...
مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
مناهج العلم والمعرفة في ضوء الآيات القرآنية
د . صالح بن عبد القوي بن إسماعيل السنباني
المحرّم 1430هـ – يناير 2009م
مناهج العلم والمعرفة في ضوء الآيات القرآنية الكريمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفر ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
المقدمة :
يهدف البحث إلى التعريف بالمعرفة ومصادرها، ونظريات المعرفة ومناهجها المختلفة ونشأتها. ووسائل المعرفة وكيفية استخلاصها. ثم يتطرق البحث إلى تصور جديد،مستنبط من الآيات القرآنية:يتبين منه الفرق بين المعرفة والعلم ،ووسائل العلم والمعرفة، ومصادر العلم والمعرفة،ويقدم نظرة ناقدة لنظريات المعرفة عند الفلاسفة،ويتطرق إلى مبحث خاص بالعقل وتوافق الوحي مع العقل,وتوافق الوحي مع العلم التجريبي.
المعرفة ومناهجها القديمة والحديثة :(1/1)
تاه الفلاسفة في مسالك غير صحيحة حينما حاولوا الوصول إلى المعرفة واليقين بعيداً عن منهج الله الخالق سبحانه ، ومن أبرز الأدلة على هذا التخبط نظرياتهم المتعارضة والمتناقضة ، حيث قرر كل فريق منهم ما يمليه عليه فهمه القاصر و تأملاته البشرية المحدودة فخرجوا بما يعجب من قصوره الباحث المنصف (1) ، فمن قائل بعدم إمكانية المعرفة اليقينية للكائنات ومن هؤلاء من يقدح في الحس والعقل كطريقين للمعرفة (2) ، ومنهم (العنادية) المنكرين لوجود الموجودات بل ولوجود أنفسهم (3) ، وظهرت فرق تشك في قدرة العقل والحواس على الوصول إلى المعرفة، و يجعلون طريق المعرفة عبر شخص مقدس أو الإمام المعصوم كالفرق الباطنية .
وطائفة أخرى يبدءون طريق المعرفة بشك منهجي فينطلقون من الشك في أصول ومصادر المعرفة ليصلوا إلى الإيمان ، وآخرون يقرون بوجود الحقيقة وإمكان المعرفة البشرية ، ولكنها عندهم معرفة نسبية ، ومنهم من يرى أن الطريق العقلي هو سبيل المعرفة، ويقابلهم من يرى أن الطريق التجريبي المشاهد في عالم المادة هو أصل المعرفة .
__________
(1) )) علم الإيمان،ج2، ص48.الشيخ/عبد المجيد الزنداني وآخرون،ط2(1429ه-2008م)،طباعة دار المجد –صنعاء.
(2) )) المرجع السابق، ص49.
(3) )) تيسير التحرير،فصل حجية السنة،ج3،ص32، تأليف:محمد أمين المعروف بأمير بادشاه، دار النشر:دار الكاتب-بيروت.(1/2)
ومن أعظم التخبط والضلال في أصل المعرفة ، إنكار(السوفسطائيون) أصل المعرفة لإنكارهم الحواس والبديهيات (1) . إلى غير ذلك من أنواع النظريات والطرق التي يبتغي منها الوصول إلى المعرفة ، والتي تأثرت غالباً بالبعد عن المنهج الإلهي في المعرفة ، وبثقافات العصور المختلفة ، وباختلاف عقول ومدارك أصحابها ، وكذلك بأمزجتهم وأهوائهم وميولهم المختلفة. (2) ، وصدق الله العظيم إذ يقول : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (3) ، وقد تسببت هذه النظريات في شقاء البشرية أزمنة من الدهر. وقد بين الله شقاء من أعرض عن هداه قال تعالى:( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (4) .
العلم والمعرفة :
خلق الله سبحانه للإنسان أدوات للعلم والمعرفة ، ليصل بها إلى اليقين في إيمانه بالله ورسوله واليوم الآخر وكلِّ ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى، وسنبين هذه الأدوات بعد أن نعرف العلم والمعرفة ونتأمل الفرق بينهما في ضوء الآيات القرآنية ومعاني اللغة العربية .
العلم لغة :- مصدر عَلِم يعلَم ، مأخوذ من مادة ع ل م التي تدل على أثر بالشيء يتميز به عن غيره، وهو نقيض الجهل ، وعلمتَ الشيء : إذا عرفته. وعلم بالشيء : شعر به ، وعلم الأمر : أتقنه (5) .
__________
(1) )) درء تعارض النقل والعقل،أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول،المجلد الأول ،ص15، تأليف:شيخ الإسلام ابن تيمية، ط الأولى(1417ه-1997م) ،دار النشر:دار الكتب العلمية-بيروت.
(2) )) نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة للدكتور/ راجح الكردي.
(3) )) القصص:50.
(4) )) طه:124.
(5) )) مقاييس اللغة ، والمفردات ، ولسان العرب.(1/3)
العلم اصطلاحاً : للعلماء عبارات مختلفة في تعريف العلم ، ومما قالوا في ذلك :أنه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ،وقيل : المعنى الحقيقي للفظ العلم هو الإدراك ، ويطلق على ثلاثة معان بالاشتراك :
أ- الإدراك ، ب- الملكة المسماة بالعقل ، جـ- المعلومات.
وقيل :- حصول صورة الشيء في العقل ، وقيل : معرفة الشيء على ما هو به
وخلاصة هذه الأقوال :(أن العلم هو إدراك الشيء المعلوم على ما هو عليه إدراكاً حقيقياً
مطابقاً للواقع) (1) .
