا هذا لما صح أن الشىء لا يخرج عن طرفى النقيض؛ فإن كل واحد من طرفى النقيض كان يكون أشياء كثيرة، ولم يكن بالحقيقة طرفا واحدا؛ بل الوجود فى جميعها معنى واحد فى المفهوم.
وإذا كان كذلك، لم يكن وقوع اسم الوجود على هذه العشرة وقوع الاسم المتفق؛ وليس أيضا وقوع الاسم المتةاطىء؛ فإن حال الوجود فى هذه العشرة ليست حالا واحدة بل الوجود لبعِضها قبل ولبعضها بعد. وأنت تعلم أن الجوهر قبل العرضِ؛ والوجود لبعِضها أحق؛ ولبعِضها بأحق.(1/66)
فأنت تعلم أن الموجود بذاته أحق بالوجود من الموجود بغيره، والموجود لبعضها أحكم، ولبعضها أضعف؛ فإنّ وجود القارّ منها، كالكمية والكيفية أحكم من وجود ما لا استقرار له، كالزمان وأن ينفعل؛ فليس وقوع الوجود عليها وقوعا على درجةٍ واحدةٍ كوقوع طبائع الأجناس على أنواعها الذى هو بالتواطؤ المحض؛ فهو إذن غير جنس. ولو كان متواطئا لم يكن أيضا جنسا؛ فإنه غير دال على معنى داخلٍ فى ماهيات الأشياء؛ بل أمر لازم لها. ولذلك ما إذا تصورت معنى المثلث فنسبت إليه الشكلية ونسبت اليه الوجود، وجدت الشكلية داخلة فى معنى المثلث؛ حتى يستحيل أن تفهم المثلث أنه مثلث إِلا وقد وجب أن يكون قبل ذلك شكلا؛ فكما تتصور معنىالمثلث لا يمكن إلا أن تتصور أنه شكل أولا؛ ولا يجب مع ذلك أن تتصور أنه موجود. ولست تحتاج فى تصوِرك ماهية المثلِث أن تتصور أنه موجود كما تحتاج أن تتصور أنه شكل. فالشكل للمثلث لأنه مثلث وداخل فى قوامه؛ فلذلك يتقوم به خارجا وفى الذهن وكيف كان؛ وأما الوجود فأمر لا تقوم به ماهية المثلِث؛ فلذلك يمكنك أن تفهم ماهية المثلِث وأنت شاك فى وجوده حتى يبرهن لك أنه موجود أو ممكن الوجود فى الشكل الأول من كتاب أوقليدس. ولا يمكنك لذلك أن تفعل ذلك فى شكليته؛ فما كان مثل الشكلية فهو من المعانى المقومِة للماهية؛ وما كان مثل الوجود فليس مقوما للماهية. ولو كان الوجود لا يفارق فى ذهنك أيضا المثلث لكان أمرا لاحقا للمثلِث من خارج؛ ولذلك يستحيل أن يطلب ما الشىء الذى جعل المثلث مثلثا أو المثلث شكلا؛ ولا يستحيل أن يطلب ما الشىء الذى جعل المثلث موجودا فى الذهن أو فى خارج.
فالذاتى للشىء لا يكون له بعلةٍ خارجة عن ذاته؛ وما يكون بعلةٍ خارجةٍ فليس مقِّوما ذاتيا؛ وإن كان قد يكون من العرِضى ما حصوله ليس بعلةٍ خارجةٍ عن الماْهية، والخاصة والعرض فرق، ولا يكون بينه وبين الشخص فرق، إلا أن نضمن أنه كلىُّ بهذه الصة؛ وأيضا فإنه لا يكون بينه وبين فصل الجنس فرق.(1/67)
والذى حدَّ وقال: إنَّ النوع هو أخص كليين مقولين فى جواب ما هو، فقد أحسن تحديدَ النوع؛ وإنما يتم حسنه بأن يقال: إنه الكلى الأخص من كليين مقول فى جواب ما هو؛ تعلم ذلك إذا تدربتَ بالأصول والمواضع المقررة للحدود. فنقول الآن: الجنس منه ما يكون جنسا، ولا يصلح أن ينقلب باعتبارٍ آخرَ نوعا؛ إذ لا يكون فوقه جنس أعم منه؛ ومنه ما يصلح أن يكون نوعا باعتبار آخر إذ يكون فوقه جنس أعم منه. وكذلك النوع منه ما يكون نوعا ولا يصلح أن ينقلب جنسا؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص منه؛ ومنه ما يصلح أن ينقلب جنسا باعتبار آخر؛ إذ لا يكون تحته نوع أخص منه. فنرتب للجنس مراتب ثلاثا: جنس عال ليس بنوع ألبتة، وجنس متوسط هو نوع وجنس وتحته أجناس، وجنس سافل هو نوع وجنس ليس تحته جنس. وكذلك يكون فى باب النوع: نوع سافل ليس تحته نوع ألبتة، فليس بجنس ألبتة، ونوع عال تحت جنس الأجناس الذى ليس بنوع ألبتة، ونوع متوسط هو نوع وجنس وجنسه نوع؛ والمثال المشهور لهذا هو من مقولة الجوهر؛ فإنَّ الجوهر جنس لا جنس فوقه، وتحته الجسم، وتحت الجسم الجسمُ ذو النفس؛ وتحت الجسم ذى النفس الحيوان، وتحت الحيواِن الحيوانُ الناطق، وتحت الحيوان الناطق الإنسان، وتحت الإنسان زيد وعمرو، فزيد وعمرو وأشكالهما هى الأشخاص. والجوهر هو جنس الأجناس، إذ ليس فوقه جنس؛ والإنسان هو نوع الأنواع، إذ ليس تحته نوع؛ وما بينهما أجناس وأنواع متوسطة؛ فإنها بالقياس إلى ما تحتها أجناس،وبالقياس إلى ما فوقها أنواع؛ فإنّ الجسم نوع الجوهر وجنس للجسم ذى النفس، والجسم ذو النفس نوع الجسم وجنس الحى؛ لأنه يعم النبات والحى، والحى نوع الجسم ذى النفس وجنسٌ للحى الناطق لأنه يعم الحيوانات العجم والإنسان، والحى الناطق نوع الحى وجنس الإنسان؛ لأنه يعم الإنسان والَملَك؛ فيكون الحى الناطق هو الجنس السافل، والجوهر هو الجنس العالى،والجسم وما يليه هو الجنس المتوسط، ويكون الجسم هو النوع العالى، ويكون الإنسان هو النوع السافل، ويكون الجسم ذو النفس وما يليه النوعَ المتوسط، ويكون الجوهر بالقياس إلى ما تحته جنسَ الأجناس والجنس العالى، وبأنه لا يقاس إلى ما فوقه يكون جنسا ليس بنوع، ويكون الإنسان بالقياس إلى ما فوقه نوعَ الأنواع والنوعَ السافل، وأما بقياسه إلى ما تحته فهو أنه نوع ليس بجنس، وقياسه إلى ما تحته على وجهين: قياس إلى ما تحته من حيث هو مخمول عليها الحملَ المعلوم، وقياسٌ إلى ما تحته باعتبار أنها ليست بأنواع. وقياسُه إلى ما تحته من حيث الحمل يفيده معنى النوعية غير المضافة إلى الجنس، وهو المعنى الثانى مما ذكروه. وأما قياسه بالاعتبار الآخر فيفيده أنه نوع ليس بجنس: فهو نوع الأنواع، ونوع ليس بجنس، ونوع بالمعنى المذكور؛ ومفهومات هذه الثلاثة - وإن تلازمت - وإذ لا مذهب غير هذه الثلاثة، والثلاثة إما أن تجعل الزمان جوهرا؛ وإما أن تجعله بحيث يُحِّد بحدِّ العرض؛ فهذا القول لا يعتد به.وكذلك احتج هؤلاء وقالوا: إن حد العرِض لا يتناول الأين؛ فإن الكون فى السوق معنى واحد، ويشترك فيه كثيرون، فلا يصلح أن يكون كل واحدٍ منهم موضوعا له؛ ولا الجملة، وإلا لما وصِف به إلا الجملة. لكن الجواب عن ذلك هو هذا الجواب نفسه؛ فإن السوق، وإن كان واحدا للجميع، لأنه ليس المكان الحقيقى فتمتنع الشركة فيه، بل هو من قبيل المكان العام، فإن لكل واحدٍ كونا فيه يخصه دون الآخر؛ إذ ليس السوق أينا؛ بل السوق من مقولة الجوهر. على أنهم إن مثلوا للمكان المكان الذى هو من مقولة العرض لم يمكنهم أن يجعلوا فيه عدة أشياء. إنما الأين، إن كان ولا بد، فهو النسبة إلى السوق؛ ولكل من الذين فى السوق نسبة تخصه توافق النسبة الأخرى بالنوع وتخالفه بالعدد؛ واعتبارنا ههنا بالواحد بالعدد دون الواحد بالنوع.(1/68)
قالوا أيضا: إن المضاف ليس يوجد إلا فى موضوعين، فليس موجودا فى شىء، ولكن فى شيئين. وقالوا أيضا: إن التسلح معنى لا فى موضوع، إذ هو فى موضوعين، لأن موضوعه السلاح واللابس؛ فنقول: أما المضاف فليس على ما خمنوا فيه. أما أولا فلأن كون الشىء فى شيئين قد لا يمنع كونه فى كل واحد منهما؛ وإذا كان لا يمنع كونه فى كل واحد منهما، فليس كونه فى شيئين رافعا كونه فى شىء؛ فإنه لم يقل: فى شىء واحد فقط؛ كما أن كون الأب أبا لابنين لا يمنع كونه أبا لابن واحد؛ وكون الحيوان مقولا على أشياء لا يمنع كونه مقولا على كل واحد. نعم فى بعض الأشياء قد يكون الوجود فى الكثرة بحيث يمتنع أن يكون فى الواحد مع تلك الكثرة؛ فهنالك لا يكون الموجود فى أشياء موجوداً فى شىء واحد.
والفرق بين الموجود فى موضوع من جهة أنه موجود فى شىء وبين كون الكل فى الأجزاء أن الكل يكون فى أشياء ولا يكون فى شىء واحد منها البتة. وأما الموجود فى موضوع فليس يبعد أن يكون موجودا فى موضوعات؛ ولكنه يكون مع ذلك فى موضوع موضوع منها؛ ولا تمانع بين الحالين. فهذا إن كان ما ذهبوا إليه، من أمر وجود إضافة واحدة بالعدد مشتركة بين متضايفين اثنين بالعدد، مذهبا صحيحا. وأما الحق فسينكشف عن خلاف ذلك، وسنبين كيفيته فى مواضع نتكلم فيها فى المضاف.
وأما التسلح وما تعلقوا به فيه فالجواب عنه أن التسلح نسبة وحالة للابس عند السلاح يوصف بها المتسلح، فيقال إنه متسلح بتسلح هو وصف له؛ وإن كان بالنسبة إلى غيره. فالتسلح، وإن كان بالنسبة إلى الغير، فليس يجب أن يكون فى ذلك الغير. ففرق بين الوجود فى الشىء وبين النسبة إلى الشىء. فلا معونة لمثل هذه الهذيانات فى أن يقال إن العرض ليس بجنس، وإن كان الحق هو أن العرض ليس بجنس.
لكنهم قالوا شىئا آخر وهو أن العرض لا يدل على طبيعة البياض والسواد وعلى طبائع سائر الأعراض؛ بل على أن له نسبة إلى ما هو فيه وعلى أن ذاته تقتضى هذه النسبة؛ والجنس يدل على طبيعة الأشياء وماهيتها فى أنفسها، لا ما يلحق ماهياتها من النسبة. وهذا قول سديد. والدليل على ذلك أن لفظة العرضية إما أن تدل على أن الشىء موجود فى موضوع، فتكون دلالته على هذه النسبة؛ أو تدل على أنه فى ذاته بحيث لا بد له من موضوع؛ فهذا أيضا معنى عرضى؛ وذلك لأن نسبة هذا المعنى إلى أكثر الأعراض مثل الكيفية والكمية والوضع أمر غير مقِّومٍ لماهياتها، لأن ماهياتها تتمثل مدركة مفهومة. إليه إلا بمقارنة أمر يجعله مشاراً إليه؛ وكذلك فى العقل لا يكون كذلك إلا بأن يُلِحق به العقلُ معنى يخصصه، ثم لا يعرض له من الخارج أن يكون عاما حتى يكون ذات واحدة بالحقيقة هى حيوان، وقد عرض له فى الأعيان الخارجة أَنْ كان هو بعينه موجوداً فى كثيرين؛ وأما فى الذهن فقد يعرض لهذه الصورة الحيوانية المعقولة أَنْ تجعل لها نسب إلى أمور كثيرة، فيكون ذلك الواحد بعينه صحيح النسبة إلى عِدَّةٍ تتشاكل كل فيه، بأن يحمله العقل على واحدٍ واحدٍ منها - فأمّا كيف ذلك فلصناعةٍ أخرى - فيكون هذا العارض هو العموم الذى يعرض للحيوانية، فيكون الحيوان لهذا العموم كالخشب مثلا لعارض يعرض له من شكل أو غيره، وكالثوب الأبيض، فيكون الثوب فى نفسه معنى، والأبيض معنى، ويتركبان فيكون هناك معنى آخر مركبا منهما؛ كذلك الحيوان هو فى العقل معنى، وأنه عام أو جنس معنى، وأنه حيوان جِنْسىُّ معنى. فيُسَمون معنى الجنس جنسا منطقيا، ومفهومه أنه المقول على كثيرين مختلفين بالنوع فى جواب ما هو، من غير أن يشار إلى شىء هو حيوان أو غير ذلك، مثل أن الأبيض فى نفسه له معقول لا يحتاج معه أن يعقل أنه ثوب وأنه خشب، فإذا عُقل معه ذلك عُقل شىءٌ يلحقه الأبيض؛ وكذلك الواحد فى نفسه له معقول، فأَمَّ أنه إنسان أو شجرة فهو أمر خارج عن معقوله يلحقه أنه واحد. فالجنس المنطقى هو هذا.(1/69)
وأما الطبيعى فهو الحيوان بما هو حيوان، الذى يصلح أن يجعل للمعقول منه النسبة التى للجنسية، فإنه إذا حصل فى الذهن معقولا، صَلُح أن تعقل له الجنسية، ولا يصلح لما يفرض مُتَصَوَّرا من زيد هذا، ولا للمتصور من إنسان، فتكون طبيعة الحيوانية الموجودة فى الأعيان تفارق بهذا العارض طبيعةَ الأنسانية وطبيعةَ زيد؛ إذْ هو بحيث إذا تُصُوِّر صلح أن يلحقه عمومٌ بهذه الصفة، التى هى الجنسية؛ وليس له خارجا إلا الصلوح لها بحال. فقولهم: الجنس الطبيعى، يعنون به الشىء الطبيعى الذى يصلح أن يصير فى الذهن جنسا، وليس هو فى الطبيعيات بجنس؛ ولأنه يخالف فى الوجود غيرَه من الأمور الطبيعية بهذا المعنى، فلا يبعد أن يخصص لهذا المعنى باسم، وأن يُجعل ذلك للاسم من اسم الشىء الذى يعرض له بحال وهو الجنسية. وأما الحيوان الجنسى فى العقل، فهو المعقول من جنس طبيعى؛ وأما الجنسية المعقولة المجردة، فمن حيث هى مقررة فى العقل، هى أيضا جنس معقول، ولكن من حيث إنها شىء من الأشياء يبحث عنه المنطقى، فهو جنس منطقى؛ وليس؛ وإِنْ لم يكن لهذا الذى هو منطقى وجودٌ إلا فى العقل، يجب أَنْ يكون المفهوم من أنه عقلى هو المفهومُ من أنه منطقى؛ وذلك أنَّ المعنى الذى يُفْهم من أنه عقلى، هو غير المفهوم من أنه منطقى؛ وذلك أَنَّ المعنى المفهومَ الذى يفهم من أنه عقلى لازمٌ ومقارنٌ للمعنى الذى يفهم من أنه منطقى ليس هو هو، إذْ قد بان لك اختلافُ اعتباريهما. فالجنس المنطقى تحته شيئان: أحدهما أنواعه من حيث هو جنس، والآخر أنواع موضوعاته التى يعرض لها؛ أما أنواعه، فلأن الجنس المطلق أعمُّ من جنسٍ عال وجنس سافل، فهو يعطى كلَّ واحد مما تحته من الأجناس المتقررة حدَّه واسمه؛ إذْ يقال لكل واحد منهما إنه جنس، ويُحدِّ بحدِّ الجنس؛ وأما أنواع موضوعاته فلا يعطيها اسمه ولا حدَّه؛ كذلك ليس كونه فى مكان؛ الذى هو نسبة طرف واحد؛ هو نفس كون ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره؛ بل هو موضوع لذلك من حيث تصير النسبة شاملة للطرفين، للحاوى والمحوى. وهذا إنما يتضح لك فى باب المضاف حقيقة الاتضاح؛ وأما ههنا فهو شىء كالتنبيه غير محصَّل.
وأما قول القائل: والأطراف التى تأخذ من الكيفية شيئا، فيشبه أن يكون يعنى بهذا مقولة يفعل وينفعل، فتكون الكيفية هى الأمر الذى يسوق إليه الفعل والانفعال، ويكون الطرفان النسبتين اللتين للفاعل والمنفعل إليهما. ويشبه أيضا أن يكون يعنى مع هذين الوضع أيضا، وذلك بسبب أن الوضع يلزمه الشكل أو يلزم الشكل.
وأنت تعلم أن هذا الكلام متشوش جدا؛ فإن لفظة الأطراف لا تدل فى هذا الموضع على معنى محصل. والأخذ من الكيفية شىئا هو لفظ متشابه لا تجد تحته معنى متواطئا فيه؛ ولا أيضا يدل بالتشكيك؛ وإن كان يخيل شيئا؛ فإن من أفضل أحوال المعانى النسبية التى لا تتفق فى النوع، إذا وقع عليها اسم أن يكون على سبيل التشكيك، فقلما يوجد فيها تواطؤ صرف، وخصوصا فى مثل هذا الموضع؛ إذ الأخذ ليس له مفهوم محصل، ولا الأطراف.
ولو أن قائلا أصلح هذا اللفظ فقال: والأمور التى لها إلى الكيفية نسبة ما، كانت هذه الأمور جواهر وكمياتٍ عرض لهما نسبة إلى الكيفيات؛ فتكون الجواهر والكميات تدخلان فى مقولةٍ غير مقولتهما بسببٍ عارض يعرض لهما فيكون دخولهما فى تلك المقولة بالعرض. وما دخل فى مقولة بالعرض فليست المقولة جنسا له ولا هو نوع من المقولة. وإنما يأخذ المقولات فى هذا الموضع على أنها أجناس؛ وإنما يبحث عن دخول الأشياء فيها على أنها أنواع لها؛ وأما على سبيل غير ذلك فلا يمنع أن تدخل بعض أنواع مقولة فى مقولة أخرى. فإن لم يعنِ هذا وعِنى نسبة الجوهر والكمية أو شىء آخر، إن كان إلى الكيفية لا إلى ذات الجوهر والكمية، فليست الكيفية أولى بهذا التخصيص من الكمية. على أن لمطالبٍ أن يطالب فيقول: ولم تجعل للنسبة إلى الكميات أيضا مقولة ؟ ويلزم حينئذٍ أن تجعل النسبة إلى كل مقولة مقولة، فتتضاعف المقولات بل لا تتناهى؛ فإنه قد يمكن أن يفرض إلى المقولة، التى هى نسبة، نسبة.(1/70)
وإن قوما آخرين قالوا: إن الانفعال هى الكيفية لا غير؛ فليس التسخن غير السخونة.وما قالوه باطل؛ فإن التسخن هو سلوك إلى السخونة، فإن كان المتسخن له فى كل آنٍ سخونة، فليس تسخنه تلك السخونة، بل تسخنه إنما هو بالقياس إلى سخونةٍ مطلوبة. وبالجملة فإن التسخن هيئةٍ غير قارة والسخونة هيئة قارة.ولو كان التسخن هو السخونة، لكان التكيف المطلق هو الكيفية؛ فكان طلب الكيفية كيفية؛ فكان الطالب طالبا لما هو موجودَ له. كل هذا باطل فاسد؛ وسيتضح لك فى العلم الطبيعى. فإن كان التكيف ليس كيفية، فبالحرى أن لايكون التكييف كيفية. والتكييف هو الفعل؛ فبالحرى أن لايكون الفعل كيفية. ولو كان التسخين سخونة لكان كل ما يسخِّن يتسخَّن وكان كل مايحرِّك يتحرك، وستعلم أن هذا غير واجب. واعتبر ذلك بالعِشق؛ فإنه، كما تعلم من أمره، يحرك وليست فيه حركة.
وقد قال قوم: إن مقولة أن يفعل وأن ينفعل تجتمعان فى جنسٍ واحد هو الحركة. وستعلم فى العلوم الطبيعية أن الحركة غير موصوف بها الفاعل وأنها ليست بفعل. ولو قالوا: أن ينفعل هى جملة الحركة أو حركة، وأن يفعل هى جملة التحريك أو تحريك، لكان أقرب من أن يصغى إليهم.
الفصل الرابع
فصل (د)
في ذكر أمور أوهمت أنها إما عامة أو خارجة
في ذكر أمور أوهمت أنها إما عامة لشئ من العشرة عموم الجنس
أو خارجة عن العشرة وتتميم القول فى ذلك وههنا شكوك فى أمورٍ يدعى أنها توجد خارج هذه العشرة لاتدخل فيها، وأن منها أمورا هى أعم من عدةٍ منها: مثل الحركة فإنها تتناول الكيف والكم والأين بنحو ما؛ ومنها أمور مباينة لها: كالوحدة، التى هى مبدأ العدد؛ والنقطة، التى هىمبدأ بوجهٍ للمقادير؛ وأيضا مثل الهيولى والصورة؛ وأيضا مثل الأعدام: كالعمى والجهل، وما أشبه ذلك، ومنهم من أورد لهذا الباب أمثلة جزئية كالشمال والجنوب، والغداء والعشاء.
فنقول: أما الحركة فإنها، إن كانت هى مقولة أن ينفعل، فما زادت جنسا؛ وإن لم تكن مقولة ينفعل، فإنها لايجب أن تكون جنسا، بل يجب أن تكون مقولة على أصنافها بالتشكيك، وأن يكون ذلك هو المانع من أن تجعل الحركة هى نفس مقولة أن ينفعل، إن امتنع؛ وإلا إن لم يكن هناك مانع من هذا القبيل، فمقولة ينفعل هى بعينها الحركة. وسيرد الكلام عليه فى موضعه.
فهذا ما يقضى به فى أمر الحركة. فأما هذه الأخرى فنقول فيها قولا كليا؛ ثم نورد مايقال فيها فى المشهور؛ ثم نقول فيها الحق فنقول: إنه ليس كل وجود أشياء لاتدخل فى المقولات ضاراً فى أن المقولات عشر، بل نحو واحد منها وهو أن تكون أشياء لاتدخل فى إحدى المقولات العشر ولها أجناس أخرى هى أنواع تحتها. وإذ ليس يجب في بادئ النظر أن يكون لكل ذاتٍ موجودة مشارك فى الحد هو آخر غيرهُ موجوداً حتى تكون تلك الذات موجودةً، فليس يجب أن يكون لكل شئ نوع مقول على كثيرين بالفعل. ولو كان أيضا لكل شئ نوع مقول على كثيرين بالعدد، لم يجب أن يكون مع ذلك النوع نوع آخر مشارك له فى ماهيةٍ مشتركة، حتى يكون هناك جنس، فلا يمتنع أن تكون أمور مفردة لامشارك لها فى نوعها، وأنواع إنما هى أنواع بالقياس إلى ماتحتها، ولا قياس لها إلى مافوقها حتى تكون هى أنواع أجناسٍ فوقها. وإذ كان العقل الأول لايمنع هذا فليس مستحيلا ظاهر الاستحالة بنفسه. وإذ ليس كذلك، فإن كانت أشخاص مفردة لا أنواع لها البتة، ولا أجناس على الشرط المذكور، وأنواعٌ لا أجناس لها، لم يكن شئ من ذلك داخلا فى مقولة، وكان مع ذلك حقاً ما قيل من أن المقولات هى هذه العشرة؛ إذ الخارج عنها ليس بمقولةٍ فى نفسه ولا فى مقولة غيرها. ومثال هذا أنه لو قال قائل: إنه لا بلاد إلا عشرة بلاد فوجد قوماً بداة لايتمدنون، لم يصر وقوعهم خارجا عن هذه البلاد سببا فى أن لاتكون هذه البلاد عشرةً. فلو سلمنا أن جميع ما أوردوا خارج عن المقولات، لم يكن ذلك موجبا أن لاتكون المقولات عشرا فقط، إلا أن يصح أن لتلك الأشياء أجناساً خارج العشرة.(1/71)
وبعد ذلك، فإن الأجوبة المشهورة عن هذه بعضها يسلم أن هذه الأشياء خارجة عن العشر؛ ولا تتكلف نوعا آخر من الجواب، وخصوصا ماكان منها يجرى مجرى المبادئ، كالوحدة والنقطة والهيولى والصورة؛ فإنهم يزعمون أن المبادئ لاتدخل فى شئ من المقولات؛ وذلك لأن هذه المبادئ هى مبادئ المقولات؛ و مبادئ المقولات؛ لو دخلت فى المقولات؛ لكانت مبادئ لأنفسها. وبعضها لايسلم خروج المبادئ عن المقولات؛ بل يجعل المبدأ وذا المبدأ في مقولة واحدةٍ ويقول: إن الوحدة من جملة الكم؛ وإن الواحد فى العدد، والعدد كم؛ وكذلك النقطة في الخط، والخط كم. وكذلك يقولون فى الأعدام، وإنها من مقولات ملكاتها، كالعمى من الكيف، والسكون من مقولة أن ينفعل، إن كانت الحركة من مقولة أن ينفعل. وشرذمة من المتخلفين يأتون فيجعلون للشئ الواحد مقولات كثيرة فيقولون مثلا: إن النقطة، من حيث هى طرف الخط، فمن المضاف؛ ومن حيث هى هيئة ما، فهى من الكيف؛ وإن الشمال من حيث هو جسم، فهو من الجوهر؛ ومن حيث هو متحرك، فهو من مقولة أن ينفعل؛ ومن حيث هو مختص بأحد القطبين، فهو من الأين؛ والتغذى، من حيث هو تحريك، فهو من مقولة يفعل؛ ومن حيث هو للمتغذى، فهو من المضاف؛ ومن حيث هو فى زمانٍ مخصوص، فهو من مقولة متى. فعلينا أن نتأمل ماتقوله طائفة طائفة من هؤلاء الذين اقتصصنا آراءهم فنقول: إن الذين يزعمون أن هذه المبادئ مبادئ للمقولة بأسرها، فلا تكون من المقولة، يجازفون فى قولهم مجازفة مطلقة. أما أولاً فليست الوحدة مبدأ للكمية بأسرها؛بل هى مبدأ لنوع منها، وهو الكم المنفصل. والنقطة أيضا، إن كانت مبدأ لها فليست مبدأ للكمية بأسرها بل للمقدار. على أنه سيتبين لك فى استقصائك للمعارف أنه ليست حال النقطة كالوحدة، فإن الوحدة مبدأ للعدد على أنها علة؛ ومبدأ على أنها طرف؛ وليست النقطة كذلك؛ فإنها ليست البتة علة للمقدار؛ بل هى مبدأ على أنها طرف. وإنما يظن أن النقطة علة للخط قوم متقاعدون عن الحقائق، أزالتهم التمثيلات والتخيلات التى تستعمل فى تفهيم النقطة عن الجادة؛ ومع ذلك فإنهما لو كانتا مبدأين، لم يكن نفس كونهما مبدأين يوجب أن لايكونا، أعنى النقطة والوحدة، من الكم، حتى كان يكون الكم أعم من المتصل والمنفصل حينئذٍ؛ إذ يقع على النقطة والوحدة؛ وكان يكونان مبدأين عليين للمتصل والمنفصل كما هما الآن، ولم يكونا مبدأين لجميع مقولة الكم. وهل يسلم من يجعل النقطة والوحدة فى مقولة الكم إنهما مبدآن للكمية بأسرها ؟ هذا إنما يسلمه من يجعل الكم مقتصر الحمل على المتصل والمنفصل فقط، حتى يكون ماهو مبدأ لهما مبدأ لجميع ما فى المقولة. ولو أنه سلم هذا لظهر له أن الوحدة والنقطة ليستا بكميتين؛ من غير أن يحتاج إلى اعتبار المبدئية. وإذ يتشكك فى هذا متشكك فقد يشكك فى ذلك، فكيف تقبل أن الوحدة والنقطة مبدآن لجميع الكمية، إلا أن طريق الحق فى هذا هو أن تنظر: فإن كان رسم الكمية مما يقال على الوحدة والنقطةِ، وكان المقول مع ذلك ذاتيا وجزءا لحد كل واحدٍ من الوحدة والنقطة، فالكمية جنس لهما، كانا مبدأين أو لم يكونا؛ فإن كانا مبدأين لم يكونا حينئذٍ مبدأين لجميع الكميات، بل لما يعدهما؛ وإن كان لايقال أو يقال قولا غير ذاتى، فليست الكمية جنسا لهما.
فإذا فعلت هذا، فإنك تجد رسم الكمية غير مقولٍ على الوحدةِ والنقطةِ، وتجد رسم الجوهر مقولا على الهيولى والصورة. وسيأتيك رسم الكمية من بعد، فاعتبر ماكلفناكه هناك.وأما رسم الجوهرِ فقد مر لك أنه الموجود لا فى موضوع. وتجِد هذا الرسم مقولا على الهيولى والصورة قولا ذاتيا، فتجد الهيولى والصورة داخلتين فى مقولة الجوهر، وهما مبدآن لبعض ما تقال عليه المقولة، وهو الأجسام الطبيعية؛ فلا كون الشئ مبدأ ما مانع من أن يشارك ماهو له مبدأ فى المقولة، ولا كونه مبدأ موجب ذلك؛ بل المعتمد اعتبار حاله عند رسم المقولة.
ولو كانت النقطة يمتنع أن تشارك المقادير فى الجنس الأعلى، الذى هو الكم، بسبب المبدئية لكان الخط أيضا يمتنع أن يشارك السطح والجسم فى الجنس الأقرب، الذى هو المقدار. ولذلك كانت العشرة يمتنع أن تشارك المائة فى الجنس الأقرب؛ الذى هو العدد؛ فإن العشرة من المائة كالوحدة من العشرة.(1/72)
نعم، ههنا شك واحد فى حله قانون مفيد يعرفك من أحوال المقولة وأحوال ماهو محمول بالمعنى وليس بمقولة، ما تحتاج إليه ضرورة، وهو أن لقائل أن يقول: إنكم قد قلتم إن الموجود ليس بجنس؛ لأن وقوعه على ماتحته من المقولات بتقدمٍوتأخرٍ واختلافٍ. فيجب أن لايكون أيضا الجوهر جنسا للهيولى والصورة والجسم؛ فإن الهيولى والصورة أقدم بالطبع من الجسم؛ فليس قول الجوهر عليها بالسوية؛ بل هو بتقدمٍ وتأخر.
وقد يعرض هذا التشكيك أيضا فى غير ذلك؛ فإنه قد يعرض بسبب أن بعض الكميات قبل بعض، كالخط فإنه قبل السطح، والثلاثية فإنها قبل الرباعية؛ وكذلك عسى أن يكون الأمر فى أنواعٍ أخرى من مقولاتٍ أخرى.
فيكون حينئذٍ ليس المانع من كون الهيولى والصورة في جنس الجسم هو حال مبدئية أولا مبدئية بالقصد الأول، بل قول الجنسِ عليهما وعليه بغير السوية فنقول: إن التقدم والتأخر جزئيات يشملها معنى واحد لا يخلوان إما أن يكونا فى المفهوم لهما من ذلك المعنى أو تلك المقولة أو فى مفهوم آخر. أما الذى يكون فى المفهوم من ذلك المعنى، فمثاله تقدم الجوهر على العرض فى المعنى المدلول عليه بلفظة الوجود، إذا قيل لهما موجودان؛ فإن الوجود للجوهر قبله للعرض؛ وهو، أعنى الجوهر، علة لأن كان العرض موجودا حاصلا له المعنى المفهوم من الموجود. وأما الثانى فمثل تقدمِ الإنسان الذى هو الأب على الإنسان الذى هو الابن، اللذين هما تحت نوع الإنسان معا؛ فإن الأب يتقدم بالزمان وينقدم بالوجود؛ وليس الزمان هو داخلا فى معنى الإنسانيةِ ولا الوجود داخلا فيها. فأما حد الإنسان، فإنه من حيث حد الإنسان، فهو لهمل بالسواء؛ وإن كان وجود الإنسانية لهذا قبل بالزمان، وللآخر بعد، لا فى أنها إنسانية بل فى أنها موجودة. وأما بحسب النظر فى الإنسانية، فليس أحدهما فى أنه إنسان قبل الآخر فى أنه إنسان وعلة له، لست أقول فى أنه موجود إنسانا.وبالجملة فلا شئ جعل زيدا، الذى هو ابن عمرو، إنسانا؛ فإنه لماهيته إنسان؛ فإنه مستحيل أن لا يكون زيد إنسانا؛ ولذلك لا علة له فى أنه إنسان؛ لا أبوه ولا غيره. وليس بمستحيلٍ أن لايكون موجودا؛ فلذلك له علة فى أنه موجود. وكذلك البياض ليس إلا لذاته هو لون؛ لكنه ليس لذاته موجودا.
ومن حق الجنِس أن يقال على أنواعه بالسويِة فتشترك فى هذا المعنى المفهوِم عنه؛ وأما إن اختلفت بالتقدم والتأخر فى مفهومٍ آخر غيرِه، فليس ذلك بممتنعٍ ولا مانعٍ أت تتشابه الشركة فى مفهوم الجنس؛ فيكون الجنسُ جنسا. ولذلك لا يجب أن يباين الأبُ الابنَ فى مقولة الجوهر أو نوِع الإنسان؛ لأن الأب أقدم منه بالعلية أو الزمان. وليست إنسانيته أقدم من إنسانيتِه فى أنها إنسانية ولا علة لها.
وكذلك الحال فى نسبة الهيولى والصورة إلى الجسم؛ فإن الهيولى والصورة ليستا بسببين لكون الجسم جوهرا؛ فإن الجسم لذاته، لا لعلة من العلل ولا لسبب من الأسباب، ما هو جوهر ومقول عليه معنى الجوهرِ؛ لكنه فى وجوده محتاج ألى أسبابٍ فى وجوده. ولا جوهرية شىءٍ، فى أنها جوهريته، تكون علة لجوهريةِ شىءٍ حتى يصير الجسم لجوهريةِ المادة والصورة جوهرا، لست أقول جوهرا موجودا. ولا الثلاثية أيضا، فى أنها عدد تكون علة كون الرباعية عددا، لست أقول كونها عددا موجودا، بل كل واحدٍ من المثالين علة لما بعده فى الوجود، فقد يكون وجود شىءٍ علة لوجود شىء، وإن لم تكن الماهية له أولاً ونسبته للآخر ثانيا؛ فتكون تلك الماهية إنسانيته؛ لأن هذه ماهية إنسانيتهِ؛ كما يصح أن يكون العرض موجودا لأن الجوهر موجود؛ ولذلك ما يمنع أن يكون الموجود جنسا، إذ كان معناه يوجد للجوهر وبتوسطه للعرِض؛ ولذلك ليست الهيولى ولا الصورة أخلق بأن تكون موجودة لا فى موضوع من الجسم، ولا شك فى ذلك، وإن كانا أخلق بالوجود منه وأشد فيه.
فقد تبين إذن أن تقدم الثلاثة على الأربعة إنما هو فى الوجود؛ وهو غير معنى العدد، وليس ذلك فى معنى العدد. وكذلك تقدم الهيولى والصورة على المركب هو فى الوجود؛ وهو غير معنى الجوهرية.(1/73)
فمعنى المقولة إذن إنما يتقدم الأنواع ويتأخر عنها لا لنفسه، بل لمعنى يضاف إليه فيه التقديم والتأخير وهو الوجود. فهذا أصل نافع لك فى معرفة الفرق بين تقدم أنواع المقولة بعِضها على بعض الذى لا يمنع كون المقولةِ مقولة لها وبين تقدمِ أصناف الموجود، وما يجرى مجراه، بعِضها على بعض، الذى يمنع كون الموجود، أو مايجرى مجراه، مقولة لها.
وقد علمت من تحصيل ما سلف لك ذكره واتضح لك أن الوحدة والنقطة ليستا من الكم؛ وأن المادة والصورة هما من الجوهر. وأما قولهم إن الوحدة فى العدد، والعدد من الكم فالوحدة من الكم، فهو قول المجازفين أيضا. فليس كل شئٍ يوجد فى نوعِ مقولةٍ فهو منها، وإلا فالأعراض كلها جواهر؛ إذ هى موجودة فى أنواع الجواهر. بل لو كانت الوحدة موجودة فى العدد وجود النوع فى الجنس، ثم كان العدد نوعا من الكم لكان يجب أن تكون الوحدة من مقولة الكم؛ فإما إذا كانت الوحدة فى العدد وليست بعددٍ؛ ثم حُمِل على العددِ شئ؛ فليس يجب أن يحمل عليها؛ فليس ما قالوه واجبا. ولو كان ما قالوه واجبا؛ لكان بالحرى أن تكون يد الإنسان إنسانا، ورجل البقرة بقرة أ حيوانا.
وأما المبحوث عنه مِن حالِ العدم فيكشفه إذا عرِف أن العدم قد يقال على الضد وقد يقال على العدم الذى ليس بِضد؛ فأما الأعدام التى يعنى بها الأضداد، فإن الأضداد قد تسمى أعداما، كما ستعرفه. فهى تشارك المقولة. فأما الأعدام الحقيقية، فإنها ليست ذوات، بل أعدام ذوات. والمقولات هى مقولات ذوات وأمور وجودية؛ والأعدام لا حصة لها من الوجود والحقيقة. وإنما وجودها فى موضوعاتها وجود بالعرض كما يتبين. فإن دخلت فى مقولة دخلت بالعرض؛ والدخول فى المقولة بالعرض ليس دخول النوع فى المقولة، لأن النوع يدخل فى جنسه بالذات. وإذا لم يكن وقوع المقولة على الشئ وقوع الجنس، لم تكن جنسا له؛ وإذا لم تكن جنسا له، لم تكن مقولة بالقياس إليه حتى تشمله شمول المقولة لما تحتها من الأنواع. فالأعدام لا تدخل فى هذه المقولات.
واما ما قيل فى الشمال والجنوب وفى التغذى، فينبغى أن تعلم أولاً أن ظنون هؤلاء المتخلفين بأن الشئ يدخل فى مقولاتٍ شتى ظنون فاسدة؛ وذلك أن لكن شئ ماهية وذاتاً واحدة؛ وإِن كانت له أعراض شتى. ويستحيل أن تكون الماهية والذات الواحدة، من حيث هى تلك الذات والماهية، تدخل فى مقولةٍ ما وفى مقولة أخرى ليست هى؛ لأنها إِن تقومت فى ذاتها بأنها جوهر، امتنع أن تُقَوَّم بأنها ليست بجوهر. فإن دخلت فى مقولةٍ بذاتها ودخلت فى أخرى بالعرِض، فلم تدخل فى الأخرى دخول النوع فى الجنس: لأن الأمر الذى بالعرِض لا يقوِّم جوهر الشىء؛ وما لا يقوم جوهر الشىء لا يكون جنسا له؛ وما لا يكون جنسا للشىء لا يكون مقولة تشمله.
وقد يغلِّط فى هذا الباب شىء واحد؛ وهو ما لقائلٍ أن يقوله إن للجسم، بما هو جسم، حقيقة ذات؛ وبما هو أبيض، حقيقة ذاتٍ لا محالة ليست هى حقيقة ذاتِ الجسم، فإن كان الجسم جزءا منه، وكان معنى الأبيض أنه جسم أبيض؛ أو كان لازما لجزء منه؛ إن كان الأبيض ليس جسما أبيض، بل شيئا هو أبيض، لكن يلزم أن يكون ذلك الشىء جسما، فيجوز أن يكون لهذا الذى هو جزء أو لازم مقولة تقال على ذاته. وأما الأبيض فهو شىء غيره، وإن قارنه وله حقيقة ذات غير حقيقة ذاته. وليست المقارنة بموجبة أن لا تتغاير الذوات؛ فيجب إذن أن يكون للأبيض، بما هو أبيض، مقولة تخصه ذاتية له.
وهذا الشك ينحل من وجوهٍ ثلاثةٍ: أحدهما أنه يجب أن تعلم أنه ليس كل معنى اقترن بمعنى يوجِب أن يجعل له ذاتا أحدية تصلح أن تجعل مستحقة الوقوع فى جنسٍ مفرٍد أو لحصوله جنسا مفردا. فإذا كان هذا غير مسلّمٍ، لم يلزم ما ذهب إِليه المتشكك.(1/74)
ومما يتضح به أن هذا غير مسلمٍ فهو مِن وجهين: أحدهما أنه لو كان هذا حقا، لكان الإنسان مع البياض، بل الإنسان مع الفِلاحة، سيصير ذاتا متحدة، وهى كلية، ويجب لها أن تكون نوعا يجب له أن يصير الإنسان جنسا. والثانى أنه لو كان هذا حقاً، كان يكون الجوهر مأخوذاً مع كل مقولةٍ مقولةٍ تحدث على حِدةٍ غيرِ المقولات الأخرى، إذ كان ذلك لا يقال عليه شىء من المقولات التسع قول التواطؤ؛ فإن ذلك ما كان يكون كيفية، ولا يحد بحدها، وإن كان يكون مكيفا، ولا كمية، ولا يحد بحدها، وإن كان يكون ذا كم؛ فإن الذات إذا حصلت بالفعل، فما يلحقها لا يحدث لها نوعية مخصوصة، ولا جنسية مخصوصة، لأن ماهيتها الذاتية تكون واحدة مستقرة، ولا يصير لها ماهيات أخرى بالنسبِ والإضافات العرضِية.
وأما الوجه الثانى من الأوجه الثلاثة الأول فهو أنا إن وضعنا أن مجموع جوهرٍ وكيفيةٍ يستحق أن يكون واقعا فى مقولة، فليس بصحيحٍ ما قالوه من أن الأبيض، من حيث هو ذو بياض، فهو من مقولةِ الكيِف. فإن الكيف إن عنِى به ذو كيفٍ، فليس البياض فى هذه المقولة، وذلك لأنها كيفية، لا ذات كيفية، وإن عنى بها الكيفية، فليس المكيَّف بالبياض، وهو الأبيض، داخلا فى هذه المقولة دخول ما يدخل فى المقولة، إذ لا تجِد المكيف الأبيض محدودا بالكيفيةِ والبياضِ.
وأما الثالث فإن المكَّيف، وإن كان له، من حيث هو مكيف، حقيقة وحدانية، فلا يحتاج إلى أن يقع فى غير مقولةِ الجوهر؛ فإن الشىء الذى هو المكيف قابل لرسم الجوهر؛ إذ الجملة الواحدة الحاصلة من جسمٍ وكيفٍ، إن كان يصلح لها اتحاد حقيقى، فإنها، من حيث هى واحدة، موجودة لا فى موضوع؛ وليس يمنع كون الجسمِ، الذى هو جزء الجملة، مِن مقولةِ الجوهر، أو موجودا لا فى موضوع، أن يكون المجموع كذلك؛ ولا يوجِب أن يكون الجزء الثاني، وهو الشكل، كذلك.
فلا يمتنع أن يكون جزء الشىء يدخل فى المقولةِ التى يدخل فيها الشىء. وكيف، ومن المشهورِ أن أجزاء الجواهر جواهر؛ ومن المتيقن أن الخمسة جزء العشرةِ، وهى من العدد كالعشرة؛ والخمسة جزء الستةِ، وهى والستة عدد، ولا يجب ذلك أيضا ضرورة، فإن الجزء الثانى من الستة، أعنى الواحد، ليس بعدد. وكذلك إن كانت الجسمية لازمة للأبيض؛ فليس يمنع ترك الالتقاتِ إليها أن يحمل جنسها على ملزومها حمل مقوٍِّم غيرِ لازمٍ، فيكون الأبيض، وهو شىء ذو بياضٍ مقوِّما له أنه موجود، لا محالة، لا فى موضوع.
لكن لقائلٍ أن يقول: إن هذا يكون لازماً له ولا يكون مقوِّما لما هيته، لأنا لا نمنع أن يكون الشىء ذو البياض ليس بجوهر، بل هو عرض؛ وأن يكون العرض قد يعرِض للعرِض. وقد اتفقنا فيما سلف على أن ما كان كذلك فهو غير مقوِّمٍ؛ بل ربما كان لازما.
وإذا كان مانحن فى ذِكرِه ليس مقوِّما للشىء، بل هو لازم لماهيته؛ لم يكن جنسا له؛ فلا تكون الجوهرية جنسا للشىء ذى البياض؛ كما لم يكن الجسم.
فإن قال قائل هذا، وقال الحق، فالمعتمد فى جوابه أنه ليس يجب أن يكون لكل شىء جنس ومقولة؛ بل ما يكون له وجود متحد نوعى ويشاركه فى بعض ذاتياته شىء آخر.
وإذا شئت أن تعلم أن كون الشىء ذا بياضٍ ليس يؤدى إلى اتحاد، فانظر هل كون الشىء ذا بياضٍ يجعل الشىء محصلا موجودا بالفعل، فِعل فصلِ اللونِ باللونِ وفعل فصلِ الحيوان بالحيوان، فتجد الشىء إنما يتحصل شيئا بأن يصير جِسما أو كيفية أو شيئا آخر، فحينئذٍ يلزمه أو يعرِض له أنه ذو بياضٍ؛ ولو لا انضياف الجسمية إليه لما تحصَّل.
لكن لقائل أن يقول: إن العشرة أيضا إنما تحصل عشرة بانضياف خمسة إلى خمسة، وليس ذلك اتحادا حقيقيا؛ ومع ذلك تجعله نوعا، وتكون الخمسة قد تقوم العشرية، فنقول:(1/75)
إن كلامنا فى اجتماع ما يجرى مجرى الجنس إلى ما يجرى مجرى الفصل؛ وبالجملة فى جميع المحمولات، حتى يتحد طبيعة؛ وليست الخمسة بجنس للعشرة، ولا الأخرى بفصل لها، ولا حصول العشرة هو بأن تجمع هذا الجمع، وإن كان يلزمه هذا الجمع، ولا العشرة خمستان، بل العشرة عشرة واحدة. وإنما العشرة عشرة واحدة، لا بالالتفات إلى هذه التفاريق، بل من جهة أخرى. وستعلم هذا بالحقيقة فى صناعة أخرى؛ وإنما كلامنا فى النحو من الجمع الذى بين الشىء وبين ذى البياض، وحكمنا أنه لا يوجب الوحدة الحقيقية فيه. ولذلك نقول: إن الخمسو والخمسة لا توجبان الوحدة؛ بل هناك اعتبار آخر؛ يعرفه أرباب صناعة أشرف من هذه الصناعة هو الموجب للوحدة؛ بل نقول إن الحيوان والناطق، من حيث هذا عام وذلك مميز، فليس يوجب اجتماعهما اتحادا، بل إنما يوجب شرط زائد على ذلك الاجتماع.
ومما يجب أن يقال فى هذا الموضع: إن كل واحد من مقولات الأعراض قد يقال مفرداً كالكمية؛ ويقال مؤلفا، وتأليفه على وجهين: أحدهما مع الجوْهر؛ كتأليف جوهر ولون، أو جوهر ومقدار؛ والآخر مطلقا غير معيِّن الموضوع؛ وهو المفهوم من الأسماء المشتقة، كقولنا أبيض؛ فإن المفهوم منه شىء ذو بياض؛ لا ندرى أهو جوهر أم عرض، أى من اللفظ، بل يلزم ذلك من 0المعنى 0لزوما؛ وكذلك ذو دراعين. والجنس بالحقيقة هو الأوّل؛ وسيقال فى هذا زيادة قول من بعد.
الفصل الخامس
فصل (ه)
في تعريف حال عدد المقولات
قد بقى مما يتصل بالبحث الذى نحن فيه النظر فى تصحيح العدد الذى لهذه المقولات وأنه إن لم يمكن حصرها فى عدد أقل، فليس يمكن بسطها إلى عدد أكثر. وهذا شىء يحاوله جمهور المنطقيين؛ وما أرانى أفى به حقّ الوفاء؛ فإن السبيل فى تصحيح ذلك يخرج إلى أنحاء ثلاثة من النظر: أحدهما أن يبين أنه ولا واحد من هذه المقولات إلا ويقال على ما تحت قول الجنس؛ وهذا يحوج إلى أن يبين أن حملها على ما تحتها ليس على سبيل الاتفاق فى الاسم؛ وليس على سبيل حمل معنى واحد مختلف بالتقدم والتأخر؛ فيكون على سبيل التشكيك؛ ولا أيضا على سبيل قول اللوازم التى تقال على ما تحتها بالسوية، من غير اختلاف، ولكن لا يكون من المقوِّمات؛ بل يكون من اللوازم أو الأمور الإضافية التى لا تتقوم بها ماهية شىء. فإذا بينوا أن حمل المقولة على ما جعلوه أنواعا لها حمل بمعنى واحد مقوِّم لما هية تلك الأنواع، وليس على سبيل أحد الوجوه المستثناة، كان كل واحد منها جنساً بالحقيقة لما جعل نوعا له، ولم تكن نسبة واحد منها إلى ماجعل نوعا له نسبة العرض إلى التسعة؛ أو نسبة الموجود إلى العشرة، أو نسبة النسبة إلى عدة منها؛ كالأين ومتى والجدة والفعل والانفعال. فإنه إن كانت الكيفية مثلاً ليست تقع على الأشياء المجعولة أنواعا لها على شرائط وقوع الجنس، ولكنها كانت تقع عليها على سبيل اللوازم، وإن كانت بمعنى واحد، لم تكن جنساً لما تحتها؛ بل إن كان حمل ما تحتها على ماهو أخص مما تحتها حمل مقوِّم ٍ؛ صار كل واحد مما تحتها بالحقيقة هو الجنس الأعلى؛ وكان مثلاً الجنسُ الواحدُ منها هو الذى يسمى كيفية انفعالية وانفعالات؛ والجنس الآخر مثلاً الملكات والحالات فكانت الكيفية مقولة على هذه، لا على سبيل قول الجنس، بل على سبيل اللوازم، كان عدد الأجناس، التى هى بالحقيقة أجناس عالية، فوق العدد المذكور. وهذا الوجه من تدقيق النظر هو شىء لم يشتغل به أحد ممن سلف.
والوجه الثانى أن يبين ألاَّجنس خارجاً من هذه المذكورة بقسمة الموجود إلى أن تنتهى القسمة المحصلة إلى هذه؛ وإن سومح فى أمر التقويم للذات، وهو أيضا مالم يبلغنا عنهم فيه شىء حقيقى؛ وسنورد ما قالوا من بعد. وإما أن يبينوا بوجه آخر غير القسمة بياناً أنه يستحيل أن يكون جنس غير هذه الأجناس، إن كان إلى مثل ذلك سبيل. وما عندى أنهم عملوا شيئا يعتد به فى ذلك.
ونبتدىء الآن فنذكر واحداً من أنحاء القسمة المشهورة فيه لنتأمل حاله؛ ثم نتكلف قسمة تقرِّب إلى هذا الغرض السبيل، من غير أن تضمن موافاة الحقيقة بها فيه.(1/76)
فأما القسمة المشهورة فمنها ما قاله بعضهم: إن الجوهر واحد من المقولات، لاشك فيه؛ فإذا قسمنا التسعة، التى هى الأعراض، إلى تسعيتها، تمت المقولات عشرة، فقال: إن العرض إما أن يكون مستقراً فى موضوعه غير وارد عليه بسبب غيره من خارج، ولا محتاج إلى نسبة إلى ذلك الخارج؛ وهو أقسام ثلاثة: كمية وكيفية ووضع؛ وإما أن يكون واردا عليه من خارج؛ بحيث لا تكون له فيه حاجة إلى أمر ينبعث من نفسه، بل بكيفية وجود أمر من خارج يستند إليه؛ وهو أقسام ثلاثة: الأين ومتى وله؛ وإما أن يكون هناك أمر إنما يتم بينه وبين شىء من خارج؛ وليس من خارج فقط؛ وهو أقسام ثلاثة: المضاف والفعل والانفعال. ثم أحكم أمر هذه الثلاثية ونوَّهَ بذكرها جارياً على المادة التي جرت من استعمال الخطابة فى بعض مسائل الفلسفة، حيث يقولون فى تقريظ الثلاثية: إن الثلاثية عدد تام ولذلك لا يقال كل وجميع إلا للثلاثة، والتسابيح مثلثة، والحركات ثلاث؛ والأقطار ثلاثة، وما أشبه ذلك.
فهذا ما قالوه؛ وقد علمت أن هذا شىء على سبيل تقريب غير قريب، ولكنه يمكن أن يدعم هذا المأخذ ويؤكد قليلا بأن يقال: إن كل عرض فلا يخلو إما أن يحوج تصوره إلى تصور شىء خارج عن الموضوع له، أولا يحوج إلى ذلك. والذى لا يحوج إلى ذلك على أقسام ثلاثة: إما أن يكون؛ وإن لم يحوج إلى ذلك، فقد يحوج إلى وقوع نسبة فى أشياء هى فيه ليست خارجة عنه؛ وإما أن لا يحوج إلى ذلك البتة. فإن كان محوجا، فهذه الحاجة تجعل الموضوع منقسما بوجه ما حتى تكون له أجزاء لبعضها عند بعض حال متغايرة فى النسبة؛ وذلك هو مقولة الوضع؛ إذ هو نسبة أجزاء الجسم بعضها إلى بعض أن كل واحد منها أين هو من الكل، فإن هذه هى الاختلافات التى تعرض لها بالذات، من حيث هى أجزاء منقسم. والذى يكون بأعراض أخرى كألوان وروائح، فإنها لا تكون إلا بعد ذلك وتكون بعدَ النسبةِ القاسمة الحاصلة بينها، بما هى أجزاء قد قسم بها الشىء، بل يكون ذلك الاختلاف بغيرِية يصير بها كل واحد مخالفاً للآخر فى عارض، ولا يصير للكل بها هيئة واحدة يعتد بها، وليس عرضيا إلا فى حال تكون للكل بسبب نسبِ الأجزاء بعضها إلى بعض فى أمرٍ مَّا يكون ذلك حالا واحدةً للكل. فيشبه أن يكون هذا هو الوضع للكل والإضافة لأجزاء.
وأما إذا لم يكن تصور ذلك محوِجاً إلى نسبةِ تقع فيها، فإما أن يكون أثراً لذاته يجعل الجوهر بحيث يصير له من جهته أن يمكنَ عده بواحدٍ يفرض فيه عداً متصلاً أو منفصلا؛ وهذا هو الكمية؛ وإما أن لا يكون كذلك فيكون هيئةً حاصلة فى الجسم لا يحوج تصورها إلى أن تجعل للجسمِ نسبة إلى شىء بقوةِ أو فِعل البتة، حتى يصح تصوره؛ فهذا يسمى كيفية.
فأما الوضع فيوجب نِسبة ما لأجزاء الجسم بالقوة أو بالفعل بعضها إلى بعض، وأما الكم فهو يوجب نسبة ما للكل إلى جزء أو أجزاء بالقوة. ويشتركان، أعنى الوضع والكمية، فى أنهما يشيران إلى قسمة وكثرة بوجهٍ من الوجوه حتى يصح تصورهما. فكل هيئة لا توجب قسمةً بوجهٍ من الوجوه فى تصوره ولا توجب فى ذلك نسبة إلى خارج فهوكيفية. فبيِّن إذن أن هذا القسم على وجوه ثلاثة.
وأما الذى يوجب نسبة إلى خارج، فإما أن يوجب نسبة تجعل الماهية مقولة بالقياس إلى المنسوب إليه، ويكون هناك انعكاس متشابه فى معنى النسجة؛ وهذا هو الإضافة؛ وإما أن تكون النسبة لا توجب ذلك؛ فحينئذ إما أن تكون إلى الجواهر أو إلى الأعراض. وأما الجواهر فإنها لأنفسها لا تستحق أن تجعل لها أو إليها نسبة؛ بل إنما تستحق لأمور وأحوال فيها تختص بها. فإذا المعتبر ما يكون إلى أعراض، فتلك الأعراض إما أن تكون من أعراض النسبة أو من غير أعراض النسبة. وأما النسبة إلى أعراض، هى نسبة، فهى من الأمور التى تتسلسل إلى غير النهاية. ومع ذلك فإن النسبة إلى النسبة تؤدى فى آخرها إلى نسبةٍ إلى الشىء الآخير الذى إليه النسبة؛ وتستقر عند أول غير منسوب؛ وإلا ذهب إلى غير النهاية؛ فتكون النسبة الحقيقية الأخيرة إنما هى إلى الأعراض التى لا نسبة فيها؛ فتكون إما إلى كمية وإما إلى كيفية وإما إلى وضع.(1/77)
والأشياء لا تنسب إلى الكميات كيف اتفق بل يجب، إن نسبت إليها، أن تنسب إلى كمية تجعل جوهراً ذا كم مقدارا لجوهر آخر؛ يقدره بمقدار ذاته أو بمقدار حاله؛ ولا يكون لحال من أحوال الجسم مقدار قار فى مقدار الجسم غير مقدار الجسم، بل يجب أن يكون مثله مقداراً غير قار، فيكون لحالةِ غير قارة. وكل حالة غير قارة تسمى حركة. فتكون إذن هذه النسبة إما بمقدار يصير لوجوده فى جسمٍ جسمٌ آخر بحال، وهو أن يكون يحويه أو يحتوى فيه، وهذا هو الحاوى؛ أو بمقدار الحال على ما وصفنا، وهذا هو الزمان. فإذن النسبة إلى الكم لا تخلو إما أن تكون نسبة إلى الحاوى أو إلى الزمان. والنسبة إلى الحاوى أبداً إما أن تكون نسبة إلى حاو لا ينتقل بانتقاله ولا يلزمه؛وهو الأين؛ وهو إما نسبة إلى مكان أو مكان ثان؛ وإما نسبة إلى حاو لازم عند النقلة؛ وهذا كما يذهب إليه بعض المحصلين مقولة الجدة؛ فكالبيِّن أن أنواع المقولات التى تنبعث من النسبة إلى الكم هى إما أين وإما متى وإما الجدة. وأما النسبة إلى الكيفية فينبغى أن تعلم أنه ليس كل كيفية تجعل الجوهر منسوبا إلى جوهر، بل كيفية تكون فى هذا من ذاك أو من ذاك فى هذا. فإذا كانت الكيفية من أحد الجوهرين فى الآخر، فحال الذى تتكون فيه الكيفية من هذين هو مقولة أن ينفعل؛ وحال الذى تتكون منه الكيفية هو مقولة أن يفعل.
فهذا ضرب من التقريِب متكلّفٌ لا أضمنِ صحته ومجاوبته لامتحان القانون؛ إلا أنه أقرب ما حضرنى فى هذا الوقت؛ ويمكن أن ترام فيه وجوه أخرى وتتكلف، ولو رأيت فى ذلك فائدة أو حجة حقيقية لتوخيت أن أقسم قسمة غير هذه تكون أقرب من هذا؛ ولكن القريب والأقرب، إذا لم يبلغا الحق نفسه، فهما بعيدان. فهذا القدر يكفينا فى تعرف أحوال هذه العشرة.
فهذه الألفاظ العشرة ومعانيها هى التى تكون أجزاء لما يؤلف. وليس كل لفظٍ مؤلفٍ بحسب المسموع واللسان يكون مؤلفا بحسب استعمال أهل المنطق، فإن عبداللهِ وعبدالرحمنِ وتأبط شراً وأمثال هذه الألفاظِ، وإن كانت مؤلفة بحسب اللغة، فإنها لا تعد فى المؤلفات بحسب نظرِ المنطقِ، إذ كان لا يراد أن يدل بأجزائها، حيث جعلت ألقاباً وأسماءً شخصية، على معنى أصلا؛ وإن كان قد يتفق أن يدل بها على معنى فى موضوع آخر.
وربما كان اللفظ بحسب اللغة غير مؤلف، وهو بحسب نظر المنطقى مؤلف؛كقول القائل: أعيش وتعيش؛ فإن همزة أعيش وتاء تعيش تدلان دِلالة لفظٍ مفردٍ دال على معنى مفردٍ. وأما يعيش بالياء، فإنه ليس فى عِدادِ المؤلفات، لأن الياء فيه تدل على نِسبةٍ إلى موضوعٍ غائبٍ فقط؛ فليس فيه إلا مجرد الدلالة التى للكلمة، أعنى الدلالة على موضوعٍ غيرمعين؛ وأما حيث تقول: أعيش وتعيش، بالهمزة والتاء، فهناك تعيين للموضوع، وذلك زيادة دِلالة على ما للكلمة. وسيتضِح القول فى هذا بعد.
وهذه العشرة هى التى منها تؤخذ أجزاء الألفاظ المؤلفة التى تسمى أقوالاً، وبعض ما يؤلف من معانى هذه يكون قضية وخبرا؛ وهو الذى يصلح أن يصدق أو أن يكذِب كقولنا: الإنسان حيوان؛ وبعض ذلك ليس قضية وخبرا؛ وهو الذى لا يصلح لذلك؛ كقولنا: زيد الكاتب؛ وكالتركيب الذى يكون للحدودِ والرسوم؛ وهو أن تكون الألفاظ التى تتألف يأتى بعضها إثْر بعض على سبيلِ زيادةِ تعريف أو تخصيص للمعنى المتقدم على أنه هو؛ وهو الذى يصلح فيه استعمال " الذى " ؛ نحو قولك: الحيوان الناطق المائت؛ فإن ذلك كقولنا: الحيوان الذى هو الناطق الذى هو المائت؛ وكالتركيب الذى فى الدعاء والمسألة والأمرِ والنهىِ والنداءِ وأشياء أخرى قد عدت فى مواضع أخرى. فأما الألفاظ المفردة؛ فإنها لا تدل على معنى صادق ولا كاذب؛ ولا معانيها أو آحادها فى النفس تكون صدقاً ولا كذباً الصدق والكذب الذى فى المعانى؛ بل إذا ألفت هذه الألفاظ على وجه من التأليف مخصوص دلت على معنى صادق أو معنى كاذب. ومعانيها إذا ألفت فى الذهن، إن طابقت الوجود كانت صادقة، أو كاذبة إن لم تطابقه. ثم هذه، وإن لم تكن صادقة ولا كاذبة، فهى أجزاء الصادقة والكاذبةِ.
تمت المقالة الثانية
المقالة الثالثة
من الفن الثانى من الجملة الأولى من كتاب الشفاء وهي أربعة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في الجواهر الأوَل والثانية والثالثة وبالجملة(1/78)
حال مراتب الجواهر الكلية والجزئية فى الجوهرية
فلنتكلم الآن فى مقولة الجوهر. فزعم قوم أن لفظة الجوهر، إن أرِيد إطلاقها على الأجسام وحدها، أمكن أن تقال على التواطؤ والقولِ الجنسى. وأما على معنى أعم من الجِسمِ، فإنما تقع بالاتفاق أو التشكيك وقوع الموجود.وذلك لأن الهيولى والصورة أقدم فى معنى الجوهرية من المركَّب والمفارِقِ الذى هو سبب وجودهما؛ وسبب قوامِ أحدِهما بالآخر هو أقدم من جميع ذلك؛ وأن المبادىء لا تقع مع ذوات المبادىء فى مقولةٍ واحدةٍ. ومع ذلك فقد اعترفوا بأن كونها موجودة لا فى موضوع أمر تشترك فيه جميعها، وإن كان الموجود لا فى موضوع لبعضها قبل بعض. وقالوا: إن الوجود إذا كان يقال على هذه بالتقدم والتأخر، فلحوق " لا فى موضوع " به مِن بعد، وهو معنى سلبي، ليس يجعل الوجود فيها على مرتبةٍ واحدةٍ.
فنقول: أولاً، إن مِن هذه الجهات لا يلزم أن لا تكون مقولة الجوهر جنسا لما هو جسم ولما هو غير جِسمٍ، أما حال التقدم والتأخر وحال مشاركة المبادىء لذوات المبادىء فى الجِنس وغيرِ مشاركتها، فأمر قد سلف لك منَّا بيانه؛ ومع ذلك، فإن الاجسام أيضا، التى لا تشك فى اشتراك جميعها فى جنس الجسم، ليست سواء فى المرتبة؛ بل بعض الأجسام أقدمِ من بعض.
وأما حديث الموجودِ المأخوذِ فى رسِم الجوهر وأنه لا محالة واقع على بعضِها قبللا بعضٍ، فهو شكّ وحقّه أن يحل فنقول: إنَّ قولنا إنّ الجوهر هو الموجود لا فى موضوع، لسنا نعنى بالموجود فيه حال الموجود، من حيث هو موجود، لما نوضحه عن قريب. بلو كان كذلك، لا ستحال أن تجعل الكليات جواهر؛ وذلك لأنها لا وجود لها فى الأعيان البتة؛ وإنما وجودها فى النفس كوجودِ شىءٍ فى موضوع. ولو عنِى بالموجود ولك، وهو الموجود فى الأعيان، لكان الأمر بالحقيقة على ما يذهبون إليه؛ وكان بعضها قبل بعض؛ بل يعنون بالموجود لا فى الموضوع المعنى؛ والماهية التى تلزمها فى الأعيان، إذا وجِدت، أن يكون وجودها لا فى موضوع؛ مثل ما يقال: ضاحك، أى من شأنه عند التعجب أن يضحك. وإذا شِئت أن يظهر لك الفرق بين الأمرين، وأن احدهما معنى الجوهر والآخر ليس كذلك، فتأمل شخصا ما كزيد، إذا غاب عنك، أو نوعا ما من الجواهر مع إمكانِ انصرامه من العالم، لو كان عندك انصرامه ممكناً، أو نوعا مما يشك فى وجوده، فإنك تعلم أنه ماهية؛ إذا كانت موجودةً فى الأعيان، كانت لا فى موضوع؛ وتعلم أن هذا المعنى هو المقوِّم الأول لحقيقته، كما تعلم أنه جوهر؛ ولا تعلم أنه هو موجود فى الأعيان بالفعل لا فى موضوع، بل ربما كان عندك معدوماً بعد. فإن الوجود بالفِعل فى الأعيان لا فى موضوع ليس مقومِّا لماهيِة زيد ولا لشىءٍ من الجواهر؛ بل هم أمر يلحق لحوق الموجوِد الذى هو لاحق لماهيِة الاشياء، كما علمت؛ فليس هذا جنسً، بل الأول.
ولذلك إذا كان شىء ماهيته هى الوجود، وكان منزها عن الموضوع، لم يكن فى جنس، ولا يشارك الجواهر، بمعنى أنها أشياء ومعانٍ إنما يلحقها الوجود، إذا لحق بهذه الصفِة ؛ بل لا يوجد أمر مقوِّم لذلك الشىء ولنوعيات الجواهر بالشركة. فإن ما هو ذاتى لذلك الشىء فنظيره عرضٌ لهذه؛ كالوجود الحاصل كيف كان؛ وما هو ذاتى لهذه النوعيات مِن مفهوم معنى الجوهريةِ غير مقولٍ على ذلك؛ فإنه ليس هناك ماهية غير الوجود بلحقها الوجود.
فقد عرفت حقيقة كوِن الجوهرِ بصفِة إنه موجود لا فى موضوع؛ وعرفت أن كون الجوهر بهذه الصفِة أمر لا تقدم فيه ولا تأخر، وإن كان حصول الوجوِد، الذى هذا الاعتبار مَقِيس إليه، واقعا بتقدم وتأخرٍ، كما أن المعنى الذى يقال به للأنسان ناطق لا تقدم فيه ولا تأخر، ولا اشتداد ولا ضعف.
وأما التمييز بالفعل الذى يلحق ذلك، والذى الفصل قوة أولى عليه وعلى غيره من الأمور، ففيه اختلاف.(1/79)
وأما الدليل على أن حقيقة الجوهريةِ التى أوضحناها لا تقدم فيها ولا تأخر أنك لا يمكنك أن تقول: إن كون الصورِة فى نفسها ماهيةٌ، إذا وُجدت فى الأعيان لم تحتج إلى موضوع ولم توجد فيه هو قبل كون المركَّب كذلك؛ أو إن هذه الحقيقة فى المركَّب فى أنها كون بهذه الصفة متعلقة بكون الصورِة على هذه الصفِة؛ كما تقول: إن وجود الصورِة على ما هى عليه من كونها لا فى موضوع قبل وجوِد المركَّب؛ إذ وجودها قبل وجوده؛ ووجوده متعلق بوجودها؛ وذلك الوجود لها هو الوجود لا فى موضوع. فإذن هذا غير موجب آن لا يكون الجوهر جنساً، إنما هو معنى ذاتِ الجوهر.
ثم بعد هذا شكوك خاصية يجب أن تترك لكتاب اللواحق؛ بل تقول: إن الجوهر إما بسيط وإما مركب؛ أعنى من الأشياء التى منها تركَّب الجوهر، أعنى المادة والصورة. والبسيط إما أن يكون غير داخل فى تقويم المركب بل هو برىء مفارق؛ وإما أن يكون داخلاً فى تقويمه؛ والداخل فى تقويمه إما دخول الخشب فى وجود الكرسى؛ ويسمى مادة؛ وإما دخول شكل الكرسى فى الكرسى؛ ويسمى صورة. والمادة هى ما لا يكون باعتباره وحده للمركب وجودٌ بالفعل، بل بالقوة. والصورة ما إنما يصير المركبَّ هوما هو بالفعل بحصولها. وجميع ذلك إما أن يوجد كلَّيا وإما أن يوجد جزئيا. وإذا كان الجوهر، إنما هو جوهر كما قدمته لك، بماهيتِه التى يلزمها وجود فى الأعيان أو فى الأوهام، ليس من حيث هو موجود فى الأعيان، وإلا لكان المفهوم من لفظةِ الجوهر مشكِّكا لا متواطئاً، كما قالوا، بل إنما نعنى بالجوهر الشىء الذى حق وجود الماهية الخاصية له فى الأعيان أن يكون لا فى موضوع، وجب أن أن تكون هذه الماهية، كالأنسان مثلاً، لحقيقتها جوهراً. فالإنسان إنما هو جوهر لأنه إنسان، لا لأنه موجود فى الأعيان نحواً من الوجود؛ وإذا كان جوهرا لأنه إنسان، فما لحِقه من اللواحق، أعنى مِثل الشخصيةِ والعمومِ وأيضا مثل الحصول فى الأعيان أو التقرر فى الذهن، فهى أمور تلحق جوهراً؛ ولواحق الجوهر لوازم وأعراض، لا تبطل معها جوهريته، فتبطل ذاته، فتكون قد لحِقت غير الجوهر؛ إذ الجوهر قد بطلت ذاته. فإن الأشخاص فى الأعيان جواهر؛ والمعقول الكلى أيضا جوهر؛ إذ صحيح عليه أنه ماهية حقها فى الوجود فى الأعيان أن لا تكون فى الموضوع، ليس لأنه معقول الجوهرِ فإن معقول الجوهر ربما شكك فى أمره فَظُن أنه علم وعرض؛ بل كونه علماً أمر عرض لماهيتِه؛ وهو العرض؛ وأما ماهيته فماهية الجوهرِ؛ والمشارك للجوهر بماهيتِه جوهر.
وكذلك فإن حد النوعِ، من حيث هو طبيعة، وحد الجنس أيضا، من حيث هو طبيعة، محمولان على الأشخاص التى لا يُشَك فيها أنها جواهر؛ فما شاركها فى حدها فهو جوهر. ولو كانت إنما هى جواهر لأنها موجودة فى الأعيان مكتنفة بالأعراض، لكانت جوهرية الأموِر عارضة لماهيتها؛ إذ صح أن الوجود عارِض فى هذه الماهيات؛ ولكانت العوارض تجعل ما ليس فى نفسه بجوهر جوهراً؛ فيكون شىء عرض له أن كان جوهراً؛ فتكون الجوهرية عارضةً لشىء. وإذ هذا مستحيل فكليات الجواهر جواهر فى ماهياتها.
الفصل الثانى
فصل (ب)
فى الجوهر الأول والثاني والثالث
لكن الجواهر الأولى عى الشخصيات. والأول فى الأمور المشتركة فى طبيعةٍ واحدةٍ قد يكون على وجهين؛ فإنه إما أن يكون أولا فى ذلك المعنى بعينه؛ كما أن الجوهر أول فى الوجود بالقياس إلى العرِض، وإما أن لا يكون فى ذلك المعنى أولاً ولا أخيراً، ولكن يكون أولا بوجه آخر ومعنى آخر.
فالجواهر الشخصية ليست أولاً فى حقيقة الجوهرية، وإن كانت أوْلى، وفرق بين الأوَّل والأولى؛ فليس كل ما هو أولى بشىءٍ فهو قَبْلٌ به؛ بل قد يكون أولى به إذا كانت واحق الشىء وكمالاته تكون له أكثر مما لغيره أو أقدم له فى الوجود مما لغيره. والجزئيات ليست أول فى حقيقة الجوهرية؛ إذ تلك الحقيقة للماهيةِ التى لها ولا تخالِف فيها غيرها.
ولكن الجواهر الشخصية أوْلى بالجوهرية؛ لأنها أول مِن جهةِ الوجود، ومِن جهةِ تقرِر الأمر الذى باعتباره كان الجوهر جوهراً، وهو الحصول فى الأعيان لا فى موضوع، ومِن جهةِ الكمال والفضيلةِ أيضاً، ومِن جهِة السبِق إلى التسمية.(1/80)
أما مِن جهةِ الوجودِ فإن الجواهر الكلية، من حيث هى كلية بالفعل، فهى إما مقولة بالقياس إلى الجزئيات بالفعل، أو معتبر لها نسبة إليها. ووجودها ذلك أن تكون مقولةً بوجهٍ مَا على موضوعاتٍ؛ فلا بد لها من الموضوعات. وليس يحتاج الشخص فى أن يكون شخصاً. أى غير مقول معناه قولاً وجوديا أو وهميا على كثرة، إلى أن يكون شىء آخر مقول عليه وعلى غيره؛ وإلا لكان مِن شرِط تقرّرِ وجودِ كل شخصٍ أن يكون معه غيره. وإذ كل شخصٍ مستغنٍ عن صاحبه فى تقرر وجودِه، فهو مستغنٍ عن الكلى.
فإن سأل سائل وقال: إن الكلى؛ كما إنما هو كلى بالقياس إلى الجزئى، كذلك الجزئى إنما هو جزئى بالقياس إلى الكلى. وكما أن ماهية الجزئى، مِن حيث هى ماهية لا تتعلق بالكلى، بل من حيث هو جزئى؛ كذلك ماهية الكلى، من حيث هى ماهيته، لا تتعلق بالكلى، بل من حيث هو جزئى؛ كذلك ماهية الكلى، مِن حيث هى ماهيته، لا تتعلق بالجزئى، بل تتعلق، مِن حيث هو كلى، فالجواب عن ذلك أنه: ليس كلامنا ها هنا فى الكلى والجزئى، مِن حيث هما متضايفان، بل نعنى بالكلى ما هو مقول على كثيرين؛ وبالجزئى ما ليس مقولاً على كثيرين، بل هو واحد بالعدد؛ كزيدٍ وعمرو. وهذا المعنى لا يتعلق بالكلى.ولسنا ننظر فى زيدٍ وعمرو، من حيث هو جزئى كليِّنِه، بل مِن حيث هو شخص مفرد، الذى يقابل الكلى مقابلة غير مقابلة المضاف. وهذا لا يتعلق وجوده بطبيعة الكلى.
فإن قال قائل: إن الشخص بعينه، كما لا يتعلق وجوده بأن يكون الكلى موجوداً، فالكلى أيضا لا يتعلق بالشخص بعينه؛ فنقول:ولسنا أيضا نعتبر شخصا بعينه؛ بل نقول: إن الطبيعة الشخصية على الإطلاق لا تعلق لها فى الوجود بوجود الطبيعةِ الكليةِ، من حيث هى كلية، حتى لا بد من أن تكون شركة؛ وأما الطبيعة الكلية فهى متعلقة بشخصٍ مَّا لا محالة.
فإن قيل: إن طبيعة الإنسان أقدم مِن طبيعة زيد، فنقول: إنا لم نأخذ ماهية الجوهرِ، من حيث هى ماهية، بل أخذناها، من حيث هى ماهية كلية؛ ثم حكمنا هذا الحكم؛ فهذا نَحْوُ تقدّمِ الوجود.
فإن قيل: إنكم أخذتم أحدهما، مِن حيث هو مضاف؛ وأخذتم الآخر مِن حيث ليس بمضاف؛ فنقول: ليس لأحدٍ أن يحكم علينا فيما نأخذه أىَّ أخذٍ شئنا، ثم نقضِى عليه بحكم إنما يصدق عليه عند ذلك الأخذ؛ بل المأخوذ أى أخذٍ شئنا، إذا حكمنا عليه بكاذب، فحينئذٍ له أن ينازع.
وبعد ذلك، الفائدة فى ذلك هى أن المنطقى إنما ينظر فى هذه الأشياء مِن حيث هى كلية؛ فإذا قايسها بالخارجات، قايسها من حيث هى موجودة؛ فيجب أن يأخذ المقيس كلياً ضرورة والمقيسَ إليه مِن خارج مفرداً كما هو فى الوجود؛ فهذا نحوٌ. وأما نحو تقدمِه بحسب استقرار الأمر الذى هو المعتبر فى جوهرِية الجوهرِ، فهو أن الجوهرية هى الماهية التى مِن شأنها، إذا وجِدت، أن لا تحتاج إلى موضوع. والجواهر الأول قد حصل لها هذا الأمر الذى قيست إليه الماهية؛ والجواهر الكلية لم يحصل لها.
وأما حديث الكمالِ والفضيلة، فقد قال قوم: إنها إذ كانت موضوعاتٍ وأصولاً لغيرها، والموضوع والأصل أفضل، فهى أفضل، فهذا كلام جزافى؛ فإنه غير بيِّن فيه أن الأصل والموضوع يجب أن يكون أفضل؛ بل ربما كان ذو الأصل، الذى له الأصل وزيادة فضيلة، أفضل من الأصل وأكمل. ولهذا ما كان كل شىءٍ أفضل من الهيولى. ولكن فضيلة هذه الشخصيات هى أن القصد فى الطبيعة متوجه إلى أن توجد هذه الأشخاص والأفعال والأحوال التى يجب أن تحصل؛ فإن ما يحصل منها ولها.(1/81)
وأما حديث السبقِ إلى التسمِية، فلاَنِ أول شىءٍ عرِف أنه موجود لا فى موضوع فهى الأشخاص الجزئية؛ وبالحرى أن تكون سابقة للأشياء كلها. إذ كانت موضوعاتٍ لكلياتها على سبيل " على " وموضوعاتٍ للأعراض على سبيل " فى " ؛ فكان كل شىءٍ وجوده إما بأن يكون مقولاً عليها أو موجوداً فيها. وهذه الجواهر الكلية فإنها، وإن كانت ثانيةً، فإن لها فيما بينها تفاوتاً؛ فالنوع منها أوْلى بالجوهرية من الجنس؛ وذلك لأنه أشد مشاركةً للجواهر الأول فى ماهياتها، لأنه يدل عليها دِلالة أكثر من دِلالة الجنس؛ لأنك إذا سئِلت: ما زيد وعمرو ؟ فقلت: إنسان، كان جواباً أتم من جوابِك عنه بأنه حيوان؛ فهناك لا تكون قد وفيت الماهية، بل يكون للسائل إلى معاودة البحث سبيل. فكل ما هو أشد مشاركةً للأول، مِن حيث هو أول، فهو أقرب إليه، مِن حيث هو يتقدم به ويتأخر، فهو أولى بالجوهرية.
وعلى أن حال الجنس، من حيث هو كلى، من النوعِ الذى دونه كحالِ النوعِ مِن الشخصِ الذى دونه. وكما أن الشخص إنما صار متقدِّماً على النوع لأنه موضوع للجنسِ والنوعِ، فكذلك حال النوعِ من الجنسِ، وهو بعد الشخصِ أيضا، موضوع للأعراض الكليةِ، فيوجد فيه. فإن الإنسان موضوع لأعراضٍ كثيرةٍ: مثل الماشى وذى الرجلين، والغرابِ للأسود.
فقياس النوعِ إلى الجنسِ وإلى سائرِ الأمور بعد الشخصياتِ كقياس الشخصِ إلى النوع وسائرِ الأمور؛ ولكن لقائلٍ أن يقول: إن الحل الذى أوردتموه فى الشك الذى ذكر فيه أن الكلى، كما أنه متعلق بالجزئى، كذلك الجزئى متعلق بالكلى، بأن قلتم: إن الشخص غير الجزئى المضاف إلى الكلى؛ من حيث المعنى، فهو حل لا يفيد إذا أورد مثل ذلك الشك فى النوع؛ فإن النوع ليس كالشخص، بل إنما هو مقول بالقياس إلى الجنس؛ فلا يكون النوع نوعا إلا بالقياس إلى الجنس؛ اللهم إلا أن يعنوا بالنوع النوعَ السافل،الذى نوعيته بالقياس إلى الأشخاص؛ ثم يكون كلامكم مخصصاً بالمقايسة بين النوعِ الأخير وأجناسه؛ ولا يتناول المقايسة التى بين نوع متوسطٍ وجنسٍ أعلى منه؛ فيكون بياناً غير مستوعبٍ ولا موضوعاً حيث يكون وصفه أولياً؛ فإنكم، لا محالة، تجعلون نسبة ما هو نوع متوسط إلى ما هو جنس فوقه هذه النسبة.
فنقول: إنا لسنا ننظر فى الإنسان أيضاً، مِن حيث هو نوع مقول بالقياس إلى الجنس، بل نظرنا الأول كان فى المقايسة بين الكلى وما ليس بكلى ن ويشارك الكلى فى الماهية، والكلى يقال عليه؛ ونظرنا الآن إنما هو فى أن الكلى الذى هو جنس من الكليين المشارِكين المختلفين فى العموم والخصوص ما حاله مِن الكلى المشارِك له الأخص منه الذى ليس بجنسٍ، فنحدّ تلك الحال. والإنسان الكلى ليس يحتاج، فى أن يكون إنساناً كليا، إلى أن يكون فوقه شىء هو نوعه، بل إلى أن يكون تحته شىء؛ بل الحيوان الكلى لا يحتاج، فى أن يكون حيوانا كليا، إلى أن يكون فوقه جسم كلى، ولا ينعكس؛ وإن كان الإنسان، من حيث هو نوع، محتاجاً إلى الجنس، وكذلك الحيوان، فلسنا ننظر الآن فى طبيعة الإنسانِ والحيوانِ، من حيث هو نوع، بل ننظر فى طبيعة النوع،من حيث هو كلى فقط، وليس النظر فى طبيعةِ النوع، من حيث هو كلى، هو النظر فى طبيعة النوع، من حيث هو طبيعة النوع، أو من حيث هو نوع.
ولقائلٍ أن يقول: إنكم قد جعلتم الجواهر العقلية متأخرة عن المحسوسات، فيجب أن يكون العقلُ والبارى، سبحانه، متأَخِّرَيْن عن الأشخاص المحسوسة؛ فنقول فى جواب ذلك: أولا أما البارى تعالى، فيجب أن تعلم مما سلف أنه ليس داخلاً فى جِنسِ الجواهر، وأما ثانياً، فإنه وإن كان النوع والجنس جواهر عقلية فليس كل العقليات هى أنواع وأجناس، بل فى العقليات مفردات قائمة فى ذاتها لا تتعلق بموضوعٍ تقال عليه أو فيه؛ وهذه المفردات العقلية أولى بالجوهريةِ من كل شئٍ. أما مِن المفرداتِ الجسمانية، فلأن تلك أسباب وجوِدها، وأما مِن الكلياتِ العقلياتِ، إن كان لها، فلإنها مفردات على النحو الذى أومأنا إليه؛ وأما مِن الكلياتِ الحسيةِ الطبيعية، فلأنها أولى بالجوهريةِ مما هو أولى بالجوهرية منها أعنى المفردات الجسمانية.(1/82)
وأما المقايسة التى تقدمت منا فلم تكن بين المحسوسات وهذه الجواهرِ العقليةِ، بل بين الشخصياتِ والكلياتِ، وإن كان في الجواهرِ العقلية كثرة شخصية تعمها نوعية، ونوعية تعمها جنسية، فالمناسبة بينها هذه المناسبة. ويشبه أن يكون ذلك موجوداً في بعضها دون بعض. وكذلك الحال في البسائط التي للمحسوسة أيضا، فإن الصور الشخِصية أقدم من الصور النوعية؛ مثلا إن صورة هذا الماء وذاك الماء أقدم مِن صورةِ الماءِ المطلق.
وإذ قد فرغنا من المقايسات التى تجرى بين هذه الجواهر عمقاً، فلنعتبر المقايسات التى تجرى بينها عرضاً، فنقول: إن الأشخاص الجزئية، وإن تفاضلت في أمور،، فإنها، من حيث هي أشخاص، فإن ماهيتها لا تَقَدُّمَ لبعضها على بعض؛ وكذلك حال نوعياتها، فإنه ليس زيد أولى بأن تقال عليه طبيعة نوعه من شخصٍ آخر، بل ربما كان أولى ببعض الأعراض التي تعرض لجوهريتهِ الشخصية؛ مثلا إذا كان أعلم منه فهو أولى بالعِلم منه؛ وكذلك ليس الإنسان النوعي فى استحقاقه درجة الجوهريةِ النوعيةِ واستحقاقِ حمِل الجنِس عليه أولى من الفرسِ، وإن كان باعتبار القياس إلى الشرفِ والفضيلة أولى منه. ولا جواهر بعد الجواهرِ الأولِ في الحقيقة إلا أنواعها وأجناسها.
وأما الفصول فإنها مِن جهةٍ تجرى مجرى الأنواع؛ وقد علمت من هذا ما تعتِمده؛ ومن جهةٍ أخرى، فإن الفصول إما أن يعنى بها الصورة التي هى كالنطقِ، وهذه غير محمولة على زيدٍ وعمروٍ، وإن كانت جواهر، ولامقايسة بينها وبين الأشخاص والأنواعِ فى اعتبار العمومِ والخصوصِ، بل باعتبارِ البساطةِ والتركيبِ. وهى جواهر صورية لها فيما بين جزئياتِها وكلياتِها هذه المقايسة بعيِنها؛ وإِذا نسبت إِلى المركَّبات، من حيث هى بسائطها، كانت إقدم قِدمة المبدإ على ذى المبدإ. وهى بالقياس إلى جزيئاتها أنواع وأجناس؛ فهى أيضا أنواع الجواهِر وأجناسها، وإن كانت بالقياس إلى شئ آخر فصولا.
وأما الفصول التى هى فصول منطقية حقيقية كالناطق، وإِن كان لايكون إِلا جوهراً، فإن معنى الجوهرية، كما علمت، غير مضمَّنٍ فيها بل معنى مِثلِ هذا الفصلِ، وليكن الناطق، أنه شئ ذو نطقٍ؛ ثم ليس يكون ذلك الشئ إِلا جوهراً؛ أى لا يخلو مِن لزوم الجوهريةِ له؛ وهذا أمر تحققته فيما سلف لك. فبالجملة، إِن الجواهر هى أشخاص الجواهر وأنواعها وأجناسها؛ وفصولها فى عِدادِ أجناسِها وأنواعِها على النحو الذى قِيل.
فالفصول المجردة، التى هى الصور إِذا قيست إِلى طبائع الأنواعِ المركَّبةِ منها، كانت أولى بالجوهريةِ بسبيل القِدمة، ولم تكن أولى بالجوهريةِ بسبيل الكمال. وأما المنطقية مِن الفصول، فإنها متأخرة فى الجوهريةِ من وجهً آخر؛ لأن الجوهرية لازمة لها لا داخلة فى مفهومِها؛ إِذ قد علمت أن الناطق يجب أن لايوجد جوهراً أو حيواناً ذا نطقٍ، بل شيئاً ذا نطقٍ.
الفصل الثالث
فصل (ج )
فى رسومِ الجوهرِ وخواصه
الجواهر كلها تشترك فى خاصيةٍ مساويةٍ لها وهى أنها موجودة لا فى موضوع؛ والفصول المنطقية أيضا، إِذ كانت جواهر، وإِن كانت الأجناس والأنواع أولى بذلك، من حيث علمت، فإنها أيضا موجودة لا فى موضوع، إِذ كانت تعطِى شخصياتها أسماءها بحدودها. والتى تقال فى موضوع فربما وافقت فى الاسم فقط. وليس شئ مِن الجواهرِ فى موضوع؛ ولا شئ مما هو فى موضوع فهو جوهر. وليس إِذا كانت أجزاء الجوهرِ فى الكلاِت التى هى المركبات، وجزئياتها فى الكليات، يجب من ذلك أن تكون فى موضوع؛ فقد علمت أن الوجود فى الموضوع بخلافِ وجودِ الأجزاء فى الكلاّتِ والجزئياتِ فى الكلّيات.
فلا تلتفِت إِلى ما يقال إِن الصور والفصول غير المنطقيةِ إِنما هى مِن مقولة الجوهر بحسب اعتبارِ كونِها جزءاً للجوهر، وإِنما بالقياس إِلى موادها أعراض ومِن مقولة الكيف؛ فقد علمت أنه لا يقع شئ فى مقولتين بالذات؛ وعلمت أن هذه أيضا ليست بالقياس إِلى موادها بأعراض؛ وأن الكيفية تقال عليها وعلى معنى المقولة باشتراك الاسم، لا كقول الجنسِ، فالجواهر الحقيقية والفصول المنطقية تشترك فى هذه الخاصية؛ إِذ هى أيضا جواهر.(1/83)
والفصول المنطقية تشارك الجواهر الثانية فى أنها مقولة بالقياس إِلى أشخاص الجواهر قول المقولِ على موضوع. فهذه الخاصية، أعنى الكون لا فى الموضوع ، إما بالقياس إِلى الجوهر المطلقِ، فخاصية مساوية منعكسة؛ وإما بالقياس إِلى الجواهر الحقيقية، التى هى الأشخاص والأنواع والأجناس، فإنها أعم.
وههنا خواص أُخَر مِنها ما يرى فى المشهور أنه خاصة لكل جوهرٍ؛ وليس كذلك؛ بل لبعِض الجواهرِ. فهى مِن الخواص التى تخص المخصوص ولا تعمه. وهذه الخاصية هى أن الجوهر مقصود إِليه بالإِشارة؛ فإن الإِشارة هى دِلالة حسِّية أو عقلية إِلى شئ بعيِنه لا يشِركه فيها شئ غيره، لو كان مِن نوعِه. والأعراض لاتعرِض لها هذه الإشارة إِلا بالعرض؛ لأنها إِنما تصير متميزة متكثرة بالجواهر التى لها؛ وكل واحدٍ منها يصير واحداً متعيِّنا لتعيِّن فى موضوعهِ. فالإشارة الحِسيّة المعينة للموضوع إنما تتناول الجواهر ذواتِ التميّز بالتحيّزِ.
وأما الإشارة المشهورة بأنها عقلية، فإنها تتناول الأعراض أيضا. ولكن إذا تناولتها من حيث معانيها، لم تكن الإشارة التى سميناها؛ لأن معانيها صالحة للشركة؛ وإِذا تناولتها وهى بحيث لا تشترك فيها، وهذا هو الذى يجب أن يخص باسم الإشارة، فلا يمكن العقل ذلك، إِلا وقد خصصها بموضوعاتٍ عقليةٍ مختلفةٍ تكثرت بها الأعراض. وهى متكثرة بذواتها قبل تكثيرِ تلك الأعراض؛ أو متكثرة لأسباب كثرتها قبل تكثرِ تلك الأعراض، كمواد لها إِليها نسبة ما، على ماستعلمه فى موضعهِ؛ فتكون الإشارة العقلية بهذا المعنى لاتتناول أيضا الأعراض العقلية، إِن كانت موجودة، تناولا بالقصد الأول. فالمقصود إِليه بالإشارة أى بالقصدِ الاول بالإشارة، هو الجواهر دون الأعراض.
ولا مناقشة فى أن تجعل الإشارة المذكورة حسِّية؛ فتكون إِلى الجواهر الحسِية فقط؛ أو تجعل أعم منها تشتمل على الإشارتين، وإن لم يكن ذلك بالتواطؤ؛ فإن كثيرا مِن الرسومِ والحدود المذكورةٍ لهذه الأشياء سبيلها هذه السبيل؛ لكن هذه خاصيَّة الجواهِر الأولى دون الثانية؛ فإنه لا إشارة إِلى الكليات إِذ لا تعُّن فيها.
ولا تظن أنك إِذا أشرت إلى زيدٍ فقد أشرت إِلى الإنسان؛ ففرق بين الإنسان وزيدٍ، وإِن كان الإنسان محمولاٍ على زيدٍ. ولولا الفرق لكان أبدا محمولا على زيدٍ فقط، وكان كل إنسانٍ زيدا. نعم الإنسان وسائر الكليِّاتِ لا تدل على مشارٍ إليه، بل على أى واحدٍ اتفق من المشار إليه؛ فمنها، أى مِن الجواهرِ الثانيةِ، ما يعطيها معنى أنيةٍ تنفرِز به، كالنوعيات؛ ومنها ما لا يعطيها أنِيَّة تنفرِز بها، كالجوهرِ الذى هو جنس الأجناس؛ إلا أن يجعل الانفراز، ليس بالقياس إِلى المشارك فى الجِنِس ، بل بالقياس إلى الوجود.
وهذه الجواهر الثانية، إذا أفادت أنِّية أفادتها أنِّية ذاتية، وهو إِفراز جملةٍ بالذات غير معتبرٍ أنها تحت عام يعمها، أو ليس؛ فلذلك ليست تلك الأنيِّة أنِّية الفصل، فإن إفراز أنِّيةِ الفصل إفراز تحت الجنس، وهذا الطريق مِن الإفراز لا يقال على النوعِ إلا بالعرض مِن وجهِ ما، كما قد عِلمت؛ أعنى بقولى بالعرض، مالا يكون للشئِ أولاً بل بسببِ غيرهِ، ولست أعنى بقولى بالعرضِ أن طبيعته لا تفرِز بالحقيقة، بل الإنسانية تفرِز، ولكن إنما تفرز لأن فيها مفرِزاً هو الأول فيه.
فالجواهر الكلية تدل على أى مِن وجهين: أحدهما أنها لا تدل على هذا المشارِ إليه بعيِنه، بل على أىِّ واحدٍ كان؛ والثانى أنها تفرِز إفرازاً جوهرياً.
فهذه الخاصية المنسوبة إلى الإشارة خاصية للجوهر على سبيل أنها لا توجد إلاَّ فى الجوهر، وإن كانت لا توجد لجميع الجواهر؛ فيكون وجه تخصيِصها بأن يقال إن الجوهر مِن المقولات هى المقولة التى توجد فى الأمور التى يشتمل عليها هذا الشرط، كما يقال الكعبة خاصة لمكة لا على أن جميع أجزائها الكعبة، بل على أن بعض أجزائها الكعبة؛ ولا كذلك المدينة.
وللجوهر خاصية تعم جميع أنواعه، لكن ليست خاصية للجوهرِ بالقياس إلى كل عرضٍ بل بالقياس إلى بعض الأعراض؛ وهو أنه لا ضِد له إذ كان لا موضوع له.(1/84)
والضدُّ الذى الكلام فيه ههنا فهو أمر مشارك لما هو ضِده فى الموضوع، وهما ذاتان يتعاقبان عليه ويستحيل اجتماعهما فيه. وأما إن عنىِ بالضد كل مشاركٍ فى محلٍ،كان مادةً أو موضوعاً، كان القول فى هذا الباب قولاً آخر، ولم يبعد أن يكون للجواهر الصوريةِ ضد.
وليس على المنطقى أن يحاول إبانة هذه الأشياء بالتحقيق، فلن يفِى بها وسعه، بل أكثر ما يحتمله هو أن يعرِف ذلك بالاستقراء أو بحججٍ مأخوذةٍ من المشهورات، وأن تُزال عنه شكوك تعرِض له من أمثلةٍ مستقرأةٍ تفهمه أن ما اختلج فى صدره أو ألقِى إليه من الشكوك كاذب، وإن كان زوالها لا يوجِب اعتقاده أّن هذا صادق.
والاستقراء يبِّين أنه لا ضِد للإنسانِ والفرِس. وأما الجسم الحار والجسم البارد فليسا يتضادان بذاتيهما، بل العرِض، إذ المتضادان فيهما هما الحرارة والبرودة.
وهذه الخاصية تشاركها فيها مقولات أخرى، فإنه لا ضِد أيضاً للكمية. فإنْ تشكَّك متشكِّك وأورد الصغير والكبير مناقضةً لهذا الرأى، فإلى أن يحل ذلك ويبطل، فعليه أن يتأمل ليعلم أن الأربعة والثلاثة والخمسة ليس لها أضداد، إذ ليس شئ من العدد أولى بأن يجعل فى غاية المخالفةِ لها فيكون ضداً، إلاّ وهناك ما هو أبعد وأشدّ مخالفةً منه. فإذا علِم أن لا ضد للثلاثة ولا للأربعة بهذا القدر من البيان، وجد للجوهر مشاركاً فى أنه لا ضد له من الكمية؛ وهو أنواع ذكرناها؛ وإن كان مثلاً من الكميةِ ما له ضد، وهو الكثرة والقلة، إن كانتا كميتين وكانتا متضادتين. وإذ الاعتراض يرتفع مع تسليم وجود التضاد فى الكبير والصغير والكثرةِ والقلَّةِ، فلا فائدة ههنا فى الاشتغال ببيان أن الكثرة والقِلَّة والكبِر والصغر ليست كمياتٍ ولا متضاداتٍ أيضا.
ثم الكّمية، وإن شاركت الجوهر فى هذا، فإن أنواعاً من المقولات الأخرى لا تشاركه؛ فإن أكثر الكيفية لها أضداد، وإن كان بعضها أيضا لا ضِدله.
وتتبع هذه الخاصة خاصة أخرى؛ وهى أن الجوهر أيضا لا يقبل الأشد والأضعف؛ فإن المشتد يشتد عن حالةٍ هى ضد الحالة التى يشتد إليها؛ فلا يزال يخرج عن حالة الضعف يسيراً يسيراً متوجهاً إلى حالة القوة، أو عن حالة القوة متوجهاً إلى حالة الضعف؛ والحالتان متقابلتان متضادتان لا تجتمعان. فإن كانتا أعراضاً كان الاشتداد والضعف فى الأعراض، وهذا مما يكون؛ وإن كانتا جواهر كان فى الجوهر تضاد، وقد مِنع ذلك.
فإذا وضِعت الخاصة التى قبل هذه وضعاً مطلقاً صارت هذه الخاصة موضوعة أيضا، فإن الاشتداد والتنقص ينتفى مع انتفاء التضاد.
ثم الضرب من التضاد الذى لم يتشدد فى رفعِه عن الجواهِر، فذلك مما لا يحتمل المصير من بعضِها إلى بعضٍ على سبيل الاشتدادِ والتضعّفِ؛ فليس كل الأضدادِ يكون الانتقال مِن بعضِها إلى بعضٍ على السبيل؛ بل ربما كان دفعةً. بل رفع قبولِ التضادِ يرفع التنقص والاشتداد؛ ووضعه لا يوجِبه ولا يضعه.
وقد ظن ظانَّ أن الاشتداد والتنقص قد يكون لا فيما بين الأضدادِ؛ ومثال ذلك أن الصحة لا تضاد الحسن ولا ضده؛ وربما كان حسنٌ أكثر مِن صحةٍ. ولا ينبغى أن تلتفِت إلى ذلك؛ فإن الذى ذهب هذا الظان إليه هو نوع مِن اعتبارِ الزيادة والنقصانِ غير الذى ذهبنا إليه ههنا. وكما أن الجوهر لا يقبل الاشتداد والتنقص على سبيل الحركةِ، كذلك لا يكون منه ما هو أشد وما هو أضعف. لست أعنى بالمقايسة التى تجرِى بالأوْلى والأحرى وعمقاً؛ فإن الجواهر قد قيل إن بعضها أولى بالجوهرية مِن وجهٍ؛ ولكن أعنى بحسبِ المقايسة التى تخصّه مِن طبيعةٍ واحدةٍ وحدٍّ واحدٍ؛ فليس شىء مِن أشخاصِ الناس فى أنَّه إنسان، الذى هو جوهره، بأشدَّ مِن شخصٍ آخر؛ كما أنه قد يكون بياض فى أنه بياض أشد مِن بياضٍ آخر؛ ولا أيضا شخص إنسانٍ بأشد مِن شخص فرسٍ فى أنه فرس؛ كما يتوهم أن بياضا أشد فى بياضيتِه مِن سوادٍ فى سواديتِه وحرارة فى حراريتِها أشد مِن برودةٍ فى بروديتِها.وكذلك حال الأنواعِ التى فى درجةٍ واحدةٍ؛ فإنها ليس بعضها أشد فى بابه مِن الآخر، إذ فرضنا أن الأجناس إنما تحمل عليها بالسويةِ؛ ومع ذلك فإن الجواهر الأولى، وإن كانت أولى بالجوهريةِ مِن الثوانى، فليست أشد فى الجوهرية.(1/85)
والأولى غير الأشد؛ فإن الأولى يتعلق بوجود الجوهرية؛ والأشد يتعلق بماهيةِ الجوهريةِ. والكّم أيضاً يشارِك الجوهر فى هذا كما نُبيِّن بعد.
وقد يعتقد فى ظاهرِ الأمرِ أن أخص الخواص بالجوهرِ أن ماهيته ماهية إذا تشخَّصت وضعت الأضداد؛ فكان الجوهر ما الواحد بعينه منه، لا الكلى منه، قد يقبل الأضداد لتغيره فى نفسه؛ أما الجوهر الكلى فلا يقبل الأضداد؛ لأن الكلى يشتمل علىكل شخص؛ ولا يصدق أن كل شخصٍ أسود وأن كل شخصٍ أبيض.
فإن ظنَّ أن العرض الكلى يقبل الضدين أيضاً كاللونِ يكون بياضاً وسواداً، فليبطل ظنه بأنه ليس اللون الذى هو الأسود قابلاً للَّونِ الأبيضِ بأن ينسلخ السواد عن اللونِ ويغشاه البياض؛ بل إنما يقال فى اللون المطلقِ إنه يقبل الضدين بمعنى أنه بعض وبعض؛ أو بأن تفرِز الطبيعة اللونية مجردةً فى الوهم فتقبل فى الوهم أىَّ الفصلين شِئت؛ وليس كلامنا فى مِثل ذلك، بل كلامنا فى القبول الذى فى الوجود وفى القبولِ الذى يكون لقابلٍ واحدٍ؛ ولو كان اللون الكلى يقبلهما، لكان كل لونٍ سواداً وكان كل لونٍ بياضاً. ولو كانت طبيعة اللونِ المجردة تقبل ذلك لما كانت سواداً وبياضاً، بل مسودةً ومبيضةً، فلم يكن لونٌ مَّا سواداً ولون ما بياضاً؛ ولكانا على التعاقب لامعاً.
وهذه الخاصية لا تعم كل جوهرٍ؛ فما كل جوهرٍ بقابلٍ الأضداد؛ فإن الجواهر العقلية البسيطة قد لا تتغير البتة؛ وما لا يتغير البتة فلا يقبل الأضداد؛ بل إنما تقبلها الجواهر المتغيرة والجواهر الجسمانية المركبة مِن هيولى وصورة؛ ولا كل المركباتِ الجسمانية؛ فإن كثيرا مِن الأجسامِ السماويّةِ لا تقبل الأضداد؛ وإنما يقبل ذلك بعض الجواهرِ الجِسمانية.
وهذه الخاصية تساوى ذلك البعض، وهى خاصة لا لجزئيات ذلك البعض فقط؛ بل لجميعه؛ فإن كلّياتِها أيضاً يحمل عليها أن الواحد منها بالعددِ يقبل كذا وكذا؛ وأنه وإن لم يقبل ذلك كلّيته بكلّيِته، فإن كلّيته موصوفة بأن الواحد منها بالعددِ يقبل ذلك. والأشخاص فإنّ الواحد منها يقبل.
فإن قال قائل: إنك إن جعلت هذه الخاصية بحيث تصِح للكلّياتِ، لم تصح للجزئيات؛ فإن زيداً ليس يقال عليه إن الواحد منه بالعدد يقبل المتضادات؛ فالجواب انَّ هذا حق صحيح وإنَّ هذه الخاصية فى النظر الأول لطبيعةِ الجوهرِ الجِسمانى المذكور منظوراً إلى ماهيتِها؛ فمنها كلّى ومنها جزئى؛ وتلحق هذه الخاصية والكلية؛ بسبب أنها تلحق الطبيعة وتلحق المقولة لحوقاً على الوجهِ الذى قيل فى بعض الخواص التى تخص ولا تعم موضوعاتِ المخصوصِ.
ولكن قد يظنّ أن من الأعراضِ ما سبيله هذه السبيل؛ وذلك لأن القول قد يكون صادقا وقد يكون كاذباً؛ والظن قد يكون صادقاً ثم يصير كاذباً؛ والسطح يكون أبيض ثم يسود.
وكشف هذه الشبهة: أما فى القول، فالقول لا يبقى بعينِه للصدق والكذبِ؛ فالواحد منه بالعددِ ليس قابلاً للصدقِ والكذبِ؛ وأما الظن فإنه يبقى فيكون موضعاً لهذه الشبهة. فالجواب المشهور عن هذه الشبهةِ عام فى القولِ والظن؛ وهو أن القول والظن لم يتغير مِن حالِهما شىء؛ لكن التغيّر مِن حالٍ إلى حالٍ إنما عرض للأمرِ المحدثِ منه أو المظنونِ به؛ وكانت الأضداد متعاقبةً على ذلك الأمرِ دون القولِ والظن.
لكن هذا الجواب على هذا الوجه غير سديدٍ؛ فإنه ليس إذا كان الأمر يستحيل؛يجب أن يكون الظن لا يستحيل؛ فإنّ الأمر يستحيل استحالة توجب فى الظن استحالة وذلك أن الأمر يستحيل فى أنه كان موجوداً؛ وكان الظن فيه صادقا أنه موجود؛ فإذ صار معدوماً وبقى الظن بوجودِه؛ فإنّ الظن أيضاً يستحيل حين يكذِب ذلك الظن الباقى فيه بعد أن كان صادقا. فهذا الحل إنما يثبِت استحالة أخرى؛ وليس يتعرض لأن ينفى الاستحالة الأولى؛ وذلك لأنه يُثْبت للأمر استحالة فى وجوده وعدمه؛ وكلامنا فى استحالة الصدقِ والكذِبِ.
ومعلوم أن لكونِ الظن صادقاً معنى فى الظن، وإن كان إضافياً؛ وهذا المعنى قد زال،لا عن الأمرِ وحده، بل عن الظن؛ فإن هذا الوصف، وهو أنه صادق، أى مطابق للموجود، كان للظن لا للأمرِ؛ وإذا زال، فإنما زال عما كان فيه؛ وليس كل وصفٍ يتغّير على الشىء يجب أن يكون متقرِّراً ثابتا،بل المضاف أيضا مِن جملةِ الأوصافِ والأعراضِ التى تلحق الأشياء كما يقِرون به.(1/86)
ولا مانع أن يكون تغيّر أمرٍ هو سبب تغيّرِ أمرٍ آخر، كأفولِ الشمس وغيبتِها، فإنّ ذلك سبب لتغيرِ حالِ الأرض والهواءِ؛ وكل واحدٍ تغير فى نفسِه.
وليس إذا كان الأمر قد استحال، يجب أن لا يكون الظن قد استحال باستحالةٍ أخرى تابعةٍ لاستحالةِ الأمرِ؛ لكن إذا قيل إن الجواهر تقبل الأضداد بأن تستحيل فى أنفسها فى معانٍ غيرِ مضافةٍ استحالةً أولية، أى استحالة ليست تتبع استحالة شىء آخر على سبيل المضافِ فقط، لم يوجد الظن بهذه الصفة، وانجلت الشبهة.
وأما السطح، فإنّه أيضاً ليس يستحيل بتغيرٍ له فى نفسه؛ بل لأن لموضوعه تغيراً به. فإن استقصينا وعنينا بقولنا بتغيرِه فى نفسه أنه يكون مستغنياً بذاته وحده فى أن يكون موضوعاً للأضداد يتغير بها بنفسه، لا يحتاج فى ذلك إلى ما يقيمه ويعرضه لذلك التغير، خرج السطح والظن والقول عن أن يشاركه بوجهٍ من الوجوه.
وأما المناقشة فى أن الأعراض بأنفسها لا تحمل الأعراض، وأنها لن تزول عنها أعراض تعقبها أعراض إضافية وقارة زوالاً وعروضاً أولياً، يكون ذلك للجوهر بتوسطِها، فذلك شىء لا أرى للمنصِفِ أن يركبه، وأنه وإن كان الجوهر سبباً لوجود العرِض، فليس يجب أن يكون مانعاً أن تكون أمور تعرِض للعرِض وتلزمه وتلحقه لحوقاً أولاً ثم تلحق الجوهر بتوسطه؛ وإن كان اللحوق موجوداً معه فى الجوهر ومحتاجاً معه إليه؛ كما ليس مانعاً أن تكون له أنواع أيضا وأجناس تقال عليه. وأما تحقيق ذلك فستجده فى العلوم.
فلنجمع الآن مساعدِين على أن العرض لا يقبل بمنفرِد ذاته و بتغيرِ نفسهِ شيئاً من الأضداد؛ بل إما أن يتغير فى أمرٍ مضافٍ، ليس تغيراً فى نفسه، أى فى هيئة قارة فى ذاته؛ أو يتغير بتغير ما هو فيه؛ وبالجملة فإن العرض ليس له تغير يختص بنفسه؛ بل إنما له تغير مضاف أو تغير تابع.
الفصل الرابع
فصل (د)
في ابتداء القولِ فى الكمية
وقد جرت العادة أن تذكر الكمية عقيب الفراغِ من القولِ فى الجوهرِ لمعانٍ داعيةٍ إليه؛ منها ما ذكر من مشاركاتٍ وقعت فى الخواص بين الجوهر والكمية أحوجت إلى ذكر الكميةِ فى الجوهرِ دون الكيفيةِ والمضافِ.وأما الستة الأخر فإنها تابعة لهذه الأربع كما تعلم بعد. ومنها أن الكمية أعم وجوداً مِن الكيفيةِ وأصح وجوداً من المضاف. أما أعم وجوداً من الكيفيةِ، فلأن العدد من الكميةِ، وليس مقصوراً فى وجودهِ على الأمورِ المقارِنةِ للحركةِ والمادةِ دون المفارِقةِ التى لا تقبل كيفية ولا شيئاً غريباً عن جوهرِها. وأما أصح وجوداً مِن المضافِ، فلأن المضاف غير متقررٍ فى ذاتٍ موضوعةٍ تقرر الكميةِ. وأيضاً فإنَّ الكمية المتصلة توجد فى جميع الأجسام الطبيعيةِ مِن غير اختلاف؛ والكيفيات تختلف فيها. والكمية إذا شاركت الكيفية فى الجواهر فإنها تلزم أول جوهرِ منها وهو الجسم؛ والكيفيات تلزم الجواهر النوعية السافلة أو المتوسطة بعد الجسمِيةِ. وقد يمكن أن يقال فى هذه أشياء أخرى.ويمكن أن تطلب للكمية خواص تفضل بها على الكيفية؛ لكنا لا نؤثِر أن نشتغل بأمثال هذه المباحث إلا اشتغالاً دون الوسط.
وأول ما يجب أن نبحث عنه من حالِ الكمية، إن أمكن وكان البحث يحتمله، هو أنها جوهر أو عرض. فإن كانت الكمية هى الجسمِية التى تقارِن المادة فتقوِّم الجسم جسماً؛ فبالحرى أن تكون صورة مقوِّمة للجواهر. والصورة جوهر؛ فالكمية إذن جوهر.فنقول: إن تحقيق هذه الأشياء مما لا يكلفه المنطقى، بل يجب أن يأخذ المنطقى ما نقوله أخذاً، ويكون بيانه له فى صناعة أخرى،فنقول: يجب أن تعلم أن كل جسم فهو متناهٍ؛ ولكن حد الجسم، من حيث هو جسم، غير حد الجسم والمتناهى، من حيث هو متناهٍ؛ والتناهى يلزم كل جسم بعد ما تقوَّم حد الجسميةِ جسماً؛ ولذلك قد يعقل الجسم جسماً ولا يعقل تناهيه، ما لم يوضح ببرهانٍ إيضاح العوارِض المطلوبةِ للموضوعات بالبراهين المبينةِ إياها. فالتناهى ليس داخلاً فى ماهيةِ الجسم. فالسطح ليس جزءَ حدٍ للجسم.(1/87)
ومع ذلك فإنه وإن كان كل جسم متناهياً، فإنّ الأبعاد ليست بواجب حصولها فى الجسم بالفِعل؛ فإن الكرة، من حيث هى كرة، جسم، وليس يحيط بها إلا نهاية واحدة؛ وليس يفرض فيها أبعاد بالفعل متميزة؛ بل الجسم إنما هو جسم لأنه مِن شأنه وفى طِباعهِ بحيث يمكن أن يفرض فيه ثلاثة أبعادٍ فيه على الإطلاق متقاطعةً على حد واحدٍ مشترك تقاطعاً على قوائم. وهذه صورة الجسمية.
فالشىء الذى يمكنك أن تفرِض فيه بعداً، ثم بعداً آخر يقاطعه على قائمةٍ، ثم ثالثاً يقاطع الأولين على التقاطع الأولِ على قوائم، فهو الجسم. ثم إذا اختلف الجسمان بأن أحدهما يقبل أحد الأبعاد أو اثنين منها أو ثلاثتها أكبر أو أصغر من الأبعادِ التى فى الجسم الآخر، فإنه لا يخالفه فى أنه يقبل ثلاثة أبعادٍ على الإطلاق البتة، ويخالفه فيما قبِل مِن الأبعادِ على ما ذكِر. فهومن حيث يقبل ثلاثة أبعادٍ جسم على الإطلاق، ومن حيث يقبل ثلاثة أبعادٍ بعينها أو ثلاثةً هى موجودة فيه بالفِعلِ، إن أمكن، فهو بحيث يقدَّر، وذلك له من حيث أنه يقدّر،سواء كان التقدير لا يعينه البتة، إن أمكن، أو يعينه. والصورة الجسمية التى هى صورتها الجوهرية، هى التى لا يزيد فيها جسم على جسم، فهى مِن جملةِ القسم الأول، وهى صورة جوهرٍ، بل جوهر وليست عرضاً. والمعيَّن المعرض للتقدير فى الأبعادِ الثلاثةِ تقديراً محدوداً أو غير محدود فهو العرض الذى من باب الكم.
والجسم الواحد قد يوجد بحيث يعرِض له أن يختلف بحسب الكميةِ ولا يختلف بحسب الصورةِ؛ فإن الشمعة، أى بشكلٍ تشكلها به، يحفظ عليها أن تكون بحيث يصح فرض أبعادٍ ثلاثةٍ مطلقةٍ فيها على الصورِ المذكورة ولا يختلف ذلك فيها ويختلف مع كل شكلٍ ما يتحدد ويتعين فيها من الأبعاد طولاً وعرضاً وعمقاً بالفعل أو بالقوة إذا حدِّد ذلك الشكل. فإنّه إن شكل الشمع بشكلِ كرةٍ كان معرضاً لنسبةِ أبعادٍ محدودةٍ هى غير المحدوداتِ المعينةِ التى يقبلها إذا كان شكله شكل مكعب وذلك كميته. والماء قد يحفظ جوهره ماءً ويزيد حجماً عند التخلخل؛ فيكون قد ثبتت له جوهريته النوعية فضلاً عن الجسمية الجنسيةِ وتغير مقداره الجسمى.
وليس لقائل أن يقول إن الجسم الكرىَّ إذا تكعب فإنّ أبعاده لم تتغير، إذ هو مساوٍ لما كان أولاً فى المساحة. وذلك أنك ستعلم أن المساوِى يقال لما هو مساوٍ بالفعل، ويقال لما هو مساوٍ بالقوة؛ وأن أمثال هذه الأشكال لا مساواة لها بالحقيقة؛ بل معنى ما يقال فيها من ذلك أنها فى قوة المساويةِ؛ والذى بالقوة ليس بموجودٍ بعد؛ والجسمية بالمعنى الأولِ لا تقدر بشىءٍ البتة؛ لأن المقدَّرَّ يجب أن يكون مساويا للمقدارِ أو مخالفا له أصغر منه؛ والمساوى للمقدَّرِ لا يقدر للمساواة بما يخالف المقدر؛ والأصغر يكون مخالفاً لما يقدِّره؛ فما يقدَّر لا يكون غير مخالفٍ لجميع مايجانس مقدِّره؛ بل لا بد من أن يكون مخالفاً لبعض ما يجانس مقدِّره. وكذلك ما يقدِّر فلا يتقرر لهذا المعنى الذى لا يخالف به جسم جسماً أن يكون مقدَّراً أو مقدِّرا؛ فإذن إنما يقع تقدير الأجسامِ بذلك المعنى الآخر، فذلك هو الكمية.(1/88)
وإن كان مايقع فيه المساواة والتفاوت والتقدير غير المعنى الذى به يصير الجسم جِسماً، فليست الصورة الجسمية هى الجسمية التى هى الكمية، بل الجسمية التى هى الكمية التى هى عرض، هى جِسمية بمعنى آخر، وهى ما أشرنا إليه، وإن كانت قريبةً مِن الصورة الجسمية وملتزمة إياها. وكذلك ستجد أشياء تشبه الكيفية وليست بكيفيةٍ. والسطح أيضا له صورة غير الكميةِ التى فيه؛ وتلك الصورة هى أنه بحيث يصح أن يفرض فيه بعدان على الصفة المذكورة؛ وذلك له لأجل أنه نهاية شىء مَّايصح فى ذلك الشىء فرض ثلاثة أبعادٍ. وكذلك هذه الصورة ليست تخرجه عن العرضيةِ وعن الحاجة الى الموضوع أيضاً. وأما كميته فنظير كميةِ الجسم وهى كمية ثابتة فيه لا تتبدل، لا كما فى الجسم. ثم فى هذا الموضع مباحث عميقة سيقال عليها فى اللواحق. وليس إذا كانت للسطح صورة تلزمها أو تقوِّمها الكمية يجب أن يكون السطح جوهراً. فما قلنا إن كل صورة لنوع من الأنواع يلزمه عرض فهو جوهر، بل ذلك فى صورة الجسم وحده؛ فتكون الجسمية التى من باب الكميةِ تلزم الجسمية التى هى الصورة ضرورةً لما يلزم الجسم مِن التحددِ، وتكون صورة الجسم، إذا جرِّدت بكميتها أو جردت منها الكمية مأخوذةً فى الذهن؛ سمِّى المجردُ جسماً تعليمياً.
واعلم أنه قد يشكَّك فى أمر العدد أيضاً أنه عرض أو ليس بعرضٍ؛ فيجب أن تعلم أن الوحدة فى الأمور ذواتِ الوحدةِ عرض خارج عن ماهياتها؛وأن مجموع الأعراضِ عرض.
فهذا قدر تنبه به على الحق فى هذه المباحث؛ وأما تحقيق هذه الأشياء ففى صناعةٍ أخرى. فنقول الآن: إن الكم منه متَّصِل ومنه منفصِل. ومن جهةٍ أخرى إن الكم منه ما لأجزائه وضع؛ ومنه ما ليس لأجزائه وضع؛ فتكون الكمية تنقسم قسمين متداخلين.
لكن المتصِل اسم مشترك قد يعرِض له أن يوجد كثيراً؛ على أن مفهومه معنى واحد؛ فيقع منه غلط فى معانى المتصِلِ؛ فمنه ماهو فصل الكم أو الكميةِ؛ ومنه ماهو عرض يلحق الأعظام، من حيث هى أعظام؛ ومنه ماهو عرض يلحقها، من حيث هى طبيعية.
فأما الذى هو فصل، فمِن خاصيتِه أنه يقال على المقدار الواحد فى نفسه ولا يحوِج إلى قياسِه إلى مقدارٍ غيرِه؛ وذلك لأن حده أنه الذى يمكن أن تفرض له أجزاء يجمع بينها حد مشترك هو نهاية لجزأين منها؛ وباعتبارٍ آخر هو نهاية لأحدهما؛ أعنى لما تجعله فى التخيِل إلى الإشارةِ أقرب منك؛ فكأنه أول وبداية للآخر؛ فيقال لهذا الكل إنه متصِل. وليس الشرط فيه أن يكون هناك قطع وجزء بالفعل؛ بل الشرط فيه أن يكون هناك إمكان هذا التوهم وهذا الفرِض. وهذا المعنى هو معنى المتصِلِ الذى ينقسم إليه الكم وإلى المنفصلِ. ويعم معنَيْ المتصلِ الآخرين أنهما يقالان بالقياس إلى غيرهما؛ فيكون المتصِل فيهما لا المتصِل فى نفسه؛ بل المتصِل بغيره؛ فيقال متصِل لما يوجد فيه طرف ونهاية واحدة بالفعل هى بعينها طرف لما قيل إنه متّصل به، حتى لو كانتا نهايتين اثنتين لكان مكان الاتصال مماسة؛ مثل الخط الذى يتصل بخط على زاويةٍ تحدها نقطة واحدة بالفصل هى طرف لهما جميعاً؛ ومثل الجسم إذا صار له جزآن لعرضين تميزا فيه؛ فمن البين أن كل واحدٍ مِن العرضين ليس فى ما فيه الآخر، كسوادٍ وبياضٍ؛ فإن كل واحدٍ منهما اختص بموضوعٍ هو الذى جعله غير الآخر. فإن الأشياء المتفِقة فى الطبيعة لعارضٍ ما تتغاير فى العددِ؛فيكون ما يختص بانبثاث البياضِ فيه متناهياً وما يختص بانبثاث السوادِ فيه متناهياً؛ وكل ذلك بالفعل. وليست النهايتان المفترضتان لما عرض اثنتين؛ بل هناك نهاية واحدة.
فهذا اتصال قد يكون للكميات؛ وهى كميات لم يلحقها إلا لواحق الكميات؛ مثل هيئةِ الوضعِ الذى لخطَّىْ الزاوية؛ ومثل مماسة تفرض بدل السوادِ فى ما مثلِّنا به أيضا؛ ولا مماسة تفرض فيه بدل البياضِ، حتى لايكون مأخوذاً مع عرضٍ طبيعى، فيتميز لأجل ذلك جزآن من السطح أو الجسم؛ بل هذا الاتصال هو الاجتماع الذى لو لم تكن النهايات فيه واحدة فى الموضوع اثنتين بالموضوع أيضا، لكان بدل هذا الاتصال اجتماع هو المماسة.(1/89)
وأما الاتصال الثالث فهو أن يكون المتصلِ به لازماً للمتصل فى حركته التى يزول منها طرف الذى يليه عن موضعه الذى يلاقى نهايته فيه. وهذا الاتصال لايمتنع أن يكون فيه مماسة إذا وِجدت ملازمةً عند الحركة بملاصقةٍ أو مشابكةٍ؛ فإن الجسم إذا كانت حاله عند جسم آخر أنه إذا حُرِّك ونقِل عن موضِعِه نقلاً ينقِل طرفه الطرف الذى يليه مِن الآخر حتى يِصير الآخر معه حيث صار، فإنه يقال إنه متصل به. والاتصال الحقيقى بحسب هذا الموضع هو الأول؛ وإن كان إنما نقِل اسمه مِن الاتصالِ الذى على سبيل الإضافةِ؛ إذ يتوهم له أجزاء فيما بينها الاتصال الإضافى. وكثيراً ما ينقل اسم لمعنى عن اسم شئ آخر؛ فيصير بحسب صناعةٍ مَّا أحق بذلك الاسم.
فمن الكمية ما هو متصل؛ ومنه ما ليس بمتصل فالجسم الذى من باب الكمية من المتصل. وكيف لا ؟ وتجد هذا الجسم بحيث يمكن أن يفرض بين أجزائه حد مشترك وهو السطح؛ فتجد أجزائه تشترك بسطح واحد تلتقى عليه. وقد تجد نظير ذلك للسطح بالخط، ولا الخط بالنقطة والزمانِ أيضاً؛ فإنا نجد فيه شيئاً متوهما يتصل به ماضيه ومستقبله؛ وهو الآن.
وهذا الجسم المحسوس ليس يتجزأ إلا من حيث فيه بُعْدٌ؛ فينقسم ذلك البعد إلى ما ينقسم إليه. فالجزء له من حيث هو ذو ذلك المقدار؛ لا من حيث هو جسم على الإطلاق، أو جسم جوهرى؛ فإن الجزء له من حيث يفاوت ويساوى، لا من حيث لايقبل مفاوتة ومساواة، على ما علمت؛ فإذن التجزئة إنما عرضت بالضرب الأول للجسم من حيث هو ذو كم لا من حيث صورته.
فإن قال قائل: إن التجزِئة لاتكون إلا بسبب شئ من شأنه قبول التجزِئة، والقبول والاستعداد إنما يكون فى المادة، ليكون الاستعداد للتجزِئةِ بِسبب المادة، لا بسببِ الكميةِ؛ فإنه شك ينحل فى العلوم ويجب أن تسلم ههنا أن التجزئة تعرِض للمقدار بما هو مقدار، وإن كان فيه للمادة مشاركة؛ وفى العلوم نبيِّن أن حصة المادةِ فى ذلك ما هى، والأمر الذى للكم بالذات من ذلك ما هو، فإن هذا لا يجب أن تشتغل به فى علم المنطقيين؛ بل تعلم أن التجزِئة التى معها حركة وافتراق فى المكان غير التجزِئة التى إنما فيها تعيين الجزء فقط. فهذا الكلام كله إشارة مِناَّ إلى الكم المتصل.
وأما الكم المنفصل فإنّه كالسبعة التى لا يوجد لأجزائِها حد مشترك؛ فإنك إذا جزأت السبعة إلى ثلاثة وأربعة، لم تِجد بينهما طرفاً مشتركا؛ فإنه لا طرف للأعدادِ إلا الوحدة؛ ولا توجد وحدة مشتركة بين الجزء الذى هو ثلاثة والجزء الذى هو أربعة؛ ولو وجدت وكانت مِن وحدتها لصارت الوحدات ستة وانتقص عدد السبعة؛ وإن كانت خارجة عنه كان ترتيب السبعة مِن ثمان وحدات.
فلنقل الآن: إن الكم المتصل لا إما أن يكون قاز الذات فيما هو كم له؛ وإما أن تكون ذاته غير قازة؛ بل هى فى التجدّد. ولنضع أن كل متصل بذاته على سبيل التجدد فهو هيئة حركة هى لا محالة حالة جسم، فإنَّ ذلك هو الزمان، وبيانه العلم الطبيعى. وأما الكم المتصل القارّ فليُسَمَّ عظما وقدرا؛ ولا يخلو إما أن يكون امتداده بعداً واحداً فيحتمل تجزئةً واحدة لاتعارضها تجزئة قائمة عليها؛ وهذا هو الخط؛ وإما أن يكون محتملاً للتجزئة فى جهةٍ، ثم يكمن أن تعارضها تجزئة أخرى قائمة على تلك حتى يمكن فيها فرض بعدين متقاطعين على قوائم، ولا يمكن غير ذلك؛ وهذا هو السِطح؛ وإما أن يكون المقدار الذى يحتمل التجزِئة يحتملها فى ثلاث جهات؛ وهذا هو الجسم الذى من باب الكم. فيسمى جِسماً من حيث هو بهذه الصفة. وقد يسمى عمقاً وسمكاً وثخناً. أما ثخنا، فلإنه حشو ما بين السطوح؛ وأما عمقاً فلإنه ثخن نازل أى معتبرِ من فوق إلى أسفل؛ وأما سمكاً فلإنه ثخن صاعد أى معتبرِ من أسفل إلى فوق. وربما وقع اسم العمِق على معنى آخر سنذكره.(1/90)
وأما المكان وزيادتهم إياه فى معنى المقادير، فأمر لم أحصِّل له فائدةً، وذلك لأنهم يقولون: إن المكان نهاية جِسم محيطٍ حاصرةٌ للجسم المحاطِ؛ فهى بالقياس إلى الجسم المحاطِ مكان؛ فالمكان نهاية بالقياس إلى الجسم المحيط وحاوِ بالقياس إلى الجسم المحاطِ؛ وسطح فى جوهرهِ وذاتهِ. فنقول لهؤلاء: إن كل شئٍ ذى جنسِ فإن جِنسه هو مما يقوم به جوهره. فإن كان المكان كما لأنه مجموع هذه، أى لأنه سطح هو نهاية وحاوٍ، فلا يخلو إما أن يكون لكونه نهاية وحاوياً فى تصييرِه كمَّا أو لا يكون؛ فإن كان له فى ذلك مدخل، فيجب أن يكون للمكان من حيث هو كَمٌّ، الكم الذى يفيده والمعنيان معاً خصوصِية قبولِ أبعادٍ وقسمةٍ غيرِ الذى يفيدها السطح، بما هو سطح؛ وليس له ذلك وإن لم يكن لكونهِ نهاية وحاوياً مدخلٌ فى كونهِ كمَّا، فهذه الجهة أنما هى مِن الكم بسبب أن موضوعها أو جزءاً منها، وهو السطح مِن الكم؛ فيكون الكم بالحقيقة هو السطح؛ ويكون عرض لذلك الشئِ، الذى فى نفسه كم، أن حوى؛ فيكون ليس فى جوهره شيئاً غير السطحِ؛ ويكون مِن جملة ما قد فرِغ مِن ذكرهِ وتعديدهِ؛ فلا يكون نوعاً خارجاً منه. وأيضاً لأنه إ، كان المكان كماً، لأنه نهاية أو أ،ه حاوٍ، فيكون الشئ، من حيث هو مضاف، هو مِن الكم.
ثم يجب أن يرونا الكمية التى للنهايةِ من حيث هى نهاية، للحاوى، مِن حيث هو حاوٍ، كمية تكون غير سطحيةٍ؛ ولا يجدون؛ فيبقى أن المكان كمية لسطحِيتهِ. فإن المكان إما نوع مِن السطحِ تحته، لا نوع مِن الكم فى مرتبةِ السطحِ معدود معه نوعاً تحت الكم؛ وإما سطح مأخوذ بحالٍ؛ فيجب أيضا أن يكون الجسم المأخوذ بحالٍ مخصوصٍ، مما يُعدُّ نوعاً سادساً. مثلا يجب أن يكون الجسم، من حيث هو متمكن، نوعاً زائدا على ما ذكِر، لا، إن كان ولا بد، نوعاً للجسم المطلقِ، إذا اعتبرت الأنواع الأولى من الشئ. فمن الواجب علينا إذا عددنا أنواع الأجناس أن لا نعد أنواع أنواعِها معها، ولانعد أنواعها، من حيث يعرِض، لها خواص أخص منها تقسمها. فالكمية المتصلة هذه.
وأما المنفصلة فلا يجوز أن تكون غير العددِ؛ فإن المنفصِل قوامه مِن متفرقات؛ والمتفرقات مِن مفرداتٍ؛ والمفردات آحاد؛ والآحاد إما نفس المعنى الذى لاينقسم من حيث هو لاينقسم، أو شئ فيه الوحدة وهو ذو وحدةٍ وله وجود آخر حامل للوحدة؛ فالوِحدات هى التى لذاتها يجتمع منها شئ ذو كم منفصلٍ لذاتهِ، يكون عدده مبلغ تلك الوحدات.
وأما الأمور التى فيها لتك الوحدات فجعلتها هى حامله للعددِ الذى هو لذاته كم منفصِل؛ ثم لايوجد فيها معنى كميةٍ منفصلةٍ غير معنى اجتماعِ تلك الآحاد؛ ولا يوجد لها مقدِّر خارج من مقدِّرِها، من حيث هى معدودة، ولا لها جواز مساواةٍ ولا مساواةٍ يتعلق بالانفصال فى معنى غيرِ العددِ الذى يقع لها؛ فلا يجوز أن يقع فيها مقدِّر أو جواز مساواةٍ ولا مساواةٍ، بحيث لاتلتفِت فى اعتباره إلى العدد، بل إنما تلتفِت فى اعتباره إلى معنى غيرِ ذلك من المعانى التى تكون فى الشئ مما هو أمر غير العددِ، مثل أن يكون صوتاً أو حركةً أو جسما. فإن أمكن فى شئِ مِن الأشياءِ أن يكون فيه تقدير واعتبار مساواةٍ وغير مساواةٍ لا يتناول اتصاله، ومع ذلك فلا يتناول انفصاله العددى، بل مأخذَ آخر من الانفصال، أمكن أن يكون غير العددِ كمية منفصلةً. لكنك لاتجد شيئا من الأشياء ينسب إلى احتمال تقديرٍ وجوازِ مساواةٍ وغير مساواةٍ، إلا وقد اعتبِر اتصاله أو عدده لاغير. والأشياء إذا لم يلتِفت إلى عددِها ولم يكن لها اتصال تتقدّر به لم تجد به، لم تجِد لها تقديراً وكميةً منفصلة؛ لاسِيما ومفسرهم يقول: إن للمقطعِ المقصورِ إلى المقطعِ الممدودِ نسبة عددٍإلى عددٍ. وهذا تصريح بأنه يعد لأجل العددِ. وحاله فى ذلك حال التى فى الجماعة.(1/91)
والعجب أنه لم يشكل هذا فى أجسامٍ تجمع من غير اتصالٍ، فيقدِّرها واحد ويكون لها جزء، من حيث هى منفصلة؛ ولا فى أزمنةٍ متفرقةٍ، ولا فى حركاتِ الإيقاعاتِ؛ولا فى عددِ كيفياتٍ تكون فى النقوشِ والصورِ؛ إنما أشكل هذا واشتبه على قومِ فى أمرِ القولِ المسموعِ؛ فإنهم قالوا: إنه مِن الكم المنفِصلِ باذات جزء ما. ثم بعضهم جعل السبب فيه أنه يقدَّر بمقاطِعِهِ؛ فتكون مقاطِعه أجزاؤه؛ ولها أزمنة تقدِّرها؛ فتكون المقاطع تقدِّر الجملة بسبب زمانِها. فيكون هؤلاء إنما يقدرون القول بعددِ أقسام أزمِنتِه وبمقاديرِها؛ فيكون بالحقيقة إنما يجعلون القول كما لعددِ زمانهِ؛ فيكون القول، على طريقتِهم، كمَّا بأمرين مِن الكم يقارِنانه لا لذاتِه.
وقوم يتحاشون من ذلك فيحتالون له وجهاً آخر فيقولون: إن الصوت يعظُم ويصغر بسبب حالِ القارِعِ والمقروعِ؛ ولا يكون ذلك العِظم معتبراً بالزمان؛ فهو إذن مِن بابٍ آخر. فهؤلاء ليسوا إنما يجعلون القول، وهو المركب من المقاطع، وحده كما منفصلا؛ بل يجعلون الصوت نفسه كمَّا. ثم لا ينفعهم هذا الاحتيال فيما نحن بسبيله؛ إنَّ الجهة التى يحاولون أن يكون بها الصوت كمَّا، إن كان بها كمَّا؛ هى جهة توجب فيها الكمية المتصلة. وهؤلاء إنما أحوجوا إلى أن يثبِتوا كميةً غير متصلةٍ على أن عِظم الصوِت وِصغرِه هو نقلة وِخفَّته أو جهارته وخفاتته؛ وهى كيفيات بالحقيقة كما تعلم ذلك فى موضعه لا كميات. ومع ذلك فهؤلاء جعلوا كمية الصوت لكميةِ ما يتولد عنه؛ فجعلوه أيضاً من الكم بالعرض مثل أشياءِ كثيرةٍ غيرِ الصوت.
وقوم ممن هم أشدّ تحصيلا زعموا أنه ليس القول كمَّ بشىءٍ من ذلك؛ بل لأن المقطع جزؤه وهو يعدّه. وكل ذى جزءٍ يعدّ بجزءٍ له فهو من الكم؛ والكبرى من قياسهم مدخولة؛ فإنه ليس كل ما له جزء يقدر بجزئه فيجب أن يكون مِن الكم بالذات؛ بل يجوز أن يكون له وجود وحقيقة أخرى، وقد عرضت له كمية ما؛ إما مقدار وإما عدد فيكمم به وصار له بسببِه جزء يعدّه.وأمثال هذه الأشياء لا تكون كمياتٍ بالذات؛ ولا تدخل فى الكميةِ دخول النوع فى الجنِس؛ والمقطع ليست جزئيته وتقديره إلا لأنه واحد؛ والقول كثير؛ فالقول إنما له خاصية الكم من حيث الكثرة التى فيه وهى العدد؛ فإذا لم تلتِفت إلى الكثرةِ التى فيه، التى هو محصَّل منها، ولا إلى الزمان الذى يساوقها، ولا إلى مقادير ما يتولد منه الصوت أو فيه، لم تِجد للقولِ كمية ألبتة؛ فإن كانت هذه الأشياء تدخِل ما يقارنه من الأشياء فى مقولة الكميةِ إدخالاً بالذات، فههنا حركات الإيقاع ونغم الجمعِ فى الألحان وألوان التزاويق وأعضاء الحيوان وأشياء أخرى مما له هذه الكميات كلها أو بعضها؛ فما بالها لا تدخل فى الكم بالذات ؟ وليس لقائلٍ أن يقول: إن المقادير قد يقع عليها العدد وكونها واقعاً عليها العدد لا يمنعها أن تكون فى أنفسها كميةً؛ فكذلك القول، فإن المقادير، وإن كثرت بالعددِ، فلها بعد الكثرةِ وقبلها خاصية الكميةِ فى حد اتصاِلها وأحوال تلزمها وتلحقها؛ من حيث هى متِصلات، لا تلتِفت فيها إلى عددِها، مثل كوِنها قابلة للتجزِئة والتجزِئة بالفعل. فإن جعلتها ذات عددٍ، فإن قبول التجزِئة لا يجعلها ذات عدد وهى تحتِمل أيضاً المساواة وغير المساواةِ بالتطبيق فى حد اتصالِها، كما سنبين بعد، من غير إحواجٍ إلى عددٍ أو شىء آخر يلحقها.
وأما المعلم فقد أجرى الكلام فى ذلك على شىء مشهورٍ كان فيما بينهم؛ وعدّ مِن الكم أقساماً مشهورة ولم يتعرض فيها للتحقيق. وقد فعل كذلك فى غيرِ موضع فى هذا الكتاب كما فعل فى تفصيل الحركة، وكما فعل فى مواضع مِن المضاف.(1/92)
قد زعم قوم أن الثقل مِن الكميةِ. قالوا: ولذلك قد يوجد وزن نصف وزنٍ ووزن مساوٍ لوزن؛ وليس كذلك؛ لأن الوزن لايمكن أم يقال متجزئاً ومساوياً بذاته. بل الوزن مبدأ حركة إلى أسفل؛ فإذا كان مِن الوزنِ ما يقاوِم وزناً آخر، فلا يقدِر الآخر على إشالته فى الميزان راسياً فى نفسه، قيل إنه مساوٍ له؛ أى غير مقاوِم إياه فى التحريكِ؛ فإن قدر قيل إنه أعظم منه؛ فإن كان يقدِر على تحريكِ ذلك الجِسم الآخرِ، ولا يقدِر على تحريك جسمٍ من طبيعةِ الجِسم الآخر، هو ضِعف ذلك الجِسم الآخر، لا ضَعف ذلك الجِسم الذى يقدِر على تحريكه، قيل إن هذا مساوٍ لضِعفهِ والآخر مساوٍ لنِصفهِ. وأيضا يقال للثقيل الذى يحرك فى مثل الزمان ضِعف المسافة إنه ضِعف.
وبالجملة إنما يمكن أن يقدَّر الثقل بتقدير الحركةِ والزمانِ أو المسافةِ. وليست المقاومة من مقاديرِ الأجسام؛ إنما الثقل قوة؛ وكذلك الخِفة؛ أعنى بالخِفةِ القوة المصعدة إلى فوق. وقد يمكن أن يتخذ للخِفةِ ميزان معكوس فى المياهِ؛ أعنى بالمعكوس أن تكون المماثلات بين كففِها صاعدةً. وقد يمكن أن تتخذ موازين للميول القسريةِ التى تحدث بالدفعِ والرمِى يكون حكمها حكم ميزان الثقلِ؛ لكنه قد يكون لا فى جهةِ الثقلِ، فلا يلزم من ذلك أن تكون الميول القسرية كميات.
المقالة الرابعة
من الفن الثاني من الجملة الأولى من كتاب الشفاء
الفصل الأول
فصل (أ)
فى بيان القسمة الأخرى للكَمِّ
وبيان الكم بالعرض
وأما القسمة الأخرى للكميةِ فهى أن من الكمية ماله وضع فى أجزائه، ومنها ما ليس له وضع. والأجزاء التى لها وضع يجب أن يكون لها وجود قار بالفعل معاً ليكون لبعضِها عند بعضٍ وضع،وأيضا اتصال، وأيضا ترتيب يوقِعه ذلك تحت الإشارة أن كل واحدٍ منها أين هو مِن صاحبِه.
والوضع اسم مشترك يقال على معانٍ شتى: فيقال وضع لكل ماإليه إشارة كيف كان؛ والإشارة هى تعيين الجِهةِ التى مِن جهاتِ العالم؛ وبهذا المعنى يقال للنقطةِ وضع، وليس للوحدة وضع. ويقال وضع لمعنى أخص من هذا؛ إذ يقال لبعض الكميات وضع؛ ومعناه ما قلناه. ويقال وضع للمعنى الذى تشتمل عليه مقولة مِن التسعِ؛ وهو حالة الجِسم مِن جهةِ نسبةِ أجزائهِ بعضِها إلى بعضٍ فى جهاته؛ وهذا الوضع لا يقال قولاً حقيقياً إلاّ على الجواهر؛ ولا يقال على الخط والسطحِ. وقد يقال وضع لمعانٍ أخرى لا تتعلق بالمقادير ولا بالإشارة.
والوضع الذى يقصد فى باب الكميةِ هو الوضع بالمعنى الأوسطِ؛ وكأنه اسم منقول من المعنى الثالث؛ فكأنه لما كان وضع الجِسم الذى مِن مقولةِ الجِوهر إنما هو بسبب حالِ أجزائه بعضِها عند بعضٍ، جعلِ نظير ذلك أو مقارنه، إذا اعتبِر فى الجِسم الذى مِن باب الكم وضعا، وإن لم يكن الجسم الذى من باب الكم ولا السطح ولا الخط يجب له بذاتهِ الجهات والمكان. لكن الجسم الذى من باب الكم له أجزاء بالقوة لها اتصال وترصيف؛ وإلى كل واحدٍ منها، إذا فرِض موجوداً، إشارة أنه أين هو مِن صاحبِه، وكذلك الخط والسطح. وهذا المعنى كالمناسِب لذلك المعنى الذى فى الجِسم الجوهرى؛ فيسمَّى باسمِه.
وقد قيل: إن الجسم المتحرك لا وضع له؛ فإنْ عنى القائل لذلك أنه لا وضع له الوضع الذى هو مِن المقولةِ، فربما أوهم ذلك صِدقاً؛ وليس كذلك؛ فإنه فرق بين ألا يكون للشىءِ وضع وبين أن لا يكون له وضع قار؛ كما أنه فرق بين أن لا يكون للجسم أين، وبين أن لا يكون له أين قار.
وكما أن الحركة عند التحقيق لا تُخْرِج الجسم عن أن يكون ذا أينٍ، وإن أخرجته عن أن يكون ذا أينٍ قار، فكذلك حال الحركةِ بالقياس إلى الوضع؛ فإنها لا تخرِج الجِسم عن أن يكون ذا وضع، وإن أخرجته عن أن يكون ذا وضع قار.(1/93)
لكن الوضع الذى يعتبر فى مقولة الكم غير ذلك الوضعِ؛ وهو غير متغيرٍ ولا متبدِّلٍ فى الجسم المتحرك. وأن تحرك فإن الحركة لا تعدمِ شيئا مِن شرائطِ هذا الوضع الذى هو كون الكميةِ بحيث يمكن أن يفرض فيها أجزاء، إذا فرِضت، تكون متصِلة ويكون بعضها بجنب بعضٍ يلزم ذلك الجنب فى الجسم؛ فإن الحركة لا تزِيل مجاوراتِ الأجزاء بعضِها بعضاً؛ ولا يمنع أن يشار إلى كل جزء أنه أين هو مِن الآخر؛ وتكون تلك المجاورة محفوظة. وإن كانت المجاورات مع أشياء خارجةٍ عن الجسم متبدِّلةٍ، حتى إذا كان مثلا للجسم، وهومتحرك، علامة شكلٍ أو كيفيةٍ، وتلك العلامة فى بعض أطرافه، كان بعض أجزائهِ يقال إنه يلى تلك العلامة، والجزء الآخر يقال إنه الجزء البعيد عن تلك العلامة؛ وإن كانت الحركة لا تحفظ نِسبة الأجزاءِ إلى جهاتِ العالم، تلك النسبة التى تتعلق بمعنى الوضعِ، الذى هو المقولة. على أنه، وإن كان كذلك، فإنها توجِب نقلاً عن وضعٍ إلى وضعٍ، وهذا لا يوجِب أن يكون المنقول لا وضع له؛ بل يوجِب أن الوضع متبدل على الاتصال أو على الانفصال؛ وفى كل آنٍ يفرض يكون له وضع؛ لكن هذا الوضع غير ذلك الوضعِ الذى للكم.
ثم إن كان قِسمة الكم إلى ذى الوضعِ وغيرِ ذى الوضع قسمةً بالفصول؛ لم يجز أن تتبدل الفصول بحركةٍ وسكونٍ تعرِض للجسمِ وطبيعته محفوظة.
ثم مِن البيِّن أن الخط لأجزائه وضع، والسطح لأجزائه وضع، والجسم لأجزائِه وضع، والمكان أيضاً لأجزائه وضع بالقياس إلى ما هو سطحه وبالقياس إلى ما هو حاويه. وأما الزمان فكيف يكون لأجزائه وضع ولا جزء يوجد منها مقارِن الوجودِ للجزءِ الآخرِ حتى تثبت مجاورته للجزء الآخر ؟ فكيف تثبت مجاورة ما هو مفروض موجوداً ومفروض أنه سيوجد لما هو فى العدمِ أو قد فقد؛ وإن كان قد يوجد فى أجزائه اتصال وإن لم يوجد ؟ وذلك الاتصال هو أن حداً واحداً منه، وهو نهاية مَّا، عدِم، وبداية ما، يوجد. وربما كان لأجزائه ترتيب مِن جهةِ التقدمِ والتأخرِ.
وأما العدد فإنه، وإن وجِد لأجزائه قرار وترتيب، فليس يوجد له اتصال، فلا يكون له وضع. وقد يفرض عدد لا يشار إلى أجزائِه بأينِ،فضلاً عن أينِ بعضِها من بعضٍ، ومن ذلك العدد الذى يقع على المعقولات. وبالحقيقة، فإن العدد لا يقتضى وضعاً؛ بل يعرِض له أن يصِير ذا وضعٍ بسبب ما يقارنه.والقول أبعد من ذلك؛ فإنه لا يقتضى ترتيباً طبيعياً ولا ثباتاً.
والكم ذو الوضعِ هو المقدار. والمقادير بالحقيقة ثلاثة؛ وإذا أخِذ فيها المكان صارت أربعة. ويبقى الزمان والعدد والقول غير ذواتِ وضع.
فهذه هى الكميات بالحقيقة. وقد تكون أشياء أخرى يقال لها إنها كميات؛ وتكون كذلك بالعرضِ لا بالذات. وإنما يقال فيها ذلك بسبب مقارنتها للكمياتِ التى هى كميات بالذات؛ فبعضها موضوعات لها؛ كالإنسان والفرس، حين يقال: إنسان طويل وقصير، وفرس طويل وقصير؛ وبعضها أعراض لا توجد إلا مع وجود الكميات؛ كالحركةِ فإنها لا توجد إلاَّ بمقارنةٍ مِن جسم متحركٍ لمسافةٍ تكون الحركة فيها فتتقدر بها، ولزمانٍ تكون هى أيضا فيه فتتقدر به، وفى جسمٍ متحركٍ تكون فيه فتتقدر به؛ فيقال: حركة طويلة، أى فى مسافةٍ طويلةٍ أو فى زمانٍ طويلٍ؛ وكذلك يقال: بياض عريض، أى فى سطحِ عريضٍ. وبعض هذه عوارض خاصة للكمية؛ كالطولِ والقِصرِ الذى بالقياس؛ مثل مايقال: إن هذا الخط طويل والآخر ليس بطويلٍ بل قصير، وإن كان كل خط طويلاً فى نفسه بمعنى آخر، من حيث له بعد واحد؛ وهذا السطح عريض وذلك الآخر ليس بعريضِ بل ضيق، وإن كان كُّل سَطْحٍ عريضا فى نفسه بمعنى آخر، أى من حيث له مع بُعدٍ يفرض طولاً بُعْدٌ يفرض عرضا؛ ويقال: هذا الجسم ثخين والآخر رقيق ليس بثخين وإن كان كل جسم له ثخن بمعنى آخر، أى من حيث له عمق، أى من حيث له ثلاثة بعادٍ. وكذلك تقول: إن هذا العدد كثير وذلك ليس بكثيرٍ بل قليل؛ وإن كان كل عدد كثيراً بمعنى آخر، من حيث هو كم منفصل يعد بالآحاد.
فهذه وأما لها يقال لها كميات وليست بكمياتٍ؛ بل هى أحوال تعرِض للكم بمقايسةِ بعضِها إلى بعضٍ كما سنوضح.(1/94)
واعلم أن الطول يقال بالاشتراكِ فى الاسم على معانٍ؛ فيقال طول لكل امتدادٍ واحدٍ، كيف كان؛ ويقال للامتِدادِ الواحدِ الذى يفرض أولاً طول؛ ويقال طول لأطولِ امتدادَيْن يحيطان بسطحٍ من غير أن يعتبر تقدم وتأخر؛ ويقال طول للامتدادِ الواحدِ، من حيث يأخذ مركز العالمِ إلى محيطِه؛ كطولِ الإنسان، وهو البعد الذى فيه أول حركة النشء.
وكذلك العرض يقال للكم الذى فيه بعدان؛ ويقال للبعدِ الواحدِ الذى يفرض مقاطِعاً لبعدٍ فرِض أولاً على أنه طول؛ ويقال عرض لأقصرِ بعدين متقاطعين؛ ويقال عرض للبعدِ الآخِذِ مِن يمين الحيوانِ إلى شمالهِ.
ويقال عمق للثخنِ الذى تحصره السطوح؛ وقد يقال عمق لذلك بشرطِ الأخذِ مِن فوقٍ إلى أسفل؛ ويقال عمق للبعدِ الذى يقاطِع بعدَيْن مفروضين أولاً طولا وعرضا المقاطعة المعلومة؛ فإن الخطين إذا فرِضا أولاً، ثم جاء ثالث ذلك المجِىءَ، قيل إنه عمق، ولو ابتدِىء به أولاً؛ ويقال عمق لما يحويه قدّام الإنسان وخلفه، ومِن ذواتِ الأربع فوقها وأسفلها.
ونقول: إنه لو توهمت نقطةً تتحرك أو يتحرك جسم فيه نقطة فيلاقِى بسيطاً بالنقطة، رَسَم ذلك طولاً وخطا فيما يمسحه. فإن تحرك هذا الخط لا فى جهةِ حركةِ النقطةِ، بل فى جهةٍ مقاطعةٍ لها، ارتسم سطح وعرض.فإن ارتفع السطح أو انخفض حتى تكون حركته على بعدٍ مقاطع للبعدينِ على قوائم، ارتسم جِسم. وأيضا فإنَّ ظاهر الجسم،من حيث هو ظاهره ومن حيث لا يوجد معه شىء مما وراء الظاهر، فهو بسيط وسطح.فإن قُطِع هذا الذى هو السطح فالتفت إلى القطع الذى يناله فقط، ولم تلتفِت إلى مشاركة الجسمِ أو السطحِ له فيه، فإن طرفه الحاصل بالقطع هو الخط. فإن قطِع الخط، فإن طرفه على ذلك الاعتبار هو النقطة.
فالخط المحدود هو البعد الذى يفترض بين نقطتين؛ والسطح المحدود هو البعد الذى يفترض بين الخطين؛ والعمق المحدود هو البعد الذى يفترض بين سطحين.
واعلم أن الطول والعرض والعمق، من حيث لا إضافة فيها، هى من الكميةِ؛ والمضافات أعراض فى الكميةِ. واعلم أن الكثير بلا إضافةٍ هو العدد، والكثير بالإضافةِ عرض فى العددِ؛ وكذلك القول فى سائر ما يشابه ذلك. واعلم أن الطويل والعريض والعميق والكثير المتضايفاتِ قد تتضايف على الإطلاق؛ فلا يكون مِن شرطِ ما يضاف إليه طرف منها أن يتضمن إضافة إلى ثالثٍ منها، كما تقول: الكثير أو الكبير أو غير ذلك؛ وقد تضاف إضافةً تتضمن ذلك، فيقال أطول وأكثر وأعمق؛ فإن لكل واحدٍ منها إضافةً إلى شىء له إضافة إلى ثالثٍ، فإن الأطولَ أطولُ بالقياس إلى شىء هو عند شىءٍ ما طويل، إلا أن هذا الشىء أطول.
ونقول: إن المساحة تقدير المتصِلِ، والعد تقدير المنفصِلِ، والعد والمساحة منهما ما فى النفسِ، هو العاد والماسح، ومنهما ما فى الشىء، وهو المعدود والمسوح. وإذا صار المسوح معدوداً فإن العد عارض له، ولا يوجب ذلك أن يصير المنفصِلِ جِنساً له.
والزمان متصِل بالذاتِ وبالعرضِ أيضاً، ومنفصل بالعرضِ. أما أنه متصِل بالذاتِ، فلأنه فى نفسه مقدار للحركة، وأما أنه متصل بالعرضِ، فلأنه يقدر بالمقايسة إلى المسافة فيكون له تقدير ماسِح عارِض من غيره، فيقال: زمان حركةِ فرسخ، فيقدر الزمان بالفرسخِ والفرسخ مقدار خارج عنه؛ فيكون هذا التقدير له كمَّا للحركة. ولا بأس أن يكون الشىء فى نفسه فى مقولةٍ، ثم يعرِض له شىء مِن تلك المقوله؛ فإن الإضافة تعرِض لها الإضافة، والكيفية تعرِض لها الكيفية.(1/95)
وأما أنه منفصل بالعرِض، فذلك لما يعرِض له من الانفصالِ إلى الساعاتِ والأيامِ وغير ذلك. وليس يُحْسِن من يقول: إن الزمان منفصل أيضاً لا بالعرِض؛ وذلك مِن حيث هو عدد للحركة وأن الآن يوجِب فعله. فإن الآن فى الزمانِ موهوم كالنقطةِ فى الخط. ولو كان شيئاً حاصلاً لكان، كما يقولونه، فاصلاً؛ ولكن مِن غيرِ أن يلحِق الزمان بالكميةِ المنفصِلةِ. فليس إذا فرِض الآن فاصلا، لم يكن واصلاً. ولما كان بأن يصِل أولى مِنه بأن يفصِل، فإنه إذا كان حاصلاً بالفِعلِ صار به لأجزاءِ الزمانِ حد مشترك بالفِعل يدل على الاتصالِ فى ذواتِها؛ وإن عرض لها، من حيث هى أجزاء، أن تكون ذات عددٍ، لا عدداً، وذات كميةٍ منفصلة، لا كميةً منفصلةً، مثل حالِ الخط والسطحِ والجسمِ إذا افترِض منها حدود مشتركة. وليس هذا الفصل هو الفصل الذى لا يجتمع مع الوصلِ، لأن ذلك هو الفصل الذى يبعِد الأجزاء بعضها من بعض بطرفين متباينين؛ ولا الفصل المبعدِ يجعل الشىء لا محالة مِن الكميةِ المنفصلةِ؛ بل يجعله ذا كمية منفصلة.
واعلم أن الكمية المتصِلة أو المنفصلة لو قوَّمت ذات شىء، بقى هناك شك فى أن الشىء مِن تلك المقولةِ أم ليس؛ لأنها ربما قَوْمت كالفصلِ البسيطِ؛ وكان لقائلٍ أن يقول: إن الفصل البسيط لا يجب أن يكون مِن مقولةِ النوعِ الذى يلحقه؛ فكيف إذا عرضت ولم تقوِّم ؟ واعلم أن المتصِل والمنفصِل فصلا الكم لا نوعاه، إلا أن تقرِن بهما طبيعة الجِنس؛ ولكن ليسا من الفصولِ التى هى غير الأنواعِ.
واعلم أن الفصول المنطقية كلها تحمل على الأنواعِ؛ فلا تكون غير الأنواعِ فى الموضوع، ولكن تكون غيرها بالاعتبار. فإن كان الفصل المنطقى مشتقاً مِن معنى موجودٍ فى النوعِ لا يحمل على النوعِ، كان النوع منفصلاً بفصلٍ غيره؛ كالإنسانِ الذى هو ناطق؛ وإنما هو ناطق بنطقٍ هو موجود حاصل فيه، والنطق لا يحمل على الإنسانِ، فلا يقال: إن الإنسان نطق، لا بالاعتبارِ فقط بل وبالموضوع؛ فهذا الفصل وما يجرِى مجراه يستند إلى شىءٍ هو غير النوعِ، بحيث لا يحمل عليه.
واعلم أن الكم المتصِل لا يخالِف المنفصل إلا بذاته، لا باتصال غيرِه؛ ولا المنفصِل يخالف المتصِل إلا بذاته، لا بالانفصالِ. فذات النوعِ ههنا والفصل واحد بالموضوع؛ ليس واحداً بالاعتبار. وأما الفصل البسيط فليس لهما ألبتة؛ إذ ليس هذا متصِلا باتصالٍ؛ ولا ذاك منفصِلا بانفصالٍ؛ وأنت موعود بشرحِ هذه الأشياء لك فى موضِعه.
الفصل الثاني
فصل (ب)
في خواص الكم
وبالحرى أن نتكلم الآن فى خواص الكمية فنقول: قال بعض المتقدِمين ما هذا معناه: إن للكميةِ خاصيتين أوليتين إحدهما أن الكمية تحتِمل التقدير؛ والأخرى أن الكمية لا مضاد لها. ثم إنه قد يتولد مِن هاتين الخاصيتين خاصيتان أخريان؛ فيتولد مِن أن الكمية تحتمِل التقدير أنه يقال مساوٍ وغير مساوٍ؛ ويتولد من أنه لا مضاد له أنه لا يقبل الأشد والأضعف.
فنقول نحن: إن الخاصة الأولى للكمية هى التى منها ينقدِح لنا الوقوف على معنى الكمية أنها لذاتها، لا لشىء آخر يحتمل أن يوقع فيها التقدير. وأما أنها لا مضاد لها فأمر لا ينتقل الذهن من الوقوفِ عليه إلى التفطن بماهيةِ الكم.وكيف وهذه مما يشارك الجوهر فيها الكمية ؟ فإنها مِن الخواص التى بالقياس، لا التى على الإطلاقِ والإقرار بأن الكمية لا مضاد لها مما يجب أن يوضع فى المنطق وضعاً.(1/96)
ولتقنع فيه بالاستقراء أو بما يشبهه من الحججِ؛ مثل أن تقول: إن الكمياتِ المتصلة قد تتوافر معاً فى موضوعٍ واحدٍ؛ وبعضها نهايات بعضٍ؛ وإن المنفصلاتِ كيف يمكن أن يفرِض لواحدِ منها ضد؛ وأى شىءٍ وضِع ضداً للأثنين مثلا، فهناك شىء واحد هو أبعد مشاكلة للأثنين منه وهو العدد الأزيد منه؛ فلو جعِل الألف ضدا للأثنين أو الثلاثة مِن جملتها، لكان العشرة ألفٍ أبعد من طبيعتهِ، فكان أولى بمضادته، ولكان الألف أولى بأن يكون فى حكم المتوسِط بين الضدين. ثم كيف يكون متوسط والطرف وغير منفرِد ؟ فإن قيل: إن الألف مثلا يوجد له ما هو فى غايةِ البعدِ عنه كالاثنين فلِم ليس ذلك ضِده ؟ فالجواب: إن ضِد الشىءِ إنما يكون ضِداً له إذا كان الشىء ضِداً له ولو كان الاثنان ضِداً للالِّفِ لأنه غاية فى البعدِ منه، لكان الألف ضِدا للاثنين وغاية فى البعدِ منه؛ وإذ ليس ذلك فى الجانبين جميعا، بل فى جانبِ واحدِ، فليس ذلك بموجب للتضاد.
وبعد ذلك، فإنه وإن كان المنطقى لا سبيل له إلى إثباتِ أن لا ضِد للكميةِ، فلا بد مِن أن يوافق فى أشياء يظن أنها أضداد وكميات معا فيعرف أنها ليست كذلك. فأول ذلك ما يظن من أن المتصِل من الكم ضِد للمنفصِل. فأول الجوابِ فى ذلك أن المتصِل والمنفصِل؛ من حيث هما فصلان، مِن لواحقِ الكم، لا مِن الكم نفسه، كحالِ الفصولِ.وأيضاً فإن الانفصال هو أن يعدم الاتصال فيما من شأنِه فى نفسهِ أو فى جِنسِه أن يتصِل. والعدم غير الضد؛ فليس الانفصالِ ضِداً للاتصالِ؛وإن كان شىء واحد يكون موضوعا لقدرٍ متصِلٍ، ثم ينفصِل، فيوضع لعددٍ يفرض له.
وأما الزوجية والفردية والاستقامة والانحناء فإنها لا أضداد ولا كم. أما الزوجية والفردية فموضوعهما القريب أعداد ما؛ ولا تشترك فى الزوجيةِ والفرديةِ بالقوة؛ فلا العدد الموضوع للزوجيةِ هو بعينِه يصِير فرداً، ولا العدد الموضوع للفرديةِ هو بعينِه يصِير زوجاً؛ ولا يوجد شىء من الأشياء موضوعاً بعينِه للأمرين؛ وما كان كذلك لم يكن ضداً.وأيضاً فليس الفرد إلا أن يوجد للعددِ قسمة بمتساويين؛ فانقسام العددِ إلى العدد الزوجِ والفرد انقسام بحسب إيجابٍ خاص بالشىء وسلبٍ خاص به. لكنه قد اتفِق أن وضِع للكمِ مقروناً به هذا السلب أو هذا العدم اسم محصل؛ فأوهم الإثبات. وأيضاً فإن الزوجيةِ والفردِية كيفيات فى الكم؛ ولا يمنع أن يكون فى الكم كيفيات متضادة، فتصير لاَّجلِها الكميات متضادة بالعرِض كالجواهر.
والمضمون هو أن الكميات لا تتضاد بنوعيتِها تضاد السوادِ والبياضِ. وكذلك حال الاستقامةِ والانحناءِ فإنها ليست بأضدادٍ ولا كمياتٍ. وكذلك التساوى والتفاوت كلها إضافات فى الكمياتِ، لا كميات، ولا بينها مقابلة التضاد. والكبِر والصغر أيضا وما يجرى مجراها إضافات تلحق الكم؛ فالكبير لا يكون إلا كما؛ولكن ليس كميته أنه كبير؛ فإن الكبير مثلا يكون فى ذاته جسما أو سطحاً، ولأجله يكون كما تعرِض له إضافة ما فيصير بسببها كبيراً، وإذا عرضت له إضافة ما، فإنما تلحقه بعد أن كان كما؛ فإن كان فى تلك الإضافةِ أو فى عارضٍ آخر مضادة، لم تكن فى ذاتٍ الكم، بل فى عارضٍ للكم؛ إذ إنما تكون للكم من جهةِ عارضٍ عرض له.(1/97)
واعلم أن الأمثلة التى أورِدت فى دعوى أنه قد يكون فى الكميات مضادة فإنها كلها عوارض للكمية وليست كمية كما علمت؛ ومع ذلك فليس فيها تضاد؛ فإن التضاد إنما يكون بين طبيعتين كل واحدٍ منهما معقول بنفسِه، ثم إذا أضيف إلى الآخر قيل له مضاد؛ مثل الحرارة والبرودة؛ فإن كل واحد منهما معقول بنفسه، فإذا أضيف إلى الأخرى كانت ضداً لها؛ فتكون هنك طبيعة تعرِض لها إضافة هى إضافة المضادة. والكبير والصغير لا معقول له مِن هويتهِ إلا أن يكون مضافاً؛ وليس له، من حيث هو كبير، وجود مخصوص، كما للسوادِ، من حيث هو سواد الذى هو ضد البياض، حتى تكون إضافة التضاد عارضة لذلك الوجوِد المخصوص عروضها فى السوادِ والبياضِ؛ ولذلك قد يكون الشئ كبيراً وصغيراً بالقياس إلى شيئين. ولو كان الكبير شيئاً محصلا بنفِسه تلحقه إضافة التضاد، لما استحال الكبير صغيراً بالقياس إلى غيره. فإنه لو كان للكبير طبيعة محصَّلة موضوعة للتضاد لكانت الطبيعتان والمحصلتان اللتان تعرِض لهما الإضافة تجتمعان معاً فى شئٍ واحدٍ هو كبير بالقياس إلى شئً وصغير بالقياس إلى شئٍ. فإن قال قائل: إن هاتين الطبيعتين لاتكون بينهما مضادة، لأنه لا يضاد كبير بالقياس إلى شئٍ آخر، فيكون هذا القائل قد سلم أن الكبير والصغير لا تحصيل لهما إلاَّ بالإضافة فقط.
