|
الطِّبُّ النَّبَوِيُّ
لِلإِمامِ ابْنِ قَيِّم الجَوْزِيَّةِ
رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
فَصْلٌ الطّبّ النّبَوِيّ
<5> وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمَلٍ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُغَازِي وَالسّيَرِ وَالْبُعُوثِ وَالسّرَايَا وَالرّسَائِلِ وَالْكُتُبِ الّتِي كَتَبَ بِهَا إلَى الْمُلُوكِ وَنُوّابِهِمْ .
وَنَحْنُ نُتْبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ فُصُولٍ نَافِعَةٍ فِي هَدْيِهِ فِي الطّبّ الّذِي تَطَبّبَ بِهِ وَوَصَفَهُ لِغَيْرِهِ ،وَنُبَيّنُ مَا فِيهِ مِنْ الْحِكْمَةِ الّتِي تَعْجِزُ عُقُولُ أَكْثَرِ الْأَطِبّاءِ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا وَأَنّ نِسْبَةَ طِبّهِمْ إلَيْهَا كَنِسْبَةِ طِبّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ فَنَقُولُ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ وَمِنْهُ نَسْتَمِدّ الْحَوْلَ وَالْقُوّةَ .
[ الْمَرَضُ نَوْعَانِ ]
الْمَرَضُ نَوْعَانِ مَرَضُ الْقُلُوبِ وَمَرَضُ الْأَبَدَانِ وَهُمَا مَذْكُورَانِ فِي الْقُرْآنِ .
[ نَوْعَا مَرَضِ الْقَلْبِ ]
(1/1)
وَمَرَضُ الْقُلُوبِ نَوْعَانِ مَرَضُ شُبْهَةٍ وَشَكّ وَمَرَضُ شَهْوَةٍ وَغَيّ وَكِلَاهُمَا فِي الْقُرْآنِ . قَالَ تَعَالَى فِي مَرَضِ الشّبْهَةِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا [ الْبَقَرَةُ 10 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَلِيَقُولَ الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللّهُ بِهَذَا مَثَلًا [ الْمُدّثّرُ 31 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقّ مَنْ دُعِيَ إلَى تَحْكِيمِ الْقُرْآنِ وَالسّنّةِ فَأَبَى وَأَعْرَضَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ [ النّورُ 48 - 49 ] فَهَذَا مَرَضُ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ . <6> وَأَمّا مَرَضُ الشّهَوَاتِ فَقَالَ تَعَالَى : يَا نِسَاءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كَأَحَدٍ مِنَ النّسَاءِ إِنِ اتّقَيْتُنّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [ الْأَحْزَابُ 32 ] . فَهَذَا مَرَضُ شَهْوَةِ الزّنَى وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مَرَضُ الْأَبْدَانِ ]
(1/2)
وَأَمّا مَرَضُ الْأَبَدَانِ فَقَالَ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [ النّورُ 61 ] وَذَكَرَ مَرَضَ الْبَدَنِ فِي الْحَجّ وَالصّوْمِ وَالْوُضُوءِ لِسِرّ بَدِيعٍ يُبَيّنُ لَك عَظَمَةَ الْقُرْآنِ وَالِاسْتِغْنَاءَ بِهِ لِمَنْ فَهِمَهُ وَعَقَلَهُ عَنْ سِوَاهُ وَذَلِكَ أَنّ قَوَاعِدَ طِبّ الْأَبْدَانِ ثَلَاثَةٌ حِفْظُ الصّحّةِ وَالْحِمْيَةُ عَنْ الْمُؤْذِي وَاسْتِفْرَاغُ الْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأُصُولَ الثّلَاثَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الثّلَاثَةِ .
فَقَالَ فِي آيَةِ الصّوْمِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَر [ الْبَقَرَةُ 184 ] فَأَبَاحَ الْفِطْرَ لِلْمَرِيضِ لِعُذْرِ الْمَرَضِ وَلِلْمُسَافِرِ طَلَبًا لِحِفْظِ صِحّتِهِ وَقُوّتِهِ لِئَلّا يُذْهِبَهَا الصّوْمُ فِي السّفَرِ لِاجْتِمَاعِ شِدّةِ الْحَرَكَةِ وَمَا يُوجِبُهُ مِنْ التّحْلِيلِ وَعَدَمِ الْغِذَاءِ الّذِي يُخْلِفُ مَا تَحَلّلَ فَتَخُورُ الْقُوّةُ وَتَضْعُفُ فَأَبَاحَ لِلْمُسَافِرِ الْفِطْرَ حِفْظًا لِصِحّتِهِ وَقُوّتِهِ عَمّا يُضْعِفُهَا .
(1/3)
وَقَالَ فِي آيَةِ الْحَجّ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ الْبَقَرَةُ 196 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ وَمَنْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ مِنْ قَمْلٍ أَوْ حِكّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ اسْتِفْرَاغًا لِمَادّةِ الْأَبْخِرَةِ الرّدِيئَةِ الّتِي أَوْجَبَتْ لَهُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ بِاحْتِقَانِهَا تَحْتَ الشّعَرِ فَإِذَا حَلَقَ رَأْسَهُ تَفَتّحَتْ الْمَسَامّ فَخَرَجَتْ تِلْكَ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا فَهَذَا الِاسْتِفْرَاغُ يُقَاسُ عَلَيْهِ كُلّ اسْتِفْرَاغٍ يُؤْذِي انْحِبَاسُهُ . وَالْأَشْيَاءُ الّتِي يُؤْذِي انْحِبَاسُهَا وَمُدَافَعَتُهَا عَشَرَةٌ الدّمُ إذَا هَاجَ وَالْمَنِيّ إذَا تَبَيّغَ وَالْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرّيحُ وَالْقَيْءُ وَالْعُطَاسُ وَالنّوْمُ وَالْجُوعُ <7> وَالْعَطَشُ . وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْعَشَرَةِ يُوجِبُ حَبْسُهُ دَاءً مِنْ الْأَدْوَاءِ بِحَسْبِهِ . وَقَدْ نَبّهَ سُبْحَانَهُ بِاسْتِفْرَاغِ أَدْنَاهَا وَهُوَ الْبُخَارُ الْمُحْتَقَنُ فِي الرّأْسِ عَلَى اسْتِفْرَاغِ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ كَمَا هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ التّنْبِيهُ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى .
[ الْحِمْيَةُ ]
(1/4)
وَأَمّا الْحِمْيَةُ : فَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْوُضُوءِ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا [ النّسَاءُ 43 ] فَأَبَاحَ لِلْمَرِيضِ الْعُدُولَ عَنْ الْمَاءِ إلَى التّرَابِ حِمْيَةً لَهُ أَنْ يُصِيبَ جَسَدَهُ مَا يُؤْذِيهِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْحِمْيَةِ عَنْ كُلّ مُؤْذٍ لَهُ مِنْ دَاخِلٍ أَوْ خَارِجٍ فَقَدْ أَرْشَدَ - سُبْحَانَهُ - عِبَادَهُ إلَى أُصُولِ الطّبّ وَمَجَامِعِ قَوَاعِدِهِ وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَدْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَنُبَيّنُ أَنّ هَدْيَهُ فِيهِ أَكْمَلُ هَدْيٍ .
[ طِبّ الْقُلُوبِ ]
فَأَمّا طِبّ الْقُلُوبِ فَمُسَلّمٌ إلَى الرّسُلِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَلَا سَبِيلَ إلَى حُصُولِهِ إلّا مِنْ جِهَتِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ فَإِنّ صَلَاحَ الْقُلُوبِ أَنْ تَكُونَ عَارِفَةً بِرَبّهَا وَفَاطِرِهَا وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ وَأَنْ تَكُونَ مُؤْثِرَةً لِمَرْضَاتِهِ وَمُحَابّهِ مُتَجَنّبَةً لِمَنَاهِيهِ وَمَسَاخِطِهِ وَلَا صِحّةَ لَهَا وَلَا حَيَاةَ الْبَتّةَ إلّا بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَلَقّيهِ إلّا مِنْ جِهَةِ الرّسُلِ وَمَا يُظَنّ مِنْ حُصُولِ صِحّةِ الْقَلْبِ بِدُونِ اتّبَاعِهِمْ فَغَلَطٌ مِمّنْ يَظُنّ ذَلِكَ وَإِنّمَا ذَلِكَ حَيَاةُ نَفْسِهِ الْبَهِيمِيّةِ الشّهْوَانِيّةِ وَصِحّتُهَا وَقُوّتُهَا وَحَيَاةُ قَلْبِهِ وَصِحّتُهُ وَقُوّتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ وَمَنْ لَمْ يُمَيّزْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَلْيَبْكِ عَلَى حَيَاةِ قَلْبِهِ فَإِنّهُ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَعَلَى نُورِهِ فَإِنّهُ مُنْغَمِسٌ فِي بِحَارِ الظّلُمَاتِ .
فَصْلٌ
(1/5)
[ طِبّ الْأَبْدَانِ ]
وَأَمّا طِبّ الْأَبْدَانِ فَإِنّهُ نَوْعَانِ
نَوْعٌ قَدْ فَطَرَ اللّهُ عَلَيْهِ الْحَيَوَانَ نَاطِقَهُ وَبَهِيمَهُ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُعَالَجَةِ طَبِيبٍ كَطِبّ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْبَرْدِ وَالتّعَبِ بِأَضْدَادِهَا وَمَا يُزِيلُهَا .
<8> وَالثّانِي : مَا يَحْتَاجُ إلَى فِكْرٍ وَتَأَمّلٍ كَدَفْعِ الْأَمْرَاضِ الْمُتَشَابِهَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْمِزَاجِ بِحَيْثُ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ الِاعْتِدَالِ إمّا إلَى حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ مَا يَتَرَكّبُ مِنْ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَهِيَ نَوْعَانِ إمّا مَادّيّةٌ وَإِمّا كَيْفِيّةٌ أَعْنِي إمّا أَنْ يَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِحُدُوثِ كَيْفِيّةٍ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ أَمْرَاضَ الْكَيْفِيّةِ تَكُونُ بَعْدَ زَوَالِ الْمَوَادّ الّتِي أَوْجَبَتْهَا فَتَزُولُ مَوَادّهَا وَيَبْقَى أَثَرُهَا كَيْفِيّةً فِي الْمِزَاجِ .
وَأَمْرَاضُ الْمَادّةِ أَسْبَابُهَا مَعَهَا تَمُدّهَا وَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْمَرَضِ مَعَهُ فَالنّظَرُ فِي السّبَبِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ أَوّلًا ثُمّ فِي الْمَرَضِ ثَانِيًا ثُمّ فِي الدّوَاءِ ثَالِثًا . أَوْ الْأَمْرَاضُ الْآلِيّةُ وَهِيَ الّتِي تُخْرِجُ الْعُضْوَ عَنْ هَيْئَتِهِ إمّا فِي شَكْلٍ أَوْ تَجْوِيفٍ أَوْ مَجْرًى أَوْ خُشُونَةٍ أَوْ مَلَاسَةٍ أَوْ عَدَدٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ وَضْعٍ فَإِنّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ إذَا تَأَلّفَتْ وَكَانَ مِنْهَا الْبَدَنُ سُمّيَ تَأَلّفُهَا اتّصَالًا وَالْخُرُوجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ فِيهِ يُسَمّى تَفَرّقَ الِاتّصَالِ أَوْ الْأَمْرَاضُ الْعَامّةُ الّتِي تَعُمّ الْمُتَشَابِهَةَ وَالْآلِيّةَ .
(1/6)
وَالْأَمْرَاضُ الْمُتَشَابِهَةُ هِيَ الّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمِزَاجُ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَهَذَا الْخُرُوجُ يُسَمّى مَرَضًا بَعْدَ أَنْ يَضُرّ بِالْفِعْلِ إضْرَارًا مَحْسُوسًا . وَهِيَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَضْرُبٍ أَرْبَعَةٌ بَسِيطَةٌ وَأَرْبَعَةٌ مُرَكّبَةٌ
فَالْبَسِيطَةُ الْبَارِدُ وَالْحَارّ وَالرّطْبُ وَالْيَابِسُ .
وَالْمُرَكّبَةُ الْحَارّ الرّطْبُ وَالْحَارّ الْيَابِسُ وَالْبَارِدُ الرّطْبُ وَالْبَارِدُ الْيَابِسُ .
وَهِيَ إمّا أَنْ تَكُونَ بِانْصِبَابِ مَادّةٍ أَوْ بِغَيْرِ انْصِبَابِ مَادّةٍ وَإِنْ لَمْ يَضُرّ الْمَرَضُ بِالْفِعْلِ يُسَمّى خُرُوجًا عَنْ الِاعْتِدَالِ صِحّةً .
[ أَحْوَالُ الْبَدَنِ ]
(1/7)
وَلِلْبَدَنِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ حَالٌ طَبِيعِيّةٌ وَحَالٌ خَارِجَةٌ عَنْ الطّبِيعِيّةِ وَحَالٌ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ . فَالْأُولَى : بِهَا يَكُونُ الْبَدَنُ صَحِيحًا وَالثّانِيَةُ بِهَا يَكُونُ مَرِيضًا . وَالْحَالُ الثّالِثَةُ هِيَ مُتَوَسّطَةٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَإِنّ الضّدّ لَا يَنْتَقِلُ إلَى ضِدّهِ إلّا بِمُتَوَسّطٍ وَسَبَبُ خُرُوجِ الْبَدَنِ عَنْ طَبِيعَتِهِ إمّا مِنْ دَاخِلِهِ لِأَنّهُ مُرَكّبٌ مِنْ الْحَارّ وَالْبَارِدِ وَالرّطْبِ وَالْيَابِسِ وَإِمّا مِنْ خَارِجٍ فَلِأَنّ مَا يَلْقَاهُ قَدْ يَكُونُ مُوَافِقًا <9> وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُوَافِقٍ وَالضّرَرُ الّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ مِنْ سُوءِ الْمِزَاجِ بِخُرُوجِهِ عَنْ الِاعْتِدَالِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ فَسَادٍ فِي الْعُضْوِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ ضَعْفٍ فِي الْقُوَى أَوْ الْأَرْوَاحِ الْحَامِلَةِ لَهَا وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى زِيَادَةِ مَا الِاعْتِدَالُ فِي عَدَمِ زِيَادَتِهِ أَوْ نُقْصَانُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي عَدَمِ نُقْصَانِهِ أَوْ تَفَرّق مَا الِاعْتِدَالُ فِي اتّصَالِهِ أَوْ اتّصَالُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي تَفَرّقِهِ أَوْ امْتِدَادُ مَا الِاعْتِدَالُ فِي انْقِبَاضِهِ أَوْ خُرُوجُ ذِي وَضْعٍ وَشَكْلٍ عَنْ وَضْعِهِ وَشَكْلِهِ بِحَيْثُ يُخْرِجُهُ عَنْ اعْتِدَالِهِ .