المعرفة لغة : مصدر من عرفه يعرفه ، وعرفه : علمه ، يكون العلم بمعنى المعرفة و إذا تعدى لمفعول واحد كأن تقول علمت زيداً ، أي عرفته ، وإذا لم يكن بمعنى المعرفة يتعدى لمفعولين مثل علمت زيداً صالحاً ،فقد يكون العلم بمعنى المعرفة ، والمعرفة ضدها الإنكار، ومنه المعروف والمنكر (2) .
المعرفة اصطلاحاً : هي العلم بالشيء على حقيقته ، وتكون في الغالب مسبوقة بنسيان حاصل بعد العلم .وللعلماء عبارات مختلفة في بيان معنى المعرفة قريبة من تعريفهم للعلم إلا أن العلم يسبق بالجهل والمعرفة تسبق غالباً بنسيان أو غياب.
__________
(1) )) علم الإيمان،ج2، ص30،الشيخ/عبد المجيد الزنداني وآخرون،ط2(1429ه-2008م)،طباعة دار المجد – صنعاء.
(2) )) قال الراغب : المعرفة والعرفان : إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره فهي أخص من العلم. وقال ابن فارس : العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلاً بعضه ببعض ومنه عرف الفرس لتتابع الشعر عليه ويدل الآخر على السكون والطمأنينة ومنه قولك : أمر معروف يعني تسكن إليه النفس وتطمئن فلا تنكره.(1/4)
قال ابن قيم الجوزية : المعرفة تتعلق بذات الشيء والعلم يتعلق بأحواله وتكون في الغالب لما غاب عن القلب بعد إدراكه فإذا أدركه قيل عرفه) (1) .
مراتب العلم والمعرفة: العلم والمعرفة بالأشياء مراتب كالآتي :
1- الوهم : تصور الشيء مع احتمال ضد راجح .
2- الشك : تصور الشيء مع احتمال ضد مساو .
3- الظن : تصور الشيء مع احتمال ضد مرجوح .
4- العلم : العلم بالشيء ومعرفته على حقيقته .
5- اليقين : وهو درجة من العلم والمعرفة لا يتطرق إليها الشك ، يقال يَقِن الشيء : ثبت وتحقق ووضح وزال الشك عنك فيه وهو العلم الذي لاشك معه (2) . قال تعالى:( وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) (3) ، ويقن الأمر ثبت ووضح ، ويطلق على الموت لأنه لا يمتري فيه أحد. قال تعالى:( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (4) :أي الموت .
__________
(1) )) مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين،ج3،ص369-370 ،تأليف :أبو عبد الله محمد بن أبي بكرأيوب الزرعي ،ط2(1393ه-1973م)، دار النشر: دار الكتاب العربي –بيروت ، تحقيق: محمد حامد الفقي.
(2) )) المعجم الوسيط ،(جزئين)،تأليف :إبراهيم مصطفى وآخرون،دار النشر:دار الدعوة،تحقيق مجمع اللغة العربية.
(3) )) البقرة:4
(4) )) الحجر:99(1/5)
وقد جاء اليقين في القرآن دالاً على العلم الجازم القائم على الدليل كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (1) ، كما دل القرآن على أن اليقين هو العلم الذي يطمئن إليه القلب كما في قصة إبراهيم الخليل مع ربه سبحانه. قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (2) . وخلاصة القول في اليقين : أنه درجة من العلم لا تقبل الشك. قال الكفوي : اليقين أن تعلم الشيء ولا تتخيل خلافه (3) .
المعرفة العلمية في العلوم التجريبية :
__________
(1) )) الأنعام:75
(2) )) البقرة:260
(3) )) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية،تأليف:عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،الطبعة الثالثة(1404ه)،دار النشر:المكتب الإسلامي-بيروت-لبنان.(1/6)
يعتبر فرنسيس بيكون أول من نقل المبدأ العلمي (قانون المعرفة العلمية) إلى أوربا ، ولا شك أن ذلك جاء نتيجة لتأثر الأوربيين بالعلوم التي كان يُدرِّسها المسلمون في الأندلس والمدارس العلمية المتاخمة لأوربا والقائمة على المنهج العلمي الذي لا يقبل إلا بالدليل والبرهان ، مهتدين بقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (1) ، وقد قامت النهضة العلمية الحديثة على هذا المبدأ الذي يقوم على التجربة الحسية التي تقود إلى المعرفة العلمية اليقينية وإنكار المنطق الأرسطوطاليسي الفلسفي الذي ساد العقل البشري آلاف السنين ، ومنذ ذلك الحين انفصلت الفلسفة عن العلوم (2) .
ينص القانون العلمي للمعرفة على أن :
التجربة و المشاهدة + الاستنتاج العقلي = الحقيقة العلمية
فنحن نشاهد التجربة ، ونراقبها ، ونعرف مقدماتها ، ونتابع سيرها ونلاحظ نتائجها، ثم نستنتج الحقيقة العلمية التي ربطت بين ما شاهدناه أولاً في مقدمة التجربة وبين ما شاهدناه ثانياً في نتائجها فالحقيقة العلمية إذاً هي الاستنتاج العقلي مما أدركته الحواس.
وبعض الظواهر لا يمكن إخضاعها للتجربة كسير الفلك وعمل الأجسام الحية لا ولكن الظاهرة المشاهدة تقوم مقام التجربة .