والاضداد لها فى طبائعِها تحصيل؛ وتكون تلك الطبائع متنافيةً متضادةً، فتعرض لها الإضافة التى للتضاد؛ وتكون تلك الطبائع، وإن لم يلتفت إلى اعتبار التضايف الذى فى التضاد، طبائع متعادية لا تجتمع. فلو كان الكبير والصغير كالسوادِ والبياضِ وكسائرِ الأضدادِ والأضداد طبائع تعرِض لها أضافة التضاد، لكان للكبير والصغير طبيعتان توجِبان بينهما التنافى، وإن لم يلتفِت إلى التضاد، مثل تلك الطبائع، فإنها، وإن لم يلتفِت إلى التضاد، فقد توجب التنافى؛ أعنى أنها لكونها تلك الطبائع لا تجتمع.
وأزيد هذا شرحاً فأقول: قد عقِل أن تقابل التضاد ليس نفس تقابِل التضايفِ؛ وإن كان التضايف كالتضاد، من حيث هو تقابل، ومن حيث لا يجتمع طرفاه. ولمخالفة التضاد للتضايف ما تجِد طبائع الأضدادِ كالسوادِ والبياضِ لا تتضايف؛ وتجد الجوار والجوار لا يتضادان؛ ثم تعلم أن التضاد، من حيث هو تضاد، مِن بابِ التضايفِ لامحالة. فإذن ينبغى أن يكون فى التضاد شئٌ هو الذى لا تضايف فيه، وذلك التضاد، حيث هو تضاد، متضايف فبقى أن الشئَ الذى فى التضاد لا يتضايف هو موضوعات التضاد وطبائعها، أى الموضوعات التى هى فى أنفسِها أمور معقولة؛ إذا قيِس شئ منها إلى شئٍ آخر، كانت هناك إضافة التضاد وكانت تمنع عن الاجتماع. فإذن المضادة لا تتم بأن تكون موضوعات لا تتضايف فى أنفسِها، ويلزمها تضايف هو التضاد؛ وتلك الموضوعات هى لأنفسها لا تجتمع ألبتة، لا إذا اعتبِر فيها التضايف فقط، بل يجب أن يكون لها ذلك أمراً هو بالذاتِ قبل التضايفِ، ويلحقه التضايف. فيجب أن يكون للكبيرِ والصغيرِ، إن كانت متضادة، موضوعات، تلك الموضوعات معقولة بنفسِها، وأنها لا تجتمع، وإن لم يلتفت إلى تضايفِها. وليس الأمر كذلك؛ بل ليس إنما لا يجتمع الكبير والصغير، إذا كانا متضايفين لطبائع لها محصلة؛ تلك الطبائع لا تجتمع كما لا تجتمع طبيعتا السوادِ والبياضِ، لأنهما سوادوبياض، فيتضادان فيتضايفان؛ لأن المضاف مِن جهةٍ أعم مِن المضاد، لا من حيث هو طبيعة، بل من حيث هو مضاد. بل إنما لا يجتمع الكبير والصغير لأنهما مما يقال بالإضافة فقط.
فعلى هذه الصورةِ يجب أن تفهم هذا الموضِع ولا تلتفِت إلى مأخذ آخر؛ فإنه حينئذٍ لا يستمر أن يقال: إن الكبير، لو كان ضداً للصغيرِ لما اجتمعا؛ فإن القائل يقول الكبير ضد الصغيرِ الذى هو عنده صغير، ولا لكل ما يفرض صغيرا.(1/98)
وبعض هؤلاء المتحذلقين من المفسرين يقولون فى هذا الموضع شيئاً يرجع إلى خلال ماقلناه قبيل هذا؛ ولكنهم يزيدون فيه تكلفاً يوهم أنه شئ؛ وذلك أنهم يقولون على قول القائل: إن الكبير والصغير من الكم، وإن الكبير والصغير متضادان، فبعض الكمياتِ متضادات؛ فنقول: إن لهذا جوابين: جواب معاندَةٍ وجواب مساعدةٍ. أما المعاندة فأن نقول: إن هذه ليست كمياتٍ؛ وأما المساعدة فأن نقول: إنا، وإن أعطينا أنها كميات، فليست بمتضادة. وهذا الجواب، إذا أوضح حق الإيضاح وصححت المقدمتان على الجهةِ الواجبةِ، حق. وأما تكلف ذِكرِ المعاندةِ والمساعدةِ فيه فمن جِنس التكلِف؛ وذلك لأن أحد الجوابين يعانِد فى الصغرى من المقدمتين؛ والآخرَ يعانِد فى الكبرى، والعناد فى الصغرى إعراض عن الكبرى إلى أن يفرغ لها. فكما أنه حين قال: إن هذه ليست بكميات؛ كان كأنه قال: هبها أضداداً أو هَبنى أساعدك على ذلك؛ ولكنى أقول: إنها ليست بكميات. وكذلك حين قال: إن هذه كميات؛ فكأنه قال: هبها كميات وهبنى أساعدك على ذلك؛ فإنها ليست بأضدادٍ. وسواء قال فى كل موضع وهو ينازعه فى مقدمة، هب أنى أسَلم لك المقدمة الأخرى أو لم يقل، فإن ذلك لا مَدخل له فيما هو بسبيله.
وما قولهم فى هذا القائل لو قال: هبها أضداداً، فإنها ليست بكميات؛ أكانت المعاندة تنقلب مساعدةً ؟ وقد كان يمكنهم أن يستعملوا المعاندة والمساعدة على جهةٍ أخرى، فيجعلوا المساعدة فى أن يسلموا مقدمةً، ولا يسلموا له أخرى؛ ويجعلوا المعاندة فى أن لا يسلموا ولا واحدةً من المقدمتين.
وقد قيل فى الجواب عن هذه الشكوك: إن الصغير قد يكون شطراً من الكبيرِ يقوَّمه، والفرد جزءاً من الزوجِ؛ والشئُ المقوِّم لا يكون مضاداً لما يقوِّمه. وقالوا: إن الصغير والكبير بالقياس إلى المعتدِل ضدان. ويشبه أن يكون صدق هذا ليس متعلقا بالكبير والصغيرِ؛ بل بالزائد والناقص، من حيث هو واقع فى المقدار، بل من حيث هو واقع فى الكيف؛ ويكون من جهةِ الطبائعِ الزائدةِ والناقصةِ، لا من جهةِ الزائدِ والناقص، من حيث هما هما فقط؛ فيكون مثلاً الجبن ضد التهوُّر؛ لا لأن الزائد ضد الناقِص بل لطبيعة الجبن وطبيعة التهوُّرِ؛ فإنهما معقولتان بذاتيهما اللتين فيهما التضاد، إن كان تعرض لهما هذه الإضافة.
وأما الحدود المتعيِّنة فى الخلقِ للصغيرِ والكبيرِ التى لا تقال بالقياس فإنها أيضا تكون متضادةً؛ لا لأنها مقادير، بل لأنها مقارنة لكيفياتٍ، ولأجل أنها أطراف طبيعية؛ مثل أن لأعظام الحيوانات مقادير هى على الإطلاق أكبر مقدارٍ فيها، ومقادير هى على الإطلاق أصغر مقدارٍ فيها. وليس إنما يقال للكبيرِ منها كبير بالقياس إلى الصغير، بل فى نفسِه، وبالقياسِ إلى طبيعةِ نوعِهِ؛ وكذلك الحال فى الصغيرِ منها. وحكمها حكم أطرافِ المسافةِ التى لحركات النقلِ والخفةِ.
ومن الشكوكِ فى أمر هذه الخاصيةِ ما يظن من أن المكان الأسفلَ ضدٌّ للمكانِ الفوق. وهذا محال؛ فإن المكان لايضاد المكانَ من حيث ذاته، الذى هو سطح وكم.(1/99)
وكيف يتضاد المكانان ولا يتعاقبان بالحقيقة على موضوع واحدٍ؛ والمكان، من حيث هو مكان، ليس بفوقٍ ولا أسفل ؟ بل من حيث هو نهاية حركةٍ من حيث هو طرفُ مسافة؛ أو من حيث هو طرفُ جسمٍ حاوٍ؛وهذه عوارض للكميةِ. وهذه العوارض لاتجعله بحيث يشترك الفوق والأسفل منه فى موضوعٍ واحدٍ فيكون مضاداً بالحقيقة؛ بل الاثنان متضادان؛ أعنى كون الشئِ فوقَ فإنه مضاد لكونهِ أسفل؛ وهذا غير المكانِ. وليس يجب، إذا كان بين هذين المكانين غاية البعدِ، أن يكونا متضادين؛ وإن كان التضاد يتضمن هذا الشرط؛ أو كان الناس إنما فطنوا أولاً للتضاد مِن أمرِ المكانِ مِن حالِ مكانين بينهما غاية البعد؛ فإنهم لايقتدرون على أن يميِّزوا هل حال المكانين فى كونهما، وبينهما غاية البعدِ، هو التضاد، أو حال المتمكنِ، إذا كان تارة فى هذا المكانِ، وأخرى فى مكانٍ آخر. ومع ذلك فلسنا نبنى القوانين فى اصطلاحاتِ الألفاظِ الحكميِة على تعارفِ الجمهور؛ بل يجب أن نلتفت فى اعتبارِ معنى لفظ التضاد إلى ماتعارفناه فى استعمال لفظ التضاد بالوضعِ الثانى؛ وهو يدل على الحالة التى بين ذاتين مشتركتين فى موضوعٍ شركة التعاقب لا أن ينطبع بأحدِهما الموضوع، وبينهما غاية البعدِ. وليس يوجد فى المكانين جميع هذه الشروط. والدليل على ذلك أن المكان، من حيث هو مكان، ومن حيث تتحصَّل طبيعته الشخصية، لا يحتاج إلى أن يقال إلاَّ بالقياس إلى المتمكنِ؛ ومن حيث يسمى فوقاً، يقال بالقياس إلى مكانٍ آخر. ثم إن الفوقية والسفلية قد تعتبر من طريق الإضافةِ؛ فلا يكون فيها تضاد؛ كما لايكون فى الصغيرِ والكبيرِ؛ وقد تعتبر مِن طريق الطبيعةِ، حتى تكون الفوقية إما حالا للمكان فى أنه نهاية جِسمٍ وضعه الطبيعى من العالمِ كذا؛ فإن عرض مِن هذه الجهةِ للمكانِ تضاد، كان بسبب طبيعةِ ذلك الجسم. وسنبيِّن أن هذا الاعتبار ما يجرى مجراه لا يجعل الجسم الذى هو فوق مضاداً للجسم الذى هو أسفل، إذ الجسم الأعلى لا ضد له مِن وجهٍ؛ كما ستعلم، وإما حالاً للمكانِ، من حيث كون مكاناً لجسمٍ وضعه الطبيعى كذا. وإذا فرِض أو اتفق أن كان هذا موجِباً أو مقارناً لأن يكون الجسمان متضادين فى الطبيعة، كان حينئذٍ التضاد فى المكان لأمرٍ فى المتمكنِ؛ فيكون التضاد فى المكان حينئذ بالعرض.
فيجتمع من هذا كله أن لا تضاد فى الكم. وكذلك ليس فى طبيعتهِ تضعف واشتداد ولا تنقص وازدياد. ولست أعنىِ بهذا أن كمية لا تكون أزيد وأنقص مِن كميةٍ، ولكن أعنى أن كمية لا تكون أشد وأزيد فى أنها كمية مِن أخرى مشاركةٍ لها، فلا ثلاثة أشد ثلاثِية مِن ثلاثةٍ، ولا أربعة مِن أربعةٍ، ولا خط بأشد خطية، أى أنه أشد فى أنه ذو بعدٍ واحدٍ مِن خط آخر، وإن كان، من حيث المعنى الإضافى، أزيد منه، أعنى الطول اضافى بل لايجوز أن تكون كمية أزيد وأشد فى طبيعتِها مِن كميةٍ أخرى أنقص أو أكثر منها؛ أعنى أنه ليست الثلاثية فى أنها ثلاثية وفى أنها عدد ولها حد العددِ بأكثر من رباعِيةٍ فى أنها رباعِية وأن لها حد العددِ؛ أعنى فى أنها كمية منفصِلة تقَّدر بالآحادِ. نعم قد تِصير أزيد وأقل فيما يعرِض لها مِن الإضافاتِ المختلفاتِ بينها.
والفرق بين هذا الأزيد وبين الأشد والأزيدِ الذى يمنح كونه فى الكميةِ أن هذا الأزيد يمكِن أن يشار فيه إلى مِثلٍ حاصلٍ أو زيادةٍ؛ والأشد والأزيد الذى يمنعه أنهما لا يمكِن فيهما ذلك. وتفاوت الأشد والأضعفِ ينحصر بين طرفين ضِدين؛ وتفاوت الأزيدِ والأنقصِ لاينحصر البتة بين طرفين. ومن خواص الكميةِ أنها تقال بذاتِها، لا لغيرها، مساوية وغير مساويةٍ. والمساواة هى الحالة التى تكون عند توهمِك تطبيق أبعادِ المتصلِ أو آحادِ المنفصل بعينها على بعض مارة فى تزيُّدِها، فلا تجِد أحد المطبقين يحصل عند حد لم يحصل الآخر عند ذلك الحد وغير المساواةِ أن يجاوز أحدهما أو يقصر. فالمطابقة التى لايوجد فيها اختلاف الحدودِ تسمى مساواةً؛ فإن اختلفت الحدود لم تكن مساواة. وأنت تعلم أن النقل والحركة، إذا اعتبِرا بذاتْيهما من غير التفاتٍ إلى مقادير خارجةٍ عنهما، لايوجد فيهما هذا التطبيق؛ فليست قابلة للمساواة وغيرِ المساواة.(1/100)
فالكمية قد ذِكر لها ثلاث خواص حقيقية: وهى أنها لذاتها لها جزء، ولذاتها تحتمل التقدير، ولذاتها تقبل المساواة واللامساواة. وذِكر لها خاصيتان إضافيتان: أنها لاتقبل فى ذاتها مضادةً وأنها لا تقبل فى ذاتها الأشد والأضعف.
الفصل الثالث
فصل (ج)
فى ابتداء الكلامِ فى المضافِ
وتعريفِ الحد الاقدمِ له وشرحِ ذلك الحد
والإشارةِ المجملةِ إلى أقسامِ المضاف قد جرت العادة أن يخاض فى بيان مقولةِ المضافِ بعد الفراغِ من الكميةِ وقبل الكيفيةِ وللناس تخريجات مختلفة لِعلةِ ذلك؛ ويشبِه أن يكون أظهرها ما اتفق مِن ذِكرِ المضافِ فى مقولةِ الكميةِ. وليس على المنطقى إثبات المضافِ وبيان حالهِ فى الوجودِ والتصورِ ومن يتكلف ذلك فقد تكلف ما لا يعنيه ولا يستقل به، من حيث منطقى.
والوقوف على المضافات أسهل على الذهن من الوقوفِ على مجرد الإضافات التى هى المقولة. فالأمور التى هى من المضاف فهى الأمور التى ماهياتها مقولة بالقياس إلى غيرها على الإطلاق أو بنحوٍ آخر من أنحاءِ النسبةِ. والتى على الإطلاق فهى مِثل الأمورِ التى أسماؤها أسماء تدل على كمالِ المعنى الذى لها؛ من حيث هى مضافة، مثل الأخِ.
وأما التى بنحوٍ آخر من أنحاءِ النسبةِ فهى التى تعلق بها النسبة؛ فتصير لذلك مضافةً؛مثل القوة، من حيث هى لذى القوة، والعِلم، من حيث هو للعالم؛ فإن كل ذلك فى ذاته كيفية. وإن كانت مضافةٍ، فإلى غيرِ ما تكلف إضافته إليه؛ كالعِلم؛ فإنه بحرفٍ ما صار مضافاً إلى العِلم؛ وبغير ذلك الحرِف فهو مضاف إلى المعلوم. فإن العِلم يشبه أن تلزمه فى نفسه الإضافة إلى المعلوم. والعِلم والقدرة والقوة وما أشبه ذلك، وإن كان كله مضافاً، فكله فى نفسه غير مضافٍ إلى ما أضِيف اليه فى مثالِنا؛ بل إنما ألحِق بها نحو من أنحاءِ النسبةِ فصارت به مضافة؛ وذلك بسبب حرفٍ يدخل فيجمع؛ كما يدخل بين الإنسان والدارِ لفظ نسبةٍ ما، فيصير بها إضافة بين الدارِ وذى الدارِ. وربما كانت هذه النسبة متضمنة فى لفظةِ أحدِ الجانبين. ويحتاج الجانب الآخر إلى إلحاق لفظ النسبةباسم الأول كقولنا: الجناح وذو الجناح؛ فإن لفظة " ذو " إنما وقعت فى أحدِ الجانبين؛ والجانب الآخر مستغنٍ عن مِثلِها؛ لكن اسمه إذا اقترن باسم النسبة كان اسم الجانبِ الآخر؛ وأكثر هذا حيث يوجد لأحدِ المضافين، من حيث هو مضاف، اسم، ولا يوجد للآخر، بل إنما يكون اسمه المشهور دالاً على ذاته أو مشتقا من جهةِ حالٍ أخرى غيرِ إضافية؛ أو لا يكون هناك اسم البتة. وربما لم يفعل ذلك؛ بل قرِن بالمضاف إليه لفظ نِسبةٍ يخصه ويحفظ اسمه كقولنا: العالم عالم بالعلِم، فيقرَن باسم العلم حرفٌ يدل على أنه مضاف اليه العالم؛ وأما فى المِنالِ الأولِ، فإنما كان هذا الحرف مقرونا باسم المضافِ، لا المضافِ اليه. وربما كان حرف الإضافةِ مختلفا فيهما؛ مثل قولك: إن العِلم عِلم للعالِم، والعالم عالِم، لا للعِلم بل بالعِلم.
وقوم يقولون إن معنى قولهم أو بنحوٍ آخر إنما هو لما لا تتشابه فيه الحروف العاكسة. وسيتضح لك عن قريب تحصيل ما قلناه وتفسيره، وأنه أولى من التأويلات المذكورة.
وأما كون للشىء مقولاً بالقياس إلى غيره، فهو أن يكون الشىء إذا قصد تصور معناه أحوج تصوره إلى تصورِ شىءٍ خارج عنه؛ ولا كيف كان: فإن السقف إذا تصور معناه تصور معه معنى الحائط الذى يقله، وليست ماهية السقِف مقولةً بالقياس إلى الحائط؛ ولكن يجب أن يكون المعنى المعقول الذى للشىء الذى يحوِج إلى أن يعقل معه غيره إنما هو له من أجل وجود ذلك الغير بإزائه؛ فذلك المعنى الذى للشىء من أجل حصول الحال التى لها ما صار الآخر معه هو إضافته، مثل الأخ: فإن حقيقة المفهوم من الأخوة لأحد الأخوين هو لأجل وجود الآخر، وهى الحال التى له بسبب ذلك، وهو كونه ابن أبى هذا الأول، فإن الأخوة هى نفس اعتباره من حيث له آخر بهذه الصفة، وإن كان قد يكون فى الإضافات هو نفس اعتبار أحد الأمرين من حيث له آخر بصفةٍ خلاف صفته. فهذا هو كون الماهيةِ مقولةٌ بالقياس إلى شىء آخر.
وليس كل نسبةٍ إضافةً، فإن لكل شىء نسبة فى الذهن إلى الأمر الذى يلزمه فى الذهن، لكن لا يكون ذلك إضافةً، كما قلنا؛ فإن أخذت النسبة مكررةً فى كل شىء صارت له إضافة.(1/101)
ومعنى قولى " مكررة " أن يكون النظر لا فى النسبة فقط، بل بزيادة اعتبار النظر إلى أن للشىء نسبةً من حيث له نسبة، وإلى المنسبوب إليه كذلك؛ فإن السقف له نسبة إلى الحائِط، فاذا نظرت إلى السقف من حيث النسبة التى له فكان مستقرا على الحائط، ونظرت من حيث هو مستقر على الحائِط صار مضافاً لا إلى الحائط من حيث هو حائط، بل من حيث هو مستقر عليه؛ فعلاقة السقف بالحائط - من حيث الحائط حائط - نسبة، ومن حيث تأخذ الحائط منسبوبا إليه بالاستقرار عليه، والسقف بنفسه منسوب، فهو إضافة. وهذا معنى ما يقولون: إِن النسبة تكون لطرِف واحد، والإضافة تكون للطرفين؛ وذلك أنك إذا أخذت السقف مستقراً على الحائط وجدت النسبة من جهةِ السقف المستقر؛ وأما جانب الحائط فلا نسبة فيه إلى شىء من حيث هو حائط. وأما إذا أخذت النسبة من حيث السقف مستقراً على مستقرٍ عليه، والحائط مستقر عليه لمستقر، انعكست النسبة، وصلحت لآن تكون إضافةً. فكل نسبةٍ لا توجد من الطرفين جميعا من حيث هى نسبة، فهى نسبة غير إضافية؛ وكل نسبِة يؤخذ الطرفان فيها من حيث النسبة فهى الإضافة. والأمور التى تؤخذ منسوبةً بلا زيادة فهى منسوبةٌ فقط، وإن أِخذت منسوبةً على هذا الشرط فهى مضافة؛ فذوات الأمور قد تكون منسوبة. وإن أخذت مع النسبة، من حيث هى نسبة، صارت مضافة.
ومن الأمور المضافة ما هو مثل الأكبر والأصغر، والضعف والِنصف؛ ومنها ما هو مثل القوة والقدرة، فإن القوة والقدرة قوة وقدرة لشىء على شىء، والحال حال لذى الحال، والحس حس حاسٍ بمحسوس، والعلم عِلم عالِم بمعلوم؛ وكذلك القيام قيام قائم، والجلوس جلوس جالس، فهذه كلعل مضافات، لكنه من هذه ما هو كالكبير فإنه لا يكون فى نفسه كبيراً وفى ماهيته كبيرا أو يكون هناك صغير؛ وكذلك الشبيه والمساوى. وأما القدرة والقوة، والحس والعلم، فيشبه أن لا يكون الأمر فيها هذا الأمر، فإن ماهية الشىءِ الذى هو العلم إنما يقال له عِلم بالقياس إلى العالمِ، وإن كان لا يوجد إلا فى العالمِ.
وكذلك ماهية البياض والحمرة والجلوس؛ وليس البياض إنما يقال له بياض بالقياس إلى الموضوع الذى هو له بياض، وإن كان لا يوجد إلا فيما هو له بياض. وفرق بين أن يكون الشىء لا يوجد إلا أن يوجد شىء، وبين أن تكون ماهيته مقولة بالقياس إلى شىءٍ؛ فإن العالم لا يوجد إلا بالبارى، وليست ماهيته مقولة بالقياس إلى البارى. وكذلك الثنائية لا توجد إلا بالوحدانية، وليست ماهيتها مقولةً بالقياس إلى الوحدانية.وليس الوجود والماهية شيئاً واحداً، ولا اقتران الماهية بالماهية هو قول الماهية بالقياس إلى الماهية، بل كون الماهية بالقياس أن تكون الماهية هى حقيقة الكونِ مقارناً للمقارن على الحالة القارنة.
فبعض هذه الأمور المعدودة ماهياتها مقولة بالقياس إلى غيرها، كالكبير والصغير؛ وبعضها تجعل كذلك إذا أخِذت مع النسبة كالبياض: فإنه إذا أخِذ من حيث هو فى الابيض كان مضافاً، كما لو سمى كونه من حيث هو فى الأبيض جسماً، كان الجسم ماهيته مقولةً بالقياس إلى الشىء الذى له البياض.
فقد علمت أن بعض ما عددناه فى المضاف ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره؛ وبعضه يقال بالقياس إلى غيره بنسبةٍ تلحق ماهيته، فحينئذ تكون مقولةً بالقياس إلى غيرها، وكان ذلك الإلحاق يجعل له ماهيةً أخرى متقررة بنفسها فالأمور المضافة هى أمثال هذه؛ وقد توجد فيها مضادة كالفضيلة والخسيسة التى كل واحدٍ منهما قد تصح له إضافةٌ إلى موضوعه. ولكن ليس كل مضافٍ يقبل ذلك، فإنه لا ضد للضعفين، ولا للزايد جزءاً.
والقانون فى ذلك هو أن المضاف مما يعرض للمقولات جميعها، فإن المضاف قد يكون فى الجوهر كالأب والابن، وقد يكون فى الكم كالكبير والصغير؛ وقد يكون فى الكيف كالأسخن والأبرد، وكالملكة وذى الملكة؛ وقد يكون فى المضاف نفسه كالأكبر إلى ما هو أقل كبراً، وكالصديق الأصدق من صديق؛ وقد يكون فى الأين كالأعلى والأسفل؛ وقد يكون فى متى كالأقدم والأحدث؛ وكذلك قد يكون فى سائرها فيعرض للمضاف ما يعرض لمقولته. فلما كانت الضعفِية تعرض للكم، وكان لا مضادة للكم، لم يعرض للضعفية مضادة. ولما كانت إضافة الفضيلة عارضةً فى الكيف، وفى الكيف تضاد، جاز أن يعرض لهذه الإضافة تضاد. وكذلك الحال فى قبول الأشد والأضعف، والأقل والأكثر.(1/102)
وقد يُظن أن غير المساوي قد يكون أكثر وأقل، لأن الكمية تكون أكثر وأقل كما أن الشبيه يكون أشد وأضعف، لأن الكيفية تكون أشد وأضعف، فنقول: أما غير المساوى فإنه فى الحقيقة لا يكون أشد وأضعف، ولكن قد يكون أبعد وأقرب، فإنَّ العشرة أبعد فى المساواة للثلاثة من التسعة. والسبب فى الأمرين - أعنى المحال والممكن - ما ذكرناه من أن الكم لا يكون أشد وأضعف، لا بالقياس إلى نفسه، ولا بالقياس إلى حال غيره عند نفس ذلك الغير؛ فإنه لا تكون عشرة أشد عشريةً من تسعة تسعية، كما يكون بياض أشد ابيضاضاً من سوادٍ اسوداداً، وإن كان قد يكون عدد أكثر زيادة على عدد من عدد، كما بيَّنا. فعلى ذلك يكون غير مساو أقرب من غير مساو آخر، وأما فى أنه غير مساو، فلا يقبل زيادةً ولا نقصاناً.
ومن خواص المضافات أنها كلها يرجع بعضها على بعضِ بالتكافؤ، وينعكس بعضها على بعض، ووجه ذلك الرجوع مخالف لوجه رجوع الحمل على الوضع، ولأنحاء أخرى من الرجوع والعكس تأتيك من ذى قبل. وذلك لأن الوضع ههنا قد يكون من أحد الطرفين مكرراً، والحمل يكون من الثاني، فإذا عكست صار الحمل وضعاً وقد ألحق به مثل ذلك التكرير فى جانبه، وصار الوضع حملاً وقد حذِف عنه التكرير، فتقول: إن العبد عبد للمولى، ثم تقول: والمولى مولى للعبد، فتكرر العبد فى الأول والمولى فى الثاني. وفى بعضِ الأمور تحتاج إلى أن تلحِق بالطرف المجعول محمولاً شيئاً زئدا لا يلحقه وهو موضوع، كإلحاقك اللام بالمولى والعبدِ ههنا، بل إلحاقك ما تلحِقه حين تقول: الحس حس بالمحسوس،والمحسوس محسوس بالحس.وفى بعض المواضع لا تحتاج إلى ذلك، كما تقول: إن الأب أب الابن، والابن ابن الأب.وسواء قلت ذلك لفظاً أو لم تقل فإنك تعقِله معنىً: فأنت تأخذ المحمول على أنه منسوب إليه سواء ألحقت به اللفظ الدل على ذلك، أو لم تلحق، ولم تأخذه على هذا الوجه بعينه حين تضعه.
وأما سائر العكوس التى ستأتيك فى مواضعها فتخالف الذى للمضاف فى ذلك كله؛ لكن فى هذا التكافؤ شرط يجب أن يراعى، وذلك أن الإضافة إذا لم تقع على التعادل، لم يجب هذا التكافؤ؛ووقوعها على التعادل هو أن تقع إلى الشىء الذى إليه الإضافة أولا وبالذات، فإنها إن وقعت إلى موضوعه، أو إلى أمرٍ يعرض له، أو إلى جنسه، أو إلى نوعه لم تقع الإضافة متكافئةً. فإنك إذا قلت إن الرأسَ رأسٌ للإنسان أو للحيوان، أو الرأس رأس لذى مشى، أو الرأس رأس للمشاء، وكذلك الجناح جناح للطائر والسكان سكان للسفينة لم يمكنك أن ترجع فتقول: والإنسان والحيوان أو ذو مشى أو المشاء هو إنسان أو حيوان أو ذو مشى أو مشاء بالقياس إلى الرأس، وكذلك لا تقول الطائر طائر بالقياس إلى الجناح، والسفينة سفينة بالقياس إلى السكان؛ وذلك لأن الرأس ليس معادل ما ذكرت بل معادله هو ذو الرأس، فالرأس رأس لذى الرأس، وكذلك الجناح جناح لذى الجناح، وكذلك السكان سكان لذى السكان. وأما ما ذكرت فهو إما موضوع المضافِ المعادل أو جنس موضوعه، أو جنس المضاف، أو عارض لموضوع المضاف. وإنما يعرض أكثر هذا فى الموضع الذى لا تكون فيه الإضافة واقعة حيث الماهية مقولة بالقياس، بل حيث تجعل كذلك بنوعٍ من النسبة، فيكون لا اسم للمضاف إليه من حيث هو مضاف إليه، بل إن كان كان من حيث هو موضوع للنسبة إليه أو من جهة أخرى.
فلذلك يجب أن يخترع لمثل هذا الشىءِ اسم بحسب النسبة. وإذا أشكل الأمر فى تحصيلِ ما تقع إليه الأضافة بالتعادل، مميزا مما يقع إليه لا بالتعادل، فسبيلك أن تجمع أوصاف الشىءِ جميعا.فأى تلك الأوصاف إذا وضعته ثابتاً ورفعت غيره جاز أن ترفعه أو لم يجز أمكنك أن تحفظ الإضافة؛ وإذا رفعته ووضعت غيره لم يمكنك حفظ الإضافةِ فهو الذى إليه التعادل، وما لم يكن كذلك فليس إليه التعادل. فإنِّك إذا رفعت من الشىءِ أنه حيوان وأنه إنسان وأنه مشَّاء وأنه ذو مشى كيف اتفق، وحفظت أنه ذو رأس، أمكنك أن تنسب إليه الأس. وإذا رفعت أنه ذو رأسٍ وحفظت أنه حيوان وأنه إنسان وأنه مشاء وأنه ذو مشى، لم يمكنك أن تضيف إليه الرأس.
الفصل الرابع
فصل (د)
فى خواص المضاف(1/103)
وما يرى فى المشهور أنه يلزم المضافات كلها هو أنهما معاً فى الوجود، أى أيهما وِجد كان الآخر موجوداً، وأيهما عِدم كان الآخر معدوما، مثل الضِعفِ والنِصفِ؛ ولكن قد لا يقع فى بعض الأشياء تكافؤ فى الوجود معاً من جهة أخرى، وذلك كالعلم والحس أى الإدراكان ليس القوتان المشاركتان لهما فى الاسم - فإن ذات هذا العلم فى جوهره يلزمه دائما إن يكون مضافاً إلى المعلوم موجوداً معه، وذات المعلوم فى جوهره لا يلزمه ذلك، فإنه قد يوجد غير مضاف إلى العلم وإن كانا من حيث هما متضايفان بالفعل لا يتقدم أحدهما على الآخر. وليس الغرض ذلك، بل الغرض أن أحد الذاتين لا ينفك من إضافةٍ تلزمه توجب أن يكون معه مضايفة أبداً، وذات الآخر قد يوجد وليس بمتضايف. وكذلك فتصور حال هذا الحس وأن ذاته لا ينفك عن لزوم الإضافة إياه، وذات المحسوس ينفك؛ ولا يجب أن لا يكون موجوداً حين لا يكون الحس موجوداً، إذ يجوز أن لا يكون حساس موجوداً، وتكون العناصر المحسوسة التى هى أوائل لتكُّونِ الحيوانات وغيرها من الأجسام الأرضية موجودةً. وأما أمور أخرى فتكون إما متكافئةً فى اللزوم إن أخذت متضايفات، وإما غير متكافئة فى اللزوم إن أخذت ذوات. فهكذا يجب أن تفهم هذا الموضع. وأما الوجه الذى تفهمه عليه الطائفة فوجه مختل. وأما المثال فى جنبة العلم فالمشهور ما أوردوه من أمر المربع المساوى للدائرة، فإنّ العلم به لم يوجد إلى هذه الغاية، لكنه موجود. فحرى أن نبحث عن هذا حقيقة البحث فنقول: إن لقائلٍ أن يقول إن هذا القول مجازف فيه، وذلك أنه ليس يجب أن يكون كل علم بإزاء معلوم موجود؛ فمن العلم التصور، وقد تتصور أمور ليس يجب لها الوجود، كالكرة المحيطة بذات عشرين قاعدة مثلثات، فإنّا نتصور مثل هذه حق التصور ولا يحوجنا ذلك إلى أن نجعل لها وجوداً فى الأعيان. وبالجملة لا يحوجنا ذلك إلى أن نجعل لها وجوداً غير الذى فى الذهن. وهذا الذى فى الذهن فهو العلم نفسه، وإنما بحثنا عن علمٍ مضافٍ إلى مضايف له، والمضايف شىء ثان.
وأيضا فإنِّ فى المعلومات بحسب التصديق أشياء كثيرة من جملة المضافات لا وجود لها فى الأعيان إلا بإمكان، والإمكان غير الوجود، وذلك مثل قولنا: إذا أخرج عن شكل كذا خط منحن كذا فى جنب خط كذا، لم يزل يتقارب الخطان ولا يلتقيان؛ فإنَّ هذا لا وجود له أيضا إلا فى الذهن.
وهذا المثال الذى أوردوه، وهو حال المربَّع المساوى للدائرة - الذى يجعلونه موجوداً وإن لم يعلم - فهو مثال أشدّ إشكالاً من الدعوى. فليت شعرنا أين وجوده ! فإنه إن كان له وجود فى الذهن فيجب أن يكون معلوماً، وإن كان له فى الأعيان وجود حاصل، فبأى دليل عرفوا ذلك ؟ ومن حدثهم به ؟ وإن عَنَوا أنه ممكن أن يوجد، فذلك أمر بالقوة، كما أن العلم به أيضا ممكن أن يوجد. فنقول لمن قال هذا وسأله: إنه ليس يمكنك وانت منطقى أن تتحقق هذه الأحوال كنه التحقيق، وإنما كان غرضنا فيما أوردناه أن تعلم أنه يمكن أن يكون لذات أحد المتضايفين وجود لا ينفك من الاضافة إلى الآخر، وليس الآخر بمكافىء له فى ذلك. فإن كان علم تصورى أو تصديقى ليس مضايفا إلى شىء آخر، فليس هو من جملة المضايفات التى نذكرها. فإذا لم يكن من جملة ما ذكرناه، لم ينتفض به ما قلناه، بل جعلنا مثالنا الذى نعتده من الشىء لا يكون علماً إلا وهو مضاف، وذلك مثل علمنا بأن الفلك موجود متحركاً على الاستدارة. وهذا العلم هو فى الجملة التى ذكرناها، والشرط الذى أشرنا إليه؛ وإن كان لما أوردناه قبل مثالاً مضايف فى الذهن أو خارج الذهن، وكان مكافيه فى الوجود معاً، فليس ذلك أيضا مما ينقض به ما قلناه. فإنَّا لم نقل: ولا شىء من المتضايفات تتكافإ فى الوجود معاً، بل قلنا: إن أكثرها كذلك. وأما أمر المربعَّ والدائرة فليس يتغير بما زعم فيه غرضنا، وذلك لأنه إن كان لهذا المربَّ إمكان وجود فلا يستحيل فرضه موجوداً، وليس فرضه موجوداً يوجب أن يكون العلم به حاصلا. بل يجوز أن يكون هذا المرَّع موجوداً ونحن على جملتنا من الجهل به؛ فبينِّ أن جميع ما أورد من هذه الطعون لا يفسد الغرض الذى نؤمه. فما علينا من غير ذلك، وما حاجتنا إلى أن نتكلف فى المنطق علماً غير المنطق ليس من شأن المنطقى أن يتحققه كنه التحقق.(1/104)
ويجب أن تعلم أن المتضايفين من حيث يتضايفان بالفعل تضايفاً على التعادل فهما معاً؛ إذ الشىء إنما تقال ما هيته بالقياس إلى شىء يكون معه. وأما إذا أخذ أحدهما بالفعل والآخر بالقوة، فقد زال التعادل. لكن على هذا إشكال، وهو أن لقائل أن يقول: إن المتقدم فى الزمان مقول بالقياس إلى المتأخر، ولا بد من أن تكون بينهما إضافة بالفعل، ولا تضاد، فهما موجودان معاً.
وأيضاً فإنِّا نعلم أن القيامة ستكون، والقيامة معدومة غير موجودة، والعلم بها موجود، ولا بد أن تقع بينهما إضافة بالفعل، ولا تضاد، فهما معاً، فنقول: أما الشك المورد من جهة المتقدم والمتأخر فإنه ينحل بأن نقول: إن هذا المعنى يعتبر من وجهين: أحدهما بحسب الذهن مطلقاً، والآخر بحسب الوجود مستنداً إلى الذهن. أما بحسب الذهن فأن يحضر الذهن الزمانين معاً فى الوهم، فيجد أحدهما متقدماً والآخر متأخرا، فيكون قد حصلا جميعاً فى الذهن؛ أو يكون أحد الزمانين كيوم من الأيام حاضراً فى الوجود والذهن، فيضيف الذهن إليه زماناً بعقله مستقبلاً، فيحكم حينئذ بينهما بتقدّم، لأنه قد أحضرهما معاً.
وأما الوجه الآخر فهو أن الزمان المتقدم إذا كان موجوداً،فموجود من الآخر أنه ليس هو، وممكن أن يوجد إمكاناً يؤدى إلى وجوب، وهذا كونه متأخراً. وهذا الوصف للزمان الثانى موجود فى الذهن عند وجود الزمان المتقدم. وإذا وجد المتأخر فإنّه موجود فى الذهن حينئذ أن الزمان الثانى ليس موجوداً، ونسبته إلى الذهن نسبة شىء كان موجوداً ففُقِدَ. وهذا أيضا أمر موجود مع وجود الزمان المتأخر. فأما نسبة المأخر إلى المتقدم على وجهٍ آخر غير ما ذكرناه فلا وجود له فى الأمور، لكن فى الذهن فقط، فإنَّ كل زمان وجد فلا يكون - من حيث هو موجود - لا متقدماً ولا متأخراً، ولا مضافاً إلى شىء من الأزمنة، وإلا لكان مضافاً إلى أشياء بلا نهاية فى وقت واحد، وكانت هناك إضافات لا نهاية لها موجودة بالفعل؛ بل هو فى نفسه بحيث إذا عقل وعقل الآخر حكم العقل عليه بأنه متأخر عن أمر موجود فى الذهن.
وأما العلم بالقيامة، فإنه إنما هو فى حكمٍ سيكون، فإن العلم بها أنها ستكون علم بحال من أحوالها موجود فى الذهن مع وجود العلم بأنها هى ستكون لا عندما تكون، بل قبل ذلك عندما هى معدومة فى الأعيان موجودة فى النفس. وأما تصور ماهية القيامة مجردة فإنّه غير مضاف إلى شىء فى الوجود من حيث هو تصور.
واعلم أن جميع أمثال هذه إضافات إنما تتقرر فى الوهم، والمتضايفات فيها أيضا إنما تكون متضايفات فى الوهم. والبيان المستقصى لهذا إنما هو فى العلوم الحقيقية؛ لكن قوماً من المتكلفين أجابوا فى شبهة تكافؤ العلم والمعلوم فقالوا: إن الذى قيل من أن المعلوم قد توجد ذاته والعلم به لا يكون، قولٌ غير حق؛ فإنّ ههنا علما موجودا بكل شىء وجودا لا يتأخر عن الأشياء، وهو علم البارى والملائكة؛ ولم يعلموا أن هذا وإن كان حقاً، فليس جواب المتشكك، فإن المتشكك ليس يقول: إنه ولا شىء من المتضايفات لا يكون معاً، ولا أيضاً يقول: إنه ولا شىء من العلم والمعلوم يكون معاً؛ ولا يحتاج إلى ذلك، فإن دعواه انه ليس كل متضايفين يكونان معاً. وهذه الدعوى تصح بمثالٍ واحدٍ يورده المتشكك فى علمٍواحد فيقول: إن علمى بوجود العالم لا يصح أن يكون علماً وذاتاً؛ والعالم غير موجود الذات، ثم العالم قد يكون موجوداً فى ذاته، وليس علمى به بموجود؛ وكذلك إن لم يعتبر شرط الذات؛ فإذا كان علمه بالعالم على هذه الصفة، ولم يكن علم البته غير هذا العلم الواحد إلا وهو موجود والعالم دائما معاً، لا العلم الذى أشار إليه فقط بل جميع العلوم، فكان العالم قد يكون موجوداً وعلم ما من العلوم بوجوده ليس بموجودٍ، فالشبهة تكون قائمةً؛ فإنّ الشبهة لم ترِد بسبب أن المعلوم قد يكون موجوداً ولا علم ألبته؛ بل هى شبهة أخرى، وينبغى أن يرتاد لها حل آخر، وأقله أن يقال: إن العالم حينئذٍ لا يكون مضافاً إلى هذا العلم إذ لا يكون معلوما له.
الفصل الخامس
فصل فى تحقيق المضاف
الذى هو المقولة والفرق بين ما هو مضاف بالذات وما هو عارض له الإضافة أو لازم وخواص المضاف الذى هو المقولة(1/105)
اعلم أنا إلى هذا الوقت إنما أخبرنا عن مضافات يطابقها الحد المذكور، فبعضها كانت ماهياتها مقولة بالقياس إلى غيرها، وبعضها كانت قد تصير كذلك بنحوٍ من النسبة يلحقها. فلننظر هل الرسم المذكور هو رسم المقولة، أو رسم معنى يصلح أن يقال إنه مضاف، وليس هو نفس المقولة أو نوعاً من المقولة، فنقول: إنا نعلم أن المقولاتِ متباينة، وأنه لا يصلح أن تحمل مقولتان معاً على شئ واحد حمل الجنس حتى يكون الشئ الواحد يدخل من جهة ماهيته فى مقولتين، وإن كان قد يدخل الشئ فى مقولة بذاته، وفى الآخر على سبيل العرض. وقد فرغنا فيما سلف عن هذا. ثم إن هذا الحدّ لا يمنع العقل مطابقته أموراً تدخل فى مقولات أخرى، فإن الرأس قد يحتاج أن يكون بذاته جوهراً حتى يكون رأساً، كما يحتاج إلى أن يكون مقولة الماهية بالقياس إلى غيره حتى يكون رأساً؛ فكلا الأمرين مقوِّم له من حيث هو رأس، ليس أحدهما بالذات والآخر بالعرض. والرأس إنما يكون كذلك إذا أخِذ رأساً على الإطلاق وكان على اعتبار الجواهر الثانية. وأما إذا أخِذ مخصصا على أنه هذا الرأس، فإنه لا تقال ماهيته بالقياس إلى غيره حينئِذ؛ وذلك أنه بسبب أن ذاته قد تحس وتتخيل من غير أن يعلم الشىء الذى هو رأسه من حيث هو هذا الرأس، والذى هو رأسه من حيث هو هذا الرأس فإنه هو هذا الإنسان. وأما إذا دل على أنه رأس لشىء جملةً، فليس ذلك له من حيث هو هذا الرأس، بل من حيث هو رأس على الإطلاق. وكذلك لا يقال إن هذا الرأس رأس ما بالقياس إلى شىء؛ بل إنه رأس على الإطلاق بالقياس إلى شىء. ويمكننا أن نقول: إن الرأس إنما هو رأس بالقياس إلى ذى الرأس؛ ولا يمكننا أن نقول: إن هذه اليد إنما هى هذه اليد بالقياس إلى سقراط، أو هذا الذى هو ذو رأس، حتى لو رأيت هذه اليد منكشفة غير مستورة تَمثَّل فى ذهنك ضرورةً بإزائه ما هو بالقياس إليه وهو سقراط، أو هذا ذو الرأس، كما تمثل هنالك ذو الرأس.
وأيضاً فإن بعض الأمور التى ذكرت قد كانت فى ذواتها من مقولة الكيفية أيضاً، مثل الملكة؛ فإنها كيفية، وقد قيلت بالقياس إلى غيرها بنحوٍ من أنحاء النسبة. وكذلك أمور أخرى من مقولات أخرى. فالرسم الأول لا يمنع من أن تكون ههنا أمور هى من باب الجوهر وغيره داخلة فى المضاف. فليس هذا الحد إذن حد المقولة وإلا لاشترك فى حد واحدٍ أمور من مقولات شتىْ وإن لم يكن حداً لها، بل إنما هو حد بحسب اسِم معنى يعمها مقوِّمِ لماهيتها يقال عليها. فإنه لا يجوز أن تكون الأمور التى جنسها الجوهر جنسها شيئاً غير الجوهر.
فيجب إذن أن تتأمل هذا الحد، وتتدارك خللاً إن وقع فيه. والتدارك المشهور لهذا هو أن الأمور التى من المضاف هى التى الوجود لها هو أنها مضافة؛ وهذا تدارك صحيح، لكن بعض الناس يظن أن هذا بعينه هو الحد الأول، وستعلم أنه ليس هو الأول عن قريب. ولو كان هو الأول، لكان بالأول غنى عنه، وخصوصاً والأول يدل على المعنى الذى يدل عليه دلالة واضحة لا يدل عليها هذا الثانى، إن دل دلالةً بذلك الوضوح.
وظن بعضهم أن فيه بيان الدور: وهو أنه أخذ المضاف جزء حدٍ لنفسه.(1/106)
والمشتغلون بهذا الشأن قد اجتهدوا فى حل هذا الشك، وقد قارب بعضهم الحل، إلا أنه قد ذهب عنه ذهاباً يسيراً. ولكنا نقول: إن من الأشياء ما يكون جنسه أشهر عند الجمهور، فيكون الاسم بحسب الوضع الأول موضوعاً لجنسه، أو لما هو عنده كالجنس. ثم إن الخواص يحدون معنى نوعياً تحته، أو ما هو كالنوعى تحته، فينقلون اسم الجنس إليه لملاءمة توجبه، وقد تجد مثل هذا كثيرا، أعنى أنك تجد أموراً نقل إليها أسماء حُرِّفت عن دلالة الوضع الأول، بل تجد لنفسِ ما أومأنا إليه من جريان العادة بنقل الاسم عن الجنس إلى النوع أمثلة كثيرة، من جملتها أن الجمهور قد كانوا يروْن أن كل شىء توهم فهو إما غير ممتنع، وجعلوا اسم الممكن مرادفاً أو كالمرادف لقولهم: غير الممتنع فقالوا: إن كل موجودٍ إما ممتنع وإما ممكن؛ ولما فصل الخواص حال ما ليس بممتنع الوجود وجدوا بعضه واجب، وبعضه غير واجبِ الوجود، وكلاهما يشتركان فى أنه ممكن بهذا المعنى؛ أى بمعنى غير الممتنع. ثم وجدوا فى الأمور ما ليس بواجب الوجود ولا ممتنعه؛ ولا يمتنع وجوده ولا عدمه؛ فيمكن وجوده وعدمه؛ فخصّوه باسم الممكن من حيث هو غير ضرورى؛ وأخرجوا الواجب عن دلالة هذا الوضع الثانى؛ ونقلوا اسم ما هو كالجنس إلى ما هو كالنوع.
وكذلك أيضاً الحال فى المضاف، فإن اسم المضاف كان مقولاً فى الوضع الأول عند الفلاسفة على المعنى المذكور، وهو أنه ماتقال ماهيته على الصفة المذكورة من غير اعتبار أن له وجودا غير ذلك، أو ليس له وجود غير ذلك، حتى كان الشىء إذا كان من الجوهر أو من الكيفية ثم لحقته نسبة، واعتبر من جهة نسبته، فكان من حيث هو كذلك مقول الماهية بالقياس إلى غيره، فكان من المضاف وله ماهية مخصوصة ليست تقال بالقياس، وكان إذا كان الشىء كالأبوة والبنوة فكانت ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره وإن لم يكن له وجود آخر وماهية أخرى كان أيضاً من المضاف، فكان المضاف يقع على المعنيين جميعاً وقوعاً يحده، وإن لم يكن لهما جميعاً جنسا. فليس كل ما يحمل بالمعنى على مقولتين أو على شيئين من مقولتين، أو شيئين من مقولة واحدة فهو جنس للمقولتين، فإنك قد عرفت هذا وتحققته.
وإذا كانَ لك فمعنى المضاف المأخوذ فى الحد هو هذا المعنى العام، ومعنى المضاف المحدود هو هذا المعنى الخاص؛ فكما أن الحاد إذا حد الممكن الحقيقى فقال: إن الممكن الحقيقى هو الذى يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون، لا يكون قوله مدخولا، من جهة أنه أخذ الشئ فى بيان نفسه، لأنه لم يرد بالممكن المأخوذ فى الحد إلا المعنى الجنسى الذى هو بمعنى غير ممتنع. فلذلك إذا قال: إن المضاف الحقيقى الذى يحده على أنه أحد العشرة هو الذى ماهيته ووجوده أنه مضاف، وعنى أنه الذى وجوده وماهيته هو أنه مقول الماهية بالقياس، وليس له وجود غيره، لم يكن أخذ المحدود فى حده أو المرسوم فى رسمه، فيكون هذا من جملة المخصصات التى إنما تتخصص بإلحاق شرط التجربة بطبيعة عامها؛ فإنه إذا كانت طبيعة الجنس من حيث هى طبيعة الجنس صالحة لأن يلحق بها معنى وأن لا يلحق، وليس يجب لها أحدهما، وكانت إذا ألحق بها شرط وجود ذلك المعنى تخصصت، فإنها إذا ألحق بها شرط عدم ذلك المعنى تخصصت.
ولست أعنى بالجنس ههنا وبالنوع الجنس والنوع الحقيقين، بل الخاص والعام. فإذا كان حد المضافِ الذى هو المقولة هو هذا الحد، فالرأس لا يكون مضافاً بالمعنى الذى للمقولة، إذ ليس يكون وجوده أنه مضاف فقط، بل وجود آخر قد لحقه هذا المعنى.وكذلك العلم، فإنه صورة وكيفية متقررة فى النفس، لكنها يلزمها إضافة مَّا، ولها وجود خاص من حيث هى صورة للنفس. وكذلك الضعف فإنه يكون صورة فى النفس عدداً أو كماً وتعرض له نسبة.
ولكن لقائلٍ أن يقول: إنكم قد منعتم أن يكون المشتق اسمه من الأعراض البسيطة مقولةً كالأبيض، ومعناه شئ ذو بياض من غير زيادة، ثم لاشك فى أنه يجب أن يكون المضاف. فالمعنى الأول يفهم منه أنه شئ ذو إضافة من غير تخصيص، ولا شك على تلك الأصول أنه إذا كان هذا المفهوم لم يكن أن يكون مقولة أو نوعا من المقولة. ثم المضاف الذى يجعلونه مقولة فهو أيضا شئ ذو إضافة، لأنه شئ مقول ماهيته بالقياس إلى غيره؛ وإذا كان كذلك فقد شارك هذا المضاف الذى هو المقولة المضاف الذى ليس هو المقولة، فلا يكون بينهما فرق.(1/107)
وأما الشيئية فهو أمر لا ينفك عنه المضاف الى هو المقولة، ولا يمكن أن يسلب عنه، فلا يمكنك أن تقول: إن الوجود الخاص، الذى ليس به ما ليس بمقولة مضافاً، هو أنه شئ؛ فإن الشئ لا ينفك عنه أيضا ما لا يجعل له وجوداً خاصاً غير كونه مضافاً؛ بل الوجود الخاص إنما نعنى به وجوداً أخص من الشيئية، ووجوداً من جملةِ أنحاءِ الوجودِ التى تخص الأشياء دون الأمر المشترك لجميع المقولات. فنقول فى جواب ذلك. إنه ولا سواء، فإن الشيئية المحمولة على المضاف الحقيقى هى الشيئية التى تخصيصها الوجود الذى للمضاف من حيث هو مضاف، وأما الشيئية المحمولة على المعنى الآخر فإن تخصيصها وجود آخر، فإن الشئ ذا الإضافة إذا خصصت شيئيته صار به جوهراً أو كيفاً أو شيئاً آخر. وأما شيئية الإضافة فهى الإضافة، فشيئية ذى الإضافة تقتضى لذلك الشئ حقيقةً غير التى هو بها مضاف؛ ولا كذلك شيئية الإضافة.
وإذا قلنا: إن المضاف الذى من المقولة هو الشئ الذى ليس له وجود إلا الوجود الذى هو به مضاف، فلسنا نعنى به الوجود العام، بل نحواً من الوجود مخصِّصا للعام ليس هو التخصيص بكونه إضافةً فقط، قد يتخصص تخصيصاً فى أنه إضافة. والأبيض أيضا ليس تخصصه عن الشيئية أن تخصيص شيئيته بأنه شئ ذو بياض فقط، بل شئ له نسبة خاصيةٍ إلى البياض، لا تتم شيئيته بالفعل إلا أن يلحقه أن يكون فى نفسه جوهراً جسمانيا، فيكون الفرق أن أحدهما شئ يتقوِّم بأنه مقول الماهيةِ بالقياسِ، وأنه مخصص من قبيل ذلك، ولا يتخصص بغيره وهو المقولة. والآخر أن شيئيته تتقوَّم بوجودٍ خاصٍ وحقيقةٍ خاصيةٍ تلحقها الإضافة، وليس من قبيل الإضافة، وهذا هو الذى ليس بمقولة. ولأجل هذا الفرق ما كان أحدهما مقولةً، ولم يكن الآخر مقولةً، ولا جارياً مجراها إلا بمجرد أنه شئ له إضافة. فقد انحل هذا الشك فإذا كان المضاف لا وجود له إلا أنه مضاف، فيلزم أن يكون إذا حُصِّل أحد طرفيه تحصيلاً كان الآخر محصِّلا بسببه، حتى إذا قلت: ضعف مطلقاً من غير تحصيل تمثل لك بإزائه نِصف من غير تحصيل، وإذا قلت: ضعف هو أربعة، تمثل لك بإزائه نصف هو اثنان.
وقولنا: " تحصيل المضافِ " لفظ نفهم منه معانى. ويجب أن نقدم قبل بيانِ ذلك مقدمةً فنقول: إن المضاف ليس له وجود مفرد، بل وجوده أن يكون أمراً لاحقاً للأشياء وتخصّصه بتخصيص هذا اللحوق. والتخصيص بهذا اللحوق يفهم على وجهين: أحدهما أن يؤخذ الملحوق والإضافة معاً، فذلك من مقولة ومقولة، ليس المقولة، بل هو مركب من مقولة ومقولة؛ والآخر أن تؤخذ الإضافة مقروناً بها النحو من ذلك اللحوق الخاص العقلى، ويؤخذان جميعاً كعارضٍ واحد للملحوق؛ وهذا هو تنويع الإضافة وتحصيله، فإنّ المشابهة مثلاً موافقة ما فى الكيفية، والموافقة فى الكيفية غير الكيف الموافق، فالكيف الموافق ليس هو إضافةً، بل هو شئ ذو إضافة.(1/108)
وأما الموافقة منسوبة إلى الكيفية فهى نوع من المضاف، مثل المساواة التى هى موافقة فى الكمية، والمماثلة التى هى موافقة فى النوع. فإذا كان التحصيل فى المضاف إنما يمكن حيث يكون المضاف أولاً غير محصَّل فتكون إضافة مأخوذة بمعنى أعم، إذ لابد من أمر تفرض له أو إليه الإضافة؛ ثم إذا تحصل فإنما يتحصل لا محالة بتحصيل ذلك المعنى. ولو كان المعنى بحالة لكانت الإضافة بحالها. وإذا كان المضاف قد تحصل فليس تحصيله بإزاء الأمر الذى كان أولا، وهو كما كان أولا؛ ومثال ذلك أنا إذا أخذنا أولاً ضِعفا عدديا على الإطلاق، فهو بإزاء النصف العددى على الإطلاق، فإذا حصِّل العدد الذى هو الضعف حتى صارت الضعيفة محصلةً فلا يثبت الجانب الآخر على حاله، فإنّ إطلاق ذلك الجانب، أعنى النصفية كان إنما يكون بإزاء إطلاق هذا الجانب أعنى الضعيفة؛ غير محصَّل. فإذْ قد تحصل فبيِّن من ذلك أن الآخر قد تحصل؛ فإنّه إذا تحصل الشئ الذى هو الضعف تحصل لا محالة الشئ الذى هذا ضعفه، إذ ليس يجوز أن يكون كل شئ ضعفا لكل شئ من حيث هو ضعف محصل، فأى المضافين عرِف بالتحصيل عرِف الآخر به، فإن كان التحصيل لم يطرأ عليه من حيث تتحصل بها الإضافة بل من حيث يتحصل الموضوع وترِكت الإضافة بحالها، فإن المضاف المقابل لا يتحصل؛ وذلك لأن طبيعة الإضافة لم تتحصل بل موضوعها. وليس إذا كانت الإضافة لا تتحصل إلا بموضوعها يجب أن يكون كلما تحصل موضوعها تحصلت الإضافة؛ ومثال هذا أنه إذا كانت الرأسية إضافةً عارضة لعضو ما؛ وكان قياسه إلى ذى الرأس فيحصَّل هذا العضو من حيث هو جوهر؛ وكان هذا الرأس قد دخل التخصيص جوهره ولم يدخل التخصيص إضافته؛ لم يلزم أن يكون إذا عرِف هذا الرأس من حيث هو هذا الجوهر محصلا، أن يعرف من ذلك أنه رأس، لأن الرأسية ترِكت بحالها، ولم تحصل من حيث العقل بل من حيث الحس؛ فلم يلزم أن يكون للعقل سبيل إلى تحصيل الثانى؛ إذ لم يتحصَّل له الأول؛ والحس لا سبيل له إلى ثان غير حاضر عند الحس بسبب أول حاضرٍ عند الحس.فلو اجتهد حتى يحصل للعقل تخصيص هذا الجوهر، وجب أن يخصص له بعوارضه، ومن عوارضه كونه من بدن زيدٍ، فحينئذٍ يتحصَّل للعقل ذو الرأس. فهذا حكم ما فيه موضوع وإضافة.
فأما إذا كان المضاف نفس الإضافة، فلا يتحصل أحد الطرفين إلا بتحصيل الآخر، لأنه لا وجود لأحد الطرفين غير المضاف، فيحصل من هذا أن كل شىء من باب المضاف إذا تحصَّل نحواً من التحصيل لا يلزم أن يتحصل مقابله فإن الإضافة لاحقة له؛ وله وجود خاص.وليس يلزم من هذا أن يكون كل ما تلحقه إضافة وله وجود خاص، فإنه لا يتحصل بتحصل مقابله؛ بل قد يتحصل إذا كان التحصيل عقلياً. وأما الإضافة نفسها فإنها تتحصل فى العقل مع تحصيل موضوعها. فمن تحصيل الإضافة بتحصيل موضوعها ما ينوِّعها، ومنه ما لا ينوعها بل يضيِّفها أو يشخصها، فإن جعل حدها آخر نوَّعها، وإِن حفظ حدَّها وألحق به عارضا غريبا لو لم يكن ذلك لم يبعد أن يحفظ تلك الطبيعة من الإِضافة، لم ينوعه بل ربما ضيَّفه؛ كأبوة الرجل العادل، وأبوةِ الرجلِ الجاير، فإنهما يختلفان فى أحوالٍ ولكن خارجةٍ عن الماهية؛ فإن الرجل العادل لو توهمته غير عادلٍ، لم يزل بذلك المعنى الذى هو الأبوَّة.
فأما المساواة فإنك إِن توهمت بدل الكمية فيها كيفيةً: لم تكن تجد المساواة وجوداً، ولم تبق الإضافة بعينها موجودة.(1/109)
وأما الشخصية فكأبوة هذا وأبوة ذلك، بل كالجوار الذى لكل واحد من الجارين؛ فيجب أن تعلم أن ما يقولونه من حال الإضافة فى امثال هذه: أنها علاقة واحدة بالعدد موجودة لهما جميعا، هو قول ولا معنى له، بل كل واحدٍ منهما موصوف بإضافةٍ إِلى الآخر ليست هى بالعدد إِضافة الآخر إِليه، بل ربما كان نوعهما واحداً كجوار هذا لذلك، وجوار ذلك لهذا؛ وربما كانا متخالفين بالنوع كالأبوة والبنوة؛ وكذلك المماسة: فإن كل واحد من الشيئين يوصف بأنه مماس لذاك الآخر ففيه مماسة لذلك، نسبة تلك المماسة إِليه نفسه هى أنها فيه، وإلى الآخر أنها له، وأنها بالقياس إليه ولأجله كذلك.والآخر أيضاً مماس للأول بمماسة فيه للأول، فنسبة تلك المماسة التى الآخر هو بها مماس إِلى الآخر نسبة بأنها فيه، وإِلى الأول نسبة بأنها له لا بأنها فيه وأنه لا يماس أحدهما الآخر بمماسة تكون فى ذلك الآخر، بل بمماسةٍ تكون فيه نفسه لذلك الآخر، لكنهما من حيث المماسةٍ بل من حيث العلاقة يتفقان اتفاق الشخصيات فى الأمور العامة. وهذا فليكن كافياً فى بيان أمر المضاف.
المقالة الخامسة
من الفن الثانى من الجملة الأولى من كتاب الشفاء فى المنطق فى الكيفية
الفصل الأول
فصل (أ)
في تعريف الكيفية وأقسامها الأول
وأما الكيفية فقد جرت العادة بأن تعرِّف نحوين من التعريف: أحدهما أن يقال: إِن الكيفية ما به يقال على الأشخاص إنها كيف هى، والآخر أن يقال: إن الكيفية ما به يقال للأشياء إِنها شبيهة وغير شبيهةٍ.
فلننظر فى حال هذين التعريفين أنهما هل يفيداننا معنى متصوراً، فنقول: أما إِذا كان هذا التعريف على سبيل الإحالة على المتعارفِ وما تجرِى عادة الناس بالسؤالِ عنه بلفظةِ كيف، والجوابِ به إِذا سئِل بكيف، فأمرٌ غير محصَّلٍ فى مقولةٍ واحدةٍ؛ وذلك لأن الجمهور قد يسألون: كيف زيد ؟ ويتوقعون أن يجاب بأنه قائم أو قاعد؛ فيكون الجواب عن الواقع فى مقولة الوضعِ. ويسأل أيضاً فيقال: كيف رأيت عبدالله ؟ فيحسن فى التعارف أن يجاب فيقال: رأيته ماشياً أو غادياً؛ أو رأيته يحمر أو يصفر، أو غير ذلك، ولا يتحاشون فى بلاد العرب والعجم أيضاً أن يقولوا: رأيته فى مكانٍ طيِّبٍ؛ أو فوق سريرٍ، وأمثال هذا، حتى تكون هذه الأحوال عندهم كيفياتِ أحوالِ الناس.
فالتعارف ليس يقِفنا من ذلك على شىء يصرف الذهن إِلى تخيّلِ الكيفيةِ الداخلة فى المقولةِ؛ بل كما أنهم يقولون " حال " ، لا للذى يسمِّى حالاً فى قاطيغورياس فقط، بل لجميع الصفات؛ وإن كانت كمياتٍ؛ فلا يتحاشون أن يقولوا " كيفية " لغيرها، فإن كان جميع ما يسمونه كيفيةً على هذا الوجه هو داخل فى هذه المقولة، فالوضع داخل أيضاً فى هذه المقولة.
ثم لايبعد عندى أن يستقبِل كلامى واحد من هؤلاء المبرخشين فيقول: أما الوضع؛ فهو من حيث يصلح أن يكون جواباً عن سؤالِ كيف، فهو كيفية؛ ومن حيث هو حال لجوهر ذى أجزاء كذا، فهو وضع. فإن قال ذلك، لم نضايِقه بأن نقول له: إن هذا لايمكن، ولم نؤاخده بما سلف ذكره؛ ولكنَّا نوجب عليه أن يجعل الوضع نوعاً من الكيفيةِ فإن الجهة التى هو بها وضع لاتجعله بحيث لا يصلح أن يكون جواباً عن سؤال: كيف الشئ؟ بل تعِدّه لذلك؛ فلا يكون هذا كاعتبارين متباينين يصير بهما الشئ فى مقولتين؛ بل كاعتبارين أحدهما يقال على الآخر، وهو أعم منه. وإذا كان الأعمّ مقولةً، فالأخص يدخل فيها؛ فلا يكون الأخص مقولةً برأسِه. فإن لم يلتفت فى هذا إلى التعارف العام، بل أرِيد معنى وقع عليه إصطلاح خاصّى، فبالحرىّ أن يكون الدال بهذا اللفِظ على ما أراده يكون قد عرّفنا ما يريد به بالوضع الثانى. فلم يمكننى إلى هذا الوقت أن أفهم من هذا الرسم حقيقة هذه المقولةِ؛ ولا يبعد أن يكون غيرى قد فهم ذلك؛ أو يكون التأويل ما سنقوله بعد.
وكذلك الحال فى الشبيه وغير الشبيه؛ فإنّ الشبيه يستعمل استعمالاً عامياً، ويستعمل استعمالاً خاصياً.
فأما الاستعمال العامىُّ فلا يختص بالمعنى الذى يراد فى هذه المقولة؛ بل قد يقولون: إن قعود فلانٍ شبيه بقعودِ فلانٍ؛ وإن احتراق النفطِ شبيه باحتراق دهنِ البلسانِ؛ بل لايمتنعون عن القول بأن طول زيدٍ شبيه بطول عمروٍ؛ فلا أجد التعارف أيضاً يعمل فى أمر الشبيه إلا ما يعمله فى أمر السؤال بكيف.(1/110)
فإن قال قائل: إنه فى بعضها مستعار وفى بعضها حقيقى؛ فنسلم له أنهم إذا قالوا: شبيه فى الطول، دروا أنهم يستعيرون؛ لكنهم إذا قالوا: قعود شبيه بقعودٍ، لم يذهبوا إلى أنهم يستعيرون شيئا؛ وكذلك إذا قالوا: احتراق شبيه باحتراق؛ بل قالوا ذلك وهم محقِّقون، وليس يمكن أن يقال: ليس لكم ذلك؛ بل إنما يكون هذا اللفظ مستعاراً فى شئ، وحقيقياً فى شئ بحسب إرادتهم؛ فإن اللفظ لا يستحقّ شيئاً من ذلك فى نفسه، بل إنما يكون ذلك له بحسب التعارف. والتعارف فى المستعار هو أن يقول القائل ذلك، وعند القائل أنه لفظ غيره استعير له لمشاكلةٍ وتمثيل. فإما حيث لا يكون عند القائل كذلك؛ بل يكون قوله: إن احتراقاً شبيه باحتراق، كقوله: إن حرارة شبيهة بحرارةٍ، فلا يكون لنا من هذا التعارف سبيل إلى معرفة ما يدلّ عليه بهذا اللفظِ دِلالةً حقيقية: ومع هذا فإن من يدَّعِى فى لفظة ما اشتراكاً واستعارةً، فعليه أن ينصّ على المعنى المقصود به فى الموضع الذى يستعمله، وخصوصاً إذا كان ظاهر التلفظ بعيداً عن أن يتميَّز للسامع معناه المقصود تميزه لو قال: عين الماء، وعين الشمس، وعين البصر.
ويجب أن نكون قد أعطينا معنى الشبيه حين نخاطب باستعماله ههنا، وقصارى ما فهَّمونا مِن لفظ الشبيه بالاصطلاح الخاصّى، وغاية ما ينصّون عليه هو أن يقولوا: إنا نعنى به الموافق فى الكيفية.
وإن كان قولنا: إن الكيف هو ما يقال له، شبيه بالقول النقلى لا المتعارف عند الجمهور؛ وكان تفسير ذلك النقلى هو الذى معناه الموافق فى الكيف، فلا شكَّ فى أن الكيف نفسه يجب أن يكون أعرف من الموافق فى الكيف؛ فيكون من قال: إن الشبيه هو الموافق فى الكيف، وقد عرف الشبيه بالكيف، وهو يريد أن يعرف الكيف بالشبيه فلا يستفيد المتعلم من هذا البيان شيئا. إنما يمكن ههنا حيلة واحدة؛ وذلك أن يكون الكيف وقابل الشبه تجمع لنا من الموجودات معانى مختلفةً. ثم إذا فَصلْنا هذه المقولات، وعرفنا ما جعلناه مخالفاً للكيف، واستثنيناها، بقى لنا المنحصر فى مقولة الكيف ما يجاب به عن سؤال كيف مما ليس من تلك الأخرى وما تقال به المشابهة مما ليس تلك، فيتخيَّل الذهن أموراً دون أمور، وأن يكون ههنا وجه آخر من النظر، وهو أن تُجعل حقيقةُ البحث عن الشئ أنه كيف هو فى نفسه ما يقتصر على نفسه وحاله؛ فإذا كان الوصف مما يحوج إلى اعتبار أمر آخر فيه غير نفسه وغير حاله حتى يقال إنه كيف هو؛ فكأنه قد عدل عن الواجب؛ فإن السائل إنما رام أن يخبر عن أمرٍ فى نفسه إذ قال كيف هو فى نفسه دون أمرٍ يكون له لغيره فى نفسه.
فيشبه أن يكون الوضع وغير ذلك من المقولات إِنما صلح أن يقال له كيف، إِما بالنقل والوضعِ الثانى، وإِما بالتوسّعِ فلذلك صار لأن يجاب به عن كيف الشئ؛ ثم استمر هذا التوسُّع وتقرَّر عند الجمهور كالأصل. فإن الوضع ليس معنى يتصور للشئ ما لم تتصور له أجزاء هى غيره وِجهات خارجة، ثم يتصور له وضع. فالوضع مخالف للمعنى الذى يكون للشئِ فى نفسِه بنفسِه الذى بالحرىّ أن يكون البحث بِكيف مقصوراً عليه. فهذا، وإِن كان قد يمكننا أن نقوله، فإنا نكون قد تعدَّينا أيضاً التعارف إِلى نوعٍ من النظر والاستدلال.
وأما الكم فإن التعارف يشبِه أن يدل على أنه غير صالِحٍ فى جواب كيف الشئ؛ وإن أجيب فإنما هو مجاز.
فإذا كان كذلك فقد تقرَّر معنى السؤال بكيف. وكيف أشهر من الكيفية؛ فإن اسم الكيفية اشتقَّ مِن اسم الكيف؛ والمشتق منه أدل وأعرف من المشتقّ له. وهذا مِن قبيل ما يشتقّ فيه اسم الحال مِن اسم الشئِ ذى الحال، ليس مِن قبيل ما يشتق فيه اسم ذى الحال مِن اسم الحال، كاشتقاقِ اسم الضاربِ مِن الضرب. وأيضا فإن الكيف نفسه لامن حيث السؤال والجواب، بل من حيث هو شئ، أشهر من الكيفية؛ إِذ كان السبيل إِليه الحِس؛ والحس لا يميِّز الكيفية مفردةً، بل يتناولها مع الشئِ المتكيِّفِ بها ومع المقدار الذى يلحقها بسببه تناولاً واحداً غير مفصَّلٍ؛ ثم مِن بعد يحصل ما يتخيل. وعلى هذا فاعتبر الشبيه، وعلى أنه شبيه فى نفسِهِ مِن غيرِ حاجةٍ إِلى اعتبار أمرٍ غيره. فليكن هذا قدر ما نقوله فى أمر هذا التعريف.(1/111)
ولنقرر الآن أن الكيفية هى كلّ هيئةٍ قارةٍ فى الموصوف بها، لاتوجب تقديره أولا تقتضيه، ويصلح تصوّرها مِن غير أن يحوج فيها إِلى التفاتٍ إِلى نسبةٍ تكون إلى غير تلك الهيئة. وهذا أيضاً ضرب من البيان متعلقّ بأن يثبت شئ، ثم يعرف بسلوبِ أمورٍ عنه.
وقد قال قوم: إن الكيفية هى التى تحدِث رسماً فى الجوهر، وظّنوا أنهم قد أتوا ببيانٍ؛ وذهب عليهم أن استعمال لفظةِ الرسم ههنا يشبِه أن يكون استعمالاً مجازياً لا يحقّق معنى؛ فإن حقَّق فليس بحسب التعارف فى استعمالِ هذا اللفظ، بل لدلالةٍ تقترن به مِن خارج وهذا اللفظ مُحَيَّل مغالِطِى أشد بعداً عن البيان مِن لفظةِ الكيفيةِ؛ وكذلك لهم بيانات تشبِه هذه.
فلنقل الآن: إن الكيفية كيفٌ ينقسم إِلى الأمورِ الأربعةِ التى جعِلت أنواعاً لها؛ فنقول: إِن الكيفية لا تخلو إِما أن تكون بحيث يصدر عنها أفعال على نحوِ التشبيه والإِخالةِ أولا تكون. والذى يفعل فِعله على سبيلِ التشبيهِ والإخالة فهو كالحار يجعل غيره حاراً، والسوادِ يلقىِ شبَحَه فى العين وهو مِثاله، لا كالثقل فإن فِعله فى الجسم التحريك، وليس ثقلاً. والذى لا يكون إِما أن يكون متعلقاً بالكم من حيث هو كم أولا يكون؛ والذى لا يكون متعلقا بالكم؛ فإما أن يكون للأجسام من حيث هى أجسام طبيعية فقط أو لا يكون، بل يكون لها من حيث هى ذوات النفس، أو يكون للنفوس، فالتى تلتئم ما بينها أفعال وانفعالات، هى التى تسمَّى كيفياتٍ انفعالية وانفعالاتٍ؛ والتى تتعلق بالكم فهِى كالأشكال وغيرها؛ والتى للأجسام من حيث هى أجسام طبيعية فهى القوى الفعلية والانفعالية؛ والتى تختص بذوات الأنفسِ فهِى التى تسمَّى ملِكاتٍ وحالاتٍ.
أو نقول: إِن الكيفية إِما أن تكون متعلقةً بوجودِ النفس أو لا تكون ؛ والتى لا تكون فإما أن تتعلق بالكمية أو لا تتعلق؛ والتى لا تتعلق إِما أن تكون هوِيتَّها أنها استعداد، وإِما أن تكون هويَّتها أنها فِعل، وإِن عرض لها أن تكون استعداداً. وقد يمكننا أن نحاول فى ذلك ضروباً مِن القسمة تؤدى إِلى هذا الغرِض. ولولا أمر الكيفيات التى فى العدد لكان يحسن بنا أن نقول: وما لا يفعل على طريق التشبيه: إِما متعلق بالأجسام، ثم تقسم فنقول: إِما من حيث كميتها ومن حيث هى تعليمية، وإِما من حيث طبيعتها ومن حيث هى طبيعية ثم تتم القسمة، ولكانت هذه القسمة أصحّ مأخذاً. لكن الفردية والزوجية وما أشبهها تخرج عن ذلك؛ فإن لم يدخل ذلك فى كيفيات هذه المقولة، وكانت الكيفيات ما يعرض للجواهر الجسمانية، فيجب أن تقسم على نحو ما قلنا.
فأما أنواع القسمة المشهورة فمنها قولهم: إِن الكيفيات إِما طبيعية وإِما مقتناة، ثم فسَّروا أن الطبيعية هى المتولِّدة بالطبع من داخل الموجودة دائما فى الشىء الذى توجد فيه؛ والمقتناة فهى التى تمامها من خارج ويمكن اطراحها؛ وليكن من المقتناة الملكات والأحوال. وأما الطبيعية، فمنها بالقوة ومنها بالفعل. والتى هى بالقوة فهى الكيفيات التى يقال بسببها إنا مستعدّون وفينا إِمكان لشىء من الأشياء. والتى هى بالفعل، فمنها ما ينفذ إِلى العمق وهى الانفعالات والكيفيات الانفعالية؛ ومنها ما يظهر من خارج وهى الأشكال والصور.
وأيضا فإن لهم قسمة أخرى للكيفية؛ فإنهم يقولون: إن الكيفية إما أن تظهر فى النفس وإما فى البدن. والتى تظهر فى النفس فإما أن تظهر فى النفس الناطقة وإما فى غير النفس الناطقة. والتى فى الناطقة إما عسرة الانحلال كالملكة وإما سهلة الانحلال كالحال. والتى فى غير الناطقة إما فى القوة المنفعلة وإما فى القوة الفاعلة. والذى فى القوة الفاعلة فهو الصنف الثانى من أنواع الكيفية؛ أعنى قوة ولا قوة. والذى فى القوة المنفعلة فإنه الصنف الثالث من أنواع الكيفية؛ أعنى الانفعال والكيفية الانفعالية. وما يظهر فى البدن فإما فى عمقه وإِما فى ظاهره. والذى فى عمقه فإنه الصنف الثالث من أنواع الكيفية. ثم إنها إن كانت غير ثابتة كانت انفعالاً.والذى يحدث فى ظاهر البدن فإنه الشكل والخلقة. قالوا: والشكل يعمّ المتنفس وغير المتنفس. وأما الخلقة فإنها تخصّ المتنفسة؛ وقد قسموا ذلك أيضا بوجوه من القسمة تشبه هذه.
الفصل الثانى
فصل (ب)
فى تعقب الوجوه التى قسّم قوم بها الكيفية
إلى أنواعها الأربعة(1/112)
فحرىّ بنا أن نتأمل الحال فيما تكلِّفوه من القسمين ليكون لك من ذلك سبيل إلى فصل القضية فيما يطرأ عليك من وجوه قسمتهم فنقول: إن هذه الوجوه من القسمة كلها غير صناعى ومتكلِّف قبيح التكلَّف، أقبح كثيراً جداً مما تكلفناه.
أما القسمة الأولى فمن موجبها أن يكون سواد الغراب مبايناً فى نوع ِ سواديته لسوادٍ مقتنَّى مكتسبٍ. ويعرض من ذلك أن لا تكون الملكات والحالات نوعاً واحداً من جملة ما خرج بالقسمة، بل تكون نوعاً ثانياً هو نوع تحت بعض ما خرج من القسمة على نحو ما قال القاسم: " فمنها الملكات والحالات " . وعلى أن هذا القول يوجب أن يكون للملكة والحال قسائم أخرى، إذا عُدَّت الملكة والحال؛ وجب أن تعد هى معها؛ فتزيد الأقسام على الأربعة.
وقوله: " منها ما يكون بالقوة ومنها ما يكون بالفعل " ؛ إن عنى بذلك أن هيئة الصلوح للمصارعة وهيئة المصحاحية والممراضية هى معانٍ من باب الكيفية ليست المصارعة نفسها ولا الصحة نفسها ولا المرض نفسه فذلك تعبير ردىء جداً؛ فإنه لو قال: " منها ما هو قوة ومنها ما هو فعل حاصل " ، لكان له وجه بعيد، وان تعذَّر ؛ لأن الشىء الذى بالقوة هو الشىء الذى ليس بموجود ويصح أن يكون موجوداً.فإن كان الذى هو بالقوة هو المصحاحية لا الصحة فيكون هذا النوع هو المصحاحية بالقوة، فيكون من أنواع الكيفية ما هو مصحاحية معدومة. وإن عنى بهذا اللفظ ليس أن المصحاحية تكون فى نفسها بالقوة فى وجودها بل أنها تكون بالقوة شيئا آخر، فيكون قد جعل المصحاحية صحةً بالقوة، فيكون الشىء الذى هو بالقوة صحةً هو المصحاحية، فتصير المصحاحية صحةً وقتاً. وليس ولا شىء من الأعراض يصير الآخر؛ إذ ليس لها فى أنفسها شىء مشترك. وإن لم يعن بما يالقوة المصحاحية بل الصحة التى بالقوة، حتى تكون الصحة، إذا كانت صحةً معدومةً جائزاً وجودها كانت من نوع؛ وإذا صارت بالفعل كانت من نوع؛ فسيكون المعدوم كيفيةً موجودةً.
ومع ذلك فقد تضاعف أنواع الكيفية، إذ كل واحد من الأنواع قد يكون بالقوة أيضاً؛ فهذا هذر. وإن لم يعن ما قلناه ولكن عنى أن ذلك الشىء إما أن يكون قوة وإما أن يكون فعلاً؛ وعنى بالقوة الشىء الذى يقابل الفعل الذى هو الحصول لا الفعل الذى هو التأثير أو ما أشبهه، ومقابل ذلك الفعِل هو الاستعداد لأمرٍ ما، حتى تكون لقسمته إلى قوة وفعلٍ وجه، فيجب أول شىء أن ينظر هل هذه التى نسميها فعلاً ليست فى أنفسها قوى، فيشبه أن تكون الحرارة قوةً، إذ يستعد بها نحو أمر ما. وكذلك البرودة وكذلك الألوان والمذاقات والروائح؛ فإن الشىء ذا الرائحة مستعد لأن يؤثر تأثيراً ما. وقد تستعد بعض هذه الكيفيات لانفعالٍ ما، كالرطوبة؛ أو للا انفعال ما أو عسر انفعال ما، كاليبوسة، إلا أن يقول قائل: إن الحرارة فى ذاتها أمر ما، وأما الاستعداد لأن يؤثر بها فهو معنى لازم للحرارة؛ لأن الحرارة فى طبيعتها كيفية؛ وأما الاستعداد فأمر يعرض لها من حيث تصلح أن تكون مقولةً بالقياس إلى شىء أو بالنسبة إليه. وأما الذى كلامنا فيه فنفس الاستعداد الذى يكون للجوهر لا شىء يعرض له الاستعداد.
فإن قيل هذا لزم أن يكون هذا الباب أوسع مما قالوه؛ بل يلزمهم أن يجعلوا هذه الاستعدادات التى للحرارة وغيرها من باب الكيف، وتكون كيفياتٍ عارضةً للحرارة ولغيرها؛ وهذا ليس مذهبهم. وليس عندهم أن الحرارة عرض لها كيفية من باب الاستعداد غير الكيفية المقولة عليها، فصارت مستعدةً بها؛ ولا هذا مما يصلح أن يقال ويعتقد. فإن طيبوا أنفسهم قائلين: إن كلامنا فى استعدادات الجواهر فى ذواتها؛ وجب أن تكون المصحاحية استعداداً للصحة فى الجسم، ووجب أن يكون الممراض فيه مصحاحية؛ فإنه لا يعرى عن استعداد للصحة. وإن جعلوه استعداداً بحالٍ، فربما صاروا إلى الصواب؛ لكن قولهم وعبارتهم لا تشير إلى ذلك إلا بتكلّف وتعسّف. فلم يحسنوا إذن أن يقسموا هذه القسمة.
ومع ذلك فإن الأحرى فى قسمة الشىء إلى قوة وفعل هو أن تكون القوة والفعل فيه لشىءٍ واحد؛ ولم يفعلوا كذلك. فليس كل ما جعلوه من باب الفعل فعلاً لما جعلوه قوة، ولا كل ما هو فعل جعلوا القوة عليه من باب القوة، كاقوة على الترطيب والاسوداد والقوة على قبول العلم.(1/113)
وأما ما قالوا من كون بعضها فى العمق وبعضها فى الظاهر فهو ردىء جداً. وذلك لأنهم تركوا الكيفيات التى للأعداد، وتركوا الاستقامة والانحناء التى هى كيفيات فى الخط؛ فأن الخط ليس بجوهر ولا جسم؛ اللهم إلا أن يقولوا إن الاستقامة والانحناء إذا وجدا فى الخط فقد وجدا فى الجسم؛ إذ الخط فى جسم، وما فى شىء هو فى شىء فهو فى ذلك الشىء الآخر، مستعملين لفظة " فى " المشككة؛ فيلزمهم حينئذٍ أن يكون الجسم مستقيماً ومعوجاً، الاعوجاج الذى لا عرض له، لا يكون فيه؛ فإنه لا يوصف به ولا يشتق له منه اسم؛ ولكن يكون موجودا فى شىء منه هو فيه بالذات. وكذلك ليس الاستقامة والانحناء موجوداً بالحقيقة فى ظاهر الجسم الذى هو السطح وجوداً بالذات حتى يكون الجسم وحده بالعرض؛ بل هو فيهما جميعا بالعرض؛ فليسامح فى هذا وليجعل قولهم: " موجود فى الجسم أو فى ظاهره " كل وجود متعلق به، وإن لم يكن أولياً.
ثم نقول إن قولهم: " أن الأشكال موجودة فى ظاهر الجسم " قول البله المغفِّلين؛ فإن الأشكال المجسْمة إنما وجودها، من حيث هى مجسّمة، أن تكون سائرة فى الجسم كله؛ فإن الشكل؛ إن كان ما أحاط به حد أو حدود، فإننا نحيط الحدود بالسطوح والسطوح بالعمق.
ولنحقق ذلك أكثر فنقول: إن ههنا حدوداً؛ وههنا شيئاً ذا حدودٍ له هيئة بسبب الحدود؛ وههنا تلك الهيئة؛ فأما الحدود فليست أشكالاً؛ بل هى أطراف؛ ولا يجوز أن يقال لشىء منها إنها فى ظاهر الحدود حتى يقال مثلا: إن السطح فى ظاهر الجسم، أو الخط فى ظاهر السطح؛ وذلك لأن الظاهر غير الذى فى الظاهر، وليس السطح غير ظاهر الجسم؛ بل هو نفس ظاهر الجسم، والخط ليس فى ظاهر السطح بل هو نفس ظاهر السطح.
فإن اعتذر معتذر وقال: إن هذا الإنسان قد تجوَّز فى لفظه، وكان ينبغى أن يقول: " ظاهر " فقال " فى ظاهر " فلم يعذر أيضاً، وذلك لأن القسم الآخر هو أنه فى العمق وليس معناه أنه عمق؛ وليس قوله " ظاهر " قسيمه هو أنه فى العمق؛ حتى يكون الشىء إما ظاهراً وإما فى العمق، بل نظير أنه فى العمق أنه فى ظاهر؛ ونظير الظاهر العمق، ثم مع ذلك فإن الذى هو الظاهر كم لا كيف؛ حتى لا يكون لطائفة منهم طريق إلى أن يقولوا: إنه أراد بقوله: " فى العمق " العمق نفسه، طلباً منهم لاستواء القسمة. فإنه إن كان هذا المذهب فى التأويل صحيحاً كان كأنه قال: وإن بعض كيفيات الأجسام ظاهر وبعضها عمق؛ وهذا محال.
وأما إن عنوا الشىء المتحدِّد فهو مقدار لا كيفية. وإن عنوا الهيئة الحاصلة من التحدد،فإنما يكون فى الظاهر منها ما يكون موجوداً فى السطح وحده من الهيئات، إما شكلاً كالتربيع وإما هيئة غير الشكل كالتسطيح والتقبيب والتقعير. وأما المجسمِّات من الأشكال فليست هيئات توجد فى الحدود، بل هى هيئات توجد فى جملة المحدود بالحدود؛ وفى الحدود وجود أنيّتّها بالشركة ليست نسبتها إلى الحدود أولى من نسبتها إلى المحدود. فلو كانت الكرية فى نفس السطح لكانت تقبيباً أو تقعيراً لا كريةً؛ كما لو كانت الدائرة فى نفس الخط لكانت استدارة وتقويسا لا دائرةً. وكما أن شكل الدائرة موضوعة السطح لا نفس الخط، كذلك شكل الكرة موضوعة الجسم لا ظاهرة الذى هو السطح، وإن كان شكل الدائرة لا يتم إلا بانعطاف الخط؛ وكان شكل الكرة لا يتم إلا بتقبيب السطح.
وهذه الأشكال، وإن كانت تحدث للمحدودات بالحدود، فليست هى فى الحدود وإن كانت الحدود عللا لها فليست عللا لها فى أنفسها؛ بل فى شىء آخر يتحدد بها.
واعلم أن الحدود أنفسها لا يقال إنها موجودة إلا فى المحدود نفسه جملة. فإن الخط نهاية للسطح الذى هو خطّة على أنه نهاية لجملته؛ فهو موجود بأنه نهاية فى جملته وجود الصفة فى الموصوف؛ وليس موجوداً فى طرف منه ولا فى جزء منه دون سائر أجزائه بالقوة. فكذلك الشكل المجسم هو صفة للجسم كله ليست موجودةً فى السطح الذى هو الطرف فقط. ومع هذا فإنهم جعلوا هذا النوع شكلاً وخلقة فقط، كما تسمع، إذ كان المعلم الأول إنما أورد من الأمثلة فى أول الأمر لذينك فقط؛ وليس كذلك؛ بل التقبيب من جملة هذا الباب وليس شكلاً؛ إذ ليس له حدّ الشكل.
فإن قال: أعنى بهذا أن كل جزء فى باطن الجسم وظاهره يوصف بتلك القوى والكيفيات التى من هذا الباب، فليس كذلك؛ فإن الشكل الذى فى الكل لا يوجد فى الأجزاء.(1/114)
فأول ما فى ذلك، أنه كان يمكنه أن يقول هذا اللفظ على وجهه وتكون عبارته صحيحة، فما الذى أحوجه إلى العدول منه. وأما ثانياً، فإن كثيراً من المعانى التى ليست من باب الشكل إنما يوجد فى الجملة دون الأجزاء؛ كقوة اليد علة أفعالها فإنها غير موجودة إلا فى فعل واحد. فإن قال هذا فستجد كذلك حال هيئة المصارعى، من حيث هو مصارعى فكذلك هيئة قبول كثير من الأمراض.
فأما القسمة الأخرى فإن فاتحتها ليست تتجه إلى الأربعة، بل تتجاوزها كما تدرى.
ثم يمعن فى هذيان كثير إذ يقول: والتى فى النفس غير الناطقة: فإما فى القوة الفاعلة وإما فى القوة المنفعلة. فلا أدرى أن هذا الرجل عن كم صواب ذهب. من ذلك أن نوع القوة واللاقوة ليست تتعلق بالنفس، فإن الصلابة واللين من هذا القبيل اتفاقا وليست ممايتعلق بالنفسِ؛ والثانى أنا لو سامحنا فيها وجعلناها مما يتعلق بالنفس فما بال الانفعاليات والانفعالات مثل الحرارة والبرودة وغير ذلك، جعلها فى هذا القسم وليست من العوارض التى تتعلق بالنفس الناطقة أو غير الناطقة أو غير الناطقة البتة.
ومن ذلك أنه ليس جميع ما فى باب القوة واللاقوة يتعلق بالقوة الفعلية؛ فإن الممراضية والاستعداد للانصراع ليست من باب قوة يفعل بها شىء. وأيضاً فإن المصحاحية هى بمعنى القوة التى لا تنفعل إن كان لا بد من معنى القوة على الفعل؛ فإنه وإن كان المصحاح يعرض له أن يكون قوياً على أفعال، فذلك أمر لازم للمصحاحية؛ أما المصحاحية فإنها مصحاحية من حيث لا تنفعل من أسباب المرض، لا من حيث يفعل بها أفعال. وأيضاً فإن الأشياء التى جعلها فى القوة الانفعالية، وإن كانت تسمى انفعالية وانفعالات فليس كلها من جملة القوى الانفعالية. فإن الحرارة والبرودة لأن تجعلا فى القوة الفعالة أولى من أن تجعلا فى القوة المنفعلة. فإن قال: إن هذه تحدث بالانفعالات فى المادة فتلك الأولى أيضا لا تحدث إلا بالانفعالات فى المادة. وأيضاً فإن كان الاعتبار ليس أن يحمل على المقسوم إليه معنى ما قسم إليه من القوتين، بل أن ينسب إليهما، فإن لكل واحد من الجنسين نسبة إلى قوة فاعلة ومنفعلة معا، إذ لا واحد منهما يحدث إلا عن سبب فاعل ومنفعل.
ثم من جودة هذه القسمة ترديده النوع الثالث فى القسمة مرتين. والعجب ممن يلتفت إلى ما يقوله هؤلاء ويكتبه ويدوّنه ومن أنا نحتاج إلى مناقضته.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في تعريف حقيقة كل نوعين من أنواع الكيفية
وهو الحال والملكة والقوة واللاقوة
فلنبتدئ بالنوع الموجود بسبب النفس. وهذا النوع لا اسم له يعمه، لكن له اسمان بحكم اعتبارين: فإن الكيفيات التى يتعلق وجودها بالأنفس منها ما يكون راسخا فى المتكيف بها رسوخا لا يزول، أو يعسر زواله، وبالجملة لا يسهل زواله، ويسمى ملكة؛ ومنها ما لا يكون راسخا، بل يكون مذعنا للزوال سهل الانتقال، فيسمى حالا.
والأظهر فى تعارف محصلى أهل الصناعة إن الحال ليس مقولا على الملكة حتى يكون الحال اسم هذا الجنس الذى هو نوعٌ من الكيفية، وحتى تكون كل ملكة حالا، وليس كل حالٍ ملكة، بل الحال اسم لطبيعة هذا الجنس، إذا كان يعرِض للزوال وكان غير مستحكم، فإذا استحكم لم يسمى حالا بل ملكة.
وليس افتراق الحال والملكة افتراقَ نوعين تحت جنس، فإن الانفصال بينهما ليس إلا بحال النسبة إلى التغير وزمان التغير، وهذا انفصال بأعراض لا بفصول داخلة فى طبيعة الشىء؛ ولا أيضا يجب أن يكون بين الحال والملكة اثينية، كما بين الشخصين ، بل يجوز أن يكون بينهما اثينية، كما بين شخص واحد بحسب زمانَيْة كالصبى والرجل، فإنه ليس يجب أن يكون الصبى شخصا غير الرجل فى ذاته، وإن كان غَيراً بالاعتبار. فإن الشىء الذى هو حال ماِّ كابتداءٍ بخلُقٍ أو تصنعٍ لم يستقر بعد فى النفس، إذا تمرن عليه، انطبع انطباعا تشتد إزالته ، فيكون الشىء الواحد بعينه كان حالاً ثم صار ملكة، فليس بحال.(1/115)
ومن الملكات العلوم والفضائل. ونعنى بالفضائل لا الأفعال المحمودة، بل الهيئات النفسانية التى تصدر عنها الأفعال المحمودة صدورا سهلا كالطبيعى من غير أن تحتاج إلى روية واختيار مستأنف، فتكون بحيث إذا أريد أضداد تلك الأفعال، شق على أصحابها وتعوقت عليهم واحتاجوا إلى تكلف. وهذا مِثْل خلُقِ العدالة والعفة؛ والرذائل أيضا التى هى أضدادها، فإنها ملكات. فإن الفاجر بالخلقِ يتعذر عليه التعفف عند التمكن، فإنْ فعله تأذى به، وإنْ أتى بفعل الفجور سهل عليه، ففى نفسه هيئة مطاوعة نحو فعل، معاصيةُ نحو آخر؛ فهذه ملكات. والعلوم أيضا ملكات. ليس إذا استوفى المتعلم أصول الصناعة ومهر فيها فقط، بل والرأى الواحد، إذا اعتِقد وعِلم وتيقن به، عسر زواله، أو يمنى البدن بآفة عظيمة من أمراض أو أحوال أخرى.
وأما الحال فيسمى بها ما كان من هذا الجنس سهلَ الزوال سهولة زوال الحرارةالعرضية والبرودة العرضية وزوال الصحة من المسقام والمرض الحاد من المصحاح، وإن كانت الحرارة والبرودة ليستا من هذا الجنس، وإنما أوردناها تمثيلا لما يزول بسرعة. وأما الصحة والمرض إذا كانا سهلى الزوال فهما من هذا القبيل. ومن الحالات الحرد والخجل والغم والهم والظن والعقد الذى لم يتبرم. فأما إذا صار شىء من الظن ومن الصحة ومن أو من المرض مستحكما لا يزول بسهولة، فهو من جملة الملكات.
وكل ما هو ملكة مكتسبة فقد كانت حالا، أى كانت تلك الهيئة إلى أن استحكمت حالا. وليست كلُّ حال فإنها كانت ملكة فانحلت حالا. هكذا يجب أن تفهم هذا الموضع، لا ما فُهِم من أن الحال تقال على المعنى الذى هو أعم من الملكة. ثم إن الملكة لا تصير نوعا تحتها، كما لا يجب أن يصير الحيوان المتحرك والحيوان الأثبت نوعا لأنه يزيد على طبيعة العام بعرض لا بفصل، فإن الأمر ليس هكذا، لأن واضع هذين الاسمين قال: إن الفرق بين الملكة والحال أن هذه سهلة وتلك أطول زمانا وأعسر تحركا. والعام لا يحمل عليه الفصل، ولا العرض المقابل لعرضٍ يخص واحدا مما تحته قد جعل له بحسبه اعتبار واسم، كما لا يقال: والفرق بين الحيوان وبين الإنسان أو بين الحيوان والحيوان الصحيح أن الحيوان أعجم أو مريض والإنسان ناطق أو الآخر صحيح. على أنى قليل الالتفات إلى أمر الأسماء؛ ولا أمنع أن يكون الجانب الذى يحتاج إلى التأويل هو هذا اللفظ، وأن يكون مما قاله واضع هذه التسمية، من أن الملكات أيضا هى حالات ليس على معنى أنها قد كانت حالات بل إنها فى الحقيقة حالات.
وحيث قال: " إن االفرق بين الحال والملكة أن هذه سهلة " معناه أن هذه قد تكون سهلة، لكن إيثارى لما آثرته لسبب تعارف الأقدمين المنقولِ عنهم هذه الألفاظ، وهو أن الحال هى كيفيةٌ سريعة الزوال، والملكة كيفية راسخة.
وأما الجنس الآخر من أجناس الكيفيات التى هى أنواع الكيفية العامة فيجب أن يتصور على أنه استعداد جسمانى كامل نحو أمر خارج بجهة من الجهات، لا القوة التى فى المادة الأولى، ولا قوة الجوار؛ فإن كل إنسان بالقوة صحيح ومريض، لكنه يتمه الاستعداد حتى تصير هذه القوة التى بحكم الجوار الطبيعى وافرة من جهة أحد طرفى النقيض، فلا يكون فى قوة الشىء أن يقبل المرض وأن يصرع غيره فقط كيف كان، بل أن يكون قد ترجح قبول المرض على قبول الصحة، أو ترجح لا قبول الصرع على قبول الصرع. والمصحاحية والممراضية والهيئة المصراعية والهيئة الانصراعية، والصلابة المترجح فيها أن لا ينغمز، واللين المترجح فيه أن ينغمز، هى من هذا الباب. لكن فى هذا الموضع شكوكا؛ وذلك أن الأمور التى تدخل فى هذا الجنس توجد ثلاثة أمور: استعداد شديد على أن ينفعل كالممراضية؛ واستعداد شديد على أن يفعل كالمصراعية؛ واستعداد شديد لا على أن ينفعل ولا على أن يفعل بل أن لا يفعل، كالمصحاحية والصلابة.(1/116)
وقول القوة على هذه الثلاثة قريب من أن يكون على سبيل اشتراك الاسم؛ وإن رِيم جمعه فى معنى واحد كان عسرا متكلفا. وأيضا فلمتشكك أن يتشكك فى أنه هل المصارعية فى هذا الباب داخلة من حيث لا ينصرع، أو من حيث يصرع غيره. فإن كان من حيث لا ينصرع تكون المؤونة فى الشك خفيفة، ويكون هذا الجنس هو تأكد أحد طرفى ما عليه القوة الانفعالية فى أن ينفعل أو فى أن لا ينفعل؛ لكنه يعرض أن يضيع استعداده من حيث يحرك غيره من الأقسام، إذ لا يصلح أن يوجد فى الأجناس الأخرى أو يصعب، وإن كان من حيث يصرع فإن االشبهة الأولى تتأكد؛ وكأنك قد فهمتها.
ولسنا نعنى بالقوة المصراعية القوة الأولى المحركة النفسانية التى هى جوهر ولا يقبل الأشد والأضعف، بل هذه ككمال لتلك القوة من جهة مواتاة الأعضاء؛ ونسبتها إليها نسبة شدة الذكاء والفهم إلى النفس الناطقة؛ فنقول الآن: إن المصارعية يجب أن يعلم أنها متعلقة بثلاثة أمور: أمر فى البدن، وأمر فى القوة المحركة، وأمر فى القوة الدراكة. أما ما يتعلق بالقوة الدراكة فهو معرفة مَّا صناعية تُخَيِّل المصارعة، كمعرفة صناعة الرقص والضرب بالعود، وبالجملة هو صنف من أصناف المعرفة بكيفية أفعال تتعلق بالحركة وبما ليست له هيئة قارة الوجود فى موضوعه تُعْرف، كصناعة البناء والكتابة. وأما ما يتعلق بالقوة المحركة فهو ملكة يحسن بها تصريف العضل على إدراك الغرض فى المصارعة. فهاتان إما حالان إن ضعفتا، وإما ملكتان إن تمكنتا؛ وليستا ولا واحدة منهما من الأمور البدنية الصرفة.
وأما الثالث وهو الباقى فهو أمر بدنى، وهو كون الأعضاء فى خلقتها الطبيعية بحيث يعسر عطفها ونقلها. فهذا هو من هذا الباب وهو جزء من أجزاء كمال صناعة المصارعة الطبيعية؛ وهو غير معنى القوة المحركة؛ لأن ما يعرض للقوة المحركة وبالجملة للقوى النفسانية فهو من الباب الأول من أنواع الكيفية.
فقد زالت هذه الشبهة وتقرر أن هذا الجنس هو استكمال استعداد أحد طرفى ما عليه القوة التى بمعنى الجوازِ حتى يكون شديد الاستعداد لوجودٍ مَّا إذا وجد كان انفعالا بالفعل كالممراضية، أو شديد الاستعداد لأن لا يوجد فيه، وهذا كالمصحاحية . وبالجملة فإن هذه القوة إما أن تستكمل آخذة نحو التغير عن الحالة الطبيعية الملائمة وهى اللاقوة، وإما نحو أن لا تتغير عنها وهى القوة الطبيعية.
الفصل الرابع
فصل (د)
فى إيراد الشكوك فى النوع
المنسوب إلى قوة ولا قوة
لكن العادة جرت على خلاف ما قلناه، وذلك أنه قد صرح فى التعليم الأول،بأن القوى، إنما هى قوى، بحسب أنها تفعل بسهولة، كالمصراعى، أولا تنفعل بسهولة، كالصلب؛ واللا قوى، هو الذى ليس له قوة على أن لا ينفعل، كالممراض الذى ليس له قوة على أن لا ينفعل، واللين الذى ليس له قوة على أن لا ينقطع.
فلنتأمل الحال فى هذا، فإن شبهتنا قد عادت، فإن الحرارة قوة على أن تفعل بسهولة، إذ تحرق بسهولة، فهل هى من هذا الجنس ؟ فأما ما يقال إن الشىء يكون فى جنس وجنس، أو نوع ونوع باعتبار واعتبار فأمر قد فرغنا عن منع الالتفات إليه. فلعل حقيقة الحرارة من حيث هى حرارة غير حقيقتها أنها تحرق بسهولة، ولعل الحرارة إنما تكون قوية على الإحراق بسهولة، لا لأنها حرارة بل لأنها حرارة شديدة، فتكون شدة الحرارة داخلة فى هذا النوع. وهذا أيضا يوجب أن تكون شدة الحرارة، عارضة للحرارة، حتى تكون حرارة واحدة تشتد وتضعف، وهى فى أنها حرارة واحدة، وإنما تعرض لها الشدة بأن تكون الشدة لا كحرارة أخرى أضيفت إليها، بل كيفية غير الحرارة، تقارن الحرارة فتصير الحرارة بها أشد إحراقا، وهذا غير مقبول.(1/117)
ثم إن أمر السهولة أيضاً مشكِل، فإن الشىء إنما يكون سهلاً بالقياس إلى شىء آخر، فيشبه أن يكون كل حرارة فلها شىء هى بحسبه سهلة الإحراق، وشىء هى بحسبه صعبة الإحراق.وكذلك حال المصراعى، فإن شيئاً واحداً يكون بالقياس إلى شىء قوياً على أن يصرعه وبالقياس إلى شىء آخر قوياً على أن ينصرع منه، بل قد يكون من الناس من هو بالقياس إلى أكثر الناس صراع، وقد يكون منهم من هو بالقياس إلى أكثرهم منصرع، فيشبه أن تكون القوة هى هذه، أى أن يكون صرعه أكثر من انصراعه، فتكون القوة الفاعلة فيه أرجح من المنفعلة لأمرٍ ما لا محالة موجود فيه، فيكون كل واحد من القوى والضعيف فيه الشىء الذى يصرع به، لكن لأحدهما أشد وللآخر أضعف. فالذى فيه قوة أن يصرع أشد ففيه قوة أن ينصرع أضعف، والذى فيه قوة أن ينصرع أشد ففيه قوة أن يصرع أقل، ففى كل واحد منهما قوة الأمرين، ولكنها فى أحدهما أكثر وفى الآخر أقل.
فترى القوتين هل إنما يختلفان فى طبائعهما بالشدة والضعف، بعد أن يكونا من نوع واحد؟ وليس كذلك بل الحرارة الضعيفة مخالفة للحرارة القوية فى نوعها، فإن كانتا متخالفتين، فيشبه أن تكون القوة مخالفة للعجز فى النوع، وإن لم تكونا متخالفتين، فلا تكون القوة مخالفة للعجز فى النوع بل تكون كالخط الأطول والأقصر؛ فأمثال هذه الأشياء تَشْكُل فيما قيل.
وأيضاً فإنه لو كانت القوة على أن تفعل بسهولة، والقوة على أن لا تنفعل بسهولة، وعدم القوة على أن لا تنفعل بسهولة، وعدم القوة على أن لا تفعل بسهولة، تعد عداً تحت الكيفية على أنها أنواع قريبة، لكان قد يمكن أن نتساهل فى جميع ذلك. لكن إنما تعد على أنها منحصرة تحت جنس هو نوع للكيفية، وعلى أنها فى القسمة الثانية.
ثم إذا أريد تعرف ذلك الجنس لم بدل عليه إلا بأن يقال، إنه الذى منه كذا وكذا؛ فلا يدل على طبيعة عامة أخص من الكيفية وأعم من كل واحد من هذه، وإن كان قد يمكن أن يتكلف ذلك على سبيل إجحاف على الحق.
وعلى أن ههنا شيئاً آخر وهو أن قولهم: إن اللين هو الذى ليس له قوة أن لا ينقطع، إما أن يشيروا بهذا إلى عدم كيفية، لو كانت لكانت قوة مقاومة، وكان بها لا ينقطع الشىء سهلاً، من غير أن يراد بإزائها إثبات معنى، فيكون اللين حينئذٍ عدم كيفية ليس كيفية؛ وإما أن يراد بذلك إثبات معنى به ما يستعد لسرعة قبول الانغماز، فلا يكون إلا القوة الانفعالية، وهذا أحرى أن يكون فإن اللين بالحرى أن يكون معنى لا عدم معنى، والصلابة كذلك؛ فحينئذٍ يكون ما سمّوه لا قوة، هو قوة انفعالية شديدة الاستعداد، سواء قلت: إن قوة، أن لا ينقطع، كيفية قائمة، بها تمنع المادة، أو قلت: إن قوة أن لا ينقطع، ليست كيفية قائمة.
ولكن عدم المطاوعة المادية، فإن ذلك إن كان عدماً، فالذى يقابله فى المادة،يكون معنى وجودياً وكيفية، فيكون إذن اللين ليس نفس عدم شىء، بل هو معنى محصّل يقارن العدم. فيظهر أن هذا اللفظ ههنا، وهو قولهم، لا قوة، لفظ مجازى، يحتاج إلى وجه يصرف إليه؛ إذ قد أخِذ فيه، يدل تلك الكيفية، لفظ يدل على أمر يلزمها، وهو عدم شىء آخر لا يخالطها، فلا يبعد أيضاً أن يكون اللفظ الآخر وهو القوى، سبيله هذه السبيل. ويكون، وإن كان معناه الأول، أنه هو الذى يقوى على أن يفعل بسهولة، فليس الغرض من استعماله ذلك، ولا المراد بالقوة هذه القوة، ولكن ما يلزمها هذه القوة، وهو أن يكون الشىء فى نفسه مثلاً عسر الانصراع، فيتبع ذلك، أن يكون سهل الصرع لغيره، حتى تكون الحالة التى بها يكون الشىء عسر الانصراع، هى من هذا الجنس من الكيفية، وقد دل عليها بما يلزمها، كما هناك، إذ دل هناك على قوة ما، بما يلزمها، وهو لا قوة أخرى، ولم يرد بها نفس تلك اللاقوة.
وكذلك ههنا أيضاً، يكون لم يرد بالقوة نفس تلك القوة، حتى يكون كأنه يقول: إن المعنى الذى به يقاوم الشىء ما يفعل فيه حتى يتوصل به إلى أن يفعل فى الآخر بسهولة، أو لا ينفعل عنه بسهولة، هو الباب المسمى قوة. فإن فُهِم هذا القول على هذا التأويل انزاحت العلل، ولم تدخل أشياء من أجناس أخرى فى هذا الجنس.(1/118)
ولتعلم أن الكتاب المسمى بقاطيغورياس، موضوع للشداة الذين لم يتدربوا، ولم يبلغ فيه من التحقيق ما ينبغى، بل قد يجوز فيه كل التجويز تخفيف، فكأن حال الإنسان المصارع، التى بها لا ينصرع، وبتوسطها يتمكن من أن يصرع غيره، على هذه الجملة التى أشير إليها فى هذا الكتاب، حالة معروفة، يمكن أن يدل عليها؛ فإذا فصل على المتعلم أن ههنا حالة بها لا ينصرع، وحالة بها يصرع، تشوش على المبتدىء وعسر فهمه، فأهمل كما أهمل كثير من الأشياء فى هذا الباب؛ ثم الواردون من بعد، شوَّشوا الأمر فيه ولم يتركوه على الظاهر.
وقد ظن قوم أنه يمكن أن تجعل القوة على أن لا ينفعل واللاقوة على أن لا ينفعل، قوة واحدة، ذات اعتبارين مختلفين بالقياس إلى شيئين، مثل اللين، فإن له قوة على، أن ينقطع بسهولة، وليست له قوة على أن لا ينقطع بسهولة، وتلك كيفية واحدة فيه بعينها، والذى ليس له قوة على أن يمرض بسرعة، فله قوة أن لا يمرض بسهولة، والذى له قوة أن يمرض بسرعة، فليس له قوة أن لا يمرض بسرعة، والذى له قوة أن لا ينصرع بسهولة، ليس له قوة أن ينصرع بسهولة. فهذه كيفية واحدة يقال لها من جهةٍ إنها قوة، ومن جهة إنها ليست قوة؛ لكنه وإن كان كذلك، فإن عادتهم فى أن ليس قوة، إنما هى فيما ليست له قوةُ مقاومةِ قوةِ الفعل، واللاقوة، الذى هو ضعف طبيعى، الذى بالحرى أن يقال له فى بعض المواضع إنه عجز.
وأما أن لا يكون قوة على سرعة القبول والمطاوعة، فكأنهم ليسوا يدخلونه فى هذا الباب، ولذلك يبقى لهم الأقسام ثلاثة: قوة انفعال، وقوة مقاومة، وقوة فعل. فإن لم يفعلوا هكذا، ولكن جعلوا قوة المقاومة عجزاً بالقياس إلى سرعة الانفعال، وكان الجامع بينهما، أن كل واحد منهما استكمال فى أخذ ما عليه القوة الأولى من أن ينفعل وأن لا ينفعل، فإنه حينئذٍ يكون بينهما جامع هو الذى يميل إلى أن يجعله النوع من الكيفية الذى هو هذا الجنس،ويجعل هذين نوعين متقابلين تحته، أحدهما يسمى قوة طبيعية، والآخر عجزاً طبيعياً. لكنا نحتاج إلى جامع، بين هذا الجامع، وبين الذى هو قوة فعل وهذا يعسر، فليكن هذا الجامع أن فى الشىء مبدأ به يتم حدوث أمر حادث، على أن حدوثه مترجح به. فإن فعلنا هذا وتكلفنا، كانت القوة الفاعلية، التى بسهولة، والتى للمقاومة، والتى للانفعال بسهولة، داخلة فى هذا الصنف.
ولكن الشناعات المذكورة، وغيرها، تكون باقية وتكون القسمة إلى الأربع قسمة متداخلة لا مفصلة. ولنقتصر الآن على ما قلناه، فإما إن أوردنا فى هذا الباب جميع مايجب إيراده طال، ولا كبير جدوى فى تقديم هذا الكتاب على المنطق، فضلا عن إطالته؛ ولا ينبغى أن يظن بسبب وقوع غايات هذا الجنس، إما فى مقولة خارجة عن الكيفية، وإما فى نوع من الكيفية غير هذا النوع.
إن هذا النوع قد يقع خارجاً عن الكيفية، أو يداخل نوعاً آخر تحتها، مثاله أن المصارعى له قوة على أن يحدث فى آخر صرعا، وعلى أن لا يحدث فيه نفس صرع، وهيئة الصرع أعنى الغاية التى تحصل عنه، لا التحريك إلى الغاية هى من باب الوضع، والتحريك من باب الفعل، وكذلك الممراض، له قوة، علىأن يقبل المرض بسهولة، والمرض من النوع الأول من أنواع الكيفية. فإنا لا نسمى المصارعى مصارعيا لأنه بالحال المذكورة من الصرع، ولا الممراض ممراضا لأنه موجود فيه المرض، بل من قبل أن لهم قوة على ذلك وإن كانت فى نفسها معنى فعلياً به يقال إنه كيف هو؛ ولكن تلك الفعلية ليست صرعا ولا مرضا.
الفصل الخامس
فصل (ه)
فى الكيفيات الانفعالية والانفعالات
والجنس الثالث من التى هى أنواع من الكيفية، وجنس الأنواع من الكيفية، حاله فى أنه لا اسم يعمه، حال الجنس الثانى. وكذلك فإنه لم يذكر له رسم عام، بل جعل له اسمان، وجعل أحد الاسمين مقولا على أنواعه بالاشتراك، والآخر مقولا عليها قولاً مجازياً. وذلك أن هذا الجنس يقال له جنس الكيفيات الانفعالية والانفعالات، فتكون الكيفيات الانفعالية، منها ما يشبه الملكة من النوع الأول، والانفعالات ما يشبه الحال منه. واسم الكيفية الانفعالية يقال على بعض أنواعها، لأنها تحدث من انفعال مثل الصفرة التى تتبع المزاج الحاد المستحكم فى الكبد، ويقال على بعضها لأنه يحدث منه انفعال لا فى كل شىء بل فى الحواس.(1/119)
أما الانفعالات فيوهم ظاهر ما يقال فيها أنها ليست كيفيات، كأن الصفرة إذا لم تستقر زمانا طويلا لم تكن من مقولة الكيفية، لا لأنها اصفرار، أى آخذ إلى الصفرة، فإن الاصفرار لو توهمناه تطول مدته، لم يكن أيضا كيفية، بل ربما أدَّى إلى كيفيةٍ تحدث فى آخرها، وعندما ينتهى إليها يفنى الاصفرار ويقف؛ إنما الاصفرار من مقولة أن ينفعل، بل الصفرة نفسها، إذا توهمنا الاصفرار قد انتهى إليها، فاستقرت استقرار صفرة أخرى، مما يدوم أو يطول زمانها، لكن هذه ثبتت يوماً أو ساعةً، وتلك طال بقاؤها، فإن هذه الصفرة تسمى انفعالاً، والطويلة المدة كيفية، وكذلك السواد والحرارة والبرودة وما أشبه ذلك.
فإن أصلح هذا الظاهر، ومنع أن يكون طول الزمان وقصره مخرجا الشىء عن مقولةٍ أو مدخلاً فيها، كما فعل حيث ذكر الملكة والحال، فإن اللاتى تسمى انفعالات تكون أيضاً كيفيات، لكنها من قصر مدتها، وسرعة زوالها منعت اسم جنسها، كما قد يقال للقليل إنه ليس، وسميت باسم الأمر الذى هو فى التجدد والتغير، وهو الانفعال، فسميت انفعالات؛ فيكون هذا الاسم كالمستعار لها، أو المنقول إليها، لمشابهة من غير أن يراد بإطلاق هذا الاسم عليها ما جرت العادة بفهمه منه. وبالحرى أن يكون الأمر كذلك، وألا يكون الاستعداد لسرعة الزوال مخرجا للأمر عن جنسه.
والآن فإن المعانى التى يدل عليها هذان اللفظان، هى معانٍ ثلاثة: معنى الكيفية التى تنفعل عنها الحواس ولها بقاء، ومعنى الكيفية التى تحدث عن انفعال فى موضوعها ولها بقاء. وقد حصرا فى لفظ واحد. ومعنى الكيفية التى لا ثبات لها.
وليس كل واحد من هذه المعانى عاماً لجميع ما تحت هذا النوع، ولا أيضاً يدل على فصول حقيقية تنفصل بها أنواع مرتبة تحت هذا النوع، لكن أحد هذه المعانى قد يعم الثلاثة، وهو أنها بحيث تنفعل عنها الحواس، فإن الانفعالات والانفعاليات كلها تشترك فى ذلك، ويعمها شىء، وأنها من شأنها أن تفعل فى مواد ما أشياء تشاركها فى المعنى، فإن الحار يفعل الحار، والبارد يفعل البارد، والأسود أيضا يقرر شبح السواد فى الحواس والتخيل.
وتجدها تشترك فى أن يصح فى طبائعها أن تعرض للأجسام على سبيل الانفعال الجسمانى والحرارة النارية، وإن كان يظن على ظاهر الأمر إلى أن يعرف الأمر المحقق فيه، أنها لم توجد فى النار بانفعال، ولا أيضاً فى مادة النار، إذ حصول ما يحصل فيها ليس بانفعال، إنما الانفعال فى الموضوعات القائمة.
فإن سامحنا فى تسليم هذا القول، فإن الحرارة من شأن طبيعتها من حيث هى حرارة أن تحدث بالانفعال، وإن كان فى غير النار. وحلاوة العسل، وإن لم تحصل فى العسل على سبيل انفعال من العسل، فقد حدثت على سبيل انفعال وجد فى أمور تكوَّنت عسلاً، وانفعلت انفعالاً مَّا صارت بذلك حلوة، فتشترك بذلك فى أنها بحيث يصح أن تحدث عن انفعالات فى موضوعٍ ما، وإن اختلفت فى أن بعضها يحدث بانفعال الموضوع بها نفسها، وبعضها قد يحدث تبعاً لانفعال فى الموضوع؛ ويجمع جميع أصنافها بأن الحواس تنفعل بها.
ومع هذا فليس يمنع ظاهر الحال أن تكون هذه المعانى الجامعة قد تدخل فيها أمور: منها ما هو من باب الكيفية إلا أنه فى غير هذا الجنس، مثل الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين والثقل والخفة، فإنها كلها محسوسات؛ ومثل الخشونة والملاسة، فإنه وإن لم تكن من الكيف، بل من الوضع، فهو محسوس. والرطوبة واليبوسة فى ظاهر الأمر، وللصلابة واللين أيضاً هى من باب القوة واللاقوة.
لكنا إذا قلنا كيفيات انفعالية خرجت الخشونة والملاسة، وأما الرطوبة واليبوسة والصلابة واللين ففى أمرها نظر، فإنها إما أن تكون ماهيتها هى أنها استكمال استعداد فى أن ينغمز ويتشكل بسهولة، وفى أن لا ينغمز ولا يتشكل بسهولة، أو يكون أمر آخر هو فى نفسه موجود محصل ويلزمه هذه الكيفية، وتكون إنما تحس من جهة الأمر الآخر حتى تكون هذه الكيفية دليلاً على ذلك الوجود الآخر.
وهذا يتبين بأن يتأمل حاله فى دخوله فى الحس، أهو له من حيث ينغمز أو لا ينغمز أو من جهة شىء آخر. أما أنه لا ينغمز، فهو معنى عدمى، إنما يجب أن يحسه الحس على سبيل تعطله كما يتعطل عند الظلمة، وإبصارنا للظلمة هو أن نكون لا نبصر شيئا.(1/120)
ثم الصلب يشبه أن يكون إدراكنا له باللمس، كالإدراك الوجودى، واللين، كغير الوجودى الذى لا يحس معه بممانعة أصلاً. وأما الانغماز الذى فى اللين فهو قبول حركة على هيئة، والحركة مع الهيئة غير محسوسة إلا بواسطة، وقد يحس الانغماز أيضاً بالبصر دون اللمس.
وكذلك سرعة الحركة إلى الشكل وبطؤها، فلا يكون ذلك دليلاً على أن الصلابة واللين أو الرطوبة أو اليبوسة قد أحسا بالبِصر، فإذن ليس ما يلمس هو الانغماز، وعدم الانغماز ولا أيضا الاستعداد، فإن الاستعدادات من حيث هى استعدادات معان تعقل.
وكذلك فإن قوة المصارعى لا يحسها مصارعه، بل يحس هناك صلابةً للمقاومة.
وكذلك الزق المنفوخ فيه الهواء، فإن الهواء الذى فيه لم يصلب بوجه من الوجوه، بل هو فى طبيعته كما كان، لكن الحس يحسه كما يحس الصلب.
وكذلك الرياح فإن الأمر الذى يحس من المقاومة، هو غير الاستعداد الطبيعى الذى فى الشىء الموجود، فإن الهواء لم ينعقد فى طبعه صلبا، وإن انحصر فى الزق، ولا بأن صار ريحا، بل الاستعداد الطبيعى موجود فيه، ولا يحس به.
فإذن المعنى الذى يحس بذاته إن كان لا بد من معنى يحس بذاته هو غير ذلك الاستعداد، وإن كان يقاربه ويكون معه، وغير نفس حركة الانغماز، وغير الانغماز، فأحد هذه عدم، والآخر من باب الحركة لا من باب الكيف، والثالث من جنس الكيفيات التى فى الكميات دون الكيفيات الانفعالية والانفعالات.
فالذى يقع فى هذا الجنس من المعنيين المعتبرين فى الرطوبة واليبوسة هو ما يحس منهما. والذى يقع فى الباب الآخر، أعنى باب القوة واللاقوة هو ما لا يحس منهما؛ وهما متلازمان.وأما الخشونة والملاسة فإنها لم تكن ألبتة من باب الكيف، فكيف تكون كيفيات انفعالية ؟ فإن الخشونة هى اختلاف الأجزاء فى ظاهر الجسم بأن يكون بعضها ناتئا، وبعضها غائرا، وهذا من باب الوضع. والملامسة استواء الأجزاء فى الوضع والخشونة والملوسة من حيث هى هكذا غير محسوسة إلا بواسطة كما تحس المقادير والأشكال والأبعاد، فإن أحست بواسطة صلابة أو لين أو سواد أو غير ذلك فلا تكون من جملة الملوسات التى نحن فى سبيله، فإنها لا تفعل فى الحس تأثيرا من جهة نفس الحال العارضة لأجزائها مطلقا الذى هو الوضع، بل لأمر آخر وهو صلابة أو لين أو حرارة أو بياض أو غير ذلك.
فإن كانت للخشونة والملاسة حال يحسّ بها بالحقيقة لا بواسطة، فتلك الحال غير حال الأمر العارض لها من أجزائها، وهو الوضع، وتكون تلك الحال كيفية. وأما النقل والخفة فإنهما ليسا الا من باب الكيفية، فإن الذى يظن بهما أنهما من باب الكمية باطل، وكأنا قد فرغنا من ذلك؛ لكنه قد يظن بهما أنهما من باب القوة واللاقوة، وإنما كان يكون ذلك لو كانت القوى الفعلية تدخل فى ذلك الجنس مثل الحرارة وما أشبهها أيضا، فالنقل والخفة أيضا من هذا الباب، وهما من جملة المحسوسات، ومن جملة ما يحدث فى الأجسام بالانفعالات، فإن الجسم يسخن فيخفّ، ويبرد فيثقل ، وهو واحد بعينه: فإن البخار ماءٌ خفَ بالحرارة، وكذلك أجزاء الأرض المتسخنة قد تخف فتصعد متدخنة، وقد يدفن الشىء فى الأرض فيزداد ثقلا من غير أن يزداد قدرا، وقد يجمع أشياء متباينة لجملتها وزن ماَّ، فإذا اجتمعت حدث لها وزن أكثر أو أقل، إذا انفعل بعضها ببعض.
الفصل السادس
فصل (و)
فى حل باقي الشكوك
وأما التخلخل والتكاثف فقد يدّل بعضها على معانٍ: فقد يقال تخلخل ويراد به انفشاش الأجزاء بأن يتخللها جسم أرقّ منها فتتباعد منها كالصوف المنفوش. ويقال تكاثف لما يقابل ذلك، كما يعرض عند الكير. وقد يقال تخلخل، إذا صار الجسم إلى قوام أقبل للتقطيع والتشكيل من غير انفصال يقع فيه. ويقال تكاثف لمقابله. ويقال تخلخل لقبول المادة حجما أكبر. ويقال تكاثف لقبولها بعينها حجما أصغر.
والمعنى الثانى والثالث قد يظن بهما أنهما معنى واحد؛ وذلك للغفلة، فإن النار أشد تخلخلا من الهواء بمعنى زيادة الحجم، وليس أقبل منه للتشكك والتقطيع، إذ الهواء رطب جداً والنار يابسة، والهواء إذا استحال ناراً قبلت حجماً أكبر وصارت أشد مقاومةً ويبساً. لكن الماء إذا سخن فصار هواءً، عرض له ازدياد الحجم ورقة القوام، فيظن من لا يتثبت فى حكمه ويتبع عفو التمثيل والاستقراء أن الأمرين واحد. وأما نحن فنقول:(1/121)
أما المعنى الأول فهو من باب الوضع، وأما المعنى الثانى فمن باب الكيف، وأما المعنى الثالث فمن باب الكم المقارن للإضافة أو الإضافة المقارنة للكم ، لأنه زيادة حجم. وقد اتفق أن كانت العناصر ذوات البرد تقارن فيه التخلخل الذى بمعنى زيادة الحجم، التخلخل الذى بمعنى الرقة؛ والتكاثف الذى بمعنى نقصان الحجم، التكاثف الذى بمعنى الغلظ والمقاومة. وكانت العناصر ذوات الحر بالضد، مثل الهواء أذا صار ناراً فازداد تخلخل حجم ولم يزدد تخلخل قوام، والنار إذا صارت هواء، كان بالضد فى ذلك. وأما البارد فإنه إذا صار حاراً، عرض له التخلخلان جميعاً؛ والحار إذا صار بارداً، عرض له التكاثفان معا. فهذا هو الذى يجب أن يتحقق؛ ولا تلتفت إلى ما كتب فى مواضع أخرى.
ولنقتصر على هذا المبلغ من شرح هذا الجنس، ولنحاذ بعبارتنا نظم التعليم الأول، لنفهم ما قيل فيه على وجه تزول معه الشكوك فنقول: إن هذا الجنس منه كيفيات انفعالية هى التي تكون قارةً راسخةً فى الشىء، كحلاوة العسل، وسواد الغراب، وليس يقال لها إنها انفعاليات، لأنه يجب أن تكون ما هى فيه لا محالة قد انفعلت بها بل لأنها تنفعل عنها على النحو المذكور. أما الحواس فقط، أو الحواس وغيرها، وبعض هذه، فلها مزية نسبة إلى الانفعال، مثل البياض والسواد، فإنهما لا توجد فى أجسامها إلا أن يكون قد وقع قبلها انفعالات فى موضوعها فى الكيفيات الأولى الملموسة حتى حصل مزاج يوجبها؛ فإن ما سوى الملموسات بالحقيقة يتبع الملموسات، فإنك ترى الإنسان يعتريه من الخجل والوجل حر أو برد، فيتبع ذلك حمرة كما فى الخجل، أو صفرة كما فى الوجل؛ فإن عرض مثل تلك الأسباب فى أصل الكون والولادة، فثبت، فاستقر مزاجا ، وتبعها حمرة أو صفرة، صارت الحمرة والصفرة لازمتين، فكانت من جملة الكيفيات الانفعالية. وكذلك إذا عرض بعد الكون فثبت كمزاج يحدث فيثبت ما يوجبه.
وأما الذى يعرض للزوال فهو مثل الشىء الذى إذا سئل عن قوم عرض لهم لانفعال ما، لم يصلح أن يجاب به، ولم تلتفت إلى ما عرض لهم منه. وقد جرت العادة أنه إنما يعرفون بالكيفيات التى تلزمهم، فلا يقال لمن خُلِق أحمر البشرة أنه مصفار اللون بسبب عارض من وجل أو حرد غير لونه، فلذلك لم تسم هذه كيفيات بل انفعالات.
وأعلم أن هذا على سبيل المجاز والتوسع فى الكلام، وإلا فالكيفية تقال على المعنيين جميعاً؛ وذلك لأنه إذا سئل عن الذى أصفر للوجل، أنه كيف هو فى هذه الحال، فقيل أصفر اللون، لم يكن الجواب كاذباً؛ وإذا سئل عنه، أنه كيف هو مطلقاً، فلا يجاب فى العادة بأنه أصفر إذا كان محمار الخلقة. والسبب فى ذلك أن المجيب يستشعر أن السائل يسأله، أنه كيف هو فى طبيعته الصحيحة، وفى حالة الأكثرية، ويكون عنده أن السائِل توسع فترك بعض ما يجب أن يتم به عبارته، فيجيبه حينئذ بما يجيبه. وإذا سأل مطلقاً أيضاً، أنه كيف زيد، وكان السؤال لا يقتضى زيادة استشعار، أو كان السؤال يوهم المجيب أنه يسأل عن حاله فى الوقت، فلا يكذب، لو قال: مغموم أو محموم، وإن كان ذلك سريع الزوال.
وأما أن نفس السؤال بكيف أى جواب يقتضى بحسب اعتبار الأزمنة، واعتبار دوام الحال، ولا دوامها، فليس بنا حاجة الآن إلى بيانه. فيجب أن يتصور الأمر على هذه الصورة فلا يلتفت إلى من يحرم أن تكون الكيفيات السريعة الزوال صالحةً للدخول فى جواب كيف. واعلم أن ذلك إنما لا يصلح للاستشعار المذكور من سؤال السائل، وليس هذا السؤال والجواب متعارفين فى الكيفيات التى من هذا الجنس فقط بل من الجنس الأول، فإن الملكات قد يجوز أن تسمى كيفيات انفعالية، والحالات انفعالات، وإن كان ذلك إذا اعتبر مع الجنس الثالث مقولاً بتشابه الاسم، إلا أن لا يجعل اسم الكيفيات الانفعالية والانفعالات اسماً مساوياً، لا لمعنى هذا الجنس بل لمعنى أعم منه، وهو أن تكون كل كيفية بطيئة الزوال عن المتكيف بها تسمى كيفية انفعالية، وكل كيفية سهلة التغير تسمى انفعالاً؛ فتكون قسمة الكيفية إلى الكيفيات الانفعالية والانفعالات ليست قسمة على سبيل التربيع، بل على سبيل التثليث.(1/122)
فتكون الكيفية تنقسم إلى: كيفياتٍ انفعالية وانفعالاتٍ، وإلى أشكالٍ وما معها. ثم الانفعالية والانفعالات تنقسم إلى هذا الجنس الثالث، وإلى الحال، والملكة. فيكون هذا الجنس من حيث خصوصيته لا اسم له، وإنما له اسم معنى أعم منه، فإن جعل هذا اسما له من حيث خصوصيته، كان وقوعه على الملكة والحال باشتباه الاسم، إذ ليس له هناك تمام حده.
ونعود فنقول، بعد ما فصلناه من اشتباه هذين اللفظين، إن من كان له مزاج غضبىّ يوجب خلق الغضب من أول الكون مثلاً، أو كان استفاد ذلك، لا عن مزاج، بل باستعمال أفعال الغضب، حتى صار له خلق الغضب، فإنه ذو كيفية انفعالية يعنى بها الملكة على سبيل اشتراك أو على سبيل مجاز للتمثيل، أو يعنى بها معنى أعم من الملكة. والذى عرض له الغضب عن سبب زائل فليست له كيفية انفعالية، فإن كانت الكيفية الانفعالية يعنى بها الملكة، كان هذا المعنى غير مقول على الجنس الثالث إلا باشتراك الاسم؛ وإن عنى بها المعنى الأعم كان مقولا عليها بالتواطؤ؛ لكنه يكون مقولاً على الجنس الثالث بمعنيين باشتراك الاسم: فإنه من حيث يجعل اسماً بخصوصيته يدل على معنى، ومن حيث يعنى به المعنى العام يدل على معنى؛ والمعنيان جميعا موجودان فى الاخص، محمولان عليه. وهذا كمن يسمىّ عبده الأسود أسود من حيث شخصه، فيكون الأسود يقال على الواحد باشتراك الاسم من جهتين.
هذا ولا عذر لمن سمع أن الناس اجتمعوا على أن الحال والملكة نوع واحد، وكلتاهما كيفية، وسمع أن الملكات هو ذا تخص باسم الكيفيات الانفعالية والحالات بالانفعال، وسمع أن السبب فى ذلك، أنه لم تجر العادة بأن يسمىّ من عرض له الغضب، فى وقتٍ ما، وحالٍ ما، من غير دوام، وعن خلق، مكيّفا بكيفية الغضب، أن يشكل عليه أن الانفعالات فى الجنس الثالث، كيفيات بالحقيقة، وإن لم تسمّ كيفية، بل انفعالات؛ وأن السبب الذى يوهمه أن الانفعالات ليست كيفيات يجب أن يوهمه ذلك فى الحالات، وإذ ليس يوهمه فى الحالات، فيجب ألا يوهمه ههنا أيضاً، ويعلم أن هذا السلب مجازى، أعنى قولهم ليست كيفيات.
المقالة السادسة
من الفن الثانى من الجملة الأولى من كتاب الشفاء
الفصل الأول
فصل ( أ )
فى ذكر أنواع الجنس الرابع من الكيفية
أما الجنس الرابع، فقد ذكرنا أيضا أنواعه، ولم نذكر المعنى الجامع لها. والمشهور من أنواعه ثلاثة أصناف: الشكل، وما ليس بشكل، وما هو حاصل من شكل وغير شكل.
وأما الشكل، فالمشهور من أمره أنه ما أحاط به حد أو حدود؛ أما حد، فمثل ما للكرة والدائرة؛ وأما حدود، فمثل ما للمربع والمكعب. وأما الذى ليس بشكل فكالاستقامة والانحناء للخط؛ وكالتقعير والتحديب والتسطيح للبسيط. وأما الذى يحصل من شكل وغير شكل، فهو الذى يسمى صورة وخلقة، وهو الشكل من حيث هو محسوس فى جسم طبيعى أو صناعى، وخصوصاً بالبصر، وذلك بأن يكون له لون ما، فيكون الشكل الملوّن خلقة وصورة.
فلما ذكرت هذه الوجوه الثلاثة، قيل: ويشبه أن يكون للكيفية نوع آخر فتذبذب هؤلاء الذين يشرحون. فقال بعضهم: إنه يعنى الآمور التى سميت فى الفلسفة الأولى كيفيات، التى هى الأمور المفارقة أصلا، كالمُثُل المظنونة، والتعليميات؛ أو كالعقول التى لا تلابس المادة.
وهؤلاء لم يشعروا بأن إطلاق اسم الكيفية على ذلك، وعلى هذه المعدودة، إنما هو باشتراك الاسم أو يشابهه. وليس حد الكيفية فى جميعها واحداً، فلا يكون ما يجمع تلك الأشياء نوعاً من أنواع الكيفية زائداً على أنواع الكيفية المذكورة.
وقال آخرون إن ذلك هو الثقل والخفة، مع أنهما عندهم وعند غيرهم من جملة ما سلف ذكره. فأما هؤلاء وغيرهم، إما أن يجعلوه من جنس القوة واللاقوة، وإما أن يجعلوه من جنس الانفعاليات والانفعالات. ومع هذا فإن جميعهم قد توخى فى القسمة التربيع، حتى جزم أن لا كيفية خارجة عن الأجناس الأربعة، وذلك هو الحق؛ ثم شك فى نوع خامس. فتأمل حال هؤلاء واضطرابهم.
واعلم أنه ليس الغرض فيما قيل من ذلك، أن الأربعة ليست أجناساً تحصر أنواع الكيفية كلها، حتى تحتاج أن يؤتى بخامس أو سادس؛ بل معنى هذا الكلام أنه يشبه أن يكون للكيفية نوع، هو قسم لهذه الأنواع التى ذكرها فى الجنس الرابع؛ إذ لم يذكر الجنس بل ذكر أنواع الجنس.(1/123)
وبالحرىّ أن يكون للكيفية نوع آخر داخل تحت هذا الجنس؛ وذلك لأن خواص هيئات العدد، كالفردية، والزوجية، والتربيع، والتكعيب، والتثليث، وغير ذلك، ليست هى بأعداد، ولا أيضا فصولٍ للأعداد، بل عوارض تعرض لأنواعها لازمة، كما تحقق فى الفلسفة الأولى، وكما هو مشهور؛ وليست من مقولة المضاف، أو أين، أو غير ذلك.
فهى إذن من مقولة الكيفية، ومن هذا الجنس منها، إذ ليست بملكات ولا حالات، بل ولا هى قوة، ولا عجز، بل ولا انفعاليات ولا انفعالات. فهذا هو النوع الذى أعرض عنه بسبب أن توقيف المبتدئ على حقيقته مما يصعب صعوبة شديدة جداً.
وأما المذكرات فهى مشهورة للمبتدئين إذ هى مما يسهل إطلاعهم عليها، وكتاب قاطيغورياس إنما هو للمبتدئين لاغير، وقد حدثتكم بصورته مرارا.
ثم المشكلات التى يجب أن يبحث عنها فى هذا الموضع هى هذه: أحدها تعرف المعنى الجامع لهذا الجنس. والثانى النظر فيما قيل من الرسم المشهور للشكل. والثالث تحقيق الحال فى أن الشكل من الكيف وليس من الوضع. والرابع إبانة حال الزاوية أنها فى أى مقولة تقع. والخامس من حال الخلقة، وأنها كيف هى فى جنس واحد من أنواع الكيف وإنما هى لون وشكل معاً. والسادس حال ما يجرى مجراه إذا اتفق أن كان من مقولتين فإلى أى المقولتين منها ينسب الواحد الحاصل من الجملة.
فأما البحث الأول، فيجب أن تعلم، أن هذا الجنس، هو الكيفية التى تعرض للجواهر لعروضها أولا للكمية بما هى كمية؛ ليس كالقوة والضعف: فإنها وإن قارنت الكمية، فليس لأجل أن الكمية بنفسها مستعدة لها استعداداً أولياً، ثم تعرض بتوسطها للجوهر. وأما الشكل، فإنه يعرض للمقدار بما هو مقدار. وهذا الشرح الذى أوردناه لمعنى هذا الجنس الرابع يدخل فيه الشكل، والاستقامة، والانحناء، والتسطيح، والتقبيب، والخلقة، وكيفيات الأعداد.
لكن لقائل أن يقول: إن الخلقة تخالف البواقى لأن البواقى تعرض للكمية عروضاً إولياً مطلقاً، ويتوسطها تعرض لذوات الكمية، وأما الخلقة فلا تعرض للكمية عروضاً أولياً، فإنه ما لم يكن جسم طبيعى يتلوّن لم تكن خلقة. وهذا كالقوة واللاقوة التى تعرض أيضاً للكميات لعروضها لذوات الكميات، كما يزعمون فى العمق.
فنقول ليس الأمر كذلك. فإن الأمور التى تعرض للكمية، منها ما يعرض للكمية فى نفسها لا بشرط أنها كمية شىء، ومنها ما يعرض الكمية فى نفسها بشرط أنها كمية شىء فتكون الكمية هى المعروض له الأوّلى فى ذلك الشىء. ثم الشىء وإن لم يكن يعرض له ذلك العارض إلا وهو كمية ما هو له كمية، فليس إذا كان لا يعرض له أمر إلا وهو كمية شىء، يجب أن يكون إذا عرض له الأمر لم يعرض له أولياً، بل عرض لذلك الشىء وللكمية بسبب ذلك الشىء. فإنه لا سواء قوله، إن الكمية إنما يعرض لها الأمر عندما يكون فى شىء، وأن نقول إن الكمية إنما يعرض لها الأمر لأنها فى الشىء الذى عرض له الأمر.
كما لو أن قائلا قال: إن النفس لا يعرض لها النسيان إلا وهى فى البدن، أو شىء آخر غير النسيان، لم يدل ذلك على أن النسيان، أو ذلك الشىء، إنما يعرض للبدن، وبتوسطه يقال على النفس؛ كما أن الحركة تعرض للبدن، وبتوسطه يقال على بعض قوى النفس. ثم اللون حامله الأول هو االسطح، كما هو مشهور وتحقق فى العلم الطبيعى؛ والجسم بنفسه غير ملون، بل معنى أنه ملون، أن سطحه ملون. وليست القوة حاملها الأول هو العمق، وبتوسطه ويقال على الجسم، حتى يكون الجسم ذو القوة هو الذى مقدار تحته ذو قوة، بل القوة يحملها جسم تحمله مادته وصورته؛ وإنما تحمله مادته وحدها كما سيلوح لك تحقيقه فى صناعة أخرى. فالخلقة تلتئم من شىء حامله السطح بذاته، وما يحيط به السطح، وهذا الشىء هو الشكل؛ وشىء حامله السطح أيضاً ولكن عند حال كونه نهاية لجسم ما طبيعى، وهذا الشىء هو اللون. فإذن الخلقة تلتئم من أمرين حاملهما الأول هو الكّم، وبسببه يقال على الجسم.(1/124)
وأما البحث الثانى وما قيل فى حد االشكل، فيشبه أن يكون ذلك الرسم المشهور غير محقق للشكل الذى هو الكيفية، بل هو رسم للشكل الذى يستعمله المهندسون الذين يقولون إنه مساوٍ لشكل آخر وغير مساوٍ، وهو نصفه وثلثه، ويعنون بذلك مقدارا مشكلاً. وذلك لأن الشىء الذى تحيط به الحدود بالذات هو المحدود ، والمحدود بالذات هو المقدار، والمقدار بالذات هو كم، والشكل كيف، والكيف ليس بكم، فليس إذن ما تحيط به الحدود بشكل هو الشكل الذى من باب الكيفية؛ لكن الهيئة الحاصلة من وجود الحد والمحدود على نسبة ما هو الشكل.
والدليل على صحة ما أقوله، وغفلة هؤلاء عنه، أن المربع غير التربيع، إلا أن يقال مربع ويعنى به التربيع نفسه، كما يقال أبيض ويعنى به البياض. ثم لا شك أن التربيع شكل من باب الكيف، والتربيع لا يقال إنه ما أحاط به حدود، بل يقال أنه هيئة ما أحاط به الحدود؛ وأما المربع فإن عنى به الشىء الذى أحاط به الحدود الأربعة، فلا يقال إنه كيف، بل إنه مكيف، ولا يصح حمل الكيف عليه. والمهندسون إنما يعنون بالمربع وبالشكل غير هذا الذى نذكر فى هذا الباب؛ فإنهم يعنون بالمربع وبالشكل الشىء الذى فيه التربيع والشكل؛ فلذلك صح قولهم: الشكل ما أحاط به حد أو حدود؛ فإن الشكل الذى للمهندس هو غير الشكل الذى كلامنا فيه ههنا، وأما من عنى به التربيع، فلا يمكنه أن يقول إن الشكل ما أحاط به حد أو حدود. فقولهم إن رسم الشكل المذكور ههنا هو هذا الرسم، قول مجازف فيه.
وإذ عرف هذا، فقد صحح أن الاستقامة، والانحناء، والتسطيح، والتقبيب، وغير ذلك ليست بأشكال، بل هيئات للكميات لا تتعلق بالحدود بوجه من الوجوه.
وأما البحث الثالث فيجب أن تعلم فيه، أن المعانى التى تلتئم من اجتماع أمور، فإنها يعسر إعطاء الحدود الموازنة لأسمائها؛ لأن الجمهور يصعب عليهم أن يميزوها، وأن يلتفتوا إلى خصائص أحوالها، إذ انتفاعهم بالجملة منها كانتفاعهم بالتفصيل فى القدر الذى يحتاج إليه الجمهور من تخيلها. والشكل من تلك الجملة. فإن الشكل ملتئم من مقدار ومن حدود على هيئة، كالمربع من سطح، ومن أربعة حدود، ومن هيئة. فلا يبالى فى عادة الجمهور، أن يجعل اسم المربع واقعاً على السطح، من حيث له أربعة حدود، وعلى الحدود الأربعة، وعلى الهيئة. لكن السطح والحدود من باب الكم؛ فإذا أخذت معروضاً لها ما يعرض، فإنه يحصل منها كميات ذوات أعراض، لايخرجها ما يعرض لها عن أن تكون كميات.
كما أن الحركة لا تخرج الإنسان من أن يكون حيواناً وجوهراً، وإن نظر إلى الهيئة كانت الهيئة كيفية؛ وليس ولا واحد من الاعتبارين من باب الوضع، ولا فيه وضع ألبتة. وقد غلط من ظن أن الشكل يصدق حمل معنى الوضع عليه بوجهٍ من الوجوه، وإنما عرض له من جهله باشتراك الاسم فى الوضع. وذلك لأن الوضع قد يقال على وجوه. فيقال: وضع لحصول الشئ فى موضعه، وهذا المعنى من الوضع هو نفس مقولة الأين. ويقال: وضع لحصول الشئ مجاور للشئ من جهة مخصوصة كما يوضع خط من يمين خط؛ وهذا الوضع نوع من المضاف، ومقول ماهيته بالقياس إلى غيره، فإن وضع الشئ عند مجاوره، مقول بالقياس إلى وضع مجاوره عنده، بل هذا الوضع هو المجاورة؛ ومن يشكل عليه أن المجاورة من باب المضاف ؟ ويقال وضع للهيئة الحاصلة للجسم بسبب نسبة بعض أجزائه إلى بعض فى الجهات بسبب حصول الوضع بالمعنى الثانى لأجزائه، وبالجملة لوجود إضافة ما فى أجزائه التى توجد بالفعل أو بالتوهم، حتى تكون الأجزاء إذا وجدت على إضافة ما معلومة، أو كان الجسم بحيث يمكن أن يتوهم فيه أجزاء ذوات إضافة ما معلومة، حصل للكل بسبب ذلك هيئة هى الوضع، وهذا هو المقولة. فإن الجلوس هو صفة لجملة الجالس لا لشئ من أجزائه. لكن إنما تكون هذه الصفة للجالس، إذا كان لأجزائه بعضها إلى بعض إضافة، أو إمكان إضافة؛ ولا كل إضافة، بل إضافة هيئة المجاورة؛ ولا كل إضافة هيئة المجاورة، بل أن يكون لها نسبة مع ذلك إلى جهات تكتنفها، أو أجزاء أمكنة أو أجزاء أمور محوية فيها.(1/125)
وبالجملة أن يقرن بالاعتبار الذى فيما بينها اعتبار لها فيما بينها وبين أمور مباينة لها.فإن الهيئة التى لأعضاء الجالس بعضها عند بعض إذا ثبتت، وقام الجالس، والهيئة ثابتة بالقياس المعتبر للأجزاء بعضها عند بعض، لم يكن جالسا إذا زالت النسبة بينها وبين الأمور الخارجة عن جوهرها، وإن بقيت الداخلة على نسبتها. ولذلك ما يقال إنه قد انتقل وضعه. والذى يقال: إن الشكل من الوضع، لأن الشكل يتعلق بحدود بينها تجاورٌ خاص لوضع بعضها عند بعض، فلقد يغلط من وجوه، من ذلك، أنه أخذ الحدود مكان الأجزاء.
وإنما الاعتبار فى الوضع بالأجزاء، وفى الشكل بالحدود؛ وغلط إذ حسب أن هذا الوضع من المقولة الخاصة، ولم يعرف أن هذا من المضاف؛ وإنما الوضع الذى هو المقولة هو وضع أجزاء الشئ عند شئ خارج مباين، لا وضع أجزاء الشئ فى نفسه. وغلط أيضاً إذ ظن أن الشئ إذا كان متعلقا بمقولة فهو من تلك المقولة، فإن الشكل وإن كان لايحصل إلا بالإضافة بين الحدود، أو وضع أيضاً، فليس يجب أن يكون الشكل وضعاً؛ ألا ترى أنه لا يقال إن المربع هو عدد للحدود، ولا أن المربع هو وضع حد عند حد ؟ فإذ ليس يقال أحد ذينك عليه فلا يكون هو داخلا فى مقولته، بل يقال إن المربع حاصل عن وضع كذا، وعن حد كذا. ثم جاء قوم من بعد يعتذرون من ذلك، إذ عرفوا أنه لا يلزم أن يكون التربيع وضعاً، بسبب أن الحدود تكون فيه ذوات وضع، لكنهم سلموا أن الحالة التى للحدود بعضها عند بعض هى من مقولة الوضع، وذلك لتعذر تفريقهم بين معانى الاسم المشترك، وخصوصاً إذا كان متشابه المعانى، وخصوصاً وكان أيضا مجتمع المعانى فى شئ واحد. فقد علمت أن الشكل لايتعلق بالوضع الذى من المقولة الخاصة، بل بالوضع الذى من الإضافة. وأما الدائرة بأنها لاتتعلق بهذا الوضع بل تتم بأن يكون لحدها هيئة مخصوصة فى الانحناء فيحصل للمحدود هيئة الشكل كيفية بكيفية.
الفصل الثانى
فصل ( ب )
في تعريف حال الزاوية
وكيفية وقوعها فى الكمية أو فى الكيفية أو الوضع وغير ذلك وتعرف حال الخلقة وكيف صارت مع التركيب الذى فيها نوعاً وباقى الشكوك فى هذا الجنس من الأجناس الأربعة.
وأما البحث الرابع، فهو عن أمر الزاوية. فنقول: أما الفرق بين الزاوية والأشكال، فهو أن الزاوية إنما هى زاوية من حيث يعتبر المقدار متحدداً بين حدين أو حدود يلتقيان بحد. ولنخصص الكلام بالمسطحة، فنقول: إنه لايخلو إما أن يكون الشئ الذى يحيط به الحدان المتلاقيان فى المسطحات قد يحيط معهما ثالث أو رابع، أو لا يحيط؛ فإن لم يحط معهما ثالث فلا يخلو إما أن يكون حداه يلتقيان عند حد مشترك لهما آخر، أو لا يلتقيان، بل يذهبان فى التوهم إلى غير النهاية فإن التقيا، فيكون كحال الخطين المحيطين بقطعة دائرة، أو بشكل هلالي، أو بشكل آسى، أو غير ذلك. فالسطح الذى لا يتحدد بحد ثالث بل إنما هو محدود بحدين يلتقيان فى جانب منه، فهو من حيث هو كذلك، أو حالة تلك، هو أو هى زاوية. والذى يتحدد بحد غيرهما حتى يحاط به، أو يلتقى حدا ذانك حتى يحاط به، فهو من حيث هو كذلك، أو حاله تلك، هو أو هى شكل. فإن لم يعتبر كونه محاطاً به، بل اعتبر منه حاله من جهة حديه الملتقيين بحديهما، فذلك أيضا اعتبار يتناول الزاوية.(1/126)
وكيف ما كان، فإن النظر فى السطح من حيث يتحدد بحدين اثنين بالفعل يشتركان فى حد يتصلان به بالفعل، هو غير النظر فيه من حيث يتحدد بحد ثالث، أو لا يتحدد؛ وكيف يجوز أن يتوهم، أنه لا يتحدد بثالث، بل يذهب الحدان متباعدين إلى غير النهاية، أو ينقطعان فى السطح بنقطتين ليس يصل بينهما خط قاطع للسطح، أمكن ذلك أو لم يمكن، وغير النظر فيه من جهة أن حديه هذين قد يشتركان فى حد آخر، فتكون نسبة المقدار إلى هذا النظر والاعتبار، نظيره نسبة المقدار إلى التحدد من جميع الجهات ونظير المقدار، ونظير المجتمع الذى هو الزاوية المجتمع الذى هو الشكل أو المثلث أو المربع، ونظير الهيئة التى تحصل للمقدار من حيث هو كذلك نظير الهيئة التى تحصل للمقدار من حيث هو محدود فى الجهات، أعنى الشكل؛ فكما أن المقدار المشكل كمية فكذلك الزاوية من حيث يوقع اسم الزاوية على المقدار الذى بالصفة المذكورة، فإنها كمية؛ وكما أن هيئة المشكل كيفية، فكذلك هيئة الزاوية كيفية؛ وكما أن المهندسين إذا قالوا شكل، ذهبوا إلى المشكل، كذلك إذا قالوا زاوية، ذهبوا إلى المقدار ذى الزاوية؛ ولذلك ماتكون الزاوية منصفة ومتساوية وعظمى وصغرى؛ وكما أن حال حدود المربع بعضها عند بعض حال وضع أو إضافة، كذلك حال حدى الزاوية.
وقد قيل إن الزاوية مقدار ينتهى عند نقطة. وهو قريب مما قلناه، لولا شىء واحد، وهو أن المقدار الجسمانى إذا تحدد بسطحين يلتقيان عند خط، من غير أن يتسطحا بذلك سطحاً واحداً، وله لا محالة خصوصية حال غير الشكلية، قد أهمل اعتباره، بحيث يكون أحد السطحين قائما على الآخر، أو إلى انفراج، أو إلى تقارب محدد. وليس شكل الجسم من حيث هو متحدد بسطحين هكذا، كما ليس بشكل المسطح من حيث هو متحدد بخطين كالأشكال الهلالية هو زاوية، فبالحرى أن تكون هذه، زاوية مجسمة أيضا قد أغفل أمرها، وإن لم تنته إلى نقطة. وبالحرى أن يكون ههنا معنى جامع للزاوية التى من خطين، والتى عن سطوح عند نقطة، والتى عن سطحين عند خط، ويكون هذا الجامع هو كون المقدار ذا حدود فوق واحد، تنتهى عند حد واحد مشترك لها من حيث هو كذلك. فإن جعل اسم الزاوية لهذا المعنى الجامع ولم يكن بعيداً من الصواب، وكان انتهاء الزاوية المسطحة عند النقطة، لأنها زاوية، فإن لها من حيث هى زاوية أن تتحدد وتنتهى عند حد واحد. ثم عرض أن كانت الحدود خطوطاً، فعرض أن كانت النهاية نقطة.ثم إن أبى هذا آبٍ، وجعل اسم الزاوية للمقدار من حيث هو منته الى نقطة، لم أناقشه فيه، وصار معنى الزاوية أخص مما ذكرناه، وخرج شىء من جملة الزاوية، ومن جملة الشكل، يعرض أيضاً للمقادير من جهة الحدود، وهذا هو ما ذكرته.
وليس ينبغى أن تلتفت إلى ما قاله بعض المتكلّفين، لما لا يعنيه، إن الزاوية جنس آخر من الكم هو بين الخط والسطح، ظاناً أن قولهم، الخط له طول فقط، وأن السطح له طول وعرض، هو أن يكون له طول وعرض، هما حدان قائمان أحدهما على الآخر؛ حاسباً أن الخط يتكون عن حركة نقطة، ثم السطح من حركة الخط بكليته على عمود عرضا؛ حتى يكون إذا ثبت طرف، وتحرك طرف، فعل شيئاً بين الخط والسطح، وكذلك بين السطح والجسم. فإن هذا لما أخطأ فى معرفة الطول والعرض تمادى به الخطأ إلى أن تهوش. بل الزاوية المسطحة سطح، ولذلك يمكن أن يفرض فيها بعد، وآخر قائما عليه. والزاوية المجسمة جسم لنظير ذلك، أعنى إذا عنينا بالزاوية، المقدار الذى له هذا النوع من التحدد. وأما إذا ذهبنا إلى الهيئة، فإن الزاوية كيفية.
وأما البحث الخاص فلقائل أن يقول: إن الخلقة، كيف تكون كيفيةً واحدةً وشيئاً واحداً وهو مجموع لون وشكل ؟ وهب أنكم تجوزون أن تكون أنواع الجواهر مركبة من جواهر، فقد أصررتم على أنه لا يجوز أن يكون لأنواع الأعراض تركيب، وإن كان لحدودها تركيب من جنس وفصل، وهذا الذى هو الخلقة، فإنه عندكم نوع واحد من باب العرض، ينقسم إلى شيئين منهما يحصل وجوده، أحدهما الشكل، والآخر اللون.(1/127)
فنقول فى جواب ذلك: إنا لا نمنع أن تكون أعراض مركبة من أعراض وكيف، والعشرة عرض لأنه عدد، فهو كم، وهو مركب من خمسة وخمسة؛ والمربع عرض، وإنما يلتئم من أن يكون هناك محدود وحدود أربعة. بل يعنى أن الجواهر قد يوجد فيها ما يناسب طبيعة جنسها، وما يناسب طبيعة فصلها أجزاء متغايرة، وإن لم يكن أحدهما طبيعة الجنس، ولا الآخر طبيعة الفصل، على ما تعرفه فى تعليمنا للبرهان. والأعراض لا يوجد فيها ذلك، وإن وجدت لها أجزاء فلا يكون جزء منها مدلولاً عليه بوجه من الوجوه. فطبيعة الجنس كالكيف ههنا لهذا المركب، وجزء آخر مدلولاً عليه: بطبيعة الفصل، وأنها تنتهى لا محالة إلى بسائط لا يوجد فيها أحد وجهى القسمة إلا بحدودها، وليس يجب أن تكون أجزاء الحد أجزاء المحدود.
وعلى ما ستعلم بعد، فالشكل إذا قارن اللون، اجتمع لذلك شىء واحد جملة، به يقال للشىء إنه حسن الصورة وجيد الصنعة، وإنه قبيح ردىء. ولو خلا اللون عن الشكل فكان لوناً وحده، أو الشكل عن اللون فكان شكلاً وحده، لم يكن له ذلك الحسن وذلك القبح، بل حسن أو قبح آخر؛ فإذن للشكل من حيث هو مجتمع مع اللون أو مع غير ذلك، خاصيةحال من الاجتماع، ليست تلك خاصية أحد جزأيه، ولا هى مجموع الخاصيتين من حيث هما معاً فقط، بل إذا كان حسن اللون من حيث هو حسن اللون، وحسن الشكل من حيث هو حسن الشكل، ولم تكن مناسبة الحسنيين مناسبة محدودة، لم يكن الحسن الذى يعتبر لجملة الصورة، بل ربما أحوج الحسن الذى للجملة، إلى أن لا يكون الحسنان الخاصان على ما ينبغى فى الخصوص، بل كان الحسن لا يقال على المعنى الذى على سبيل الاجتماع منهما، وعلى المعنى الذى على سبيل الخصوص إلا باشتراك الاسم.
وأما البحث السادس فهو تعرف حال المركب من شيئين، أنه إلى أيهما أميل.
فنقول: إنه لا يخلو، إما أن يكون أحدهما أولى بأن يكون موصوفاً والآخر صفة، كالمربع الذى يعنى به سطح ذو هيئة، فإن السطح هو الموصوف بالهيئة، والهيئة عارضة له؛ فالجملة من مقولة الموصوف، بأن السطح ذا الهيئة سطح لا هيئة، والمجموع حق عليه أنه سطح. وأما إذا اختلفا، وليس أحدهما أولاً للشىء، والآخر ثانياً بسبب الأول وبعده، فإن ذلك الاجتماع منهما يكون جمعاً عرضياً، ولا يكون على سبيل جمع يحصل له أمر له اتحاد فى طبعه، ويكون كحال الكتابة والطول؛ ولا يكون للكتابة والطول اجتماع تحدث منه جملة واحدة فى الذات، فلا يستحق ذلك مقولة، بل يدخل فى المجموع. والمجموع مركب، فيكون مقولات هذه الأشياء أيضاً مركبة من المقولات. كما أن الكتابة إذا اجتمعت مع الطول، كان المجموع حاصلا من كيفية وإضافة وقدر من غير اتحاد حقيقى. واعلم أن الأمور التى تستحق أن تدخل فى المقولات على أنها أنواع المقولات، ليست أى أمور اتفقت، بل الأمور والطبائع التى تقوم بمعنى جنسى، وبمعنى آخر يقترن به، فصلّى، يتقوم به الجنسىّ على المعنى المذكور فى المدخل. فأما الاقترانات، التى لا تكون على هذه الصفة، فلا توجب نوعية، ولا توجب دخولاً تحت مقولة، بل ستجعل لها مقولة مخترعة ليست حقيقية. فيكون الإنسان إذا قارن كيفاً لا يقوَّم به ولا هو تابع للإنسانية، بل عارض غريب، يكون المجموع منهما ليس نوعاً ألبتة لشىء من حيث هو مجموع، إلا أن يظن أنه نوع من جوهر مكيف. فعلى هذا القياس نقس.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في تعريف الفرق بين الكيفية وذي الكيفية
والأحوال التى تجرى بينهماوفى عوارض الكيفية وخواصها
فهذه هى الكيفيات. وأما ذوات الكيفية، فهى التى لها هذه، إما أولاً، وإما ثانيا،كانت جواهر أو كانت كميات، فيشتق لها الاسم منها كما يشتق من الكمية وغيرها. أما لغة العرب والفرس فيشتق اسم المكيف فيهما دائما من اسم الكيفية؛ وإن قيلت بلا اشتقاق، فقد يقال مع ذلك باشتقاق كما يقال خلق عدل، ورجل عدل؛ أو لون أبيض، وجسم أبيض؛ فقد يقال مع ذلك عادل ومبيض.(1/128)
لكنه قد جرت العادة فى بعض اللغات، أو فى اليونانية وحدها، بأن لا يشتق ذلك عن بعض الكيفيات، بل يفرد للمتكيف اسم. فإنه ما كان يشتق فى اليونانية من الاسم الموضوع للفضيلة، اسم لذى الفضيلة؛ بل كان بدل الفاضل، اسم مشتق من اسم الاجتهاد. وربما كان لذى الكيفية اسم، ولا يكون للكيفية اسم موضوع أصلا. وهذا فى كثير من اللغات، فإن القوى يشبه أن لا يكون لها فى اليونانية اسم بل القوى يقال فيها ملا كزى،ولا يكون للكيفية اسم، إذ الملا كرة اسم فعل الكيفية لا للكيفية.
ولا يبعد أن يكون كذلك الحال فى لغة العرب، فإن المصحاح، فى لغة العرب، لم يشتق اسمه من الكيفية التى هى الاستعداد، بل من الكمال. فإن هذا مشتق من الصحة، ومحرف من المعتاد فى الاشتقاق، فإن الذى لا صحة فيه إذا مرض، فإنه قد يكون فى حال المرض مصحاحا، وإن لم يكن صحيحا، إذا كان سريع القبول للصحة، والهيئة المصحاحية، فإنها، لا اسم لها، بل ربما يتكلف فى لغة العرب، فيشتق لها الاسم عن اسم الشىء ذى الهيئة، على عكس القانون الطبيعى فيقال: مصحاحية. فيكون حينئذ اسم ذى القوة غير مشتق من اسم القوة، بل بالعكس. ومن لواحق الكيفية، أن الكيفية تكون فيها مضادة، وذلك ظاهر. اما فى الملكة، فمثل الجبن، فإنه ضد التهور؛ ومثل العقد الصواب، فإنه ضد العقد الخطأ. والأمر فى الحالات أيضا هو بقياس ذلك.
