( ما لا يُشْرَعُ في حَقِ المَرِيض )
تمهيد
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.....
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ( سورة آل عمران: 102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} ( سورة النساء: 1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 70 ) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } ( سورة الأحزاب:70،71 )
أما بعد....
فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى- وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
- ممَّا لا يُشْرَعُ أنْ يَفْعَلَهُ المَرِيض (1) -
1- أن يتداوى بشيء محرم:
فلا يحمل طول المرض المريض على أن يطلب الشفاء بالحرام، فإن التداوي بالمحرم أمر قبيح عقلاً وشرعاً.
أما العقل: فهو أن الله- سبحانه وتعالى - إنما حرمه لخبثه، وتحريمه له حمية وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل.
__________
(1) )) استفدت كثيراً من كتاب" تحفة المريض" لعبد الله الجعيثن ـ حفظه الله ـ .(1/1)
فإنه وإن أثر في إزالتها، لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، وأيضاً فإن إباحة التداوي به ولاسيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة.
وأيضاً فإن في هذا الدواء المحرّم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه الشفاء.
وأما من جهة الشرع: فقد تواترت الأحاديث على أن التداوي بالمحرم لا يجوز.
فقد أخرج الإمام أحمد عن أم سلمة – رضي الله عنها –:
" أنها انتبذت، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنبيذ يهْدُر، فقال: ما هذا ؟ قلت: فلانة، اشتكت فوُصِفَ لها، قالت: فدفعه برجله فكسره وقال: إن الله لم يجعل في حرام شفاءً "
أخرج الحاكم وابن حبان عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" فإن الله لا يُدْرَكُ ما عنده إلا بطاعته ". (الصحيحة: 2866)
وأخرج أبو نعيم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" من تداوى بحرام لم يجعل الله له فيه شفاءً "
فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
" نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث " قال وكيع: يعنى السم
(صحيح الجامع: 6887)
أخرج الدولابي في الكنى عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن الله خلق الداء والدواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام "
(حسن سنده الألباني في الصحيحة: 1633 )
أخرج أبو يعلى عن أم سلمة – رضي الله عنها – قالت، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام "
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً عليه: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم "
(علقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم ووصله الطبرانى في الكبير)(1/2)
وعليه فلا يجوز التداوي بمحرم، فإن الله حرّم التداوي به، ولم يجعل شفاء الخلق فيما حرّم عليهم. فلا يجوز للمريض مهما كان حاله أن يلجأ إلى التداوي بما حرمه الله كالخمر مثلاً.
ولهذا لما سأل طارق بن سويد الحضرمي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر ؟
نهاه، أو كره أن يصنعها. فقال: إنما أصنعها للدّواء. فقال: إنه ليس بدواء، ولكنه داء.
(مسلم)
وبوّب عليه النووى – رحمه الله -(باب تحريم التداوي بالخمر) ( شرح مسلم:13/162)
وفي رواية عند مسلم أيضاً:
" قلت يا رسول الله: إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها ؟ قال: لا. فراجعته، قلت: إنا نستقى للمريض، قال: إن ذلك ليس شفاء ولكنه داء "
وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة ما نصه:
ما حكم الشريعة الإسلامية في شرب الخمر عند الضرورة، بأن يكون الدكتور أمر بشربها ؟
فأجابت اللجنة:
يحرم التداوي بشرب الخمر، وأي شيء مما حرمه من الخبائث عند جمهور العلماء.
فقد أخرج الإمام مسلم عن وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - :
"عن الخمر؟ فنهاه عنها، قال: أنا أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء "
(مسلم )
وأخرج أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
"إن الله تعالى أنزل الداء وأنزل الدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام"
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
" نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث " قال وكيع: يعنى السم
وأخرج البخاري في صحيحه عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:
" إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم "
وقد رواه أبو حاتم وابن حبان في صحيحه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -(1/3)
فهذه النصوص وأمثالها صريحة في النهي عن التداوي بالخبائث مصرحة بتحريم التداوي بالخمر، إذ هي أم الخبائث وجماع الإثم، ومن أباح التداوي بالخمر من علماء الكوفة فقد قاسه على إباحة أكل الميتة والدم للمضطر، وهو مع معارضته للنص ضعيف؛ لأنه قياس مع الفارق، إذ أكل الميتة والدم تزول بها الضرورة ويحفظ الرمق، وقد تعين طريقاً لذلك، أما شرب الخمر فلا يتعين إزالة المرض به بل أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأنه داء وليس بدواء، ولم يتعين طريقاً للعلاج، ورحم الله مسلماً استغنى في علاج مرضه بما أباح الله من الطيبات واكتفي به عما حرمه سبحانه من الخبائث والمحرمات. أهـ
تنبيهان:
أ) ما ذكرته اللجنة ينطبق على الأدوية المحرمة – كالمورفين والكوكايين وغيرها من المخدرات – كأدوية الكحة حيث يغلب عليها الكحول، فهذه ليست ضرورة، حتى وإن وصفها الطبيب، إذ البدائل الصالحة الخالية من الكحول كثيرة.
ب) إذا كانت غصة في الحلق – مثلاً – ولم تندفع إلا بشرب الخمر، جاز تعاطى القدر الذي ستدفع به الهلكة، بشرط عدم وجود مباح كالماء لدفع الهلكة.
2ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يسبَّ المرض:
فقد أخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ:
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل علي أم السائب أو أم المسيب، فقال: مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفزفين؟ قالت: الحمى. لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني أدم، كما يذهب الكير خبث الحديد".
ـ تزفزفين: معناه تتحركين حركة شديدة، أي ترتعدين.