فالحقيقة العلمية هي : استنتاج وتعقل من التجارب والظواهر المشاهدة، ، وإن لم ندرك حقيقة ما يجري،فعندما يتحول الثلج إلى ماء بالحرارة ، فهذه حقيقة علمية بالرغم أننا لم نشاهد الحرارة حين تتحد بجزئيات الثلج وتصهرها وتحولها من مادة جامدة إلى مادة سائلة ، إنما نشاهد الثلج ومصدر الحرارة وقد قرب من الثلج ثم نشاهد بعد ذلك الماء وهو في حالة سائلة ، فنستنتج الحقيقة العلمية التي لا نشاهدها وهي أن الحرارة تصهر الثلج .
__________
(1) )) الاسراء:36.
(2) )) يعتبر عام1873م بداية عصر العلم التجريبي المنفصل عن الفلسفة.(1/7)
وعندما يتحد غازي الأكسجين والهيدروجين بالحرارة لتكوين الماء فهذه حقيقة علمية كيميائية استنتجناها من مشاهدتين :
المشاهدة الأولى : شاهدنا الأكسجين والإيدروجين ثم إدخال الحرارة عليهما .
والمشاهدة الثانية : شاهدنا تكون الماء بعد إدخال الحرارة على تركيب كل منهما، لكن أحداً لم يشاهد أبداً عملية اتحاد ذرات الغازين وقيام الحرارة بعملية توحيدهما التي نتج عنها الماء.
حقيقة المعرفة العلمية :
إن الصورة التي نشاهدها للأشياء ليست حقيقتها إنما هي ما فهمه الوعي في مركز الإبصار في المخ من أثر الإشارات التي يحملها العصب البصري من العين ، والتي حدثت في العصب البصري بتأثير أضواء الصورة الساقطة على شبكية العين ، والتي كانت نتيجة تأثير انعكاس أشعة الضوء المرئي من الجسم المشاهد.فالرؤية البصرية للشيء ليست إلا إدراكاً ووعياً وفهما لآثار الألوان المختلفة الساقطة من أي جسم على الشبكية .
كذلك السمع ليس إلا إدراكاً وفهماً ووعياً لنبضات العصب السمعي نتيجة لأثر اهتزازات الهواء على طبلة الأذن.
والمواد التي نشمها لا ندرك حقيقتها ، وصفة تركيبها بمجرد الشم ، ولكننا نفهم وندرك ونعي آثار هذه المواد عن طريق الإحساس بواسطة أعصاب الشم . والمواد التي نطعمها لا ندرك حقيقتها وإنما ندرك آثارها على أعصاب الذوق ثم نفهمها ونعيها بآثارها ، وكذلك جميع المواد المحسوسة تدرك وتفهم وتوعى بآثارها على الأعصاب الحسية ، وأي شيء لا يحدث أثراً على مستقبلات الرؤية أو السمع أو الشم أو اللمس أو الذوق فلا سبيل لنا لمعرفة أي شيء عنه، فالعلم يأتي عن طريق عرض آثار الأشياء والحقائق على الحواس أو على أجهزة الكشف العلمية ثم وعي وفهم وإدراك معنى هذه الإشارات بفعل ما زود الله الإنسان به من قوة عظمى في دماغه وقلبه لفهمها وتعقلها (1) .
__________
(1) )) علم الإيمان،ج2، ص25، الشيخ/عبد المجيد الزنداني وآخرون،ط2(1429ه-2008م)،طباعة دار المجد –صنعاء..(1/8)
هذه المنهجية العلمية في إدراك الحقيقة،عبر عن أهم صورها الإنسان العربي قبل الإسلام في معرفة الله بقوله (البعرة تدل على البعير، وأثر القدم يدل على المسير،فسماء ذات أبراج ،وأرض ذات فجاج أفلا تدل على العليم الخبير)
العلم بالله:
إن المنهجية السابقة العلمية القائمة على الدليل والبرهان هي نفس المنهجية التي عرفنا بها الله سبحانه ، و للعلم بالله سبحانه طرق نجملها فيما يأتي :-
الطريق الأول : طريق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، بعد أن أيدهم بالمعجزات المقنعة ، فعرفونا بربنا وخالقنا وما له من صفاتٍ وأفعال جلالٍ وكمال وما يتنزه عنه من صفات .
الطريق الثاني : آيات الله في مخلوقاته ، فقد دلنا الرسل على طريق منظور لمعرفة قدرة الله وبعض صفاته عن طريق إدراك آثار تلك الصفات فيما نشاهده من آيات في أنفسنا وفي الأرض والسموات. فهذه الآثار المشاهدة دليلُُ على من خلقها وأوجدها من العدم ، كما أنها دليل على بعض صفاته. فإذا رأينا أثر الحكمة في تضاعيف الكون دلتنا على أنها من صنع حكيم ، وإذا رأينا تدبير الأرزاق للكائنات كلها شهد لنا ذلك أنه من صنع الرزاق ، وإذا نظرنا إلى تقدير ما ستحتاج إليه المخلوقات شهد لنا ذلك أنه من صنع العليم الخبير ، وإذا رأينا سنن حفظ الكائنات والموجودات شهد لنا ذلك أنه من صنع الحافظ ، وإذا رأينا وحدة البناء وتكامل الكون شهد لنا أنه من صنع الواحد الأحد ، وهكذا نعرف الكثير من صفات ربنا عن طريق النظر في آثارها المشاهدة .