وأما المضادة فى القوة واللاقوة، فمثل المصحاحية للممراضية. وأما المضادة فى الكيفيات الانفعالية والانفعالات، فكالبياض للسواد، والحرارة والبرودة. وأما المتعلقات بالكمية، فالأشكال لا أضداد لها. وأما الاستقامة، والإنحناء، والتقبيب، والتقعير فستعلم فى العلوم أنها غير متضادة. وأما الزوجية، والفردية، فيظن فى ظاهر الأمر أنها متضادة، وليس كذلك، لأن الزوجية والفردية لا يتعاقبان على موضوع واحد ألبتة.
ثم ليس كل معنيين مسميين لا يجتمعان، فهما متضادان، وإن كان يجتمعان فى جنس واحد، فإن الفرس واللافرس، والبياض واللابياض، والحرارة واللاحرارة، كل ذلك من التى لا تجتمع معا. فلو أن أحداً أخذ الابيضاض مقروناً بشرط اتصاف جسم به، من شأنه أن يقبل البياض، فأثبت له اسماً، وكان مثلاً " ب " ، وأخذ اللامربع على ذلك الوجه، فجعل اسمه " ج " ؛ حتى كان الموضوع لا يخلو من أن يكون بياضاً أو يكون " ب " أو مربعاً، أو يكون " ج " ، لما كان يجب من هذا أن يكون " ب " يصير سواداً الذى هو ضد البياض، أو " ج " ضدا للمربع الذى لا ضد له. وليس ذلك لأن لا مربع واحد، أو أشياء كثيرة، تشترك فى أنها لا مربع. وأن اللابياض هو سواد، وأشياء أخرى تشترك فى أنها لا بياض. فإنه لا تقديم ولا تأخير للكثرة والقلة، فى هذا الباب، إن كان كونه ضداً، إنما هو بسبب أن له اسما محصلاً، ولا يجامع آخر بإزائه.
ثم الفرد، إذا خالف الزوج، فإنما يخالفه، بأن الزوج هو العدد الذى ينقسم بمتساويين؛ وأن الفرد هو العدد الذى ليس كذلك. فنفس كونه عدداً لا ينقسم بمتساويين، ليس يوجب إلا سلباً لمعنى كان فى العدد الزوج يقارن غير موضوعه، بل إنما يقارن جنس الموضوع الذى هو العدد. وقد علموا، أن هذا القدر لا يوجب الضدية، ولو قارن الموضوع المشترك، فضلاً عن جنس الموضوع، وإن فهم للفردية معنى آخر أزيد من ذلك يقابل الزوجية، فذلك المعنى، أكثر أحواله، إنه معنى مباين لا مشارك فى الموضوع. ونحن إذا قلنا: ضد، لم نذهب إلى هذا، ولا هؤلاء أيضا، وإن غفلوا. فإذن الزوجية والفردية لا يتضادان، ولا الوحدة والكثرة. واستقصاء القول فى هذا فى صناعة أخرى.
فإذن الجنس الرابع لا مضادة فيه. فإذا كانت إحدى المتضادتين من الكيفية، فالأخرى التى ينازعها الموضوع بالتعاقب لا بد من أن تكون من الكيفية، فإن تلك أيضا تكون هيئة قارة غير منسوبة، تعاقب هذه تلك. ويتبّين لك. ههنا، هذا بالاستقراء كالبياض والسواد، والحرارة والبرودة، وغير ذلك.(1/129)
ولما كان لأنواع من الكيف أضداد، يستحيل الموضوع من بعضها الى بعض إنسلاخا من كيفية منها ، وتلبساً بالأخرى ، فتلك الأنواع من الكيفية تقبل الاشتداد والتنقص مثل الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. فأن كان تقبل الأزيد والأنقص، فإن حرارة نجدها أزيد من حرارة، وبرودة نجدها أزيد من برودة؛ وهذا دأب جميع الأضداد التى بينها وسائط، التى ليس زوال الموضوع عن أحدهما، مقارنا لوجود الآخر، بل ربما خلا من الطرفين ألى الوسط، فهذه الواسطة فى حكم أنها محدودة بحد الوسط، لا تقبل التشدد والتنقص كالعدالة التى هى متوسطة بين إفراطين، والصفة التى هى متوسطة بين إفراطين، إلا أن هذه المتوسطات إذا قرنت بالمادة واعتبرت فى الأشخاص، لم يعتبر توسطها الحقيقى، فإن ذلك غير مدرك إلا بالحد. فما قارب ذلك الحقيقى، ولم يخرج إلى الطرفين خروجاً يعتد به، ويظهر أثره ظهوراً فاحشاً، فإنه يعد فى الواسطة. فلذلك قد تكون عدالة زيد أشد من عدالة عمر، وإن كانت العدالة المطلقة ليست أشد من عدالة أخرى، فإنها واحدة لا تقبل الأزيد والأنقص وهكذا حال الصحة، التى هى توسط ما، فى المزاج وفى هيئة التركيب، بين أمورٍ زائدة وناقصة، فإن الصحة المطلقة واحدة لا تقبل الاشتداد والتنقص، لكن قد تكون صحة أصح من صحة، وذلك بحسب اعتبار صحة زيد وصحة عمرو.
وأما الأمور التى لا أضداد لها، فإنها لا تقبل الأكثر والأقل، كالمربع، والمثلث، وغير ذلك. ولو أنها كانت تقبل التزيد والنقص، لكان التربيع يتوجه فى النقصان إلى ضد، إذا أمعن صار إليه، وكان ذلك بعيداً فى طباعته عن التربيع، ومشاركاً له فى المادة، يعاقبه، فكان ضداً له. ومع هذا، فإن التربيع أيضاً، إذا أريد قربه بالمادة، لم يتيسر إيجاد التربيع الحقيقى، بل إنما يوجد فى المادة هيئة ما هو شبيه بها، وخفى عند الحس مخالفته له، فيكون حينئذ تربيع أصح من تربيع، بحسب أنه تربيع حسى، لا تربيع حقيقى. وأما السواد والبياض والجبن والتهور والحرارة والبرودة، فليس يقع ذلك لها من جهة الحس وخطئه، بل يكون الموجودان فى المادة، كلاهما حرارتين، إحداهما أشد والأخرى أنقص، ليس كالمربع الحسى، الذى لا يكون هو بالحقيقة مربعا، بل يكون شكلا آخر، إلا أن خلافه للمربع لا يحس به؛ ولا كالعدالة، التى لا تكون فى الحقيقة عدالة، ولكنها تكون جبنا أو تهورا. إلا أن خاصية مخالفته لا تدرك حسا، وإنما يكون الشىء أكثر من شىء، بعد أن يشاركه فى الحد والمعنى بشىءٍ يكون مع ذلك أشد وأقوى منه. فيجب أن تكون كلتا الحرارتين محرقتين، مفرقتين، لكن إحداهما أشد إحراقاً. فما كان هكذا، فهو بالحقيقة قابل الأشد والأنقص، والآخر فهو كذلك عند الحس. فلذلك، لا تجد مربعين يقبلان حد التربيع بالحقيقة، ثم يكون أحدهما أشد، والآخر أنقص، بل إما أن يقبلا على السواء، وإما أن لا يكون أحدهما مربعا. ثم بعد هذا مباحث خارجة عن مبلغ الطوق المنطقى. ومن خواص الكيفية، التى لا نظن أن شيئا يشركها فيه، قبولها الشبيه وغير الشبيه، وقد بينا الحال فيه فيما سلف.
الفصل الرابع
فصل (د)
في حل شك يتعلق بمداخلة أنواع من الكيف
وغيره، لأنواع من المضاف(1/130)
ولقائل أن يقول إن أكثر هذه الأشياء التى عددتموها فى مقولة الكيفية، فإنها من مقولة المضاف، كالملكة، والقوة، والعلم، وما أشبه ذلك. والجواب أن هذه الأشياء، ليست بذواتها من مقولة المضاف، بل مما قد عرضت له الإضافة، إذ لها وجود غير ما هى به مضافة. فإنه وإن كانت ماهياتها مقولة بالقياس إلى غيرها،فإنها لا يجب بذلك أن تكون من مقولة المضاف. إذ قد احتاج الرسم الموجب لذلك، كما علمت، إلى دعامة أخرى، وتغيير يلحق به، حتى يصير خاصاً بالمقولة. وكذلك قد علمت أن الجواهر، كان يظن ببعض نوعياتها، أنها من المضاف لهذا الرسم، فلما حصل الرسم، علم أنها ليست من المضاف، وذلك حين كان لها وجود محصل مخصّص، لم تكن به من المضاف، إذ كان ذلك الوجود لها مجردا. وأنت تجد مثلاً فى ذلك فى العلم، فلو كان العلم لذاته تقال ماهيته بالقياس إلى غيره، ولوجوده الذى يتقوم به من كل وجه، ولم يكن كيفية يلزمها إضافة، وله وجود أنه كيفية، ويلحقها وجود هويةّ مضاف، لكان إذا حصل العلم، وخصص أثر ذلك فى تخصيصه كونه مقول الماهية بالقياس. لكن ليس الأمر كذلك، فإن نوعيات العلم، كالنحو، لا تقال ماهياتها بالقياس إلى غيره فى حد تخصيصه، بل من جهة معناه الأعم، وهو كونه علماً. فلا يقال: النحو نحو بشىء، بل يقال: إن النحو علم بشىء كما كان هناك لا يقال إن هذا الرأس، هو هذا الرأس لشىء، بل يقال هذا الرأس رأس لشىء. فإذا كان هذا ينبهك هنالك، أن هذا الرأس مخصّص من ذلك الرأس من حيث وجوده، الذى ليس به مضايفاً، بل عارضة له الإضافة؛ حتى أن هذا التخصيص يتعرى عن موافقة تخصيص الإضافة بإزائه، بل يلزمه من الإضافة ما لزم الطبيعة العامة، التى تلحقها الإضافة، كالرأسية. وكذلك ههنا، إنما صار النحو جزءا من العلم، من حيث العلم كيفية، ولذلك لم يتبعه من الإضافة إلا ما لحق جنسه أولا، وكان هذا التخصيص ليس من جهة ما لحقه من الإضافة، بل من جهة الوجود الخاص كأن كيفية ما تكون هيئة فى النفس، وصورة مجردة عن المادة، هى مطابقة لأمور من خارج، فيكون عاما لهيئات وصور فى النفس مجردة، كلعا تشترك فى هذا الحد، ولا تختلف فيه. فتشترك أيضاً فى أنها مطابقة لأمور من خارج، لا لأجل خصوصيتها، بل لأجل أن هذا المعنى عارض أولا للمعنى العام لها، فلو كانت تتخصص تخصص المضاف الذى لا وجود له إلا أنه مضاف، لكان يجب أن تكون الإضافة تلحقها لتخصصها، فإذ قد بقى مخصصها فى حد تخصيصها غير مضاف، فإنه وجود غير مضاف.
فإذا كانت النوعيات ليست من المضاف فى ذواتها، بل لها وجود خاص، وإنما المقول ماهيته بالقياس، هو الجنس الذى لأجله يقال كذلك للنوع، وفى حد تخصصه لا يقال وكان للنوعيات وجود ليست به مضافات فجنسها أيضاً كذلك، وإن عرضت له الإضافة فليس من المضاف بذاته؛ فإنه يستحيل أن يكون الجنس داخلاً بذاته فى مقولة، ثم تكون أنواعه فى ماهيتها غير داخلة فى تلك المقولة. وهل المقولة إلا جنس الجنس، وهل صورة المقولة إلا هذه الصورة ؟ فبيّن إذن، أنه لما لم يكن النحو من المضاف، فليس العلم من المضاف، إلا على أنه عارض له المضاف عروضاً لازماً، لا على أنه نوع من المضاف.
ولا بأس أن يدخل الشىء فى مقولتين، على وجهين؛ أما فى أحدهما فبالذات، على أنه نوع له. وأما فى الآخر، فبالعرض، على أنه موضوع لعروضه له. فهكذا يجب أن يفهم هذا الموضوع؛ ولا تلتفت إلى عمى قلوب هؤلاء الذين يظنون أن الشىء يكون فى جنس وأنواعه فى جنس مباين له والعجب أن هؤلاء قد نسوا أن هذا الرسم المذكور للمضاف، وهو أنه الذى ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، رسم قد زُيِّف، لأنه كان يدخل فى المضاف ما ليس من المضاف، وأنه محتاج إلى زيادة وثاقة، وبينهم وبين هذا الموضع قريب من ثلاث ورقات، حتى جاءوا وسلموا أن العلم داخل فى المضاف بطبيعته، على أنه نوع من المضاف وأنواعه ليست تحته. فلزمهم أن يحلّوا هذا الشك، ونسوا أن مثل هذا الشك، قد سلف ذكره فى الجواهر أيضا، فكان حل الشك فى آخر الأمر يوجب، أن ما تخصص فزال كونه مقولا بالقياس إلى غيره، دل ذلك منه على أنه ليس من مقولة المضاف، وعلى أن الحد الثانى، المحصّل المحقق، الذى للمضاف، غير مقول عليه. ونسوا أن الشىء، إذا قيل على الشىء قول المقول على الموضوع، وقيل هذا المقول عليه كذلك على ثالث.(1/131)
فإن الأول يقال على الثالث كذلك؛ ونسوا أنهم كانوا يفهمون من المقول على الموضوع، أنه يجب أن يكون ذاتيا مقوّما للماهية، فلم يعلموا أنه إذا كان المضاف جنساً للعلم، كان مقوِّما لماهيته؛ ثم العلم، جنس للنحو، ومقوِّم لماهية النحو، ومقوِّم الماهية لمقوم الماهية مقوِّم الماهية. فكيف ينقلب النحو من جنبه المضاف حتى يذهب إلى كيف الكيفية؟ سواءكان تأويلهم المقول على الموضوع حقاً أولم يكن.ونسوا أنهم علموا،أن الأشياء المتباينة الخواص، لا يحمل منها على آخر، فإذا كان كل نحو فى ذاته، وماهيته، محمولاً عليه الكيف، ولا شىء من الكيف يقال عليه المضاف فى ماهيته على أن لا يكون له وجود، إلا ما هو به مضاف لا على أنه لا يعرض له الإضافة، أنه يلزم من ذلك أن يكون لا شىء من النحو يقال عليه المضاف فى جوهره، وكل علم عندهم نوع من المضاف، فيقال عليه المضاف فى جوهره، فيلزم أن لا شىء من النحو بعلم، وهذا خلف.
لكنه لا يجب أن تلتفت إلى هؤلاء، بل تفهم أن ما قيل فى قاطيغورياس، كان الغرض فيه ما أومأنا إليه. لكن، لقائل أن يقول: إن حكم النحو حكم العلم، فإن النحو نحو بالقياس إلى شىءٍ هو إعراب اللغة. والجواب عن ذلك، أن إعراب اللغة ليست ماهيته، من حيث هو إعراب اللغة، مقولةً بالقياس إلى النحو، فكيف يكون النحو مضافاً إليه ؟ والمتضايفان كما علمت، كل واحد منهما، مقول بالقياس إلى الآخر، لكن إعراب اللغة، مقول بالقياس إلى النحو، من حيث هو معلوم، حتى لو كان إعراب اللغة موجوداً ألف سنة ولم يعلم لم يكن مقولاً بالقياس إلى النحو. فإذا كان كذلك، فمقابل المعلوم، من حيث هو معلوم، العلم أو العالم من حيث هو عالم، فلما لحق إعراب اللغة المعلوم، فصار إعراب اللغة معلوماً ما، صار بإزائه هيئة نفسانية، هى علم.
فالهيئة النفسانية التى هى علم، جملتها مقولة بالقياس إلى هذه الجملة، فإذا فصلت الهيئة، فالفت إلى كونها هيئة ولم يلتفت إلى ما عرض لها من إضافة إلى خارج صار بها علما، كان وجوداً غير مضاف. وكذلك إذا التفت إلى إعراب اللغة، وفصلت عنه كونه مطابقاً له هيئة نفسانية، حتى زال عنه أنه معلوم، كان وجوداً غير مضاف. وكذلك هذا الرأس: فإنه من حيث هو رأس، مضاف إلى البدن من حيث هو ذو رأس. فإذا اعتبر الجوهر المشار إليه، ولم يجب أن يكون النظر إليه من حيث هو هذا، نظراً فى أنه رأس، كان له وجود خاص، وكذلك فى جانب ذى الرأس. نعم الإضافة اللاحقة هناك، لازمة للهيئة التى فى النفس، وليست لازمة للرأس؛ فكذلك الرأس نفسه إذا حصل لم يجب تحصيل الآخر.
وليس إذا قلنا: إن أحد المضافين الحقيقين، إذا عرف بالتحصيل، عرف الآخر بالتحصيل، لزم عكسه، أن كل ما لزم العلم بتحصيل مضايفه، عند العلم بتحصيله، فهو مضاف حقيقى، بل قد يكون هذا فى المضاف الحقيقى، ويكون أيضاً فيما لا ينفك عن ملازمة الإضافة له، فإن ذلك إنما ورد هناك، ليس لأن يبيّن أن كل ما كان ذلك شأنه، فهو مضاف حقيقى، بل أن يبيّن، أن ما ليس ذلك شأنه، فليس مضافا حقيقيا، فيزول الشك المذكور فى الجواهر، وكان تصحيحه واحتجاجه، يتوجه إلى أن المضاف الحقيقى الذى وجوده هو أنه مضاف، إذا عرف بالتحصيل، عرف كذلك مضايفه. وكان الجوهر وأشياء أخرى عددت ليس كذلك؛ فتحل الشبهة.
فإنه ما أورد مورد ذلك البيان بيانه وحجته إلا على هذا، ولم يتعرض لعكسه، ولا زعم أن هذه خاصية للمضاف الحقيقى وحده بوجه من الوجوه، ولا كانت له إلى ذلك حاجة، بل إلى هذا على ما بينا. وأضاف إليها، أن الرأس وما يجرى مجراه ليس كذلك، فأنتج أنه ليس من المضاف الحقيقى، وقد بيّنا ذلك الموضع على ما يجب.
الفصل الخامس
فصل (ه)
في الأين وفي متى(1/132)
وأما الأين، فإنه يتم بنسبة المتمكن إلى المكان الذى هو فيه، وحقيقته كون الشىء فى مكانه. وقد علم، فيما سلف، أنه كيف يباين المضايف. وهو جنس لأنواع .فإن الكون فوق أين، والكون تحت أين، والكون فى الهواء أين، وفى الماء أين. ومن الأين ما هو حقيقى أولى، وهو كون الشىء فى المكان الحقيقى له؛ ومنه ما هو ثان غير حقيقى، مثل كون الشىء فى المكان الثانى الغير الحقيقى، كقولهم فى السماء وفى الماء. ولا يكون جسمان موصوفان بأين واحد بالعدد، والأين أول حقيقى، ويكونان موصوفين بأين واحد بالعدد والأين ثان غير حقيقى، كجسمين يكونان فى السوق معا.
ومن الأين ما يكون مأخوذاً بذاته، ككون النار فوق، على أنه فى باطن سطح السماء،ومنه ما هو عارض له، ككون الحجر فى الهواء. وربما كان فى الأين إضافة، ككون الهواء فوق، بالقياس الى الماء، لأنه فى مكان هو أقرب إلى فوق، من مكان الماء.والأين منه جنسى وهو الكون فى المكان؛ ومنه نوعى كالكون فى الهواء؛ ومنه شخصى ككون هذا الشىء، فى هذا الوقت من الهواء، وهو مكان ثان، أو مثل كون هذا الجسم فى هذا المكان الحقيقى المشار إليه.
وقد زعم بعض المتقدمين، أن الواحد من الأين قد يوجد فيه جواهر كثيرة، كعدة فى السوق. وقد غلط وأجابه بعض الحدث بما أعبر عنه، قال: إنه ليس الأمر كذلك،فإن الأين الحقيقى لا يوجد فيه هذا المعنى؛ وأما الأين الغير الحقيقى كالكون فى السوق، فليس هو نفس السوق، فإنه وإن كان لا بد من أن يكون السوق مكاناً ثابتاً مشتركاً فيه، فليس الأين هو السوق، بل كون زيد فى السوق، هو الأين، وهو صفة لزيد بها زيد كائن فى السوق. وليس بها بعينها عمرو كائنا فى السوق، وإن كان السوق واحدا، فنسبة زيد إليه، من حيث هو زيد، غير نسبة عمرو غيريةً بالعدد، وهذا كالبياض، فإنه وإن كان يتحد بالنوع، فقد يتكثر العدد.
ثم أن بعض المتحذلقين، أعان المتقدم،ولم يرض بهذا الجواب، فقال: ليس حال الأين كحال البياض، فإن البياض الذى فى زيد، إذا عدم، لم يجب أن يعدم الذى فى عمرو، وأما السوق فيكون واحداً للجماعة.وحسب أنه عمل شيئاً. إذ أرانا أن السوق واحد، فإن كان السوق هو الأين، كان السوق كوناً فى المكان لا مكان مَّا، وكان الشىء إذا سئل عنه أين هو، فيصلح أن يقال: سوق، لا أن يقال: فى السوق. فإن كان الأين هو كونه فى السوق، فزيد يبطل عنه ببطلان كونه فى السوق، وإن لم يبطل كون عمرو فى السوق، فهو كالبياض أيضاً. ونقول: إن الأين فيه مضادة، كما فى سائر المقولات، فإن الكون فى المكان الذى عند المحيط، هو مقابل للكون فى المكان الذى عند المركز، لا يجتمعان؛ فهما معنيان، وقد يوجد لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه، وبينهما غاية الخلاف. وإذ قد يصار من أحدهما إلى الآخر قليلا قليلا، ويكون المصيران متضادين، ويكون هناك أين متوسط بينهما، وأيون أقرب من الطرف الفوقانى فى حد الفوقية، وأيون من الجهة الأخرى بالخلاف، فيكون فى طبيعة الأين من جهته، لا من جهة جنسيته، بل من حيث خواص نوعيته .وإضافتها أيضاً، أن يقبل الأشد والأضعف. فإن أينين كليهما فوقان، وأحدهما أشد فوقيةً، فعلى هذه الجهة يمكن أن يقع فيها الأشد والأضعف. وأما الكون (( فوق )) مطلقاً أو (( تحت )) مطلقاً، والكون فى أى حد شئت، مطلقاً، والكون فى المكان مطلقاً، فلا يقبل ذلك أشد وأضعف. وفى الكيفية أيضاً، فإن السواد الحق لا يقبل أشد وأضعف، بل الشئ الى هو سواد بالقياس عند شئ، هو بياض بالقياس إلى آخر. وكل جزء من السواد يفرض، فلا يقبل الأشد والأضعف فى حق نفسه. ويجب أن يترك هذا، فى هذا الموضع، بل له مكان أليق به من الفلسفة.
فإن لقائل أن يقول، إن السواد ليس من حيث هو مضاف، يقبل الأشد والأضعف بل لطبيعة كيفيته، وأما الأين، فإنما يقبل ذلك، من حيث إضافة تعرض لأينيته؛ وهو قرب وبعد من الطرف. ثم إذا اشتغلت بتوضيح الحق فى جميع هذا، كان خروجاً إلى صناعة أخرى. فلنسلم الآن لهذا القائل، إن الأين إنما يقبل من حيث هو مضاف، لا من حيث هو أين؛ ولنترك القول فى أمر السواد والبياض منهما.(1/133)
وأما " متى " فإنه أيضا نسبة ما للشئ إلى الزمان، وهو فى كونه فى نفسه أو فى طرفه، فإن كثيرا من الأشياء يقع فى أطراف الأزمنة، ولا يقع فى الأزمنة، ويسأل عنها: " بمتى " ، ويجاب. وإذا نسب الشئ إلى الزمان، فإما أن ينسب إلى زمان أول مطابق له ولا يفضل عليه، كقولهم: كان هذا الأمر وقت الزوال؛ وإما زمان أعم من ذلك يكون نظير السوق فى الأين، كقولهم: كان هذا فى سنة كذا، ولم يكن فى جميع السنة، بل فى جزء منها، وليس الزمان المطابق، كالمكان المطابق فى أنه لا يشارك فيه فى النسبة إليه؛ بل الزمان الواحد الحقيقى المعين، تنسب إليه أشياء كثيرة، فيكون كل واحد منها فيه على سبيل المطابقة. لكن مع ذلك، فإن كل واحد كائن فيه، تكون هى نسبة الخاصية إليه، التى لو عدمت لبقيت نسبة خاصية للأخرى، وإن كان المنسوب إليه واحدا نظير ما قلنا فى النسبة إلى السوق، ولا نحتاج أن نطول بذكر ما قاله المتقدم المذكور فى " متى " ؛ وفيما هو جوابه؛ فإنه إذ قال ما قال فى المكان؛ فهو قوله فى الزمان.
أقول: وقد هوّل فاضل المتأخرين فى " العبارة " عن " المتى " الخاص تهويلا مفرطا، فقال: إن " متى " نسبة الشئ إلى الزمان، الذى يساوق وجوده، وتنطبق نهايتا، على نهايتى وجوده، أو زمان محدود، هذا الزمان جزء منه. وذلك أنه ذكر نهايتى وجوده، فإما أن يعنى به نهايتى مقداره، أو نهايتى حركته، أو نهايتى زمان وجوده، أو نهايتى متاه ونسبته إلى زمانه فإن عنى نهايتى مقداره، فليس ينطبق عليهما نهايتا زمانه؛ وإن عنى نهايتى حركته، فيختص بذلك المتحرك المتصل الحركة أو الحركة نفسها، وليس الغرض متجها إلى هذا وحده؛ وأما نهايتا زمان وجوده حاصلا، فلا ينطبق عليهما نهايتا زمانه، بل هما هما؛ وأما نهايتا النسبة، فيمكن أن يجعل له وجه تأويل، فيقال: إن معناه أن متاه، هو نسبته إلى زمان تنطبق نهايتاه على نسبتين له إلى نهايتى هذا الزمان، ثم لا نسبة له قبل أولاها ولا بعد أخراها إليه. فيجب أن يفهم قوله على هذا الوجه. لكن نسبة الشئ إلى " الآن " الذى يقارنه عسى أن يظن بها أنها ليست من مقولة " متى " بذاتها، فإن كان ذلك كذلك، فكان هذا الرسم غير صحيح، وذلك لأن كون الشئ فى آن ما، لا يحمل عليه هذا الحد، وهو من مقولة " متى " ، لكن الحق أن " الآن " لا يصح إليه نسبة معقولة، محتمل أن يكون بها جواب " متى " إلا أن يشار إلى الذى يتحدد بذلك " الآن " فيكون للشئ نسبة إلى الزمان، لا على أنه فيه بل على أنه فى طرفه، ومع ذلك يكون " آنا " .
فهذا يفسد ما قاله هذا الفاضل، اللهم إلا أن يحكم بأن النسبة إلى الآن ليست من مقولة " متى " ، لكنها لا مقولة لها تليق بها غير هذه المقولة، ولا نعلمها غير داخلة فى مقولةٍ أصلاً؛ ثم بعد هذا يظن كأن الاشتغال به يخوض بالمبتدئ فيما لا يعنيه.
واعلم أنه كما لم تكن الإضافة معنى مركبا يوجب تركيبه ترديدها بين شيئين، إذ لم يكونا جزأين منها، بل كانا أمرين خارجين عنها، حين تتعلق بهما، كذلك الأين " ومتى " لايجب أن يظن فيهما تركيب، بسبب أن لكل واحد منهما نسبة إلى شئ؛ فإن النسبة، ليست المنسوب، ولا المنسوب إليه جزء منها حتى تكون الجملة هى النسبة، فتكون النسبة حينئذ جزءا لذاتها، إذ الجملة تحصيل جملة من الأشياء ومن الجمع نفسه؛ فيكون الجمع كالصورة، وهما كالمادة، والمجموع كالمركب، والجمع جزء من المركب، كالصورة؛ وإذ هذا محال، فليس الأين، ولا " متى " ، مركبا.
الفصل السادس
فصل ( و )
في باقي المقولات العشر
وأما (( الوضع ))، فقد تبين لك أنه اسم يقال على معانٍ، وأن الذى هو المقولة، فهيئة تحصل للتمام أو الجملة، لأجل نسبة تقع بين أجزائها وبين جهات أجزائها، فى أن يكون لبعضها عند بعض مجاورة المعتبر بجزئيته لا ذلك فقط، بل يخالف مع ذلك بالقياس إلى أمور غير الموضوع المعتبر بجزئيتة، إما أمكنة حاوية وإما متمكنات محوية وجهات، وهذا كالقيام، والقعود، والاستلقاء، والانبطاح.(1/134)
ولا أحتاج أن أزيدك على ما سلف بياناً وشرحاً وتفصيلاً وتطويلاً، بل اعلم أن ((الوضع)) قد يكون فيه تضاد، فإن الهيئة الحادثة من وضع، تصير الأجزاء لها إلى جهات مضادة لجهات أخرى، هى هيئة مضادة للهيئة المخالفة لها، كالاستلقاء، والانبطاح. وذلك إذا كانت الأجزاء لا تتخالف بالعدد فقط، بل بالطبع. ومثال هذا، أن المكعب الذى له ست جهات، لا اختلاف فيها إذا وضع وضعاً حتى صار هذا السطح منه ((فوق))، وهذا يمينا وهذا شمالا، وكذلك إلى آخرها. ثم غيّر حتى صار هذا الذى هو " فوق " ، هو " تحت " والذى هو " تحت " هو " فوق " ، فإن حال جملة الموضوع، فى تناسب ما بين أجزائه، محفوظة واحدة بالعدد، ووضعه، لا يخالف الوضع الأول بالنوع بل هو كما كان، لكن هذا الوضع مخالف لذلك بالعدد؛ وأما هيئة الجملة فمحفوظة، ولا يتخالف الوضعان بالحد، بل بالتخصيص الجزئى، وذلك لأن الجهات، هى التى كانت بأعيانها، والأجزاء والأطراف التى تليها هى مثل التى كانت لا تخالفها بأنواعها بل بأعدادها.
وأما لو كان بدل المكعب المتشابه الأضلاع، شجرةٌ، أو إنسانٌ، فنصبا على ساقيهما ثم قلبا ونكسا، فإن حد الأمرين مختلف. فإن حد الأول وضع هيئة حاصلة للشئ من حصول ساقه كذا وحصول رأسه كذا، وحد الثانى مخالف لذلك، لا بسبب أن الساق والرأس إنما يتخالفان بالعدد فقط، بل هما يتخالفان أيضا فى المعنى والطبيعة. فإذا كان حد الهيئتين متخالفين، وبينهما غاية الخلاف، وموضوعهما واحد، فهما متضادان. وأما هنالك فإنما كان تتخالف الخصوصية الجزئية دون الحدود، إذ كان سطح ما منه " فوق " فصار " تحت " وصار الآخر " فوق " ؛ وذلك السطح، إنما يغاير السطح الآخر بالعدد، مغايرة ليست فى حدين، والأضداد هى التى لها طبائع متباينة، وحدود متخالفة، وتتخالف بالنوعية لا بالشخصية. وكما أن الجسم لا يجتمع فيه البياض الحادث أمس، من حيث هو ذلك البياض الأمس، والبياض الحادث اليوم، من حيث هو هذا البياض، وهما يتعاقبان على موضوع واحد، وليسا يتضادان، إذ ليس بينهما غاية الخلاف، ولا خلاف بأمر داخل فى اللونية، فكذلك، وأن كان لا يجتمع فيه ذلك الوضع الشخصى وهذا الوضع الشخصى ، ويتعاقبان فيه، فليسا بمتضادين، إذ ليس بينهما غاية الخلاف فى الطبع وفى حقيقة الوضع. وبعد ذلك، فإن الوضع يقبل الأشد والأضعف على نحو قبول الأين، ولا يقبله على نحو لا قبول الأين، ولأن قولنا قيام وجلوس قد يقال على الحركة إلى حصول هذا الوضع ويقال على الهيئة الحاصلة. فاعلم أن القيام الذى من الوضع، هو القار منها، لاحالة " أن يقوم " .
وأما مقولة الجدة، فلم يتفق لى إلى هذه الغاية فهمها، ولا أحد الأمور التى تجعل كالأنواع لها أنواعا لها، بل يقال عليها باشتراك من الاسم أو تشابه، وكما يقال الشىء من الشىء، والشىء فى الشىء، والشىء على الشىء، والشىء مع الشىء. ولا أعلم شيئاً يوجب أن تكون مقولة الجدة جنساً لتلك الجزئيات، لا يوجب مثله فى هذه المذكورة،ويشبه أن يكون غيرى يعلم ذلك، فليتأمل هنالك من كتبهم. ثم إن زيف بعضها من أن يكون أنواعاً وجعل تواطؤ هذه المقولة بالقياس إلى بعضها دون بعض، وجعل الاشتراك فى اسمها بالقياس إلى الجملة أو الآخرين، وعنى به أنه نسبة إلى ملاصق ينتقل بانتقال مَّا هو منسوب إليه، فليكن كالتسلح والتنعل والتزين ولبس القميص؛ وليكن منه جزئى ومنه كلى ومنه ذاتى، كحال الهرة عند إهابها؛ ومنه عرضى، كحال الإنسان عند قميصه ولنفصل هذا المهم من المقولات العشر إلى ما أوثر أن نفصل إليه، ففيه مجال.(1/135)
وأما مقولة " أن يفعل " و " أن ينفعل " ، فيتوهم فى تصورها هيئة توجد فى الشىء لا يكون الشىء قبلها ولا بعدها البتة فى الحد الذى يكون معها من الكيف أو الكم أو الأين أو الوضع، بل لا يزال يفارق على اتصاله بها الشىء أشياء، ويتوجه إلى شىء ما دامت موجودة، كالتسود مادام الشىء يتسود، والتبيض مادام الشىء يتبيض، والحركة من مكان إلى مكان. فالشىء الذى فيه هذه الهيئة على اتصالها، فهو منفعل وينفعل، وحاله هى أن ينفعل، والشىء الذى منه هذه الهيئة على اتصالها، فهو من حيث هو، منسوب إليها، فحاله هى أن يفعل. فأما أن هذا يكون فى الكيف وحده أو فى سائر هذه، فأمر نستقصيه، وأحواله وأقسامه فى الكلام الطبيعى. فإن الناس قد اختلفوا، فبعضهم خصص هذه المقولة بأنها يجب أن تكون تغيراً فى الكيفية فقط، وأما العام لها ولغيرها، فمن الأمور التى تقع فى مقولات كثيرة. وبعضهم يجوز أن تكون جامعة للأنواع كلها بمعنى واحد، وتحقيق هذا لك فى الطبيعيات.
واعلم أنه إنما قيل " أن ينفعل " و " أن يفعل " ، ولم يُقَل انفعال وفعل، لأن الانفعال قد يقال أيضا للحاصل الذى قد انقطعت الحركة إليه، فإنه يقال: فى هذا الثوب احتراق، إذا كان حصل واستقر، ويقال: انفعال، إذا كان الشىء بعد فى الحركة، وكذلك القطع، الذى هو الفعل، قد يقال عند استكماله، وقد يقال حين ما يقطع.
وأما لفظة، " أنه ينفعل " ، " وأنه يفعل " ، فمخصوص بالحالة التى فيها التوجه إلى الغاية، وكذلك القيام، الذى هو النهوض والجلوس الذى هو المصير إلى الأمر الذى يستقر، فيسمى أيضا جلوسا، هما اللذان إما أن يكونا من هذه المقولة، أو يناسبا هذه المقولة.
وأما هيئة القيام المستقرة، وهيئة القعود، فهما من الوضع. كما أن هيئة الاحتراق من الكيف، وهيئة تمام النشء، هو من الكم، وهيئة الاستقرار فى المكان، هو من الأين. إنما هذه المقولة، وما يناسبها، هى ما كان توجهاً إلى إحدى هذه الغايات، غير مستقر من حيث هو كذلك.
وهذه المقولة تقبل التضاد، فإن التوجه من ضد إلى ضد، يخالف بالحد التوجه من ذلك إليه، وموضوعهما واحد وبينهما أبعد الخلاف، وذلك كابيضاض الأسود، واسوداد الأبيض؛ وكصعود السافل ونزول العالى. وأيضاً فإنها قد تقبل الأشد والأضعف، لا من جهة القرب إلى الطرف الذى هو السواد، فإن القرب من ذلك، وهو حد، مبلوغ إليه من السواد، بالقياس إلى الاسوداد الذى هو سكون فى السواد. وفرق بين الاسوداد، أعنى الحاصل القار، وبين السواد. فإن الاسوداد يعقل على أنه غاية حركة، وأما السواد فلا يحتاج فى تعقله سواداً إلى أن يعقل حركة إليه. واعلم أن تسوداً يكون أشد من تسودٍ، إذا كان أقرب من الاسوداد الذى هو الطرف، والسواد أشد من السواد إذا كان أقرب من السواد الذى هو الطرف. وأيضاً فإن الاسوداد قد يكون أشد من جهة السرعة، إذا كان أسرع اسودادا، وهذا أيضاً يتم بنسبته إلى الاسوداد، فإن الأسرع يوصل إليه قبل الأبطأ، فيكون أسرع لأنه أقرب زماناً من الاسوداد. لكن الفرق بين الاعتبار الأول، وهذا الاعتبار، أن الاعتبار الأول يجعل حركتين، متساويتىالسرعة فى ظاهر الأمر، لكن إحداهما مبتدئة من حد أقرب إلى البياض، والأخرى من حد أبعد منه، واستمرارهما على نمط واحد بسرعة متشابهة؛ لكن أحدهما، لأنه أقرب فقط، يقال: هو ذا يسود أشد من الآخر، كمن يتحرك حركة مساوية لحركة أخرى وكلاهما تصعدان، لكن أحدهما ابتدأ من أعلى، والآخر من أسفل، فيكون ذلك يصعد أشد من هذا الآخر، بهذا الوجه.
وإن كان البحث المستقصى لأمثال هذه الأشياء فى العلم الطبيعى، يمنع من هذا، وإنما تجوز هذه المناسبة إذا كان المقطوع واحدا بعينه واختلف الزمان، فأقصرهما زماناً هو الأشد دون غيره. وقد جرت العادة بأن يتلى ما سلف ذكره، بالقول على المتقابلات؛ فلنقل أولا ما يجب أن يعتقد فيها ثم لنقبل على الوجه الذى قيل فيها فى هذا الكتاب.
المقالة السابعة
من الفن الثانى من الجملة الأولى من كتاب الشفاء وهى أربعة فصول
الفصل الأول
فصل (أ)
في المتقابلات(1/136)
فنقول: إن المتقابلين هما اللذان لا يجتمعان فى موضوع واحد من جهة واحدة فى زمان واحد معا. وكل شيئين لا يجتمعان فى موضوع واحد، فإما أن لا يجتمعا على سبيل أنّ شيئا واحدا لا يوصف بهما بالمواطئة، بأن يكونا مقولين عليه، بأن الشىء هو هذا وذاك، كما يكون الشىء الواحد حيا وأبيض معا، أو على سبيل أن الشىء الواحد لا يوصف بهما بالاشتقاق أيضا، وذلك بأن يتمانعا من حيث الكون فيه أيضا.
والقسم الأول يكون أحدهما فى قوة سالب الآخر، كالفرس واللافرس، فلا يخلو إما أن يكون الاعتبار من حيث السالب منهما سالب فقط، أو من حيث هناك زيادة معنى إيجابى لزمه السالب، كما إذا جعلنا المتقابلين أو الشيئين المذكورين: الزوج والفرد، وجعلنا الفرد، ليس كونه فردا، هو أنه ليس بزوج فقط، بل إنه أمر زائد على ذلك. فليكن الأول، هو تقابل النفى والإثبات، إما بسيطا، كما هو فرس لما ليس بفرس من حيث ليس بفرس؛ وإما مركبا، كقولك زيد فرس زيد ليس بفرس. والأول لا صدق فيه ولا كذب، والثانى فيه صدق وكذب، ويشتركان فى أنه ليس فيهما إشارة إلى وجود من خارج، بل اعتبار أحكام عقلية. فإنه لو كان اللافرسية من حيث هى لا فرسية، شيئا له وجود بوجه، لكان الماء فيه سلوب موجودة بالفعل لا نهاية لها، لأنها ليست بحجارة، ولا مثلث، ولا ثنائية، ولا رباعية، ولا أمر من الأمور التى لا تتناهى، وكان يكون نسب سلبية حاصلة فيه لا نهاية لها لا مرة واحدة بل مرارا متضاعفة بلا نهاية ولا غاية، إذ كان لكل جملة تفرض سلب مستأنف، بل هذا شىء فى اعتبار العقل وفى القول.
ومن خواص هذا القسم، أنه لا يمنع اجتماع ما يقع عليه من المتقابلين فى موضوع واحد، بأن يكونا فيه، لا بأن يكونا عليه. وذلك لأن الرائحة ليست طعما، وتُقابل الطعمَ من حيث ليس طعما، ويجتمعان فى موضوع على سبيل الوجود فى موضوع، فكل ما لم يجتمع فى موضوع على سبيل الوجود فيه، فليس يجتمع فى موضوع على سبيل القول عليه، ولا ينعكس. ثم إن المتقابلين اللذين أوردناهما، يختلفان فى أن تقابل الفرسية واللافرسية لا صدق ولا كذب فيه، وتقابل " أن زيدا فرس " لقولنا " زيد ليس بفرس " فيه صدق وكذب.
وأما القسم الآخر، فمثل الحرارة والبرودة والحركة والسكون، ومثل أمور أخرى تجرى مجراها. فلنقل أولا: إنه لا شك أن الفرس واللافرس يعدان فى المتقابلات، وكذلك قولنا، " زيد فرس " ، مقابل لقولنا، " زيد ليس بفرس " . وكذلك الزوج والفرد يعدّان من المتقابلات؛ وكذلك العمى والبصر يعدّان من المتقابلات؛ وكذلك الحركة والسكون يعدّان من المتقابلات؛ وكذلك الحرارة والبرودة يعدّان من المتقابلات؛ وكذلك الأبوة والبنوة يعدّان من المتقابلات.
والأشياء التى تتعرض لها هذه الأحوال، يحكم عليها بأنها تتقابل بسببها؛ وصور هذه الأشياء متخالفة، فإن الفرس جوهر، ويقابله اللافرس لا محالة، على قياس مقابلة الفرسية، إن كانت عرضا. ولتسلم ذلك للافرسية، بل خذ مكانها النفس واللانفس، أو شيئا آخر مما هو جوهر ليس مشتق الاسم من عرض. وأما القضية فهى عرض، والفرس واللافرس ليس يتقابلا التقابل الذى للنقيضين، إذ لا صدق هناك ولا كذب، ولا يتقابل على سبيل الإضافة، ولا على سبيل التضاد، إذا كان تقابل التضاد ما يكون فيه جواز تعاقب على موضوع واحد، بشرائط ذكرت. وأما الزوج والفرد، فليس لهما موضوع واحد يتعاقبان عليه، بل جنس واحد، لموضوعين لهما، لا يفارقانه. وأما العمى والبصر، فيشارك السكون والحركة، فإن العمى ليس معنى مقابلا للبصر، بل هو عدمه، وكذلك السكون للحركة، لكن السكون يعاقب الحركة على موضوع واحد، وأما العمى فلا يعاقبه البصر.(1/137)
وأما المتضايفان، فليس يجب فيهما التعاقب على موضوع، أو اشتراكهما فى موضوع، حتى يكون الموضوع، الذى هو علة لأمر ما، يلزمه لا محالة إمكان أن يصير فيه معلولا، أو يكون هناك موضوع مشترك. وإن كانت العلية والمعلولية من المضاف، فأول ما ينبغى أن يطلب، أنه هل يمكننا أن نجد لهذه كلها معنى جامعا، ولو على سبيل التشكيك فى التقديم والتأخير، إن لم يكن على سبيل التواطؤ البحت، أو لا نجد لها معنى جامعا ؟ لكن التقابل مقول عليها، فيشبه أن يكون التقابل الأول هو نظير ما للفرس للافرس، الذى يمنع اجتماع طرفيه، قولا عى موضوع، وإن لم يمنع ذلك، وجودا فى موضوع. فإنه لا يكون شئ واحد هو رائحة ولا رائحة، ويكون شئ واحد فيه رائحة وما ليس برائحة، ولست أقول: إنه يجتمع فى شئ أن يكون فيه رائحة وليست فيه رائحة، فإن هذين لا يجتمعان. وليس قولنا إن فيه رائحة وليس فيه رائحة، هو قولنا فيه رائحة وما ليس برائحة؛ ولا يقال إنه رائحة. فإذن تقابل: أن فيه رائحة وليس فيه رائحة، هو من القسم الأول الذى على سبيل الحمل؛ فلذلك يحمل على التفاحة أن فيها رائحة، فيقال إن التفاحة فيها رائحة، ولا تحمل رائحة على التفاحة، حتى يقال، إن التفاحة رائحة، فلذلك هى موجودة " فى " ، لا محمولة " على " .
فجميع الأشياء المتباينة الطبائع تكون متقابلة، من حيث إن كل واحد منها ليس هو الآخر. وهذا هو تقابلٌ أول، ثم نقل التقابل عن اعتبار الحمل على موضوع إلى اعتبار الوجود فى الموضوع. فجعلت حال الأمور التى تشترك فى عام أو خاص، تكون موجودة فيه بالقوة معا، ولا تجتمعان بالفعل معا، تقابلا. فبعضه يختص بالقول، من حيث هو حكم، كالإيجاب والسلب، الذى موضوعها المحمولات والموضوعات تتعاقب فيه ولا تجتمع معا، وهذا بحكم القول. وليس فى الوجود حمل ولا وضع. وبعضه يكون من خارج، فمن ذلك ما تكون الشركة فيه عام، ومنه ما تكون الشركه فيه خاص معين، ويكون المشترك فيه طبيعة هى بالقوة كلا الأمرين، لكن لا يجتمعان فيه بل يتعاقبان عليه.
فالمتقابلات تقال على هذه التى بعد الباب الأول، بمعنى أنها معان اشتركت فى موضوع لها أن توجد فيه، إلا أنها لا تجتمع فيه، فيكون معنى هذا التقابل كالجنس لأقسام له كالأنواع، إما أقسام محققة، وإما أقسام بحسب ما يصلح للمبتدئ، وتكون أسهل على متعلم قاطيغورياس.
فلنقسم الآن على الوجه الذى ينبغى أن يفهم عليه الاصطلاح الذى فى قاطيغورياس، وهو غير المصطلح عليه فى العلوم، ومَنْ تجثم أن يجمع بين الأمرين فقد عنِّى نفسه. أما القسمة التى فى قاطيغورياس فتخرج على هذا الوجه: المتقابل إما أن تكون ماهيته مقولة بالقياس إلى ما هو مقابل له، وإما أن لا تكون. فإن كانت ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، فهو تقابل المضاف كالأبوة والبنوة. أما أنه تقابل فلأن الأبوة والبنوة وما يجرى مجراهما، تشترك لا محالة فى موضوع، إما عامى كالإنسانية بل والجوهرية بل كالموجود أو غير ذلك، وإما خاص كهذا الإنسان يكون يمينا لزيد ثم يصير شمالا له. وأما أنه مع التقابل، مقول الماهية بالقياس، فأمر لا شك فيه. وأما الذى ليست ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، فإما أن يكون الموضوع صالحا للانتقال من أحد الطرفين بعينه إلى الآخر من غير انعكاس، وإما أن لايكون كذلك، بل يكون صالح الانتقال من كل واحد منهما إلى الآخر، أو ولا عن أحدهما إلى الآخر لأن الواحد لازم له؛ فيسمى القسم الأول تقابل العدم والقُنْية، ونعنى بالقنية، لامثل الإبصار بالفعل، ولا مثل القوة الأولى التى تقوى على أن يكون لها بصر، بل القنية أن تكون القوة على الإبصار، متى شاء صاحبها، موجودة، فإنَّ فّقْد القوة الأولى ليس بعمى، ولا فقد الإبصار بالفعل، بل الإبصار بالفعل، وإن لا يبصر بالفعل لكن بالقوة، هما أمران يتعاقبان على الموضوع تعاقب الحركة والسكون؛ إنما ذلك هو فقد ما سميناه قنية، فحينئذ، لا يمكن أن يبصر البتة، بل عمى لا يعود الموضوع معه إلى الإبصار مرة أخرى. فالعدم الذى ههنا، ليس هو العدم الذى يقابل أى معنى وجودى شئت، بل الذى يقابل القنية؛ فإن العدم يقال على وجوه، ولسنا نريد الآن أن نحصى جميعها، بل ما يعنينا فى هذا الموضوع، فنقول:(1/138)
إنه يقال للشىء عدم كذا، ويشار إلى حال ماَّ للمادة فى كونها خالية من الشىء الذى يخليها، والشىء الذى له معنى وجودى سواء كان قارنها ما خالف ذلك الشىء الوجودى، أو لم يكن، مثل عدم السواد فيما من شأنه أن يسود، سواء كان هناك بياض خالف السواد فى موضوعه أو لا يكون، بل يكون إشفاف مثلا فقط ولا لون ألبتة. فإنه إذا كان هناك بياض، فليس البياض وعدم السواد فى ذلك المحل شيئا واحدا، ولو كانا أيضا متلازمين، بل البياض معنى قائم بإزاء السواد؛ فهذا وجه من وجوه اعتبار العدم ومقابله.والآخر، العدم الذى يعتبر بشرط أن يزول المعنى الوجودى ولا يخلفه شىء، كالسكون. فإن الذى ينزل، إنما يقال له فى وقت آخر إنه ساكن عادم الحركة، لا إذا كان ليس ينزل، فقط إنما هو يصعد، ولكن عند ما لا يكون فيه حركة مكانية ألبتة، فهذا العدم بالحقيقة مقابل للجنس، الذى هو ههنا الحركة المكانية مطلقة. وقد يقال عدم، بشرط فقدان الشىء الذى من شأنه أن يكون لفاقده من الموضوعات، وفى الوقت الذى من شأنه أن يكون له، حتى لا يقال إن فى النطفة عدم الإنسانية بهذه السبيل، ولا فى الصبى عدم الإيلاد إذ ليس وقته.
ومن العدم ما يقال قبل الوقت، كالمرد، فإنه لا يقال لمن عدم اللحية فى وقت الإنبات بسبب داء الثعلب إنه أمرد. ومنه ما يقال بعد الوقت، كالصلع، يكون بعد وقت الوقور، والنعم، ومنه ما هو بالقياس إلى الجنس، لا إلى النوع، مثل العجمة بإزاء الناطق؛ أو إلى النوع، لا إلى الشخص، مثل حال المرأة إلى الرجل؛ ومنه ما هو بالشخص على الأقسام المذكورة. وهذه كلها لا يلتفت إليها فى هذا الكتاب. إنما العدم المقصود فيه، هو العدم الذى هو فقدان القنية فى وقتها، أى فقدان القوة التى بها يمكن الفعل إذ صار الموضوع عادما للقوة، فلا يصلح بعد ذلك أن يزول العدم، كالعمى؛ وأما القنية فستزول إلى العدم. فهذا هو التقابل العدمى المذكور فى قاطيغورياس.
وأما القسم الثانى من القسمين اللذين ذكرناهما أولا، وما دخل فيه، فجميعه سمى فى قاطيغورياس أضدادا، كان أحدهما وجوديا، والآخر عدميا بالوجوه المذكورة للعدمى، أو كان كلاهما وجوديا. وكذلك إن كان الموضوع ينقل من كل واحد منهما إلى الآخر، أو كان أحدهما طبيعيا لا ينتقل عنه ولا إليه، كالبياض للجص. وسواء كان الموضوع واحدا بعينه، كالماء للتسخن والتبرد، أو كان معنى عاميا، مثل العدد للفردية والزوجية، فإنه ينسب إليهما من حيث يوجد عددا على الإطلاق، لا من حيث هو عدد معين. وهو من حيث هو عدد معين، لا يصحب إلا إحداهما، ومن حيث هو عدد غير معين لا يجب أن يقبل إحداهما دون الأخرى. وسواء كان الشيئان بينهما واسطة، فلا يجب أن يكون الموضوع، إذا خلا عن أحدهما، وجد فيه الآخر أو لم يكن كذلك، بل كان إما طبيعيا لا يفارق، وإما بحيث إذا خلا عن الآخر لزمه الثانى، كالصحة والمرض، فإن جميع هذه، نسميها أضدادا فى هذا الموضع من حيث المعنى الجامع، فنسمى الحر والبرد، والصحة والمرض، والزوج والفرد، والحركة والسكون، أضدادا، ولا نبالى بأن يكون أحدهما هو معنى وجودى، والآخر معنى عدمى، وعلى أى أنحاء الأعدام كان، إذا كان ليس عدما، على النحو المذكور.(1/139)
فلا يجب أن يشتغل المعلم لكتاب قاطيغورياس بأن يجعل العدم غير الضد، قائلا: إن الضد هو ذات تخلف المعنى الوجودى فى الموضوع، وإن العدم ليس بذات، بل هو، أن يعدم المعنى الوجودى، فيكون الموضوع خاليا عنه فقط. فإن الضد الذى يقال فى هذا الكتاب، ليس يعنى به هذا، فإن الحركة والسكون يكونان حينئذ غير متضادين، ولا الزوج والفرد متضادين، ولا الخير والشر، ولا العلم والجهل، ولا أكثر ما ذكر ههنا. ولا يجب للمتكلف أن يتعرض للاستدراك، كما فعل بعض الناقضين، فيقول: إن القسمة غير مستوفاة، فإن ههنا مقابلة غير المقابلة التى للضد، وغير التى للعدم المذكور، مثل مقابلة السكون والحركة، إذ لا تضاد بينهما، ولا السكون والحركة، إذ لا تضاد بينهما، ولا السكون حاله حال العدم المذكور فى هذا الكتاب. وليعلم هذا المتكلف: أن التضاد الذى يذكره فى كتاب قاطيغورياس، ليس هو ذلك الذى ذهب إليه، وأنه لم يخف على المعلم الأول ما لايخفى عليه، ولينظر إلى الحدود دون الأسماء، وليعلم أن المبتدئ لا يكف تصور ما يدق من الفروق بين المعانى المتقاربة، فإنه يكتفى منه فى تعليم المتقابلات بأن يفاد تصورا ما بنحو من الأنحاء، وإن كان التصور منه لبعضها على محو التصور العامى؛ ولا يسأم أن يفهم الفرق بين الذات المقابلة للذات، وبين عدم الذات المقابلة للذات، إلا فيما يظهر ظهور العمى. ولا أيضا قول هذا المتكلف، فى بعض ما يهذى فيه، أنه قد ترك المعلم الأول التقابل الذى بين الجوهر والعرض، وبين الصورة والمادة، مما يجب أن يلتفت إليه.
ولتعلم أنه ليس يعنى بالتقابل، حال كل غيرين متباينين كيف اتفق، بل أما الأول من التقابل فهو تقابل الأيس والليس، وذلك موجود فى الجوهر والعرض؛ فإن الجوهر لا عرض، والعرض لا جوهر. وأما ما بعد ذلك، فشرط المتقابلين أن يكونا فى موضوع واحد جنسى أو نوعى، على أنهما فيه لا عليه، وهذا الشرط غير موجودين بين الجوهر والعرض، فلا تقابل بينهما. أما العلاقة والملازمة فهى إضافة تلزم، إما أحدهما، فيلحق الآخر غير لازم على ماهو الحال فى بعض ذوات الإضافة مما قد تبين واتضح، أو تلزم كليهما فيكونان به متضايفين من حيث اللزوم، فعلى هذه الصورة يجب أن تفهم التقابل المذكور ههنا.
الفصل الثاني
فصل ( ب )
في شكوك تلحق ما قيل في التقابل
ثم ههنا مشكلات يجب أن تورد فتحل؛ وذلك أن لقائل أن يقول: إن الحرارة وحدها لا تكون ضدا، بل تكون حرارة فقط، بل إنما تصير ضدا بالقياس إلى البرودة، وهو إذا أخذت بالقياس إلى البرودة ضدا كانت مضافة، فإنها وإن لم تكن، من حيث هى حرارة، من المضاف، فليست أيضا بمضادة، بل إذا كانت مقيسة كانت ضدا، وإذا كانت مقيسة وضدا، صارت أيضا مضافا، فهى من حيث هى ضد، ماهيتها مقولة بالقياس إلى غيرها، ومن حيث هى ماهيتها مقولة بالقياس إلى غيرها، هى من المضاف، فهى من حيث هى ضد هى من المضاف. فيكون التضاد والمضاف إما شيئا واحدا، أو يكون التضاد شيئا داخلاً تحت المضاف، فلا يكون كالقسيم له تحت التقابل. وههنا مشكل آخر، وهو أن التقابل، من حيث هو تقابل، من المضاف، ثم المضاف تحت التقابل، وأخص منه؛ وهذا محال، سواء كان دخولاً كما تحت الجنس أو دخولاً كما يكون تحت معانٍ ليست أجناسا، ولكنها لوازم، أو مشككات الأسماء.(1/140)
بل وما يجب أن يبحث عنه، هل التقابل جنس لهذه أو ليس بجنس، وإن كان جنساً فهل هو جنس أعلى، أو ليس بجنسٍ أعلى؛ فهذه المباحث مما يخلق أن يبحث عنها المنطقى، إذ كان تكلّف الخوض فيها بهذا الفن من العلم أليق. فنقول: إن الحرارة ينظر إليها وإلى البرودة معاً، فتكون الحرارة من حيث هى حرارة ضداً للبرودة، ثم توجد من حيث هى حرارة ضداً للبرودة، ثم توجد من حيث هى ضد مرةً أخرى، فتكون مضافة إلى البرودة، فتكون الحرارة بنفس اعتبارها مع البرودة يصح عليهما معنى حد الضد وهو أنهما كذا وكذا، ولا يصح عليهما معنى التضايف، إذ ليس أحدهما مقول الماهية بالقياس إلى الآخر، وكل واحد منهما منازع للآخر فى الموضوع. فصحيح لك أن تقول: إن الحرارة والبرودة كل واحد منهما منازع الآخر موضوعه إن كان مشتركاً، وليس صحيحاً لك أن تقول: إن الحرارة والبرودة كل واحدة منهما مقولة الماهية بالقياس إلى الأخرى؛ لكن صحيح لك أن تقول: إن الحرارة من حيث تنازع وتضاد البرودة فى موضوعها مقولة الماهية بالقياس إلى الأخرى. فإذن الموضوع فى حمل الضدية شئ، والموضوع فى حمل الإضافة شئ، هو إما نفس المحصول الأول، وإما الموضوع مأخوذا مع المحصول الأول ملحوظاً فيه الأخذ مع المحمول الأول. ونفس التضاد شئ، والأشياء المتضادة شئ. والأشياء المتضادة، هى الموضوعات للشئ الذى هو نفس التضاد، ونفس التضاد موضوع للمضاف.
ولك أن تقول: إن الموضوعات للمضادة، إذا أخذت متضادة، صارت بسبب ذلك مضافة، وليس لك أن تقول: إن الموضوعات للمضادة، إذا أخذت مضادة، صارت بسبب ذلك مضادة.فالمضاد إذن غير المضاف، وليس الأمر الذى هو التضاد هو الأمر الذى هو المضاف، وإن كان التضاد يلزمه المضاف من حيث هو تضاد، فهذا حل شك. وأما حل الشك الثانى، فيجب أن تعلم، أن المتقابلات تعرض لها الإضافة، وليست فى هويتها بمضافات، فإنَّ كل تقابل من حيث هو تقابلُ مضاف، وليس كل تقابل بمضاف؛ وفرق بين قولنا: إن كل تقابل من حيث هو تقابل مضاف، وبين قولنا: إن كل تقابل مضاف.وذلك لأن التضاد من التقابل، وقد علم أن الموضوع له، ليس هو الموضوع للمضاف، كما بينا. لكن الموضوع له، من حيث هو تقابل، يصير موضوعاً للمضاف. فلذلك ليست الأمور المتضادة مقولة الماهية بالقياس إلا أن تقال من حيث هى متضادة، ولا الملكة والعدم من المضاف. ولو كان المضاف أمراً مقولاً على التقابل قولا مطلقا، لكان كل متقابلين فهما متضايفان مطلقا، لا بشرط إلحاق أنهما كذلك من حيث هما بحال كذا، لكن كل متضايف فهو متقابل، وكل متضاد وكل عدم وملكة، وليس كل متقابل من المضاف، فليس إذن المتضايف أعم من المتقابل، فليست الإضافة أعم من التقابل. ومع هذا فإن الذى هو خاص قد يعرض لكل ما له طبيعة العام، باعتبار شرط يصير العام به أخص، وهو ههنا النظر إليه من حيث هو متقابل، وهذا النظر يخصّصه، فيمنع عمومه لكل ما تحته ويحرّم حمله عليه. ولذلك لا تقول: إن المتضادات هى متقابلات من حيث المتقابلات متقابلات، وإن كنت تقول: إن المتضادات متقابلات، فإن ذلك كذب، بل كونها من حيث هى متقابلات اشتراطا، أخذها بالمعنى الذى هو الموضوع لعموم التقابل، وأخذها بذلك المعنى، كأخذ الحيوانية من حيث هى حيوانية، محذوفة عنها الخصائص بشرط الحذف. فحينئذ يلزم الحيوانية ما لا تحمل على جميع جزئيات الحيوانية، فإن الحيوانية إذا كانت كذلك، يلزمها أن تكون عديمة النطق، وليس كل حيوان عديم النطق. وكأخذها لا فى مادة، إذا نظر فيها من حيث ليست فى مادة، وليس كل حيوانية كذلك.
وأما التقابل، فليس جنسا لما تحته بوجه من الوجوه، وذلك لأن المتضايف، ماهيته أنه مقول بالقياس إلى غيره، ثم يلحق هذه الماهية أن تكون مقابلا ليس أنها تتقوم بهذا. فإنه ليس هذا من المعانى التى يجب أن تتقدم فى الذهن أولا، حتى يتقرر فى الذهن، أن الشىء ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، بل إذا صار الشىء مضايقا، لزم فى الذهن أن يكون على صفة التقابل. فالذاتية بشرائطها؛ غير موجودة بين التقابل وبين الأشياء الى هى كالأنواع للتقابل، حتى يكون كونها متقابلات داخلة بقوة أو بفعل فى الحدود هذه كلها. والقوانين المفيدة فى هذه الأعراض ستشرح لك فى مواضع أخرى.(1/141)
والآن، فينبغى أن نستأنف الكلام من رأس، فنقول: أما الفرق بين المضاد والمضاف، فهو أن المضاف مقول الماهية بالقياس، والمتضادات ليست كذلك؛ ولذلك لا نقول: إن الخير إنما هو خير لأجل قياسه إلى الشر، كما نقول: إن الضعف ضعف بسبب قياسه إلى النصف، بل نقول إن الخير مضاد للشر، ثم حينئذ نقول: وهو من حيث هو مضاد فهو مضاف. ومما يفارق به المضاد المضاف، أن المتضادات لا تخلو إما أن لا يتعرى الموضوع فيها من أحد الطرفين فلا يكون بينهما واسطة، وقد يتعرى منهما فيكون بينهما واسطة؛ مثال الأول، الصحة، وهى ملكة فى الجسم الحيوانى يصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعى غير مؤوفة. وسواء نسبت إلى البدن كله، أو إلى عضو واحد، وسواء كانت بالحقيقة أو بحسب الحس، فإن الذى يحسب الحس، رسمه بحسب الحس والمرض، حالة أو ملكة مقابلة لتلك، فلا تكون أفعاله من كل الوجوه كذلك، بل يكون هناك آفة فى الفعل، ولا يخلو الموضوع عنهما ألبتة، فكذلك الفردية والزوجية. والذى ظن أن بين الصحة والمرض وسطا هو حال لا صحية ولا مرضية، فإنما ظن ذلك لأنه نسى الشرائط التى ينبغى أن تراعى فى حال ما له وسط وما ليس له وسط؛ وتلك الشرائط أن يفرض الموضوع واحدا بعينه فى زمان واحد بعينه، وأن يكون الجزء واحدا بعينه، والجهة والاعتبار واحدة بعينها. فإذا فرض كذلك، وجاز أن يخلو الموضوع عن الأمرين كان هناك واسطة، فإن فرض إنسان واحد، واعتبر منه عضو واحد، أو أعضاء معينة، فى زمان واحد، وجاز أن لا يكون معتدل المزاج سوى التركيب، بحيث تصدر عنه جميع الأفعال التى تتم بذلك العضو أو الأعضاء سليمة، وأن لا يكون كذلك، فهناك واسطة. وإن كان لا بد من أن يكون معتدل المزاج سوى التركيب، أولا يكون معتدل المزاج سوى التركيب، إما لأنه أحدهما دون الأخر، أو لأنه لا واحد منهما، فليس بينهما واسطة. ومثال الثانى السواد الصرف، والبياض الصرف، فإن بينهما وسائط ألوان، وقد يخلو الموضوع من كليهما إلى الوسائط، وربما خلا إلى العدم بأن يصير مشفا، فتكون الواسطة، سلب الطرفين مطلقاً من غير إثبات واسطة خلطية من الطرفين. وهذه الواسطة الخلطية، ربما كان لها اسم محل كقولك الأدكن والفاتر، وربما لم يكن لها اسم محصّل، بل إنما يدل عليها سلب الطرفين، من غير أن يعنى بسلب الطرفين السلب الذى لا إثبات تحته، بل يراد به إثبات، كقولهم: لا عادل ولا جائر. وإذا عنى بالسلب سلب لا يشير إلى إثبات متوسط، دل عليه بواسطة غير خلطية، كقولهم: السماء لا خفيفة ولا ثقيلة، والهواء لا أبيض ولا أسود، فالأضداد تنقسم إلى هذين القسمين وبهذا يخالف التضاد، تقابل العدم والملكة، لأن المتقابلين بالعدم والملكة لهما موضوع واحد، من شأن كل واحد منهما أن يكون فيه، فتكون فيه الملكة ويكون فيه العدم، ولكن ليس كيف اتفق، بل إنما يكون فيه العدم بأن يعدم الملكة من موضوع، وقتاً من شأنها أن تكون موجودة فيه للموضوع، كما يعدم البصر فى الموضوع، وقتاً من شأنه أن يكون له ملكة البصر، وتسقط الأسنان وقتاً من شأنها أن لا تسقط فيه،بل تبقى. فهنالك يكون أحدهما عمى، والآخر درداً، فإن الجرو الذى لم يَفْقَح، لا يقال له أعمى، ولا الطفل أيضاً ساعة يولد، يقال له أدرد، بل إذا حان أن يكون له بصر وسن، ولم يكونا، فهو أعمى وأدرد. وهذا الشرط غير موجود فى قسمى تقابل التضاد، فإن الموضوع المشترك للضدين اللذين لا واسطة بينهما، يجوز فى كل وقت أن ينتقل من أحدهما إلى الآخر إلا أن يكون طبيعيا لا يفارق، كبياض تقنس.والموضوع المشترك للضدين ذوى الواسطة، فقد يخلو جميعاً إلى الواسطة، إن لم يكن أحدهما له طبيعيا، ولا واسطة بين العدم والملكة، ولا انتقال من العدم إلى الملكة، بل من الملكة إلى العدم. وافهم بعد ذلك، أنا قلنا عدم وملكة أو غير ذلك من المتقابلات، فلسنا نشير من العدم والملكة ومن سائر المتقابلات إلا إلى طبائعها، لا إليها، من حيث وجودها للموضوع، أو كون الموضوع متصفا بها، فليس العمى(1/142)
" وأن يعمى " . والبصر، " وأن يبصر " ، شيئا واحد. وكذلك يقال: زيد يعمى، ولا يقال: زيد عمى، ويكون العمى أيضا لزيد معنى يقتضى نسبة العمى إلى زيد. وأما العمى، فهو معنى مفهوم بنفسه، أو مفهوم بسبب ما عدمه، أعنى البصر إذ هو عدم البصر. فهذه ليست هى المتقابلات الأول، بل أمور تلحق المتقابلات، فيعرض لها أن تكون متقابلة.
وكذلك الحكم فى الموجبة والسالبة، فإن ما يقع عليه الموجب والسالب أمر أو معنى لا قول، بل هو الموضوع، كقولك: زيد، فى قولك: زيد جالس، أو زيد ليس بجالس. وأما ما يوجب ويسلب نفسه، فهو أيضاً ليس بقول، بل هو محمول فى القول، كقولك: جالس وليس بجالس. فليس إذن الشئ الذى له تقابل بالإيجاب والسلب، هو الإيجاب والسلب؛ هذا إن أخذنا التناقض موجبه وسالبه. فإن أخذناه إيجاباً وسلباً، كان الموضوع، لذلك، والموصوف به، وضعاً ووصفاً، على قياس ما كان للعمى والبصر، هو القضية. فإنها هى التى فيها الإيجاب، فيشتق لها منها الاسم، فيقال: موجبة، أو السلب، فيقال: سالبة، فيكون المتقابلان فى الإيجاب والسلب ليسا هما الإيجاب والسلب، ولأن الإيجاب إيجاب فى قضية، فليست القضية إيجاباً.
لذلك فإذا عرف هذا، فقد عرف حال التضاد، وحال العدم والملكة، وكان قد عرف الفرق بين المضاف وبين التضاد، فليفرق بين تقابل المضاف، وتقابل العدم والملكة فنقول: أما العدم والملكة فليس أحدهما مقولاً بالقياس إلى الآخر، أما الملكة فليست مفتقرة فى تصورها إلى العدم ألبتة، فإنها قد تتصور ماهيتها فى نفسها؛ وأما العدم كالعمى، فإنها وإن كانت لا تتصور إلا بتصور الملكة، فإنها ليست مقولة الماهية بالقياس إلى الملكة، فإنها غير صائرة عمى بالقياس إلى البصر، حتى يكون العمى إنما هو عمى لأجل قياسه إلى البصر، وإن كان العمى هو عدم البصر.
وقد ظن بعض الناس فى هذا الموضع، أن معنى هذا الكلام أن العمى ينسب إلى البصر من طريق جنسه، حتى يكون كما قيل فى النحو من أنه مضاف من طريق جنسه، وكذلك العمى مضاف من طريق جنسه أو ما هو كجنسه وهو العدم، فإن العدم معقول بالعرض. ويسبب ماهو عدمه. وليس هذا الذى قاله صواباً بوجه من الوجوه. فإن العدم الذى هو جنس العمى، ليس مقول الماهية بالقياس إلى شئ، ولا بالقياس إلى الملكة، فإن العدم ليس إنما هو عدم لأجل أنه مقيس إلى صورة موضوعة فى الذهن، بإزائها، يقال لها عدم، حتى يكون العمى عمى لأن الملكة ملكة، كما يكون الأب أبا لأن الابن إبن، فينعكس القول من الجانبين كما قد علمت، إذ قول الماهية بالقياس، معناه هو حال الشئ من جهة أن شيئا آخر موجود بإزائه، ومأخوذ بإزائه من حيث هو كذلك، لنفس كون ذلك الشئ بإزائه. وليس حال الملكة عند العدم كذلك، فإن العدم يرفع الملكة، وليس العدم إنما هو عدم لأجل أن الملكة ملكة فقط، بل إنما هو عدم للملكة لا على أنها تجعل الملكة بحال، بل على أنه منسوب إليها بأنه زوالها وفقدانها لا فقدان شئ آخر كيف اتفق، ولذلك لا تحتاج الملكة أن تقال ماهياتها بالقياس إلى العدم المأخوذ بإزاء الملكة.(1/143)
فلما كانت المضافات مقولة الماهية بالقياس، وكذلك ما يتكافؤ المضافان فى العكس الخاص بالمضاف، ولم يكن العدم والملكة على هذه الصورة، فلا يقال: إن البصر بصر للعمى، ولا أن البصر إنما هو بصر لأجل العمى، كما ربما نقول: إن العمى عمى البصر. فظاهر أن العدم والملكة ليسا متضايفين، وكان قد علم بإشارةٍ ما أنهما غير متضادين، فإن المتضادين اللذين لا واسطة بينهما حكمهما أحد الحكمين: إما أن يكون أحدهما طبيعيا للموضوع، يستحيل وجود الموضوع خالياً عنه، كالفردية للثلاثة فى ظاهر الأمر، والحرارة للنار؛ وإما أن لا يكون أحدهما طبيعياً، فلا يكون الموضوع فى شئ من الأوقات خالياً عن أحدهما ألبتة، مثل الصحة والمرض لبدن الإنسان. ثم العدم والملكة، فقد يكون الموضوع خاليا عنهما جميعاً، قبل الوقت الذى من شأنه أن يكونا فيه، مثل الجرو الذى لم يَفْقَح، فإنه لا بصير ولا أعمى؛ ولا يكون أحدهما طبيعياً بعينه للموضوع فى وقت كونه، فهذا التقابل ليس فيه أحد حكمى التضاد الذى لا واسطة فيه. وأما التضاد الذى فيه واسطة، فإن الموضوع فى وقت صلوحه للطرفين، قد يخلو عن الطرفين إلى الواسطة، ولا كذلك حال تقابل العدم والملكة، فإن الموضوع لا يخلو فى وقت صلوحه لهما عن أحدهما. وأيضا فإن الأطراف من المتضادات، إذا لم تكن طبيعية فقد يمكن أن تنتقل من كل واحد منهما إلى الآخر، فإنه ليس ما يقال: إن الذى له ملكة الرداة، لا ينتقل إلى ملكة الصالحين بشئ، فإنه لما كان إذا عاشر الصالحين انتقل إلى عاداتهم ولو يسيراً، فيوشك أن ينتقل عند الارتياض إلى التمام، أو يقارب التمام إن لم يخترم. ولا كذلك حال العدم والملكة، فإن الملكة تنتقل إلى العدم، والعدم لا ينتقل إلى الملكة، لا قليلاً ولا كثيرا، فإن الذى يكون غير بصير، ثم يأخذ يبصر يسيراً يسيراً، فليس بأعمى، بل حكمه حكم محجوب أو مغموم أو معصوب البصر، يحتاج أن يزال المانع وينمحى. فالملكة التى هى القوة المبصرة ثابتة موجودة فيه، إنما العمى بالحقيقة أن تكون الملكة قد زالت، فأما إذا حجبت أو غمت، فليس ذلك بعمى، فقد افترق التقابل الذى للعدم والملكة، والذى للمتضادات.
فأما التقابل الذى هو التناقض، فيفارق الجميع من جهة أن المتناقضين يصلح فيهما الصدق والكذب، وليس فى العمى ومقابله، ولا فى الحرارة ومقابلها، ولا فى الأخ ومقابله، صدق ولا كذب. وأيضاً فإن المتناقضين إذا كانا على شرائط، لزم أن يصدق أحدهما ضرورة، ويكذب الآخر، ولا كذلك الحال فيما سوى المتناقضين. ولا أيضا إن ألّف مما سواهما قضايا، حتى يكون مكان صحيح وليس بصحيح أحد الأضداد التى لا وسائط بينها. كالصحيح والمريض، فإنه وإن كان زيد إذا كان موجوداً فقيل: إنه صحيح وإنه مريض، يصدق أحدهما ضرورة،ويكذب الآخر. فلا ينبغى أن يظن أن هذا القسم من التضاد يقابله تقابل النقيض، وذلك لأن الصحيح، وما ليس بصحيح، إذا قرنا بأى موضع شئت، وبالمعدوم، قرنا على شرط النقيض، ثبت تقابل النقيض، وصدق أحدهما، وكذب الآخر. فإنك إذا قلت: الحجر صحيح، والحجر ليس بصحيح، صدق السالب منهما؛ فإذا قلت:الحجر صحيح، الحجر مريض، كذبا جميعا.وكذلك إذا جعلت الإخبار عن زيد، وهو معدوم، كذب أنه صحيح، وكذب أنه مريض، ولم يكذب أنه ليس بصحيح. فإن السلوب كلها تصح عن المعدومات، وذلك لأن اإيجاب للمعانى الموجودة يكذب عليها، إلا بشرط وحال ليس هذا موضع بيانه،لأن الإيجاب حكم بوجود معنى لمعنى. أو وجود وصف لأمر، ولا يوجد المعنى لما ليس بموجود، وأن لا يوجد، فهو السلب. فإذا كان ما لا يتوسط فيه من المتضاد يفارق المتناقض، فكيف اللواتى بينها متوسط، التى قد يكذب الطرفان معا جميعاً فى الموضوع الموجود القابل لهما، كما إذا قيل للعفيف إنه خامد الشهوة، أو فاجر. وبين بالجملة أنك إذا نظرت إلى التضاد من حيث هو تضاد، لم يوجب ما يوجبه التناقض، وإنما يعرض له ما يشبه ذلك لبعض المتضادات، وفى بعض الموضوعات خاصة، لا لأنها تضاد بل لأنها لا واسطة لها.(1/144)
ومن هذا الوجه كله، يتضّح الفرق بين تقابل التناقض وتقابل العدم والملكة، فإن الموضوع الغريب كالحجر، والمعدوم كزيد المتوفى، يكذب عليه القولان المؤلفان من العدم والملكة، كقولنا: الحجر بصير، الحجر أعمى، أو قولنا: زيد المعدوم بصير، زيد المعدوم أعمى. ولا يكذب المتناقضان معاً إذا قلنا: الحجر أو زيد المعدوم بصير، الحجر أو زيد المعدوم ليس ببصير. وأيضا فإن الموضوع الذى ليس بغريب، قد يكذب العدم والملكة فيه إذا لم يكن الوقت الذى من شأنه أن يكون فيه، كقولنا للجرو الذى لم يَفْقَحّ بصير أو أعمى، ولا يكذب أنه ليس ببصير.
الفصل الثالث
فصل (ج)
في التعبير عن أحكام وخواص في المتضادات
الشر على الإطلاق من حيث هو شر، يظن أنه ضد الخير على الأطلاق، فكل واحد من جزئيات الشر، ضد لواحد من جزئيات الخير، كالمرض للصحة، والجور للعدل، والجبن للشجاعة، والفجور للعفة، فهذه حال مضادة الشر للخير. وأما مضادة شر آخر للشر، فقد يكون الذى يضاد الشر شرا آخر. وذلك لأن الملكات المتوسطة بين طرفى الإفراط والتفريط، فى الأمور المتعلقة بالشهوة والغضب، والمتعلقة بالتدبير الجزئى فى اقتناء الخير إلا لشىء، تتعلق بها الفضائل اللواتى هى كالشجاعة والعفة وحسن التدبير الذى يسمى حكمة، وتكون هى الفضائل؛ والإفراطات والتفريطات تتعلق بها الرذائل فإن الجبن، والتهور، والخمود، والفجور، والجريزة والغباوة، رذائل. والتوسط يضاد الطرفين، وكل واحد من الطرفين يضاد الآخر لبعده عنه، وهذا التوسط المضاد للطرفين إنما يوجد فى يسير من الأمور نحو التى ذكرناها. وأما فى أكثر الأشياء، فإن الخير يضاد الشر مطلقا، ولا يوجد للشر شر يضاده مثل الصحة والمرض، والعلم والجهل، والحياة والموت. فمن ذلك ما الإفراط فيه كله ردىء، كالمرض، ومن ذلك ما الإفراط فيه كله خير، كالعلم، فهذا هذا. وقد قال بعض المفسرين فى شرح قولهم: وهذا فى يسير من الأمور التى تخالف هذا القانون، أن قائل هذا القول، يعنى به أن بعض الوسائط فى الإفراطات والتفريطات ليست بخير، مثل القتل فإنه ليس الوسط فيه بخير، بل كله ردىء؛ وأما اللاقتل فكله خير، وليس إنما يكون الطرف فيه يعينه فقط هو الردىء.
وليس الغرض فى هذا الكتاب هذا، بل الغرض أن من الشرور ما يوجد له خير بضاده، وشر أيضا يضاده، وذلك إذا كانت هناك طبيعة موضوعة للإفراط والتفريط، من أول حدود الإفراط إلى آخر حدود التفريط، ذاهبا باتصال واحد. فهناك يوجد متوسط وطرفان فى الطبع، ويكون المتوسط خيراً أيضاً يضاد الطرفين اللذين يضاد كل واحد منهما الآخر، وهذا فى يسير من الأمور. وليس الحكم فى كل الأمور هكذا، فان العلم خير، والجهل شر، وليس هناك للشر ضد إلا الخير. وليس هناك وسط هو خير وطرفان هما شر، وكذلك الحال فى أشياء أخرى كثيرة. فهذا معنى ذلك الكلام للمعلم الأول، إليه ذهب، ولم يلتفت إلى متوسط بين الطرفين للإفراط والتفريط وضعيين، كما ذهب إليه هذا الشارح. ولو ذهب إلى ذلك، لكان إنما يرينا أن الشر ليس الذى يضاده فلان، وليس غرضه أن يرينا هذا، بل غرضه أن يرينا أن الشر الذى يضاده الخير، يضاده الشر، وربما لم يضاده. وليس فى الذى أوردوه من أمر التوسط ذلك.(1/145)
وأما حديث القتل أيضاً، فإنه ليس مثالا حسناً فى ذلك، لأن قتل من ينبغى حين حين ينبغى على الوجه الذى ينبغى، هو من أفعال الشجاعة، ومن الواجب فى حفظ المدينة، وهو خير، كما أن ترك قتل من ينبغى قتله على الوجه الذى ينبغى وحين ينبغى، هو من الشر. وبعد هذا، فيجب أن نعود إلى عادتنا فى التعقب، فنقول: ينبغى أن تعلم، أن الخير ليس يضاد كل واحد من الرين بالذات، لأن الشجاعة ليست تضاد الجبن من حيث هو جبن، بل من حيث يشارك الجبن التهور. وذلك لأنه رذيلة مخسة للنفس، والشجاعة فضيلة، فإذن الضم بالذات للواحد واحد. وتحصيل هذا، أن النظر فى هذه الملكات هو على وجهين. نظر فى طبائعها ومعانيهْا، غير مضافة إلى موضوعاتها من حيث أنها تفيدها حالا يلزم موضوعاتها لأجلها محمدة أو مذمة أو منفعة أو مضرة، وهو أن ينظر فى جملة الطبيعة التى بين الجبن والتهور، ماراً على الشجاعة من حيث هى ملكات يصدر عنها أفعال ما، فحينئذ لا نجد الشجاعة مضادة لأحد الطرفين، بل تكون أمراً متوسطاً، ويكون الطرفان هما المتعاقبان على موضوع واحد، وبينهما غاية البعد، فيكونان هما الضدان فقط؛ والثانى، نظر فيهما من حيث الحال التى تحصل لموضوعها منها، وذلك باعتبار أنها أمور تناسب مصلحة نفس الانسان أو نوع الإنسان أو لا تناسبه، وهذا اعتبار أمر يعرض للكيفيات، من جهة إضافات لها وليس فى ذواتها. كما أن كون الشىء حاراً أو بارداً، غير كونه موافقاً وصحة، وكون الجسم فى طبيعته بحال، غير كونه دواء نافعاً أو سماً قاتلاً، فتكون الخيرية والشرية أمرين يلزمان هذه الكيفيات من جهة مقايستها إلى الطبيعة الإنسانية، ولذلك لا يلزمانها من جهة مقايستها إلى أبدان حيوانات أخرى.
وإذ قد اتضح لك ما قلناه، فقد علمت، أن الكيفية التى تقال لها شجاعة، والأخرى التى يقال لها جبن، لا يتضادان فى جوهريهما؛ بل قد علمت أن الشجاعة إنما تضاد الجبن من جهة عارض لكل واحد منهما لما اقترن بهما سمى أحدهما شجاعةً والآخر جبناً، ةأنها لا تضاد ذلك من حيث طبيعتها نفسها شيئاً، بل طبيعتها وسط، ولكن لما كان ناء هذا الكتاب على الأمور المشهورة والمتعارفة، غير مردودة إلى الشروط التى بها تصير حقيقة، فلذلك لا يجب أن يلتفت فيه ألى هذا النحو من التحقيق. واعلم أن ههنا أموراً أخرى بينها متوسطات، ولا يوجد المتوسط فيها مضاداً لشىء من الطرفين بوجه من الوجوه، إذ ليست لها هذه النسبة، فإن الفاتر والأدكن لا يضاد شيئاً، بل طرفاً هما المتضادان، وإن كان حال الفاتر فيما يظن ليس كحال الشجاعة، فإن الفاتر يعتقد من أمره أنه خلط من الطرفين، وأما الشجاعة فإنها طهارة من الطرفين. ومع ذلك ، فإن هذه القسمة المشهورة تتأتى فى تقابل التضاد، ولا تتأتى فى تقابل العدم والملكة. ومن أحكام المتضادين، أن وجود أحدهما مطلقاً، لا يوجب وجود الآخر بوجه من الوجوه إيجاب المتضايفات، فإنه لو توهمنا أن الناس كلهم صحاح، لم يمنع هذا التوهم منا معارضة وجوب المرض، ولم يبعد أن لا يكون مرض ألبتة، وإن عنينا وجود أحدهما فى شىء بعينه، منع وجود الآخر معاً، كما لو قلنا: زيد صحيح، منع أن يكون مريضاً.(1/146)
والمتضايفات: إما مطلقات، فيوجب وجود أحدهما الآخر، وإما فى شىء واحد، فلا يمنع أن يكون ما هو أب هو أيضا ابنا، وقد أشير إلى تلخيص هذا فيما سلف وما للمتضادين أن محلهما واحد يتعاقبان فيه ويتنازعانه؛ فربما كان ذلك الواحد معنى أعم من نوع واحد، كالسواد والبياض؛ فإن موضوعهما الجسم، من حيث هو جسم طبيعى عنصرى مركب، أى جسم عنصرى مركب كان مما يصلح لقبوله. وقد يصلح له أنواع وليس ذلك نوعاً واحداً، وربما كان من نوع واحد، مثل العدل والجور فإن موضوعهما ليس كل نفس ولا نفوس تقع فى أنواع كثيرة، بل نفس الإنسان. وربما كان الموضوع للضدين جنسا فيقتسمانه من غير تنازع، كالعدد للزوجية والفردية، والمتضادان ربما كانا فى جنس، كالبياض والسواد فى اللون، وربما كانا فى جنسين مختلفين، كالعفة والفجور اللذين أحدهما من جنس الفضيلة والآخر من جنس الرذيلة، وربما كانا بأنفسهما جنسين، كالخير والشر. ويشبه أن يكون المعنى فى قولهم، بإن الخير والشر جنسان، ليس أن الخير والشر من حيث هو مقول على الخير الجوهرى والخير الكمى والخير الكيفى وغير ذلك، فيقال قولا جنسياً، بل من حيث هو مقول على الملكات فيكون متواطئاً من هذا الوجه، ليس باشتراك الاسم. ثم قد سومح فى كونه ذاتيا لها أو عرضيا لازما لهذه الملكات، فإن الحق، أن الخيرية أو الشرية يلزمها ولا يقومها، فإن كان كذلك فيكون الخير والشر من باب الكيف. ويشبه أن يكون المراد غير ما ناقشنا فيه، بل يكون قد توسع فى هذا الباب توسعاً مطرداً على المشهور من أمر الخير والشر، فإن المشهور من أمرهما أنهما عامان للأشياء، فأحرى الحكم على ذلك، ولم يبال بما يعرض من ذلك، إذ ليس هذا الكتاب كتاب الاستقصاء.
وأما الاستقصاء فإنه يقضى، أن تكون الشجاعة مضاداً للجبن، قريب من كون الصارم مضاداً للدِّدان، وذلك إذا أخذ الصارم اسماً لسيف مع الحدة، والددان اسما لسيف مع الكلال، فيكون لا تضاد بينهما إلا لانطوائهما على متضادين، ثم يقال إن التضاد بينهما لأجل جنسين، هما الحاد والكليل، وكذلك الشجاغعة، كأنهما اسم الكيفية مع النسبة المذكورة، وكذلك الجبن، وكذلك الحمق؛ ولكنا لا نناقش فى هذه الأشياء فى مثل هذا الكتاب، وأما التحقيق فى هذه الأمور، فسيأتيك له موضع محصّل فى ذلك.
فينبغى لنا أن نشير قليلاً الى ما وقع عليه الاتفاق الخاص فى أمر التضاد وأمر العدم والصورة بعد المشهور، فلا يترك المتعلم متحيراً، فنقول: أن الأضداد الحقيقية هى الأمور التى تشترك فى موضوع واحد، وكل واحد منها معنى كالبياض والسواد، ليس كالسكون والحركة، ويكون الاثنان المتقابلان منها، لا يجتمعان معاً، بل يتعاقبان، وبينهما غاية الخلاف ليس كالفاتر والحار. وأما العدم والملكة، فالحقيقى من العدم، أن يكون الشىء معدوماً فى الموضوع القابل لوجوده بطباعه من حيث هو كذلك، سواء كان المعدوم ما سميته ههنا ملكة أو شيئاً آخر، وسواء عاد أو لم يعد، وسواء كان قبل الوقت أو بعده، أو فيه؛ ومنه ما هو أهم من ذلك، وهو عدم الشىء عما فى طبيعة من طبائع الموضوع أن يقارنه، شخصية كانت تلك الطبيعة أو نوعية كالخرس الأصلى، أو جنسية كالأنوثة، والخير والشر فى أكثر الأشياء يتضادان بالحقيقة تضاد العدم والملكة، فإن الشر عدم كمال ما من شأنه أن يكون للشىء إذل لم يكن. والسكون، والظلمة، والجهل، وما أشبه ذلك، كلها أعدام. والمرض أيضا من حيث هو مرض بالحقيقة عدم، لست أعنى من حيث هو مزاج أو ألم، والفردية أيضاً، هى حال الجنس مأخوذة مع سلب عارض قد يكون فيه، وذلك الجنس هو العدد، وقد ينقسم بمتساويين، وقد يعدم هذا المعنى فيه، فإذا اقترن به، أن لا ينقسم بمتساويين، كان من تلك الجهة فرداً، وكان منطويا على عدم ما، من شأنه أن يكون فى ذلك الجنس. ولنقتصر الآن على هذا المبلغ.
الفصل الرابع
فصل (د)
في المتقدم والمتأخر
وقد جرت العادة أن يذكر بعد المتقابلات المتقدم والمتأخر. والحال فى ذلك كالحال فى المتقابلات، أعنى أن توفية حق الاستقصاء فيه ليس فى مداخل التعليم فيجب أن نقتصر على إيراد المشهور وعلى محاذاة التعليم الأول، وأما التحقيق فستجد تفاريقه فى مكانه.(1/147)
فالوجه الأول من التقدم هو الذى يكون بالزمان؛ فان الأكبر سناً أقدم من الأحدث،والوجه الثانى ما يقال له إنه متقدم بالطبع، وقد حُدَّ أنه هو الذى لا يرجع بالتكافؤ فى لزوم الوجود، كحال الواحد، عند الاثنين، فإنه إن كانت الاثنينية موجودة فالوحدة موجودة، ولا ينعكس مكافئه، فليس إن كانت الوحدة موجودة، فالاثنينية لا محالة موجودة. ومن المشهور أن ما يكون كذا فهو متقدم بالطبع وليس فى المشهور له شرائط وأما تحصيل الأمر فى ذلك فيؤخر إلى صناعة أخرى.
وأما الثالث فهو المتقدم فى المرتبة على الإطلاق؛ وهو الشىء الذى تنسب إليه أشياء أخرى فيكون بعضها أقرب منه وبعضها أبعد، مثل الجنس الأعلى فى حكم الجنسية والنوع السافل فى حكم النوعية. وأما بعد المطلق فذلك ما هو أقرب المنسوبين إلى هذا المنسوب إليه منه، فإن ما هو أقرب للاثنين من هذا المنسوب إليه فهو أقدم فى المرئية مثل الجسم فإنه يتقدم على الحيوان إن اعتبرت الابتداء من الجنس الأعلى، والحيوان أقدم من الجسم، إن اعتبُرت ذلك من النوع الأسفل. والمتقدم بالمرتبة ليس يجب له بذاته أن يكون متقدما، بل بحسب اعتبار النسبة المذكورة، ولذلك قد ينقلب الأقدم فيصير أشد تخلفاً. وكما أن الترتيب قد يوجد فى الأمور طبعاً مثل ما فى ترتيب الأنواع والأجناس التى بعضها تحت بعض وفى ترتيب أوضاع الأجسام البسيطة، وقد يكون وضعاً كترتيب الصفوف فى المكان منسوبة إلى مبدأ بالوضع، كالبلد الفلانى مثلاً أو كدار فلان، كذلك المتقدم بالترتيب قد يكون فى أمور طبيعية، وقد يكون فى أمور وضعية.والمتقدم فى المكان من هذه الجملة قد يكون بالوضع كالصف الأول من صفوف المجلس، وقد يكون بالطبع كالنار المستقرة فى مكانها بالقياس إلى الهواء.
وقد يوجد المتقدم بالمرتبة أيضا فى العلوم البرهانية، فإن المقدمات قبل القياسات والنتائج والحروف قبل الهجاء، والصدْر فى الخطبة قبل الاقتصاص، وههنا مواضع إشكال وهو أن لقائل أن يقول: إن الأمثلة المذكورة فى هذا الموضع داخلة فى الباب الأول؛ فإن المقدمات قبل القياس ليس فى المرتبة بل فى الطبع، فإنه إن كان القياس كانت المقدمات، وليس إن كانت المقدمات كان القياس، وكذلك الحال فى الحروف والهجاء،، فنقول فى جواب ذلك، إنه وان كان الأمر كذلك فليس يمتنع أن يكون المتقدم بالطبع متقدماً فى المرتبة من وجه آخر؛ وذلك لأن النظر ههنا فى المقدمة ليس بحسب نفسها ولكن بحسب استعمالنا إياها فى التعليم. ونحن نتناول المقدمات مرة على طريق التحليل ومرة على طريق التركيب؛ فإن سلكنا مسلك التركيب كانت المقدمات قبل القاسات، وإن سلكنا سبيل التحليل بأن فرضنا أولا النتيجة وطلبنا وسطا، كما ستعرف بعد، انعقد لنا القياس بعد النتيجة؛ ولأن أخذ الوسط بين الطرفين على أنه مشترك بينهما فى مثل هذا الموضع هو قبل تخصيصه بأحدهما حتى تحصل إحدى المقدمتين بصفة وتخصيصه بالأخرى حتى تحصل الأخرى بصفة؛ فيكون القياس أولاً ما بينَّا ثم يتدرج منه إلى أعتبار مقدمةٍ مقدمةٍ ما حالها. وكذلك الأمر فى الهجاء والحروف. فقد ظهر أن الترتيب الواحد يكون موضوعا للتركيب والتحليل؛ ويكون ابتداء التركيب غير ابتداء التحليل، وكون المتقدم بحسب التحليل غير المتقدم بحسب التركيب، وذلك بحسب استعمالنا المقدمة؛ فهى وإن كانت متقدمة بالطبع، من حيث نفسها، فليست متقدمة بالطبع من حيث انتهاؤنا إليها بالتحليل. على أن النتيجة قد يجوز أن تكون من مقدمات أخرى، وعلى أنا فى اعتبار التقدم فى المرتبة لا نلتفت إلى حال الشىء فى نفسه ولا إلى حاله من جهة استعمالنا، بل إنما نلتفت إلى حال نسبْته إلى طرف ينتهى إليه. والمقدمات المنتظمة من الأوائل وما يجرى مجراها إلى النتيجة القصوى المقصودة منتظمة بين طرفين أحدهما النتيجة والآخر المبدأ الأول، فما هو أقرب من النتيجة فهو أبعد من المبدأ الأول، وما هو أقرب من المبدأ الأول فهو أبعد من النتيجة. وقد تختلف مقدمتان فى القرب من جانب والبعد من جانب لآخر، فيصير أحدهما أقرب منه والآخر أبعد ويكون حكمهما بالقياس الى الطرف الآخر مخالفاً، أو يكون أبعدهما من الطرف الأول أقربهما من هذا الطرف الآخر، وأقربهما من ذلك الطرف أبعدهما من هذا الطرف.(1/148)
وأما القسم الرابع من المتقدم وهو المتقدم بالشرف فهو كما يقال: إن أبا بكر متقدم على عمر.
وههنا قسم للمتقدم مشهور نذكره على وجهٍ ونحققه فى صناعة الفلسفة وذلك هو المتقدم بالعلية. فإن السبب متقدم على السبب، وإن كان لا يوجد أحدهما إلا وقد وجد الآخر، وليس أحدهما متقدماً بالطبع على الوجه المذكور من المتقدم بالطبع ههنا، وإن كان قد يقال المتقدم بالطبع على المتقدم بالعلية وبالذات. وهذا التقدم مثل وجود الإنسان فى نفسه وإحقاق قول القائل إنه موجود؛ فإنه كلما كان القول بأنه موجود صادقاً فهو موجود؛وكلما كان موجودا فالقول بذلك صادق. ولكن الناس لا يتحاشون أن يقولوا: إنه كان أولا موجوداً ثم كان القول بوجوده صادقاً؛ أو حتى كان القول بعد ذلك بأنه موجود صادقا ويتحاشون أن يقولوا إنه كان القول بوجوده صادقا أولاً ثم كان هو موجوداً أو حتى كان هو موجوداً. وكذلك الحركة التى لَيدِ زَيْد، إذا اختارها فحرك لا محالة ما يلاقيه وحرك القلم، فإن الناس يتصورون لقولهم زيد حرك يده أولاً فتحرك ما يلاقيه أة تحرك القلم معنى يمنعون صدقه فى قولهم إنه يحرك ما يلاقى يده أة يحرك القلم حتى حرك هو يده؛ فهذا المعنى هو التقدم العِلِّى؛ فإن العلة، وإن كانت من حيث هى ذات ومعلولها ذات لا تتقدم ولا تتأخر، ولا يكونان معاً، وكانت، من حيث هى علة، لزمها الإضافة، والآخر معلول لزمه الإضافة لا يتقدم أحدهما أيضا ولا يتأخر، بل هما معاً فإن الأول من حيث وجوده ليس عن الآخر ووجود الآخر عنه فهو متقدم بالنسبة إلى حال الوجود وتكون له النسبة إلى الوجود غير متوسط فيها وجود الآخر، والآخر لانسبة له إلى الوجود إلا ومتوسط فيها وجود الأول. وستجد هذا المعنى كالحاصل فى سائر أنحاء التقدم لكل بحسبه.
وإذ قد وُقِف على التقدم والتأخر فقد سهل الوقوف على معرفة " معاً " ؛ فإن كل أمرين لا يتقدم أحدهما على الآخر ولا يتأخر فهما معاً. فيقال معاً فى الزمان لما لا يتقدم أحدهما فيه ولا يتأخر؛ ويقال معاً فى الطبع للأمر الذى لا تقدم ولا تأخر فيه بالطبع، فهما إما متلازمان فى تكافؤ الوجود كالأخ للأخ ، وإما متنافيان فيه فلا يلزم أحدهما الآخر كالأنواع تحت جنس واحد؛ ليس لأنهما معاً فى الطبع فقط، بل لأنهما معاً فى المرتبة أيضاً وفى النسبة إلى مبدأ ما. فإن هذه من حيث النسبة إلى طبيعة الجنس متأخرة بالطبع من الجنس، ومن جهة إضافتها إلى الجنس، على أن الجنس مبدأ مفروض هى متأخرة عنه بالمرتبة، ومن حيث أن طبائعها لا تقدم فيها ولا تأخر فى الطبع فهى معاً فى الطبع؛ إذ كل واحد منهما بالقياس إلى الآخر توجد حالة مخالفةَ للحال الذى لطبعه عند طبع الجنس ولطبع الجنس عند طبعه الذى قد كان يتأخر به أحدهما بالطبع ويتقدم الآخر، فيكونا لذلك معاً فى الطبع. وإذا نُسِبَتْ إلى حال تأخر عن الجنس بالمرتبة وجدت معاً فى المرتبة نعم وهى مشتركة فى أن طبائعها متأخرة بالطبع عن طبيعة الجنس فإن جعلت معاً فى هذه الشركة لم تكن معاً فى الطبع مطلقاً لكن معاً فى التأخر فى الطبع، وليس كونها معاً فى الطبع هو كونها معا فى التأخر، بل " المعا " فى الطبع هى الأشياء التى لا تتقدم بالطبع ولا تتأخرمن حيث هى لا متقدمة ولا متأخرة فى ذواتها، لا من حيث هى كذلك من جهة نسبة إلى معنى آخر. فيجب أن تكون معية الأنواع بالوجه الذى يخالف تقدم الأجناس عليها وتأخرها عنها إنما هو باعتبار حال التلازم واللاتلازم، فإن المتأخر يوجد له أنه يلزم وأنه لا يلزم، والمتقدم لا يوجد له أنه يلزم ولا يلزم، والمتكافىء فى الوجود إما أن يكون كلُّ يلزم كالمتجاوزين وإما أن يكون كل لا يلزم. وفى الحالين يكون " معا ً " كالمتباينين فإنهما " معا ً " وهو الوجود، وفى الحالين يكون " معا ً " وهما متضايفان من وجهين، والأنواع تكون " معاً " من هذا الوجه معيةً فيما بينها بإزاء التقدم والتأخر الذى بينها وبين الجنس، وأما معيتها فى المرتبة فلأنها متساوية القرب والبعد من المبدأ الذى هو الجنس إذا كانت النسبة إليه. والأشياء التى هى " معاً " فى المرتبة أيضا فإما أن تكون فى مرتبة وضعية كالذين فى صف واحد فإنهم فى مرتبة وضعية، وإما فى مرتبة طبيعية كالأنواع تحت جنس واحد.(1/149)
ولك أن تعلم من هذا أيضاً حال معاً فى الشرف وأما " معاً " فى العلية فتحقيق الأمر فيه عسير.
وقد تذكر فى هذا الموضع، الحركة، فبقال: إن الحركة لها أنواع ستة، سواء كانت أنواعا فى الحقيقة إن كانت الحركة جنساً، أو كانت تشبه الأنواع، وهى فى أنفسها معان مختلفة، تقال عليها الحركة بالتشكيك أو الاتفاق على ما نحققه لك فى العلم الطبيعى. وهذه الأنواع ليست على قياس الأنواع القسيمة تحت جنس واحد، بل على قياس أنواع تختلف مرتبتها، فبعضها ملاصق، وبعضها متأخر؛ والسبب فى ذلك أن بعض الأنواع القريبة لم يوجد لها اسم عام، فترك وأخذ نوعاه المسميان مكانه، إذ ليس هذا مكان تحقيق القول فى ذلك، بل مكانه العلم الطبيعى.
فالأشياء الستة: التكْن وهو حركة إلى كون جوهر، مثل تكوْن الجنين؛ وفساد هو حركة إلى فساد جوهر، وهو مثل موت الحيوان. وهذان يعمهما أمر لا اسم له يتحقق فى العلوم، ويعلم هناك أيضاً أنهما ليستا بحركتين عند التحقيق. والثالث النمو، مثل نشوء الصبى وتزيد الشجرة. والرابع الذبول، مثل اضمحلال الهرم فى أعضائه وهما أيضاً تحت معنى حركة من كَّم إلى كَّم ونوعاه. والخامس الاستحالة، وهو التغير من كيف إلى كيف، وهو بالحقيقة ثالث، فإن الأول من هذه، تغير من جوهر إلى جوهر، وهو كون لما إليه، وفساد لما عنه؛ والثانى، هو تغير من كم إلى كم إما من نقصان إلى زيادة، أو من زيادة إلى نقصان، فيبقى الذى فى الكيف ثالثا. والسادس من المذكورة وهو من النقلة، وهو تغير من مكان إلى مكان، وهو بالحقيقة رابع ، وهذه الأربعة متباينة تبايناً ظاهراً، وربما أشكل أمر الاستحالة، إذا كانت الاستحالة تكون فى الأكثر مقارنة لحركة يظن أنها نقلة أو غير ذلك، ولكن الشىء قد يتغير لونه أو مزاجه، ولا يكون قد تحرك فى مكان، ولا نما، ولا ذبل، ولا كان، ولا فسد؛ وكذلك الشىء قد يتحرك فى المكان وكيفيته بحاله، والمربع يضاف إليه القلم فينمو، وتكون الصورة محفوظة فى الكل من حيث التربيع لم تتغير، وإن كان هذا ليس هو النمو الحقيقى لكنه مثال النمو الحقيقى. ويشبه أن يكون ههنا حركة أخرى، وهى الحركة فى الوضع، مثل حركة الفلك على نفسه مستبدلاً لوضعه دون أينه، فربما لم يكن له أين فتغير أينه، وإن كان له أين وتحرك فيه على نفسه فلم يتبدل عليه بحركته؛ ولهذا موضع آخر.
ثم الحركة على الإطلاق، يضادها السكون على الإطلاق، فى ظاهر الأمر وعلى النحو المستعمل فى هذا الكتاب، ولا يوجد لها مضاد غير السكون. فالحركة مطلقاً فى المكان، لا يخفى الامر فى أنها يضادها السكون فى المكان وفى الكمية والكيفية والحركات الجزئية من كل باب مما ذكر، يضادها حركات مقابلة لها جزئية أيضا، فلكون الفساد، وللنمو الذبول، لكن الاستحالة قد أخذت منوعة، فيعسر إصابة الضد لها من حيث هى استحالة، لا استحالة ولا سكون فى ظاهر الأمر إذ كان السكون فى الكيف غير متصور فى ظاهر الأمر؛ وكذلك كان يكون الحال فى الكون والفساد لو لم يذكرا منوعين، والظاهر يوجب أن لا يصاب للاستحالة ضد، إلا أن يقترن بالظاهر تأمل ومقايسة بالحركة المكانية، فيكون ضد الحركة المطلقة فى الكيف، السكون فى الكيف، مضادة جنسية، كما للنقلة السكون فى المكان، أو يكون لجزئيات الحركات فى الكيف أضداد جزئية، فيكون كما أن الحركة من أسفل إلى فوق مضادة للحركة من فوق إلى أسفل، كذلك الحركة من السواد إلى البياض مضادة للحركة من البياض إلى السواد، أعنى أن الابيضاض ضد للاسوداد، وهما نوعا الاستحالة. فلنصطلح الآن على أن الحركة على الإطلاق يضادها السكون على الإطلاق، وأن النوعيات الأربع القريبة منه يضادها السكون فى ذلك المعنى من الجوهر أو الكيف أو الكم أو الأين.
وأما المتضادات الجزئية المنوعة جداً فتضاد الحركات منها حركات، وأما أنه هل جميع ما ذكر حركات، وأنه ليس غيرها حركات، وأنه كيف يقابل السكون الحركة وأى سكون لأى حركة، فأولى المواضح بتحقيقه هو العلم الطبيعى.
لكن ألفاظ المتقدم، والمتأخر، والمقابل، والمع، والحركة، كانت الفاظاً قد استعملت فى تعليم المقولات، وكانت قريبة من أن يكون فيها تعارف تخيل للمتعلم ما تعلمه فى ابتداء الأمر، فحسن تعقيب النظر بتفصيل مشهور لهذه الألفاظ.(1/150)
وأما النظر فى حال الاتفاق والتواطؤ، وما على موضوع، وغير ذلك فكان محتاجاً تقديمه على المقولات، إذ كان لا بد من استعمالها فى تعليم المقولات، ولم يكن فى المشهور لها معان معلومة أو متخيلة بوجه.
فليكفنا ما قلناه فى أمر فاطيغورياس، فإن الزيادة على ذلك فضل، ولا يبعد أن يكون القدر الذى أوردناه أيضاً فضلاً.
( آخر الفن الثانى من الجملة الأولى من المنطق ) 352 114 /العبارة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة الأولى
من الفن الثالث من الجملة الأولى في المنطق وهى عشرة فصول
الفصل الأول
(أ) فصل
في معرفة التناسب بين الأمور والتصورات
والألفاظ والكتابات وتعريف المفرد والمركب فيما يحتملها من ذلك
إن الإنسان قد أوتى قوة حسية ترتسم فيها صور الأمور الخارجية، وتتأدى عنها إلى النفس فترتسم فيها ارتساماً ثانياً ثابتاً، وإن غاب عن الحس. ثم ربما ارتسم بعد ذلك فى النفس أمور على نحو ما أداه الحس؛ فإما أن تكون هى المرتسمات فى الحس، ولكنها انقلبت عن هيئاتها المحسوسة إلى التجريد، أو تكون قد ارتسمت من جَنْبَةٍ أخرى لا حاجة فى المنطق إلى بيانها. فللأمور وجود فى الأعيان ووجودٌ فى النفس يكوّن آثاراً فى النفس. ولما كانت الطبيعة الإنسانية محتاجةً إلى المحاورة لاضطرارها إلى المشاركة والمجاورةُ، انبعثت إلى اختراع شىء يتوصلَّ به إلى ذلك، ولم يكن أخفَّ من أن يكون فعلا، ولم يكن أخفَّ من أن يكون بالتصويت، وخصوصاً والصوت لا يثبت ولا يستقر ولا يزدحم، فتكون فيه مع خفته فائدة وجود الإعلام به مع فائدة انمحائه، إذ كان مستغنياً عن الدلالة به زوال الحاجة عنه، أو كان يتصوَّر بدلالته بعده، فمالت الطبيعة إلى استعمال الصوت، وَوُفِّقتْ من عند الخالق بآلات تقطيع الحروف وتركيبها معاً ليُدَلَّ بها على ما فى النفس من أثر.
ثم وقع اضطرارٌ ثان إلى إعلام الغائبين من الموجودين فى الزمان أو من المستقبلين إعلاماً بتدوين ما عُلم، إما لينضاف إليه ما يُعلم فى المستقبل فتكمل المصلحة أو الحكمة الإنسانية بالتشارك فإن أكثر الصنائع إنما تمّت بتلاحق الأفكار فيها والاستنباطات من قوانينها واقتفاء المتأخر بالمتقدم وافتدائه به، أو لينتفع به الآتون من بعد. وإن لم يحتج إلى ما يضاف إليه فيكمل به، فاحتيج إلى ضرب آخر من الإعلام غير النطق، فاخترعت أشكال الكتابة، وكله بهداية إلهلية وإلهام إلهى، فما يخرج بالصوت يدل على ما فى النفس، وهى التى تُسمَّى آثاراً. والتى فى النفس تدل على الأمور وهى التى تسمى معانى، أى مقاصدَ للنفس. كما أن الآثار أيضاً بالقياس إلى الألفاظ معان. والكتابة تدل على اللفظ إذ يُحاذَى بها تركيبُ اللفظ؛ واختير ذلك للسهولة، وإن كان إلى إنشائها بحيث لا يُحاذَى بها اللفظ وأجزاؤه سبيل، لكن ذلك مما يصعب ويطول.
وسواء كان اللفظ أمراً ملهما وموحىّ به عُلَّمه من عند الله تعالى معلمٌ أول، أو كان الطبع قد انبعث فى تخصيص معنى بصوت هو أليق به، كما سُمِّيت القطا قطا بصوتها؛ أو كان قوم اجتمعوا فاصطلحوا اصطلاحاً، أو كان شىء من هذا قد سبق فاستحال يسيراً يسيراً إلى غيره من حيث لم يشعر به، أو كان بعض الألفاظ حصل على جهة والبعضُ الآخر على جهة أخرى، فإنها إنما تدل بالتواطؤ، أعنى أنه ليس يلزم أحداً من الناس أن يجعل لفظاً من الألفاظ موقوفاً على معنى من المعانى ولا طبيعة الناس تحملهم عليه، بل قد واطأ تاليهم أولهم على ذلك وسالمه عليه، بحيث لو توهمنا الأول اتفق له أن استعمل بدل ما استعمله لفظاً آخر موروثاً أو مخترعاً اخترعه اختراعاً ولقنّه الثانى، لكان حكم استعماله فيه كحكمه فى هذا، وحتى لو كان معلِّم أول علم الناس هذه الألفاظ؛ وإنما صارت إليه من عند الله تعالى وبوضعٍ منه أو على وجهٍ آخر، كيف شئتِ، لكان يجوز أن يكون الأمر فى الدلالة بها بخلاف ما صار إليه لو وضعه، وكان الغنَاء هذا الغناء.(1/151)
فالدلالة بالألفاظ إنما استمر بها التعارف بسبب تراضٍ من المتخاطبين غير ضرورى حتى إنه وإن فرضناه بحسب المعلِّم الأول ضرورياً من عند الله أو من جهة أخرى، فإِنه بحسب المشاركة اصطلاحى. فإن قبول الثانى من الأول إنما هو بأن قال له الأول: إن كذا يعنى به كذا، أو فعل فعلا يؤدى إلى مثل هذا التوقيف،وما أشبه ذلك، فواطأه عليه الثانى والثالث من غير أن كان يلزمهم أن يجعلوا ذلك اللفظ لذلك المعنى، وأن يجعلوا لفظاً بعينه لمعنى بعينه لزوما ضرورياً، بل كان يجوز أن يقع مثل ذلك التنبيه من المعلِّم الأول لهم على لفظ آخر، فلذلك جاز أن تكون دلالات الألفاظ مختلفة.
ومعنى دلالة اللفظ أن يكون إذا ارتسم فى الخيال مسموع اسم ارتسم فى النفس معنى. فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم؛ فكلما أورده الحس على النفس التفت إلى معناه.
وأما الكتابة فقد كان يمكن أن تكون لها أيضاً دلالة على الآثار بلا توسط الألفاظ حتى يجعل لكل أثر فى النفس كتابة معينة، مثلا للحركة كتابة وللسكون أخرى وللسماء أخرى وللأرض أخرى، وكذلك لكل شىء. لكنه لو أجرى الأمر على ذلك لكان الإنسان مَمْنُوَّا بأن يحفظ، الدلائل على ما فى النفس ألفاظاً ويحفظها نقوشاً. والأول يسهل له إما برياضة التربية وإما بتعلم شاق. فإذا ألزم مرة ثانية أن يحفظ كتابة بهذه الصفة كان كمن يُلزم تعلُّم لغة من رأس. فوجد الأخفَّ فى ذلك أن يقْصَد إلى الحروف الأولى القليلة العدد فيوضع لها أشكال، فيكون حفظها مغنياً عما سلف ذكره. فإنها إذا حفِظت حوُذِى بتأليفها رَقْماً تأليف الحروف لفظاً، فصارت الكتابة بهذا السبب دليلا على الألفاظ أولا. وذلك أيضاً دلالة على سبيل التراضى والتواطؤ؛ فلذلك اختلف.
وأما دلالة ما فى النفس على الأمور فدلالة طبيعية لا تختلف، لا الدال ولا المدلول عليه، كما فى الدلالة التى بين اللفظ والأثر النفسانى؛ فإن المدلول عليه، وإن كان غير مختلف، فإن الدال مختلف؛ ولا كما فى الدلالة التى بين اللفظ والكتابة، فإن الدال والمدلول عليه جميعاً قد يختلفان.
فأما أن النفس كيف تتصور صور الأمور، وكيف يحصل فيها ذلك، وما الذى يعرض للصور وهى فى النفس، وما الذى يعرض لها وهى من خارج، وما الفاعل الذى هو سبب إخراج قوة التصور إلى الفعل، فليس من هذه الصناعة، بل من علم آخر. وأيضاً فإن النظر فى أنه أى لفظ هو موضوع دالاً على معنى كذا، وأى كتابة هى موضوعة دالةً على معنى كذا وأثر كذا، فذلك لصناعة اللغويين والكُتَّاب، ولا يتكلم فيها المنطقى إلا بالعرض، بل الذى يجب على المنطقى أن يعرفه من حال اللفظ هو أن يعرف حاله من جهة الدلالة على المعانى المفردة والمؤلفة ليتوصل بذلك إلى حال المعانى أنفسها من حيث يتألف عنها شئ يفيد علماً بمجهول، فهذا هو من صناعة المنطقيين.
واعلم أن فى الألفاظ والآثار التى فى النفس ما هو مفرد وفيها ما هو مركب. والأمر فيهما متحاذٍ متطابق؛ فإنه كما أن المعقول المفرد ليس بحق ولا باطل، كذلك اللفظ المفرد ليس بصدق ولا كذب. وكما أن المعقول المفرد، إذا اقترن به فى الذهن معقول آخر وحُمل عليه، فاعتقد أنه ذاك أو ليس، كان الاعتقاد حقاً أو باطلا، فكذلك اللفظ المفرد، إذا اقترن به لفظ آخر وحُمل عليه، فقيل إنه كذا أو ليس كذا، كان صدقا أو كذبا. وقد يكون الصدق والكذب على نحو آخر من التأليف أيضا سنوضحه. فالأسماء والكلم فى الألفاظ نظير المعقولات المفردة التى لا تفصيل فيها ولا تركيب، فلا صدق فى أفرادها ولا كذب.(1/152)
واعلم أنه إذا كان شئ معدوما فى نفسه محالا فى وجوده، ولم يكن تصوره وحده أو التلفظ بلفظه وحده يدل على صدق أو كذب، مالم يقترن به أنه موجود أو غير موجود اقتراناً فى الذهن أو فى اللفظ، مثلا بأن يعتقد أن عنزايل موجود، أو يعتقد أنه غير موجود، ويقال إن عنزايل موجود ويقال إن عنزايل غير موجود، إما مطلقا بلا اشتراط زمان أو باشتراط زمان أنه كان موجودا فيه أو يكون موجودا فيه أو زمان حاضر. والذى يقال إن معنى المطلق المستعمل فى هذا الموضع هو المشترط فيه زمان حاضر أو المشترط فيه كل زمان حتى يكون معنى قولهم ((أو فى زمان)) أنه فى زمان ماض أو مستقبل، دون الذى فى زمان حاضر، فليس يعجبنى كل الإعجاب. وما أومأت إليه أقرب إلى الصواب. فلننظر الآن فى الاسم والكلمة.
الفصل الثاني
( ب) فصل
في تحقيق الاسم
فالاسم لفظة دالة بتواطؤ مجردة من الزمان وليس واحد من أجزائها دالاً على الانفراد. وقد علمت معنى التواطؤ. وأما معنى كونه مجرداً من الزمان فهو أن لا يدل على الزمان الذى لذلك المعنى من الأزمنة الثلاثة المحصلة؛ كما إذا قلت: زيد، فلم تدل على معنى قد دللت معه على زمان ذلك المعنى. ومعنى قولنا ((وليس ولا واحد من أجزائه دالاً على انفراده)) معناه أنا لا نقصد فى دلالتنا بقولنا (( الإنسان )) أن ندل بواحد من أجزائه على شئ ألبتة، من حيث هو منفرد، بل نستعمله على أنه جزء دال، لا دال بانفراده، فإنه لا يوجد فى قولنا ((الإنسان)) جزء يراد به الدلالة على معنى من المعانى أصلا، حين يراد أن ندل بقولنا ((الإنسان))، وإن كان ربما أريد به الدلالة إذا استعمل لا على أنه جزء لفظة إنسان، بل على أنه لفظ مستعمل فى نفسه لم يجعل جزءاً لما إنما يدل بجملته دلالة ما، وربما لم توجد له دلالة ألبتة بوجه من الوجوه وحيث توجد له دلالة فلا يكون ذلك من حيث هو جزء قولنا ((إنسان))؛ فإنه إنما يكون جزء إنسان إذا استعمل فى لفظة الإنسان من حيث يراد أَن يدل بالإنسان جملته؛ فهنالك لا توجد له دلالة أَلبتة بوجه من الوجوه. وقد كنا أَومأنا إلى هذا فى مواضع أَخرى.
وليس هذا فى مثل لفظة الإنسان فقط، بل فى الألفاظ التى هى بحسب المسموع مركبة، لكنها لا يُدل بها على أنها مركبة، فهذا شأنها، كقولهم ((عبد الملك)) إذا لم يرد أَن يُدل به على شئ من جهة ما هو عبد الملك، بل جُعل هذا اسماً لذاته؛ فهنالك لا يوجد للفظة ((عبد)) من حيث هو جزء من ((عبد الملك)) دلالة على شئ أَلبتة، فإنك تعلم أَن الدال بلفظة ((عبدالملك)) على هذا النحو ليس يدل بالعبد فى هذا الموضع بانفراده على شئ أَصلا، ولا بالملك. فهكذا يجب أَن تفهم هذا الموضع.
وأَما الأسماء البسيطة فقد يكون لها أَجزاء لا تدل أَصلا، لا من حيث هى جزء، ولا لو انفردت. وأَما جزء اللفظ المركب، فإِنه يدل على شئ لا حين ما يوجد جزءا من جملة المركَّب مدلولاً بالمركب على ما دل به عليه كقولك ((عبد الملك)) فإِنه حينئذ لا يتوقع أَن يدل بانفراده، من حيث هو جزء لفظ، حتى يكون إنما يورد ليلتئم به كمال اللفظ فيلتئم كمال الدلالة، بل هذا فى استعمال آخر. وإلحاق التواطؤ بعد قولنا ((لفظة)) قد تُوهم أَنه هذر من القول، فقد يظن أَن اللفظ لا يدل إلا أَن يكون بالتواطؤ وكذلك قيل إنه كان يجب: أَن يقال بدل اللفظ الصوت، فأقول إِن هذا باطل فإنه لا يحسن أن يستعمل فى هذا الموضع الصوت فإن الصوت مادة لا جنس والمادة لا تُحمل على الشئ المعمول من مادة وصورة إلا بنوع من المجاز أَو الجهل، إذ يقال للصنم إِنه حجر والكرسى إنه خشب، وأَما الحدود الحقيقية فلا يجب أَن تستعمل فيها المواد مكان الأجناس. أَما الفرق بين الجنس والمادة فمما تشتبه الحال فيه وتشكل، ولكنه سيتبين لك ذلك فى هذه الصناعة من بعد، وكذلك تحقيق ما قلناه من أَن المادة لا يجب أَن تؤخذ مكان الجنس، بل يكون ذلك كاذباً. وأَما أَن الصوت مادة فتتحقَّقُه فى العلم الطبيعى.(1/153)
بل أعود إلى الغرض فأقول: إن اللفظ قد يكون دالاً وقد يكون غير دالّ، كما قد اعترفوا به، وذلك على وجهين: أحدهما أن يكون مؤلفا من حروف ثم لا يراد بذلك دلالة على أثر فى النفس كقول القائا ((شنقنقتين))، والثانى أن يراد بذلك دلالة على أثر فى النفس، لكن ذلك الأثر لا يستند إلى خارج كقولنا ((العنقاء)). فكون اللفظ غير دالّ ليس يُخرجه عن أن يكون لفظا. فكذلك كونه دالاً، ولكن لا بالتواطؤ بل على نوع آخر، فإنه قد يُسمع من الناس ألفاظ فتدل على معان على غير سبيل التواطؤ، كمن يقول ((أخ)) فيدلّ على الوجه ويقول ((أح أح)) عند السعال فيدلّ على أذى فى الصدر، فليس ذلك على سبيل التواطؤ المحض، حتى يكون الناس قد تواطؤوا على استعمال ذلك عند السعال مستعملين إياه لفهم معنى أذى الصدر. وهذه، وإن كانت أصواتا، فهى أيضا ألفاظ، لأنها مركَّبات من حروف يركِّبها الإنسان، وأنها، وإن كانت تدلّ، لا بالتواطؤ، فليس يجب أن تكون دلالتها لا بالتواطؤ تسلبها من كونها ألفاظا شيئاً؛ فإنها ولو لم تدلّ أصلا، كانت ألفاظا؛ لأنها مؤلفة تأليفا اختياريا عن حروف،وليس دلالتها، من حيث فيها صوت، مانعا عن أن يكون لفظاً. فإن الشئ إنما هو لفظ لأنه مؤلَّف من حروف مقطعة عن أصوات؛ وكونها كذلك ليس يوجب أن تكون مع ذلك دالّة أو غير دالّة فضلا عن أن يوجب أن تكون غير دالة دلالة بالطبع؛ فإن جزءا منها كالمادة وهو الصوت يلحقه بعض ما يلحق الصوت، لأنه صوت، فلا يؤثر ذلك فى الجملة كما لايؤثر كونها دالة على المصوت، فإذن هذا الاعتراض غير صحيح وادخال التواطؤ فيه واجب. فإن الدالّ أعم من الدالّ بالتواطؤ والدالّ على وجه آخر، اللهم إلا أن يجعل الدالّ يقع عليهما باشتراك فيكون واقعا على دلالة الاسم وعلى دلالة نغمة الطائر وصياح البهيمة أيضا باشتراك الاسم. فإن كان كونه دالاّ إنما يقع على ذلك كله بالاشتراك، وكان ذلك يُغنى عن تمُّحل الفصل بين دلالة ودلالة، فإن الفصول فى الحدود والرسوم إنما تُطلب بحسب المعانى، لا بحسب الألفاظ. والحال قائمة عندما يُجعل بدل اللفظ الصوتُ، وإن لم يكن ذلك مغنيا، فإنا نُحْوَج إلى إيراد الفصل بين الدلالتين، إذ كنا لما أخذنا اللفظ وكان يكون دالاّ وغير دالّ، وقرنّا به الدالّ، لم نقرن دالاَّ إحدى الدلالتين بعينها، بل قرنا دالاًّ عاما كما فعلنا حين أخذنا الصوت، فنحتاج أن ندل على إحدى الخاصيتين. فإن قيل: إنه إذا قيل ((لفظ دال)) عُلِم أنه ليس يُعنى بالدالّ إلا ما اصطلح عليه الناس، فنقول: وكذلك الحال إذا قيل صوت دال وأردف بأنه يدل على زمان أو لا يدل وسائر ذلك؛ فإِن الذهن نفسه يسبق إليه أن المراد به هاهنا إنما هو أنه دال بالتواطؤ، وكما يسبق إليه هناك، ولا يُعْنى ذلك فى الموضعين جميعا عن ذكر التواطؤ؛ إذ ليس ولا فى أحد الموضعين مستفادا من نفس كونه لفظا أو صوتا ولا من نفس كونه دالاً مطلقا أو على زمان، بل هو شىء يعرفه الذهن على سبيل الانتقال وينتبه له من خارج لا على سبيل دلالة اللفظ. وقد عرفت الفرق بين الدلالتين. فإن ظنَّ ظان أن المُحْوِجَ إلى إيراد التواطؤ لم يكن إلا مراعاة الفرق بين الألفاظ وأصوات البهائم، وإذا قيل ((لفظ)) خرج ما كان يشكك ويشتبه، فذلك حسنُ ظن بالأمر وخديعةُ للنفس؛ وما الذى أمن هذا الظان أن الحاجة قد قُضِيَت، فعسى أن يكون قد بقى بعد ذلك أيضا اشتباه وتشكُّكٌ آخر من جنس ما أوردناه مُحْوِجٌ إلى مراعاته ؟ وبالجملة لا يجب أن يُلتفت فى الحدود إلى ما يشتمل عليه اللفظ فى التحديد اقتصارا على ما يتنبه له الذهن؛ فإن هذا لو كان ملتفَتاً إليه لقيل فى حد الإنسان إنه حيوان ضحاك واقتُصِر عليه واستُحْسِن، إذ كان الذهن يلتفت إلى أنه يكون ناطقا، أو قيل إنه جسم ناطق، فإِن الذهن يلتفت إلى أنه حيوان ولا يجب أن يكون الالتفاتُ فى الحدود موجَّهاً إلى التمييز نفسه فقط، بل إلى ما ستعلمه فى موضعه.(1/154)
فقد بان لإدخال التواطؤ هاهنا معنى، وإن كان المأخوذ فى الحدِّ لفظاً لا صوتاً؛ فإِنه ليس شىءٌ من الأسماء اسماً بالطبع؛ أى ليس شىء منها دالاًّ دلالة الاسم، بحيث تكون تلك الدلالة تصدر عنها بالطبع منها أو من الدالِّين بها. فلا تلك الدلالةُ أمرٌ طبيعى يلزم الاسمَ، ولا الطبعُ منا ينبعث إلى الدلالة على المعنى به فى كثير من الأصوات الدالة بالطبع التى تنبعث الطبائع إلى استعمالها فى ذلك الشأن، سواء كانت دلالة بقصد المصوِّت أن يقع بها شعور بشأن، كما تفعله البهائم عند دعاء بعضها بعضه أو يكون بغير قصد منه لذلك، لكن سامعَه يستدل به على أمر، كالتنحنح واستغاثة العصفور عند القبض عليه.
فالاسم ليس اسما فى طبع نفسه، بل إنما يصير اسما إذا جعل اسما؛ وذلك عندما يُراد به الدلالة فيصير دالاَّ. وذلك جَعَله اسما، أى جَعَله دالاَّ على صفة، لكن لقائل أن يقول: إنك جعلتَ حدَّ الاسم ((أنه ولا جزء منه يدل))، وهاهنا أسماء كقولك ((لا إنسان)) ((ولا بصير))، ولا شك فى أنها أسماء، وكيف وهى تدل دلالة الأسماء ! وكيف وقولنا ((لا بصير)) يقوم مقام قولنا ((الأعمى)) ثم تجد لفظة ((اللا)) ولفظة ((الإنسان)). ولفظة اللا ولفظةُ البصير يدلان على معنى ويتألف من معنيهما معنى الكل ! فنقول إنها بالحقيقة ليست أسماء، ولم يوضع لها، من حيث هى كذلك، اسم يدل عليها، بل هى من جملة الألفاظ المؤلفة التى فى قوة المفردة كالحدود، وكما يقال: راعى الشاة ورامى الحجارة، وإن لم تكن كذلك على الإطلاق. أقول لأن تركيبها ليس عن ألفاظ مفردة مستقلة بنفسها مثل اللا إنسان، فإنه مركب من اسم ومن أداة سلب؛ ومطابقتها للأسماء لا تدل على أنها أسماء بالحقيقة، فإن الحد والرسم كذلك شأنهما. ومع ذلك فلا يجب أن تغتر بدخول حرف السلب فيها، فتظن أن فيها سلبا؛ كلا، بل ليس فيها إيجاب ولا سلب؛ بل تصلح أن توجب وأن تسلب وأن توضع للإيجاب وللسلب. فإذ كانت قريبة المجانسة للأسماء فْلتُسمَّ أسماء غير محصلة؛ ويكون حكمُها كحكم المحمول فى قولنا: زيد فى الدار، فإن زيدا موضوع ((وفى الدار)) محمول، وليس هو بالحقيقة باسم، بل هو مؤلف لكن تأليفه ليس مثل القول المطلق الذى يكون مؤلفا عن اسمين أو عن اسم وكلمة، لأنه مؤلف من أداة ومن اسم، وليس اسما ولا أيضا قولا مطلقاً. فهكذا يجب أن تفهم هذا الموضع ولا تلتفت إلى التأويلات التى يتعاطونها.(1/155)
وكذلك حال الأسماء التى تسمى مُصَرَّفة فإنها قد اقترن بالاسم منها شىءٌ زائد على الإسمية مشيرٌ إلى معنى غير ما يشير إليه مجرد الاسم، وذلك حركة من الحركات وإعراب من الأعاريب حتى يُسْمَعَ هناك مجموعٌ حاصلٌ من جزئين أحدهما الاسم والآخر ما يلحقه مما هو جزء من المسموع، فيوجد هناك جزء يدل على معنى وأخر إما أن يدل على معنى مطلق وإما أن يدلّ دلالة ما وبالجملة يوجب حُكماً لولاه لم يكن؛ ولذلك ما صار ممنوعاً عن اقتران بعض ما كان يقترن به من الأسماء، فلو كان المعنى لم يتغير ما تغير حكم جواز ما يقارنه ولم يتغير معنى الاسم فى نفسه، بل إنما انضمت إليه زيادة، سواء كان الجزء كبيراً أو كان مَقْطعاً أو حركة، فإن جميع ذلك أجزاء من المسموع، وسواء كان المعنى معنى طويلاً أو إشارة. وبالجملة إذا صار الاسم بما لحقه من الزيادة ممنوعاً عن أن يلحق به ما من شأنه أن يلحق به، فقد زيد على معنى الاسم المجرد شىءٌ صار به بحال أخص من حاله وهو اسم مطلق، كما إذا شُغِل الموضوع ببعض الأعراض، فحينئذ يكون للجملة معنى غير الذى يكون للموضوع وحده، وذلك الموضوع وذلك العرض كل منهما يصير جزءاً من المجموع، فالاسم الذى يُنصبَ أو يُجرَ أو يُغيَّر تغيُّرا يمنعه عن مقارنة كل واحد مما من شأنه أن يقارنه لا يكون بالحقيقة اسماً مجرداً، بل اسماً وقد صُرف بجزء من المسموع قُرن به. وكما أن حدَّ الموضوع للبياض، وليكن إنساناً ما، هو حدٌ واحدٌ كان أبيض أو لم يكن، فإن حدّ الإنسان الذى لحقه البياض فى نفسه هو بالحد الذى يكون له، وإن لم يلحقه البياض، إلا أن يُحَدّ من حيث هو أبيض، فكذلك حدُّ الاسم الذى هو على فطرته وحدُّ الاسم الذى لحقه التصريف واحد، من حيث هو اسم إلا أن يُحدَ من حيث هو مصَّرف، فحينئذ يلحق بحدِّ الاسم زيادةٌ، أما بحسب اللغة العربية فهو أنه لا يصلح أن يقترن به كل ما من شأنه أن يقترن بالأسماء؛ فإن قولك. زيدٌ بالرفع لا يلحقه ((فى))، وقولك ((زيداً)) لا يلحقه ((ضرب)) أو ((كان)) أو ((حيوان)) وكذلك ((زيد)) بالجرِّ. وأما بحسب اللغة اليونانية، فإِن الاسم المصرَّف هو الذى إِذا ألحق به الكلمات الزمانية كمقولك (( كان )) و (( يكون )) (( وكائن الآن )) لم يصدق ولم يكذب. والاسم الغير المصرَّف هو الذى إِذا قرن به أحد هذه صدق أو كذب. ثم كما أن الخشب المدَّور خشب قُرِن به التدوير، فهو خشب فيه عرَض هو التدوير، وهو فى نفسه خشب بلا زيادة، لكن ليس المجموع خشباً مطلقاً، أعنى كالصنم المتخذ من خشب ومثالٍ، فإن الخشب مادته ولا تُحمل عليه، فإن الجملة لا يُحمل عليها أحدُ الجزئين، فكذلك إذا أُخِذ جملة الاسم وما لحقه من التصريف كان فى أحكام المركبات ولم يكن اسماً، ولكن إذا نظر إليه من حيث هو فى التصريف، كان اسماً مصرَّفاً، وإذا نُظر إليه مطلقاً كان اسماً مطلقاً. والفرق بين النظر فيه وهو اسم مصرفٌ والنظر إلى الجملة كالفرق بين النظر فى الجذع أنه فى السقف والنظر إلى جملة الجذع والسقف وكذلك لك أن تقول إن الاسم المصَّف لفظ دال لا يدل جزؤه، وقد لحقه كذا وكذا، ولا تقول إن الجملة الحاصلة من الاسم والتصريف لفظ دالّ لا يدل جزؤه، وكيف والاسم أحد الجزئين، وهو يدلَّ.
وهذا قانون دقيق يجب أن يحفظ لمواضع أخرى. وكثيراً ما يقع من جهة المقارنة نوعٌ من الغلط إذا لم يعلم أن الشىء مأخوذ مقارناً لشىء غير الجملة التى تحصل منه ومما يقارنه وكذلك الوحدة التى مع الستة، من حيث هى مع الستة، غير المجتمع منها ومن الستة التى هىالسبعة ولكن على حدِّ الاسم شكوكا؛ وذلك لأن الزمان اسم ويدل على الزمان، والمتقدِّم اسم ويدل على شىء فى زمان ماض، وكذلك أمس، وكذلك التقدم اسمٌ ويدلّ على أنه حاصل فى زمان ماض، فنقول الآن فى حل هذه الشكوك: أن الشىء يدل على المعنى وعلى الزمان بوجوه ثلاثة أحدها أن يكون الزمان نفسَ المعنى، والثانى أن يكون الزمانُ جزءً حدِّ المعنى المدلول عليه وإن لم يكن نفسَه، والثالث أن يكون الزمان شيئاً خارجاً عن المعنى يلحقه فيقترن به اقترانا يدل عليه التصريف.(1/156)
ومعنى التجريد من الزمان هو أن يبرأ المدلول عليه من زمان يلحقه، فإن التجريد من البياض هو التبرئة عن بياض لاحق، أعنى أن التجريد هو تبرئة عن شىء لو لم يبرأ عنه لكان لاحقاً من خارج. وإذا قيل جُرِّد فلان عن الثوب، عنى به أنه أبين بينه وبين الثوب الذى لو لم يَبِنلكان ذلك الثوب لا حقا له، لا ذاته ولا جزء حدِّ له؛ فإن الشىء لا يقال إنه تجرد عن ذاته أو عن جزء حدِّ له؛ فإن من قال إن الإنسان قد يتجرد عن الإنسانية قال شططاً إلا أن يعنى أن مادة الإنسانية قد جُرِّدت عن الإنسانية. فحينئذ الإنسانية تكون أمراً خارجاً عنها أيضاً وكذلك إن قال إن الإنسان تجرد عن الحيوانية كان محالا، إلا أَن يعنى الوجه المذكور.
فمعنى قولهم " مجرّد عن الزمان " هو أَن لا يدل معه على زمان يلحقه من الأزمنة كان لحوقه به صدقاً أَو كذبا. فلفظ الزمان يدل على معنى هو الزمان ومجرداً عن زمان تدل اللفظة على أَنه كان فيه الزمان ولفظ المتقدم يدل على معنى يوجد فى حده الزمان لكنه مجرد الدلالة عن الزمان اللاحق إياه من خارج حتى إذا قيل تقدم دل حينئذ على متقدم فى زمان لحقه وتعين له وسواء كان هذا حقاً أَو كذباً؛ فإِن العبرة لدلالة اللفظ من حيث هى دلالة لفظ لا من حيث هى صدق أَو كذب. وكذلك أَمس هو نفسه زمان ما وكذلك ما يجرى مجراه. وإذا شئت أَن تعلم أَن التجريد إنما يقصد به أَن يدل على معنى ولا تقترن به الدلالة على الزمان الملحق به فتأمل حد الكلمة.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في الكلمة
وأما الكلمة فإنها تدل مع ما تدل عليه على زمان، وليس واحد من أجزائها يدل على انفراده وهو أبداً دليل على ما يقال على غيره. فتكون الكلمة لفظة دالة بتواطؤ يدل مع ما تدل عليه على زمان وسائر ما قيل. فتأمل أن الكلمة جعلت دلالتها على شىء وعلى زمان مقترن به معه ليس هو هو ولا جزء منه. وإذ كان مالا يدل بالتجريد هكذا صورته، فما يدل بالتجريد صورته ماذكرناه. وفسر هذا فى التعليم الأول، فقيل: إن معنى هذا هو أن قولنا صح يفارق قولنا صحة، بأن الصحة تدل على معنى ولا تدل على زمان مقترن به، وأما صح فيدل على صحة موجودة فى زمان. والكلمة هى ما يسميها أصحاب النظر فى لغة العرب فعلا، وقد كانت الكلمة فى الوضع الأول عند اليونانيين إنما تدل من الزمان على الزمان الحاضر، ثم إذا أريد أن يدل بهذا على الزمان الماضى أو المستقبل قرن بها زيادة مع حفظ الأصل. وأما العرب فلم تجر لهم العادة بإفراد كلمة للحاضر، فإن شكل الكلمة التى للمستقبل هو بعينه شكل الكلمة التى للحاضر، فيقال: إن زيدا يمشى أى فى الحال ويمشى أى فى الاستقبال، فإِذا حاولوا زيادة البيان قالوا: إن زيدا هو ذا يمشى فاقتضى الحال، أو قالوا سيمشى أو سوف يمشى فاقتضى الاستقبال، ويكون ذلك بإلحاق يلحق به.
وربما استعاروا له من الماضى فقالوا: إن زيدا صح كما يكون قد أتاه البرء، ويقال: صح أيضاً لما هو فيما سلف لكن موضوع صح للماضى وموضوع يمشى للاستقبال. وليس للحال شكل خاص، وأما أنه ماش وأنه صحيح فليس كلمة، بل اسماً مشتقاً. فها هنا اسم موضوع واسم مشتق وكلمة، فالاسم الموضوع يدل على ما قيل ولا يدل على موضوع ألبتة، وأما الاسم المشتق فيدل على موضوع غير معين وجد له أمر مشتق له منه الاسم، فيكون دالا على معنى وأمر وعلى موضوع له غير معين وعلى نسبة بينهما.
مثال ذلك قولك: ماش، فإنه يدل على المشى وعلى موضوع غير معين وعلى أن المشى له. وأما الكلمة فتدل مع ذلك على زمان، وهو زمان النسبة، كقولك: يمشى، فإنه يدل على المشى، وعلى موضوع غير معين، وعلى وجود المشى له، وعلى كون ذلك فى المستقبل. وليس كل ما يسمى فى اللغة العربية فعلا هو كلمة، فإن قولهم: أمشى ويمشى فعل عندهم، وليس كلمة مطلقة؛ وذلك لأن الهمزة دلت على موضوع خاص، وكذلك التاء. فصار قولك: أمشى أو مشيت صدقا أو كذبا، وكذلك يمشى ومشيت. وكأن ذلك فى حكم قولك أنا أمشى، وأنت تمشى وأنا مشيت، ومفهومها مفهوم واحد.(1/157)
وهذا بالحقيقة موضع نظر، فإن هذه اللفظة لا تخلو إما أن تكون مفردة أو مركبة، فإن كانت مفردة فلا ينبغى أن تكون صادقة، أو كاذبة فقد جزمنا القول على أن الألفاظ المفردة لا صدق فيها ولا كذب، وإن كانت مركبة فيجب أن يكون لها أَجزاء دوال. فهب أَن الهمزة من قولنا أَمشى دلت على معنى والتاء من تمشى دلت على معنى، فالباقى جزء وليس يدل على معنى. وجه من الوجوه؛ فإِن اللفظة المركبة من ميم ساكنة مبتدأَ بها، ثم شين، ثم ياء، إما أَن لا يكون لفظا بنفسه البتة إن كان حقاً ما يقال من أَن الساكن لا يبتدأَ به أو يكون لفظاً لا يدل على معنى من المعانى إن أَمكن أَن يبتدأَ به، كما قد يجوز الابتداء بالساكن فى لغات كثيرة. ولا يبعد أَن يظن أَنه إن كان أَمشى مركبا أَو فى حكم المركب فسيكون يمشى أيضاً الذى لا صدق فيه ولا كذب، مركبا، فإن الياء تدل على غائب وليس التعيين بشرط فى أَن يكون الدال دالا، فإنك إذا قلت إِنسان دللت وإِن لم تعين ولا فرق بين قولك يمشى وبين قولك شىء ما يمشى فستكون الكلمات المستقبلة كلها مركبات، ولا تكون أَلفاظاً بسيطة. وكذلك لقائل أَن يقول: إِن الأسماء المشتقة أَيضاً مركبة أَو فى حكم المركبة، فإنها محصلة من مادة هى حروف المشى، ومن صور قرنت بها فصارت دالة به على موضوع غير معين. فلها جزءان: جزء يدل على معني وهو المادة، وجزء يدل على آخر وهو الصورة.(1/158)
فالذى يجب أن نقول فى ذلك كله أولا فإنه لا اعتبار فى صناعة المنطق بما يكون بحسب لغة لغة ووضع وضع، فربما يتفق في لغة من اللغات أن يجعل للمعنى المؤلف لفظ مفرد لا يدل جزء من معناه فيكون اللفظ مفردا 0 ثم تكون لغة أخرى لم يوضع فيها لذلك المعنى المؤلف اسم مفرد ولايدل عليه إلا بلفظ مركب، فإذا ترجم معنى اللفظ إالى اللغة الأخرى لم يوجد لفظه إلا مركبا، وذلك مثل الجاهل فإنه لفظ مفرد لايدل عليه بالفارسية بلفظ مفرد، بل لفظ فيه تركيب من لفظين: أحدهما يدل على العدم، والآخر على العلم أو العالم 0 فيقال ((نادان)) فلا يجب أن يلتفت المنطقى في ذللك وما أشبهه ألى لغة معينة، بل يعلم أن لهذا المعنى أن يدل عليه بلفظ مفرد 0 فكذلك حال الكلمات في لغة العرب، فإن الماضى من الكلمات في العربية وغيرها لم يدل جزء منه على موضوع البتة كقولهم: صح، وقولهم: مشى، وكذلك المستقبل في لعة الفرس كما يقال ((بكنذ)) فإنه ليس فيه دلالة بجزء منه على الموضوع الغير معين ألبتة وفى بعض المواضع، فإن لغة الفرس لا تستعمل كلمة مفردة بل يقولون مثلا حيث نقول يصح درست شود كما إذا ترجم كان مطابقا لقولنا ((يصير صحيحا))، فيأخذون الاسم ويقرنون به كلمة زمانية ويجعلون جملته قائما مقام الكلمة. فلو كان جميع لغة الفرس علة هذه الصفة اضطر المترجمون لا محال إلى الدلالة على الكلمة المستقبلة بلفظ مؤلف فكان قد يسبق إلى بعض الأوهام أن الكلمة المستقبلة مؤلفة وليست كلمة مستقبلة مفردة كما كان قد يسبق إليه فى مثله أن الجاهل ليس له اسم مفرد. وإذا لم يكن النظر المنطقى بحسب لغة لغة حتى إنه إذا لك يكن فى لغة من اللغات كلمة تدل على الحاضر ضر المنطقين ذلك فى الدلالة على أقسام الكلمات الثلاث فكذلك لا يضر المنطقيين تعارف أهل اللغة فى أَن لا يكون لها كلمة، بل يكون لها بدل الكلمة اسم مقرون بلفظ آخر يدل على ما تدل عليه الكلمة، بل يجب أن يعتبر منطقى ما يوجبه الحد، وهو ممكن أن يقع فى اللغة. فإنه لا محالة من الممكن أن يكون لفظ دال بتواطؤ على معنى وزمانه وهو مفرد، فذلك هو الكلمة، فإن لم يكن فى لغة العرب فلا حرج. وأما حديث الهيئة التى اقترنت بمادة حروف المشى فى مشى أو فى ماش فكان جزءا من الجملة يدل على موضوع، فلا يجب أن يلتفت إلى مثل هذا الجزء، فإنه إِنما يعنى بالجزء ها هنا جزء من جملة أجزاء تترتب فتلتئم منها الجملة فهى أجزاء المسموع ألفاظا أو مقاطع أو حروفا مصوتة أو غير مصوتة. وبعد ذلك، فإن ما ادعوه من وجود الصدق فى قولنا ((يمشي)) وأنه فى قوة قولنا إِن شيئا مّا يمشى فهو غلط؛ وذلك لأن قولنا ((يمشى)) وإن كان فيه تركيب بحسب لغة العرب، وكانت الياء منه تدل على موضوع غير معين فليس معنى قولنا موضوع غير معين أنه يدل على أى واحد اتفق من أمور هى تحت كلى من الكليات على الوجه الذى ذكر فى تمثيل الإنسان بل يعنى به أن الياء تدل على أن له موضوعا متعينا فى نفسه دون غيره، وإن كان لم يتعين وهو غائب، ويحتاج أن يفسر ويدل عليه فيتعين، فإن النسبة موجه إليه فهو غير معين من وجه ومعين من وجه. فإن القائل إذا قال ((يمشى)) ليس يريد بهذا أن المشى موجود فى واحد من أمور العالم، أى شئ كان، حتى يكون كأنه يقول إن شيئا من الأشياء التى فى العالم موجود له المشى أى شئ كان. فإنه إن عنى بيمشى هذا المعنى كان قوله يمشى يكون صادقا إن كان فى العالم شئ يمشى ويكون كاذبا إن لم يكن فى العالم شئ يمشى إذا أخذ يمشى على أن معناه معنى الحكم بأن شيئا من العالم يمشى. وذلك أن قولك: شئ من العالم يمشى يحتمل معنيين: أحدهما الشئ من العالم الموصوف بأن له مشيا فى زمان كذا؛ فيكون هذا التركيب تركيب تقييد لا تركيب حمل ولا صدق فيه ولا كذب، والثانى هو أن شيئا من العالم يحكم عليه بأنه يمشى. وأولهما لا يدخل فيه فى لغة العرب إن، وأما الآخر فقد يدخل فيه. وليس أحدهما مدلولا عليه بلفظ يمشى وذلك لأن الشئ من العالم الموصوف بأنه يمشى إذا دل عليه بلفظ مفرد كان ذلك اسما ولم يكن كلمة، ويصح أن يحمل على زيد حمل الاسم، وأما الآخر فإنه لا يحمل على زيد البتة ولا هو فى قوة اسم مفرد. فقد بان أن معنى يمشى ليس هو على الوجه الذى يدخله الصدق والكذب، فليس كونه دالا على معنى غير معين من هذا القبيل، بل دلالته على المعنى(1/159)
الغير معين ليس على تجويز أى معنى كان، وعلى أنه حاصل له موضوع مّا كيف كان، بل على أنه معين فى نفسه ولم يصرح به ولم يعين بدلالة اللفظ. والأمر موقوف على التصريح به وهو غير متعين عند السامع مع علمه بأنه متعين عند القائل، فهو متوقف فى مصيره بحيث يصدق أو يكذب إلى أن يصرح بذلك المضمر، حتى إن كان ذلك المضمر معنى عاما أو شخصا أو كيف كان جاز، فإن المعنى العام، وإن كان لا يتعين فى جزئياته، فإنه متعين فى نفسه من جملة الأمور. فإن الشئ من حيث يوجد فى نفسه هو معنى معقول متعين، وإن كان ما يقع عليه من جزئيات تكون تحته غير متعين، وهو من حيث يتعين يخالف كل واحد من الجوهر والكم وأمور أخرى إذا كان ليس فى نفسه مقولا، وإن كان بعضها يقال عليها، فمتى صرح بذلك المضمر المَنْوى فى النفس صار القول حينئذ صدقا أو كذبا. وقلبه ليس بصدق ولا كذب، إذ ليس يجوز أن نعنى بقولنا يمشى الوجه الذى كان يتوهم أنه يصدق أو يكذب بانفراده، وليس كذلك قولنا أمشى أو يمشى. فقد صرح ها هنا بالموضوع وعين، فليس يحتاج إلى أن يفسر للسامع ذلك الموضوع مرة أخرى، فإنه دل فيه على شخص ولا أشد تعينا من الشخص ولو دل فيه على معنى عامىّ بأنه هو الموضوع من غير التفات إلى جزئياته لكان يكون صدقا أو كذبا؛ فكيف إذا كانت دلالته على شخص بعينه ؟ وأما الشبهة التى أوردت على أن التركيب غير موجود فى قولك ((أمشى)) بسبب أن الجزء الثانى لا يدل، فالجواب عن ذلك: أما أولا فإنه لم يكن قيل فى حد الكلمة إنها التى لا تدل جزاؤها كل واحد على معنى بنفسه، بل أن لا يوجد لها من جزء من أجزائها يدل على شئ من حكمها البتة وإذا وجد لها جزء يدل وإن لم يدل الآخر انثلم الحد ولم يكن المظنون به أنه كلمة. وأما ثانيا فإنه كما أن اللفظ يدل، فإذا صار جزءا لم يدل من حيث هو جزء. كذلك قد يجوز أن تكون اللفظة تدل من حيث هى جزء، ثم إذا انفردت لم تدل. وأنت تعلم أنه إذا قيل أمشى دلت الهمزة على الشخص القائل، ثم باقى اللفظ المؤلف من الميم والشين والياء يدل على باقى المعنى فينبه النفس على معنى المشى عندما هو مقرون بالهمزة وإن كان لا يدل وحده على ذلك ولا يستعمل، فيكون هذا الباقى بعد الهمزة يدل إِذا استعمل جزءا على ما لا يشك فيه أنه يدل عليه، وأما مفردا فلا يدل. فليكن هذا كافيا فى حل هذه الشبهة.ير معين ليس على تجويز أى معنى كان، وعلى أنه حاصل له موضوع مّا كيف كان، بل على أنه معين فى نفسه ولم يصرح به ولم يعين بدلالة اللفظ. والأمر موقوف على التصريح به وهو غير متعين عند السامع مع علمه بأنه متعين عند القائل، فهو متوقف فى مصيره بحيث يصدق أو يكذب إلى أن يصرح بذلك المضمر، حتى إن كان ذلك المضمر معنى عاما أو شخصا أو كيف كان جاز، فإن المعنى العام، وإن كان لا يتعين فى جزئياته، فإنه متعين فى نفسه من جملة الأمور. فإن الشئ من حيث يوجد فى نفسه هو معنى معقول متعين، وإن كان ما يقع عليه من جزئيات تكون تحته غير متعين، وهو من حيث يتعين يخالف كل واحد من الجوهر والكم وأمور أخرى إذا كان ليس فى نفسه مقولا، وإن كان بعضها يقال عليها، فمتى صرح بذلك المضمر المَنْوى فى النفس صار القول حينئذ صدقا أو كذبا. وقلبه ليس بصدق ولا كذب، إذ ليس يجوز أن نعنى بقولنا يمشى الوجه الذى كان يتوهم أنه يصدق أو يكذب بانفراده، وليس كذلك قولنا أمشى أو يمشى. فقد صرح ها هنا بالموضوع وعين، فليس يحتاج إلى أن يفسر للسامع ذلك الموضوع مرة أخرى، فإنه دل فيه على شخص ولا أشد تعينا من الشخص ولو دل فيه على معنى عامىّ بأنه هو الموضوع من غير التفات إلى جزئياته لكان يكون صدقا أو كذبا؛ فكيف إذا كانت دلالته على شخص بعينه ؟ وأما الشبهة التى أوردت على أن التركيب غير موجود فى قولك ((أمشى)) بسبب أن الجزء الثانى لا يدل، فالجواب عن ذلك: أما أولا فإنه لم يكن قيل فى حد الكلمة إنها التى لا تدل جزاؤها كل واحد على معنى بنفسه، بل أن لا يوجد لها من جزء من أجزائها يدل على شئ من حكمها البتة وإذا وجد لها جزء يدل وإن لم يدل الآخر انثلم الحد ولم يكن المظنون به أنه كلمة. وأما ثانيا فإنه كما أن اللفظ يدل، فإذا صار جزءا لم يدل من حيث هو جزء. كذلك قد يجوز أن تكون اللفظة تدل من حيث هى جزء، ثم إذا انفردت لم تدل. وأنت تعلم أنه إذا قيل أمشى دلت(1/160)
الهمزة على الشخص القائل، ثم باقى اللفظ المؤلف من الميم والشين والياء يدل على باقى المعنى فينبه النفس على معنى المشى عندما هو مقرون بالهمزة وإن كان لا يدل وحده على ذلك ولا يستعمل، فيكون هذا الباقى بعد الهمزة يدل إِذا استعمل جزءا على ما لا يشك فيه أنه يدل عليه، وأما مفردا فلا يدل. فليكن هذا كافيا فى حل هذه الشبهة.مزة على الشخص القائل، ثم باقى اللفظ المؤلف من الميم والشين والياء يدل على باقى المعنى فينبه النفس على معنى المشى عندما هو مقرون بالهمزة وإن كان لا يدل وحده على ذلك ولا يستعمل، فيكون هذا الباقى بعد الهمزة يدل إِذا استعمل جزءا على ما لا يشك فيه أنه يدل عليه، وأما مفردا فلا يدل. فليكن هذا كافيا فى حل هذه الشبهة.
وقد بقى الآن أن مبحث عن شئ وهو أن الملحق بما عبرنا به عنه من الزيادة وهو قولنا وهو أبدا دليل على ما يقال على غيره جزءاً من الحد أو خاصة ألحقت بالحد؛ فنقول: أما من كان عقده فى الحدود فى أنها تراد لتدل على تمييز ذاتى، فإذا حصل التمييز تم به الحد، فلا يبعد أن يقع عنده أن هذه الزيادة خارجة عن الحد. لكن المحصلين من أهل صناعة التحديد لا تنصرف هممهم فى الحدود إلى ذلك، بل وكدهم الدلالة على ماهية الشئ وحقيقته بكمالها. وأنهم إذا وجودا عبارة ما قد ميزت الذاتيات لكنها خلفت فصلا صورياً أو مادياً وراءها، لم يقنعوا بما فعلوا، ولم يكن الحد قد بلغ تمامه عندهم وسيأتيكم لهذا فى. وضعه شرح بالغ.
فإذا كان كذلك فبالحرى أن تكون هذه الزيادة التى تدل على أحد الشرائط التى تتقوم بها الكلمة، وهو النسبة إلى موضوع غير معين محتاجاً إليها ومكملة لحال الدلالة على الزمان، وليس احتياج الكلمة إلى النسبة أقل من احتياجها إلى الزمان. وكيف وهى أولى وما لم تكن نسبة لم تكن زمان نسبة !
الفصل الرابع
( د ) فصل
في تعريف حال المصدر
وتعلق الكلمة والاسم المشتق به وحال الكلمة المحصلة وغير المحصلة والمصرفة وغير المصرفة
والمعنى الذي تدل الكلمة على وجوده للموضوع هو أمر قد يدل عليه باسم، إما اسم مطلق وإما اسم هو مصدر. فإن المصدر قد يجئ على وجهين: أحدهما أن يكون موضوعا وضعاً أولا، كالضرب فيكون على حقيقة حال الاسم المطلق، والثانى هو أن يصرف الاسم المطلق تصريفاً يدل على أن معنى الاسم المطلق منسوب إلى موضوع بأنه حادث منه أو فيه كالتحريك؛ وهذا بالحقيقة اللفظ الدال على المصدرية كالتحرك والابيضاض والتحريك والتبييض. والسبب فى ذلك أنه ربما لم يكن للمصدر وضع خاص، فيوجد الاسم مقامه، كما تقول: صح، يصح، صحة، وهو الذى يجئ على الوجه الأول وهذا هو الذى يكون شكل المصدر فيه لا يدل على المصدرية ولا يخالف الاسم المطلق الذى لا يشير إلى موضوع بوجه. فيكون معنى المصدر ليس له اسم خاص، بل أخذ مكانه الاسم المطلق للشئ. كما ربما اتفق ألا يكون للاسم المطلق وضع خاص فيؤخذ المصدر مكانه، كما لو لم يكن لمعنى الافتراق اسم مشهور لا يشير إلى موضوع فيؤخذ المصدر مكانه، وهو لفظة الافتراق. وربما كان لكل منهما لفظ خاص هو أولى، كما أن البياض أولى أن يدل على ذات، والابيضاض على حدوثه فى موضوع. واسم المصدر يفارق الاسم المطلق بما يتضمنه من الدلالة على موضوع منه، أو فيه معنى من المعانى، فيدل على ذلك المعنى نفسه وعلى نسبة ما. والأكثر فى لغة العرب هو أنه حيث يكون للمصدر لفظ خاص فإن الكلمة تكون دالة على وجود معنى لفظ ذلك المصدر لموضوع ما فى زمان معلوم، وإن كان قد يتضمن ذلك معنى الاسم المطلق أيضاً، مثل قولهم ابيض يبيض من الابيضاض، فإِنه قد يدل على الابيضاض الدال على البياض. فالمعانى التى تدل عليها الكلمة وأنها لغيرها فى ظاهر لغة العرب معانى المصادر وكذلك المعنى الذى يدل عليه الاسم المشتق هو معنى المصدر، ومعانى المصادر كلها فى لغتهم أعراض لأنها نسب عارضة فى الجواهر إلى أمور تحدث لها، فليس شئ من المصادر يقال على الجواهر، بل يوجد فى الجواهر.(1/161)
فتكون لغة العرب لا تستعمل كلمات تدل على معنى يقال على الجواهر دلالة أولى. فأما دلالة ثانية فقد يكون كما إذا قلنا حبى فلان إذا صار ذا حياة، بل تجوهر فلان أى صار جوهرا من الجواهر. فإنه وإن كان دلالته الأولى إنما هى على معنى التجوهر لا على معنى الجوهر، والتجوهر كون ما لا جوهر، فإن الجوهر مدلول عليه فى التجوهر لا محالة دلالة ثانية، ولغة العرب ليس يدل فيها بالكلمات على مجرد اتصاف زيد مثلا فى هذا الموضع بأنه كان جوهراً حتى يدل على كون الجوهر مقولا عليه فيما سلف ذكره، حتى يكون قولهم تجوهر أنه كان الجوهر محمولا عليه فيما سلف بل معنى أنه تجوهر عندهم هو أن الجوهر المقول عليه حدث فيما سلف. فليس يدل على قول عليه بل على حدوثه فيه، فيدل عليه من حيث هو حادث حدوث أمر لأمر موضوع له فى وجوده له. فلغة العرب مظايقة فى هذا الباب. ولا يمتنع أن يكون في بعض اللغات كلمات لاتضايق في ذلك، بل تقتصر دلالتها على المبلغ المذكور الذي لايشير إلى الحدوث حتى يكون معنى نظير تجوهر فيها هو أن الجوهر مقول على زيد فيما سلف لاعلى أن حدوث الجوهرية موجود لزيد فيها سلف من غير التفات إلى بحمل بعلى البتة 0 وكما أنه يكون من الاسم اسم محصل واسم غير محصل، كذلك يكون في الكلمات كلمة محصلة وكلمة غير محصلة، كقولنا لاصح 0 وقد قيل في التعليم الأول وذلك أنها غير محصلة لأنها تدل على شىء من الأشياء موجوداً كان أو غير موجود دلالة على مثال واحد0 وهذا القول إِن عنى فيه بالموجود وغير الموجود ما يجعل موضوعا للكلمة حتى يكون قولنا لاصح ينتظم جملة على كل موضوع موجود أو غير موجود ما خلا الصحيح ويصدق عليه، فيكون إيجاب لاصح قد يصدق على الموجود وغير الموجود، فهذا مما يمنع عنه في مباحث أخرى 0 وإن عنى بذلك لا الموضوع ولكن ما هو في قوة المحمول من أمور مخالفة لدلالة لفظة صح حتى يكون ما صح يعنى به أنه مرض أو توسط أو فعل فعلا آخر غير الصحة كله يدخل تحت ما صح كان سديداً، بل عدى أن الغرض فى هذا أن هذه اللفظة تصدق على المعنى الوجودى المضاد والمتوسط وعلى المعنى العدمى الذى لاتحصل له في نفسه 0 فقولنا ما اسود يصدق على الشىء إذا كان قد ابيض وعلى الوسائط عادماً ويصدق إذا كان عاماً للون كيف كان ويكون، كما يقال صار غير أسود0ويشبه أن تكون لغة العرب لايستعمل فيها كلمة غير محصلة، وأنها إِذا ألحقت بالكلمة حرف سلب كان السلب فقط. وربما كان لما قيل فى التعليم الأول تأويل آخر ليس يحضرنى الآن.
وأما حال الكلمة المصرفة والقائمة، فهى أن القائمة فى لغة اليونانيين هى ما يدل على الحاضر، والمصرفة ما يدل على أحد الزمانين، وقد أشرنا إلى الواجب فى هذا وبينا أنه لا وجود لذلك فى لغة العرب، والكلمة من حيث أنها تدل دلالة اللفظ جارية مجرى الأسماء، فإن كل واحد منها ينطق به فيتصور معناه، فإن قائلا لو سأل ماذا عمل زيد، فقال مشى، أفاد بذلك معنى يفهمه السامع ويقرنه إلى معنى زيد، ويحصل له منهما الدلالة التى للخبر، كما إِذا سئل فقيل من فى الدار فقال زيد، وإن كان زيد (( ويمشى )) كل واحد منهما بانفراده لا يدل على إيجاب وسلب.
وأما الأدوات كقولنا من وعلى، والكلمات الوجودية فإنها نواقص الدلالات، والكلمات الوجودية هى كقولنا: صار يصير وكان يكون لا الدال على الكون مطلقا، بل على الكون شيئاً لم يذكر، بل هى الكلمات التى إنما تدل من المعانى التى يدل عليها الكلم على نسبة إلى موضوع غير معين وفى زمان معين تكون تلك النسبة غير معينة لمعنى منتظر أن يقال، ولا يتضمن تضمن الكلمة الحقيقية إياه.