- وعلى هذا لا ينبغى للإنسان أن يصف السرطان ويقول عنه: إنه مرض خبيث أو لعين.
فالمرض أي كان سبب أن يذهب الله به الخطايا ويحط الذنوب والأوزار ويكتب به الحسنات ويرفع به الدرجات.
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل على مريض يعوده قال له:
" لا بأس طهورٌ إن شاء الله " ... ... ... ... ... ... (البخاري)(1/4)
3ـ وممَّا ا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يأتي الكهان والعرافين والسحرة لرفع هذا البلاء:
اعلم أخى المريض– شفاك الله –
أنه يحرم إتيان السحرة والكهان والعرافين وغيرهم ممن يدعي علم الغيب، فإنهم كذبة، كما قال تعالى: { قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (النمل:65 )
أي: لا أحد من الخلق يعلم الغيب إلا الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ فإنه الذي يعلم ذلك دون من سواه. وهؤلاء يدّعون علم الغيب.
وقد تظافرت النصوص في التحذير من إتيان هؤلاء الذين يدّعون علم الغيب.
منها قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم:
" من أتى عرّافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " .
وهذا فيه أن مجرد سؤالهم ولو لم يحصل التصديق لهم محرّم ولا تقبل صلاة صاحبه أربعين ليلة.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" من أتى كاهناً أو عرافاً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
وهذا فيه أن من صدّق الكاهن فقد وقع في الكفر.
وأخرج أبو يعلى والبزار والطبرانى في الكبير عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:
" من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله فصدّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
" قال الحافظ في الفتح: سند جيد لكن لم يصرح برفعه ومثله لا يقال بالرأي " أهـ
وأخرج البزار بسند جيد عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَرَ أو سُحِرَ له، من أتى كاهناً فصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
قال الشيخ ابن باز – رحمه الله -:(1/5)
فلا يجوز للمريض أن يذهب إلى الكهنة الذي يدّعون المغيبات ليعرف منهم مرضه، كما لا يجوز أن يصدّقهم فيما يخبرونه به، فإنهم يتكلمون رجماً بالغيب، أو يستحضرون الجنّ ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء حكمهم الكفر والضلال إذا ادَّعوا علم الغيب (ثم ساق الأحاديث التي ذكرت)
ثم قال بعد كلام له: كما أن في هذه الأحاديث دليلاً على كفر الكاهن والساحر، لأنهما يدّعيان علم الغيب وذلك كفر، ولأنهما لا يتوصّلان إلى مقصدهما إلا بخدمة الجن وعبادتهم من دون الله، وذلك كفر بالله وشرك به – سبحانه – والمصدق لهم في دعواهم على الغيب يكون مثلهم.
وكل من تلقّى هذه الأمور عمن يتعاطاها فقد برئ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يجوز للمسلم أن يخضع لما يزعمونه علاجاً كنمنمتهم بالطلاسم أو صبّ الرصاص، ونحو ذلك من الخرافات التي يعملونها، فإن هذا من الكهانة والتلبيس على الناس، ومن رضي بذلك فقد ساعدهم على باطلهم وكفرهم ".
(مجموع فتاوى ابن باز:3/274-276)
وقال في موضع آخر بعد سياق طائفة من الآيات والأحاديث:
" وبما ذكرنا من الأحاديث يتبين لطالب الحق أن علم النجوم وما يسّمى بالطالع وقراءة الكف وقراءة الفنجان ومعرفة الخطّ، وما أشبه ذلك مما يدعيه الكهنة والعرّافون والسحرة كلها من علوم الجاهلية التي حرمها الله ورسوله، ومن أعمالهم التي جاء الإسلام بإبطالها والتحذير من فعلها أو إتيان من يتعاطاها، وسؤاله عن شيء منها، أو تصديقه فيما يخبر به من ذلك، لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به ". (مجموع فتاوى ابن باز:2/121)
وقال في موضع ثالث:(1/6)
"ويدخل في ذلك ما يدّعيه بعض الناس باسم الطبّ من الأمور الغيبية، إذا شمّ عمامة المريض، أو خمار المريضة، أو نحو ذلك قال: هذا المريض، أو هذه المريضة فعل كذا، وصنع كذا، من أمور الغيب التي ليس في عمامة المريض ونحوها دلالة عليها، وإنما القصد من ذلك التلبيس على العامّة حتى يقولوا: إنه عارف بالطب، وعارف بأنواع المرض وأسبابه، وربما أعطاهم شيئاً من الأدوية فصادف الشفاء بقدر الله، فظّنوا أنه بأسباب دوائه، وربما كان المرض بأسباب بعض الجنّ والشياطين الذين يخدمون ذلك المدعى للطب، ويخبرونه عن بعض المغيبات التي يطلعون عليها، فيعتمد على ذلك ويرضي الجنّ والشياطين بما يناسبهم من العبادة، فيرتفعون عن ذلك المريض، ويتركون ما قد تلبسوا به معه من الأذى. وهذا شيء معروف عن الجنّ والشياطين ومن يستخدمهم. فالواجب على المسلمين الحذر من ذلك، والتواصى بتركه، والاعتماد على الله سبحانه، والتوكلّ عليه في كل الأمور"
أهـ. (مجموع فتاوى ابن باز:1/170)
وذكر الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله –:
أنّ من أتى الكاهن فسأله من غير أن يصدّقه فهذا محرّم، وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، كما دلّ عليه الحديث السابق.