الطريق الثالث : الدعاء والإجابة(1/9)
إن أعلى ما وصلت إليه البشرية من منهج علمي في مجال العلوم التجريبية لمعرفة الحقائق هي المشاهدة في المعامل والمختبرات لآثار تلك الحقائق ، وإن إيمان المؤمنين بربهم يتأكد بطريقة عملية مشاهدة ، يراها الناس ، وتتمثل في إجابة الله لدعاء الداعين في قضاء شتى الحاجات في سائر الأوقات كإغاثتهم بالأمطار بعد طول جفاف ، أو إنزاله للشفاء بعد مرضٍ معضل، أو تفريجه لكُربٍ استحكمت حلقاتها ، أو تنزيله لنصر على المؤمنين في معارك غير متكافئة مع الكافرين. والحياة تزخر بهذه المشاهدات العلمية التي تدل كل عاقل على أن الله حي قيوم سميع مجيب قريب. قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (1) ، وقال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (2) .
الطريق الرابع : الأدلة العقلية فقد منح الله الإنسان قلباً يعقل به الحقائق ويرفض الأباطيل وجعله وسيله لمعرفته سبحانه بما يجزم به من الحقائق العقلية(ومن علوم القرآن مجادلة المبطلين،ودفع شبه الظالمين،وإقامة البراهين العقلية الموافقة للأدلة النقلية،وهذا الفن من علوم القرآن من خواص العلماء الربانيين، والجهابذة الراسخين،والعقلاء المستبصرين) (3) ومن هذه الأدلة :
1) العدم لا يخلق شيئا :
دلت جميع الأبحاث على أن جميع المخلوقات قد كانت عدماً ، وانتقالها من العدم إلى الوجود لا يكون إلا من صنع الخالق سبحانه ؛ لأن العدم لا يفعل شيئاً .
__________
(1) )) النمل:62.
(2) )) البقرة:186.
(3) )) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،ط (1421ه-200م)،ج3،ص37،تأليف:عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار النشر: مؤسسة الرسالة –بيروت ، تحقيق:ابن ععثيمين رحمه الله.(1/10)
2)لكل مصنوع صانع،فلابد لهذا الكون من خالق:
جمع العلماء الكثير من الأدلة المشاهدة على أن هذا الكون قد وجد وانبثق وأنه ليس أزلياً كما ظن الملا حدة،وهذا يستلزم أن له خالقاً عظيما.
3) المخلوقات آثار مشاهدة لبعض صفات الخالق :
فعندما ترى في الكون آثار القدرة وآثار الحكمة وآثار الخبرة وآثار العلم وآثار الرحمة وآثار الوحدة ، تدلك الآثار على أنها من صنع القادر الحكيم الخبير العليم الرحيم الواحد الأحد سبحانه ،وبهذا الدليل يتبين يتبين استحالة أن تكون الأوثان والأصنام ،وكل ما يعبد من دون الله،وأن الله وحده هو الخالق القادر الحكيم العليم.
4) فاقد الشيء لا يعطيه :
وإذا تأملت في الوجود كله لا ترى في شيء من هذه المخلوقات من يتصف بالصفات السابقة. فيعلم بذلك استحالة نسبة الخلق إلى شيء من هذه المخلوقات مفردة أو مجتمعة ، ففاقد الشئ لا يعطيه ، بل تشهد هذه الصفات أنها ليست لهذه المخلوقات وإنما هي صفات خالق هذه المخلوقات سبحانه وتعالى .
5) وحدانية الخالق :
إذا تأملت التكامل والاستقرار والثبات في بناء الكون دل ذلك على أنه يسير وفق إرادةٍ واحدةٍ لا منازع لها ، هي إرادة الخالق سبحانه وتعالى ، كما قال تعالى : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (1) ،وهكذا سائر الأدلة العقلية التي(تدل على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه،وتنزيهه عما لا يليق به) (2) وتنير الطريق أمام صاحبه لمعرفة ربه سبحانه وتعالى .
الطريق الخامس : دليل الفطرة
__________
(1) )) الأنبياء:22.
(2) )) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن،ج2،ص340(1415ه-1995م)،تأليف:محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي،دار النشر: دار الفكر للطباعة والنشر-بيروت،تحقيق:مكتبة البحوث والدراسات.(1/11)
فقد فُطِرَ الإنسان على الشعور بأن له إله خلق هذا الكون يحكمه ويتصرف فيه فيلجأ إليه الإنسان فطرياً إذا أحاطت به المخاطر والشدائد كما قال تعالى : (وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُوراً) (1) .
العلم بالرسل:
ولكي يطمئن الناس إلى صدق الرسل ولا يكذبوهم فقد أيدهم الله بالمعجزات والبينات القاطعة والحجج الباهرة التي تثبت صدقهم لكل إنسان مستعد لقبول الحق قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (2) .ومن تمام إقامة الحجة بهذه البينات (المعجزات) أن جعل الله لكل رسول بينة (3) ، تتناسب مع ثقافة قومه وعلومهم ،ومع برعوا به لتكون البينة أبلغ في الحجة عليهم ، كتأييده لموسى بالعصا التي تتحول إلى حية تسعى، وتأييده لعيسى بشفاء المرض وإحياء الموتى بأذن الله ، ولما جعل الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آخر الأنباء والمرسلين وبعثه للعالمين فقد أيده بأنواع عديدة من المعجزات تتناسب مع بني البشر قاطبة من زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وحتى قيام الساعة على اختلاف ثقافاتهم وأزمنتهم وأماكنهم ومستوياتهم العقلية ، والتي دخل على أساسها آلاف الملايين من البشر في الإسلام على اختلاف الأماكن والأزمنة والعلوم والثقافات .