والدليل على أن هذه، أعنى الأدوات والكلمات الوجودية، نواقص الدلالات أنه إذا قيل ماذا فعل زيد فقيل صار، أو قيل أين زيد فقيل فيه، لم يقف الذهن معها على شئ. وهى أعنى الأدوات والكلمات الوجودية توابع الأسماء والأفعال. فالأدوات نسبتها إلى الأسماء نسبة الكلمات الوجودية إلى الأفعال، ويشتركان فى أنها لا تدل بانفرادها على معنى يتصور، بل إنما تدل على نسب لا تعقل أو تعقل الأمور التى هى نسب بينها.(1/162)
وكذلك إذا سأل سائل ماذا يفعل زيد فقيل صار، أو كان، وأريد كان شيئا، ثم سكت ولم يزد عليه أو ابتدئ فقيل إنَّ وسكت بقى الذهن طالباً بعد، ولم ينتبه إلا على نسبة تترتب فلا يصلح أفرادها لأن توضع أو تحمل مبتدأ بها أو بخبر إلا أن يقترن بها لفظ آخر يتمم نقصانها 0 فإذا قرن بها غيرها صح أن يكون مبتدأ أو خبرا 0 وجميع هذه إِما دوال على لانسبة غير معينة كفى وعلى، وإما على نسبة غير معينة كغير ولا 0 فيجب أن تفهم هذا الوضع على هذا الوجه، ولا تلتفت إلى ما يقولون 0 فمن القبيح بالمعلم الأول أن يذكر من بسائط الألفاظ الاسم والكلمة، ويترك الأداة وما يشاكلهما 0
الفصل الخامس
( ه ) فصل
في القول وتمييز الخبر منه مما ليس بخبر
وأما القول فهو اللفظ المؤلَّف؛ وهو اللفظ الذى قد يدلّ جزؤه على الانفراد دلالةَ اللفظ؛ أى اللفظة التامة، لا كالأداة وما معها، وإن كان لايدلّ على إيجاب وسلب؛ فإِن دلالة الإيجاب والسلب أَخص من دلالة اللفظ، فإِن قولنا: الإنسانُ كاتبٌ قولٌ، لأن الإنسان جزء من هذه الجملة ويدل، وليس كالمقطع من لفظة الإنسان، فإنه لايدل أصلا، من حيث هو جزء منه 0 وأَما اللفظ المركَّب في المسموع كعبد الله فلا يدلّ جزءٌ منه أيضاً بذاته، من حيث هو جزءٌ منه، وإن كانت له دلالة في استعمال آخر، فليس يدلّ بها الآن بذاته، بالعرض 0 والقول أيضاً حكمهُ حكمُ الألفاظ المفردة فى أنه لا يدلّ، من حيث هو قول، إلا بالتواطؤ. وليس لقائل أَن يقول: إن الألفاظ المفردة، وإن كانت لا ضرورة فى تخصيصها بما تدل عليه، ولا تخَصَّص إلا بالتواطؤ، فإن التأليف بينها على هيئة مخصوصة ليس بتواطؤ، بل أَمر يوجبه المعنى نفسه بعد أَن صار المفردُ دليلاً. وذلك لأن المفرد الذى منه التركيب إذا جاز وقوع التواطؤ على غيره، صار أيضاً المركبُ عنه متغيرا بالتواطؤ؛ وأما نفس التركيب فليس مما يقع بالتواطؤ، فإن ذلك لايتغير ألبتة، وإن كانت هيئة التركيب ربما تغيرت بحسب لغةٍ لغَةٍ؛ فإن المضاف إليه مثلا يؤخَّر فى لغة ويقدَّم؛ الموضوعات والمحمولات ليس يجب لها فى القول ترتيب بعينه فى الطبع. والأقوال قد تتركب على سبيل تركُّب الحدود والرسوم بأن تأتى بعضها مقيِّدَةٌ لبعض، وهى التى تصلح أن تُورَد بين أجزائها لفظة الذى كقولنا: الحيوان الناطق المائت، فإنه يصلح أن يقال فيه: الحيوان الذى هو الناطق الذى هو الميت.
وقد يركَّب على أنحاء أخرى، وذلك لأن الحاجة إلى القول هى الدلالة على ما فى النفس، والدلالة إما أن تراد لذاتها وإما أن تراد لشئ آخر يُتوقَّع من المخاطب ليكون منه، والتى تُراد لذاتها هى الأخبار، إما على وجهها، وإما محرَّفة كتحريف التمنى والتعجب وغير ذلك، فإنها كلها ترجع إلى الأخبار. والتى تُراد لشئ يوجَد من المخاطَب فإما أن يكون ذلك أيضاً دلالةً أو غير الدلالة. فإن أريدت الدلالة فتكون المخاطبة استعلاماً واستفهاماً، وإن أريد عملٌ من الأعمال وفعلٌ من الأفعال غير الدلالة، فيقال إنه من المساوى التماسٌ ومن الأعلى أمرٌ ونهىٌ، ومن الأدون تضرّعٌ ومسألةٌ.
لكن النافع فى العلوم هو إما التركيب الذى على نحو التقييد، وذلك فى اكتساب التصورات بالحدود والرسوم وما يجرى مجراها، والتركيب الذى على سبيل الخبر، وذلك فى اكتساب التصديقات بالمقاييس وما يجرى مجراها. وهذا النحو من التركيب يحدث منه جنس من القول يسمى جازماً والقول الجازم يقال لجميع ما هو صادق أو كاذب. وأما الأقاويل الأخرى فلا يقال لشئ منها إنه جازم، كما لا يقال إنه صادق أو كاذب، فالنظر فيها أولى بالنظر فى قوانين الخطابة والشعر.(1/163)
والقول الجازم يُحكم فيه بنسبة معنى إلى معنى إما بإيجاب أو سلب، وذلك المعنى إما أن يكون فيه أيضاً هذه النسبة أو لا يكون، فإن كان، كان النظر فيه لا من حيث هو واحد وجملة، بل من حيث يُعتبر تفصيلُه، فإن القول الجازم ليس ببسيط ولا حملى، كقولنا: إن كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود، فقد حُكِم ها هنا بإيجاب نسبة الاتصال بين قولنا الشمس طالعة وقولنا النهار موجود، فأوجب تلو ثانيهما للأول، وكقولنا إما أن تكون الشمس طالعة وإما أن يكون الليل موجوداً فقد أوجب ها هنا نسبة عناد بين قولين. وفى أجزء كل واحد من القولين فى المثالين تركيب أيضاً يُحكم فيه بهذه النسبة، أعنى النسبة الجاعلة للقول جازماً، فإن قولنا: الشمس طالعة، فقد يشتمل على إيجاب نسبة بين الطالعة وبين الشمس، وكذلك فى سائر الأجزاء، وإنما استعمل من حيث هو بهذه الصفة. وجميع ما كان على هذا الوجه فيسمى شرطياً، وما جرى المجرى الأول يسمى متصلا، وما جرى المجرى الثانى يسمى منفصلا.
وأما إن لم يكن كذلك؛ بل كان التركيب بين معنيين لا تركيب فيهما أصلا، كقولنا: زيد حيوان، أو بين معنيين فيهما تركيب لا صدق فيه ولا كذب، ويمكن أن يقوم بدله مفردٌ، كقولنا: زيد حيوان ناطق مائت، فإن تركيب الجزء منه وهو قولنا: حيوان ناطق مائت تركيبٌ بهذه الصفة ويقوم بدله لفظٌ مفرد. كقولنا: إنسان، أو تركيب فيه صدقٌ أو كذبٌ ولكن أخذ، من حيث هى جملة، يمكن أن يدل عليها لفظٌ مفرد، واعتُبرتْ وحدته لا تفضيله، كقولنا: إن قولنا الإنسان يمشى، قضية فإنه ليس يُلتفت إلى حال الإنسان وحال حمل المشى عليه، بل إلى الجملة التى يجوز أن تسمى قضية.وكذلك لو قال: سمعتُ أنه رأى عبداللّه زيداً، وما أشبه هذا، فجميع هذه التى لا يراد أن يحكم فى أجزائها بالنسبة الإيجابية والسلبية، وإن كان يتفق فى بعضها أن يكون فى الجزء منها إيجابٌ وسلبٌ، فيُجعل التأليف الإيجابى والسلبى كشىء واحد يلتفت إلى وحدته، بحيث يمكن أن يُدَلَّ عليه باسم واحد، إن أريد، فهو حملىّ، وخاصته أن المنسوب إليه يقال فى إيجابه: إنه هو ما جُعل منسوباً كما يقال: إن الإنسان هو حيّ، وفى السلب خلافهُ. وأما فى الشرطية فإِنما يقال فى إيجابه إن هذا لازمٌ تالٍ لذلك أو معاندٌ له، ولا يقال لأحد الجزأين إنه الآخر. فلنؤخر القول فى الشرطيات، فإنا سنأتيك فيها بكلام مستقصى.
ولنبدأ بالكلام فى القول الجازم البسيط، وهو الحملى، وأبسطه الموجب، ثم بعده السالب. وأما الشرطيات فهى بالحقيقة قضايا كثيرة لا قضية واحدة، وإنما صارت واحدة برباط الشرط الذى لمّا لحق المقدَّمُ من فصيلتها أو فصولها حرّفه، فجعله غير صادق ولا كاذب، كما لحق ((إن كان)) بقولنا ((الشمس طالعة))، وكما لحقت لفظةُ ((إما)) بالمثال الآخر، فصار كل مقدّم موقوفاً فى أن يُتعرف به صدقٌ وكذبٌ إلى أن يلحق به الآخر بعد ما هو فى نفسه بحيث لو انفرد كان صادقاً أو كاذباً، وإذا ألحق به الآخر فتم الكلام كانت الجملة صادقة أو كاذبة لا المقدَّم وحده، وكذلك حال التالى فإنه لا يُعتبر فى صدق الشرطية وكذبها صدقُ أجزائها وكذبُها، كانت واحدة أو كثيرة.
فأول القضايا الحملىُّ، وأولُه الإيجاب لأنه مؤلف من منسوب إليه يُسمَّى موضوعاً ومنسوبٍ يسمَّى محمولا على نسبة وجود، وأَما السلب فإِنه يحصل من منسوب إليه ومنسوب ورفع وجود النسبة.
وكل عدم فإنه يتحدد. ويتحقق بالوجود. والوجود لا يحتاج فى تحققه أَن يلتفت إلى العدم، فالسلب لا يتصور إلا أَن يكون عارضاَ على الإعجاب رافعاً له؛ لأنه عدمه؛ وأَما الإيجاب فهو وجودى مستغن عن أَن يُعرف بالسلب فيكون السالب بعد الموجب. ولست أَعنى بهذا أَن الإيجاب موجود فى السلب، كما قال بعض المفسرين فإِن الإيجاب يستحيل أَن يوجد مع السلب، بل الشىءِ الذى لو انفرد كان إيجابا هو موجود فى حد السلب، كما لو قال قائل إن البصر موجود فى حد العمى، ليس معناه أَن البصر موجود فى العمى، بل معنى هذا أَن العمى لا يُحدّ إلا بأن يذكر أَنه عدم البصر، فيقرن البصر بالعدم، فيكون البصر أَحد جزأَيْ البيان، وإن كان ليس جزءا من نفس العمى. كذلك نسبة الإيجاب مذكورة فى نسبة السلب على أنها مرفوعة لا على أنها جزء من السلب أَو داخل فى السلب وجوداً، بل داخل فى حد السلب.(1/164)
والمعنى الذى يَسلب هو موجود فى لفظ السلب وفى معنى السلب، وإن لم يكن موجوداً فى ذوات الأمور. فإن من تسلب عنه شيئاً فلا بد أنك تُدخل فى السلب ذلك الشىء لا على أن ذلك الشىء يكون فى الوجود داخلا فى المسلوب عنه. وإذا جُعل الإيجابُ موجوداً فى السلب فإنما هو من حيث أن السلب إنما يرفعه فيوجد فى السلب من حيث تركيب بينه وبين حرف السلب، كقولك: زيد ليس هو حيَّا، فإن ((هو حىّ)) هو الذى لولا حرف النفى كان إيجابا على زيد، فجاء السلب فرفع هذه النسبة. فمن وجهِ يحقُّ أن يقال إن الإيجاب ليس يكون مع السلب، فإن الإيجاب كيف يساعد السلب وكيف يجتمع معه ؟ ومن وجهٍ يحقّ أن يقال إن السلب بالحقيقة أمر يرفع الوجود الذى هو الإيجاب، فإن العدم والرفع إنما يتناول الوجود والحصول ولا يتحدد دونه. والاعتبار الذى بسببه ما الإيجاب داخل فى حد السلب يجعل الإيجاب داخلا فى السلب؛ والاعتبار الذى لا اجتماع معه بينهما يمنع الإيجاب أن يكون داخلا فى السلب بالقوة وبالفعل وليس كون الإيجاب جزءاً من السلب أو موجوداً فيه هو كون الإيجاب والسلب مجتمعين معاً؛ فإن الفرد موجود فى الزوج والزوج فى الفرد، وليس يوجب ذلك أن يكون قد اجتمعت الفردية والزوجية اجتماعهما المستحيل حتى يكون شىء واحد هو زوج وفرد، إذ الزوج جزء الفرد، لا بعينه، ولا أن شيئاً واحدا بعينه موصوف بهما. لكن ليس حال الإيجاب من السلب هذه الحال، بل هو جزء من حد السلب وليس إِذا كان جزءا من حد السلب صار السلب إيجاباً، أو المسلوبُ موجباً، وصار السلب موجوداً مع إيجاب جزؤه إلا فى الذهن.
وأما ما خاضوا فيه من حديث أن الإيجاب أشرف أو السلب حتى قال بعضهم: إن الإيجاب أَشرف؛ وقال بعضهم: إِن السلب فى الأمور الإلهية أشرف من الإيجاب، فنوع من العلم لا أفهمه ولا أميل أن أفهمه.
الفصل السادس
(و) فصل
في تعريف القول الجازم البسيط الأول
والذى ليس بأول وتعريف الإِيجاب والسلب وإعطاء الشرائط فى تقابلهما وكل قول جازم، كان حملياً أو شرطياً، فإِنه مفتقر فى لغة اليونانيين إلى استعمال الكلمات الوجودية، وهى الكلمات التى تدل على نسبة وزمان من غير أن يتحصلّ فيها المعنى المنسوب إلى الموضوع الغير المعين، إلا ما كان الأصل بعينه كلمة.
أما الشرطيات فذلك فيها مستمرًّ فى لغة العرب. أما المتصلات فإِنك تقول: إذا كان، وكلما كان، ومتى كان، وإن كان. وأما المنفصلات فانك تقول: إما أن يكون كذا، وإما أن يكون كذا، فتضطر إلى استعمال الكلمة الوجودية فى الأمرين دائماً.
وأما الحمليات فقد كان الحكم فيها كذلك فى لغة اليونانيين، فكانوا يضطرون الى أن يقولوا: زيد كان كذا ويكون كذا، وكأنه ليس يجب ذلك فى لغة العرب. فأما الذى يجب بحسب الأمر فى نفسه فهو أن القضية الحملية تتم بأمور ثلاثة فإِنها تتم بمعنى الموضوع ومعنى المحمول وبنسبة بينهما. وليس اجتماع المعانى فى الذهن هو كونها موضوعة ومحمولة فيه، بل يحتاج إلى أن يكون الذهن يعتقد مع ذلك النسبة التى بين المعنيين بإيجاب أو سلب.(1/165)
فاللفظ أيضاً إذا أريد أن يحاذى به ما فى الضمير يجب أن يتضمن ثلاث دلالات: دلالة على المعنى الذى للموضوع، وأخرى على المعنى الذى للمحمول، وثالثة على العلاقة والارتباط الذى بينهما. فليس يجب من اجتماع الإنسان والحيوان فى الذهن والنظر فيهما، من حيث هذا إِنسان وذلك حيوان، أَن يكون حاصل ذلك أن أحدهما محمول، أو أنه موضوع، أو مضاف بالجملة إلى شىء؛ فإِن تركت اللفظة الدالة على هذه العلاقة، فإِنما تترك اعتمادا على الذهن أو تعويلا على حال من الأحوال اللفظية التى تلحق أحدهما أو كليهما لحوقاً يدل على هذا المعنى؛ وحينئذ يكون قد دل على هذا المعنى بدلالة لفظية، وإن لم تكن بلفظة مفردة مخصوصة بها. وأما نفس تلو لفظ للفظ فى زمان قصير فليس بدال على حال أحدهما عند الآخر دلالة تحصل بالاجتماع، فإن التركيب الذى فى الحدودأيضاً لولا شىء زائد يقترن به لما كان يجب لنفس تلو بعض أجزائه لبعض أن يكون دالا على اجتماع ووحدة، بل إنما صار قولنا حى مشاء ذو رجلين يدل على معنى واحد بالاجتماع، لأنك تعنى به الحى الذى هو المشاء الذى هو ذو رجلين وتدل عليه هيئة التركيب فتصير الجملة واحدة، لأنك تعد أوصاف الواحد وتقيد بعضها ببعض. فولا هذه العلة الزائدة على نفس التتالى ما كان التتالى يفعل وحده. كما لو قال قائل: السماء الأرض العنقاء الدائرة. بل يحتاج أن يقترن بالتتالى أمر آخر يدل على ارتباط بعض المقترنات ببعض ارتباط حمل ووضع، أو ارتباط تقييد بعض ببعض. هكذا يجب أت يفهم هذا الموضع، فلا تشتغل بالتكلف البعيد الذى يحاولونه.
فقد ظهر من هذا أن هاههنا معنى غير معنى الأمر الموضوع، ومعني الأمر المحمول من حقه أن يدل عليه، وهو النسبة. فاللفظة الدالة على النسبة تسمى رابطة، وحكمها حكم الأدوات. فأما لغة العرب فربما حذفت الرابطة فيها اتكالا على شعور الذهن بمعناها، وربما ذكرت. والمذكور ربما كان فى قالب الاسم، وربما كان فى قالب الكلمة. والذى فى قالب الاسم كقولك زيد هو حى، فإِن لفظة هو جاءت لا لتدل بنفسها، بل لتدل على أن زيدا هو أمر لم يذكر بعد ما دام إِنما يقال هو إلى أن يصرح به، فقد خرجت عن أن تدل بذاتها دلالة كاملة فلحقت بالأدوات لكنها تشبه الأسماء وأما الذى فى قالب الكلمة فهى الكلمات الوجودية، كقولك زيد كان كذا ويكون كذا. وقد غلب هذا أيضا فى لغة العرب حتى إنهم يستعملون الألفاظ الزمانية فى الدلالة على إيجاب لحمل غير زمانى أصلا كقوله تعالى وكان اللّه غفوراً رحيما، أو غير مختص بزمان بعينه بل ذائع فى أى زمان كان كقولهم كل ثلاثة فإِنها تكون فردا. وأما لغة الفرس فلا تستعمل القضايا خالية عن دلالة على هذه النسبة إما بلفظ مفرد كقولهم فلان جنين هست أو هى أو هو، وإما بحركة كقولهم فلان جنين ويفتحون النون من جنين فتكون الفتحة دالة على أن جنين محمول على فلان. ولما كان الرابط المصرح به أو المضمر هو الذى يحدث من الكثرة وحده، فإِذن إنما يكون القول الجازم واحدا، أما فى الحمل فأن يكون الرباط المصرح به أو المضمر يدل على ربط واحد، والربط فى الحملى هو أن تقول إن الموضوع هو المحمول.
فإذن إنما يكون واحدا إذا كان المحمول واحداً والموضوع واحداً لا فى الاسم وحده، بل وفى المعنى، لا كقولك العين جسم وتشتمل نيتك على عين البصر وعين الماء وعين الدينار، فإن هذه القضية وإِن كانت حقاً فإِنها ليست واحدة. وذلك لأنك لا يمكنك أَن تجعل للعين مفهوماً واحداً يشتمل على الثلاثة ثم يحمل عليه الجسم. فإن نويت واحداُ من المعانى ودللت عليه باللفظ المشترك لم يكن الاشتراك الواقع فى اسم الموضوع أَو المحمول مكثرا لمعانى القضية، والإِ فمن يجد اسماً غير مشترك ويستعمله إِنما يكون الاسم مدلولا به على كثيرين، إِذ دل به المتكلم على كلها. وأَما إذا نحا واحداً منها فدل عليه لم يكن اللفظ دالا فى استعماله إِلا على ذلك الواحد، وإِن كان ربما اشتبه على السامع.(1/166)
وليس كل ما يكون موضوعه أو محموله اسماً مشتركا لمعانى يستمر الصدق فى الحكم المحكوم به على جميعها، بل كثيراً ما يختلف فيغلط. كما يقال إن العين بصيرة، فإن أريد عين الإنسان وعين الشمس كان مختلفاً فى الصدق والكذب، فالحملية الواحدة هى بهذه الصفة وليست مركبة بالحقيقة من القضايا. وأما الشرطية فهى عند التفريق قضايامختلفة إنما يوجد بين اثنين منها الرباط بأن يقرن بأحدهما أو كليهما حرف أو لفظ فيسلبه خاصية القضية من كونه لصورته جائزاً أن يقال فيه إنه صادق أو كاذب. فإِنك إذا قلت إن كانت الشمس طالعة وسكت ولم تزد أزلت قولك الشمس طالعة عن أن أن يلحقه تصديق، فإِن هذا القول وحده لا صادق ألبتة ولا كاذب . وكذلك إذا قلت: إما أن تكون الشمس طالعة وسكت ولم تزد، بل تحتاج فى الأول أن تذكر تاليه وفى الثانى أن تذكر معانده، فحينئذ يحدث قول واحد من قولين فى أنفسهما قضيتان، بطل عن كل واحد منهما كونه قولا جازما. فإِن قولك أيضا: فالنهار موجود ملحقاً به الفاء معتداً بدلالتها من غير أن تلغى لا يكون صادقاً وحده، بل بالجملة قول جازم واحد بالرباط، وليس قولا جازما واحداً بسيطاً على الإطلاق. وكيف وفيه قولان جازمان، لكن الرباط سلبهما ذلك وأحدث منهما قولا جازما واحدا فبالرباط صار واحداً. وإِذا علمت القول الجازم الواحد، فقد علمت الكثير، فإِن الكثير إما أن يكون واحداً فى المسموع، فذلك لاشتراك اسم فيه، وإما أن يكون كثيراً أيضاً فى المسموع كثرة لم يربط بعضها ببعض ربطا موحداً. وهاهنا يعلم أن الألفاظ كيف تدل من حيث هى ألفاظ فقط ومن غير دلالة إيجاب وسلب، وأن التركيب الأول الجازم منها هو تأليف بين اثنين منها على سبيل إيقاع أحدهما على الآخر أو نزعه عن الآخر، وأن التركيب الثانى هو القول المركب؛ كذا قيل فى التعليم الأول.
وهذا الكلام يفهم على وجهين: أحدهما أن يعنى بالإيقاع الإيجاب الذى للحملى فقط فيكون النزع هو السلب الذى للحملى، كأنه لم يتعرض لغيره، ويكون القول المركب يصلح أن يعنى به الشرطى، ويصلح أن يعنى به القياسىّ، ويصلح أن يعنى به كلاهما. والوجه الثانى أن يعنى بالإيقاع الإيجاب بالحمل والدلو، كقولك فى الإيجاب الحملى زيد حيوان، وفى الإيجاب الشرطى المتصل: إذا كان كذا كان كذا، فقد أوجب فيه تلو التالى للمقدم وأوقع عليه. ويعنى بالنزع السلب والعناد جميعا. أما العناد فكقولك إما أن يكون كذا وإما أن لا يكون كذا، وذلك فى الشرطى المنفصل. وأما السلب، فأما فى الحملى كقولك زيد ليس بحى. وأما المتصل فكقولك ليس كلما طلعت الشمس كان غيم. يبقى ها هنا سلب العناد كقولك: ليس إما أن يكون الإنسان ناطقا وأما أن يكون ضاحكا. فإن أريد أن يفهم وجه يحتمل دخول هذا أيضاً. مما ذكر أمكن على أحد سبيلين إما أن يجعل هذا الإيقاع إيقاعا بالفعل أة بالقوة، فيكون السالب المنفصل داخلا فى الإيقاع بالقوة لأنه كما تبين لك بعد فى قوة حملى ما موجب، وأنت تعلم هذا فى موضعه، فهذا وجه، أو يفهم من الإيقاع كل إيقاع بحمل أو اتصال أو انفصال ويجعل النزع كل سلب لهذا الإيقاع. ونحن لا نبالى أى المعانى يكون قد عنى بهذا القول، لكنه إن كان المراد هو ما يطابق الاعتبار الثانى لزم منه أن يكون المراد بقوله. والمؤلف من هذه هو القياس، لكن أظهر الوجوه هو الوجه الأوّل، فيكون الحكم البسيط هو الذى يدل على أن شيئاً موجوداً لشىء أو ليس بموجود له. وأما فى اللغة اليونانية فلا بد من أن يقترن بذلك لفظ يدل على زمان. والإيجاب من ذلك هو الحكم بوجود شىء لشىء آخر والسلب هو الحكم بلا وجود شىء لشىء آخر وليس ما يرجم به التعليم الأول فقيل إن السلب حكم بنفى شىء عن شىء بشىء فإن النفى والسلب واحد فيكون كأنه قال: إن السلب حكم لسلب شىء عن شىء، أو يعنى بالنفى ما هو أعم من السلب، حتى إذا قيل لا إنسان، يكون قد نفى الإنسانية من غير نسبة إلى منفى عنه. لكن التوقبف لم يدل على أن السلب موضوع لغير ما وضع له النفى بوجه ولا هو الاصطلاح العامى بل يجب أن يقال كما قلنا: وهو الحكم بلا وجود شىء لشىء.(1/167)
ولما كان كل ما يوجبه موجب فغير متعذر أن يسلبه سالب، وما سلبه سالب فغير متعذر أن يوجبه موجب، سواء كان زمانيا أو غير زمانى، فبين أن لكل إيجاب سلبا يقابله، ولكل سلب إيجابا يقابله. وهذا هو التناقض، أعنى أن يكون إيجاب وسلب متقابلين بالحقيقة. وإنما يكون هذا التقابل متقرراً إذا كان المعنى فى الإيجاب محصلا من كل جهة، فيكون السلب قد تناول كل ذلك بعينه. أعني أن يكون الموضوع معنى واحداً وكذلك المحمول وأن يكون الجزء الذى يتوجه إليه القصد فى الموضوع أو المحمول محفوظاً بعينه، لا كما إذا قيل الإنسان يبصر أى بعينه، ثم قيل بعده أى الإنسان لا يبصر أى بيده، ظن ذلك مقابلا له. أو قيل إن الحبشى أسود أى فى بشرته، ثم قيل ليس بأسود أى فى لحمه، ظن أن هناك تقابلا. وإن أخذ أحد المعنيين فى أحدهما بالقوة فيجب أن يؤخذ فى الآخر بالقوة، كقول القائل: إِن المسكر محرم ويعنى ما يسكر بالفعل، وكقول الآخر: إِن المسكر ليس بمحرم ويعنى ما فى طبعه أن يسكر ولم يسكر بعد، ظن أن هناك تقابلا وأن يكون المكان أن كان مكان، أو الزمان إن كان زمان، أو الجهة والاعتبار والإضافة إن كانت جهة واعتبار وإِضافة واحدا. مثال الجهة أن يقال إن الجسم مكيف أى بلونه ليس بمكيف أى بمقداره. ومثال الإضافة أن يقال إن الثلاثة نصف أى للستة، وليس بنصف أى للعشرة. بل القضية لا تكون صادقة أو كاذبة البتة فى المعنى الذى يقصد بها ولا مسلمة ولا منكرة بل ولا متصورة فضلا عن أن تكون متقابلة إذا لم تحصل جميع الإمور المتعلقة بمعناها مما ذكرناه. فإذا كان إيجاب على وجه من هذه الوجوه فيجب أن يكون سلبه على ذلك الوجه، ثم إِن لحقه سور وجهة مما سنذكره اقتضى أن يكون السلب يقابله فى ذلك، وسنؤخر الحكم فيه إِلى ما بعد. وهذه الأشياء إِذا أهملت فى القضايا عرض منها مغالطات كثيرة فى القياسات على نحو ما سنذكر فى تعليمنا تبكيت المغالطين.
الفصل السابع
(ز) فصل
في تعريف أصناف القضايا المحصورة
والمهملة والمخصوصة وتعريف التقابل الذي على سبيل التناقض والتقابل الذي على سبيل التضاد وتعريف التداخل وإيراد أحكام للقضايا من جهة ذلك
ولما كان موضوع القضية لا يخلو إِما أَن يكون كلياً أَو جزئياً فالحكم إِماعلى الكلى وإِما على الجزئى. فإِذا كان الموضوع جزئياً كقولك: زيد كاتب، فإن مناقضه سالب اجتمع فيه من مراعاة الشرائط ما ذكرناه، وأَما إِن كان الموضوع كليا فإِما أَن يكون الحكم عليه كلياً أَى يكون قد بين أَن الإيجاب على كل واحد مما تحته أَو أَن السلب عن كل واحد منه فلا إيجاب على شىء البتة مما تحته، أَو بين إَن الإيجاب أَو السلب فى بعضه، أَو يكون قد ترك ذلك تركا ولم يتعرض له، وإنما تعرض للكيف دون الكم، أَعنى الإيجاب والسلب دون التعميم والتخصيص. مثال الحكم بالإيجاب الكلى على الموضوع الكلى قولك فى الحمليات: كل إنسان حيوان، فقد أَوجبت الحيوانية على كل واحد مما يوصف بأنه إنسان. وأَما تتميم القول فى تفهيم هذا فليؤخر إلى الفن الذى يذكر فيه القياس، فقد جرت العادة بذلك، وإن كان هذا الموضع أَحق به. ومثال السلب الكلى على الموضوع الكلى قولك: ليس ولا واحد من الناس بحجر وأما بحسب لغة العرب فإذا قيل: ليس أحد من الناس بحجر كان السلب يقتضى العموم، ولم يفهم منه أَنه يعنى أَحدا من الناس بعينه واحدا خاصياً. وأَما بحسب دلالة اللفظ فالواجب هو الذى قلنا أَولا أَنه ليس ولا واحد البتة من الناس بحجر فكأنه قال لا يوجد إِنسان بحجر ولا واحد البتة من جملة الناس يوجد حجرا. وفى اللغة الفارسية يحتاج أن يقرن لفظة هيج بالسلب حتى يدل على العموم.(1/168)
على أن تحقيق القول فى هذا إلى أصحاب صناعة اللغة. وهذان الحكمان ليسا بمتناقضين، وكيف وقد يكذبان معاً إذا كان المحمول من المعانى التى إذا قيست إلى شخص لم يجب أن يكون لها ولم يجب أن لا يكون وإذا قيست إلى طبيعة الإنسانية وجدت الإنسانية لا توجيها ولا تمتنع عليها. ومثاله كقولك كل إنسان كاتب أى بالفعل ولا واحد من الناس بكاتب، فإن كليهما كاذبان. ولو كان قولنا كل إنسان كاتب سلبه الذى يبقى صدقا عند كونه كاذبا هو ولا واحد من الناس بكاتب لكان يجب أن لا يكذب قولنا: ولا واحد من الناس بكاتب. فإذن ليس هذا مقابله بالتناقض، بل هو مقابل له من حيث هو سالب لمحموله مقابلة أخرى. فلنسم هذه المقابلة تضاداً إذا كان المتقابلان بها لا يجتمعان ألبتة فى الصدق ولكن قد يجتمعان فى الكذب كالأضداد فى أعيان الأمور، فإن الأضداد لا تجتمع معاً ولكن قد ترتفع معاً، على ما علمت.
واعلم أن حال المحمول فى نفسه عند الموضوع لا التى بحسب بياننا وتصريحنا به بالفعل أنه كيف هى له ولا التى تكون فى كل نسبة إلى المحمول، بل الحال التى للمحمول عند الموضوع بالنسبة الإيجابية من دوام صدق أو كذب أو لا دوامهما تسمى مادة. فإما أن يكون الحال هو أن المحمول يدوم ويجب صدق إيجابه فيسمى مادة الوجوب كحال الحيوان عند الإنسان، أو يدوم ويجب كذب إيجابه ويسمى مادة الامتناع كحال الحجر عند الإنسان، أو لايدوم ولا يجب أحدهما ويسمى مادة الإمكان كحال الكتابة عند الإنسان. وهذه الحال لاتختلف فى الإيجاب والسلب، فإن القضية السالبة توجد لمحمولها هذه الحال بعينها فإن محمولها يكون مستحقاً عند الإيجاب أحد الأمور المذكورة، وإن لم يكن أوجب، والكلية الموجبة حالها عند الكلية السلبة إذا اشتركا فى الموضوع والمحمول والشروط المعدودة أن السالب منهما فى الواجب هو الكاذب وحده دون الموجب، وأما فى الممتنع فإن الموجب هو الكاذب دون السالب، وفى الممكن فكلاهما كاذبان. وأما الجزئيان فحكمهما فى الواجب والممتنع حكم الكليين. وأما فى الممكن فى المشهور فالمشهور أنه يجب أن تصدقا جميعاً، لكن البين من أمرهما أنهما قد يصدقان فى مادة الممكن كقولنا. بعض الناس كاتب وليس كل الناس بكاتب. وأما أن ذلك يجب وجوباً فهو أمر لا يبين بنفسه للمبتدأ فإنه لا يجب عنده أن يكون المحمول الذى من مادة الممكن موجوداً لا محالة فى بعض الموضوع معدوماً فى بعضه، فإن المبتدئ لا يستنكر أن يكون شئ هو من جملة الممكنات البعيدة الغريبة، ثم يتفق أن لا يوجد البتة لشئ من أشخاص النوع فى زمن من الأزمنة.(1/169)
والذى يتكلف أن يوجب هذا ويبينه فإنما يبينه بمقدمات غير معلومة للمنطقى ثم عساه إنما يمكنه إثبات ذلك إن أمكنه فى الصنائع والحرف الداخلة فى منفعة الإنسان. وأما فى أمور خارجة عن ذلك فما أرى أن البرهان اليقينى يقوم للمتعلم المنطقى عليه. وعلى أن المنطقى لا يحتاج فى صناعته أن يعتقد وجوب هذا بل يكفيه من ذلك معرفته بأن الجزئيتين الداخلتين تحت التضاد قد تصدقان جميعاً فى مواد إمكانية مستقرئاً فى ذلك مواد إمكانية ظاهراً من أكثرها أنها لا تعم سلباً ولا إيجاباً. وأما المختلفان فى الكم دون الكيف ولتسميا متداخلتين فنجد المتداخلتين منهما بالإيجاب. تصدقان فى الواجب والمتداخلتين فى السلب تصدقان فى الممتنع وكلاهما يقتسم الصدق والكذب فى الممكن، لكن الجزئية تكون صادقة على الاعتبار المذكور، وتأمل ذلك بنفسك. وليس إذا كان موضوعك كلياً فقد صار حكمك بذلك كلياً عليه ما لم تحكم بأنه موجود فى كله أو غير موجود، فإذا لم تحكم بذلك فقد حكمت على الطبيعة الموضوعة للعموم فقط. وهذه الطبيعة فى نفسها معنى، وأنها مأخوذة عامة معنى، وأنها مأخوذة خاصة معنى. وهى فى نفسها تصلح لاعتبار جميع ذلك، ولو كانت لا تصلح للخصوص لم تكن تصلح أن تكون مثلا إنسانية واحدة بها زيد إنسان واحد، ولو لم تكن تصلح عامة فى العقل ما كانت بحيث يشترك فيها كثيرون. ثم الأمور التى تلحق الإنسانية أن ألحقت بها وهى إنسانية بلا زيادة شرط كان ذلك الإلحاق إلحاقا ليس لنا معه أن نقول إنها تلحق بها فى عمومها أو خصوصها، بل أنها صالحة للأمرين جميعاً، لكنها كانت ملحقة به خصوصها فقد ألحقت بها فى خصوصها دون عمومها. فلا يجب أن تكون صادقة على عمومها وإن ألحقت بها فقط. فلا يخلو إما أن يكون تصحبها مع العموم ملحقة بها فتكون حينئذ صاحبة إياها فى خصوصها فما لحق العام لحق الخاص، وإما أن لا يصحبها هناك، بل يتبر أعنها ويكذب عليها فيصدق لا محالة فى خصوصها فإنها إن كانت تكذب أيضاً فى خصوصها فهى مما لا يصدق عليها ألبتة، وأعنى بقولى يصدق عليها فى عمومها أى يصدق على جميع ما يعمها ليس أنها يصدق عليها من حيث هى معنى عام فإِنها حينئذ كشئ واحد يصدق عليه مالا يتعدى إلى مخصوصاته. فإنه من حيث هو عام هو كلى ونوع وغبر ذلك، وهذه أمور تلحقه دون ماتحته.
ولسنا نشير بما نقوله إلى ما يلحقه من حيث هو عام، بل إلى ما يصاحبه فى عمومه حملا على موضوعاته. وغرضنا ما بيناه من أن الحكم على الكلى من غير اشتراط التعميم والتخصيص ليس يوجب التعميم بوجه، ولا أيضاً فيه دلالة لفظية على التخصيص. ولكن الدلالة على التخصيص لازمة لدلالته من خارج لا أنها نفس دلالة الحكم فيه، كما أن لكل قضية لوازم من العكس وغير ذلك مما ستعلمه ليست هى نفس المدلول عليها بالقضية.
فبين أن كلية الموضوع لا توجب كلية الحكم فلذلك ما كانت القضيتان المهملتان المتخالفتان بالسلب والإيجاب ليستا بمتضادتين. وأعنى بالمهمل ما موضوعه كلىّ قد بين كيفية الحمل فيه ولم تبين كميته، فهاتان ليستا بمتضادتين وكيف وقد يصدق أن الإنسان كاتب على ما بينا، ويصدق أن يقال ليس بكاتب، فيجتمعان على الصدق. إلا أن ذلك ليس يمنع أن يكون هذا المعنى الملحق يلحق بالطبيعة العامة، وإن لم يصرح به. فحينئذ تكون قوة الإيجاب والسلب قوة المتضادتين إذ نحن لم نوجب أن هذا الحكم يتناول المحكوم عليه من حيث هو خاص لا محالة، بل قلنا إن معنى الإنسان يصدق على العام وعلى الخاص. فإذا كان يصح أن يحمل المحمول بالإيجاب والسلب على الإنسان وهو عام، ويصحبه فى عمومه، فيصح أن يكون الإيجاب والسلب فيه فى قوة المتضادتين لكن ليس ذلك واجباً فى نفس الأمر، حتى إذا حمل أمر على الإنسان وجب أن يحمل على العام لا محالة، كما إذا حمل عليه وجب أن يحمل على الخاص لا محالة. والإنسان لا يمتنع أن يكون عاماً وأن يكون خاصاً، لكن نفس اللفظ لا يكون دل على ذلك، وهو كما يقول قائل: إن بعض الناس كاتب وبعض الناس ليس بكاتب، فلا يبعد أن يكون البعض من الناس هو زيد فى القضيتين فيكونان فى حكم المتناقضتين، وإن كان اللفظ لا يوجبه. والأمور الممكنة فى اللفظ هى التى تصلح أن تتفق، ولا يوجبها اللفظ.(1/170)
فهذا وجه تأويل لما قيل فى هذا الموضع إن المعنيين اللذين يستدل عليهما بهما قد يمكن أحيانا أن يكونا متضادين. والذى قيل إنه إنما عنى بهذا القول أنا إذا قلنا الإنسان ليس بصحيح كانت قوته قوة قولنا الإنسان صحيح والإنسان مريض، إذ الإنسان الذى ليس بصحيح هو المريض، إذ هما من الأضداد التى لا متوسط بينهما، فهو أيضا وجه. لكن الأولى هو الوجه الأول فلا يبعد عندى أن يقال فى هذا الموضع إن القضيتين ليستا بمتضادتين. ويعنى بالتضاد فيما سلف وفيما يبنى عليه ويلحق به معنيين مختلفين إلا أنه مع ذلك محتمل ومتكلف، فيتضح من هذا أن المهملة فى قوة الجزئية.
والذى قال إن الألف واللام فى المهملات تدل على الحصر الكلى، فإذن لا مهمل إلا وهو كلى، فقد غلط من وجهين: أحدهما أنه ليس الكلام بحسب لغة دون لغة، فعسى أن لا يكون فى لغة العرب مهمل ألبتة. والثانى أن الألف واللام فى لغة العرب أيضا لا توجب الحصر، فإنك تقول إن الانسان نوع ولا تقول ألبتة كل واحد من الناس نوع، وتقوت إن الضحاك محمول على زيد ولا تقول كل ضحاك محمول على زيد. فليس ما ظنه هذا المتحذلق بصحيح.
واعلم أن أخذ الألف واللام مكان السور مما يغلط فى كثير من المواضع حتى إن القضية تكون صادقة مع الألف واللام، فإن لحقها السور بان كذبها. كما إنك تقول إن الأبيض أبيض بالضرورة فتقبله قبولا، فإن قلت كل ما يوصف به بأنه أبيض فهو أبيض بالضرورة، لاح لك كذبه. وأما البحث عن مشاركة الألف واللام والسور فهو أولى بصناعة النحويين. فبين من جملة هذا أن كلية الموضوع غير كلية الحكم، وأن كلية الحكم تدل عليه. أما فى الإيجاب فبلفظ كل، وأما فى السلب فبلفظة ليس ولا واحد، وهذان يدلان على عموم الحكم. وأما الموضوع فعموم ليس من جهة لفظ يدل عليه، بل لأنه فى طبعه كلىّ. والسور الكلى يدل على كلية الحكم بحسب الموضوع لا بحسب المحمول، فإن المحمول وإن كان كليا فليس السور يدل على أن النسبة لكليته بل على أن نسبته إِلى كلية الموضوع. وإِذا قلت كل إنسان حيوان لم تعن أن الحيوان بكليته للأنسان، بل إِن الحيوان لكلية الإنسان. فإن احتجت أن تدل على ذلك لم تدل عليه بهذا السور، بل تحتاج أن تورد لفظا آخر يدل على الكم، كما تقول كل إِنسان هو كل حيوان. وإِن حذفت هذا السور فقلت الإنسان كل حيوان لم يغن هذا اللفظ المذكور شيئا فى الدلالة على كلية الحكم. وأمثال هذه القضايا منحرفات، وليس فى إِحصائها واستقصائها كبير جدوى، لكن العادة جرت بذكرها فلنتأملها ونعرف أحوالها.
الفصل الثامن
(ح) فصل
في المنحرفات الشخصية
لنعتبر هذه مخصوصة أى جزئية الموضوع، ومهملة ومحصورة أى مذكورة السور، وهذا اللفظ الذى يدل على الكمية إِما بإِيجاب كلى أو سلب كلى أو إِيجاب فى البعض كقولك: بعض الناس كاتب، أو سلب عن البعض كقولك ليس كل الناس بكاتب أو ليس بعض الناس بكاتب. فإن سلبك عن الكل من حيث هو كل لا يمنع إِيجابك فى البعض كقولك: ليس كل إِنسان كاتبا بل بعضهم لا كقولك ليس ولا واحد من الناس بكاتب الذى يمنع البعض. فقولك: ليس كل، إِنما يوجب أن العموم ليس، وأما أن الخصوص ليس أيضا فليس فيه، فنقول: إِذا قلنا: زيد، ثم قرنا لفظة التقدير بمحموله فإِما أن تكون لفظة كل أو ولا شىء أو بعض أو لا كل، والمحمول إِما أن يكون معنى كليا أو معنى شخصيا فإن كان معنى شخصيا فمن البين أن إِدخال الكل أو البعض فيه فى الإيجاب هذر، إِلا أن يعنى بالكل الجملة وبالبعض الجزء فيقال مثلا: إِن هذه اليد كل هذه الأصابع والساعد والعضد، أو يقال هذه اليد هى بعض البدن؛ وليس الكل أو البعض الذى هو السور. وفى مثله كلامنا على هذا الوجه.(1/171)
فإنا لا نذهب فى استعمال لفظ الكل والبعض السورين إِلى ذلك ألبتة بوجه من الوجوه، بل نعنى بكل لا الجملة بل كل واحد، ونعنى بالبعض لا الجزء بل بعض ما يوصف بالموضوع ويشاركه فى الحد فقولنا بعض الإنسان إِنما نعنى به بعضا من جملة الناس الذى مع أنه بعض هو أيضا إِنسان فهو واحد من جميع ما يسمى بإنسان ويحد بحده. فإذا استعملنا الكل والبعض السورين فى محمول شخصى فقلنا زيد كل هذا الشخص، أى كل واحد من ذلك الشخص، فهو كاذب. فإنه ليس ذلك الشخص محمولا على آحادٍ كلُّ واحد منها ذلك الشخص، وإذ لا معنى لذلك. ولا يصح حمله بالإيجاب، فنقيضه وهو زيد ليس كل هذا الشخص صادق. وإذا قلنا: زيد بعض هذا الشخص فكاذب، فنقيضه أن زيدا ليس بعض هذا الشخص صادق. وإذا قلنا زيد ليس ولا واحد من هذا الشخص، فإنه بالحقيقة صدق ويوهم كذبا. أما إيهامه الكذب فلأنه يوهم أن هذا الشخص عام وله موضوعات وليس هذا واحدا منها. لكن القضايا لا يلتفت إِلى إيهاماتها بل إلى المفهومات من أنفسها، ولذلك لا يصير قولنا ليس كل إِنسان حجرا كاذبا إيهامه أن بعض الناس حجر. وكذلك إذا جعل الخاص جزئيا سالبا حتى قيل إن زيدا ليس كل هذا الشخص أى ليس كل واحد مما يحمل عليه هذا الشخص، فإنه حق وإن أوهم كذبا، أى أوهم أن لهذا الشخص موضوعات كثيرة. وإنما هو حق لأن هذا الشخص إذا لم يكن له موضوعات كثيرة يحمل عليها فظاهر أن زيدا لا يكون كل واحد منها التى ليست، فإن المعدوم يسلب عن كل موجود فلا يكون الموجود شيئا أو أشياء معدومة. وإِذا كان لا يمكن أن يكون زيد كل واحد مما هو عمرو ومما ليس، فصحيح أن زيدا ليس كل واحد مما هو عمرو. فأما إِن كان المحمول كليا فقلنا: إِن زيدا كل إِنسان أو كل حيوان أو كل كاتب فهو كاذب لا محالة. فإذا قلنا زيد ليس ولا واحد من كذا، فإن كانت المادة ممتنعة كان حقا، وإِن كانت المادة واجبة كان كذبا، وإِن كانت المادة ممكنة لم يجب كذب ولا صدق بعينه، بل أمكن أن يكون زيد مثلا كاتبا فيكذب هنالك أن زيدا ليس ولا واحد من الكتاب، وأمكن أن لايكون كذلك فيصدق هنالك أن زيدا أو لا واحدا من الكتاب. فأما نفس القضية وصورتها فلا توجب شيئا. وبالجملة فإن حمل الممكنات على الأشخاص لا يوجب فى قضاياها تعيين صدق ولا كذب. وأما إِن كان السور جزئيا موجبا فذلك فى مادة الواجب حق، كقولنا: زيد هو بعض الناس، وفى مادة الممتنع كاذب، وفى مادة الممكن موقوف. وأما إِن كان السور جزئيا سالبا كقولك زيد ليس كل كذا فهو يصدق فى كل مادة، فحق أن نقول: زيد ليس كل حيوان وليس كل حجر وليس كل كاتب، فكيف يكون الشخص كل شىء من المعانى الكلية.وأما المهملات فالمقرون فيها سور الإيجاب الكلى بمحموله قد يظن أنه يصدق فى بعض المواضع كقول القائل: إن الإنسان كل ضحاك. وهذا ظن خطأ لأن قولنا الإنسان نعنى به طبيعة الإنسان، وكل ضحاك نعنى به كل واحد مما هو ضحاك، وطبيعو الإنسان لا توصف بأنها كل واحد من الضحاكين وإلا لكان إنسان ما هو كل واحد من الضحاكين وكذلك أيضاً إن أخذ الإنسان من حيث هو عام فإنه ليس ولا واحد من الضحاكين بل هو العام المحمول على واحد واحد منها. فإن عنى بكل ضحاك كل الضحاكين أى جملتهم جميعا، فهذا ما لسنا نذهب إليه فى استعمال الأسوار، لكنا مع ذلك نعتبره فنقول: إن الإنسان العام ليس عمومه هو أنه جملة الضحاكين وكل الضحاكين. ولنأخذ هذا أخذا فمكان بيانه موضع آخر، ولا طبيعة الإنسان من غير زيادة شرط عموم أو خصوص ذلك، وكيف وجملة الضحاكين لا يوصف بها واحد واحد وطبيعة الإنسان يوصف بها واحد واحد فإن عنى بكل ضحاك الضحاك العام من حيث هو عام فهو أيضاً غير ما نريده ونذهب إليه فى استعمال قولنا كل ضحاك، لكنه قد يصدق أن يقال إن الإنسان العام هو الضحاك العام على سبيل الحمل ولا يصدق على طبيعة الإنسان ذلك فإن طبيعة الإنسان ليس هو الضحاك العام وإلا لكان كل إنسان ضحاكا عاماً،فإن طبيعة الإنسان موجودة لكل شخص، فهذا فى المادة الواجبة.(1/172)
وأما فى الممتنع والممكن فالكذب ظاهر كقولك الإنسان كل حجر، أو الإنسان كل كاتب كيف أخذت، فإن كان السور الكلى سالباً كذب فى الواجب الذى هو أعم. فإِنك إذا قلت الإنسان هو لا شىء ولا واحد من الحيوان كذب القول. وأما فى الواجب المساوى فإِنك إذا قلت إِن الانسان هو ولا واحد من الضحاك، كان لك أن تعنى بالإنسان الإنسان العام، وبقولك ولا واحد من الضحاك سلباً عن واحد من أشخاص الضحاك. وإذا عنيت ذلك فلم يكن واحد من الآحاد التى توضع تحت الضحاك هو الإنسان العام وبالعكس وصدقت القضية. فإِن لم يوجد كذلك كذب، وذلك أن يعنى بواحد من الضحاك كل ما يقال له ضحاك كان شخصا شخصيا أو كليا. وهذا أول ما يجب أن يفهم من لفظة هذه القضية وأما فى الممتنع فيصدق كقولك الإنسان هو لا شىء من الحجر، وأما فى الممكن فيصدق إن أردت بالموضوع العام من حيث هو عام كقولك الإنسان العام من حيث هو عام هو ولا واحد واحد من الكتاب. وإن عنيت الطبيعة كذب، كقولك الإنسان ولا واحد من الكتاب. وأما إن أخذ السور جزئيا موحياً صدق فى الواجب العام كقولك الإنسان هو بعض الحيوان، ولم يجب صدقه فى الواجب المساوى كقولك الإنسان هو بعض الضحاك. لأنك إن أخذت طبيعة الإنسان أو عمومها لم يجب صدقه، وإن عنيت إنساناً ما إذ هو إنسان أيضاً صدق. وأما فى الممتنع فهو كاذب إذ تقول الإنسان بعض الحجارة. وأما إن أخذ السور جزئياً سالباً فى الواجب صدق كقولنا الأنسان ليس هو كل حيوان وليس هو كل ضحاك على اعتبار ما سلف ذكره، وصدق أيضاً فى الممتنع فإن الإنسان ليس هو كل حجر، وصدق أيضاً فى الممكن فإِن الإنسان ليس هو كل كاتب، كما كذب أن الإنسان هو كل كاتب. فلنتكلم الأن فى المحصورات فإِن العادة جرت فيها دون غيرها.
الفصل التاسع
(ط) فصل
في صدق المحصورات وكذبها
أما إذا كان الموضوع مسوراً بسور كلى والمحمول كذلك فلا يصدق موجبه فى مادة من المواد، كقولك:كل واحد من الناس كل واحد من الحيوان أو هو كل واحد من الضحاك، أو كل واحد من الناس هو كل واحد من الحجارة أو هو كل واحد من الكاتبين. لكن بعض الناس حسب أن قولنا كل الناس كل الضاحكين حق، أى جملة الناس جملة الضاحكين. وقد علمت ما فى هذا من الخطأ والزلل، فإِن كان سور المحمول كلياً سالباً كقولك كل إنسان لا واحد من كذا كذب فى الواجب، كقولك كل إنسان لا واحد من الحيوان أو الضاحك.
وأما في الممكن فعلى ظاهر ما يحكم به على الممكن فيما سلف هو أنه يصدق لا محالة جزئيه فيكون قولك كل إنسان لا واحد من الكاتبين قولا كاذباً أيضاً، فإِنه ليس كل إنسان كذلك بل بعض الناس الذين ليسوا بكاتبين أولئك هم الذين هم ولا شىء من الكاتبين، وأما البعض الكاتبون فليسوا ولا واحد من الكاتبين والإنسان يعم ذلك اللهم إلا أن يتفق أن تكون مادة القضية على نحو ما أومأنا إليه فيما سلف إن كان جائزاً. فحينئذ يكون للواقف أن يقف فلا يحكم بصدق ولا كذب إلا فى مواد بأعيانها. وأما تحقيق القول فى ذلك فإِلى صناعة غير المنطق.(1/173)
ويصدق فى الممتنع كقولنا كل إنسان ولا واحد من الحجارة. وأما إن جعل سور المحمول جزئياً موجباً كقولنا كل كذا هو بعض كذا، فإن هذا يصدق فى الواجب العام المساوى كقولنا كل إنسان بعض الحيوان أو بعض الضحاك، ويكذب فى الممكن والممتنع كقولنا كل إنسان بعض الكتاب وكل إنسان بعض الحجارة. وأما إن جعل السور جزئيا سالباً كقولك كل إنسان لا كل كذا صدق فى الواجب كقولك كل إنسان لا كل حيوان ولا كل ضحاك، وفى الممتنع كقولك كل إنسان لا كل حجر، وفى الممكن كقولك كل إنسان لا كل كاتب. وأما إذا كان الموضوع مسوراً بسالب كلى ثم قرن بالمحمول سور كلى موجب كقولك ولا واحد من الناس كل كذا صدق فى الواجب كقولك ولا واحد من الناس هو كل حيوان وكل ضاحك، وفى الممتنع كقولك ولا واحد من الناس هو كل حجر، وفى الممكن كقولك لا واحد من الناس هو كل كاتب. فإِن جعل السور المقرون بالمحمول سالباً كلياً كقولك لا واحد من الناس لا واحد من كذا، صدق فى الواجب، فإِنه ليس واحد من الناس ليس واحد من الحيوان أو من الضحاك، وكذب فى الممكن فإِنه يكذب أنه وليس ولا واحد من الناس ليس ولا واحد من الكتاب. فإن معنى هذا أن أى واحد من الناس أخذته كان موجباً عليه أنه واحد من الكتاب. إذ ليس فيهم واحد يصدق عليه أنه ليس واحد من الكتاب، وهذا كاذب ظاهر الكذب. لكن المفسر المتأخر الذى يعول عليه هؤلاء ذكر أن هذا صادق. وأما فى مادة الامتناع فهو كاذب كقولك: ليس ولا واحد من الناس ليس ولا واحد من الحجارة، فإن هذا كذب. فإِن جعل السور المقرون بالمحمول جزئياً كقولك: ليس ولا واحد من الناس هو بعض كذا ، كذب في الواجب كقولك: ليس ولا واحد من الناس هو بعض الحيوان أَو الضحاك، وكذب فى الممكن كقولك: ليس ولا واحد من الناس هو بعض الكتاب، إلا على الاعتبار الذى علمت، وصدق في الممتنع كقولك: ليس واحد من الناس هو بعض الحجارة . فإِن جعل السور المقرون بالمحمول جزئياً سالباً كقولك: ليس ولا واحد من الناس ليس كل كذا فإِنه يكذب فى الواجب كقولك: ليس ولا واحد من الناس ليس كل حيوان أو ضحاك وفى الممكن أيضاً كقولك: ليس ولا واحد من الناس ليس كل كاتب، ويكذب فى الممتنع أيضاً كقولك: ليس ولا واحد من الناس ليس كل حجر. فأما إذا كان السور المقرون بالمحمول موجباً جزئياً فيصدق حيث كذب الذى كان السور المقرون بموضوعه سوراً جزئياً موجبا، ويكذب حيث صدق إذا تساويا فى غير ذلك. وجرب أنت بنفسك.(1/174)
وقد ظن المفسر المذكور أن قولهم: واحد من الناس ليس ولا واحد من الكتاب كاذب. وهذا أيضاً من غفلاته.فإن هذا صادق، فإن الأمى ليس ولا واحد من الكتاب، وهو بعض الناس. فإِن كان السور المقرون بالموضوع جزئياً، كذب حيث يصدق المقرون بموضوعه سور سالب كلى إِذا وافقه فى جميع الأحوال، ويصدق حيث كذب. وجرب أنت بنفسك. وأما إذا كان السور المقرون بالموضوع جزئياً سالباً فإنه يصدق حيث تكذب القضية التى سورها المقرون بالموضوع كلى موجب إِذا ساواها فى جانب المحمول. وجرب أنت بنفسك. ثم لا تلتفت إِلى ما يقال من أن هذه كلها مرذولة، فلا تستعمل ألبتة. نعم الكاذبات منها بهذه الصفة، وأما الصوادق فإِن السور فيها جزء من المحمول، والسور فيها وما معه كشىء واحد حمل على الموضوع بإِيجاب أو سلب، فإن انتفعت بشىء فى موضع من المواضع فاستعمله كما تستعمل سائر القضايا التى ليس فى محمولها سور ألبتة. والذى قال إن هذه ليست صادقة لأجل المعانى لأن بعضها يصدق فى المواد الثلاث وبعضها يصدق فى الواجب والممتنع وأنها ليست موجبات خوالص أو ليست سوالب خوالص، فإنه قال هذراً من القول. أما أولا فإِن المحمولات إذا جزئت أجزاءاً كان لبعضها مع بعض نسب النسبة التى للقضية نفسها. وهنالك تكون القضايا باعتبار أجزائها على أحوال تخالف الأحوال التى تكون للمحمول بكليته عند الموضوع، حتى يكون فيها سالب وتكون القضية موجبة، فلا تغير هى شيئاً من الأحكام التى للقضية من حيث هى فيها محمولة وموضوعة، وإن أوجبت أحكاماً أخص ومتأخرة عن ذلك. وليس الالتفات إلى القضايا واستعمالها لشىء غير الصدق، فإِن كانت صادقة فاستعملها حيث يدخل فيه، ولا تلتفت إلى أن صدقها كان بسبب كذا، فإن الصادق من أَى سبب كان يؤديك إلى الغرض المقصود إذا كان لك أن تستعمله. وأما قول هذا الإنسان إن هذه ليست صادقة لأجل المعانى، فإِن عنى بالمعنى المعقول من الإيجاب والسلب الذى فى القضية فقد كذب، فإن الإيجاب فى الصادق منها صادق وفى الكاذب كاذب، وإن عنى بالمعنى صورة القضية فقد كذب. فإن الصدق الذى يقع فيها يتبع صورتها دائماً. وأما احتجاجه بقياس ألفه على تصديق هذه الدعوى فهو هكذا: إن هذه تصدق فى المواد الثلاثة أو فى مادتين متضادتين، وما يصدق كذلك فليس صادقاً فى المعنى، فإن المقدمة الثانية غير مسلمة، فإن الصادق لايكون صادقا ألبتة إلا بصدق المعنى، وليس الصادق إنما يكون صادقاً أو الكاذب إنما يكون كاذباً لأجل أنه يعم صدقه فى المواد أو لا يعم، بل لأن له موافقة للوجود ومطابقة أو خلافهما فى مادة كانت أو أكثر وقوله إنها ليست موجبات خوالص ولا سوالب خوالص فهو قول باطل، فإن الإيجاب والسلب لا يقبل الغش والخلوص، فإِن أَى معنى جعلته محمولا فحكمت بوجوده للموضوع فهو إيجاب بالسواء وأَى معنى جعلته محمولا فحكمت بلا وجوده للموضوع فهو سلب بالسواء. فإذا أَخذنا قولنا: كل حيوان، أَو بعض حيوان، أَو لا شئ من الحيوان، أَو لا كل حيوان كمعنى واحد أَمكن أَن يجعل محمولا بجملته، ليس على أن المحمول جزء منه الذى هو الحيوان ولا الذى هو السور بل الجملة. ثم إن أوجبناه كان إيجاباً بالحقيقة، وإن سلبناه كان سلباً بالحقيقة، وكان لنا مع ذلك أن نجعل الإيجاب والسلب كلياً أو جزئياً. ومع ذلك فلا نظن أن هذه المواد مواد القضايا، بل هى مواد أجزاء المحمولات، فإن قولنا: كل إنسان هو لاشئ من الحيوان، مادة هذا المحمول هو الممتنع وإن كان مادة جزء منه وهو الحيوان هو الواجب، وليس الحيوان هو المحمول حتى يكون لمادته اعتبار حتى يكون الشئ لما صدق فى مواد مثلا ليست مواد القضية بل مواد أجزائها فقد أذنب هذا الصدق واستحق أن يرذل. فأمثال هذه الأشياء لا يجب أن يقع إليها إلتفات.(1/175)
وأما الذى قال إن السور الكلى إذا قرن بالمحمول كان أيضاً صادقاً، كقولك: كل إنسان قابل كل صناعة، فهذا أيضاً غلط، وذلك لأن قولنا السور قرن بالمحمول فى المنحرفات ليس قولا حقيقياً، فإن القول الحق فيها هو أن يجعل السور مع شئ آخر محمولا ويكون ذلك الشئ له حكم، أو جعل وحده محمولا ولم يدخل السور. وأما إذا دخل السور وقرن به ذلك الأمر وجعل الجميع شيئاً واحداً، فتلك الجملة هى المحمول. فليس ذلك الأمر المفرد وحده هو المحمول فى هذه القضايا، بل إنما قيل لهذا الجزء إنه محمول بسبب أن البحث الأول كان عن كلية موضوع، ومحمول فقيل إنه لا ينبغى أن يشتغل ببيان كلية المحمول، فإن الغرض ليس أن يدل على أن المحمول بخصوصه أو بعمومه موجود فى شئ، بل إِن طبيعته كيف كانت موجودة فى شئ. فإن حاولت أن تقرن هناك سوراً فقد انحرفت القضية وصار المحمول ليس بمحمول، بل جزءاً من المحمول، فانتقل اعتبار الصدق إلى النسبة التى تقع لتلك الجملة مع الموضوع. فلذلك سميت هذه القضايا منحرفات ولم يشتغل بها المعلم الأول. بل الواردون من بعد، المحبون للتكثير، الموجبون على غيرهم الشرع فيما لا يعنى اضطراراً إلى الموافقة بما يحيطون فيه أيضاً فى ذلك التكثير. وأما: قولك: كل إنسان قابل كل صناعة، فان السور هاهنا مقرون بالصناعة، والصناعة ليست المحمول الذى لولا السور كان يكون محمولا، بل جزء من ذلك المحمول. وذلك المحمول بتمامه قولك قابل الصناعة، فلو قال كل إنسان كل قابل صناعة أو كل صناعة لكان يكون منحرفاً. وأما قوله: الإنسان قابل كل صناعة فليس من المنحرفات، إذ ليس السور مقروناً بما كان يكون محمولا لولا السور قرناً من غير زيادة مضافة إليه.
الفصل العاشر
( ى ) فصل
في تحقيق حال التناقض
ومراتب أصنافها في أقسام الصدق والكذب المتعين وغير المتعين
إن وقوعنا إلى المنحرفات كان بسبب بياننا للفرق بين كون القضية كلية وبين كونها كلية الموضوع، فبان فيما بين ذلك أن المهملات ليست فى حكم المحصورات الكلية وأنها فى حكم المحصورات الجزئية، وهى الأولى بها أن تسمى داخلة تحت المتضادة، وأنها تصدق فى الممكنة معاً ولا تكذب ألبتة فى موضع معاً. وتأمل ذلك فى المواد الثلاث. فلما تمادى بنا الكلام فى بيان ذلك احتجنا إلى أن نعرف أن الحصر يجب أن يقع فى الحكم من غير تناول للمحمول أيضاً، واحتجنا أن نبين أن تناوله للمحمول كيف يكون، ووقعنا إلى المنحرفات وتأملنا حال الصدق والكذب فيها.(1/176)
فلنرجع الآن إلى غرضنا فنقول: إن أول ما يجب أن يعرف من حال الإيجاب والسلب حال التناقض الذى يوجب لصورته أن تكون إحدى القضيتين صادقة والأخرى كاذبة بعينها أو بغير عينها لا لأجل مادة دون مادة. وهذا لايكون بين المتفقين فى الكم، فقد تكذب الكليتان منهما وتصدق الجزئيتان فلا تتناقضان، إذ التناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب اختلافا يلزم عنه لذاته أن يكون أحدهما صادقا والآخر كاذبا بعينه أو بغير عينه، فيجب إذن أن يكون المختلفان بالإيجاب والسلب اختلافا تاماً محصلا يختلفان أيضاً فى الكمية إن كان موضوعهما كليا. وأما ذات الموضوع الشخصي فيكفى فيها الاختلاف التام بالإيجاب والسلب لتعين الموضوع. وأما المهمل فهو فى حكم الجزئيتين الداخلتين تحت التضاد كما قد علمت فإذن المهمل لا تناقض فيه. وكيف والإهمال إما أن يقتضي الكلية فتكون القضيتان كلتاهما كليتين، أو لا يقتضى إلا الجزئية كما علمت فتكونان جزئيتين. وقد علم الحال فى جميع ذلك، فإذن لا تناقض بين المهملتين. فيبقى أن يكون التناقض بين المخصوصات والمحصورات، وأن يكون المحصور المخالف بالكم والكيف هو المناقض فقولنا: كل كذا، يناقضه لا كل أو لا بعض، إذ هما واحد فى القوة، وقولنا: لا شئ، يناقضه بعض. فإن كانت الكلية موجبة صدقت فى الواجب وكذبت فى الممكن والممتنع، ومقابلها يكذب فى الواجب ويصدق فيهما. وإن كانت الكلية سالبة صدقت فى الممتنع وكذبت فى الممكن والواجب، ومقابلهما يكذب فى الممتنع ويصدق فيهما. وعليك أن تجرب. فلا بد فى كل مناقضة من أن يكون فى أحد طرفيها سور كلى، فكل مقابلة محصورة كلية الموضوع وأحد طرفيها وحده مسور بسور كلى، فإنها تقتسم الصدق والكذب فى كل موضع. وكذلك الشخصيات وما عداها فلا تناقض فيها، فيحق أن نقول: إن الإنسان لفى خسر وإن الإنسان ليس فى خسر، وإن الإنسان جميل وإن الإنسان ليس بجميل، وذلك لأنه قد يصير الجميل قبيحاً فلا يكون جميلا، وكذلك عندما هو فى التكون جميل فليس بجميل؛ والإنسان يكون جميلا ثم يكون لا جميلا عندما هو قبيح وعندما هو فى التكون قبيحا. أو قيل إن كان جميلا فالموضوع الواحد بعينه يشير إلى صدق القولين: إن الإنسان جميل وإِنه ليس بجميل، فكيف موضوعان مختلفان. وليس كون ذلك فى شيئين أو وقتين مما يزيل حقيقة ما يقوله، فإن كل واحد منهما إذا صدق فى وقت، صدق من غير اعتبار وقت ولا وقت. فما لم يحصل للإنسان صفة أنه جميل لم يكن جميلا فى وقت من الأوقات فصدق أنه جميل فى وقت كذا يتقدمه، صدق أَنه جميل أى مطلقا. لست أعنى بالمطلق الدائم، فإِن ذلك بالحقيقة ليس بمطلق بهذا المعنى بل هو مقرون بشرط الدوام، إنما المطلق ما لا شرط فيه بوجه؛ وكذلك الحال فى السلب؛ وهذا أَمر سيأتيك بيانه بوجه آخر من بعد.(1/177)
لكن لقائل أن يقول: إن القولين كليهما كاذبان، فإن قولنا: الإنسان جميل، معناه كل إِنسان جميل، وقولنا: الإنسان ليس بجميل، معناه كل إنسان. ونحن قد أتينا بالجواب عن هذا فيما سلف ذكره. فإن قولنا: الإنسان، يقتضى معنى الإنسان بلا شرط، فيصلح أن يتناول كل ما هو إنسان، وإن كان واحداً بعينه. وليس بنا حاجة إِلى تطويل الكلام بذكر ما أورده مخالفوا الحق من الاستدلالات بأقوال الشعراء، استعملوا فيها مهملات على أنها محصورات، فأجاب المتكلفون للجواب عن ذلك بأن ذلك فى مادة ضرورية، ولو قالوا: إنا لا نمنع أن نستعمل المهملات منويا بها الحصر. لكن ذلك شئ يعرف لا من نفس القضية، بل من عادة جرت واختصار اعتيد لكان ذلك كافياً، فإنا فى اكثر الأمور نتجوز فنحذف الأسوار ونستعمل المهملات واثقين بأن المخاطبين يقفون على الغرض، والشاعر أيضاً لم يكن يلتفت إلا إِلى العادة وما كان يشعر من أمر المادة المذكورة وضرورتها شيئاً، ولو كانت المادة تجعل ما بالقوة بالفعل لكان يجب أن نقول أن المهملتين فى الواجب والممتنع متضادتان. وليس كذلك، بل يجب أن نعتب حال المهمل من حيث هو قضية وأمر أعم من ذوات المواد الثلاثة لا من حيث فى مادة مادة. فإن المهملة فى مادة الواجب من حيث هى مهملة جزئية الحكم، وإِن كانت المادة يصدق فيها الكلى. وفرق بين حكم يصدق لو حكم به، وبين حكم قد حكم به بالفعل، وبين حكم توجبه صورة القضية وبين حكم تريده مادة القضية على موجب صورته. والذى ذكر بعضهم أنكم كيف تجعلون المهملتين صادقتين والموضوع فيهما شئ واحد، وذلك قول خطأ، وذلك لأنه إن عنى شيئاً واحداً بالعدد وفى زمان واحد فقد كذب، فإن القائلين إن الإنسان لفى خسر، ليس الإنسان لفى خسر، لا يشيرون فى ذلك إلى إنسان واحد معين بعينه، بل إما أن لا يعينوا أو يعينوا مختلفين تعييناً كأنه خارج عن مفهوم القضية، بل مقرون فى الذهن إِلى مفهومها. وإن عنى شيئاً واحداً بالحد فليس هذا أول ما يعلمه فى الواحد بالحد، بل لا يبالى بأن يحمل الأضداد على شئ واحد بالحد، وتوحدها فيه كالفردية والزوجية معا فى العدد الذى هو واحد فى الحد. والاشتغال لتطويل القول فى هذه الأشياء مما لا يجدى، لكن يجب أن يتحقق أن غرضنا المقدم ها هنا هو فى تحقيق التناقض، وأن حال التناقض هو على ما وصفناه.(1/178)
لكن للمتشكك أن يتشكك فيقول: ما يمنع أن يكون للإيجاب الواحد مقابلان اثنان حتى يكون كلاهما له فى حكم المناقضة ؟ فنقول إن هذا أمر ممتنع، فإن المحمول الواحد من جهة واحدة من موضوع واحد من سور واحد لا يمكن أن يسلب مرتين إلا أن يكون إما المسلوب مختلفاً أو المسلوب عنه مختلفا.فللإيجاب الواحد سلب واحد، فيكون إذن للإيجاب الذى هو أن كل إنسان حيوان سلب واحد. فإن دل بالموضوع أو المحمول على معنيين لم يكن الإيجاب واحداً فلم يكن سلبه واحداً. فإنا إذا سمينا الفرس ثوباً وسمينا به الإنسان أيضاً، فقلنا: إن الثوب أبيض كان معناه أن الفرس أبيض والإنسان أبيض، إلا أن يكون الثوب دالا على معنى واحد جامع للإنسان والفرس والثوب، فحيئذ لا يكون اسماً للإنسان ولا للفرس بل يكون اسماً لمعنى يحمل عليهما. لكنه قد يجب علينا أن نتحقق أصلا لا نسع إغفاله، وهو أنه ليس يجب أن تكون أحوال المتناقضات فى اقتسامها الصدق والكذب حالا واحدا فإن المحصورت يتعين فيها الصدق والكذب لذات القضية ولطبيعة الأمر. وكذلك القضايا الشخصية الزمانية التى أزمنتها ماضية أو حاضرة، فإِ ن الزمان الذى حصل جعل أحد الأمرين لاحقاً لطبع الآخر بالضرورة. وأما القضايا المتناقضة الشخصية فى الأمور المستقبلة. فإنها ليس يجب فيها من جهة طبائع الأمور أن يتعين فيها صدق ولا كذب، ولا أيضاً يكون قد تعين أحدهما فيه بحصول السبب المعين. فإِن التعيين إما بموجب الأمر فى نفسه، وإما لوجود السبب المعين لما ليس يجب بذاته أن يتعين. فإن كل شئ واجب، فإما أن يجب لذاته أو يجب بحصول السبب الذى يوجبه، ولو كان فى القضايا التى نحن فى ذكرها تعيين لصدق أو كذب حتى كان كل إيجاب أو سلب، إما صادقاً بعينه وإما كاذباً لكان كل أمر فى المستقبل إما أن يوجد لا محالة وإما أن لا يوجد. فإنه إذا قال قائل: إن كذا يوجد، وكان يتعين فيه الصدق أو الكذب، وقال الآخر: إنه لا يوجد ويتعين أنه صادق أو كاذب، وليكن الأول صادقاً متعين الصدق حتى لا يمكن أن لا يوجد الأمر أو ليكن الآخر صادقاً متعين الصدق، فحينئذ لا يمكن أن يوجد الأمر إذ كان لا يمكن أن يوجد الشىءُ مع صدق القول بأنه لا يوجد. وبالعكس فإِن القول إن كان صدقاً فالأمر موجود، وإِن كان الأمر موجوداً فالقول صدق. فإنه إن كان الشىء فى نفسه يكون إما أبيض بعينه أو غير أبيض بعينه فالقول يصدق فيه إما أنه أبيض بعينه وإما أنه غير أبيض، حتى يكون الوجود واللاوجود مع الصدق والكذب. وحتى إن كان القول فى ذلك صادقاً فالأمر يكون لا محالة، وإن كان كاذباً فالأمر لا يكون ألبتة، فيلزم تالياً بما قدمناه من المقدمات الشرطية أن لا يكون كل شىء من الأشياء واجباً أن يكون أو واجباً أن لا يكون، وأن لا يكون شىء مم يكون بالاتفاق، بل تكون الأشياء كلها بالضرورة. وهذا سنشير قريباً إلى إِحالته، أَعنى التالى من قولنا: إنه إن كان كل إيجاب أو سلب يجب أن يصدق بعينه أو يكذب بعينه فليس شىء من الأشياء يكون على سبيل الاتفاق جائزاً فيه الكون واللاكون، بل الأمور كلها ضرورية. والذى أوجب هذا التلو هو أن كان القول قبل كونها يتعين فيه صدق أو كذب، فيكون بياض زيد الذى وجد الآن، لقد كان قبل الآن واجباً ضرورة أن يوجد فى الآن إذ عسى كان بعض الناس قال إنه يوجد، ولم يكن كذب بل صدق فكان كون هذا المصدق به ضرورياً، وكذلك فيما يستقبل أيضاً مما يقال فيه الآن أنه يوجد، ويصدق القول الآن صدقاً متعيناً، وليس الأمر إنما يصير موجوداً بأنه قد صدق به، بل إنما يكون القول صدقاً لأن الأمر فى نفسه كذلك. فإذن هذه الضرورة تكون فى نفس الأمر وإن لم يُقل شىء.(1/179)
فقد بان من هذا أن الصدق والكذب إذا تعين واحد منهما عرض هذا الذى سنشير إلى أنه محال، وإن لم يتعين فلذلك وجوه ثلاثة: أحدهما أنهما يشتركان في الصدق، والثانى أنهما يشتركان في الكذب، والثالث أنهما ليس أحدهما الآن واجباً أن يكون صادقاً أو كاذباً، بل كل واحد منهما يمكن ذلك فيه وإن كان لا يمكن أن يكون ذلك في غيرهما، وأنه يفوتهما معاً فيخرج عنهما الصدق أو الكذب 0 لكن الوجه الأول محال، فإنه إن كانا حقين وكل واحد منهما يقابل الآخر ويناقضه صار كل واحد منهما أيضا كاذباً فكانا حقين وكاذبين معاً، وهذا محال؛ وكيف يكونان حقين والحق هو ما يطابق الوجود فسيكون الأمران جميعاً موجودين معاً، فيكون زيد يبيض ولا يبيض، بل يسود معاً في زمان واحد 0 وكذلك القسم الثاني وهو أنهما جميعاً يكذبان فإنه يلزم أن يصدقا جميعاً أيضاً وأن يوجد الأمر ولا يوجد معاً ومع ذلك فيكون المحال الأول ثابتاً، فإِنه يكون الأمران معاً ضرورين، ولا يكون في العالم شىء هو من قبيل ما يكون اتفاقاً لا بالضرورة فيكون المحال الذى هرب منه قديماً ثابتاً الآن أيضا، فإِذن إثبات الصدق موجوداً في أحدهما بعينه يوجب أن لا يكون اتفاق وإِثبات الصدق والكذب مشتركا فيهما يوجب هذه المحالات وأن لايكون شىء يحدث بالاتفاق لكن ذاك الذي لزم أولا وهذا الذي لزم الآن محال 0 أما استحالة الذي لزم الآن فظاهرة، وأما استحالة الذي لزم أولا فلأنا نعلم أن ها هنا أموراً تحدث بالاتفاق وأموراً تحدث وكونها ولا كونها بالسواء، ولولا ذلك لما كان بنا حاجة أن نروى أو نفكر أَو نستعد معتقدين أنا إن فعلنا ما يجب كان أمراً لا يكون إن قصرنا، ولو كان الأمر الذى نروى فيه ونستعد له مما يكون بالضرورة أو لا يكون بالضرورة، كأن قائلا قال فيه أمراً فصدق أَو كذب فيعين حكمه لقوله ما كان لاستعدادنا ورويتنا فائدة بوجه من الوجوه، لكن عقولنا تشهد بفائدة الاستعداد فلا نشك فيها، فإذن ما يرفعها ويبطلها محال. فإذ كان بعض الأمور بالصفة المذكورة وكان الاستعداد والأهمية بغير حاله لم يكن ضرورياً بنفسه ولا يتعين فإذن هذا التعين عن الصدق والكذب محال، وليس هذا فى الأمور التى تكون بالاختيار فقط، بل الأمور التى فى الطبع أَيضاً كالخشب فإنه يمكن فى طباعه أن يبقى إلى أن يبلى ويمكن أن تصادمه نار فيحترق ولا يجب له من حيث هو خشب أحد الأمرين. فهكذا يجب أَن يفهم ما قيل فى التعليم الأول ولا يلتفت إِلى التكلف الذى يتكلفه بعض المفسرين حتى يظن أَن هذا الكلام المورد فى التعليم الأول إنما يراد به إثبات الضرورة ونفى الإمكان ثم يُرجع عنه إلى إثبات الإمكان ونفى الضرورة على سبيل المراوضات فإنه إذا تأمل النسق الذى عبرنا عنه ونسق التعليم الأول علم أن هذا هو أولى به فإن قيل فى تفاسيرهم تكلف مع أنه محال، فإِن النظر فى طبيعة الضرورى والممكن وإثبات الإمكان ليس مما يفى به المنطقى من حيث هو منطقى، بل ذلك لصناعة أَخرى. إنما غرض المنطقى أَن يعلم حال الصدق والكذب، وأَنه كيف يتعين وكيف لا يتعين وأن التعين فى بعض الأمور يوجب محالا معاندا لما كان ظاهراً مشهوراً. فبين أن من الأمور ما ليس ضرورياً فى الوجود واللاوجود فإنه من المشهور الظاهر أن كثيراً من الأشياء ليس وجوده بضرورى، لست أعنى ما دام موجوداً وبشرط أنه موجود، فإِنه بهذا الشرط وسائر الشرائط الأخرى التى تشبهه مما ستعلمه فى مواضع أخر من الشرائط التى تطرأ على الممكن فتغير حاله إلى الضرورة فيكون الشىء بها ضروريا، بل إنما ليس وجوده ضرورياً من حيث النظر إِلى ماهيته بلا زيادة فإنه لا سواء إِثبات الشرط وحذفه فليس سواء أن تقول زيد ماش بالضرورة؛ وقولك زيد ماش بالضرورة، مادام ماشياً، وكذلك تقول: زيد الماشى يمكن أن لا يكون ماشياً إذا أَخذناه مطلقاً ولم نعن وقت مشيه ولا نقول: زيد الماشى يمكن أَن لا يكون ماشياً ما دام ماشياً، وكذلك إِذا نظرت الى الاحتراق والخشبة وجدت الاحتراق لا ضرورة فى وجوده لها فإن اشتراط حال ما هو محترق أَو حال مماسة نار قاهرة إِياه فى مدة تفعل فى مثلها صار واجباً، وكذلك الحال فى الأقوال فإن بعضها صادق بعينه وبعضها كاذب بعينه وبعضها جائز فيه أن يصدق وأَن يكذب وأَما الآن فليس يفيد صدقاً ولا كذباً إِلا أَن يلحق به شرط ولكن لا يكون الصادق(1/180)
والكاذب شيئاً غيره وغير نقيضه، بل كما أَن الأمر ليس واجباً أَن يكون موجوداً، كذلك ليس القول واجباً أن يصدق، وكما أَن الأمر واجب أَن يكون مادام كائناً وأَن لا يكون ما دام غير كائن. وكذلك القول الذى لم يكن واجباً أَن يصدق حين قيل بالإطلاق مثلا: إن زيداً يوجد، فأنه يصدق اذا قيل: إن زيداً يوجد مادام موجوداً. وكذلك القول الذى لم يكن يصدق بالفعل إذا قيل: ان زيداً لا يوجد فإِنه يصدق بالفعل إذا قيل. إن زيداً لا يوجد مادام لا يوجد. وتفهمك هذا يغنيك عن اشتغالى بنقض ما قاله بعض الناس فى أَن قيل فى التعليم الأول من أَن زيداً ماش بالضرورة مادام ماشياً وأَنه ليس ماشياً بالضرورة كالمتناقض ليجتمع من جميع ما قيل إن هذه القضايا ليس يتعين فيها صدق بالضرورة بل بالإمكان وإن كان أَحد الطرفين فى بعضها أَولى بالصدق كما أَن بعض الأمور التى لا ضرورة فى كونها ولا كونها. فإن كونها مع ذلك أَولى من لا كونها كموافاة الخارج إلى دكانه دكانه فى أَكثر الأمر.كاذب شيئاً غيره وغير نقيضه، بل كما أَن الأمر ليس واجباً أَن يكون موجوداً، كذلك ليس القول واجباً أن يصدق، وكما أَن الأمر واجب أَن يكون مادام كائناً وأَن لا يكون ما دام غير كائن. وكذلك القول الذى لم يكن واجباً أَن يصدق حين قيل بالإطلاق مثلا: إن زيداً يوجد، فأنه يصدق اذا قيل: إن زيداً يوجد مادام موجوداً. وكذلك القول الذى لم يكن يصدق بالفعل إذا قيل: ان زيداً لا يوجد فإِنه يصدق بالفعل إذا قيل. إن زيداً لا يوجد مادام لا يوجد. وتفهمك هذا يغنيك عن اشتغالى بنقض ما قاله بعض الناس فى أَن قيل فى التعليم الأول من أَن زيداً ماش بالضرورة مادام ماشياً وأَنه ليس ماشياً بالضرورة كالمتناقض ليجتمع من جميع ما قيل إن هذه القضايا ليس يتعين فيها صدق بالضرورة بل بالإمكان وإن كان أَحد الطرفين فى بعضها أَولى بالصدق كما أَن بعض الأمور التى لا ضرورة فى كونها ولا كونها. فإن كونها مع ذلك أَولى من لا كونها كموافاة الخارج إلى دكانه دكانه فى أَكثر الأمر.
المقالة الثانية
من الفن الثالث من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(أ) فصل
في القضية الثنائية والثلاثية
والمعدولة والبسيطة والعدمية والنسب التى تقع بين مناقضات هذه الثلاثة فى المخصوصات والمهملات
القضية إِما أن يكون مصرحا فيها بالرابط المذكور زمانيا كان أو غير زمانى، وإِما أن لا يكون، فإن صرح به فإنها تسمى ثلاثية، وإِن لم يصرح به فإنها تسمى ثنائية. والثنائيات فانها قد اختصرت عن الواجب فيها إِلا أن تكون محمولاتها كلماً، فلا يبعد أن ترتبط بأنفسها. لأن الكلم تدل على الموضوع فى بنيتها، والرابطة إنما يُحتاج إِليها لتدل على نسبة المحمول إِلى الموضوع إِذا كان اسما هو فى نفسه منفرد. وإِذا وجدت الدلالة على الموضوع حاصلة فى الكلم، لم تكن حاجتها إِلى الرابطة حاجة الأسماء الأصلية، والأسماء المشتقة تجرى مجرى الكلم فى ذلك. على أن هذا ليس حكما جزما فى الكلم أيضا، إِذ كانت الكلم وإِن دلت على موضوع فلا تدل على معين، والحاجة إِنما هى إِلى ما يربط بالمعين ربطا يشير إِليه. ولغة العرب لا تفقد هذه الرابطة أداة تشبه الاسم وتفقدها أداة تشبه الكلمة،فإنهم إذا قالوا: زيد هو حى فإن هو يرجع إلى زيد ويتناوله مشارا إِليه فقط، وأما إِذا قيل زيد كان حيا، لم يكن فى كان دلالة على تعيين زيد؛ فلذلك ما يقول علماء لغتهم إِن هاهنا إِضمارا، ومعناه كان هو حيا. ثم سائر اللغات تختلف فى ذلك.(1/181)
فمراتب القضايا إِذن ثلاث: مرتبة ما دل فيه على تعيين النسبة، ومرتبة ما دل فيه على النسبة ولكن لا بالتعيين، ومرتبة مالم يدل فيه على نسبة أصلا. وهذا القسم الأخير هو الثنائى التام، والقسمان الآخران ثلاثيان، لكن أولهما ثلاثى تام، والثانى ثلاثى لم تتمم ثلاثيته. وبالجملة فان الثلاثية هى التى يصرح فيها بالرابطة كقولنا: الإنسان يوجد عدلا، أو قولنا: إِن الإنسان هو عدل. فإِن لفظة يوجد ولفظة هو ليست داخلة على أنها بنفسها محمول، بل لتدل على أن المحمول موجود للموضوع. وأما لفظة يوجد فلتدل على وجود المحمول للموضوع فى زمان مستقبل. وأما لفظة هو فلتدل على وجود المحمول للموضوع مطلقاً. فالرابطة تدل على نسبة المحمول، والسور يدل على كمية الموضوع، فلذلك ما كانت الرابطة معدودة فى جانب المحمول وكان السور معدوداً فى جانب الموضوع. فإذا صارت القضية ثلاثية وقرن بها حرف السلب لم يخل إما أن يدخل حرف السلب على الرابطة أو تدخل الرابطة على حرف السلب. مثال الأول قولنا: زيد ليس يوجد عادلا، ومثال الثانى: قولنا زيد زيد يوجد لا عادلا. فإِن دخل حرف السلب على الرابطة سلب ربطها وكان ذلك سلباً بالحقيقة، وإن دخلت الرابطة على حرف السلب صيرت حرف السلب جزءاً من المحمول فلم يكن العادل بانفراده محمولا، بل جملة اللاعادل، فإن لفظة يوجد تجعل جملة اللاعادل محمولة على زيد بالإيجاب كأنه قال زيد موصوف بأنه غير عادل حتى إنه يصلح أن يسلب هذا بحرف سلب يدخل كرة أخرى على الرابطة فيقال: زيد ليس يوجد غير عادل. فيفترض ها هنا موجبتان وسالبتان، فإِن قولنا زيد يوجد عادلا يقابل قولنا: زيد ليس يوجد عادلا، وهما الموجبة والسالبة البسيطتان، وقولنا: زيد يوجد لا عادلا يقابله قولنا: زيد ليس يوجد لا عادلا، وهما الموجبة المعدولية والسالبة المعدولية. فإِن القضية التى محمولها اسم غير محصل أو كلمة غير محصلة تسمى معدولية ومتغيرة، فإن أوجب ذلك المحمول كانت القضية موجبة معدولية، وإن سلب كانت سالبة معدولية. وإذا لم تكن رابطة وكانت القضية ثنائية فقرن بمحمولها حرف السلب لم يكن هناك دليل على أن حرف السلب داخل على أنه رافع المحمول ولا على أنه جزء من المحمول والمحمول هو الجملة. لكن بعض حروف السلب الداخلة وخصوصاً إذا كان المحمول كلمة بحسب لغاتنا فإن ذلك يغلب الظن على أن حرف السلب رافع النسبة. ثم لا ندرى حكمه فى لغات أخرى موجودة أو فى القوة، فعسى أن يكون التصريف فى ألفاظ السلب الداخلة على كلماتها أو نحو آخر من أنحاء الإشارة يدل على ذلك. والمحمول هو الجملة الداخلة على الأسماء، كما أن بعض حروف السلب الداخلة على الأسماء فى لغة العرب أدل على السلب وبعضها على العدول فبشبه أن يكون لفظ ((ليس)) أولى بالسلب ولفظ ((غير)) أولى بالعدول، وإذا دخل على أيها كان لفظة ما صار موجباً كقول القائل إن آ ليس بب. فإن هذا القول قد يشعر الذهن قريباً معه أن المعنى هو أن آ هو ما ليس بب، فتُقدم الرابطة التى هى لفظة هو على السلب فى الذهن وإِن لم يصرح به فيشعر بأنه موجب. وأما إذا لم يكن هناك دليل كان حكم الظاهر أن القضية ثنائية خالية عن الرابطة.(1/182)
ونحتاج الآن أن نقدم لتحقيق ما يجب من التحقيق من هذا الباب أصولا. فنقول: إن حقيقة الإيجاب هو الحكم بوجود المحمول للموضوع، ومستحيل أن يحكم على غير الموجود بأن شيئاً موجوداً له، فكل موضوع للإيجاب فهو موجود إما فى الأعيان وإما فى الذهن. فأنه إذا قال قائل: إن كل ذى عشرين قاعدة كذا، فإنه يعنى بذلك أن كل ذى عشرين قاعدة يوجد كيف كان، فهو كذا؛ ليس معنى ذلك أن كل ذى عشرين قاعدة من المعدوم يوجد له فى حال عدمه أنه كذا فإنه إذا كان معدوماً فصفاته معدومة، إذ ليس يجوز أن يكون معدوماً وصفاته موجودة، وإذا كان معدوماً فكيف يحكم بأنه يوجد إلا عند قوم يهوشون أنفسهم فيجوزن أن يكون للمعدوم صفات حاصلة ولا تكون موجودة ويكون الحاصل عندهم غير الموجود. وكلامنا فى المفهوم من الحاصل ولا نريد بالمفهوم من الموجود غيره، ولهم أن يريدوا بالموجود ما شاءوا، بل الذهن يحكم على الأشياء بالإيجاب على أنها فى أَنفسها ووجودها يوجد لها المحمول أَو أَنها تعقل فى الذهن موجوداً لها المحمول، لا من حيث هى فى الذهن فقط بل على أَنها إذا وجدت وجد لها هذا المحمول. فإن كان لا وجود للشئ وقت الحكم إلا فى الذهن، فحينئذ من المحال أَن نقول إن ب منه مثلا موجوداً له أَنه آ ليس فى الذهن، بل فى نفس الأمر، وليس هو فى نفس الأمر موجوداً، فكيف يوجد له شئ. ومفهوم الإيجاب والإثبات ثبوت حكم لشئ وهذا هو وجوده له، كما أن مفهوم السلب هو لا ثبوت حكم لشئ، وهذا هو عدمه لا محالة. فبيِّن من هذا أنه لا إيجاب ألبتة إلا على موضوع حاله ماذكرنا. فأما الأشياء التى لا وجود لها بوجه، فإن الإثبات الذى ربما استعمل عليها حين يرى أن الذهن يحكم عليها بأنها كذا، معناه أنها لو كانت موجودة وجودها فى الذهن لكان كذا؛ وهذا كما يقال إن الخلاء أبعاد. فأما السلب فقد يحق على الموجود والمعدوم، فالفرق المقدم بين السالبة البسيطة والموجبة المعدولية أن موضوع السالبة البسيطة قد يكون موجوداً وقد يكون معدوماً ويصح السلب عنه من حيث هو معدوم، وأما موضوع الموجبة المعدولية فلا يصح أن يوجب عليه وهو معدوم. ثم إن قوماً حاولوا بعد هذا أن يفرقوا بين الموجبة المعدولية وبين السالبة البسيطة بأن جعلوا المعدولية تدل على عدم أمر من شأنه أن يكون موجوداً فى الجنس القريب أو البعيد أو فى النوع، حتى قالوا: إن قولنا: لا عادل، إنما يصح على عادم العدل وفى طبيعته أن يكون عادلا أو فى طبيعة جنسه كقولهم للبهيمة إنها غير ناطقة أَو للنفس الناطقة إنها غير جسم، والمعنيان موجودان فى جنسهما. وقوم قالوا: إن غير العادل هو بإزاء الجائر والمتوسط، وإن غير البصير إنما هو بإزاء الأعمى، فسواء قلت غير بصير أو قلت أَعمى، حتى لا يصح أَن يقال للخَلُدْ عندهم إنه غير بصير؛ فهذا ما يقولونه. فأما القول الحق فبين من مثال نمثله. فنقول: إنا إذا قلنا كل جسم فإنه غير موجود فى موضوع، وكل ما هو غير موجود فى موضوع فهو جوهر، فكل جسم جوهر؛ كان ما أنتجناه لازما. ومعلوم أن القضيتين موجبتان، ولفظ غير مأخوذة جزءا من المحمول، ولذلك تكررت جزءا للموضوع، ونتج ما نتج. ومع ذلك فإن غير الموجود فى موضوع ليس يشير إلى عدم شئ موجود فى جنس الجوهر بوجه من الوجوه إذ لا جنس للجوهر اللهم إلا أن يوجد الموجود كالجنس. فإن فعل هذا وجعل دلالة المعدول على عدم مّا من شأنه أن يوجد فى جملة الوجود كان هذا أقرب إلى الحق بل المعدول هو الذى حرف السلب جزء من محموله كيف كان. فإذا أخذنا حرف السلب مع الذى لو انفرد كان محمولا وحده أخذا كشئ واحد، ثم أثبتناه على الموضوع برابطة الإثبات، كانت القضية موجبة من حيث تأليفها؛ فأما المادة وكيفيتها فهو أمر آخر.(1/183)
وقد سمعوا فى تعليم المقولات وبعده أن لفظ اللا إنسان ليس يختص بشئ دون شئ، وليس يختص بما وجد دون ما عدم، أو أنه يصلح أن يجعل محمولا. فما كان يجب أن يشكل هذا الأمر فيه، وإنما أوجبنا أن يكون الموضوع فى القضايا الإيجابية المعدولية، لا لأن نفس قولنا غير عادل يقتضى ذلك، ولكن لأن الإيجاب يقتضى ذلك فى أن يصدق سواء كان نفس غير عادل يقع على الموجود والمعدوم أو لا يقع إلا على الموجود. فيجب أن يعلم أن الفرق بين قولنا كذا يوجد غير كذا وبين قولنا كذا ليس يوجد كذا، أن السالبة البسيطة أعم من الموجبة المعدولية، فى أنها تصدق على المعدوم من حيث هو معدوم، ولا تصدق الموجبة المعدولية على ذلك فإِنه يصدق أن يقال: إن العنقاء ليس هو بصيرا، ولا يصدق أن يقال: إن العنقاء يوجد غير بصير. هذا على أن العنقاء اسم يدل على معنى فى الوهم، ولا وجود له فى الأعيان.
وبعد هذا فنقول: إن كل محمول بسيط محصل، فإما أن يكون له ضد، أو لا يكون. فإن كان له ضد، فاما أن يكون بينهما متوسط، أو لا يكون. والموضوع لا يخلو إما أن يكون موجودا، أو معدوما مأخوذا من حيث هو معدوم. فإِن كان موجودا وفرض بإِزائه شىء كالمحمول فإما أن يكون ذلك موجودا فيه، أو ضده، أو واسطة إن كانت أو تكون كلاهما جميعا بالقوة مثل الجرو الذى لم يفقح فإن العمى والبصر كليهما فيه بالقوة، أو يكون غير قابل ولا لواحد منهما مثل النفس للبياض والسواد والوسائط. فإِذا قلنا: زيد ليس يوجد عادلا، فإنه يكذب إذا كان عادلا فقط ويصدق فى البواقى. وإما إذا قلنا: زيد يوجد لا عادلا، فإنه يصدق إذا كان جائرا أو متوسطا أو كليهما بالقوة أو غير قابل لهما على اختلاف الآراء فيه، ويكذب إِذا كان عادلا أو معدوما. وقد جرت عادتهم بأن يسموا أخس المتقابلين عند الجمهور وفى ظاهر المشهور فى مثل هذا الموضع عدما، سواء كان بالحقيقة عدما كالعمى والظلمة، أو كان ضدا كالجور. فالموجبة العدمية تقع فى حيز الموجبة المعدولية والسالبة البسيطة، فيكون حال العدميتين عند المعدولتين أن الموجبة منهما تشارك الموجبة المعدولية، والسالبة تشارك السالبة المعدولية. فإن الموجبة المعدولية تصدق على الموجبة العدمية، ولا ينعكس، لأن الموجبة المعدولية أعم من الموجبة العدمية؛ لكن السالبةالعدمية تصدق على السالبة المعدولية، ولا ينعكس. فإنه إذا صدق قولنا إن زيدا ليس يوجد لا عادلا، صدق قولنا إن زيدا ليس يوجد جائرا، ولا ينعكس. فإِنه ليس إذا صدق قولنا إن زيدا ليس يوجد جائرا، صدق أنه ليس يوجد لا عادلا، فإن هذا يصدق فى المختلط وفى الذى بالقوة وفى غير القابل، ولا يصدق الأول عليه. فحال العدميتين عند المعدولتين أن الايجاب يطابق الإيجاب والسلب يطابق السلب وإن اختلفا فى العموم والخصوص، وحال العدميتين عند البسيطتين أن السلب يطابق الإيجاب والإيجاب يطابق السلب. وهذا لوح هذه المخصوصات بأحكامها: ( اَ ) زيد يوجد عادلا ( بَ ) زيد ليس يوجد عادلا يصدق فى الجميع إلا فى واحد يصدق إذا كان عادلا فقط فيصدق إذاكان معدوما وجائرا ومختلطا وبالقوة ولا بالقوة ويكذب فيما سوى ذلك ويكذب إذا كان عادلا ( جَ ) زيد ليس يوجد لا عادلا ( دَ ) زيد يوجد لا عادلا يصدق إذاكان عادلا أو معدوما يكذب إذا كان عادلا أومعدوما ويكذب فى البواقى ويصدق فى البواقى ( ه ) زيد ليس يوجد جائرا ( وَ ) زيد يوجد جائرا يكذب إذا كان جائرا ويصدق إذا كان معدوما أو عادلا يصدق فى واحدفقط إذاكان جائرا أو مختلطا أو بالقوة أو لا بالقوة ويكذب فى البواقى فقد بين لك أَن اثنين حالهما عند العدميين كحال الإيجاب والسلب عندهما، واثنين ليس كذلك. وأما أَن الموجب فى كل واحد منهما صدقة فى واحد والسالب كذبه فى واحد، فهو مما يتشابه فيه العدميتان والبسيطتان وتختلف به العدميتان والمعدوليتان.(1/184)
واعلم أَن ما هو أَخص صدقا من شىء فنقيضه أَعم صدقا من نقيض ذلك الشىءِ، وذلك لأن الأخص صدقا هو الأعم كذبا والأعم صدقا هو الأخص كذبا. ويصدق النقيضان حيث يكذب الأولان من المتشاركين، فإن الذى يكذب أَكثر مقابله يصدق أَكثر؛ فلذلك نقيض أَمر لازم الأخص من غير انعكاس هو ملزوم لنقيض الأخص من غير انعكاس؛ وحيث كذب الأعم كذب الأخص من غير انعكاس وحيث صدق الأخص صدق الأعم من غير انعكاس. ولنضع للمهملات لوحاً أَيضاً: الإنسان يوجد عادلا الإنسان ليس يوجد عادلا الإنسان ليس يوجد لا عادلا الإنسان يوجد لا عادلا الإنسان ليس يوجد جائرا الإنسان يوجد جائرا فقولنا: الإنسان يوجد عادلا يصدق إذا كانوا كلهم عادلين أَو بعضهم عادلين والباقون ما كانوا، ويكذب إذا كانوا معدومين. وإِذا لم يكن فيهم عادل واحد ما كانوا متفقين أو شوبا. وأما قولنا: الإنسان ليس يوجد عادلا، فيصدق إذا كانوا كلهم معدومين أو كانوا كلهم لا عادل فيهم ألبتة ما كانوا أو كان بعضهم لا عدل فيه ما كان والآخر فيه عدل أو غيره ما كان إذا وجد بعض منهم معدومين أو جائرين أو متوسطين أو بالقوة أو غير قابل، ويكذب إذا كانوا كلهم عادلين فقط. فهاتان المضالعتان تتفقان فى باب واحد اتفاق ما لا يقتضى عموماً. وأَما قولنا: الإنسان يوجد جائراً فيصدق إذا كان كلهم جائرين أَو بعضهم جائراً وبعضهم ليس عادلا ما كان، فقد يصدق إذن معه قولنا: الإنسان ليس يوجد عادلا. كيف يصدق ولا ينعكس، فإنه قد يصدق قولنا الإنسان ليس يوجد عادلا لأنه إذا كانوا كلهم لا عادلين ولا جائرين متفقين كانوا أَو شوباً، وحينئذ لا يصدق أَن الإنسان يوجد جائراً. وأما قولهم الإنسان ليس يوجد جائراً فيصدق إِذا كانوا معدومين، أَو كان لا جائراً فيهم أَلبتة، أَو كان بعضهم جائراً فقط، وبالجملة إذا كان بعض معدوماً أَو عادلا أَو متوسطاً أَو غير قابل والآخر ما كانوا، ويكذب إِذا كانوا كلهم جائرين فقط، فهو أعم من قولنا: الإنسان يوجد عادلا. وأما قولنا الإنسان يوجد لا عادلا فيصدق إذا لم يكن فيهم عادل ألبتة كائناً ما كانوا متفقين وشوبا أو لم يكن فى بعضهم كائناً ما كان، بل كانوا أولئك البعض جائرين أو متوسطين أو بالقوة أو غير قابلين أو كان البعض وحده عادلا، ويكذب إذا كانوا معدومين أو كان الجميع عادلين، فهو أعم من قولنا الإنسان يوجد جائراً، وأخص من قولنا الإنسان ليس يوجد عادلا. وأما قولنا: الإنسان ليس يوجد لا عادلا، فإنه يصدق إذا كانوا كلهم معدومين أو كانوا كلهم عادلين أو كان بعضهم عادلين والباقى ما كانوا؛ وبالجملة بعد أن يكون بعض معدوما أو عادلا، ويكذب إذا لم يكن فيهم عادل ألبتة كائناً ما كانوا؛ فهو أكثر صدقاً من قولنا: الإنسان يوجد عادلا، لكنه أخص من قولنا: الإنسان ليس يوجد جائراً، لأن قولنا: الإنسان ليس يوجد جائراً، يصدق إذا كانوا كلهم معدومين أو كلهم عادلين أو بعضهم عادلين، ويصدق أيضاً إذا كانوا كلهم متوسطين أو بالقوة أو غير قابلين، ويكذب هناك قولنا: الإنسان ليس يوجد لا عادلا. فالمضالعات كلها تجتمع على الصدق إذا كان بعض وبعض ليس.
وأما المقاطرات فإن الموجبة البسيطة والعدمية تتفقان إِذا كان بعض عادلا وبعض جائراً، والموجبة والبسيطة والموجبة المعدولية تتفقان إذا كان بعض عادلا والآخرون موجودون فقط ما كانوا. وأما السالبة البسيطة والسالبة العدمية فتتفقان إذا لم يكن فيهم عادل ولا جائر ألبتة أو كان بعض عادلا وبعض جائراً. وأما السالبة البسيطة والسالبة المعدولية فتتفقان على الصدق إذا كانوا معدومين أو بعض عادلا وبعض غير عادل. وأما الموجبة العدمية والسالبة البسيطة فتتفقان إذا كان البعض جائراً والبعض الآخر ما كان. وأما السالبة العدمية والموجبة المعدولية فتتفقان إذا لم يكن فيهم عادل ولا جائر أو إذا كان بعض وبعض.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في اعتبار هذه المناسبات بين المتناقضات المحصورة
وإتمام القول في العدول والبساطة والإشارة إلى المواضع الطبيعية للواحق القضايا فلنفرض الآن كذلك لوحاً للمتناقضات: كل إنسان يوجد عادلا ليس كل إنسان يوجد عادلا ليس كل إنسان يوجد جائرا كل إنسان يوجد جائرا ليس كل إنسان يوجد لا عادلا كل إنسان يوجد لا عادلا(1/185)
قولنا: كل إنسان يوجد عادلا، يصدق إذا كانوا كلهم عادلين فقط، ويكذب فيما خلا ذلك. وقولنا: ليس كل إنسان يوجد عادلا، يكذب إذا كانوا كلهم عادلين ويصدق فيما خلا ذلك. وأما قولنا: كل إنسان يوجد جائراً، فيصدق إذا كانوا كلهم جائرين، ويكذب فيما خلا ذلك. وقولنا: ليس كل إنسان يوجد جائراً، يكذب إذا كانوا كلهم جائرين، ويصدق فيما خلا ذلك. فتكون الموجبة العدمية أخص من السالبة البسيطة، لكن السالبة العدمية أعم من الموجبة البسيطة.
وأَما قولنا: كل إنسان يوجد لا عادلا، فيكذب إذا كانوا معدومين أَو بعضهم عادلا أَو كلهم عادلين، ويصدق فيما خلا ذلك، فهو أَعم صدقا من الموجبة العدمية.
وقولنا: ليس كل إنسان يوجد لا عادلا، يصدق إذا كانوا معدومين أَو بعضهم عادلا أَو كلهم عادلين، ويكذب فيما وراء ذلك، فهو أَخص من السالبة العدمية، وجرت الأمور هاهنا مجرى الشخصيات.
فأما الموجبات المقاطرة فلا تجتمع أَلبتة على الصدق، لكن تجتمع على الكذب إذا كان الكل معدومين وإذا كان بعض عادلا وبعض غير عادل ما كان. فإن قولنا:كل إنسان يوجد عادلا، يكذب إذا كان بعضهم عادلا فقط، وهناك يكذب كل إنسان يوجد جائراً وكذلك كل إنسان يوجد لا عادلا. وأما السوالب فإنها قد تجتمع على الصدق حيث تكذب الموجبات معاً، ولا تجتمع على الكذب، وإلا لاجتمع نقائضها على الصدق.
فهذه صورة الحال إذا جعلنا الكلية موجبة.
وإن جعلنا الكلية سالبة وضعنا لوحا على هذه الصفة: بعض الناس يوجد عادلا ليس ولا واحد من الناس يوجد عادلا ليس ولا واحد من الناس بجائر بعض الناس يوجد جائراً ليس ولا واحد من الناس لا عادلا بعض الناس يوجد لا عادلا فإن السالبة الكلية تصدق إذا كانوا كلهم جائرين أو كلهم متوسطين أو بالقوة أو غير قابلين أو معدومين أو خلط ليس فيهم عادل، وتكذب إذا كان بعضهم عادلا والباقى كيف كان. وقولنا بعض الناس يوجد عادلا، يصدق إذا كان بعض عادلا والآخرون كيف كانوا، ويكذب إذا لم يكن فيهم عادل كيف كانوا.
وأما قولنا: لا واحد من الناس يوجد جائراً، فإنه يصدق إذا كانوا كلهم عادلين أو متوسطين أو بالقوة أو غير قابلين أو معدومين أو خلطا ليس فيهم جائر ولا عادل ألبتة، ويكذب إذا كان بعضهم جائراً، ومقابله يصدق إذا كان بعضهم جائراً كائناً ما كان الآخرون. فالعدمية الموجبة هاهنا لا تلزم السالبة البسيطة، ولا تلزمها السالبة البسيطة فإنه إِذا كان بعض الناس جائراً أو بعض عادلا والباقون كيف كانوا من غير أن يكونوا عادلين صدقت الموجبة العدمية وكذلك السالبة البسيطة. وإذا كان كل الناس معدومين أو متوسطين أو بالقوة أو غير قابلين أو خلطاً ليس فيهم جائر ولا عادل، صدقت السالبة، ولم تصدق الموجبة الجزئية العدمية. وإذا كان بعض الناس جائراً وبعضهم عادلا صدقت الموجبة الجزئية، وكذبت السالبة البسيطة. فإذا لا تلازم بين هذين فلا تلازم بين نقيضها، وإلا لكان بينهما عكس ذلك التلازم.
وأما قولنا: ليس ولا واحد من الناس يوجد لا عادلا، فيصدق إذا كانوا كلهم معدومين أو كلهم عادلين، ويكذب فيما خلا ذلك.
وأما السالبة العدمية فتصدق فيما صدقت فيه، وتصدق إذا كانوا غير قابلين أو متوسطين أو خلطاً ليس فيهم جائر. فهى أعم منها، أى من السالبة المعدولية. وكيف لا، وأنت تعلم أن الموجبة العدمية أخص عن الموجبة المعدولية، فيجب أن تكون السالبة المعدولية أخص من السالبة العدمية.
فقد خالف الأمر هاهنا ما كان عليه فى الشخصيات. فإن المقاطرات الموجبة هاهنا قد تصدق معاً إذا كان بعض عادلا وبعض جائراً. فالسوالب تكذب معاً فى ذلك، وتكذب الموجبات معاً إذا كان الكل معدومين، وتصدق السوالب فيها. لكن البسيطة والعدمية تكذبان معاً إذا كان الكل متوسطين بالقوة أو غير قابلين، فتصدق مقابلتاهما حينئذ، ولنتأمل حال لوح يفرض للمضادات على هذه الصورة.
كل إنسان يوجد عادلا لا واحد من الناس يوجد عادلا لا واحد من الناس يوجد جائرا كل إنسان يوجد جائرا لا واحد من الناس يوجد لا عادلا كل إنسان يوجد لا عادلا(1/186)
فلا تجد المضالعات تتفق ألبتة لكنها قد تتفق على الكذب. وكذلك المقاطرات الإيجابية. فإنها لا تتفق ألبتة على الصدق، لكنها قد تتفق على الكذب إذا كانوا معدومين أو خلطاً. وأما المقاطرات السلبية فتتفق على الصدق والكذب جميعاً كما قد علمت.
وأما الدواخل تحت المضادة فهى فى حكم المهملات.
فهذه الأقسام إنما تولدت من اعتبار العدول فى جهة المحمول، وقد تتولد أيضاً من جهة اعتبار العدول فى جهة الموضوع إذا جعلت الموضوع مثلا لا إنساناً فأثبت عليه أو سلبت عنه. فانظر الآن وتأمل ما أوجبه التعليم الأول. فإن التعليم الأول جعل اللا إنسان صالحاً لأن يكون موضوعاً غير محصل، ولم يوجب بهذا أن يكون اللا إنسان يدل على عدم خاص أو جنسى، فاحكم أن الأمر من جانب المحمول كذلك. واعلم أنه كما أن الرابطة كانت إذا دخلت على حرف السلب جعلته جزءاً من المحمول،حتى إذا أوجب صارت القضية موجبة، وإذا دخل حرف السلب عليها فرقت الرابطة بينه وبين المحمول وصادفت الرابطة المحمول محصلا فكان سلباً لا إيجاب عدول. فكذلك إذا كان فى جانب الموضوع سور، فإن السور إذا دخل على حرف السلب جعله جزءاً من الموضوع، كقولك كل لا إنسان. وأما إذا دخل حرف السلب على السور واقترن السور بالموضوع صادف السور الموضوع محصلا وصار حرف السلب للسلب كقولك: ليس كل إنسان. فإذا أريد أن يكون الموضوع معدولا، فليجعل حرف السلب جزءاً من الموضوع، فإِذا تشاركت القضيتان فى الكم واختلفتا فى الكيف وفى العدول والتحصيل من جهة المحمول، وكان الموضوع فى حكم الموجود، فهما متلازمتان. فإن قولنا: كل إنسان يوجد عدلا، يلازم قولنا: لا أحد من الناس يوجد لا عدلا، إذا كان الموضوع فى حكم الموجود. وقولنا: ليس كل إنسان يوجد عدلا، يلازم قولنا: بعض الناس يوجد لا عدلا، بعد الشرط المذكور. وقولنا: كل إنسان يوجد لا عدلا، يلازم قولنا: لا واحد من الناس يوجد عدلا. وقولنا: ليس كل إنسان يوجد عدلا، يلازم قولنا: بعض الناس يوجد عدلا. وبرهان ذلك، وليكن على المثال الأول، أنا إذا قلنا: كل إنسان يوجد عدلا فكذب عليه قولنا: ولا واحد من الناس يوجد لا عدلا، صدق نقيضه وهو واحد من الناس يوجد لا عدلا، وكان كل إنسان يوجد عدلا وهذا محال. وأنت تعرف الحال فيما بقى من هذه الصورة. وهذا الشرط الذى نورده من كون الموضوع فى حكم الموجود حتى تكون القضية يصح إيجابها ربما أغفل، وهو الواجب اعتباره. فإن لم يعتبر ذلك كانت السوالب تلزم الموجبات، لأن السوالب تصدق على ما هو معدوم من الموضوعات، ولا يمتنع.
واعلم أن الموضوع الشخصى إذا سلمت عليه السالبة من طرفى النقيض، جاز أن تبقى سالبة بحالها، وجاز أن تجعل موجبة معدولية إن كان ذلك أنفع. كما إذا سئل هل زيد عدل ؟ فقيل: لا، كان للسائل أن يأخذ أنه ليس زيد بعدل، وأن يأخذ أن زيداً هو لا عدل. وأما إذا كانت القضية محصورة فسأل مثلا هل كل إنسان حكيم، فقيل:لا لم يكن له أن يقول: فكل إنسان إذن لا حكيم. وذلك لأن قوله: لا، معناه ليس كل إنسان حكيماً. وهذه كما علمت لا يلزمها: فكل إنسان إذن لا حكيم، وليست فى قوة نقيض تلك، بل فى قوة ضدها. وإنما لم يكن قولنا: كل إنسان هو لا حكيم، نقيضا، إذ النقيض إنما يكون نقيضاً إذا سلب عما أوجب، كما أوجب. فأما إذا سلب من حيث هو محمول، ولم يسلب من حيث هو محمول بكمية مّا معلومة، لم يكن السلب سلباً لما أوجب من حيث أوجب. فربما لم يكن المحمول كاذباً فى نفسه، بل بجهة حمله، فإِذا تركت الجهة بحالها لم تدر ما يكون. فإِذا كان الحمل للحكم كذباً بشرط عمومه، فيجب أن يرفع عموم حمله فيقرن السلب بالسور الموجب فيرفع عموم الإيجاب.(1/187)
واعلم أنه وإن كانت أجزاء القضايا قد تزال عن أماكنها فى بعض الأوقات فلا تؤثر فى المعنى على حسب التعارف فإِن لكل جزء منها مكاناً طبيعياً. أما السور فقد يبدل مكانه، فيقال الناس أحياء كلهم أو طرّا، فيؤخر السور، ويفرق بينه وبين الموضوع؛ وإنما مكانه الطبيعى هو مجاورة الموضوع. وكذلك الرابطة قد يبدل موضعها الذى لها، فيقال تارة يوجد الإنسان عادلا وتارة الإنسان يوجد عادلا وتارة الإنسان عادلا يوجد؛ وإنما مكانها الطبيعى مجاورة المحمول، بل قد يبدل وضع المحمول والموضوع. ولكن التفريق بين السور وبين حرف السلب مما لا يجوز. وسيأتى لك فى باب الجهات بيان آخر. وقد يكلف إيضاح أن قولنا يوجد الإنسان عدلا وقولنا يوجد عدلا الإنسان معناه معنى واحد بأن قيل إن كان سلبهما واحداً فيجب أن يكونا واحداً. لكن سلب قولنا يوجد الإنسان عدلا هو أنه ليس يوجد الإنسان عدلا، فإِن لم يكن هذا سلب قولنا يوجد عدلا الإنسان، فليكن سلبه، أما قولنا ليس يوجد عدلا اللاإِنسان أولا يوجد عدلا إنسان. لكن الأول سلب قولنا يوجد عدلا اللاإِنسان، والثانى سلب قولنا يوجد إنسان عدلا، وهذا البيان لا يغنى شيئاً، وذلك لأنه إما أن لا يشكل الأمر فى وحدانية حكم هاتين القضيتين وإِما أن يشكل. فإِن أشكل وأمكن أن يكون أحد من الناس يرى أن قولنا يوجد الإنسان عدلا غير قولنا يوجد عدلا الإنسان يرى أيضاً أن السلبين متخالفين، أعنى قولنا لا يوجد الإنسان عدلا وقولنا لا يوجد عدلا الإنسان. فلا يرى أن يوجد عدلا الإنسان هو سلب قولنا يوجد الإنسان عدلا. فإن قال إنا نعلم إذا قلنا ليس يوجد عدلا الإنسان أَو قلنا ليس يوجد الإنسان عدلا، إنما تسلب فيهما العدالة عن الإنسان. فيقال إن هذا ليس أَظهر من إيجاب العدالة للإنسان فى القولين الموجبين. فإن كان ذلك مما يشكل فبالحرى أَن يشكل هذا، بل الحق أَن ذلك ظاهر لا يشكل، وهذا أَيضاً ظاهر ليس يشكل، وليس أَحدهما أولى من الآخر بأن يشكل أَو بأن يظهر.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في تعريف الحال
في القضايا المتكثرة والمتأحدة واللاتي تختلف حال صدقها وكذبها بحسب التفريق والجمع واللاتي لا تختلف فيها وبيان ظنون غالطة وقعت للناس فى بعض ذلك(1/188)
إن القضية الحملية إنما تكون واحدة إذا كان فيها محمول لموضوع واحد، فإن تكثر الموضوع والمحمول واحد كقولنا: الفرس والإنسان حيوان، أو تكثر المحمول والموضوع واحد كقولنا: زيد كاتب وطويل، فإن القضية لا تكون واحدة، بل الأول من المثالين قضيتان إحداهما أن الفرس حيوان والأخرى أن الإنسان حيوان، والثانى أيضا قضيتان إحداهما زيد كاتب والأخرى زيد طويل. فأما إن اتفق أن كان فى الموضوع أو المحمول تكثر باللفظ، وكان هناك تأليف لفظى لكنه يؤدى بالجملة إلى أن يكون منه معنى واحد، لم يؤد تكثر اللفظ إلى تكثير المعنى، مثل قولك: إن الإنسان حى ناطق ميت، أى إن الإنسان شىء هو الحى الذى هو الناطق الذى هو الميت؛ فهذه الجملة محمول واحد بالحقيقة، وكذلك إِذا قلت الحيوان الناطق المايت قابل للكتابة. وأما إذا كانت المعانى متباينة، لا تجتمع طبيعة واحدة كالإنسان الأبيض المشاء، فإذا قلت زيد إنسان أبيض مشاء فما حملت عليه معنى واحداً، فإن هذه الثلاثة أمور لا يتقيد فى الطبع بعضها ببعض حتى تتخذ طبيعة واحدة، ولذلك فإِن القضية لا تكون واحدة. فهذا هو ما يقال، ولكننى لا أضايق فى أمثال هذا مضايقة كثيرة ألبتة، فإنى أجوز أن يجعل هذا قضية واحدة حتى يكون زيد الشىء الذى هو موصوف باجتماع هذه فيه، ولى أن أضع لذلك اسماً واحدا من حيث هو جملة فيكون حمل ذلك الاسم. ولتكن الجيم مثلا تدل على مجموع هذه حتى تكون جَ الذى هو الشىء الموصوف بأنه مشاء، والمشاء الذى هو أبيض، فيكونإذا قلت زيد جَ فهمت أنه مجموع هذه، ولم يكن بد من أن تقول زيد جَ أَو ليس جَ، وليس هذا كما كنا قلنا من قبل: إنا إذا سمينا الأبيض بالثوب وسمينا الطول بالثوب فقلنا زيد ثوب كان قولنا فى حكم قضيتين، كأنا قلنا زيد أبيض وزيد طويل، وذلك لأن الثوب هناك اسم للأبيض، وأما هاهنا فليس الجيم اسماً لواحد من هذا، بل للجملة من حيث هى جملة. وأيضاً فإن الحيوان الناطق المائت إذا لم يذكر فى الحمل والوضع على سبيل التقييد، بل على سبيل التعديد حتى كان كأنه قال الإنسان حيوان وناطق ومائت، كانت هذه قضايا كثيرة ولما كان السؤال الجدلى، كما ستعلمه، ليس هو كل سؤال فإن السؤال عن ماهية الشىء وكيفيته سؤال بعلم ليس سؤال طلب الإلزام، بل السؤال المنطقى هو ليتسلم به مقدمات تجتمع فتنتج خلاف ما ينصره المجيب، فيكون الجواب عنه إما تسليم ما يطلبه أو تسليم نقيضه ضرورة ولا يكون للمجيب محيص عنهما. وإذا لم تكن المسألة بقضية واحدة فى الحقيقة لم تقتض جوابا واحدا، فإن من ذلك ما لا يمكن أن يجاب فيه بإيجاب ولا سلب، كمن سأل فقال هل الإنسان جسم وروح أم ليس فإِنه ليس يمكن أن يجاب بالإيجاب ولا بالسلب، فإن أحدهما محمول على الإنسان والآخر مسلوب عنه، بل يجب أن يفرق الجواب فيقال الإنسان جسم وليس الإنسان بروح. ومن ذلك ما يمكن أن يجاب فيه وفى نقيضه كليهما بإيجاب أو سلب، ولكن لا يكون الجواب واحدا، كمن سأل أَليس الإنسان جسما ومكلفا ؟ فإِن هذا وإن أَمكن فيه الجواب بالإيجاب فيهما جميعا فليس جوابا واحدا. وربما كان اللفظ واحداً لكنه مشترك وذلك على القسمين الممثل بهما جميعا، فللمجيب إذا حكمه السائل بين طرفى النقيض وأَلزمه أن يجيب بأحدهما أَن يلزم السائل تحرير المسألة وتقريرها َ وتوحيدها.(1/189)
ثم يتصل بهذا المعنى أشياء جرت العادة بذكرها، وبالحرى أن نذكر المشهور منها ثم نتعقبه. قد قيل إن من الإشياء التى تحمل فرادى ما يصح أن تحمل جملتها جملة واحدة ومنها ما لا يصح، وكذلك من الأشياء التى تحمل جملة ما يصح أن يحمل أفرادها فرادى ومنها ما لا يصح. أما مثال ما يصدق جملة وفرادى فهو الحد وأجزاؤه. وأما مثال ما يصدق فرادى ولا يصدق جملة فقد قالوا إن بعضه يكذب صراحا، مثل أن يكون إنسان من الناس طبيبا دون الوسط ويكون فارها فى الخياطة أو بصيرا بالعين، فيصح أن يقال: إِن زيدا طبيب، ويصح أن يقال: إن زيدا فاره، ولا يصح أن يقال: إِن زيدا طبيب فاره، بأن يؤخذ الكل محمولا واحدا. وكذلك لا يصح أن يقال: زيد طبيب بصير، فإِن هذا يكون نعتا إياه بأنه طبيب فاره فى الطب أو بصير فيه. وقالوا وإن بعضه يكون هذيانا إما بالقوة وإِما بالفعل، أما بالفعل فإن القائل إِذا قال: زيد إِنسان، فصدق؛ ثم قال: هو أبيض، فصدق، فإن كان يجب أن يصدق جملة ما يصدق فرادى، وجب أن يصدق أن زيدا إِنسان أبيض ولأن هذا يصدق والأبيض يصدق، وما صدق فرادى صدق جملة من غير هذيان، وجب أن يصدق من غير هذيان، فيقال إِن زيدا إنسان أبيض أبيض، وكذلك إِلى غير النهاية. وإِن كانت التفاريق أكثر من اثنين، فالشناعة أظهر. وأما الذى بالقوة فمثل أنه إِذا وجب من صدق قولنا: الإنسان حيوان، وقولنا: اإنسان جسم، أن يصدق جملة فيصدق أن الإنسان حيوان جسم أو حيوان حساس، وهذا هذيان. بل قال بعضهم إِن هذا أيضاً كذب، وذلك لأنا إِذا قلنا: إِن سقراط إِنسان ذو رجلين، فكأنا إِنما فصلناه من أناس ليسوا بذى رجلين، فكأنه قد انطوى فى قولنا هذا أن فى الناس من ليس هو ذا رجلين، وهذا كذب. ثم طلبوا القانون لهذا فقالوا: إِن الأشياء التى يعرض لبعضها أن تحمل على بعض لأنها قد تجتمع فى موضوع واحد كالبصير والطبيب والأبيض وجميع ما ليس بعضه كالصورة وبعضه كالمادة، أو الأشياء التى ليس حال اجتماعها كما يكون من حال اجتماع الصورتين فى مادة واحدة بل هى عوارض متباينة مثل ما عرض للطبيب فى المثال أن صار أبيض وللأبيض أن صار طبيبا فإِنها لا تصير معنى واحدا وذلك لأن معنى أنه طبيب ليس معنى أنه أبيض بل عرض له أنه أبيض، فمن هذه الجملة قد يكون ما لا يجتمع صدقا. وكذلك إِذا كان بعضه محصورا فى بعض، فإنه لا يحمل كالأبيض فى الإنسان الأبيض صريحا وذو الرجلين فى الإنسان تضمينا. وأما ما يصدق مجتمعا ولا يصدق فرادى فمنها ما يكون أجزاء المحمول فيه تشتمل على مناقضة مصرح بها، كقولهم: إِن الخصى رجل لا رجل، والقاضى سلطان لا سلطان، وإِن الخفاش طير لا طير، إذ يلد ولا يبيض. ومنها ما تكون تلك المناقضة فيها بالقوة، كما يقال للسفينة التى تتخذ من الحجر فيلعب بها الصبيان أنها سفينة حجر، ولا يصدق أن يقال إِنها سفينة، لأن السفينة آلة للطفو والحجر يرسب، فحد السفينة يقتضى مناقضة لما كان حجرا. وكما يقال لهذا الشخص إنه إنسان ميت ولا نقول: إنه إنسان، لأن الإنسان حده أنه حيوان ناطق. والمائت يقابل الحيوان. وأما الذى لا مقابلة فيه وتكذب أفراده مع ذلك، أنا إذا قلنا الآن، وقد مات أوميروس، إن أوميروس موجود شاعر، وإن أوميروس هو شاعر، فإن ذلك حق؛ وإذا قيل: إن أوميروس هو أو موجود، كان كذبا وكذلك العنقاء موجود فى التوهم، فإذا قيل موجود كان كذبا. قالوا فيجب إذا كانت المحمولات ليس فيها تقابل لا بالفعل ولا بالقوة، أى إذا اعتبرت الحدود، فكان الحمل بالذات، فإن حملها الصادق جملة لا يمنع حملها الصادق فرادى. فيجب علينا نحن أن نتأمل هذه الأشياء بالإنصاف، ونقول فيها ما يوجبه الحق. فنقول: أما إذا تجوز فى الحمل وتوسع فيه فقد يعرض جميع ما قالوا، وبإغفال معرفة ما قالوا يعرض غلط شديد. وذلك لأن الناس قد اعتادوا ألفاظاً يقولونها وفيها مجاز قولا كالحقيقة. ففى مثل تلك الألفاظ إذا أوجب أن كل ما يحمل فى العادة تفاريق يجب أن تصدق جملة، أو ما يحمل فى العادة جملة فيجب أن تصدق تفاريق عرض ما قالوا. وللعلم الأول إنما لحظ فى ابتداء التعليم هذا الغرض، ولم يلحظ التحقيق، إذ كان المبتدىء يشق عليه الوقوف على ذلك حتى يميز العادة المجازية فيه عن الحقيقة المحضة. ومع ذلك فيغلطه إهمال ظاهر الحال فيه، فحذر من ذلك ومن مذهب العادة فيه، وأما إن(1/190)
لملم يشتغل بالعادة والتفت إلى الأعراض وإلى المفهومات اللفظية بالحقيقة، لم يلزم شىء من جميع ما قالوه غير الواحد الذى هو فى التكرير والهذيان. فأما أمثلة الطبيب والفاره والبصير فالحق يوجب أن هذا يصدق فرادى ومجتمعة، وذلك لأنه حين حمل على زيد الفاره لم يحمل عليه الفاره كيف اتفق، بل حمل عليه الفاره على أنه فاره فى شىء محصل لما كان فارهاً فى الخياطة، وحين حمل البصير عليه أيضاً فلم يحمل عليه البصير كيف اتفق بل على أنه بصير بالعين. وإذا كان كذلك، فإذا جمعت المحمولتين وعنيت عند الجمع ما عنيت فى التفريق لم يعرض كذب، فإن زيداً طبيب فاره فى الخياطة وطبيب بصير بالعين وليس طبيباً فارهاً فى الطب، فلم تكن أردت عند التفريق بالفارِهِ الفارِهَ فى الطب ولا بالبصير البصيرَ فى الطب. فإن قال قائل: إنه إِنما حمل عليه الفاره بلا شرط شىء وكذلك البصير، فلنفرض أنه إنما حمل عليه الفاره فارهاً من غير شرط والبصير بصيراً من غير شرط، فيجب عند الجمع أن يحفظ على ما كان قبل الجمع. فإنه إذا لحق به شرط أو غير منه معنى فليس هو المحمول الذى كان أولا، فإِن كان قد حمل الفاره مطلقاً وعنى أنه فاره أى فى شىء ما يحق الآن عند الجمع أنه طبيب فاره فى شىء ما. وأما فاره فى الطب فلم يحمل مفرداً، ولا إذا قرن بالطبيب هذا المعنى وجب أن يكون معناه أنه فاره فى الطب وإن أوهمت العادة ذلك. وأما إن كان أريد فى التفريق بالفاره الفاره فى الخياطة فهذا كان هو المحمول بجملته عند الحقيقة، وهو الذى يجب أن يورد عند الجمع. وقد يجوز فى حذف جزء منه لفظاً من حقه أن يصرح به، وأما إذا لم يصرح به فإنما لم يصرح اتكالا على تفهيم العادة ذلك.يشتغل بالعادة والتفت إلى الأعراض وإلى المفهومات اللفظية بالحقيقة، لم يلزم شىء من جميع ما قالوه غير الواحد الذى هو فى التكرير والهذيان. فأما أمثلة الطبيب والفاره والبصير فالحق يوجب أن هذا يصدق فرادى ومجتمعة، وذلك لأنه حين حمل على زيد الفاره لم يحمل عليه الفاره كيف اتفق، بل حمل عليه الفاره على أنه فاره فى شىء محصل لما كان فارهاً فى الخياطة، وحين حمل البصير عليه أيضاً فلم يحمل عليه البصير كيف اتفق بل على أنه بصير بالعين. وإذا كان كذلك، فإذا جمعت المحمولتين وعنيت عند الجمع ما عنيت فى التفريق لم يعرض كذب، فإن زيداً طبيب فاره فى الخياطة وطبيب بصير بالعين وليس طبيباً فارهاً فى الطب، فلم تكن أردت عند التفريق بالفارِهِ الفارِهَ فى الطب ولا بالبصير البصيرَ فى الطب. فإن قال قائل: إنه إِنما حمل عليه الفاره بلا شرط شىء وكذلك البصير، فلنفرض أنه إنما حمل عليه الفاره فارهاً من غير شرط والبصير بصيراً من غير شرط، فيجب عند الجمع أن يحفظ على ما كان قبل الجمع. فإنه إذا لحق به شرط أو غير منه معنى فليس هو المحمول الذى كان أولا، فإِن كان قد حمل الفاره مطلقاً وعنى أنه فاره أى فى شىء ما يحق الآن عند الجمع أنه طبيب فاره فى شىء ما. وأما فاره فى الطب فلم يحمل مفرداً، ولا إذا قرن بالطبيب هذا المعنى وجب أن يكون معناه أنه فاره فى الطب وإن أوهمت العادة ذلك. وأما إن كان أريد فى التفريق بالفاره الفاره فى الخياطة فهذا كان هو المحمول بجملته عند الحقيقة، وهو الذى يجب أن يورد عند الجمع. وقد يجوز فى حذف جزء منه لفظاً من حقه أن يصرح به، وأما إذا لم يصرح به فإنما لم يصرح اتكالا على تفهيم العادة ذلك.(1/191)
وأقول بالجملة إن من حقوق الأمور المنسوبة إذا كانت محمولات أن تراعى جهاتها وشرائطها وأن يكون مصرحاً بها عند الضمير وإن لم يصرح بها فى اللفظ، وعلى ما قيل فى شروط النقيض. ولولا أن قولنا فاره معناه فاره فى شىء كذا أو فاره فى شىء ما لا أنه نفسه فاره فى أى شىء اتفق، لكان كلما قيل إنه ليس بفاره وعنى فى أَمر آخر ليس هو فيه فارهاً كان تناقض، فإذ لا تناقض، أَو نغير ذلك الشىء ونلتفت إليه، فذلك الشىء إذن لا محالة داخل فى نفس الأمور المحمولة، وإن حذف تجويزاً، دخولا معيناً أَو مبهماً لا يجب أَن يكون مقصوداً فيما تعين جمعه معه. وإذا كان كذلك، فإِذا جمع على واجبه كان أَيضاً حقاً. فكان حقاً أَن زيداً طبيب فاره فى الخياطة أَو بصير بالعين، أَو فاره فى أَمر ما وبصير فى أَمر ما. على أَن التمثيل بالبصير ردىء جداً، لأن البصير إذا عنى به البصير بالعين مرة وعنى به أَنه الفاره فى صناعة ما، كان ذلك باشتراك الاسم. ولكن قد عرض هاهنا شيئان مجازيان: أَحدهما أن قيل لزيد: إنه فاره، ولم يزد عليه لفظ آخر اتكالا على معرفة السامع بأنه فاره فى كذا، فلما جمع على حاله فقيل: طبيب فاره، وكانت العادة جرت أنه إذا قيل هذا عنى به طبيب فاره فى الطب، أوهم اجتماع اللفظين مع جريان العادة أن معنى القول أنه يقول طبيب فاره فى الطب وهذا العارض ليس مما يوجبه نفس الأمر، بل عادات العبارات وما فيها من الإيهامات والاختصارات، والإيهامات والاختصارات مما لا يعتبر فى حقيقة دلالة الألفاظ. وأما ما قالوه من مصير الكلام إلى الهذيان فهو حق، لكن ماقاله الرجل المحكى أَلفاظه أن الهذيان فى قوة الكذب متعلقاً فى ذلك بالإيهامات ليس هو من كلام أهل المعرفة بشىء، فإن الالتفات إلى الإيهامات وأن قائل كذا كأنه قال كذا من غير أن يكون قال كذا بالحقيقة لفظاً ولا معنى ولا لزوماً، بل قال ما هو كأنه ذاك وليس هو ذاك ولا لازماً عنه، أمر غير معتبر فى تحقيق معنى الألفاظ ودلالاتها. فإنه إذا قال قائل: إن الإنسان ضحاك بادى البشرة، لم يلتفت إلى أنه يحاول أن يفصل بذلك ضحاكاً عن ضحاك أو يحاول أنه من جملة الضحاكين ما هو بادى البشرة وإن كان يوهم ذلك فإن هذا اللفظ قد يوهم هذا فليس هو مفهوماً عنه ولا لازماً للمفهوم عنه بوجه من الوجوه، بل إنما يلتفت إلى أن له هذا الوصف مقروناً بذلك الوصف. فإن اتفق أن كان التقرير مخصصاً ماله الوصف الثانى عما له الوصف الأول دون الثانى، فذلك شىء يعرض من غير أن يكون مقصود القائل. وإن كان مقصوداً له فيكون قد قصد ما ليس يوجبه اللفظ، بل ما قد يستدل عليه من اللفظ على سبيل العادة. وهاهنا أشياء كثيرة من هذا الجنس مثل قول القائل: بعض الناس حيوان، فإن هذا حق فى نفسه وكذب بالإيهام، فإن السامع ربما يتوهم أن البعض الآخر ليس بحيوان. لكن لا يقال إِن قائل هذا اللفظ كاذب، وإِن كان له أن يقصد فى مثله الدلالة على التخصيص فيقول: بعض الناس كاتب، يريد أن يدل بهذا على أن البعض الآخر ليس بكاتب، فتكون العادة تعرّف غرضه لا نفس لفظه. ولست أمنع أن يكون الهذيان كاذباً بإيهامه، لكنه لا يكون فى نفسه كاذباً. وأما ما قيل إن الطبيب ليس معناه معنىالبصير، فليس يلزم منه شىء مما يحاولونه، حتى يكون لما كان الطبيب ليس معناه معنى ذاك لم يجتمع منه ومن ذلك الآخر محمول، فالحى أيضاً ليس معناه معنى الناطق.(1/192)
وليس يجب من هذا أن لا يجتمع منهما محمول واحد، فهب انه ليس معناهما واحدا فما الذى يمنع ذلك من اجتماعهما واحداً. فإن لم يفهموا من قولهم: إن الطبيب ليس معناه معنى البصير، هذا الذى ذهبت إليه، بل معنى أخص منه، فليس ذاك الذى فهموه هو مفهوم اللفظ الذى عبروا به، وليس مفهوم اللفظ الذى عبروا به غير ماذهبنا إليه، فما كان من حق المفسرين أن يسكتوا عن تعريف ذلك المعنى ويعرضوا عنه إلى وقت أن ذكروا فأخذوا يحترزون. نعم الطبيب لا يحتاج فى تقويمه إلى مقارنة البصير، ولا البصير إلى مقارنة الطبيب، والحى والناطق ليسا هكذا، ولكن لفظهم لم يدل على هذه الزيادة، بل دل على المقدار الذى لا يعنى فى الغرض وعلى أنه ليس فى أنه لا يتقوم به ما يوجب أن يكون لا يجتمع منه معه محمول واحد بوجه ما. فإن كثيراً من المحمولات الوحدانية أسماء لمعان مجتمعة بهذه الصفة كما يسمى الذى فى بعض بدنه سواد وفى بعض بياض أبلق، كما يقال الأخيف والأشرج، وأمور أخرى تسمى من اجتماع صفات ليس يتقوم بعضها ببعض فيجعل لتلك الجملة منها اسم. ومع ذلك فليكن الطبيب والبصير ليس معناهما معنى واحد، وليكونا مع ذلك أيضاً بحيث ليس يجتمع منهما معنى واحد فلم ليس يصدق مجموعهما كأن الأشياء التى يصدق مجموعها هى التى يتحد منها معنى واحد اتحاداً طبيعياً فقط، حتى إذا لم يكن كذلك كذب حمل الجملة، فلم لا يجوز أن يكون الشىء الذى هو طويل وكاتب محمولا عليه جملة أنه طويل كاتب ولم يكون ذلك كاذباً عليه ذلك ؟ فأمثال هذه المذاهب مما لست أتصوره ولا أقول به، وعسى أن يكون عند غيرى بيان له يحققه. وأما ما قيل فى الخصى من حمل الرجل واللارجل عليه، فإن التفت فيه إلى العبارات العامية صدق قولهم إن الخصى رجل لا رجل، وكان حينئذ معنى الرجل الداخل فى الجملة ليس هو معنى الرجل الذى فيه يسلب عنه مفرداً. فإن الرجل إما أن يعني به الذى يستعمل آلة الإيلاد من الناس فيولد فى غيره، أو الذى له فى الطبع هذه الآلة وإن غُصبها قهراً، أو الذى يشبه الرجل فى بعض أحواله وأعضائه. وأى هذه المعانى عنى به منها فلا يجتمع مع مقابله، بالحقيقة، فإنه أن عني به أنه الإنسان الذى له أن يستعمل آلة الإيلاد فى غيره فإن هذا المعني لا يجتمع ألبتة مع لا رجل الذى هو مقابله، فإنه حينئذ يكون كأنه قيل هو بحيث يستعمل آلة الإيلاد فى غيره ولا يستعمل معاً، وهذا كذب، اللهم إلا أن يقال إن المراد به أنه يشبه الرجل الذى بهذه الصفة وليس هو بالحقيقة الرجل الذى هو بالصفة المذكورة، أو أنه الذى فيه بعض معانى الرجلية وليس فيه كمال معانى الرجلية. فهذا الاعتبار يصدق معه الجمع بين الرجل واللارجل حتى يحمل على الخصى، وكذلك يصدق متفرقاً، فإنه يصدق عليه أنه رجل مفرد إذا عنى بالرجل ما أريد حين قيل رجل لا رجل، وذلك أنه يصدق عليه أنه يشبه الرجل أو أن فيه بعض خواص الرجل، ويصدق أيضاً أنه لا رجل مفرداً إذا عنى باللارجل الذى ليس بالحقيقة رجلا والذى ليس فيه كمال معانى الرجلية. وإن عنى بالرجل من له ذلك فى الطبع وباللارجل مقابله فهو كذب أن يقال إنه كذلك فى الطبع ليس كذلك فى الطبع، بل اللهم إلا أن يكون المراد بالرجل الذى له ذلك فى الطبع، وباللارجل الذى ليس له أن يستعمل ذلك، فلا يكونان متقابلين ويكون كل واحد منهما صادقاً إذا حمل بالانفراد. فمن العجز أن يؤخذ الرجل حيث يقال رجل ولا رجل بمعنى ثم يؤخذ حين يفرق بمعنى آخر، فإذا كذب بهذا المعنى الآخر فيوجب من ذلك أن الوصف من جهة المعنى قد يصدق فى حكمه جملة ولا يصدق مفرداً، بل لو كان إذا قيل رجل فى الجملة ومجتمعاً مع غيره قولا بمعنى فصدق، ثم قيل وحده بذلك المعنى فلم يصدق، لكان ما ذهبوا إليه حقاً. وأما إذا كان معنى ما يصدق غير معنى ما يكذب، لم يجب من ذلك أن الشئ الواحد يصدق مرة عند الجمع ولا يصدق مرة عند التفريق؛ وكذلك حديث القاضى وأنه سلطان ليس بسلطان، والخفاش أنه طائر ليس بطائر.(1/193)
وبالجملة لا تصدق أمثال هذه التركيبات إلا أن تحرف الألفاظ عن دلالتها المعتادة إلى دلالات لها مستعارة. والذى قيل فى السفينة أيضا فهو من العجائب، فإنهم يدرون أنهم إِذا قالوا سفينة حجر عنوا به أنه شئ فى صورة السفينة متخذ من حجر، وأما السفينة بحد السفينة فلا يصدق أن يقال على مثلها إنها حجر. فإذا كان المراد فى قولهم سفينة حجر أنه شئ فى شكل السفينة من حجر، فلينظر السفينة بذلك المعنى محمول على الشئ مفردا، فتجده محمولا عليه لأنه شئ فى صورة السفينة. ولكن العوام لا يفرقون بين الشئ الذى يستحق اسما لطبعه ونوعه وبينه وله ذلك الاسم بمعنى محسوس ظاهر فيه، فلذلك لا يمتنعون أن يسموا الميت إنسانا والحجرى سفينة لا مفردا ولا مركبا. فإن تنبهوا للمعنى امتنعوا أيضاً عن إِطلاق ذلك مركبا، وإن لم يمتنعوا أخطأوا وزلوا. وكذلك المثال المورد من الإنسان الميت فإنه أخذ فيه اللفظة الواحدة عامية مرة وخاصية أخرى، ولو أخذ بمعنى واحد لظهر أن الأمر ليس كما يقولون بل وجدوا ما يصدق جملة يصدق فرادى. فإن قول القائل: زيد إنسان ميت، قول عامى؛ والخاصى لايقول ألبتة لشئ: إنه إِنسان ميت، ولا يجوز عنده أن يكون الإنسان والميت محمولين على شئ واحد؛ فإنه سواء عند الخواص أن يقال حى ناطق هو ميت بالفعل، وبين أن يقولوا إنسان ميت، فكما لا يمكنهم أن يقولوا زيد حى ناطق هو ميت، كذلك لا يقولون زيد إنسان ميت؛ ولا يحق أيضا أن يقولوا: إن هذا كان إنسانا فالآن هو ميت، وذلك لأن هذا لا يتناول منهما امرا واحدا، لأن الذى هو الآن هذا هو جزء من الشئ الذى كان إنساناً لأنه بدنه، وهذا لم يكن ألبتة إنساناً، وإن أردت التحقيق فلم يكن أيضاً موضوعا للإنسانية، لأن مقادير العناصر وكيفيات المزاج ليست كما كان حين كان موضوعا؛ ومع ذلك فإن قالوا إن هذا كان موضوعا للإنسانية وهو الآن موضوع للموت، صدقوا فرادى ومجتمعا. لكن العامة يعنون بالإنسان المصور على صورة الإنسان الظاهرة ومن مادة هى فى الحس كمادته، وإِذا عنى ذلك صدق الآن أيضاً وأن يقال للميت إنه إنسان بهذا المعنى. فإن لك يوجد هكذا، بل عنى بالإنسان الذى فى المركب غير ما يعنى فى الإنسان الذى يلحظ إليه مفردا، فهو زيغ. وأما التمثيل بأوميرس فإن الظلم فيه ظاهر، وذلك لأن لفظة هو وموجود مأخوذة فى ذلك القول الذى محموله مؤلف على أنه رابطة، والروابط فى حكم الأدوات لا دلالة لها بنفسها كما علمت. فيجب أن لاتؤخذ فى حال التفريق على أنها اسم حتى لا يكون المعنى فى الوقتين واحدا. فإن لم يؤخذ الموجود رابطة، بل أخذ دالا على معنى حتى يكون كأنه يقول: إن أوميرس هو الموجود الذى ذلك الموجود يكون شاعرا، كذب القول بعد موت أوميرس مفردا ومركبا. فإن لم يؤخذ هكذا، بل أخذ رابطة، ولكنه عندما يحمل وحده يحمل على أنه اسم مطلق محقق مشتق من وجود الأمر فى ذاته، فهو ظلم ومغالطة باشتراك الاسم؛ وإن حمل وحده على أنه رابطة لم يصدق ولم يكذب حتى يقال موجود أى شئ، وكذلك إذا قيل كان وعنى به الرابطة كان غير قولهم كان فى نفسه ويعنى المحمول الكلى.(1/194)
وبعد هذا كله فقد تعلمنا منه أن المعدوم لا يحمل عليه شئ، وعلمنا أنا إذا قلنا: إن أوميرس كان شاعرا، لم يكن حقا على معنى أن أوميرس شئ يوصف أنه كان شاعرا، بل على أن الخيال الذى من أوميرس بصفة أنه خيال يتخيل من أوميرس، ويصدق أن يقرن به معنى كان شاعرا، أى هو خيال موجود له صفة هو أنه إذا قلنا معه خيال الزمان الماضى وقرن معه معنى الشاعر صدق عليه. وأما المثال الذى أوردوه بقولهم: إن العنقاء موجود فى التوهم، ففيه أيضا ظلم. وذلك لأن لفظة الموجود من قولنا الموجود فى التوهم إما أن تدل على معنى أو لا تدل، فإن لم يدل واحد مفرد وهو حينئذ يدل، لم يكن المأخوذ مفردا هو المأخوذ فى التركيب. وإن دل فإما أن يدل على معنى يعم الموجود فى الوهم والموجود من خارج من حيث هو موجود أو لايدل، فإن دل على معنى عام هو أعم من الموجود فى التوهم والموجود من خارج ثم أخذ مفردا، فيجب أن يؤخذ بذلك المعنى. فحينئذ يصدق بأن العنقاء موجود نوعا من الوجود، فإن التوهم له وجود ما، وإنما يكذب إذا أخذ العنقاء موجودا فى الأعيان والخارجة، وهذا شئ أزيد من الموجود إذا أخذ بذلك المعنى. ولا يمنع أن يكون المعنى الذى يصدق فى الجملة إذا أفرد وقرن به معنى آخر وشرط آخر أنه قد يكذب، كما إذا صدق على الإنسان أنه حيوان لم يجب أن يصدق عليه أنه حيوان بشرط زائد على ماكان له فى الأول، حتى إذا قيل: إنه حيوان أعجم، كان صادقا. وإذا كان الموجود الذى فى التوهم لا يشارك الموجود فى الأعيان بمعنى من المعانى فأخذ الموجود مفردا على أنه موجود فى الأعيان، أخذ معنى لم يكن ألبتة مذكورا فى التركيب إلا من طريق الاسم. ومن الذى يمنع أن يكون بعض الاسماء التى فى التركيب إِذا أريد به غير معناه فى الأفراد جاز أن لا يصدق. فهذا هو رأيى وما يدركه عقلى، ويشبه أن يكون عند غيرى لهذا بيان آخر وحقيقة أخرى لم أدركها. إلا أن القوم لا يحلوا لهم أن يؤخروا بيان تلك الحقيقة ولا يذكرونها وهم يعلمونها ويعلمون موضع الشبه فيها إلى أن يجئ معارض فينبههم. وما أراهم يفعلون، فإنه إن كان ما ذكرناه ينحو غير النحو الذى نحوه فهو من الاعتراضات القوية الظاهرة التى لا يسكت عن التحذير منه من عنده نحو آخر وغرض آخر يكون عذرا له، بل بالحرى أن يذكر ذلك وينبه عليه ويحترز مما أوردته، فإن لم يفعل ذلك فليس إلا غفلة. وأما صاحب التعليم الأول فإنه إنما أراد فى إيراد ما أورده أن يعرفنا أن بعض المحمولات تصدق فرادى، فيعرض لها بعد ذلك أن تقال مجتمعه، فتوهم معنى آخر يكذب أو يصدق مجموعه. فإِذا أفردت عرض لها أن تفهم على وجه آخر فيكذب. وحينئذ يكون إذا سلم أن كل ما يصدق متفرقا يصدق مجتمعا على المفهوم المعتاد من الاجتماعات وإن لم يكن المفهوم المحقق أو أن كل ما يصدق مجتمعا يصدق متفرقا على المفهوم المعتاد عند التفريق، وإن لم يكن المفهوم المحقق لزم من ذلك محالات ويمكن به المغالطون من تخليطات.
الفصل الرابع
( د ) فصل
في القضايا المنوعة
وهى الرباعية وأحكامها وتلازمها وتعاندها(1/195)
أقل أحوال القضايا أن تكون ثنائية، ثم يصرح بالرابطة فتصير ثلاثية، ثم قد تقرن بها الجهة فتصير رباعية. والجهة لفظ يدل على النسبة التى للمحمول عند الموضوع، فتعين أنها نسبة ضرورة أو لا ضرورة، فتدل على تأكد أو جواز؛ وقد تسمى الجهة نوعا. والجهات ثلاث: واحدة تدل على استحقاق دوام الوجود وهى الواجبة، وأخرى تدل على استحقاق دوام اللاوجود وهى الممتنعة، وأخرى تدل على أنه لا استحقاق دوام الوجود ولا وجود وهى الجهة الممكنة. والفرق بين الجهة والمادة أن الجهة لفظة زائدة على المحمول والموضوع والرابطة مصرح بها تدل على قوة الربط أو وهنه دلالة باللفظ ربما كذبت، وأما المادة وقد تسمى عنصرا فهى حال المحمول فى نفسه بالقياس الإيجابىإلى الموضوع فى كيفية وجوده الذى لو دل عليه لفظ لكان يدل بالجهة. وقد تكون القضية ذات جهة تخالف مادتها فإنك إذا قلت: كل إنسان يجب أن يكون كاتباً، كانت الجهة من الواجب والمادة من الممكن. وكما أن السور من حقه أن يجاور به الموضوع والرابطة من حقها أن يجاور بها المحمول، فكذلك الجهة من حقها أن يجاور بها الرابطة إن لم يكن سور. فإن كان سور كان لها موضعان سواء بقى المعنى واحدا أو اختلف، أحدهما الرابطة والآخر السور. وكان لك أن تقرنها لهذا وبذلك، فإنك تقول: يمكن أن يكون كل واحد من الناس كاتبا، وتقول: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، وكذلك تقول: يمكن أن يكون بعض الناس كاتبا، وتقول: بعض الناس يمكن أن يكون كاتبا. وأما فى السلب الكلى فلا تجد فى لغة العرب له إلا لفظة واحدة وهو أن تقول: يمكن أن لا يكون أحد من الناس كاتبا، ولا تجد أخرى يقرن فيها بالرابطة دون السور إلا أن تقول: ولا واحد من الناس إلا ويمكن أن لا يكون كاتبا أو تقول: كل إنسان يمكن أن لا يكون كاتبا. لكن هذا اللفظ أشبه بالإيجاب. وأما السلب الجزئى فنقول فيه القولين جميعا، فنقول: يمكن أن لا يكون كل إنسان كاتبا، وبعض الناس يمكن أن لايكون كاتبا. وقبل أَن نحقق القول فى هذه وننظر هل معنى ماقرن فيه لفظة الجهة بالرابطة وما قرن فيه لفظة الجهة بالسور واحد أو ليس، وإن لم يكن واحدا فهل هما متلازمان أو ليسا. فيجب أن تعلم شيئاَ آخر فنقول كما أنك حين لم تكن أدخلت الرابطة فى القضية الشخصية، كان الواجب الطبيعى إِن أردت السلب أن تقرن الحرف السالب بالمحمول، ثم لما أدخلت رابطة المحمول وجب إِن أردت السلب أن تلحق حرف السلب بالرابطة فلم يكن سلب قولنا: زيد يوجد عادلا؛ قولنا: زيد يوجد لا عادلا، بل قولنا: زيد لا يوجد عادلا؛ فكيف وتانك قد تكذبان إذا كان زيد معدوماً. فكذلك لما ألحقت الجهة على الرابطة فإنك متى أردت السلب يجب عليك أن تقرن حرف السلب بما تقدم فترفع جملة ما تأخر لا بعض ما تأخر. فلذلك إِذا قلت: يمكن أن يكون زيد كاتبا، فسلبه ليس إمكان السلب، بل سلب الإمكان، أعنى ليس هو قولك: يمكن أن لا يكون، بل قولك: لا يمكن أن يكون. وكيف وقولك: يمكن أن لا يكون، يسالم قولك: يمكن أن يكون فى الصدق. وكذلك إذا قلت: يجب أن يكون زيد كاتبا، ليس سلبه يجب أن لا يكون كاتبا، فكلاهما يتسالمان فى الكذب، بل ليس يجب أن يكون. وكذلك إذا قلت: يمتنع أن يكون زيد كاتبا، ليس سلبه أن تقول: يمتنع أن لا يكون زيد كاتبا، فإن قولك: يمتنع أن لا يكون زيد كاتبا، يسالمه فى الكذب، بل سلب قولك يمتنع أن يكون زيد كاتبا؛ هو قولك: ليس يمتنع أن يكون زيد كاتبا، وأما يمكن أن يكون مع ليس يمكن أن يكون ويجب أن يكون مع ليس يجب أن يكون ويمتنع أن يكون مع ليس يمتنع أن يكون، فلا تتفق على الصدق البتة ولا على الكذب بعدأن تكون سائر الشرائط موجودة. وكذلك محتمل أن يكون مع ليس بمحتمل أن يكون ويشبه أَن يكون المحتمل إنما يعنى به ما هو عندنا كذلك. والممكن ما هو فى نفس الأمر كذلك ويشبه أن يعنى به معنى آخر، وهو أن المحتمل ما يعتبر فيه حال المستقبل ويكون فى الوقت معدوما، والممكن ما لا دوام له فى وجود أَو عدم كان موجودا أَو لم يكن. وقال قوم إن الممكن يعنى به العام والمحتمل الخاص، لكن قولهم غير مستمر فى أَلفاظه.(1/196)
ويشبه أن يكون بين الممكن والمحتمل فرق آخر لم يحضرنى ولا كثير افتقار إِلى تمحله وطلبه، فنقول: إن حق الجهة أن تقرن بالرابطة، وذلك لأنها تدل على كيفية الربط للمحمول على شىء مطلقا أو بسور معمم أو مخصص، فالسور مبين لكمية حمل مكيف الربط. فإذا قلنا: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، فهو الطبيعى، ومعناه: أن كل واحد من الناس يمكن أن يكون كاتبا، فإن قرن بالسور ولم يرد به إزالة عن الموضع الطبيعى على سبيل التوسع، بل أريد به الدلالة على أن موضعها الطبيعى مجاورة السور، لم يكن جهة للربط بل جهة للتعميم والتخصيص، وتغير المعنى، وصار الممكن هو أن كون كل واحد من الناس كافتهم كاتبا ممكن. والدليل على تغير المعنى أن الأول لا يشك فيه عند جمهور الناس فإِن كل واحد واحد من الناس يعلم أنه لا يجب له فى طبيعته دوام كتابة أو غير كتابة، وأما قولنا: يمكن أن يكون كل إنسان كاتبا، على أن الإمكان جهة الكلية والسور، فقد يشك فيه. فإن من الناس من يقول: محال أن يكون كل الناس كاتبين أى محال أن يوجد أن كل إنسان هو كاتب، حتى يكون اتفق أن لا واحد من الناس إلا وهو كاتب. فإذن بين المعنين فرقان.
وأما فى الجزئيات فإن الأمرين فيهما يجريان مجرى واحدا فى الظهور والخفاء. ولكنه قد يعلم مع ذلك أن بين المعنيين خلافا إذا رجع إلى حقيقة المفهوم واستعين فيه باعتبار الكلية. وأما السلب الكلى فليس فى لغة العرب ما يدل بالحقيقة على السلب الممكن العام، بل المتعارف فيها إنما يدل على إمكان سلب العام، ولذلك يشكل أن يقال يمكن أن لا يكون واحد من الناس كاتبا. فلقائل أن يقول إن هذا لا يمكن أن يصدق ألبتة، بل يجب أن توجد الصناعات فى بعض لا محالة. وليس كلامنا فى أن هذا القول حق أو باطل، فليست معرفة هذا من صناعة المنطق، بل غرضنا أن الأمر الذى قد يقع فيه شك ليس هو الأمر الذى لا يقع فيه شك والذى يقع فيه شك هو إمكان سلب الكتابة عن كل واحد واحد. لكنه لا يوجد فى لغة العرب ما يدل على هذا إلا بالإيجاب، كقولهم: كل واحد من الناس يمكن أن لا يكون كاتبا، وأما قولهم: ليس كل إنسان كاتبا، فإن جهة الإمكان لا يمكن أن تدخل فيه إلا على السور حتى يكون معناه يمكن أن لا يكون كل إنسان كاتبا. فيدل على إمكان السور؛ وأما قولنا: بعض الناس يمكن أن لا يكون كاتبا، فإنه قد يساوى من جهة قولنا: يمكن أن لا يكون بعض الناس كاتبا، وقد يخالفه وإن لازمه، حتى يكون الغرض فى أحدهما أن بعض الناس موصوف بإمكان سلب الكتابة عنه، وفى الثانى أنه ممكن إحقاق قول القائل: بعض الناس كاتب.(1/197)
فإذا علمت هذه الأحوال، فيجب إذا نظرت فى حال تلازم هذه القضايا أن تنظر فى حال تلازم هذه القضايا الرباعية التى لها جهات على أنها جهات الربط لا جهات السور وبعد ذلك أيضا فلن تنكشف لنا حقيقة الأمر فيها إلا بعد أن يعلم حال اشتراك واقع فى لفظة الممكن فنقول: إن لفظ الممكن قد كان مستعملا عند الجمهور على معنى، وهو الآن عند الفلاسفة مستعمل على معنى آخر. فكان الجمهور يعنون بالممكن الأمر الذى ليس بممتنع من حيث هو ليس بممتنع، ولا يلتفتون إلى أنه واجب أو غير واجب. ثم عرض أن كانت أمور يصدق أن يقال فيها إِنها ممكنة أن تكون وممكنة أن لا تكون، أى ليست ممتنعة أن تكون وليست ممتنعة أن لا تكون، وأمور أخرى يعرض فيها أن تكون ممكنة أن تكون وليست ممكنة أن لا تكون. فلما وجد الخواص بعض الأشياء يجتمع فيها إمكان أن يكون وإمكان أن لا يكون، أعنى الإمكان العامى، خصوا حاله باسم الإمكان، فجعلوا الشىء الذى يصح فيه الإمكانات جميعا أعنى فى السلب والإيجاب مخصوصا باسم الإمكان، وهو الشىء الذى لا ضرورة فيه. فهؤلاء الخواص اتفقوا فيما بينهم واصطلحوا على أن يسموا الأمر الذى لا يمتنع وجوده ولا عدمه ممكنا. فصارت الأشياء عندهم ثلاثة أقسام: ممتنع الوجود، وممتنع العدم، وما لا يمتنع وجوده ولا عدمه؛ وإن شئت قلت ضرورى الوجود، وضرورى العدم، وما ليس بضرورى الوجود والعدم. ومعني الضرورى الدائم ما دام الموصوف به موجود الذات، على ما سنشرح هذا فى موضع آخر بالتحقيق. فالممكن إذا عني به المعنى العامى كان كل شىء إما ممكنا وأما ممتنعا، وكان ما ليس بممكن ممتنعا وما ليس بممتنع ممكنا، ولم يكن هناك قسم آخر. وإذا عنى به المعنى الخاص كان كل شىء إما ممكنا وإما ممتنعا وإما واجبا، ولم يكن مل ليس بممكن ممتنعا، بل ما ليس بممكن ضروريا إما فى الوجود وإما فى العدم. وبعد ذلك فإِن الخواص قد انعقد فيما بينهم اصطلاح آخر فجعلوا دلالة الممكن على معنى أخص من هذا المعنى وهو الذى حكمه عندما يتكلم به المتكلم معدوم، لكنه فى المستقبل غير ضرورى الوجود أو غير الوجود فى أى زمان فرض وسيأتيك استقصاء القول فى هذا المعنى فيما يستقبل من الفنون. فيكون الممكن مقولا على معان ثلاثة تترتب بعضها فوق بعض ترتب الأعم فوق الأخص، فيكون قوله على الأعم والأخص باشتراك الاسم، ويكون مقولا على الأخص من جهتين: إحدى الجهتين فيما يخصه، والأخرى من جهة حمل الأعم عليه، وهذا شىء قد علمته فيما سلف. فالمعنى هو العامى وهو أن شيئا حكمه غير ممتنع، وأعنى بالحكم ما حكم فيه من إيجاب أو سلب. والمعنى الخاص هو أن حكمه غير ضرورى والمعنى الثالث أن حكمه غير حاصل ولا ضرورى فى المستقبل. فلأمر الموجود الذى لا يجب وجوده لا يدخل فى الممكن الأخص ويدخل فى الخاص والعام، والواجب لا يدخل فى الأخص ولا فى الخاص ويدخل فى العام. ثم إن قوما تشككوا على أنفسهم فقالوا: إن الواجب لا يخلو إِما أن يكون ممكنا أو لا يكون فإن كان ممكنا والممكن أن يكون ممكن أن لا يكون فالواجب ممكن أن لا يكون، هذا خلف. وإن لم يكن ممكنا، وما ليس بممكن فهو ممتنع، فالواجب ممتنع، وهذا خلف. فأجابوا بما هذه حكايته، قالوا: إن الممكن اسم مشترك فيقال على ما بالقوة ويقال على الضرورى، فالممكن الذى يقال على الضرورى لا يدخل فيه الممكن الآخر، ولا يكون ممكنا أن يكون وممكنا أن لا يكون معا؛ بل ممكن أن يكون؛ وأما الممكن الذى يقال على القوة فهو الذى يصدق فيه ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون معا. فإذن ليس كل ما يقال له ممكن أن يكون يصدق عليه أنه ممكن أن لا يكون، فإن الممكن يقال على الضرورى؛ وليس أيضا كل ما يسلب عنه الممكن يجب أن يكون ممتنعا، فإن الممكن الذى بالقوة يسلب عن الضرورى ولا يجب منه أنه ممتنع.(1/198)
وهؤلاء قد زلوا من وجهين: أحدهما أنه ليس أحد من الناس يقول: ممكن، ويعنى به الضرورى على أنه اسم مرادف له، فإذا لم يعن به الضرورى، بل عنى إن كان ولا بد معنى أعم من الضرورى، إذ ليس يبعد أن يكون وقوعه على الضرورى وعلى الممكن الخاص وقوعا بمعنى واحد يعمهما جميعا، فيكون وقوعه عليها بالتواطؤ لا بالاشتراك الذى ادعوه، اللهم إلا من جهة أخرى غير هذه الجهة الى أومأنا اليها. ثم هاهنا شىء آخر وهو أن القوة اسم أخص من الممكن الذى نحن فى ذكره، فإن الشىء الذى فى القوة شرطه أن يكون معدوما، والممكن الذى ليس بضرورى هو الذى ليس دائماً وجوده ولا دائماً عدمه، فلا يبعد أن يكون موجوداً فى الحال أو غير موجود. فإن قال قائل إذا وجد فى الحال صار واجباً فى وجوده من حيث هو موجود، فلم لا يقول: إنه إذا عدم صار واجبا فى عدمه من حيث هو معدوم ؟ فهو ممتنع الوجود إِذ هو معدوم، لكن الواجب الذى كلامنا فيه ليس هو الواجب بشرط وقت وحال، وكذلك الممتنع الذى كلامنا فيه، بل الواجب هو الدائم الوجود، وللمتنع هو الدائم العدم. وليس إذا كان الشىء موجودا فهو واجب أى دائم الوجود، بل هو واجب بشرط ما هو موجود كما أنه دائم الوجود ما دام موجودا وليس دائم الوجود مطلقا، فليس ما قالوه هؤلاء بشىء.