[ وَظِيفَةُ الطّبِيبِ ]
(1/8)
فَالطّبِيبُ هُوَ الّذِي يُفَرّقُ مَا يَضُرّ بِالْإِنْسَانِ جَمْعُهُ أَوْ يَجْمَعُ فِيهِ مَا يَضُرّهُ تَفَرّقُهُ أَوْ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا يَضُرّهُ زِيَادَتُهُ أَوْ يَزِيدُ فِيهِ مَا يَضُرّهُ نَقْصُهُ فَيَجْلِبُ الصّحّةَ الْمَفْقُودَةَ أَوْ يَحْفَظُهَا بِالشّكْلِ وَالشّبَهِ وَيَدْفَعُ الْعِلّةَ الْمَوْجُودَةَ بِالضّدّ وَالنّقِيضِ وَيُخْرِجُهَا أَوْ يَدْفَعُهَا بِمَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهَا بِالْحِمْيَةِ وَسَتَرَى هَذَا كُلّهُ فِي هَدْيِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَافِيًا كَافِيًا بِحَوَلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ وَفَضْلِهِ وَمَعُونَتِهِ .
فَصْلٌ [ التّدَاوِي ]
فَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِعْلُ التّدَاوِي فِي نَفْسِهِ وَالْأَمْرُ بِهِ لِمَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَلَا هَدْيِ أَصْحَابِهِ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ الّتِي تُسَمّى أقرباذين بَلْ كَانَ غَالِبُ أَدْوِيَتِهِمْ بِالْمُفْرَدَاتِ وَرُبّمَا أَضَافُوا إلَى الْمُفْرَدِ مَا يُعَاوِنُهُ أَوْ يَكْسِرُ سَوْرَتَهُ وَهَذَا غَالِبُ طِبّ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا مِنْ الْعَرَبِ وَالتّرْكِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي قَاطِبَةً وَإِنّمَا عَنِيَ بِالْمُرَكّبَاتِ الرّومُ وَالْيُونَانِيّونَ وَأَكْثَرُ طِبّ الْهِنْدِ بِالْمُفْرَدَاتِ .
وَقَدْ اتّفَقَ الْأَطِبّاءُ عَلَى أَنّهُ مَتَى أَمْكَنَ التّدَاوِي بِالْغِذَاءِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الدّوَاءِ وَمَتَى أَمْكَنَ بِالْبَسِيطِ لَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَى الْمُرَكّبِ .
قَالُوا : وَكُلّ دَاءٍ قُدِرَ عَلَى دَفْعِهِ بِالْأَغْذِيَةِ وَالْحِمْيَةِ لَمْ يُحَاوَلْ دَفْعُهُ بِالْأَدْوِيَةِ .
(1/9)
قَالُوا : وَلَا يَنْبَغِي لِلطّبِيبِ أَنْ يَوْلَعَ بِسَقْيِ الْأَدْوِيَةِ فَإِنّ الدّوَاءَ إذَا لَمْ يَجِدْ فِي <10> الْبَدَنِ دَاءً يُحَلّلُهُ أَوْ وَجَدَ دَاءً لَا يُوَافِقُهُ أَوْ وَجَدَ مَا يُوَافِقُهُ فَزَادَتْ كَمّيّتُهُ عَلَيْهِ أَوْ كَيْفِيّتُهُ تَشَبّثَ بِالصّحّةِ وَعَبِثَ بِهَا . وَأَرْبَابُ التّجَارِبِ مِنْ الْأَطِبّاءِ طِبّهُمْ بِالْمُفْرَدَاتِ غَالِبًا وَهُمْ أَحَدُ فِرَقِ الطّبّ الثّلَاثِ .
وَالتّحْقِيقُ فِي ذَلِكَ أَنّ الْأَدْوِيَةَ مِنْ جِنْسِ الْأَغْذِيَةِ فَالْأُمّةُ وَالطّائِفَةُ الّتِي غَالِبُ أَغْذِيَتِهَا الْمُفْرَدَاتُ أَمْرَاضُهَا قَلِيلَةٌ جِدّا وَطِبّهَا بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَهْلُ الْمُدُنِ الّذِينَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمْ الْأَغْذِيَةُ الْمُرَكّبَةُ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ الْمُرَكّبَةِ وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنّ أَمْرَاضَهُمْ فِي الْغَالِبِ مُرَكّبَةٌ فَالْأَدْوِيَةُ الْمُرَكّبَةُ أَنْفَعُ لَهَا وَأَمْرَاضُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالصّحَارِي مُفْرَدَةٌ فَيَكْفِي فِي مُدَاوَاتِهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ فَهَذَا بُرْهَانٌ بِحَسْبِ الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ .
[ فَضْلُ طِبّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى طِبّ الْأَطِبّاءِ ]
(1/10)
وَنَحْنُ نَقُولُ إنّ هَا هُنَا أَمْرًا آخَرَ نِسْبَةُ طِبّ الْأَطِبّاءِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ طِبّ الطّرْقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ حُذّاقُهُمْ وَأَئِمّتُهُمْ فَإِنّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالطّبّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ قِيَاسٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ تَجْرِبَةٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ إِلْهَامَاتٌ وَمَنَامَاتٌ وَحَدْسٌ صَائِبٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أُخِذَ كَثِيرٌ مِنْهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْبَهِيمِيّةِ كَمَا نُشَاهِدُ السّنَانِيرَ إذَا أَكَلَتْ ذَوَاتَ السّمُومِ تَعْمِدُ إلَى السّرَاجِ فَتَلَغُ فِي الزّيْتِ تَتَدَاوَى بِهِ وَكَمَا رُئِيَتْ الْحَيّاتُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ بُطُونِ الْأَرْضِ وَقَدْ عَشِيَتْ أَبْصَارُهَا تَأْتِي إلَى وَرَقِ الرازيانج فَتُمِرّ عُيُونَهَا عَلَيْهَا . وَكَمَا عُهِدَ مِنْ الطّيْرِ الّذِي يَحْتَقِنُ بِمَاءِ الْبَحْرِ عِنْدَ انْحِبَاسِ طَبْعِهِ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمّا ذُكِرَ فِي مَبَادِئِ الطّبّ .
(1/11)
وَأَيْنَ يَقَعُ هَذَا وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْوَحْيِ الّذِي يُوحِيهِ اللّهُ إلَى رَسُولِهِ بِمَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرّهُ فَنِسْبَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الطّبّ إلَى هَذَا الْوَحْيِ كَنِسْبَةِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ إلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ بَلْ هَا هُنَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ الّتِي تَشْفِي مِنْ الْأَمْرَاضِ مَا لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا عُقُولُ أَكَابِرِ الْأَطِبّاءِ وَلَمْ تَصِلْ إلَيْهَا عُلُومُهُمْ وَتَجَارِبُهُمْ وَأَقْيِسَتُهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيّةِ وَالرّوحَانِيّةِ وَقُوّةِ الْقَلْبِ وَاعْتِمَادِهِ عَلَى اللّهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالِالْتِجَاءِ إلَيْهِ وَالِانْطِرَاحِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدْيِهِ وَالتّذَلّلِ لَهُ وَالصّدَقَةِ وَالدّعَاءِ <11> وَالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْخَلْقِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَالتّفْرِيجِ عَنْ الْمَكْرُوبِ فَإِنّ هَذِهِ الْأَدْوِيَةَ قَدْ جَرّبَتْهَا الْأُمَمُ عَلَى اخْتِلَافِ أَدْيَانِهَا وَمِلَلِهَا فَوَجَدُوا لَهَا مِنْ التّأْثِيرِ فِي الشّفَاءِ مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ عِلْمُ أَعْلَمِ الْأَطِبّاءِ وَلَا تَجْرِبَتُهُ وَلَا قِيَاسُهُ .
(1/12)
وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ هَذَا أُمُورًا كَثِيرَةً وَرَأَيْنَاهَا تَفْعَلُ مَا لَا تَفْعَلُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ بَلْ تَصِيرُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسّيّةُ عِنْدَهَا بِمَنْزِلَةِ أَدْوِيَةِ الطّرْقِيّةِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيّةِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا وَلَكِنّ الْأَسْبَابَ مُتَنَوّعَةٌ فَإِنّ الْقَلْبَ مَتَى اتّصَلَ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَخَالِقِ الدّاءِ وَالدّوَاءِ وَمُدَبّرِ الطّبِيعَةِ وَمُصَرّفِهَا عَلَى مَا يَشَاءُ كَانَتْ لَهُ أَدْوِيَةٌ أُخْرَى غَيْرَ الْأَدْوِيَةِ الّتِي يُعَانِيهَا الْقَلْبُ الْبَعِيدُ مِنْهُ الْمُعْرِضُ عَنْهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ الْأَرْوَاحَ مَتَى قَوِيَتْ وَقَوِيَتْ النّفْسُ وَالطّبِيعَةُ تَعَاوُنًا عَلَى دَفْعِ الدّاءِ وَقَهْرِهِ فَكَيْفَ يُنْكِرُ لِمَنْ قَوِيَتْ طَبِيعَتُهُ وَنَفْسُهُ وَفَرِحَتْ بِقُرْبِهَا مِنْ بَارِئِهَا وَأُنْسِهَا بِهِ وَحُبّهَا لَهُ وَتَنَعّمِهَا بِذِكْرِهِ وَانْصِرَافِ قُوَاهَا كُلّهَا إلَيْهِ وَجَمْعِهَا عَلَيْهِ وَاسْتِعَانَتِهَا بِهِ وَتَوَكّلِهَا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْ تُوجِبَ لَهَا هَذِهِ الْقُوّةُ دَفْعَ الْأَلَمِ بِالْكُلّيّةِ وَلَا يُنْكِرُ هَذَا إلّا أَجْهَلُ النّاسِ وَأَغْلَظُهُمْ حِجَابًا وَأَكْثَفُهُمْ نَفْسًا وَأَبْعَدُهُمْ عَنْ اللّهِ وَعَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيّةِ وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللّهُ السّبَبَ الّذِي بِهِ أَزَالَتْ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ دَاءَ اللّدْغَةِ عَنْ اللّدِيغِ الّتِي رُقِيَ بِهَا فَقَامَ حَتّى كَأَنّ مَا بِهِ قَلَبَةٌ .
(1/13)
فَهَذَانِ نَوْعَانِ مِنْ الطّبّ النّبَوِيّ نَحْنُ بِحَوْلِ اللّهِ نَتَكَلّمُ عَلَيْهِمَا بِحَسْبِ الْجَهْدِ وَالطّاقَةِ وَمَبْلَغِ عُلُومِنَا الْقَاصِرَةِ وَمَعَارِفِنَا الْمُتَلَاشِيَةِ جِدّا وَبِضَاعَتِنَا الْمُزْجَاةِ وَلَكِنّا نَسْتَوْهِبُ مَنْ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ وَنَسْتَمِدّ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنّهُ الْعَزِيزُ الْوَهّابُ . <12>
فَصْلٌ [ الْحَثّ عَلَى التّدَاوِي وَرَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبّبَاتِ ]
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " : مِنْ حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَتْ الْأَعْرَابُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَتَدَاوَى ؟ فَقَالَ " نَعَمْ يَا عِبَادَ اللّهِ تَدَاوَوْا فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ " قَالُوا : مَا هُوَ ؟ قَالَ " الْهَرَمُ وَفِي لَفْظٍ إنّ اللّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَه
(1/14)
وَفِي " الْمُسْنَدِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ <13> وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَ " السّنَنِ عَنْ أَبِي خُزَامَةَ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا وَدَوَاءً نَتَدَاوَى بِهِ وَتُقَاةً نَتّقِيهَا هَلْ تَرُدّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالَ " هِيَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ
[ مَعْنَى لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ ]
(1/15)
فَقَدْ تَضَمّنَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ إثْبَاتَ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبّبَاتِ وَإِبْطَالَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَهَا وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ عَلَى عُمُومِهِ حَتّى يَتَنَاوَلَ الْأَدْوَاءَ الْقَاتِلَةَ وَالْأَدْوَاءَ الّتِي لَا يُمْكِنُ لِطَبِيبٍ أَنْ يُبْرِئَهَا وَيَكُونُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَهَا أَدْوِيَةً تُبْرِئُهَا وَلَكِنْ طَوَى عِلْمَهَا عَنْ الْبَشَرِ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلًا لِأَنّهُ لَا عِلْمَ لِلْخَلْقِ إلّا مَا عَلّمَهُمْ اللّهُ وَلِهَذَا عَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الشّفَاءَ عَلَى مُصَادَفَةِ الدّوَاءِ لِلدّاءِ فَإِنّهُ لَا شَيْءَ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ إلّا لَهُ ضِدّ وَكُلّ دَاءٍ لَهُ ضِدّ مِنْ الدّوَاءِ يُعَالَجُ بِضِدّهِ فَعَلّقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبُرْءَ بِمُوَافَقَةِ الدّاءِ لِلدّوَاءِ وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرّدِ وَجُودِهِ فَإِنّ الدّوَاءَ مَتَى جَاوَزَ دَرَجَةَ الدّاءِ فِي الْكَيْفِيّةِ أَوْ زَادَ فِي الْكَمّيّةِ عَلَى مَا يَنْبَغِي نَقْلُهُ إلَى دَاءٍ آخَرَ وَمَتَى قَصَرَ عَنْهَا لَمْ يَفِ بِمُقَاوَمَتِهِ وَكَانَ الْعِلَاجُ قَاصِرًا وَمَتَى لَمْ يَقَعْ الْمُدَاوِي عَلَى الدّوَاءِ أَوْ لَمْ يَقَعْ الدّوَاءُ عَلَى الدّاءِ لَمْ يَحْصُلْ الشّفَاءُ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الزّمَانُ صَالِحًا لِذَلِكَ الدّوَاءِ لَمْ يَنْفَعْ وَمَتَى كَانَ الْبَدَنُ غَيْرَ قَابِلٍ لَهُ أَوْ الْقُوّةُ عَاجِزَةً عَنْ حَمْلِهِ أَوْ ثَمّ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ تَأْثِيرِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْبُرْءُ لِعَدَمِ الْمُصَادَفَةِ وَمَتَى تَمّتْ الْمُصَادَفَةُ حَصَلَ الْبُرْءُ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَا بُدّ وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَحْمِلَيْنِ فِي الْحَدِيثِ .
(1/16)
وَالثّانِي : أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعَامّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصّ لَا سِيّمَا وَالدّاخِلُ فِي اللّفْظِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْخَارِجِ مِنْهُ وَهَذَا يُسْتَعْمَلُ فِي كُلّ لِسَانٍ وَيَكُونُ <14> الْمُرَادُ أَنّ اللّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً يَقْبَلُ الدّوَاءَ إلّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْأَدْوَاءُ الّتِي لَا تَقْبَلُ الدّوَاءَ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الرّيحِ الّتِي سَلّطَهَا عَلَى قَوْمِ عَادٍ : تُدَمّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا [ الْأَحْقَافُ 25 ] أَيْ كُلّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التّدْمِيرَ وَمِنْ شَأْنِ الرّيحِ أَنْ تُدَمّرَهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ . وَمَنْ تَأَمّلَ خَلْقَ الْأَضْدَادِ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَمُقَاوَمَةَ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ وَدَفْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَتَسْلِيطَ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ تَبَيّنَ لَهُ كَمَالُ قُدْرَةِ الرّبّ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ وَإِتْقَانُهُ مَا صَنَعَهُ وَتَفَرّدُهُ بِالرّبُوبِيّةِ وَالْوَحْدَانِيّةِ وَالْقَهْرِ وَأَنّ كُلّ مَا سِوَاهُ فَلَهُ مَا يُضَادّهُ وَيُمَانِعُهُ كَمَا أَنّهُ الْغَنِيّ بِذَاتِهِ وَكُلّ مَا سِوَاهُ مُحْتَاجٌ بِذَاتِهِ .
[الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَبِأَنّهُ لَا يُنَافِي التّوَكّلَ ]
(1/17)
وَفِي الْأَحَادِيثِ الصّحِيحَةِ الْأَمْرُ بِالتّدَاوِي وَأَنّهُ لَا يُنَافِي التّوَكّلَ كَمَا لَا يُنَافِيهِ دَفْعُ دَاءِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا بَلْ لَا تَتِمّ حَقِيقَةُ التّوْحِيدِ إلّا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الّتِي نَصَبَهَا اللّهُ مُقْتَضَيَاتٍ لِمُسَبّبَاتِهَا قَدَرًا وَشَرْعًا وَأَنّ تَعْطِيلَهَا يَقْدَحُ فِي نَفْسِ التّوَكّلِ كَمَا يَقْدَحُ فِي الْأَمْرِ وَالْحِكْمَةِ وَيُضْعِفُهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ مُعَطّلُهَا أَنّ تَرْكَهَا أَقْوَى فِي التّوَكّلِ فَإِنّ تَرْكَهَا عَجْزًا يُنَافِي التّوَكّلَ الّذِي حَقِيقَتُهُ اعْتِمَادُ الْقَلْبِ عَلَى اللّهِ فِي حُصُولِ مَا يَنْفَعُ الْعَبْدَ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرّهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَلَا بُدّ مَعَ هَذَا الِاعْتِمَادِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ وَإِلّا كَانَ مُعَطّلًا لِلْحِكْمَةِ وَالشّرْعِ فَلَا يَجْعَلُ الْعَبْدَ عَجْزَهُ تَوَكّلًا وَلَا تَوَكّلَهُ عَجْزًا .
[التّدَاوِي وَالشّفَاءُ مُقَدّرٌ وَالرّدّ عَلَى الْجَبْرِيّةِ ]
(1/18)
وَفِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ التّدَاوِي وَقَالَ إنْ كَانَ الشّفَاءُ قَدْ قُدّرَ فَالتّدَاوِي لَا يُفِيدُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدّرَ فَكَذَلِكَ . وَأَيْضًا فَإِنّ الْمَرَضَ حَصَلَ بِقَدَرِ اللّهِ وَقَدَرُ اللّهِ لَا يُدْفَعُ وَلَا يُرَدّ وَهَذَا السّؤَالُ هُوَ الّذِي أَوْرَدَهُ الْأَعْرَابُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَأَمّا أَفَاضِلُ الصّحَابَةِ فَأَعْلَمُ بِاَللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَنْ يُورِدُوا مِثْلَ هَذَا وَقَدْ أَجَابَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَفَى وَكَفَى فَقَالَ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ وَالرّقَى وَالتّقَى هِيَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ فَمَا خَرَجَ شَيْءٌ عَنْ قَدَرِهِ بَلْ يَرُدّ قَدَرَهُ بِقَدَرِهِ وَهَذَا الرّدّ مِنْ قَدَرِهِ <15> فَلَا سَبِيلَ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ قَدَرِهِ بِوَجْهٍ مَا وَهَذَا كَرَدّ قَدَرِ الْجَوْعِ وَالْعَطَشِ وَالْحَرّ وَالْبَرْدِ بِأَضْدَادِهَا وَكَرَدّ قَدَرِ الْعَدُوّ بِالْجِهَادِ وَكُلّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ الدّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ وَالدّفْعُ .
(1/19)
وَيُقَالُ لِمُورِدِ هَذَا السّؤَالِ هَذَا يُوجِبُ عَلَيْك أَنْ لَا تُبَاشِرَ سَبَبًا مِنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَةً أَوْ تَدْفَعُ بِهَا مَضَرّةً لِأَنّ الْمَنْفَعَةَ وَالْمَضَرّةَ إنْ قُدّرَتَا لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ وُقُوعِهِمَا وَإِنْ لَمْ تُقَدّرَا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إلَى وُقُوعِهِمَا وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدّينِ وَالدّنْيَا وَفَسَادُ الْعَالَمِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلّا دَافِعٌ لِلْحَقّ مُعَانِدٌ لَهُ فَيَذْكُرُ الْقَدَرَ لِيَدْفَعْ حُجّةِ الْمُحِقّ عَلَيْهِ كَالْمُشْرِكِينَ الّذِينَ قَالُوا : لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا [ الْأَنْعَامُ 148 ] و لَوْ شَاءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا [ النّحْلُ 35 ] فَهَذَا قَالُوهُ دَفْعًا لِحُجّةِ اللّهِ عَلَيْهِمْ بِالرّسُلِ .
(1/20)
وَجَوَابُ هَذَا السّائِلِ أَنْ يُقَالَ بَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ تَذْكُرْهُ وَهُوَ أَنّ اللّهَ قَدّرَ كَذَا وَكَذَا بِهَذَا السّبَبِ فَإِنْ أَتَيْتَ بِالسّبَبِ حَصَلَ الْمُسَبّبُ وَإِلّا فَلَا فَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ قَدّرَ لِي السّبَبَ فَعَلْته وَإِنْ لَمْ يُقَدّرْهُ لِي لَمْ أَتَمَكّنْ مِنْ فِعْلِهِ . قِيلَ فَهَلْ تَقْبَلُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ مِنْ عَبْدِك وَوَلَدِك وَأَجِيرِك إذَا احْتَجّ بِهِ عَلَيْك فِيمَا أَمَرْتَهُ بِهِ وَنَهَيْتَهُ عَنْهُ فَخَالَفَك ؟ فَإِنْ قَبِلْته فَلَا تَلُمْ مَنْ عَصَاك وَأَخَذَ مَالَك وَقَذَفَ عِرْضَك وَضَيّعَ حُقُوقَك وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْك فِي دَفْعِ حُقُوقِ اللّهِ عَلَيْك . وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ إسْرَائِيلِيّ أَنّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ قَالَ يَا رَبّ مِمّنْ الدّاءُ ؟ قَالَ " مِنّي " . قَالَ فَمِمّنْ الدّوَاءُ " ؟ قَالَ " مِنّي " . قَالَ فَمَا بَالُ الطّبِيبِ ؟ . قَالَ " رَجُلٌ أُرْسِلُ الدّوَاءَ عَلَى يَدَيْهِ " .
(1/21)
وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ تَقْوِيَةٌ لِنَفْسِ الْمَرِيضِ وَالطّبِيبِ وَحَثّ عَلَى طَلَبِ ذَلِكَ الدّوَاءِ وَالتّفْتِيشِ عَلَيْهِ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا اسْتَشْعَرَتْ نَفْسُهُ أَنّ لِدَائِهِ دَوَاءً يُزِيلُهُ تَعَلّقَ قَلْبُهُ بِرُوحِ الرّجَاءِ وَبَرُدَتْ عِنْدَهُ حَرَارَةُ الْيَأْسِ وَانْفَتَحَ <16> لَهُ بَابُ الرّجَاءِ وَمَتَى قَوِيَتْ نَفْسُهُ انْبَعَثَتْ حَرَارَتُهُ الْغَرِيزِيّةُ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقُوّةِ الْأَرْوَاحِ الْحَيَوَانِيّةِ وَالنّفْسَانِيّةِ وَالطّبِيعِيّةِ وَمَتَى قَوِيَتْ هَذِهِ الْأَرْوَاحُ قَوِيَتْ الْقُوَى الّتِي هِيَ حَامِلَةٌ لَهَا فَقَهَرَتْ الْمَرَضَ وَدَفَعَتْهُ . وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ إذَا عَلِمَ أَنّ لِهَذَا الدّاءِ دَوَاءً أَمْكَنَهُ طَلَبُهُ وَالتّفْتِيشُ عَلَيْهِ . وَأَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ عَلَى وِزَانِ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَمَا جَعَلَ اللّهُ لِلْقَلْبِ مَرَضًا إلّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً بِضَدّهِ فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الدّاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَصَادَفَ دَاءَ قَلْبِهِ أَبْرَأَهُ بِإِذْنِ اللّهِ تَعَالَى .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاحْتِمَاءِ مِنْ التّخَمِ وَالزّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَالْقَانُونُ الّذِي يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ فِي الْأَكْلِ وَالشّرْبِ
فِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَا مَلَأَ آدَمِيّ وِعَاءً شَرّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا بُدّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ .
[سَبَبُ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ ]
(1/22)
الْأَمْرَاضُ نَوْعَانِ أَمْرَاضٌ مَادّيّةٌ تَكُونُ عَنْ زِيَادَةِ مَادّةٍ أُفْرِطَتْ فِي الْبَدَنِ حَتّى أَضَرّتْ بِأَفْعَالِهِ الطّبِيعِيّةِ وَهِيَ الْأَمْرَاضُ الْأَكْثَرِيّةُ وَسَبَبُهَا إدْخَالُ الطّعَامِ عَلَى الْبَدَنِ قَبْلَ هَضْمِ الْأَوّلِ وَالزّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ الّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْبَدَنُ وَتَنَاوُلُ الْأَغْذِيَةِ الْقَلِيلَةِ النّفْعِ الْبَطِيئَةِ الْهَضْمِ وَالْإِكْثَارُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْمُخْتَلِفَةِ التّرَاكِيبِ الْمُتَنَوّعَةِ فَإِذَا مَلَأَ الْآدَمِيّ بَطْنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَغْذِيَةِ وَاعْتَادَ ذَلِكَ أَوْرَثَتْهُ أَمْرَاضًا مُتَنَوّعَةً مِنْهَا بَطِيءُ الزّوَالِ وَسَرِيعُهُ فَإِذَا تَوَسّطَ فِي الْغِذَاءِ وَتَنَاوَلَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ وَكَانَ مُعْتَدِلًا فِي كَمّيّتِهِ وَكَيْفِيّتِهِ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ بِالْغِذَاءِ الْكَثِيرِ . <17>
[ مَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ]
وَمَرَاتِبُ الْغِذَاءِ ثَلَاثَةٌ
أَحَدُهَا : مَرْتَبَةُ الْحَاجَةِ .
وَالثّانِيَةُ مَرْتَبَةُ الْكِفَايَةِ .
وَالثّالِثَةُ مَرْتَبَةُ الْفَضْلَةِ .
(1/23)
فَأَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ يَكْفِيهِ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَلَا تَسْقُطُ قُوّتُهُ وَلَا تَضْعُفُ مَعَهَا فَإِنْ تَجَاوَزَهَا فَلْيَأْكُلْ فِي ثُلُثِ بَطْنِهِ وَيَدَعْ الثّلُثَ الْآخَرَ لِلْمَاءِ وَالثّالِثُ لِلنّفَسِ وَهَذَا مِنْ أَنْفَعِ مَا لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ فَإِنّ الْبَطْنَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطّعَامِ ضَاقَ عَنْ الشّرَابِ فَإِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الشّرَابُ ضَاقَ عَنْ النّفَسِ وَعَرَضَ لَهُ الْكَرْبُ وَالتّعَبُ بِحَمْلِهِ بِمَنْزِلَةِ حَامِلِ الْحِمْلِ الثّقِيلِ هَذَا إلَى مَا يَلْزَمُ ذَلِكَ مِنْ فَسَادِ الْقَلْبِ وَكَسَلِ الْجَوَارِحِ عَنْ الطّاعَاتِ وَتَحَرّكِهَا فِي الشّهَوَاتِ الّتِي يَسْتَلْزِمُهَا الشّبَعُ . فَامْتِلَاءُ الْبَطْنِ مِنْ الطّعَامِ مُضِرّ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ .
هَذَا إذَا كَانَ دَائِمًا أَوْ أَكْثَرِيّا . وَأَمّا إذَا كَانَ فِي الْأَحْيَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَقَدْ شَرِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ بِحَضْرَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ اللّبَنِ حَتّى قَالَ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا وَأَكَلَ الصّحَابَةُ بِحَضْرَتِهِ مِرَارًا حَتّى شَبِعُوا . وَالشّبَعُ الْمُفْرِطُ يُضْعِفُ الْقُوَى وَالْبَدَنَ وَإِنْ أَخْصَبَهُ وَإِنّمَا يَقْوَى الْبَدَنُ بِحَسْبِ مَا يَقْبَلُ مِنْ الْغِذَاءِ لَا بِحَسْبِ كَثْرَتِهِ . وَلَمّا كَانَ فِي الْإِنْسَانِ جُزْءٌ أَرْضِيّ وَجُزْءٌ هَوَائِيّ وَجُزْءٌ مَائِيّ قَسَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَنَفَسَهُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الثّلَاثَةِ .
[هَلْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيّ ]
(1/24)
فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ حَظّ الْجُزْءِ النّارِيّ ؟ قِيلَ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ تَكَلّمَ فِيهَا الْأَطِبّاءُ وَقَالُوا : إنّ فِي الْبَدَنِ جُزْءًا نَارِيّا بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِهِ وَاسْطِقْسَاتِهِ .
<18> وَنَازَعَهُمْ فِي ذَلِكَ آخَرُونَ مِنْ الْعُقَلَاءِ مِنْ الْأَطِبّاءِ وَغَيْرِهِمْ وَقَالُوا : لَيْسَ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ نَارِيّ بِالْفِعْلِ وَاسْتَدَلّوا بِوُجُوهٍ
أَحَدُهَا : أَنّ ذَلِكَ الْجُزْءَ النّارِيّ إمّا أَنْ يُدْعَى أَنّهُ نَزَلَ عَنْ الْأَثِيرِ وَاخْتَلَطَ بِهَذِهِ الْأَجْزَاءِ الْمَائِيّةِ وَالْأَرْضِيّةِ أَوْ يُقَالُ إنّهُ تَوَلّدَ فِيهَا وَتَكُونُ وَالْأَوّلُ مُسْتَبْعَدٌ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ النّارَ بِالطّبْعِ صَاعِدَةٌ فَلَوْ نَزَلَتْ لَكَانَتْ بِقَاسِرٍ مِنْ مَرْكَزِهَا إلَى هَذَا الْعَالَمِ . الثّانِي : أَنّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ النّارِيّةَ لَا بُدّ فِي نُزُولِهَا أَنْ تَعْبُرَ عَلَى كُرَةِ الزّمْهَرِيرِ الّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْبَرْدِ وَنَحْنُ نُشَاهِدُ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَنّ النّارَ الْعَظِيمَةَ تَنْطَفِئُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ فَتِلْكَ الْأَجْزَاءُ الصّغِيرَةُ عِنْدَ مُرُورِهَا بِكُرَةِ الزّمْهَرِيرِ الّتِي هِيَ فِي غَايَةِ الْبَرْدِ وَنِهَايَةُ الْعَظْمِ أَوْلَى بِالِانْطِفَاءِ .