أما من أتى الكاهن فسأله وصدّقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله - عز وجل - ؛ لأنه صدّقه في دعوى علمه الغيب، وتصديق البشر في دعوى علم الغيب تكذيب لقوله تعالى:
{ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ } (النمل:65 )
و لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المتقدم:
" من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدَّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "
(مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين:2/184)
و أخيراً.....(1/7)
على كل مريض مهما كان مرضه أن يعتقد تمام الاعتقاد ويوقن تمام اليقين أن الشفاء ليس في الذهاب إلى الكهنة والعرافين والمشعوذين، إنما الشفاء من عند الله وأن الشافي على الحقيقة هو الله قال تعالى: { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } (الأنعام: 17)
وقال الخليل إبراهيم - عليه السلام - : {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80)
و كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" اللهم ربّ الناس مُذْهِب الباس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر سقماً"
(البخاري )
وفي رواية أخرى عند البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول:
" امسح الباس ربّ الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت "
4ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يكشف عورته من غير ضرورة:
قال تعالى:{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ } (الأعراف: 26)
وأخرج الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا ينظر الرجلُ إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأةُ إلى عورة المرأة "
وأخرج أبو داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك "
5 ـ وممَّا ا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يطلب من أحد أن يرقيه:
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" عُرِضتْ علىّ الأمم فأخذ النبيُ يمر معه الأمة، والنبي يمر معه النفر، والنبي يمر معه العشرة، والنبي يمر معه الخمسة، والنبي يمر وحده، فنظرت فإذا سواد كثير،
قلت: يا جبريل هؤلاء أمتى ؟ قال: لا. ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت فإذا سواد كثير،
قال: هؤلاء أمتك، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم، لا حساب عليهم ولا عذاب، قلت: ولم ؟(1/8)
قال: كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، فقام إليه عكاشة بن محصنٍ فقال: ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: اللهم اجعله منهم، ثم قام إليه رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلنى منهم. قال: سبقك بها عكاشة "
وفي رواية أخرى عند البخاري عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال:
"خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: عُرِضتْ علىّ الأمم، فجعل يمر النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد، ورأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق: فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هؤلاء الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون ،فقام عُكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله ؟ قال: نعم
فقام آخر فقال: أمنهم أنا ؟ فقال: سبقك بها عكاشة".
ملاحظات:
1ـ جاء في صحيح مسلم زيادة في بعض الروايات وهي: " لا يرقون "
و هذه الزيادة قد حكم عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بالشذوذ.
2ـ قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله في الفتح (10/257):
المراد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بترك الرقى والكى "لا يسترقون ولا يكتوون" الاعتماد على الله في دفع الداء، والرضا بقدره لا القدح في جواز ذلك، لثبوت وقوعه في الأحاديث الصحيحة وعن السلف الصالح، لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الأسباب، وإلى هذا نحا الخطابي ومن تبعه،(1/9)
قال ابن الأثيرـ رحمه الله ـ: هذا من صفة الأولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلائقها، وهؤلاء هم خواص الأولياء، ولا يرد على هذا وقوع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - . فعلاً وأمراً؛ لأنه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز. أهـ
3ـ جاء في حديث أخرجه ابن ماجة بسند صحيح عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل "
... ... ... ... ... (حسنه الألباني – رحمه الله – في صحيح سنن ابن ماجة )
و معنى الحديث: من اكتوى أو استرقى معتقداً النفع في الكي أو الرقية لذاتها أو لذات الفاعل (الراقى)
4ـ يشرع طلب غير المريض الرقية للمريض:
وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها –:
"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة، فقال: استرقوا لها فإن بها النظرة"
ـ سفعة: هو سواد في الوجه، وقيل: حمرة يعلوها سواد، وقيل: صفرة، وقيل: سواد مع لون آخر،
وقال ابن قتيبة: هي لون يخالف لون الوجه وقيل أخذه من الشيطان.
ـ فإن بها النظرة: قيل: عين من نظر الجن، وقيل: من الإنس، وبه جزم أبو عبيد الهروي.
6- وممَّا ا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يدعو على نفسه بالمعاقبة في الدنيا:
أخرج الإمام مسلم عن أنس - رضي الله عنه - :
" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلاً من المسلمين قد خفت، فصار مثل الفرخ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه ؟ قال: نعم. كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فاجعله لى في الدنيا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه
أفلا قلت:" اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
قال: فدعا الله فشفاه ".
- الفرخ: أي الضعف.(1/10)
- في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة: أظهر الأقوال في تفسير الحسنة في الدنيا: أنها العبادة والعافية، وفي الآخرة: الجنة والمغفرة.
وفي هذا الحديث النهي عن الدعاء بتعجيل العقوبة
وفيه: فضل الدعاء بـ "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
وفيه: جواز التعجب بقول سبحان الله. وفيه: استحباب عيادة المريض، والدعاء له،
وفيه كراهة تمنى الموت؛ لئلا يتضجر منه ويسخطه وربما شكا. أهـ ... ... ... ... (النووى شرح مسلم)
تنبيه:
تبين لنا من خلال الحديث السابق: أن المريض إذا دعا فربما يوافق ساعة إجابة، فلا يدعو إلا بالخير ولا يدعو على نفسه، فقد حذر النبي من هذا.
فقد أخرج الإمام مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على خَدَمِكم، ولا تدعوا على أحوالكم، لا توافقوا من الله – تبارك وتعالى – ساعة نيلٍ فيها عطاءٌ فيستجيب عطاءً، فيستجيب لكم ".
7ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يتمنى الموت، أو يدعُ به:
إذا اشتد على المريض المرض، وازداد عليه الألم، فلا يتمن الموت، ولا يدع به، فإن ذلك منهي عنه، وعمر المؤمن لا يزيده إلا خيراً، إن كان محسناً ازداد من الخير، وإن كان مسيئاً فإنه يقلع عن الذنب ويتوب منه.
أخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"لا يتمنين أحدكم الموت، إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعلّه أن يستعتب".
وفي لفظ مسلم:
" لا يتمنَّى أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمّره إلا خيراً ".
و معنى " يستعتب ": أي يسترضي الله بالإقلاع والاستغفار ( فتح البارى )
و قيل: " يستعتب ": أي يرجع عن موجب العتب عليه.
وأخرج الإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:(1/11)
"يا عم. لاتتمنّ الموت، فإنك إن كنت محسناً فإن تؤخر تزداد إحساناً إلى إحسانك خير لك وإن كنت مسيئاً فإن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك، فلا تتمن الموت".
وأخرج البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" لن يدخل أحداً عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: لا. ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل رحمته فسددوا وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب ".
قال الحافظ في الفتح (10/136) في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" إما محسناً فلعله أن يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله أن يستعتب " فيه إشارة إلى أن المعنى في النهي عن تمنى الموت والدعاء به هو انقطاع العمل بالموت، فإن الحياة يتسبب منها العمل، والعمل يحصل زيادة الثواب، ولو لم يكن إلا استمرار التوحيد فهو أفضل الأعمال.
وسمع عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - رجلاً يتمنّى الموت، فقال:
" لا تتمنّ الموت فإنك ميّت، لكن سلوا الله العافية "
( الزهد لهناد: صـ255)
وأخرج البخاري ومسلم عن قيس قال:
أتيت خباباً وقد اكتوى سبعاً، قال: لولا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوتُ به.
وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال:
" لا يتمنينّ أحدكم الموت لضرٍّ نزل به وفي رواية ـ من ضر أصابه – فإذا كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحينى ما كانت الحياة خيراً لى، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لى ".
قال النووى في شرح مسلم عند قول النبي: " لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه " فيه التصريح بكراهة تمنى الموت لضر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا، فأما إذا خاف ضرراً في دينه أو فتنة فيه فلا كراهة فيه. أهـ
- " فإن كان لابد فاعلاً ": فإن كان لابد متمنياً الموت.(1/12)
- " فليقل ": وهذا يدل على أن النهي عن تمنى الموت مقيداً بما إذا لم يكن على هذه الصيغة؛ لأن في التمنى المطلق نوع اعتراض ومراغمة للقدر المحتوم، وفي هذه الصورة المأمور به نوع تفويض وتسليم للقضاء.
قال السعدى – رحمه الله – في شرحه لحديث أنس السابق:
هذا نهي عن تمني الموت، للضر الذي ينزل بالعبد: من مرض أو فقر أو خوف، أو وقوع في شدة ومهلكة، أو نحوها من الأشياء، فإن في تمني الموت لذلك مفاسد
منها: أنه يؤذن بالتسخط والتضجر من الحالة التي أصيب بها، وهو مأمور بالصبر والقيام بوظيفته. ومعلوم أن تمنى الموت ينافي ذلك.
ومنها: أنه يُضعف النفس، ويحدث الخَوَر والكسل، ويوقع في اليأس. والمطلوب من العبد مقاومة هذه الأمور، والسعى في إضعافها وتخفيفها بحسب اقتداره، وأن يكون معه من قوة القلب وقوة الطمع في زوال ما نزل به. وذلك موجب لأمرين: اللطف الإلهي لمن أتى بالأسباب المأمور بها، والسعى النافع الذي يوجبه قوة القلب ورجاؤه.
ومنها: أن تمني الموت جهل وحمق، فإنه لا يدرى ما يكون بعد الموت، فربما كان كالمستجير من الضر إلى ما هو أفظع منه: من عذاب البرزخ وأهواله.
ومنها: أن الموت يقطع على العبد الأعمال الصالحة التي هو بصدد فعلها، والقيام بها، وبقية عمر المؤمن لا قيمة له، فكيف يتمنى انقطاع عملٍ. الذرّة منه خير من الدنيا وما عليها ؟
وأخص من هذا العموم: قيامه بالصبر على الضر الذي أصابه، فإن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.
و لهذا قال في آخر الحديث: " فإن كان لابد فاعلاً فليقل:" اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيراً لى، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لى ". فيجعل العبد الأمر مفوضاً إلى ربه الذي يعلم ما فيه الخير والصلاح له، والذي يعلم من مصالح عبده ما لم يعلم العبد، ويريد له من الخير ما لا يريده(العبد لنفسه)، ويلطف به في بلائه، كما يلطف به في نعمائه. أهـ (بهجة القلوب الأبرار صـ208 )
والحاصل ...(1/13)
أن تمني الموت لضر لا يجوز، وإنما يقع فيه الجاهل لظنه أن ما بعد الموت أيسر مما هو منه.
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم: " إنما استراح من غفر له ".
- ملحوظة: يجوز تمنى الموت عند خوف الفتنة.
1- فقد مر بنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لى "
2- وأيضاً في قول مريم ـ عليها السلام ـ: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً }
... ... ... ... ... ... ... ... ... ( مريم: 23 )
قال القرطبي في تفسير هذه الآية (11/92):
تمنت مريم ـ عليها السلام ـ الموت من جهة الدين لوجهين:-
أحدهما: أنها خافت أن يظن بها الشر في دينها وتُعَّير فيفتنها ذلك.
الثاني: لئلا يقع قوم بسببها في البهتان والنسبة إلى الزنا، وذلك مهلك، وعلى هذا الحد يكون تمنى الموت جائزاً.
وقال ابن كثير – رحمه الله – في تفسير هذه الآية أيضاً (3/103):
فيه دليل جواز تمنى الموت عند الفتنة، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية، فقالت: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي: قبل هذا الحال، { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً }
أي: لم أخلق ولم أك شيئاً. (قاله ابن عباس) أهـ
3ـ وأخرج الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
" اثنان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل الحساب ".