لكن المعلم الأول قد أومأ إلى المعني الذى ذهبنا إليه ولنعبر عنه كما ينبغى حتى تفهم أن سياقته ليست على ما ذهبوا إليه. قال: ليس كلما يقال له ممكن أن يوجد أو يمشى فيجب أن يكون معنى الإمكان فيه متضمنا لما هو مقابل لذلك، حتى يصدق مع ذلك ممكن أن لا يوجد. فإن هاهنا أشياء لا يصدق فيها المقابل، فإن الأشياء التى تكون الممكنة فيها متعلقة بقوة لا نطق فيها ولا اختيار فإنها تسمى قوى وإمكانات، وليست تكون على الأمر وعلى خلافه، بل تسمى قوة وإمكانا وينحى بها نحو أمر واحد: هذا إن كانت القوة فاعلية، وأما إن كانت القوة استعدادية فلا يتعين لها فى نفسها أحد الأمرين، بل تقبل المتقابلين معا، وليست الأخرى التى فى جهة الفاعل تفعل المتضادين معا، إن تعطلت ولم يكن قابل واجتماع لم تكن تفعل، ومع ذلك فيسمى حال الفاعل إمكانا وحال المستعد للأمرين إمكانا. فالإمكان مشترك فى الاسم إذا كان يقال على الذى يمشى حين يمشى، وعلى الذى يقوى على أن يمشى وهو لا يمشى، فالأول يقال على الفعل والآخر على القوة، والذى بالفعل تشترك فيه الأزليات والمتغيرات؛ والآخر يختص بالمتغيرات. ويجب أن تفهم أنه ليس يجب من قوله يقال عليه أن يفهم أنه اسم مرادف، بل الأولى أن نظن أن معنى قوله يقال عليه هو أن يقال عليه بمعنى يخصه، كمن يقول إن الحيوان أو الأبيض يقال على الإنسان ليس بمعنى أنه مرادف له با أنه محمول عليه. فالممكن الذى يقال فى المتغيرات أى الذى يليق بها من حيث هى متغيرة ليس يصدق على الواجب، وأما على الوجه الآخر فيقال، ولم يبين ذلك الوجه، ثم قال: ولكن الكلى محمول على الجزئى، والممكن محمول على الواجب. ويشير بهذا إلى أن للممكن معنى يفهم عنه أكثر وأعم من معنى الواجب، فيكون كلياً بالقياس إلى الواجب والواجب جزئى تحته. وذلك المعنى هو أنه ليس بممتنع والواجب بعض ما ليس بممتنع. فلما قال المعلم الأول هذا، عطف فقال: يجب أن نتدارك ما قلناه، يعنى ما قاله فى اللوازم على سبيل التشكيك، ويجب أن يعلم من أمر هذا الفاضل المعلم الأول أنه لم يؤثر التشكيك وتأخير الكشف، وفى كثير من الأمور قد يمضى على قانون الشك. ثم يكر آخر الأمر فيحل، وربما تساهل فى أمور هو نفسه يعلمنا ما يقتضى ترك التساهل فيها، وأيضاً فى تساهله إيانا فيتفق أن يبادر الناظر فى كتبه إلى اعتقاد ما تساهل فيه وغتر بظاهر كلامه ولا يفحص ولا يبحث، ثم يأخذ فى التعصب لمفهومه من غير استقصاء فيكون قد ضلل نفسه. واعلم أن هذا الفاضل قد قصد فى كثير من الأمور إخفاء الحق ضنّا به ليفوز به من له منّة الوصول إليه عن كثب.(1/199)
فلنتكلم الآن فى المتلازمات، فنقول: إن المتلازمات منها ما ينعكس ومنها ما لا ينعكس، والمتعاكسات هى التى كل واحد منها فى قوة الآخر، والتى لا تتعاكس فهى التى إذا وضع بعضها لزم الآخر وليس كلما وضع الآخر لزمه الأول. فقولنا: واجب أن يوجد، يلزمه وينعكس عليه: ممتنع أن لا يوجد، وليس بممكن أن لا يوجد، أعنى العامى. ونقائض هذه يلزم قولنا: ليس بواجب أن يوجد. وأما قولنا واجب أن لا يوجد، فيلزمه وينعكس عليه قولنا: ممتنع أن يوجد، وليس بممكن أن يوجد العامى. ونقيضاهما يلزمان قولنا: ليس بواجب أن لا يوجد. فلم يوجد إذن من باب الممكن الخاصى شىء يلازم شيئاً من باب الواجب، والممتنع منعكساً عليه. وهذه صورة ما ذكرناه: طبقة واجب أن يوجد ليس بواجب أن يوجد الموجبات متلازمة ممتنع أن لا يوجد ليس بممتنع أن لا يوجد والسالبات متلازمة ليس بممكن أن لا يوجد العامى ممكن أن لا يوجد العامي طبقة أخرى واجب أن لا يوجد ليس بواجب أن لا يوجد الموجبات متلازمة ممتنع أن يوجد ليس بممتنع أن يوجد والسالبات متلازمة ليس بممكن أن يوجد العامى ممكن أن يوجد العامى وأما الممكن الخاصى فلا يلزمه شىء منعكساً عليه إلا من بابه. فقولنا ممكن أن يوجد يلزمه ممكن أن يوجد، ويلزم نقيضه نقيضه، فيلزم قولنا: ليس بممكن أن يوجد الخاصى قولنا: ليس بممكن أن لا يوجد الخاصى. فطبقات المتلازمات إذن ست، ولكل واحد منها لوازم غير متعاكسة، ولنذكرها فى كل طبقة.
( اَ ) طبقة الواجب أن يوجد وما معها.
( بَ ) وأما طبقة ليس بواجب فلا يلزمها شىء غير ما ينعكس عليها.
( جَ ) وأما طبقة واجب أن لا يوجد فيلزمها: ليس بممتنع أن يوجد ليس بممتنع أن لا يوجد ممكن أن يوجد العامى ممكن أن لا يوجد العامى ليس بممكن أن يوجد الخاصى ليس ممكناً أن يوجد الخاصى ليس بممكن أن لا يوجد الخاصى ليس بممكن أن لا يوجد الخاصى ( دَ ) وأما طبقة ليس بواجب أن لا يوجد فلا يلزمها شىء غير ما ينعكس عليها.
( ه ) وأما طبقة ممكن أن يكون الخاصى فيلزمه: ليس بواجب أن يكون ليس بواجب أ، لا يكون ليس بممتنع أن يكون ليس بممتنع أن لا يكون ممكن أن يكون العامى ممكن أن لا يكون العامى ( وَ ) وأما طبقة ليس بممكن أن يكون الخاصى فلا يلزمها الانعكاس.
الفصل الخامس
( ه ) فصل
في بيان أن التقابل بين الموجبة والسالبة أشد
أم التقابل بين موجبتين محمولاهما متضادان
وقد اعتيد أن ينختم هذا الفن من المنطق بشىء ليس للمنطقى من حيث هو منطقى إليه حاجة، وهو أشبه بالمباحث الجدلية. وذلك أنه إذا حمل محمول على موضوع - ولذلك المحمول ضد - فهل إيجاب الضد عليه أشد عناداً أم سلبه المقابل الذى هو نقيضه ؟ مثاله إذا قيل: زيد عادل، فهل قولنا: زيد جائر، أشد عناداَ له، أم قولنا: ليس بعادل ؟ وهل الضد لقولنا: كل إنسان عادل، هو قولنا: كل إنسان جائر، أو ما سلف ذكره؛ وهو أنه لا واحد من الناس عادل ؟ فإن هذا شىء قد تشاجر فيه طوائف، والحق فيها أن كونه جائراَ أشد عناداَ فى طبيعة الأمور لكونه عادلا من كونه ليس بعادل. وأما من حيث التصديق والحكم سواء كان اعتقاداً أو لفظاَ فإن السالب أشد عناداً وأبعد من أن يطابق الموجبة فى شىء من الصدق والكذب. ولما كان هذا النظر من حيث الحكم، والحكم أما قول وإما عقد، والقول تابع للعقد، فلننظر فى هذه المتعاندات من حيث هى معتقدة.(1/200)
فليكن عقد فى خير أنه خير، وعقد فيه أنه ليس بخير، وعقد فيه أنه شر. ولتعلم أن يكون العقد منسوبا إلى ضدين كما نعتقد فى موسى أنه خير وفى فرعون أنه شر، أو إلى متقابلين كالنقيضين كما نعتقد فى موسى أنه خير وفى فرعون أنه ليس بخير، لا يوجب تعاند العقدين، بل يجب أن يكون ذلك فى موضوع واحد حتى يكون العقدان متنافيين. فلنعتبر فى موضوع واحد الحق فيه أنه خير، إذا اعتقد فيه أنه شر، واعتقد فيه أنه ليس بخير، أى الاعتقاديين فى نفسه أشد عناداً ؟ فلو لم يكن الشر ليس بخير ما كان يستحيل اعتقاد أنه خير وأَنه شر، ولو كان بدل الشر هو شيئاً ما ليس بخير وليس بشر لكان مع ذلك يستحيل اعتقاد أنه خبر وأنه ليس بخير، فإن كثيراً مما ليس بخير ليس بشر. فبين أَن العناد فى الاعتقاد الأول ليس لكون المعتقدين متضادين، بل لكون الحكمين متنافيين، وليس التنافى الأول إلا الذى بين الإيجاب والسلب.
قالوا: ومن الدليل على ذلك أيضاً أن الشىء الذى هو خير وعدل تصدق عليه إيجابات مثل أنه محمود ومختار، وسلوب مثل أنه ليس بمذموم ولا مكروه، وتكذب عليه إيجابات مثل أنه مكروه ومذموم، وتكذب عليه سلوب مثل أنه ليس بمحمود ولا مختار. وليس حقيقة التضاد متقررة بين كل ما لا يجتمع منها كيف اتفق، فإن الواحد إنما يضاده بالحقيقة واحد، فيجب إذن أن يكون الضد منها ما يعمها. وإنما يعم جميع الإيجابات والسلوب الكاذبة على الخير أنه ليس بخير، فأى إيجاب أو سلب صح عليه أنه ليس بخير كان مبايناً، وأما ليس بخير نفسه فإنه مباين بنفسه وإن لم يعتبر له أنه أحد تلك. والشىء الذى لا يحتاج فى أن يكون مبايناً إلى غيره والآخر لا يباين دونه فمباينته أقدم، والذى مباينته أقدم فعناده أشد، فالسالبة أشد عناداً، وما هو أشد عناداً فهو الضد، فالسالبة هى الضد.
ويشبه أن لا يكون هذان الفصلان قصد بهما فى التعليم الأول احتجاج ألبتة، ويكون إنما قصد فى الأول منهما أن يشار إلى أن نفس التضاد فى الأمور لا يوجب التضاد فى الاعتقادات، بل يجب أن تكون الأمور متنافية حتى يجوز أن تكون متضادة فى الاعتقادات.وفى الثانى أن يشار إِلى أنه ليس أيضاً ينافى الاعتقادات وأن لا تجتمع الاعتقادات، دالا على تضادها، فإِن هاهنا أمورا لا نهاية لها يصح أن تسلب عن الخير والعادل مثل أنه ليس بطائر وليس بحجر وليس بسماء فيكذب إيجابها، وأمور يصح إثباتها عليه لا نهاية لها مثل أنه أبيض ويقعد ويفعل فيكذب سلب إمكانها. أما الموجودة له فلا يمكن أن تكون بلا نهاية، وأما المسلوبة عنه فبغير نهاية، فلا ينبغى أن ينظر فى كل واحد منها هل عقده مضاد للعقد أنه خير أو غير مضاد له، فانها لا تتناهى.
ولكن هذا النظر إنما هو فيما دخلت الشبهة من قبله، والشبهة إنما هى فيما يقع التكون منه، فإنه وإن كان الخير ليس بطائر، وأيضاً ليس بشرير، وكان الطائر ينافيه والشرير ينافيه، فأحدهما قد يكون عنه التكون، والآخر لا يكون عنه التكون. أما الذى يكون عنه التكون فالمقابل من هذين وهو الشرير، وأما الذى لا يكون عنه فالذى ليس بمقابل وهو الطائر. والشبهة إنما هى فى المقابل كالشرير والجائر. وتلك الشبهة أن العقد فيه أنه عادل، هل يضاد العقد فيه أنه شرير جائر. وهذا موافق لما قيل فى التعليم الأول، ويكون الغرض فيه أن يجعل توطئة وتبنيها على أنه ليس كل عقد مناف مقابلا بالتضاد، وإلا لكان الشبهة تدخل فى أن العقد فى زيد أنه عادل سيضاد العقد فيه أنه طائر ويضاد اعتقادات أخرى بلا نهاية.(1/201)
فيشبه أن يكون غرض المعلم الأول ما أومأنا إليه، فأنه إنما قدم جميع ما قدمه إلى هذا الموضع لا على سبيل الاحتجاج، بل على سبيل التوطئة. وإنه إنما ابتدأ يحتج بعد فراغه من هذا الكلام حين يقول ما معناه إنه قد تبين أنه ليس نفس تضاد الأمرين يوجب تضاد العقدين، ولا نفس تنافى العقدين يوجب تنافى الأمرين، فيجب أن ينظر فى ذلك نظرا أخص من النظرين، فنقول: إنا إذا قلنا للخير إنه خير، صدقنا، وإذا قلنا إنه ليس بشر، صدقنا. لكن صدقنا عليه فى قولنا: إنه خير، صدق تام فى ذاته، وصدقنا عليه فى قولنا: إنه ليس بشر، صدق عليه فى أمر ليس بذاته. فإن الخير خير لذاته، وأما أنه ليس بشر فعارض له حين يقابل بأمر غير ذاته مباين لذاته وهو الشر، فيسلب عنه ذلك الأمر. فإثبات الخير يتم عليه بذاته وسلب إنما يتم له بغيره، وقد علمت أن السلوب من اللوازم فى مثل هذه الأشياء لا من الدواخل فى الذات. وبازاء هذين الصدقين كذبان: كذب أنه ليس بخير وهو كذب مقابل له فى ذاته،وكذب أنه شر وهو كذب مقابل لأمر له عارض. ولما كان اعتقاد أنه خير صدقا فى أمر ذاتى مقابل لاعتقاد أنه ليس بشر صدقا فى أمر عرضى كان اعتقاد أنه ليس بخير كذبا فى أمر ذاتى، والكذب فى الأمر الذاتى أشد معاندة للصدق فى الأمر الذاتى من الكذب فى الأمر العرضى، هكذا يجب أن يقال. وأما الظن بأن أحد الأمرين أشد كذبا والآخر أقل كذبا فذلك باطل، فإنه لا صدق أشد صدقا من صدق ولا كذب أشد كذبا من كذب، بل بعض الصدق يكون أدوم وبعضه يكون ليس بأدوم، وبعضه فى أمر ذاتى، وبعضه فى أمر غير ذاتى؛ والذى هو كذب فى أمر ذاتى أشد عنادا. وقد ينبعث من هذا احتجاج آخر يجب أن يفهم على هذه الصفة، أى إذا اعتقدت فى العدل الذى عرفته وتحققته فى نفسه أنه خير لا احتاج أن أعتقد مع ذلك فيه أنه ليس بشر، إذ هذا ليس ذاتيا له، بل أمر يعرض له. وليس يحتاج فى إخطار الأمر الذاتى بالبال أن يلتفت إلى أمر بالقياس إلى خارج ألبتة، بل الصدق الذاتى إنما ينعقد بإخطار الموضوع والمحمول بالبال، أخطر غيره أو لم يخطر. فان جئت وقابلت هذا العقد بعقدين: أحدهما أنه شر والآخر أنه ليس بخير، وجدت عقد أنه شر لا يتم لى إلا أن يتضمن أنه ليس بخير، فإن الكذب المقابل للصدق العرضى لا يتم إلا بأن يخطر بالبال الكذب الذاتى، فإنه إن لم أخطر ببالى أن العدل الذى عرفته خيراً صار لا خيرا، لم يمكننى أن أقصى عليه بأنه شر. وذلك لأنى علمت واعتقدت أن العدل خير، وأن ذلك حق، فحين أجعله شرا على سبيل امتحان التقابل يخطر ببالى ضرورة أنى سلبت عنه ذلك الحق، وليس إذا خطر ببالى سلب ذلك الحق عنه يكون قد خطر ببالى أنه شر. فهكذا يجب أن يفهم هذا الدليل وبهذا التكلف، وإلا لم يستقم، وهو قريب مما أوردناه أولا وفى قوته. وحجة أخرى وهو أن جميع القضايا يوجد لها متقابلات من باب التناقض، وليس يوجد لجميعها مقابلات من موجبات تحمل الضد، فإنا إذا قلنا: كذا مربع، وجدنا بازائه أنه ليس بمربع، ولم نجد أنه كذا الذى هو ضد المربع. فهاهنا المعاند هو السالب دون الموجب المضاد المحمول، وحيث للقضية موجب مضاد فالسالب أيضاً معاند. فكل قضية موجبة لها من السالب معاند وليس كل قضية موجبة لها من الموجب معاند. فعناد السلب عناد للقضية الموجبو من حيث هى موجبة وعناد الآخر أمر عارض لها من حيث هى موجبة.
لكن لقائل أن يقول: ليس كلامنا فى أن كل موجب هل يعانده موجب كعناد السكون للحركة مطلقاً، بل يسلم أن عناد السلب أعم وأكثر. وأما الموجب إذا تخصص فصار موجباً ضدى المحمول، فهل يتخصص بإزائه ضد هو أشد ضدية له، كما تتخصص الحركة إذا كانت نازلة فإن الذى يضادها هو حركة اشد عنادا من السكون. لكن الشأن فى المفسر المشهور وكل من قرب عهده فإنه أعان هذه الحجة بقياس فاسد، فقال: فإذا كان فى كل الأمور قد يوجد للعقد الصادق فيها عقد النقيض. فيكون هذا شيئاً ذاتياً، إذ كان الذاتى شيئاً موجودا فى الكل.(1/202)
فانظر كيف غلط فى القياس، وذلك لأنه أورد قوله: إذا كان الذاتى موجودا فى الكل، مقدمة لقياس ينتج: أن هذا شئ ذاتى، ومطلوبه هذا كلى فى موضوع مخصوص لا ينتج إلا من الشكل الأول. فالذاتى من قوله: إذا كان الذاتى موجوداً فى الكل، لا يخلو إما أن يجعله حدا أوسط أو حداً أصغر لا محالة، لأنه موضوع فى هذه المقدمة، والمطلوب موجب. فإن جعله حدا أوسط، فلا يجب أن يكون داخلا فى النتيجة، وقد أدخله، وإن جعله حدا أصغر كان الإنتاج هو أن الذاتى يكون كذا لا أن كذا ذاتى، فإن الذاتى يجب أَن يكون فى القياس حدا أصغر لا حداً أَكبر. وأَما إذا اعتبرنا المقدمة الأخرى فإنا نجد ما تشارك به هذه المقدمة حال الوجود فى الكل فإن جعلناه هناك موضوعا حتى كان القياس هكذا: إن الذاتى موجود فى الكل والموجود فى الكل هو أَن العقد الصادق فيها عقد النقيض كان مع كذب الكبرى إذا أَخذ الموجود فى الكل فيه كما فى الصغرى، أَنتج أَن الذاتى كذا لا أَن كذا ذاتى، وهو مع فساد المقدمة وكذبها إن أخذت كلية حتى تنتج ولم تؤخذ مهملة. وإن لم يجعل الموجود فى الكل موضوعا بل محمولا وهو الواجب كان وجود عقد النقيض هو للعقد الصدق أَمراً موجودا فى الكل وكان الذاتى أمرا موجودا فى الكل، فأنتج من موجبتين فى الشكل الثانى. وإن عكس فقال: وكل موجود فى الكل فهو ذاتى، كذب كذباً صراحاً. وتتلو هذه الحجة حجة قوية وهو أن عقدنا فى الشئ الذى ليس بخير أنه ليس بخير، لا يمكننا أن نورد بإزائه عقائد أخرى من الجنس الذى نحن فيه، إلا أن نعتقد فيه أنه شر وأنه ليس بشر وأنه خير، لكن اعتقادنا فيه أنه شر قد يصدق مع هذا الاعتقاد فى كثير من الأمور فلا يكون معانداً مطلقاً لهذا الاعتقاد، واعتقادنا فيه أنه ليس بشر قد يصدق أيضاً. فإِنا نجد الشئ الواحد كالطفل لا خيّرا ولا شريراً، وكذلك المتوسط فبقى أن يكون معانده أنه خير. فاذن عَقْدُ أنه خير هو المعاند لعقد أنه ليس بخير وهو المضاد الحقيقى له، والمضاد مضاد لمضاده. فمعاند أنه خير هو أنه ليس بخير، فإنه لا يجوز أن يكون الشئ يضاد شيئاً على الإطلاق بالحقيقة، وذلك الشئ يضاد آخر ولا يضاده. فاذا جعلنا المسألة كلية فنظرنا هل معاند قولنا: كل إنسان ليس بخير، هو قولنا: إن كل إنسان شر أو قولنا: إن كل إنسان ليس بشر أو قولنا: كل إنسان خير، وكان ضده على الوجه الذى بينا هو أن كل إنسان خير، فضد قولنا كل إنسان ليس بخير هو قولنا كل إنسان خير، لكن ضد قولنا كل إنسان ليس بخير، هو قولنا: ولا واحد من الناس خير، فإنه سلب الخير عن كل واحد واحد. فهذا القول فى الشخصى والكلى واحد. وأما المهملات فكيف تتضاد وقد تصدق معاً، وكذلك الجزئيتان والأضداد وإن كانت ترتفع معا، وتكذب معا، فليس يجوز فيها أن تصدق معاً.
تم الفن الثالث من كتاب الشفاء وهو من الجملة الأولى في المنطق
القياس
بسم الله الرحمن الرحيم
المقالة الأولى
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا) فصل
في صورة القياس المطلق
قد فرغنا من تعديل الألفاظ المفردة وأحوالها، ومن تعديد التأليف الخبري الحملي منها. وقصدنا الأول وبالذات في صناعة المنطق هو: معرفة القياسات، والقسم الناظر منها في القياسات البرهانية. ومنفعة ذلك لنا هي، التوصل بهذه الآلة إلى اكتساب العلوم البرهانية. وقصدنا الثاني: معرفة أصناف القياسات الآخرى، فبعضها ينفعنا بالارتياض فيها، والتخلص الىالعلوم البرهانية، كالجدليات، ولها منافع أخرى؛ وبعضها ينفعنا العلم بها في التحرز عنها عند ابتغاء العلوم البرهانية، كالسوفسطائية؛ وبعضها ينفعنا في مصالح المدينة، ونظام المشاركة، كالخطابة والشعر. وجميع هذه كالمشتركة إما بالفعل، وإما بالقوة، في هيئة القياس وصورته. واكثر اختلافها في موادها.(1/203)
والعلم الباحث عن الأمر الكلي مقدم دائما على العلم الباحث عن الأمر الجزئي. ومن لم يعرف القياس المطلق العام لم يمكنه أن يعرف القياس المخصص. فبالحري أن نقدم القول في القياس المطلق. أما بيان اختلاف حال المقاييس في المواد فالاولى أن يؤخر الكلام فيها. وأما ما قيل من أن المقدمات إما أن تكون واجبة فيكون عنها البرهانيات؛ وإما ممكنة أكثرية، فيكون منها الجدليات؛ وإما ممكنة متساوية، فيكون منها الخطابيات؛ وإما ممكنة أقلية، فيكون منها السوفسطائيات؛ وإما ممتنعة، فيكون منها الشعريات؛ فيجب أن لا يتلفت إليه، ولا ينظر بوجه من الوجوه إلى هذه القسمة.
ونعلم أن الواجبات تدخل في البرهان. والممكنات أيضا قد تدخل في البرهان، على النحو الذي سنبين لك عند كلامنا في البرهان. وأما الجدليات فتكون صادقة في الكل، وتكون كاذبة في الكل، فلا يعتبر فيها حالها في نفسها؛ بل الشهرة أو التسليم. والسوفسطائية تكون كاذبة في الكل، وتكون صادقة في الأكثر، فلا يلتفت إلى ذلك، بل لأنها تكون خلاف ما يُدعى من أمرها من أولية أو شهرة، فتكون مشبهة بأولى أو مشهور.
والخطابيات يعتبر فيها أن تكون مظنونة ومشهورة في باديء الرأي، وإن لم تكن مشهورة حقيقة، فربما كانت كاذبة مطلقة، وربما كانت صادقة، كما أن الصادقة ربما كانت مشهورة في باديء الرأي، وربما كانت غير مشهورة في باديء الرأي. والشعريات إنما يلتفت فيها إلى أن تكون مخيلة، كانت صادقة أو كاذبة في الكل أو لا في الكل إذا كانت النفس تنفعل عنها انفعالا نحو انقباض أو انبساط، لا لأنها صدقت بشيء منها، بل من جهة حركة تخييلية تعرض لها عندها، كمن إذا سمع قول قائل العسل إنه مرة مقيئة اشمأز عن تناوله، وربما سمع الثناء على جميل كان يعرفه جميلا، أو الذم لقبيح كان يعرفه قبيحا، وكان التصديق لا يحرك منه شيئا؛ فإذا سمع الشعر الموزون هاج تخيله فانبعث نزاعه أو نفوره إلى موجب تخيله كطاعة للتخيل لا للصدق .
بل نرجع من رأس، ونقول: إنه لما كان علم القياس جزءا من المنطق، وكان علما بصورة ما، تلك الصورة تتكثر وتتغير لأجل أن مادتها تتغير وتتكثر، فيصير إحدى الصنايع الخمس، لم يكن لنا سبيل إلى معرفة أصناف أقسام الاختلاف إلا بعد معرفة الصورة الجامعة للأصناف، وهي صورة القياس بما هو قياس، فقدم النظر في صورة القياس. ثم لم يكن لنا سبيل إلى معرفة القياس إلا بعد تقدم معرفة ما القياس المؤلف منه، فقدم النظر في بسائط القياس، وبسائطه القريبة هي القضايا، وبسائطه البعيدة التي هي بسائط بسائطه هي المفردات. فبدىء بالمفردات، فملا أحصيت وعلمت، تلى ذلك النظر في التأليف الأول منها الذي يكون فيه الصدق والكذب. فلما عرف ذلك وفصل، شرع في تعليم القياس .(1/204)
ونقول: إن الاستدلال صنعة ما، تؤدي إلى غرض. وكل صنعة فإنها تتعلق بمادة وصورة، وبحسب اختلاف كل واحدمن المادة والصورة يختلف المصنوع في الصنعة. فربما كانت الصورة فاضلة، ولم تكن المادة فاضلة، كما يتفق أن يبنى البيت من خشب نخر وطين سبخ، ثم يوفى جقه من الشكل والرسم، ولا يغني ذلك، زولا يبلغ به الغرض الأقصى من الانتفاع به، والسبب فيه رداءة مادته. وربما كانت المادة فاضلة، لكن الصوزرة غير فاضلة، كما يتفق أن يبنى بيت من خشب صلب وحجارة صلبة بناء غير محكم في تركيبه ووضعه وهندامه وشكله، فيعدم فائدة استجادة خشبه وحجارته لاستفساد صورته. وربما اجتمع الأمران جميعا. فكذلك الاستدلال يدخله الفساد من أحد وجوه ثلاثة: إما من جهة أن يكون ما يؤلف عنه غير وثيق، أي غير حق، وغير بين، وعلى غير ما يجب أن يكون، فإن أوقع عليه تأليف حسن ورصف فاضل لم يغن في التوصل الى الغرض؛ وإما من جهةو أن نفس التأليف ليس يوجب شوق الذهن إلى الغرض. وإن كان ما عنه التأليف فاضلا حقا. وإما لاجتماع الشيئين جميعا. وكما أن الصانع يلزمه أن يعرف أي الصور نافعة في غرضه، وأيها غير نافعة، وأي المواد محكمة، وأيها متوسطة، وأيها واهية؛ كذلك المستدل يلزمه أن يعرف حال التأليفات منتجها وعقيمها، وحال ما عنه التأليف. والغرض في حصول الاستدلال حصول علم أو تسليم أو ظن على سبيل اكتساب. والمؤدي المعتمد عليه هو القياس. ومادة القياس هي مصدقات أو أمور في حكم مصدقات سلف بها التصديق. وصورة القياس هي الرصف والتأليف الذي يقع فيها .
فأنت تعلم أنه ليس يمكن أن يكتسب العلم بالمجهول من أي علم كان، بل بعلم له إلى المجهول نسبة مخصوصة؛ وتعلم أنه ليس أي تأليف اتفق في المعلومات التي عندك تؤديك إلى أي مطلوب اتفق، بل تأليف مخصوص. فالمنطقي يلزمه أن يعرف أصناف المطالب، وهي بأعيانها أصناف القضايا، ثم يعرف أن أي التأليفات يؤدي إلى أي مطلوب، ويعلم كل ما يؤدي إلى كل مطلوب معين. فإن القضايا تدخل في تأليف تأليف نحو مطلوب معين. وذلك لها من حيث هي قضايا مطلقة ليس يلتفت بعد إلى مادتها. وذلك هو الذي يجب أن يعلم من حالها أولا، ثم يعلم أن تلك القضايا كيف تكون مادتها، أعني حال الصدق في تأليف أجزائها حتى يؤدي فيما يؤدي إليه إلى يقين، وكيف يكون حتى يؤدي إلى ظن قوي يكاد يشبه اليقين، وكيف يكون حتى يغلط، وكيف يكون حتى يوقع أغلب الظن. وبالجملة القناعة، وكيف يكون حتى يخيل. ثم ينظر أن الأفضل والأبلغ في كل باب ما هو، وليس يلزمه هذا في جنبة التصديق فقط؛ بل وفي وجنبة التصور، وعلى هذا القياس بعينه. وإذ لابد من مصدقات أولى لم تكتسب بروية، وإلا لماكان لنا سبيل إلى كسب الثواني؛ إذ كان لا وجه لكسب الثواني إلا بتقدم تصديق الأوائل. فلو احتيج في كل مصدق به إلى أوائل، ذهب هذا إلى غير نهاية، ولم يكن إلى قطعه سبيل. فبين أن تلك أوائل المواد القياسية، سواء أكان التصديق بها واقعا بأول العقل، أو بالحس، أو بالتجربة، أو بالتواتر، أو بالشهرة، أو بالغلط، أو بالظن، أو بالقبول من مظنون به الصواب فيما يقول. والمصدقات بالكسب قد تعود مرة أخرى مواد لقياسات تكتسب بها مصدقات أخرى، ويمضي ذلك إلى ما عسى أن لا يتناهى .
وقد جرت العادة بأن يسمى تعليم القياس علم التحليل. والسبب الحقيقي في ذلك أه الاستدلال بالحقيقة إنما يكون على مطلوب محدود. وأما الذي يكون على غير ذلك السبيل، أعني أن يكون القياس، ينعقد اتفاقا فيؤدي إلى نتيجة من النتائج لم تطلب، ولم يجمع لها القياس، فهو شيء غير صناعي، وإنما هو أمر بختي؛ بل القياس الصناعي هو أن يكون لك غرض، فتطلب ما ينتجه أو تنتج مقابله، وما ينتج الشيء علة له من حيث هو نتيجة، فيكون نظرك حينئذ مبتديا من معلول إلى علة، ويكون مع ذلك نظرك في جملة تطلب أن تفصّلها بإدخال الوسيط كم ستعلمه من أجزائها. ويكون نظرك مبتديا من واحد يحلله إلى كثرة، ويطلب له مباديء كثيرة.(1/205)
وهذا النوع من النظر يسمى التحليل بالعكس، كما أن مقابله يسمى التركيب. فسمي هذا الكتاب كتاب التحليل بالعكس لهذا الوجه، لا لوجوه يخترعها قوم بالتكلف المشتط فيه. والدليل على صحة هذا القول أنك ستعلم عن قريب أن جميع ما يسمى قياسا في هذا الكتاب إنما سمي قياسا بعد أن يوضع نفس مطلوب ما ويقايس به أجزاء القول الناتج إياه، حتى يتعين الأصغر، والأوسط، والأكبر، والصغرى، والكبرى. وذلك لا يتعين إلا وقد يعين المطلوب كما ستعلم. وإنه إن كان قول ينتج شيئا، ولكن ليس ينتج ما يجعل أجزاؤه بالقياس إليه هذه الأجزاء، أعني الصغرى والكبرى والأصغر والأوسط والأكبر، لم يسم ذلك قياسا .
الفصل الثاني
(ب) فصل
في أن المنطق آلة في العلوم الحكمية
لا يستغنى عنها
قد كان سلف لك الوقوف على موضوع المنطق، وبيان أن الغلط كيف يقع فيه، وسلف لك جملة أن المنطق كيف يكون جزءا للحكمة، وكيف يكون آلالة، وأن لا تناقض بلين من يجعله جزءا، وبين من يحعله آلة، فإنه إذا أخذ موضوع المنطق من حيث هو أحد الموجودات، وكانت الفلسفة واقعة علة ما هو علم بالموجودات كيف كانت، كان المنطيق جزءا من الفلسفة يعرف أحوال موجودات ما حالها وطبيعتها أن يعرف كيف يكتسب بها المجهول أو يعين فيه. فمن حيث أن هذه الحال أمر خاص لبعض الموجودات، أو عارض ذاتي له. أو أمر مقوم إياه، فهو نظر ما في الموجود من حيث هو موجود ما بحال، فهو علم ما من المعلوم.
ولكن لما عرض ثانيا أن كانت هذه المعرفة من أمر هذا الموجود تعين في معرفة أمور أخرى، فتكون هذه المعرفة التي هي بنفسها معرفة ما، آلة لمعرفة أخرى، بل جل الغرض فيها معونتها في معرفة أخرى. فكونها معرفة بجزء من الموجودات، هو كونها جزءا من الفلسفة، وكونها معرفة بجزء من الموجودات من حيث تعين في معرفة أخرى، ولتكن تلك المعونة هو كونه آلة. فكون المنطق جزءا يكون أعم من كونه آلة، وليس هو جزءا من الشيء الذي هو آلة له فإنه ليس جزءا لما هو آلة له، وهي العلوم التي تكال بالمنطق وتوزن بعبارة؛ بل هو جزء من العلم المطلق الذي يعم هذه العلوم كلها. وكونه منطقا هو من حيث هو آلة، ومن حيث هو آلة قد يحمل عليه أيضا معنى أعم من الآلة؛ كما أن الإنسان من حيث هو إنسان قد يحمل عليه الحيوان، ويقال أنه حي. وليس افتراق كونه جزءا وكونه آلة افتراقا بمعنيين متباينين على الإطلاق، بل معنيين أحدهما أحص والآخر أعم. فإن كل ما هو آلة لعلوم كذا فهو جزء من العلم المطلق، وليس ينعكس، فهكذا يجب أن يتصور. وإن كان ما قاله فاضل المتأخرين في نصرة من رأى أن المنطق آلة، وليس بجزء، هو أتم ما يمكن أن يقال فيه.
وأما كونه آلة فلآنه يعين. وليس كل معونة، فإن المعرفة قد تعين في معرفة أخرى على أن تكون مادة، وتعين على أن تكون مكيالا، وميزانا، ولا تكون مادة البتة، وإن كان المعيار قد يمكن أن يجعل بوجه من الوجوه جزءا أو مادة. فانا إذا قلنا مثلا: كل متحرك جسم، والنفس ليست بجسم، واقتصرنا على ذلك، وانتجنا: فالنفس ليست بمتحركة؛ لم يكن ههنا مادة منطقية البتة، ولم يكن المنطق بوجه من الوجوه معينا في هذا من حيث أنه مادة، بل من حيث هو مكيال يعرفنا أن هذا التأليف منتج. وكذلك إن كان بدل هذا حد من الحدود، أو رسم من الرسوم، فكان المنطق ينفع في أن يكال به هذه ويوزن، ولا ينفع في أنه جزء منه البتة. فإن تكلفت وقلت: لكن هذا شكل منتج، ينتج سلب المتحرك عن النفس، حتى حاولت أن تتم به الكلام، صارت المقدمة المنطقية جزءا من جملة القول. لكن غرضنا في الاعتراف بأن المنطق جزء، كما هو أيضا آلة، ليس على أن يصير جزء مادة على هذه الصفة، أعني الوجه الذي يدخل فيه على أن هذا متزن بالمنطق مكيل به. فإنا إذا علمنا المنطق، لم يحوج في كل قياس نعمله أن نصرح بالفعل بأنه متزن مطلق، حتى يكون ذلك مصرحا به، وجزءا من القول المنتج، بل إذا جاء تأليف نعلم في أنفسنا أنه منتج، أو حد نعلم في أنفسنا أنه حد انتجنا واقتصرنا عليه. كما أن النحوي إذا قال: ضرب زيد، اقتصر على هذا اللفظ في غرضه، ولم يحسن أن يقول: وزيد مرفوع بأنه فاعل؛ بل يعلم هذا ويستغني عن ذكره عند استعمال ما علم هذا لأجله .(1/206)
فالمنطق ليس معينا في العلوم على أن يؤخذ مادة فيها من حيث مطالبها مطالب غير منطقية. نعم أن كثيرا من الأصول التي في الجدل، أو في الخطابة، وفي الشعر، تؤخذ مقدمات، وقياسات لكن مطالبها تكون منطقية، مثل أنه، هل هذا الشيء أفضل أو غيره، وهل هذا ظلم أو ليس بظلم، وما أشبه ذلك. فإن هذه المطالب منطقية تُجعل مقدمات ما منطقية مواد في إثباتها، وليس كلامنا في أمثال هذه المطالب.
وربما أدخل المنطق أيضا كالجزء في بعض المواضع إذا لم يوثق بذكر المتعلم ما علمه من ذلك المعيار في المنطق، فيكون ذلك على سبيل التذكير. كما أن النحوي أو اللغوي إذا استعمل غريبا من الإعراب أو اللغة في كلامه لداع ما فخشي أن لا ينتبه له السامع لم يَقْبُح أن يشير إلى وجهه، فتصير إشارته إلى وجهه استعمالا لمقدمة نحوية أو لغوية. وربما كانت مطالب مشتركة أيضا بين المنطق وبين صناعة أخرى، وأكثر ذلك مع الفلسفة الأولى، فيكون بيانها المحقق في الفلسفة الأولى، وبيانها بوجه آخر، أو على سبيل الوضع، في المنطق، فتستعمل مواد في قياسات علمية. فإن التفت إليها من حيث تعلمت في المنطق، كان على سبيل التذكير، وكان إيرادها على سبيل إيراد ما هو مستغنى عنه. وإن التفّت إليها من جهة أنفسها، كانت أوصولا موضوعة إذا استعلمت في علوم. ومثال هذا ما قيل: لما كان العلم الطبيعي علما بأمور ذوات مبادئ، وكلن العلم بذوات المبادئ إنما يستفاد من العلم بالمبادئ، فيجب أن يُنظر أولا في المبادئ. فإن المقدمة الكبرى مما يعلم في الفن المُشتمل على تعليم البرهان، وأيضا فإنما تتحقق بالحقيقة في صناعة الفلسفة الأولى، فإن أوردت على أنها وضع وخطاب متلامع من لن يسمع بالمنطق ولم يُعّلمهُ، كانت هذه مقدمة وضعية، يتقلدها الطبيعي من صاحب الفلسفة الأولى، ويضعها وضعا في علمه، كما هو الحال في أكثر مبادئ العلوم، وإن كان ذكرها وإيرادها على أنها شيء مفروغ منه في المنطق، معتقد فيه الحقيقة، فلا موقع له إلا موقع الذي من حقه أن لا يذكر ولا يورد، كما لا يذكر حال القياس أنه ناتج، الفاعل أن رفعٌ؛ إذ كان إنما يعلم، ليستعمل في العلوم مكيالا ومعيارا، لا داخلا في الكيل والمعيار؛ بل إنما أورد أمثال ذلك تذكيرا لما يغلب عليه الظن بأنه ليس من المباحث المنطقية التي تثبت في الذهن لائحا كل وقت. وحق هذا أن يعلم ويعتبر وجوده فيما يتعلم من غير تصريح به، فإنه صرح به على سبيل تذكير .
وأما ما ظنه فاضل المتأخرين من أن المقدمات المستعملة في مناقضة مالسيس وبرمانيدس هي منطقية؛ إذ ذكر فيها الكم والتناهي، وأن التناهي للكم بذاته أو لغيره أولا وما أشبه ذلك، فقد زل. فإن النظر في الكم وما يلحق الكم ليس نظر منطقي. وقد فرغنا من هذا في بياننا لقاطيغورياس. فالمنطق معين على سبيل أنه ميزان، لا على سبيل أنه داخل في الوزن. وإنما هو منطق لأنه هكذا. وأما سائر العلوم الأخرى فيُعين بعضها في بعض على سبيل أن المطلوب في هذا المُعين يصير مقدمة ومادة للمعان لا على سبيل التعيين. فإن أوجب موجب أن لا يتناول بلفظة الفلسفة كل ما هو علم بموجود؛ بل يخضها بما هو علم مقصود لذاته وعلم بالموجودات ولا من حيث تُعين في كل علوم أخرى، كان له أن يجعل المنطق آلة لا جزءا. لكنه كالتكلف المستغنى عنه.
والمنطق نعم العون في إدراك العلوم كلها. فلذلك حق للفاضل المتأخر أن يفرط في مدح المنطق. وقد بلغ به هذا الإفراط إلى أن قال: إن المنطق ليس محله من العلوم الأخرى محل الخادم؛ بل محل الرئيس لأنه معيار ومكيال. ولكني أقول: ليس كون العلم معينا على سبيل أنه معيار يرفعه، أو كونه معينا على سبيل أنه مادة يضعه؛ بل ما كان مقصودا بنفسه في كل شيء أشرف وأعلى من المقصود لغيره. فلا يحق أن يحاول إثبات رياسة المنطق على العلوم الأخرى. لكن بنا حاجة إلى أن نجيب من يسأل فيقول: إن المنطق إن كان مُحتاجا إليه في المباحث الفكرية، فيجب أن يكون محتاجا إليه في تعلم صناعة المنطق نفسه، وأن يكون هذا الكتاب الذي في القياس مُحتاجا إلى معرفته ليعلم به ما سلف قبله. ثم ما بال قوم هم يبرهنون ولا قانون عندهم، كأرشميدس الذي يبرهن على التعاليم ولم يكن في زمانه المنطق محصلا؛ بل ههنا آخرون جدليون، وآخرون خطباء، وآخرون شعراء، وما شئت من السوفسطائيون.(1/207)
فنقول أولا: إن التعليم على وجهين: تعليم هو إفادة العلم بما هو من شأنه أن يجهل، كمن يعلم أن الزوايا الثلاث من المثلث مساوية لقائمتين. وتعليم هو تذكير وإعداد. أما التذكير فأن يجعل الأمر الذي لا يجهل إذا أخطر بالبال مخطرا بالبال. فإن الذي ليس خاطرا بالبال هو مجهول من حيث هو ليس علما بالفعل التام؛ بل هو علم بالقوة القريبة من الفعل، وأقرب من قوة الذي إذا أخطر بالبال أمكن أن يتشكل فيه. فهذا هو التذكير. وأما الإعداد فأن لم يخطر معه بالبال أمور تجري مجراه، يكون كل واحد منها إذا علم لم يفد إلا العلم به نفسه؛ وإذا أخطر بالبال في مجاورة الآخر يوقع منهما أن يفيدا علما لم يكن. فيكون لا بد من أعداد تلك الكثرة لما يراد من التعليم المتوقع بإيقاع المجاورة. فليس كون الشيء بالبال وحده هو كونه مخطرا بالبال مع غيره. فضرب من التعليم هو هذا. وضرب من التعليم هو ما قلناه قبل. وذلك أيضا قسمين: فمنه قسم متصل متسق يبعد أن يقع في نمطه غلط، ومنه قسم ليس كذلك. ومثال الأول ما نتعلمه في علوم الحساب والهندسة. وعلامته قلة وقوع الاختلاف فيه. ومثال الثاني ما نتعلمه في علوم الطبيعيين، وعلامته كثرة وقوع الاختلاف فيه .
ثم إن الأمور التي تعلم في علم المنطق منها ما تعليمه على سبيل التذكير والإعداد، ومنها ما هو على سبيل الوضع، ومنها ما هو على سبيل النتاج والاحتجاج. ولذلك يحب أن يكون ظنك بأكثر ما في قاطيغورياس أنه إما وضع وإما تذكير وإعداد على أنه ليس علما منطقيا في الحقيقة، وما باري إرمينياس أكثره تذكير وإعداد، وبعضه احتجاج واستدلال. وما بعد ذلك مُخلط من تذكير ومن تعليم أمور لا يقع فيها اختلاف إذا فهمت على وجهها لأنها من القسم المتسق. والمنطق، فإن أكثر الحاجة إليه فيما كان من التعليم على وجه القسم الآخر. فلذلك لا حاجة إلى جميع المنطق في جميع المنطق؛ بل الجزء الذي على سبيل التذكير والإعداد يحتاج إليه في الجزء الذي على سبيل الكسب، حتى يكون الجزء الذي على سبيل التذكير والإعداد يعتبر به الجزء الذي على سبيل الاحتجاج والكسب. ويكون الجزء الذي سبيل الاحتجاج مما يقل وقوع الاختلاف فيه عند الحقيقة. والذي يُتوهم من وقوع الاختلاف فيه فإنما هو بسبب الألفاظ، ووقوع الاختلاف في معانيها، وذهاب كل فرقة إلى غرض آخر، لو اجتمعوا على الغرض الواحد لما تنازعوا في أكثر الأمر. وهو كلام غير منطقي دخيل في المنطق .
ومع ذلك فلا ننكر أن يبرهن غير المنطقي، وأن يجادل غير المنطقي، وأن يخطب غير المنطقي. فإن المنطقي أيضا إذا تعلم هذه الصنائع لم تنفعه نفس معرفته بهذه القوانين كثير نفع ما لم يحدث له ارتياض وتمرن يصير له استعمال هذه ملكة، كما أن النحوي إذا تعلم النحو لم ينفعه العلم بالنحو في أن يستعمل النحو استعمالا بالغا إلا بعد التمرن واكتساب الملكة. وقد تحصل ملكة في النحو من غير معرفة القوانين، وفي الجدل، وفي غير ذلك، إلا أنها تكون ناقصة. ولذلك يجوز أن تزول وتفسد كما زالت الملكة النحوية عن العرب. لأنهم كانوا مُعولين على الملكة. فلو كانت لهم مع الملكة قوانين تصدر أفعال الملكة عن الملكة وعناه، كانت معيرات، ما كان يقع ما وقع. فليس سواء من له ملكة وعلم بجميع قوانين تلك الملكة ممثلة لعقله منزوعة عن المواد يرجع إليها فيما يفعل، والذي له ملكة ساذجة لا تدعمها معرفة بالقوانين؛ بل الأولى أن تكون الصناعة محصلة ثم تكتسب الملكة على قوانينها. فإذن لا غُنية عن المنطق لمن أراد أن يستظهر، ولا يعول على ملكة غير صناعية.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في المقدمات وأجزائها
وفي المقول على الكل بالإيجاب والسلب
يجب أن نبين ما المقدمة، وما الشيء الذي يسمى حدّا لمقدمة، وما المقول على الكل بالإيجاب والسلب، وما المقول على البعض، وما القياس، وما الكامل منه وما غير الكامل منه، ثم بعد ذلك نشرع في تنويع القياسات، وتعرّف ما يلحقها من الاعتبارات.(1/208)
فالشيء الذي كان يسمى في كتاب باري إرمينياس قولا جازما وقضية. فإنه إذا جعل جزء من قياس كان مقدمة. فالمقدمة قول جازم جعل جزء قياس. وليس هذا فصلا يلحق بالمقدمة؛ بل اعتبار عرضي، حتى لو توهمنا المقدمة نفسها زال عنها أنها جزء قياس لم يجب أن تفسد ذاتها ولا كونها قولا جازما، فساد اللون الموجود في حد البياض إذا توهم أن كونه مُفرقا للبصر قد زال. فإنه وإن كان فصول الجواهر قد يظن بها أنها معاني تلحق بجنسيتها، وتزول من غير فساد طبيعة جنسيتها، فلا يظن ذلك بفصول الأعراض. على أن الظن المظنون به في الجواهر مما فيه وضع نظر، وسينكشف في الموضع اللائق به. وكما أن القضايا محصورة ومهملة وشخصية، كذلك المقدمات. فيجب أن يحقق حال محصور محصور. فالمحصور الذي هو موجب كلي كقولنا كل ب( آ، فيجب أن نحققه أولا فنقول: يجب أن نعلم أن معنى قولنا: كل كذا هو كذا، هو أنه واحد واحد لا الكل جملة ولا الكلى. فليس معنى قولنا: كل إنسان، أنه كل الناس جملة، ولا الإنسان الكلى، بل إن كل واحد واحد منهم حتى لا يشذ شيء. فإنه ليس الحكم على الجملة هو الحكم على الأفراد. فربما قيل على الجملة ما ليس يقال على الأفراد. ولا الحكم على الإنسان الكلي من حيث هو كلي يجب أن يكون حكما على الجزئيات كما علمت فيما سلف، بل هذا الحكم هو على واحد واحد من الجزئيات الشخصية أو النوعية والشخصية معا إن كان المعنى جنسيا. ثم يجب أن نعلم أنه ليس معنى قولنا: كل واحد واحد مما هو كذا، معناه كل واحد مما كذا من حيث هو كذا، كقولنا: كل أبيض، ليس معناه كل ما هو أبيض من حيث هو أيبيض فقط، بل كان ما يوصف بأنه أبيض، وكل شيء يقال له أبيض كان ذلك لشيء أبيض بأنه نفس الأبيض من حيث هو أبيض، أو كان شيئا موصوفا بأنه أبيض وله حقيقة أخرى، كإنسان أو خشبة موصوفين بالبياض. وأيضا يجب أن نعلم أن قولنا: كل أبيض، ليس معناه كل ما هو موصوف بأنه أبيض دائما. فإن قولنا: كل أبيض، أعم من قولنا كل أبيض دائما. فإن الأبيض، أعم من الأبيض وقتا ما، ومن الأبيض دائما. فقولنا: كل أبيض، معناه كل واحد مما يوصف بأنه أبيض دائما أو غير دائم كان موضوعا للأبيض موصوفا به أو كان نفس الأبيض. وهذه الصفة ليست صفة الإمكان والصحة. فإن قولنا: كل أبيض، لا يفهم منه البتة أنه كل ما يصح أن يكون أبيض، بل كل ما هو موصوف بالفعل بأنه أبيض كان وقتا ما، غير ميعن أو معينا أو دائما بعد أن يكون بالفعل.
وهذا الفعل فعل الوجود في الأعيان فقط، فربما لم يكن الموضوع ملتفتا إليه من حيث هو موجود في الأعيان كقولك كل كرة تحيط بذي عشرين قاعدة مثلثة، ولا الصفة هي أن يكون للشيء وهو موجود، بل من حيث هو معقول بالفعل موصوف بالصفة على أن العقل يصفه بأن وجوده بالفعل يكون كذا، سواء وجد أم لم يوجد. فيكون قولك: كل أبيض، معناه كل واحد، مما يوصف عند العقل بأن يجعل وجوده بالفعل أنه أبيض دائما، أو في وقت أي وقت كان. فهذا جانب الموضوع .(1/209)
وأما جانب المحمول فيقول: إن ههنا موجبات مطلقة، وضرورية، وممكنة. أما الموجبة الكلية المطلقة فينبغي أن نتلكم فيها، ونعرف الفرق ببن المطلق والضروري، فنقول: إن ههنا أقوالا كلها موجبات، والأحوال فيها مختلفة. فنقول: إن الله حي، أي دائما لم يزل ولا يزال، ونقول: كل بياض لون، وكل إنسان حي، ونعني لا أن كل واحد مما هو بياض لون لم يزل ولا يزال كذلك، أو كل إنسان حي لم يزل ولا يزال كذلك، بل إنما نقول: إن كل ما يوصف بأنه بياض، ويقال له إنه بياض، فإنه مادام ذاته موجودة فهو لون. وكذلك كل واحد مما يقال له إنسان. فإنه ليس لم يزل ولا يزال حيوانا؛ بل مادام ذاته وجوهره موجودا. ونقول: إن كل متحرك جسم، ولسنا نعني أن كل واحد مما يتحرك فإنما هو جسم ما دام يتحرك فقط، بل وإن لم يتحرك، إنما نعني أنه جسم ما دام ذاته موجودا. والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن هناك لا يفترق الحال بين قولنا: ما دام ذاته موجودا، وبين قولنا: مادام بياضا. وههنا يفترق الحال بين قولنا: كل موصوف بأنه متحرك مادام ذاته موجودا، وبين قولنا: مادام متحركا. ونقول: كل أبيض فله لوم مفرق للبصر، ولا نعني أن كل واحد مما يقال له أبيض، فما دام ذاته موجودا، فهو ذو لون مُفرق للبصر؛ بل مادام موصوفا بأنه أبيض. وأما الذي يوصف بأنه أبيض إذا زال عنه أنه أبيض لم تبطل ذاته. وحينئذ لا يوصف بهذا الوصف،. ونقول: كل منتقل من الري إلى بغداد فإنه يبلغ مثر قَرمِيسين، ولا نعني أنه مادام موجودا أو مادام منتقلا إلى بغداد، بل أنه له وقت لا محالة يوصف فيها بأنه يبلغ قرميسين. ونقول: كل حجر فإنه ساكن، فإن هذا يجوز أن يكونه له دائما ما وجد، ويجوز أن يكون وقتا ما. لا بد من أن يكون وقتا ما، ويجوز مع ذلك أن يكون دائما في بعضه، ما دام ذاته موجودا، اتفاقا لا ضرورة. فلا يكون في كل وقت، إنما هو وقت ما. ونقول: كل مستيقظ فإنه نائم، بمعنى كل واحد مما يوصف بأنه مستيقظ فإنه وقتا ما يكون نائما لا محالة؛ وكل مستنشق فإنه نافخ، ونعني كل موصوف بأنه مستنشق فإنه نافخ ليس ما دام ذاته موجودا، أو مادام مستنشقا، بل له وقت هو موصوف بأنه فيه نافخ؛ وكذلك كان مولودا فإن له وجودا في الرحم، أي كل شيء موصوف بأنه مولود فهو موصوف وقتا ما بأنه في الرحم ليس مادام موجودا. وأنت تعلم أن قولك: إن كل مولود فله وجود في الرحم، و أن كل موصوف بأنه مولود فهو موصوف وقتا ما بأنه في الرحم. وليس هذا أنه موصوف عندما هو مولود بأنه في الرحم. فإن قولك: كل مولود هو كذا، الذي معناه كل ما هو موصوف بأنه مولود، أعم من قولك: بشرط كونه مولودا، أو لا بشرط كونه مولودا، وأعم من أنه حين ما هو مولود أو حينا آخر. ومن هذه ما يكون الوقت وقتا متعينا فيه، كقولك: القمر يوجد له كسوف؛ وقد يكون الوقت وقتا غير متعين، كقولك: الإنسان يوجد له الاستنشاق.
وهذه كلها تشترك في أن المحمول يُوجبُ فيها للموضوع. فإن قال قائل: ليس هكذا؛ بل قولك كل مستيقظ نائم كاذب، إلا أن نقول: إن كل مستيقظ نائم في غير وقت يقظته. وكذلك يجب أن نقول: إن كل منتقل إلى بغداد فهو بالغ قرميسين في نصف قطعه مسافته، وإن كل مولود فهو موصوف بأنه في الرحم قبل ولادته. فتكون هذه المقدمات إنما تصدق بشريطة تزاد. فالجواب عن هذا من وجهين:(1/210)
أحدهما، أن كل نائم في وقت كذا فهو نائم وقتا ما، وكل موصوف بأنه في الرحم قبل ولادته، فهو موصوف بأنه في الرحم وقتا ما، وكل بالغ قرميسين في نصف قطع مسافته فهو بالغ قرميسين لا محالة وقتا ما. فإن وجود الشيء للشيء فيما مضى، ووجوده له فيما يستقبل، ووجوده له في الوقت، يختلف في أشياء ويتفق في شيء. وذلك أنه يختلف في الأزمان ويتفق في أنه وجوده له وفي نسبته إليه. فكذلك وجود البلوغ أو النوم للشيء، معنى يعم في الذهن وجوده له فيما مضى، ووجوده له فيما يستقبل ووجوده له في الحال. وليس هو حمل إيجاب ليعين شيئا من ذلك بعينه؛ بل هو حمل إيجاب لأجل هذه النسبة، ثم يصير له ثلاثة أقسام: إيجاب في الماضي، وإيجاب في المستقبل؛ وإيجاب في الحال. فبين إذن، أن المقدمات التي انتزعناها من المقدمات الزمانية صحيحة. فإذا أضفنا إليها الصغريات فقلنا مثلا: كل مستيقظ نائم في وقت كذا، وكل نائم في وقت كذا، فهو نائم على الإطلاق، أي بلا زيادة شرط، أنتج: أن كل مستيقظ فإنه نائم. فتكون قضايا صحيحة، وتشترك في أن فيها حملا موجبا .
والجواب الثاني هو أنا نساعد، فنَجعلُ المحمول ما جعلتموه. فهو أيضا تصحيح لملا ذهبنا إليه. فإن كل منتقل إلى بغداد فهو موصوف بأنه بالغ قرميسين في نصف قط مسافته. وليس ذلك مادام منتقلا إلى بغداد، اللهم إلا أن يقولوا: إن هذا الشرط يجب أن يكون في جانب الموضوع، فيقال: إن كل منتقل إلى بغداد، هو في نصف مسافته، فهو بالغ قرميسين، وكل مولود قبل أن يولد فهو في الرحم. فإن قالوا: هكذا قلنا، ليس كلامنا في أن هذا صحيح أوفاسد، وليس إذا كان هذا صحيحا كان الأول غير صحيح، بل كلامنا: وهذه الزوائد مقرونة بالمحمول فلنجعل زيد المنتقل إلى بغداد موضوع مسألتنا ولننظر هل يحمل عليه، أنه بالغ قرميسين في نصف مسافته، أو لا يُحمل عليه. فإن كان لا يُحمل عليه، فيكون مسلوبا عنه، فيكون زيد المنتقل إلى بغداد مسلوبا عنه أنه بالغ قرميسين في نصف مسافته. فإما أن يكون هذا السلب عنه دائما، أو مادام منتقلا إلى بغداد. وليس هذا مسلوبا عنه دائما ولا مادام منتقلا إلى بغداد؛ بل في بعض زمان كونه منتقلا إلى بغداد. فإذن انتفاؤه في بعض وقت انتقاله، لا يمنع إطلاق السلب. فكذلك وجوده في بعض الوقت لا يمنع إطلاق الإيجاب، فإن السلب والإيجاب لا يختلفان من حيث النسبة الت يتكون فيها قضيته، ويكون فيها محمول وموضوع؛ بل يختلفان في أن أحدهما يوجب والآخر يرفع. فالحق أذن، أن هذا يصدق سلبه ويصدق إيجابه، وأن القضايا نفس السلب والإيجاب فيها لا يتناقض مالم يشترط الوقت والحال.
وإذا تقرر هذا فنقول: قد وقع خلاف بين المتقدمين في معنى القضية المطلقة. وليس ذلك خلافا حقيقيا؛ بل خلافا في استعمال اللفظ. فذهب فريق إلى أن الإطلاق يعنى به حال القضية من حيث أن فيها حكما، أي سلبا أو إيجابا، كيف كان، بحيث يكون ذلك الحكم عاما لجميع وجوه التخصيصي المذكورة، غير ملتفت فيه إلى أن ذلك على أي الأقسام المذكورة بعد أن لا يشترط فيها ضرورة أو لا ضرورة. وذهب فريق إلى أن الإطلاق يعنى به حال القضية من حيث إن فيها حكما، أي سلبا أو إيجابا، يكون موجودا بشرط أن لا يكون مادام ذات الموصوف بالموضوع موجودا؛ بل ما خالف هذا، فيكون المطلق بهذا المعنى أخص من المطلق بالمعني الأول.(1/211)
والأمثلة التي تورد في التعليم الأول تغّلب الظن على أن الغرض ما ذهب إليه الفريق الأول. فإنه وإن أورد في مواضع، أمثلة يصدق فيها اسلب والإيجاب معا، فذلك على سبيل إبانة دعوى جزائية بمثال من جملة المطلقات في مثله لا يستمر الحكم الكلي. فقد بان من هذا أن قولنا: كل ب( آ معناه كل واحد واحد مما يوصف ويفرض أنه بالفعل ب( ، دائما أو غير دائم. فإنه موصوف أيضا بأنه آ من غير أن يلتفت إلى متى ذلك، ومن أي الأقسام كان. فقوم جعلوا كونه بهذه الصفة، هو كونه مطلقا، لكن لم يعرفوا هذه الأقسام كلها؛ بل إنما عرفوا ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون ب هو آ دائما، والثاني مادام موصوفا بأنه ب(، والثالث مادام موصوفا بأنه آ. فيكون قولنا: كل ب آ يتضمن هذه الأقسام الثلاثة وهو يعملها كلها. فيكون العموم إما على أعتبار هذا التثليث فقط، وإما على أعتبار الأقسام التي ذكرنا، والخصوص بحسب قسمين حتى يكون المطلق بالمعنى الخاص ما ليس الحمل فيه دائما. وسيتضح لك تحقيق القول في أقسام الضرورة بعد.
الفصل الرابع
(د) فصل
في الجهات
أعني الإطلاق والضرورة والإمكان والامتناع
لنعد تقرير خلافهم في أمر المطلقة فنقول: قال بعضهم، إن كونها مطلقة هو أن تحذف الجهة عنها قولا وتصورا حذفا، بمعنى أنه لا يلتفت إلى الجهة التي تجب لها في التصور، حتى أن قولنا: كل إنسان حيوان؛ وإن كان حقيقة الحال فيه أن الحيوان موجود لمكل ما هو إنسان مادام ذاته موجودة فلا يلتفت إلى ذلك؛ بل إلى ما تشارك فيه هذه القضية غيرها، وهو أن الحيوان موجود للإنسان. فهو من حيث أنه موجود فقط فهي موجبة مطلقة. ومن حيث التخصيص فهي أمر أخص، وهو أنها ضرورية. وكذلك قولهم: كل مستيقظ نائم، أو كل حيوان متنفس، فإنه يجب أن لا يلتفت فيه إلى ما يقابل الضرورة من حيث أنه كذلك وقتا ما لا دائما ما دام ذاته موجدا؛ بل من حيث هو موجود من غير زيادة جهة تقال أو تتصور. فيكون المطلق أعم من الضروري. وقوم يجعلون المطلق من ذلك ما لا يكون الحمول موجودا فيه دائما. أو ما لا يجب ذلك في كل واحد وإن اتفق في ابعض؛ بل ما يكون ةالحمل وقتا ما أو ما لا يجب أن يكون مادام ذات الموصوف بالموضوع موجودا. وقوم يجعلون المطلق ما كان موضوعاته حاصلة بالفعل في زمان ما حتى يكون قولنا: كل أبيض، معناه أن كل أبيض موجود بالفعل في زمان ما. فتكون الكلية الموجبة المطلقة على الرأي الأول معناه ما ذكرناه؛ وعلى الرأي الثاني معناه كل واحد واحد مما يوصف عند العقل بالفعل أنه ب( دائما أو غير دائم، فهو موصوف بأنه آ وقتا ما لا محالة، سواء كان معينا أو غير معين من غير وجود دوام؛ وعلى الرأي الثالث أن كطل واحد من الموجودين في وقت ما ب(، فإنهم موصوفون بأنهم آ في ذلك الوقت. وهذا الرأي الثالث سخيف مختل. فإن كل واحجد من الموجودين في وثت ب( إذا لم يصرح بالشرط المذكور كانوا بعض ما يوصف بب(، وقولك كل ب( أعم من ذلك.
وههنا قضايا موضوعاتها أمور لا يتلفت إلى وجودها، ومع ذلك يحمل عليها محمولات لا تكون ضرورية ولا أيضا ممكنة؛ بل يحمل عليها بأنها توجد لا محالة وقتا ما، كقولهم: كل دائرتين عرضيتين تتحركان دائما بالخلاف على محور واحد إلى قطبيه فإنهما تنطبقان وتنفصلان. فإن هذه القضية ليست ضرورية. فإن كونهما ينطبقان أو منطبقين ليس دائما، ولا أيضا من الممكنات التي يجوز أن تكون أو لا تكون، بل يجب أن يكون بالفعل وقتا. ولا أيضا حين حمل عليها هذا الحمل في هذا القول. فإنما يحمل عليها هذا الحمل باعتبار الإمكان، وإن كان له مدخل إمكان. ومع ذلك مله فلا يعني أن ذلك فيما وجد وقتا من الدوائر؛ بل لا يلتفت إلى وجودها؛ بل إلى ماهيتها فقط. فإذ ليست هذه ضرورية ولا ممكنة من حيث النظر الذي نعتبره. فبين أنها تكون مطلقة، ولا يكون المطلق ما ذهبوا إليه. والمعلم الأول يمنع من هذا الظن في المطلق صراحا، ويلزم من فرضه محالات نذكرها في خلال المباحث التي نحن متوجهون إليها بالإستقصاء.(1/212)
وقد نبع من هذا المذهب مذهب آخر في أمر الجهات حتى التفت في أمر الضرورة والإمكان إلى أمر القضية في أن سورها يصدق ويكذب، وترك أمر المحمول باعتباره إلى الموصوفات بالموضوع. فكان قولنا: كل حيوان إنسان ممكنا؛ إذ كان يمكن أن يتوهم وقت من الأوقات لا حيوان فيه إلا الإنسان.فحينئذ يصدق أن " كل حيوان إنسان:. فتكون هذه حينئذ مقدمة وجودية صادقة. وقبل ذلك تكون مكنة إذا اعتبرت من حيث كون هذا السور صادقا وقتا ما. فإن حسب حاسب أن مقتضى هذا المثال غير ممكن فقد يمكن أن تطلب ذلك أمثلة من أمور أخرى من أنواع الأمور التي لا نهاية لها.
والفرق بين هذا العتبار والعتبار الحملي أنا لو فرضنا هذا الأمر واقعا كان من حيث الوسر، وصدقه ليس واجبا أن يدوم صدقه. ومن حيث الحمل كان الإنسان ضروريا لكل واحد من الحيوانات الموجودين في ذلك الوقت. فإنه لم يكن الشيء الموضوف ذلك الوقن بأنه حيوان يجوز أن يكون موجود الذات، وليس يوصف بأنه إنسان. لكنا سنوضح فيما يستقبل هذا الرأي النابع أيضا غير صواب، وأن الاعتبار في الضرورة والإمكان إنما هو بحسب مقايسة حال المحمول والموضوع. ويدخل عليه بعد ذلك السور وليس ذلك بحسب السور. وأما المذهبان الأولان فإنا لا نناقش فيهما بوجه. فإنه يحوز أن يعنى بالمطلق أيهما أريد بعد أن يحفظ لكل اعتباره.
ولنعلم أن للقضية من حيث هي أحكاما، ومن حيث هي قضيته يوجد فيها الحمل دائما أحكاما أخص، وكذلك من حيث يوجد فيها الحمل لا دائما أحكاما أخص. والأمثلة التي تورد في التعليم الأول تدل على أن المطلقة بحسب الاصطلاح الأول هي العامية. وقد زعم قوم أنه لا مقدمة كلية إلا ضرورية. وقد غلطوا، فإنا نجد كليات يكون الحمل في كل واحد من الموضوع لا دائما كما مر لك. فلا يجب أن يلتفت إلى ذلك. فإن ذلك كان من سوء فهمهم لما يرتد بالضرورري. لكن الأولى بنا الآن هو أن نذكر الكلية الموجبة الضرورية، فنقول: إن قولنا: كل ب( آ بالضرورة، معناه كل واحد واحد مما يوصف بالفعل أنه موجود ب( كان دائما ب( أو كان وقتا ما ب(،فذلك الشيء موصوف بأنه آ لا عندما يوصف بأنه ب( فقط ولا وقتا معينا؛ بل مادام ذات هذا الذي يوصف بأنه ب(موجودا. فإن كان دائما موجودا فيكون دائما. وإن لك يكن دائما موجودا كواحد واحد من الناس فيكون مادام ذاته موجودا، سواء كان ذاته نفس المعني الذي في الموضوع مثل الموصوف بأنه إنسان - فإن الموصوف بأنه إنسان ليس شيئا إلا نفس الإنسان - أو كان الموصوف بأنه ب( قد يكون موجود الذات ولا يوصف بأنه ب(، كما مثلنا لك قبل هذا.
بل نعود فنقول: إنا قد نستعمل لافظ الضرورة وهو الدوام في موضع: من ذلك أنا نقول: إن الله تعالى حي بالضرورة، أي دائما لم يزل ولا يزال. ونقول: كل إنسان حيوان بالضرورة، لا أنه كذلك فيما لم يزل ولا يزال، ولكن مادام ذات الشيء الذي يقال له إنه إنسان موجودا، أي مادام موصوفا بما جعل منه موضوعا. ونقول: إن كل متحرك متغير بالضرورة، لا أنه دائم لم يزل ولا يزوال ولا أنه دائم مادام ذات المقول عليه إنه متحرك موجودا؛ بل مادام متحركا. وإن كان يتفق أن يكون دوام ذاته موجودا أو كونه مقولا عليه إنه كذا واحدا، كما نقول: كل إنسان فإن دوام وجود ذاته ودوام اتصافه بالإنسان واحد. ونقول: كل متحرك فهو بالضرورة جسم، أي أنه كلما يقال عليه إنه متحرك كيف كان فهو مادام ذاته موجودا، وإن فارق الحركة فهو جسم. ونقول للشيء إنه ماشي إنه ماشي بالضرورة مادام ماشيا، ولا نقول ماشي بالضرورة وحده. ونقول: إن القمر يوجد له الكسوف بالضرورة وقت كذا وكذا. وهذا إن صح عليه أنه يوجد له الكسوف مادام كاسفا بالضرورة فليس معناه ذلك المعنى. فإن شرط الضرورة في القول الثاني هو " مادام الكسوف موجودا " . وشرط الضرورة في القول الأول حصول وقت يكون القمر فيه في العقدة مقابلا للشمس. وهما وإن تلازما متخالفان. ونقول: كل إنسان فإنه يتنفس بالضرورة، ليس وقتا معينا، بل وقتا لا بد منه؛ وليس أيضا معنى هذا أنه يتنفس بالضرورة مادام متنفسا وإن لازمه. وهذه كلها أقسام المطلق الكلي. وإنما الضروري المرسل فيها هو الذي يقال فيه المحمول أو سلب عنه مادام ذات المقول عليه الموضوع موجودا. والذي لم يزل ولا يزال يدخل في هذا.(1/213)
وأما الموجبة الكلية الممكنة فكقولنا: كل ب( آ بالإمكان؛ ومعناه إما أن كل واحد مما يوصف بأنه ب( دائما أو غير دائم، فغير ضروري وجود آ وزلا وجود آ له إذا لم يعتبر شرط، ولا يلتفت إلى أنه سيوجد له لا محالة وقتا ما، أو يجوز أن لا يوجد البتة، أو يجوز أن يصاحبه دائما؛ وهذا الممكن مما يوصف بالفعل أعم من المطلق بالوجه الثاني. وإما أن كل واحد واحد مما يوصف بالفعل بأنه ب( دائما أو غير دائم، فإنه في أي وقت يفرض ذلك الوقت موجودا له فإنه يكون أي مستقبل يخصه، يفرض ذلك الوقت بحيث أنه يجوز أن يوجد فيه ذلك الحكم وأن لا يوجد، ليس مستقبلا إلى مبتدأ آن محدود، حتى تكون حينئذ الموضوعات موضوعات مخصوصة، وتكون الموضوعات التي توصف بأنها ب( في زمان معين، ويكون المستقبل المعتبر مستقبل وقت معتبر محدود. فلا يكون قولنا: كل ب(، يشتمل على جميع ما يوصف بأنه ب( في كل زمان، وذلك خلاف ما فرضناه.
وهذا المفهوم الثاني من الممكن أن يخرج عنه المطلق، فلا يكون جزئيا تحته، وزإن جاز أن يكون شخص محدود يصدقان جميعا فيه. فإن زيدا إذا قعد، فهو قاعد لا على الضرورة، ولا أيضا بالإمكان بهذا المعنى؛ بل بالإمكان بالمعنى الذي قبله؛ إذ ليس هو هذا القعود دائم الوجود ولا دائم العدم مادام ذات الموضوع موجودا. وأما أنه ليس في الإمكان بهذا المعنى، فلأن الإمكان بهذا المعنى يقتضي المستقبل ولا يلتفت إلى الحال، وهذا ملتفت فيه إلى الحالز فيكون هذا القعود بحسب اعتبار المستقبل ممكنا، وبحسب اعتبار الوقت مطلقا، إذ يعين؛ ولا يكون أحد الاعتبارين داخلا في الآخر، أو مقولا عليه، وأإن تلازما. وقد يمكن أن يجعل كونه غير مستحق أن يتعين له وقت بالضرورة اعتبارا آخر للإمكان. فإن القعود ليس كالتنفس أو كالنزع للموت وقتا ما، أو كالكسوف. فإن الشيء يجوز أن لا يقعد البتة، وليس يجوز أن لا ينكسف القمر البتة. فيجوز أن يكون عدم الضرورة المطلقة وعدم الضرورة التي يقتضيها وقت لا محالة هو معنى الإمكان. فيكون قولنا: زيد قاعد، يدخل في هذا الإمكان من غير اعتبار المستقبل، وقولنا: زيد يتنفس لا يدخل في هذا الإمكان؛ بل في القسم الأول الذي هو شيء غير ضروري دائم. وأما الإمكان الذي بمعنى غير ممتنع فيدخله كل شيء حتى الضروري. لكن المستعمل، فيما أقدر، أحد القسمين المذكورين.
فمن شاء أن يجعل للضروري والمطلق طبائع لا تتداخل البتة، ولا تجمع في مادة واحدة، جعل الضروري " الموجود " مادام ذات الموضوع موجودا، والمطلق " ما يجب وجوده وقتا ما بعينه أو بغير عينه لا دائما " ، والممكن " ما لا يجب وجوده ولا سلبه وقت من الأوقات " فأما إن جعل الممكن " ما ليس ضروريا حقيقيا " دخل القسم المذكور من المطلق فيه، وإن جعله " معتبرا بحسب المستقبل في أي وقت بعينه فرض " صارت المادة المشتركة بينه وبين المطلق الذي له وقت لا بعينه، وإن لم يقل أحدهما على الآخر، ولم يدخل فيه، بل صاحبه في المادة؛ فكانت المادة مطلقة باعتبار وممكنة باعتبار. وإن أخذ الممكن بحيث لا ضرورة فيه لا ضرورة دائمة، ولا ضرورة بوقت، انفرد الممكن عن المطلق فلم يشركه بوجه. فقد عرفت الطريق في تفهيم الجهات. وكان مثالك إنما هو في الكلي الموجب. ولك أن تنقله إلى غيره .(1/214)
وأما الموجبة الجزئية المطلقة، كقولك: بعض ب( آ، فمعناه بعض ما يوصف بالفعل أنه ب( سواء كان ذلك البعض دائما ب(، أو وقتا ما ب(، أو خلطا، فإنه يوصف بأنه آ من غير بيان، أو بشرط لا دائما. وإما الضرورية فأن يكون بعض ما يوصف بأنه ب(، على أي الأحوال المذكورة شئت، يوصف دائما بأنه آ ما دام الذات الموصوفة بب( موجودة، والممكنة على ذلك النحو المذكور. ومن هذا القياس يعلم أن السالبة الكلية المطلقة والضرورية كيف تكون وكذلك الجزئية. وبالحقيقة فإن لغة العرب ولغات أخرى مما عرفناها لا يوجد فيها لفظ يدل على سلب كل إلا ويوجب أن يفهم منه أن لا شيء مما هو موصوف بأنه ب( موجود له ألف البتة مادام موصوفا بأنه ب(، وإذا قيل: لا شيء مما هو ب( آ ، ثم يوجد شيء مما هو ب( في وقت ما هو آ وإن كان السلب عنه وقتا ما آخر صادقا، كان المفهوم من اللفظ كأنه قد انتقض. وإذا قيل: كل إنسان يتنفس، فيرى إنسان لا يتنفس في ساعة من الساعات، لم تر أن الكلام قد انتقض، كما ترى أنه إذا قيل: لا واحد من الناس متنفس، فإنه إذا وجد في وقت يتنفس ظن أنه منتقض، اللهم إلا أن يُصرح، فيقال: لا واحد من الناس متنفس دائما. فحينئذ لا يجعل مصادفة بعض الناس متنفسا وقتنا ما مناقضاً لهذا. فإن شئنا أن نجد للسالب الكلي لفظا مطلقا يقع على الوجوه كلها لعموه، فبالحري أن نستعين بلفظ آخر مثل قولنا: كل ب( فإنه لا يوجد آ، فيكون كأنا قلنا: كل واحد واحد مما هو ب(، فإنه لا يوجد آ، ويشبه أن لا تكون هذه القضية موجبة، فإن حرف السلب فيها قبل الرابطة. ويشبه أن لا تكون لفظة " كل " وحدها تدل على إيجاب البتة؛ بل على عموم. فإن جاء الحمل موجبا، دل على إيجاب، إما محصل وأما معدول، كقولنا: كل إنسان يوجد لا عدلا. وإن جاء الحمل سالبا دل على سلب، كقولنا: كل إنسان ليس يوجد عدلا. وكذا حال البعض، فإني لا أجد كبير فرق بين قولنا: بعض الناس ليس بكاتب، وبين قولنا: ليس بعض الناس بكاتب، وإن لم تمنع اللغة أن يكون قولنا: كل إنسان ليس يوجد عدلا سلبا. فهذا هو السالب الذي يجب أن يستعمل في السب العام الذي تدخل فيه الوجوه المذكورة كلها. ويجب عليك أن تعرف الحال في المعنى المقصود في الموضوع والمحمول إذا كانت القضايا جزئية، فإنها لا تفارق الكلية، إلا أن الحكم فيها في بعض الموضوع .
الفصل الخامس
(ه) فصل
في التناقض بين المقدمات ذوات الجهات
ويحق علينا أن ندل على المناقضات التي تقع بين المحصورات المذكورة. فإن لقائل أن يقول مشككا: إن المذكور منها في الفن الثالث غير كاف. وذلك لأنا إذا قلنا: كل ب( آ، وأردنا أن نراعي الزمان في قولنا: ليس كل ب( آ، إذ هو أحد شروط النقيض، عسر ذلك علينا. مثلا إذا قلنا: كل إنسان يتنفس، أي في الوقت الذي يتفقن يتنفس فيه، وقلنا: ليس كل إنسان يتنفس أي في الوقت الذي يتفق أن يتنفس فيه، حتى يكون الوقت واحدا، كان ذلك بالحقيقة مناقضا للأول. إلا أنا لسنا نراعي هذا في المواضع التي تستعمل فيها المناقضات؛ إذ يس يتبين بهذا خلف البتة، ولا يقع شك في أنه حين ما يتنفس ليس لا يتنفس، وعلى ما سنشبع القول فيه، ولا البراهين على أحوال المقدمات السالبة المطلقة بوجه، نحو مثل هذا. فإن هذا مما لا يشك فيه. وإن حصل زمان واحد لنأخذه من حيث هو وقت في نفسه، لا من حيث هو وقت مؤقت بالتنفس يعذر ذلك، فلم يمكن تحصيله. والفرق بين أخذ الوقت من حيث هو وقت في نفسه، وأخذه من حيث هو وقت مؤقت بالمحمول، أنه إذا قيل: إن القمر ينكسف نصف ليلة كذا، وقيل: إن القمر ليس ينكسف نصف ليلة كذا، كانذلك مما يشك فيه، ويحتاج إلى بيان، وكان التناقض حاصلا مع ذلك. وأما إذا قيل: إن القمر ينكسف وقت كسوفه، وليس ينكسف وقت كسوفه، فإنه وإن كان هذان القولان كالأولين في أنهما متناقضان فليس يقع خلاف البتة في أن السالبة منها مسلمة لا يقع فيها الشك.(1/215)
ويجب أن نعلم أن زمان الحمل في الواحد يجوز أن يعين. وأما في القضية الكلية، وفي كل واحد، فكيف يمكن أن يعين، حتى يعتبر في السب، فيكون السلب بإزائه. فإن أهملنا مراعاة الزمان والوقت أمكن أن تصدق الكليتان المتضادتان، كقولهم: كل إنسان متحرك، وكل إنسان ليس بمتحرك. كما أن التعليم الأول قد استعمل قولنا: كل فرس مستيقظ، صادقا؛ مع قولنا: كل فرس نائم. أي ذلك في وقت والآخر في وقت آخر. وإنما كنا نقول: إن المتضادات لا تصدق معا إذا حُفظ فيها شرائط النقيض، وكانت الأزمنة فيها واحدة. وذلك أمر قد يكون في نفس الأمر. وأما نحن فيعسر علينا أن نورد ذلك. فإنا إن قلنا: كل ب( آ، وكانت الأزمنة متفرقة، لكل واحد زمان لآخر؛ ثم قلنا: ليس كل ( آ، لم يمكننا أن نشير بهذا إلى الزمان الذي لكل واحد خاصا. فإنه ليس كل ب( آ، في زمان واحد. نعم لو قلنا: ليس بعض ب( آ، أي ليس بعض ب( آ في الزمان الذي قيل فيه إنهآ، لكان ربما أمن أن يكون ذلك البعض واحدا، ويتعين زامنه. ولكن هذا إنما كان يكون حقا لو كان زمان ذلك البعض منقوطا به مصرحا. وأما إذا كان معنى ذلك في زمان ما، ولم يعين، فكيف يكون قولنا: ليس بعض ب( آ، يدل على أنه ليس في ذلك الزمان الذي لم يعين. وأما إن أريد أيضا أنه ليس آ، في زمان ما، أمكن أن يصدق القولان. فإن عني أنه ليس آ، في الزمان المعين الذي يكون فيه آ، كان صدق السالبة بيننا بنفسه في كل موضع، ولم ينفع في الخف، وليس كذلك. على أنا نستعمل عبارة " ليس بعض ب( آ " فقط؛ بل قد نستعمل عبارة " ليس كل " . وهذا التأويل لا يستمر حيث نقول: " ليس كل " . وسيأتيك من البيانات لهذا ما يزداد به استبصارا في موضعه. وأيضا ليس يمكننا أن نقول: إن نقيض قولنا: كل ب(آ، هو قولنا: ليس كل ب( آ، على معنى أنه ليس ما دام كا ب( موصوفا بب( هو آ حتى يكون لهذا الضرب من المطلق نقيض مطلق. وذلك لأنهما قد يصدقان معا؛ لأنه يمكن إذا كان قولنا: كل ب( آ، أي في وقت من أوقات كونه ب(، صادقا، أن يصدق معه ليس كل ب( آ، أي مادام موصوفا بب(. واللفظ لا يوجب منع الاعتبارين جميعا. ولذلك قد قالوا في أمثلة المطلقات: كل فرس مستيقظ، وكل حيوان متحرك بالإرادة، أي بالفعل حتى لا يصير ضروريا. وليس ذلك دائما ما دام موصوفا بالموضوع. فإن اقتصر على التثليث في القسمة كانت المناقضة سهلة. فكان إذا قيلا: كل ب( آ، وكان إطلاقه أن كل ب( آ دائما، ثم قيل: ليس كل ب( آ، أعني دائما، أو قيل: كل ب( آ، وكان إطلاقه أن كل ب( آ، مادام ب( موصوفا بب(، ثم قيل: ليس كل ب( آ أي مادام موصوفا بب( كان متناقضا، أو قيل: كل ب( آ، أي مادام موصوفا بآ ثم قيل: ليس كل ب(آ، أي مادام موصوفا بأنه آ، كان متناقضا.(1/216)
لكن نفس الإطلاق لا يوجب أحد هذين المعنيين بعينه، ولا الحدود المذكورة في التعليم الأول تساعد أن يكون الحكم كله على هذا الاعتبار. فيجب أن يطلب عاما لذلك كله. فعسى ذلك هو أن لا يكون موصوفا بأنه آ، مادام الشرط الذي في الموجب. ويعرض ههنا من الضلال أيضا ما ذكرناه فيما سلف. فإن حكم الشرط فيه حكمك الوقت. وإنه وإن كان نقيضا فليس يمكننا أن نستعمله على بصيرة. لكن اعتبار القسم الثالث من الهذر والهذيان، أني القسم الذي يقال فيه: كل ب( آ، مادام موصوفا بأنه آ، وكذلك نقيضه، وهو أنه ليس كل ب( آ في الوقت الذي هو آ، فإن هذا السالب لا يصدق البتة. ولا يكون لهذا الاعتبار في الإطلاق فائدة إلا أن يصرح بالضرورة، فتنقلب القضية عن حالها، وتصير كأنه يقول: كل ما يوصف بأنه ب(، فإنه بالضرورة ودائما مادام ذاته موجودة يوصف بأنه آ، مادام ألفا، ويكون الألف ليس هو المحمول بل جزءا من المحمول. ويكون المحمول هو أنه مادام ألفا فهو آ. وهذا المحمول لا يفارق موضوعه البتة؛ بل هو ضروري له. فكذلك في الجانب الآخر إذا اعتبرت هذا انقلبت القضية في الموجبة والسالبة ضرورية؛ بل يجب أن يلتفت في المطلقات إما إلى الوجود فقط، وإما إلى أن الوجود غير دائم. وأما أنه مع أي شرط يجب، فهو أمر يلحق المطلق بالضرورة، ويغر المحمول عن كونه محمولا إلى كونه جزء محمول. وإذا كان كذلك فيجب أن يكون المطلق أما أن يعتبر فيه نفس الوجود غير ملتفت إلى الدوام وغير الدوام، أو الوجود ملتفتا فيه إلى غير الدوام فقط حتى تدخله الأقسام. ولا يلحق بذلك شرط من الشرائط التي يجب معها الوجود، وهي الشرائط التي تعين الوجود في وقت الوجود وتوجبه. وقد علمت أن نفس قولك: إن هذا موجود وليس دائما، غير قولك: إنه موجود وجب وجوده لوجود كذا، وإن ترافقا في وقت؛ وإذا لم تدخل الشرائط الموجبة للوجود في الإيجاب، فيجب أن لا تدخل في السلب المناقض.
نعم إذا كان شيء يوافي الضرورة وليس نفس الضرورة كالقسم الثاني من الأقسام الثلاثة، كقولك: كل ب( آ، أي كل ب( فإنه يكون آ عندما يكون ب(. ثم نقول: ليس كل ب( آ، إذ قد يكون (، ولا يكون آ. ففي مثل هذا يتميز التناقض، ويكون الشرط معقولا واحد بعينه، وإن لم يصرح. فلو كان قولنا:كل ب(آ، المطلقة،إما أن تكون عامة تعم الضروري الدائم، والذي هو ضروري مادام الشيء موصوفا بأنه ب(، ولا شيئا آخر، أو كانت المطلقة ما تكون بشرط، مادام الشيء موصوفا بأنه ب( فقط، لا مادام موجود الذات. حتى يكون قولنا: كل ب( آ لا دائما، مادام ذاته موجودا؛ بل عند وقت ما هو ب(. ويلتفت إلى أنه ليس دائما مادام ذاته موجودا، ولا يلتفت إلى وجود الشرط بالفعل حتى يصير ضروريا. فإنه وإن كان لا شرط لتصييره ضروريا إى ذلك الشرط مثلا، فقد علمت أن بيت اعتبار كونه غير جائم، وكونه لازما بشرط فرق، وأن الالتفاتين والاعتبارين مختلفان، لكن إذا قيل بعد هذه الشروط: إنه ليس كل ب(1/217)
آ، أي قد يكون الشيء ب( وليس آ من غير التفات أيضا إلى شرط سيكون مناقه وإنما كان يكون هذا لو أنا إذا رفعنا الثالث الذي لا فائدة فيه لم يبق إلا هذان القسمان، فكان المطلق إما الأمر الذي يعمهما أو الثاني منهما. لكن ليس الأمر كذلك. فإن الأقسام كما علمت كثيرة، وصاحب التعليم الأول مثّل في المطلقات بمثل قوله: كل فرس نائم وكل فرس مستيقظ. فلا ينتفع بهما إذا صرفا إلى أحد الوجهين المشهورين. فيجب الآن أن نصطلح فنقول: إن كانت المطلقة يكون لها من المطلقة مناقض مستعمل، فالمطلقة ليست إلا أحد هذين القسمين المذكورين الآن. ولنجعل جميع الكلية الموجبة التي قد يوجد لموضوعاتها اتصاف بما وضعت معه في زمان ما، والمحمول مسلوب ما، كذبة، حتى يكون قولنا: كل فرس مستيقظ، كاذبا. لأنا نرى فرسا نائما، فيكون فرس ما ليس بمستيقظ. ولكن يبقى أن نعطي العلة في كون قولنا: فرس ما ليس بمستيقظ، صادقا. وليس هذا السلب عنه مادام فرسا؛ بل في وقت ما. وفي الإيجاب، من شرط الصدق أن يكون الاستيقاظ موجودا مادام فرسا، لا في وقت من أوقات كونه فرسا. فإن قال قائل: إن السبب في العموم، فليس ذلك بحل للشك في الشخص. وذلك لأن قولنا: كل فرس، يتناول عدد الأفراس ويعمها، ليس عدد الأفراس وعدد الأوقات معا؛ لأنه سور لموضوعات الفرس الكلي لا سور الأمرين جميعا، أي أشخاص الأفراس وأشخاص الأزمنة. فإن اشترطنا في السب أيضا ما نشترطه في الإيجاب، فلم نعن أنه ليس بمستيقظ عندما هو نائم؛ بل عنينا أنه غير موصوف بالاستيقاظ، لا تندري متى عسرت المناقصة. وكلن كان المفهوم أشد مناسبة للقول. فإن هذا أولى بأن نفهمه من لفظ القول، إذ كونه مستيقظا، أعم من كونه مستيقظا في وقت بعينه، أو لا في قوت بعينه، بل وقت كيف اتفق، أو دائما؛ إذ كل مستيقظ دائما فهو مستيقظ، وليس كل مستيقظ مستيقظا دائما، وكل مستيقظ وقتا ما غير دائم مستيقظ، وليس كل مستيقظ مستيقظا وقتا ما غير جائم، وليس أيضا معنى أنه مستيقظ أنه مستيقظ أنه مستيقظ عندما يتكلم ولا في آن بعينه؛ إذ كل إنسان ليس حيوانا الآن. فإن استعملنا المطلق على ها الوجه، استعملناه من حيث يوجبه نفس الأمر. وإن اسنتعملناه على الوجه الذي يوجد فيه للمطلق نقيض مطلق، استعملناه بحسب اصطلاح يصطلح عليه فيما بيننا. على أن لا نقول: " كذا " البتة، ونعني " كذا " الذي يجب أن يعني به؛ بل إذا قلنا: " كذا " ، قلنا: وحين يعني " كذا " المصطلح عليه. وأنت تعلم أن هذا حجر وتكلف. فإذن إن قلنا: كل ب( آ، فعسى إنما يكون نقيضه أن بالضرورة ليس كل ب( آ، أعني النقيض الذي يمكننا استعماله، وتدل عليه ألفاظنا التي ننطق بها، ولا يمكننا أن ننطق إلا بها. لكنه ليس يلزم إذا قلنا: كل ب( آ، وكذب أن يصدق لا محالة بالضرورة " كل ب( آ " ؛ فإنه قد يكذب ذلك لصدق قولنا: بعض ب( يمكن بالإمكان الخاصي أن لا يكون آ البتة في وقت من الأوقات. وهذا القول لا ينافي كذب قولنا: كل ب( آ. فإذن المناقض هو الأمر الجامع لهما، وهو أنه يمكن أن لا يكون كل آ وبعض ب( البتة ألفا بالإمكان العام. فإنك تعلم أنا إذا قلنا: كل ب( آ على الإطلاق الذي يعم الضرورة وغير الضرورة، وصدق، كذب هذا، لأنك إذا قلت: يمكن أن لا يكون بعض ب( آ البتة بالإمكان العام، وكذب، صدق، بل وجب أن يكون كل ب( آ، إما بالضرورة أو إطلاق غير ضروري. لكن قولنا: يمكن أن لا يكون بعض ب( آ البتة، بالمعنى العام، هو مثل قولنا: ليس بالضرورة بعض ب( آ وقتا ما، وليس هذا نقيض الضرورية حتى يمنع ذلك أن يكون نقيض غيرها، فإن زيادتنا في مقدمة البتة وفي أخرى وقتا ما غيرت الأحوال. وأما إذا أخذ المطلق بالمعنى الأخص، فإن السالبة والموجبة الضروريتين جميعا إذا صدقا، كذب ذلك. وذلك يكذب إن صدق الممكن بالمعنى الأخير الذي هو: أن يجوز وجود الشيء الموضوع وعدمه، ولا يعرض له المحمول بالجائز المعروض أصلا. مثاله أنك إذا قلت: كل ب( آ أي وقتا وحالا لا دائما، فإن كان هذا السلب يجب دائما أو بالإيجاب يجب دائما، أو يتفق في البعض أن يوجد ويعدم، ولا يعرض له آ البتة، كذب في جميع ذلك أن كل ب( آ، ولم يجب أن يصدق شيء من ذلك بعينه.(1/218)
وليس يمكنك أن تجد سلبا واحدا يعم جميع هذه، فإن السلب لا يدخل فيه الإيجاب. ولا تجد أيضا إيجابا يقابل ذلك، لأن الإيجاب لا يكون مناقضا للإيجاب. والسلبان يعمهما شيء واحد. فعسى أن تحتال فتزيد في السلب فتقول ليس كل ب( آ ، وقتا بعينه لا دائما؛ بل إما بعضه أو بعضه لا البتة. فنقول الآن: إن المطلقة بالمعنى العام الموجبة الكلية، كقولنا: كل ب( آ، يخرج عنهما شيئان: أحدهما بالضرورة بعض ب( ليس آ، والثاني اتفاقا بعض ب( ليس آ البتة. فإنه إذا كان الإيجاب دائما أو وقتا ما لا محالة فذلك داخل في المطلق العام، فيجب أن يكون البعض مسلوبا عنه دائما. وسلب آ عن البعض دائما ما وجد ذات ذلك الشخص لا يجب أني كون ضروريا؛ بل يجوز أن يكون الممكن مسلوبا عن البعض دائما في مدة وجوده؛ بل الدائم السب أو الإيجاب الضروري مادان دوامه بحسب طبيعة كلية الموضوع، لا بحسب شخص ما. فإن المسلوب عن شخص ما، دائما، قد يكون غير الضروري. فإذن هذا النقيض أيضا، وهو السلب دائما عن البعض مطلق؛ إذ قد يشتمل على الضروري وغير الضروري. فأما إن كان المطلق مأخوذا بحسب المعنى الخاص، فنقيضه سلب ذلك الإطلاق، وهو سلاب الإطلاق الخاص لا السلب المطلق. فإن سلب الإطلاق قد يجوز أن يكون غير السلب المطلق، كما أن لب الضرورة غير ضرورة السلب، وسلب الإمكان غير إمكان السلب. فيجوز أن يبكون المطلق الموجب إنما هو كاذب، لا لإيجابه، بل لإطلاقه، إذ هو ضروري الإيجاب. فهذا يجوز أن يكون كاذبا، لأن الحق ضرورة السلب. ويجوز أن يكون كاذبا، لأن الحق إمكان سلب دائم في البعض.
وجميع هذا يشترك في سلب إطلاق الإيجاب، وإن لم يشترك في سلب المطلق الإيجاب، فيكون حينئذ نقضيه ليس كل ب( بالإطلاق آ ، بل هو بالضرورة موجب فب البعض أو دائم السلب عن البعض. وهذا ليس سلبا مطلقا؛ بل سلب الإطلاق. وإن كانت الكلية سالبة مطلقة عامة فمقابلها أيضا جزئية موجبة دائمة الإيجاب في البعض على الوجه الذي يعم النحوين المذكورين. وأما إن كانت مطلقة خاصة فيقابلها أحد الأمور الثلاثة: إما ضرورة السلب في البعض، أو ضورة الإيجاب، أو إيجاب دائم في البعض غير ضروري. وهذه الثلاثة لسنا نجد لها إيجابا واحدا تشتنرك فيه، كما كان يوجد هناك سلب واحد مشترك فيه. وأما الجزئية الموجبة كقولنا: بعض ب( آ على الإطلاق العام فيشكل الأمر فيها. هل يقابلها الضروري والإمكان معا. فإن يشبه أن لا يصح سلب الممكن عن كل شخص منها سلبا دائما. فإن كان لا يصح، فيكون بعض الأشخاص يوجد فيها الممكن وبعضها لا يوجد فيها، فيدخل في المطلق ولا يناقضه، ويبقى الضروري هو الذي يقابله. وإن صح السلب، فيكون الدائم حينئذ يقابله، ويكون الدائم غير الضروري، ويكون الضروري ما لطبيعته يستحق أن يدوم سلبه عن كل شخص هو مسلوب عنه، والدائم ما يكون لطبيعته أو اتفاقا. وليس على المنطق أن يعرف هذا بالحقيقة من حيث هو منطقي. فلنأخذ أن مقابلة السلب الدائم، حتى إن كان لا دائم إلا ضروريا، فذاك، وإن كان دائم غيره فقد أتى بالنقيض والممكن. فإنه يشبه أن لا يشكل أنه لا يتفق وجوده لكل شخص دائما، كما كان يشكل عدمه. فإن العدم كأنه أليق بالمكان، فيكون النقيض ههنا الدائم. فنقيض قولنا: بعض ب( آ، ليس شيء من ب( آ، البتة. ونقيض قولنا: ليس كل ب( آ، أن كل ب( آ دائما، على أن يفهم من الدائم ما فهمت. فإن كانتا مطلقتين بالمعنى الخاص لم يجب أن يكون مقابلهما شيء بعينه؛ بل كان الضروري الموافق في الكيف والدائم المخالف في الكيف، بعد أن يخالف في الكم، داخلين في نقيضه. وأما قولنا: كل ب( آ بالضرورة، فنقضيه ليس بالضرورة كل ب( آ. وإن وجد أو جوز أن يكون كل ب( آ دائما ويلزمه، يمكن بالمعنى الأعم أن لا يكون كل ب( آ. وقولنا: بالضرورة لا شيء من ب( آ، فإن نقضيه الحقيقي ليس بالضرورة ى شيء من ب( آ، إما بالإمكان أو بضرورة الإيجاب، فإن ذلك بالحقيقة إيجاب. ويدخل في قولنا: يمكن أن يكون بعض ب( آ، الإمكان الأعم، وقولنا: بالضرورة بعض ب( آ، نقيضه: ليس بالضرورة ولا شيء من ب( آ، ويلزمه يمكن أن لا يكون شيء من ب( آ، الإمكان العام. وقولنا: بالضرورة ليس بعض ب( آ، فإن نقيضه بالحقيقة أنه ليس بالضرورة ليس كل ب( آ، ويلزمه يمكن أن يكون كل ب( آ، الإمكان العام.(1/219)
وأما في باب الإمكان، فإنا إذا قلنا: يمكن أن يكون كل ب( آ، فنقضيه ليس يمكن أن يكون كل ب( آ، بل يجب أو يمتنع أن يكون مطلقا على حسب أحوال الممكن، ولا يلزمه بالضرورة ليس كل ب( آ على ما ظن. فإن ذلك في سلب الممكن الأعم. وقولنا: يمكن أن لا يكون شيء من ب( آ، نقيضه: ليس يمكن أن لا يكون كل ب( آ، بل يجب أو يمتنع أو بالإطلاق على حسب أحوال الممكن. ولا يلزم بعينه إيجابا في البعض، ولا يوجد لأصناف ما يصدق مع كذب الممكنة الكلية شيء واحد يعمها، وعلى هذا فقس في الجزئيتين.
الفصل السادس
(ه) فصل
في حد القياس المطلق العام
قد عرفت إذن المقدمة والمقول على الكل إيجابا وسلبا، والجهات والتناقض فيها. وكما أن القياس من حيث هو قياس يشترك فيه البرهاني والجدلي وغير ذلك، فكذلك المقدمة من حيث هي مقدمة؛ بل إنما تكون المقدمة برهانية وجدلية وغير ذلك بفروق أخرى بعد كونها مقدمة. فالبرهانية تكون أحد جزئي التناقض ليس أيهما اتفق؛ بل الحق منهما، مثل الأولية أوالمحسوسة، والمستندة إلى الأولية والمحسوسة أو شيء أخر إن كان يجرى مجرى ذلك. وهذه لا تكون إلا واحدة. وأما الجدلية فإنها تكون للمجيب ما هو مشهور ومحمود وربما كان المتقابلان معا مشهورين، فكان كل واحد منهما بالقوة للمجيب مقدمة جدلية. فكأن القّياس إذا أراد أن ينصر وضعا وانتفع بأحد المتقابلين استعمله، ثم إذا أراد أن ينصر مقابله وانتفع بالمقابل الثاني أخذه واستعمله. وأما بحسب وضع واحد فيتعين له مشهور واحد.
وأما السائل فإنما ينتفع بما يتسلمه من المجيب، ولا يتعين ما يستلمه من المجيب. وربما بدأ فاستعمل مشهورا، وإن لم يتسلم من المجيب. وكان حينئذ حكم المشهورين المتقابلين للسائل على ما هو للمجيب، في أنه يُنتفع بالطرفين جميعا. وأما الذي يكتسبه بالتسلم ففي أكثر الأمر إنما ينتفع بأحد النقيضين بعينه إذا نحا نحو إنتاج مقابل ما ينصره المجيب على الاستقامة. وقد ينتفع بالثاني في إنتاج خلف عليه. وربما أمكن أن ينتج من كليهما مقابل ما ينصره المجيب، وذلك لأنه لو كان مثلا ينتج: أن كل إنسان حيوان، من تسلميه: أن كل إنسان حساس، وكل حساس حيوان، ثم يلم له: أن كل إنسان عديم الحس، وسلم أيضا: وكل عديم الحس حيوان، أمكنه أن ينتج ذلك بعينه.(1/220)
فالمقدمة البرهانية تخالف الجدلية بأنها واحدة بعينها من طرفي النقيض دون الآخرى، وأن نقيضها لا يكون مقدمة لقياس برهاني البتة ينتج ما انتجه الأول بعينه و لا لنتيجة أخرى، كما كان المحمودان المتقابلان يكونان مقدمتين للقياس الجدلي؛ إذا كان أي طرفي النقيض تسلمه، مقدمة للقياس الجدلي. لأن البرهانية لا تثير برهانية البتة بسبب التسليم أو المنع فإنها لا يُلتفت فيها إلى التسليم البتة. وهذه الفصول كلها واردة بعد كون المقدمة مقدمة. فإن كونها مقدمة غير كونها مقدمة برهانية أو جدلية. وإنما هي جزء القياس المطلق من حيث هي مقدمة، لا من حيث هي مقدمة برهانية أو جدلية. فالنظر في صورة القياس والمقدمة مما يجب أن يقدم على النظر في مادتهما. وإذا النظر في الشيء يتبع النظر فيما يشبهه، وليس به أو يُرجع إليه في قوته. وليس أن نعلم الشيء نفسه يكون في صناعة، وأن نعلم ما يشبهه يكون في صناعة أخرى. فالأمور التي تحكي القياس، لأجل الصورة لا لأجل المادة، ويُرجُع إليها من جهة الصورة، وأنحاء الغلط الذي يقع في القياس من جهة الصورة. والعوارض التي تلزم القياس من جهة الصورة حقها أن تذكر في هذا الفن. فحري أن نتكلم في هذا الفن في الاستقراء، والمثال، والضمير، من جهة الصورة؛ ونتكلم أيضا في تركيب القياس، وتحليله، وفي الأمور التي تشبه القياسات، وفي البيان الدوري، وعكس القياس، وانعكاس القياس بسبب النتيجة، وارتداد الخلف إلى المستقيم والمستقيم إلى الخلف. فتبين من حال النظر في كل باب منها أنه نظر في أمر يتعلق بصورة القياس. فإذا استعملنا الكلام في ذلك، انتقلنا إلى بيان أحوال مادة مادة. وأما الحدود فإنها الأجزاء الذاتية للمقدمات إذا حل عنها الجزء الرابط، فيبقى في الحمليات الشيء الذي هو الموضوع، والشيء الذي هو المحمول. وأما السور والجهة فدواخل. وأما الرابطة فذاتية للمقدمة حتى تكون مقدمة، ولكنها تبطل عند الانحلال، ولا يكون ما تنحل إليه المقدمة ما يبطل عند الأنحلال، فلا يكون حدا للمنحل، فإن الحد هو ما تنحل إليه المقدمة. وفي الشرطيات إذا أسقطت حروف الشرطيات والجزاء وحروف العناد التي بها الارتباط بقى المقدم والتالي. وسميت هذه حدودا لأنها أطراف للنسبة تشبيها بالحدود التي في نسب الرياضيين .
وأما القياس فهو قول ما إذا ما وضعت فيه أشياء أكثر من واحد لزم من تلك الأشياء الموضوعة بذاتنها لا بالعرض شيء آخر غيرها من الاضطرار. فالقول ههنا كالجنس للقياس. فينبغي أن ينظر أنه جنس للقياس المعقول المتصور في النفس، أو جنس للقياس المقول. فنقول: إن القياس يقال بالتشابه على الشيئين، فيقال قياس للأفكار المؤلفة تأليفا ما في النفس فتؤدي إلى تصديق في النفس بشيء آخر، ويقال قياس للقول المؤلف من قضايا يلزم عنها غيرها، وليس من حسي هو قول مسموع فقط، فإن الأقوال المسموعة لا يلزم عنها قول آخر البتة. فإن اللفظ لا يجب أن يتبعه لفظ آخر أو لا يتبعه، ولكن من حيث هو قول مسموع دال على معنى معقول، وليس من حيث هو قول مسموع دال على معنى معقول، على أن يكون قولا مسموعا هذا السماع؛ بل لأنه قول مسموع فقط على الإطلاق غير مخصص بلغة دون لغة. فإنه لا يصح أن يكون اللازم أو الملزوم ما تدل به لغة دون لغة؛ بل على الإطلاق أي لغة كانت. ومعنى اللازم أن يكون ذلك اللفظ يجب الإقرار بمعناه. وكما أن القياس يقال على هذين، فالقول الذي هو كالجنس للقياس يقال على هذين. فالقياس المسموع على الوجه الذي قلناه، جنسه القول المسموع، ولقياس المعقول جنسه القول بمعنى المعقول. لكن القياس المعقول قد يكفينا وحده في تحصيل الغرض الذي في القياس، إذا كان المطلوب برهانيا. وأما في الجدل والخطابة والسوفسطائية والشعر؛ فإن القياس المسموع لا يستغني عنه في إفادة الغرض الذي في كل واحد منها، وكذا في الامتحانات التي تستعمل، وسنذكرها في مواضعها. فهذا معنى القول المأخوذ في جنس القياس.(1/221)
وأما قوله: إذا وضعت فيه أشياء، يعني: إذا سلمت الأشياء التي فيه، وليس يعني: أن تكون بنفسها مسلمة؛ بل وإن كانت عندك منكرة أو في نفس الأمور، لكنها إذا سلمتها لزم عنها غيرها. وهذا يعم البرهاني والجدلي والخطابي والسوفسطائي والشعري وقياس الخلف. فإن القياس الجدلي إنما لا يوجب الحق حيث لا يوجب، لأن مقدماته تكون في نفسها غير حق، لكنها مع ذلك إذا سلمت يلزم عنها ما يلزم. والسوفسطائي الذي فيه اشتراك الاسم فإنه يوهم مع ذلك تصورا لذلك الاسم على أنه معنى، فإذا سلم ما فيه على الوجه الذي يأخذه السوفسطائي لزمت منه النتيجة. مثال ذلك: إذا قال السوفسطائي: الماء له عين، وكل ما له عين يبصر، فالماء يبصر فإن هذه المقدمات إذا سلمتها على نحو ما أخذ، لزم المطلوب بها؛ إذ لا يخلو حينئذ من وجهين: إما أن يعني بقوله: إن الماء له عين، عين الينبوع، أو عين الحدقة؛ أو يعني بقوله: إن له غينا، أن له شيئا يسمى عينا. فإذا سلمت المقدمات على أي الوجوه كان، حتى كان كأنك تقول: إن الماء له عين ينبوع، وكل ما له عين ينبوع فإنه يبصر، أو الماء له عين حدقة، وكل ما اله عين حدقه فهو يبصر، أو الماء له " ما يسمى عينا " ، وكل ما له " ما يسمى عينا " فهو يبصر. فإنك إذا شلمت هذه، وإن كانت كاذبة، لزمت النتيجة. فأما أن تحالف في التلسيم، لم يكن ما نقوله قياسا؛ أعني إذا لم يكن الأوسط عينا بمعنى واحد، لم يكن ما قاله قياسا البتة، وإن سلمتها، لأنها لا يلزم من تسليمها - والأوسط مختلف - شيء. وأمثال هذه القرائن الغير المنتجة، فإنها ليست بقياسات سوفسطائية، بل هي قياسات سوفسطائية. ومعنى هذا أنها ليست في أنفسها قياسات، ثم تنسب إلى السوفسطائي، أي ليس إذا سلم ما فيها - وإن كان على سبيل اللفظ - يلزم عنها المطلوب. كما أن أشياء في أنفسها قياسات ثم تنسب إلى الجدليين، فيكون كونها سوفسطائية وجدلية مخصصات لها بعد كونها قياسات. ومن شرطها أنك إذا سلمت ما قيل فيها، لزم عنها غيرها. فأما لم يكن هكذا فليس قياسا البتة، حتى تخصص بأنها قياسات سوفسطائية، لكنها قياسات سوفسطائية عاة نحو ما نقول: إن هذا إنسان مائت، ونقول: هذه فضة زيف، ويعنى بها أنها أشياء شبهت بالقياسات، فيقال لها قياسات مشبهية مجازا واستعارة، كما يقال: حيوان مصّوُر وإنسان مصنوع.
والنظر في معرفة كل شيء على وجهين: أحدهما في أن نعرفه، والثاني أن نعرف ما يشبهه، وليس هو. فالنظر في كلا وجهي القياس السوفسطائي نظر منطقي. وأما القياس الشعري فإنه وإن كان لا يحاول إيقاع التصديق، بل التخيل، فإنه يرى أنه يوقع التصديق، ولا يُعترف به من حيث هو شِعر أنه كذب، وهو يستعمل مقدماته على أنها مسلمة. مثلا إذا قال: فلان قمر لأنه حسن، فإنه يقيس هكذا: فلان وسيم، وكل وسيم قمر، ففلان قمر. فهذا القول أيضا إذا سلم ما فيه، لزم عنه قول. لكن الشاعر ليس يريد في باطنه أن يعتقد هذا اللازم، وإن كان يظهر أنه يريده من حيث هو شاعر؛ بل قصده أن يُخيل بها اللازم استحسانا من النفس للمدوح، كما إذا قال: إن الورد سرم بغل قائم في وسطه روث، فكأنه يحاول أن يقول: فكل ما هو سُرم بغل بهذه الصفة فهو نَجِسٌ قَذِرٌ. فإن قوله، وإن كان قياسا، أي إذا سلمت مقدماته لزم عنها المطلوب؛ فإنه ليس يروم بيان صحة اعتقاد هذا الرأي بقوله، بل يريد أن تتقزز النفس عن المقول فيه تخيلا. فقد بان أن قولنا: إذا وضعت فيه أشياء، يشتمل على جميع هذه. وكما أن الحملي يسلم، فكذلك الشرطي يسلم؛ وكما أنه يكون قول مركب من حمليات فيلزم عنه قول آخر. فكذلك قد يكون قول مركب من شرطيات ساذجة أو مخلوطة يلزم عنه قول آخر. فهذه أمور ستعلمها في مواضعها. فلم يحسن من ظن أن قولنا: إذا وضعت فيه أشياء، إنما هي الأشياء المحمولة دون الشرطية. وإنما قال: أشياء، ولم يقل: شيء واحد، فرقا بين القياس وبين ما يلزم عن مقدمة واحدة كالعكس المستقيم والمنسوب إلى التقيض وما أشبه ذلك. فإنك ستعلم أن القياس لا يصح أن يكون من حد واحد؛ ولا من مقدمة واحدة، بل إنما يكون من أقوال أكثر من واحدة، إما اثنتان إذا كان القياس بسيطا، أو أكثر من ذلك إذا كان القياس مركبا. ولما كان معنى قوله: إذا وضعت فيه أشياء، هو: إذا سلمت فيه أشياء، كانت الأشياء هي القضايا لا محالة،؛ لأن التسليم لا يقع إلا للقضايا.(1/222)
ولا يجوز أن يقال: إن القياس قول إذا وضعت فيه مقدمات. ومن قال هذا فقد أخطأ في التحديد. وذلك لأنه يكون قد أخذ القياس في حد نفسه، لأن المقدمة إنما تحد بأنها قضية هي جزء قياس، فكأنه يقول: إن القياس قول إذا و ضع فيه قضايا هي أجزاء قياس. ويعرض ما عرض لبعض مغفليهم في أمر الجنس والنوع. ولكن يجب أن يؤخذ في حده قضايا أو أشياء من غير أن توجد مقدمة. ومعنى قوله: إذا وضعت فيه أشياء، هو أنك إذا سلمت ما فيه من الأشياء التي هي القضايا. وليس معنى هذا أن يكون القياس شيئا، وما يوضع فيه شيئا خارجا عنه؛ بل ما يوضع فيه، هو ما يلتئم منه القياس، فهو منه على أنه جزء مله منه يلتئم. وليس معنى قوله: إذا وضعت فيه أشياء، هو أنك إذا سلمت أشياء مما فيه، بل معنى ذلك: إذا سلمت الأشياء التي فيه كلها، التي منها تأليفه. وقولنا: لزم من تلك الأشياء الموضوعة، معناه: من تلك الأشياء الموضوعة على ما فيه من حيث موضوعة فيه. وذلك لأن اللازم ليس عن تلك المقدمات التي هي مادة التأليف كيف كانت؛ بل منها ومن التأليف فيها وهو نحو كونها في ذلك القول. فيكون كأنه قال: لزم من تلك الأشياء الموضوعة فيه من حيث هي موضوعة فيه وضعها. وقوله: بذاتها، أي أن تلك الموضوعات لا يحتاج في أن يلزم عنها ما يلزم إلى أن يقترن بها شيء يتم بذلك لزوم ما يلزم عنها سواء كان معقولا أو مصرحا به. فإنك إذا قلت: ج( مساو لب(، و ب(مساو لد(، فج( مساو لد(. إنما يكون تم لك هذا بأن استشعرت أن ج( مساو لمساوي د(، ومساويات المتساويات مُساوية. فليس هذا القول قياسا على وجهه. ومثل قول القائل: فلان يطوف في الليل فهو متلصص. فإن هذا القول ليس قياسا بالفعل، ولا يلزم عنه كونه متلصصا بذاته، بل بتسلم شيء آخر معه، وهو أن يسلم أن كل طائف بالليل متلصص. وكقول القائل: حفظ السُّنة، ضد إهمال أمر السنة، لكن حفظ السنة ليس شرا، فإهمالها شر، فإذن حفظ السنة خير. فإن هذا لا يلزم عن هذا القول، ومما وضع فيه بذاته، بل عن مقدمة، محذوفة إن كل ما هو غير شر ويضاد الشر فهو خير.
وكمن يقول: إنك تقول: إن النهار موجود، لكن النهار موجود، فأنت إذن صادق. فقد حذف ههنا، وكل من يقول قولا يكون عليه الوجود فهو صادق. وأشباه هذه كثيرة. واعلم أنو معنى اللزوم هو أنك إذا سلمت تلك، يجب أن تسلم هذا القول الآخر، ليس أنه يجب أن يكون صادقا، ولا أن اللزوم يكون بيننا بنفسه عنها. فإن قولنا: كذا يلزم عن كذا، أعم من قولنا: كذا بيّتن اللزوم عن كذا. فكذلك هذا الحد يتناول القياسات البينة اللزوم، وما ليس إلزامها، بِبَيّن. وإذا قال: يلزم، فقد فارق الاستقراء والمثال والعلامة، وما أشبه ذلك. فإن تلك إذا سلمت مقدماتها، لا يلزم عنها شيء باضطرار. وقولنا: لا بالعرض، نعني به أن لا يكون إنما لزم اللازم بسبب مقدمة أخرى لم تورد، ليس حالها حال المحذوف أصلا. فلا يدب الذي يحتاج أن تتمم به المقدامات الموضوعة بأن يضاف إليها. فذلك قد أورد ما يفضل نعه؛ بل هي مقدمة تركت هي وأخذ بلدها ما هو في قوتها فيلزم اللازم بسبب تلك التي حذفت بالذات وبسبب هذه بالعرض، لا عن ذاتها؛ كمن يقول: الدليل على أن جزء الجوهر جوهر، هو أن جزء الجوهر جوهر. وهذا لازم عن هذا القول لا محالة، فإنه لا يكن ما قيل مسلما إلا وهذا لازم. لكن ليس يلزم عنه لذاته؛ بل إنما يلزم عن مقدمة أخرى يجب أ، تقرن بالأولى، وتلك الأخرى هي أن ما يوجب رفعه رفع الجوهر فهو جوهر لكن قوة المذكور أن ما ليس بجوهر لا يوجب رفعه رفع الجوهر هي في قوة هذه المقدمة.(1/223)
وأما ما كان من الأقوال فيه فصل، لا يحتاج إليه في أن يلزم، وما يلزم الجملة لا يحتاج أن ينفصل عنها. وذلك لأنها من حيث هي تلك الجملة لا يلزم عنها الشيء الذي يلزم، لا وحدها، ولا مع غيرها، ولا يتعين؛ بل يلزم عن بعض أجزائها، فلا يحتاج أن نفرق بينها وبين القياس، فإنها لم تشركه في شيء. وقولنا: شيء ما، قالوا: إن المراد به شيء واحد. وربما لم يذكر شيء ما. ولكن ليس يكون القياس قياسا بأن يكون اللازم عنه واحدا أو كثيرا، فلو كان ههنا قول، ويلزم عنه أقوال متلازمة أو متكافئة، ما كنا نبخل أن نعطيها اسم القياس. كان المراد في هذه الزيادة شيء، إن لم يفهم من هذه الزيادة، كان هذا الحد مطابقا لأشياء لا تسمى قياسا. مثال ذلك: إنه إذا قيل: ليس شيء من ج( ب(، وبعض ب( آ، فإنه قد يلزم منه أن بعض آ ليس ج(. وستعلم بعد، أن الأمر على هذه الصورة. وقد منعوا أن يكون هذا قياسا، وإن كان يلزم عن وضع ما وضع فيها لذاتها قول آخر. ومعنى قولنا يلزم ما علمت، لا أنه يلم بين اللزوم. فإذن ليس هذا قياسا.
وهذا الحد إن ترك على ظاهره يتناوله، فقد وجب من هذا أن يبحث عن فصل في هذا الحد يصير به غير مشارك له، ولا يوجد إلا في هذا الموضع. فقوله: شيء ما، أي شيء محدود، ويكون ذلك محدودا موضوعا محصلا عند الذهن، أو أشياء كذلك إن كانت. ويكون هذا القول، إذا وضع فيه أشياء، يوجب ذلك الشيء المحدود. فإذا كان كذلك، فقد يتعين نسبة ما للقياس إلى اللازم. وإنما قالوا: إن قولنا: ليس شيء من ج( ب(، وبعض ب( آ ليس قياسا، لما وجدوه ليس يلزم عنه الشيء المحدود. وإما كيف كان هذا الشيء المحدود، فإنا حين نريد هذا التأليف نزيفه على أنا جعلنا السالبة صغرى والجزئية كبرى.
فإذا جعلنا إحدى المقدمتين صغرى والجزئية كبرى فقد عينا آ محمولا و ج( موضوعا. فلما لم يلزم عنه شيء ما حددناه وعيناه على نسبة ما لزومه من غيره، لم يكن قولا إذا سلمت فيه أشياء لزم عنها شيء ما محدود الذي له نسبه إليه بصفة محدودة كون غيره كذلك، فلم يكن قياسا كون غيره قياسا.
فإن قال قائل: فيجب أن يكون كثير مما هي قياسات تصير غير قياسات إذا لم تنتج ما يريده. فنقول: أولا، إنها تكون قياسات بالقياس إلى ما تنتجه، وغير قياسات بالقياس إلى ما لا تنتجه. وأما ثانيا، فإنا لسنا نقول: إنه إذا لم ينتج أي شيء اتفق مما لا يريده لم يكن في نفسه قياسا، بل إذا كان لا ينتج شيئا ما له معه نسبة معينة على ما سنصف بعد. وليس إذا كان لا ينتج شيئا فرض، فليس ينتج شيئا له معه تلك النسبة، ولم يكن قياسا لأنه ينتج شيئا، بل لأنه ينتج شيئا معينا. فإذا كان كونه لا ينتج أمرا فرض مما لا يرفع عنه أنه يلزم عنه شيء ما الذي نعنيه، فلا يرفع عنه أنه قياس.
ثم لا مانع يمنع من أن يقال: إن من القياسات ما هو قياس على مطلوب غير محدود، ومنه ما هو قياس على مطلوب محدود، بعد أن نعلم أنا حيث نقول في هذا الكتاب: إن كذا قياس، فإنما نعني هذا الأخير. فلا يكون اسم القياس لهذا الأخير من الجهة التي يشارك فيها الأول؛ بل من جهة جملة مشاركته وخصوصيته. على أن القياس إنما هو قياس لأجل شيء، والحجة حجته على شيء. وليس من أن المتعلم أن يبحث عن التأليفات حتى كيف يتفق أن تنتج؛ بل من شأنه أن يحصل مطلوبا فينظر هل يصح أولا يصح ويجعل القياس مسوقا إليه، فيكون كل قياس إنما يطلب لشيء ما محدود. وقولنا: آخر غيرها، يعنى بهذا أن لا تكون النتيجة قد كانت في نفسها إحدى ما سلم. فإن ذلك إن كان مسلما فما كان يحتاج أن يقاس ليلزم تسليمه؛ بل كل قول هو بهذه الصفة فليس بقياس. ويشترك الحملي والشرطي في هذا. وقوله: بالاضطرار، أي دائما، ليس في مادة دون مادة. فإنا إن قلنا: ليس أحد من الناس بفرس، وكل فرس صهال، فأوردنا محمولا مساويا للأوسط، لزم في هذه المادة وكل مادة يشاركها في صورة المساواة والانعكاس أنه ليس أحد من الناس بصاهل. ولكن ليس يلزم مثل هذا عن كل تأليف من صغرى سالبة وكبرى كلية موجبة دائما، فليس هذا التأليف قياسا.(1/224)
وليس يعجبني قول من يقول: إن قوله اضطرارا، ليفرق بين القياس وبين الاستقراء والمثال. وذلك أن تلك لا يلزم عنها شيء، لا دائما ولا غير دائم. فإن مقدمات الاستقراء إذا سلمت لا يلزم عنها شيء البتة، ولا المثال إذا سلم. لكن المثال الذي أوردناه، إذا سلمت المقدمات التي فيه، لزم عنه الشيء بشرط في المادة، وليس اضطرارا عن هيئة الصورة التي للتأليف. فتكون القرائن الغير منتجة يلزم عنها أشياء في مواد لها حال وشرط، ولا يلزم في غيرها من المواد؛ فيكون قد يلزم عنها شيء ولكن لا دائما. والاستقراء والتمثيل لا يلزمن منهما في مادة من المواد شيء البتة، حتى يكون يلزمن عنها شيء، ولكن اضطرارا، أي ليس دائما كما ظنوا .
الفصل السابع
(ز) فصل
في شكوك تعرض في حد القياس
المذكور وحلها
لكن قد يلحق هذا الذي قيل شكوك: منها إن اللوازم قد لا تكون اضطرارية، بل تكون ممكنة، ويكون القياس قياسا. ومنها أن القياسات الجدلية قياسات، وليس ما يلزم عنها يلزم بالضرورة، بل في غالب الظن. والخطابيات ليس ما يلزم عنها اضطرارا. وأيضا فإن القياسات الشرطية قد تكون النتيجة فيها شيئا مما في المقدمات. فإنك إذا قلت: إن كانت الشمي طالعة فالنهار إذن موجود، فيكون اللازم مما وضع في المقدمات، وقد جعلت القياس الشرطي داخلا في هذا الحد. وكذلك إذا قلت: إما أن تكون الحركة موجودة أو لا تكون موجودة، لكن الحركة موجودة، فينج نقيض التالي وهو عين المقول في الاستثناء؛ وذلك لأنك إذا قلت: إن الحركة موجودة، أنتج " فالحركة موجودة. وأشنع من هذا مثال آخر: إنه إن كانت الحركة موجودة، فالحركة موجودة، لكن الحركة موجودة، فالحركة موجودة. وقالوا أيضا: إن ههنا مقاييس توجب النتيجة عن قول واحد كقول القائل: فلان يتحرك، فهو إذن حي، ولما كان عبد الله يكتب، فهو إذن يحرك يده.
فأما الشك الأول فينحل بأن يتذكر ما قلناه: إنه ليس معنى قلنا: يلزم اضطراريا، أن اللازم في نفسه يكون وقلا اضطراريا؛ بل إن لزومه عن القياس يكون اضطرارا، وإن كان في نفسه كذبا، أو حقا ضروريا، أو ممكنا غير ضروري. فإن الباطل والممكن قد يلزم اضطرارا عن شيء إذا سلم، ويكون في نفسه غير اضطراري.
وأما الشك الثاني فقد قيل: إنه عني باللازم ما كان لازما بالحقيقة، أو على سبيل الإقناع. وليس كذلك، فإن اللازم عني به المفهوم من اللازم حقيقة لا مجازا. ومع ذلك فإن الشك منحل، لأن ما كان من القياسات الجدلية وغيرها قياسات فإن ما فيها إذا سلم لزم عنه النتيجة اضطرارا، إنما يكون مشكوكا فيها، لأن تلك المقدمات يكون مشكوكا في أمرها. فأما كون القياس قولا إذا سلم ما فيه لزم اللازم اضطرارا، فهو أمر مشترك للجميع.
وأما الشك الثالث فينحل بأن يعرف قوله: " لزم عنها غيرها " معناه غير المسلمات. والمسلمات هي التي يكون فيها صدق أو كب. ولم يكن قولنا: " فالنهار موجود " مسلما في نفسه، أو متعرضا لأن يكون في نفسه حقا أو باطلا؛ بل كان المسلم شيئا هو جزء منه. فإن قولنا: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، هو بجملته مسلم واحد، ولا تسليم فيه لأحد جزئين الآن، فربما كان كل واحد منهما غير مسلم لو انفرد. حتى إذا قلت: إن كان الإنسان حجرا فهو جماد، ولا واحد من هذين بمسلم، والمقدمة مسلمة، لأن التسليم ههنا يتناول حال النسبة بين القولين، كما أن الصدق يتناوله؛ فإن لفظ الشرط والجزاء قد حرف القضيتين عن أن يكونا قضيتين، ويكون فيهما صدق أو كذب، ووضع أو تسليم. ولذلك إذا قلت: إن كانت الشمس طالعة، لم يكن لا صدق ولا كذب. وكذلك إذا قلت: فيكون النهار موجودا، مع الفاء وحرف الجزاء، لم يزكن صدقا ولا كذبا، فلم يكن شيء منهما مسلما أو غير مسلم. وإن كان إذا أفردت كل واحد منهما كان صدقا أو كذبا، وأعرض لتسليم أو غير تسليم. وكذلك إذا قلت: هذا إما كذا وإما كذا، صار الصدق المسلم هو جملة غير الأجزاء. فإذن النتيجة غير الأمور المسلمة.(1/225)
وأما الشك الآخر، وهو أن نقول: إن كانت الحركة موجودة، فالحركة موجودة، لكن الحركة موجودة، فالحركة موجودة،؛ فإن هذا الشك ينحل من وجوه: أحدها: أن هذا القول ليس بقياس البتة، فإن القياس هو ما يفيد زيادة تسليم، وهذا ليس يفيد شيئا. وليس كل ما يلزم عنه شيء هو قياس كيف كان؛ بل ما يلزم عنه شيء مستفاد تسليمه، ولم يكن مسلما من جملة ما يسلم موضوعا في جملة ما وُضِع. فإذا لم يكن هذا قياسا، لم يجب أن نقول: إن شيئا هو قياس، وقد لزم منه لازم ليس غير الموضوع. والثاني: أن المسلم أيضا ليس هو النتيجة، فإن المسلم هو: " لكن الحركة موجودة " مقرونا بلفظة لكن. وكذلك قولك: " فالحركة موجودة " مقرونة بالفاء الواصلة، وفيما وُضِع نتيجة وهي: أن الحركة موجودة. وهذا جزء من المسلم لا المسلم. والدليل على ذلك إن قائلا إن قال: إن الحركة موجودة، ولم يكن على سبيل العطف الذي يدل على الاستثناء، حتى يكون كأنه قال: وصادق مع ذلك إن الحركة موجودة حتى تكون الحركة موجودة كموضوع، وقد حمل عليه، وصداق مع ذلك لم يلزم عن القولين شيء. فإن لزم، فمع الستشعار بأن هذا مستثنى، فبكون أن الحركة موجودة، يجعل في الذهن جزءا من قضية محمولها الاستثناء، فحينئذ يلزم ما يلزم. وهكذا الحال في المثال الذي أورد للمنفصل، وقد تكلف له أنواع من الجواب.
لكن الحق أن هذا ليس بقياس. لست أقول: إن المقدمة المنفصلة إلى إيجاب وسلب لا تكون قياسية، فإنها تدخل في القياسات. لكني أقول: إن استعمالها على أن يقرن بها استثناء النقيض، وعلى ما قيل في الشك، ليس يؤدي إلى قياس. فإنه لما قال: إما أن تكون الحركة موجودة، أو لا تكون فقد ساق هذا الكلام إلى أن يبين به أمرا مجهولا، أو يلزم أمرا منكرا لا يقتربه. فلما قال: لكن الحركة موجودة، وجعل هذا جزءا من القياس ليبين به أن الحركة موجودة، لم يكن هذا قياسا، لأنه كان المطلوب فيه قد با وسلم، قبل عقد القياس عليه. فإن كان القياس إنما هو لأستبانة شيء، فقد كان مستغنى عنه؛ وإن كان لإلزام شيء منكر، فالمخاطب لا يسلم أن الحركة موجودة ليستثني بها، فإذا لم يسلم ذلك لم ينعقد عليه من هذا قياس. ومع ذلك فإنه إذا لم ينح نحو سلب صريح، بل إلى جهة من جهات العدول، كانت حينئذ النتيجة غبر التي ذكر، بل إن الحركة ليست غير موجودة. وهذه ليست هي أن الحركة موجودة، ولو كان يلزمها، فإن اللوازم كلها أغيار في المعنى، كما قد علمت مرارا.
وأما الأمثلة الأخرى فإنما تتم بمقدمات محذوفة لفظا معقولة الثبوت عقلا، قد حذف في واحد منها " أن كل متحرك حي " ، وفي الآخر " وكل ما كان السراج موجودا فالضوء موجود " وهي الشرطية، وفي الثالث " كل كاتب يحرك يده " . فقد وقفت على جحد القياس، فاعلم الآن أن من القياسات ما هي كاملة وهي التي تظهر لصورتها لزوم تسليم النتيجة عنها، ومنها ما هي غير كاملة وهي التي لا يكون لزوم عنها بيننا، وإنما يلزم بتغيير يلحقها ترجع به إلى الكاملة، يكون لذلك التغيير لها في نفسها وحدودها، لا في شيء آخر يدخل عليها. ويكون ذلك التغيير لها ما يلزم صدقه مع صدق ما يسلم فيها.
المقالة الثانية
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا) فصل
في عكس المقدمات على الإطلاق(1/226)
قد جرت العادة بأن يُعرف أولا حالُ عكس المقدمات، حتى إذا وُقف عليها سهُل الأمر في معرفة القياسات التي ليست بكاملة. ومعنى العكس هو تصيير الموضوع محمولا، والمحمول موضوعا، مع بقاء الكيفية والصدق على حاله. والقضية المنعكسة هي التي تقبل هذا العكس. فالسالبة الكلية من المطلق إذا أخذت بحسب ما يفهم في التعارف من قول القائل: " لا شيء من ج( ب( " ، وهي المستعملة في العلوم فإنها تنعكس. وإن أخذت على ما يجب في نفس الأمر فإنها تنعكس. فأما والمفهوم من " لا شيء من ج( ب( " ، أنه: ولا واحد من الموصوفات بأنها ج( بالفعل، محمولا عليه ب(، مع استشعار مادام موصوفا بج( من، غير منع، أن يكون مادام موجوجا بذاته؛ بل مع تجويز أن يكون مع ذلك مادام ذاته موجودا فليس ب(، فينعكس. وذلك إن كان قولنا: لا شيء من ج بَ ، معناه أنه لا شيء مما يوصف بج يوصف، مع الوصف بج، أنه بَ. فمنه ما يدوم وصفه بج، فيدوم سلب بَ عنه؛ومنه ما لا يدوم وصفه بج، ويدوم سلب بَ عنه مادام؛ ومنه ما لا يدوم له أحد الأمرين. فإذا كان حقا أن كل واحد مما يوصف بج كيف كان يسلب بَ عنه دائما ما دام ذاته موجودا فيكون السلب ضروريا، صدق معه لا شيء من ج بَ. وإذا كان السلب عنه حقا عندما يكون ج فقط، صدق " ولا شيء مما هو ج بَ " . فإذن هذا يصدق على الضروري، وعلى فن واحد من الأشياء التي نسميها مطلقات، فنقول: إنه ينعكس مثل نفسه. فإنه إن كان لا شيء من جَ بَ، فلا شيء من جَ بَ، وإلا فبعض جَ بَ. فلنعين ذلك البعض وليكن دَ، فيكون دَ بعينه موصوفا بأنه بَ وج، فيجتمع فيه أنه بَ وأنه ج. فيكون شيء واحد يجتمع فيه أنه ج وأنه بَ. وقد قلنا: إنه لا شيء من ج يوصف بأنه بَ، أي مع ما يكون جَ و دَ، مع أ، جَ هو بَ، هذا خلف.
وهذا العكس يجوز أن يكون كالأصل، فإنه كما يكون لا شيء من الأبيض أسود أي ما دام أبيض، فكذلك لا شيء من الأسود أبيض مادام أسود. وكما أنه لا شيء من الحجارة حيوان، أي دائما مادام موجودا، فكذلك لا شيء من الحيوان بحجارة ما دام موجودا. فحكم الأصل كحكم العكس.
وقد زيف قوم هذا البيان فقالوا: لأنه تبين فيه أن السالبة الكلية منعكسة، بأن يوجد نقيض السالبة الكلية وهي الجزئية الموجبة، فتعكس جزئية موجبة، ثم تصحح الدعوى على سبيل الخلف. وفي هذا وجهان من التقصير: أدهما إنه لم يبين لنا بعد هل الموجبة الجزئية تنعكس. وبعد ذلك فإنه حين يبين لنا أن الموجبة الجزئية تنعكس، يبين لنا بأن السالبة الكلية تنعكس، وهذا بيان الدور. وقالوا: إنه أيضا بَ آ، تبين بالخلف بقياس من الشكل الثالث، وذلك مما لم يبين بلنا بعد. فهؤلاء حادوا عن هذا البيان وأتوا ببيان آخر، وهو أن ج لما كن مباينا له بَ، ومباين المباين مباين، ف بَ أيضا مباين ل ج، فلا شيء من بَ ج. أما اعتراضهم فنقضه أهل التحصيل، وبينوا أن هذا ليس على سبيل استعمال عكس الجزئية؛ بل على سبيل تعيين شيء واحد. وافتراضه يكون بعينه كلا الأمرين. وهذا أمر تعلمه من غير أن يلتفت فيه إلى حديث العكس. فذلك الواحد يتعين لك بالحس أو بالعقل أنه بعينه ج و بَ فيحد موصوفا بج هو بَ، وموصوفا ببَ هو ج، من غير استعمال قياسين في أمر هذا الواحد، ومن غير عكس. وهذا النقض نقض حسن وحق.(1/227)
وأما طريقتهم فقبلوها ومالوا إليها وحسبوا إنها بيان نافع. وهذا خطأ ممن أبدعه ونم القائل. وذلك لأن المباين اسم مشترك يقال على وجوه. فمن ذلك في المكان، ومن ذلك في الحد، ومن ذلك في أشياء آخرى منها المباين بمعنى أنه ليس هو، فيكون معنى قولنا:ههنا مباين المباين، هو أنه ليس هو المباين في المكان ولا في الحد، كمباينات الأشياء التي قد يحمل بعضها على بعض في الحد، ولكن في معنى أنه ليس هو. فإذا قال القائل: إذا كان لا شيء من ج بَ، فلا شيء من بَ ج، ل، ج مباين ل بَ، كان معناه لأن ج ليس هو بَ، ومات ب ليس شيئا فليس الآخر: هو لم يخل إما أن يكون هذا بيننا، فيم ن بيننا أنه إذا كان ج ليس بَ فليس بَ ج؛ وإن كان ذلك غير بلين فهذا غير بين، لأن ج ليس هو عبارة عن مادة بعينها؛ بل عن كل مباين، و بَ عبارة عن كل ما بوين. فلا يمكن أن يقال: إن هذا جزئي غير بين تحت كل يبين. فلو كان مسلما أن كل مباين لشيء فالشيء مباين له، أي كل ما هو ليس الشيء فليس الشيء هو، كما لا نشك في أنه لما كان ج ليس بَ فبَ ليس ج. نعم ههنا شيء بين بنفسه، وهو أن الشيء المباين لشيء فذلك الشيء مباين له، وبإزاء ذلك مسلم أن ما ليس بشيء فذلك الشيء ليس هو؛ بل هما في هذا الموضع قولان مترادفان على معنى واحد. وليست المسألة هذه؛ بل المسألة أنه إذا مكان لا شيء من ج إلا مباينا لبَ، فهل يكون لا شيء من بَ إلا مباينا لج. وهو بعينه طلبنا، هل إذا لم يكن شيء من ج بَ، فهل ليس بشيء من بَ ج. وليس معنى المباينة إلا هذا. فإن كان أحدهما بينا بنفسه فالآخر كذلك. لكن الشخصي إما بين بنفسه في كليهما أو قريب من البين، فإذا حصر حصرا كليا تغيرت المسألة، وزال البيان بنفسه.(1/228)
تأمل الحال في المهملة، فإن هذه الكلية فيها كاذبة، مثل قولك: ج مباين لبَ، فليس يلزم أن يكون بَ مباينا لج؛ فإن الحيوان مباين للإنسان بهذا المعنى، والإنسان لا يباينه. وكذلك المسور بسور جزئي، فإنه إذا كان بعض ج مباينا لبَ، لم يلزم أن يكون بعض بَ مباينا لج، فلم يكن كون المباين مباينا لمباينه نافعا ههنا. وذلك لأن ج قد يكون مباينا لبعض بَ، ومواصلا للبعض الآخر، فيكون ذلك البعض الأول مباينا له، ولا يوجب أن تكون مباينة كلية. فكذلك إذا قلنا: لا شيء من ج بَ، أوجبنا المباينة من جانب ج، ولا ندري هل الجانب الآخر مباين بكليته أو ببعضيته فيحتاج أن يبين ببيان؛ بل ليسلم إنه إذا كان كل ج مباينا لبَ، أي ليس شيء من ج بَ، فبَ مباين لكل ج، وليسلم أن هذا بين بنفسه. فهل إذا نقل كل من ج إلى بَ، يكون حقا أن كل بَ مباين لج، أو يكون ليس كذلك؛ بل حكمه حكم البعض إذا نقل عن ج إلى بَ في قولهم: بعض مباين لبَ، فصار بعض بَ مباينا لج كان كاذبا، على أنه حيث يصدق والمباين مباين للمباين، إنما يصدق إذا كان المتباينان موجودين معا حال المبانة. وأما إذا كانت المباينة هو أن لا يكون أحدهما موجودا، مثل مباينة الكاتب للإنسان حين لا يكون إنسان ما كاتبا، فلا يقال: إن الآخر المعدوم مباين أيضا. فهذا البيان ليس بشيء، ولا ينبغي أن يلفتف إليه؛ بل إلى بيان التعليم الأول. وأما طعنهم من جهة استعماله قياس الخلف، فالجواب عنه أن قياس الخلف معقول بذاته مستتامٌ إليه في نفسه، وليس يحتاج إلى أن يعلمنا حاله، في لزوم ما يلزم عنه إذا كان كاملا، معلم. والمعلم الأول، فإنه ليس يعلمنا حال قياس الخلف الإ على سبيل التذكير والتجريد من المادة. واستعماله وقبوله طبيعي وعلى ما تعلم. ثم إن الفاضل من المتأخرين قد بين هذا بوجه حسن، فقال: وإلا فليكن بعض بَ ج. وقلنا: لا شيء من ج بَ. وهذا قياس كامل معلوم الإنتاج بنفسه، إنما يعلم بعد على سبيل التذكير، لا على سبيل إفادة علم مجهول. فيلزم من ذلك أن بعض بَ ليس بَ وهذا خلف. فهذا، أما إذا كانت الكلية السالبة على ما يجب في نفس الأمر فليس يجب لها عكس. وهي التي رأينا أن نجعل العبارة منها بقولنا: كل ج، فليس يوجد بَ. أو أن نقول: ليس ولا واحد من ج إلا وليس بَ فيفهم عنه أن كل واحد مما يوصف بأنه ج بالفعل كيف كان دائما أو غير دائم فإنه يسلب عنه بَ، لا ندري متى. أفي جميع زمان ما يوصف بأنه ج، أو في جميع زمان وجوده وصف بج أو لم يوصف، أو في بعض زمان كونه ج، أو زمان غير زمان كونه ج. فإن ما يوصف بإنه ج. إذا سلب عنه بَ في زمان كونه ج كله، فقد سلب عنه بَ، وإن كان في بعض ذلك الزمان فقد سلب عنه بَ، وإن كان في زمان قبل أو بعد ذلك فقد سلب عنه بَ، وإن كان في كل زمان وجوده فقد سلب عنه بَ. فإنا وإن قلنا مسلوب أو سلب أو يسلب، فأوهمنا زمانا، فذلك لضرورة اللفظ؛ بل مرادنا أن كل شيء يوصف بأنه ج، فذلك الشيء حق عليه سلب بَ لا ندري متى. فإذا كانت السالبة الكلية المطلقة هل العامة كما عند قوم، أو ماهو خارج عن الضرورة، وهو الذي ليس السلب عنه دائما مادام ذاته موجودا، بل في وقت ما من أوقات وجوده، وهي التي تخص بالوجودية، لم يلزم لها عكس. فإن سلب الضحك بالفعل عن كل إنسان، صحيح بهذا الوجه، فإن كل إنسان يسلب عنه الضحك بالفعل وقتا ما، وإذا سلب وقتا ما فقد سلب مطلقا. وكل إنسان يسلب عنه الضحك مطلقا، وخصوصا على رأي من يخرج الضرورة عن الإطلاق. وإذا كان هذا السلب الكلي مطلقا لا ينعكس، إذ ليس يمكن أن يسلب الإنسان عن الذي يضحك بالفعل بوجه من الوجوه، وكذلك في مواد كثيرة، فقد وجد للسلب الكلي لمطلق مادة لا ينعكس فيها. وهذا معنى وقلنا: إن كذا لا ينعكس، أي ليس يلزم عكسه، لا أنه لا ينعكس في مادة من المواد. فبين من هذا أن السالب الكلي المطلق الحقيقي لا ينعكس. لكن هذا السالب لا يعبر عنه باللفظ الموضوع لهذا الشأن؛ فلذلك لا يقال: ولا واحد من الناس ضاحك.(1/229)
فلينظر الآن في وجوه آخرى تعتبر لهذا؛ فنقول: إن قوما يقولون: إن المطلقة هي التي الحكم فيها ما حصل من الموضوعات موجودا، حتى يكو إذا قال قائل: كل ج بَ، كان معناه أن كل واحد من الموصوفين بأنه ج في الماضي والحال مما قد وجد هو موصوف بأنه بَ. فيكون قولهم: لا شيء من ج بَ، معناه أنه لا شيء من وجد وحصل جيما بالفعل إلا مسلوبا عنه كونه بَ، وإن كان قد يمكن أن يوجد له بَ. أو يكون بعض ج إذا وجد كان بَ بالضرورة، لكنه الآن ليس موجودا، والموجود منه هو البعض الذي لا شيء منه بَ. مثال الأول عندهم إذا اتفق في وقت إن لك إنسان متحركا بالفعل. ومثال الثاني أن يكون وقتا لا لون موجود فيه إلا البياض، فيكون حينئذ كل لون بياضا، فيكون هذا الوجودي ينعكس أيضا. فلينظر هل يلزم من هذا أن لا شيء مما هو بَ فهو ج أيضا. أما إذا عني في العكس ما عني في الأصل، فليس يجب أن يكون ها العكس، لأنه يجوز أن يكون بَ مسلوبا عن ج الموجود، ولم يوجد في غريه. فإنه ليس يلزم إذا سلبت الكتابة عن إنسان موجود، أن تكون الكتابة موجودة في آخرين، أو أشياء أخرى غير الكتابة حكمها هذا الحكم. فليبس يلزم من ذلك أن يكون سلب ج عن كل واحد من الذين حصل لهم وجود بَ، حقل على سبيل الإطلاق. فإنهم ربما لم يحصلوا بَ، حتى يصيروا بحيث إذا وضعوا كان السلب عنهم على الحكم المذكور. وأما على غير هذا الشرط وعلى أن يكون ج مسلوبا عن بَ، سواء لم يوجد بَ أو وجد شيء آخر غير ج، فهذا صحيح خارج من طريق العكس على هذا القانون.
لكن ينبغي أن ينظر أن هذه القضية حينئذ، أي القضايا تكون. فإنه لا يلزم أن تكون ضرورية. فإنه إذا سلب ج سلبا بالفعل عن بَ، وكان بَ شيئا لا يجب أن يسلب عنه ج في كل زمان، مثل: أن يكون اتفق أن كان كل موجود أبيض في وقت ما، مسلوبا عنه أنه مالك ألفي وِقرٍ ذهب، وكان حينئذ لا وجود لمالك ألفي وقر ذهب في الموجودين في ذلك الوقت هو أبيض؛ وانعكس أنه لا شيء مما هو مالك ألفي وقر ذهب بأبيض، كان هذا مما لا يصدق بشرط الضرورة، ولم يكن ممكنا حقيقيا، إذا قد سلب عنه بالفعل. وقد اتفقوا على أن كل قضية إمات أن يكون فيها حكم بالفعل ضروري، أو حكم بالفعل غير ضروري، أو حكم ممكن ليس فيه شرط أنه بالفعل؛ وإذ ليست هذه القضية ممكنة ولا ضرورية فستكون مطلقة. فيكون ما ظنوه من أن المطلق هو الذي يجب أن يكون فيه الحكم فيه على الموجودين في زمان، قد حصل باطلا. واعلم أن قولنا: كل كذا كذا، ليس يعنى به كل موجودين كذا في زمان ما، فإن الموجودين من الناس في زمان ما بعضُ الناس لا كل الناس. ومع ذلك فإن هذا إن اعتبر، حصلت أقسام لال يمكن إلحاقها بالضروري ولا الممكن، فيجب إذا أن لا يلتفت إلى هذا المذهب، وسيحوجنا إمعاننا فيما يستأنف إلى أن نزيد هذا الغرض شرحا. فإن لم يعتبر وجود هذا الموضوع، بل اعتبر صدق القضية، كان الموضوع موجودا أو غير موجود، حتى تكون المطلقة هي التي الحكم فيها بسوره صادق زمانا ما، سواء كان الموضوع موجودا أو غير موجود. فإن غير الموجود يصدق غليه السلب عاما، كان العكس مثل الأصل بعينه متعلقا بذلك الزمان، وكان مطلقا؛ إلا أن هذا الاعتبار مزيف، لما دريت ولما يستقبلك.
وأما أن أخذ الموضوع على السبيل الذي اختاره الفاضل من المتأخرين، حتى يكون ج ما يصح أن يكون ج حتى يدخل فيه ما يصح أن يكون ج، وإن جاز أن يوجد ويعدم ولا يكون حاصلا له أنه ج، فلينظر ما يلزم من ذلك؛ فيكون ومعنى السالب الكلي على مذهبه، إما أنه لا شيء مما يصح أن يكون ج بالفعل أو بالقوة موصوفا بالفعل بأنه بَ، لكن هذا الفاضل جعل المطلقة ما لا يجب سلب بَ عنه بالفعل كل وقت،فلا يجد محيصا عن الإلزام السالف، إذ بينا أن مثل هذه المطلقة قد لا تنعكس؛ ولا يتغير ذلك بأن يجعل الموضوع ما هو موصوف بالفعل مما يوصف به الموضوع أو بالقوة؛ وما يجري مجراه. فهذا على أول الوجهين.(1/230)
وأما الوجه الثاني، فإنه قضية يسلب فيها الإمكان العام، وليست مطلقة. فإن قال قائل: إنه ليس كذلك؛ بل الإمكان ههنا في مفهوم المحمول، وإنما يكون ذات جهة بجهة تلحق الرابطة، ونخبر عن إمكان الرابطة فنقول أولا: إن الجة ههنا في مقابلة القضية السالبة ملحقة بالرابطة، فإنك تقول هناك: بعض ما هو ج يصح أن يكون بَ. وثانيا: إن كل مقدمة لها جهة يمكن أن تجعل الجهة فيها خارجة عن المحمول، فإنه يمكن أن تجعل جهتها جزءا من المحمول، ثم تلحق بها جهة أخرى. فإنك إذا قلت: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، أمعناه أن كل إنسان يمكن، أو يصح، ولا تمتنع كتابته، مدخلا للجهة على المحمول على نحو معناه. فإنك إن قلت هذا وعنيت بالإمكان الإمكان الحقيقي الذي يصدق في هذا الموضع، فقد كذبت. فإن إمكان الكتابة ليس ممكنا، اللهم إلا أن يلتفت إلى إمكان قريب. فحينئذ لا يجد حيلة فيما ليس فيه، إلا إمكان واحد. ومع ذلك فيكون قولك: كل إنسان ممكن أن يكون كاتب، كاذبا على هذا التأويل. لأن ذلك كله ليس بإمكان بعيد ولا قريب، بل الناس مختلفون في ذلك. وأما بعد هذا كله فينظر أن هذا كيف ينعكس، فنقول: إن هذه القضية مع هذا كله تكون على حكم السالبة الضرورية، إذ كان لا شيء مما يصح أن يكون ج، هو شيء يصح أن يكون بَ.
هذا وإن قوما قالوا: إن السالبة الكلية على الوجه الأول أيضا لا تنعكس، وأوردوا له أمثله فقالوا: نحن نقول لاشيء من الحيطان في الوتد، ولا من البطيخ في السكين؛ ولا ينعكس أنه لا شيء من الأوتاد في الحيطان، أو السكاكين في البطاطيخ ؛ فالجواب عن أمثال هذا مما ذكروه أن المحمول ليس هو الوتد ولا السكين، بل في الوتد وفي السكين، فاجعلهما كما هما بجملتهما موضوعين ينعكس.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في عكس المطلقات
وإذ قد بينا هذا فلنبين أن الكلية الموجبة هل تنعكس؟ وكيف تنعكس؟ أكلية موجبة أم جزئية؟ وهل تبقى مطلقة؟ أم لا تبقى مطلقة؟ فنقول: إذا صدق قولنا كل ج بَ فليس يلزم أن يكون كل بَ ج. مثاله كل إنسان حيوان، وليس كل حيوان إنسان. وأيضا نقول: كل إنسان مستيقظ، ولا نقو: كل مستيقظ إنسان. فليس يجب إذن للكلية الموجبة عكس كلي موجب، فإنه ربما كان المحمول أعم. وأما عكسها الجزئي فواجب، فإنا إذا قلنا: كل ج بَ لزم أن بعض بَ ج. وقد جرت العادة في بيان هذا أن يقال: إنه إن لم يكن بعض بَ ج فلا شيء من بَ ج. وهذا مما ينعكس، فيكون ولا شيء من ج بَ، وقد قلنا: كل ج بَ، وخذا خلف. فهذا هو البيان المعتاد في هذا الباب.
وعلينا أن ننظر في هذا البيان، هل هو حقيقي؛ أم ليس بحقيقي. وذلك أنه إن كان نقيض الموجبة الجزئية المطلقة هي السالبة الكلية المطلقة، وقد قيل: إن الحقيقية منها لا تنعكس، فلا يكون هذا بيانا. على أن ذلك كما علمت يحتاج في أخذ نقيضه إلى أن تعين الحال والوقت. وهنا لم يشتغل بتعيين حال أو وقت في كليهما، حتى يكون السلب مقابلا، فيعين في الخلف. فلا هو مقابل ولا يجب أن تنعكس السالبة الكلي فيه. فنقول الآن: إن هذا وإن كان هذا، وإن مكان هكذا، فإن هذا البيان صحيح. وذلك لأن القائل إذا كذب في قوله: بعض بَ ج فيجب أن يكون إنما كذب لأنه لا يجد بعض ما هو بَ هو ج في وقت من الأوقات؛ فإنه إذا وجد بعض بَ ج وقتا ما، فقال: بعض بَ ج، أي وقت كان وأي حال كان، فإنه يكون صادقا. وإن كان صادقا مع ذلك أن كل بَ ليس وقتا ما ج، فليس إذن هذه الكلية السالبة المطلقة مناقضة لتلك الجزئية الموجبة. وكلن التي إذا كذبت القائلة بعض ج بَ.، صدقت هي ولا تكذب؛ إلا أن يكون بعض من الأبعاض موصوفا في شيء من الأوقات بالمحمول. فإذن مناقض هذه الموجبة الجزئية المطلقة، هو هذه السالبة التي ظهر من حالها قبل أنها تنعكس مثل نفسها، مانعة للإيجاب الجزئي كيف كان، فضلا عن الكلي. فهذا البيان إذن حق. فإذن أخذ المطلق على المعنى الأخص، لم يكن هذا نقضيه؛ بل جاز أن يكون كذبا، لا لأن الإيجاب كاذب، بل لأن الحمل دائم.فكذبت السالبة، ولم يجب أن يصدق نقيضها على الوجه المشهور فيكون خلفا.(1/231)
فيظهر من هذا أن الغرض في التعليم الأول، ليس ما ذهب إليه من أختار هذا الاعتبار في المطلق. فإن كان المطلق مأخوذا على المعنى الأخص، فيبين انعكاسه بالافتراض الذي سنشير إليه بعد. ونقول الآن: إن مناقض قولنا، ليس كل المطلق، هو كل الذي الحمل فيه دائم. وأما مناقض السالب الكلي المطلق والموجب الكلي المطلق العام للجميع، هو الجزئي الذي يدل على الدوام. وقد عرفت الفرق بين الدائم والضروري، فيحب أن يراعى هذا في جميع ما نورده. فهذه أصول يجب أن تكون منك على ذكر، فإن الناس لم يشتغلوا بها.
ونقول: إن هذا العكس يمكن أن يبين بالتعيين والافتراض. وذلك بأن نقول: إذا كان كل ج بَ فليفرض واحد من الموصوفات بج. وليكن دَ، فيكون دَ هو ج وهو بَ. فالموصوف ببَ الذي هو دَ موصوف بأنه ج. وكذلك قد يمكن أن تبين بالخلف على قياس ما فعله الفاضل من المتأخرين، فإنه إن لم يكن بعض بَ ج، فلا شيء من بَ ج السالب المطلق، بمعنى، مادام ذات بَ موصوفة بأنها بَ، وكان كل ج بَ ينتج بقياس كامل طبيعي أن: لا شيء من ج دَ. هذا خلف.
وأما أن هذا العكس ما حاله، فنقول: حاله أيضا الإطلاق العام، فلا يلزم إذا كان كل كاتب مستيقظ، أي وقتا ما، يجب أن يكون بعض ما هو مستيقظ هو كاتب، مادام ذاته موجودا، أو مادام مستيقظا. وفي بعض المواضع يجب أن نقول: كل إنسان حيوان، وبعض الحيوان إنسان، أي مادام موجود الذات. وهذان يعمهما الإطلاق العام. ولقائل أن يقول: إنا إذا قلنا: كل كاتب مستيقظ لزم منه أن بعض ما هو مستيقظ فإنه كاتب مادام موجود الذات. وذلك أنا إذا قلنا: الكاتب من حيث هو كاتب فهو بعض المستيقظين. وذلك الكاتب بعينه من حيث هو كاتب، فإنه كاتب مادام ذاته موجودا، وهو بعينه بعض موضوعات المستيقظ. فبعض ما يقال له إنه مستيقظ، فإنه كاتب مادام ذاته موجودا.فقد انعكس ههنا أيضا ضروريا.
فنقول في جواب ذلك: أما أولا، فإنا نسامح ولا نناقش المناقشة التي لنا في هذا، فنقول: لا يمنع وجود بعض المستيقظ كاتبا مادام ذاته موجودا، أن يكون بعضه ليس كذلك. فإنه كما أن الجزئية لا يمنع صدق سلبها صدق إيجابها، كذلك لا يمنع صدق ضرورتها صدق لا ضرورتها. وكذلك بعض الأجسام أبيض بالضرورة، وبعضها أبيض لا بالضرورة. فإن كان بعض ما هو موضع المستيقظ كاتبا بالضرورة إذا أخذنا الشرط المذكور، فبعضه الذي ليس بذلك الشرط ليس بالضرورة. وإن قابلنا هذا الكلام بالحق، لزمنا أن لا نسلم أن الكاتب من حيث هو كاتب يوصف بالمستيقظ. فإن ذات الكاتب بشرط أن يؤخذ كاتبا فقط لا يوصف بالمستيقظ. فإن الشرط هو أن يكون كاتبا فقط بلا زيادة. والكاتب فقط كيف يكون هو مستيقظا، فيكون كاتبا فقط ليس كاتبا فقط؛ بل إذا أخذ مطلقا، أي الكاتب، كيف كان الموصوف بأنه ما كاتب، المجوز أن يكون، كيف كان الموصوف بالمستيقظ وصفا لا بالضرورة. وأما الأشياء من حيث حدودها، وبشرط تجريد العوارض عنها، لا تكون موضوعة لما ليس بحدودها ولا في حدودها. ثم ستعلم أن قولنا: من حيث هو كاتب، ليس جزءا من الموضوع البتة، وذلك في مثل قولنا: الكاتب من حيث هو كاتب هو مستيقظ، بل جزء من المحمول. وسنبين لك حينئذ أن الشك منحل من وجه آخر. ونرجع فنقول: إن العكس في المطلقتين جميعا لا يجب إلا مطلقا عاما. وذلك لأنك إن أخذت المطلقة خاصة، وجدتها قد تنعكس خاصة، وقد تنعكس ضرورية. مثال الأول: كل كاتب مستيقظ، وعكسه: بعض ما هو مستيقظ كاتب لا بالضرورة. ومثال الثاني: كل إنسان متنفس لا بالضرورة، وعكسه: أن بعض ما يتنفس إنسان بالضرورة. وإذ عرفت حال الكلي الموجب المطلق، فكذلك فاعلم حال الجزئي الواجب، وأنه ينعكس مثل نفسه جزئيا موجبا. والبيان ذلك البيان. وينبغي أن لا يطول بسببه.(1/232)
وقد أوردت أمثلة نوقض بها ما قلناه من انعكاس الكلي الموجب جزئيا. فلا يحتاج أن نعددها كلها؛ بل يجب أن يتذكر ما قلناه في الجواب عن حدود أوردت، لتبين بها أن السالبة الكلية لا تنعكس. وكذا الأمر أن تنظر إلى جملة الموضوع وجملة المحمول فتعكسه كما هو، لا تنقص جزءا مما فيه وزلا تغيره، أعني الجزء الذي إذا نقصته عنه وهو بحاله الأولى قبل العكس فأردت أن تحفظ الإيجاب والسلب مع نقصانه لم تجد الحكم ثابتا. فإنك إذا حفظت المحمول كما كان والموضوع كما كان وعكست لم تغلط ولم تغالط. وأما السالبة الجزئية فإنها لا تنعكس، فليس إذا لم يكن كل حيوان إنسانا، أو كل إنسان كاتبا، وجب أن لا يكون كل إنسان حيوانا، أو كل كاتب إنسانا.
وههنا نوع من العكس آخر يحب أن نتأمله، وهو الذي يسمى عكس النقيض، وهو وأن يؤخذ ما يناقض المحمول فيجعل موضوعا، وما يناقض الموضوع فيجعل محمولا. فنقول: إذا قلنا كل ج بَ، لزنم منه أن كل ما ليس بَ ليس ج، وإلا فليكن بعض ما ليس بَ ليس ج، فهو ج. فبعض ما ليس بَ هو ج، ينعكس فبعض ما هو ج هو ما ليس بَ، وقلنا كل ج بَ. وإذا قلنا: كل ما ليس بَ ليس ج، صح كل بَ ج، وإلا فليصح ليس كل ج بَ. فيكون بعض ما هو ج مسلوبا عنه بَ، فذلك البعض ج وليس ببَ. قلنا: كل ما ليس بَ ليس ج فذلك البعض ج وليس بج. وإذا قلنا: لا شيء من ج بَ لا يلزم لا شيء مما ليس بَ ليس ج. فإنك إذا قلبت: لا شيء من الناس حجارة، لم يلزم أنه لا شيء مما ليس بحجارة ليس بإنسان، أو ليس شيء مما ليس بحجارة هو إنسان؛ بل لزم بعض ما ليس حجارة فهو إنسان، وإلا فلا شيء ممال ليس بحجارة فهو إنسان، فلا شيء من الناس ليس بحارة. وكنا قلنا لا شيء من الناس حجارة. وإذا قلنا: بعض ج بَ، لزم بعض ما ليس بَ ليس ج. فإنه يوجد موجودات أو معدومات خارجة عن ج و بَ معا، فيكون بعض ما ليس بَ ليس ج. وأما قولنا: ليس كل ج بَ، فيلزمه ليس كل ما ليس بَ ليس ج، وإلا فكل ما ليس بَ ليسج، فكل ما هو ج بَ، فكل ما هو ج فهو بَ. وههنا فحوص أخرى، وألأولى أن نجعل مواضعها كتاب اللواحق.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في عكس الضروريات والممكنات
ونقول: إذا قلنا بالضرورة لا شيء من ج بَ، فيجب أن يكون بالضرورة لا شيء من بَ ج. قالوا: وإلا أمكن أن يكون بعض بَ ج، فأمكن أن يكون بعض ج بَ، فأشكل هنا شيء وهو أنه استعمل عكس الممكن فيه. وهذا مما لم يبن بعد. فقال بعضهم: إن إنعكاس هذا المكن بين بنفسه. فإنه إذا أمكن أن يكون شيء شيئا، أمكن أن يكون ذلك الشيء الآخر ذلك الشيء. ولما كان هذا بينا بنفسه، جاز تعريف غيره به، غير متوقف فيه أن يبين حاله. وعندي أنه يحتاج هذا العكس إلى بيان ما أيضا. وليس ما فرضوه بينا أعرف من أن الممتنع كونه شيئا، يمتنع كون ذلك الشيء هو الذي هو المطلوب وقريب من المطلوب، لكن ما قاله الآخرون أحسن، وهو أنه إن أمكن أن يكون بعض بَ ج كان فرضه غير محال. وأكثره أن يكون كذبا. والكذب الغير المحال لا يلزم منه محال. فإن لازم ما يمكن ممكن. فإن المحال لا يكون البتة. فما لا يكون إلا ويلزمه المحال لا يكون البتة. وكيف يكون، وإنما يكون مع كون ما لا يكون البتة. فالكذب الغير المحال لا يلزمه المحال. فإذا فرض بعض بَ ج موجودا، فحينئذ يكون بعض ج بَ موجودا، فحينئذ يكون بعض ج بَ كما علمت كذبا غير محال. لكنك قد قلت بالضرورة: لا شيء من ج بَ، فكيف يكون قولنا: بعض ج بَ، غير محال، فهو محال. ولزم من قولنا بعض بَ ج، فقولنا بعض بَ ج كذب ومحال. على أن هذا له وجه، وهو أقرب عندي، وهو أن نقول: إذا جاز وأمكن شيء، أمكن لازمه. فإذا أمكن أن تصدق المطلقة القائلة: بعض بَ ج، أمكن لازمها ضرورة، أي قولنا: بعض بَ ج. وهذا أصح ما ينبغي أن يقال. وأمات إذا كان القول موجبا مثل قولك باضطرار أن يكون كل بج بَ أو بعض ج بَ، فيقولون إنه باضطرار أن يكون بعض بَ ج. وللبيان المشهور لهذا هو أنه لا بد من أن يكون بعض بَ ج، لأنه من حيث هو مطلق هذا حكمه. حينئذ إما أن يكتمون باضطرار، أو لا يكون باضطرار. فإن كل كان لا باضطرار، فبعض ج بَ، لا باضطرار، وكان كله باضطرار، وهذا خلف. وفي هذا البيان مواضعه تخليط.(1/233)
وذلك لأن الذي سلف من تعليمهم في انعكاس المطلقة الموجبة، إنما كان أنها تنعكس جزئية فقط، ولم يبين أنها إن كانت لا باضطرار فيكون عكسها لا باضطرار. ولا هذا هذا حق بوجه من الوجوه. فإن كل إنسان كاتب لا باضطرار، ثم كل كاتب إنسان باضطرار.