(1/25)
وَأَمّا الثّانِي : - وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إنّهَا تَكَوّنَتْ هَا هُنَا - فَهُوَ أَبْعَدُ وَأَبْعَدُ لِأَنّ الْجِسْمَ الّذِي صَارَ نَارًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ قَدْ كَانَ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ إمّا أَرْضًا وَإِمّا مَاءً وَإِمّا هَوَاءً لِانْحِصَارِ الْأَرْكَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَهَذَا الّذِي قَدْ صَارَ نَارًا أَوّلًا كَانَ مُخْتَلَطًا بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَجْسَامِ وَمُتّصِلًا بِهَا وَالْجِسْمُ الّذِي لَا يَكُونُ نَارًا إذَا اخْتَلَطَ بِأَجْسَامٍ عَظِيمَةٍ لَيْسَتْ بِنَارٍ وَلَا وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَكُونُ مُسْتَعِدّا لِأَنْ يَنْقَلِبَ نَارًا لِأَنّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِنَارٍ وَالْأَجْسَامُ الْمُخْتَلِطَةُ بَارِدَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ مُسْتَعِدّا لِانْقِلَابِهِ نَارًا ؟
فَإِنْ قُلْتُمْ لِمَ لَا تَكُونُ هُنَاكَ أَجْزَاءٌ نَارِيّةٌ تَقْلِبُ هَذِهِ الْأَجْسَامَ وَتَجْعَلُهَا نَارًا بِسَبَبِ مُخَالَطَتِهَا إيّاهَا ؟
قُلْنَا : الْكَلَامُ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوّلِ فَإِنْ قُلْتُمْ إنّا نَرَى مِنْ رَشّ الْمَاءِ عَلَى النّورَةِ الْمُطْفَأَةِ تَنْفَصِلُ مِنْهَا نَارٌ وَإِذَا وَقَعَ شُعَاعُ الشّمْسِ عَلَى الْبَلّورَةِ ظَهَرَتْ النّارُ مِنْهَا وَإِذَا ضَرَبْنَا الْحَجَرَ عَلَى الْحَدِيدِ ظَهَرَتْ <19> النّارُ وَكُلّ هَذِهِ النّارِيّةِ حَدّثَتْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ مَا قَرّرْتُمُوهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوّلِ أَيْضًا .
(1/26)
قَالَ الْمُنْكِرُونَ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ المصاكة الشّدِيدَةُ مُحَدّثَةً لِلنّارِ كَمَا فِي ضَرْبِ الْحِجَارَةِ عَلَى الْحَدِيدِ أَوْ تَكُونُ قُوّةُ تَسْخِينِ الشّمْسِ مُحَدّثَةً لِلنّارِ كَمَا فِي الْبَلّورَةِ لَكِنّا نَسْتَبْعِدُ ذَلِكَ جِدّا فِي أَجْرَامِ النّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ إذْ لَيْسَ فِي أَجْرَامِهَا مِنْ الِاصْطِكَاكِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَ النّارِ وَلَا فِيهَا مِنْ الصّفَاءِ وَالصّقَالِ مَا يَبْلُغُ إلَى حَدّ الْبَلّورَةِ كَيْفَ وَشُعَاعُ الشّمْسِ يَقَعُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَلَا تَتَوَلّدُ النّارُ الْبَتّةَ فَالشّعَاعُ الّذِي يَصِلُ إلَى بَاطِنِهَا كَيْفَ يُولَدُ النّارُ ؟ الْوَجْهُ الثّانِي : فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَنّ الْأَطِبّاءَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الشّرَابَ الْعَتِيقَ فِي غَايَةِ السّخُونَةِ بِالطّبْعِ فَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ السّخُونَةُ بِسَبَبِ الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ لَكَانَتْ مُحَالًا إذْ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ النّارِيّةُ مَعَ حَقَارَتِهَا كَيْفَ يُعْقَلُ بَقَاؤُهَا فِي الْأَجْزَاءِ الْمَائِيّةِ الْغَالِبَةِ دَهْرًا طَوِيلًا بِحَيْثُ لَا تَنْطَفِئُ مَعَ أَنّا نَرَى النّارَ الْعَظِيمَةَ تُطْفَأُ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ .
الْوَجْهُ الثّالِثُ أَنّهُ لَوْ كَانَ فِي الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ جُزْءٌ نَارِيّ بِالْفِعْلِ لَكَانَ مَغْلُوبًا بِالْجُزْءِ الْمَائِيّ الّذِي فِيهِ وَكَانَ الْجُزْءُ النّارِيّ مَقْهُورًا بِهِ وَغَلَبَةُ بَعْضِ الطّبَائِعِ وَالْعَنَاصِرِ عَلَى بَعْضٍ يَقْتَضِي انْقِلَابَ طَبِيعَةِ الْمَغْلُوبِ إلَى طَبِيعَةِ الْغَالِبِ فَكَانَ يُلْزِمُ بِالضّرُورَةِ انْقِلَابَ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ الْقَلِيلَةِ جِدّا إلَى طَبِيعَةِ الْمَاءِ الّذِي هُوَ ضِدّ النّارِ
(1/27)
الْوَجْهُ الرّابِعُ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدّدَةٍ يُخْبِرُ فِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ مَاءٍ وَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ وَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ الْمُرَكّبِ مِنْهُمَا وَهُوَ الطّينُ وَفِي بَعْضِهَا أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخّارِ وَهُوَ الطّينُ الّذِي ضَرَبَتْهُ الشّمْسُ وَالرّيحُ حَتّى صَارَ صَلْصَالًا كَالْفَخّارِ وَلَمْ يُخْبِرْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ بَلْ جَعَلَ ذَلِكَ خَاصّيّةَ إبْلِيسَ . وَثَبَتَ <20> فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ وَخُلِقَ الْجَانّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ وَخُلِقَ آدَمُ مِمّا وُصِفَ لَكُم وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنّهُ خُلِقَ مِمّا وَصَفَهُ اللّهُ فِي كِتَابِهِ فَقَطْ وَلَمْ يَصِفْ لَنَا سُبْحَانَهُ أَنّهُ خَلَقَهُ مِنْ نَارٍ وَلَا أَنّ فِي مَادّتِهِ شَيْئًا مِنْ النّارِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ أَنّ غَايَةَ مَا يَسْتَدِلّونَ بِهِ مَا يُشَاهِدُونَ مِنْ الْحَرَارَةِ فِي أَبْدَانِ الْحَيَوَانِ وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَجْزَاءِ النّارِيّةِ وَهَذَا لَا يَدُلّ فَإِنّ أَسْبَابَ الْحَرَارَةِ أَعَمّ مِنْ النّارِ فَإِنّهَا تَكُونُ عَنْ النّارِ تَارَةً وَعَنْ الْحَرَكَةِ أُخْرَى وَعَنْ انْعِكَاسِ الْأَشِعّةِ وَعَنْ سُخُونَةِ الْهَوَاءِ وَعَنْ مُجَاوَرَةِ النّارِ وَذَلِكَ بِوَاسِطَةِ سُخُونَةِ الْهَوَاءِ أَيْضًا وَتَكُونُ عَنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْحَرَارَةِ النّارُ .
[ حُجَجُ مَنْ ادّعَى وُجُودَ النّارِ فِي الْبَدَنِ ]
(1/28)
قَالَ أَصْحَابُ النّارِ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ التّرَابَ وَالْمَاءَ إذَا اخْتَلَطَا فَلَا بُدّ لَهُمَا مِنْ حَرَارَةٍ تَقْتَضِي طَبْخَهُمَا وَامْتِزَاجَهُمَا وَإِلّا كَانَ كُلّ مِنْهُمَا غَيْرَ مُمَازِجٍ لِلْآخَرِ وَلَا مُتّحِدًا بِهِ وَكَذَلِكَ إذَا أَلْقَيْنَا الْبَذْرَ فِي الطّينِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ الْهَوَاءُ وَلَا الشّمْسُ فَسَدَ فَلَا يَخْلُو إمّا أَنْ يَحْصُلَ فِي الْمُرَكّبِ جِسْمٌ مُنْضَجٌ طَابِخٌ بِالطّبْعِ أَوْ لَا فَإِنْ حَصَلَ فَهُوَ الْجُزْءُ النّارِيّ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَكّبُ مُسْخَنًا بِطَبْعِهِ بَلْ إنْ سُخّنَ كَانَ التّسْخِينُ عَرَضِيّا فَإِذَا زَالَ التّسْخِينُ الْعَرَضِيّ لَمْ يَكُنْ الشّيْءُ حَارّا فِي طَبْعِهِ وَلَا فِي كَيْفِيّتِهِ وَكَانَ بَارِدًا مُطْلَقًا لَكِنْ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ مَا يَكُونُ حَارّا بِالطّبْعِ فَعَلِمْنَا أَنّ حَرَارَتَهَا إنّمَا كَانَتْ لِأَنّ فِيهَا جَوْهَرًا نَارِيّا .
(1/29)
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخّنٌ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي نِهَايَةِ الْبَرْدِ لِأَنّ الطّبِيعَةَ إذَا كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِلْبَرْدِ وَكَانَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُعَاوِنِ وَالْمُعَارِضِ وَجَبَ انْتِهَاءُ الْبَرْدِ إلَى أَقْصَى الْغَايَةِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا حَصَلَ لَهَا الْإِحْسَاسُ بِالْبَرْدِ لِأَنّ الْبَرْدَ الْوَاصِلَ إلَيْهِ إذَا كَانَ فِي الْغَايَةِ كَانَ مِثْلَهُ وَالشّيْءُ لَا يَنْفَعِلُ عَنْ مِثْلِهِ وَإِذَا لَمْ يَنْفَعِلْ عَنْهُ لَمْ يَحُسّ بِهِ وَإِذَا لَمْ يَحُسّ بِهِ لَمْ يَتَأَلّمْ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ <21> دُونَهُ فَعَدَمُ الِانْفِعَالِ يَكُونُ أَوْلَى فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَدَنِ جُزْءٌ مُسَخّنٌ بِالطّبْعِ لَمَا انْفَعَلَ عَنْ الْبَرْدِ وَلَا تَأَلّمَ بِهِ . قَالُوا : وَأَدِلّتُكُمْ إنّمَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ الْأَجْزَاءُ النّارِيّةُ بَاقِيَةٌ فِي هَذِهِ الْمُرَكّبَاتِ عَلَى حَالِهَا وَطَبِيعَتِهَا النّارِيّةِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِذَلِكَ بَلْ نَقُولُ إنّ صُورَتَهَا النّوْعِيّةَ تَفْسُدُ عِنْدَ الِامْتِزَاجِ .
[الرّدّ عَلَى حُجَجِ الْمُثْبِتِينَ ]
(1/30)
قَالَ الْآخَرُونَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنّ الْأَرْضَ وَالْمَاءَ وَالْهَوَاءَ إذَا اخْتَلَطَتْ فَالْحَرَارَةُ الْمُنْضَجَةُ الطّابِخَةُ لَهَا هِيَ حَرَارَةُ الشّمْسِ وَسَائِرُ الْكَوَاكِبِ ثُمّ ذَلِكَ الْمُرَكّبُ عِنْدَ كَمَالِ نُضْجِهِ مُسْتَعِدّ لِقَبُولِ الْهَيْئَةِ التّرْكِيبِيّةِ بِوَاسِطَةِ السّخُونَةِ نَبَاتًا كَانَ أَوْ حَيَوَانًا أَوْ مَعْدِنًا وَمَا الْمَانِعُ أَنّ تِلْكَ السّخُونَةَ وَالْحَرَارَةَ الّتِي فِي الْمُرَكّبَاتِ هِيَ بِسَبَبِ خَوَاصّ وَقُوًى يُحْدِثُهَا اللّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ الِامْتِزَاجِ لَا مِنْ أَجْزَاءٍ نَارِيّةٍ بِالْفِعْلِ ؟ وَلَا سَبِيلَ لَكُمْ إلَى إبْطَالِ هَذَا الْإِمْكَانِ الْبَتّةَ وَقَدْ اعْتَرَفَ جَمَاعَةٌ مِنْ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ بِذَلِكَ .
وَأَمّا حَدِيثُ إحْسَاسِ الْبَدَنِ بِالْبَرْدِ فَنَقُولُ هَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ فِي الْبَدَنِ حَرَارَةً وَتَسْخِينًا وَمَنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ ؟ لَكِنْ مَا الدّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُسَخّنِ فِي النّارِ فَإِنّهُ وَإِنْ كَانَ كُلّ نَارٍ مُسَخّنًا فَإِنّ هَذِهِ الْقَضِيّةَ لَا تَنْعَكِسُ كُلّيّةً بَلْ عَكْسُهَا الصّادِقُ بَعْضُ الْمُسَخّنِ نَارٌ .
وَأَمّا قَوْلُكُمْ بِفَسَادِ صُورَةِ النّارِ النّوْعِيّةِ فَأَكْثَرُ الْأَطِبّاءِ عَلَى بَقَاءِ صُورَتِهَا النّوْعِيّةِ وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهَا قَوْلٌ فَاسِدٌ قَدْ اعْتَرَفَ بِفَسَادِهِ أَفْضَلُ مُتَأَخّرِيكُمْ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمّى بِالشّفَا وَبَرْهَنَ عَلَى بَقَاءِ الْأَرْكَانِ أَجْمَعَ عَلَى طَبَائِعِهَا فِي الْمُرَكّبَاتِ . وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . <22>
فَصْلٌ [أَنْوَاعُ عِلَاجِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم ]
وَكَانَ عِلَاجُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْمَرَضِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
(1/31)
أَحَدُهَا : بِالْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ .
وَالثّانِي : بِالْأَدْوِيَةِ الْإِلَهِيّةِ .
وَالثّالِثُ بِالْمُرَكّبِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ الْأَنْوَاعَ الثّلَاثَةَ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَبْدَأُ بِذِكْرِ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ الّتِي وَصَفَهَا وَاسْتَعْمَلَهَا ثُمّ نَذْكُرُ الْأَدْوِيَةَ الْإِلَهِيّةَ ثُمّ الْمُرَكّبَةَ .
وَهَذَا إنّمَا نُشِيرُ إلَيْهِ إشَارَةً فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا بُعِثَ هَادِيًا وَدَاعِيًا إلَى اللّهِ وَإِلَى جَنّتِهِ وَمُعَرّفًا بِاَللّهِ وَمُبَيّنًا لِلْأُمّةِ مَوَاقِعَ رِضَاهُ وَآمِرًا لَهُمْ بِهَا وَمَوَاقِعَ سَخَطِهِ وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْهَا وَمُخْبِرَهُمْ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرّسُلِ وَأَحْوَالَهُمْ مَعَ أُمَمِهِمْ وَأَخْبَارَ تَخْلِيقِ الْعَالَمِ وَأَمْرَ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَكَيْفِيّةَ شَقَاوَةِ النّفُوسِ وَسَعَادَتِهَا وَأَسْبَابَ ذَلِكَ .