4ـ وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال:(1/14)
" احتبس عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة عن صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى عن الشمس فخرج سريعاً فثوب بالصلاة فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتجوز في صلاته فلما سلَّم دعو بسوطه قال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا ثم قال: أما إنى سأحدثكم ما حبسنى عنكم الغداة، إنى قمت الليل فتوضأت وصليت ما قدَّر لي، فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي – تبارك وتعالى – في أحسن صورة، فقال: يا محمد، قلت: لبيك رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: لا أدرى، قالها ثلاثاً. قال: فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برْدَ أنامله بين ثديىّ فتجلى لى كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد قلت: لبيك رب، قال: فيما يختصم الملأ الأعلى ؟ قلت: في الكفارات. قال: وما هنّ ؟
قلت: مشي الأقدام إلى الحسنات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء حين الكريهات، قال: فيم ؟ قلت: إطعام الطعام ولين الكلام، والصلاة بالليل والناس نيام.
قال: سل، قلت: اللهم إنى أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لى وترحمنى، وإذا أردت فتنة قوم فتوفني غير مفتون، أسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقرب إلى حبك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها حق فادرسوها ثم تعلموها"
5- وأخرج الإمام مالك عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبيه يقول:
" لما صدر عمر بن الخطاب من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مدّ يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني وضعفت قوتى وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد سننت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يميناً وشمالاً، وضرب بإحدى يديه على الأخرى ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله ورجمنا،(1/15)
والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها {الشيخ والشيخة فارجموها البتة }، فإنا قد قرأناها.
- قال مالك: قال يحيى من سعيد: قال سعيد ابن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر - رضي الله عنه - .
- قال يحيى: سمعت مالكاً يقول: قوله الشيخ والشيخة يعنى: الثيب والثيبة."
8- وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يسئ الظن بالله:
أيها المريض ... إذا طال بك المرض واستمرت بك الآلام فلا تُسيئنّ الظنّ بربّك، وتعتقد أن الله – سبحانه وتعالى – أراد بك سوءاً، وأنه لا يريد معافاتك، وأنه ظالم لك، فإن ذلك جرم عظيم وخطر جسيم.
فالله سبحانه وتعالى منزّه عن الظلم، وهو الحكم العدل، بل هو الرحيم المتفضّل، قال تعالى:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } (يونس: 44).
وقال سبحانه: { إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } ( النساء: 40)
وفي الحديث القدسى الذي أخرجه مسلم يقول الله - عز وجل - :
" يا عبادى، إنى حرّمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ".
فما أصابك وما قدّره الله عليك هو عين العدل،
كما في الدعاء الوارد عن النى - صلى الله عليه وسلم - :
" ماضٍ فيّ حكمك، عدلٌ فيّ قضاؤك " (أخرجه أحمد في مسنده)
واعلم أن الله عند ظنّك به، فإن ظننت به خيراً حقق ذلك لك، وإن ظننت به سوءاً كان الله عند ظنّك
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" يقول الله - عز وجل - أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني "
قال ابن القيم – رحمه الله – كما في الجواب الكافي صـ36:
" يعنى ما كان في ظنّه فإنى فاعله به ".
وعن حيّان بن أبي النضر – رحمه الله – قال:(1/16)
" خرجت عائداً ليزيد بن الأسود – رحمه الله – فلقيت واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - وهو يريد عيادته، فدخلنا عليه، فلما رأي واثلة بسط يده، وجعل يشير إليه. فأقبل واثلة حتى جلس، فأخذ يزيد بكفّي واثلة فجعلهما على وجهه. فقال له واثلة: كيف ظنّك بالله ؟ قال: ظنّى بالله، والله حسن. قال: فأبشر،
فإنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" قال الله جل وعلا: أنا عند ظنّ عبدي بي، إن ظنّ خيراً له، وإن ظنّ شراً فله".
وفي رواية: " أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ما شاء " (أحمد والطبراني)
و له شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ:
" أنا عند ظن عبدي بي، إن ظنّ خيراً فله، وإن ظنّ شراً فله ".
... ... ... ... ... (أحمد وقال الألباني سنده صحيح، ( الصحيحة:4/25)
و حسن الظنّ بالله تعالى هو عبادة وقربة إلى الله تعالى
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إنَّ حسن الظنّ من حسن العبادة ". (أحمد وأبو داود)
قال ملا على القاري – رحمه الله -:
" المعنى أن حسن الظنّ به تعالى من جملة العبادات الحسنة "
... (المرقاه: (8/779)
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن الظن بالله تعالى عند الموت
حيث قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في صحيح مسلم:
" لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل - "
قال النووى في شرح مسلم (17/28) قال العلماء:
هذا تحذير من القنوط، وحث على الرجاء عند الخاتمة، ومعنى حسن الظنّ بالله تعالى أن يظنّ أنه يرحمه ويعفو عنه.
جاء في كتاب حسن الظن بالله لابن أبي الدنيا صـ92 عن عبد الله بن المبارك
– رحمه الله -قال:
جئت إلى سفيان عشية عرفه وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملان فبكيت: فالتفت إلىّ، فقال: ما شأنك ؟ فقلت: من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال: الذي يظن أن الله - عز وجل - لا يغفر لهم"
وقال بعض الشعراء:
إذا ابتليت فثق بالله وارض به ... إن الذي يكشف البلوى هو الله(1/17)
إذا قضى الله فاستسلم لقدرته ... ما لامرئ حيلة فيما قضى الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسن فإن الصانع الله
(أدب الدنيا والدين صـ469 )
وللعلامة ابن القيم – رحمه الله – كلام قيّم حول إساءة الظنّ بالله ووجوب التوبة منه، إليك طرفاً منه. قال – رحمه الله -:
" أكثر الخلق، بل كلهم ـ إلا من شاء الله ـ يظنون بالله غير الحق ظنّ السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتّش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأي ذلك فيها كامناً كمون النار في الزّناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتباً على القدر وملامة له، واقتراحاً عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك.