والتخليط الثاني هو أنا وإن سلمنا أن هذا البيان قد ينفع في إثبات عكس الكلي الموجب، فكيف ينفع في بيان العكس الجزئي الموجب. فإنه ليس يمنع قولنا: بعض ج بَ بالضرورة، أن يكون بعض ج بَ أيضا لا بالضرورة. فيجوز أن يكون عكس قولنا: بعض بَ ج بالضرورة. ثم إن انعكس على قولهم فصار بعض ج بَ لا بالضرورة، صح مع صحة الأصل، وهوه قولنا: بعض ج بَ بالضرورة، ولم يلزم خلف. فإنك تعلم أن بعض الأجسام متحركة ضرورة، وبعضها متحركة لا بالضرورة. وكذلك بعض الأجسام سود بالضرورة أي دائما، وبعضها سود لا بالضرورة؛ بل الحق أن هذه تنعكس مطلقة بالمعنى الأعم، وهو أن بعض بَ ج بلا زيادة شرط. والبرهان عليه هو المثالان المذكوران. وأنت تعلم ليس يجب أن يكون عكس غير الضروري عن غير الضروري من المثال المذكور. فلا يمتنع أن يكون الشيء ضروريا حمله على شيء، ثم ذلك الشيء لا يكون هذا ضروريا له. وسنزيدك لهذا شرحا في موضعه.
ومع هذا فيجب أن نورد وجود التلخيص الذي تكلفه أصحاب التعصب عن هذا اللازم. فقال بعضهم: إن قولنا: كل كاتب إنسان بالضرورة، ليس حقا. وذلك لأن الكاتبين المعدومين هم أناس معدومون ؛ فبعض ما هو كاتب هو بالإمكان ناس، أي تمكنوا أن يصيروا ناسا.
وهذا هو الإنسان الذي ذكر أن قولنا: كل بَ ج، معناه كل ما يقال له أنةه بالفعل ج، وأخرج ما هو كاتب بالإمكان، داخلا في قولنا: كاتب. فالآن قد أدخلت الكاتب بالقوة في هذه الجملة، ومع ذلك فليس تجد البتة مقدمة كلية ضرورية موجبة. فإن قولنا: كل إنسان حيوان بالضرورة، كاذبة؛ أن الناس المعدومين حيوان بالإمكان. فبعض الناس، وهو الذي بالقوة، حيوان بالإمكان؛ فليس بالضرورة كل إنسان حيوان. ولا مجد مثالا من الأمثلة المستعملة للكلي الموجب، يكون صادقا البتة.
وقال بعض المحصلين: إن قولنا بعض الكتاب ناس بالإمكان، صحيح. وذلك لأن معنى هذا أن بعض ما يوصف بأنه كاتب بالضرورة، هو إنسان. وسواء لم يكن كاتبا، أو كان كاتبا، وكان بالضرورة كاتبا، أو كاتبا لا بالضرورة، حتى يكون إنسانا بالضرورة. وإن لك يكن كاتبا. فإذن كونه إنسانا بالضرورة، ليس لأنه كاتب.
فإذا قلت: بعض ما يوصف بأنه كاتب، هو إنسان بالضرورة وإن لم يكن كاتبا، فأنت تقول في نفسك، لا من جهة أنه كاتب، فجهة أنه كاتب لا توجب الضرورة. فإذن يكون غير ضروري أن تكون معه الإنسانية، فيكون بعض الكتاب وهو الكاتب من جهة ما هو كاتب ليس ضروريا أنه إنسان أو ليس بإنسان، وذلك من جهة ما هو كاتب. فبعض الكتاب مكن أن يكون إنسانا من جهة ما هو كاتب.
وهذا الرجل، وإن دقق، فقد غالط وحمله التعصب على نمحل وزجه بعيد، وغلط من ظن أن قولنا: الكاتب من حيث هو كاتب، لا وجب الضرورة؛ حتى يصح معه أن الكاتب من جهة ما هو كاتب، لا يكون حمل الإنسان ضروريا عليه، وليس كلامنا في أن كونه كاتبا هو الذي جعل حمل الإنسان عليه ضروريا أو لم يجعل، بل كلامنا في الإنسان هل يحمل على الكاتب من جهة ما هو كاتب. فإن قال: إنه يحمل عليه دائما، فيكون ضروري الحمل عليه. فبين أنه يحمل عليه، وإن لم يكن لأجل أنه كاتب. وكذلك إذا زالت الكتابة مع كونه إنسانا محمولا على الشيء الذي هو الكاتب، فإن ذلك لا يمنع أن يكون محمولا على الكاتب، ودائما له. فليس أنه لا يكون ويحمل على شيء، يوجب أنه حين يكون لا يحمل عليه دائما.
فأما إن قال: إن الكاتب من جهة ما هو كاتب، هو كاتب فقط و لا زيادة، والإنسان معنى آخر غير أنه كاتب، فليس محمولا عليه، كان هذا حكم الإنسان والحيوان. فإن الإنسان، من حيث هو إنسان، هو أنه حيوان. نعم الحيوان حينئذ جزء من حده، وكذلك الحيوان والإنسان جزءان من حد الكاتب. فإن الكاتب من الخواص الذاتية، بمعنى، أنها توجد في حدها الموضوع وجنسه لا محالة. وبعد هذا كله؛ فإن الكاتب إذا أخذ أنه كاتب فقط، وكان الإنسان مقارنا له كان غير محمول عليه بالضرورة لا بالإمكان؛ فكان بعض الكتاب بالضرورة ليس إنسانا لا بالإمكان، وهو الكاتب من جهة ما هو كاتب.(1/234)
على أن ههنا غلطا آخر. وهو أن قولنا: من حيث كذا، ومن جهة كذا، من أجزاء المحمول. فقوله: بغض الكتاب من جهة ما هو كاتب ليس بالضرورة إنسانا، هو بمعنى قوله: الكاتب ليس من الضرورة إنسانا، من جهة ما هو كاتب، ولو كان هذا الاعتبار ليس جزءا من المحمول، بل جزء من الموضوع، للزم منه محال. فإنا كنا نقول: الحيوان من جهة ما هو حيوان، ناطق أو ليس؛ فلو كان من جهة ما هو حيوان ناطق، للزم أن يكون كل حيوان ناطق، ولو كان الحيوان من جهة ما ه و حيوان ليس بناطق، للزم أن لا يكون أحد من الحيوانات ناطقا. لأن الشيء الذي يقال على الشيء من حيث هو هو، ومن حيث هو طبيعته، فيقال من حيث كان، وكيف كان. لكن لما كان قولنا من حيث ومن جهة كذا جزء من المحمول، لم يلزم أن يجاب أن الحيوان من جهة ما هو حيوان ليس بناطق، بل أن يجاب أن الحيوان ليس من جهة ما هو حيوان بناطق، بل قد يكون وقد لا يكون. فإذا كان كونه بحيوانية تسلب عنه النطق، غير كونه لا بحيوانية توجب عليه النطق، لم يلزم أن يكون الأمر في تسليم القسمين على السواء.
وكيف يكون جزءا من الموضوع؟ وأجزاء الموضوع يجب، إذا كان بعدها شيء يحمل على الموضوع، أن تجيء بعيده كقولنا: الحيوان ناطق كذا، معناه الحيوان الذي هو ناطق كذا. فإذا قلنا: بعض الكتاب من جهة ما هو كاتب، فيجب أن يكون معناه بعض الكتاب، المأخوذ من جهة ما هو كاتب، أو بعض الكتاب، الذي هو من جهة ما هو كاتب فقط. فيكون إدخال هذا السور فيه هذر. فإن الكاتب الذي أخذ من جهة ما هو كاتب فقط لا يتبعض ولا أيضا يتسور بالكل، حتى يقال: مكل الكاتب المأخوذ من جهة ما هو كاتب؛ ولا يكون هذرا إذا جعل هذا جزء من المحول، فقيل: بعض الكتب هو من جهة ما هو كاتب كذا، فإذا كان هذا جزء من المحمول، فيجب أن يكون جزءا من الموضوع عند العكس.
وهب أنه جزء من الموضوع، أليس يجب أن يكون جزءا من المحمول؟ قيل: فيكون قولنا كل إنسان مكن أن يكون كاتبا، معناه أ، كل إنسان مكن أن يكون كاتبا، الذي هو من جهة ما الكاتب كاتب فقط؛ وهذا كاذب، فإنه ولا واحد من الناس يوصف بأنه كاتب المأخوذ من جهة ما هو كاتب فقط. فإن الإنسان لا يكون الشيء، الذي هو مجرد الكاتب فقط الذي أنه إنسان وأنه حيوان، خارجا من وجوده مسلوبا عنه. ولسنا نلتفت عندما نقول: غ، الإنسان ممكن أن يكون كاتبا، إلى اعتبار في الكاتب، وجهة تقترن به، غير معني مطلق أنه كاتب بلا شرط لا بشرط لا. فننظر، هل يحمل ذلك على الإنسان، فيجب أن لا يلتفت في الموضوع إلا أنه الذي هو موصف بكذا، بلا شرط دوام أو بلا دوام، ولا بشرط من جهة، ولا نلتفت إلى المحمول إلا مأخوذا محمولا. فأي شرط ألحقناه به، فهو جزء الحملة، هو المحمول، ثم بعد ذلك يربط ويؤخذ عند العكس فيما يجعله محمولا أو موضوعا، ولا يهمل. ولو كانت هذه الشروط معتبرة لبطل، كثير من المقدمات الضرورية، وصارت ممكنات، ولتجمع جوامع ما قلناه.
فلننظر هل إذا كان ج بَ، وبَ ممكن في ج خاص به، فهل إّا حمل بَ عل ج، ف ج أيضا يحمل على بَ أو لا يحمل؟ فلتكن ج الحيوان، و بَ الكاتب، فلننظر هل يجب أن نأخذه من حيث هو كاتب. لكنا نجد الكاتب، من حيث هو كاتب، مسلوبا عنه أنه حيوان، ف ج مسلوب عن الحيوان الكاتب من حيث هو كاتب؛ بل يجب أن يراعى ما كان أوجب، فنجعله موضوعا، فبين أن الحيوان يكون محمولا عليه، نراه يكون محمولا عليه وقتا ما، أو مادام الذات موجودة. فإن كمان الحق هو أنه محمول عليه دائما مادام ذات الكاتب موجودة، فالحيوان ضروري للكاتب، والكاتب ليس ضروريا للحيوان. وفي هذا بلاغ لمن أنصف .
وأما الجزئية السالبة الضرورية، فإنها لا تنعكس. فإنه ليس إذا كان بالضرورة ليس كل موصوف بأنه حيوان إنسانا، يجب أن لا يكون بالضرورة كل إنسان حيوانا. واعلم أن قولنا بالضرورة ليس، ليس سلب الضرورة؛ بل سلب الضرورة ليس بالضرورة.(1/235)
وأما المقدمات الممكنة، فقد قيل فيها في مثل هذا الموضع ما أصف: قالوا: إن الممكن باشتراك الاسم يقال على الضروري وعلى المطلق وعلى الممكن الحقيقي. فما كان من الضروري والمطلق فحكمه حكم ذلك. وما كان في الممكن الحقيقي فحكمه قد يخالف، على ما سنبين لك في موضع آخر. فأوهم ظاهر هذا اللفظ أن الممكن إذا قيل على الضروري لم يكن مخالفا له إلا في اللفظ، فيقال له ممكن ونعني أنه ضروري. فإذا لم يكن مخالفا إلا في اللفظ كان عكسه عكسه، وليس ينبغي أن يفهم الأمر على هذه الصورة. فإنه ليس أحد من الناس يقول، ولا في لغة من اللغات يقال ممكن على الضروري.، ويعنى به الضروري. ولا الشبهة التي دعت إلى أن يجعل في لفظة المكن اشتراكا، حتى كان يجب مرة أن يقال على الضروري ومرة أن لا يقال، وكان يمتنع كونها مقولا على الضروري أنها تنعكس إلى السالبة العكس الذي يجري بينهما، إذا ما كان يمكن أن يكون يمكن أن لا يكون. وكان يوجب كونها مقولا على الضروري أن سابها لا يقال عليه، وإلا كان نقيضها وهو أنه ليس يمكن مقولا على الضروري، وكان الضروري ممتنعا شبهة توجبن يكون حلها بأن الممكن يقال على الضروري قولا مترادفا. فإن الممكن إذا كان له معنيان، وأحدهما أعم من الواجب، والآخر مباين للواجب فإن الشبهة تنحل أيضا. وهل الممكن الذي يجب قوله على الضروري إلا الممكن الذي سلبه لا يقال على الضروري؛ لأن سلبه أنه ليس بممكن ومعناه ممتنع. فيكون الممكن الذي يجب أن يقال على الضروري هو الذي هذا سلبه. فإذا كان هذا المكن المقول على الضروري الوجود معناه أنه ضروري ومفهومه ذلك، كما يكون في الاسماء المترادفة، كان ما ليس بضروري وما ليس بممكن بمعنى واحد، وكان ما ليس بضروري إذن هو الممتنع، وهذا محال؛ بل المكن المقول على الواجب هو اسم وحصل موضوع بدل اسم غير محصل هو لفظة غير ممتنع، وهو أعم منم الواجب ومن الممكن. فليس إذن صحة انعكاس الضروري أو المطلق وهو أخص منه، يوجب صحة انعكاسه في نفسه؛ بل يجب أن يعلم أن معنى الكلام المذكور في التعليم الأول الصحيح هو أن هذا إذا قيل على الضروري وعل المطلق وعلى المكن، فما منه في مادة الضروري فحكمه ما قيل. وكذلك ما هو في مادة المطلق فحكمه ما قيل. وأما المكن الحقيقي فسيتضح أمره بعد، ليعلم أن بعد إيضاح الحكم في جميع ما يجب هذا العام، يتضح حكم هذا العام. والنظر في المكن الحقيقي وفي عكسه جرت العادة بتأخره، فلنؤخره.
الفصل الرابع
(د) فصل
في القياسات الاقترانية
وذكر الأشكال الثلاثة في حالتي الإطلاق والضرورة
فهذه الأشياء المذكورة ذكرت على سبيل المقدمات لما يراد تعليمه من أمر القياس، فنقول: إن اللازم عن القياس لا يخلو، إما أن يكون غير مذكور هو ولا نقيضه في القياس بالفعل، وتسمى أمثال هذه المقاييس أقترانيات، مثل قولك: كل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل حيوان جوهر، وإما أن يكون اللازم أو نقيضه، وبالجملة أحد طرفي المطلوب مذكورا فيه بالفعل بوجه ما؛ وهذا أسميه استثنائيا، والجمهور يسمونه شرطيا. وإنما لم أسمه شرطيا، إذ من الشرطيات ما يكون على سبيل الاقتران.(1/236)
ولنقدم ما يكون عل سبيل الاقتران. ومنه ما يكون من حمليات. فنقول: إن كل قياس اقتراني بسيط حملي، فإنه مؤلف من مقدمتين يشتركان في حد اشتراك المثال المورود في الجسم. وهذا الحد لا يخلو إما أن يكون في أحدهما محمولا، وفي الآخر موضوعا، أو يكون محمولا في كليهما، أو موضوعا في كليهما. وإذا كان موضوعا في أحدهما محولا على الآخر، فإما أن يكون محمولا على المطلوب، وموضوعا لمحمول الموضوع، وهو الذي يسمى الشكل الأول؛ وإما أن يكون محمولا على محمول المطلوب، موضوعا لموضوع المطلوب، وهذا هو الشكل الذي ألغي، لما أذكره من العلة بعد وجوبه في القسمة. فإنهم حين قسموا الأشكال على القسمة المثلثة التي ذكرناها فجاءت ثلاثة، عينوا واحدا منها على أنه الشكل الأول، وأخذوه على أنه هو الذي أوسطه موضوع في أحدهما محمول في الآخر، ثم لما نظروا فيه من حيث يجتمع منه ما يجتمع، أخذوه من حيث يحفظ موضوع وسطه موضوعا ومحموله محمولا فقط. وهذا أخص من المعنى الذي لأجله جعل شكلا أولا. فإذا جعلوه شكلا أولا، لا بمجرد أن الأوسط موضوع ومحمول، بل لأن الأوسط محمول على موضوع المطلوب، وموضوع لمحمول المطلوب؛ فقد ألفوا قسما رابعا. وفاضل الأطباء يذكر هذا، ولكن لا على هذا الوجه، بل هذا الإلغاء هو بسبب أنه أمر غير طبيي، وغير مقبول، وغير ملائم لعادة النظر والروية، ومستغنى عنه بقوة، عكس نتيجة ما هو شكل أول، و على ما سنوضحه في موضع آخر. فليكن الشكل الأول ما ذكرناه. وأما الثاني فهو الذي يكون حده الأوسط محمولا على الطرفين. وأما الثالث فهو الذي يكون حده الأوسط موضوعا فيهما جميعا. والطرف الذي هو موضوع المطلوب يسمى حدا أصغر، والمقدمة التي فيها هذا الطرف تسمى مقدمة صغرى، والطرف الذي هو محمول المطلوب يسمى حدا أكبر، والمقدمة التي فيها هذا الطرف تسمى مقدمة كبرى. وتأليف مقدمتين بالاقتران يسمى قرينة. والتي يجب عنها النتيجة ذاتها تسمى قياسا. وهيئة نسبة الأوسط إلى الطرفين يسمى شكلا. والذي يلزم، فإنه ما دام يساق إليه بالقياس يسمى مطلوبا. فإذا لزم سمي نتيجة. وإنما سمي الشكل الأول شكلا أولا لأن إنتاجه بين بنفسه، وقياساته كاملة، ولأنه ينتج جميع المطالب، والثاني لا ينتج إلا السالب، والثالث لا ينتج إلا الجزئي.، ولأنه ينتج أفضل المطالب وهو الكلي الموجب. واعلم أن لا قياس من سالبتين، ولا من جزئيتين، ولا صغرى سالبة كبراها جزئية إلا أن يكون السالب ممكنا. واعلم أن النتيجة تتبع أحسن المقدمتين، لا في كل شيء؛ بل في الكمية والكيفية دون الجهة. وهذه جمل تعلمها بعد باعتبار الجزئيات.
الشكل الأول: والشكل الأول فإنه لما كانت صغراه موجبة، صار الحد الأصغر فيه داخلا فيما يقال عليه الأوسط. فإذا كان في الكبرى إيجاب كلي على كل ما قيال عليه الأوسط، أو سلب كلي عن كل ما يقال عليه الأوسط كيف قيل، دخل فيه الأصغر. فإن لم يكن كليا أمكن أن يفوته الأصغر؛ إذا يجوز أن لا يكون هو البعض الذي عليه الحكم، سواء كان ضروريا أو ممكنا. فأما إذا لم يكن الأوسط محمولا على الأصغر، فستجد أمورا توجب على كليهما، وهما مباينان ؛ أمورا تسلب عن كليهما، وهما متباينان. فلا يلزم أن يكون الحكم على الأوسط حكما على الأصغر، كان سلابا أو إيجابا. فإن كان الأكبر جزئيا، فذلك أبعد؛ بل إن كان جزئا على الأوسط، والأوسط موجودا للأصغر، لم يجب أن يتعدى إليه، إذ الحكم على الأوسط كان حكما جزئيا،ة فيجوز أن يكون الأوسط أعم من الأصغر، ويكون الحكم في البعض الذي هو خارج عن الأصغر بإيجاب أو سلب، فيكون الحكم على ما ليس الأصغر، ويكون ما قدمنا ذكره. فبين أنه إذا كانت الصغرى سالبة والكبرى جزئية لم ينتج. وهذا يجب أن يقتصر عليه، ولا يشتغل بعد ضروب ما لا ينتج، بسبب أنها لا يلزم منها نتيجة معينة. فإنك بعد الإحاطة بما قدمناه، يمكن أن تورد تلك الأمثلة. واعلم أن المهملات حكمها حكم الجزئيات، فتصلح صغريات، وتنتج مهملة. وأن المخصوصات أحكامها أحكام الكلية. فإنه قد يكون من مخصوصتين قياس، كقولك: زيد هو أبو عبد الله، وأبو عبد الله هذا، أو أخو عمرو. ولكن النتائج تكون مخصوصة شخصية. وأكثر ما تستعمل المخصوصات مقدمات صغرى.(1/237)
فلنعد المحصورات فنقول: إنه إذا كان كل ج بَ، وكل بَ آ، فبين أن كل ج آ، وأنه إذا كان كل ج بَ، ولا شيء من بَ آ، فبين أن لا شيء من ج آ، وأنه إذا كان بعض ج بَ، وكل بَ آ، فبين أن بعض ج آ، وأنه إذا كان بعض ج بَ، ولا شيء من بَ آ، فبين أن ليس كل ج آ. فهذا هو الشكل الأول، وضروبه المحصورة هذه الأربع، ونتائجه هذه. وقد يلزم القياسات الثلاثة من هذه لوازم هي عكوس هذه. فإن جعلت قياسات عليها، لم تكن قياسات كاملة بالقياس إليها؛ بل إنما يتبين ما يلزم عنها بالعكس. فأما من قال: إن في غير هذه الضروب ما ينتج، وهو إذا كان لا شيء من ج بَ وكل بَ آ، أو لا شيء من ج بَ وبعض بَ آ، أنتج ليس بعض آ ج. قال: لأنك إذا عكست كل بَ آ أو بعض بَ آ، أنتج من الشكل الثاني ليس كل آ ج. فالجواب عن هذا أنه إنما قيل كبرى وصغرى، بسبب أن في إحديهما موضوع المطلوب، وفي الآخرى محمول المطلوب. فإذا جعلنا مقدمة ج بَ صغرى، وكان بَ الحد الأوسط، فيكون ج الحد الأصغر، ويكون موضع المطلوب، وعلى مثال ذلك يكون آ محمول المطلوب. فإذا قلنا: لا ينتج بسلب أو إيجاب، عنينا أن ذلك لا ينتج و آ محمول. وقد زال بهذا الشك. فإن أنتج شيئا، فليس عن كبرى وصغرى على ما وضع. ومع لك فإنه يرجع إلى الكامل بعكسين. فهو بعيد عن الطبع، مناسب للقسم الثاني من الأقسام الأربعة للأشكال، الذي إنما إذا ألغي لأنه بعيد عن الطبع جدا. فإن الشكل الثاني بعُد عن الطبع في نظم مقدمة واحدة هي الكبرى، والثالث بعُد عنه في نظم مقدمة واحدة وهي الصغرى، وإذا كان البعد في معنى واحد احتمله الذهن وفطن للغرض. وأما القسم الثاني فإنه يحتاج في رده إلى الأمر الطبيعي إلى تغيير يلحق جميعه؛ وهو مستغنى عنه. فالأولى به وبما هو في مذهبه أن يلغى.
الشكل الثاني هذا الشكل خاصيته في نظمه أن الأوسط منه محمول على الطرفين، وخاصيته في إنتاجه أن الموجبتين منه لا تنتجان؛ وذلك لأن المحمول الواحد بالإيجاب، كالجسم يحمل على متباينين كالحجر والحيوان، وعلى متفقين كالإنسان والضحاك. ولا السالبتان، لأن المحمول الواحد كالحجر قد يسلب عن متباينين كالإنسان والفرس، وعن متفقين كالإنسان والناطق. ولا عن جزئيتين، فإن المحول الواحد يوجب لبعض الأمر الواحد وسلب عن بعضه، وقد يوجب ويسلب عن بعض أمرلاين مختلفين. ولا إذا كانت الكبرى جزئية، فإنه إذا حكم على " كل شيء ما " ، ثم حكم على " بعض الأخر " ، لا بخلاف ذلك، جاز أن يكون الشيء محمولا على ذلك الكل، لكنه أعم منه، فيوجب عليه وإن كان بعضه لا يوجب عليه، وجاز أن يكون مباينا له بكليته لا يحمل عليه. فهذه خاصيته في الإنتاج. وإنما كان شكلا ثانيا، وأخر عنه الشكل الباقي من الأشكال، لأنه ينتج ما هو أنفع وهو الكلي، وذلك الباقي لا ينتج إلا الجزئي، وإن كان ينتج الموجب، وهذا لا ينتج إلا السالب. فإن السالب الكلي أنفع من الجزئي الموجب، أي في العلوم؛ ولأنه إنما يحدث منه الأول بعكس الكبرى منه، وما الباقي فيحدث بعكس الصغرى، فقرابته من الأول في أشر ف المقدمتين.(1/238)
والأشياء الاختيارية التي لا وجوب فيها وإنما يدعو إليها الاستحسان والأخذ بالأولى، فإنها لا تجاوز بعللها المبلغ الذي وصلنا إليه. ومع ذلك فإنا نريد أن نصرح بما يرفع الحق عن وجوهنا قناع الحياء فيه، وهو أنه إذا كانت هذه السالبة الكلية المطلقة على حسب ما يفهم من السلب الكلي المطلق فهما بحسب الأمر في نفسه سواء كانت بالمعنى العام أو بالمعنى الخاص، فإنه لا يأتلف منها في هذا الشكل قياس. وذلك لأن السالبة الكلية المطلقة والموجبة الكلية المطلقة، قد تصدقان معا على شيء واحد. وقد أوردت له أمثلة في التعليم الأول. فإن كل إنسان نائم وكل إنسان ليس بنائم قد تصدقان، لأن كل إنسان نائم وكل إنسان ليس بنائم وقتا ما. وبالجملة إذا كان محمول يحمل على كل واحد لا دائما؛ بل وقتا ما، فهو أيضا يسلب عن كل واحد لا دائما، بل وقتا مات. وكذلك إن كان حمله حملا يجوز أن يكون لا دائما وإن لم يوجبه؛ فيجب أن يعلم أذن أنه ليس يجب أن ينعقد من السالب المطلق والموجب المطلق قياس في هذا الشكل، اللهم إلا أن يستعمل السالب الكلي على اللفظ المشهور الذي بينا أنه ينعكس، أو تستعمل المطلقة التي إطلاقها لا للحمل بل للحصر؛ إذ يصدق الحصر كليا في بعض الأزمنة، أو يستعمل في القضيتين ما يتعذر مراعاته، وهو جعل الوقت في كل واحد وقتا واحدا إن أمكن، وشرطا واحدا إن أمكن.
لكن المطلقة باعتبار القول نفسه، مما لم تجر العادة بأن تستعمل في العلوم وفي المخاطبات، بل جرت العادة بأن يستعمل السالب في كل موضع وينُوى الشرط الذي ذكرناه. وكذلك قد جرت العادة في قولهم كل بَ آ، أنه إنما يستعمل ذلك على نية أنم كل بَ آ، عندما يكون بَ، فيبج أن يلتفت إلى هذين في هذا الشكل وما بعده. فلمستعمل نحن السالبة على النحو المشهور، فإن ذلك أجمع للغرض، فنقول: يجب في شرط إنتاج هذا الشكل أن تكون إحدى المقدمتين موجبة، والأخرى سالبة وأن تكون الكبرى كليبة. ولنذكر الضروب المنتجة فقط: الضرب الأول: من كليتين والكبرى سالبة ينتج كلية سالبة، مثاله: كل ج بَ، ولا شيء من آ بَ، فلا شيء من ج آ. برهانه أنا نعكس الكبرى فيصير لا شيء من بَ آ، فيكون كل ج بَ ولا شيء من بَ آ، فلا شيء من ج آَ. وقد نبينه من طريق الخلف فنقول: إنه إذا كان قولنا هذا كاذبا، فليكن بعض ج آ وكان لا شيء من آ بَ، ينتج من الشكل الأول: ليس كل ج بَ، وكان كل ج بَ، هذا خلف. ولقائل أن يقول: إن هذا ليس خلفا محالا، فإن المطلقات لا يكذب فبها أن يقال كل وليس كل، فإنه يجوز أن يكون كل ويعنى به في كل واحد وقتا ما، ولا كل ويعنى في كل واحد وقتا آخر، وليس هذا بخلف. فالجواب أنا قد قدمنا أن الذي نذهب إليه ههنا في استعمالنا للمطلقات، ما كان منها بمعنى لا شيء من آ بَ مادام آ، وكذلك قولنا: كل ج بَ فإنما يعنى به كل ج بَ مادام ج، فتكون النتيجة لا شيء من ج آ مادام ج .
المقالة الثالثة
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا)فصل
في القياسات المختلطة من الإطلاق والضرورة(1/239)
قد قلنا في هذه القياسات: إذا كانت مطلقة وإذا كانت ضرورية. وبقيت المختلطات من الضربين في جملة ما بقي. فلنتكلم في المختلطات إذا كانت إحدى مقدماتها مطلقة والأخرى ضرورية. ولنبدأ بالضرب الأول من الشكل الأول الذي من كليتين موجبتين صغراهما مطلقة وكبراهما ضرورية. مثاله كل ج بَ أي بالإطلاق، وكل بَ آ بالضرورة. فنقول: إن كل ج آ بالضرورة، ونقول أولا: إنا قد كنا نأخذ المطلقة فيما سلف عامة لما بالضرورة ولما ليس بالضرورة، وإذا أخذناها الآن كذلك اختلط، فما كان من ذلك يوافق مادة الضرورة كان حكمها حكم الضرورة، وما يوافق مادة لا ضرورة فيها اختلف. فليعن ههنا بالمطلقات، ما كان من المطلقات غير ضروري. فما كان يلزم من خلطها بالضرورة نتيجة ضرورية،علمت أن ذلك حكم الخلط الذي من المطلقة العامة. وما كان يلزم منها مطلقة، علمت أنك لو أخذتها عامة لزمت مطلقة عامة ولم تلزم ضرورية. ثم تكون المسافة مقربة. فإنه لو كانت المطلقة العامة توجب ضرورة، لكانت توجد في كل جزئ هلا. فكانت توجد في هذه الخاصة التي هي جزئية تحت العامة. فنقول: إن قوما تعجبوا من كون هذه النتيجة ضرورية، واستبعدوا هذا المذهب وإنما غرهم شيء واحد، وذلك لأنهم حسبوا أن الضروري ههنا كا ما كان ضروريا ما دام ذات الموضوع موجودا، أو ضروريا ما دام موصوفا بما يوصف به. حتى إذا قيل: إن كل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر، حسبوه ضروريا حقيقيا. وكذلك إذا قيل: بالضرورة لا شيء من الأبيض أسود، حسبوه ضروريا حقيقيا. وكانوا إذا قالوا: زيد أبيض، وكل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر، لم ينتج لهم: أن زيدا ذو لون مفرق للبصر بالضرورة، وإلا فزيد أبيض بالضرورة. فكذلك إنما كان ينتج لهم في مثال الأسود أن زيدا ليس أسود لا بالضرورة. وكل هذا لأنهم لم يشتغلوا باستثبات حقيقة المقول على الكل قولا ضروريا، حتى يفطنوا للفرق بين قولنا: كل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر. إذا معناه ما يوصف بأنه أبيض، كيف وصف بأنه أبيض، فإنه ما دام ذاته موجودا، كان أبيض أو لم يكن أبيض، فهو ذو لون مفرق للبصر. أو كل ما يوصف بأنه أبيض كيف كان فما دام أبيض فبالضرورة هو ذو لون مفرق للبصر، أو بالضرورة ليس بأسود. وأنت تعلم مما سلف لك أن بين الاعتبارات فرقانا، وكيف أولها كاذب. ولو كانوا قالوا في كبراهم: إن كل أبيض بالضرورة فهو ذو لون مفرق للبصر بالضرورة، لكان أبيض حقا. لكن لم يكن الحق الأوسط حينئذ مشتركا فيه، وذلك لأن الأبيض بالضرورة ليس محمولا على زيد، بل الأبيض الذي ليس بالضرورة أو الأبيض بلا شرط، فإن حذفوا هذه الزيادة كانت الكبرى كاذبة. لأن لا يمكنك أن تقولا: إن كل أبيض بالضرورة أو بغير الضرورة فهو ذو لون مفرق للبصر بالضرورة. فقولك: " كل أبيض " يشملها جميعا، فلا يمكن أن نقول: كل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر. لكن العادة المجازية هي التي غلطته. فإذا قلنا: كل ج بَ، ثم قلنا: كل ما هو بَ بالضرورة أو بغير الضرورة بعد أن يكون بَ كان وقتا ما أو دائما فهو آ بالضرورة دائما، دخل ج في المقول على الكل. فكذلك إذا قلنا: كل بَ مطلقا الذي يعمهما جميعا، فوجب أن يكون كل ج آ بالضرورة.(1/240)
الضرب الثاني كذلك. ولكن الكبرى مطلقة تنتج مطلقة. مثاله كل ج بَ بالضرورة، وكل ما هو بَ فهو آ بالإطلاق، فكل ج آ بالإطلاق؛ لأنه قد حكم على كل ما هو بَ بالضرورة أو غير الضرورة أنه بالإطلاق آ، فيكون كل ج آ بالإطلاق. وهذه المطلقة لا يصح أن يكون معناها كل ما هو بَ فهو ما دام بَ فقط لا دائما فهو آ بالإطلاق. وذلك لأنه ليس كل ما هو بَ لا يدوم له أنه بَ؛ إذ قلنا: إن بعض ما هو بَ، وهو الذي هو جد، هو بَ بالضرورة دائما. فلا يصح إذن بعد ذلك بالقول، قولنا: كل ما يوصف ببَ يكون له آ وقتا ما، وذلك الوقت هو كونه موصوفا ببَ. فإن بعض ما يوصف ببَ يوصف به دائما. لكن يمكن أن توجد هذه المقدمة مطلقة المطلقة التي يكون فيها ضرورة ولا ضرورة، كقولنا: كل متحرك فهو متغير، ولا يصح أن نقول: إنه متغير بالضرورة، ولا مادام متحركا وليس دائما؛ بل في وقت كونه متحركا الذي لا يدوم له؛ إذ كان بعض ذلك يدوم ذاته متحركا، وبعضه لا يدوم؛ وكذلك يكون بعضه متغيرا بالضرورة، وبعض لا بالضرورة. فلا يصح أن نقو: إن الكل كذلك بالضرورة، ولا إن الكل كذلك لا بالضرورة؛ بل نقول: مطلقا. ويكون الإطلاق العام. فإذا صدقت هذه المقدمة على هذه الصفة، وكان كل ما هو بَ آ بالإطلاق من هذا الوجه، كانت النتيجة، مع أنها مطلقة ضرورية. لأن هذه النتيجة تكون مطلقة كالكبرى، أي مطلقة عامة، فيكون كل ج آ مادام موصوفا بأنه بَ، لكنه يدوم له الاتصاف ببَ، فيدوم له كونه آ. مثال ذلك: الثلج أبيض بالضرورة، وكل أبيض فإنه ملون بلون مفرق للبصر بالإطلاق كما قلنا، فكل ثلج ملون بلون مفرق للبصر دائما. فليتأمل هذا من يتعجب من إنتاج الضرورة عن صغرى مطلقة وكبرى ضرورية. فإنه يجد الضرورية تنتج عن كبرى مطلقة إذا كانت الصغرى ضرورية.
الضرب الثالث: صغراه كلية موجبة مطلقة، كبراه كلية سالبة ضرورية. مثاله: كل ج بَ بالإطلاق، ولا شيء من بَ آ بالضرورة. ينتج بالضرورة لا شيء من ج آ، كما قد علمت.
والضرب الرابع عكسه في الضرورة والإطلاق: كل ج بَ بالضرورة، ولا شي من بَ آ بالإطلاق، ينتج: لا شيء من ج آ. وعلى ما علمت في الضرب الثاني.
والخامس صغراه جزئية موجبة مطلقة، وكبراه كلية موجبة ضرورية.
والسادس عكسها في الضرورة والإطلاق.
والسابع صغراه جزئية موجبة مطلقة، وكبراه ضرورية سالبة كلية.
والثامن عكسه في الضرورة والإطلاق. والنتائج تابعة للكبرى.
واعلم أن الجزئية المطلقة لا تمنع الضرورة، ولا الجزئية الضرورية تمنع الإطلاق. فإن الجزئيتين إذا كانتا لا تتمانعان في السلب والإيجاب فكيف تتمانعان في الضرورة والإطلاق، ويمتنع فيهما المعنى المذكور في الضرب الثاني.
وأما الشكل الثاني، فالحق فيه أنه إذا اختلفت القضيتان في الضرورة والإطلاق الخاص، وكانتا كليتين، فقيل الأوسط بالضرورة على كل واحد من طرف، ثم قيل على كل واحد من الطرف الآخر بغير ضرورة، على ما جوزه صاحب الفص أيضا، فكان لأحد الطرفين حكم الأوسط عند كل موصوف، هو أنه دائم له، وعلى الآخر هو أنه ليس دائما له أي لكل واحد منه، كان الحكم سلبا أو إيجابا. فإن الطرفين متباعدان يجب سلب كل واحد منهما عن الآخر. وكذلك إن كانت الصغرى جزئية. فإن البعض الذي فيها مسلوب عن الطرف الأكثر؛ إذا كان ذلك البعض مخالفا له في الحكم. وأنت إذا جعلت الدوام وغير الدوام جزءا من المحمول فكان الاقتران، مثلا قولك: كل ج بَ بالضرورة، وكل آ بَ لا بالضرورة، أو بالضرورة لا شيء من ج بَ، ولا شيء من آ بَ سلبا هو في كل واحد بالضرورة؛ أمكن أن تقول: كل ما يقال له آ، فيحمل عليه أنه دائما بَ. ولا شيء مما يقال له ج يحمل عليه أنه دائما بَ، فينتج أنه لا شيء من ج آ. وكذلك لو قلت كل ما قال له ج فهو شيء، ذلك الشيء يسلب دائما عنه أنه بَ، وليس شيء مما يقال عليه آ فهو شيء ذلك الشيء يسلب دائما عنه أنه بَ، أنتج أنه ليس آ بَ، وذلك بالضرورة. فإنك يمكنك أن تزيد جهة الضرورة في جميع ذلك، وينتج ضرورية. وأما إذا أخذت العامة مطلقة، لم جب أن ينتج من موجبتين أو سالبتين، لأنه يمكن أن تكون هذه المطلقة تصدق على ضرورية، وفي تلك المادة لا تجب نتيجة. وهذا معنى أنه لا ينتج. فلنعد إلى اقتصاص المشهور في ذلك.(1/241)
الضرب الأول من ذلك: كل ج بَ بالإطلاق، وبالضرورة لا شيء من آ بَ، فينعكس إلى الأول: فينتج: أنه بالضرورة لا شيء من ج آ. وهذا لا منازعة فيه.
والثاني أن تجعل السالبة الضرورية صغرى.
وأما الثالث فمثل قولنا: كل ج بَ بالضرورة، ولا شيء من آ بَ بالإطلاق الغير الضروري. وليكن مما ينعكس حتى يكون فيه تمام المقارنة. ومما ينعكس مما ليس بضروري لا يجوز أن يكون إلا نوعا ما من المطلقة الصرفة، أو يكون بمعنى ما حصل في الوجود وقتا ما، حتى ينعكس على نحو ما قيل.
فأما إن كانت الكبرى مطلقة بالمعنى الأول فقد علم أنها إذا انعكست صارت ولا شيء من بَ آ، مادام موصوفا بأنه بَ، وكل ج بَ دائما، فينتج كما علمت ضرورية.
وأما إن كانت على الجهة الثانية فتكون حقيقة التأليف فيها أن كل ج في كل وقت وزمان، فإنه موصوف بأنه بَ دائما مادام ذاته موجودا لا مادام موصوفا بأنه بَ فقط. ولا شيء من الموجودين آ في زمان ما موجود له أنه بَ. فيجب أن يمتنع أن يكون شيء من ج آ، عند كون القضية السالبة صحيحة موجودة، وإلا لكان في كل زمان يوجد فيه ذاته يوجد له أنه بَ، وفي هذا الزمان أيضا. ويُشبه أن لا يحسن أن تعكس هذه المقدمة عكسا، حتى يتألف منه قياس في الكل الأول على جهة أن يقال: كل ج كيف كان فإنه موصوف بأنه بَ دائما، وكل بَ كيف كان مسلوبا عنه آ في هذا الوقت. فإن الكبرى حينئذ - فيما أحسب - لا تكون مطلقة على أحد المذهبين، بل إنما يجب أن يقال: كل بَ موجود في هذا الوقت مسلوب عنه آ. فحينئذ لا يجب أن يدخل ج تحت بَ. فربما لم يكن ج موصوفا بأنه بَ في هذا الوقت، إذا لم يكن ذاته موجودا في هذا الوقت. فعلى طريقتهم - حينئذ - لا تكون النتيجة مطلقة على شرط وجود الموضوع. نعم إن كان ج موجودا في هذا الوقت فيسلب عنه أنه آ في هذا الوقت، ولا يلزم أن يسلب عنه في كل وقت. مثلا إذا كان ج أبيض دائما، ثم اتفق في وقت ما أن لم يكن شيء من المتحركين أو من الباآت أبيض، فيكون حينئذ لا شيء من ج الموجود في ذلك الوقت ببناء في ذلك الوقت لا في كل وقت. فتكون النتيجة مطلقة على نحو استعمالهم الإطلاق. فهذه الاتفاقات كلها إذا اتفقت أنتجت هذه النتيجة. لكن ليس يجب من نفس الأمر أن يتفق هذه الاتفاقات. وذلك أنا إذا قلنا: كل اون كسوف فإنه بالضرورة أسود؛ ثم اتفق في وقت إن لم يكن شيء من ألوان الأجرام السماوية سوداوا، إذ هذه على هذه الطريقة وجودي، لم يجب من هذا أن يسلب السواد عن الكسوفات الموجودة في الوقت حتى تكون القضية وجودية. فربما لم تكن كسوفات موجودة حتى يسلب عنها. وأيضا لم يجب أن ينعكس، فيقال: ولا واحد مما هو سواد موجود هو لون الفلك. فربما لم يكن حينئذ سواد موجود لأنهم يجوزون أن يقول القائل: ليس شيء من الألوان سوادا، أي في وقت ما. وفي ذلك الوقت يصدق أن يقال: لا شيء من الألوان السماوية بسواد. ويكون القول حينئذ صادقات مطلقا. ثم لا ينعكس هذا حتى يرجع إلى الشكل الأول.
ولكن لقائل أن يقول: إن هذا السلب الكلي صاد، وليس الشرط أن يكون الموضوع موجودا في الوقت إلا في الموجب؛ لأن الإيجاب في وقت معين لا يكون إلا على موجود في ذلك الوقت. وأما السلب فقد يصدق على الموجود والمعدوم. فربما صدق عليهما في كل وقت، وربما صدق في وقت معين. والاعتبار مقصور على صدق الحكم على الموضوع. فإن كان دائما فهو ضروري، وإن كان موجودا، ولكن في وقت ما، فهو مطلق وجودي. ثم قولنا: كل بَ كيف كان، فإنه مسلوب عنه آ في هذا الوقت، قول صادق في هذا الوقت. إذا لم يوجد في هذا الوقت بَ موصوفا بأنه آ، سواء كانت ألبا آت موجودة أو معدومة لا توصف بآ. فإن المعدومات لا توص بآ. والموجودات إذا لم توصف مع ذلك بآ، لم يكن في ذلك الوقت شيء هو بَ وهو آ. فيصدق السلب الكلي في الوقت، بل لهم أن ينحرفا عن هذا إلى طريقة لهم قريبة من هذا في هذا الباب كنا أومأنا إليها فيما سلف. ويلزمنا الآن أن نذكرها لهم، وذلك لأن للقائل منهم أن يقول: إنا إذا قلنا كل ج هو بَ بالوجود، أي في قوت ما، لا يجعل الوجود باعتبار و أحد واحد من الموصوفات، بل يجعل الوجود للحصر، فإنا إذا قلنا: كل ج بَ بالوجود يفهم منه معنيان.(1/242)
أحدهما، أنه قد وجد إن كان الصدق هو قولنا: إن كل ج بَ بعدما لم يجب ذلك في نفس الأمر؛ لأنه ربما كذب هذا الحصر في وقت آخر. ولا يلتفت في ذلك إلى حال بَ من ج، أنه هل هو لواحد واحد منها وجودي أو ضروري. مثاله أنا إذا قلنا في وقت من الأوقات لا بياض فيه ولا حمرة ولا شيء من الأوساط إن أمكن؛ إن كل لون فهو سواد، وصدق هذا في ذلك الوقت، ولم يكن صدقا ضروريا، لم يعن أن كل واحد مما هو موصوف بأنه لون فإنه موجود له وجودا غير ضروري أنه سواد، حتى يجوز أن يبقى ذلك الواحد موجود الذات أو موجودا لونا وقد زال عنه أنه سواد، حتى يكون كأن حكمنا أيضا أن كل واحد مما يوصف بأنه لون في ذلك الوقت ليس دائما مادام موجودا لذات فهو سود؛ كلا. فإن الوجود الغير الضروري في قولنا هذا إنما يعتبر في صدق الحصر، لا في أن المحمول غير ضروري لواحد،أو لكل.
كذلك لا يلتفت في السالب إلى وجود الموضوع؛ بل إلى وجود صدق السالب الكلي، وإن كان لا بد من وجود الموضوع في الموجب حتى يصدق الحصر، ولا بد من ذلك في السالب. فإنه إذا كان لا شيء من الألوان في وقت ما بياضا، ولا شيء من المتوسطات؛ بل كانت الألوان كلها سوادا، ولك يكن لون البتة، صدق أن لا شيء من الألوان في وقت مت بياض، أي في ذلك الوقت؛ لأن المعدوم لا يوصف بأنه بياض ولا بشيء من الموجبات. وإذا لم يصدق الإيجاب، صدق السلب ضرورة. فإذا راعينا ما نقوله، والتفتنا إلى وجود الصدق في الحصر، مكنا أن نعكس هذه القضية. فإن سلكوا هذه الطريقة، يكون قد كثروا على أنفسهم أصناف القضايا، وحادوا عن الطريقة المثلى، بما إذا تأملت بعض ما سلف لك وقفت عليه. فإذا كان كل كسوف قمري سوادا، وكان لا شيء من الكسوفات القمرية في وقت ما بسواد لأن الكسوفات كانت معدومة، فيكون لا شيء من كسوفات القمر في وقت ما بكسوف، وكذلك لا شيء من الناس بناس، وكذلك في كل واحد من الأمور. وليس له أن يقول: إن معناه لا شيء من كسوفات القمر في وقت ما بكسوف موجود، فإنه لم تكن كسوفات القمر من حيث أخذت حدا أكبر مأخوذة على أنها موجودة. لكن له أن يقول: إني في كل موضع إنما اعتبر في المحمولات التي في المقدمات السالبة المطلقة أن تكون موجودة في ذلك الوقت فتثبت بعد ذلك أو لا تسلب، وزلا أعتبر ذلك في الموضوعات للسلب. فسنسلم له ذلك.(1/243)
وإنما طولنا الترديد في هذا الباب، لنزيد المتعلم استبصارا في هذا المعنى، بكثرة الإحترازات التي يحتاج أن يراعي في ترويج هذا المذهب، بعد ما فيه من ضياع مقدمات ووجوه فاضلة، مما قد وقف عليه قبل. فنقول: أنه إذا كانت المطلقات على هذه الصفات ، أمكن أن يكون نتيجة مطلقة على هذه الصفة، ولا يبالي فيها بأن تكون القضايا في أنفسها ضرورية أو غير ضرورية؛ بل يكون الالتفات إلى الحصر، حتى إذا حقا أن بعض الألوان أسود بالضرورة، وبعض الحيوان إنسان بالضرورة، وبقي البعض من الحيوان الذي هو إنسان بالضرورة، والبعض من الألوان الذي هو أسود بالضرورة، وكان حقا أن كل حيوان حينئذ إنسان أو كل لون أسود، فكان الحمل ضروريا والمقدمة غير ضرورية. وذلك لأن صدق الحصر اتفق اتفاقا وكان لا بالضرورة؛ بل مطلقا مثل صدق قولنا: كل حيوان إنسا،. فإنه وإن كان حمل الإنسان على كل واحد من أولئك الموصوفات بأنها حيوانات ضروريا، فإن صدق الحصر ليس بضروري. فيجب أيضا أن يكون قولنا: كل حيوان متحرك بالفعل يكون بالضرورة؛ إذ يجب أن لا يلتفت إلى حال حيوان حيوان؛ بل إلى صدق القول بأن كل حيوان فإنه متحرك وقتا ما أو متنفس وقتا ما. فيكون هذا الصدق موجودا في كل زمان، فإنك في كل زمان إذا قات: إن كل حيوان موجود له الحركة، لا ما دام ذاته موجوداً كما بل حينما يتحرك كما يكون صادقاً. ولا يكون هذا القول في وقت من الأوقات كاذباً. نعم يكون في وقت من الأوقات ليس كل حيوان متحركاً. وهذا لا يناقض ذلك. فإنه في الوقت الذي يصدق أنه ليس كل حيوان متحركاً، أي في الوقت يصدق أيضاً أن كل حيوان متحرك أو متنفس وقتاً من الأوقات في وجوده، فإن هذا يصدق في كل وقت، وإن كان حيوان لا يتحرك في وقت، إذ هذا لم يوجب الحركة في كل وقت. ويناقض بأن لا يكون حركة في وقت. فبالحري أن تكون هذه القضية الكلية ليست مطلقة، بل ضرورية. وهم يأخذونها مطلقة، ولا يأخذونها ضرورية البتة. وكذلك قولهم: - كل متحرك متغير يجب أن لا تكون مطلقة، بل ضرورية. وقد أخذها بعضهم مطلقة. وصدق من جعل هذه كبرى في الأول مطلقة، فأنتج نتيجة مطلقة. وأيضا فماذا يقولون في قول القائل: بعض الحيوان إنسان بالضرورة، وبعض اللون سواد بالضرورة؟ هل هي ضرورية أو مطلقة؟ لكنهم معترفون بأن هذه القضية الجزئية يجب أن تكون صادقة في كل وقت، ونقيضها كاذبا في كل وقت. فنجدهم قد نسوا السور فهم غير ملتفين إلى السور. وكذلك قولنا: بالضرورة ليس كل حيوان إنسانا، فإنهم معترفون بأن هذه القضية ضرورية. يجب أن يكون جميع ذلك مطلقا إن كانت الضرورة إنما تراعي في صدق السور، لا في اعتبار الحال بين المحمول والموضوع. فإن كان الاعتبار هو السور، فصدق هذا السور ليس ضروريا. وذلك لأنهم يسلمون أنه قد يصدق وقتا آخر أن كل حيوان إنسان،، ولا شيء من الحيوان بإنسان. فيكون صدق هاتين القضيتين وجوديا من جهة سوره في كل وقت. وكذلك أيضا إذا قلنا: كل إنسان حيوان فإنهم كلهم يعترفون بأن هذه القضية ضرورية. وعلى أصلهم، فإنها لا تكون ضرورية، بل تكون لو توهمنا لا إنسان موجودا - على ما يفعلون وهو يقولون - لم يكون أحد من الناس حيوانا، على قياس قولهم: إن قولنا ليس ولا شيء من الكسوفات بكسوف، أيّ كسوف موجود، قول حق. وإذا كان يصح عندهم أن يكون قولنا: كل حيوان أعجم صادقا في وقت من الأوقات، حين ما لا يكون إنسان البتة بموجود، وإذ يصح سلب الحيوان عن الإنسان الذي ليس بموجود، فيصح حينئذ أن يقال: ليس أحد من الناس بحيوان. فلا يكون إذن صدق قولنا: كل إنسان حيوان، صدقا دائما، بل إنما يكون صدقا وقتا ما، فلا تكون هذه المقدمة ضرورية. فكان يجب أن يمنعوا كون هذه القضايا ضرورية، مع اعتقاد المذهب الذي لهم. وعلى أن لهم أن يقولوا: إنا لو أجبنا إلى الإطلاق، راعينا الوقت الذي نتكلم فيه. وأما في الضرورة والإمكان فيراعى شيء آخر، فيكونون قد شوشوا على نفسهم.
فهذه الأبحاث وما يشبهها صرفتنا عن الالتفات إلى هذا الرأي، وسنستقصي ما يجب أن يقال من الزيادة على ما قلناه في أبحاث اللواحق. فقد بان أن هذه القرينة تنتج ضرورية. وكذلك القول في الرابع، إذا كانت الكبرى موجبة مطلقة.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في تعقب النظر في الحجج على كون النتيجة مطلقة(1/244)
لكننا مع ذاك نبحث عن الحجج المذكورة في إيجاب كون النتيجة مطلقة ونقضي فيها بما يبلغه منتهى معرفتنا، فأحد حججهم عكس المطلقة إلى الشكل الأول، وقد علمت ما في ذلك. لأنك قد علمت أن الكبرى في الشكل الأول إذا كانت مطلقة وبحيث تكون عكس سالبة مطلقة يجب عكسها. فإن النتيجة في الشكل الأول تكون ضرورية، وإن كانت الكبرى مطلقة. وأما الطريقة من الخلف التي قيلت في تبيين ما ادعوه من إنتاج مطلقة من تأليف سالبة كلية صغرى وكلية موجبة كبرى، وأنه ينتج سالبة كلية مطلقة، قائلين: إنه لو كان بالاضطرار ليس ولا شيء من ج آ، لكان بالاضطرار ليس و لا شيء من آ ج، ويصح أن يقال: بعض بَ آ، فيكون بالاضطرار ليس كل بَ ج، إذا كان لا شيء من ج بَ بغير اضطرار، فلا مانع أن يكون لا شيء من بَ ج الذي هو عكسه بغير اضطرار، فلا يكون السلب ضروريا في شيء البتة. وحينئذ لا يكون مانع عن أن يكون كل بَ ج. وقد وجب ما فرض ما فرضناه أنه بالاضطرار ليس كل بَ ج .
فأول ما يقال لهم هو أنه ليس إذا لم يكن مانع عن أن يكون إذا كان لا شيء من ج بَ بغير اضطرار، كان عكسه بغير اضطرار، حتى يصدق معه في نفس الأمر أن كل بَ ج، يجب أن لا يكون في مادة من المواد مانع من ذلك. وهب أنه لا مانع في موضع ما من ذلك، فلم حيث يوجد تأليف مثل هذا التأليف لا تكون الحاجة الواقعة إلى المواد المتألفة بهذا التأليف مختصة بمواد فيها هذا المانع. فعسى أنه إذا صدق أن كل بَ ج بالضرورة، كان هذا مانعا أن يصدق ذلك الانعكاس، فيصدق بعده قولنا: كل بَ ج. فلنترك أن كل ما هو بَ يمكن أن يكون ج، ونترك مع ذلك أنه صدق سلب المطلق أن لا شيء من ج بَ، ثم لنتأمل هل يصح ذلك؟ فنقول، لا يخلو قولنا: يمكن أن يكون كل بَ ج، إما أن يعني بهذا حال صدق السور، فيكون كأنه قال: إنه ممكن في وقت من الأوقات أن يكون كل بَ ج، ففي ذلك الوقت لا يصدق أن لا شيء من ج بَ لا محالة، فيكون وقتا يصدق أن كل حيوان إنسان، وحينئذ لا يصدق أنه ليس أحد من الناس بحيوان، ولكن في وقت آخر يصدق أنه ليس أحد من الناس بحيوان، ولكن في وقت آخر يصدق أنه ليس أحد من الناس بحيوان، أو تقول في وقت يصدق مثلا أن كل أبيض إنسان، ويصدق في وقت آخر أنه ليس أحد من الناس بأبيض، لا في ذلك الوقت. فإذا ألفنا هذه الصورة؛ أن لا أحد من الحيوان أو من الأبيض بإنسان، وكل ناطق إنسان بالضرورة، أنتج أن لا أحد من الحيوان بناطق في ذلك الوقت. وكان هذا مطلقا غير ضروري. وكانت النتيجة على ما يدعونها. ولو كانت ضرورية لاستحال أن يصدق قولنا: كل حيوان إنسان، أي وقتا ما. فهذا البيان مستمر على هذا الأصل، لكن التأليف ليس منه خلط. فإن الموجب لك يكن دائم الصدق، ولم يكن ضروريا. فإنه حين ما لا يكون إنسان موجودا، لا يكون كل ناطق إنسانا موجودا، وعلى ما قد علمت. وكما جاز أن يصدق قولنا: إن كل حيوان إنسان وقتا؛ فكذلك يجوز أن يصدق وقتا أن كل يحون فرس، فلا يكون حينئذ ناطق موجودا، فلا يكون حينئذ كل ناطق إنسانا. فإذن إنما يصدق قولنا: إن كل ناطق إنسان وقتا ما، فإذن إنما نتجت المطلقة من مطلقتين.(1/245)
وإما أن لا يذهبوا إلى هذا. ولا أرى صاحب التعليم الأول ذهب إلى هذا؛ بل حرمه تحريما كليا. وإنما قصد إلى أن يكون الصدق غير ضروري باعتبار الحمل، لا باعتبار السور. فكان الغرض في قوله: لا شيء من ج بَ، أن كل واحد م ج يسلب عنه بَ وقتا ما، ولا يسلب وقتا ما، ولا يجب أن يسلب دائما، بل يجوز أن بكون بَ من خواص ج التي لا تدوم وتكون. فلينظر كيف يتالف من مثل هذا مع الضرورية قياس يلزم هذا الخلف. فنقول: إذا قلنا ليس شيء من الناس يضحك بالفعل، أي عندما لا يضحك. ثم قلنا: كل آ بالضرورة ضاحك بالفعل، حتى يكون القياس المطلوب، ما كان لنا أن نقول: كل ضحاك بالفعل إنسان، حتى يلزم: فكل آ إنسان؛ ثم يلزم: فبعض ما هو إنسان آ، وكل ما هو آ فهو ضحاك بالضرورة. فبعض ما هو إنسان هو ضاحك بالضرورة، وكان لا شيء من الناس إلا وهو مسلوب عنه الضحك، هذا خلف. فإذن إذا صدق قولنا: كل بَ ج، كان ذلك مانعا عن أن يصدق قولنا بالضرورة: كل آ بَ ، وإذا صدق قولنا كل آ بَ بالضرورة، كان ذلك مانعا عن أن يصدق أن كل بَ ج لا بالضرورة، ولو صدقا جميعا، عرض المحال المذكور. فإذن لما صدق كل بَ ج، فيجب أن يكذب كل آ بَ بالضرورة، وأن يمنع ذلك صدق هذا. فيكون في مثل هذه المادة مستحيلا أن يوجد شيء من الأشياء يوجد عليه الضحاك بالفعل بالضرورة، حتى يكون ذلك الضحاك آ. وبالحقيقة فإن الضحاك بالفعل غير معقول على غير الإنسان بوجه من الوجوه؛ وهو الإنسان غير ضروري. وكيف يمكن أن يقال على غيره وقد جعل منعكسا عليه؟ ولو قيل بالضرورة على غيره حتى كان أعم منه، لم يمكن أن ينعكس لا السلب كليا مطلقا صرفا ولا الإيجاب كليا كيف اتفق. وأما اللمثال لما يكون فيه الصدق، من جانب قولنا: كل آ بَ، ويمتنع صدق إيجاب عكس الجانب الآخر أن يجعل ج إنسانا، وبَ المتحرك بالفعل، وآ الفلك. ولا يكون لك أن تقول: إن كل متحرك بالفعل إنسان بوجه. فإذن قوله: إن هذا يمتنع، غير صحيح. فإنه إنما لا يمتنع في نفس الأمور.
وأما في تأليف هذه صفته، فيمتنع أن تكون مادة ويقع فيها: ليس شيء من ج بَ لا بالاضطرار، فلا يمكن أن ينعكس الكلي السالب فيها كليا موجبا، مساعدة للسالبتين المنعكستين اللتين تصدقان معا. ثم أوردوا لهذا مثالا من الحدود، وهو أنه: لا شيء من الأبيض بحيوان، وكل إنسان حيوان، فلا شيء من الأبيض إنسان. قالوا: فيكون صادقا أنه لا شيء من الأبيض إنسان في وقت ، أي في الوقت الذي يصدق فيه أن لا شيء من الأبيض حي. وليس صدقا بالضرورة، لأنه يمكنن يكون بعض الأبيض إنسانا، وبعض الناس أبيض. فنقول: إن هذه السالبة حي من حيبث هو أبيض؛ والثاني أن يقال: إذا لم يكن ققنس، ولا ناس في بلاد الاعتدال، ولا أنواع من الحيوان التي هي دائما بيض، بل كان إنما توجد أنواع هي بالطبع غير بيض، وأشخاص من هذا النوع لها أن تكون بيضا ولكنها الآن سود. فحينئذ يصدق: أنه لا شيء من الأبيض حي، أي في ذلك الوقت. فإن فرضوا المقدمة صادقة على هذا المفهوم الثاني لزمهم أن تكون الكبرى - كما علمت أيضا - غير ضرورية. فلا يكون التأليف على ما يدّعون. وأما الوجه الأول ففيه من الزيادة التي لا يجب أن يلتفت إليها ما قد علمت، وما قد قيل لك فيما سلف. وقد علمت أن بعض الأبيض حي بالضرورة، وأنه ليس سلب الحي عن الأبيض من حيث هو أبيض سلبا وجوديا حتى يصح أن يكون مرة الأبيض من حيث هو أبيض حيا، ومرة لا؛ فقد مضى لك هذا. فإن كل أبيض مسلوبا عنه - مادام ذاته موجودا - الحيوانية من حيث هو أبيض فإنه دائما مسلوب عنه الحيوان من حيث هو أبيض، لا يجوز أن يبقى ذاته موجودا ويكون من حيث هو أبيض محمولا عليه الحيوانية.(1/246)
فإن قال قائل: يجب أن تأخذ في اعتبارك هذا ذات الموصوف بأنه أبيض ذاتا؛ وأما قولك: إن هذه الذات مسلوب عنها الحيوانية من حيث هي أبيض دائما، كقولك: إن كذا مسلوب عنه السواد مادام أبيض، ومن حيث هو أبيض؛ وإذا كان دوام سلبك السواد من حيث هو أبيض لا يوجب أن يكون سلبا ضروريا، فكذلك دوام سلبك الحيوان هن الأبيض من حيث هو أبيض. فالجواب أن قولنا: من حيث هو أبيض، إن كان جزءا من المحمول عرض ما قلنا الآن وفيما سلف من أقاويل مضت؛ وإن كان جزءا من الموضوع، فإما أن يكون كأنك قلت الأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض بشرط التجريد، أو تكون كأنك قلت الأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض لا بشرط التجريد أو زيادة. فإن كان معناه الأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض على أنه بشرط التجريد، فإنه لا يجوز أن يكون شيء آخر يوصف به هو غيره في المعنى؛ بل يكون هو بنفسه أمرا لا يرض له أمر آخر ولا هو يعرض لأمر آخر. فلا يكون شيء يوصف بالأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض بشرط التجريد هو إنسان أو فرس أو غير ذلك، فإنه لا يكون إنسان أو فرس أو شيء من الأشياء هو أبيض، بشرط أن لا شيء هو غير الأبيض من حيث هو أبيض. فلا يكون إذن هو عارضا لذات حتى يكون هناك معنيان: معنى الذات في نفسها، ومعنى لها مادامت موصوفا بهذا الوصف. حتى إذا كان السلب مع هذا الوصف لم يكن ضروريا مطلقا؛ بل هي نفس الذات المسلوب عنها دائما كل وقت. فإن الأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض بشرط التجريد، مسلوب عنه كل شيء من الأشياء له مفهوم غير مفهومه سلبا دائما. فإذن كل سلب عنه فهو سلب دائم، ليس وفتا عنجما يكون موصوفا بما وصف به، ووقنا لا. فهذا هو الفرق، وهذا كما يقال: إن الإنسان حيوان بالضرورة. فإنه يستوي فيه مادام ذاته موجودا، ومادام موصوفا بأنه إنسان. وإما إن أخذ الأبيض ليس بشرط التجريد، بل بلا شرط حتى يكون أن يقرن به شرائط أخرى، فالسلب المذكور كاذب. فإنه كاذب أن يقال: إن الإنسان من حيث هو شيء موصوف بأنه أبيض، مسلوب عنه الحيوانية؛ بل الشيء الموصوف بأنه أبيض غير مانع من أن يوصف أنه حيوان، وصفا ضروريا، فضلا عن الوجودي، إلا من حيث يعتبر أبيض مرفوعا عنه أنه شيء أبيض، أي شيء آخر هو الموصوف بأنه أبيض.
والفرق بين الاعتبارين أن النظر في الأبيض بلا اعتبار، شرط قد يقال: إنه نظر في الأبيض من حيث هو أبيض، المجوز فيه أن يكون أي شيء كان، موصوف بأنه أبيض. ولمكن لم يلتفت عند ذلك الوصف والاعتبار إلى شيء من تلك الأشياء التي يجوز أن تكونه. وإنما التفت إلى نفس أنه شيء أبيض الجائز أن يكون جصّا أو ثلجا أو غير ذلك. والنظر في الأبيض باعتبار شرط لا لتجريد يقال إنه نظر في الأبيض من حيث هو أبيض، وهو النظر في الشيء الأبيض المرفوع عنه أنه جص أو بياض أو له وجود آخر غير وجود أنه شيء أبيض فقط. فإذا أخذ الأبيض هكذا، سلب عنه الحيوان. وصح أن يقال: إن الأبيض المأخوذ من حيث هو أبيض بهذه الصفة ليس حيوانا. فإن اعتبر بالمعنى الأول فيكون الإببض من حيث هو أبيض المشترك فيه. فلا يقال إنه سلب عنه الحيوانية؛ بل لا يوجب حاله سلب الحيوانية عنه، ولا إثبات الحيوانية له. فلا يكون الشيء الأبيض من حيث هو أبيض بهذا المعنى ليس حيوانا؛ بل يجوز أن يكون حيوانا إلا أن يقال: إن الشيء الأبيض ليس من حيث هو شيء أبيض بهذا المعنى حيوانا، فينتقل لفظه من حيث هو أبيض إلى المحمول. فبين إن قلنا: ليس شيء مما هو أبيض حيوانا، لم يصدق بهذا المعنى، على أن يأخذ الأبيض جزءا من الموضوع. وما يشفي يكفي في هذا الأمر أن يعلم أنه لا اعتبار في تأليفاتنا ههنا بهذا البتة، أعني بالنظر في الموضوع والمحمول أنه من حيث أو ليس من حيث؛ بل أن ينظر إلى الشيء الموصوف مثلا بأنه أبيض لا يزيد شيئا آخر. فإن صح عليه الإيجاب في كل وقت، أو وقتا ما، فقد صح الإيجاب؛ و صح كذلك السلب، فقد صح السلب. وأنه إذا زيد على هذا شيء، فقد أدخل شرط الاعتبار " من حيث " ، وكان غير نفس الموضوع وحده، وغير نفس المحمول وحده، اللذين الاعتبار بهما، بل قرن بهما اعتبار أو اعتباران، فقد صارت القضية حينئذ آخرى.(1/247)
واعلم أن الفاضل الذي أكثر اشتغالي بمخاطبته مُقِرٌّ بما أقوله؛ بل المعلم ألاول مصدقا بأن الكبرى الضرورية في الشكل الأول، إذا قارنت صغرى غير ضرورية، كانت النتيجة ضرورية. فلنضع أن كل بَ ج لا بالضرورة، ولنقل كل بَ هو آ بالضرورة، ويغني ما قد وافق عليه الفاضل والمعلم الأول، وما قد علمت. فلم لا يقول واحد منهما: إن هذه ليست ضرورية، بل يجب أن يقال: كل بَ آ من حيث هو بَ بالضرورة. وإذا قال: بالضرورة ولا شيء من بَ آ، قال أيضاً: من حيث هو بَ. فإنه إذا اعتبر هذا صدق ما قال الطاعنون على من أنتج من هاتين ضرورية. وذلك لأنه قال الطاعن فيه مثل ما قاله هذا الفاضل في عكس الممكن ومثل ما قيل في هذا الموضع. فلقائل أن يقوا له عند قوله وتمثيله لإنتاج الضرورية من الاقتران المذكور - مثلا إذا أنتج: أن كل صاعد جسم بالضرورة، من قوله: كل صاعد متحرك ، وكل محرك جسم بالضرورة، فكل صاعد بالضرورة - إن النتيجة ليست ضرورية؛ لأن الصاعد من حيث هو صاعد ليس جسما بالضرورة. وكذلك لقائل آخران يقول: إن قولك في الكبرى " كل متحرك جسم بالضرورة " ليس صادقا؛ إذ ليس هو من حيث متحرك جسما بالضرورة، حتى إذا لم يكن متحركا لم يكن جسما. فإن قال: إن الأبيض يجوز من حيث اعتبار أنه أبيض أن لا يكون حيوانا؛ ولا كذلك المتحرك من حيث هو متحرك، فإنه لا يجوز أن لا يكون جسما. فنقول: لم يكن غرضنا ما ذهبت إليه؛ بل إنك كما تقول إنه ليس حيا من جهة أنه أبيض، لا نقول ليس هذا المشار إليه جسما بالضرورة من جهة ما هو متحرك، بل هو جسم بالضرورة وإن لم يكن متحركا. ثم لا يمنعك جواز قولك: إنه ليس جسما بالضرورة من جهة كونه متحركا ولأنه متحرك، أن تقول: كل متحرك جسم بالضرورة. فإن منعت فقد كبت المقدمة التي نستعملها في هذه المواضع.
فقد عرفت أن جهات الموضوع والمحمول من حيث هي زوائد بعد الحمل، وأن الإيجابات - كما علمت - تنتقل بسببها سلوبا والسلوب إيجابات؛ بل يجب أن يلتفت إلى ما جعل موضوعا، وإلى ما جُعِلَ محمولا، وإلى حمل ووضع، فإن صدق حُمِل، وإن لم يصدق لم يُحمل. وإن كانت زيادة تلحق أحدهما فيصير الكذب صدقا والصدق كبا، فقد انتقلت القضية وصارت أخرى. وأنه ليس إذا حق سلب - مع إدخال هذه الدواخل - بطل الإيجاب الذي كان أولا، أو حق إيجاب بطل السلب الذي كان أولا؛ إذ قد تغير المحمول والموضوع. فانظر فيما يسلبه أو يوجبه إلى نفس السلب والإيجاب كما هو. فإن كان صادقا وكان دائم الصدق فاحكم أنه كما هو ضروري، أو كان غير دائم الصدق فاحكم أنه كما هو مطلق. فإذا غيرت، فاستأنف الاعتبار. وفي المثال الذي نحن في اعتباره يجب أن ينظر إلى الأمور التي قال لها بيض وإلى الحيوان، فنجد الحيوان إما كاذبا سلبها عنها، أو كاذبا إيجابها عليها، أو في بعض دون ذلك، ثم يُنظر أذلك دائم فيها كلها أو بعضها أو بعض دون بعض؛ ثم إذا أخلت من جهة كذا وبشرط كذا فيعلم أن القضية صارت أخرى، وتتوخى لها حال صدق وكذب وضرورة وغير ضرورة مرة أخرى، وتترك ما مكان في يديك. وأظن أن هذا القدر كاف لمن أنصف.
الفصل الثالث
(ج)فصل
في باقي الاختلاط بينهما
الضرب الخامس: بعض ج بَ بالإطلاق، ولا شيء من آ بَ بالضرورة، وحكمه ما علمت.
الضرب السادس: بعض ج بَ بالضرورة، ولا شيء من آ بَ بالإطلاق، وحكمه المشهور ما علمت.
الضرب السابع: ليس كل بَ ج بالإطلاق، وكل آ بَ بالضرورة، والمشهور فيه ما قد علمته؛ وحدوده: ليس كل أبيض حيوانا، وكل إنسان حيوان، فليس كل أبيض إنسانا.
الضرب الثامن: ليس كل ج بَ بالضرورة، وكل آ بَ بالإطلاق؛ والحدود: بالضرورة ليس كل أبيض حيوانا، وكل إنسان حيوان. ثم قيل مع ذلك: فليست النتيجة اضطرارية.
فنقول: إنه إّا كان بعض ما هو أبيض بالضرورة ليس بحي على معنى السور، فيجب أن يصدق هذا دائما، ولا يصدق البتة أن كل أبيض حي.(1/248)
واعتبار السور يقتضي أن هذا قد يصدق على ما قد علمت. وإن كان لا على معنى السور، بل على معنى أن بعض الأشياء التي هي بيض مسلوب عنها الحيوان دائما، فكذلك حالها وأنها مسلوب عنها الإنسان دائما، فلم منع أن تكون النتيجة ضرورية؟ فلعله يجب أن يأخذ الضروري في إحدى المقدمتين ليس من جهة السور، بل من جهة الحمل. وأما المطلق منهما فيأخذه مطلقا من جهة السور حتى يكون قولنا: كل إنسان حي مطلقا، بأن يأخذه من جهة السور ولا يأخذه من جهة المحمول، فيكون قولنا: ليس كل أبيض حيوانا بالضرورة، قد اعتبرنا ضرورته في معنى الحمل؛ وقولنا: كل إنسان حيوان بالإطلاق، قد اعتبرنا إطلاقه في جهة السور، فأخذناه مطلقا من حيث هو كذلك بأن نظرنا إلى الصدق الذي اتفق أن كان: كل إنسان حيوان، الذي قد يكذب إذا عدم الناس كلهم، فلا يكون حينئذ ضروريا؛ وأخذنا ذلك ضروريا من جهة المادة، إذا كان الحيوان مسلوبا عنه بالضرورة عن بعض الأبيض فأنتج: ليس كل أبيض إنسانا، وكانت هذه النتيجة ليست ضرورية من جهة السور؛ وإن كانت ضرورية من جهة المادة.
وكيف لا ويمكننا أن نلحق الضرورة بالمقدمة الموجبة فتكون النتيجة حينئذ ضرورية، فيكون حينئذ سلب الضرورة في النتيجة مأخوذا من غير الوجه المأخوذ في المقدمة الجز ئية، لأن الضرورة المأخوذة في المقدمة هي ضرورة الحمل والمادة، وسلبها في النتيجة هو سلب ضرورة السور. ولما كانت الجزئية قد تكون صادقة الضرورة وصادقة بالإمكان ولا يتمانعان، إذ بعض الأبيض ذو لون مفرق للبصر بالضرورة، وبعضه ليس بالضرورة، وهو الذي هو أبيض لا بالضرورة. ولا يبعد أن يكون قول صاحب هذا التعليم : إن النتيجة لا تكون ضرورية، معناه: أن النتيجة قد لا تكون ضرورية، أي باعتبار غير اعتبار أن النتيجة لا تكون ضرورية بحسب السور؛ بل باعتبار أنه قد يجوز أن يصدق المطلق والضروري معا في الجزئيات. فإن لم يعن هذا، قيل اقتصر على اعتبار السور، وإن عدم الضرورة هو في اعتباره. وإن كان اعتبار الحمل والمادة يوجب الضرورة، فليس هذا في الجزئي فقط؛ بل وفي الكليات أيضا. فإن ما أنتج: أن كل إنسان حيوان بالضرورة، أنتج ما قد يصير مطلقا باعتبار آخر كما قد علمت. فترى أن مشاحتنا قائلين: إن هذه تنتج ضرورية، كان على أنها لا تنتج إلا ضرورية فقط لا يصح معها مطلق. وليست تنتج مطلقة، لأنها تنتجها وحدها، وإنما بحكم أنها تنتج مطلقة إذا أنتجت مطلقة فقط. فلم لم يفعل هذا في كل موضع؟ وهلا يُقتصر على أن يُعلمونا تعليما كليا: أن كل جزئية ضرورية؟ فإنها قد تصح أن تكون مطلقة، فيحكم في جميع ذلك أنها مطلقات النتائج، ويكون هذا مفروغا منه، ليس إنما يعتبر هذا في اقتران بعينه، أو بحسب كونه نتيجة، بل كيف كانت، أو عسى أن لا يكون هذا كليا في كل موضع؛ بل عسى أن يكون من الأشياء ما لا يسلم إمكان بطلانه فلا يكون ما يتعلق ببطلانه داخلا في الإمكان حتى تصير القضية بسببه مطلقة. ولكن هذا لا يختص بقضية هي مقدمة أو قضية هي نتيجة، بل يكون هذا جائزا في جميع أصناف القضايا التي تصلح أن تؤخذ مقدمة في هذا القياس أو نتيجة؛ بل هذا الاختلاف متعلق بمادة الحدود لا بصورة تألفيها. وعسى أن يرتكب مرتكب فيقول: إن صدق المادة التي يصح منها هذه التأليف، يوجب أن تكون الضرورة ملزومة المطلقة. وهذا اقتراح ممعن في المحال. ومع هذا، فليت شعري إذا قلنا: كل أبيض فهو ذو لون مفرق للبصر، وكان هذا مطلقا صادقا، وقلنا: كل إنسان حيوان، وكان هذا مطلقا صادقا؛ فهل معنى الإطلاق فيهما شيء واحد، أو يفهم للإطلاق فيهما معنيان؟ فإن كان المعنى الجامع هو ما قلناه من المطلق العام، فيكون الفصل فيما بينهما أن أحدهما يختص بالضرورة، والآخر لا يختص بالضرورة، إذ ليس كل أبيض فهو ذو لون مفرق للبصر مادام ذاته موجودا. فيكون إنما أخذ في هذا الماثل نوع من المطلق الذي هو ضروري، فتكون النتيجة نوعا ما من المطلق الذي هو ضروري باعتبار، أي اعتبار الحمل.(1/249)
فلا يجب أن يقبل ما قيل من أنه لا يكون ضروريا لأنه مطلق، إلا أن يكون معناه لا يكون ضروري السور. ولهم أن يجعلوا المطلق الصادق وقتا ما، لا دائما، ويكون القولان مشتركين في أنهما صادقان في وقت ما، لا دائما. لكن الوقت، كقولنا: كل إنسان حيوان، وقت السور، وللآخر وقت كونه أبيض،. فوقت أحدهما الوقت الذي لم يعدم فيه الناس، ووقت الآخر الوقت الذي لم يعدم ولم يزل عنه البياض. ويكذبان جميعا في وقت، أما أحدهما فأن لا يكون الناس موجودين، وأما الآخر فأن يكون قد عدم البياض. فعلى اعتبار السور قد يستمر ما قيل.
فقد تمحلنا إذن الوجه الذي يجب أن يفهم منه عليه صدق ما قالوا تمحلا متكلفا، مع معرفتنا بأن اعتبار السور في هذه الأحكام باطل، ومع إيجابنا اعتقاد شيء وهو: أن الضرورية في المقدمة اعتبارها غير متجانس للاعتبار الذي للمطلقة في النتيجة، وأن الضروريات في المقدمة قد تصدق مطلقة، لا من جهة أن المطلق مقول عليها وأعم منها فقط، بل من جهة أنها لازمة لها باعتبار آخر بيناه. فنكون نحن حيث جعلنا نتائج هذا الاختلاط ضرورية لم نجعلها ضروريا يمنع أن يكون مطلقة، فإطلاقها لا يمنع ضروريتها. على أن الإطلاق الذي نستعمله غير هذا الإطلاق. والعم أن كطائفة من المحصلين تنبهوا لكون نتيجة هذا الضرب ضرورية، وزعموا أن هذا غلط واقع في النتيجة، وبرهنوا على أن نتيجة هذا الضرب تكون ضرورية، وبينوا ذلك بالافتراض تبيينا حقيقيا. فإن كانوا يميلون في تحقيق الضروري والمطلق ميل السور، فلا يجب أن يمنعوا كون الضروري مطلقا أيضا. وإن كانوا قد عرفوا ما هو أولى بأن يعتقد فهم على الحق، فليعتبروا ذلك أيضا في كل موضع، وليسوا يفعلون ذلك،؛ بل كثيرا ما يفزعون إليه إذا لزمهم الحق في مضيق.
وأما الشكل الأخير فالضرب الأول منه في كليتين موجبتين، والكبرى ضرورية، كقولك: كل بَ ج بالإطلاق، وكل بَ آ بالاضطرار، فالنتيجة بعض جض آ بالاضطرار، ويبين بعكس الصغرى.
والثاني عكس هذه في الجهة، وتكون النتيجة أيضا من الإضطرار عندهم، لأن الكبرى إذا عكست أنتجت بعض آ ج لاضطرار، ثم ينعكس بعض ج آ عندهم بالاضطرار، وليس ذلك بواجب بحسب الأمر؛ إذ ليس يجب أن يكون عكس إنسان يتنفس لا باضطرار، أي دائما مادام موجود الذات.
والثالث من كليتين، والكبرى سالبة ضرورية، كقولك: كل ج بَ، وبالاضطرار لا شيء من بَ آ، فبالاضطرار ليس كل ج بَ. ويبين بعكس الصغرى.
والرابع أن تكون الجهة بخلاف الثالث. فيقولون: إن كانت الجهة بالخلاف كانت النتيجة مطلقة. يتبين بعكس الصغرى. والحدود المشهورة: كل فرس حي، ولا فرس بحيوان نائم أو مستيقظ مما ليس ضروريا؛ بل يكون وقتا. وهذا القول صحيح في هذا الاقتران بعد أن يتذكر أن المادة إذا اتفقت على ما سلف لك ذكرها في مطلقة كبرى تنتج ضرورية كانت النتيجة ههنا ضرورية. لكن الإطلاق العام يعم جميع ذلك. واعلم أن عندهم أن المقدمتين إذا كانتا كليتين موجبتين، فأيهما كانت اضطرارية، فالنتيجة اضطرارية. وإلا فالعبرة للسالبة.
والخامسة أن يكون التأليف من صغرى جزئية موجبة مطلقة، كبراها كلية ضرورية سالبة. فلا شك أن النتيجة ضرورية.
والسادس أن يكون الكلي الضروري صغرى، فينتج عندهم ضروريا للعكسين. وليس ذلك بواجب؛ بل ينتج مطلقة تبين بالافتراض، بأن يعين البعض من بَ الذي هو بالإطلاق وليكن دَ، ويعمل ما علمت.
والسابع بعض ج بَ بالاضطرار، وكل بَ آ بالإطلاق لا بالاضطرار، وينتج مطلقة بعكس الصغرى وعلى الشرط المذكور.(1/250)
والثامن من كل ج بَ بالإطلاق، وبعض بَ آ بالضرورة، تنتج عندهم مطلقة فقط. وبينوا ذلك بالعكسين. وليس ذلك كما علمت بواجب؛ بل الافتراض يوجب أن تكون النتيجة ضرورية. وأما أمثالهم: أن كل حي مستيقظ، وبعض الحي ذو رجلين بالضرورة، ولا يجب أن يكون بعض المستيقظ ذا رجلين بالضرورة. فيقول الحق إن بعض ما يقال له إنه مستيقظ فإنه موصوف بإنه ذو رجلين دائما، قيل له إنه متيقظ أو لم يقل، والبعض الآخر بالضرورة ليس بذي رجلين. فمنهم من قال: إن بعض المستيقظ وإن كان ذا رجلين، فليس من جهة ما هو ذو رجلين. وقد علمت ما في هذا. ولكن لا يمنع كونه ضرورية أن تكون مطلقة أيضا على الوجه الذي باعتبار السور؛ إذ قولنا: إن بعض المستيقظ ذو رجلين، ليس بدائم الصدق. فيكون إنما أورد المثال على هذه الجهة.
وأما التاسع فأن تكون السالبة كلية اضطرارية، فتنتج لا محالة اضرارية، كقولنا: بعض بَ ج، وبالاضطرار لا شيء من بَ آ، فبيّن بعكس الصغرى أن الاضطرار ليس كل ج آ.
والعاشر أن تكون الصغرى موجبة كلية اضطرارية، والكبرى سالبة كلية مطلقة، فالنتيجة مطلقة. يبين لك بالعكس وبالحدود، كقولك: بالضرورة كل إنسان حي، وليس كل إنسان بمستيقظ، ويبين بالافتراض.
وأما الحادي عشر فأن تكون الصغرى موجبة جزئية اضطرارية، والكبرى سالبة كلية مطلقة، فتكون النتيجة سالبة مطلقة.
والثاني عشر أن تكون الصغرى كلية موجبة مطلقة، والكبرى جزئية سالبة اضطرارية. فالمشهور أنه تنتج مطلقة بحدود هي هذه: كل ذي رجلين حي بالإطلاق، وبالضرورة ليس كل ذي رجلين متحركا. وهذه الحدود لا يبعد أن يكون قد وقع فيها السهو، إذ كان الحق أن يقال: وليس بالضرورة كل ذي رجلين متحركا. فأخذت السالبة الضرورية بدل الضرورية السالبة، وفي بعض النسخ: كل ي رجلين متحرك بالإطلاق، وبالضرورة بعض ذي رجلين ليس إنسانا، فينتج ليس كل متحرك إنسانا. قالوا: وذلك بالإطلاق وحده الإطلاق السوري؛ لأن هذا الصدق قد يزول فيكون كل متحرك إنسانا. لكن كيف كان، فإن هذا الإطلاق لا يمنع صدق الضرورة. ولا شك في صدق قولنا: بعض ما هو متحرك فهو بالضرورة ليس إنسانا كالفرس والسماء. فقد جعلت العبرة للكلية في هذا الموضع.
الفصل الرابع
(د) فصل
في حد الممكن
وتعريف المقدمة الكلية الممكنة وذكر عكسها
قد تكلمنا في القياسات المؤلفة من المقدمات الوجودية والاضطرارية صرفها ومختلطها، فبقي أن نتكلم في القياسات التي مقدماتها ممكنة صرفة أو مختلطة، وقبل ذلك يجب علينا أن نتلكم في حد الممكن والفرق بينه وبين الوجودي والمطلق، وتعريف المقدمة الممكنة الحقيقية، وتعريف عكسها.
فنقول: قد ظن بعض الناس أن النظر في القياسات المؤلفة من الممكنات هذر. ولو فكر لعلم أن تأليف القياسات من المقدمات الممكنة ليست هذرا. فإن المطالب الممكنة لا تثبت إلا من مقدمات ممكنة. وكما يلزم البحث عن أمور ضرورية وعن أمور وجودية؛ فكذلك قد يبحث عن أمور ممكنة. وإذا أردنا أن نبين لك شيئا من الأشياء ليس بمحال، احتجنا أن نبين ذلك في أكثر الأمر بمقدمات أولية.فالحاجة إلى القياسات المؤلفة من الممكنات ماسة. والذي يقال من أن الفيلسوف إنما يبحث عن الأمور الدائمة والأمور الأكثرية وليس يبحث عن الأمور المساوية، لم يفهمه كثير من الناس على واجبه؛ بل يجب أن يفهم أن معناه أن الفيلسوف إنما لا يبحث عما خلا الضرورة والأكثرية إذا بحث عن الأشياء من حيث وجودها. وأما من حيث كونها ممكنة فيبحث عن كل ممكن، وأما إذا راعى أمر الوجود والحصول، لا أمر الإمكان، التفت إلى الأمور الدائمة والأمور التي في الأكثر. وكذلك حال الجمهور أيضا في الأمور التي يتوقعونها من حيث وجودها إنما يتوقعون أمرا واجبا أو أكثريا، أي في أن يكون له وجود. وأما إذا تركوا أمر التوقع بحثوا عن المكن أيضا. وأما الأمور الأقلية والمتساوية فلا يتوقعونها ولا يشتغلون بها إلا على وجه آخر، وهو وجه الاحتراز والقياسات الطبية والعلاجية. والمقدمات التي في كتبهم كلها ممكنة أكثرية، وقد أخذت على أنها موجودة، كما في الكتاب المنسوب إلى بقراط المعروف بكتاب الفصول، وغير ذلك من كتبهم. والعجب من الطبيب الفاضل الذي رأى النظر في ذلك فضلا، وهو نظره من حيث هو طبيب. ونحن نستقصي القول في هذا عن قريب.(1/251)
وقد علمت فيما مضى لك أن الممكن يقال عند العامة على معنى، وعند الخاصة على معنى آخر، وأن الممكن عند العامة مطابق لمعنى غير المممتنع، وعند الخاصة لغير الضروري. وأن الخاصة أيضا تستعمل المكن على وجوه، فيقولون: ممكن، لما كان غير الضروري المطلق الحقيقي، وهو الأمر الذي إذا قيس بالموضوع لم يكن دائما الوجود ولا دائم العدم، سواء كان في طبيعة الموضوع ما يقاضي وجوده له أو لا وجوده وقتا ما معينا كالكسوف، أو غير معين كالتنفس، أو كان لا يقتضي ذلك، بل يعرض له اتفاقا ولأسباب خارجة مثل الحركة وغير ذلك. وجميع أصناف المطلق الخاص تدخل فيه، ويقال لما هو أخص من هذا، وهو الذي يكون غير دائم الوجود، ولا دائم العدم، ولا في طبيعة الموضوع، ما يجعله ضروريا في وقت وحال، ولا يجب بالجملة كونه أو لا كونه له إلا أن يشترط شرط غير وجود ذات الموضوع وما تقتضيه ذات. ومثال ذلك: أنا إذا نظرنا إلى الإنسان ونظرنا إلى الكتابة أو نظرنا إلى الصحة، لم يجب علينا أن نجعل أحد الأمرين للإنسان ليس بمعنى أنه لم يجب دائما فقط؛ بل لم يجب الحمل بوجه من الوجوه. فإن اشترطنا شرطا آخر فقلنا: مادام، أو في هذه الساعة، تعين أحدهما. أما " مادام كاتبا " فالطرف الذي هو الوجود؛ وأما " في هذه الساعة " فربما لم يعلم أحدهما الذي حصل وتعين بعينه. لكنا ندري مع ذلك أن أحدهما قد تعين، فالآخر إذن بالضرورة لا يوجد إذ وجد هذا. فأما في المستقبل فلا ندري أي طرف كذا قد يحصل بعينه فتعرفه بعينه، ولا يوجب مع ذلك أن أحد الطرفين متعين فيه بعينه وإن لم ندركه نحن، لا كما أوجبنا في الزمان الحاضر أن أحد الطرفين بعينه متعين فيه وإن كنا لا ندركه. والمستقبل إذا فرضناه حصل، كان حكمه هذا الحكم. لكنا إذا أخذنا هذا الوجه من حيث أنه لا ضرورة في طباع الموضوع أن يكون له المحمول لا دائما ولا وقتا، دخل فيه الموجود والمستقبل جميعا. فإن الموجود ليست له هذه الضرورة؛ بل الضرورة الواقعة إنما هي بسبب أمر غريب. فإذن كان معنى الممكن بهذا الاعتبار، وهو أن لا ضرورة فيه بحسب طباع الموضوع أو المحمول، دخل فيه ما ضرورته من خارج وما لم يتعين فيه ضرورة. فبعض أصناف المطلق دون بعض يدخل في هذا الممكن، والمعنى الثالث من معاني الممكن عند الخاص هو الذي لا ضرورة فيه بوجه من الوجوه وهو الذي لا على الإطلاق له ضرورة ولا بشرط ما. ومثال هذا الأمر الذي لا يوجبه وقت معين إيجابه في الكسوف أو لا يوجبه وقت وإن كان غير معين كالتنفس، أو الأمر الذي لا يوجبه شرط ملحق من خارج إيجابه في الكتابة بشرط كونها حاصلة. فالأولان، أعني الكسوف والتنفس، مطلقان لا يكونا ممكنين بهذا المعنى. فما وجود الكتابة فهي قد تكون ممكنة بهذا المعنى، وقد تكون مطلقة لا ممكنة بهذا المعنى. فإنها مع الشرط الذي تصير به مطلقة أو ضرورية فلا يقال عليها هذا الممكن. وإما يترك هذا الشرط فيقال عليها هذا الممكن. فهذا الضرب مما يقال عليه الممكن أخص من الوجه الثاني الذي هو أخص من الوجه الثالث، ويكون بالقياس إلى المستقبل لا غير، ويشارك المطلق في الموضوع ويباينه في الاعتبار، ويكون من حيث الحصول مطلق، ومن حيث إنه لا ضرورة في كونه ولا كونه أي وقت فرضت في المستقبل ممكنا، ويكون الاعتباران متباينين لا يدخل أحدهما في الآخر. ويباين المطلق كل المباينة، فلا يدخل في مطلق ولا يدخل فيه مطلق، أعني بحسب الحمل، لا بحسب الوضع. فهي معان ثلاثة يقال عليها الممكن باشتراك الاسم، وهي مع ذلك، فقد يقال بعضها على بعض، حتى أن الثالث منها يقال له ممكن بثلاثة معان، وهذا من جنس الاسم المشترك الذي يتناول أمرا واحدا باعتبارات شتى.
والحدود المشهورة للممكن هي هذه: الممكن هو الذي ليس بضروري، ومتى فرض موجودا لم يعرض منه محال. وأيضا الممكن هو ما ليس بموجود، ومتى فرضته موجودا لم يعرض منه محال. وأيضا الممكن، ما ليس بضروري من غير زيادة. وأيضا الممكن هو ما ليس بموجود وليس بضروري. وأيضا الممكن هو الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد. والأصح عندنا هو الرسم الأول.(1/252)
فلنوضح الفساد في الرسوم التي بعده. فأما الزائد في رسم الممكن أنه ما ليس بموجود فلا يخلو إما أن يرسم الممكن الذي بالمعنى الأعم، فيكون قد كذب. فإنه يكون من ذاك ما هو موجود، وإما أن يكون إنما يرسم الأوسط، فقد أخطأ، فإنه ليس من شرطه أن يكون غير موجود، ولا أن يكون موجودا، بل أن لا يكون دائم الوجود أو غير الوجود، بل الغير موجود منه الذي ليس بضروري الوجود واللا وجود هو السالب المطلق، والموجود منه الذي ليس بضروري الوجود واللاوجود هو الموجب المطلق. وكلاهما داخلان تحته. وكل واحد منهما أخص منه، وإن كان إنما يرسم المعنى الثالث فالمعنى الثالث مباين للمطلق. وهذا قد جعل مطلقا من جهة السلب. فيكون كأن المطلق سلبه هو الممكن الأخص. فيبقى قسم رابع وهو المطلق إيجابه.
فما نقول فيه إن الموجود الذي ليس بضروري ومتى فرض غير موجود لم يعرض منه محال، فهل هو من هذا الممكن أم ليس ؟ فإن كان هو من هذا الممكن فقد فسد الشرط؛ وإن لم يكن منه، بل كان مطلقا في إيجابه ولم يكن كذلك ممكنا في نفسه، فتلك المقدمة أيضا مطلقة في سلبها. فيجب أن لا تكون ممكنة، وإن كان قد جعلوا الإطلاق جنسا أو شرطا للإمكان بقى الممكن الذي لا ضرورة فيه حقيقية ولا شرطية بلا رسم ولا حد. ثم إن ظن أن الوجود يجعل الممكن ضروري الوجود بشرط وأن هذا مما يجب أن يحترز عنه في الممكن الحقيقي، فلم يظن أن فرض اللا وجود يجعله أيضا ضروري أللا وجود بشرطه؟ فإن زعموا أن معنى قولهم غير الموجود هو أنه الذي لا يجب أن يوع حكمه موجودا، أو أنه الذي ليس بدائم الوجود، فليس ما قاولا صوابا. فإن قولهم هو ما ليس يجب وجوده هو، غير قولهم هو الغير الموجود، وبعد ذلك فالوجهان جميعا داخلان في قولهم ليس بضر وري. فما الحاجة إلى تكرير ذلك في الحد.
وبالجملة فإن غير الموجود كالجنس لأمرين فقط، فإن غير الموجود إما أن يكون دائما فيكون: المحال والضروري العدم، وإما أن يكون غير دائم فيكون: المطلق السلب. ولا يدخل فيه غيرهما مما ليس نوعا لهما. فهؤلاء إذن لم يحسنوا فيما فعلوا.
وأما الذي يقال من الممكن هو ما ليس بضروري من غير زيادة، فإذا عُني به ما ليس ضروري الوجود وغير الوجود، كان هذا القول مطابقا للممكن. أما الخاص إن عُني به سلب ضرورية الدوام بلا شرط، والأخص جدا إن عَنَى سلب جميع وجوه الضرورة، وإن عُني به أنه ليس ضروري الحكم الذي يقال له إنه ممكن إيجابا كان أو سلبا، لم يتم حتى يقال: وإذا فرض ذلك الحكم موجودا لم يعرض منه محال. وقد فهم بعضهم من الضروري الواجب الوجود. وقد زلّ. فإن الضروري في هذا الفن من المنطق يعنى به معنى أعم من وجوب الوجود، وإلا لكانت المقدمات أربعا: ضرورية واجبة، وأخرى ممتنعة، ومطلقة، وممكنة. وأنت تقف من هذا على ما تضمنه الرسوم التي تتلو هذا، وأشنعها قولهم: إن الممكن هو الذي يتهيأ أن يوجد وأن لا يوجد. فإن لفظ يتهيأ يرادف الممكن، وفيه من الاشتراك ما فيه . وله وجه واحد حسن يمكن أن يصرف إليه، وهو أن يكون المحدود هو المكن الخاص. ويجد في الشيء الذي هو كالجنس له وهو الممكن العام. ويكون المفهوم من لفظة يتهيأ ما يفهم عند الجمهور. وليس يفهم عند الجمهور من لفظة يتهيأ ولا من لفظة الممكن ما يفهم عند الخاصة. فلو أن أحدا أخذ المعنى العامي في حد الخاص لم يعنّف. لكنه يكون قد أوهم من حيث اللفظ أن الممكن أخذ في حد نفسه، مثل ما عرض في باب المضاف، وعلى ما علمته. فإذا أُخذ بدل المكن العام اسم مرادف للمكن العام يدل على المعنى المراد بالممكن العام، ولم يجد الخاصة استعملوه كثيرا استعمالا مرادفا للممكن المحدود، يكون هذا الإيهام قد زال. فيكون كأنه قال: إن الممكن الخاص ما ليس ممتنعا كونه، ولا ممتنعا لا كونه. ويكون هذات بلإزاء قولهم: إن الممكن الخاص ما ليس بضروري.(1/253)
فأما الرسم الأول فهو أوثق الرسوم وأحفظها للمذهب في الصناعة. فأما إذا فهم إنسان هذا القول على أنه رسم الممكن من حيث هو ممكن، وفهم من الممكن ما ليس بضروري الوجود، ولا غير الوجود، صار ما قيل بعد، من أنه إذا فرض موجودا لم يعرض منه محال، أمرًا كالمستغنى عنه. وإنما أورد كنافع وخاصةٍ، لا على أنه جزء رسم. لكن الأولى عندنا أن يقال: إن هذا التجديد هو للحكم الممكن. فإن الحاجة ههنا إنما هي إلى تحديد جهات القضايا. فكأنه يقول: إن الممكن من القضايا هو ما ليس ضروري الحكم، المحكوم به من إيجاب أو سلب أيهما كان حكم به. فيدخل في هذا الممتنع. فإذا قال: ومتى فرض ذلك الحكم الموجب أو السالب موجودا أو حاصلا على نحو ما حكم به لم يعرض منه محال، ثم الرسمُ مساويا للمرسوم. ويكون الرسم إنما يتم بجزئين. فحينئذ إن عنى بالضروري الضروريَ الحقيقي، كان هذا الرسم للمكن الخاص؛ وإن عُنى بالضروري أيَّ ضروري كان بشرطٍ أو بغير شرط، كان هذا الحد للممكن الخاص. وليس ما قال بعض الناس: إن معنى قوله: ما ليس بضروري، ما ليس بواجب، شيئا، فقد علمت ما في ذلك.
واعلم أن الإمكان من المعاني التي تعرض لمقولات شتى، فإنها تعرض للكيف وللكم ولغير ذلك. وهو يقع على هذه بالتقدم والتأخر. وهو كالوجود وكالوحدة وما أشبه ذلك. فليس يمكن أن يجعل له جنس يشار إليه أنه فيه. وكذاك فإن ما يؤخذ في رسمه كالجنس. يكون لا محالة ليس بالحقيقة جنسا، ولكنه يناسب الجنس، وإنما يدل على معنى مشكك، ويكون من الأمور العامة، مثل: الذي، وما، والشيء. وكذلك يكون ما يجري مجرى الفصول فيه فصلا عن تشكيك. ثم إن الممكن أمر ليس صحيح الوجود مستقرا بذاته، بل هو أمر إما أن يكون عدما، وإما أن يكون متحققا بعدم، فيحتاج في تجديده إلى أن يُحد بالسلب كما قد علمت من الواجب في تحديدات أمور عدمية. ولما كان الأمر الوجودي في نفسه أسبق إلى التصور، وكان العدم إنما يتصور بالقياس إليه، أعني أن العدم نفسه إنما يتصور بأنه عدم معنى وجودي، كما قد سلف لك بيانه، فيجب أن يكون الأمر الضروري أسبق إلى التحقيق والتصور. فإن الضروري هو الأمر الذي وجوده يستحق الدوام، إما مطلقا، وإما عند وجود الشرط، فلا يكون وقت من الأوقات لا يوجد فيه إما مطلقا وإما عند وجود الشرط. فالضرورة تدل على وثاقة الوجود. ويمكن تصوره مبتدئا. ولأن المحال ضرورة مقرونة بالعدم، فيكون المحال إنما يتصور من جهة الضروري كأنه الذي موجود له دائما صدق القول إنه معدوم. فإذا أخذنا الضروري في حد الممكن، أخذنا ما هو أشهر في نفسه عند الجمهور وعند التحقيق. أما عند الجمهور، فلأنهم لا يفطنون للمكن الذي عند الخاصة. وأما عند التحقيق، فلأن المتصوّر الأول هو الموجود. وأما الممكن العامي فهو ما ليس بممتنع. وتَصُّور الممتنع إنما هو من حيث هو واجب أن لا يوجد؛ وتصور الواجب هو من حيث هو موجود يستحق الدوام، فلا يكون البتة معدوما. فالواجب والضروري متصور أيضا قبله. والمحال متصور أيضا قبل الممكن. أما العامي، من حيث هو عامي، فإنما يُتَصور بأنه ما ليس بمجال، وأما الخاص فلأن المحال أبسط نسبة إلى المعنى الوجودي منه، فإنه هو الذي عدمه ضروري، والممكن الحقيقي هو الذي لا عدمه ولا وجوده ضروري. فإذا فهمت هذا، فطعن من طعن أنكم رسمتم شيئا وهو الممكن، بما هو أخفى وهو الضروري، أو ربما يتبين به ويدور عليه؛ إذ قد أخذتم في حد المكن المحال، والمحال هو ما ليس بممكن، ولا يحد إلا بذلك، والضروري أيضا هو الذي لا يمكن أن لا يكون، وهو المحال أن لا يكون، وأنتم إما أن تكونوا قد أسأتم الأختيار، وإما أن يكون الأمر في نفسه يوجب الدور. فنقول: ليس الأمر كذلك. وذلك لأن الضروري والمحال قبل الممكن في التصور، المحال وإن كان يصدق عليه أنه ليس بممكن، فليس كل ما يصدق عليه شيء فهو في الاعتبار، أو ما هو لا يتحدد الشيء دونه. ومع ذلك فليس الممكن الذي يعرف به المحال وهو الممكن الذي عرفناه بالمحال، بل هو كالجنس له. وكذلك قولهم: لا فرق بين قولكم: ممكن، وبين قولكم: ما ليس بضروري، فنقول: هو كذلك، لا فرق بين قولنا: الإنسان، وبين قولنا: الحيوان الناطق. لكن أحدهما: اسم، والآخر: قول مفصل يشرح معنى الاسم.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في إعادة النظر في رسم الممكن(1/254)
وتحقيق القول فيه
فقد انشرح ما كان يجب انشراحه، ليتحقق به الرسم المذكور، ولنعد الآن النظر في هذا الرسم. ولنتأمل أنه هل يطابق الممكنين الخاصين فنقول: إنه يطابق كل واحد منهما باعتبار دون اعتبار. وذلك لأنا إن عنينا بالضروري المذكور فيه، الضروري الحقيقي، طابق الممكن الخاص؛ وإن عنينا بالضروري المذكور فيه، كل ضروري كان بشرط أو بغير شرط، طابق المكن الأخص. وأيهما كان فلا يجب أن يقع فيه إلتفات إلى شرط وجود الشيء أولا وجوده، أما الخاص فإن المطلق الصرف أخص منه فلا يجب أن يلتفت في تصوره إلى وجه يجعله مطلقا ويخصصه. وأما الممكن الأخص فلا يجب أن يلتفت في تصوره إلى حال الأمر الذي هو ممكن من حيث وجد أو لم يوجد، فإن كل وحد من الشرطين يجعله ضروريا بذلك الشرط. وقد جعلناه غير ضروري بشرط، بل ممكنا صرفا، بل يجب أن ينظر إلى حاله من حيث لا ضرورة فيه، ومن حيث لم يشترط شرط واجب الضرورة. فأما هل يوجب هذا النظر أن يجعله مستقبلا ويقتصر باعتباره على الاستقبال لا غير، فالظاهر من أمره هو أن الموجود من الأمور وما لم يوجد - سواء كان في الحال أو في الماضي - قد صارت له ضرورة ما. ومن أحب أن يرفع الضرورة أصلا، فإنه يحوج إلى اعتبار الاستقبال، فإن كمان ليس ينعكس، فيكون كل ما في الاستقبال ممكنا. فإن كسوف القمر في وقت معلوم من المستقبل، ولا كسوفه في وقت آخر، ليس بممكنين بهذا المعنى الأخص، بل فيهما ضرورة على ما علمت. فأحد الوقتين فيه القمر منكسف بالضرورة، والآخر هو فيه بالضرورة غير منكسف.
فلننظر الآن أنا إذا قلنا: كل إنسان يمكن أن يكون كاتبا، هل يخرج الناس السالفون من هذا الحكم، والذي وجودهم حاصل حال ما ينعقد هذا العقد؟ أو يقال هذا اللفظ ويعنى بذلك أن كل إنسان من الموجودين فيما يستقبل من هذا الوقت وهذا العقد هو بصفة كذا؟ وكذلك إذا قلنا: يمكن أن لا يكون أحد من الناس كاتبا، هل ذلك إنما يتناول الداخلين في الوجود والمستقبلين معا؟ أو إنما يختص بالموجودين في الاستقبال؟ فنقول: لا حاجة لنا إلى ذلك. فإن قولنا: كل إنسان، معناه كل واحد واحد مما هو إنسان. فإذا قلنا: كل واحد مما هو إنسان أي وقت فإنه يمكن أن يكون كاتبا وأردنا أن كل واحد واحد منهم، فإنه في مستقبل كل وقت من أوقاته غير ضروري بوجه من الوجوه أن يكتب وأن لا يكتب، بل صحيح أن يكتب وأن لا يكتب مادام الوقت مستقبلا، كان هذا القول صادقا على كل واحد ممن كانوا ويكونون، ولم يكن صدقه على الموجودين في المستقبل المعين. ويكون هذا أعم صدقا من أن يكون: كل واحد من الناس في المستقبل، من قول القائل: يصح له أن يكتب، وأن لا يكتب. وهننا وجه صدق آخر من جهة الحصر، وهي الجهة التي رذلناها، وهو أن قولنا: ك إنسان كاتب في كل وقت من المستقبل، غير ضروري صدقه ولا صدقه. فإنه يصح في كل وقت من المستقبل أن يصدق قولنا: كل إنسان كاتب أو أبيض، حتى يكون في ذلك الوقت كل إنسان موجود كاتبا، وأن يكون في ذلك الوقت ولا واحد من الناس بكاتبين. فأي وقت في المستقبل كان مستقبلا، يصح فيه أيّ الأمرين شئت.
ولكن يلزم بحسب اعتبار السور على ما علمت أن تصير الممكنة والضرورية في حكم واحد. فيكون كما أن قولنا: كل حيوان أو كل أبيض إنسا بحسب المستقبل، هو قضية ممكنة؛ كذلك قولنا: ليس ولا واحد من الحيوان بإنسان، على ما سلف لك، قضية ممكنة. فتكون هذه القضايا بحسب اعتبار حصرها ممكنة أن تصدق أو تكذب في المستقبل، وهي في مادتها ضرورية، وتكون هذه نظيرة المطلقات التي مضت. إلا أن أمثال هذه القضايا قضايا ليست الجهة فيها بالحقيقة جهة القضية، بل السور. وجهة القضايا جزء من حدها. فكأنه يقول إن قولنا: كل حيوان إنسان، قول ممكن أن يكون صادقا. وكذلك في الإطلاق، بل يجب أن يلتفت إلى المثال المتقدم.(1/255)
ولقائل أن يقول: إن وجود زيد في الحال وفي الاستقبال، إذا اتفق أن استمر فيهما، وكذلك حيوانيته وقعوده المستمران، وغير ذلك، ليست أمورا متجددة بوجه من الوجوه. وكذلك لا كون زيدا قاعدا، ليس مما يتجدد في المستقبل، إذا لم يكن قاعدا في الحال، واستمر. فإن كان الذي في المستقبل هو هذا بعينه الذي في الحال، وهذا مطلق وضروري بشرط، فكيف يكون ممكنا؟ فنقول: إنه يجوز أن يكون شيء في وقت وحال بصفة، وهو بعينه في وقت وحال واعتبار آخر بصفة أخرى. فالوجود والإنسانية والقعود ومقابلاتها هي في أنفسها أمور لبها أحكام أخرى تلحقها مثل: أنها ممكنة ومطلقة. وتلك الأحكام هي بحسب محمولات أخرى تضاف إلى أنفسها. وليس يتجه نظرنا هذا إلى معانيها في أنفسها؛ بل إنما يتجه إلى نسبتها إلى موضوعاتها. ونسبتها إلى موضوعاتها الان ليست نسبتها إلى مطلقة لموضوعاتها، وباعتبار وقت يفرض مستقبلا ممكنة لموضوعاتها. وإن كان وجودها في أنفسها وجودا واحدا مستمرا على استحقاق واحد، فقد لاح من هذا صحة جميع ما أوردناه بدءا، ولاح أيضا أنه حق ما قيل من أن الممكن الخاص والأخص قد يرجع موجب كل واحد على سالبه. فما يمكن أن يكون، يمكن أن لا يكون؛ إذ لا ضرورة لا في أن يكون، ولا في أن لا يكون؛ إذ كل ممكن لا ضرورة فيه بوجه. وما لا ضرورة فيه بوجه ممكن، فما كان يمكن أن يكون لكل واحد، فيمكن أن لا يكون لكل واحد واحد. وما يمكن لبعض، فيمكن أن يكون لذلك البعض. وكذلك إذا كان اعتبار الإمكان إنما هو في السور، فإن ما أمكن أن يكون كله كذا فيمكن أن لا يكون كله، وما أمكن أن يصدق بعضه كذا ولم يكن ضروريا فيه هذا الصدق أمكن أن يصح أنه ولا واحد منه. فإنه إن كان قولنا: ولا واحد، دائم الكذب؛ فقولنا: بعض من حيث هو بعض، دائم الصدق، لا يمكن أن يكذب البتة، فلا يكون صدقه مكنا بل واجبا، وجعلنا صدقه ممكنا. فكل ما هو ممكن أن يكون، يرجع فكون ممكنا أن لا يكو ن، يشترك في ذلك الأكثري والأقلي. لكن يختلف في شيء آخر، وهو أن الأكثري يكون كون أحد طرفيه موجودا مطلقا أكثر والآخر أقل. وليس كونه موجودا أكثر مما هو كونه ممكنا. وهو من حيث اعتبار إمكانه يتساوى انعكاسه إلى السلب، ومن حيث الوجود لا يتساوى. فليس وجود الأكثري وجودا ولا وجوده بمنزلة واحدة من حيث الوجود. وكل ما أكثري وجودا فهو أقلي لا وجودا.وكل ما هو أقلي وجودا فهو أكثري لا وجودا. وأما المتساوي فهو متساو من حيث عكس الإمكان ومتساو من حيث الوجود. ونعني بالأكثري وجوده جميع ما كان وجوده بحسب الواحد في أكثر زمانه، وما كان وجوده لأكثر أشخاص نوع واحد، وإن كان لكل واحد منهما دائما، كأكثرية كون الإنسان ذا خمس أصابع، أو كان موجودا لأكثر الأشخاص في أوقات ليست بأكثر الأوقات، بل أوقات ما كالاحتلام أو كالشيب أو كامتداد القامة، أو يكون لأكثر الأشخاص وفي أكثر الأوقات الغير المحدودة مثل الإبصار بالفعل للناس. والممكنات الأكثرية إما أمور طبيعية كانت يجب لولا عوائق من خارج أو من عصيان المادة مثل الصحة ومثل كون الإنسان ذا خمس أصابع، وإما إرادية تصدر وتجب عن الإرادة لولا عوائق.(1/256)
وقد علمت أن الأكثريات يبحث عنها من حيث الوجود من حيث الإمكان. وأما الآخر فمن حيث الإمكان فقط. ولذلك فإن الأكثريات تؤخذ مقدماتها في القياسات كالمطلقات، فيقال: من سقى السقمونيا أسهله، ذلك صفراء؛ ولا يقال ممكن. فإنه إن قيل: يمكن، أوهم أنها ممكنة لا يتعين منها طرف، فنظرت التنفس إليه من حيث الإمكان لا من حيث الوجود فنبا عنه التوقع فرفض. فإن الممكن من حيث هو ممكن غير معلوم الوجود، ولا على تعين الوجود فيه قياس، اللهم إلا الأكثري من حيث هو أكثري، فإن وجوده مظنون مع أن إمكانه معلوم. وعلى وجوده قياس ما، كما على إمكانه. وأما المتساوي فليس على وجوده قياس ولا هو معلوم؛ بل إمكانه هو المعلوم فقط. ولذلك ما كانت الممكنات المتساوية والأقلية لا توضع موجودة في العلوم، ولكن تطلب ممكنة بحيلة كما في علاج السل والاستسقاء ورد المزاج إلى الأصلح، أو لتحذر، وذلك فيم يرجع إلى عمل، ولتعلم أن الأمر غير محال، وذلك في الأمور النظرية. ومع ذلك فإن الممكنات قد تؤخذ في صنائع أخرى موجودة، كما يقال في الخطابة: فلان كلم العدو م الحصن جهارا، فهو خبيث النية. كأنه قال: ومن يفعل هذا يكن خبيث النية؛ ولا يقول: إنه يمكن أن يكون خبيث النية، فإنه إذا قال هذا لم يقنع في غرضه، إذ إمكان خبث النية مما لا يحتاج أن يبين ويخطب له، ولا معرفته بنافعة في التدبير؛ ولأخر من الخطباء أن يقول: فلان كلم العدو من الحصن جهارا، فليس بخبيث النية؛ كأنه يقول: ومن تكلم جهارا لا يكون خبيث النية. فهذه مقاييس خطابية تستعمل فيها الأمور المتساوية من حيث الوجود، وقائلها يوهم فيها، لا أنها أكثرية غير متساوية فقط؛ بل أنها موجودة على ما نوضح في صنعة الخطابة والسوفسطائية والشعرية. وقد تستعمل أيضا الأقلية والممتنعة الوجود؛ بل قد يستعمل ذلك في الخطابية أيضا إذا كانت مظنونة. وجميع ما قلناه في الممكن إنما هو بحسب طبيعته، وليس الغرض في ذلك تعريف حال الممكن عندنا المجهول، فإن كل مجهول عندنا يمكن أن يكون وأن لا يكون. وربما كان في نفسه واجبا، وربما كان ممتنعا، وربما كمان بالحقيقة ممكنا.
المقالة الرابعة
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا) فصل
في القياسات الممكنة في الشكل الأول
فلنشرع الآن في تعليم القياسات التي في الممكن: فالضرب الأول من الشك الأول منه: كل ج بَ بالإمكان، وكل بَ آ بالإمكان، فيبين أن كل ج آ بالإمكان. وذلك لأن ج داخلة بالقوة تحت بَ، فلها بالقوة ما لبَ. فهذا قياس كامل. ثم قد وقع بين القوم في هذا تشاجر، فقال بعضهم: إن هذا القياس لا يجب أن يكون بينا كاملا بنفسه أنه قياس، وإنما وجب كما لنظرائه فيما سلف؛ إذ كان ج بالفعل بَ، فكان ما يقال على بَ يدخل فيه ج. وأما إذا كان الدخول فيه بالقوة، كان الحال كما في الشكل الثاني والثالث. فإن الشكل الثاني قد حكم فيه أن ج بالفعل بَ. ولكن لم يحكم هناك بالفعل على بَ بشيء، حتى يدخل فيه ج بالفعل، فج وإن كان بَ، فليس بالفعل، داخلا تحت حكم على بَ؛ بل بالقوة. وذلك لأنه لم يحكم على بَ بالفعل، بل بالقوة. وفي الشكل الثالث ليس ج فيه بالفعل بَ، بل بالقوة، لأنه يمكن أن يعكس، فيجعل ج تحت بَ. وههنا أيضا فإن ج لم يدخل بالفعل تحت بَ، بل بالقوة. والحال في دخ له تحت حكمه بالقوة هو كما كان في الشكل الثالث حيث احتاج إلى بيان، فليس هذا إذن قياسا كاملا.(1/257)
قال قوم: إن قولنا كل بَ آ، معناه أن كل بَ بالفعل وبالإمكان فهو آ، وبالجملة كل ما يصح أن يكون ج، فيكون ج تحت بَ، لأنه أحدُ ما يصح أن يكون. فإذا كانت ج داخلة تحت بَ كان القياس كاملا. وقد علمت ما في ذلك. ومع ذلك فينتقض هذا في موضع قريب حيث تجعل الكبرى مطلقة أو ضرورية، والصغرى ممكنة؛ ويجعل القياس غير كامل، ولا وجه لذلك إلا أن ج غير داخلة تحت بَ بالفعل. لكنه قد قال قوم هناك إنه ليس معنى قولهم: إنه قياس كامل، هو أنه قياس كامل بالإطلاق؛ بل هو قياس مل بالقياس إلى قياس آخر بعده يتبين به. والذي يجب أن يقال في هذا أنه ليس يجب أن يشتغل في أمثال هذه الموضوع بكل هذا التشدد والتعصب؛ بل لِيُعلم أن كثيرا من الأمور الظاهرة للناس يتشدد فيها الناس بالتماس البيان تشددا يحوجهم إلى العدول عن أمور ظاهرة. وأنه كما أن الموجود لما هو موجود للشيء ظاهر أنه موجود له، فكذلك الممكن للمكن الظاهر أنه ممكن. ولا يوجد شيء يبين به هذا الظاهر أظهر من هذا الظاهر.
ونقول لمن قد فرّع إلى أن قال: إن قولك بَ هو كل ما يكون بَ بالقوة أو بالفعل، أرأيت لو أن إنسانا قال: كل ج بالفعل يمكن بأن يكون بَ، وكل ما هو بَ بالفعل فيمكن أن يكون آ، لم يكن لنا بد من أن نحكم أن هذا قياس. فإن أنكر أن يكون هذا قياسا فقد تكلف الشطط. وكيف لا يكون هذا قياسا، ويلزم عنه لذاته قول آخر دائما؟ وإن كان هذا قياسا فهو من أي القرائن وأي التأليفات؟ وإن كان قولهم ما هو بَ، معناه ما هو يصح أن يكون بَ، كان هذا الذي أوردناه ضربا من القياسات ذوات الجهات قد ضيعت. ثم إن كان هذا قياسا فأي قياس أظهر من هذا يبينه؟ وإن تكلف أن يبين بأن يزاد عليه فيقال: وما هو الممكن للممكن فهو ممكن، وتجعل هذه المقدمة من حقها أن يصرح بها لكنها أضمرت، فهل قولهم: ممكن الممكن ممكن، غير قولهم: آ الممكنة لبَ الممكنة لج ممكنة لج؟ فهل آ إلا ما هو ممكن أي شيء كان؟ وهل بَ ما هو ألا آ المكن له الممكن؟ وهل ج إلا الشيء الثالث. فإن آ هو بدل قولك ما لأنه بدل المعنى الكلي، وليس حدا مشارا إليه بعينه. وبَ بدل الآخر، وج بدل الثالث. فظاهر إذن أن ممكن الممكن ممكن ظاهر الإمكان، كما أن الضروري للضروري ضروري، والوجود للموجود موجود. نعم إذا اختلطت الوجوه تشوش الذهن فيها فاحتاج إلى فحص ونظر. وذلك مثل: ممكن الضروري، وضروري الممكن؛ وكذلك إمكان لا،مع إمكان نعم .
فبين أن هذا القياس كامل، إذ لا شبهة فيه، وليس كالشكل الثالث والثاني. فإن نظم المقول فيه على الكل والترتيب الطبيعي وزائلان، وحال الحد الأصغر في الشكل الثالث ودخوله بالقوة تحت الحكم الكلي ليس يشبه حال هذا الدخول الذي ههنا؛ بل يخالفه من وجهين: أحدهما: أن قولنا: إن الأصغر داخل في الشكلين تحت الحكم الذي على الأسوط، ليس معناه أن ذلك الحكم لم يوجد له بالفعل، أو أنه موجود له بالإمكان، بل معناه أن القائل لم يحكم عليه بالفعل؛ بل حكم على غيره بالفعل حكما، إذا حكم على ذلك الغير، وكان صادقا، أمكن أن يحكم به حينئذ على الأصغر حكما صادقا، ولم يستحل، ولم يجب أن يكون لا محالة قد حكم بذلك حاكم. وإن كان إذا حكم صدق، لست أقول: لم يجب صحة ذلك الحكم إذا حكم، فتكون هذه القوة لا بالقياس إلى نفس الأمور، بل بالقياس إلى حكم الحاكم، الذي إذا حكم، فذلك كان له، وأمكنه أن يقول ذلك، ويكون صادقا. وأما ههنا فإن القوة ليست بحسب الحاكم، بل بحسب الأمر في نفسه، إذ جعل الموضوع في نفسه مكنا له الأمر، ولم يحكم بوجوده له. وليس يجب إذا كان ذلك النوع من الدخول بالقوة يجعل القياس غير كامل، أن يكون هذا النوع يجعله أيضا غير كامل.
والوجه الثاني: أن الدخول بالقوة هناك على أي وجه كان هو أمر في طبيعة الحد الأصغر، وليس بينا، بل يحتاج أن يبحث عنه لنعلمه ونبرهن عليه، فيتضح لنا حينئذ أن ج بالقوة كانت داخلة تحت بَ. فلو كان ذلك معلوما لنا بنفسه، كما هو حاصل في نفسه، ما كنا نحتاج إلى العكس وإلى غير ذلك. وأما ههنا فقد علمنا وتحققنا أن ج بالقوة داخل تحت الحكم، وإذا علمنا أنه بالقوة داخل تحت الحكم لم يحتج إلى أن نعلم شيئا آخر. وأما في ذينك الشكلين فإن الأصغر وإن كان داخلا بالقوة في الحكم فإنما كان كذلك في نفسه، وكان مجهولا لنا، وكنا نطلب لنعلم ماله في طبعه.(1/258)
فلسنا نقول: إن الشكل الثاني والثالث هو غير كامل، بمجرد أن الحد الأصغر فيه غير داخل تحت الحكم إلا بالقوة؛ بل لأن هذا الدخول الذي بالقوة معلوما هناك، لم يحتج إلى عمل يبين به؛ بل إنما نعمل ما نعمله من العكس وما يجري مجراه، حتى إذا دخل بالفعل، علمنا أنه حين لم يعكس كان داخلا بالقوة. وإذا كان بالقوة كان قياسا، فكونه بالقوة في نفسه يجعله قياسا في نفسه وكونه معلوما أنه بالقوة يصحح عندنا منه أنه قياس. فإذا كان قد صح لنا أنه داخل بالقوة تحت الحكم، فقد صح لنا مع ذلك أن التأليف قياس، وإذا صح مع علم ذلك أنه قياسي، فما يحوجنا إلى التشكك فيه وإلى استنقاصه؟ وهذا القدر كاف لمن اشتغل بزبده العلم، ولم يمل إلى الهذيان والهذر.
وأما الضرب الثاني من كليتين، والكبرى سالبة كقولك: كل ج بَ بالإمكان، ويمكن أن لا يكون شيء من بَ آ، فيمكن أن لا يكون شيء من ج آ، والحال في ذلك معلوم.
والضرب الثالث بعكس ذلك، وهو أن يكون بالإمكان لا شيء من ج بَ، وكل بَ آ بالإمكان، فهذا لأن صغراه سالبة، وكبراه موجبة، ولم يصرح بأن ج بالقوة تحت بَ، ولكن أنه بالقوة ليس يجب بَ، لم يكن بيانه بيان الأول، إذ كان قد حكم شيء يلزمه قوة الدخول ولم يحكم بقوة الدخول. فكان غير كامل، وكان الذهن يلتفت إلى أمر يخطره بالبال، ويتأمله ليعلم المطلوب به. فإن مطلوبه هو أن يعلم أن ج تحت بَ بالقوة، وإنما نعلم ذلك من مقدمة كلية نتذكرها ونخطرها بالبال وهي: أن كل ما هو بالإمكان الحقيقي ليس كذا، فهو بالإمكان الحقيقي أيضا كذا. فلا إذا أخطر ذلك بالبال وتأمله، وجد حينئذ أن ج يدخل بالقوة تحت بَ. فبيان هذا الضرب إذا إنما هو بالعكس الذي يخص الممكن، وهو أن تكون الحدود بحالها والجهة بحالها، لكن قد غيرت الكيفية، فنثقل الإيجاب إلى السلب أو نقل السلب إلى الإيجاب، فإذا نقلنا ذلك بالصغرى صارت بالإمكان كل ج بَ وبالإمكان كل بَ آ، فبالإمكان كل ج آ، فبالإمكان أن لا يكون شيء من ج آ. فهذا بعكسين. وعلى هذا القياس سائر ما بعده.
والضرب الرابع: من سالبتين كليتين ممكنتين، ينتج ممكنة سالبة، يتبين بعكس الصغرى إلى الإيجاب.
وكذلك لك أن تركب أنت ضروبا أربعة: من جزئية صغرى، كلية كبرى، سالبتين أو موجبتين، وموجبة وسالبة، وسالبة وموجبة. لكن بعض الناس قد قال: إن ما تبين من هذا الباب بالعكس فهو مزيف لا يستعمل، أعني حيث هذه السوالب صغريات. وذلك لأن المستعمل من هذه هي الأكثريات. وإذا عكست سارت أقلية فخرجت عن الاستعمال. فقد أخطأ؛ وذلك لأن المستعمل من هذه لتوقع الوجود هي الأكثريات. وأما إذا كان الغرض مصروفا إلى تحقق الإمكان فكلها مستعملة. وأيضا فليس كتاب القياس موضوعا بحسب النفع في العلوم، بل بحسب ما هو مشترك للبرهان والجدل وغيره. وقد رد عليه من وجه آخر فقيل: يمكن أن يكون قولنا لا شيء من ج بَ بالإمكان إمكانا قليلا، فإذا قلبت صارت أكثرية. لكن هذا الرد لا يعني شيئا فإنه إن كانت أقلية فقلبت فصارت أكثرية لم تنتج النتيجة المطلوبة، لأنه يحتاج أن تعكس نتيجة فتصير أقلية، فيرجع إلى ما أنكره المتشكك من أقلية النتيجة. ويل إنه لا مانع من أن يكون هذا القلب نافعا حتى نرجع إلى قياس يفيد نتيجة أكثرية ثم لا يقلب.
وقد استعمل في التعليم الأول حدود لتزييف ما لا ينتج إذا كانت الكبرى جزئية لئلا يظن أنه كما كانت سالبة الصغرى مما ينتج في الممكن، فلعل جزئية الكبرى مما قد ينتج. فقيل إنه إذا قلنا: كل إنسان يمكن أن يكون ابيض، وبعض ما هو أبيض يمكن أن يكون حيوانا؛ كان الصادق مع هذا هو أن كل إنسان حيوان. وكذلك إن جعلت الصغرى سالبة ممكنة أو جزئية، ثم إذا أبدلناها بحدود أخرى، فقلنا: كل إنسان يمكن أن يكون أبيض، وبعض الأبيض يمكن أن يكون ثوبا، كان الصادق ههنا أن: لا شيء من الناس بثوب، ويجب أن نتأمل من هذه الحدود مع أن لا نناقش في الصغريين.(1/259)
وأما الكبريان فكلاهما باعتبار الطبيعة ضروريتان، فإن البعض الموصوف بأنه أبيض هو بالضرورة حيوان، والبعض الآخر هو ليس ثوبا. فليست الكبرى ممكنة حقيقية؛ بل ضرورية، اللهم إلا أن يعنى بالممكن لا الحقيقي، بل العام فيكون غير ما نحن فيه، أو يعنى ليست ضرورية من جهة البياض. وفي ذلك ما قيل، أو نعني بالممكنة بمعنى السور، فالنتيجة تكون أيضا كذلك.
ولكن لقائل أن يقول حينئذ: إن الكليات أيضا لا تنتج إن كان بالإمكان أيضا مأخوذا بحسب السور، فإنا نقول: يمكن أن يكون كل إنسان أبيض، ويمكن أن يكون كل أبيض فرسا. وايضا يمكن أن يكون كل إنسان أبيض، ويمكن أن يكون كل أبيض حيوانا، ينتج في أولهما بالضرورة: ولا واحد من الناس بفرس، وفي الثاني: كل إنسان حيوان بالضرورة. وهذا البيان وإن لم ينفعك في إظهار فساد هذا القول، فإنه ينفعك في إظهار فساد رأي من ظن أن الجهات جهات احصر؛ إذا كان هذا يمنع تأليف القياس مما لا يجب أن يمتنع؛ لأنه يوجب الإنتاج من مقدمتين مرة بإيجاب ومرة بسلب. وذلك أحد أسباب ما تصير له القرينة غير قياس.
فبين أنه لا التفات ف أمر المطلق والممكن إلى السور، وإلا فهذا الموضع يجب أن يلتفت إليه.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في القياسات المختلطة من الإمكان والإطلاق
في الشكل الأول
فيتأمل حال اختلاط الممكن والمطلق في الشك الأول. فالضرب الأول: كل ج بَ، وكل بَ آ بالإمكان، فظاهر أن كل ج بَ بالإمكان.
والثاني: كل ج بَ، ويمكن أن لا يكون شيء من بَ آ، فظاهر أنه يمكن أن لا يكون شيء من ج آ، وأما إذا كانت الكبرى مطلقة والصغرى ممكنة فليس يكون بينا أن القياس ينتج على أية جهة. وذلك لأن الصغرى إذا كانت داخلة بالقوة تحت حكم موجود لم يكن أول الوهلة يدرك من حالة أنه ممكن أو ممكن للاختلاط الواقع، وإن كان الدخول بالقوة تحت الحكم بينا بنفسه من هذا القياس. إنما الذي يشكل، حال كونه مطلقا أو ممكنا أو كليهما. فإذن لا يكون حال هذا التأليف في لزوم الممكن عنه أو لزوم المطلق في البيان كحال الذي من ممكنتين. فإن الدخول هناك تحت الحكم الممكن بالقوة لا يشوش الذهن؛ بل يقضي الذهن فيه بعجلة: أن إمكان الإمكان إمكان. ولما كان هذه الدعوى كليا وفي اشك الأول لم يمكن إبانته بالعكس أو بالافتراض، فيجب أن يكون طريق إبانته: الخلف. فكون هذا القياس غير كامل دليل على غلط من ظن أن قولنا: كل ج بَ، معناه أن كل ما يمكن أن يكون ج ويصح أن يكون ج، فهو: بَ. ولو كان الأمر على ما قاله لم كان ج داخلا ف بَ بالقوة؛ بل كان داخلا فيه بالفعل، ولكان هو من جملة ما قيل عليه إنه آ. وكان قياسا بينا بنفسه. إذ دخل الصغرى بالفعل في المقول على الكل. فأما وجه هذا الخلف فهو مبني على أن الأمر الممكن في نفسه ولو بالمعنى الأعم لا يعرض من وضعه محال؛ بل يلزمه يلزمه، وهو ممكن عام.(1/260)
وقد أومأنا إلى حقيقة ذلك فيما سلف، فلا يحسن بنا أن نطول الآن في بيان ذلك بما جرت العادة به من وضع حروف وأسباب. فإن محصول ما جرت به العادة، ما دللنا عليه فيما سلف. وبالجملة لا يلزم من وضع ما لا يمتنع، أمر ممتنع. لسنا نقول: إنه لا يلزم من وضع الممكن الحقيقي إلا ممكن حقيقي؛ بل نعني بهذا أنه لا يلزم من وضع الممكن بالمعنى العام المشتمل على المعنى الخاص والمطلق والضروري إلا ممكن بالمعنى العامي. فإن الممتنع لا يلزمه البتة، سواء كان ما وضع للزوم ممكنا حقيقيا أو مطلقا أو ضروريا. فإن ما يلزم الممكن العامي فهو غير ممتنع كائنا ما كان. ولذلك فإن الكذب غير المحال لا يلزمه كذب محال، وهو الذي يستحق صدق نقيضه دائما بنفسه بلا شرط، بل إن لزمه كذب غير محال. فإذا كان كل ج بَ بالإمكان، وكل بَ آ بالوجود، فنقول: إن كل ج آ بالإمكان. والمشهور أنه كذلك بالإمكان العام. وذلك أن يتبين بالخلف. وذلك الخلف مبني على أنه إن لم يكن هذا ممكنا، فليكن غير ممكن. وغير ممكن، هو الذي بالضرورة ليس يكون. فلا شك أن هذا الممكن إذن هو العامي المقابل للذي بالضرورة، وليس يكون، أي العامي. فلنأخذ إذن نقيض النتيجة وهو بالضرورة ليس كل ج آ، ولنفرض أن كل ج بَ على أنه موجود، إذ ليس محالا، فينتج من الشكل الثالث أن بالضرورة ليس كل بَ آ، وكان بالإمكان كل بَ آ، هذا محال لم يلزم من التأليف، ولا عن الكذب غير المحال، فيكون عن الأخرى المشكوك فياها. فإذن ذلك محال.
هذا ما في التعليم الأول، فنذكر أن المعلم الأول قد كان منع أن يكون هذا التأليف ينتج الضروري. والآن فقد أنتج منه الضروري، فإنه إن لم يكن ضروريا لم يناقض بالحقيقة الوجودي. فبين لك من هذا أن هذه النتيجة ضرورية كما إذ عيناها نحن. وإنما لم تورد في التعليم الأول، حيث تعلم الأشكال ضرورية على سبيل الأرتياض والامتحانات. ألا ترى أنها لما استعملت، استعملت منتجة للضرورية. على أنه قد يمكن أن تبين هذا الخلف على هذه الصورة، من غير أن يؤخذ كذب غير محال البتة ، بل أن يقال: إن كان بالضرورة ليس كل ج آ، وكان كل بَ آ، فواجب من الشكل الثاني أن يكون بالضرورة ليس كل ج ب، وكان ممكنا أن يكون كل ج بَ، هذا خلف. وقد بينوا هذا الخلف بوجه آخر بأن جعلوا الممكنة موجودة حتى يكون: كل ج بَ، وكل بَ آ، فكل ج آ. وكان بالضرورة ليس كل ج آ، وما كان يجب أن يؤخر هذا عن الأول.
وقيل بعد هذا في التعليم الأول ما معناه: إن المقدمات المطلقة لا يجب أن يلتفت إلى سورها البتة، حتى يكون إطلاقها أن سورها قد صدق وقتا ما. فلا يجب أن يقال في المطلقات: كل ج بَ، ومعناه كل جب في هذا الزمان. وذلك لأنه لا مانع أن يصدق وقتا ما أن كل متحرك إنسان، إذا لم يكن متحرك غيره. فإذا قلنا: كل فرس يمكن أن يتحرك، صدقن. وإذا قلنا: كل متحرك يمكن أن يكون إنسانا أي وقت ما، لم يجب عنه أن كل فرس ممكن أن يكون إنسانا، بل بالضرورية لا شيء من الأفراس إنسان. فإن جعل بدل الإنسان الحيوان، كان بالضرورية كل فرس حيوان. فهذا ما قيل في التعليم الأول، فقد جعل هذا سببا لأن يكون مثل هذا الأكبر لا يتألف عنه قياس. فقد بان وصح أن استعمال المطلق والوجودي على هذه الصفة ليس بجيدن وأن التعليم الأول يخالفه.(1/261)
وإن كان لقائل أن يقول: إن هذا القياس غير مؤلف، فإن الكبرى إذا كانت بهذه الجهة فيجب أن يكون الأوسط مشتركا فيه، فيقال: إن كل فرس يمكن أن يكون متحركا في ذلك الوقت. وهذا كاذب؛ لأن في ذلك الوقت لا يمكن أن يكون شيء متحركا غير الإنسان، إذ كان قد وجد كل متحرك إنسانا، وحين يوجد كل متحرك إنسانا يستحيل أن يكون الفرس متحركا. لكنا نقول له: إن ذلك لا يوجب كون هذه القضية الممكنة كاذبة محالة، وأعني بالممكنة الممكنة بالإمكان الخاص. فإن ذلك القول لا يكون محالا ولا واجبا. فإنه وإن وجد أن لا متحرك هو فرس، فليس ذلك كذبا محالا، ولا صدقا حقا ضروريا، بل هو أمر بين هذين. فهو الممكن الخاص الذي يقع على المطلق. وأما الممكن الذي لا يقع على المطلق، ويعتبر فيه الزمان المستقبل، فلا يمكن أن يقال إلا ويدل عليه فيه بوجه ما على الزمان المستقبل. فإما أن لا يأتلف منه مع هذا المطلق قياس البتة، وقد ألف؛ وإما أن لا يراعى ما ذكروا. وما علينا من ذلك شيء، فإن علينا أن نحكم في كل موضع بما يجب فيه، مع اعتبار أنه إن كان المراد بالمطلق كذل كان كذا. وإن كان المراد بالمطلق شيئا آخر، كان له حكم آخر. وما علينا أن نناقش في الألفاظ، ونصر على أن قائلا عنى كذا دون كذا.
وإذ قد بينا هذا، فنعود قائلين: إنه قد تبين بهذا البرهان أن النتيجة ممكنة عامة. وذلك هو الحق، إن أخذنا المطلق ما يعم الضروري وغيره. فإن أخذنا المطلق الذي لا ضرورة فيه لم يجب أن يكون إلا ممكنه بالمعنى الأعم. فإن ظن الظان أنه قد صح من طريق الخلف المذكور أن النتيجة ممكنة حقيقية خاصية، فلم يحسن. فإنه ليس إذا لم يكن ج بَ بالإمكان الخاص والأخص يجب أن يكون بالضرورة ليس كل ج آ؛ بل يجوز أن يكون بالضرورة كل ج آ. لأن الأمر المخالف للمكن ليس هو الذي هو ضروري إللا وجود، بل الضروري في الوجود واللا وجود جميع. لكنا نبين أن النتيجة حينئذ تكون ممكنة خاصية أيضا. وذلك لأنه إن كان بالضرورة بعض ج آ، وليكن كل ج بَ موجودا، فيكون بالضرورة بعض بَ آ. وكان كله لا بالضرورة. وأما أنه هل يجب أن يكون ممكنا الممكن الذي لا يدخله المطلق حتى يكون كل ج بَ بالإمكان الأخص ولا إطلاق إيجاب البتة، فنقول: ليس ذلك بواجب. فإنه يجوز أن يكون أعم من بَ. فيكون موجودا لكل ما هو بَ بالفعل ولما ليس ب. ولا يجب أيضا أن لما هو بَ عند ما هو بَ؛ بل قبله أو بعده، فكون ج موجودا له، وإن كان ممكنا له أنه بَ، لكن كون الشيء مطلقا لا يمنع كونه مكمنا حقيقيا. فإنه وإن كان مطلقا له في وقت، ولم يكن ضروريا، فيجوز أن يكون له في وقت ما ممكنا بحسب القياس إلى مستقبله، اللهم إلا أن يكون موجودا له دائما، وهذا يمنع صدق الكبرى على الشرط المذكور. وتبين لك وجه يحقق هذا، إذا علمت بعد أنه لو كان بدل هذه الوجودية ضرورية كانت النتيجة ضرورية.(1/262)
وأما الآن فنقول: إنه لو كان في مسألتنا هذه ج آ دائما ما دامت ذاته موجودة، ثم كان مكن له أن يكون بَ وأن لا يكون، وقد كنا قلنا: إن كل ما يوجد له بَ فإنه إنما يوجد له آ وقتا ما، فيكون إذا صارت ج بَ صار له آ أمرا غير دائم وذاته موجودة. وقد كان آ له دائما، فيكون آ له دائما ما دام ذاته موجودة، ومع ذلك فإنه قد يصير له غير دائم عند أمر ما موجود مع ذاته، هذا خلف. فيكون السبب في هذا ما فرضناه من كون آ دائما لج. فإذن لا يكون له دائما حين تكون الكبرى صادقة. وإذا لم يكن دائما، لم يكن مانعا أن يكون آ لج ممكنا أخص مع كونه مطلقا. فإنه يكون مطلقا له بشرط وجهة اعتبار غير الاستقبال، وممكنا بشرط كل وقت شئت أن نفرضه له مستقبلا. فأما أن هذه النتيجة هل تصدق مطلقة؟ فنقول: إنه لا يجب ذلك، لأنه يجوز أن يكون الواحد من ج لا يوجد البتة من وقت حدوثه إلى وقت فساده، ويكون إنما يوجد له آ عندما يكون هو بَ فقط. فيكون الواحد من ج لا ينفق له ب البتة، ولا أيضا آ. مثل قولنا: كل إنسان يمكن أن يكتب، وكل كاتب مماس بقلمه الطرس، فليس يلزمه صدق بالإطلاق، حتى يصدق أن كل إنسان مماس بقلمه الطرس. فإذا علمنا هذا، فقس عليه سائر الضروب. والضرب الذي بعد هذا هو: كل جر بَ بالإمكان، ولا شيء من بَ آ، فلا شيء من ج آ بالإمكان العام. وبيانه على قياس ما قد علمت بالخلف. ومع لك فالمشهور أن النتيجة هي شيء من ج آ بالضرورة. فقد قيل ما يدل على ذلك في التعليم الأول.
لكن الأولى أن يكون قد وقع في اللفظ تقديم وتأخير، ويكون معناه ليس بالضرورة آ، ولا في شيء من ج، لا أنه بالضرورة لا في شيء من ج. وفرق بين قولنا: ليس بالضرورة لا في شيء من ج، وبين قولنا: بالضرورة ولا شيء في م ج كما علمت. وأورد لهذا في التعليم الأول مثال يدل على أن المراد فيه هو أن النتيجة قد تكون ضرورية، لا أنها تكون دائما ضرورية. والمثال لذلك: كل إنسان يمكن أن يفكر أي بالفعل، ولا شيء من المفكر بغراب، والنتيجة: فلا شيء من الناس بغراب، وذلك بالضرورة. وإذا جعل بدل الغراب: المتحرك، أنتج نتيجة غير اضطرارية. فإذن النتيجة تارة تكون ممكنة، وتارة تكون ضرورية.
وقد بقي علينا أن ننظر في هذه الحدود. فقد قيل في التعليم الأول يجب أن يطلب غير هذه. وقد صدق. فإن الكبرى في القياس الأول ضرورية، إلا أن يجعل بدل المفكر: المتخيل، فيكون سلب الغراب عن المتخيل مما يصح في وقت ما فيكون أول شيء قد نسينا النصيحة والوصية المذكورة في هذه الساعة، وثانيا: أن هذا بعينه يمكن في الضرب الذي كبراه موجبة مطلقة. فإنه قد يصدق هناك أن كل متخيل غراب، ولا ينتج أن كل إنسان يمكن أن يكون غرابا. لكنه إذا أخذ المطلق ما يعم الضروري، كان الإنتاج على ما ذكر في التعليم الأول. فإنه تارة يكون ضروريا إن كانت المطلقة في مادة ضرورية، وتارة غير ضرورية إن كانت المطلقة في مادة غير ضرورية. والضرب الذي بعده وهو أنه يمكن أن لا يكون شيء من ج بَ، وكل بَ آ، ينتج: يمكن أن لا يكون شيء من ج آ. وتبين بعكس السالبة إلى الوجبة، ثم بعكس النتيجة. وكذلك إذا كان من سالبتين كليتين، فإن جعلت الصغرى سالبة مطلقة لم يجب عنه قياس. والعلة فيه ما علمت في المطلقات. فإن جعلت الصغرى موجبة جزئية مطلقة، والكبرى ممكنة كلية، موجبة كانت أو سالبة، فالعبرة للكبرى بلا شك، فإن كانت الصغرى ممكنة، والكبرى مطلقة، فالنتيجة على ما سلف لك. فلا خلاف أنها تكون جزئية. وإن كانت الصغرى سالبة جزئية ممكنة، تبينت بالعكس إلى الإيجاب على نحو ما علمت.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في القياسات المختلطة من الإمكان والضرورة
في الشكل الأول الممكنة والاضطرارية(1/263)
أما إذا كانت الصغريات ضرورية والكبريات ممكنة، فلا شك أن النتيجة تكون ممكنة بسبب المقول على الكل؛ وإن كانت الكبريات ضرورية، فهنالك يحتاج إلى بيان يتبين به أن القياس منتج، وذلك كقولنا: كل ج بَ بالإمكان، وكل بَ آ بالضرورة، فينتج أو نتيجة ممكنة بالمعنى العام. فإنها إن لم تكن ممكنة، كانت غير ممكنة أن تكون كل ج آ، فيكون بالضرورة بعض ج ليس آ، وبالضرورة كل بَ آ، فيكون بالضرورة بعض ج ليس بَ، وكان بالإمكان الحقيقي كل ج بَ. وكذلك إن كانت سالبة ضرورية كقولك: كل ج بَ بالإمكان، وبالضرورة لا شيء من بَ آ، فيمكن أن لا يكون شيء من ج آ، وإلا فليس بممكن. فبعض ج آ، بالضرورة، وبالضرورة لا شيء من بَ آ، فينتج ما علمت. وأما هل تكون هذه النتيجة ضرورية أو مطلقة أو تكون ممكنة صرفة، فقد قيل في التعليم الأول - فيه - قولا كليا: إن الكبرى الضرورية إن كانت موجبة، أنتجت ممكنة فقط، ولم تجب مطلقة؛ وإن كانت سالبة أنتجت ممكنة ومطلقة غير ضرورية.
ولم نعرض لبيان هذا في الضرب الموجب، ونعرض لبين ذلك في هذا الضرب الثاني، بما يمكن أن يجعل دليلا على أن النتيجة ضرورية. فإنه قيل فيه ما هذا عبارته: فيجب أن لا يوجد آ في شيء من ج إذا لم تجعل لفظة " يجب " دالة على لزوم النتيجة؛ بل على أن النتيجة في نفسها واجبة، وتكون لفظة " فَ " دالة على ذلك اللزوم، ويكون الوجوب هو اللازم. فكأنه لما قاس قال منتجا: فبالضرورة ليس آ في شيء من ج، واقتصر بالفاء على دلالة اللزوم والإتباع، ثم بين ذلك بالخلف على ما اعتبر منه بأن قيل: فلنوضح أن آ موجودة في كل أو بعض ج، وإنما قيل في كل مقدما ببيان مثل ذلك في النتيجة السالبة الجزئية التي نقيضها كلية موجبة. وأما قوله: فلنوضح، فمعناه أنه لما قيل: إنه يتكون النتيجة سالبة كلية ضرورية، قيل بعده: فإن لم يكن بالضرورة لا شيء من ج آ، فليكن ليس بالضرورة ولا شيء من ج آ، فيمكن بالإمكان العام أن يكون بعض ج آ، فإنه لا يلزم من فرض الممكن موجودا محال، ولنفرض كل ج آ ونضيف إليه أيضا قولنا: بالضرورة لا شيء من آ بَ، عكس للضروري، وردا إلى الأول، لزيادة البيان،؛ وإن لم يفعل، كان ذلك بيانا من الثاني. فلما فعل هذا، أنتج من اختلاط المطلق والضروري أن لا بعض أو لاشيء من ج بَ؛ وذلك بالضرورة، وكان ممكنا أن يكون كل جض بَ، هذا محال.
فهذا وجه بياني برهاني، تبين به أن النتيجة ضرورية، وإليه ذهب في التعليم الأول، لكن الصدر والاقتصاص المذكور قبل التفصيل يبطل هذا التأويل.
فلننظر كيف يمكن استنتاج المطلقة عن هذا فنقول: إنه يمكن على هذه الصفة، وهو ما عليه الظاهر من التفسير، فنقول: إنه لا شيء من ج آ، وإلا فليكن هذا باطلا؛ وليكن الحق أن بعض ج آ، وبالضرورة لا شيء من بَ آ، فبالضرورة لا كل ج بَ، وكان كل ج يمكن أن يكون بَ. وهذا البيان يبين الإطلاق بالمعنى العامي، ولا يبين الإطلاق الذي لا ضرورة فيه، وذلك لأن قائلا إن قال: إنه ليس يجوز أن يكون الباطل أنه لا شيء من ج آ بالإطلاق بعض ج آ حقا؛ بل يجوز أن يكون الباطل أنه لا شيء من ج آ بالإطلاق لا ضرورة فيه، ويكون الحق أنه لا شيء من ج آ بالضرورة، ولا يلزم أن يكون بعض ج آ حقا.
فإذن هذا البيان لا يصلح لإثبات أن النتيجة مطلقة بإطلاق لا ضرورة فيه، ولكن يصلح لأن يبين به بإطلاق عام، ثم يبقى البحث عن الضرورة. فإن هذا البيان لم يبين به البتة أنه ليس ههنا ضرورة، ولا يتبين به أن فيه إمكانا حقيقيا، إلا أن يتكلف الإمكان بمعنى السور، وعلى ما سلف مرارا.(1/264)
لكني أقول: إن النتيجة في هذا وما أشبهه ضرورية؛ وأقول: إن الضرب الموجب والسالب اللذين كبراهما ضرورية ينتج نتيجة ضرورية. مثال الأول: كل ج بَ بالإمكان، وكل بَ آ بالضرورة، فكل ج آ بالضرورة، وإلا فيمكن أن لا يكون بعض ج آ. فلنضع هذا الممكن موجودا، فينتج من الشكل الثاني: يمكن أن لا يكون بعض ج بَ؛ بل لا يمكن أن يكون كل ج بَ؛ وهذا خلف لزم لا من الصادقة، بل من المشكوك فيها. ولنبين ذلك من الشكل الأول بعينه، ولتضع أن كل ج بَ بالوجود، وكل بَ آ بالضرورة، فكل ج آ بالضرورة. وإذا كان فرضنا الممكن موجودا يجعل هذه النتيجة ضرورية فلا يمكن أن ينتقل عن الضرورة؛ فإن قولنا: كل ج آ بالضرورة، معناه: أن كل ما هو موصوف بأنه ج مادام ذاته موجودا - وإن تغير عليه أي وصف كان - فهو موصوف بأنه آ. فيلزم أن كل ج فما دام ذاته موجودا فهو آ بالضرورة. فإذا كانت ذاته موجودة فهو آ بالضرورة. وإذا كانت ذاته موجودة ولم تكن موصوفة ببَ بالفعل فلا يخلو إما أن يكون موصوفا بأنه آ دائما، أو لا يكون فإن كان موصوفا بأنه آ، سواء وجد بَ أو لم يوجد وفي كل وقت، فالنتيجة ضرورية.وإن كان عندما يصير بَ يصير آ، فإن لم يكن بَ لم يكن آ؛ فليس ما دام ذاته موصوفا بأنه بَ. وقلنا إنه موصوف بذلك مادام ذاته موجودا، كان موصوفا بأنه بَ أو لم يكن، وهذا خلف. وبالجملة فاعلم أن ما يمكن أن يصير ضروريا فهو ضروري دائما وإمكانه الإمكان الأعم. وذلك لأنه إذا صار وقتا ضروريا، ويجوز أن تزول عنه الضرورة، وذاته موجودة، فيكون لم يصر ضروريا، لأن معنى صيرورته ضروريا: أن يكون الموضوع موصوف بذلك المحمول. وإذا كان ذاته موجودا وهو غير موصوف به قبل أن صار ضروريا له، فقد صار ضروريا له، وليس هو له بضروري، وهذا محال. ومثال هذا: كل إنسان يمكن أن يتحرك، وكل متحرك جسم بالضرورة، فكل إنسان جسم بالضرورة. فلما كان كل متحرك مادام ذاته موجودا - يتحرك أو لم يتحرك - موصوفا بأنه جسم، وكان الإنسان عندما يتحرك صادقا عليه أنه جسم بالضرورة، أي مادام ذاته موجودا كيف كانت أحواله، يلزمه أن يكون - وإن لم يتحرك - جسما، لأنه جسم مادام ذاته موجودا لا عندما هو متحرك فقط. فهو مادام ذاته موجودا جسم، وهو قبل الحركة جسم، وبعدها جسم، لا أنه إنما يستفيد هذا عندما يتحرك. فإن الشيء لا يستفيد أمرا من أمر عند وجوده يكون ذلك الأمر له حاصلا قبل وجوده، حتى لو لم يوجد، لم يكن له ذلك. فإن ذلك محال، كذلك الحال في التي كبراه سالبة ضرورية أن نتيجته سالبة ضرورية.
والعجب كل العجب أن مثل هذا البيان الذي ذكر، حيث الكبرى سالبة ضرورية، ليبين به أن النتيجة قد تكون ضرورية، وقد كان يمكن أن يذكر في الموجبة، فقد حكم في الصدر بما يوجب الفرق في ذلك بين التي كبراه موجبة والتي كبراه سالبة في هذا المعنى. ومن العجائب أنه لما كانت الكبرى مطلقة سالبة مخلوطة بالممكن تمحل لها نتيجة ضرورية ممكنة، ولما صارت ضرورية جزم أن تكون نتيجة ضرورية. هذا، وأما إذا كانت الممكنة سالبة، فينتج بعينه ما أنتجت الموجبة. ولا يمكن رد النتيجة عن الإيجاب إلى السلب؛ إذ ليس الإمكان فيه خاصيا، بل عاميا. واعلم أن أكثر ما يشتمل عليه في التعليم الأول من أمر الاختلاطات امتحانات، وليست فتاوى حقيقية. وسيتضح لك حقيقة ذلك في مواضع يذكر فها بعض ما مضى من هذه الاختلاطات، أو يستعمل فيه بعض ذلك، فتكون الفتوى فيها حينئذ على ما يوجبه الحق. وقد مضى لك من جملة ذلك واحد، وأنت تعرف المقاييس الجزئية من هذه. وبالجملة فإن العبرة للكبرى، فإنها إن كانت ممكنة فالنتيجة ممكنة، أو ضرورية فالنتيجة ضرورية.
الفصل الرابع
(د) فصل
في القياسات الممكنة في الشكل الثاني
إن الشكل الثاني لا يلزم فيه من ممكنتين قياس. فإن الشيء الواحد يجوز أن يكون ممكنا لشيئين أحدهما يحمل على الآخر، فيمكن أن يكون لكل واحد، أو يمكن أن لا يكون لشيء منه. وكذلك يمكن أن يوجب ويسلب عن كل واحد من أمرين متباينين، فلا يلزم من هذا التأليف شيء بعينه، إذ تراه تكون النتيجة ضرورية الإيجاب كما لو كان الأصغر إنسانا، والأوسط المتحرك، والأكبر ناطقا أو حيوانا، بل إنسانا نفسه، ثم بدلت الحدود فجعلت الأكبر فرسا.(1/265)
وليس يمكن أن يتبين هذا بالعكس والرد إلى الشكل الأول. فإن السالبة المكنة لا يجب لها عكس البتة. أما على الحقيقة، فإنه يجوز أن يكون شيء من الأشياء له خاصة لا تمنعه وجودا بالفعل؛ بل يمكن لكل واحد واحد منه، كالضحك بالفعل للإنسان. فيمكن أن يقال: ممكن أن لا يضحك بالفعل واحد من الناس. وإن شئت جعلت بدل " يضحك " ، يعقد الحساب؛ أو " يتعلم الملاحة " ، أو " يخجل " . ثم يكون الحق في قلبه كلية موجبة ضرورية كقولك: كل ضحاك أو خجل أو متعلم للملاحة أو عاقد للحساب إنسان بالضرورة؛ اللهم إلا أن يجعل بالإمكان للسور، حتى يكون معناه يمكن أن يكون حقا، مثل قولنا: لا واحد من الضحاكين إنسانا، أي إذا اتفق إن لم يكن إنسان ولا ضحاك. وكان حينئذ لا واحد من الضحاكين يكون إنسانا، ويكون ذلك الآن ممكنا. لكنا قد قلنا مرارا: إن هذا الاعتبار من حقه أن يُعرض عنه، وليجعل بدل الضحاك المتحرك، فيكون قولك: يمكن أن لا يكون أحد من المتحركين إنسانا، كاذبا. فإن بعض المتحركين إنسان بالضرورة. والآخرون تُسلب عنهم الإنسانية بالضرورة. فلا يكون عكس ذلك لا صادقا ولا أيضا ممكنا، إلا على التدبير المتكلف الذي أورد بيانه .
وأما المشهور فهو أنها لا تنعكس كلية، وكلن تنعكس جزئية. والبيان المشهور في أنها لا تنعكس كلية، هو أنه إن كان يلزم قولنا: يمكن أن لا يكون شيء من ج آ، الذي يصدق معه كل ج آ بالإمكان، أنه يمكن أن لا يكون شيء من ج آ، حتى يمكن أن يكون كل آ ج. فيلزم من ذلك كلما أمكن شيء لكل شيء أن ينعكس، فيمكن الشيء لكل ما يمكن له، حتى يكون إذا أمكن أن يكون كل إنسان متحركا، فيمكن أن يكون كل متحرك إنسانا، فربما كان المحمول الممكن السلب والإيجاب أعم من الموضوع، فلِم ينعكس عليه الموضوع؟ قالوا: بل ربما كان العكس جزئيا موجبا ضروريا كما نقول: كل إنسان يمكن أن يكون متحركا.
ثم ليس يصدق أن كل متحرك لا يمكن أن يكون إنسانا؛ بل إنما يصدق أن بعض المتحرك بالضرورة ليس إنسانا، وهذا قريب مما قلناه في مواضع. وهو دليل على قولنا: كل متحرك يمكن أن لا يكون إنسانا، كاذب في استعمالات التعليم الأول، لكنه باعتبار السور صادق. فبين أنه يجب أن لا يلتفت إلى السور، وأن يعلم أن ذلك مخالف أيضا لمذهب التعليم الأول. ولكن مما يلزم القوم إذا عوملوا بموجب ما حكموا به من الحق إذ قالوا: إن بعض المتحرك هو بالضرورة ليس إنسانا، وذلك هو الفرس؛ إن قالوا: ومن الحق أن بعض المتحرك هو بالضرورة إنسان، وذلك هو الناطق مثلا. فإن كانت الضرورية على ما يدعون من أمرها أنها منعكسة ضرورية، وجب أن ينعكس: فبعض الناس متحرك بالضرورة. وقد وضعوا كل إنسان متحركا بالضرورة. وقد وضعوا كل إنسان متحركا لا بالضرورة؛ بل بالإمكان الحقيقي المعاند للضرورة. فإذن ذلك العكس مما لا يجب.
ولنعد إلى حيث فارقناه. وقالوا: والخلف لا يبين هذا. ولك لأن قائلا إن قال: إن لم يمكن أن لا يكون شيء من ج آ، فبالضرورة بعض ج آ، وكان لا ضرورة في شيء منه، وهذا خلف. لم يكن صنع شيئا. قالوا: وذلك لأن قولنا: يمكن أن لا يكون شيء من آ ج مقابلهُ أمران، أحدهما بالضرورة: بعض ج آ، والآخر بالضرورة: لا شيء من ج آ، ولا كل ج آ. فلا يجب إذن هذا الخلف. فهذا ما قيل في التعليم الأول وكله صواب حسن.(1/266)
ولكن مراعاة مقابلة ضرورتي الإيجاب والسلب معا للسلب الممكن، أمر كان منسيا إلى هذا الموضع، وقد تذكروه ههنا. فعسى أن يكون كلامهم فيما سلف ليس بحسب الممكن الحقيقي، بل بحسب الممكن العام، أو هي امتحانات. وقالوا أيضا: إن هذه المقدمة، وإن لم تنعكس كليا، فستنعكس جزئية. وهذا شيء له تأويل ما بعيد في التعليم الأول. ولكن الذين جاءوا من بعد فقد قالوا: إنه ينعكس جزئا على ظاهره. وذلك لأن قولنا: لا شيء من ج آ بالإمكان الحقيقي، ينعكس: أن كل ج آ بالإمكان الحقيقي، وهذا ينعكس: أن بعض آ ج بالإمكان الحقيقي. إذ الممكن الموجب ينعكس جزئيا موجبا عندهم، ثم ينعكس هذا إلى السالبة بأنه يمكن أن لا يكون بعض ج آ. فقالوا: إن السالب الجزئي الممكن ينعكس لاستحالته أولا موجبا جزئيا، ثم انعكاس ذلك جزئيا موجبا؛ ثم انقلاب ذلك إلى السالب الجزئي. فهذا ما قالوه، بل أقوى ما قالوه. وليس يعجبني قولهم: إن الكلي الموجب الممكن ينعكس جزئيا موجبا ممكنا حقيقيا؛ بل إنما ينعكس ممكنا بالمعنى العامي الذي لا يجب أن ينعكس سلبه على إيجابه. وذلك أنه يمكن أن يكون نوع، وله أمر ما بالقوة في أشخاصه كلها، وذلك الأمر لا يصح أن يكون شيء يوصف بأنه هو إلا ويحمل عليه النوع، كقولنا: كل إنسان يمكن أن يخجل، فكل خجل فهو إنسان بالضرورة. وكذلك كل إنسان يمكن أن يتحرك، والمتحركات بعضها ناس بالضرورة، وبعضها بالضرورة ليس ناسا، اللهم إلا أن يقصدوا قصد السور الذي جاز لنا الآن أن نعقله. والذي تكلفه بعض المتكلفين أن بعض الخجلين بالقوة ناس بالقوة، فقد أجبنا عنه في مواضع. ولو صح مثل هذا القول، لصح قول القائل بعض الناس حيوان بالإمكان الحقيقي؛ إذ كان بعض الناس بالقوة حيوانا بالقوة. ولالذي قاله بعض الفضلاء إنا نقول: كل حيوان ممكن أن يكون نائما من جهة ما هو نائم، فبعض ما هو نائم من جهة ما هو نائم ممكن أن يكون حيوانا، لأن حيوانيته ليست له من جهة ما هو نائم، فمغالطة صرفة. أما ما يجب أن يعلم في هذا بالحقيقة، فأمر قد سلف بيانه. وأما القدر الاذي ينبغي أن نعيده ونقوله ههنا فهو: أن لفظة من جهة ما هو نائم، إما أن تقال على أنها جزء من المحمول أو من الموضوع. فإن كانت جزئا من المحمول، فيجب أول شيء أن تجعل في العكس جزءا من الموضوع، حتى يقال: وبعض ما هو نائم من جهة ما هو نائم فممكن أن يكون حيوانا. وهذا كما تسمعه. ثم هب أنه حق، فليس كلامنا فيه. فلا يمنع أن يكون مواد تنعكس فيها الممكنة ممكنة. وليس دليل صحة العكس هو أن تُرى مواد ينعكس فيها الشيء؛ بل دليل صحته أن القضية لا تنعكس، هو أن ترى ماجدة لا تنعكس فيها. وإذا كان ذلك كذلك، فهب أن هذا حق ومنعكس. ولكن أنت تعلم أيها الفاضل أن النائم بلا شرط غير النائم بشرط أخذ كونه نائما، ومن جهة ما هو نائم، والنائم بلا شرط ممكن الحمل على الحيوان ثم لا ينعكس. فإنه لا يخلو إما أن يحمل عليه الحيوان أو لا يحمل، فإن لم يحمل البتة فليس ينعكس. فإن حمل عليه دائما فهو ضروري. وإن حمل عليه وقتا دون وقت، فسيكون: نائم، ليس بحيوان. وهذا محال. وإما أن يكون جزءا من الموضوع، ولنساعد حينئذ، ولنسلم أن النوم يكون ممكنا له ويكون في هذه المادة ينعكس، ولكن كلامنا في أن نأخذ الحيوان حيوانا، ونعتبر معه النوم على أنه محمول بلا شرط يلحق الحيوان، أليس يكون النوم ممكنا له ولا ينعكس؟ فهذا الفاضل في تكلفة هذا يجرنا قهراً إلى أن نجعل المثال الذي أوردناه مثالاً آخر يوافق غرضه. ونحن إذا ساعدنا وسامحنا أن يكون المثال الذي يقلب عليه اعتباره هو على ما يقول، وانعكست الممكنة هناك صادقة، فلم يجب أن تكون منعكسة على الإطلاق، اللهم إلا أن يجرنا كرهاً على أن نعتقد أن لا فرق بين المثالين. وهذا مما لا يضطرنا إليه.وكيف ونعلم أن الحيوان بما هو نائم معنى، والحيوان معنى، والنائم مطلقاً معنى. وقد بينا الفرق بين ذلك كله فيما سلف، مما ل لا حاجة إلى مزيد عليه. فالحق ما نقوله، والباطل ما يتعصبون له.(1/267)
ولنسلم أن الممكنة السالبة تنعكس موجبة ممكنة، فتلك الموجبة ليس يجب أن تنعكس موجبة ممكنة حقيقية، وإن كان يجب أن تنعكس ممكنة بالمعنى الأعم. وذلك فإنه إذا كان كل آب بالإمكان الحقيقي، فبعض آب بالإمكان العامي، وإلا فبالضرورة لاشيء من ب آ، وكان كل ب آ بالإمكان. ولكن هذا الانعكاس لا يقرب الغرض الذي نحوه. فإنه ليس يجب إذا كان آ بَ بالإمكان العامي أن ينعكس إلى السلب، فيكون ممكنا أن لا يكون ذلك البعض من آ بَ، فإن الإمكان العامي لا يجب له انعكاس إلى السلب وإلى الإيجاب، فربما كانت المادة تصدق علاها الضرورة، فبهذه الأشياء يتبين أن الموجبة الممكنة لا تنعكس مثل نفسه، بل تقلب هي والسالبة الممكنة جزئية موجبة ممكنة بالمعنى الأعم. فإن السالبة الجزئية لا يجب لها انعكاس إلا موجبة جزئية ممكنة المعنى الأعم تابعة فيه الجزئية الموجبة. فيخالف الممكن في هذا الباب غيره، في أنه ما كان يجب لغيره أن ينعكس السالب الجزئي منه شيئا. وههنا يجب أن ينقلب جزئية موجبة. ثم من جملة هذه الأقاويل تبين أن العكس لا ينفع في بيان أن قرينة من القرائن المؤلفة عن المقدمات الممكنة في الشكل الثاني قياس.