وَأَمّا طِبّ الْأَبْدَانِ فَجَاءَ مِنْ تَكْمِيلِ شَرِيعَتِهِ وَمَقْصُودًا لِغَيْرِهِ بِحَيْثُ إنّمَا يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَإِذَا قَدَرَ عَلَى الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ كَانَ صَرْفُ الْهِمَمِ وَالْقُوَى إلَى عِلَاجِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَحِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ أَسْقَامِهَا وَحِمْيَتِهَا مِمّا يُفْسِدُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَصْدِ الْأَوّلِ وَإِصْلَاحُ الْبَدَنِ بِدُونِ إصْلَاحِ الْقَلْبِ لَا يَنْفَعُ وَفَسَادُ الْبَدَنِ مَعَ إصْلَاحِ الْقَلْبِ مَضَرّتُهُ يَسِيرَةٌ جِدّا وَهِيَ مَضَرّةٌ زَائِلَةٌ تَعْقُبُهَا الْمَنْفَعَةُ الدّائِمَةُ التّامّةُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . <23>
ذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ وَهُوَ الْعِلَاجُ بِالْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْحُمّى
(1/32)
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّمَا الْحُمّى أَوْ شِدّةُ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ
[ خِطَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ عَامّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَخَاصّ بِبَعْضِهِمْ ]
وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ جَهَلَةِ الْأَطِبّاءِ وَرَأَوْهُ مُنَافِيًا لِدَوَاءِ الْحُمّى وَعِلَاجِهَا وَنَحْنُ نُبَيّنُ بِحَوْلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ وَجْهَهُ وَفِقْهَهُ فَنَقُولُ خِطَابُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ عَامّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ وَخَاصّ بِبَعْضِهِمْ فَالْأَوّلُ كَعَامّةِ خِطَابِهِ وَالثّانِي : كَقَوْلِهِ لَا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ وَلَا بَوْلٍ وَلَا تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرّقُوا أَوْ غَرّبُوا فَهَذَا لَيْسَ بِخِطَابٍ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَا الْعِرَاقِ <24> وَلَكِنْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا عَلَى سَمْتِهَا كَالشّامِ وَغَيْرِهَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
[ حَدِيثُ الْحُمّى خَاصّ بِأَهْلِ الْحِجَازِ ]
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَخِطَابُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ خَاصّ بِأَهْلِ الْحِجَازِ َمَا وَالَاهُمْ إذْ كَانَ أَكْثَرُ الْحَمِيّاتِ الّتِي تَعْرِضُ لَهُمْ مِنْ نَوْعِ الْحُمّى الْيَوْمِيّةِ الْعَرَضِيّةِ الْحَادِثَةِ عَنْ شِدّةِ حَرَارَةِ الشّمْسِ وَهَذِهِ يَنْفَعُهَا الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَاغْتِسَالًا فَإِنّ الْحُمّى حَرَارَةٌ غَرِيبَةٌ تَشْتَعِلُ فِي الْقَلْبِ وَتَنْبَثّ مِنْهُ بِتَوَسّطِ الرّوحِ وَالدّمِ فِي الشّرَايِينِ وَالْعُرُوقِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ فَتَشْتَعِلُ فِيهِ اشْتِعَالًا يَضُرّ بِالْأَفْعَالِ الطّبِيعِيّةِ أَسْبَابُ الْحُمّى
(1/33)
وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ
عَرَضِيّةٌ وَهِيَ الْحَادِثَةُ إمّا عَنْ الْوَرَمِ أَوْ الْحَرَكَةِ أَوْ إصَابَةِ حَرَارَةِ الشّمْسِ أَوْ الْقَيْظِ الشّدِيدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَمَرَضِيّةٌ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ وَهِيَ لَا تَكُونُ إلّا فِي مَادّةٍ أَوْلَى ثُمّ مِنْهَا يُسَخّنُ جَمِيعُ الْبَدَنِ . فَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلّقِهَا بِالرّوحِ سُمّيَتْ حُمّى يَوْمٍ لِأَنّهَا فِي الْغَالِبِ تَزُولُ فِي يَوْمٍ وَنِهَايَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيّامٍ وَإِنْ كَانَ مَبْدَأُ تَعَلّقِهَا بِالْأَخْلَاطِ سُمّيَتْ عَفَنِيّةً وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ صَفْرَاوِيّةٌ وَسَوْدَاوِيّةٌ وَبَلْغَمِيّةٌ وَدَمَوِيّةٌ . وَإِنْ كَانَ مَبْدَأَ تَعَلّقِهَا بِالْأَعْضَاءِ الصّلْبَةِ الْأَصْلِيّةِ سُمّيَتْ حُمّى دق وَتَحْتَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ .
وَقَدْ يَنْتَفِعُ الْبَدَنُ بِالْحُمّى انْتِفَاعًا عَظِيمًا لَا يَبْلُغُهُ الدّوَاءُ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ حُمّى يَوْمٍ وَحُمّى الْعَفَنِ سَبَبًا لِإِنْضَاجِ مَوَادّ غَلِيظَةٍ لَمْ تَكُنْ تَنْضَجُ بِدُونِهَا وَسَبَبًا لِتَفَتّحِ سُدَدٍ لَمْ يَكُنْ تَصِلُ إلَيْهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُفَتّحَةُ .
[ تُبْرِئُ الْحُمّى كَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ ]
وَأَمّا الرّمَدُ الْحَدِيثُ وَالْمُتَقَادِمُ فَإِنّهَا تُبْرِئُ أَكْثَرَ أَنْوَاعِهِ بُرْءًا عَجِيبًا سَرِيعًا <25> وَتَنْفَعُ مِنْ الْفَالِجِ وَاللّقْوَةِ وَالتّشَنّجِ الِامْتِلَائِيّ وَكَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ الْحَادِثَةِ عَنْ الْفُضُولِ الْغَلِيظَةِ .
[ تَأْكِيدُ هَذَا الْقَوْلِ لِلْمُصَنّفِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْأَطِبّاءِ ]
(1/34)
وَقَالَ لِي بَعْضُ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ إنّ كَثِيرًا مِنْ الْأَمْرَاضِ نَسْتَبْشِرُ فِيهَا بِالْحُمّى كَمَا يَسْتَبْشِرُ الْمَرِيضُ بِالْعَافِيَةِ فَتَكُونُ الْحُمّى فِيهِ أَنْفَعَ مِنْ شُرْبِ الدّوَاءِ بِكَثِيرٍ فَإِنّهَا تُنْضِجُ مِنْ الْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ مَا يَضُرّ بِالْبَدَنِ فَإِذَا أَنْضَجَتْهَا صَادَفَهَا الدّوَاءُ مُتَهَيّئَةً لِلْخُرُوجِ بِنِضَاجِهَا فَأَخْرَجَهَا فَكَانَتْ سَبَبًا لِلشّفَاءِ . وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْحَدِيثِ مِنْ أَقْسَامِ الْحُمّيَاتِ الْعَرَضِيّةِ فَإِنّهَا تَسْكُنُ عَلَى الْمَكَانِ بِالِانْغِمَاسِ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَسَقْيِ الْمَاءِ الْبَارِدِ الْمَثْلُوجِ وَلَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا مَعَ ذَلِكَ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ فَإِنّهَا مُجَرّدُ كَيْفِيّةٍ حَارَةٍ مُتَعَلّقَةٍ بِالرّوحِ فَيَكْفِي فِي زَوَالِهَا مُجَرّدُ وُصُولِ كَيْفِيّةٍ بَارِدَةٍ تَسْكُنُهَا وَتُخْمِدُ لَهَبَهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى اسْتِفْرَاغِ مَادّةٍ أَوْ انْتِظَارِ نُضْجٍ .
[ اعْتِرَافُ جالينوس بِأَنّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ فِي الْحُمّى ]
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الْحُمّيَاتِ وَقَدْ اعْتَرَفَ فَاضِلُ الْأَطِبّاءِ جالينوس : بِأَنّ الْمَاءَ الْبَارِدَ يَنْفَعُ فِيهَا قَالَ فِي الْمَقَالَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ كِتَابِ " حِيلَةِ الْبُرْءِ " : وَلَوْ أَنّ رَجُلًا شَابّا حَسَنَ اللّحْمِ خِصْبَ الْبَدَنِ فِي وَقْتِ الْقَيْظِ وَفِي وَقْتِ مُنْتَهَى الْحُمّى وَلَيْسَ فِي أَحْشَائِهِ وَرَمٌ اسْتَحَمّ بِمَاءٍ بَارِدٍ أَوْ سَبَحَ فِيهِ لَانْتَفَعَ بِذَلِكَ . قَالَ وَنَحْنُ نَأْمُرُ بِذَلِكَ لَا تَوَقّفَ <26>
[ قَوْلُ الرّازِيّ ]
(1/35)
وَقَالَ الرّازِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ إذَا كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً وَالْحُمّى حَادّةً جِدّا وَالنّضْجُ بَيّنٌ وَلَا وَرَمَ فِي الْجَوْفِ وَلَا فَتْقٌ يَنْفَعُ الْمَاءُ الْبَارِدُ شُرْبًا وَإِنْ كَانَ الْعَلِيلُ خِصْبَ الْبَدَنِ وَالزّمَانُ حَارّ وَكَانَ مُعْتَادًا لِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ خَارِجٍ فَلْيُؤْذَنْ فِيهِ .
[ مَعْنَى الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ ]
وَقَوْلُهُ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّم هُوَ شِدّةُ لَهَبِهَا وَانْتِشَارِهَا وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ شِدّةُ الْحَرّ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ وَفِيهِ وَجْهَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ ذَلِكَ أُنْمُوذَجٌ وَرَقِيقَةٌ اُشْتُقّتْ مِنْ جَهَنّمَ لِيَسْتَدِلّ بِهَا الْعِبَادُ عَلَيْهَا وَيَعْتَبِرُوا بِهَا ثُمّ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ قَدّرَ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ تَقْتَضِيهَا كَمَا أَنّ الرّوحَ وَالْفَرَحَ وَالسّرُورَ وَاللّذّةَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنّةِ أَظْهَرَهَا اللّهُ فِي هَذِهِ الدّارِ عِبْرَةً وَدَلَالَةً وَقَدّرَ ظُهُورَهَا بِأَسْبَابٍ تُوجِبُهَا .
وَالثّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ التّشْبِيهَ فَشَبّهَ شِدّةَ الْحُمّى وَلَهَبَهَا بِفَيْحِ جَهَنّمُ وَشَبّهَ شِدّةَ الْحَرّ بِهِ أَيْضًا تَنْبِيهًا لِلنّفُوسِ عَلَى شِدّةِ عَذَابِ النّارِ وَأَنّ هَذِهِ الْحَرَارَةَ الْعَظِيمَةَ مُشَبّهَةٌ بِفَيْحِهَا وَهُوَ مَا يُصِيبُ مِنْ قُرْبٍ مِنْهَا مِنْ حَرّهَا .
[ مَعْنَى فَأَبْرِدُوهَا ]
وَقَوْلُهُ " فَأَبْرِدُوهَا " رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا رُبَاعِيّ مِنْ أَبْرَدَ الشّيْءَ إذَا صَيّرَهُ بَارِدًا مِثْلَ أَسْخَنَهُ إذَا صَيّرَهُ سُخْنًا .
(1/36)
وَالثّانِي : بِهَمْزَةِ الْوَصْلِ مَضْمُومَةً مِنْ بَرّدَ الشّيْءَ يُبَرّدُهُ وَهُوَ أَفْصَحُ لُغَةً وَاسْتِعْمَالًا وَالرّبَاعِيّ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ عِنْدَهُمْ قَالَ
إذَا وَجَدْتُ لَهِيبَ الْحُبّ فِي كَبِدِي
أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ
هَبْنِي بَرَدْتُ بِبَرْدِ الْمَاءِ ظَاهِرَهُ
فَمَنْ لِنَارٍ عَلَى الْأَحْشَاءِ تَتّقِدُ
<27>
[ مَعْنَى بِالْمَاءِ ]
وَقَوْلُهُ " بِالْمَاءِ " فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ كُلّ مَاءٍ وَهُوَ الصّحِيحُ .
وَالثّانِي : أَنّهُ مَاءُ زَمْزَمَ وَاحْتَجّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي جَمْرَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضّبَعِي قَالَ كُنْتُ أُجَالِسُ ابْنَ عَبّاسٍ بِمَكّة َ فَأَخَذَتْنِي الْحُمّى فَقَالَ أَبْرِدْهَا عَنْك بِمَاءِ زَمْزَمَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ أَوْ قَالَ بِمَاءِ زَمْزَمَ وَرَاوِي هَذَا قَدْ شَكّ فِيهِ وَلَوْ جَزَمَ بِهِ لَكَانَ أَمْرًا لِأَهْلِ مَكّةَ بِمَاءِ زَمْزَمَ إذْ هُوَ مُتَيَسّرٌ عِنْدَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَاءِ .
(1/37)
ثُمّ اخْتَلَفَ مَنْ قَالَ إنّهُ عَلَى عُمُومِهِ هَلْ الْمُرَادُ بِهِ الصّدَقَةُ بِالْمَاءِ أَوْ اسْتِعْمَالُهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصّحِيحُ أَنّهُ اسْتِعْمَالٌ وَأَظُنّ أَنّ الّذِي حَمَلَ مَنْ قَالَ الْمُرَادُ الصّدَقَةُ بِهِ أَنّهُ أَشْكَلَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْحُمّى وَلَمْ يَفْهَمْ وَجْهَهُ مَعَ أَنّ لِقَوْلِهِ وَجْهًا حَسَنًا وَهُوَ أَنّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ فَكَمَا أَخْمَدَ لَهِيبَ الْعَطَشِ عَنْ الظّمْآنِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَخْمَدَ اللّهُ لَهِيبَ الْحُمّى عَنْهُ جَزَاءً وِفَاقًا وَلَكِنّ هَذَا يُؤْخَذُ مِنْ فِقْهِ الْحَدِيثِ وَإِشَارَتِهِ وَأَمّا الْمُرَادُ بِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ إذَا حُمّ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُشّ عَلَيْهِ الْمَاءَ الْبَارِدَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مِنْ السّحَر <28> وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ الْحُمّى كِيرٌ مِنْ كِيرِ جَهَنّمَ فَنَحّوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفِي " الْمُسْنَدِ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ يَرْفَعُهُ الْحُمّى قِطْعَةٌ مِنْ النّارِ فَأَبْرِدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا حُمّ دَعَا بِقِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَأَفْرَغَهَا عَلَى رَأْسِهِ فَاغْتَسَلَ وَفِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ ذُكِرَتْ الْحُمّى عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّهَا رَجُلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَسُبّهَا فَإِنّهَا تَنْفِي الذّنُوبَ كَمَا تَنْفِي النّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
(1/38)
لِمَا كَانَتْ الْحُمّى يَتْبَعُهَا حَمِيّةٌ عَنْ الْأَغْذِيَةِ الرّدِيئَةِ وَتَنَاوُلِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ النّافِعَةِ وَفِي ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى تَنْقِيَةِ الْبَدَنِ وَنَفْيُ أَخْبَاثِهِ وَفُضُولِهِ وَتَصْفِيَتِهِ مِنْ مَوَادّهِ الرّدِيئَةِ وَتَفْعَلُ فِيهِ كَمَا تَفْعَلُ النّارُ فِي الْحَدِيدِ فِي نَفْيِ خَبَثِهِ وَتَصْفِيَةِ جَوْهَرِهِ كَانَتْ أَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِنَارِ الْكِيرِ الّتِي تُصَفّي جَوْهَرَ الْحَدِيدِ وَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمَعْلُومُ عِنْدَ أَطِبّاءِ الْأَبْدَانِ .
[ الْحُمّى تَنْفَعُ الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ ]
وَأَمّا تَصْفِيَتُهَا الْقَلْبَ مِنْ وَسَخِهِ وَدَرَنِهِ وَإِخْرَاجَهَا خَبَائِثَهُ فَأَمْرٌ يَعْلَمُهُ أَطِبّاءُ الْقُلُوبِ وَيَجِدُونَهُ كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ نَبِيّهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنْ مَرَضُ الْقَلْبِ إذَا <29> صَارَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ .
فَالْحُمّى تَنْفَعُ الْبَدَنَ وَالْقَلْبَ وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَسَبّهُ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَذَكَرْت مَرّةً وَأَنَا مَحْمُومٌ قَوْلَ بَعْضِ الشّعَرَاءِ يَسُبّهَا :
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ وَوَدّعَت
تَبّا لَهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّعِ
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمْت عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْتُ أَنْ لَا تَرْجِعِي
فَقُلْت : تَبّا لَهُ إذْ سَبّ مَا نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ سَبّهِ وَلَوْ قَالَ
زَارَتْ مُكَفّرَةُ الذّنُوبِ لِصَبّهَا
أَهْلًا بِهَا مِنْ زَائِرٍ وَمُوَدّع
قَالَتْ وَقَدْ عَزَمَتْ عَلَى تَرْحَالِهَا
مَاذَا تُرِيدُ فَقُلْت : أَنْ لَا تُقْلِعِي
(1/39)
لَكَانَ أَوْلَى بِهِ وَلَأَقْلَعَتْ عَنْهُ فَأَقْلَعَتْ عَنّي سَرِيعًا . وَقَدْ رُوِيَ فِي أَثَرٍ لَا أَعْرِفُ حَالَهُ حُمّى يَوْمٍ كَفّارَةُ سَنَةٍ وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْحُمّى تَدْخُلُ فِي كُلّ الْأَعْضَاءِ وَالْمَفَاصِلِ وَعِدّتُهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتّونَ مَفْصِلًا فَتُكَفّرُ عَنْهُ - بِعَدَدِ كُلّ مَفْصِلٍ - ذُنُوبَ يَوْمٍ .
وَالثّانِي : أَنّهَا تُؤَثّرُ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرًا لَا يَزُولُ بِالْكُلّيّةِ إلَى سَنَةٍ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا إنّ أَثَرَ الْخَمْرِ يَبْقَى فِي جَوْفِ الْعَبْدِ وَعُرُوقِهِ وَأَعْضَائِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ <30>
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُنِي أَحَبّ إلَيّ مِنْ الْحُمّى لِأَنّهَا تَدْخُلُ فِي كُلّ عُضْوٍ مِنّي وَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يُعْطِي كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْ الْأَجْرِ
وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ يَرْفَعُهُ إذَا أَصَابَتْ أَحَدَكُمْ الْحُمّى - وَإِنّ الْحُمّى قِطْعَةٌ مِنْ النّارِ - فَلْيُطْفِئْهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَيَسْتَقْبِلْ نَهَرًا جَارِيًا فَلْيَسْتَقْبِلْ جَرْيَةَ الْمَاءِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَلْيَقُلْ بِسْمِ اللّهِ اللّهُمّ اشْفِ عَبْدَك وَصَدّقْ رَسُولَك وَيَنْغَمِسُ فِيهِ ثَلَاثَ غَمَسَاتٍ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ فَإِنْ بَرِئَ وَإِلّا فَفِي خَمْسٍ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي خَمْسٍ فَسَبْعٌ فَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي سَبْعٍ فَتِسْعٌ فَإِنّهَا لَا تَكَادُ تُجَاوِزُ تِسْعًا بِإِذْنِ اللّهِ
(1/40)
قُلْت : وَهُوَ يَنْفَعُ فِعْلُهُ فِي فَصْلِ الصّيْفِ فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ عَلَى الشّرَائِطِ الّتِي تَقَدّمَتْ فَإِنّ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَبْرَدُ مَا يَكُونُ لِبُعْدِهِ عَنْ مُلَاقَاةِ الشّمْسِ وَوُفُورِ الْقُوَى فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمّا أَفَادَهَا النّوُمُ وَالسّكُونُ وَبَرْدُ الْهَوَاءِ فَتَجْتَمِعُ فِيهِ قُوّةُ الْقُوَى وَقُوّةُ الدّوَاءِ وَهُوَ الْمَاءُ الْبَارِدُ عَلَى حَرَارَةِ الْحُمّى الْعَرَضِيّةِ أَوْ الْغِبّ الْخَالِصَةِ أَعْنِي الّتِي لَا وَرَمَ مَعَهَا وَلَا شَيْءَ مِنْ الْأَعْرَاضِ الرّدِيئَةِ وَالْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ فَيُطْفِئُهَا بِإِذْنِ اللّهِ لَا سِيّمَا فِي أَحَدِ الْأَيّامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ وَهِيَ الْأَيّامُ الّتِي يَقَعُ فِيهَا بُحْرَانُ الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ كَثِيرًا سِيّمَا فِي الْبِلَادِ الْمَذْكُورَةِ لِرِقّةِ أَخْلَاطِ سُكّانِهَا وَسُرْعَةِ انْفِعَالِهِمْ عَنْ الدّوَاءِ النّافِعِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ اسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ
[ عِلَاجُهُ بِالْعَسَلِ ]
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْمُتَوَكّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَجُلًا أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ أَخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ وَفِي رِوَايَةٍ اسْتَطْلَقَ بَطْنَهُ فَقَالَ <31> اسْقِهِ عَسَلًا " فَذَهَبَ ثُمّ رَجَعَ فَقَالَ قَدْ سَقَيْته فَلَمْ يُغْنِ عَنْهُ شَيْئًا وَفِي لَفْظٍ فَلَمْ يَزِدْهُ إلّا اسْتِطْلَاقًا مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ اسْقِهِ عَسَلًا " فَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ أَوْ الرّابِعَةِ صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ
(1/41)
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " فِي لَفْظٍ لَهُ " إنّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ " أَيْ فَسَدَ هَضْمُهُ وَاعْتَلّتْ مَعِدَتُهُ وَالِاسْمُ الْعَرَبُ بِفَتْحِ الرّاءِ وَالذّرَبُ أَيْضًا .
[ مَنَافِعُ الْعَسَلِ ]
وَالْعَسَلُ فِيهِ مَنَافِعُ عَظِيمَةٌ فَإِنّهُ جَلَاءٌ لِلْأَوْسَاخِ الّتِي فِي الْعُرُوقِ وَالْأَمْعَاءِ وَغَيْرِهَا مُحَلّلٌ لِلرّطُوبَاتِ أَكْلًا وَطِلَاءً نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَأَصْحَابِ الْبَلْغَمِ وَمَنْ كَانَ مِزَاجُهُ بَارِدًا رَطْبًا وَهُوَ مُغَذّ مُلَيّنٌ لِلطّبِيعَةِ حَافِظٌ لِقُوَى الْمَعَاجِين وَلِمَا اُسْتُوْدِعَ فِيهِ مَذْهَبٌ لِكَيْفِيّاتِ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ مُنَقّ لِلْكَبِدِ وَالصّدْرِ مُدِرّ لِلْبَوْلِ مُوَافِقٌ لِلسّعَالِ الْكَائِنِ عَنْ الْبَلْغَمِ وَإِذَا شُرِبَ حَارّا بِدُهْنِ الْوَرْدِ نَفْعٌ مِنْ نَهْشِ الْهَوَامّ وَشُرْبِ الْأَفْيُونِ وَإِنْ شُرِبَ وَحْدَهُ مَمْزُوجًا بِمَاءٍ نَفَعَ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ وَأَكْلِ الْفُطُرِ الْقَتّالِ وَإِذَا جُعِلَ فِيهِ اللّحْمُ الطّرِيّ حَفِظَ طَرَاوَتَهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَكَذَلِكَ إنْ جُعِلَ فِيهِ الْقِثّاءُ وَالْخِيَارُ وَالْقَرْعُ وَالْبَاذِنْجَانُ وَيَحْفَظُ كَثِيرًا مِنْ الْفَاكِهَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ وَيَحْفَظُ جُثّةَ الْمَوْتَى وَيُسَمّى الْحَافِظَ الْأَمِينَ . وَإِذَا لُطّخَ بِهِ الْبَدَنُ الْمُقَمّلُ وَالشّعْرُ قَتَلَ قَمْلَهُ وَصِئْبَانَهُ وَطَوّلَ الشّعَرَ وَحَسّنَهُ وَنَعّمَهُ وَإِنْ اكْتَحَلَ بِهِ جَلَا ظُلْمَةَ الْبَصَرِ وَإِنْ اُسْتُنّ بِهِ بَيّضَ الْأَسْنَانَ وَصَقَلَهَا وَحَفِظَ صِحّتَهَا وَصِحّةَ اللّثَةِ وَيَفْتَحُ أَفْوَاهَ الْعُرُوقِ وَيُدِرّ الطّمْثَ وَلَعْقُهُ عَلَى الرّيقِ يُذْهِبُ الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَدْفَعُ الْفَضَلَاتِ عَنْهَا وَيُسَخّنُهَا
(1/42)
تَسْخِينًا مُعْتَدِلًا وَيَفْتَحُ سَدَدَهَا وَيَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْكَبِدِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَهُوَ أَقَلّ ضَرَرًا لِسُدَدِ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ . وَهُوَ مَعَ هَذَا كُلّهِ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ قَلِيلُ الْمَضَارّ مُضِرّ بِالْعَرْضِ لِلصّفْرَاوِيّيْنِ <32> وَدَفْعُهَا بِالْخَلّ وَنَحْوِهِ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ نَافِعًا لَهُ جِدّا .
وَهُوَ غِذَاءٌ مَعَ الْأَغْذِيَةِ وَدَوَاءٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَحُلْوٌ مَعَ الْحَلْوَى وَطِلَاءٌ مَعَ الْأطْلِيَةِ وَمُفَرّحٌ مَعَ الْمُفَرّحَات فَمَا خُلِقَ لَنَا شَيْءٌ فِي مَعْنَاهُ أَفْضَلَ مِنْهُ وَلَا مِثْلَهُ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ مُعَوّلُ الْقُدَمَاءِ إلّا عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ كُتُبِ الْقُدَمَاءِ لَا ذِكْرَ فِيهَا لِلسّكْرِ الْبَتّةَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ فَإِنّهُ حَدِيثُ الْعَهْدِ حَدَثَ قَرِيبًا وَكَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْرَبُهُ بِالْمَاءِ عَلَى الرّيقِ وَفِي ذَلِكَ سِرّ بَدِيعٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ لَا يُدْرِكُهُ إلّا الْفَطِنُ الْفَاضِلُ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ عِنْدَ ذِكْرِ هَدْيِهِ فِي حِفْظِ الصّحّةِ .
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَنْ لَعِقَ الْعَسَلَ ثَلَاثَ غَدَوَاتٍ كُلّ شَهْرٍ لَمْ يُصِبْهُ عَظِيمٌ مِنْ الْبَلَاءِ وَفِي أَثَرٍ آخَرَ عَلَيْكُمْ بِالشّفَاءَيْنِ الْعَسَلِ وَالْقُرْآن فَجَمَعَ بَيْنَ الطّبّ الْبَشَرِيّ وَالْإِلَهِيّ وَبَيْنَ طِبّ الْأَبْدَانِ وَطِبّ الْأَرْوَاحِ وَبَيْنَ الدّوَاءِ الْأَرْضِيّ وَالدّوَاءِ السّمَائِيّ .
(1/43)
إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذَا الّذِي وَصَفَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ كَانَ اسْتِطْلَاقُ بَطْنه عَنْ تُخَمَةٍ أَصَابَتْهُ عَنْ امْتِلَاءٍ فَأَمَرَهُ بِشُرْبِ الْعَسَلِ لِدَفْعِ الْفُضُولِ الْمُجْتَمِعَةِ فِي نَوَاحِي الْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ فَإِنّ الْعَسَلَ فِيهِ جِلَاءٌ وَدَفْعٌ لِلْفُضُولِ وَكَانَ قَدْ أَصَابَ الْمَعِدَةَ أَخْلَاطٌ لَزِجَةٌ تَمْنَعُ اسْتِقْرَارَ الْغِذَاءِ فِيهَا لِلُزُوجَتِهَا فَإِنّ الْمَعِدَةَ لَهَا خَمْلٌ كَخَمْلِ الْقَطِيفَةِ فَإِذَا عَلِقَتْ بِهَا الْأَخْلَاطُ اللّزِجَةُ أَفْسَدَتْهَا <33> وَأَفْسَدَتْ الْغِذَاءَ فَدَوَاؤُهَا بِمَا يَجْلُوهَا مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاطِ وَالْعَسَلُ جِلَاءٌ وَالْعَسَلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا عُولِجَ بِهِ هَذَا الدّاءُ لَا سِيّمَا إنْ مُزِجَ بِالْمَاءِ الْحَارّ .
[ فَائِدَةُ تَكْرَارِ سَقْيِ الْعَسَلِ ]
(1/44)
وَفِي تَكْرَارِ سَقْيِهِ الْعَسَلَ مَعْنًى طِبّيّ بَدِيعٌ وَهُوَ أَنّ الدّوَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِقْدَارٌ وَكَمّيّةٌ بِحَسْبِ حَالِ الدّاءِ إنْ قَصِرَ عَنْهُ لَمْ يُزِلْهُ بِالْكُلّيّةِ وَإِنْ جَاوَزَهُ . أَوْهَى الْقُوَى فَأَحْدَثَ ضَرَرًا آخَرَ فَلَمّا أَمَرَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ الْعَسَلَ سَقَاهُ مِقْدَارًا لَا يَفِي بِمُقَاوَمَةِ الدّاءِ وَلَا يَبْلُغُ الْغَرَضَ فَلَمّا أَخْبَرَهُ عَلِمَ أَنّ الّذِي سَقَاهُ لَا يَبْلُغُ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ فَلَمّا تَكَرّرَ تَرْدَادُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكّدَ عَلَيْهِ الْمُعَاوَدَةَ لِيَصِلَ إلَى الْمِقْدَارِ الْمُقَاوِمِ لِلدّاءِ فَلَمّا تَكَرّرَتْ الشّرَبَاتُ بِحَسْبِ مَادّةِ الدّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللّهِ وَاعْتِبَارُ مَقَادِيرِ الْأَدْوِيَةِ وَكَيْفِيّاتِهَا وَمِقْدَارِ قُوّةِ الْمَرَضِ مَرَضٌ مِنْ أَكْبَرِ قَوَاعِدِ الطّبّ .
[ مَعْنَى صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك ]
" وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ اللّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيك إشَارَةً إلَى تَحْقِيقِ نَفْعِ هَذَا الدّوَاءِ وَأَنّ بَقَاءَ الدّاءِ لَيْسَ لِقُصُورِ الدّوَاءِ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنْ لِكَذِبِ الْبَطْنِ وَكَثْرَةِ الْمَادّةِ الْفَاسِدَةِ فِيهِ فَأَمَرَهُ بِتَكْرَارِ الدّوَاءِ لِكَثْرَةِ الْمَادّةِ .