فإن تنجُ منها تنج من ذى عظيمةٍ ... وإلا فإنّى لا إخالُك ناجياً
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كلّ وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظنَّ السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السّوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة، ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تَظْنُنْ بربّك ظن سوءٍ ... فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن نفسك قطّ خيراً ... وكيف بظالمٍ جانٍ جهول
وقل يا نفس مأوى كل سوءٍ ... أيُرجى الخير من ميتٍ بخيل
وظنّ بنفسك السّوآي تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل(1/18)
وما بك من تقى فيها وخيرٍ ... فتلك مواهب الرّب الجليل
وليس بها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدّليل
أهـ (زاد المعاد:3/235)
وقد ورد الوعيد في حق من قنط من رحمة الله أو شك في أمر الله
فقد أخرج الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله - عز وجل - رداءه فإن رداءه الكبرياء، وإزاره العزّ، ورجل شكّ في أمر الله، والقنوط من رحمة الله ". (صححه الألباني في صحيح الجامع:3059)
9 - وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن ييأس ويقنط من رحمة الله:
أخى المريض... إياك والقنوط من رحمة الله، قال تعالى: { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }
... ... ... ... ... ... ... ... ... ( الحجر: 56 )
أخى المريض... لا تيأس من الشفاء مهما طال بك المرض واشتد، ومهما كان نوع مرضك، وانتظر الفرج، فالفرج مع الكرب، ومع العسر يسر والبلايا لها انكشاف بإذن الله.
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } ( الشورى: 28 )
وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ( الشرح: 5-6 ) فلن يغلب عسرٌ يسرين.
أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس – رضي الله عنها – قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً ".
قال ابن رجب ـ رحمه الله ـ كما في جامع العلوم والحكم صـ196
ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب، واليسر بالعسر، أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى، وحصل للعبد اليأس في كشفه من جهة المخلوقين، تعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أكبر الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال الله تعالى:(1/19)
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ( الطلاق: 3 )
قال الفضيل - رحمه الله –:
والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك كل ما تريد.
أخرج الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي رزين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره "(1) قال: قلت: يا رسول الله، أويضحك الرب ؟ قال: " نعم " قلت: لن نعدم من ربّ يضحك خيراً.
وفي رواية:"يشرف عليكم أزلين (2) مشفقين، فيظل يضحك قد علم أن غيركم إلى قرب".
( أحمد والطبرانى في الكبير )
(1) وقوله:" غيره " الغير: تغيّر الحال وانتقالها إلى حال أخرى. (النهاية:3/401)، واللسان:5/40) .
(2) وقوله: " أزلين " الأزل: الشدة والضيق، أي أنكم في ضيق وشدة ويأس. (النهاية:1/46)
ولهذا نجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجانبين لليأس مهما اشتدت بهم الأمور
فهذا نبيّ الله يعقوب - عليه السلام - يقول بعد دهر طويل من فراقه ليوسف - عليه السلام - :
{يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}
... ... ... ... ... ... ... ... ... (يوسف: 87)
فمنّ الله عليه بأن جمعه بيوسف وأخيه بعد فراق طويل.
وهذا نبيّ الله أيوب - عليه السلام - مكث في بلائه ومرضه ثمانية عشر عاماً،ولم ييأس من الشفاء، ودعا ربّه كما حكى الله عنه:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }فكان فرج الله قريباً، قال تعالى:
{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (الأنبياء: 83-84 )(1/20)
و هناك حوادث كثيرة جداً تدل على وقوع الفرج بعد الشدّة، منها إنجاء الله نوحاً - عليه السلام - وإغراق قومه الكافرين، وإنجاء إبراهيم - عليه السلام - من النار، وفداء ولده إسماعيل، وإنجاء موسى- عليه الصلاة والسلام-وإغراق فرعون وقومه، وإنجاء يونس - عليه السلام - من بطن الحوت، ورفع عيسى - عليه السلام - إلى ربّه، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في وقائع كثيرة كقصته في الغار، ويوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، في حوادث كثيرة من هذا الباب. (الفرج بعد الشدة لابن أي الدنيا )
قال تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً{19} إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً{20} وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً{21} إِلَّا الْمُصَلِّينَ{22} الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} ( المعارج: 19-23 )
فلا تجزع بل استعن بالصبر والصلاة، فكل نبأ له مستقر، وكل دنيانا ستزول وتنتهي، فاخرج من الاختبار موفقاً صابراً.
قال إبراهيم الصولى – رحمه الله -:
ولرّب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنّها لا تفرج
... ... ... ... ... ... ... ... (وفيات الأعيان:1/46)
وقال عبيد بن الأبرص:
اصبر النفس عند كلّ مهمّ ... إن في الصبر حيلة المحتال
ربّما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجةٌ كحل العقال (1)
(مجموعة المعانى لعبد السلام هارون:2/623)
10ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ..أن يشكو الله إلى خلقه، يشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم:
عليك أخى المريض بأن لا تشكو الله – سبحانه – إلى المخلوقين، واجعل شكواك إلى الله - عز وجل - ، فهو أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين، وهو الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو الذي أنزل بك المرض، وهو القادر على رفعه وإزالته.