وسائل العلم والمعرفة:
__________
(1) )) الإسراء:67.
(2) )) الحديد:25.
(3) )) التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب،ج3،ص90،الطبعة الأولى(1421ه-2000م)، تأليف فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي،دار النشر: دار الكتب العلمية-بيروت.(1/12)
لقد خلق الله للإنسان أجهزة عظيمة ليتمكن بها من اكتساب العلم والمعرفة قال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (1) ، ومفهوم الآية أن السمع والأبصار والأفئدة هي وسائل اكتساب العلم.
جهاز السمع :
__________
(1) )) النحل:78.(1/13)
جهاز السمع نعمة كبرى على الإنسان ووسيلة من وسائل تلقي وانتقال العلم من إنسان إلى آخر ، فيضيف الإنسان لعلمه علوم غيره التي اكتسبوها على مر العصور ، وآلة السمع (الأذن) تستقبل الأصوات من المنطقة المحيطة بنا ، وهي عضو مرهف الحساسية لاستقبال الأصوات (1) ، ويقوم المخ بفهم ووعي معاني تلك الذبذبات الصوتية القادمة من الأذن التي تتكون من الأذن الخارجية والأذن الوسطى والقوقعة ، فالأذن الخارجية توجه الأصوات للداخل فيهتز غشاء طبلة الأذن (tympanic membrane) ، ثم تنتقل الذبذبات عن طريق عظام الأذن الوسطى إلى القوقعة ، حيث توجد الخلايا السمعية ومنها تنقل الإشارات إلى الدماغ الذي يقوم بتسجيلها وتحليلها ودراستها ووعيها ، كما تتضمن عملية السمع تمييز مصدر الصوت بينما تقوم الأذن الداخلية بتحديد شدة الصوت ودرجة تردده وهذه الذبذبات التي تستقبل تنتقل من الغشاء الطبلي إلى الخلايا السمعية عن طريق سائل يملأ تجويف الأذن الداخلية (end lymph). وفي داخل القناة القوقعية يكون جهاز السمع (عضو كورتي Corti) حيث تتحول ذبذبات الموجة الصوتية إلى ومضات عصبية ينقلها عصب السمع إلى المخ . وعلى الرغم من معرفة كيفية استقبال الصوت في الأذن الداخلية فإن تحول هذه الذبذبات إلى إشارات تستقبل في الدماغ لا يزال غامضاً ،لأن الروح هي القوة الواعية لهذه الذبذبات.
__________
(1) )) إن تحويل الطاقة الصوتية المنبعثة من ثلاثين مليون إنسان يصرخون بأعلى أصواتهم إلى طاقة ضوئية تضيء ثلاثة مصابيح بقوة 100وات مما يدل على شدة حساسية السمع .(1/14)
ومن الله نعم الله على الإنسان أن جعل لسمعه حدوداً (عتبات إحساس) تختص بكل حاسة من الحواس، فالإنسان يستطيع سماع أصوات ذات تردد معين من (20ذبذبة ـ 20.000 ذبذبة) في الثانية ، فإن زاد على ذلك فلا يَسمع وإن قل فلا يَسمع ، بينما تسمع بعض الحيوانات خارج هذا المدى ، فالكلب مثلاً يسمع إلى (35.000) ذبذبة في الثانية ، والفأر يسمع إلى (100.000) ذبذبة في الثانية ، والخفاش يميز الترددات فوق الصوتية فيسمع إلى (120.000) ذبذبة في الثانية وهذا المدى المحدود لجهازنا السمعي لطف من الله بالإنسان لأنه يحجب عنه ضوضاء الأصوات التي يزخر بها الكون. كما يدلنا ذلك على أن هناك عوالم واسعة من الأصوات لا نستطيع سماعها. غير أننا نستطيع عن طريق جهاز السمع أن نتلقى أهم المعلومات المتعلقة بوجودنا : كالعلم بخالقنا وصفاته ، ورسوله إلينا ، ودينه الذي ارتضاه لنا ، والحكمة التي خلقنا من أجلها ، والمصير الذي ينتظرنا بعد موتنا ، وذلك عن طريق الوحي الذي حمله الرسل المؤيدون بالبينات والمعجزات الدالة على صدقهم وتلك هي الوظيفة الكبرى لجهاز السمع الفريد الذي لا يقدر أحد أن يهبه للمخلوقات إلا الله فلا يمكن لأحد غير الله أن يهب سمعاً لأصم أو بصراً لأعمى أو عقلاً لمجنون، قال تعالى:( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) (1) . لقد وهبنا الله هذا الجهاز السمعي كما وهبنا العقل لنسمع ونعقل ما جاءنا من الوحي والهدى ونميز بين الحق والباطل. ويوم القيامة يندم الذين عطلوا أسماعهم عن أهم ما خلقت له قال تعالى : (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (2) .
(2) جهاز الإبصار :
__________
(1) )) الأنعام:46.