(1/45)
وَلَيْسَ طِبّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَطِبّ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ طِبّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُتَيَقّنٌ قَطْعِيّ إلَهِيّ صَادِرٌ عَنْ الْوَحْيِ وَمِشْكَاةِ النّبُوّةِ وَكَمَالِ الْعَقْلِ . وَطِبّ غَيْرِهِ أَكْثَرُهُ حَدْسٌ وَظُنُونٌ وَتَجَارِبُ وَلَا يُنْكَرُ عَدَمُ انْتِفَاعِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَرْضَى بِطِبّ النّبُوّةِ فَإِنّهُ إنّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ تَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادِ الشّفَاءِ بِهِ وَكَمَالِ التّلَقّي لَهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ فَهَذَا الْقُرْآنُ الّذِي هُوَ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ - إنْ لَمْ يُتَلَقّ هَذَا التّلَقّي - لَمْ يَحْصُلْ بِهِ شِفَاءُ الصّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا بَلْ لَا يَزِيدُ الْمُنَافِقِينَ إلّا رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ وَمَرَضًا إلَى مَرَضِهِمْ وَأَيْنَ يَقَعُ طِبّ الْأَبْدَانِ مِنْهُ فَطِبّ النّبُوّةِ لَا يُنَاسِبُ إلّا الْأَبْدَانَ الطّيّبَةَ كَمَا أَنّ شِفَاءَ الْقُرْآنِ لَا يُنَاسِبُ إلّا الْأَرْوَاحَ الطّيّبَةَ وَالْقُلُوبَ الْحَيّةَ فَإِعْرَاضُ النّاسِ عَنْ طِبّ النّبُوّةِ كَإِعْرَاضِهِمْ عَنْ الِاسْتِشْفَاءِ بِالْقُرْآنِ الّذِي هُوَ الشّفَاءُ النّافِعُ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِقُصُورٍ فِي الدّوَاءِ وَلَكِنْ لِخُبْثِ الطّبِيعَةِ وَفَسَادِ الْمَحَلّ وَعَدَمِ قَبُولِهِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . <34>
فَصْلٌ
[ بَيَانُ أَنّ الْعَسَلَ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ ]
(1/46)
وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ [ النّحْلُ 69 ] هَلْ الضّمِيرُ فِي " فِيهِ " رَاجِعٌ إلَى الشّرَابِ أَوْ رَاجِعٌ إلَى الْقُرْآنِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ الصّحِيحُ رُجُوعُهُ إلَى الشّرَابِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبّاسٍ وَالْحَسَن ِ وَقَتَادَةَ وَالْأَكْثَرِينَ فَإِنّهُ هُوَ الْمَذْكُورُ وَالْكَلَامُ سِيقَ لَأَجْلِهِ وَلَا ذِكْرَ لِلْقُرْآنِ فِي الْآيَةِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الصّحِيحُ وَهُوَ قَوْلُهُ " صَدَقَ اللّهُ " كَالصّرِيحِ فِيهِ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الطّاعُونِ وَعِلَاجِهِ وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ : مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الطّاعُونِ ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَعَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَارًا مِنْهُ
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا : عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ <35>
[ مَا هُوَ الطّاعُونُ ]
(1/47)
الطّاعُونُ - مِنْ حَيْثُ اللّغَةِ - نَوْعٌ مِنْ الْوَبَاءِ قَالَهُ صَاحِبُ " الصّحَاحِ " وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الطّبّ : وَرَمٌ رَدِيءٌ قَتّالٌ يَخْرُجُ مَعَهُ تَلَهّبٌ شَدِيدٌ مُؤْلِمٌ جِدّا يَتَجَاوَزُ الْمِقْدَارَ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُ مَا حَوْلَهُ فِي الْأَكْثَرِ أَسْوَدَ أَوْ أَخْضَرَ أَوْ أَكْمَدَ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى التّقَرّحِ سَرِيعًا . وَفِي الْأَكْثَرِ يَحْدُثُ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الْإِبْطِ وَخَلْفَ الْأُذُنِ وَالْأَرْنَبَةِ وَفِي اللّحُومِ الرّخْوَةِ .
وَفِي أَثَرٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الطّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَمَا الطّاعُونُ ؟ قَالَ غُدّةٌ كَغُدّةِ الْبَعِيرِ يَخْرُجُ فِي الْمَرَاقّ وَالْإِبْط
قَالَ الْأَطِبّاءُ إذَا وَقَعَ الْخَرّاجُ فِي اللّحُومِ الرّخْوَةِ وَالْمَغَابِنِ وَخَلْفَ الْأُذُنِ وَالْأَرْنَبَةِ وَكَانَ مِنْ جِنْسٍ فَاسِدٍ سُمّيَ طَاعُونًا وَسَبَبُهُ دَمٌ رَدِيءٌ مَائِلٌ إلَى الْعُفُونَةِ وَالْفَسَادِ مُسْتَحِيلٌ إلَى جَوْهَرٍ سُمِيّ يُفْسِدُ الْعُضْوَ وَيُغَيّرُ مَا يَلِيهِ وَرُبّمَا رَشَحَ دَمًا وَصَدِيدًا وَيُؤَدّي إلَى الْقَلْبِ كَيْفِيّة رَدِيئَة فَيَحْدُثُ الْقَيْءُ وَالْخَفَقَانُ وَالْغَشْيُ وَهَذَا الِاسْمُ وَإِنْ كَانَ يَعُمّ كُلّ وَرَمٍ يُؤَدّي إلَى الْقَلْبِ كَيْفِيّة رَدِيئَة حَتّى يَصِيرَ لِذَلِكَ قَتّالًا فَإِنّهُ يَخْتَصّ بِهِ الْحَادِثُ فِي اللّحْمِ الْغُدَدِيّ لِأَنّهُ لِرَدَاءَتِهِ لَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ إلّا مَا كَانَ أَضْعَفَ بِالطّبْعِ وَأَرْدَؤُهُ مَا حَدَثَ فِي الْإِبِطِ وَخَلْفَ الْأُذُنِ لِقُرْبِهِمَا مِنْ الْأَعْضَاءِ الّتِي هِيَ أَرْأَسُ وَأَسْلَمُهُ الْأَحْمَرُ ثُمّ الْأَصْفَرُ . وَاَلّذِي إلَى السّوَادِ فَلَا يَفْلِتُ مِنْهُ أَحَدٌ .
(1/48)
وَلَمّا كَانَ الطّاعُونُ يَكْثُرُ فِي الْوَبَاءِ وَفِي الْبِلَادِ الْوَبِيئَةِ عَبّرَ عَنْهُ بِالْوَبَاءِ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ الْوَبَاءُ الطّاعُونُ . وَقِيلَ هُوَ كُلّ مَرَضٍ يَعُمّ وَالتّحْقِيقُ أَنّ بَيْنَ الْوَبَاءِ <36> وَالطّاعُونِ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَكُلّ طَاعُونٍ وَبَاءٌ وَلَيْسَ كُلّ وَبَاءٍ طَاعُونًا وَكَذَلِكَ الْأَمْرَاضُ الْعَامّةُ أَعَمّ مِنْ الطّاعُونِ فَإِنّهُ وَاحِدٌ مِنْهَا وَالطّوَاعِينُ خَرّاجَاتٌ وَقُرُوحٌ وَأَوْرَامٌ رَدِيئَةٌ حَادِثَةٌ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهَا .
[ آثَارُ الطّاعُونِ ]
قُلْت : هَذِهِ الْقُرُوحُ وَالْأَوْرَامُ وَالْجِرَاحَاتُ هِيَ آثَارُ الطّاعُونِ وَلَيْسَتْ نَفْسَهُ وَلَكِنّ الْأَطِبّاءَ لِمَا لَمْ تُدْرِكْ مِنْهُ إلّا الْأَثَرَ الظّاهِرَ جَعَلُوهُ نَفْسَ الطّاعُونِ . وَالطّاعُونُ يُعَبّرُ بِهِ عَنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ
أَحَدُهَا : هَذَا الْأَثَرُ الظّاهِرُ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَهُ الْأَطِبّاءُ .
وَالثّانِي : الْمَوْتُ الْحَادِثُ عَنْهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ فِي قَوْلِهِ الطّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلّ مُسْلِمٍ
وَالثّالِثُ السّبَبُ الْفَاعِلُ لِهَذَا الدّاءِ وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَنّهُ بَقِيّةُ رِجْزٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَوَرَدَ فِيهِ " أَنّهُ وَخْزُ الْجِن " وَجَاءَ أَنّهُ دَعْوَةُ نَبِيّ .
[ بَيَانُ مَا لِلْجِنّ مِنْ تَأْثِيرٍ فِي الطّاعُونِ - وَكَيْفِيّةُ دَفْعِهِ ]
(1/49)
وَهَذِهِ الْعِلَلُ وَالْأَسْبَابُ لَيْسَ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مَا يَدْفَعُهَا كَمَا لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَدُلّ عَلَيْهَا وَالرّسُلُ تُخْبَرُ بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ وَهَذِهِ الْآثَارُ الّتِي أَدْرَكُوهَا مِنْ أَمْرِ الطّاعُونِ لَيْسَ مَعَهُمْ مَا يَنْفِي أَنْ تَكُونَ بِتَوَسّطِ الْأَرْوَاحِ فَإِنّ تَأْثِيرَ الْأَرْوَاحِ فِي الطّبِيعَةِ وَأَمْرَاضِهَا وَهَلَاكِهَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إلّا مَنْ هُوَ أَجْهَلُ النّاسِ بِالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا وَانْفِعَالِ الْأَجْسَامِ وَطَبَائِعِهَا عَنْهَا وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ يَجْعَلُ لِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ تَصَرّفًا فِي أَجْسَامِ بَنِي آدَمَ عِنْدَ حُدُوثِ الْوَبَاءِ وَفَسَادِ الْهَوَاءِ كَمَا يُجْعَلُ لَهَا تَصَرّفًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ الّتِي تُحْدِثُ لِلنّفُوسِ هَيْئَةً رَدِيئَةً وَلَا سِيّمَا عِنْدَ هَيَجَانِ الدّمِ وَالْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَعِنْدَ هَيَجَانِ الْمَنِيّ فَإِنّ الْأَرْوَاحَ الشّيْطَانِيّةَ تَتَمَكّنُ مِنْ فِعْلِهَا بِصَاحِبِ <37> هَذِهِ الْعَوَارِضِ مَا لَا تَتَمَكّنُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَدْفَعْهَا دَافِعٌ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ مِنْ الذّكْرِ وَالدّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتّضَرّعِ وَالصّدَقَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ يَسْتَنْزِلُ بِذَلِكَ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْمَلَكِيّةِ مَا يَقْهَرُ هَذِهِ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ وَيُبْطِلُ شَرّهَا وَيَدْفَعُ تَأْثِيرَهَا وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا مِرَارًا لَا يُحْصِيهَا إلّا اللّهُ وَرَأَيْنَا لِاسْتِنْزَالِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ وَاسْتِجْلَابِ قُرْبِهَا تَأْثِيرًا عَظِيمًا فِي تَقْوِيَةِ الطّبِيعَةِ وَدَفْعِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ وَهَذَا يَكُونُ قَبْلَ اسْتِحْكَامِهَا وَتَمَكّنِهَا وَلَا يَكَادُ
(1/50)
يَنْخَرِمُ فَمَنْ وَفّقَهُ اللّهُ بَادَرَ عِنْدَ إحْسَاسِهِ بِأَسْبَابِ الشّرّ إلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ الّتِي تَدْفَعُهَا عَنْهُ وَهِيَ لَهُ مِنْ أَنْفَعِ الدّوَاءِ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إنْفَاذَ قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ أَغْفَلَ قَلْبَ الْعَبْدِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا وَتَصَوّرِهَا وَإِرَادَتِهَا فَلَا يَشْعُرُ بِهَا وَلَا يُرِيدُهَا لِيَقْضِيَ اللّهُ فِيهِ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا .
وَسَنَزِيدُ هَذَا الْمَعْنَى إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى إيضَاحًا وَبَيَانًا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى التّدَاوِي بِالرّقَى وَالْعُوَذِ النّبَوِيّةِ وَالْأَذْكَارِ وَالدّعَوَاتِ وَفِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَنُبَيّنُ أَنّ نِسْبَةَ طِبّ الْأَطِبّاءِ إلَى هَذَا الطّبّ النّبَوِيّ كَنِسْبَةِ طِبّ الطّرْقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ حُذّاقُهُمْ وَأَئِمّتُهُمْ وَنُبَيّنُ أَنّ الطّبِيعَةَ الْإِنْسَانِيّةَ أَشَدّ شَيْءٍ انْفِعَالًا عَنْ الْأَرْوَاحِ وَأَنّ قُوَى الْعُوَذِ وَالرّقَى وَالدّعَوَاتِ فَوْقَ قُوَى الْأَدْوِيَةِ حَتّى إنّهَا تُبْطِلُ قُوَى السّمُومِ الْقَاتِلَةِ .
[ فَسَادُ الْهَوَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الطّاعُونِ وَبَيَانُ حَالِهِ فِي الْفُصُولِ ]
(1/51)
وَالْمَقْصُودِ أَنّ فَسَادَ الْهَوَاءِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ السّبَبِ التّامّ وَالْعِلّةِ الْفَاعِلَةِ لِلطّاعُونِ فَإِنّ فَسَادَ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ الْمُوجِبِ لِحُدُوثِ الْوَبَاءِ وَفَسَادِهِ يَكُونُ لِاسْتِحَالَةِ جَوْهَرِهِ إلَى الرّدَاءَةِ لِغَلَبَةِ إحْدَى الْكَيْفِيّاتِ الرّدِيئَةِ عَلَيْهِ كَالْعُفُونَةِ وَالنّتِنِ وَالسّمَيّةِ فِي أَيّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوْقَاتِ السّنَةِ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ حُدُوثِهِ فِي أَوَاخِرِ الصّيْفِ وَفِي الْخَرِيفِ غَالِبًا لِكَثْرَةِ اجْتِمَاعِ الْفَضَلَاتِ الْمَرَارِيّةِ الْحَادّةِ وَغَيْرِهَا فِي فَصْلِ الصّيْفِ وَعَدَمِ تَحَلّلِهَا فِي آخِرِهِ وَفِي الْخَرِيفِ لِبَرْدِ الْجَوّ وَرَدْغَةِ الْأَبْخِرَةِ وَالْفَضَلَاتِ الّتِي كَانَتْ تَتَحَلّلُ فِي زَمَنِ الصّيْفِ . فَتَنْحَصِرُ فَتَسْخَنُ وَتُعَفّنُ فَتُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ الْعَفِنَةَ وَلَا سِيّمَا إذَا صَادَفَتْ الْبَدَنَ مُسْتَعَدّا قَابِلًا رَهَلًا قَلِيلَ <38> الْحَرَكَةِ كَثِيرَ الْمَوَادّ فَهَذَا لَا يَكَادُ يُفْلِتُ مِنْ الْعَطَبِ .
(1/52)
وَأَصَحّ الْفُصُولِ فِيهِ فَصْلُ الرّبِيعِ . قَالَ إِبّقْرَاط : إنّ فِي الْخَرِيفِ أَشَدّ مَا تَكُونُ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَأَقْتَلُ وَأَمّا الرّبِيعُ فَأَصَحّ الْأَوْقَاتِ كُلّهَا وَأَقَلّهَا مَوْتًا وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ الصّيَادِلَةِ وَمُجَهّزِي الْمَوْتَى أَنّهُمْ يَسْتَدِينُونَ وَيَتَسَلّفُونَ فِي الرّبِيعِ وَالصّيْفِ عَلَى فَصْلِ الْخَرِيفِ فَهُوَ رَبِيعُهُمْ وَهُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَأَفْرَحُ بِقُدُومِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثِ إذَا طَلَعَ النّجْمُ ارْتَفَعَتْ الْعَاهَةُ عَنْ كُلّ بَلَدٍ . وَفُسّرَ بِطُلُوعِ الثّرَيّا وَفُسّرَ بِطُلُوعِ النّبَاتِ زَمَنَ الرّبِيعِ وَمِنْهُ وَالنّجْمُ وَالشّجَرُ يَسْجُدَانِ [ الرّحْمَنُ 7 ] فَإِنّ كَمَالَ طُلُوعِهِ وَتَمَامَهُ يَكُونُ فِي فَصْلِ الرّبِيعِ وَهُوَ الْفَصْلُ الّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ الْآفَاتُ .