وليس يمكن أيضا من طريق الخلف أن يتبين ذلك، لأنا إن وضعنا كل آ بَ، وبعض ج بَ بالإمكان لم يكن مناقضا للسالبة الممكنة ولم يبين به شيء. وأما إذا أخذنا نقضيها، وهو أنه ليس بممكن أن لا يكون شيء من ج آ. وذلك يصدق، إما لأن بعض ج آ بالضرورة، أو بعض ج بالضرورة ليس آ. فإذا قلنا بعض ج آ بالضرورة، فإما أن نأخذها صغرى أو كبرى. فلتكن صغرى، فتنضاف إليه، ويمكن أن لا يكون شي من آ بَ، أو يمكن أن يكون كل آ بَ، فينتج: بعض ج بالإمكان هو بَ، أو ليس بَ. وهذا هو الذي كان وضع أولا. ولنجعلها كبرى، ولنجعلها مع ذلك كلية، فنضيف إليها مقدمة ج بَ ينتج من الثالث: بعض بَ آ، أو ليس آ، كيف كانت جهته. فلا يناقض شيئا من المقدمات، فلا يبين به شيء بالخلف، إلا أن تتفق النتيجة ضرورية في مادة ينعكس فيها الضروري الموجب ضروريا لا محالة. فإن كانت عكس النتيجة تلزم ضرورية، فإنها تناقض الممكنة التي هي إحدى المقدمتين المحكوم فيها بالإمكان الكلي، لكن ليس هذا مما يتفق دائما، ولا الصادق دائما عند كذب الممكنة هذه الموجبة الضرورية، بل ربما كان الصادق الآخر، وإن لم تكن ضرورية، لم يناقض ما قيل. ثم إذا اعتبرنا الجزئية السالبة، وأخذنا بعض ج بالضرورة ليس آ، ولنجعله كبرى أولا، فيكون في الشكل الثالث فقط، لأنه جزئي وسالب، ويكون هكذا: كل ج بَ بالإمكان، وبالضرورة ليس بعض ج آ، ينتج: فليس كل بَ آ، كيف شئت أن تكون عليها الجهة. فإن كانت مطلقة صرفه، لم يناقض الممكن ولو كان الحمل والوضع واحدا. وإن كانت ضرورية، لم تناقض لأنها عكس بعض المقدمات العكس الذي لا ينعكس ضرورية. ولست أعني بالعكس أنه ينعكس عنه؛ بل إنه مخالف في وضع جزئية له. فإن أخذت صغرى، لم يصلح إلا في الشكل الثاني؛ إذ السالب غير الممكن لا يكون صغرى في شكل غير الثاني، فلا ينضاف إليه غير الكبرى، ولا ينتج أيضا نقيضا لمقدمة بوجه، ولا يمكن أن يبين بالافتراض. فإن الافتراض في هذا الشكل إنما يبين بقياس كلي من هذا الشكل الثاني نفسه، ثم بقياس يبين النتيجة الجزئية، فالكليتان من التأليفات من القرائن الواقعة في هذا الشكل لا تتبينان بالافتراض، والجزئيتان يمنع عن بيانهما به أن لا يستبين القياس الكلي في الشكل نفسه. فإذن لا نتيجة من ممكنتين في الشكل الثاني.
وإن اختلطت في المقدمات من مطلقة وممكنة، فأنت تعلم أيضا أنه لا يكون قياس، إذا كان المطلق بالحال المذكورة في المطلقات في الشكل الثاني كيف كان. وإما إن كان المطلق سالبا ينعكس، فيكون عنه وعن الممكن قياس، سواء كان الممكن موجبا أو سالبا. فإن كان المطلق موجبا والممكن موجبا لم يكن قياس، وهما في حكم الموجبتين.
ولنعد الضروب المنتجة من هذا الشكل عدّا.
فالضرب الأول: كل ج بَ بالإمكان، ولا شيء من آ بَ بالإطلاق المنعكس، ينتج ما ينتجه الضرب الثاني من الشكل الأول، ويبين بعكس السالبة.
والضرب الثاني المشهور ليس شيء من ج بَ بالإطلاق المنعكس، وكل آ بَ بالإمكان. وقد قيل فيه ما قيل.(1/268)
ولكن إن فرغنا في تعّرف حالة العكس واستخرجنا من العكس الأول فيه، ينتج: أن لا شيء من آ ج بالإمكان. فكيف ينعكس هذا. إذ ليس يجب للممكن الخاص عكس، فلا يجب أيضا للممكن العام عكس. فإنه إذا لم ينعكس ما هو أخص لم ينعكس ما هو أعم. فإن الأعم إنما ينعكس إذا انعكست جميع خصوصياته، وهذا شيء تعرفه. فلا يجب إذن أن يتوقع منه نتيجة كلية. لكن الحق في هذا الباب هو أن النتيجة قد تكون جزئية موجبة بالإمكان الأعم، وهو الذي جعلناه عكس السالبة الممكنة، إن كانت النتيجة الأولى ممكنة بالإمكان الحقيقي. وذلك عندما تكون الكبرى مطلقة غير ضرورية. فإن كانت المطلقة قد اتفق فيها أن كانت ضرورية، كانت النتيجة الأولى كما علمت ضرورية سالبة، فلم يجب عكس موجب؛ بل عكس سالب. فإذن إذا كانت المطلقة عامة، كان بين إنتاج موجب ممكن عام، وبين إنتاج سالب ضروري. فلم يكن يلزم شيء بعينه بطريق العكس. فإن كانت المقدمتان كلتاهما سالبتان، فلا ضير. ذلك لأن الممكنة ترجع إلى الإيجاب، فينتج ما ذكرنا، ثم يُرجع فيما أنتجت ممكنة صرفه إلى السلب. فأما حيث أنتجت جزئية موجبة بالإمكان الأعم، فلا يجب لها رجوع إلى السلب. والعجب ممن يرى أن إمكان نتيجة هذا التأليف في الشكل الأول ليس هو بخاصي، بل عامي. ثم حيث يحاول تبيين إنتاج هذا الضرب ترجع الموجبة فيه إلى السالبة. وعليك أن تعرف أحوال المقاييس الجزئية من هذه، لتعرف أن السالبة يجب أن تكون هي المطلقة بهذه الصفة، وإن كانت جزئية فتبين على أصلهم بالافتراض.
وفي التعليم الأول أن السالبة إن كانت جزئية مطلقة لم يكن قياس. لكنا إذا قلنا: بعض ج ليس بَ، ويمكن أن يكون كل آ بَ، فافترضنا ذلك البعض دَ، فكان ولا شيء من دَ بَ المطلق المنعكس، وكل آ بَ بالإمكان، فأنتج بالإمكان: لا شيء من دَ آ، وذلك على أصولهم. ثم نقول: بعض ج دَ، فينبغي أن ينتج: فبعض ج ليس آ بالإمكان. أو عسى أن يكونوا قد تذكروا ههنا أن نتيجة هذا التأليف لا تكون كلية، فلا يتألف منها قياس مع الجزئية الأخرى.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في القياسات المختلطة من الإمكان والضرورة
في الشكل الثاني
فأما إن كانت المقدمة المخالطة ضرورية، وقد علمت أن السالبة تجب - على أصولهم - أن تكون ضرورية. والضرب الأول كل ج بَ بالإمكان، وبالضرورة لا شيء من آ بَ، ينتج بالإمكان العام وبالضرورة أن لا شيء من ج،َ آ. وتبين ذلك بانعكاس الضرورية وبالخلف أنه إن كان ليس بممكن عام أن لا شيء من ج آ، فيمكن أن يكون بعض ج آ بالإمكان العام، ولنفرضه موجودا، ثم نقول: ولا شيء من آ بَ، وذلك بالضرورة، فينتج بالضرورة ليس كل ج آ، وكان ممكنا، وهذا خلف، قد علمت جهة خلفه مثله.
وإن كانت السالبة الضرورية صغرى تبين هذا بعكسين. فإن النتيجة بالحقيقة الضرورية، وعكسها ضروري. فإن ظن ظان أن النتيجة الأولى ربما كانت ممكنة ولا تنعكس، فليترك العكس إلى أن يوضح الأمر. وليبين بالخلف أنه إن كان يمكن أن يكون بعض ج،َ آ بالإمكان العام، ليدخل فيه الضروري وغير الضروري، ويضيف إليه: وكل آ بَ بالإمكان الحقيقي، فيكون بعض ج بَ بالإمكان الحقيقي، وكان بالضرورة لا شيء من ج بَ، هذا خلف. فان كانت الضرورية موجبة ففي المشهور أنه لا يكون قياس البتة، والحق يوجب في جميع ذلك أن يكون قياس دائما كيف كان الخلط. نعم لا يكون من هذا قياس ينتج للممكنة البتة، بل كان قياس منه؛ فإنما ينتج الضروري السالب دائما، كانت المقدمتان موجبتين أو سالبتين أو خلطا وعلى قياس ما قلنا في الوجوديات التي وجوديتها صرفة. وقد عرفت ذلك فتذكر منه ما يجب تذكره.(1/269)
وأما الآن فلننظر فيما قالوه هم، قالوا: إذا كان كل ج،َ بَ بالاضطرار، وكان بالإمكان لا شيء من آ بَ، فلا يلزم عنه نتيجة؛ لإنا إذا قلنا: كل ققنس أبيض بالضرورة، وممكن في كل واحد من الناس أن لا يكون أبيض، كانت النتيجة ضرورية سالبة. فلم تجب نتيجة ممكنة حقيقة، إذ هذه غير الممكنة الحقيقية؛ بل هي ضرورية. وقد صدقوا فقالوا: ولا الاضطرارية؛ لأن الاضطرارية تجب إما عن اضطراريتين. ولكن هذا هو المشكوك فيه. فإن القائل إذا قال: إن هذا الضرب منتج، لم يسلم أن الضرورية لا ينتجها إلا هذان، وحين يسلم أن هذين ينتجان الضرورية. ثم أتوا بحدود فقالوا: إن كل يقظان متحرك بالضرورة، ويمكن أن يكون كل أو لا يكون شيء من الحيوان متحركا، فالنتيجة على ما يشتهيها المفسرون بالضرورة: كل يقظان حي. ولست أفهم كيف صار كل يقظان متحرك بالضرورة. فإن عني بالحركة الإرادية النقلية فليس يجب أن يكون كل يقظان متحركا بالضرورة. وإن عني حركة مقابل سكون النوم فتكون نفس اليقظة أو لازما. فحينئذ يكون ذلك صادقا على كل يقظان ما دام يقظان لا مادام ذاته موجودا، فإنه ليس كل ما يوصف بأنه يقظان يتحرك حركة اليقظة ما دامت ذاته موجودة بالضرورة، كان يقظان أو لم يكن، بل إنما يتحركها ما دام يقظان. وأنت تعلم، على حكم الأصول الماضية، أن مثل هذه المقدمة لا تكن ضرورية. ثم هب أن كل يقظان متحرك بالضرورة، وبعض الحي يقظان إمكانا، ليس ينتج، على أصولهم، أن بعض الحي متحرك بالضرورة، بل بالوجود، وذلك لا ينتفع به. وإن حسب أنه ينفعه وجودا، فكيف يصدق وجودا أن يقال: بعض الحي متحرك بالضرورة. ويمكن أن لا يكون شيء من الحي متحركا إلا أن يلتفت إلى أمر السور وقد علم ما فيه. ومع ذلك فإن النتيجة تكون ممكنة حينئذ أن تصدق موجبة هكذا، وممكنة أن تصدق سالبة كالأولى، فتكون ممكنة بمعنى السور. ثم لا يقولون ههنا إن قولنا: كل يقظان حي ليس بالضرورة إذ ليس من جهة ما هو يقظان، بل هو ممكن كما قالوا فيما سلف ذكره. فإن قال قائل: إن معنى قولنا: يمكن أن يكون أو لا يكون الحي متحركا، إنما هو في وقت لا يكون فيه مثلا حي يقظان، فلا يخلو إما أن يجعل هذا الوقت داخلا في الموضوع، حتى يكون كأنه قال: يمكن أن يكون كل حي موجودا حين لا حي يقظان متحركا، فلا ينتج حينئذ أن اليقظان حي فقط، بل إن اليقظان حي موجود حين لا حي يقظان، وهذا محال. وإن لم يكن هذا جزءا من الموضوع، بل تفهيما للحال، صدق الحصر وقتا ما. ففي ذلك الوقت يكون كاذبا أن كل يقظان متحرك، سواء أخذت بالضرورة أو بالإطلاق، اللهم إلا أنه لا يلتفت في الضروريات إلى الوقت، بل إلى ذات الموضوع وذات المحمول. فيجب أن يفعل مثل هذا بالممكنات. وقد علمت فيما سلف ما يلزم على هذا .
والذي تكلفه متكلف فقال: إن قوله: كل يقظان متحرك بالضرورة، ليس معناه أنه متحرك دائما؛ بل معناه أنه كلما فرض موجودا في وقت وجد أنه متحرك، وكما نقول كل إنسان حيوان، فإنه لا يعنى بهذا أن كل إنسان دائما حيوان، بل إذا كان موجودا؛ بل لا يعنى بهذا أن كل إنسان دائما إنسان وجود، ومع ذلك فالحيوان دائما مقول عليه؛ ولا أيضا معناه أن قولنا: كل إنسان حيوان قول يكون دائما صادقا وفي كل زمان، فإنه يجوز أن تعدم أشخاص كثيرة من الأنواع أصلا كالدود، فلا يكون، حينئذ، كل دود حيوانا.(1/270)
فتقول لهذا الي تكلف ما تكلف: أما قولك إنه ليس شرط الضروري أحدالأمرين المذكورين فهو حق، لكن قولك بل شرط الضرورة ذلك الذي ذكرته وهو كون الموضوع موصوفا بما وصفته، حتى يكون قولنا: كلما كان يقظان موجودا يقظان كانت الحركة اليقظية موجودة، يوجب الضرورة أو نقيضها، ينقض عليك أصولا سلفت. وذلك لأن هذا القول يلزم منه أن يكون قولنا: كل متحرك متغير ضروريا، فإنه كلما فرض المتحرك موجودا يحمل عليه أنه متغير. فإذا جعلت أمثال هذه الكبريات ضرورية في الشكل الأول، وقرنت صغريات مطلقة، لم تنتج ضرورية، وذلك خلاف رأيك. نعم إذا قلت: إن الذات الموصوفة بأنها يقظان، كلما وجدت، لزم منه أن تكون متحرك، وصدق هذا، كانت المقدمة ضرورية، ولكن ليس يجب أن تكون الذات الموصوفة بأنها يقظى كلما وجدت كانت متحرك حركة اليقظة. فإنها إذا وجدت، ولم تكن يقظى، تكون قد وجدت الذات التي توصف باليقظة، ولا تكون متحركة. وأما الإنسان فليس من هذا القبيل. فإن الذات الموصوفة بأنها إنسان لا توجد وليست بإنسان؛ بل إذا صارت لا إنسان فقد فسدت. ولا كذلك الذات الموصوفة بأنها يقظى فإنها تكون يقظى، ولا تكون يقظى وهي موجودة. فضرورة مقدمة اليقظان تعتبر الذات الموصوفة باليقظان حكم أنها يقظان، لا حكم أنها موجودة، وأما ضرورة مقدمة في الإنسان، فتعتبر حكم أنه إنسان وحكم الوجود معا، فإنه ليس شيء موضوعا قائم الذات يوصف بإنه إنسان، وأنه ليس بإنسان، بل الشيء الموصوف بأنه إنسان ليس إلا نفس ذات الإنسان، كالموصوف بأ،ه سواد ليس إلا ذات سواد. فلا يبقى الشيء الموصوف بأنه إنسان موجودا، ولم يبق له أنه إنسان، كما يبقى الشيء الموصوف بأنه يقظان موجودا، وإن لم يبق له أنه يقظان. وإن شكل هذا عليك في الإنسان فخذ بدله السواد. فإن جوزت أن يكون شيء واحد يكون إنسانا، وهو بعينه غير إنسان، وتحمل عليه الحيوانية عند كونه إنسانا، لزم يكن حينئذ قولك: كل إنسان حيوانا، مقدمة ضرورية عندك. وهذا مما لا يجوز من ينازعه الآن. ولا يشك هو في أن الموصوف بأنه يقظان إنما يكون بالضرورة متحركا، لا مادام ذاته في نفسها موجودة، بل ما دام ذاته يقظي، وهذا هو ضرب من المطلق. وقد تحققت هذا فيما سلف تحققا لا تحتاج مع تذكره إلى أعادتنا عليك ما أعدناه. فإن كانت المقدمتان سالبتين كان قياس لا محالة، كقولك: لا شيء من ج بَ بالإمكان، وبالضرورة لا شيء من آ بَ. فإن هذا ينعكس إلى الشكل الأول، وإن كانت الصغرى ضرورية حتى يكون بالضرورة لا شيء من ج،َ بَ. ويمكن أن يكون لا شيء من آ بَ، فينتج أنه بالضرورة لا شيء من ج بَ على ما قلنا. أما على أصولهم فيعرض ما قلنا، حيث كان بدل السالبة الضرورية مطلقة.
وبعد ذلك فلا يجب أن يجدوا عكس العكس على أصولهم، وإن كانت المقدمتان موجبتين، فالنتيجة تكون على أصولنا سالبة ضرورية. وأما على المشهور فلا ينتج. ويثبتون ذلك بحدود هكذا: كل إنسان يمكن أن يكون أبيض، وكل ققنس بالضرورة أبيض والحق سالبة ضرورية. قالوا وكيف يمكن أن تكون النتيجة ممكنة، وهذه المجموعة من الطرفين ضرورية سالبة، وكيف تكون مطلقة صرفه ولا مقدمة مطلقة، وكيف يمكن أن تكون ضرورية سالبة إلا على سبيل الاتفاق من المواد دون الواجب من التأليف كهذا الذي أنتج من هذه المادة، فإنه من المسلم أن القياس لا ينتج سالبة ضرورية أو يكون فيه سالبة ضرورية. وهذا شيء لم يبين إلا في الشكل الأول، وليس بيانه في الشكل الأول بيانا في كل موضع. ثم قد تكلف بعضهم أن يعطي حدودا نتائج موجبة ضرورية حتى يكون هذا التأليف ينتج في ماجدة نتيجة سالبة ضرورية، وفي أخرى موجبة ضرورية. وذلك غاية ما يدل على أن الاقتران غير منتج، وتلك الحدود هي: أن كل يقظان متحرك بالضرورة، وكل حي ممكن أن يكون متحركا. وقد علمت ما في هذا. فإذ عرفت الكليات، فقد أمكنك أن تعرف الجزئيات.
الفصل السادس
(و) فصل
في القياسات الممكنة البسيطة والمختلطة
في الشكل الثالث
فلننظر الآن في الضروب التي تكون من الشكل الثالث، وأنها كيف تكون حال النتائج المستنتجة من المقدمات الممكنة فيها.(1/271)
فالضرب الأول: كل ج،َ بَ بالإمكان، وكل بَ آ بالإمكان، فبعض ج آ بالإمكان. لأن الصغرى تنعكس بالإمكان الأعم وتكون كبراهما ممكنة حقيقية، فتكون النتيجة ممكنة حقيقية. وكذلك إن كانت الكبرى سالبة ممكنة تنتج جزئية سالبة ممكنة حقيقية. وإن كانت المقدمتان سالبتين، انعكست السالبة الصغرى موجبة جزئية، فأنتح ما تعرف. فإن كانت الصغرى جزئية فكذلك، سواء كانتا موجبتين أو سالبتين أو خلطا كيف اتفق، فإن جعلت الصغرى كلية والكبرى جزئية، وهما موجبتان، لم يجب من طريق العكس أن تكون النتيجة ممكنة حقيقية؛ بل لا يمنع العكس أن تكون ضرورية؛ إذ ليس يجب أن يكون عكس الممكن ممكنا. لكن الافتراض يبين أن النتيجة تكون ممكنة حقيقية. مثاله كل ج بَ بالإمكان، وبعض ج آ بالإمكان. فلنفرض ذلك البعض الذي هو أيضا بعض بَ، وليكن دَ، فيكون كل دَ بَ بالإمكان، وبعض ج دَ فبعض بَ دَ بالإمكان. ثم نقول: كل دَ آ بالإمكان، وبعض بَ دَ، وذلك سواء كان بالإمكان أو بالإطلاق، فينتج جزئية ممكنة حقيقية. وكذلك إن كانت الجزئية سالبة أو كانتا سالبتين على ما تدري.
فأما إذا اختلطت المقدمات من مطلقات وممكنة، فالمشهور أن النتائج فيها كلها تكون ممكنة، ولا مطلقة. وهذا يفهم على وجهين: أحدهما أن تكون النتائج فيها ممكنة، ويستحيل أن تصدق مطلقة؛ وهذا بعيد. فإن الممكنات كثيرة منها تصدق مطلقة. ولا بأس بأن يكون محمول واحد موجودا الآن، وممكن أيضا بحسب الاستقبال، والطبيعة واحدة. فإن خالفوا هذا، وقالوا: إن الموجود الآن لا يمكن أن يكون شيء من جنسه ممكنا في الاستقبال، حتى يكون الجالس الآن لا يمكن أن يحدث له جلوس في الاستقبال، أو يستمر له الوجود في الاستقبال، فقد خرجوا عن المعقول، وأوجبوا أن كل من جلس امتنع أن يكون له جلوس في حال ثانية. فهذا وجه رديء جدا.(1/272)
والثاني أن نتائجها ما هو ممكن حقيقي، ولا يجب أن يكون ممكنا يصدق على المطلق لا غير. وهذا مستمر على قانونهم. فليكن كل بَ ج بالإمكان، وكل بَ آ بالإطلاق. فإذا عكست الصغرى؛ صارت إلى الشكل الأول، وأنتج على ما علمت جزئية ممكنة حقيقية من مذهبهم. والظاهر أنه لا يصدق معها الإطلاق. وأما الحق فهو أنه ليس يجب أن تكون ممكنة حقيقية وأن لا يصدق معها الإطلاق. فإنه يجوز أن تنعكس الممكنة الحقيقية ممكنة غير حقيقية؛ بل ممكنة بالمعنى العام، فنجعلها صغرى مطلقة، فتكون النتيجة حينئذ مطلقة. فإن إنما تصدق عليها الممكنة التي تقال على المطلق أيضا. مثاله: كل إنسان يمكن أن يكتب، وكل إنسان يتنفس بالإطلاق، فبعض ما هو كاتب يتنفس بالإطلاق كالإنسان. فأما إذا جعلنا الصغرى مطلقة، فالنتيجة تلزم ممكنة حقيقية، وكيف لا والكبرى عند الرد إلى الأول تكون ممكنة حقيقية، ولا يمنع مع ذلك صدق المطلقة. فإن كانت الكبرى سالبة ممكنة أو مطلقة، فالأمر على ما علمت. وإن كانت الصغرى كذلك، فيكون الحال على ما علمت. وكذلك إن كانتا سالبتين. وكذلك إن كانت جزئية. لكن لا يتبين بالعكس أن النتيجة تكون ممكنة حقيقية ولما علمت من حال العكس؛ بل إنما يتبين بالافتراض حيث يحتاج إلى عكسين كما قد علمت. وكذلك كل موضع لا يغني فيه العكس. وهناك أيضا يمكن أن يتبين بالخلف. وليمثل لهذا الاقتران فنقول: إن مثاله قولنا: كل جبَ ج بالإمكان، وليس كل بَ آ بالوجود الذي لا ضرورة فيه. فإنا نأخذ المقدمات ههنا بهذه الصفة صريحة في بابها خالصة لما قررناه فيما سلف من السبب، وبين أن هذا لا يتبين بالعكس على أصولهم، لأن السالبة الجزئية إذ هي وجودية فليست تنعكس على أصلوهم. ولو كانت ممكنة انعكست جزئية موجبة. لكن يبينونه بالخلف، والخلف المشهور فيه هو أنه إن لم يكن يمكن أن لا يكون كل ج آ، فبالضرورة كل ج آ، وكان ليس كل بَ آ. فبالضرورة ليس بعض بَ ج، ومكان بالإمكان كل بَ ج، هذا خلف. لكنا نقول: ليس إذا لم يكن يمكن أن لا يكون كل ج آ، وكان الإمكان حقيقيا، يجب أن يكون بالضرورة بعض؛ بل ربما يكذب ذلك إذا كان بالضرورة ولا شيء من ج آ، فيكون ليس بممكن أن لا يكون كل ج آ؛ بل بالضرورة. وأما إن كانت الكبرى ممكنة، فلا شك أن النتيجة تكون ممكنة حقيقية. فإن كانت الكبرى سالبة ضرورية، فإن النتيجة حينئذ تكون على الخلاف الذي في الضرب الذي ينعكس إليه هذا الضرب بعكس الصغرى؛ إذ المشهور فيه بيّن، والحق بيّن. فإن جعلت الصغرى سالبة ممكنة، كانت النتيجة جزئية على الوجه المقول في الشكل الأول. ولا يلزم عكس النتيجة إلى السلب، كما علمت. فإن كانت الصغرى سالبة ضرورية لم تنتج لمثل ما علمت في المطلقات. فإن كانت الصغرى موجبة جزئية ممكنة، والكبرى سالبة ضرورية، أو موجبة ضرورية، فالنتيجة ضرورية، وعلى الخلاف في الضرب الذي تنعكس إليه ذلك، بعكس الصغرى. وكذلك إن كانت سالبة جزئية ممكنة. فإن كانت ضرورية لم تصلح سالبة، وصحت موجبة. وكانت النتيجة ممكن ة حقيقية لا غير. فإن كانت الكبرى هي الجزئية، وهما موجبتان، فإن كانت الضرورية هي الكبرى، يتبين بالافتراض أن النتيجة تكون ضرورية، ولم يتبين بالعكسين؛ إذ ليس يجب أن يكون عكس الضروري ضروريا في الإيجاب. وإن كانت الكبرى ممكنة تبين بالافتراض أن النتيجة ممكن أيضا لا بالعكس على ما علمت. وإن كانت الصغرى سالبة ممكنة حقيقية، فالقول ما علمت. وأما إذن كانت سالبة ضرورية، فلا ينتج. ولكن إن كانت الكبرى سالبة ضرورية كانت النتيجة ضرورية، تبين لك بالافتراض. فليكفنا هذا المبلغ في ذوات الجهة.
المقالة الخامسة
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا) فصل
في القياسات الشرطية وأصنافها(1/273)
إنه كما أن المقدمات منها حملية، ومنها شرطية، كذلك المطالب منها حملية ومنها شرطية. وكما أن من الحمليات ما يصدق به بلا قياس، ومنه ما يحتاج فيه إلى قياس، كذلك الحال في الشرطيات. فإن كثيرا من الدعاوى التي في الرياضيات، والطبيعيات، وفيما بعد الطبيعة، شرطية متصلة ومنفصلة. والحمليات قد تبين بقياسات حملية، وبقياسات شرطية. لكن الشرطيات لا تنتج عن الحمليات على ما علمت. فهنا إذن قياسات شرطية تنتج شرطيات سواء كانت من شرطيات صرفه، أو مختلطة على ما سنبين. والقضية الشرطية توافق الحملية في أنها: قول جازم موضوع لأن يصّدق به أو يكذب، وفيه تصور لمعنى مع تصور نسبته إل خارج على سبيل المطابقة. فإن كل قضية تتصور أولا في نفسها، لكنها إنما يقع التصديق بها إذا نسبت إلى خارج على سبيل المطابقة. ثم الشرطية تخالف الحملية في أنها مركبة بالضرورة من أجزاء فيها تأليف خبري. ومع ذلك فإن النسبة بينها ليست نسبة أن يقال في أيجابها أن أولها ثانيها، كما يقال: إن الإنسان كاتب، فيجعل أول الأمرين هو ثانيهما. فتشارك الحملية في أن هناك حكما بنسبة جزء إلى جزء، ويخالفها في هيئة ذلك الحكم. لكن الشرطيات تختلف أيضا في هذه النسبة، فتكون النسبة الإيجابية في بعضها على سبيل المتابعة، وفي بعضها على سبيل المعاندة. وذلك إذا أخذا موجبتين. فإنك إذا قلت: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، كان الارتباط الموجب على سبيل الاتباع. وإذا قلت: إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا، كان لك على سبيل العناد.
ولنبدأ باقتصاص ما قيل في أمر الاتصال والعناد. قالوا: إن الاتصال منه تام، ومنه غير تام. وكذلك العناد منه تام، ومنه غير تام. وأما الاتصال التام فجعلوه ما يلزم فيه المقدم التالي، كما لزم التالي المقدم، كقولهم: كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود، وكلما كان النهار موجودا فالشمس طالعة. وأما الاتصال الغير التام، فأن يكون المقدم يلزمه التالي ولا ينعكس، كقولك: كلما كان هذا إنسانا فهو حيوان. ولا ينعكس، فليس إذا ذاك حيوانا فهو إنسان. وقالوا أيضا: إن العناد منه ناقص، ومنه تام. فالتام هو الذي يوجد فيه مع معاندة كل واحد من الجزئين للآخر، أن يكون نقيض كل واحد منهما قائما مقام عين الآخر، كقولنا: مل عدد إما زوج وإما فرد. والناقص هو أن يكون العناد حاصلا، وليس نقيض أحد الأمرين يقوم مقام عين الآخر، كقولنا: الستة إما أن تكون عددا تاما، وإما أن تكون عددا زائدا، ويقف، فإنه ليس إذا لم يكن زائدا كان تاما، بل ربما كان ناقصا. وقال بعضهم: إن الاتصال مكان الإيجاب، والانفصال مكان السلب. وقال آخرون: إن الشرطية باجملة لا إيجاب فيها ولا سلب. هذا وقد يدخلون في المنفصلات قضايا مكثل هذه: زيد إما أن لا يكون نباتا وإما أن لا يكون حيوانا، وزيد إما أن لا يكتب أو يكون يحرك يده. ولهم قضايا تستعمل في الشرطيات مترددة الحوال سنذكرها بعد.(1/274)
وظن بعضهم أن الشرطية المتصلة إنما تكون شرطية، بأن يكون مقدمها كالمشكوك فيه. وزن بعضهم أن قولنا: كلما كان هذا إنسانا فهو حيوان، أنه وما يجري مجراه حملي لا متصل، كأنه يوقل: كل إنسان حيوان. فحري بنا الآن أن ننظر أولا في الاتباع الذي في الاتصال. فتقول: إن الاتباع قد يكون على أن وضع المقدم وهو المنسوب إليه، وهو المقرون به الحرف الأول للشرط الذي يقتضي جوابا ، هو الجزاء يقتضي لذاته أن يتبعه التالي، وهو بين في نفسه كقولهم: إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود. فإن وضع الشمس طالعة، يلزمه، في الوجود وفي العقل، أن يكون النهار موجودا. وهذا اللزوم ربما كان علة لوجود الثاني، كما في هذا المثال؛ وربما كان معلولا غير مفارق، كما لو قلنا: إن كان النهار موجودا، فالشمس طالعة؛ وربما كان مضايفا؛ وربما كان كل واحد منهما معلول علة الآخر، وكان معلولي أمر واحد يلزمانه معا: مثل الرعد والبرق لحركة الريح في السحاب؛ وربما كانت وجوه أخرى لا يحتاج إليها ههنا. هذا وربما كان وضع المقدم يلزم التالي، لا في بديهة العقل، بل في الوجود، حتى أن الوجود لا يخلو مع حصول المقدم عن أن يكون التالي معه لعلاقة بينهما لا يجوز معها أن يحصل للمقدم وجودا، إلا وحصل للتالي وجود، إما لأن المقدم موجب عن التالي، وإما أن المقدم موجب للتالي، وإما لأنه هو موجبان عن علة واحدة، وإما لتضايف بينهما، وإما لشيء آخر مثل ذلك إن كان. وقد يكوون الاتباع على سبيل خارجة عن هذه السبيل، فيكون المقدم إذا كان صادقا، فإن التالي أيضا صداق، من غير أن تكون هناك علاقة من العلاقات البتة يلتفت إليها وتراعى. وإن كانت مثلا واجبة في نفس الوجود الغير المشعور به بديهة أو نظرا، كما إذا قلنا: إن كان الإنسان موجودا، فالفرس موجود أيضا، لا على حكم منا أن ذلك الاتباع أمر واجب في الوجود نفسه، ولا أن نفس وجود الإنسانية يوجبه أو يمنعه؛ بل على تجويز منا أن يكون اتفق اتفاقا، وإن لم يكن اتفق اتفاقا، وإن لم يكن الأمر في الطباع كذلك. والقول العام الشرطي يقتضي أن يدخل فيه جميع هذا.(1/275)
وأما إذا جعل الشرطي المتصل؛ إنما هو شرطي متصل بحسب شرط وجزاء، كان القول الشرطي الحقيقي هو الذي يكون اتباع تاليه لمقدمه على سبيل اللزوم عن وضعه. وما علينا في ذلك من شيء؛ بل علينا أن نتكلم على كل واحد منهما بما يخصه. لكن ههنا حروف شرط في الشرطيات المتصلة تدل على النحو المذكور من اللزوم، وحروف آخرى لا تجدل عليه. فالتي تدل عليه لفظة إن، فإنك لا تقول:إن كانت القيامة قامت فيحاسب الناس؛ إذ لست ترى التالي يلزم من وضع المقدم؛ لأن ذلك ليس بضروري؛ بل أرادي من الله تعالى. وتقول: إذا كانت القيامة يحاسب الناس. وكذلك لا تقول: إن كان الإنسان موجودا، فالاثنان زوج، أو الخلاء معدوم. لكن تقول: متى كان الإنسان موجودا فالاثنان أيضا زوج، والخلاء أيضا معدوم. فيشبه أن تكون لفظة إن شديدة القوة في الدلالة على اللزوم، و " متى " ضعيفة في ذلك، و " إذا " كالمتوسطة، ولفظة " إذا كان كذا، كان كذا " لا تدل على اللزوم البتة. وكذلك لفظة كلما لا تجدل أيضا على اللزوم. ولفظة لما إذ تقول: لما كان كذا، كان كذا، تصلح للأمرين، وزلا توجب أحدهما. والمقدم في الشرطي المتصل يدل على الوضع فقط، ليس فيه أن المقدم الموضوع موجودا وليس بموجود. فليس إذا قلنا: إن كان كذا، كان كذا، هو أن كذا يريد أن يكون؛ حتى يكون معنى هذا: إن كذا يرد أن يكون، ومعه كذا يريد أن يكون، فيكون المقدم في نفسه قضية صادقة، والتالي في نفسه صادقا، وقد قيلا معا؛ ويكون المقدم لو سكت عليه كان قولا تاما؛ وليس أيضا دلالة المقدم على هذا المعنى، وهو: ان كذا الذي يكون معه كذا أيضا يكون. فإن هذه قضية محلية، تحكم أن كذا خائن مع كون كذا، وليس في هذا شرط البتة؛ بل الشرط يحيل كل واحد من الجزئين عن كونه قضية. فإنك إذا قلت: إن كان كذا، فلا صدق فيه ولا كذب، وإذا قلت: فيكون من كذا، لا صدق فيه ولا كذب، إذا أعطيت الفاء حقها من الدلالة على الاتباع. الهم إلا أن نتكلم بلغة لا يكون للتالي علامة من حيث هو تالي، إلا نفس الاتباع، فيكون حينئذ التالي وحده صادقا أو كاذبا، بسبب أنه ناقص العبارة عن المعنى المقصود فيه، ولو وفيت العبارة حق المعنى لكان كما إذا ألحق به الفاء، وإذ لحق به الفاء كان كأنك تقول: فحينئذ أو مع ذلك يكون كذا. وهذا لا صدق فيه و لا كذب، حتى يعلم الوضع الموضوع. وإن كان نفس قولنا: يكون زَ ه صادقا أو كاذبا وحده وليس المقدم أيضا معرضا، من حيث هو مقدم، للشك فيه أو للتصديق له؛ بل إنما الالتفات إليه، من حيث هو مقدم، أن التالي يلزمه أو لا يلزمه. فربما كان غير مشكوك في بطلانه، كقولهم: إن كانت العشرة فردا فلا نصف لهم، بل ربما كان وضعه على أنه ثابت حق في نفسه، ليصح به التالي. وأما من حيث هو شرطي، فليس المقدم منه ولا التالي يقتضيه. فليس أحدهما بحيث يصدق به وهو مقدم أو تال. وما لم يكن كذلك فليس مشكوكا فيه.(1/276)
وأما النظر إليهما من خارج فربما صار التالي هو المشكوك فيه، إذا كان القصد متجها نحو إنتاجه؛ أو المقدم، إذا كان القصد متجها نحو إبطاله. فنقول: إنه لا بد من أن يكون القول الدال على أن شيئا يصدق معه شيء، وأنه مهما كان الأول صادقا كان الآخر صادقا، قوزلا هو قضية، وتكون لا محالة ليست من الحمليات، فيجب لا محالة أن تكون من الشرطيات، ومن التي تسمى متصلة، وإن كانت حقيقة الشرط والجزاء توجب أن يكون وضع المقدم يلزمه في الوجود التالي لعلاقة بينهما، ونسبة كيف كانت نسبة حمل، أو نسبة صريح إضافة حقيقية، أو نسبة إضافة لازمة. لأن أحدهما علة أو معلول، أو كل جزء، أو كلي أو جزئي، أو شيء من أمثال هذه، مما علمت أن الإضافة لازمة له، وليست مقومة لجوهره، كانت تلك العلاقة معلومة لنا أو لم تكن معلومة، فنحتاج أن نعلمها، والأول أيضا فإنه في وجه من الوجوه يرجع إلى هذه القسمة، فإن المعينة في الصدق في الوجود علاقة ما. لكن إذا كان الذهن قد سبق فعلم وجود التالي، وليس إنما انتقل إليه عن وضع الأول إما انتقالا أوليا وإما انتقالا بنظر، فيكون لا فائدة لوضع القدم لينتقل الذهن منه إلى التالي. فليكن المتصل إما على الإطلاق، فما يدعى فيه أنه يصدق التالي منع مع المقدم، وإما على التحقيق، فما يلزم فيه صدق التالي عن المقدم، والأول منهما أعم من الثاني، إذ ينقسم إلى ما معيته بلزوم، وإلى ما معيته باتفاق. ثم ههنا مواضع توجب شكوكا في هذا المعنى، مثل أنه إذا وضع محال على أن يلزمه في الظاهر محال، مثل قولنا: إن لم يكن الإنسان حيوانا لم يكن حساسا، هل يجب أن يقبل هذا أم لا يجب أن يقبل؟ فإنه إن لم يكن شرط الاتصال اللزوم، لم يكن هذا مما يجب قبوله. ولقائل أن يقول إنه إذا فرض قولنا: إنه ليس بحيوان صادقا، فلم يجب أن يرافقه في الصدق إنه ليس حساسا، إذ كانت هذه المرافقة التي لا لزوم فيها، بل مقتضاها أن يكون حكما مفروضا ويتفق معه صدق شيء ولا التفات فيه إلى اللزوم. لكن كون الإنسان ليس بحساس، قول غير صادق. فكيف يوافق صدقه شيئا آخر فرض فرضا، إلا أن يكون هذا الاتصال يوجب اللزوم؟ فيكون هذا وإن كان ليس صادقا في نفسه، حتى يصدق مع ذلك، فهو لازم عنه. لكن الجواب عن هذا أن اللازم صدقه مع صدق الشيء أخص من الذي يصدق مع الشيء، فإذ هذا لازم أن يصدق مع صدق الشيء، فإنه يصدق لا محالة مع الشيء. فإنه قد يكون كذلك تارة، وقد لا يكون أخرى. وأما هذا فلا يصدق مع الأول بوجه إلا لزوم. فإن الأول من هذين إذا فرض صادقا، فالثاني لا يجوز أن يكون صادقا معه من غير لزوم؛ لأن الأول ممتنع صدقه معه. وإنما يكون الصادق بلا لزوم ما يكون المقدم فيه صادقا لا يمنع أن يقارنه صدق التالي؛ إذ الصادق لا يمنع صدق الصادق. وأما إذا كان كاذبا فربما منع وربما لم يمنع هذا. وأما قول القائل: إذا كان الإنسان ناطقا فالغراب ناطق، فليس يجب أن يكون صادقا بأحد الوجهين. لا لأ لأن هذا في نفسه صدق مع ذلك، فإن كليهما كاذب، ولا لأن أحدهما يلزم عن الآخر. وأما قولنا: إن كان الإنسان موجودا فالخلا ء ليس بموجود، هو صادق بالمعنى الأول، وكاذب بالمعنى الثاني؛ فإن صدق هذا مع ذلك غير لازم عن وضعه. وإن كان صادقا معه فاللزوم جزء من التالي في هذه الحقيقيات، وليس جزءا من التالي في الشرطي المطلق. ولفظة " أن " موضوعة لهذه الدلالة. وأما الألفاظ الأخرى فالأمر فيها على ما علمت وسلف لك ذلك.(1/277)
واعلم أن قول القائل: إن كانت الخمسة زوجا فهو عدد، قول حق من جهة، وليس حقا من جهة. فإن هذا القول حق حين يلزم القائل به، وليس حقا في نفس الأمر، حتى يكون واجبا بنفسه أن يكون التالي يلزم من الأول لا محالة. وذلك لأن المحقق لهذه القضية وهي قولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي عدد، ولما يجري مجراها، هو قياس يلزمه ويوجبه. وقد حذفت منه مقدمة. وتحليل ذلك أنه إذا كان قد وضع أن الخمسة زوج على أنه حق، وكان حقا في نفسه أن كل زوج عدد، فيلزم ذلك الإنسان حينئذ أن تكون الخمسة عددا. والسبب فيه تسلم باطل وحق، وليس يجب تسليم ذلك الباطل على من سلم ذلك الحق. فإنه إذا وضع أن الخمسة زوج فليس يجب أن يسلم أن كل عدد زوج. ولا يصح هذا التسليم مع ذلك التسليم، بل يجب أن لا يسلم هذا. فإن وضع الخمسة زوجا يوجب في نفس الأمر أن لا يسلم هذا. ولا بأس من أن يلزم محال محالا، حتى إذا سلم باطل كان بالحري أن لا يلزم تسليم حق؛ بل إذا سلم المحال فيجب أن يسلم معه محال إن كان يلزمه. ففي نفس الأمر إذا سلمت أن الخمسة زوج، فيلزم أن تسلم ضرورة أنه ليس كل زوج بعدد. والدليل على أنه إذا سلم ذلك لزم أن يسلم هذا، هو أنه ليس شيء من الأعداد هو خمسة زوج. ويجب من ذلك أن لا يكون شيء مما هو بخمسة زوج بعدد. فإذا سلم أن خمسة زوج، وتلك الخمسة ليست بعدد، لم يكن كل زوج بعدد، بل إنما لزم على واضع الوضع أن يلزم ذلك، لأنه أخذ وضعا باطلا، وأخذ أمرا هو حق في نفسه، فخلط بينهما، فلزمه شيء لا يلزم، إذا لم يسلم ذلك الحق الذي لا يلزم تسليمه إذا سلم باطل. وإن كان إنكار ذلك الباطل، وتسليم هذا الحق واجبا عند اعتبار الصدق، فإن خلاف الأمرين واجب أو جائز عند ركوب الباطل. ولو كان قولنا: لو كانت الخمسة زوجا لكان عددا، حقا يجب أن يسلم في نفسه، لكان من الحق أن يقال: إن ماهو خمسة زوج فهو عدد. فلما كان هذا باطلا، فإن المتصلة التي في قوته أيضا باطلة. ول وكانت هذه الجملة حقا، لكان عكسها أن بعض العدد خمسة زوج حقا.
فقد عرفت حال القضية المتصلة الحق، واللازمة ومقدمها وحده باطل، والتي تاليها ومقدمها معا باطل، ولا يجوز أن يكون المقدم حقا، والتالي باطلا بوجه من الوجه، فإن الباطل لا يلزم الحق. وأما القضية الكاذبة من حقين، فمثل قولك: كلما كان الإنسان ساكنا، كان الإنسان متحركا، وكلا القضيتين صادقتان وجودا. وكذلك قولك: ليس البتة أن كان الإنسان حيوانا فهو جسم. فإن هذه كاذبة من ضروري الصدق.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في الشرطيات المنفصلة
ويجب أن ننظر في جانب العناد. فنقول: أما العناد فإنه مهما دل عليه بمجرد معاندة بأن قيل: إن هذا القول مثلا معاندة لهذا القول، لم يجب بذلك أن يكون القضية شرطية، ولا إن كانت شرطية وجب أن تكون منفصلة. فإن المتصلة قد يمكن أن تشتمل على ما معناه هذه المعنى، والدال على العناد في ظاهر العبارة هو لفظة إما.
ولفظة إما تستعمل باشتراك الاسم على وجوه ثلاثة: فالوجه الحقيقي فيه هو أن تدل على ما يدل عليه قولك: لا يخلو الأمر عن أحد الوجوه. كقولك: إما أن يكون هذه العدد زوجا، وإما أن يكون فردا، حتى يكون الغرض فيه الدلالة على أن هذه أمور متعاندة، والشيء لا يخلو عن جملتها، فتدل على العناد بينهما، وعلى أن لا يخلو عن أحدهما معا. فإذا عني بلفظة إما هذا المعنى، لم يصلح أن يكون العناد واقعا على عناد تام وعلى عناد ناقص البتة؛ بل كان الناقص كاذبا، كقولك: هذا العدد لا يخلو إما أن يكون تاما أو زائدا، ثم تسكت. فإنك إذا فعلت ذلك، كان قولك هذا كاذبا.(1/278)
والوجه الثاني محرف عن هذه الدلالة لإضمار شيء في النفس. وبيان ذلك أن يقول القائل: إن هذه الشيء جمادا أو حيوانا معا، فنجيبه بأنه إما أن يكون جمادا، وإما أن يكون حيوانا، ونعني بها أن هذين يتعاندان فيه ولا يجتمعان، ولا نعني صراحة أنه لا يخلو منهما؛ بل إضمارا. كأنك تقول: إن كان هذا الأمر ليس يخلو عن هذين الوصفين على زعمك، فلا تأخذهما مما لا يخلو عنهما الشيء معا حتى لا يزالا يلزمانه؛ بل اجعلهما مما لا يخلو عنهما لامعا؛ بل على أن لا يخلو عن أحدهما. فإنهما لا يجتمعان لأنهما متعاندان، فكيف يكونان معا؟ فيكون كأنه قال: إن هذين متعاندان ولا يخلو الشيء عنهما بزعمك.فتدل على مما دل عليه الأول من عناد وأنه لا يخلو عنه. ولكن يكون أن لا يخلو عنهما أمرا ليس يقتضيه القول، بل متابعة المخاطب به، كأن المخاطب جعل الأم ين لا بد منهما ومن وجودهما، ولكن لا على سبيل العناد فزاده القائل: إن هذا على سبيل العناد، ولا يجتعمان معا، وإن كان لا يخلو عنهما الشيء. وإذا بإما هذه الوجه، لم يدخله الناقص والتام معا، بل أحدهما.
والوجه الثالث أن يعبر عن العناد في مثل ذلك بسلب الأمرين، كأن قائلا قال: إن هذا الشيء جماد وحيوان، فيقال له: إما أن لا يكون جمادا، وإما أن لا يكون حيوانا، فتكون دلالة إما ليس على القسمة، ولا على أنه لا يخلو من أن لا يكون جمادا ومن أن لا يكون حيوانا؛ يبل فيه إشارة إلى معنى لا يخلو من وجه آخر. كأنه قال: لا يخلو إذا قلت ما قلت إما أن يكون كاذبا في أنه جماد وإما أن يكون كاذبا في أنه حيوان. وهذه القضية بهذه الصفة راجعة إلى حقيقة دلالة إما. فإن هذا القول لا يخلو إما أن يكون كاذبا في أن الشيء جماد، أو كاذبا فيه أنه حيوان. فهذا أيضا يرجع إلى الحقيقي. ولكن قد جعل فيه قوله: إما أن لا يكون، بدل قوله: كاذب. فإن الكاذب هو الذي لا يكون الأمر على زعمه. فكأنه قال: إما أن لا يكون جمادا فيكون كاذبا إذا قلت ما قلت، وإما أن لا يكون حيوانا فيكون كاذبا إ قلت ما قلت. وهذا القسم أيضا ليس فيه عناد ناقص وعناد تام فينقسم إليهما مفهوم العناد في هذه الثالثة بمعنى واحد. فإنه إن فهم من العناد بين الأجزاء أن الأجزاء لا تصدق معا فالثالث تصدق أجزاؤه معا، ولفظة إما ليس تدل أيضا على معنى مشترك بين الأول والثاني. فإن لفظة إما ليس إنما تدل على صريح العناد فقط، بل على زيادة أيضا: وهي أن الثاني كائن إن لم يكن الأول.
أما الدلالة على صريح العناد فقد تكون بألفاظ الاتصال وبالحمل، وإن كان من شرط لفظة إما أن تدل على العناد، ولكن كما يدل اللفظ على جزء من أجزاء حده أو شرط من شرائط مفهومه. وربما استعملوا لفظة إما في وجه آخر. فقالوا: لقيت إما زيدا وإما عمرا، ولا عناد في ذلك البتة؛ بل يضمر القائل: لقيت إما زيد وحده وإما عمرا وحده ولم ألق غيرهما وقد تدجل لفظة إما على أن الشيء لا يخلو من أحد أمرين مع جواز اجتماعهما من غير إيجابه أو نفيه. كقولهم: العالم إما أن يعبد الله، وإما أن ينفع الناس، وليس يشار في هذا إلا إلى أنه ليس يخلو من هذين، لا على أحدهما يكون له وحده. فليس إّن المعنى الذي يسمونه عنادا تاما والذي يسمونه عنادا ناقصا بالحقيقة داخلين في مفهوم إما بمعنى واحد، بل باشتراك الاسم. وأما الاتصال فإن الأمرين اللذين يسمونهما اتصالا تاما أو غير تام داخلان فيه. ومع لك فليس يجب أن يلتفت في أمر الاتصال إلى هذه المكفأة التي يلتفت إليها في أمر العناد. وذلك لأن جزئي الاتصال قد تميزا وانفصلا بما لحقهما من اللواحق حتى جعل أحدهما مقدما بعينه والآخر تاليا بعينه، إذا فاقترن بأحدهما حرف الشرط واقترن بالآخر حرف الجزاء. فإن كان لأحدهما أن يعود مرة أخرى فيصير إن كان مقدما تاليا، وإن كان تاليا مقدما، فذلك بوضع ثان، وبخروج عما عليه الأمر الأول، وفي مواد خاصة ليس لصورة الاتصال، و لا التفات إلى ذلك. وكذلك لم يلتفت في الحمليات الموجبة إلى أن يقال: إن منها ما هو حمل تام ينعكس فيه المحمول، وحمل ناقص لا ينعكس فيه المحمول، إذا كان ذلك بتدبير ثان.(1/279)
وأما العناد فبالحري أن يعتبر فيه هذه الأحوال إن أمكن. فإن حال أجزاء العناد بعضها عند بعض حال واحدة. ولذلك يلحق بها حروف قوتها واحدة. وإنما عرض لبعضها أن كان مقدما، وليعضها أن كان تاليا بوضع لا طبع، فاعتبار المكافأة فيها مما يحق تأمله. وأما المتصل فقد جعل جزء منه صورة تخالف بها الثاني. وليس يجب من حيث هو متصل أن يكون هناك مكافأة.
لكنا يلزمنا أن نحقق القول في الأقسام الثلاثة للمنفصلة، ونوضح أن البسيط الحق منها واحد، فنقول: إن الأول يدخله لفظ لا يخلو ويليق به معناها. فإنك تقول: لا يخلو إما أن يكون هذا العدد زوجا، وإما أن يكون هذا العدد فردا، ولا يليق ذلك بالصنفين الآخرين. فإنك لا تقول هناك: لا يخلو إما أن لا يكون هذا الشيء نباتا، وإما أن لا يكون جمادا؛ ولا تقول: لا يخلو إما أن يكون هذا الشيء نباتا، وإما أن يكون جمادا؛ لأن هذا معناه أن هذا الشي لا يخلو من الأمرين، فأيهما لم يكن كان لا محالة الآخر الذي بعده. وهذا القول كاذب في الثاني من هذين. وأيضا فأيهما كان لم يكن الآخر الذي بعده. وهذا القول كاذب في الأول من هذين. فإن قال قائل: إنه قد تكون القضية صادقة، مع أن لا يلزم من لا كون أحد الجزأين كون الآخر، وذلك إذا كانت الأقسام فوق اثنين، وكان المقول صادقا، مثل قولك: هذا المقدار لا يخلو إما أن يكون مساويا، وإما أن يكون أعظم وإما أن يكون أصغر؛ وليس يجب إن لم يكن مساويا، أن يكون أعظم لا محالة؛ والقضية صادقة. فالجواب عن هذا هو أن من رفع المساوي يجب لا محالة أن يكون ما بعده حقا. فإنه إن لم يكن مساويا فلا محالة أنه إما أعظم وإما أصغر. وبالتالي بعد المساوي ليس هو أحد هذين؛ بل جملة هذين مع شريطة الانفصال. فإذن إنما خلا عن المساوي ومن بعض ما بعده. وكلامنا في أنه لا يخلو عن الواحد. وإن خلا عنه لم يخل عن الباقي بعده بتمامه.(1/280)
فقد تبين الفرق بين الأول وبين الثاني. والفرق بين الثاني والثالث، أن الثالث قد يصدق في الشيء الواحد جزآه معا، حتى يصدق أن يقال: إنه ليس بنبات وإنه ليس بجماد. والثاني لا يصدق جزآه في شيء واحد بعينه؛ بل بينهما عناد. والثالث يشارك الأول في شيء وهو أنه يصلح فيه إدخال لفظة لا يخلو بعد اشتراط بعد اشتراط نقيض أي جزء ثبت. كأنك قلت: وإن كان نباتا لم يخل عن أن لا يكون جمادا. كما نقول: فإن لم يكن زوجا، لم يخل عن أن يكون جمادا. والثاني يشارك الأول في أن جزأيه بينهما عناد وهما موجبان. فظاهر الحال في المنفصل ذلك. والثاني والثالث يشتركان في أنه لا يليق بهما اشتراط لفظة لا يخلو، إذ لايستوفيان الأقسام، ويشتركان في أنهما إذا حقا لم يكونا قضية منفصلة بسيطة محضة. وبالحري أن تسمى لذلك ناقصة العناد، بل المنفصلة بالحقيقة هي التي يليق بها اللفظ الدال على القسمة، وهي لفظة لا يخلو. وهاتان في قوة تلك، وليست بها. وكل واحدة من هاتين فيه إضمار، إذا صرح به عادت إلى منفصلة ومتصلة، فلا تكون قضية منفصلة محضة. مثال ذلك في الثانية أن تمام الكلام فيها أن يقال: هذا الشيء إما أن لا يكون نباتا، أو يكون؛ فإن كان، فحينئذ لا يكون جمادا. فأسقط قم لا يكون، وهو لافظة يكون، ووضع مكانها لازمها، وهو أنه لا يكون جمادا. حتى إن أورد لازم آخر عنه غير هذا اللازم من اللوازم التي تكاد لا تتناهى، فقيل: لا يكون فلكا، لا يكون بياضا، لا يكون مكانا، أو قيل بالإيجاب، يكون متنفسا، أو يكون ذا أصل وفرع؛ صح جميع ذلك. وهناك لا يصح إلا لشيء معين. لكن العادة جرت في ذلك على الاختصار وحذف الملزوم، إذ كان الذهن يشعر به ويستغني عن تصريحه، وهو في الذهن مصرح مقول. فالمقو الحقيقي هو الذي يطابق مسموعه ترتيب المعقول في الذهن. فهذا القول إذن فيه تحريف عن وجهه، وتجوز واقتصار على الغرض دون توفية المعنى حقه من العبارة. وكذلك الحال في الثالث. فإن معناه إما أن يكون هذا الشيء نباتا، و ام أن لا يكون نباتا، فيكون حينئذ يصح أن يكون جمادا. فقد بان لك أن الثانية والثالثة كل واحدة منهما في الحقيقة قضيتان أدغم إحداهما في الأخرى. ولقائل أن يقول مثل ذلك في الأولى، إلا أن الفرق بين الأمرين ما أقول: أن لا كون العدد فردا، هو نفس كونه زوجا، أو منعكسا عليه؛ وكون الشيء نباتا ليس هو لا كونه جمادا ولا خاصية، بل هذا لازم له، وربما كان لغيره.
على أن ذلك الحقيقي، وإن كان يصح أن يقلب إل منفصلة أو متصلة، فليس يجب أن يكون تمام الكلام فيه، ويمثله في الذهن بالفعل على صورة مؤدية إلى صيرورته قضيتين، بل الذهن يستثبته من غير التفات إلى ذلك. وأما هاتان فإن الذهن ما لم يلتفت إلى ذلك بالفعل لم يستثبته. وفرق بين أن يكون للشيء حال لا بد منه وبين أن يكون له مثل تلك الحال على الجواز. والقسم الثالث لا يستعمل في القياسات الشرطية الاقترانية. نعم ربما استعمل في الاستثنائيات، والحقيقي والثاني يستعملان في كلا جنسي القياسات الشرطية، ويشتركان في أن وضع نقيض أي جزء منهما كان يلزمه وضع عين الآخر ويخص الحقيقية أن وضع عين أي جزء كان منه، يلزمه وضع نقيض عين الآخر.
واعلم أن حكم اللاتي تكون مؤلفة من سالبة وموجبة في حكم المؤلفة من سالبتين. على أنه لا يمتنع أن تكن منفصلة حقيقية من سالبتين، ومن سالبة موجبة، إذا لم رند بها ما أريد من المذكورة؛ بل أريدت القسمة أيضا حتى كان كأنه قال: لا يخلو الأمر من أحد الأمرين: إما أن لا يكون آ بَ، وإما أن لا يكون ج دَ. كأنه لا يخلو إما أن يكون الحق هو قولنا: لا يكون آ بَ، أو أن يكون الحق قولنا: لا يكون ج دَ. فإذا كان كذلك فقد دخله لا يخلو.(1/281)
والعم أن المنفصلة الحقيقية قد تحرف عن الانفصال الحقيقي إلى الانفصال الغير الحقيقي فيزاد عليها قسم، وهو إذا كانت على حكم الانفصال الحقيقي لم يحتمل قسما زائدا. وهذا كقولهم: إما أن يكون هذا العدد زوجا، وإما أن يكون فردا، وإما أن لا يكون عددا. وهذا يظهر فضل ظهور أن مقتضى لفظة إما هناك غير مقتضاها ههنا. هذا ولننظر أنه هل كما أن من الاتصال ما هو على المعنى العام، ومنه ما هو على سبيل اللزوم؛ كذلك في العناد، عناد ليس بمعنى اللزوم عن الوضع. مثال ذلك، هل كما يصدق في المتصلات، فيقال: كلما كان الإنسان موجودا، فالخلاء معدوم؛ كذلك يصدق في المنفصلات، فيقال: إما أن يكون الإنسان موجودا، وإما أن يكون الخلاء موجودا. حتى يكون الاتفاق أوقع الاجتماع لا العناد، كما كان الاتفاق هناك أوقع الاتصال لا اللزوم. فتقول: إن هذا لا يصح في العناد البتة.وذلك لأن لفظة لا يخلو لا تدخل في هذا البتة. ولا توافق الاتفاق. فإنه ليس يصح أن يقال: لا يخلو إما أن يكن الإنسان موجودا، وإما أن يكون الخلاء موجودا. لأن الوجوه المقولة في تفسير لفظ إما لا تصح في هذا الموضع، إلا على سبيل المجاز الذي ربما أشرنا إليه. فإنه وإن لم يكن الإنسان موجودا لم يجب أن يكون الخلاء موجودا ولا اتفق أن يكون موجودا؛ لا، ولو كان الخلاء موجودا، يلزم أن لا يكون الإنسان موجودا، أو يتفق أو لم يكن الخلاء موجودا، صدق معه بلزوم أو من غير لزوم، أن لا يكون الإنسان موجودا. فالمفهومات المذكورة للفظة إما لا توجد ههنا البتة؛ بل الإنسان موجود دائما أو غير دائم، والخلاء معدوم دائما، فليس يجتمع لهما الوجود، زلا أيضا يتعاندان مترافقين على سبيل اللزوم. وقد قلنا: إن هذا غير حقيقية كون القضية منفصلة مكافئة في العناد أمر واجب؛ إذ التكافؤ في العناد واجب في نفس الانفصال الحقيقي في العناد. وأما في غير الحقيقي فلا بأس بذلك. وأما التكافؤ في نفس الاتصال غير لازم، والاتصال أقرب إلى أن يحتمل هذا المعنى من الانفصال من وجه آخر. فإنه ليس يبعد أن تكون الأمور الموافية معا بينها علائق مشتركة موجبة في نفس الأمور تلزم لها بعضها بعضا، وإن منا لا نشعر بها. ولا كذلك الأمور التي تمانع أن توجد معا، فإنها ربما كانت مستحيلة لأنفسها، أو لأسباب متفرقة، ليس امتناع توافيها عن سبب يوجب ذلك بينها.
واعلم أن ههنا قضايا شرطية يعبر عنها بعبارة غير العبارة التي ذكرناها، وهي في القوة إما متصلة وإما منفصلة. فمن ذلك قولهم: لا يكون آ بَ، أو يكون ج د، أو حتى يكون ج دَ، أو إلا أن يكون ج دَ. وهذه في قوة ما ذكرناه، فإنها لا محالة شرطية؛ لأنها تتضمن نسبة ما بين حكم وحكم، فتشبه من المتصلات مثل قولك: إن كان آ بَ، ف جَ دَ، ومن المنفصلات قولك: إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون آ بَ، وتلحق بالمنفصلات من غير تغيير كيفية الجزأين، فهي بها أولى. ومن ذلك قولهم: يكون آ بَ، وليس ج د، وهذه شرطية أيضا كنا تعلم. وتشبه من المتصلات قولك: قد يكون إذا كان آ بَ، فليس ج دَ؛ بل هو بعينه. ومن ذلك قولهم: إنما يكون آ بَ إذا كان ج دَ. وهذه أيضا شرطية متصلة؛ وتدل لفظة إنما فيها على تخصيص التالي باتباعه للمقدم. وهذا نظير قولهم: إن الإنسان هو الضحاك. ولا يكونان إلا مهملين، أعني الحملية المذكورة والشرطية. وقد توجد أيضا تأليفات تشبه هذه، وترجع إلى المتصلات ولا المنفصلات رجوع هذه. فتكون هذه بالجملة قضايا شرطية محرفة العبارة، كمما قد يكون مثلها في الحمليات.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في تعريف أصناف تأليفات الشرطية
البسيطة والمركبة منها ومن الحمليات
وكل واحد من المتصل والمنفصل، فإما أن يكون التأليف فيه من حملي وكلي، أو متصل ومتصل، أو منفصل ومنفصل، أو متصل ومنفصل، أو حملي ومتصل، أو حملي ومنفصل.
ومثال الأول قولك: إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود. ومن المنفصلات قولك: إما أن يكون هذا العدد زوج، وإما أن يكون هذا العدد فردا.
ومثال الثاني، من المتصلات: إن كان كلما كان نهار، كانت الشمس طالعة، فكلما كان ليل، كانت الشمس غاربة. ومن المنفصلات: إما أن يكون، كلما كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود؛ وإما أن يكون، قد تكون الشمس طالعة، والنهار ليس بموجود.(1/282)
ومثال الثالث، من المتصلات: إن كان الجسم إما ساكنا وإما متحركا، فبعض الجواهر إما ساكن وإما متحرك. ومن المنفصلات: إما أن تكون هذه الحمى صفراوية وإما دموية، وإما أن تكون هذه الحمى إما بلغمية أو سوداوية. وهذه قريبة القوة من منفصلة واحدة معمولة من هذه الأجزاء. إلا أن التي أشرنا إليها توقع القسمة الثانية بعد الأولى على تدريج. ولو جعلت منفصلة من الأجزاء كلها بقسمة واحدة لما كان للتقسيم تدريج.
ومثال الرابع، وليكن أولا من المنفصلات: إما أن يكون، إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود؛ وإما أن يكون، إما أن تكون الشمس طالعة، وإما أن يكون النهار موجود. وإما من المتصلات، وليكن المتصل مقدما أولا كقولك: إن كلما طلعت الشمس، كان نهار، فإما أن يكون النهار، وإما أن لا تكون الشمس طالعة. وليكن المتصل تاليا، كقولك: إن كان إما أن يكون هذه العدد زوجا وإما أن يكون فردا، فإن كان زوجا، فليس بفرد.
ومثال الخامس، وليكن أيضا أولا من المنفصلات: إما أن يكون كلما كان نهار، فالشمس طالعة، وإما أن لا تكون الشمس علة النهار. ومثاله من المتصلات والمقدم الحملي: إن كانت الشمس علة النهار فكلما كان النهار موجودا، فالشمس طالعة. ومثاله والتالي حملي: إن كلما كان النهار موجودا، فالشمس طالعة. فإن الشمس علة النهار أو شرط النهار.
ومثال السادس من المنفصلات: إما أن يكون هذا إما زوجا وإما فردا، وإما أن لا يكزون عددا. ومثاله من المتصلات والحملي هو المقدم قولك: إن كان هذا عددا، فهو إما زوج وإما فرد. ومثاله والحملي هو التالي قولك: إن كان هذا إما زوجا وإما فردا فإنه عدد.
واعلم أن المنفصل قد يكون ذا جزأين مثل قولك: هذا عدد إما زوج، وإما فرد. وربما كان أحدهما أو كلاهما سالبتين. وإما أن يكون ذا أجزاء كثيرة متناهية في القوة والفعل، كقولك: إما أن يكون هذا العدد تاما أو زائدا أو ناقصا. أو غير متناهية في القوة كقولك: إما أن يكون هذا العدد اثنين أو ثلاثة أو أربعة وكذلك هلم جرا. وقد يكون فيها سوالب وموجبات.
وأما المتصل فلا يكون إلا ذا جزأين مقدم وتال، ولكن ربما كان المقدم قضايا كثيرة بالفعل أو بالقوة. ومع ذلك فقد تكون جملتها مع التالي قضية وحدة بالفعل، كقولنا:إن كان هذا الإنسان به حمى لازمة وسعال يابس وضيق نفس ووجع ناخس ونبض منشاري، فيد ذات الجنب. وأما إذا وقعت هذه الكثرة في جانب التالي لم تكن القضية واحدة؛ بل كثيرة بالفعل. كما إذا عكست هذه القضية فقلت: إن كان بهذا الإنسان ذات الجنب، فيه حمى وسعال يابس وكذا وكذا. فتكون لا قضية واحدة؛ بل قضايا كثيرة بالفعل. لأن قولك: فيه حمى، قول تام؛ وقولك: فيه سعال يابس، كلام تام. فإن قال قائل: إنه قد يكون التالي قضايا كثيرة، والمتصلة واحدة، كقولنا: إن كان قد يكون آ ولا بَ؛ ويكون بَ ولا آ، فلا بَ شرط آ، ولا آ شرط بَ. وإنما تم غرضنا بأن يقول القولين معا. فالجواب أنه، وإن كان الجمع بينهما يكون أوفر دلالة، فإن القضية تتم مع أيهما قبلت وحده، ولا يكون التالي معرفا لما قبل، كما إذا جعل الحد محمولا في الحمليات. وذلك لا يكون دلسيلا على أن جزء الحد وحده لا يكون محمولا. وإذا أريد أن يجدل بعبارة أخرى ى يم معها الكلام بواحدة منهما فهو أن يقال: إن كان قد يكون آ ولا بَ، و بَ ولا آ، فليس أحدهما شرطا في وجود الآخ. فيكون التالي قضية واحدة أيضا. واعلم أنه كثيرا ما تكون المتصلة والمنفصلة مشتركة الأجزاء في أجزائها، أعني مشتركة التالي والمقدم في جزء منهما، أو في كلى جزئيهما، مثل قولك: إن كان كل آ بَ، فبعض آ بَ، أو قولك: إن كان آ بَ، ف آ ج، وقولك: إن كان آ بَ، فج بَ؛ أو قولك: إما أن يكون آ بَ، وإما أن لا يكون آ بَ؛ أو قولك: إما أن يكون آ بَ، وإما أن يكون آ ج؛ وقولك: إما أن يكون آ بَ، وإما أن يكون ج بَ.(1/283)
وجميع القضايا المتصلة، بل والمنفصلة، فإنها لا يمكن أن ترد إلى الحمليات وخصوصا المتصل المشترك الجزأين في جزء، وذلك مثل قولك: إذا وقع خط على خطين فتصير الزاويتان اللتان في جهة واحدة كذا، فإن الخطين متوازيان، فإن هذا في قوة حملية، مثل قولك: كل خطين يقع عليهما خط وقوعا كذا فإنهما متوازيان. ونحن نبين هذا في موضع يخصه. وأيضا فإن المتصلات والمنفصلات قد يكون بعضها في قوة بعض، ونحن نشير إليها عن قريب لاحتياجنا إلى معرفتنا إياها هناك. واعلم أن المنفصلات والمتصلات وريما كان دلالة الاتصال أو الانفصال فيها بعد وضع الموضوع، وربما كان قبل وضع الموضوع، أعني بذلك الكلمة التي بها يصار إلى الاتصال والانفصال، كقولك: إن أو كلما في المتصل، أو قولنا: إما في المنفصل. فيصير ذلك أربعة أصناف من المتصل والمنفصل.
فمثال الذي الاتصال فيه بعد الموضوع، قولك: الشمس كلما كانت طالعة، فالنهار موجود. وهذا قريب جدا من الحملي، لأنه يمكن أن يوضع لجميع ما بد الموضوع اسم واحد، مثاله أن معنى قولك هذا، هو معنى قولك: الشمس شيء من صفته أنه إذا كان طالعا، كان النهار موجودا. وهذا الشيء الذي هو بهذه الصفة قد يمكن أن يوضع له اسم وهو أنه ألف، فإذا قلت إن الشمس ألف تكون قد قلت هذه القضية بعينها. فهذه القضية مترددة بين أن تعني شرطية وبين أن تعني حملية.
وأما مثال الذي الاتصال فيه قبل الموضوع فظاهر، وهو ولك: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. فإن هذه القضية متصلة بالفعل، وليست تكون حملية؛ بل قد تلزمها الحملية. والقضيتان المتصلتان المذكورتان متلازمتان في كل موضع. وليس كذلك نظيرتاهما من المتصل كما يتبين لك.
أما مثال المنفصلة التي الانفصال فيها بعد الموضوع فلا يمكن إلا أن تكون الأجزاء المشتركة في ذلك الموضوع، فتكون حينئذ كقولك: كل عدد إما أن يكون زوجا، وإما أن يكون فردا. وهذا أيضا في قوة الحملية، كأنك قلت: كل عدد فهو شيء من صفته أنه لا يخلو من أحد هذين الأمرين. فإن سميته بجيم صح أن تقول: إن كل عدد فهو ج. فهذه القضية مترددة بين أن تستعمل منفصلة، وبين أن تستعمل حملية، من غير أن يكون كذلك بقوة بعيدة؛ بل بقوة كأنها قعل.
ومثال الذي يكون الانفصال فيه قبل الموضوع، قولك: إما أن يكون كل عدد زوجا، وإم أن يكون كل عدد فردا. والفرق بين هذه المنفصلة وبين الأولى أن هذه كاذبة والأولى صادقة. وهذه إنما تصدق إذا قرن بها قسم ثالث، فتكون الجملة قضية صادقة. والأولى لا تحتمل قسما ثالثا؛ لأن الحق هو أنه إما أن يكون كل عدد زوجا، وإما أن يكون كل عدد فردا، وإما أن يكون بعض الأعداد زوجا وبعض الأعداد فردا، وهذه الثلاثة لا تصدق إذا أورد الانفصال بعد الموضوع. ولا قوة هذه القضية قوة الحملية التي تصاغ من الأولى.
واعلم أن ظاهر القول والمشهور هو أن المتصل كالموجب، والمنفصل كالسالب. فإنه لا سلب ولا إيجاب في الشرطيات. فنقول أولا: إنه ليس إذا لم يكن المتصل يقضي فيه بسلب مقدم أو تال، أو إيجابه، قضاء جزء ما، يجب أن لا يكون له في نفسه سلب أو إيجاب، كما أنه ليس يضفي فيه بصدق أحدهما ولا كذبه، وذلك ليس يوجب أن لا يكون له في نفسه صدق أو كذب، بل إنما كما أن الموجب الحملي يوجب الحمل، كذلك الموجب المتصل يوجب الاتصال، والموجب المنفصل يوجب الانفصال. فإذا قال قائل: إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود؛ فإنه يوجب تلو التالي للمقدم وصدقه معه. فإذا لم يصدق هذا وأنكر هذا الاتصال، فقيل: ليس إذا كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود، يكون قد سلب هذا الاتصال. وليس هذا السلب انفصالا كما ظنه بعضهم، وإن كان يلزمه انفصال، ولا أيضا سلبه ما ظن بعضهم، وهو أن يؤلف متصل تاليه سالب هذا التالي، كما يقال: إن كانت الشمس طالعة، فليس الليل بموجود. وذلك لأن هذه يبطل حين يجعل بدل إن لفظة كلما. فإنك إذا قلت: كلما طلعت الشمس كان غمام؛ فأنكر هذا، لم يجب من هذا أن يكون مناقضة. ومقابله هو كلما طلعت الشمس لم يكن غيم، بل ليس كلما طلعت الشمس كان غيم. فيكون المقدم بحاله والتالي بحاله. لكن قد سلب الاتصال الكلي.(1/284)
وكذلك في العناد ليس إذا قال قائل: إما أن يكون هذا الشيء ناطقا أو ضاحكا، وكذب، فقيل ه: ليس إما أن يكون ناطقا أو ضاحكا؛ كان كذلك متصلا أو منفصلا مناقضا بأحد جزئية الآخ. حتى يكون كأنه قال: إما أن يكون زيد ناطقا، وإما أن لا يكون ضاحكا؛ فإن هذا يبطل صدق المنفصل ف مادة أخرى. كمن يقول: إما أن يكون زيد مكاتبا وإما أن يكون فقيه. فيقال له: ليس إما أن يكون كاتبا، وإما أن يكون فقيها. ولا يكون معنى هذا هو أنه إما أن يكون كاتبا، وإما أن لا يكون فقيها. فربما كان فقيها غير كاتب، وربما كان كاتب غير فقيه، أو كان كاتبا وفقيها، أو كان لا كاتبا ولا فقيها. فهذه الأشياء تحقق لك أن الانفصال له سلب انفصال يجوز أن يلزمه اتصال أو أنفال موجب. وكذلك إيجاب الاتصال يقابله سلب اتصال يجوز أن يلزمه انفصال موجب. وإن قولنا: إن كانت الشمس طالعة فالليل ليس بموجود ليس هو سلب الاتصال؛ بل اتصال السالب وأنه بالجملة ليس إيجاب المتصل بسبب كون تاليه أو مقدمه موجبا، ولا سلبه لنظير ذلك؛ بل الإيجاب فيه إيجاب الاتصال، والسلب فيه سلب الاتصال. وأنه قد يكون إيجاب والتالي، بل الجزءان سالبان، كقولك: إن كان الإنسان كاتبا فليس هو بأمي؛ بل كقولك: إن لم يكن هذا حيوانا لم يكن إنسانا. وقد يكون سلب والجزءان جميعا موجبان، كما مثلناه لك. وكم أن الحملي لم يكن حال إيجابه وسلبه من جهة تحصيل أجزائه أو عدولها لا تحصيلها؛ بل بسبب الحمل. كذلك حال المتصل ليس إيجابه وسلبه من جهة أجزائه. فكذلك حال المنفصل أيضا في جميع ما قلناه. وكذلك ليس صدق المتصل من جهة صدق أجزائه، بل ربما كذبا معا، وإن كان الشرطي صادقا كقولك: إن كانت الخمسة زوجا، فالخمسة لها نصف.
وأما المنفصلات فأكثر أجزائها تكون كاذبة، وإنما يكون الحق فيها في واحد فقط. وهي مع ذلك صادقة من حيث هي منفصلة. لكن المتصل لا يجوز أن يكون مقدمه وتاليه كاذبا، ويجوز أن يكون مقدمه كاذبا وتاليه صادقا على النحو الذي قيل قبل، كقولنا: إن كان الإنسان حجرا، كان جسما. وقد يكونان كلاهما كاذبين، كقولنا: إن كان الإنسان حجرا، فالإنسان جماد. ولا جوز أن يكون متصل موجب كاذب صادق الأجزاء. ولكنه قد يكون صادقا صادق الأجزاء. وكذلك يكط ن صادقا كاذب الأجزاء كما مثلناه. وقد يكون صادقا حقا وأجزاؤه لا صادقة متعينة الصدق بنفسها، ولا كاذبة متعينه الكذب بنفسها، كقولك: إن كان عبد اله يكتب فيحرك يده. وأما المنفصلة ففيها جزء صادق، وربما كان أجزاءها كلها صادقة وهي كاذبة؛ كقولك: إم أن يكون الإنسان ناطقا، وإما أن يكون ضاحكا. وجُماع ما يوقع الغلط في أمر المتصل والمنفصل سوق الوهم في القضية إلى أن الغرض فيها تال أو مقدم فتعتبر حاله، وقصور الفهم عن معرفة أن الاعتبار في الشرطيات هو النسبة التي بين أجزائها لا التي بين أجزاء أجزائها.
الفصل الرابع
(د) فصل
في شرح معاني الكلية والجزئية
والمهملة والشخصية في الشرطيات(1/285)
إنه كما قد ظن أن المتصلات تصير متناقضة ومتقابلة بسبب أجزائها، كذلك قد ظن أنها قد تصير كلية وجزئية ومهملة وشخصية بسبب أجزائها. فقالوا: إنه كلما كما أن المقدمات الكلية في الحمليات هي التي موضوعاتها ومحمولاتها كلية، كذلك المقدمات الكلية في الشرطيات هي التي مقدماتها وتواليها كلية. فكان قولهم: إن كان كل ج بَ، فكل ه زَ، مقدمة شرطية كلية. ولو أنهم نظروا في نفس المثال الذي أورد نظرا أشفى من هذا لهداهم سبيل الصواب. وذلك لأن القضية الحملية لم تكن كلية لأجل كلية الموضوع والمحمول؛ بل لأجل كلية الحكم الذي هو هناك حمل، ونظيره ههنا اتصال وعناد. فكما كان يجب في الحمليات أن ينظر إلى الحكم، لا إلى الحدود التي بينها وبين الحكم؛ فكذلك في الشرطيات يجب إذن أن ينظر إلى الحكم لا إلى الأجزاء التي فيها وبينها الحكم. فإن كان الاتصال محكوما به على كل اشتراط ووضع للموضوع كيف كان، فالقضية الشرطية المتصلة كلية. وإن كان العناد كذلك، فالقضية المنفصلة كلية. وإن لم يحكم بذلك، فالقضية مهملة. إما إذا قيل: كلما كان كذا، فالقضية متصلة كلية. وإذا قيل: دائما إما أن يكون كذا، وإما أن يكون كذا، فالقضية منفصلة كلية. وأما إذا قيل: إن كان كذا، فكذا كذا؛ وإذا كان كذا، فكذا فكذا؛ فالقضية مهملة؛ إلا أنه يشبه أن تكون لفظة إن تدل على إهمال ما بنحو مخصوص. كأنا إذا قلنا: إن كان آ بَ ف ه زَ، فإنا نوجب من هذا أن يكون أي مرة من المرات كان آ بَ، ومتى كان آ بَ كان ه زَ، كأن كون ه زَ يتبع كون آ بَ، من حيث هو كائن آ بَ، ولا يتضمن شروطا أخرى يتضمنها قولنا: كلما، مما سنذكرها. وأما لفظة إذا، فتشبه أن لا يتضمن هذا المعنى؛ بل تقضي باتباع يوجد من ه زَ، ولو عند أحد أوضاع آ بَ .
هذا وقالوا أيضا: إن المقدمة الشخصية هي التي مقدماتها أو تاليها شخصي. وهذا بعيد عن الغرض الذي يجب أن ينحى في هذا الكتاب نحوه. وذلك لأن لفظة كلما، قد تدخل أمثال هذه القضايا، فيقال: كلما كان زيد يكتب، فزيد يحرك يده. ولا يكون هذا الشرط جزئيا؛ بل كليا. وكذلك إذا قيل: إما أن يكون زيد يتحرك، وإما أن يكون يسكن. فإن هذا العناد ليس قفي وضع مخصوص.؛ بل كلما كان زيد يتحرك. فإن هذا العناد يصدق بين هاتين المقدمتين. والذي ظن أن قولنا: كلما كان آ بَ، ف ه زَ، قضية حملية ؛ لأن قولنا: كلما كان هذا إنسانا، فهو حيوان؛ مساوٍ لقولنا: كل إنسان حيوان؛ فقد أخطأ من وجوه.
أما أحدهما فإنه ليس مساويا له؛ لأن قولنا: كل إنسان حيوان، كلية موجبة ليس فيها شخص البتة. وقولنا الآخر يقتضي إشارة إلى زيد الشخص حيث قلنا هذا. وكان الأولى به أن يقول: إن نظيره من الحمليات، إن هذا الإنسان هو حيوان. لكن هذا القول لا دلالة فيه على الحصر الذي في " كلما " . فإن حُفظ الحصر بطُل إمكان وجه استعمال زيد. وإن استعمل يد بطل الحصر. فليس إذن هذا المتصل مساويا لهذا الحمل. ثم إن كان مساويا، فليس يجب أن لا يكون شرطيا. فإن القضايا المختلفة الأصناف قد تتلازم ويلزم بعضها بعضا، ويساوي بعضه في الدلالة من وجه، وهي مختلفة في الاعتبار. فإن اعتبار أن الحيوانية موجودة الإنسان، غير اعتبار أن حكمنا وقولنا: فهو حيوان، يصدق مع حكمنا وق ولنا: إنه إنسان. وليس هو هو، بل معنى أعم منه؛ إذ كثير مما يصدق كذلك لا يحمل. فإن التوالي في غير هذا المثال قد تصدق مع صدق المقدم، ولا يحمل منها على شيء من المقدم. ثم إن هذا التساوي موجود أيضا في الذي يسلم من أمره أنه متصل، مثل قولك: إن كان هذا إنسانا فهو حيوان. فلم كان هذا لا يصير حمليا وذلك يصير حمليا؟ وليس ههنا شيء يفوت بنقله حمليا ؛ كما كمان هناك الحصر يفوت.
فلنتكلم الآن في الكلي الموجب من الشرطي المتصل فنقول: قولنا كلما كان ج بَ، ف ه زَ، ليس معنى قولنا: كلما، فيه معنى تعميم المراد فقط، حتى يكون كأنه يقول: كل مرة يكون فيه ح بَ، ف ه زَ؛ بل فيه تعميم كل حال يقترن بقولنا: كل ج بَ، حتى لا يكون حال من الأحوال أو شرط من الشروط يقترن به، فيجعل ذلك الشط ج بَ موجودا، إلا و ه زَ موجود. فإنه يجوز أن لا يكون المقدم أمرا له تكرر وعود؛ بل هو أمر ثابت موجود لا مراد له. فإنه قد يمكن أن يقترن به شروط تخّصهُ، كما ستعلم عن قريب.(1/286)
وقد بقي علينا أن ننظر في هذه الشروط ونتأملها، فنقول: هل يصح أن نقول: كلما كان الإنسان ناطقا، فالحمار ناهق، ونعني به المطابقة في الوجود والموافقة لا اللزوم؟ كما كان يصح أن نقول بهذا المعنى من الاتصال: إن كان الإنسان ناطقا، فالحمار ناهق؟ فنقول: أما هذا، فهو حق. فإن معناه إن كان حقا، فذلك التالي أيضا حق. فهنا يكفي في التالي أن يكن حقا. فلذلك يكون صدق هذه القضية ظاهرا. وأما إذا قلنا: كلما كان الإنسان ناطقا، فالحمار ناهق؛ فعسى يقع لأحد من الناس أنه لا يكفي في صدق هذه القضية أن كون قولنا: كل حمار ناهق، صادقا فقط؛ بل يجب أن يكون صادقا دائم الصدق من وجهين: أحد الوجهين أن يصدق على كل ما يوصف بأنه حمار أنه ناهق، والثاني من جهة اعتبار السور أيضا. فإن كل حمار إذا كان ناهقا لم يمنع ذلك أن يكون وقت من الأوقات لا حمار فيه. ففي تلك المرة، والحال والشرط، يمكن أن يظن أن قولنا: كلما كان كل إنسان حيوانا، كان كل حمار ناهقا، كابا. لأن في تلك الكرة لا حما ناهق. لكن هذا ظن باطل. وذلك لأن قولنا: كل حمار ناهق، قد يصدق وإن عُدِمَ الحمير. فإنا، كما علمت، لا نريد بقولنا: كل حمار ناهق، كل حمار موجود حاصل. فإن عنينا هذا، فليس بينا أنه كلما كان كل إنسان ناطقا، صدقا، صدق معه كل حمار موجود في ذلك الوقت فهو ناهق. وليس أيضا على سبيل اللزوم، كان بيّن اللزوم أو لم يكن بيّن اللزوم، بل يكون مما يبين بنظر.(1/287)
ثم لسائل أن يسأل، هل يوجب الاعتبار ملازمة الكذب، حتى يكون حقا أنه كلما كان كل حمار ناطقا فكل إنسان ناهق، مثل أنه إن كان هذا المقدم الكاذب صدقا، فالكذب الآخر يكون صدقا معه. فإن قوما حسبوا أن هذا لازم. فنقول: ليس الأمر على ما حسبوا. وليس هذا لازما بحسب الأمر في نفسه، ولا أيضا بحسب إلزام من يعترف به. وذلك لأن هذا الاتباع إما أن يكون على سبيل اللزوم، حتى يكون هذا الكذب يلزم ذلك الكذب؛ أو يكون على سبيل الموافقة. فنقول:ة أما على سبيل اللزوم فلا الصدق يلزم عن الصدق المذكور، ولا الكذب عن ذلك الكذب. فإنه ليس يجب عن كون الإنسان ناطقا أن يكون الحمار ناهقا، ولا أن لا يكون ناهقا؛ بل وجد ذلك صدقا بنفسه. وليس أيضا على سبيل الموافقة، حتى إذا فرض هذا صدقا، يكون قد وجد ذلك صدقا معه؛ فإن ذلك ليس صدقا البتة حتى يوافق صدقا آخر على سبيل اللزوم. فإذا كان لا هو صادق، فيجب أن يصدق معه ولا هو لازم إياه، فليس هو إذن بتابع له لعى وجه البتة. نعم لو كان لازما عن وضعنا أن كل إنسان ناطق، أن كل حمار ناهق؛ لكان يلزم وضعنا ليس كل حمار ناهقا، قولنا: وليس كل إنسان ناطقا. فأم إذ ليس الأول ملازما، بل هو أمر في نفسه صادق، إذ كان إنما يعتبر حال التالي في نفسه لا حال لزومه عن شيء آخر فيتغير بتغيره. فإن قال قائل إنه لما كان قولن: كل إنسان ناطق، لا يوجد حقا البتة، إلا ويوجد حقا أن الحوار ناهق، فيكف يمكن أن يفرض أن الحمار ليس ناهقا، ثم يوجد حقا أن كل إنسان ناطق، وقد قلنا: إن مع وجوده، يوجد أن كل حمار ناهق، فيكون مع أنه ليس كل حمار ناهقا، وجد كل حمار ناهقا، فهذا إنتاج خلف من مقدمتين شرطيتين. هكذا قد يكون إذا كان ليس حمار ناهقا، فكلا إنسان ناطقا، وكلما كان كل إنسان ناطقا فكل حمار ناهق. فإذن قد يكون إذا كان ليس كل حمار ناهقا، فكل حمار ناهق، هذا خلف. وإحدى الشرطيتين صادقة والأخرى كاذبة. فليس البتة إذا لم يكن وكل حمار ناهقا، فكل إنسان ناطق. والجواب أن هذه النتيجة ليست خلفا. ويبين ذلك بعد أن تعلم أن قولك: قد يكون، ليس على سبيل أنه يوجد في الوجود؛ بل على أنه قد يكون من الفرض. فإن قولك: قد يكون، إذا كان ليس كل حمار ناهقا، قول لا نسبة له إلى الوجود البتة؛ بل إلى الفرض. وأما التالي فمأخوذ من موافقة الوجود، كما أخذت في كبرى القياس. فإذا عرفت هذا وجدت هذه النتيجة حقا. فإنك كلما فرضت هذا الكذب، وهو أنه ليس كل حمار ناهقا، كان في موفقة الوجود كل حمار ناهق، فلا تكون هذه النتيجة كاذبة. فإن قولنا: كل حمار ناهق،ة قول صادق في نفسه. فأي حال تفرضها وتفعلها كيف يكون هذا صادقا معه اتفاقا، ولا يكون لازما عن فرضك أنه ليس كل حمار ناهقا. وبالجملة لا تبطل موافقة هذا الوجود لهذا الفرض. فأما كون الأمرين جميعا في الوجود، حتى يكون في الوجود نفسه حقا أن ليس كل حمار ناهقا، وكل حمار ناهق، فهذا محال.
وليست النتيجة هذه، بل النتيجة أنه إذا فرضنا أنه حق أن ليس كل حمار ناهقا، وجدنا موافقة له في الوجود وموجودا مع هذا الفرض أن ك حمار ناهق، وهذان لا يتناقضان ولا يتمانعان. وأيضا عسى كان يكون محالا لو كان يلزم من وضعنا ليس كل حمار ناهقا، أن كل حمار ناهق. وهذا لم يلزم ذلك لأن القضية القائلة إن كل إنسان ناطقا، فكل حمار ناهق، ليس على سبيل اللزوم فما ينتجه، كما ستدري بعد، لا يكون على سبيل اللزوم، على أن في اللزوم أيضا ما علمت. وأما حيث ينتج الخلف، ويقال إنه محال، فإنما يقال حيث يلزم شيء باطل. وأما أن يكون باطل بوضع، فيوجد الحق معه في نفسه حقا، ليس أنه يكون لازما أن يكون حقا عن فرض ذلك حقا، فليس في ذلك بأس ولا الكلام بمحال. ولولا هذا لكان لا يمكننا أن نقيس قياس الخلف مع أنفسنا. فإنا إنما نقيس قياس الخلف بأن نأخذ شكوكا فيه ونضيف الحق الذي كان موجودا إلى نقيضه. ولا نقول عسى أنا إذا أخذنا نقيض الحق لم يصدق معه الصادق الآخر، إذ يلزم عن كل كذب ما. ولولا أن الأمر على هذا لكان أي حق رفعته، لزمه رفع أي حق يتفق ويطلب المناسبات بين ما هو لازم للشيء وبين ما لا علاقة بينه وبينه.(1/288)
ويجب أن لا يغرك شيء واحد، وهو أن القوم تدهم كلما استثنوا نقيض التالي أوجبوا نقيض المقدم. وتعلم أن الاستثناء ليس هو فرضا فقط؛ بل الاستثناء هو شهادة بالوجود والحصول. وهذا الوجود على وجهين: أحدهما أن بحسب الأمر في نفسه فلا يكون نقيض التالي هناك باطلا البتة، أو بحسب إقرار الخصم به. فالخصم أيضا لا يجعله محالا، فيلزم ما يلزم لزوم من قد سلم وجود غير الحق، وليس ما يلزم هو بعينه الحق. وليس يلزم ذلك من حيث هو عكس كيف اتفق؛ بل من حيث اعترف أن الأمر موجود من حيث هو موجود. وأما في نفس الأمر فلا يلزم عن ذلك الاستثناء شيء،إذا لم يكن الشرط المذكور، وهو أن يكون هناك شرط ولزوم شيء. فلينظر فيما كنا فيه: هل هو لازم بحسب اعتراف من يعترف بوضع النقيض للتالي، فتكون صورة الإلزام: أنه إذا اعترف بذلك لزمه وضع نقيض المقدم؟ فنقول: إن هذا لا يتصور، لأن المعترف لا يلزمه ذلك إلا أن يكون سلم الشرطية بشرطها، ولا يمكنه أن يسلم الشرطية ويفرض وضع نقيض التالي. وذلك لأن تسليم الشرطية ههنا هو ليس على معنى اللزوم؛ بل على أن الأمر الثاني صادق في الوجود مع الأمر الأول، وهو موجود أو مفروض من غير لزوم عنه؛ بل في نفسه. فلا يمكن مع ذلك أن نقول أن نقيض التالي قولا يلزمه خلف، لا لأنه يقول: لكن موجودا أن الحمار ليس بناهق، بعد ما قال: إن موجودا أن الحمار ناه دائما. فإن فرض ذلك وجّز، جوّز أن يكون كل إنسان ناطقا، وليس كل حمار بناهق.
فلننظر هل قول القائل: إن كان كل حمار ناطقا، فكل إنسان ناطق، صدق في معنى الموافقة؟ فنقول: يجب أن لا يكون صدقا على معنى الموافقة. فإنه إذا فرضنا كل حمار ناطق، أو لا شيء من الحمير ناطقا، فالصدق في نفسه هو: أن كل إنسان ناطق. فإذا اعتبرت كون التالي صدقا في نفسه، لا لازما عن المقدم، فقولنا: كلما كان الحمار ناطقا، فإن كل إنسان ناطق، حق. واعلم أن إذا قلت: إن كان، أو إذا كان، لم يجب أن يخطر ببالك من نفس اللفظ أن ذلك يكون، أولا يكون. فإن عرفت ذلك فعده في جملة ما تعرفه من خارج؛ بل هذا اللفظ يدل في كل موضع على معنى أعم من الذي يفهم معه أن له وجودا أو ليس ه. وإذا كان المفهوم من هذا اللفظ في كل قضية شرطية هذا، كان مفهومه في كل موضع الفرض. فأما إلا لفتات إلى أن المفروض يوجد، فليس من قبيل هذا اللفظ.(1/289)
فبين إذن أن المقدم من حيث هو مقدم، لا يتوقع فيه الوجود، وإنما هو فرض فقط، ويتخصص بأن يكون تارة فرضا حقا في نفسه، وتارة حقا بحسب فرض ما، أو غير ملتفت إلى أنه حق، بل منتظر الحكم موقوفه. وليس معنى الفرض أنك فرضته بالفعل أو تفرضه في المستقبل، بل إنه إذا صحح فرضه صح ما يتلى إياه. وأما المحال فإنه إذا فرض مقدما فليس فيه إلا الفرض هذا. وأما التالي فيذكر على أنه موجود وحاصل مع المقدم، إذ يقولون: فالنهار موجود، بعد ما قالوا: إن كانت الشمس طالعة. وهذا يدل على أن الحكم بأن النهار موجود، حاصل مع الفرض المفروض. فيجوز بعد ذلك أن يكون على سبيل الموافقة، وأن يكون على سبيل اللزوم. وأما المقدم فإذ كان كونه مقدما ليس لأنه موجود؛ بل بمعنى أعم من الفرض اصرف، ومن الوجود في نفسه. وذلك أنه حيث يصح الوجود يكون الفرض حاصلا، وحيث لا يصح الوجود يكون الفرض حاصلا، فإن دل على التخصيص دل على شيء هو بعد الفرض. واعلم أنه إذا كان المقدم مفروضا، وهو أمر غير ممتنع، فيكون اتصال التالي به على سبيل الموافقة وعى سبيل اللزوم معا. وأما إن كان باطلا فقد يتبعه الحق، وقد يتبعه الباطل. فإن يتبعه الحق فإن تصور إتباعه على وجهين: أحدهما، أن يكون الاتباع على أن الحق موجود مع وجوده، وهذا كاذب دائما ولا يذهب إليه. والآخر، على أن الحق يكون موجودا في نفسه، مع كون الباطل مفروضا، وهذا دائم الصدق، حتى أن قولنا: كلما كان الإنسان غير ناطق، أي بالفرض، فالإنسان ناطق، أي في نفسه حق. وإما إن كان بمعنى اللزوم، فكثيرا ما يكون ذلك. لكن لزومه يكون لازما على الفارض، فإنه يلزمه أن يقول بذلك، وليس يجب أن يكون ذلك حقا في نفسه، وقد أشرنا إلى ذلك. وأما الباطل الذي يبتع الباطل، فإنما يتبع على سبيل اللزوم فقط. واعلم أنا إذا قلنا: كلما كان كل إنسان ناطقا، فكل حمار ناهق؛ عنينا بالمقدم: الفرض؛ وبالتالي: الموافقة. فكأنا قلنا: كلما فرضنا أن ك إنسان ناط، فرضا على أنه حق في نفسه، والوجود يطابقه، أو حق بحسب الفرض، أو منتظر موقوف، فإنه يوافقه أن كل حمار ناهق. ولو كان بدل حمار ناهق، فكل إنسان ضاحك، لكان الفرض يلزمه هذا التالي، ويشتركان في أن الفرض يتبعه هذا اللازم.
فلنتكلم الآن على تحقيق الكلية للقضية المتصلة. وعود الآن فنقول: إن القضية الشرطية الكلية، إنما تكون كلية، إذا كان التالي يتبع كل وضع للمقدم، لا في المراد فقط، بل في الأحوال. وأما أنه أي الأحوال تلك؟ فهي الأحوال التي تلزم فرض المقدم، أو يمكن أن تفرض له، وتتبعه وتكون معه، إما بسبب محمولات على موضوع المقدم إن كان حمليا، أو بسبب مقارنات مقدمات له أخرى إن لم يكن حمليا، أعني المقدمات التي قد يمكن أن تصدق مع صدقه، ولا تكون محالا معه، وإن كان محالا في نفسه، أو بسبب تسليم ما مما يوجبه ويجوزه، وإن كان في نفسه محالا. وليس هذا إذا كان المقدم ف نفسه حقا فقط؛ بل إذا كان باطلا، وفرض فرضا على سبيل الوضع، فإن له أيضا لوازم وعوارض تعرض، أو تفرض أن لو كان موجودا كانت تعرض له أو تلزم. وكذلك ما يكون بحسب تسليم المجادل، إن كانت الشرطية أخذت للمجادلة.(1/290)
ولقائل أن يقول: هل إمكان إلحاق الشروط المحاله بالأمور الممكنة في المقدمات من أجزاء الشرطيات المتصلة، يمنع كلية تلو الأمور الحقه التي تتلوها؟ كقولنا: كلما كان كذا إنسانا، فهو حيوان؟ فهل ينهدم الكلي فيه بسبب أنك لو قلت: كلما كان كذا إنسانا وكان عديم الحس والحركة، لم يكن حيوانا؛ أو كقولنا: كلما كانت هذه اثنوة وكان لا ينقسم بمتساويين كان فردا؟ فإن هذا لا يجوز أن يقال إنه كاذب بسبب إحالة المقدم. فإن الشرطيات ليس صدقها صدق المقدم أو التالي؛ بل صدقها حال اللزوم. وأكثر الشرطيات المستعملة في العلوم إذا استعمل القياس الخلف هي بهذه الصفة، فإن مقدماتها تكون محالة. ثم لا يقال لكونها محالة المقدمات والتوالي إنها كاذبة. وكذلك لو قال قائل: إنه لو كان هذا اثنوة، وكان لا ينقسم بمتساويين، لكان تكون هذه الثنوة فردا، فإن هذا حق، وإن كان المقدم محالا. فإذن ههنا أحوال غير محالة في الفرض. وإن كانت محالة في الوجود، إذا فرض عليها المقدم كان التالي لا يتبعه. ومثاله أنه ليس كلما فرض هذه الثنوة فهو يلزمه أنه زوج؛ بل إن لم يفرض معه ما ينقض ذلك. فإنه إن فرض معه ما ينقض ذلك، نقض ذلك. فإن كان محالا في الوجود وكونه محالا في الوجود ليس يمنع كونه جائز الفرض، فليس كل فرض للشيء أنه ثنوة يتبعه أنه زوج؛ بل ههنا فروض محالة تمنع ذلك. ولو كان قولنا: كلما كانت الثنوة عددا يعتبر به كونه جائزا له في الوجود، لكان الأمر كذلك، ولكان فرض المقدمات المحالات يمنع أن يكون منها شرطية إذ لا جواز وجودٍ لها. لكن المقدم ليس تقديمه بشرط الوجود، بل بشرط الفرض. فنقول: يجب أن نتذكر ما قلناه إن هذا يكون حقا بحسب الإلزام، ولا يكون حقا في نفس الأمر، وإن الكلية في نفس الأمر لا تنهدم بهذا، إنما تنهدم الكلية بهذا بحسب الإلزام. ثم لقائل أن يقول: فنحن لا نجد إذن هذه قضية كلية موجبة بحسب الإلزام. فنقول: ونجد ذلك. وذلك هو بأن يضاف إلى المقدم في معنى شرط اطراح الشروط التي توجب لزوم التالي الذي لا يجب لزومه بنفسه، كأنك تقول: كلما كانت هذه اثنوة على النحو الذي يمكن أن تكون عليه الاثنوة فهو زوج؛ وكلما كان هذا خلاء على النحو الذي إذا فرض الخلاء موجودا الوجود الذي فرض عليه، أو إلزاما للوجود الذي فرض عليه، أو لزم فرضه إن أمكن. ولم يكن هناك شرط يناقض مفهوم الخلائية، فهو بعد. فيجب في المتصلة أن يعتبر معه زيادة على هذا المعنى ونحوه، وإلا فلا توجد كلية البتة.
وهذا إنما يتشوش حيث تكون الكلية مأخوذة بحسب الإلزام، لا أن تكون مأخوذة بحسب الإلزام. وأمثال هذه الكلية المأخوذة بحسب الإلزام إنما هو في القياسات التي يساق فيها الكلام إلى المحال. وأما القياسات المستقيمة فمستغنية عن ذلك. فإذا استعملت هذه القضايا حيث يخفى عليك الأمر، فاشترط في نفسك لإسقاط الشروط الناقصة كأنك تركته على واجبه. فإنك إذا استعملت: كلما كان هذا إنسانا كان حيوانا، فاستشعرت معه، ولم يكن مشترطا هناك شرط محال مناقض لحكم المقدم يمنع الحق في نفسه، فحينئذ تسلم لك الكلية. فإن كان المقدم صحيح الوجود، كانت الاعتبارات أمورا وقضايا صحيحة، وإن كان محالا، كانت الاعتبارات ما يصح مع ذلك المحال وتتبعه، وتعرض عنه لا أمورا لا تساله - ذلك المحال - بل تناقضه وترفعه، حقا كانت أو باطلة.(1/291)
فإذا عرف الكلي، فحقيق أن تعرف منه الجزئي. فإن الجزئي ههنا أيضا، كما قد علمت في الحمليات، يبكون على وجهين: جزئي محرف عن الكلي، وهو الجزئي الذي يصدق معه الكلي، إذا كان الحمل إذا صدق على الكل صدق على البعض. فإذا حكم في هذا الموضع بالجزئي لم يكن كاذبا، والحكم بالكلي أيضا صادق. وكذلك حال التلو في المتصل، إذا صدق على كل وضع المقدم صدق على البعض، فيكون اتباع التالي لبعض أوضاع المقدم. و في هذه المادة يصدق معه الاتباع الكلي، ويكن جزئيا محرفا، وجزئيا ليس محرفا عن الكلي، بل هو الحق نفسه دون الكلي. فمن ذلك ما حق المحمول في جملته أن يكون بالضرورة موجبا على بعض الموضوع ومسلوبا عن الآخر. لكن إذا جرنا الموضوع طبيعة في العقل، كان طبيعة المحمول ممكنا له، مثاله قولك: بعض الحيوان إنسان،فإن بعض ما يقال له حيوان يقال له بالضرورة إنسان كما علمت، والبعض الآخر بالضرورة ليس بإنسان. لكن الحيوان إذا أخذته حيوانا ولم يلتفت إلى موضوعاته، وجدت طبيعة أنه حيوان يحتمل من غير إيجاب ولا تمنع أن يكون إنسانا. ومنه ما المحمول فيه ممكن بالحقيقة للموضوع في الوجود أيضا، مثل قولك: بعض الناس كاتب. كذلك الجزئي الشرطي الذي جزئيته غير محرفة عنه، ما التلو للبعض فيه إلى سبيل الضرورة. ومنه ما ذلك على سبيل الإمكان، مثل قول القائل: قد يكون إذا كان الشيء حيوانا فهو إنسان، أي إذا كان ناطقا، وذلك بالضرورة. والآخر قد يكون إذا كان هذا إنسانا، فهو كاتب، وذلك بالإمكان. فأما المثال الأول فلا يشك من أمره أن التالي فيه لا يكون موافقا للتلو المقدم فقط؛ بل يكون مع ذلك لازما. وأما القسم التالي فربما ظن به أنه يكون موافقا فقط؛ ولا يكون لازما، لكنه قد يمكننا أن نجعله لازما. فلننظر أنا إذا جعلناه لازما، فهل يعود إلى القسم الأول أو لا يعود؟ : فأما أنا كيف نجعله لازما، فهو أنه حق أن نقول: قد يكون قد يكون إذا كان كذا إنسانا فهو كاتب لا محالة، وذلك إذا كان يدل على ما في النفس برقم يرقمه؛ وهذا يلزمه أنه كاتب أو أنه صانع. فإذن قد يكون إذا كان هذا إنسانا، فيلزمه أن يكون كاتبا. فأما أن هذا هل يعود إلى الأول، فنقول: إنه من وجه يرجع إليه، ومن وجه لا يرجع إليه. أما الوجه الذي يرجع إليه فلأن من الناس ما هو موجود برقم ذلك، ومنه ما ليس بموجود كذلك. فالذي يرقم يلزمه بالضرورة أنه كاتب والذي لا يرقم يلزمه بالضرورة أنه ليس بكاتب. وأما الوجه الذي لا شيبه فيه الأول ولا يرجع إليه أن قولنا: هذا إنسان،إذا حصل موجودا، جاز أن يلزمه وقتا أنه يكتب، ووقت أنه لا يكتب. ولا كذلك في الأول، فإنه ليس إذا كان حيوانا كان يلزمه مرة أنه إنسان ومرة أنه ليس. فهذا القسم الآخر يمكن أن يوجد على سبيل الموافقة. ويمكن أن يوجد على سبيل الضرورة، وإن هو جزئي فلا بأس أن يصدق وفيه لزوم وفيه موافقة، كما كان قد يصدق الجزئي مطلقا وضروريا جميعا، وإن كان هذا اللزوم غير الضرورة التي لجهة المتصلة كما تعلمها. إنما المشكل هنا شيء واحد، وهو أنا كيف نقول في بعض القضايا الجزئية من المتصلات: قد يكون إذا كان كل كذا كذا، فكل كذا كذا. والكل يستوعب الموضوعات كلها، فكيف يكون هذا صادقا من غير أن يصدق معه الكلي. فنقول: إن هذا يصدق إذا كان أمرا ما ممكنا للموضوعات ومن شأنه أن يعرض ويزول. وليس مستحيلا أن يجعل مداوما بالفرض. فنقول: وحينئذ قد يكون إذا كان كل ج بَ، فكل ه زَ؛ وذلك إذا كان كل ج دَ أي كل ج الأمر الذي هو ممكن أن يعرض له آ، وإذا كان كل ج دَ الأمر الذي يمكن أن يقارنه، مثاله: قد يجوز أن يكون إن كان كل إنسان محركا باليد فكل إنسان يكتب. وذلك إذا كان كل واحد منهم لا يحرك اليد إلا مبتدئا بالكتابة. وهذا غير مستحيل. وكذلك إذا قلنا: قد يكون إذا كان كل إنسان كاتبا، فلا واحد من الناس برام أو فكل إنسان جاهل بالرماية. وذلك إذا فرض أن كل إنسان ضعيف، ولا يتفرغ إلا لتعليم الكتابة. فيكون لِرفضنا كل إنسان كاتبا في الذهن حالان: حال يفرض فيه كل إنسان قاصرا عن تعليم صناعة أخرى، وحال لا يفرض فيه. ففي إحدى الحالين يلزمه شيء؛ وفي الحال الأخرى يلزمه شيء أخر. والجزئية تدل على تخصيص الحال، وهو تخصيص الفرض. فهكذا يمكن أن تصدق هذه القضية، وكل كلية المقدم، وإلا لم يصدق. فإذا أشرنا إلى وجه حل(1/292)
هذهذه الشبهة، فلنتم كلامنا في إحصاء هذه القضايا.الشبهة، فلنتم كلامنا في إحصاء هذه القضايا.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في معنى الكلية السالبة في الشرطيات
وأما الكلي السالب فيجب أن نقيسه على هذا، وهو أن لا يكون ولا سلب واحد يتبعه أو يلزمه التالي. وكما أن الشرطي المتصل على الإطلاق هو الذي فيه موافقة، وأما الحقيقي فالذي فيه اتباع بلزوم، كذلك السالب الشرطي منهما يسلب الموافقة كقولنا: ليس إن كان الإنسان موجودا فالخلاء موجود، ومنه ما يسلب الموافقة كقولنا: ليس إن كان هذا إنسانا، فهو كاتب. والفرق بينهما أن قائلا إن قال: ليس إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق، وأراد رفع اللزوم، صدق. وأما إذا أراد رفع الموافقة، كذب. فكذلك الكلي السالب يكون أيضا على وجهين، وإذا كان الرفع رفع اللزوم، فاللزوم المرفوع جزء من التالي من حيث هو تال. وإن كان رفع الموافقة، فالموافقة المرفوعة جزء من التالي من حيث هو تال. وإن كان رفع الموافقة، فالموافقة المرفوعة جزء من التالي من حيث هو تال. ورفع التالي في كليهما رفع للتالي مع ما هو جزء منه. ففي موضع، المرفوع هو اللزوم. وفي آخر، فالمرفوع هو الموافقة. والموافقة ليس إلا على نفس تركيب التالي على أنه حق، وهو نفس كونه قضية على أنها حق. وأما اللزوم فهو شيء زائد على نفس مكونه قضية؛ بل هو أنه مع كونه قضية فهو لازم. وأما السلب الجزئي فقياسه قياس الإيجاب الجزئي، كقولك: قد يكون إذا كان آ بَ، فج دَ؛ أو كان كل آ بَ، فكل ج دَ.
فلنتأمل حال الكلي الصادق في وجهي السلب المذكور. فنقول، إذا قلنا: ليس البتة إذا كان آ بَ ف ه زَ، ونعني به الموافقة، فإن تصوره ووجوده سهل. فإنه يكون المراد فيه أن كون آ بَ ليس يوجد صادقا معه ه زَ. فتارة لأن هذا ليس صادقا في نفسه، فلا يكون صادقا عند وضع غيره إن لم يكن لازما عنه. فربما كان الكاذب في نفسه يصير صادقا عند وضع غيره إذا كان ذلك لازما. وكقولنا: ليس البتة إن كان الإنسان ناهقا، أو غير ناهق، فالخلاء موجود. وهذا رفع موافقة على الإطلاق. فإن أحدهما وهو المجعول تاليا ليس بصدق موافقا للآخر وجودا إذ ليس يصدق. ولا أيضا يصدق لزوما؛ إذ ليس يلزم عنه. وإذا كان كذلك صدق السلب والمقدم يمنع صحة التالي تارة، وهو في نفسه صحيح الوجود وممكنه، فيصح سلبه، كقولنا: ليس البتة إذا كان زيد أبيض فهو أسود، وأخرى وهو في نفسه واجب الوجود كقولنا: ليس البتة إن كان زيد ليس بجسم فهو حيوان، أو كقولنا: ليس البتة إن كان زيد، جسما، فهو بياض. ولرفع اللزوم قسم خاص مثل قولنا: ليس البتة إن كان الإنسان موجودا، فالخلاء ليس بموجود؛ أم المثلث ليست زواياه مثل أربع قوائم. وذلك لأن هذين التاليين، وإن كانا واجبين سلبا وموافقين لوجود الإنسان، فهما غير لازمين عن وجود الإنسان. فهذا التلو يصدق موافقة، ولا يصدق لزوما.(1/293)
فلننظر هل يوجد هذا صادقا البتة حتى يكون مادة، أي حال فرضت لوضعه مقدما لم تلزم التالي، فشيبه أن يظن أنّ هذا لا يمكن. لأنه يمكن أن تضاف شروط تجعل التالي المسلوب التلو لازما، كمن يجعل الإنسان متحركا، فيتوصل منه إلى أن يلزم أن الخلاء غير موجود. ولكن الحق أن لا يخلو إما أن يكون ما وراء الشرط الموجب للزوم يثبت التالي غير لازم، ويحفظه على ذلك؛ أو أي شرط أحقته بالوضع للمقدم، جعل التالي لازما. فإن كان قد يمكن أن تستثنى الشرائط الملزمة، فإذا استثنى إعدامها، كانت المتصلة الكلية المقرونة بمقدمها الاستثناءات كلها كلية سالبة للزوم فيه. فإن كان الأمر على موجب القسم الأول، فالسالبة صادقة؛ وإلا فليتوصل إلى تصديقها. مثلا، ليكن المدقم ج دَ، والتالي ه زَ؛ وليكن هناك شرط أو شرائط تلزمه؛ فليكن ذلك شرطا واحدا، وهو شرط كون ح طَ لا غير. حتى إذا كان ج دَ، وليس حَ طَ، كان فلا لزوم البتة ل ه زَ. والقضية القائلة إنه كلما كان ج دَ، وليس ح طَ، فلا لزوم البتة لأن يكون ه زَ قضية صادقة. فإذا قلنا: ليس إذا كان ج دَ، وليس ج طَ، يجب أن يكون ه زَ، كان هذا صادقا بمعنى سلب اللزوم فإن لم يكن هكذا، بل كان إذا لم يكن حَ طَ، كان لازما أيضا، وكان لا ينفك عن شرط يلزم. فالتالي حقه اللزوم، فالسالبة للزوم كاذبة. ويجب أن تكون هذه الشروط الملحقة التي يلزم مما يلزم أو تلزم بفرض للمقدم على ما قلنا. ولما كان قد يوجد لزوم محدود الأسباب يمكن استثناء عدمها. فمن الممكن إذن أن تكون قضيته كلية ترفع اللزوم؛ وهذه يجب أنه يؤخذ فيها اللزوم من جملة التالي، أي في حال الرفع، حتى يكون قولك فيها: ليس البتة إذا كان كذا كذا، فكذا كذا؛ معناه: ليس البتة إذا كان كذا كذا، يلزم أن يكون كذا كذا. وكذلك فاعل في الموجبة.
ومما يتشكك فيه ههنا أنه هل يصدق سلب تلو أمر لأمر لا يتفق لهما وجود البتة، ويكون ذلك السلب كليا. فبالحري أن يقع للإنسان أن قولنا: ليس البتة إذا كان هذا عددا، فهو خط؛ أو ليس البتة إذا كان هذا نباتا، فهو حيوان؛ أو ليس البتة إذا كانت النباتية عددا، فالنباتية فرد؛ قضايا صحيحة. لكنه قد مكن أن ينقض ذلك إذا جعل هذا المقدم شيئا محلا. فجعل العدد نهاية ذاتية للسطح يصير حينئذ خطا. وذلك مثل ما يقال مصرحا به: إن كان هذا عددا، وكان مع ذلك نهاية للسطح، فهو خط؛ وكذلك إن كان هذا إنسانا، وكان مع ذلك صاهلا، فهو فرس؛ وإن كان هذا ثنائية، وكان مع ذلك غير منقسم بمتساويين، فهو عدد فرد. وليس كون هذا المقدم محالا مما يجعل الشرطية كاذبة. فإنك تقول: لو كان الخلاء موجودا لكان بعدا، ولو كانت الثنائية غير منقسمة بمتساويين لكانت فردا. وتكون القضيتان صادقتين وإن كان مقدمها محالا. والقضايا الشرطية المستعملة في قياسات الخلف بهذه الصفة، فإن ليس كون المقدم باطلا يجعل القضية كاذبة. لكنا قد أوردنا مثل هذا السؤال في الكلية الموجبة. والجواب عن ذلك يسهل مأخذ الجواب عن هذا. وأما السالبة الجزئية المتصلة فتعرفها مما يسهل لك من قبل معرفتها بالكلية السالبة من حيث هي سالبة، ومن قبل معرفتك بالجزئية الموجبة من حيث هي جزئية موجبة.(1/294)
وإذا بلغ بنا الكلام في تعريف الإيجاب والسلب في المتصل هذا المبلغ فبالحري أن نتعرف مثل ذلك في المنفصل. فنقول: إن الأمر في كلية الإيجاب المنفصل في الانفصال الحقيقي هو كالظاهر، وهو أن العناد المتكافيء يكون دائما عند كل وضع للمقدم. لكن يجب علينا أن نحقق تفهيم هذه السوالب، ولنعمد إلى أعسرها تصورا. مثل قولنا ليس البتة إما أن يكون كل آ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. فنقول: إنه إنما لا يصدق في أحوال ثلاثة: أحدها، أنة يكون القولان وهو قولنا: كل ى بَ، وقولنا: كل ج دَ، يجتمعان بالصدق في كل حال، كقولنا: ليس البتة إما أن يكون كل إنسان ناطقا، وإما أن يكون كل حمار ناهقا. والثاني، أن يكون القولان جميعا يجتمعان بالكذب في كل حال، كقولنا: ليس البتة إما أن يكون كل إنسان ناهقا، وإما أن يكون كل حمار ناطقا. والثالث، أن يكون أحدهما حقا دائما، والآخر محالا غير معاند ولا مقابل، مثل قولنا: ليس البتة إما أن يكون الاثنان زوجا، وإما أن يكون الاثنان كيفا؛ وهذا واجب الصدق في كل حال؛ أو مثل قولنا: ليس البتة إما أن يكون كل إنسان حيوانا، وإما أن يكون الخلاء موجودا. فإنه ليس يعاند أحدهما الآخر، ولا يلزم من أحدهما نقيض الآخر. وإن كان نقيض أحدهما، وهو المحال منهما، يصدق مع عين الآخر دائما، وليكن ليس صدقا لازما إياه، حتى لو كان كذبا لكنا يلزم منه رفع الآخر. هذا إن عنينا بلفظة إما إيجاب عند المقدم لتاليه، على أن وضعه يمنع وضعه. وأما إن عنينا به نظير ما عنينا في المتصلات الغير الحقيقية، وهو أن يكون المرتفع قد علم ارتفاعه بنفسه، أو هو مستحق لذلك في نفسه لا لوضع المقدم، فهذه السالبة تكون كاذبة في مثل هذا الوضع من هذا القسم الأخير؛ إلا أن المنفصلات لا تتصور مع عناد البتة. وإذا كان في الأجزاء سالب فليس يعتبر فيه جانب جواز الاجتماع من هذه الوجه حتى يكون قولنا: ليس البتة إما أن لا يكون شيء من آ بَ، وإما أن لا يبكون شيء من ج دَ، قد يصدق بسبب أنه سلب لكاذب؛ هو قولنا: إما أن لا يكون شيء من آ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ؛ لأن هين قد يجتمعان معا اجتماعا لا تكون هذه القضية لأجله كاذبة. فإذا كانتا هاتان جائزتي الاجتماع، والقضية تكون صادقة، لم يجب أن يصير نقيضها صادقا كما كان في الموجبات.(1/295)
فقد بين الوجه الذي عليه تتصور هذه القضايا. وذلك إذا كانت موجباتها المقابلة لها كاذبة. وذلك لإحدى العلل المذكورة. ثم يشكل ههنا أنه هل يصدق إما أن يكون كل، وإما أن يكون كل، وإما أن يكون لا شيء، وإما أن يكون لا شيء. وذلك لأنه لقائل أن يتشكك فيقول: كيف تصدق القضية القائلة: إما أن يكون كل آ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ؛ أو القائلة: إما أن يكون لا شيء من آ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ. وكيف يتفق أن يقع هذا التعاند بين كليتين؟ فنقول: إن هذا الإشكال أكثر عرضوه إنما هو في المشتركات في الموضوع، وذلك أنه كيف صار يصح أن يقال: إما أن يكون كل آ بَ، وإما أن يكون كل آ ج. ويوقف عليه ويترك القسم الثالث، وهو أنه إما أن يكون بعض وبعض. فنقول أو: إن حوزا هذا في المنفصلات اللاتي انفصالها وارد بعد الموضوع، فهون أمر ظاهر متعارف، كقولك: كل عدد إما زوج، وإما فرد. فإن العموم قد تناول كل واحد من حالتي الانفصال. وإنما يشكل في الانفصال السابق لوضع المقدم. والذي نقوله في جواب ذلك: أما أولا: فإنه ليس كلامنا في هذه القضايا على أنها صادقة، أو كاذبة، بل على أنها قضايا. فلا يكون فقدان الصدق في صنف منها موجبا علينا أن نسقطه عن جملة الأصناف. وأما ثانيا، فليس علينا أيضا أن نطلب فيها الصدق الحقيقي، بل الشهرة قد تكفينا في استدعاءها إلى تعديدها، أعني إذا كان قد يقبل صدقها، وإن لم تكن حقيقية. فليس يلزمنا لا محالة أن نورد من الصادق ما كان الصدق في صنفه موجودا بالبديهية؛ بل إن كان مما يتبين صدقه بالحجة، فهو أيضا من جملة الصادقات. فمثال ما وجد من المشهورات مطابقا لهذا الصنف، أن القوم الذين صح عندهم وقام في أنفسهم أن الفاعل لا يكون إلا واحدا، فإنه مشهور عندهم مقبول لديهم أنه إما أن تكون كل حركة فعل الله؛ وإما أن تكون كل حركة فعل العبد. فإذا استثنوا أنه ليس كل حركة فعل العبد، أنتجوا أن كل حركة من عند الله وفعله. ويكون مشهورا فيما بينهم أيضا أنه إما أن لا يكون شيء بقضاء الله، وإما أن لا يكون شيء بفعل الناس. وربما لم تكن هذه كثيرة الاشتهار، أعني التي من سالبتين كليتين. لكن إذا قلبت إلى الإيجاب كان يكون مشهورا عندهم، كقولهم: إن كل شيء إما أن يكون إما أن يكون بقضاء الله، أو يكون كل شيء بفعل العبد؛ لا لأنه لا فاعل إلا واحد. وأما في العلوم وفي الصدق الحقيقي، فإن الشيء الذي يقتضيه النوع إما مسلوبا عن كل واحد، أو موجبا لكل واحد، مثل طلب طبيعة النار مكانا معينا، والأرض مكانا معينا، فإن ذلك يكون للكل، وبالجملة كل ما هو أفضل أو لازم للنوع مما ليس بعرض عام زائل. فإن ما كان هذا صفته، واعلم أن هذا صفته، علم يقينا صدق القضية التي بنى انفصالها على متقابلين: أحدهما هذا الشيء، والآخر مقابله. مثاله إما أن تكون كل نار متحركة إلى فوق، وإما أن تكون كل نار متحركة إلى أسفل؛ أي إما أن تكون كل نار مكانها بالطبع فوق، أو تكون كل نار منها بالطبع أسفل. وهذا إن كان يحتمل التقسيم الذي يبني على البديهة قسما ثالثا، وهو إما أن يكون بعض النار كذا، وبعضه كذا. فهذا القسم الثالث مستحيل إثباته في القسمة التي تكو ن بعد العلم، فإن طبيعة النار لا تختلف عن ذلك؛ بل يكون القسمان المذكوران كافيين والقضية صادقة، حتى أيهما استثنى عينه أنتج نقيض الثاني، وأيهما استثنى نقيضه أنتج عين الثاني. و إذا استثنى نقيض أحدهما صح أن نقول: فيجب أن يكون لا محالة القسم الثاني بعينه. ولو كان في الأقسام قسم ثالث لم يجب أن يكون من رفع الأول إثبات هذا الثاني، كما يكون إذا كان الأصل الذي يبنى عليه مجهولا. فكان حينئذ إلى قسم ثالث؛ وكان إذا رفع القسم الأول لا يجبه عند الذهن إثبات الثاني وحده، لجهالته، لا لأنه غير واجب في نفس الأمر. فقد بان أنه قد تكون قضية صادقة بهذا الصفة. وكذلك قد نجد لهذا أمثلة في القياس الثاني من القياسات الاستثنائية عن مقدمات منفصلة، إذ انتقل عن الاستثناء الأول إلى الاستثناء من النتيجة وهي ناقصة قسم.(1/296)
وأما الجزئيات فبالحري أن يتشكك في أمرها، فيقال: إنه كيف يصلح أن يقال: قد يكون إما كذا وإما كذا، وليس ذلك كليا دائما، إلا أن يكون عنادا غير تام. فنقول: إنه ربما كانت الأقسام بحسب الأمر المطلق مثلا ثلاثة، وإما بحسب وضع حال. فأثنان أو أقل من القَسم المستوفية، مثل إن الأقسام في قولنا: إن كل مقدار إما ناقص وإما زائد وإما مساو ثلاثة؛ فإن فرض أن كان المقدار ليس مساويا، أو استثنى من ذلك فبقيت نتيجة يحتاج أن يستثنى منها، كانت الأقسام اثنين. فإن المقدار بهذا الشرط يكون إما زائدا وإما ناقصا فقط، ويكون العناد حينئذ تاما؛ إذ أيهما أوجب رفع الآخر، أو رفع أوجب للآخر. فإن قال قائل: فيكون إذن قولنا: كل مقدار ما؛ ناقص وإما زائد مساو ليس إيجابه دائما، إذ حينئذ لا يصدق. فنقول: إن كان لا يصدق حينئذ فهو كذاك. فإن هذا حينئذ لا يكون إيجابه دائما؛ بل يصدق تارة وتارة يكذب. وشيبه حينئذ أن يكون كل منفصلة يشتمل حال القسمة الأولى منه على أجزاء فوق اثنين. فهو منفصلة ليس فيها انفصال كلي الإيجاب. وذلك أن عند وضع نقيض قسم، وهو ممكن، يبطل صدق الإيجاب الانفصال أكثر من اثنين. ولا أيضا إيجاب انفصال الاثنين منهما فقط يصدق دائما؛ بل إننا يكون الانفصال الدائم الصدق حيث الأجزاء في القسمة الأولى اثنان. فإن كان هذا الانفصال قد يصدق مع ذلك الاستثناء، إذ الانفصال صدقه لصدق أجزاءه، فلا يلزم هذا الطعن.
لكنه قد يشكل ههنا أيضا أمر جزئي. فإنه قد يجوز أن تشكك في حاب التخصيص والذي تدل عليه منفصلة جزئية مؤلفة من كليتين، كقولنا: قد يكون إما كل وإما كل، فيقال: إن هذا كيف يمكن أن يكون؟ فلنحل هذا الشك أولا في الموجبة منه فنقول: إن هذا التخصيص أيضا تخصيص حال، وعلى قياس ما قلنا في المتصل، ووجه هذه الحال المخصصة أنه ربما كانت الأقسام التامة أكثر مما عد في هذه الجزئية. وأما في تلك فلا يكون أكثر من قسمين. مثاله: إن مناسبات المقادير هي ثلاثة: المساواة والزيادة والنقصان. لكنه قد تكون الأقسام في بعض الأحوال قسمين لا ثلاثة. فإنه قد يكون كل مقدار إما مساويا لمقدار ما وإما أصغر، وذلك إذا في الوجود مقدار لا أعظم منه مثلا كقطر العالم. فإن قيل: إنا. قد يكون كل خط إما مساويا لخط وإما أصغر منه، كان هذا صادقا جزئيه فإن جعلته كليا، كذب، وهو أن تقول دائما وفي كل حال واعتبار: إما أن تكون كل الخطوط مساويا لقطر العالم، أو أصغر منه. وأيضا قد تكون الأقسام أكثر من اثنين مثلا إذا أخذنا عموم الأحوال. وأما إذا اعتبرنا حالا ما، فلا يصح فيه إلا أن يوضع من الأقسام جزءان اثنان أو أنقص من العدد الذي للأول. فلتكن تلك الحال فرضنا أن الفاعل واحد، فيكون حينئذ صحيحا أن كل فعل إما أن يكون من الله، أو يكون كل فعل من الناس، ولا يكون القسم الثالث محوج إلى صحة هذا الكلام. أعني بالقسم الثالث قولنا: وإما بعض وبعض. فنفس الغرض المذكور يوجب صحة هذا جزئا، أعني أنه قد يصح عند فرض ما أن يكون إما كل فعل من الله وإما كل فعل من الناس. وإذا كان الفرض حقا بنفسه واجبا، فإن هذا الجزئي حينئذ يصير كليا، فيكون هذا صحيحا بنفسه، لا عند اعتبار تلك الحال. وفرق بين أن يكون فرضا، وبين أن يكون حقا. فإن الفرض قد يكون غير موجود في الوجود. فمنه ما هو جائز الوجود، ومنه ما هو محال الوجود. والحق هو الذي حصل بنفسه موجودا في الأمور، لا في الوضع والفرض. فإن أنكر منكر صحة لزوم التالي معتمدا إحالة الفرض، وهو أن الفاعل واحد فقط، فيجوز أن يوضع له فرض جائز مثل أن تفرض، في وقت ما، أن كل واحد مما هو نار في ذلك الوقت عرض لها الحركة إلى جهة واحدة. فحينئذ يصح لك أن تقول: إما أن تكون كل نار متصعدة أو كل نار هابطة، أو كل نار ذاهبة إلى جهة مقاطعة للمسافة بين الجهتين. ولا يصح لك هذا دائما؛ بل عند الفرض الجائز في نفسه، لأن حمل الحركة على كل واحدة من النيران جائز، وإن كان يجب لها إذا وصلت إلى موضعها السكون. فيكون قد يكون كل نار إما كذا وإما كذا، أي ههنا حالة يصدق منها هذا القول. وإن شئت جعلت بدل النار مدرة أو شررة فيخرج الكلي من الحكم.(1/297)
وبعد هذا كله، فاعلم أنك إذا أردت أن تعتبر الجهات في الشرطيات، كان أولى اعتبار الجهات لهذه القضايا أن يكون من المتصلات. واعلم أنه كما لم يكن إيجاب المتصلة وسلبها وإهمالها وحصرها وصدقها وكذبها بحسب أجزائها؛ بل باعتبار الاتصال؛ كذلك ليس كونها ذات جهة لكون أجزائها ذات جهة؛ بل يجب أن تكون الجهة للاتصال.
واعلم أنه كما يكون حمل موجود لا لزوم فيه، وحمل في بعض الأشياء بلزوم ولكن لا ضرورة فيه، وحمل ضروري، كذلك التلو. أما أمثلة ذلك في الحمليات فإن قلنا: زيد كاتب، وصدقنا، كان موجودا ليس فيه ضرورة البتة. وإن قلنا: القمر ينكسف، كان فيه وجود وضرورة ما، ولم يكن دائما. وإن قلنا: إن زيدا أو القمر جسم، كان ضروريا صرفا، كذلك في المتصلات، فليس نفس اللزوم. وإنه لا بد من التالي عند وضع المقدم يجعل المتصل ضروريا، والموافقة أبعد من ذلك. ولا الموافقة من غير لزوم تمنع الضرورة؛ بل يجب أن يكون اللزوم أو الموافقة دائما في جميع مدة كل وضع وُضع للمقدم، حتى إذا كان، يلزم كل وضع أو يوافق، ولم يكن دائما ولم يكن ضروريا. فالضروري الكلي في الإيجاب هو أن يكون الاتصال دائما ما دام الوضع، ومع كل وضع سواء كان اتصال موافقة أو اتصال لزوم. وأما الوجودية الكلية اللزومية التي لا ضرورة فيها فهي من التي يعتبر فيها اتصال لزوم فقط وهو أن يكون اللزوم موجودا في كل وضع، إلا أنه لا يدوم مع دوام الوضع أو لا يجب. كقولهم: كلما كان هذا إنسانا فهو متنفس، أو كلما طلعت الشمس فهي توافي السمت. فإن المصير إلى الموافاة والموافاة جميعا بعد الطلوع بزمان. وأما إذا لم يكن الاتصال منها بلزوم فلا يبعد أن يتشكك بتشكك أنه هل توجد كلية متصلة الاتصال منها اتفاقي، ثم يتفق مع كل وضع اتفاقا غير دائم، ويشبه أن هذا لا يوجد صادقا، فإنه إن كان الأمر ليس لازما عن الوضع بوجه ولا دائم الموافقة، بل عارضا، فيجوز أن لا يعرض؛ إذ ليس يلزم عروضه عن الوضع، ولا هو واجب في نفس الأمر. وأما في الجزئيات فسيوجد ذلك. هذا وأما الممكن الصرف فهو أن يكون التالي يصح أن يوافق في كل وضع وأن لا يوافق، إذ لا موجب. وأما حيث الاتصال لازم فشيبه أن لا يوجد للزوم فيه حكم ممكن كلي صادق. ليس لأن الممكن لا يلزم. فإنه ممكن للإنسان الكتابة، وقد يلزم بشرط كما قلنا وبينا. ولكن لأن ذلك الشرط لا يوجد مع كل وضع. فإنه من الأوضاع التي للمقدم، أوضاع يُشرط فيها ما يمنع ذلك اللزوم، فيكون عند ذلك الوضع لا يمكن أن يصير التالي لازما عن الموضوع، وهو أحد الأوضاع.
وإذا عرفت هذا في الإيجاب، فقد عرفت في السلب؛ والأمر في الجزئيات أظهر.
المقالة السادسة
من الفن الرابع منم الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(أ) فصل
في القياسات المؤلفة من الشرطية المتصلة
في الأشكال الثلاثة
القياسات المؤلفة من المتصلة هي التي تكون متصلتين تشتركان في حد، أعني في مقدم أو تال. ويكون ذلك على هيئة الأشكال الثلاثة الحملية.فإما أن يكون الحد الوسط تالياً في أحدهما، مقدماً في الآخر، ويسمى الشكل الأول. وإما أن يكون الأوسط تالياً في كليهما، ويسمى الشكل الثاني. وإما أن يكون الأوسط مقدماً في كليهما ويسمى الشكل الثالث. ولا قياس من جزئيتين ولا من سالبتين، ولا من سالبة صغرى كبراها جزئية.
الشكل الأول من متصلتين. شريطة مثل شريطة الشكل الأول في الحمليات. وقولنا: اَ بَ و ج دَ يدل على حملية تكون من ثمانية.
الضرب الأول من موجبتين كليتين: كلما كان اَ بَ، فَج دَ؛ وكلما كان جَ دَ، فهَ زَ؛ ينتج: كلما كان اَ بَ، فهَ زَ. وهو قياس كامل.
الضرب الثاني من كليتين والكبرى سالبة: كلما كان اَ بَ، فَج دَ؛ وليس البتة إذا كان جَ دَ؛ فهَ زَ؛ ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ؛ فهَ زَ. وهو قياس كامل.
الضرب الثالث من موجبتين والصغرى الجزئية: قد يكون إذا كان اَ بَ، فجَ دَ؛ وكلما كان ج دَ، فهَ زَ؛ ينتج: قد يكون إذا كان اَ بَ، فهَ زَ. وهو قياس كامل.
الضرب الرابع من الجزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى: قد يكون إذا كان اَ بَ، فَج دَ؛ وليس البتة إذا كان جَ دَ؛ فهَ زَ؛ ينتج: فليس كلما كان اَ بَ، فهَ زَ. وهو قياس كامل.(1/298)
وقد يلزم على هذا الشكل شكوك. فإن لقائل أن يقول: إن هذا الشكل لا ينتج: فإنا نقول: كلما كان الاثنان فرداً فهو عدد، ثم نقول: كلما كان الاثنان عدداً فهو زوج، وكلا المقدمتين صادقتان، فيلزم من هذا كلما كان الاثنان فرداً فهو زوج، وهذا خلف. فنقول: إن السبب في هذا أن الصغرى كاذبة في نفسها. ولكنها تلزم، على ما قلنا، من يرى أن الاثنين فرد، وكل فرد عدد، فتلزمه، لا لأنه حق في نفسه، بل لأنه يرى باطلاً. وكذلك هذه النتيجة تلزمه ويكون صدقها على سبيل صدق المقدمة. فصادق على سبيل الإلزام إن الاثنين كلما كان فرداً يكون زوجاً وليس " أن يلزمه " و " أن يكون حقاً " شيء واحد. وكذلك حال كل مقدمة صغرى هذه حالها. وإن كان الحد الأصغر محالاً؛ والأوسط محالاً، والأكبر محالاً، كان حال الأكبر في اللزوم صادقاً عليه، أي صادقاً بحسب الإلزام لا بحسب الوجود. فلننتظر إذا كان الكبر موجوداً مع الأوسط على سبيل الاتباع دون لزوم، والأوسط أصغر كذلك. فنقول: إن مثل هذا المثال، وإن لزم عنه شيء، فالأولى أن لا يكون قياساً؛ لأن ذلك لا يكون أفادنا علماً بشيء مجهول عندنا، فإن الأوسط إذا لم يكن ملتزماً للأكبر؛ بل كان مساعداً له علمنا قبل القياس أن الكبر موجود معه الأصغر، ومع كل موجود أو مفروض؛ سواء التفتنا إلى الأوسط أو لم تلتفت. فإن انتهى إلى موضع تبين الشيء بيان غيره، فذلك مما هو لازم عنه عند الذهن.
وكذلك وإن كانت الصغرى لزومية غير محالة المقدم، وأما إن كانت محالة المقدم مثل قولنا: كلما كان الاثنان فرداً، فهو عدد؛ وكلما كان الاثنان عدداً، فإن البياض لون؛ فلننظر هل يفيد هذا أنه كلما كان الاثنان فرداً فإن البياض لون. فنقول: ليس من علمنا هذا، علمنا أن البياض لون: فإنا إن جعلنا الاثنين زوجاً علمنا هذا أيضاً؛ بل هذا هو على أنا نعلم هذا في نفسه. وإن كانت الصغرى اتفاقية، والكبرى لزومية، فقد يظن أنه قياس مفيد. فإنه يجوز أن يكون الأكبر غير معلوم الوجود بالقياس إلى الأصغر؛ بل إلى شيء يعلم أنه موجود معه، فيعلم أن الأكبر مع الأصغر الآن؛ ولم يكن قبل ذلك يعلم. لكن هذه الإفادة، إلى حد ما، على سبيل تذكير ما. وذلك لأن لما علمت وجود الوسط نفسه، علمت منه وجود الأكبر في نفسه، لا من القياس. وأنت مع ذلك تعلم أن الأكبر موجود مع الأصغر ومع كل شيء في العالم، فلم يكن إدخالك الأصغر مفيداً شيئاً يعتد به. هذا إن كانت الكبرى موجبة.
وأما إن كانت سالبة للموافقة أو اللزوم، فلا يخلو أما أن تكون موجبة لزومية، أو اتفاقية. فإن كانت اتفاقية، وكان الموافق لا يلزم عن وضعه شيء بشرط وضع الأصغر معه، إذ قلنا: ولا شيء من أوضاعه الممكنة يلزمه الأكبر، فمن أوضاعه اشتراط الأصغر معه. وهذا في اللزومية ظاهر أيضاً. وإن كانت الصغرى محالاً، والأوسط جائزاً، والكبرى سالبة اللزوم، فيجب أن لا يلزم الأكبر عن الأصغر البتة، وإلا لكان السلب الكلي كاذباً، لست أعني كاذباً بحسب المر في نفسه بل بحسب الالتزام، ولو اعتبر بحسب الأمر في نفسه لكانت الصغرى كاذبة، إذا كان الأوسط جائز الوجود أو حقاً. وهذا شيء قد علمته، وأما إن كان كلاهما محالاً في الإيجاب فكذب إيجاب الأكبر على الأوسط، كان الكبر غير لازم البتة للأصغر. فإنه لو لزم الأصغر، للزم فرض الوسط، إذا فرض معه الأصغر، وعلى ما علمت، فتكون النتيجة سالبة اللزوم صادقة. فأما في جميع ذلك إن كانت الكبرى سالبة الموافقة، والموجبة اتفاقية. ولا شك أن الأوسط يكون جائز الوجود. ويكون الكبر محالاً. فيكون معه سلب اتصال على سبيل الموافقة حقاً. وكذلك إن كانت الصغرى لزومية جائزاً. فإن كانت الأصغر محالاً، والوسط حق، يلزمه ويسلب عنه موافقة أو لزومه، فالنتيجة سالبة الاتفاق، واللزوم على الوجه الذي يصدق فيه محال المقدم غير محال التالي، أعني بحسب الالتزام.(1/299)
وأما الشكل الثاني فإنه لا ينتج عن موجبتين، وعن جزئيتين، وعن كبرى جزئية، وذلك ما تعرفه بأدنى سعي على حكم الأصول المعلومة عندك، وبأن تأخذ الحدود الحملية فتنقلها إلى الشرطية. وأما إذا كانتا كليتين، والكبرى سالبة، كقولنا: كلما كان ه زَ فَج دَ، وليس البتة إذا كان اَ بَ فجَ دَ، فإنه تختلف الأحوال فيه بحسب كون المقدمتين وفاقيتين ولزوميتين، أو مختلفتين في ذلك. فإن كانتا جميعاً للموافقة، فلا يكون في ذلك بيان شيء مجهول، ويكون على حسب ما علمت في الشكل الأول.
وأما الموجب فيعرف حال ما يلزم كونه موافقاً وغير موافق مما يلزم الشكل الأول. فإن كان السلب للزوم فقط، ولا يمنع الموافقة، والموجبة موجبة الموافقة، فإن القياس لا ينتج البتة، كقولنا: كلما كان الإنسان ناطقاً؛ فالحمار ناهق؛ وليس البتة إذا كانت الاثنوة زوجاً، يلزم منه أن الحمار ناهق. فإن هذا يصدق عنه أنه: ليس البتة كلما كان الإنسان ناطقاً، يلزم أن الاثنوة زوج. وإن جعلت بدل كل كون الاثنوة زوجاً، كون الإنسان حيواناً، صدقت النتيجة، إنه كلما كان الإنسان ناطقاً، لزم أن يكون الإنسان حيواناً. ثم عن جعلت كون الإنسان حيواناً، كون الإنسان نباتاً، صدق أنه ليس البتة إذا كان الإنسان ناطقاً، فإنسان نبات. فإن كانت الموجبة لزومية، تجد التأليف مفيداً، سواء اقترنت به سالبة اللزوم، أو سالبة الموافقة، وتكون النتيجة بحسبه. ثم تكون شريطته بعينه مثل شريطة الشكل الثاني في الحمليات. ويجب أن تكون سالبة ضرورية إحدى الضروريتين المنعكستين حتى ينتج، كما قلنا نحن، في الحمليات. ويتبين بالعكس والخلف والافتراض.
مثال بيان ذلك في هذا الضرب. الضرب الأول من الكليتين، والكبرى سالبة. وهو قولنا: كلما كان اَ بَ، فجَ دَ؛ وليس البتة إذا كان زَ ه، فجَ دَ؛ ينتج ليس البتة إذا كان ىَ بَ، ف ه زَ. وتبين بعكس الكبرى، ورده إلى ثاني الأول. وبالخلف أنه كانت هذه النتيجة كاذبة، فنقيضها وهو أنه: قد يكون إذا كان اَ بَ، فهَ زَ، صادقاً، وتضيف إليها: ليس البتة إذا كان هَ زَ، فجَ دَ؛ ينتج: ليس كلما كان اَ بَ، فجَ دَ.
الضرب الثاني من كليتين والصغرى سالبة: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فج دَ؛ وكلما كان هَ زَ، فجَ دَ؛ ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ، ف هَ زَ؛ تبين بعكس الصغرى؛ ثم بعكس النتيجة؛ أو بالخلف، بأن يؤخذ نقيض النتيجة ويضاف إلى الكبرى، وينتج نقيض الصغرى. والأحوال فيه ما قد علمت في الضرب الأول.
الضرب الثالث من جزئية موجبة صغرى؛ وكلية سالبة كبرى. قد يكون إذا كان اَ بَ، فجَ دَ؛ وليس البتة إذا كان ه زَ؛ فَج دَ؛ ليس كلما كان اَ بَ، فخَ زَ. وتبين بعكس الكبرى وبالخلف.
الضرب الرابع: من جزئية سالبة صغرى، وكلية موجبة كبرى. ليس كلما كان اَ بَ، فج دَ؛ وكلما كان ه دَ، فجَ دَ؛ ينتج: ليس كلما كان اَ بَ، ف هَ زَ؛ ويبين بالخلف ويبين بالافتراض، بأن تعين الحال والمرة التي كون التي يكون فيها اَ بَ، ولا يكون إذا كان ح طَ، فَج دَ؛ وكلما كان ه زَ، كان ج دَ؛ ينتج ليس البتة إذا كان حَ طَ، كان ه زَ؛ نضيف إليها أنه قد يكون إذا كان اَ بَ، فَح طَ، ينتج كلما كان اَ بَ كان ه زَ. ولقائل أن يقول: يحسن أن يكون توالي هذه السوالب محالة فلا تنعكس السوالب. فنقول: إن كان المقدم من الموجب ليس بمجال، فالتالي الوسط ليس بمحال؛ وإن كان ذلك المقدم محالاً، ويقارن الوسط، والآخر لا يقارنه، فلا يجتمعان البتة، فالنتيجة صادقة.
الشكل الثالث. أنت أيضاً ستعلم أن استعمال القضايا الموجبة التي اتصالها اتفاقي غي محدود. وذلك إذا تأملت النحو من المتأمل الذي سلف لك. وبعد ذلك فإن شريطة هذا الشكل بعينها مثل شريطة الشكل الثالث في الحمليات، وضروبه أيضاً كضروبه ستة.
الضرب الأول: من كليتين موجبتين، كلما كان ج دَ، فهَ زَ؛ وكلما كان ج دَ؛ ينتج: أنه قد يكون إذا كان هَ زَ، فاَ بَ؛ برهانه أن تعكس الصغرى فيرجع إلى الشكل الأول؛ أو نقول: وإلا فليمن ليس البتة إذا كان ه زَ، فاَ بَ؛ ونضيف إليه: كلما كان ج دَ، فاَ بَ؛ فيكون ليس البتة إذا كان هَ زَ، فاَ بَ؛ هذا خلف.(1/300)
الضرب الثاني: من كليتين والكبرى سالبة، كلما كان ج دَ، فهَ زَ؛ وليس البتة إذا كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: ليس كلما كان ه زَ فاَ بَ؛ يبين العكس الصغرى، وبالخلف، بأن تضيف النتيجة إلى الكبرى، فينتج نقيض الصغرى.
الضرب الثالث: من موجبتين والصغرى الجزئية: قد يكون إذا كان ج دَ، فهَ زَ؛ وكلما كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: قد يكون إذا كان ه زَ، فاَ بَ، ويبين بعكس الصغرى وبالخلف المنتج لنقيض الصغرى.
الضرب الرابع: من موجبتين والكبرى جزئية، كلما كان ج دَ، فهَ زَ؛ وقد يكون إذا كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج : جزئية موجبة، ويبين بعكس الكبرى، ثم عكس النتيجة وبالخلف.
الضرب الخامس: من موجبة كلية صغرى، وسالبة جزئية كبرى، كلما كان ج دَ، فه ز، وليس كلما كان ج دَ، فاَ بَ؛ فليس كلما كان ه زَ، فاَ بَ؛ وهذا لا يبين إلا بالخلف والافتراض بأن نقول: ليكن الحال الذي يكون فيه ج دَ، وليس اَ ب، هو حال كون حَ طَ، فيكون ليس البتة إذا كان ح طَ، فاَ بَ؛ فنقول: كلما كان ج دَ، فهَ زَ؛ وقد يكون إذا كان ج دَ، فحَ طَ ينتج: إذا كان ه زَ، فَح طَ؛ وليس البتة إذا كان حَ طَ، فاَ بَ؛ ينتج ليس كلما كان هَ زَ، فاَ بَ.
الضرب السادس: من جزئية موجبة صغرى، وكلية سالبة كبرى، كقولك: قد يكون إذا كان ج دَ، فهَ زَ؛ وليس البتة إذا كان جَ دَ، فاَ بَ؛ ينتج: ليس كلما كان ه زَ، فاَ بَ؛ ويبين بالعكس الصغرى وبالخلف.
وأعتبر أحوال الجهات كما في الحمليات، والعبرة في حال المتصلة أنها مطلقة أو لزومية كبرى.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في القياسات المؤلفة من المتصلات والمنفصلات
لنبدأ أولاً باللواتي يكون فيها المتصلات مكان الصغريات. فلا يخلو إما أن تكون الشركة في المقدم، وإما أن تكون الشركة في التالي. وفي كل واحد من الأقسام إما أن تكون المنفصلة أو الحقيقة أو الأخرى والتأليفات الكائنة من متصلات صغرى، ومنفصلات حقيقة كبرى، والشركة في تالي المتصل. ضروب ذلك من وجبتين، مثال الذي في كليتين: كلما كان ه زَ، أي بلا شرط آخر، فجَ دَ؛ ودائماً إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ ينتج: أنه كلما كان ه زَ، فلا يكون اَ بَ، برهانه أن المنفصلة ترجع، فتصير: كلما كان ج دَ، فليس اَ بَ. مثال الذي من الموجبتين، والصغرى جزئية، حكمها كحم هذه في الإنتاج، ولكن الجزئية. وأما إن كانت المنفصلة جزئية لم تنتج. والحدود كذلك، تارة قولك: كلما كان زيد ماشياً، فهو متحرك في المكان، وقد يكون إما أن يكون زيد متحركاً في المكان، وإما أن يكون تاركاً للمشي. وتارة كقولك: كلما كان هذا مسكاً، أي بلا شرط آخر؛ فهو أسود؛ وقد يكون إما أن يكون الشيء أسود، وإما أن يكون طيب الرائحة، فالأول تصدق فيه الموجبة الكلية، والثاني تصدق فيه السالبة الكلية.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة تنعكس: ليس اليتة إذا كان ه زَ، فجَ دَ؛ ودائما إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ فينتج: ليس البتة إما أن يكون هَ زَ، وغما أن يكون اَ بَ، بل كلما كان ه زَ، فاَ بَ؛ وأيضاً ليس البتة إذا كان ه زَ، فليس اَ بَ. وهو لزومية لأنه يلزم الشرطيتين هكذا: كلما كان ه زَ، لم يكن ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج كلما كان ه زَ، بلا شرط آخر، فاَ بَ؛ ويلزمه ليس البتة إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ، ويلزمه السالبة المنفصلة أيضاً. وكذلك ينتج إن كانت الجزئية متصلة، وينتج ههنا أيضاً إن كانت المنفصلة جزئية. لأن المتصلة تنعكس فيلزم عكسها كلما كان ج دَ، فليس ه زَ أضاف إليه قد يكون إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ، ينتج: قد يكون إذا لم يكن ه زَ، فليس اَ بَ، ويلزم دائماً إما أن يكون هَ زَ، وإما أن يكون اَ بَ.(1/301)
ضروب ذلك والمنفصلة وحدها سالبة لا ينتج منها شيء، أعتبر من هذه المواد: كلما كان هذا زوجاً، فهو عدد؛ وليس البتة إما أن يكون عدداً، أو يكون كثرة منقسمة بمتساويين، سوتارة أو يكون كثرة لا ينقسم بمتساويين، فتارة يصدق إيجاب كلي، وتارة يصدق سلب كلي. والعقم في الجزئيات أظهر. وغما من سالبتين ومن جزئيتين، فلا ينتج البتة التأليفات الكائنة من متصلة صغرى، ومنفصلات غير حقيقة كبرى، والشركة في التالي من المتصل. فليكن أولاً المنفصلات من جزء سالب وجزء موجب، والشركة في الموجب، ولا يلتفت إلى الجزء الغير المشترك فيه من المتصل، فإنه لا يغير الحكم البتة.
ضروب ذلك والتأليفات من موجبتين، وليكونان كليتين: كلما كان ه زَ بلا شرط آخر، فج دَ؛ ودائماً إما أن لا يكون اَ بَ، وهذا لا ينتج. ومثاله كلما كان كذا إنساناً، فهو حيوان؛ ودائماً إما أن يكون حيواناً؛ وإما أن لا يكون طائراً؛ ومرة أخرى إما أن يكون حيواناً، وإما أن لا يكون ناطقاً. وظاهر من هذا كيفية حال الذي تكون متصلته جزئية. وكذلك إذا كانت منفصلته جزئية لم تجب له نتيجة. مثاله: كلما كان ماشياً كان مريداً. وقد يكون إما مريداً وإما أن لا يكون متحركاً. وأيضاً قد يكون إما مريداً وإما أن لا يكون ساكناً أي مريداً للسكون. فإن إحدى المادتين تنتج ضد إنتاج الأخرى.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة، على أي نحو كان.
وأما التأليفات من كليتين فمثل قولك: ليس إذا كان البتة إذا كان ه زَ، فجَ دَ على أي نحو كان؛ ودائماً إما أن يكون ج دَ، وإما أن لا يكون اَ بَ؛ ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ فاَ بَ. فإنه ليس البتة أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ. لأنه يرجه إلى المتصلات هكذا: كلما كان ه زَ على النحو المقول في السالبة، فليس ج دَ أو ليس يلزمه ج دَ. لم يكن اَ بَ، ينتج: كلما كان ه زَ، لم يكن اَ بَ، ويلزمه: ليس البتة إذا كان ه زَ، فاَ بَ؛ وأيضاً ليس ما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون اَ بَ. وكذلك إن كانت المتصلة جزئية. فإن كانت المنفصلة جزئية أنتج أيضاً على مثال ما أنتج في نظريتها والمنفصلة حقيقة.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة: كل هذا لا يلزم له نتيجة، والحدود كلما كان هذا عرضاً كان له حاملاً مطلقاً بلا شرط، وليس البتة إما أن يكون له حامل وإما أن لا يكون له جوهرا، وليس البتة إما أن يكون له حامل وإما أن لا يكون كل مقدار متناهياً، أي مع أن لا يشترط فيها شرط آخر فاسد. فإن هذه الحدود تلتزم عنها مختلفات. والعقم في الجزئيات أوضح، ولتكن الشركة في الجزء السالب.
ضروب ذلك والتأليف من موجبتين: كلما كان ه زَ، فليس ج دَ؛ وإما أن لا يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ فلا ينتج. والمواد: كلما كان هذا إنساناً، فليس هو عرضاً؛ وإما أن لا يكون حجراً، أو يكون جماداً؛ وأيضاً إما أن لا يكون حجراً، أو يكون جسماً. وكذلك إذا جعلت أحدهما جزئية فستجد له مواد.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة: هذه لا تنتج. ولنورد لذلك مثالاً واحداً: كلما كان هذا عرضاً، فليس بجوهر، وليس البتة إما أن لا يكون هذا جوهراً، أو يكون في موضوع؛ وليس البت إما أن يكون هذا جوهراً، أو يكون المقدار غير متناه بالفعل.
وأنت لا يبعد عليك في هذا أن تعرف أن حكم التأليفات التي تكون منفصلاتها من سالبتين، حكم هذه التي الشركة فيها في جزء سالب، والجزء الآخر موجب.
فلتنتقل الآن إلى امتحان الضروب المشاكلة لهذه الضروب، والشركة في مقدم المتصل. ولنبدأ بما تكون منفصلاته حقيقية.(1/302)
ضروب ذلك من موجبتين، أما التي من كليتين كقولك: كلما كان ه زَ، فجَ دَ؛ ودائماً أن يكون هَ زَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ ينتج: قد يكون إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ، فليس اَ بَ. فإنه ليس دائماً إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ. برهان ذلك أن المنفصلة تصير هكذا. فكلما كان هَ زَ، فلا يكون اَ بَ. ويضاف إلى الأخرى على قياس الشكل الثالث، وينتج ما ذكر. وقد يمكن من هذا أن نستنتج نتيجة كلية بأن يؤخذ عكس نقيض المتصلة على ما عرف، وهو أنه ليس البتة إذا لم يكن جَ دَ، فهَ زَ؛ ويضاف إليه لازم المنفصلة، وهو أنه كلما لم يكن اَ بَ، ف هَ زَن ينتج: ليس البتة إذا لم يكن ج دَ، لم يكن اَ بَ؛ ويلومها ليس البتة إما أن يكون ج دَن وإما أن لا يكون اَ بَ. وكذلك إذا كانت المتصلة جزئية، أو المنفصلة جزئية؛ فإنها حينئذ تصير: قد يكون إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ. وقد يمكن أن يبين بالعكس المتصل حتى يرجع إلى ضروب التأليفات التي الشركة في تالي المتصل كما قيل في التي قبلها.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة منعكسة: ليس البتة إذا كان ه زَ، فج دَ؛ ودائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ، ينتج ليس البتة إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ؛ بل كلها كان، فاَ بَ؛ فإنه ليس البتة إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ. برهان ذلك أن المتصلة تنعكس كلية، وترجع إلى الشكة في التالي. وكذلك إن كانت المتصلة جزئية يبين بأن نجعلها موجبة متصلة؛ وبعكسه: قد يكون إذا كان ليس ج دَ؛ فهَ زَ؛ وكلما كان ه زَ، فليس اَ بَ؛ فقد يكون إذا كان ليس ج دَ، فليس اَ بَ؛ فليس كلما لم يكن جَ دَ، فاَ بَ. فإن كانت المنفصلة جزئية يبين بأن تجعل المتصلة سالبة متصلة موجبة، فنقول: كلما كان هَ زَ، فليس ج دَ؛ وتجعل المنفصلة متصلة، ونقول: قد يكون إذا كان هَ زَ، فليس اَ بَ؛ وينتج: قد يكون إذا كان ليس جَ دَ فليس اَ بَ؛ فليس كلما كان ج دَ كان اَ بَ.
ضروب ذاك والمنفصلة سالبة: كلما كان ه زَ، فج دَ؛ وليس البتة إما أن يكون هَ زَ، وغما أن يكون ج دَ؛ وهذا لا ينتج؛ لأنك إذا قلت: كلما كان هذا زوجاً، فهو منقسم بعدديين متساويين؛ وليس البتة هذا إما أن يكون زوجاً، وغما أن يكون عدداً؛ كان الصحيح أنه: كلما كان هذا منفصلاً بعدديين متساويين، فهو عدد؛ وإن بدلت وجعلت مكان العدد وجود الخلاء، فكان الصحيح هو السلب. وكذلك إذا كان ههنا جزئية.
التأليفات الكائنة على هذا المنهاج، والمنفصلة غير حقيقة، ولتكن الشركة في الموجب.
ضروب ذلك من الموجبتين: كلما كان ه زَ، فج دَ؛ ودائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون اَ بَ؛ ينتج منه وجه ما: قد يكون إذا كان ج دَ، فاَ بَ، فهَ زَ؛ وكلما كان ه زَ، فج دَ؛ ينتج: كلما كان اَ بَ فج دَ، ثم اعكس؛ بل لك أن تستنتج الكلية على النحو الذي سلف لك منا ذكره. وكذلك إن كانت النتيجة المنفصلة جزئية.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: ليس البتة إذا كان ه زَ، فجَ دَ؛ ودائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون اَ بَ، فليس البتة إذا كان ج دَ، فاَ بَ؛ بل كلما كان ج دَ، لم يكن اَ بَ؛ وليس البتة إما أن يكون ج دَ، وإما أن لا يكون اَ بَ. ويبين بالعكس المتصلة. وكذلك إن كانت المتصلة جزئية، تفعل ما فعلت بنظيرتها.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة، هذه لا تنتج. والحدود: كلما كان يزيد يغرق، فزيد في الماء؛ وليس إما أن يكون زيد يفرق، وإما أن لا يطير؛ وليس إما أن يكون زيد يغرق، وإما أن يكون الخلاء معدوماً.
التأليفات الكائنة على هذا المنهاج، والشركة في الجزء السالب.
ولنبدأ بضروبه من موجبتين: كلما لم يكن ه زَ، كان ج دَ؛ ودائماً إما أن لا يكون ه زَ؛ وإما أن يكون اَ بَ، ينتج: قد يكون إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ، وليس دائماَ أن يكون ج دَ، وإما أن لا يكون اَ بَ، وكذلك إن كانت إحداهما جزئية، ويبين العكس أن تقول: كلما لم يكن اَ بَ، لم يكن ه زَ؛ وكلما لم يكن هَ زَ، فجَ دَ ينتج: كلية. وينعكس، قد يكون إذا كان ج دَ، فليس اَ بَ. ولك أن تستنتج منه الكلية على ما علمت.(1/303)
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: ليس البتة إذا لم يكن ه زَ، فج ه؛ ودائماً إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ ينتج: أنه ليس البتة إذا لم يكن ج دَ، كان اَ بَ؛ بل كلما اكن ج دَ، كان اَ بَ؛ وليس البتة إما أن يكون ج دَ؛ وإما أن يكون اَ بَ. يبين ذلك بعكس المتصلة كلية بحالها. وكذلك ن كان أحدهما جزئية، فإنك تفعل به ما فعلت بنظيرتها.
ضروب ذلك، والمنفصلة سالبة. هذا لا ينتج. وأمثلة من حدود نظريته، والمنفصلة حقيقة. ولكن اجعل مكان قولك. يغرق، ليس لا يغرق.
وأما ضروب التي يكون منفصلاتها من سالبتين، فحكمها حكم هذه، ولا يبعد عليك معرفتها.
فلننصرف الآن إلى اعتبار هذه الأحوال ونجعل المتصلة مكان الكبرى، ونبدأ بما تكون الشركة في المقدم، والمنفصلة حقيقة.
ضروب ذلك من موجبتين: دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وكلما كان ج ه، فاَ بَ؛ ينتج: كلما لم يكن ه زَ، كان اَ بَ؛ ويلزمه إما أن يكون ه زَ؛ وغما أن يكون اَ بَ. برهان ذلك أن المنفصلة تصير هكذا: كلما لم يكن ه زَ، كان ج دَ؛ وكلما كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: كلما ليكن ه زَ، فاَ بَ. والأمر في كون المنفصلة جزئية المعلوم على قياس هذا. وإن كانت المتصلة جزئية، فاجعل المنفصلة متصلة، فيكون كلما كان ج دَ، فليس ه زَ؛ ويضاف إلى الأخرى على سبيل الشكل الثالث؛ فينتج: قد يكون إذا لم يكن ه زَ، فاَ بَ.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة: ليس البتة إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وكلما كان، فاَ بَ؛ وهذا لا ينتج. مثاله في الحدود: ليس البتة إما أن يكون هذا الشيء خلاء، وإما أن يكون زوجاً؛ وكلما كان زوجاً فهو ينقسم بمتساويين. واجعل بدل الخلاء زوج الزوج.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: من ذلك قولك دائماً: إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وليس البتة إذا كان ج دَ، فاَ بَ. تنعكس المنفصلة إلى الاتصال: كلما لم يكن ه زَ، كان ج دَ؛ وأنتج: أنه ليس البتة إذا لم يكن ه زَ، فاَ بَ؛ وكذلك إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ وإن كانت المتصلة جزئية، فاصنع ما صنعت بنظيرتها، والمتصلة موجبة.