(2) )) الملك:10.(1/15)
لقد جعل الله البصر وسيلة مهمة للعلم وقد أحكم الله هذه الوظيفة التي تقوم بها العين ، ومعظم الأشياء التي تدرك بحواس اللمس والذوق والشم يمكن أن تراها العين. ،إن العين من أبدع ما حبانا الله به من النعم ، نرى بها الأشياء المختلفة ونقدر أحجامها وأبعادها وألوانها وأشكالها. حيث يمر الضوء عند دخوله العين بالقرنية (cornea) وهي شفافة وتقوم بتقوية العين وحمايتها مع الصلبة (البيضاء اللون) ، ثم الحجرة الأمامية (anterior chamber) التي تحتوي على سائل شفاف (aqueous humor) ثم يمر عبر فتحة البؤبؤ (pupil) وهي الفتحة المركزية التي تشكلها القزحية (iris). وتضيق الفتحة المركزية (بؤبؤ الحدقة) في الضوء الشديد بواسطة ألياف من عضلات دائرية وتتسع في الضوء الخافتً أو الظلام حتى تصل أكبر كمية ممكنة من الضوء . ثم يمر بالعدسة البلورية وتوجد خلف العدسة كتلة هلامية ( الجسيم الزجاجي ) (vitreous body) ثم يسقط الضوء على الشبكية حيث توجد الخلايا الحسية ، وفيها النقرة الصفراء (fovea) ، وهي النقطة التي تكون الرؤية فيها أوضح ما يمكن ، كما يخرج العصب البصري (optic nerve) من النقطة العمياء (blind spot) . وتنتقل الصورة إلى مركز الرؤية في المخ خلال العصب البصري وكل خلية عصبية تنقل جزءاً معيناً من الصورة فينتقل سيل من المعلومات المنفصلة ثم تتجمع هذه المعلومات في المخ ليعيها الإنسان صورة متكاملة وصحيحة بعد أن كانت صورة مقلوبة في الشبكة وصورة مجزأة في الألياف العصبية.(1/16)
فالعين أعدها الخالق بتركيباتها الدقيقة في عالم الظلام في الأرحام وهيأها لاستقبال الضوء الذي ستراه بعد الولادة وبعد خروجك من الرحم المظلم ، ذلك لأنه يريدنا أن نرى وأن نتمتع بهذه النعمة ، وإن أهم شيء يريدنا أن نراه هو آياته وآثار صفات أفعاله في هذا الكون المحيط بنا ، كما قال تعالى: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (1) ، وقال تعالى (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (2) ، ولا تستطيع عين الإنسان أن تعمل إلا في مدى محدود من الأطوال الموجية للضوء المرئي يترواح بين 4000 و 7000انجستروم (3) وهناك مدى واسع من الأطوال الموجية التي لا تراها العين .
(3) الفؤاد :
__________
(1) )) يونس:101
(2) )) الروم:50.
(3) الإنجستروم (A) = 10أس ـ10 من المتر . والمتر = عشرة مليارات انجستروم .(1/17)
إن آلتي السمع والإبصار تعملان في حيز ضيق من هذا الكون المترامي الأطراف وقد تنخدعا في مجال عملها المحدود ، فالأذن لا تسمع كثيراً من الذبذبات ، والعين ترى العصا في حوض الماء مكسورة وهي ليست كذلك (ظاهرة انكسار الضوء) ، وترى الشمس بحجم قرص من الخبز وهي أكبر من الأرض بـ1.305.000مرة ، وقد تسحر العين فترى الأشياء على غير حقيقتها ، وقد ترى العين السراب ماءً وهو لا وجود له. إلا إن الله تعالى كمل قدرتي السمع والإبصار بقوة التعقل التي تميز بين الحقيقة وغيرها كالسراب والسحر والخداع البصري من جهة أخرى ،إن المعلومات التي تأتي من السمع والبصر وسائر الحواس تعرض على الفؤاد ليعيها فبدون وعيه لها لا تعدو أن تكون إشارات لا معنى لها ، وقد ذهب العلماء في تحديد الفؤاد بالقلب ،أوسط القلب ،أو شغاف القلب (1) ، فالقلب مكان الفؤاد وآلة التعقل ، وقد ذكر القرآن الكريم الصغو (الميل) من عمل القلب والفؤاد معاً. قال تعالى : (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (2) ، وقال سبحانه : (ولتصغى إليه أفئدة الذين لايؤمنون بالآخرة) (3) ، وأخبر القرآن أن الربط على القلب يؤثر في الفؤاد مما يدل على أن الفؤاد في القلب قال تعالى : (وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) (4) .
__________
(1) )) لسان العرب،تأليف:مجمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري،الطبعة الأولى، دار النسر:دار صادر-بيروت.
(2) )) التحريم:4.
(3) )) الأنعام :113
(4) )) القصص :10(1/18)
وقال تعالى : (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (1) ، قال ابن كثير: (والأفئدة هي العقول التي مركزها القلب على الصحيح وقيل الدماغ، والعقل به يُميَّز بين الأشياء ضارِّها ونافِعِها) وذلك عند تفسيره قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (2) .
وقد وصفت الآيات القرآنية الفؤاد بالصغو (وهو الميل) والهوى ، قال تعالى : (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (3) ، وقال تعالى :
__________
(1) )) الحج :46
(2) )) النحل:78
(3) )) الأنعام :113(1/19)
( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (1) . كما وصفت الآيات القرآنية الفؤاد بأنه يُقلَّب ويُثبَّت ويَفْرُغ. قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (2) ، وقال تعالى :( وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (3) ، وقال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (4) ، وقد وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلوب أهل اليمن وأفئدتهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً) (5) .
العقل لغة : هو العلم وهو نقيض الجهل من مادة : عقل يَعْقِل عَقْلاً : إذا عرف ما كان يجهله قبل. وهو : الحِجْرُ قال تعالى: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (6) ، أي لذي عقل (وسمي العقل
__________
(1) )) إبراهيم:37
(2) )) الأنعام:110
(3) )) هود:120
(4) )) القصص:10
(5) أخرجه البخاري ك/ المغازي ب/ قدوم الأشعريين وأهل اليمن ، ومسلم ك/ الإيمان ب/ تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه ، واللفظ له ،أنظر الموسوعة الإلكترونية للكتب الستة.