__________
(1) )) العقال: الرباط الذي يعقل به، وهو حبل تثنى به يد البعير إلى ركبته . ( لسان العرب (11/459) .(1/21)
قال ابن القيم – رحمه الله -: " والشكوى إلى الله - عز وجل - لا تنافي الصبر، فإن يعقوب - عليه السلام - وعد بالصبر الجميل – والنبي إذا وعد لا يخلف – ثم قال: { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ } (يوسف: 86 )
وكذلك أيوب - عليه السلام - أخبر الله عنه أنه وجده صابراً، مع قوله:{ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}
... ... ... ... ... ... ... ... (الأنبياء: 83 )
و إنما ينافي الصبر شكوى الله، لا الشكوى إلى الله، كما رأي بعضهم رجلاً يشكو إلى آخر فاقة وضرورة، فقال: يا هذا، تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك !! ثم أنشد:
وإذا عرتك بلية فاصبر لها ... صبر الكريم، فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
(مدارج السائلين:2/161)
وقد التزم سلفنا الصالح – رحمهم الله تعالى – هذا الأدب، فكانوا يكتمون ما أصابهم، ولا يشكون مولاهم إلى خلقه. فهذا داود الطائى – رحمه الله – يدخل عليه رجل وهو على فراشه، فرآه يزحف، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال داود: مه (1) ، لا تُعلم بهذا أحداً. وقد أُقعِد (2) قبل ذلك بأربعة أشهر لم يعلم بذلك أحد (3) .
(1) مه: أي: كفّ عن الحديث وهي كلمة زجر وفهي (تهذيب اللغة:5/384).
(2) أُقعِد: أي: صار مقعداً لا حراك به بسبب المرض (تهذيب اللغة:1/204).
(3) (تسلية أهل المصائب صـ216)، وفي سير أعلام النبلاء(4/92): أن عينه ذهبت منذ أربعين سنة ما شكاها إلى أحد .
وقال الأحنف بن قيس: أصبحت يوماً اشتكى ضرسى، فقلت لعمّى: ما نمت البارحة من وجع الضرس، حتى قلتها ثلاثاً. فقال: لقد أكثرت من ضرسك في ليلة واحدة، وقد ذهبت عينى هذه منذ ثلاثين سنة ما علم بها أحد . (الأحياء:4/133)
ـ ولما نزل في إحدى عينى عطاء – رحمه الله – الماء، مكث عشرين سنة لا يعلم به أهله، حتى جاء ابنه يوماً من قبل عينه التي أصيب فيها، فلم يشعر به، فعلم أن أباه قد أصيب.(1/22)
... ... ... ... ... ... ... (تسلية أهل المصائب صـ215)
وعن سيّار بن سلامة – رحمه الله – قال:
دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه، فقال: إن أحبَّه إلىّ أحبُّه إلى الله - عز وجل - "
ـ كان خالد الربعي – رحمه الله –
لا يشكو ما يجد إلى أحد، فاشتكى فأصابته ذات الجنب، فذهب ينخاع فانخاع دماً، فأنّ عندها، وكان لا يئن من وجع فاستدركها فقال: إلهي، ما هذا جزاؤك عندي أن أئِن على وجعٍ ابتليتني به.
سبحان الله !! يستحى أن يئن لئلا يكون أنينه هذا شكوى.
- وهكذا حدث مع الإمام أحمد – إمام أهل السنة والجماعة –:
كان يئن في مرضه الذي مات فيه، فبلغه حديث عن طاووس أن كل شيء يكتب حتى الأنين فما أنّ حتى مات – رحمة الله عليه –
قال بعض الفقهاء: من الصبر ألا تحدّث بمصيبتك ولا وجعك ولا تزكى نفسك.
ـ وقد ورد في فضل الإمساك عن الشكوى لغير الله ما جاء في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" قال الله تعالى: " إذا ابتليت عبدي المؤمن، فلم يشكني إلى عوّاده أطلقته من أساري، ثم أبدلته لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، ثم يستأنف العمل " (صحيح الجامع: 4301 )
* وأما إخبار المريض بمرضه لا على سبيل الشكوى، وإنما إجابة لسؤال من سأل عن حاله ؟
أو إخبار الطبيب، أومن يرجو أن يدله على الدواء، فهذا جائز ولا ينافي الصبر،
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود - رضي الله عنه - كما في صحيح البخاري:
" إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم"
و لما قالت عائشة – رضي الله عنها -: وارأساه !! قال: " بل أنا، وارأساه " ( البخاري )
وقال البخاري – رحمه الله – كما في فتح الباري (10/123):باب ما رخّص للمريض
أن يقول: " إنى وجع " أو " وارأساه " أو " اشتد بي الوجع "، ثم ساق أحاديث تشهد لذلك، منها حديث ابن مسعود وحديث عائشة السابقان.(1/23)
تنبيه: يستحب للمريض إذا سئل عن حاله أن يبدأ أولاً بحمد الله تعالى، ثم يبين حالة بعد ذلك.
فقد قال ابن مفلح – رحمه الله -: " ويخبر بما يجده بلا شكوى، وكان أحمد – رحمه الله –
يحمد الله أولاً، لخبر ابن مسعود - رضي الله عنه - :"إذا كان الشكر قبل الشكوى فليس بشاك" (الفروع:2/176)
قال ابن القيم – رحمه الله – كما في عدة الصابرين صـ107:
إذا حمد المريض الله ثم أخبر بعلته لم يكن شكوى منه، وإن أخبر بها تبّرما ًوتسخطاً كان شكوى منه.
11ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... الإضرار في الوصية:
قال تعالى: { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ{12} تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{13} وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (النساء 12- 14)
قال ابن عادل: اعلم أن الإضرار في الوصية يقع على وجوه منها:-
أن يوصى بأكثر من الثلث، أو يقر بكل ماله أو بعضه لأجنبي، أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له دفعاً للميراث عن الورثة، أو يقر بأن الدين الذي كان له على فلان استوفاه منه، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص، ويشترى شيئاً بثمن غال، كل ذلك لغرض أن لا يصل المال إلى الورثة، أو يوصى بالثلث لا لوجه الله لكن لغرض تنقيص الورثة، فهذا هو الإضرار في الوصية. أهـ
ومن الإضرار في الوصية أن يوصي على أطفاله مَنْ يعلم من حاله أنه يأكل مالهم، أو يكون سبباً لضياعه لكونه لا يحسن التصرف فيه.... أو نحو ذلك .
ومن الإضرار كذلك في الوصية أن يلجأ البعض إلى التحايل بالبيع الصورى لابنته الوحيدة؛ لإسقاط حقوق إخوته في الميراث، وفريق آخر يسقط حق بناته بالبيع الصورى لأولاده الذكور.(1/24)
وفي الحديث:" إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ".
فلو أوصى لأحد الورثة فلا تنفذ إلا برضا بقية الورثة، وكذلك لو أوصى في أكثر من الثلث.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
"وددت لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : الثلث والثلث كثير"
و الواجب على من اقتطع حق الورثة بمثل هذا الإضرار أن يبادر برد الحقوق لأصحابها، وعلى الموصي أن يتقي الله في نفسه وفي الورثة لاسيما في هذه الحالة التي يصدق فيها الكاذب، ويتوب فيها الفاجر، فإقدامه على الإضرار دليل ظاهر على قسوة قلبه وفساد عقله وغاية جرأته، ويخشى عليه أن يُختم له بشر عمله فيدخل النار.
فقد أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"إن الرجل (المرأة) ليعمل بطاعة الله - عز وجل - سبعين سنة ثم يحضرهما الموت فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه - :{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ .... حتى بلغ... وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ( النساء: 12-13 )
12ـ وممَّا لا يُشْرَعُ للمَرِيض ... أن يتحسر وييأس على ما فاته من حظوظ الدنيا أثناء المرض:
فنقول لكل مريض: إذا كان مرضك سبّب لك فوات حظّ من حظوظ الدنيا من منصب أو مال، أو غير ذلك فلا تأس عليه ولا تكترث به، فإن الدنيا بأجمعها لا تستحق الحزن لفقدها، فإنها حقيرة عند موجدها وخالقها. قال سبحانه وتعالى:
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } ( الحديد: 20)
وأخرج الإمام مسلم عن المستورد بن شداد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(1/25)
"والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليمّ، فلينظر بم يرجع" - اليمّ: البحر ... ... ... ... ... ... ... (النهاية:5/300)
و معناه – كما قال النووى -رحمه الله – كما في شرح مسلم (17/199):
" ما الدنيا بالنسبة إلى الآخرة في قصر مدتها وفناء لذّاتها ودوام الآخرة، ودوام لذاتها ونعيمها إلا كنسبة الماء الذي يعلق بالإصبع إلى باقى البحر".
وأخرج الإمام مسلم عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - :
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كَنَفَتَيه فمرّ بجدى أَسَكّ ميت. فتناوله فأخذه بأذنه، ثم قال:"أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم ؟ " فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به ؟! قال:"أتحبون أنه لكم ؟ " قالوا: والله، لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أَسَكّ، فكيف وهو ميت ؟!! فقال: " فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ".
وقوله: " كنفتيه ": أي جانبيه. و" أ سكّ ": صغير الأذنين.
وأخرج الترمذي عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء "
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (صحيح الجامع:5292)
ثم مما يدفع عنك القلق المتعلق بالرزق، علمك بأنه مضمون لا ينتقص منه شيء بسبب من الأسباب، وأن الله قد تكفّل برزق العباد، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ( الذاريات: 58 )
وقال جل وعلا: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}(هود: 6)
وقد قدّر لك نصيبك من الرزق وأنت في بطن أمك قبل نفخ الروح فيك.
فقد أخرج البخاري عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدّثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق:(1/26)
" إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقى أم سعيد. ثم ينفخ فيه الروح ".
- العلقة: الدم الجامد الغليظ. ( تهذيب اللغة:1/243)
- المضغة: القطعة من اللحم، قدر ما يُمضغ (النهاية:4/339)
وأخرج البزار عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
" إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله ". وفي رواية: " أكثر مما يطلبه أجله ".
... ... ... ... ... ... ... (هذا اللفظ عند الطبرانى، وهو في صحيح الجامع:1630)
وأخرج ابن حبان والحاكم عن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لا تستبطئوا الرزق، فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له، فأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام ". (صحيح الجامع:7323)
وبعد...
فهذا آخر ما تيسر جمعه في هذه الرسالة
نسأل الله أن يكتب لها القبول، وأن يتقبلها منا بقبول حسن، كما أسأله سبحانه أن ينفع بها مؤلفها وقارئها ومن أعان علي إخراجها ونشرها......إنه ولي ذلك والقادر عليه.
هذا وما كان فيها من صواب فمن الله وحده، وما كان من سهو أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وهذا بشأن أي عمل بشري يعتريه الخطأ والصواب، فإن كان صواباً فادع لي بالقبول والتوفيق، وإن كان ثمّ خطأ فاستغفر لي
وإن وجدت العيب فسد الخللا ... جلّ من لا عيب فيه وعلا
فاللهم اجعل عملي كله صالحاً ولوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه نصيب
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،
هذا والله تعالى أعلى وأعلم.........
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك(1/27)