التأليفات على هذا المنهاج، والمنفصلة غير حقيقة، والشركة في الجزء الموجب.
ضروب ذلك من موجبتين: دائماً إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وكلما كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: كلما كان ه زَ، كان اَ بَ؛ وليس البتة إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ. وذلك لأن المنفصلة تصير متصلة هكذا: كلما كان ه زَ، فج دَ. وكذلك إن كانت جزئية. وإن كانت متصلة جزئية فلا تجب له نتيجة. مثاله من الحدود: دائماً إما أن لا يكون هذا زوجاً، أو يكون عدداً؛ وقد يكون إذا كان عدداً، فهو زوج الزوج. وأيضاَ إذا كان عدداً، فهو فرد الفرد.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة، هذه لا تنتج. والحدود: ليس البتة إما أن لا يكون هذا غير ناطق، وإما أن يكو إنساناً؛ وكلما اكن إنساناً، كان حيواناً. ثم اجعل بدل غير ناطق: الخلاء.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: دائماً إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وليس البتة إذا كان ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فاَ بَ؛ بل ليس البتة إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن لا يكون اَ بَ؛ لأن المنفصلة تصير هكذا: كلما اكن ه زَ، فج دَ. وكذلك إن كانت المنفصلة جزئية، فإن المتصلة جزئية فلا ينتج. وحدوده مثل التي من موجبتين بعد أن تقلب الجزئية الموجبة، جزئية سالبة.
التأليفات على هذا المنهاج والشركة في الجزء السالب.
ضروب ذلك من موجبتين: دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون ج دَ؛ وكلما لم يكن ج دَ، فاَ بَ؛ ينتج: كلما لم يكن ه زَ، فاَ بَ؛ أو ليس البتة إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ. لأن المنفصلة تصير هكذا: كلما لم يكن ه زَ، لم يكن ج دَ. وكذلك إن المنفصلة جزئية. وإن كانت المنفصلة جزئية لم ينتج. مثاله في الحدود: دائماً إما أن يكون هذا المخبر عنه عدداً، وإما أن لا يكون زوجاً؛ وقد يكون هذا إذا لم يكن زوجاً، فهو بياض، أو فهو فرد.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة، لا ينتج. مثاله من الحدود: ليس البتة إما أن يكون الإنسان غير جسم، أو لا يكون متحركاً؛ وكلما كان متحركاً، فهو جسم. ثم ضع بدل غير الجسم: الخلاء.(1/304)
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون ج دَ؛ وليس البتة إذا لم يكن ج دَ، فهو اَ بَ. والمنفصلة تصير هكذا: كلما لم يكن ه زَ، فليس ج دَ؛ ينتج: ليس البتة إذا لم يكن ه زَ، فاَ بَ؛ أو ليس إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ. وتدبير المنفصلة إذا كانت جزئية ظاهر. وأما إذا كانت المتصلة جزئية، فلا ينتج. وحدود ذلك: تارة ليس البتة إما أن يكون خلاء، وإما أن لا يكون زوجاً؛ وليس حكماً لم يكن زوجاً، فهو فرد؛ وتارة ليس البتة إما أن يكون غير منقسم بمتساويين وإما أن لا يكون زوجاً، وليس كل ما لم يكن زوجاً، فهو فرد.
التأليفات التي تكون المتصلة فيها كبرى، والشركة في تالي المتصل.
ولنبدأ بما تكون المنفصلة فيه حقيقية. ضروب ذلك من موجبتين. دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ، وكلما كان اَ بَ، فج دَ. والمنفصلة يلزمها ليس البتة إذا كان ه زَ، فَج دَ؛ ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فاَ بَ، أو ليس إما أن لا يكون ه زَ، أو يكون ج دَ. تدبير المنفصلة إن كانت جزئية ظاهرة. فإن كانت المتصلة جزئية، فإنها تصير الصغرى، وينتج: قد لا يكون إذا كان اَ بَ، فهَ زَ، ويلزمها: قد يكون إذا كان اَ بَ، وليس ه زَ، وينعكس: قد يكون إذا لم يكن ه زَ، فاَ بَ؛ فليس إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة، هذه لا تنتج. والحدود في ذلك، إما تارة ليس البتة إما أن يكون متحركاً، وإما أن يكون جوهراً؛ وكل ما كان ساكناً، كان جوهراً؛ وأيضاً كلما كانت منتقلاً، كان جوهراً.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وليس البتة إذا كان اَ بَ، فَج دَ؛ والمنفصلة تنعكس متصلة فتصير: كلما لم يكن ه زَ، كان ج دَ؛ فينتج: ليس البتة إذا لم يكن ه زَ، فاَ بَ؛ أو ليس البتة إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ، وكذلك إن كانت المنفصلة جزئية.
فإن كانت لمنفصلة جزئية نضيف إليها: وكلما لم يكن ه زَ، فهو ج دَ؛ ينتج: ليس كلما كان اَ بَ، فليس ه زَ؛ ويلزمها: قد يكون إذا كان اَ بَ، فهَ زَ؛ وينعكس: قد يكون إذا كان ه زَ، فاَ بَ؛ فليس دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ.
التأليفات على هذا المنهاج والمنفصلة غير حقيقية، والشركة في الجزء الموجب.
ضروب ذلك من موجبتين: دائماً إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ فليس البتة إن كان ه زَ، فجَ دَ. ثم سائر القول كما تعلمه.
ضروب ذلك والمنفصلة سالبة: ليس البتة إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون جَ دَ،وكلما كان ج دَ، فاَ بَ. هذا أيضاً لا ينتج. والحدود حدود نظيرتها بعد أن نجعل بدل المتحرك في المنفصل: لا يكون ساكناً.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: دائماً إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وليس البتة إذا كان اَ بَ، ف ج دَ. والمنفصلة تصير هكذا: كلما كان ه زَ، ف جَ دَ؛ فليس البتة إذا كان ه زَ، فلا يكون ج دَ؛ وينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فاَ بَ. وتدبير الجزئية إذا كانت هي المنفصلة ظاهر فإن كانت المتصلة فقد يعمل بها نظير ما عمل بنظيرتها. وأنت تعرف من هذا الحال ما تكون الشركة فيه في الجزء السالب. وتعرف حال ما يكون من سالبتين في جميع هذه الأبواب.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في القياسات المؤلفة من المنفصلات
نقول: إن المنفصلات الحقيقية لا يتألف من مقدمتين منا قياس البتة، لأنك إذا قلت: لا يخلو إما أن يكون اَ بَ، وإما أن يكون ج دَ، فهذا القول إنما يكون صدقاً إذا لم يكن قسم ثالث؛ فإن كرر الحد الأوسط فقيل: وإما أن يكون جَ دَ، وإما أن يكون ه زَ؛ فإن كان ه زَ هو اَ بَ، فالقضيتان قضية واحدة والنتيجة باطلة، لأنه ينتج: إما أن يكون اَ بَ، وإما أن يكون ه زَ، أي إما أن يكون اَ بَ، وإما أن يكون اَ بَ. وإن كان قلنا: هزَ، غير قولنا: اَ بَ، فههنا قسم ثالث: والقضيتان المنفصلتان كلاهما كاذبتان. وإما من موجبتين ناقصتي العناد، فقد يتألف، ولا فائدة في ذلك. وأما من سائر ذلك، فقد يتألف.(1/305)
فلننظر أولاً هل يتألف من موجبتين، موجبتي الأجزاء، وإحداهما جزئية، مثل قولنا: قد يكون إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون ه ز؛ ثم نقول: وإما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ؛ هكذا يجب أن يكون، حتى تكون الجزئية بالحقيقة جزئية ليست بكلية. فنقول الأحرى أن لا يكون هذا قياساً. فإن الصغرى منه مقولة بالفعل في الكبرى. وإن أريد أن ينتج منه، أنه قد يكون إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ، لم تكن هذه الفائدة حكماً مجهولاً حصل لنا من جهة القياس، وإن كان يلزم القياس. والولى أن يكون القياس هو الذي يسلك بنا من الأعرف عندنا إلى المجهول، ويكون القياس عليه ذلك لنا.
فلنترك الآن هذا، ولنشتغل بالتأليفات التي هي أشبه بمذاهب الأقيسة. ولسنا نراعي فيها الترتيب الحقيقي، والولاء المقدم للأفضل؛ بل الترتيب الذي هو أولى بالتعليم، وأحق بالتفهيم. ثم أنت تعلم أنه لا يتعين في المنفصلات مقدم، ولا تال؛ ولا في النتيجة المنفصلة أيضاً، فلا يكون إذن في اقترانها شكل وشكل؛ ولا أيضاً تكون في القرينة الواحدة صغرى وكبرى، بل يكون اقتران ساذج لا غير.
فلنبدأ بالاقترانات التي تستعمل فيها المقدمات المنفصلة الحقيقية الموجبة، التي لو انفردت لم يتألف منها قياس بالمنفصلات الموجبة الغير الحقيقية، وبسوالبها.
والسوالب الحقيقية ضرب من موجبتين، إحداهما سالب جزء: دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ؛ وإما أن يكون ج دَ وإما أن لا يكون اَ بَ. فنقول: إنه ينتج. برهانهما أنهما يصيران هكذا: كلما كان ه زَ، لم يكن ج دَ؛ وكلما لم يكن ج دَ، لا يكون اَ اَ بَ،؛ فكلما كان ه زَ، لم يكن اَ بَ؛ فإما أن لا يكون ه زَ، وإما أن لا يكون اَ بَ. فإذا جعلنا ذلك السلب سالبة لم ينتج. لأنه تارة يصح الانفصال الكلي الموجب، وهو ينتج السلب الدائم لهذا الانفصال؛ وتارة لا يصح الانفصال الموجب، وينتج السلب الدائم لهذا الانفصال. وإذا كان كذلك لم يلزمه شيء بعينه. مثال الأول: إما أن يكون الاثنان فرداً، وإما أن يكون الاثنان زوجاً. وليس البتة إما أن يكون زوجاً، وإما أن لا يكون فرداً. يصح ههنا أنه: إما أن يكون الاثنان فرداً، وإما أن لا يكون فرداً، يصدق من هذا أنه دائماً ليس إما أن يكون الاثنان عدداً فرداً وإما أن لا يكون فرداً، ومثال الثاني: إما أن لا يكون الاثنان فرداً، وإما أن يكون زوجاً. وليس البتة إما أن يكون الاثنان زوجاً، وإما أن لا يكون خلاء. ينتج: أنه ليس البتة إما أن يكون الاثنان فرداً، وإما أن لا يكون خلاء. فإن كان فيهما جزئية، فالعقم أظهر.
ولتكن السالبة ذات الموجبتين فهي أيضاً بهذه الصفة، مثال ذلك أنك إذا قلت: إما أن لا يكون الاثنان زوجاً، وغما أن يكون عدداً؛ وليس البتة إما أن يكون الاثنان عدداً، وإما أن يكون منقسماً بمتساويين. صحح من هذا أنه إما أن يكون الاثنان زوجاً، أو يكون منقسماً بمتساويين. وأما إذ قلنا: إما أن يكون الاثنان زوجاً، وإما أن يكون عدداً؛ وليس البتة إما أن يكون الاثنان عدداً، وإما أن يكون خلاء؛ صحح أنه ليس البتة إما أن لا يكون الاثنان عدداً، وإما أن يكون خلاء. وإذا كان ههنا جزئية، فالعقم أظهر. فقد ظهر من هذا أنه لا ينتج قياس فيه مقدمة منفصلة حقيقية، إلا أن تكون الأخرى غير حقيقية، موجبة سالبة الجزء الذي لا شركة فيه.
التأليفات التي تكون من منفصلتين غير حقيقيتين، تشتركان في جزء موجب، لا تجب لها نتيجة على وجه الانفصال الموجب البتة. واعتبر له مثالاً بهذه الصفة. إما أن لا يكون الاثنان زوجاً، وإما أن يكون عدداً؛ وإما أن يكون الاثنان عدداً، وإما أن لا يكون فرداً. يصدق من هذا أنه دائماً ليس إما أن يكون الاثنان عدداً زوجاً، وإما أن لا يكون فرداً. ثم نقول: إما أن لا يكون الاثنان زوجاً، وإما أن يكون عدداً. إما أن يكون الاثنان عدداً، وإما أن ينقسم بمتساويين. يصدق ههنا أنه ليس إما أن يكون الاثنان زوجاً، وإما أن لا يكون منقسماً بمتساويين.(1/306)
وكذلك الحال في الجزئيات، واكنها تنتج على غير وجه الانفصال هكذا: إما أن لا يكون ه زَ، وإما أن يكون ج دَ. وإما أن يكون ج دَ، وإما أن لا يكون اَ بَ. فإن المقدمتين يلزمهما إن لم يكن ج دَ، لا يكون ه زَ. وإن لم يكن ج دَ، لا يكون اَ بَ. فقد يكون إذا لم يكن ه زَ، لا يكون ج دَ. فليس كلما لم يكن ه زَ، لا يكون ج دَ. فليس إما أن يكون ه زَ، أو يكون ج دَ، وهذه نتيجة سالبة غير مناسبة لكيفية المقدمات، وكذلك إن جعلت إحداهما سالبة.
التأليفات التي تكون من منفصلتين غير حقيقيتي الانفصال وتشتركان في جزء سالب.
إما أن تكون موجبتين أنتجتا. مثاله: إما أن يكون ه زَ، وإما أن لا يكون ج دَ.؟ وإما أن لا يكون ج دَ، وإما أن يكون اَ بَ. ينتج على حسب ما قلنا فيما قبله: ليس دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ. برهانه: إن المنفصلتين ترجعان متصلتين إلى الشكل الثالث هكذا: دائماً إن كان ج دَ، فيكون ه زَ. وكلما كان ج دَ، يكون اَ بَ. فيصح من ذلك أنه قد يكون إذا كان ه زَ، فاَ بَ. ويلزمه: ليس دائماً إما أن يكون ه زَ، وإما أن يكون اَ بَ، وكذلك إن كانت إحدى المقدمتين جزئية، فإن كان فيها سالبة لم ينتج. ولنقتصر على مثال واحد، وهو أنا إذا قلنا: إما أن يكون الاثنان زوجاً، وإما أن لا يكون زوج الزوج؛ وليس البتة إما أن لا يكون الاثنان زوج الزوج، أو يكون فرداً؛ لزم عنه كقابل، الذي يلزم لو وضعت بدل الفرد كيفا. والعقم في الجزئيات أظهر. والشركة بين سالبة الجزئين وموجبة الجزئين وموجبة الجزء في الجزء الموجب؛ بل تصح في الجزء السالب.
التأليفات من منفصلتين إحداهما سالبة الجزء، والأخرى سالبة جزء واحد. حكمها كحكم التأليفات من مقدمتين تشتركان في جزء سالب.
التأليفات التي من منفصلتين سالبتي الأجزاء. حكم جميعها كحكم التأليفات من منفصلتين تشتركان في جزء سالب.
الفصل الرابع
(د) فصل
في القياسات المؤلفة من الحملية والشرطية
في الشكل الأول، والحملية مكان الكبرى في الأشكال الثلاثة
هذه القياسات لا يخلو إما أن يكون فيها الحملي الأعظم، أو مكان الأصغر. ولا يخلو إما أن تكون الشركة للحملي مع تالي المقدم، أو مع مقدمة. فلنبدأ أولاً بما تكون الشركة فيه مع التالي، والحملى مكان الكبر. ولا محالة أن الشركة بين التالي والحملي تكون على إحدى الهيئات التي للأشكال الثلاثة. ومن عزمنا أن نحصي القياسات المنتجة من ذي قبل، ولا نطول الكتاب بذكر العقيمات بعد أن هدينا السبيل إلى اكتساب الحدود فيها.
ضروب ذلك والتأليف على هيئة الشكل الأول: إذا كان التأليف على هذه الصورة، فالشريطة في الإنتاج أن يكون الحملي والتالي على النسبة المذكورة في الشكل الو للحمليات، فإن كانت المتصلة موجبة، كانت النتيجة بينة اللزوم كما في الحمليات. إلا أن الفرق بين الأمرين أن اللزوم في الحمليات مطلق، وههنا عند وضع شيء، وتكون النتيجة هي مقدمة شرطية تاليها نتيجة التالي والحملية، ولو كانت وحدهما. وإن كانت المتصلة سالبة لك يكن إنتاجها بيدنا، بل يظهر بالعكس إلى الموجبات.
ضروب ذلك والمتصلة موجبة: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وكل دَ اَ. وكلما كان ه زَ، فكل ج اَ ولا يجب أن يعترض على هذه الضروب وما أشبهها معترض، فيقول: ربما كانت الحملية صادقة في نفسها، ولا تصدق عند وضع المقدم، ولا يجب حينئذ قياس. مثاله أن قولك: كلما كان الخلاء موجوداً. كان بعد قائم بذاته؛ ثم نقول: وكل بعد فليس قائماً بذاته، أو لا شيء مما يقوم بذاته بعد. فتكون الجملية الصادقة في قوة متناقض التالي. فالجواب من وجهين: أحدهما أن لنا أن نحصي الكلام بالقرينة التي يصدقان فيها معاً؛ والثاني أن اللازم عن المقدمين حق. فإنه إن كان خلاء موجوداً لزم أن يكون البعد غير بعد لزوم الخلف، وإن كان التالي لا يصادق الحملية.
الضرب الثاني: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، ولا شيء من دَ اَ. فكلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. كلما كان ه زَ، فبعض ج دَ، وكل دَ اَ. فكلما كان هَ زَ، فبعض ج اَ. كلما كان ه زَ، فبعض ج دَ، ولا شيء من دَ اَ. فكلما كان ه زَ، فليس كل ج اَ.
وأربعة أخرى متصلاتها جزئية.(1/307)
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: إذا كانت المتصلة سالبة، فالشرط فيها أن تكون التوالي سالبة، والحمليات كلية، وإلا لم تنتج. مثالها: ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل ج دَ، وكل دَ اَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل ج اَ. برهان ذلك أن المتصلة يلزمها: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وكل دَ اَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فكل ج اَ. ويلزمه: ليس البتة إذا كان ه زَ، فليس كل ج اَ. وأنت تعلم حال البواقي من هذا الواحد، وهي هذه: ليس البتة إذا كان هَ زَ، فلا شيء من ج دَ، وكل دَ اَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من ج دَ، ولا شيء من دَ اَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فكل ج اَ.
وأربعة أخرى متصلاتها جزئية سالبة. التأليفات على هيئة الشكل الثاني.
ضروب ذلك والمتصلة موجبة، والشرط بين التالي والحملي في إنتاجها هو الشرط الذي يجب أن يكون في الحمليات حتى ينتج.
الضرب الأول: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وليس لا شيء من دَ اَ. فكلما كان ه زَ، فليس ولا شيء من ج اَ. برهانه أن نعكس الحملية، وأيضاً برهانه أن نقول: كلما كان ه زَ، فج دَ فحق، وأنه لا شيء من اَ دَ حق. وكلما كان ج دَ حقاَ، ولا شيء من اَ دَ حقاَ، فلا شيء من ج اَ حق. ينتج، كلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ حق.
الضرب الثاني: كلما كان ه زَ، فلا شيء من ج دَ، وكل اَ دَ. ينتج كالأول وبرهانه بعكس التالي.
الضرب الثالث: كلما كان ه زَ، فبعض ج دَ، ولا شيء من اَ دَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فليس كل ج دَ. ويبين بعكس الحملية.
الضرب الرابع: كلما كان ه زَ، فليس كل ج دَ، وكل اَ دَ. ينتج كالثالث، وبرهانه: أنه كلما كان ه زَ، فحق أنه ليس كل ج دَ، وحق أن كل اَ دَ. وكلما كان حق أنه ليس كل ج دَ، فحق أنه ليس كل ج اَ. ينتج: وكلما كان ه زَ، فليس كل ج اَ.
وأربعة ضروب أخرى والمتصلة جزئية.
ضروب ذلك والمتصلة جزئية سالبة، والشريطة فيها أن يتفق الحملي والثاني في الكيف، وان تكون الحملية الكلية.
الضرب الأول: ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل ج دَ، ولا شيء من اَ دَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ. لأن الشرطية يلزمها: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. ويلزمها: ليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ.
الضرب الثاني ليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج دَ، وكل اَ دَ. ينتج كالأول.
الضرب الثالث: ليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من ج دَ، ولا شيء من اَ دَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فكل ج اَ.
الضرب الرابع: ليس البتة إذا كان ه زَ، فكل ج دَ، وكل اَ دَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فكل ج اَ.
التأليفات على هيئة الشكل الثالث.
ضروب ذلك والمتصلة موجبة.
الضرب الأول: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وكل ج اَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فبعض دَ اَ. يبين بعكس التالي.
الضرب الثاني: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، ولا شيء من ج اَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فليس كل دَ اَ. ويبين بعكس التالي.
الضرب الثالث: كلما كان ه زَ، فبعض ج دَ، وكل ج اَ. ينتج كالأول، ويبين بعكس التالي.
الضرب الرابع: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وبعض ج اَ. ينتج كالأول، ويبين هكذا: كلما كان ه زَ، فحق أن كل ج دَ، وحق أن بعض ج اَ. وكلما كان ج دَ، وبعض ج اَ، يكون بعض دَ اَ. كلما كان ه زَ، فبض دَ اَ.
الضرب الخامس: كلما كان ه زَ، فكل ج دَ، وليس كل ج اَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فليس كل دَ اَ. ويبين بمثل ما بان به الرابع.
الضرب السادس: كلما كان ه زَ، فبض ج دَ، ولا شيء من ج اَ. ينتج: كالخامس، ويبين بعكس التالي.
وضروب ستة أخرى والمتصلة جزئية.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة، والشرائط أن يكون التالي سالباً، ويكون إحداهما كلية لا محالة، أعني التالي أو الحملي.
الضرب الأول: ليس البتة إذا كان أَ بَ، فلا شيء من ج دَ، وكل ج ه. ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا شيء من دَ ه. ويبين بعكس المتصلة إلى الإيجاب، وعكس تاليها، ثم أخذ لازم النتيجة.
الضرب الثاني: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا كل ج دَ، ولا شيء من ج هَ. ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فكل دَ ه. ويبين برد المتصلة إلى الإيجاب، وعكس تاليها.(1/308)
الضرب الثالث: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا شيء من ج دَ، وكل ج ه. ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا شيء من دَ ه. ويتبين برد المتصلة إلى الإيجاب، وعكس تاليها.
الضرب الرابع: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا كل ج دَ، وبعض ج هَ. ينتج: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا شيء من دَ هَ. ويتبين بعكس المتصلة إلى الإيجاب، وعكس تاليها، ثم اخذ لازم النتيجة.
الضرب الخامس: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فكل دَ هَ، ويتبين بعكس المتصلة إلى الإيجاب ثم أخذ لا زم النتيجة.
الضرب السادس: ليس البتة إذا كان اَ بَ، فلا كل ج دَ، ولا شيء من ج هَ. ينتج كالثاني ويبين بعكس المتصلة إلى الإيجاب، ثم أخذ لا زم النتيجة.
وستة ضروب أخرى والمتصلة جزئية. فلنخلص أصناف الاقترانات، والمتصل مكان الكبرى، ولنبدأ بما يكون على قياس الشكل الأول.
ضروب ذلك والمتصلة موجبة والشرائط في أن تنتج هي أن يكون بين الحملي والتالي من النسبة ما هو الشرط في إنتاج قرائن الشكل الأول في الحمليات، ثم تكون النتيجة متصلة تاليها نتيجة الحملتين لو انفردتا.
الضرب الأول: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فكل بَ اَ. فكلما كان ه زَ، فكل ج اَ.
الضرب الثاني: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فلا شيء من بَ اَ. فكلما كان ه زَ فلاشيء من ج اَ.
الضرب الثالث: بعض ج بَ، وكلما كان ه زَ، فكل اَ بَ. فكلما كان ه زَ، فبعض ج اَ.
الضرب الرابع: بعض ج بَ، وكلما كان ه زَ، فلا شيء من بَ اَ. فكلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ.
وأربعة ضروب أخرى والمتصلات جزئية.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة: شريطته أن يكون الثاني جزئياً.
الضرب الأول: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فليس كل بَ اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فليس كل ج اَ. ويتبين بعكس المتصلة إلى الإيجاب، ثم أخذ لازم النتيجة.
الضرب الثاني: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض بَ اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ.
والضرب الثالث: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فليس كل بَ اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فليس كل ج اَ. ويبين كذلك.
الضرب الرابع: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ. فبعض ج اَ، ويبين كذلك.
وأربعة ضروب أخرى، والمتصلات جزئية.
تأليفات ذلك على منهاج الشكل الثاني.
ضروب ذلك والمتصلة موجبة، والشرائط بين الحملية والتالي تلك التي في الحمليات.
الضرب الأول: كل ج دَ، وكلما كان ه زَ؛ فلا شيء من اَ بَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. ويتبين العكس التالي.
الضرب الثاني: لا شيء من ج بَ وكلما كان ه زَ، فكل اَ بَ. ينتج كذلك ويتبين بعكس الحملية، ثم عكس التالي والنتيجة.
الضرب الثالث: بعض ج بَ، وكلما كان ه زَ. فلا شيء. ينتج: كلما كان ه زَ، فليس كل ج اَ: ويبين بعكس التالي.
الضرب الرابع: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فلا كل اَ بَ. ينتج كالثالث: ويبين هكذا: كلما كان ه زَ؛ فحق أنه لكل اَ بَ، وحق أنه كل ج بَ. وكلما كان هذا حقين، فلا كل ج اَ. ينتج: أنه كلما كان ه زَ، فلا كل ج اَ.
وأربعة ضروب أخرى والمتصلة جزئية.
ضروب ذلك والمتصلة سالبة، والشريطة فيع أن يكون التالي جزئياً موافقاً للحملي في الكيفية كذلك.
الضرب الأول: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض اَ بَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ.
الثاني: لا شيء من ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَن فلا كل اَ بَ. ينتج كذلك.
الثالث: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض اَ بَ. ينتج: ليس البتة إذا كان ه زَ، فكل ج اَ.
الرابع: ليس كال ج بَ. وليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل اَ بَ، ينتج كثالث.
وجميع هذه تتبين بعكس السالبة إلى الإيجاب، وأخذ لازم النتيجة، ولها ضروب ستة جزئية المتصلات.
تأليفات ذلك على منهاج الشكل الثالث: ضروب ذلك من موجبتين.
الضرب الأول: كل ج بَ، وكلما كان هَ زَ، فكل ج اَز فكما كان ه زَ، فبعض بَ اَ. يبين بعكس الحملية.
الضرب الثاني: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. وكلما كان ه زَ، فليس كل اَ بَ. ويبين بعكس الحملية.
الضرب الثالث: بعض ج بَ، وكلما كان ه زَ، فكل ج اَ. فكلما كان ه زَ، فبعض بَ اَ. ويبين بعكس الحملية.(1/309)
الضرب الرابع: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فبعض ج اَ. ينتج كالأول والثالث: ويبين بعكس التالي.
الضرب الخامس: كل ج بَ، وكلما كان ه زَ، فليس كل ج اَ. ينتج: كلما كان ه زَ، فليس كل بَ اَ. ويبين بأن نقول: كلما كان ه زَ، فليس كل ج اَ، وأيضاً: كل ج بَ، وإذا كان ليس كل ج اَ، وكان كل ج بَ، فليس كل بَ اَ. ينتج: كلما كان ه زَن فليس كل بَ اَ.
الضرب السادس: بعض ج بَ، وكلما كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. ينتج كالخامس، ويبين بعكس الحملية.
ضروب ذلك من سالبتين.
الضرب الأول: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من بَ اَ.
الثاني: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فكل بَ اَ.
الثالث: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من بَ اَ.
الرابع: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فلا كل ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فلا شيء من بَ اَ.
الخامس: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَن فكل ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فكل اَ بَ، اَ.
السادس: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان ه زَ، فبعض ج اَ. فليس البتة إذا كان ه زَ، فكل بَ اَ. وجميع هذه تبين برد المتصلة إلى الإيجاب، وأخذ لازم النتيجة، وبالعكس إلا في واحد.
وكذلك ضروب ستة جزئية المتصلات.
الفصل الخامس
(ه) فصل
في القياسات المؤلفة من الحملية الشرطية
والحملي فيها مشارك للمقدم في الأشكال الثلاثة
ولنبدأ بما يكون الحملي فيه مكان الصغرى.
التأليفات الكائنة على منهاج الشكل الأول، ومن الشرط المقدم، وأن لا يكون محالاً. وخاصيته أنه إن كانت الحملية كلية موجبة، والمقدم كلي، فالنتيجة جزئية كلية المقدم. وإن كان المقدم جزئياً، فالنتيجة كلية. وإن كانت الحملية جزئية، فيجب أن يكون المقدم جزئياً حتى ينتج نتيجة كلية المقدم، وإن كانت سالبة فيجب أن يكون المقدم جزئياً، وتكون النتيجة موجب المقدم كلياً حتى يصح. وإذا كان الشرطي ومقدمه جزئيين، لم ينتج.
الضرب الأول، والشرط أن يكون المقدم ليس بمحال: كل ج بَ، وكلما كان بَ اَ، فه زَ. ينتج: قد يكون إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ؛ وإلا ليس البتة إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ. وكلما كان بَ اَ، فهَ زَ؛ فليس البتة إذا كان كل ج اَ، فكل ج اَ. لكن كل ج بَ، فإذا كان كل بَ اَ، كان كل ج اَ، هذا خلف. وقد يعرض ههنا شك، كما عرض في نظريتهما مما سلف، وحله ذلك الحل.
الرب الثاني: كل ج بَ، وكلما كان لا شيء من بَ اَ، فه ز. ينتج: قد يكون إذا كان لا شيء من ج اَ، ف هَ زَ؛ وإلا فليس البتة إذا كان لا شيء من ج اَ، فه زَ. وكلما كان لا شيء من بَ اَ، ف هَ زَ، فليس كلما كان لا شيء من بَ اَ فلا شيء من ج اَ، وكل ج بَ. هذا خلف.
الضرب الثالث: كل ج بَ، وكلما كان بعض بَ اَ، فه زَ. فكلما كان كل أو بعض ج اَ، فه زَ؛ لأن بعض بَ؛ فإذا كان ج اَ، كان بعض بَ اَ.
الضرب الرابع: كل ج بَ، وكلما كان لا كل بَ اَ، فهَ زَ؛ وكلما كان لا كل ج اَ أولاً شيء من ج اَ، فهَ زَ؛ لأن ج بعض بَ.
الخامس: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان كل بَ اَ، فهَ زَ. ينتج: أنه قد لا يكون إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ؛ وإلا فكلما كان ج اَ، فهَ زَ. وليس البتة إذا كان كل بَ اَ، فهَ زَ. ينتج: أنه ليس البت إذا كان كل بَ اَ، فكل ج اَ، وهذا خلف. وأيضاً ترد السالبة المتصلة إلى الإيجاب، ثم ترد النتيجة إلى السلب.
السادس: كل ج بَ،وليس البتة إذا كان بعض بَ اَ، فهَ زَ. فليس البتة إذا كان كل أو بعض ج اَ، فهَ زَ. لأن ج بعض بَ.
السابع والثامن: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان لا شيء أولاً كل بَ اَ، فهَ زَ. فليس البتة إذا كان لا شيء أولاً كل ج اَ، فهَ زَ. لأن ج بعض بَ.
التاسع: كل ج بَ، وقد يكون إذا كان كل بَ اَ فهَ زَ، فقد يكون إذا كان كل ج اَ فهَ زَ، وإلا فليس البتة، وقد قلنا قد يمون إذا كان بَ اَ، فقد يكون إذا كان كل بَ اَ فليس كل ج اَ، هذا خلف.(1/310)
العاشر: كل ج بَ، وقد يكون إذا كان لا شيء من بَ اَ فهَ زَ، فقد يكون إذا كان لا شيء من ج اَ فهَ زَ، وإلا فليس البتة، وقد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ، اَ فهَ زَ، فقد يكون إذا كان لا شيء من بَ اَ، فليس لا شيء من ج اَ. هذا خلف.
الحادي عشر: كل ج بَ، وليس كلما كان كل بَ اَ فهَ، فليس كلما كان كل ج اَ ف ه زَ، ويتبين بالخلف وبالرد إلى الإيجاب.
الثاني عشر: كل ج بَ، وليس كلما كان لا شيء من بَ اَ فهَ زَ، فليس كلما كان لا شيء من ج اَ ف ه زَ، ويتبين بالخلف وبالرد إلى الإيجاب.
الثالث عشر: بعض ج بَ،وكلما كان بعض بَ اَ، فهَ زَ. ينتج: وكلما كان ج اَ، فهَ زَ لأنه إذا كان كل ج اَ، وحق أن بعض جض بَ، كان بعض بَ اَ.
الرابع عشر: بعض ج بَ، وكلما كان لا كل بَ اَ، فهَ زَ. ينتج كلما كان لا شيء من ج اَ، لأنه إذا كان ج بَ ولا شيء من ج اَ، كان لا كل بَ اَ.
الخامس عشر: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان بعض بَ اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ، والبرهان مثل ذلك.
السادس عشر: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان لا كل بَ اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ.
التأليفات في هذا الباب على منهاج الشكل الثاني لا تنتج من مقدم موجب كلي وتنتج من مقدم موجب جزئي. فإذا كان المقدم جزئياً؛ فيجب أن يكون الحملي موافقاً له في الكيف؛ وإن كان كلياً، فيجب أن يخالفه في الكيف، وأن يكون المقدم صحيح الوجود، وإذا كان المقدم كلياً فالنتيجة جزئية، وإن كان جزئياً فالنتيجة كلية. لكنه إن كان الحملي كلياً كانت النتيجة كلية، كلية المقدم وجزئيتها معاً، وإن كان جزئياً لم يكن المقدم في النتيجة إلا كلياً، ولكن يجب أن تكون المتصلة كلية المقدم سالبته.
الضرب الأول: كل ج بَ، وكلما كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: قد يكون لا شيء من ج اَ، فهَ زَ، وإلا فليس البتة. وقلنا: كلما كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فليس شيء من ج اَ؛ ولكن إذا كان لا شيء من اَ بَ، وحق أن كل ج بَ، كان لا شيء من ج اَ؛ وهذا خلف. وقد يمكن أن تبين بعكس المقدم إذا كان سالباً كلياً فيعكس.
الضرب الثاني: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس كلما كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. ونبرهن عليه بالخلف على ذلك النحو، أو بعكس المقدم؛ أو برد السالبة إلى الإيجاب.
الضرب الثالث: ليس شيء من ج بَ، كلما كان كل اَ بَ، فهَ زَ. فقد يكون إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. وإلا فليس البتة إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. وكلما كان كل اَ بَ، فهَ زَ. فليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فلا شيء من ج اَ. لكن إذا كان كل اَ بَ، وليس شيء من ج بَ حقاً، فلا شيء من ج اَ حق. وهذا خلف.
الضرب الرابع: ليس شيء من ج بَ، وليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: فقد لا يكون إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. ويبين على نحو ذلك.
الضرب الخامس: كل ج بَ، وكلما كان بعض اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل ج اَ، أو بعض ج اَ، فهَ زَ. لأنه حينئذ يكون بعض اَ بَ.
الضرب السادس: لا شيء من ج بَ، وكلما كان كل ج اَ، أو بعض ج اَ، فهَ زَ، لأنه حينئذ يكون بعض اَ بَ.
الضرب السابع: لا شيء من ج بَ، وكلما كان لا كل اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل ج اَ، أو بعض ج اَ فهَ زَ. لأنه حينئذ يكون لا كل اَ بَ.
الضرب الثامن: بعض ج بَ، وكلما كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: قد يكون إذا كان لا كل ج دَ، فهَ زَ. والبرهان بالخلف، وبالعكس المقدم.
الضرب التاسع: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كن لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة كلما كان لا كل ج اَ، فهَ زَ. والبرهان بالخلف هو غيرك.
الضرب العاشر: ليس كل ج بَ، وكلما كان اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: قد يكون إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ؛ وإلا فليس البتة. وقد قلنا: كلما كان كل اَ بَ، فهَ زَ؛ فليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فلا كل ج اَ. لكن هما جميعاً حقان، فالسلب باطل.
الضرب الحادي عشر: ليس كل ج بَ، وليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس كلما كان لا كل ج اَ، فهَ زَ. لأنه ينتج إذا كان كل اَ بَ، فحينئذ ليس كل ج اَ، وليس حينئذ هَ زَ. وقد يبن بالرد إلى الإيجاب.(1/311)
الضرب الثاني عشر: بعض ج بَ، وكلما كان بعض اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل ج اَ، فهَ زَ، لأنه يكون حينئذ بعض اَ بَ.
الضرب الثالث عشر: ليس كل ج بَ، وليس البتة إذا كان لا كل اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ. لأنه يكون لا كل اَ بَ.
وأما الجزئيات المتصلة، السالبة المقدمات، الكليتها، فلنبرهن على ضرب منها وهو: أنه كل ج بَ، وليس كلما كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَ. ينتج: ليس كلما كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. وإلا فكلما كان، وليس كلما كان لاشيء من اَ بَ، فهَ زَ. فليس كلما كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج اَ. لكن كل ج بَ، وكلما كان لا شيء من اَ بَ، كان لا شيء من ج اَ.
ولنبرهن على ضروب أخرى: أنه كل ج بَ، وقد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ، فهَ زَن فقد يكون إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. ويتبين بالخلف.
التأليفات من هذا الباب على منهاج الشكل الثالث، وهي أفضل قياسات هذا الباب ولا تنتج، والحملية سالبة، وتكون النتيجة كلية المقدم دائماً.
الضرب الأول: كل ج بَ، وكلما كان ج اَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل بَ اَ، فهَ زَح لأه حينئذ يكون كل ج اَ.
الضرب الثاني: كل ج بَ، وكلما كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان لا شيء من بَ اَن فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا شيء من ج اَ.
الضرب الثالث: كل ج بَ، وكلما كان بعض ج اَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ بعض ج اَ.
الضرب الرابع: كل ج بَ، وكلما كان لا كل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا كل ج اَ.
الضرب الخامس: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان كل بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ كل ج اَ.
الضرب السادس: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ، ينتج: ليبس البتة إذا كان لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا شيء من ج اَ.
الضرب السابع: كل ج بَ، وليس البتة إذا كان بعض ج اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان كل بَ اَن فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ بعض ج اَ.
الضرب الثامن: كل ج بَ، وليس البتة إذا لم يكن كل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا لم يكن لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ، لأنه يكون حينئذ لا كل ج اَ.
التاسع: كل ج بَ، وقد يكون إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: قد يكون إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ، لأنه يكون حينئذ كل ج اَ.
والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر متصلاتها جزئية، ونتائجها جزئية كلية المقدم، يحتاج أن تعلمه بنفسك.
والسابع عشر: بعض ج بَ، وكلما كان بعض ج بَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان كل بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ بعض ج اَ.
الثامن عشر: بعض ج بَ، وكلما كان لا كل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: كلما كان لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا كل ج اَ.
والتاسع عشر: بعض ج بَ، وليس باتة إذا كان بعض ج اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان كل ج اَ، فهَ زَ.
والعشرون: بعض ج بَ، وليس البتة إذا كان لا شيء منكل ج اَ، فهَ زَ. ينتج: ليس البتة إذا كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ.
والحادي والعشرون، والثاني والعشرون، والثالث والعشرون، والرابع والعشرون؛ جزئية الحمليات، وجزئية المتصلات، والمقدمات والتوالي بحالها.
أصناف هذه القياسات والحملية مكان الكبرى.
تأليفات ذلك على منهاج الشكل الأول لا تنتج إلا أن يكون المقدم سالباً، والحملية كلية.
الضرب الأول: كلما كان لا شيء من ج بَ، فهَ زَ، وكل بَ اَ. ينتج: كلما كان لا شيء من ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لاشيء من ج بَ.
والضرب الثاني: كلما كان لا شيء من ج بَ، فهَ زَ، ولا شيء من بَ اَ. ينتج: كلما كان ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكن حينئذ لا شيء من ج بَ.
الضرب الثالث: كلما كان لا كل ج بَ، فهَ، زَ، وكل بَ اَ، ينتج: كلما كان لا كل أولاً شيء من ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا كل ج بَ.
الضرب الرابع: كلما كان لا كل ج بَ، فهَ ز، ولا شيء من بَ اَ. ينتج: كلما كان كل أو بعض ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا كل ج بَ.
الضرب الخامس والسادس والسابع والثامن متصلتها سالبة، وتنتج تلك النتائج سالبة. والبرهان مأخوذ ذلك بعينه.(1/312)
وضروب ثمانية أخرى، ومتصلتها جزئية، موجبة سالبة.
وأما التأليفات ذلك على منهاج الشكل الثاني لا تنتج إلا أن تكون الحملية كلية، ويكون المقدم مشاكلاً لها في الكيفية.
الأول: كلما كان ج بَ، فهَ زَ، وكل اَ بَ. ينتج: كلما كان كل ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه حينئذ كل ج بَ.
الثاني: كلما كان لا شيء من ج بَ، فهَ زَ، ولا شيء من اَ بَ. ينتج كلما كان كل ج اَ، فهَ زَ؛ لأنه حينئذ يكون لا شيء من ج بَ.
الثالث: كلما كان بعض ج بَ، فهَ زَ، وكل اَ بَ. ينتج كالأول.
الرابع: كلما كان لا كل ج بَ، فهَ زَ، ولا شيء من بَ اَ. ينتج كالثاني.
وأربعة أخرى والمتصلات سوالب. وثمانية أخرى والمتصلات جزئية سالبة وموجبة.
تأليفات ذلك والمنهاج الشكل الثالث.
الأول: كلما كان لا شيء من ج بَ، فهَ زَ، وكل ج اَ. ينتج: كلما كان لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ، لأنه يكون حينئذ لا شيء من ج بَ.
الثاني: كلما كان لا شيء من ج بَ، فهَ زَ، ولا شيء من ج اَ. ينتج: كلما كان كل بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه يكون حينئذ لا شيء من ج بَ.
الثالث: كلما كان لا كل ج بَ، فهَ زَ، وكل ج اَ. ينتج: كلما كان لا شيء من بَ اَ، فهَ زَ، لأنه يكون حينئذ لا كل ج بَ.
الرابع: كلما كان لا كل ج بَ، فهَ زَ، ولاشيء من ج اَ. ينتج: كلما كان كل بَ اَ، فهَ زَ؛ لأنه حينئذ يكون لا كل ج بَ.
وأربعة أخرى والمتصلات كلية سالبة. وثمانية أخرى ومتصلاتها جزئية وكلية، سالبة وموجبة.
الفصل السادس
(ز) فصل
في القياس المقسم على نمط الأشكال الثلاثة
فمن ذلك القياس مؤلفة من منفصلة، ومن حمليات كثيرة على قياس الاستقراء. إلا أن الاستقراء لا يكون الحمل فيه حقيقياً، بل تشبيهياً. ويجوز أن تكون أجزاء القسمة ناقصة، ومع ذلك يكون الاستقراء، ولا يلتفت إلى أن تكون الجزاء المقسمة على ما ستعلم. وهذا يكون الحمل فيه حقيقياً على موضوع الانفصال، وأجزاء القسمة تامة. وأنا أسميه القياس المقسم. وتكون أجزاء القسمة فيه مشتركة في جزء، وتكون الحمليات مشتركة في جزء، ويكون ذلك إما على نمط الشكل الأول، أو على نمط الشكل الثاني، أو الثالث.
تأليفات ذلك على منهاج الشكل الأول. وذلك أن تكون أجزاء المنفصلة مشتركة في الموضوع، ويرد الانفصال على موضوعها، ويكون كل حملي مشاركاً للآخر في جزء هو محمول ذلك الحملي، مبايناً في جزء هو موضوع ذلك الحملي، ويجب أن تكون المنفصلة موجبة، موجبة الجزاء، والحمليات كلية متشابهة الكيف، ونتيجتها حملية.
الضرب الأول: كل بَ، إما جَ، أو زَ. وكل ج، و هَ، وزَ، اَ. فكل بَ اَ.
الثاني: كل بَ، إما ج، وإما هَ، وإما زَ. ولا شيء من ج، ولا هَ، ولا زَ، اَ فلا شيء من بَ اَ.
الثالث: بعض بَ، إما ج ، وإما ه، وإما زَ. وكل ج، و هَ، و زَ، اَ. فبعض بَ اَ.
الرابع: بعض بَ، وإما ج، وغما هَ، وإما زَ، ولا شيء من ج، ولا هَ، ولا زَ، اَ. فلا كل بَ اَ.
وإن جعلت المنفصلة جزئية لم يفد في إنتاج الحملية.
تأليفات ذلك على منهاج الشكل الثاني. والشريطة فيه أن تكون المنفصلة أيضاً موجبة.
الضرب الأول: كل بَ إما أن يكون ج، أو هَ، أو زَ. ولا شيء من اَ، ج، أو زَ. ينتج: لا شيء من بَ اَ.
الضرب الثاني: لا شيء من بَ، ج، ولا هَ، ولا زَ. ودائماً إما أن يكون اَ، ج، أو هَ، أو زَ.
الضرب الثالث: بعض بَ إما أن يكون ج، أو هَ، أو زَ. ولا شيء من اَ، ج، أو هَ، أو زَ.
وإن جعلت المنفصلة جزئية، لم تفد في إنتاج الحملية. وكذلك إن جعلت المنفصلة كبرى وحفظت النسبة ولم تجعل الكبرى جزئية.
وإما على قياس الشكل الثالث والشرط فيه أن تكون المنفصلة، كلية، وان تكون الشركة في كلي، أعني أن يكون أجزاء المنفصل أو أجزاء الحمليات كلي، ثم يكون الجزئي، وأن كان في الآخر، مشاركاً إياه.(1/313)
الضرب الأول: دائماَ إما أن يكون ج بَ، وغما أن يكون دَ بَ، وكل ج، وكل دَ، هَ. ينتج: أن بعض بَ، هَ. لأن كل واحد من ج و دَ، أو ج أو بَ. فإن كانت المنفصلة سالبة لم ينتج. مثاله: ليس البتة إما أن يكون الإنسان حيواناً، أو يكون الفرس حيواناً؛ وكل إنسان وكل فرس جسم. ثم، نقول: ليس البتة إما أن يكون إنسان نفساً، أو يكون الفرس نفساً؛ وكل إنسان وكل فرس جسم. فإن جعلت المنفصلة كبرى أنتج أيضاً مثل ذلك بعينه. فإن جعلت الحملية جزئية أنتج كذلك. ولكن ينبغي أن يكون جزء المنفصلة كليتين، مثاله: إما أن يكون كل ج اَ، وكل دَ بَ، كل ج اَ، وبعض دَ هَ، أو بالخلاف. وإما إن كان في جزئي المنفصل جزئية، فإن شاركت في الحمليتين كلية أنتج، وإلا لم ينتج: مثال الذي لا ينتج: دائماً إما أن يكون كل ج بَ، وإما أن يكون كل ج بَ، وغما أن يكون بعض دَ بَ، وكل ج هَ، وبعض دَ هَ. فإنه يمكن أن لا يكون قولنا: كل ج بَ، حقاً البتة. فيبقى الاقتران من جزئيتين، ولكن يلزم منه نتيجة شرطية، أنه إن كان لا شيء من د؟َ بَ، فبعض بَ هَ، لأنه يكون حينئذ كل ج بَ. وكذلك إن عكست الترتيب. فإن جعلت الشرطية جزئية لم يفد كلية كما علمت.
وأما التأليفات من منفصلة وحمليات لا تشترك في محمول واحد، فما كان ترتيب الشكل الأول فالشرط فيه أن تكون الصغرى موجبة والكبريات كليات. مثاله: كل دَ، إما ج، وإما بَ. وكل ج هَ، وكل بَ زَ. ينتج كل دَ، لا تخلو من هَ، و زَ؛ لا على انهما لا يجتمعان فيه، بل على أنه لا يخلو منهما.
فإن كان كل دَ إما ج، وإما بَ، ولا شيء من ج هَ، ولا شيء من بَ زَ. ينتج: أن كل دَ لا يخلو أن لا يكون ه، أو لا يكون. وعلى ذلك فقس باقي المضروب.
فإن جعلت الحمليات صغريات كقولك: كل ج هَ، وكل دَ زَ. ثم نقول: وإما أن يكون كل هَ اَ، وإما أن يكون كل زَ اَ. ينتج: أنه إما أن يكون إما أن يكون جض اَ، أي عندما يكون كل هَ اَ. أو يكون كل زَ اَ. فإن كان في أجزاء المنفصل الجزئي، لم ينتج. فإن كانت المنفصلة سالبة، أنتجت منفصلة سالبة، والشرط ما ذكر. أما إن كانت سالبة الأجزاء، لم ينتج.
الشكل الثاني: يجب أن تكون الحمليات فيه سوالب تنعكس. فحينئذ ترجع إلى الشكل الأول، ويكون حكمه حكمها.
الشكل الثالث: تعرف أحوالها بما يلزم الصغريات من العكس أو بالافتراض.
التأليفات من حملية مكان الصغرى ومنفصلة مكان الكبرى.
ترتيب الشكل الأول: كل ج بَ؛ ودائماً كل بَ، إما هَ، وإما زَ. ينتج: كل ج، إما هَ، وإما زَ. فإن سئل على هذا القبيل: كل فرد هو عدد، وكل عدد إما فرد، وإما زوج. فيلزم من هذا أن كل فرد، وإما زوج. وهذا هذيان. والجواب أن هذا ينتج، ولكن نتيجة غير مفيدة. وليس أنه غير مفيد، وأنه كاذب، شيئاً واحداً. ومثال هذا لو أن قائلاً قال: كل ناطق إنسان. ثم قال: وكل إنسان ناطق. فأنتج: وكل ناطق ناطِق. لم يكن هذا موجباً أن الضرب غير منتج. ولكن السبب فيه المقدمات، لا التأليفات. إذ قد أخذت المقدمات سوى المحتاجات إليها. ثم لا شكك أن كل فرد إما فرد، وإما زوج. وذلك لأنه إن خلا عنهما وهو عدد، كان شيئاً أخر غيرهما، وهذا محال. وإن اجتمعا فيه، كان الفرد والزوج مجتمعين. وهذا أشد استحالة. وكذلك إذا كانت الكبرى جزئية، وكذلك إذا كان الصغرى جزئية، وكذلك إذا كانت الكبرى سالبة كلية، أو موجبة سالبة الأجزاء.
وأما ترتيب الشكل الثاني لا ينتج.
وأما ترتيب الشكل الثالث ينتج ما تعرفه بعكس الحملية.
وأعلم أن جميع المقاييس المؤلفة من الحملية ومتصلة أو منفصلة، قد يجوز أن يكون مكان الحملية متصلة إذا كان المقدم أو التالي أو أي الجزاء كان مما يشارك فيه المتصلة وتكون النتيجة تلك بعينها، وإلا أنها تكون متصلة بدل ما تكون حملية. واعلم أن جميع الاقترانات التي اشتركت في حد بعينه، فإنها يلزمها اقترانات تكون من إحدى المقدمتين، ومن مقدمة في قوة المقدمة الأخرى. وإن تغير الحد المشترك فصار كلية جزئياً أو سالبة موجباً، وبالعكس. وكذلك إن بدلت مكان المقدمتين لازميهما. وعليك أن تجرب هذا في قرينة قرينة، وتجد حينئذ قرائن أخرى غير التي أوردناها، وهي في قوتها.(1/314)
وأما أصناف قياسات تحدث من شرطيات تتشارك في جزء غير تام، فمن ذلك اشتراك منفصلتين في جزء غير تام، وما كان من ذلك على مشاكلة الشكل الأول - إما من موجبتين: فهكذا دائماً إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون ه زَ. وكل دَ إما أن بَ يكون، أو يكون اَ - ينتج: إما أن يكون ج دَ، وإما أن يكون ه بَ، أو هَ اَ. وإما من موجبة وسالبة: فهكذا دائماً إما أن يكون ج دَ، وغما أن يكون ه زَ، وليس البتة، إما أن يكون زَ اَ، وغما أن يكون زَ بَ. ينتج: إما أن يكون ج دَ، وإما أن لا يكون ه بَ، أو ه اَ. واثنان صغراهما جزئية تنتج جزئية.
وأما على منهاج الشكل الثاني فلا يكون إلا على الصورة: دائماً إما أن يكون ج دَ، وغما أن يكون ج هَ. وليس البتة إما أن يكون دَ، وغما أن يكون هَ. ينتج حملية أنه ليس البتة ج اَ.
والضرب الثاني صغراه سالبة، وكبراه موجبة.
وضربان صغراهما جزئيتان، وهو في قوة الحمليات، ومنها اشتراك متصلة صغرى ومنفصلة كبرى في محمول المقدم وموضوع الانفصال أو محمولهما جميعاً.
ضروب ذلك على منهاج الشكل الأول.
الأول: كلما كان ج بَ، فهَ زَ. وكل زَ، وإما دَ، وإما اَ. فكلما كان ج بَ، فكل ه، إما دَ، وإما اَ.
الثاني: كلما كان ج بَ، فهَ زَ، وليس البتة زَ، وإما دَ، وإما اَ. فكلما كان ج بَ، فليس البتة زَ، إما دَ، وإما اَ.
وضربان والمتصلة جزئية.
ضروب ذلك على منهاج الشكل الثاني: كلما كان ج بَ، فهَ، زَ، أو دَ. ولا شيء من اَ، بَ، أو دَ. وكلما كان ج بَ فليس ه اَ. كلما كان ج بَ، فليس ه زَ أو دَ. وكل اَ، زَ أو دَ. فكلما كان ج بَ فليس هَ اَ.
وضربان آخران جزئيتهما موجبة.
وضروب أربعة ومتصلاتها سالبة، فعي ترجع إلى هذه، ونتائجها تكون لوازم هذه.
فقد أدينا ما ضمناه من الكلام المختصر في القضايا الشرطية وقياساتها. وقد كنا علمنا في هذا الباب في بلادنا كتاباً كبيراً مشروحاً غاب في أسفارنا ومفارقتنا لأسبابنا، وكأنه موجود في البلاد التي كنا بها. وبعد أن كنا استخرجنا هذا الجزء من العلم بقريب من ثماني عشر سنة، ووقع إلينا كتاب في الشرطيات منسوب إلى فاضل المتأخرين، كأنه منحول عليه، فإنه غير واضح ولا معتمد ولا مبالغ ولا مبلوغ به الغرض، فإنه فاسد في تعريف حال القضايا الشرطية أنفسها، وفي كثير مما يستصحبه من القياسات، وفي وجوه الدلائل على الإنتاج والعقم، وفي تعديد الضروب في الأشكال. فيجب أن لا يلتفت المتعلم إلى ذلك البتة، فإنه مزاغة ومضلة. وذلك لأن مصنفه يعرف الإيجاب والسلب في الشرطيات، والكلية والجزئية وإهمال كيف يكون، وكيف تتضاد الشرطيات، وكيف تتناقض وكيف تتداخل؛ بل أضاف هذا كله إلى أجزاء المتصلات، واشتغل من عكس الشرطي بنوع واحد. ولم يعرف جميع الاقترانات؛ بل اقتصر على اقترانات بين متصلات ومنفصلات، ولم يستوف جميعها، وكثرها فوق العدد الواجب، لأنه عدد أشياء داخلة تحت حكم واحد ذات أحكام مختلفة. وإنما يجب أن يورد الحكم الكلي فيها، فيكفيه تكثير أصناف بحسب تعديد إبدالات المقدم أو تال باختلاف الكمية والكيفية، لا يتغير بتغير حكم. ثم ظن كثير من العقم أنه منتج، وخصوصاً أول ما بعده في الكتاب. ثم ظن في كثير من هذه العقم بأنها ظاهرة الإنتاج، لا تحتاج إلى بيان لكمال قياساتها. ثم ظن في كثير من المنتجات أنها عقم. ثم لم يصب في إبانة كثير من المنتجات المحتاجة إلى بيان، بل سلك سبيلاً غير سديد. ثم ظن أن المنفصل يتميز فيه تال على المقدم، حتى عد التأليفات منه مرة في شكل، ومره في شكل آخر، لأنه في أحدهما قدم المشترك فيه، وفي الآخر أخره. ثم ظن في كثير من الاقترانات التي ليس الأوسط فيها شيئاً بعينه أنه قياس بسيط، لأنه يلزم منه شيء بقوة وسط واحد بعينه، وذلك في حكم القياس المركب، لأن القياس البسيط وسطه واحد بعينه بلا اختلاف. فهذه وأشباهها وجوه زيفه في ذلك الكتاب.
المقالة السابعة من الفن الرابع؛ من الجملة الأولى؛ في المنطق
المقالة السابعة
من الفن الرابع، من الجملة الأولى، في المنطق
الفصل الأول
(أ) فصل
في تلازم المقالات المتصلة الشرطية وتقابلها(1/315)
فقد عددنا الآن أصناف القضايا الشرطية بوجه مجمل. وأما الاشتغال بتعديدها بأن تأخذ أصناف المنفصلات التي من حمليات، والتي من أخلاط، والتي من جزأين، والتي من أجزاء، وأصناف المتصلات كذلك بكيفياتها، وكمياتها، وجهاتها، واعتبار أحوال مقدماتها، وتالياتها، إنها لا تخلو من أن تكون أحادية الثمانية.
وتلك الثمانية إما محصلة، وغما معدلة، وبعد ذلك إما ثنائية، وإما ثلاثية. وبعد ذلك لا تخلو عناصرها من أحد العناصر الثلاثة. وتكون مطلقة أو منوعة. ونوعها وجوب، أو امتناع، أو مكان، وسائر ما أشبه هذه الاعتبارات. ثم يركب بعضها مع بعض، ويجمع ما يحصل من أعدادها، وان يسمي كل صنف باسم. فذلك مما الأولى أن يشتغل به من له فراغ عن المحتاج إليه، بما لا يحتاج إليه. مع أن الاشتغال بذلك وتعديده من أيسر الأمور وأهونها، على كل من هم به، ممن له أدنى تفطن. وأما الأولى بنا فان نشتغل بالأحوال التي لبعض هذه عند بعض فنقول: إنك إذا علمت الموجبة، والسالبة، الكلية، والجزئية؛ فقد علمت التناقض، والتضاد، وما تحته، والتداخل، ولا حاجة بنا إلى استئناف تعليمك ذلك، فإن الحال فيها كما في الحمليات. والذي أظن أن ذلك إنما يكون لسبب المقدم والتالي، فذلك باطل. ولو كانت المقدمة التي تاليها مناقض مناقضة، لكان قولنا: كلما مشى زيد عاين عمراً، وكلما مشى زيد لم يعاين عمراَ، متناقضين. وليس كذلك، وإن كان قد يتفق في بعض المواضع أن تكون تلك لأزمة للمناقض.
وأمر المقدم أبعد في هذا المعنى، فلنشتغل بتعريف أحوال التلازم، لنبدأ بإحصاء أنواع كل جنس من هذه القضايا، ونأخذ أجزائها محصورات. فإن ذلك أدل على أغراضنا. ونتعرف الحال في كيفية لزوم بعضها لبعض. ولنأخذها ضروريات. واما أخذها مطلقات وممكنات فانتظره في كتاب اللواحق، إن كنت لا يمكنك أن تقيس الحال على ما قيل في نظائرها من الحمليات. وعلى إنك لو اجتهدت تمكنت من ذلك بعد أن تفهم أولاً المدلول عليه في كل صنف منها، وأنه كيف يصدق. ولنهتدئ بالمتصلات، ولنمثل في البسيطة التي تؤلف من حمليتين.
من موجبتين كليتين (ا) كلما كان كل اَ بَ، فكل ج دَ.
من موجبتين والمقدم كلي (ب) كلما كان كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
من موجبتين والتالي كلي (ج) كلما كان كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
من موجبتين جزئيتين (د) كلما كان كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
من سالبتين كليتين (ه) كلما كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين والمقدم (و) كلما كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين والتالي كلي (ز) كلما كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين جزئيتين (ح) كلما كان لا كل اَ بَ، فلا كل ج دَ.
من كليتين والمقدم موجب والتالي سالب (ط) كلما كان كل اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
المقدم موجب كلي والتالي سالب جزئي (ي) كلما كان اَ بَ، فلا كل ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب كلي (ك) كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب جزئي (ل) كلما كان بعض اَ بَ، فلا كل ج دَ.
كليتان والمقدم سالب والتالي موجب. كلما كان لا شيء من اَ بَ، فكل ج دَ.
المقدم سالب كلي والتالي موجب جزئي. كلما كان لا شيء من اَ بَ، فبعض ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب جزئي. كلما كان لا شيء من اَ بَ، فبعض ج دَ.
المقدم سالب كلي والتالي موجب كلي. كلما كان لا كل اَ بَ، فكل ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب جزئي. كلما كان لا كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
السوالب الكلية من موجبتين كليتين: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فكل ج دَ.
من موجبتين والمقدم: كلي ليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
من موجبتين والتالي كلي: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ، فكل ج دَ.
من موجبتين جزئيتين: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ، فبعض ج دَ.
من سالبتين كليتين: ليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين والمقدم كلي: ليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فلا كل ج دَ.
من سالبتين والتالي كلي: ليس البتة إذا كان لا كل اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين جزئيتين: ليس البتة إذا كان لا كل اَ بَ، فلا كل ج دَ.
كليتان والمقدم موجب والتالي سالب. ليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.(1/316)
المقدم موجب كلي والتالي سالب جزئي: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فلا كل ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب كلي: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ.
كليتان والمقدم سالب والتالي موجب كلي: ليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فكل ج دَ.
المقدم سالب كلي والتالي موجب جزئي: ليس البتة إذا كان لا شيء من اَ بَ، فبعض ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب كلي: ليس البتة إذا كان لا كل اَ بَ، فكل ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب جزئي: ليس البتة إذا كان لا كل اَ بَ، فبعض ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب جزئي: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ، فلا كل ج دَ.
ولكل واحد من الأنواع الستة عشر السالبة الكلية ملازم من الأنواع الستة عشر الموجبة الكلية ويرجع بعضها إلى بعض. ووجه الرجوع أن تحفظ كمية القضية بحالها وتغير الكيفية ويفظ المقدم كما هو ويتبع بنقيض التالي. وجميع هذه الأصناف توجد مرة باتصال مطلق وتارة باتصال لزوم فتزداد لفظة اللزوم. فقولنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ فكل ج دَ، وهو على المعنى الأعم في قوة قولنا: كلما كان كل اَ بَ فليس كل ج دَ وفي معنى الاتصال واللزوم في قوة قولنا: كلما كان اَ بَ فليس يلزم أن كل ج دَ. واحتفظ هذا القانون في جميع ذلك. وعلى هذا القياس قولنا: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ فكل ج دَفي قوة قولنا: كلما كان بعض اَ بَ فليس كل ج دَ، وقولنا: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ فبعض ج دَ في قوة قولنا: كلما كان بعض اَ بَ فلا شيء من ج دَ. وقولنا: ليس البتة إذا كان بعض اَ بَ فكل ج دَ في قوة قولنا: كلما كان بعض اَ بَ فليس كل ج دَ، وعلى هذا القياس.
وأما وجه البرهان على هذا التباع فإنا نشير إليه في صنف واحد. وعليك أن تنقله إلى سائر الأصناف. فنقول: إنه إذا صدق قولنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ فكل ج دَ، صدق قولنا: كلما كان كل اَ بَ فليس كل ج دَ، وإلا صدق نقيضه وهو قولنا: ليس كلما كان كل اَ بَ فليس كل ج دَ. ومعنى هذا الكلام هو منع أن يكون هذا التالي السالب لازماً لكل وضع للمقدم، فيكون هنالك لا محالة وضع مرة من المرات يوضع فيها هذا المقدم خالياً عن متابعة هذا التالي إياه، فيكون الصادق حينئذ معه نقيضه. فيكون حينئذ قد كان كل اَ بَ ومعه كل ج دَ، وقد قلنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ فكل ج دَ، هذا خلف. وأما على سبيل رفع اللزوم، فإنه يلزم من قولنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ فيلزم أن يكون كل ج دَ، كلما كان كل اَ بَ فليس يلزم أن يكون كل ج دَ، وإلا فمن الحق أنه ليس كلما كان كل اَ بَ فليس يلزم أن يكون كل ج دَ، فيلزم مرة عند وضع كل اَ بَ أن يكون كل ج دَ، وهذا محال.
وأما البرهان على هذه السالبة تلزم الموجبة فاعتبر على ما علمت تارة بالاتصال المطلق وتارة باللزوم، فإنه إذا صدق قولنا: كلما كان كل اَ بَ فكل ج دَ، ولم يصدق قولنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ فليس كل ج دَ، صدق نقيضها أنه إذا كان كل اَ بَ فليس كل ج دَ. فيجوز أن يكون قولنا: كل اَ بَ موضوعة، ولا يكون تاليها أن كل ج د؛ إذ يكون ليس كل ج دَ. وقد قلنا: أنه كلما كان كل اَ بَ، فيجب أن يوضع تاليه أن كل ج دَ، وهذا خلف. فإنا فرضنا أن ذلك يجب إما أن يصدق معه أو يلزمه، فالقضايا المتصلة الكلية المتفقة في الكم المختلفة في الكيف المتناقضة التوالي متلازمة.
أما في المواد التي يكون فيها الصدق في سالبها بسبب وذع المقدم مانعاً لصحة التالي، فيكون لزوم النقائض من التوالي. على أن اللزوم جزء من التالي وعلى أنه خارج عنه فيصدق فيهما جميعاً.
وأما إذا كانت المواد مواد يكون الصدق في سالبها، ليس منع صحة التالي، بل منع لزوم التالي، كان صحيحاً أو ليس بصحيح، فعلى أن يجعل اللزوم جزءاً من التالي فيؤتى بنقيضه من حيث لازم فيجعل لازماً للمقدم. فإن كان التالي موجباً، كان المتصل اللازم إياه على هذه الصفة: كلما كان هَ زَ فليس يلزم أن يكون ج دَ. وإن كان سالب التالي كان هكذا: كلما كان هَ زَ فليس يلزم أن لا يكون ج دَ. ومعناه يصح أن يفرض معه ج دَ، فيكون كمال القول: كلما كان ه زَ فيصح معه فرض جدَ، أي صحة في الفرض لا في الوجود فقط.(1/317)
ومن هذا يتبين أيضاً خطأ في الظن أن القضايا المتصلة المتناقضة هي التي تواليها متناقضة. وذلك أن الموجبتين الكليتين اللتين تاليهما متناقضتان يكونان في قوة المتضادين، فيجتمعان على الكذب ولا يتناقضان. وذلك لأن إحدى هاتين الموجبتين يكون في قوة سالبة كلية مقابلة للأخرى بالتضاد.
الموجبات الجزئية من موجبتين كليتين، قد يكون إذا كان كل اَ بَ فكل ج دَ.
من موجبتين والتالي جزئي، قد يكون إذا كان كل اَ بَ فبعض ج دَ.
من موجبتين والمقدم جزئي، قد يكون إذا كان كل بعض اَ بَ فكل ج دَ.
من موجبتين جزئيتين، قد يكون إذا كان بعض اَ بَ فبعض ج دَ.
من سالبتين كليتين، قد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين والتالي جزئي، قد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ فلا كل ج دَ.
من سالبتين والمقدم جزئي، قد يكون إذا كان لا كل اَ بَ فلا شيء من ج دَ.
من سالبتين جزئيتين، قد يكون إذا كان لا كل اَ بَ فلا كل ج دَ.
كليتان والمقدم موجب والتالي سالب، قد يكون إذا كان كل اَ بَ فلا شيء من ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب كلي، قد يكون إذا كان بعض اَ بَ فلا شيء من ج دَ.
المقدم موجب كلي والتالي سالب جزئي، قد يكون إذا كان كل اَ بَ فلا كل ج دَ.
المقدم موجب جزئي والتالي سالب جزئي، قد يكون إذا كان بعض اَ بَ فلا كل ج دَ.
من كليتين والمقدم سالب والتالي موجب، قد يكون إذا كان لا شيء من ب فكل ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب كلي، قد يكون إذا كان لا كل اَ بَ فكل ج دَ.
المقدم سالب كلي والتالي موجب جزئي، قد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ فبعض ج دَ.
المقدم سالب جزئي والتالي موجب جزئي، قد يكون إذا كان لا كل اَ بَ فبعض ج دَ.
السوالب الجزئية ليس كلما كان كل فكل .. ليس كلما كان بعض فكل.
ليس كلما كان كل فبعض .. ليس كلما كان بعض فبعض.
ليس كلما كان لا شيء فلا شيء .. ليس كلما كان لا كل فلا شيء.
ليس كلما كان لا شيء فلا كل .. ليس كلما كان لا كل فلا كل.
ليس كلما كان كل فلا شيء .. ليس كلما كان كل فلا كل.
ليس كلما كان بعض فلا شيء .. ليس كلما كان بعض فلا كل.
ليس كلما كان لا شيء فكل .. ليس كلما كان لا شيء فبعض.
ليس كلما كان لا كل فكل .. ليس كلما كان لا كل فبعض.
فنقول: إن كان الحال في تلازم هذه الجزيئات كالحال في تلازم الكليات، فإن قولنا ليس كلما كان كل فكل، يلزمه قولنا: قد يكون إذا كان كل فليس كل وإلا لزمه نقيضه، وهو أنه ليس البتة إذا كان كل فليس كل. وهذا يلزمه أنه كلما كان كل فكل، وقد قلنا: ليس كلما كان كل فكل، هذا خلف. وعلى هذا القياس في سائرها وبقريب من هذا أن هذه الموجبة تلزمها سالبة. فإن لم تلزم السالبة صدق نقيضها: وهو أنه كلما كان كل فكل، وهذا يلزمه ليس البتة إذا كان كل فلا كل، وقد قلنا: قد يكون إذا كان كل فلا كل، هذا خلف.
واعتبر حال الاتباع وحال اللزوم، وقد تبين أيضاً من هذا كذب ظن القائل: إن المناقضة في التالي تجعل المتصلة مناقضة، فإن هاتين الجزئيتين قد تصدقان معاً. لكن قوة سالبة منهما قوة موجبة مناقضة للموجبة في التالي وقوة موجبة منهما قوة سالبة مناقضة للسالبة في التالي، فتكون موجبتان متناقضتان التالي وتصدقان معاً، وسالبتان كذلك وتصدقان معاً.
وقد علمت فيما سلف أن الكلية إذا صدقت صدقت الجزئية الداخلة معها ولازمها، وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية ولازمها، ولا ينعكس أحد الأمرين، ويجب أن يراعى حال الزيادة التي يحتاج إليها في أمر ما اتصاله بلزوم.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في المقدمات الشرطية المنفصلة
وتقابل بعضها ببعض وبالمتصلات وحال التلازم فيها
ولنحص الآن أصناف القضايا المنفصلة.
الموجبات الكلية دائماً إما أن يكون كل اَ بَ أو كل ج دَ، دائماَ إما أن يكون بعض أو كل.
دائما إما أن يكون كل أو بعض، دائماً إما أن يكون بعض أو بعض.
دائماً إما أن يكون لا شيء أو لا شيء، دائما إما أن يكون لا كل أو لا شيء.
دائما إما أن يكون لا شيء أو لا كل، دائما إما أن يكون لا كل أو لا كل.
دائما إما أن يكون كل أو لا شيء، دائما إما أن يكون بعض أو لا شيء.
دائما إما أن يكون لا كل أو كل، دائما إما أن يكون بعض أو لا كل.(1/318)
دائما إما أن يكون لا شيء أو كل، دائما إما أن يكون لا كل أو كل.
دائما إما أن يكون لا شيء أو بعض، دائما إما أن يكون لا كل أو بعض.
السالبات الكلية ليس البتة إما كل وإما كل .. ليس البتة إما بعض وإما كل.
ليس البتة إما كل أو بعض .. ليس البتة إما بعض وغما بعض.
ليس البتة إما لا شيء وإما لا شيء .. ليس البتة إما كل وإما لا شيء.
ليس البتة إما شيء وإما لا كل .. ليس البتة إما لا كل وإما لا كل.
ليس البتة إما كل وإما لا شيء .. ليس البتة إما بعض وغما لا شيء.
ليس البتة إما كل وإما لا كل .. ليس البتة إما بعض وإما لا كل.
ليس البتة إما لا شيء وإما كل .. ليس البتة إما لا كل وإما كل.
ليس البتة إما لا شيء وإما بعض .. ليس البتة إما لا كل وإما بعض.
الموجبات الجزئية قد يكون إما أن يكون كل أو يكون كل .. قد يكون إما أن يكون كل أو يكون بعض.
قد يكون إما أن يكون بعض أو يكون كل .. قد يكون إما أن يكون بعض أو يكون بعض.
قد يكون إما أن يكون لا شيء أو لا شيء .. قد يكون إما أن يكون لا شيء أو كل.
قد يكون إما أن يكون لا كل أو لا شيء .. قد يكون إما أن يكون لا كل أو لا كل.
قد يكون إما أن يكون كل أو لا شيء .. قد يكون إما أن يكون كل أو لا كل.
قد يكون إما أن يكون بعض أو لا شيء .. قد يكون إما أن يكون بعض أو لا كل.
قد يكون إما أن يكون لا شيء أو كل .. قد يكون إما أن يكون لا شيء أو بعض.
قد يكون إما أن يكون لا كل أو كل .. قد يكون إما أن يكون لا كل أو بعض.
السالبات الجزئية ليس دائماً إما كل وإما كل .. ليس دائماً إما كل وإما بعض.
ليس دائماً إما بعض وإما كل .. ليس دائماً إما بعض وإما بعض.
ليس دائماً إما لا شيء وإما لا شيء .. ليس دائماً إما لا شيء وإما لا كل.
ليس دائماً إما كل وإما لا شيء .. ليس دائماً إما لا كل وإما لا كل.
ليس دائماً إما كل وإما لا شيء .. ليس دائماً إما كل وإما لا كل.
ليس دائماً إما بعض وإما لا شيء .. ليس دائماً إما بعض وإما لا كل.
ليس دائماً إما لا شيء وإما كل .. ليس دائماً إما لا شيء وإما بعض.
ليس دائماً إما لا كل وإما كل .. ليس دائماً إما لا كل وإما بعض.
وإذا أحصينا هذا فلنتكلم أولاً على تلازم المنفصلات والمتصلات، فنقول: أما المنفصلات الحقيقية الموجبة، الموجبة الجزاء، فيلزمها من المتصلات ما يكون نقيض أحد جزئي المنفصلة فيه مقدماً، وعين تاليه تالياً، أيهما كان مقدماً من المنفصل إذا كانا متفقين في الكم والكيف. مثاله إذا قلنا: دائماً إما أن يكون كل اَ بَ وإما أن يكون كل ج دَ، فيلزمها كلما لم يكن كل اَ بَ فكل ج دَ، وكلما لم يكن كل ج دَ فكل اَ بَ. ولنبرهن على أحد اللازمين، فإن الأمر في كليهما واحد فنقول: إنه يلزم القضية المنفصلة المذكورة هذه القضية المتصلة، لا متصلة فقط، بل متصلة مع التزام المقدم التالي. وهذا إذا صح، صح ما هو أعم منه وهو المتصلة المطلقة، فإنه حيث الصدق الأخص يصدق الأعم. فتقول إن لم يلزمه قولنا: كلما لم يكن كل اَ بَ، فيلزم أن يكون كل ج دَ، فقد يصدق معه نقيضه، وهو قولنا: ليس كلما لم يكن كل اَ بَ، يلزمه أن يكون كل ج دَ. ويلزم هذه المتصلة قولنا: قد يكون إذا لم يكن كل اَ بَ، فليس يلزم أن يكون كل ج دَ. وهذا يجوز أن لا يكون كل اَ بَ، ولا كل ج دَ. والموجبة المنفصلة قد منعت ارتفاع الجزئين معاً، وجعلت وضع كل واحد منهما، يلزمه رفع الآخر. وهذه المتصلة تجوز ارتفاعهما معاً. هذا خلف. وأيضاً يلزمها كل موافق لها في الكم والكيف، تاليه نقيض أحد جزئيه، ومقدمه عين الجزء الآخر. مثل قولنا: كلما كان كل اَ بَ، فليس كل ج دَ؛ وإلا فليس كلما كان كل اَ بَ، فليس كلما كان كل اَ بَ، فليس كل ج دَ. وهذا يلزمه أنه قد يكون إذا كان كل اَ بَ، فكل ج دَ. وهذه توجب جواز اجتماع القولين، والمنفصلة تمنع ذلك. هذا خلف.(1/319)
فهذا هو القول في الموجبات الموجبة الأجزاء، وقد يبرهن على الكليات منها، فيمكن أن يبرهن على هذا القياس على الجزئيات منها على نمط واحد. وليس يجب أن ينعكس الأمر، حتى إذا صدقت المتصلات المذكورة، صدق معها المنفصلات، وغلا لوجب أن تنعكس كل متصلة منها إذا كان الصدق والعناد الحقيقي في المنفصلة منعكساً. وقد يجوز أن يكون التالي في المتصل الموجب أعم لزوماً من لزومه للمقدم، مثل قولك: إن الإنسان كان متحركاً، أو كلما لم يكن متحركاً، ففي الحالين جميعاً يلزمه أنه جسم.
وأما تحصيل بيان هذا، فليكن اللازم موافقاً للمقدم كقولك: كلما كان كل اَ بَ، فليس كل ج دَ. كقولنا: إما أن يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. فنقول: إن هذا المتصل لا يجب أن يلزمه أنه إما أن يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ، لأنه حينئذ يجب أن يلزمه هذا المتصل وهو أنه كلما لم يكن كل ج دَ، فكل اَ بَ. وليس دائماً يوجد هذا الانعكاس. وكذلك إذا جعلت اللازم مناقض المقدم، وجب أن يلزمه عكسه، وهذا لا يجب. وأما إذا كان أحد الجزئين أو كلاهما سالباً، فيلزمهما من المتصلات مناقض المقدم، موافق التالي؛ ولا يلزمهما موافق العين، مناقض التالي؛ كما كان يجب في الموجبات الجزاء. مثل ذلك أنا إذ قلنا: دائماً إما أن لا يكون شيء من اَ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ. لزمه قولنا: كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ، وكلما كان بعض ج دَ، فلا شيء من اَ بَ. ولنبرهن فنقول: إنه إن لم يصدق ذلك، صدق قولنا: ليس كلما كان بعض ج دَ، فلا شيء من اَ بَ. ويلزمها أن قد يكون إذا كان بعض ج دَ، فبعض اَ بَ. والمنفصلة تمنع اجتماع ذلك. وهذا خلف. وإنما قلنا: أنه لا يلزم من وضع عين المقدم، أنا إذا قلنا: وكلما لم يكن نباتاً، لم يلزم منه أنه جماد، أو ليس بجماد. واللزوم ههنا منعكس، لأن وضع نقيض التالي، يلزمه وضع نقيض المقدم دائماً. وإنما يكون هذا الانعكاس إلى هذا فقط. وأنت تعلم أن هذا الاتصال ليس اتصلاً ساذجاً فقط، بل اتصالاً من التزام، على أن يعتبر في إيجاب المنفصلة منع الاجتماع كما كان في الأولى، وان يدخل اللزوم أيضاً في التوالي، ونعتبرها ذلك الاعتبار بعينه.
ونقول: إنه قد يلزم هذا المتصل هذا المنفصل أيضاً، وهو أنه إذا صح: كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ. يلزمه إما أن لا يكون شيء من اَ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ؛ فإن لم يلزم وقتاً أو حالاً، فليعين ذلك الوقت والحال. فيكون حينئذ شيء من اَ بَ، ومعه شيء من ج دَ. فيكون حينئذ ليس يقتضي كون الشيء من اَ بَ، أن لا يكون شيء من ج دَ. ولا كون شيء من ج دَ، أن لا يكون شيء من اَ بَ. وقد فرضنا كون شيء من اَ بَ، يقتضي أن لا يكون شيء من ج دَ. هذا خلف. وغنما لم يعرض مثل هذا الخلف في الأول، لأنه إذا صدقت سالبة الانفصال هناك، لم يجب أن يلزم صدقها جواز الاجتماع، بل ربما كان صدقها لجواز الارتفاع معاً. وههنا يلزم صدق السلب لجواز الامتناع فقط. وكذلك لا يحوج ههنا إلى أن تصير المتصلة منعكسة وأجزاؤها بحالها، بل أن يلزم نقيض تاليها، نقيض المقدم، وهذا واجب.
وعلى هذا فتأمل الحال إذا كانت إحدى المقدمتين موجبة والأخرى جزئية، وبعد القانون، فعليك أن تمتحن في واحد واحد.
وأما التلازم في المنفصلات أنفسها فنقول: أما المنفصلات الموجبة، الموجبة الأجزاء، فإنها يلزمها من المنفصلات ما يوافقها في الكم بعد الخلاف في الكيف، ويناقضها في المقدم. مثاله في الكليات: دائماً إما أن يكون كل اَ بَ، وإما أم يكون ج دَ. يلزمه: ليس البتة إما يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. وكذلك ليس البتة إما أن لا يكون كل ج دَ، وغما أن يكون كل اَ بَ.(1/320)
ولنبرهن على الأول منهما، فإن الثاني يجري مجراه وعلى قياسه، فنقول: إنه إذا كذب عليه قولنا: ليس البتة إما أن لا يكون كل اَ بَ، وغما أن يكون كل ج دَ؛ صدق حينئذ عليه نقيضه، وهو أنه قد يكون إما أن لا يكون كل اَ بَن وأما أن يكون كل ج دَ. وهذا يلزمه قد يكون إذا كان كل اَ بَ، فكل ج دَ. فيجوز الجمع، والمنفصل يمنع الجمع البتة. وليس يجب أن ينعكس هذا، حتى إذا صدق قولنا: ليس البتة إما أن لا يكون كل اَ بَ، وغما أن يكون كل ج دَ. صدق أنه دائماً إما أن يكون كل اَ بَ، وغما أن يكون كل ج دَ، لأنه قد يصدق ما فيه المحال الغير المعاند. كقولك: ليس إما أن لا يكون كل إنسان حيواناً، وإما أن يكون الخلاء موجوداً، أو غير موجود. وليس يلزم من ذلك أنه إما أن يكون الإنسان موجوداًن وإما أن يكون الخلاء موجوداً، أو غير موجود؛ بل قد يصدق أن نقول: ليس إما أن لا يكون الشيء حيواناً، وغما أن يكون بياضاً. ولا يلزم من ذلك أن الشيء إما أن يكون حيواناً، أو يكون بياضاً.
والجزئيات حكمها أيضاً هذا الحكم. مثاله: أنا إذا قلنا: قد يكون إما أن يكون كل اَ بَن وغما أن يكون ج دَ. فإنه يلزمه: ليس دائماً إما أن لا يكون كل اَ بضن وإما أن يكون كل ج دَ. وإلا صدق نقيضه: أنه دائماً إما أن لا يكون كل اَ بَ، وغما أن يكون كل ج دَ. ويلزمه: ليس البتة إما أن يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. وقد قلنا: قد يكون إما أن يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. هذا خلف.
ولا يلزم انعكاس هذا لما قد أشرنا إليه. فهذه حال المنفصلات بعضها مع بعض.
ونقول: كل متصلة تلزم منفصلة موجبة. فإن السالبة المنفصلة التي تلزم بعض اَ بَ، وغما أن لا يكون شيء من ج دَ. وهو لازم قولنا: دائماً إما أن لا يكون شيء من اَ بَ، وغما أن لا يكون شيء من ج دَ. وهذه يلزمها متصلة لهذه الصفة: كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ. فنقول: إن هذه المتصلة يلزمها قولنا: ليس البتة إما أن يكون، بعض اَ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ. وإلا صدق نقيضها: أنه قد يكون إما أن يكون بعض اَ بَ، وإما أن لا يكون شيء من ج دَ. وهذه يلزمها متصلة بهذه الصفة: قد يكون إذا كان لا شيء من اَ بَ، فلا شيء من ج دَ؛ ويلزمها: ليس كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ. وقد قلنا: كلما كان بعض اَ بَ، فلا شيء من ج دَ. وهذا خلف.
فقد علمت من هذا أن كل متصلة موجبة، فتلزمها منفصلة سالبة موافقة في الحكم، وفي المقدم، والتالي. ويدلك عليه نمط هذا البرهان الذي أوضحته لك. لكنه ليس يلزم أن ينعكس، فيلزم هذه الموجبة هذه السالبة. فإنه يصدق أن نقول: ليس البتة إما أن يكون بعض الناس كاتباً، وغما أن لا يكون شيء من الاثنوات زوجاً. ولا يلزم منه: كلما كان بعض الناس كاتباً، فليس شيء من الاثنوات بزوج. وهذه السوالب تلزم من سوالب الموجبات المتصلة التي تلزم سوالب موجبات مناقضة المقدم لتلك الموجبات، التي تلزم السالبة المنفصلة إياها.
ومن المنفصلات التي تقابل السوالب المنفصلة اللازمة، فتكون كل سالبة متصلة. فإنها تلزمها كلها سالبة كلية منفصلة، منتقضة لها في القدم. فإنا إذا قلنا: ليس البتة إذا كان كل اَ بَ، فكل ج دَ. يلزمه: ليس البتة إما أن لا يكون كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. وإلا فليمكن ذلك، فيكون قد يكون إما أن لا يكون لا كل اَ بَ، وإما أن يكون كل ج دَ. وهذا يلزمه: قد يكون إذا كان كل اَ بَن فكل ج دَ. هذا خلف.
فلننظر هل ينعكس هذا اللزوم، لنضع: أنه ليس البتة: إما أن لا يكون كل اَ بَ، وغما أن يكون كل ج دَ. ولنرجع إلى المواد فنقول: إنا نقول: ليس البت إما أن لا يكون الإنسان حيواناً، وغما أن لا يكون الخلاء موجوداً. وهذا صادق على ما علمت، ولا يلزمه شرطية متصلة بمعنى اللزوم، وهو أنه ليس البتة إن كان الإنسان حيواناً، فالخلاء ليس بموجود، إن عنة اتصال اللزوم، وأما الاتصال الأعم فإنه يشبه أن يلزمه، فإنه إن كان مع صدق ذلك، ليس صدق قولنا: ليس البت إن كان كل اَ بَ، فكل ج دَ، فنقيضه حينئذ صدق، وهو أنه قد يكون إذا كان كل اَ بَ، فكل ج دَ. فإذا كان كل اَ بَ، وكل ج دَ، يجتمعان في وقت الشرط، فعند ذلك الشرط إن لم يكن كل اَ بَ، لم يكن كل ج دَ. وقد قلنا: ليس البتة هكذا، هذا خلف.(1/321)
فقد علمت أن المنفصلات الموجبة يلزمها من المتصلات، أما الموجبة فما يناقضها في المقدم، ويوافقها في التالي، ويكون على كمها؛ وإما من السالبة فما يكون في قوة تلك الموجبة، وهي التي تخالفها في الكيف، ويوافق الموجبة في المقدم، ويناقضه في التالي، فيكون مخالفاً للمنفصلة في الكم، ومناقضاً له في المقدم والتالي. وإنما يوافقه في الكم. وان هذه اللوازم لا ينعكس حالها، فلا يجب أن تكافئها الموجبات المنفصلة في اللزوم.
فالإنسان الموجود؟ فإن هذا ليس يجوز أن يكون حقاً. على أن التالي مسلوب موافقته، مع فرض المقدم. وإن أردت سلب اللزوم، لم يكن عكس ذلك السالب.
لكنا نقول: إن هذه القضية في المواد التي تواليها محالة لا تنعكس سالبة الموافقة؛ بل سالبة اللزوم. وهناك لا يلزم البرهان المذكور على العكس، إذ لا يمكن فرض إيجابية وتعينه في الوجود. وسالبة اللزوم أعم من سالبة الموافقة، وموجبة الموافقة أعم من موجبة اللزوم.
المقالة الثامنة
من الفن الرابع من الجملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(أ) فصل
في تعريف القياس الاستثنائي
وإذ قد تكلمنا على القياسات الاقترانية حمليها وشرطيها، فأحرى بنا أن نتكلم الآن في القياسات الاستثنائية. فنقول: إن القياس الاستثنائي مخالف للاقتراني، في أن أحد طرفي المطلوب يكون موجوداً في القياس الاستثنائي بالفعل، ولا يكون موجوداً في القياس الاقتراني إلا بالقوة. كقولنا: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان جسم. فلا المطلوب، ولا نقيضه موجودان في هذا القياس الاقتراني بالفعل. وأما أن قلنا: إن كان الإنسان حيواناً، فالإنسان جسم؛ أو إن لم يكن جسماً، فليس بحيوان. وقلنا في الأول: لكن الإنسان حيوان. فأنتج: أن الإنسان جسم. ولو قلنا في الثاني، فأنتج ذلك. وجدنا أحد طرفي المطلوب، وهو الموجب، موجوداً بالفعل في أول القياسين تالياً؛ والطرف الثاني موجوداً بالفعل في القياس الثاني تالياً. فنقول: إن كل قياس استثنائي يكون في مقدمة شرطية، ومن مقدمة استثنائية هي نفس أحد جزئيها أو مقابله بالنقيض. فينتج إما الآخر، أو مقابله. فإما أن تكون الشرطية متصلة، أو تكون متصلة.
ولنقدم ما تكون الشرطية فيه متصلة، فنقول: إنه لا يخلو حينئذ من أن يكون المستثنى من جانب المقدم، أو جانب التالي.
فالضرب الأول المشهور في ذلك هو أن يكون المستثنى عين المقدم المتصل، ويكون المتصل تام الاتصال واللزوم. فينتج عين التالي. فلننتظر الآن في المتصل الذي يفيد هذا الجنس من الاستثناء، كيف حاله من جهة كونه متصلاً على سبيل الموافقة، أو على سبيل اللزوم. فنقول: إنه لا يفيد ما كان من اتصاله على سبيل الموافقة، وذلك لأن التالي لا يكون شيئاً يلزم من وضع المقدم؛ بل شيئاً إنما جعل موصلاً للمقدم، بسبب أنه عرف وجوده حقاً في نفسه مع وجود المقدم. والمعلوم وجوده مستغنى فيه عن القياس عليه. فإذن يجب أن يكون هو مجهولاً بنفسه، ومعلوماً تلوه وموصلاته للمقدم. فإذا علة موجود المقدم، علم منه وجوده، كما إذا قلنا: إن كان اَ بَ، فج دَ. فإذا استثنينا: لكن اَ بَ؛ وكنا نعلم أن ج دَ، فإذا لم يفدنا علماً جديداً بأن ج دَ. لكنه إذا كان كون ج دَ مجهولاً، وكانت متابعته لكون اَ بَ معلومة، فإذا صح لنا أن اَ بَ صحح من ذلك أن ج دَ. فيجب أن تكون المتصلات المستعملة في المقاييس الاستثنائية هي المتصلات اللزومية.
الضرب الثاني المشهور وهو أن يكون المستثنى عين المقدم، ويكون المتصل ناقص الاتصال واللزوم. وهو كالضرب الأول إلا أنه يباينه في أن اللزوم فيه غير تام، وما كان يجب أن يجعل هذا قسماً آخر؛ بل كان يجب أن لا يلتفت إلى أمر تمام اللزوم ونقصانه في الاستثناء الذي يكون من جهة المقدم بوجه. وكان الأصوب أن يقال: إن الاستثناء لعين المقدم من المتصل كيف كان، ينتج العين من التالي. وذلك أمر بين والقياس القياس فيه كامل. فإن كان موضع الفرق فهو، إما في استثناء نقيض المقدم، أو عين التالي.(1/322)
الضرب الثالث من المشهور هو: أن يكون المستثنى عين التالي من التام اللزوم. فينتج عين المقدم. وقالوا: وهذا ليس إنتاجه بينا بنفسه؛ بل هو قياس غير كامل، إنما يكمل بمثل أن يقال: إنما اللزوم تام، جعلنا اللزوم منعكساً. فلنا حينئذ أن نجعل التالي مقدماً، والمقدم تالياً. فيستثنى عين ما هو الآن مقدم، وقد كان قبل تالياً. فينتج ما هو الآن تال، وكان قبل مقدماً. والذي يجب أن يعتقده المصنف في هذا أن النظر في صورة القياس هو النظر المقتصر على موجب مفهوم المقدمة من حبيث هي المقدمة المفروضة. فأما حيث لها مادة ومادة، وخصوصية وخصوصية، فليس ذلك نظراً فيها بالذات. فإذا قلنا: إن كان اَ بَ، فج دَ. وجعلنا هذا القول مقدمة نبني عليها قياسنا، فيجب أن يلتفت إلى مفهوم هذه المقدمة في صورتها فيقضي بما يوجبه الخاص من صورتها. وأما أن تاليها هل هو منعكس على مقدمها، فهو نظر في أمر غير صورة المقدمة؛ بل إنما هو نظر في مواد المقدمة، وما هو إلا كالنظر في محمول الموجبة الكلية من حيث ما هو مساو للموضوع أو غير مساوٍ.
فلو كان هذا النحو من النظر معتبراً في تعريف أحكام المقدمات والمقاييس، لقد كان يقال هناك أيضاً: إن من الكلية الموجبة ما هو تام الحمل، ومنه ما ليس تام الحمل، أو شيئاً آخر يشبه هذا. فكان يقال: إنه إن كان المحمول مساوياً للموضوع، فإنها تنعكس مثل نفسها؛ وغن كان غير مساوٍ، فإنها تنعكس جزئية. ولكان يقال في الكل الثالث: إن المحمول في الصغرى إن كان مساوياً، فالنتيجة تكون كلية موجبة. بل الضرب الثالث، والرابع من الشكل الأول، لقد كان يقال فيه: إن كان الحد الأصغر، ليس أعم من الأوسط، فالنتيجة كلية. لكنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا بسبب أنهم اعتبروا حال المقدمة من حيث هي فيها موضوع محمول، وكمية وكيفية، والتفتوا إلى ما يجب عنها لذلك، ورفضوا ما يمكن أن يكونوا عنها إذا كان هناك اعتبار أزيد من الداخل في نفس مفهوم المقدمة مما هو أخص منها مما يمكن أنن يفرض في مادة دون مادة. فكذلك يجب أن يكون الأمر في الشرطيات المتصلة، فيجب أن يلتفت إلى نفس الشرط؛ وإلى مقدمة وتاليه، من حيث أن التالي تال، والمقدم مقدم، وإلى نفس ما يلزم ذلك لزوماً عاماً كيف كانت مواده.
فأما ما تكون صورة المقدمة فيه محفوظة من حيث هي متصلة لها مقدم وتالي، ولا يكون ذلك مضمناً فيها لازماً إياها، ويختلف هو من غير إيجاب اختلاف فيها، فلا يجب أن يلتفت إليه. فإنه ليس المفهوم من كون المقدمة متصلة، ذات مقدم وتال، أن تاليه كيف حاله مع المقدم في أن سينعكس عليه أو لا ينعكس. فإن ذلك مما لا يفهم عن صورة المقدمة، بل هو شيء يجوز أن يفهم من خارج. وليس أيضاً من المفهومات الخارجة اللازمة لزوم العكوس؛ بل من اللواحق الممكنة التي تتفق في مادة مادة. فيجب أن لا يلتفت إلى أمثال هذه التكثيرات.(1/323)
ومن علم أن التالي ينعكس على المقدم، ليس من صورة المقدم، بل من خارج، فما يحوجه إلى استعمال هذا القياس؛ وله سبيل إلى أن يوضع الملزوم عنه مقدماً. ولا يلزم هذا ما عمل في الشكل الثاني والثالث إذا استعملا مع الاستغناء عنهما بالشكل الأول، إذ الأمر هناك مخالف للأمر ههنا؛ فإنه كما علمت هناك أن كثيراً ما يكون السابق إلى الذهن أنه لاشيء من اَ بَ، ثم يخطر بالبال بعده أنه لا يجب أن يكون لا شيء من بَ اَ، أو لم يخطر ذلك بالبال، فيكون خطور هذا شيئاً سابقاً إلى الذهن. فإذا كانت هذا السابق إلى الذهن كما هو وقد ينتج بقرن آخر إليه، لم يحتج إلى تكلف عكس. وكذلك في الموجبة الجزئية، فيكون هذا وجهاً مفيداً في استعمال الشكلين الآخرين. ومع ذلك فغن العكس لازم للمعكوس، وهذا شيء قد فرغ عنه لك فيما سلف. وأما ههنا فإن الصورة قولنا: إن كان اَ بَ، فج دَ، ليس يقتضي ذلك أن يكون إن كان ج دَ، فاَ بَ لا محالة، بل يجب أن يكون هذا معلوماً لك من نفسه خاطراً بالبال سابقاً إليه، لا لازماً عن الأول، فإنه لا يلزم عنه البتة. وإذا كان هذا معلوماً لك بنفسه، خاطراً في بالك، واستثنيت أن ج دَ، فبالحقيقية إنما استثنيت المقدم، وهو الذي سبق إلى الذهن، ولم يحتج إلى متوسط آخر. فلو كان قولنا: إن كان كل اَ بَ، فج دَ، إذا سبق إلى ذهنك، لزم عنه عكسه، وكان عكسه بحيث ينتج عين مقدم عين تاليه، الذي الآن هو عين مقدم لما سبق إلى ذهنك. لكنت تقول: إن هذا لما سبق إلى الذهن أولا، لزمه شيء، يلزمه ثالث، ولازم اللازم شيء لازم الملزوم الأول. فلا أكف الآن ذهني أن ينتقل من هذا إلى اللازم الأول، ومن اللازم الأول إلى الثالث، الذي هو لازم ثان، بل أتركه ينتقل دفعة إلى اللازم الثاني على أنه لازم أول، من غير حاجة إلى أن يلتفت إلى القياس الأول عند الاستعمال، وغن كان يحتاج إلى ذلك في وقت استبان أن القياس منتج. ولكنت استفدت بما علمته شيئاً واختصرت باباً؛ وكان حكمه حكم ضروب الشكل الثاني والثالث. وإذ ليس الأمر كذلك البتة، بل إنما ينفعك أن يخطر هذا العكس بالبال، إذ يحتاج أن تعلم أن اللازم تام، وهذا هو أنك يحتاج أن تعلم ويخطر بالبال أن هذا الذي هو تال له نسبة التقديم إلى هذا الذي هو الآن مقدم. فإذ كنت تحتاج إلى أن تخطر هذا بالبال أولاً حتى يعقد قياسك، فتكون قد أوردت في ذهنك إنه إن كان ج دَ، ثم لما استثنيت لكن ج دَ، فإنما استثنيت مقدم المقدمة التي أخطرت بالبال بالفعل. فما كان للمقدمة الأولى غناء بوجه في أن تكون جزء من القياس، واكثر عناية أن تكون تذكرت به شيئاً ليس يلزمه بل يعرض معه.
الضرب الرابع في المشهور، استثناء نقيض التالي من ناقص العناد. وينتج نقيض المقدم. كقولك: إذا كان ج دَ، فاَ بَ، لكن ليس اَ بَ، فليس ج دَ. وليس قياساً كاملاً ويبين هكذا: أنه إن لم يكن ليس ج دَ، فج دَ. وإذا كان ج دَ، فاَ بَ. ينتج: أنه إن لم يكن ليس ج دَ، فاَ بَ. لكن فرضنا ليس ج دَ. ينتج فاَ بَ. فإذن حق أن اَ بَ، وكان حقاً أن ليس بَ. وهذا خلف.
ولا يحتاج إلى تطويلنا فيما سلف أن نذكرك من رأس أنه إن كان هذا الاتصال على سبيل الموافقة لم تجب هذه النتيجة.
قال بعضهم: ربما كان التالي كثير الأجزاء، وأخذ كشيء واحد، كقولهم: الفلك لا ثقيل ولا خفيف، فيجب أن يؤتى بنقيض الجملة كلها. والذي عندنا في هذا إنه إن عني بقوله: لا خفيف ولا ثقيل، السلبين جميعاً؛ فيكتفي باستثناء نقيض أيهما شئت، حتى ينتج نقيض الآخر. وإن عني بذلك إثبات الواسطة بين المرين، وقد عبر عنه بالسلبين، والتالي معنى واحد في الحقيقية ليس فيه كثرة أجزاء. ومع ذلك فإن استثناء أحدهما أيضاً يكفي. فإن إثبات أحد الطرفين رفع الوسط، كما أن نقيض أحد الشرطين يوجب نقض المجتمع. فإن سلب الجزء سلب بالقوة للمجتمع من حيث هو مجتمع.
الضرب الخامس في المشهور: استثناء نقيض المقدم من غير تام اللزوم. هذا لا تجب له نتيجة في المشهور. فإن التالي إذا كان أعم لزوماً، فليس إذا رفع المقدم أوجب رفع التالي، إذ التالي موجود مع غير المقدم، وهذا كقولهم: إن كان زيداً متنقلاً، فهو متغير. لكنه ليس بمتنقل، فليس يلزم أنه متغير أو ليس بمتغير. فإنه إن لم يكن متنقلاً، جاز أن يكون متغير في الكيف، وان لا يكون.(1/324)
الضرب السادس: من استثناء عين تال من متصل، ناقص اللزوم. لا ينتج. وليكن مثاله: لكنه متغير، فليس يلزم أنه متنقل، أو ليس بمتنقل.
الضرب السابع: استثناه نقيض مقدم ما هو تام اللزوم. فينتج: نقيض التالي. وذلك لأنه يصير تالياً، ويصير ما كان تالياً مقدماً. وعلى ما علمنا. والحكم في هذا الضرب هو الحكم في الثالث.
الضرب الثامن: استثناء نقيض تال تام اللزوم. وليس هذا بالحقيقية ضرباً آخر غير الذي سلف؛ بل يجب أن تعلم أن استثناه نقيض المقدم لا ينتج، واستثناء عين المقدم ينتج عين التالي، واستثناء عين التالي لا ينتج، واستثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم. وإن هذا التكلف منهم إنما دعاهم إليه سبب واحد، وهو فقدانهم ما تولاه المعلم الأول من تفصيل القياسات الشرطية، واحتياجهم إلى أن يخوضوا فيه بأنفسهم، واقترن بذلك غفولهم عن القياسات الاقترانية فيها، ووقوعهم إلى هذه الاستثنائية، واستقلالهم عدد ما لاح لهم، واستقباحهم أن يكون ذلك امراً مؤازرة لما تولى المعلم الأول بيانه في الحمليات، فالتجأوا إلى تكبير الجور بالنقض.
ويجب أن تختم هذا الفصل بشيء، وهو انك يجب أن لا تلفت إلى ما يقال: إن الاستثنائية لا تكون إلا في الحملية. واعلم أنها تكون ما يكون المقدم أو التالي المأخوذ، هو أو نقيضه في الاستثناء. وإذا كان كل واحد منهما يجوز أن يكون أحد أقسام المقدمات، فكذلك الاستثناء. فلذلك إن قال قائل: إن كان إن طلعت الشمس، كان نهاراً؛ فالنهار لازم الشمس. ثم أراد أن يستثني المقدم، لم يستثن إلا شرطياً. وقد ظن القوم أن اللزوم قد يكون على سبيل الإمكان، كقولهم: إن كان هذا حيواناً فيمكن أن يكون إنساناً، وإن حكم الاستثناء فيه بعك الحكم فيما سلف. وإنما غرتهم هذه المادة، وعلى أن الإمكان فيها إمكان بحسب الذهن لا بحسب الأمر، إذ ليس شيء من خارج هو حيوان ويمكن أن يكون إنساناً؛ بل هو واجب إما أن يكون إنساناً، أو واجب أن لا يكون إنساناً ولا يصير إنساناً البتة وجوهره باق على ما هو في شرط الممكنات. فأما أن هذا غير منتج على ما ظنوه، فإنك إذا قلت: إن كان هذا حيواناً، فيمكن أن يكون أبيض، لكنه أبيض أو ليس أبيض، حيوان أو ليس بحيوان، لم يلزم عنه شيء، بل عسى إنما يلزم هذا في الإمكان الذهني، الذي يختص بنسبة الأعم، إلى الأخص الذي ينقسم إلى الأعم. وهذا شيء وراء كون اللزوم ممكناً، وشيء يلتفت فيه إلى المواد دون الصورة. والذي الجأهم هذا الشيء العجيب. وذلك أن المعلم الأول ذكر في كتاب النفس: أن النفس إن لم يكن لها فعل بذاتها فلا يمكن أن يكون لها قوام بذاتها، وإن كان لها فعل بذاتها كان لها قوام بانفرادها. فجاء رجل له سبق في العلم الطبي، ونكوص في المنطق، فزعم أن فلاناً كان خطأ، إذ استثنى نقيض المقدم فأنتج منه نقيض التالي. فقال قوم يتعصبون للعلم الأول: إنه لم يخطئ لأن هذا اللزوم هو بالإمكان وجاز له أن استثني نقيض المقدم فيه ليجعل نقيض التالي نتيجة التي تلزم على جهة الإمكان. وعسى أن يكون قوم يجيبون عن ذلك، بأن اللزوم فيه تام، فينتج نقيض المقدم. والحق أن المعلم الأول لم يورد هذا الكلام على سبيل الاستثناء والإنتاج، بل ذكر مقدمتين معاً، في موضع أحدهما عكس الآخر، كمن لو أبتدأ فقال: إن كان ضاحك إنسان، وكل إنسان ضاحك؛ فدل ذلك على تساوي المحمول والموضوع فيهما، ليس على الثاني منهما شيء يستبين من الأول، بل شيء يذكره مع الأول، ولذلك ذكر الثانية مع لفظ الشرط، والاستثناء لا يذكر مع لفظ الشرط، بل يذكر بناء على أنه قوم تام، لا على أنه جزء قول. فلما وضع المقدمتين جميعاً، جاء وبين في موضع آخر أن للنفس فعلاً بذاتها، فأنتج: فلها قوام بذاتها. فكان استثناؤه ليس نقيض مقدم أولتهما، بل عين مقدم الثانية. لكن المتشكك ضل فحسب أنه ينتج من نقيض المقدم نقيض التالي. والذي اشتغل بحل ذلك حسب أن المتشكك صدق فيما ظن، واخذ يروم وجه التخلص بالحيلة التي لا جدوى لها، فأخطأ المتشكك في واحد واخطأ الحال في شيئين: أحدهما تصديقه المتشكك فيما ذكر من حال الاستثناء. والثاني إيجابه أن ذلك الاستثناء منتج في مادة الإمكان.
الفصل الثاني
(ب) فصل
في تعديد أصناف القياسات الاستثنائية(1/325)
أما القياس الاستثنائي الكائن من الشرطيات المنفصلة والحقيقية، فإنهما إما أن تكون ذات جزأين، أو تكون ذات أجزاء. واللواتي من جزأين إما أن يكون جزآها مختلفين بالإيجاب والسلب على سبيل التناقض، كقولنا: إما أن يكون كذا وإما أن لا يكون كذا. فإن استثنى فيها عين أيها اتفق، أنتج نقيض الآخر. فتكون النتيجة هي بالمعنى نفس الاستثناء، كقولك: لكنه كذا، فينتج: فإذن ليس كذا. وهذا ليس شيئاً أعرف من الاستثناء الذي كان جزء قياس وكذلك إن استثنى: لكنه ليس لا كذا، فينتج: فهو إذن كذا. لكن الاستثناء أيضاً بعيداً من أن لا يكون أعرف من النتيجة، وأسبق إلى الذهن، وإنما ينتفع بذلك في أكثر الأمر في قياسات مؤلفة من متصلة ومنفصلة، كقولهم: كذا إما أن يكون كذا، وإما أن لا يكون كذا. فإن لم يكن كذا، فإذن اَ بَ، لكن ليس اَ بَ. فينتج: فهو إذن كذا. فكأنه يكون المستثنى غير النقيض نفسه، بل لازماً. لكن هذا القياس أيضاً مما يتم بشرطيه متصلة وحدها، ولا يبعد أن لا يحتاج فيها إلى المنفصلة بوجه.
فإذن هذا القسم من المنفصلات لا ينفع استعمالهما في القياسات الاستثنائية كثير نفع، بل يجب أن يكون الجزآن غير متقابلين هذا التقابل؛ بل مثل قولنا: إن كان هذا عدداً فهو إما زوج، وإما فرد. فإن استثني عين أيهما كأن بقي نقيض الآخر؛ كما إذا استثني: أنه زوج، أنتج: أنه ليس بفرد؛ وهو الضرب الأول.
والضرب الثاني هو الذي يكون استثناؤه من النقيض، كقولك: لكن ليس بزوج. فينتج: إنه فرد. أو ليس بفرد، فينتج: أنه زوج.
وأما المنفصلات الحقيقية الكثيرة الجزاء. فإما أن تكون أجزاؤها التي تتم بها متناهية في القوة والفعل، فحكمها حكم ما سلف. مثاله، إذا قلت: إن هذا العدد إما زائد، وإما مساو؛ فاستثنيت عين أيها شئت، نتجت نقيض جميع ما بقي. وهذا النقيض يفهم على وجهين: أحدهما أن تكون النتيجة ليس نتيجة واحدة، بل نتيجتان في هذا المثال، ونتائج كثيرة في مثال: إن كان أكثر من هذا أجزاء، مثاله فيما مثلنا به. فليس إذن زائداً، ولا ناقصاً. وهذا القول في الحقيقية نتيجتان. والوجه الثاني أن ينتج نقيض المنفصلة التي تتم من الباقيتين، وهو أنه: فليس إما زائد وإما ناقص. ولقائل الآن أن يتشكك فيقول: إن هذا لا يكون قياساً، وذلك لأنك إن جعلت إنتاجه على سبيل إنتاج نتيجتين أو نتائج، كان عين قياس واحد نتيجتان، أو اكثر من اثنتين معاً، كلاهما بالذات ليس أحدهما قبل الآخر ولا بعده. وإن جعلت إنتاجه على سبيل الوجه الآخر، أنتج الكذب. فإنه ليس حقاً أن هذا العدد لا يكون غما زائداً، وإما ناقصاً. فإن كونه مساوياً، إنما يمنع كونه ناقصاً، ويمنع كونه زائداً. وإما أن يكون هذا، وإما ذاك، وإما شيئاً آخر، فليس استثناء بمانع إياه، ولا هو نقيض ما استثنيت، فإن الحملية لا تناقض لمنفصلة. فنقول في جواب هذا: أما أو لا، فلم يكن في الشرط القياس منه ينبغي أن لا ينتج نتيجتين البتة، بل كان من شرطه أن ينتج نتيجة واحدة. وليس يمنع كونه منتجاً نتيجتين أن يكون أيضاً قد أنتج نتيجة واحدة. وأما ثانياً، فإن هذا أيضاً إن أردت حقيقة فإنما ينتج نتيجتين من حيث هو بالقوة قياسان، وذلك لأن المفصلات كلها إنما تنتج هذه الحمليات الكثيرة بقوة مقدمات أخرى. كأنك إذا قلت: لكنه مساو، تحتاج أن تذكر في نفسك مقدمة أخرى، وهي: إن ما هو مساو، فليس بزائد. فتنتج إحدى النتيجتين. وأيضاً ما هو مساو، ليس بناقص. فتنتج حينئذ النتيجة الأخرى. وهذا شيء، وإن أسقطت ذكره لفظاً وقولاً، فإنك لا محالة تقوله في الذهن إذ لا بد لك من أن يخطر هذا في باللك. إذ لو قال لك قائل: ولم يجب أن يكون ناقصاً أو زائداً؛ قلت: إنه مساو، وكل مساو فليس بناقص أو ليس بزائد. فتكون حينئذ حللت القول إلى المبادئ. وكذلك لو لم تشكك، فأنت تضمر هذا في نفسك. وما لم يلتفت إليه ذهنك لا يستبين لك صدق الإنتاج. فبالحقيقية إنما يتم الإنتاج من المقدمة المنفصلة باستعمال قياس آخر اقتراني، يكون جميع ذلك هو المتأدي إلى الإنتاج. فيكون بالحقيقة ما يتأدى إلى إنتاج أنه ليس بزائد، فيلتفت فيه إلى تأليف غير التأليف الذي يلتفت إليه في إنتاج: إنه ليس بناقص بعد ذلك. وههنا أشياء من حقها أن تقال في اللواحق. فهذا واحد.(1/326)
وأيضاً، فإن قولنا: ليس إما زائداً، وإما ناقصاً، وهو قول حق، ونقيضه باطل. وذلك لأن قولك: ليس إما، يضمر فيه: فليس هذا الذي هو مساوً إما كذا، وإما كذا. وحق أن يقال: إن هذا الذي هو مساوٍ ليس إما زائداً، وإما ناقصاً؛ وذلك لأن هذا مساو. وليس البتة مساوي إما أن يكون ناقصاً، وإما أن يكون زائداً. ينتج: فهذا ليس زاداَ، وإما ناقصاً. وأما صدق الكبرى، فهو أنها إن لم تصدق صدق نقيضها. فكان بعض ما هو مساو وإما زائد، وإما ناقص. ومعنى هذا أن بعض ما هو مساو لا يخرج الحق من أحد القسمين: إما أن يكون زائداً، وإما أن يكون ناقصاً. وهذا كذب صراح. وقد عرفت هذا القانون فيما سلف، فلا بأس أن تكون النتيجة الذاتية الحقيقية هذه. ثم يلزم هذه النتيجة، النتيجتان، لا عنها وجدها. فإنه ليس إذا قيل: إن آ ليس إما بَ، وإما ج. يلزم أنه لا يكون لا بَ، ولا ج. فإنك إذا قلت: زيد ليس إما إنساناً، وإما ناطقاً؛ لم يلزم منه أنه ليس بإنسان ولا ناطقاً؛ بل إنما تلزم نتيجتان، لاعتبار آخر ينعقد مع هذا في الذهن، وهو أنه يعتقد في الذهن أن هذا ليس إما زائداً، وإما ناقصاً، بل هو أمر خارج عنهما. وكلما كان كذلك فليس هو أحدهما. فهذا هو القول في استثناء العين.
وأما من استثناء النقيض، فإنك إذا استثنيت نقيض أيهما كان، أنتج عين الباقية على حالها منفصلة. مثلاً إذا قلت: لكنه ليس بمساو أنتج لك هذا: فهو إما زائد، وإما ناقص. وهي النتيجة القريبة. ثم إذا استؤنف إنشاء قياس من هذه النتيجة، ومن استثناء نقيض بعض أجزائها، فهنالك يتأدى إلى أن ينتج عين واحد منها بعينه، وتكون كثرة القياسات بحسب كثرة الأجزاء. فهذا إذن لا يخالف ما يكون من جزأين. والجامع بينهما أن استثناء العين من كل واحد منهما، ينتج نقيض الباقي على حاله إن كان جزاءاً أو جزاء. واستثناء النقيض ينتج عين الباقي على حاله كان جزءاً أو أجزاء. وأما إ كانت الأجزاء غير متناهية في القوة، فليس ينتفع بالاستثناء من مثل هذه الشرطية بوجه من الوجوه في أن يكون عنه قياس، ولا استحسن اشتغال من اشتغل باعتبار إنتاجه. وذلك لأن استثناء إن كان غير أحد الأجزاء لم تكن له نتيجة لأن البواقي لاتحد، حتى تقال نقائضها، أو تؤلف منها منفصلة سابة. اللهم إن أن تكون النتيجة: فليس شيئاً مما عدا المستثنى. فتكون هذه النتيجة نتيجة عن قياس ذي جزأين. كأن قال: إنه إما أن يكون العدد اثنين، أو ما عدا الاثنين، لكنه اثنان، فليس ما عدا الاثنين. وكذلك عن كان الاستثناء نقيض بعضها، فينتج أيضاً شيئاً غير محدود، لا يمكن أن ينطق به إلا أن يقال: فهو شيء من باقي ما بعده. وهذا أيضاً يكون بالحقيقية عن قياس مبني على منفصلة ذات جزأين، كأنه يقول: إما أن يكون اثنين أو شيئاً مما بعد الاثنين. ثم الفائدة المحصلة في الاستثناء من المنفصلات هي استتمام القياسات المترادفة بالاستثناءات المتوالية منتهية إلى قسم واحد ونتيجة واحدة، وهذا مما لا سبيل إليه في استعمال القياس الاستثنائي من منفصلات ذوات أجزاء لا نهاية لها. فهذا هو القياس الاستثنائي من مقدمات منفصلة حقيقية.
وأما عن كانت المقدمة منفصلة غير حقيقية، فإما أن تكون المنفصلة منفصلة يجتمع طرفاها، فمن ذلك ما يكون الأمر في نفسه كذلك، كقولك: إما أن يكون عبد الله لا يغرق، وإما أن يكون في الماء. ويقاربه قولنا: لا يكون عبد الله لا يغرق، وإما أن يكون في الماء. ويقاربه قولنا: لا يكون عبد الله يغرق، أو هو في الماء. فأيهما استثني نقيضه أنتج عين الباقي. ثم استثناء العين لا ينتج. ومنه ما يكون كذلك اتفاقاً، كقولك: إما أن لا يكون عبد الله يتكلم، وإما أن يؤذن له عمرو. ويقاربه قولنا: لا يكون عبد الله يتكلم، أو يأذن له عمرو. وحكمه ذلك الحكم. وقد يقارب هذين آخران، كقولك: لا يكون عبد الله يغرق وليس هو في الماء، ولا يكون عبد الله يتكلم وليس يأذن له عمرو. والنتيجة ههنا تخالف ذلك، فإن استثناء النقيض ينتج النقيض لا غير.(1/327)
وأيضاً من هذين القسمين ما يكون عن سالبتين، كقولك: إما أن لا يكون نباتاً، وإما أن لا يكون جماداً. وينتج كذلك. ويقاربه: لا يكون عبد الله نباتاً، وهو جماد. وأيضاً لا يكون عبد الله نباتاً، أو لا يكون جماداً. فثانيهما الجزآن فيه كالجزأين في الصل. وأولهما جزء فيه كجزء في الأصل، وجز مقابل للجزء في الأصل. فالذي الجزءان فيه كالجزأين، ينتج استثناء النقيض: عين التالي. والآخر ينتج: النقيض. وهذا هو الذي يقال له المبتدئ من سالب إلى سالب. وقد يتفق أن تكون الأجزاء في جميع ذلك أكثر من اثنين، كما علمت في المقدمات، فيكون الحكم هكذا حكم.
وأما الصنف الآخر من الشرطيات المنفصلة الغير حقيقية فلا يستعمل في العلوم، وهي التي لا يجتمع طرفاها فيرتفعان. كقولك: إما أن يكون نباتاً، وإما أن يكون جماداً. فإنما ينتج فيها استثناء العين للنقيض. فهذا القسم يشبه المتصلات الحقيقية من حيث استثناء العين. والقسم الأول يشبهها من حيث استثناء النقيض. ونقول: إن جميع المقاييس التي من المنفصلات فإنما تتم بالمتصلات.أما في غير الحقيقية فستعلم ذلك إن تذكرت ما أعلمناك من أحوالها سالفاً. وأما في الحقيقية فإنك إنما تعني بها ما تدخله لفظ " لا يخلو " فتكون كأنك قلت: إذا لم يخل عن هذا وهذا، ولا يجتمعان، وهذا ليس ذلك، فهو ذاك، أو هو ذاك، فليس ذا؛ فقد أضمرت في نفسك اتصالاً لا محالة، واستثناء عنه، وإن لم يصرح به. وكيف المطلوب يجب أن يكون لازماً عن القول، والمعاند ليس بالفعل لازماً لما يعانده؛ بل إما أن يلزمه نقيضه، وإما أن يلزم هو لنقيض معانده. فإذن البيان الحقيقي الأول الذي لنفسه هو طريق اللزوم، وإما من طريق العناد، فذلك يتوسط ما يلزمه من لزوم. وأنت يجب أن تمثل هذا وتبسط بقوة ما قد تمرنت فيه إلى هذه الغاية.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في قياس الخلف
والقياس الخلف بالحقيقة هو قياس مركب من قياسين شرطيين فقط. فإن كان المطلوب حملياً وهو المشتغل به في كتاب أنولوطيقا، فإن النتيجة تكون هي الحملية. وأما القياس فيكون شرطياً ليس فيه قياس حملي، وذلك إذا سلك فيه المسلك الطبيعي السهل. فأما القياسان الشرطيان اللذان فيه، فأحدهما اقتراني من شرطية متصلة، ومقدمة يشاركها التالي؛ والثاني قياسي شرطي اتصالي استثنائي. وبذلك يتم الخلف وحده، ويستغني عن الكُلف التي تحاول في تحليل تمام القياس الخلفي، وأنه قياس يتم، أن تبسط بسطاً طويلاً على كما يوجد في كتبهم.
فأما الوجه الحق وهو الذي ذهب إليه المعلم الأول، فهو أنا نجعل المطلوب مثلاً: أن ليس كل ج بَ. فنقول: إن كان قولنا: ليس كل ج بَ كاذباً، فكل ج بَ، ونضيف إليها مقدمة صادقة وهي: أن كل بَ اَ. ينتج من الاقترانات التي عددناها شرطية: هكذا: إن كان قولنا: ليس كل ج بَ كاذباً، فكل ج اَ. ثم نقول: ليس كل ج اَ، إذ هو خلف محال. فيكون قد استثنى النقيض التالي، فينتج نقيض المقدم، وهو: أن كل ج بَ. وهذا أمر خفيف سهل. فيكون هذا القياس مركب يتم من قياسين، وفيهما مقدمتان شرطيتان، إحداهما لا يتغير حالها في جميع المواضع، أعني من حيث أن مقدمها تكذيب المطلوب وتاليها نقيض المطلوب؛ والثانية لا يتغير حال مقدمها ويتغير حال تاليها، فإن المقدمة يكون تكذيب المطلوب، وتاليها أي حال لزم من تأليف نقيض المطلوب، مع مقدمة حقة، أحد أنحاء التأليفات المنتجة للحمليات إن كان المطلوب حملياً، أو المنتجات الشرطيات إن كان المطلوب شرطياً. كقولنا بعد الدعوى مثلاً: إن لم يكن إذا كان ج دَ، فهَ زَ؛ فليس كلما كان ج دَ، فهَ زَ، وكلما كان ح طَ، فهَ زَ. ينتج: إن لم يكن إذا كان ج دَ، فهَ زَ. فليس كلما كان ج دَ، فحَ طَ. لكن هذا خلف. فإنه ليس كلما كان ج دَ، فحَ طَ؛ ينتج: أنه كلما كان ج دَ، فهَ زَ.
فهذا هو تحليل القياس المعروف بالخلف إلى مقدماته.(1/328)
وأما الذين يحاولوا أن يضعوا الشرطية الأولى، ثم يبنوا منها الخلف، فإنهم يقولون: لكن التالي محال، ويجعلون قولنا: التالي محال، دعوى. فمنهم من يتكلف أن يصادف قياساً يجمع بين التالي وبين المحال، فيقول: إن التالي يجتمع منه ومن حق قياس منتج المحال، وما اجتمع منه ومن الحق ذلك فهو محال. ثم يأتي بقياس ينتج الصغرى فيقول: إن التالي يجتمع منه ومن كذا قياس ينتج المحال، وما اجتمع منه ومن كذا قياس ينتج المحال، فقد اجتمع منه ومن حق قياس ينتج المحال.هذا بعد أن يكون فيه إدغام مقدمات وتكلف كثير وطول كلام على المحلل. ومنهم من يعرض عن هذا، ويأخذ تأليفات من التالي ومن حق، فينتج محالاً. ثم يعود فيقول: إن هذا المنتج محال، فهو إما عن الكبرى، أو الصغرى، أو التأليفات. ثم يستثني: وليس عن التأليفات، فينتج: فهو إذن إما عن الكبرى، وإما عن الصغرى. ثم يستثني: وليس عن الكبرى، إذ كان الحق هو الكبرى، فينتج: فهو إذن عن الصغرى. ثم يقول،والصغرى محال، فينتج: نقيض التالي حق، ونقيض المقدم حق. ثم يكون في جملة هذا أنواع من البتر ومن إضمار قياسات لم يصرح بها، لا فائدة لنا بتطويل الكلام في ذلك. والذي أوردناه هو عين القياس الخلفي من غير زيادة ولا نقصان.
لكن العادة جرت في استعمال الخلف بأن تستعمل تلك الاقترانيات، ثم تترك النتيجة فلا تذكر؛ بل يذكر ما هو الحقيقة استثناء لنقيض تاليها، فينتج المطلوب. مثلا العادة في ذلك هي أنه إذا قيل: إن كان ليسس كل ج بَ، فكل ج بَ، وكل بَ اَ، فكل ج اَ، وهذا محال، فكل ج بَ. ويكون قوله فكل ج اَ، معناه إن كان ليس كل ج بَ، فكل ج اَ. وإذا كان الأمر على ما وصفناه فكل ج اَ. ويكون قوله: هذا محال، معناه أنه ليس كل ج اَ، وهو استثناء نقيض التالي. فالعادة مستمرة إذن على وفاق تحاليلنا لقياس الخلف. ومعنى قولهم: قياس الخلف، أي القياس الذي يرد الكلام إلى المحال، فإن الخلف اسم للمحال، وأما الذين يقولون: قياس الخلف بضم الخاء، فقد زاغوا، إذ الخلف إنما يكون في المواعيد فقط. وبعضهم قال إنما سمي قياس الخلف، لأنه لا يأتي الشيء من بابه، بل يأتيه من ورائه وخلفه؛ إذ يأتيه من كريق نقيضه. والأوقع عندي أن الخلف المستعمل ههنا هو بمعنى المحال لا غير.
المقالة التاسعة
من الفن الرابع من الحملة الأولى في المنطق
الفصل الأول
(ا) فصل
في تعريف القياسات الاستثنائية
في تعريف أن القياسات الاستثنائية إنما تتم بالقياسات الاقترانية
إن كل قول قياسي ينتج منه حملي فإنه يتم بأحد الأشكال الثلاثة التي للحمليات. وبالجملة فإن الاستثنائيات تتم بالاقترانيات إذا أريد أن يكون القياس مفيداً. فنقول أن قياس الخلف قد بان أنه يتم بالقياسات الاقترانية والشرطية والاستثنائية، والقياس الشرطي فقد أوضح من امره أنه تتم فائدته بالاقترانيات. وإذ الكلام في أنولوطيقا القديمة إنما هو القياس المنتج الحملي، فيكون المراد بالاقتراني فيه، وبالحملي واحد. فنقول: وقد اتضح لك أن القياس الاستثنائي المنفصل إنما يستثنى فيه لاستشعار المتصل؛ وان المتصل، الذي يستثنى فيه النقيض التالي، يستبين بالذي المستثنى فيه عين المقدم؛ فإذا أوضح أن المستثنى فيه عين المقدم لا يفيد إلا بالقياس الاقتراني؛ بأن لك ذلك في جميع القياسات الشرطية والحملية. فأحسن ما تكلف في إبانة ذلك إن قيل فيه ما قاله بعض المحصلين: إنه لو كان المقدم بينا واضحاً، لكان لازمه وتابعه بينا واضحاً، وكان في إثباته بالقياس محالاً، إذ القياس بين الخفي، فأما البين فلا حاجة به إلى أن يقاس عليه. قال: ولولا أن المقدم غير بين لما ألحق به لفظ الشك، وهو الشرط. فإن قلنا: إن كان كذا كذا، فكذا كذا. يقتضي أن المقدم شكا. فإذا زال، صح حينئذ التالي. فإن كان المقدم بينا نفسه، فما معنى إلحاق لفظ الشك به. فيجب أن نتصفح هذا البيان، فإن وجدناه ناقصاً أكملناه، وإن وجدناه باطلاً انتقلنا إلى غيره.(1/329)
فنقول: أما ما قال من كون المقدم مشكوكا فيه، أو غير مشكوك؛ فأمر قد سلف منا إيضاح الحال فيه. فليعلم ضعف هذه الدعوى مما سلف. وأما كون المتعلق البين التعلق بشيء بين الصدق، بينا صدقه، فأمر غير مسلم. وذلك لأن الشيء ربما كان بينا بنفسه، وله لازم ليس بينا بنفسه، لكن لزومه لذلك الشيء البين بينا، فنعلم بتوسط لازمه. فإنه ليس سواء أن نقول: إن الشيء بين نفسه، وان نقول: إنه بين لزومه عن بين نفسه، فإن الأشياء الخفية إنما يتدرج إليها بأن تكون لازمة لأمور بينة بنفسها أو مبينة، وإن كان لزومها غير بين بأن يتوسط آخر، وينتهي آخر الأمر إلى لازم بين اللزوم. فإن كان هذا المنتهي إليه بينا بنفسه، وكان الذي يلزمه لزوماً بلا وسط بينا بنفسه، لأنه لازم للبين بنفسه بين اللزوم، فستصير الأشياء كلها بينة بأنفسها. ويلزم على هذا أن يكون الضرب الأول من الشكل الأول لا ينتج شيئاً، وذلك لأن قياساته تنحل إلى مقدمتين بينتين بأنفسهما، ثم النتيجة: بين اللزوم عنها، كما قد علمت. فتكون نسبة القياس إلى النتيجة نسبة التالي إلى المقدم. فيكون المقدم أمراً بينا. وهو مثلاً إن كان كل ج بَ، وكل بَ اَ. والتالي بين اللزوم عنه كقولك: كل ج اَ. فيجب أن يكون قولنا: كل ج اَ بينا. وكذلك جميع النتائج الثواني إلى غير نهاية. فهذا المقدار من البيان لا يكشف حقيقة الغرض. وأيضاً فإنه ليس يجب أن يكون التالي بين اللزوم حتى تكون المقدمة متصلة. فإنه ربما كان غير بين اللزوم، فبين لزومه. فإذا صار بين اللزوم بحجة، واستثنى المقدم حينئذ بعينه، أنتج التالي بعينه، فكان قياساً مفيداً. فيجوز أن يكون المقدم بينا بنفسه واللزوم ليس ببين، فيبين. فإذا بان أفاد استثناء مقدم بين نفسه، شيئاً كان مجهولاً. والذي يجب أن نقوله نحن في هذا ونردفه بما يمكن، هو أن كال ما تعلق من الأمور تعلقاً بينا بأمر واحد بين، كان خطور المتعلق به بالبال، معيناً في وقوف الذهن على صحة التالي اللازم. فيكون إذا كان كل اَ بَ بينا، وكان تلو ج دَ له بينا، فمتى أخطر اَ بَ بالبال لم يحتج إلى أن يستعمل قياس بالفعل بوجه من الوجوه في إلزام التالي. فإنك كما أخطرت بالبال حال اَ بَ إذا قلت: إن كان اَ بَ، فكأنك قلت في خاطرك: إن كان اَ بَ الكائن، فج دَ. فلا يحتاج إلى أن تعود وتضع: لكن اَ بَ. لأن هذا قد فعل في ضمن إيرادك اَ بَ المقدم. لأنك لا تأخذه مقدماً، أو تأخذه خاطراً بالبال ، أو تأخذه خاطراً بالبال إلا موضوعاً، فيعنك وضعه مقدماً صدق التالي، وإن كنت بالحقيقة قد استثنيت وضع المقدم، إلا أن ذلك مندرج في التقديم، مفروغ عنه، غير محتاج إلى تجريده استثناء مبتدأ به أنفاً. وأما إذا لم يكن بينا فلا تكون الصورة، تلك الصورة، بل يحتاج إلى أن تجرد النظر في أمره مستثني. وكذلك حال القياس الاقتراني إذا صار مقدماً، فإنه يغنيك بيان مقدماته عن استثناء الاستثناء، فيكون التالي، وهو النتيجة، لزوم، أي بالقياس إلى القياس وهو، أعني القياس، مقدم شرطي. وبحسب ذلك ليس تحتاج النفس، إذا كان اللزوم كاملاً، أن ترجع فتستثنى. فنقول: ولكن كل ج بَ، وكل بَ اَ. إذ هذا قد اندرج في الذهن مع خطور المقدم، لكنه إنما ليس بين اللزوم قبل القياس وقبل الوضع، وإلا فلا لأنه ليس لزومه عن أمر واحد بين، لأن لزومه عن أمرين وعن اجتماع بينهما. وليس صورة هذا الاجتماع ثابتة في الذهن، فإنه ربما خطر في الذهن التصديق بإحدى القضيتين ولم يصحبه التصديق بالثانية، وعلى أنه ليس بالبال لا على بين الصدق. والفرق بين الأمرين قد سلف لك في موضع آخر، وربما حضر بهما جميعاً ولم يرتبا بالفعل الترتيب الذي يؤدي إلى النتيجة فلم يشعر بالمشترك. فإن كان يغني فيه تصديق واحد فإنه كلما خطر خطر معه الثاني، وإن كان يحتاج إلى تصديقات أكثر من واحد احتيج إلى أن تجتمع معاً في الحالين جميعاً. فإن وضع المقدم يفيد علماً يلازم غير بين بنفسه. وفي الحالين جميعاً، فإن الخطور بالبال على تمامه يغني عن استئناف لما قلناه من اندراج الاستثناء القديم، وفي كون استثناء الاستثناء كشيء مبتدئ أمراً فضلاً، لكن اللزوم في أحدهما تصديق واحد، وفي الآخر تصديق أكثر من واحد مع شروط أخرى. وليس هذا إنما هو في المقدم الذي يكون بينا بنفسه، بل إذا بان أيضاً بقياس وعلم، كان الاستثناء(1/330)
فضلاً، وكذلك إن كان اللزوم فضلاً بأن الحجة، وكان المقدم بينا بنفسه، وإذا كان الاستثناء المبتدأ فضلاً، كان تكميل القياس على صورته فضلاً. ولهذا ما صورت أمثال هذه المقدمات من الشرطية لا تستعمل في العلوم بصورة القيا، بل يقال: لما كان كذا؛ ولا يقال: إن كان كذا، كان كذا؛ لكن كان كذا؛ بل هذا يؤخذ أخذاً.لاً، وكذلك إن كان اللزوم فضلاً بأن الحجة، وكان المقدم بينا بنفسه، وإذا كان الاستثناء المبتدأ فضلاً، كان تكميل القياس على صورته فضلاً. ولهذا ما صورت أمثال هذه المقدمات من الشرطية لا تستعمل في العلوم بصورة القيا، بل يقال: لما كان كذا؛ ولا يقال: إن كان كذا، كان كذا؛ لكن كان كذا؛ بل هذا يؤخذ أخذاً.
وليس القائل أن يقول: فيلزم أن يكون استعمال المقدمات الكبرى بينة بأنفسها في القياسات فضلاً، وأن يكون الضمير في ذلك كافياً، على نحو ما يستعمل. فنقول: إن الفضل في القول على وجهين: فضل يكون الاستغناء عنه أستؤنف على سبيل أنه قد فرغ من إخطاره بالبال في ضمن ما قيل؛ فلو قيل، لا ستؤنف إخطاره بالبال مرة ثانية على سبيل التكرير. والثاني: أن تكون النفس تستغني عن التوقيف عليه، لا أنه لو صرح به لكان الأمر يخطر بالبال مرتين، بل لأنه لو صرح به لكان يخطر بالبال أمر سيخطر بالبال، وإن لم يلفظ بلفظه، ويكون إذا خطر بالبال وإن لم يلفظ به، خطر مرة واحدة. ويكون خطوره بالبال معاقباً لخطور المصرح به بالبال في زمان ثان، الذي لو صرح بهذا أيضاً لكان يخطر بالبال فيه أيضاً مرة واحدة. فما كان على سبيل القسم الثاني فإنه يكون فضلاً من حيث هو قول. وأما من حيث هو معنى، فيكون هو محتاجاً إليه، ليس بفضل، بل لا بد منه في أن يتم المعنى، كما عرفناك من جال الكبرى. لكن التصريح بما صرح به، وإتباعه مطلوب، يخطر بالبال أن القائل أضمر شيئاً، وهو مثلاً أنه كل بَ اَ، فإن كان بينا بنفسه استغني بخطوره بالبال في اتباع النتيجة المقدمة عن التصريح به، وإن لم يكن بينا بنفسه طالب به المخاطب، فقال: ولك وجب أن يكون كل بَ اَ. فلوى أنه فهم من المخاطب ما صرح به، وما صرح به جميعاً، لما كان يحقق في قوله لما قلت: إن كل بَ اَ. فأما إن كان اتباع هذه النتيجة لا يخطر بالبال الكبرى، فلا يكون هذا الكلام نافعاً البتة. فإذن إنما ينفع هذا الإضمار إذ أخطر بالبال، خارجاً عن خطور الصغرى بالبال، ومتصلاً زمانه بزمانه، كما لو صرح بالكبرى. فإن لم يخطر لم ينفع البتة، ولم يكن للضمير جدوى في علم البتة. وإن خطر فإنما ينفع الضمير لشيء لا بد من أن يخطر في زمان لو قبل اللفظ لكان إفادته ذلك الإخطار في ذلك الزمان لو صرح به.
فإذن المعنى الذي يدل عليه بلفظ الكبرى يحتاج إليه. لكن خطوره بالبال يغني استفادته بدلالة اللفظ. فمعنى اللفظ محتاج إليه، وإن كان اللفظ مستغنى عنه.
وأما في الشرطية فإنا إذا قلنا: إن كان كل بَ اَ، فخطر الوضع بالبال، وخطر معه التصديق به، فإن التصديق مثلاً يكون خاطراً قبل الزمان الذي ينتقل فيه الذهن إلى التالي، فضلاً عن الزمان الذي استأنف فيه الاستثناء. فإذا جاء الاستثناء لم يخل إما أن يفيد إخطار شيء بالبال، أو يفيد تكرير الأمر حاصل مستعلي عنه، ليس زمان خطوره بالبال زمان التلفظ بالاستثناء؛ كما كان زمان التلفظ بالكبرى زمان خطوره بالبال، فيما استغنى عن التلفظ به. فإذن هذا الاستثناء ليس يفيد أمراً ذاتياً في الإيصال إلى الغرض؛ بل أمر سلف التصديق به. وما سلف التصديق به، فليس الدلالية عليه باللفظ مطابقاً لوقت الحاجة إليه. فهو فضل بحسب اللفظ، وبحسب الإفادة جميعاً، فلا يفيد أو يفيد مستغني عنه. ولا كذلك الذي إذا قيل، أفاد نفس المحتاج إليه في وقته، وكان مطابقاً بدلالة لما هو محتاج إليه في الوقت.(1/331)
فبين إذن أن استعمال هذه المقدمات على صورة قياسية، تكلف. وغنما الواجب أن يستعمل على نحو ما قلنا، كما يقولون: لما كان كذا كذا، كان كذا. وليس كل ما كان على صورة قياس، فتكون له فائدة قياس. فإن قائلاً لو قال: كل إنسان ضحاك، فصدق. وإذا قال: وكل ضحاك حيوان، صدق. ولكن هذا غير مفيد. فإنه قد علم: أن كل إنسان حيوان، ليس بعد أن علم: أنه ضحاك. فيجب أن يفهم قول المعلم الأول على هذه الصورة. ولا يظن أن يرى أن بين اللزوم عن بين الصدق بين الصدق. أو أن المقدم لا يكون موضوعاً مقدماً، وهو غير مشكوك فيه. كأن المقدم، إذا لم يكن مشكوكاً فيه ، لم تكن القضية متصلة، حتى يكون قول القائل: إن كان الإنسان حيواناً، فهو جسم؛ أمراً مشكوكاً في مقدمه، أو قولاً غير متصل؛ بل معناه أن استعمال ما ليس مشكوكاً في مقدمه، بأن يستثني مقدمه، إذا كان تاليه بين اللزوم، أو كان قد بان لزومه بشيء، أو هو بين نفسه، هو أمر غير قياسي، أو غير مطابق بدلالته على المحتاج إليه. فإن كان التالي لم يكن لزومه بينا، فهو ابعد، فيحتاج لا محالة في إبانته إلى قياس اقتراني، ينتهي إليه آخر الأمر ليكون الاتصال بينا، فينفع. فإذن لا تكون المقدمة المتصلة متعرضة للاستثناء من مقدمها، ما لم يكن مقدمها مشكوكاً فيه، والتالي ظاهر اللزوم والاتصال بنفسه، أو ظاهرهما بحجة.
فقد بان وصح أن القياسات الخلفية والوضعية المتصلة، فإن الفائدة من استعمالها على صورة قياسية إنما يكون إذا كانت مشكوكاً في مقدمها، ويكون قد بان اتصالها بنفسه أو بقياس اقتراني، فيكون لا بد من اقتراني. وأما المقدم فلا يخلو إما أن يتبين بقياسات استثنائية، أو اقترانية. فإن تبينت باستثنائية، فلا بد من أن ذلك ينتهي في آخر الأمر إلى قياسات استثنائية مشكوك في مقدمتها، تتبين بالاقترانيات وإن تبينت في أول الأمر بقياسات اقترانية، فذلك أوضح فتكون جميع القياسات المفيدة، استعمالها على صورة قياسية يرجع إلى الاقترانيات. على أنا لا نستبعد أن تنتهي إلى استثنائية، لا يحتاج أن تستعمل على صورة قياس؛ وذلك في القليل والكثير الغالب ما قلناه.
فإن قال قائل: فما تقول في المقدمة الشرطية التي مقدمها قياس اقتراني؟ فكيف يبين مقدمها بقياس اقتراني؟ فنقول: هو في نفسه قياس اقتراني، وغرضنا أن الشيء الذي يتبين بالاستثنائي، من مقدمة تتعلق بقياس الاقتراني، فإن كان نفسه مقدمة كذلك، فقد تعلق البيان الاستثنائي بالقياس الاقتراني، وإن لم يكن كذلك بان بقياس غيره. على أني قد بينت أن استبانه التالي الذي هو نتيجة المقدم، الذي هو القياس، ليس على سبيل بيان أمر قياسي عن قياس مفيد.(1/332)
لكن لقائل أن يقول: ما تقول في القياس الاستثنائي، الذي في الخلف، الذي يستثنى فيه نقيض التالي، لينتج نقيض المقدم؟ فنقول: إن ذلك ليس من الجنس الذي هو بين المقدم، بن اللزوم التالي للمقدم. وكيف يكون بين المقدم ومقدمه هو الذي يراد إبطاله؟ وكيف يكون بين لزوم التالي للمقدم وغنما يبين ذلك باقتراني؟ على أنه إذا بان لزوم التالي بالاقتراني، صح باستثناء نقيض التالي، إنتاج نقيض المقدم. ولقائل أن يقول: إن استعماله، والاستثناء التالي، قياس ليس مما يستغني عنه، وقد جاء قياس شرطي مستثناه بين بنفسه لا يبين باقتراني. كأنه يقول: هب أن المستثنى إذا كان من المقدم، فهو كما ذكرتم؛ فما قولك فيما يستثني من تاليه، فإنه يتم بلا رد إلى الاقتراني البتة؟ فنقول: إن مثل لهذا القياس لا يخلوا إما أن يكون من جنس ما اللزوم فيه خفي، وإما أن لا يكون. فإن كان من جنس ما اللزوم فيه خفي، احتاج إلى اقتراني في إثباته. وإن كان اللزوم فيه بينا، فكان لزوم التالي للمقدم بينا، وكان كذلك لزوم نقيض المقدم لنقيض التالي بينا، لم تكن الفائدة البتة في وضع المتصلة على وجه يراد فيه أن يستثنى نقيض مقابل تاليها، لينتج قيض المقدم، فإنا لو وضعنا نقيض التالي مقدماً، مسيراً عن تقديمه بلفظة " لما " لإفادة الفائدة على الوجه المذكور. فكان تقديم المتصل على عكس ذلك فضلاً، وأمراً يقتضي تكريراً على قريب من النحو المذكور فيما سلف. ونحن لا نمنع أن يكون قياس مؤلف من المتصلات على الوجه الذي أومأنا إليه، بل نعني أن ذلك لا يكون مفيداً، وإن كان لزوم التالي للمقدم بينا. لكن لزوم نقيض المقدم لنقيض التالي غير بين، حتى يكون قولنا: إن كان اَ بَ، فج دَ بينا بنفسه؛ ثم يجوز أن يكون: ليس ج دَ، وموجود معه: أن اَ بَ، إلا إذا التفتنا معه القضية الأولى. فإن كان استعمالها مع القضية الأولى، كان بيان أن ذلك منتج، وهو بخلف اقتراني قد عرفته. وإن لم يوضع مع الأول احتاج إلى قياس مبين للزوم.
فهذا أكثر ما يمكنني أن أقوله في نصرة رأي من يرى، أن المتصل لا يتم إلا بالحملي على ما فيه، وعلى أنه ليس بالحملي منظور إليه من حيث هو حملي، بل من حيث هو اقتراني، وليس باستثنائي. ولكن لما لم يكن المذكور من الاقتراني في كتاب أنولوطيقا إلا الحملي، كان الحملي والاقتراني فيه يجريان مجرى واحداً.
وإذ قد فرغنا من مقصودنا هذا متكلفين ما تكلفناه، فيجب أن يبين أن الحملي لا يتم إلا بمقدمتين، وان يبين أنه لا يحتاج المطلوب الواحد إلى أكثر من مقدمتين. وتنتقل جميع ما نقوله في الحملي إلى قياس اقتراني، إن كنت عليه قديراً.
الفصل الثاني
(ب) فصل
القياس لا يتم معناه إلا بالكلية والإيجاب
في تعريف أنه لا يتم القياس إلا بتضمنه معنى الكلية والإيجاب(1/333)
إن المطلوب إما أن يبين على سبيل أنه لازم عن شيء أو معاند، فيكون نقيضه في قوة اللازم، فيكون سبيل بيانه عنه سبيل الاستثناء. فإن كان يبين عن شيء لا على سبيل اللزوم عن موضوع، أو العناد له، فلا يخلو إما أن يكون ذلك الشيء مركباً تركيباً جزئياً، أو يكون ليس كذلك، بل لا جزء فيه، وهو حكم المقرر. فيكون لزوم الشيء عنه، كما يلزم عن مفرد لوضعها ورفعه، فيكون على سبيل فالاستثناء أيضاً. فإن كان يلزم عن شيء مركباً تركيباً جزئياً، وليس على سبيل وضع استثناء، فلا بد أن يكون الذي تبين به نسبة ما أخرى إلى هذا الشيء. وليس يمكن أن تكون النسبة إلا على الوجهين: إما نسبة إلى جملة هذا القول لا إلى أجزائه ويكون إذا عقلت تلك النسبة ووضع ذلك الشيء، لزم هو، سواء كان الوضع إيجابياً أو سلباً، إلزاماً أو رفعاً؛ بعد أن يجعل حكماً. وهذا القسم هو أيضاً من القياس الشرطي الاستثنائي. وأما نسبة إلى أجزاء هذا القول المطلوب واحداً فواحد. وذلك لأن النسبة التي لذلك الشيء إما أن تكون إلى الجملة، وإما أن تكون إلى أجزاء الجملة. فإنه إذا لم يكن لذلك نسبة إلى جملة هذا القول، ولا إلى أجزائه، حتى تلك النسبة توجب جميع الأجزاء، لم يجب أن يتصل في الذهن أحد الحكمين بالآخر، أعني المطلوب، بما يطلب به، ويعلم به. وإذا كان الشي إذا حضر في الذهن، لزم أن يحضر في الذهن شيء آخر، فبين أن بينهما علاقة ما. وكل علاقة بين معنين معقولين، إما أن تكون لزوم، أو تلازم ليس على سبيل ما يكون بحمل ووضع؛ وإما أن تكون تلك العلاقة فيه على سبيل حمل أو وضع. فإن كان الشيء الثالث الذي له نسبة أجزاء المطلوب، فيبين به المطلوب. إنما نسبته إلى أجزاء المطلوب هي على سبيل نسبة التلازم من غير حمل ووضع. فغن ما يحضر منه في الذهن إما أن يدل على وجود الموضوع، أو وجود المحمول، أو وجودهما جميعاً فقط، دون الدلالة على سبلي النسبة التي بينهما.
فيجب إذن أن تكون العلاقة فيما نحن فيه، علاقة حمل ووضع. ثم يجب أن تكون هذه العلاقة مع الطرفين جميعاً. فإنه إن كان مع أحد الطرفين فقط، ويوجب وجوده لطرف، أو سلبه عن طرف، أو عكس ذلك، لزوم علاقة ما بين الطرفين، فالقياس يعد شرطي. وإنما لزم قول قولا، وليس وجود ذلك الشيء سبباً لذلك؛ بل جملة قول واحد تجتمع فيه أحد الطرفين، تلزمه صحة قول آخر. فإذن يجب أن تكون العلاقة مع الطرفين معاً. وتكون تلك العلاقة إذا علقت له معهما، صار الحمل أيضاً كاللزوم، والمطلوب كاللازم. إلا أن الثالث هو الذي جعل الطرفين مجتمعين لخاصية لا محالة. تلك الخاصية توجب دائماً جمع الطرفين اللذين للمطلوب. فإذا علقت تلك الخاصية، وهي أنها لما كانت لها إلى هذا الطرف نسبة كذا، وإلى ذلك الطرف نسبة كذا، وجب أن تكون الطرفين نسبة كذا في أي مادة اتفقت، وأي قول كان، لأن تلك الخاصية في صورة المقدمة، أعني كيفيتها وكميتها وجهتها لا مادتها، لزم دائماً لأن يصح اللازم. فلا يحتاج أن يبتدأ كل وقت بوضع الشرطي واستثناء؛ بل يقتصر على تلك الخاصية، وإن كان في الحقيقية عند النفس شرطي واستثناء، وكان من الحملي من هذه الجهة أيضاً ما يتم في القوة بالشرطي.
وأما الأقسام الأخرى التي تقع للنسب، دون ذلك القسم الخاص الذي اجتمع له الطرفان، وهو الوجه الذي يلزمه المطلوب، فلا يكون لزوم ما يلزم لخاصية في هيئة المقدمة اللازمة وصورتها، بل لمادتها. وقد توجد تلك الصورة بعينها، فلا يلزمها مثل صورة ذلك اللازم لزوماً قياسياً، بل عسى مثل العكس، وكذب النقيض؛ وليس كلامنا في مثل ذلك.(1/334)
فقد بان واتضح أن القسم الذي تكون نسبة الشيء الثالث فيه إلى أجزاء المطلوب حتى يجمعها، إنما تكون على سبيل حمل ووضع، وتكون هيئة تلك النسبة ملزمة للمطلوب، وذلك هي صورة التأليف. وهذا الثالث لا يخلو إما أن يكون شيئاً مفرداً معنى ولفظاً، أو غير مفرد. فإن كان غير مفرد، فلا يخلو إما أن يكون في قوة مفرد، أو تكون أجزاءه متباينة، لا يتصل منها ما قوته قوة مفرد. فإن كان في قوة مفرد، فحكمه حكم المفرد الذي يقول: فإن وضع لا في قوة مفرد، بل أخذ على أنه شيئان أو أشياء متباينة، فإما أن يكون لكل واحد منها نسبة إلى كلا الطرفين، أو لجملتها، أو بعضها له نسبة إلى طرف، وبعضها إلى طرف آخر. فإن كان لكل واحد منها نسبة إلى كلا الطرفين، فإما أن يتم جمع الطرفين بنسبة واحدة منها، فيكون القياس واحد تاماً بواحد، ويكون ذلك الآخر إما فصلاً، وإما قياساً آخر؛ وإن كان يتم جمع الطرفين بجمع النسب كلها، فيكون جملتها هو الشيء المتوسط. وهو من جهة ما هو جملة كمعنى واحد. مثال هذا، والنسب متفقة: اَ بَ، و ج، وكل ما هو بَ مع ج، فهو دَ. ومثاله، والنسب مختلفة: اَ بَ، وليس ج، وكل ما هو بَ، وليس ج، فهو دَ. ولسنا نبين ههنا شرائط الإنتاج، بل أحوال هذا التوسط، حتى نبين آخر الأمر أن النسب هي تلك التي مضت وشرائط القياس هي تلك التي مضت.
وأنت تعلم أن المقدمة من حيث هي مقدمة، هي من جملة القول الذي ليس مفرداً، اللهم إلا أن تأخذ لا من حيث تفصيلها في جزئيها، بل من حيث هي أمر من الأمور، فتكون أيضاً في قوة الفرد. كقولهم، قولنا: كل اَ بَ، محصورة. وأما من حيث هي مقدمة منفصلة، فلا تكون لها نسبة واحدة إلى كل واحد من الطرفين، بل يجب أن تنفصل نسبتها، ولا يكون حالها حال المتوسط الذي أوردناه، الذي فيه التركيب.
وقد دخل في هذا البيان القسم الثاني، وهو أن لا نعتبر الأجزاء فيه البتة، بل تعتبر الجملة. فظاهر أنه يكون حينئذ نسبة شيء واحد ذي أجزاء.
وأما القسم الثالث الذي وضعت فيه النسب متفرقة، فمن البين أنه لا يجب أن يلزمه منه لازم البتة. وذلك أنه إذا كان لشيء إلى شيء نسبة حمل أو وضع ولثان إلى رابع نسبة حمل أو وضع، وليس الثالث مع الرابع علاقة ما ونسبة، فلا يجب من ذلك أن يكن بين الشيئين بسببهما علاقة حمل أو وضع، فإن الأشياء كلها بهذه الصفة؛ بل يجب لا محالة إن كان ولا بد أن يكون بين هذين الداخلين نسبة وعلاقة في حمل ووضع، فإذا كان كذلك، فكل واحد منهما، أو واحد منها، فإنه أولاً إما أن يحدث علاقة بين الثاني منهما وبين أحد الطرفين. ثم ذلك والثاني يجمع الطرفين، فإن النسبة القريبة قبل النسبة البعيدة، بل يجب أن يتحقق له إليه أولاً نسبة، ثم يؤدي إلى طرف الذي يخصه النسبة إليه، إذا كان لا نسبة له أو إليه إلى ذلك، إلا بواسطة هذا. فهذا لا يكون قياساً واحداً، لأنه يكون مشتملاً على بيانين، أحد البيانين أن لطرف ما إلى أحد الشيئين الداخلين الذي يخص ذلك الطرف، علاقة ونسبة، ثم بيان ذلك يتبين أن لهذا الطرف إلى ذلك الطرف، علاقة ونسبة، وبينهما اجتماع. فإن لم يكن هذا، لم يجب للذهن أن يتبع علاقة علاقة. مثاله إذا كان طرفا المطلوب بَ واَ، والداخلان ج في جانب بَ، ودَ في جانب اَ، فإن لم يكن لج و دَ علاقة لم يلزم شيء؛ وإن كان بينهما علاقة، كان أول النسب المؤلفة نسبة بَ مع دَ، أو نسبة اَ مع ج. فإن كانت هذه النسبة مؤلفة، توجب نسبة مقررة ل بَ مع دَ، أو مع ج؛ ثم كانت النسبة دَ إلى اَ و بَ، توجب بينهما وقوع نسبة، فقد بان المطلوب ثانياً. وإن كان لا يوجب بينهما وقوع نسبة لم يغن هذا التأليف.
وأنت تعرف هذا إذا رغبت هذه المقدمات مختلفة الكيفية والكمية، فتجد أن لزم لأحد الداخلين مع أحد الطرفين نسبة، لزم ثانيها لطرفين نسبة، وإلا لم يلزمه شيء. ولمما كان قياس الواحد على هذا السبيل، فإذن القياس الواحد، إنما الداخل فيه بالفعل أو بالقوة واحد؛ وهو إما موضوع لطرف، محمول لطرف، أو موضوع لهما، أو محمول عليهما. ويجب أن يكون المحمول في المطلوب نسبة إلى الداخل بالفعل أو بالقوة كلية، وللموضوع نسبة إليه بالقوة أو بالفعل موجبة، حتى يكون الحكم على الداخل يتناول الطرف الذي هو موضوع المطلوب.(1/335)
فإذن الأشكال القياسية ثلاثة، أعني الاقترانية، وقد كان قيل: إن الاستثنائية أيضاً إنما تتم بالاقترانية، وكذلك الخفية. فكل مطلوب إنما يتم بهذه الأشكال. وتتم هذه الأشكال بالشكل الأول. ثم قيل بعد هذا القول في التعليم الأول: إن كل قياس يتم بكلي، وموجب. ولا ينتج كلي إلا عن كليتين. وأما الجزئي فقد ينتج عن كليتين، وعن كلي وجزئي. والنتيجة تشبه في الجهة إحدى المقدمتين لا محالة. فبهذا القول يتبين صحة ما ذكرناه، من إنه إذا كانت ضرورية وممكنة، لم تجب نتيجة مطلقة، أو مطلقة ممكنة، لم تجب النتيجة ضرورية.
قد تبين لك من هذا أنه لا بد في كل قياس من مقدمة كلية، ومما هو موجب بالفعل أو بالقوة، كالمكن والمطلق الصرف. إذ قوة سالبة، قو موجبة. ويتبين أن الكلي لا ينتجه إلا كليتان. وأما الجزئي فقد ينتجه كليتان، وكلي وجزئي. والموجب لا ينتج إلا موجب. والسالبة لا تنتجها إلا سالبة وموجبة، لا موجبتان. قيل: وفي كل قياس مقدمة تشبه النتيجة في الكيفية والجهة، إما كليتهما، وإما أحد يهما، فالظاهر من اعتراف المعلم الأول بهذا، أن الذي يورده في استنتاج ممكنة، عن مطلقة ضرورية، هو على سبيل التشكيك، وكذلك ما ينتجه من مطلقة، عن ضرورية وممكنة.
الفصل الثالث
(ج) فصل
في القياسات المؤلفة من مقدمات أكثر من اثنتين
وبيان أنها قياسات كثيرة مركبة
قد استبان لك أن لا قياس اقتراني عن مقدمة واحدة، ولا عن أكثر من مقدمتين. وبقي لك أن تتشكك وتقول: إنا قد نشاهد أقاويل قياسية، يحاول بها إبانة مطلوب واحد، وتزن المقدمات فيها أكثر من اثنتين، مما يدل على ذلك كتاب الأصول في الهندسة، وغيره.
فنقول: إن المقدمات تكثر في القياسات، وتزيد على الاثنين، لأحد وجوه ثلاثة: إما أن تكون تلك المقدمات ليس مقدمات القياس القريب، بل مقدمات تنتج المقدمات التي هي أقرب. وإما أن تكون موردة على سبيل الاستقراء والتمثيل، فلا تكون مقدمات القياس نفسه، بل مقدمات استقراء يتعرف بها صحة مقدمة. وأما أن تكون خارجة عن الضرورة، وعن المنفعة القريبة من الضرورة. وهذا على وجوه: بعض تلك الوجوه أن ترد للحيلة، وبعضها أن تورد للزينة؛ وبعضها أن تورد لاستظهار في الإبانة. فأما الموردة، فهي التي يراد بها ستر النتيجة التي كانت المقدمات الضرورية لو أوردت صرفه لحدس ما تناسق إليه في النتيجة، وعلم كيفية انسياقه إليه، فعوسر في تسليمها؛ فإذا خفي وجه انسياقها، وظن بها أنها عديمة الجدوى، وخصوصاً لاختلاط ما يجدي بها، تركت المعاسرة تسليمها. وهذا في الجدل وفي الامتحان، وقد يقع ذلك في الغباوة، والتلبيس، والترائي بالتدقيق. وأما التي للزينة، فمقدمات يحاول بها تحسين الكلام بالتشبيب، وبالتخلص، وهي مقدمات وجودها وعدمها في المقصود بمنزلة. وأما التي للإيضاح فكالأمثلة المستغنى عنها، وغنما تورد للتفكير كالاستشهادات المستغنى عنها، وكتقسيم اللفظ، وكالانتقال من لفظ إلى لفظ، وغير ذلك مما يقال في كتاب في الجدل. وأما القياس القريب، فمحال أن يكون من أكثر من مقدمتين، بل يحتاج أن يكون الأصغر فيه بالقوة أو بالفعل داخل تحت حكم الأكبر كلي.(1/336)
فالتكثر وقع إذن إن وقع وليس بسبب الاستقراء، وغير ذلك من هذه الوجوه، فهو بسبب تركيب القياس أن يكون القياس مؤلف من مقدمتين، كلتاهما أو إحداهما تحتاج إلى قياس بينيها. فيتركب قياسان: أحدهما على المقدمة، والآخر على المطلوب. ومقدمات المطلوب زوج لا محالة.والمقدمات المنتجة لإحدى المقدمتين زوج. والنتيجة أيضاً لكليهما زوج؛ إذ هو ضعف ما ينتج الواحد، وجمع الزوج إلى الزوج زوج. فإذن مقدمات القياسات البسيطة أو المركبة أزواج. فإن كان عددها فرداً فهناك إما نقصان، وإما زيادة، وإما عقم، إن كان لا يتم بزيادة، ولا يستوي بنقصان، والذي بنقصان فهو على وجهين: إما أن تكون المقدمات قد أسقط الكبرى منها استغناء بما لها في اشتهارها من الظهور، أو إيهام استغناء بالظهور فيما لو صرح به لظهر كذبه، كما في المغالطة والخطابة؛ أو أسقطت الصغرى بسبب من ذلك. وإما أن يكون الإسقاط على سبيل استغناء عن المقدمة لا لظهورها في نفسها ولا لحيلة، لكن لأنها قد ظهرت بتأليف المقدمتين التي تنتجها ظهوراً يغني أن تجعل بعد ذلك مقدمة، فتسقط النتيجة التي عن المقدمتين ويؤتى بالمقدمة الأخرى، فتكون ثلاثة، وينتج المطلوب. وإذا كان على كل مقدمة قياس فيبعد أن يسقطا معا كما تسقط النتائج استغناء بالظهور، بل إن أسقط منها شيء، فالتي يتأثر قياسها، فإن الذي سبق قياسه كأنه نسي عند الاشتغال بما تأخر قياسه؛ فكان نتيجة الأقرب زماناً من القياسين أولى بأن لا يذكر. وأما الذي بالزيادة على الوجوه التي سلف لك ذكرها. وأما الذي لأجل العقم فهو أن لا تكون الفردية ترجع إلى الزوجية بوجه، لا بنقصان، ولا بزيادة.
وكل قياس مركب فإما أن يكون موصلاً، وإما أن يكون مفصولاً. والموصل هو التي تكون النتائج المتقدمة للمطلوب، التي هي مقدمات المطلوب، مذكورة فيه بالفعل؛ سواء أكان التركيب بسبب حاجة إحدى المقدمتين إلى القياس، فيكون تركيباً واحداً؛ أو بسبب حاجة المقدمتين كلتيهما إليه، فيكون تركيباً مضاعفاً. قد ذكرت النتائج على انها نتائج، ثم ذكرت على أنها مقدمات، وذلك بأن يبتدأ من أعلى المقدمات عن المطلوب، فيقرن بين اثنين اثنين منها، فتنتج نتيجة هي مقدمة. فإن احتيج إلى أن تستنتج مقدمة أخرى فعل، وإن لم يحتج أخذت تلك المقدمة والمقدمة الأخرى، فأنتج منهما فتكون أربع مقدمات، ونتيجتان. فإما إن احتيج إلى أن يستنتج الأخرى أورد له قياس من مقدمتين، واستنتج. فيكون في طبقة واحدة أربع مقدمات، ونتيجتان. وفي الطبقة الثانية مقدمتان، ونتيجة. فتكون جميع لمقدمات في التركيب ستا، وجميع النتائج ثلاثاً، ويكون عدد النتائج نصف المقدمات، ويكون في كل قياس ثلاثة حدود ونتيجة. فإن كان على كل مقدمة قياس، وكانت المقدمتين مشتركتين، كانت ستة حدود. إلا أن الواحد منها مشترك في الوسط فتكون خمسة حدود. لكم من المشترك ومن أحد طرفي الخمسة تحصل إحدى المقدمتين القريبتين. ومن المشترك الطرف الآخر تحصل المقدمة الأخرى. ومن طرفي الخمسة يحصل المطلوب، الذي إليه يساق تركيب القياس.
وإن كان القياس على مقدمة واحدة فيكون هناك قياسان فقط. فتكون هناك أربعة مقدمات: مقدمتان على المقدم،ومقدمتان على النتيجة؛ إحداهما نتيجتان القياس الأول والأخرى غير نتيجته؛ وينتج مهما المطلوب. فيكون عدد المقدمات مع اخذ النتيجة مكررة أربعاً، وعدد النتائج اثنين. ويكون عدد المقدمات ضعف عدد النتائج، وإما عدد الحدود ههنا على عدد المقدمات. مثاله: كل ج بَ، وكل بَ دَ، فكل ج دَ. وكل ج دَ، وكل دَ هَ، فكل ج هَ. فتكون الحدود ج ، بَ ودَ، هَ.(1/337)