(6) الفجر:5.(1/20)
عقلاً لأنه يعِقل عما لا يحسُن ، وسمي حجراً لأنه يحجر صاحبه عن القبيح) (1) .
والنُّهي : العقول كما في قوله تعالى:( كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى) (2) ، وقال تعالى (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى) (3) : أي لذوي العقول (4) يقال للرجل : إنه لذو نُهْيَة إذا كان ذا عقل. قال الزجاج : واحد النُّهى : نُهْيَة. يقال فلان ذو نُهْيَة : أي ذو عقل يَنْتَهي به عن المقابح ويدخل به في المحاسن ، قال : وقال بعض أهل اللغة : ذو النُهْيَة: الذي يُنْتَهي إلى رأيه .
العقل في القرآن الكريم والسنة النبوية :
لم يرد لفظ "العقل" في القرآن الكريم وإنما جاء لفظه بصيغة ما تصرف منه أي بصيغة الفعل على النحو التالي : عقلوه ، نعقل ، يعقلها ، يعقلون ، تعقلون (5) .
__________
(1) زاد المسير في علم التفسير،تأليف:عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،الطبعة الثالثة(1404ه)،دار النشر:المكتب الإسلامي-بيروت لبنان .
(2) طه:54.
(3) طه:128.
(4) زاد المسير في علم التفسير،تأليف:عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،الطبعة الثالثة(1404ه)،دار النشر:المكتب الإسلامي-بيروت لبنان.
(5) أنظر الآيات في المصحف.(1/21)
أما في السنة النبوية فقد ورد لفظ العقل في الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً النساء : (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ... " ثم فسر نقص العقل بكون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ، وقد كشف العلم الحديث اضطراب وتداخل عمليتي التذكر والكلام(الشهادة) في مركزيهما الموجودين في فصي دماغ المرأة،بينما تعملان بصورة مستقلة في المركزين الموجودين في فصي دماغ الرجل. وأما الأحاديث الواردة في فضل العقل فلا أصل لشيء منها كما قرره جماعة من أئمة أهل الحديث كالحافظ الدارقطني وابن الجوزي ، يقول ابن تيمية : العقل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وكلام الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين وسائر أئمة المسلمين هو أمر يقوم بالعاقل سواء سُمّي عَرَضَاً أو صفة ، ليس هو عيناً بنفسها ، سواء سمي جوهراً أو جسماً أو غير ذلك (1) .
ومعنى هذا أنه ليس عند الإنسان عضو ماديُُ مستقل يسمى العقل وإنما العقل عملية التعقل التي تتم في الفؤاد،وآلته القلب،كما أن عملية السمع تتم في الدماغ وآلته الأذن،وعملية الإبصار تتم في الدماغ وآلته العين .
درء تعارض النقل مع الوحي :
قسم الأوائل حصول العلم بطريقين:
الأول:الطريق السمعي ويقصدون به الوحي.
الثاني:الطريق العقلي.
__________
(1) مجموع الفتاوى ج9،ص271 ،شيخ الإسلام أحمد بن تيمية،دار الكتب العلمية للطباعة والنشر والتوزيع-الرياض .(1/22)
ثم ذكر بعضهم إمكانية تعارض الدليل السمعي مع الدليل العقلي،ولما كان الاستدلال بالأدلة السمعية موقوف على مقدمات ظنية،ووجود المعارض العقلي له،قدموا الدليل العقلي على الدليل السمعي ،وقد رد العلماء عليهم وبين ابن تيمية فساد قانونهم الذي صدوا به عن سبيل الله جملة وتفصيلاً في كتابه(درء تعارض العقل والنقل،أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول)،إن استحالة تعارض نصوص الوحي مع صريح المعقول هي القاعدة التي نصل إليها من خلاصة البحوث العلمية المتعلقة بهذا الموضوع.
توافق الاكتشافات العلمية مع نصوص القرآن والسنة:
بعد اعتماد الإنسان على المنهج العلمي التجريبي توصل الإنسان إلى اكتشافات علمية دقيقة في شتى العلوم في الآفاق وفي الأنفس تتوافق بدقة مذهلة مع نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية ومن أمثلة ذلك:
1-اكتشاف الحواجز بين البحار.
2-اكتشاف خلق الجنين في أطوار.
3- اكتشاف الظلمات والأمواج الداخلية في البحار العميقة.
4-اكتشاف المصانع الخضر لتصنيع الغذاء في النباتات.
5-اكتشاف الحواجز بين الأنهار والبحار.
إن نصوص الوحي هي من عند الله،والقرآن الكريم هو كلام الله،والاكتشافات العلمية هي مشاهدات لفعل الخالق في هذا الكون،ويستحيل أن يكون هناك تعارض بين كلام الخالق وفعله،وإذا حدث أي تعارض فلاشك أن ذلك خلل في اعتبار قطعية أحدهما.
الخاتمة
نستخلص من هذا البحث الآتي:
أولاً: استحالة تعارض الوحي الإلهي مع تعقل الإنسان.
ثانياً: إن المنهجية العلمية في الوصول إلى العلم التجريبي والوصول إلى الحقائق العلمية تتم بثلاثة أجهزة زود الله بها الإنسان وهي:
1-السمع 2- البصر 3- الفؤاد
والعلم الإلهي الذي جاءنا من الله بواسطة رسل الله هو علم قطعي،فالعلم يحصل للإنسان بسماع كلام الله(الوحي)،وبمشاهدة آياته(العلم التجريبي)، ويستحيل وجود تعارض أو تناقض بينهما.(1/23)
ثالثاً: عندما تصادمت نصوص التوراة والإنجيل مع الاكتشافات العلمية،وجاءت اللادينية عل إثر ذلك دل هذا على التحريف والتبديل في هذه المصادر،وعلى ذلك لا يمكن اعتبارها من مصادر العلم.
رابعاً:إن توافق الاكتشافات العلمية مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية،يشهد بأن مصدرها الله وحده عالم الغيب والشهادة، ويشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه الرسول الخاتم.
المراجع
[1] القرآن الكريم.
[2] موسوعة كتب الحديث الستة
[3] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن،ج2،ص340(1415ه-1995م)،تأليف:محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي،دار النشر: دار الفكر للطباعة والنشر-بيروت،تحقيق:مكتبة البحوث والدراسات.
[4] التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب،ج3،ص90،الطبعة الأولى(1421ه-2000م)، تأليف فخر الدين محمد بن عمر التميمي الرازي الشافعي،دار النشر: دار الكتب العلمية-بيروت.
[5] تيسير التحرير،فصل حجية السنة،ج3،ص32، تأليف:محمد أمين المعروف بأمير بادشاه، دار النشر:دار الكاتب-بيروت.
[6] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان،ط (1421ه-200م)،ج3،ص37،تأليف:عبد الرحمن بن ناصر السعدي، دار النشر: مؤسسة الرسالة –بيروت ، تحقيق:ابن ععثيمين رحمه الله.
[7] درء تعارض النقل والعقل،أو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول،المجلد الأول ،ص15، تأليف:شيخ الإسلام ابن تيمية، ط الأولى(1417ه-1997م) ،دار النشر:دار الكتب العلمية-بيروت.
[8] زاد المسير في علم التفسير،تأليف:عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،الطبعة الثالثة(1404ه)،دار النشر:المكتب الإسلامي-بيروت لبنان.
[9] علم الإيمان،ج2، ص25، الشيخ/عبد المجيد الزنداني وآخرون،ط2(1429ه-2008م)،طباعة دار المجد –صنعاء.
[10] الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية،تأليف:عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي،الطبعة الثالثة(1404ه)،دار النشر:المكتب الإسلامي-بيروت-لبنان.(1/24)
[11] لسان العرب،تأليف:مجمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري،الطبعة الأولى، دار النسر:دار صادر-بيروت.
[12] مجموع الفتاوى ج9،ص271 ،شيخ الإسلام أحمد بن تيمية،دار الكتب العلمية للطباعة والنشر والتوزيع-الرياض .
[13] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين،ج3،ص369-370 ،تأليف :أبو عبد الله محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ،ط2(1393ه-1973م)، دار النشر: دار الكتاب العربي –بيروت ، تحقيق: محمد حامد الفقي.
[14] المعجم الوسيط ،(جزئين)،تأليف :إبراهيم مصطفى وآخرون،دار النشر:دار الدعوة،تحقيق مجمع اللغة العربية.
[15] معجم مقاييس اللغة، تأليف: أبي الحسن أحمد بن فارس بن زكريا،الطبعة الثانية(1420ه-1999م)،دار النشر:دار الجيل-بيروت-لبنان،تحقيق:عبد السلام محمد هارون.
[16] المفردات في غريب القرآن،تأليف: أبو القاسم الحسين بن محمد،دار النشر:دار المعرفة- لبنان،تحقيق:محمد سعيد الكيلاني.
[17] نظرية المعرفة بين القرآن والفلسفة تأليف: للدكتور راجح الكردي.
والحمد لله رب العالمين
السيرة الذاتية(c.v.)
الاسم :صالح بن عبد القوي بن إسماعيل السنباني
العمل الحالي: رئيس قسم الإعجاز العلمي -جامعة الإيمان
العنوان البريدي:as_sanabani@hotmail.com
ت 00967.777373097
الدراسة العلمية:
-التحق معيداً بجامعة الإيمان1415ه- 1995.
-التحق بالدراسات العليا جامعة الإيمان(علوم شرعية لمدة ثلاث سنوات).
-عين مدرساُ مساعداً في جامعة الإيمان(1421ه -2001)
-حصل على درجة المشيخة تخصص الإعجاز العلمي في الطب الوقائي(2002).
-حاصل على (دبلوم تربية-تمهيدي ماجستير-ماجستير)(مناهج وطرق تدريس العلوم)كلية التربية (جامعة صنعاء):
-عين رئيساً لقسم الإعجاز العلمي والعلوم الكونية (2003).
-حاصل على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن الكريم من جامعة أم درمان الإسلامية(2008).(1/25)
-حاصل على العديد من الإجازات العلمية،وتلقى دروسه الشرعية على أيدي مشايخ وأعلام في الأمة.
المشاركات العلمية:
-اشترك في تأليف مناهج وكتب علم الإيمان المقررة في السنوات الدراسية في جامعة الإيمان.
- اشترك في تأليف وإعداد مفردات ومساقات ومناهج قسم الإعجاز العلمي.
الإنتاج العلمي:
-للباحث عدداً من الأبحاث والكتب المنشورة وغير المنشورة
-تولى العديد من الأعمال واللجان العلمية في الجامعة.(1/26)