وَأَمّا الثّرَيّا فَالْأَمْرَاضُ تَكْثُرُ وَقْتَ طُلُوعِهَا مَعَ الْفَجْرِ وَسُقُوطِهَا .
قَالَ التّمِيمِيّ فِي كِتَابِ " مَادّةِ الْبَقَاءِ " : أَشَدّ أَوْقَاتِ السّنَةِ فَسَادًا وَأَعْظَمُهَا بَلِيّةً عَلَى الْأَجْسَادِ وَقْتَانِ
أَحَدُهُمَا : وَقْتُ سُقُوطِ الثّرَيّا لِلْمَغِيبِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ . <39>
(1/53)
وَالثّانِي : وَقْتَ طُلُوعِهَا مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ طُلُوعِ الشّمْسِ عَلَى الْعَالَمِ بِمَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْقَمَرِ وَهُوَ وَقْتُ تَصَرّمٍ فَصْلُ الرّبِيعِ وَانْقِضَائِهِ غَيْرَ أَنّ الْفَسَادَ الْكَائِنَ عِنْدَ طُلُوعِهَا أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْفَسَادِ الْكَائِنِ عِنْدَ سُقُوطِهَا . وَقَالَ أَبُو مُحَمّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ يُقَالُ مَا طَلَعَتْ الثّرَيّا وَلَا نَأْتِ إلّا بِعَاهَةٍ فِي النّاسِ وَالْإِبِلِ وَغُرُوبُهَا أَعْوَهُ مِنْ طُلُوعِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ قَوْلٌ ثَالِثٌ - وَلَعَلّهُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِهِ - أَنّ الْمُرَادَ بِالنّجْمِ الثّرَيّا وَبِالْعَاهَةِ الْآفَةُ الّتِي تُلْحِقُ الزّرُوعَ وَالثّمَارَ فِي فَصْلِ الشّتَاءِ وَصَدْرِ فَصْلِ الرّبِيعِ فَحَصَلَ الْأَمْنُ عَلَيْهَا عِنْدَ طُلُوعِ الثّرَيّا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَلِذَلِكَ نَهَى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ الثّمَرَةِ وَشِرَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا . وَالْمَقْصُودُ الْكَلَامُ عَلَى هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ وُقُوعِ الطّاعُونِ .
فَصْلٌ
[النّهْيُ عَنْ الدّخُولِ إلَى أَرْضِ الطّاعُونِ أَوْ الْخُرُوجِ مِنْهَا ]
(1/54)
وَقَدْ جَمَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْأُمّةِ فِي نَهْيِهِ عَنْ الدّخُولِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي هُوَ بِهَا وَنَهْيهِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِهِ كَمَالِ التّحَرّزِ مِنْهُ فَإِنّ فِي الدّخُولِ فِي الْأَرْضِ الّتِي هُوَ بِهَا تَعَرّضًا لِلْبَلَاءِ وَمُوَافَاةً لَهُ فِي مَحَلّ سُلْطَانِهِ وَإِعَانَةً لِلْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلشّرْعِ وَالْعَقْلِ بَلْ تَجَنّبُ الدّخُولِ إلَى أَرْضِهِ مِنْ بَابِ الْحِمْيَةِ الّتِي أَرْشَدَ اللّهُ سُبْحَانَهُ إلَيْهَا وَهِيَ حَمِيّةٌ عَنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَهْوِيَةِ الْمُؤْذِيَةِ .
[ مَعْنَى النّهْيِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ الْبَلَدِ ]
وَأَمّا نَهْيُهُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ بَلَدِهِ فَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا : حَمْلُ النّفُوسِ عَلَى الثّقَةِ بِاَللّهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالصّبْرِ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَالرّضَى بِهَا .
[ يَجِبُ عَلَى الْمَطْعُونِ السّكُونُ وَالدّعَةُ وَهُوَ مُنَافٍ لِلسّفَرِ ]
(1/55)
وَالثّانِي : مَا قَالَهُ أَئِمّةُ الطّبّ : أَنّهُ يَجِبُ عَلَى كُلّ مُحْتَرِزٍ مِنْ الْوَبَاءِ أَنْ يُخْرِجَ <40> عَنْ بَدَنِهِ الرّطُوبَاتِ الفضلية وَيُقَلّلُ الْغِذَاءَ وَيَمِيلُ إلَى التّدْبِيرِ الْمُجَفّفِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ إلّا الرّيَاضَةَ وَالْحُمَامَ فَإِنّهُمَا مِمّا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَا لِأَنّ الْبَدَنَ لَا يَخْلُو غَالِبًا مِنْ فَضْلٍ رَدِيءٍ كَامِنٍ فِيهِ فَتُثِيرُهُ الرّيَاضَةُ وَالْحُمَامُ وَيَخْلِطَانِهِ بالكيموس الْجَيّدِ وَذَلِكَ يَجْلِبُ عِلّةً عَظِيمَةً بَلْ يَجِبُ عِنْدَ وُقُوعِ الطّاعُونِ السّكُونُ وَالدّعَةُ وَتَسْكِينُ هَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَلَا يُمْكِنُ الْخُرُوجُ مِنْ أَرْضِ الْوَبَاءِ وَالسّفَرِ مِنْهَا إلّا بِحَرَكَةٍ شَدِيدَةٍ وَهِيَ مُضِرّةٌ جِدّا هَذَا كَلَامُ أَفْضَلِ الْأَطِبّاءِ الْمُتَأَخّرِينَ فَظَهَرَ الْمَعْنَى الطّبّيّ مِنْ الْحَدِيثِ النّبَوِيّ وَمَا فِيهِ مِنْ عِلَاجِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَصَلَاحِهِمَا .
(1/56)
فَإِنْ قِيلَ فَفِي قَوْلِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ مَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى الّذِي ذَكَرْتُمُوهُ وَأَنّهُ لَا يَمْنَعُ الْخُرُوجَ لِعَارِضٍ وَلَا يُحْبَسُ مُسَافِرًا عَنْ سَفَرِهِ ؟ قِيلَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ طَبِيبٌ وَلَا غَيْرُهُ إنّ النّاسَ يَتْرُكُونَ حَرَكَاتِهِمْ عِنْدَ الطّوَاعِينِ وَيَصِيرُونَ بِمَنْزِلَةِ الْجَمَادَاتِ وَإِنّمَا يَنْبَغِي فِيهِ التّقَلّلُ مِنْ الْحَرَكَةِ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَالْفَارّ مِنْهُ لَا مُوجِبَ لِحَرَكَتِهِ إلّا مُجَرّدَ الْفِرَارِ مِنْهُ وَدَعَتُهُ وَسُكُونُهُ أَنْفَعُ لِقَلْبِهِ وَبَدَنِهِ وَأَقْرَبُ إلَى تَوَكّلِهِ عَلَى اللّهِ تَعَالَى وَاسْتِسْلَامِهِ لِقَضَائِهِ . وَأَمّا مَنْ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الْحَرَكَةِ كَالصّنّاعِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْمُسَافِرِينَ وَالْبُرُدِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ اُتْرُكُوا حَرَكَاتِكُمْ جُمْلَةً وَإِنْ أُمِرُوا أَنْ يَتْرُكُوا مِنْهَا مَا لَا حَاجَةَ لَهُمْ إلَيْهِ كَحَرَكَةِ الْمُسَافِرِ فَارّا مِنْهُ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
[ حُكْمُ الْمَنْعِ مِنْ الدّخُولِ ]
وَفِي الْمَنْعِ مِنْ الدّخُولِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي قَدْ وَقَعَ بِهَا عِدّةُ حِكَمٍ
أَحَدُهَا : تَجَنّبُ الْأَسْبَابِ الْمُؤْذِيَةِ وَالْبُعْدُ مِنْهَا .
الثّانِي : الْأَخْذُ بِالْعَافِيَةِ الّتِي هِيَ مَادّةُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ .
الثّالِثُ أَنْ لَا يَسْتَنْشِقُوا الْهَوَاءَ الّذِي قَدْ عَفِنَ وَفَسَدَ فَيَمْرَضُونَ . <41>
الرّابِعُ أَنْ لَا يُجَاوِرُوا الْمَرْضَى الّذِينَ قَدْ مَرِضُوا بِذَلِكَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ بِمُجَاوَرَتِهِمْ مِنْ جِنْسِ أَمْرَاضِهِمْ .
(1/57)
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مَرْفُوعًا : إنّ مِنْ الْقَرَفِ التّلَفَ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْقَرَفُ مُدَانَاةُ الْوَبَاءِ وَمُدَانَاةُ الْمَرْضَى .
[حَمِيّةُ النّفُوسِ عَنْ الْعَدْوَى وَالطّيَرَةِ ]
الْخَامِسُ حَمِيّةُ النّفُوسِ عَنْ الطّيَرَةِ وَالْعَدْوَى فَإِنّهَا تَتَأَثّرُ بِهِمَا فَإِنّ الطّيَرَةَ عَلَى مَنْ تَطَيّرَ بِهَا وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي النّهْيِ عَنْ الدّخُولِ فِي أَرْضِهِ الْأَمْرُ بِالْحَذَرِ وَالْحِمْيَةِ وَالنّهْيِ عَنْ التّعَرّضِ لِأَسْبَابِ التّلَفِ . وَفِي النّهْيِ عَنْ الْفِرَارِ مِنْهُ الْأَمْرُ بِالتّوَكّلِ وَالتّسْلِيمِ وَالتّفْوِيضِ فَالْأَوّلُ تَأْدِيبٌ وَتَعْلِيمٌ وَالثّانِي : تَفْوِيضٌ وَتَسْلِيمٌ .
[ قِصّةُ عُمَرَ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ دُخُولِ الشّامِ لِوُقُوعِ الطّاعُونِ بِهَا ]
(1/58)
وَفِي الصّحِيحِ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ خَرَجَ إلَى الشّامِ حَتّى إذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ لِابْنِ عَبّاسٍ اُدْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ قَالَ فَدَعَوْتهمْ فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ فَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ . وَقَالَ آخَرُونَ مَعَك بَقِيّةُ النّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ عُمَرُ ارْتَفَعُوا عَنّي ثُمّ قَالَ اُدْعُ لِي الْأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنّي ثُمّ قَالَ اُدْعُ لِي مِنْ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ مِنْهُمْ رَجُلَانِ قَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَأَذِنَ عُمَرُ فِي النّاسِ إنّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبَحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفِرَارًا مَنْ قَدَرِ اللّهِ تَعَالَى ؟ قَالَ لَوْ غَيْرُك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ نَعَمْ نَفِرّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ تَعَالَى إلَى قَدَرِ اللّهِ <42> تَعَالَى أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَك إبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إحْدَاهُمَا - خِصْبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ أَلَسْت إنْ رَعَيْتهَا الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللّهِ تَعَالَى وَإِنْ رَعَيْتهَا الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللّهِ
(1/59)
تَعَالَى ؟ قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيّبًا فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ فَقَالَ إنّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ إذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي دَاءِ الِاسْتِسْقَاءِ وَعِلَاجِهِ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ " قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عَرِينَةَ وَعُكْلٍ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى إبِلِ الصّدَقَةِ فَشَرِبْتُمْ مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَفَعَلُوا فَلَمّا صَحّوا عَمِدُوا إلَى الرّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ وَاسْتَاقُوا الْإِبِلَ وَحَارَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِهِمْ فَأَخَذُوا فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ وَأَلْقَاهُمْ فِي الشّمْسِ حَتّى مَاتُوا " .
<43> وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّ هَذَا الْمَرَضَ كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُمْ قَالُوا : إنّا اجْتَوَيْنَا الْمَدِينَةَ فَعَظُمَتْ بُطُونَنَا وَارْتَهَشَتْ أَعْضَاؤُنَا وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ . ..
(1/60)
وَالْجَوَى : دَاءٌ مِنْ أَدْوَاءِ الْجَوْفِ - وَالِاسْتِسْقَاءُ مَرَضٌ مَادّيّ سَبَبُهُ مَادّةٌ غَرِيبَةٌ بَارِدَةٌ تَتَخَلّلُ الْأَعْضَاءَ فَتَرْبُو لَهَا إمّا الْأَعْضَاءُ الظّاهِرَةُ كُلّهَا وَإِمّا الْمَوَاضِعُ الْخَالِيَةُ مِنْ النّوَاحِي الّتِي فِيهَا تَدْبِيرُ الْغِذَاءِ وَالْأَخْلَاطُ وَأَقْسَامُهُ ثَلَاثَةٌ لَحْمِيّ وَهُوَ أَصْعَبُهَا . وزقي وَطَبْلِيّ .
[ عِلّةُ الِاسْتِشْفَاءِ بِأَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا ]
وَلَمّا كَانَتْ الْأَدْوِيَةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي عِلَاجِهِ هِيَ الْأَدْوِيَةُ الْجَالِبَةُ الّتِي فِيهَا إطْلَاقٌ مُعْتَدِلٌ وَإِدْرَارٌ بِحَسْبِ الْحَاجَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ مَوْجُودَةٌ فِي أَبْوَالِ الْإِبِلِ وَأَلْبَانِهَا أَمَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشُرْبِهَا فَإِنّ فِي لَبَنِ اللّقَاحِ جَلَاءً وَتَلْيِينًا وَإِدْرَارًا وَتَلْطِيفًا وَتَفْتِيحًا لِلسّدَدِ إذْ كَانَ أَكْثَرُ رَعْيِهَا الشّيحُ وَالْقَيْصُومُ وَالْبَابُونَجُ وَالْأُقْحُوَانُ وَالْإِذْخِرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ النّافِعَةِ لِلِاسْتِسْقَاءِ .
وَهَذَا الْمَرَضُ لَا يَكُونُ إلّا مَعَ آفَةٍ فِي الْكَبِدِ خَاصّةً أَوْ مَعَ مُشَارَكَةٍ وَأَكْثَرُهَا عَنْ السّدَدِ فِيهَا وَلَبَنُ اللّقَاحِ الْعَرَبِيّةِ نَافِعٌ مِنْ السّدَدِ لِمَا فِيهِ مِنْ التّفْتِيحِ وَالْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ .
(1/61)
قَالَ الرّازِيّ : لَبَنُ اللّقَاحِ يَشْفِي أَوْجَاعَ الْكَبِدِ وَفَسَادَ الْمِزَاجِ وَقَالَ الْإِسْرَائِيلِيّ لَبَنُ اللّقَاحِ أَرَقّ الْأَلْبَانِ وَأَكْثَرُهَا مَائِيّةً وَحِدّةً وَأَقَلّهَا غِذَاءً فَلِذَلِكَ صَارَ أَقْوَاهَا عَلَى تَلْطِيفِ الْفُضُولِ وَإِطْلَاقِ الْبَطْنِ وَتَفْتِيحِ السّدَدِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ مُلُوحَتُهُ الْيَسِيرَةُ الّتِي فِيهِ لِإِفْرَاطِ حَرَارَةٍ حَيَوَانِيّةٍ بِالطّبْعِ وَلِذَلِكَ صَارَ أَخَصّ الْأَلْبَانِ بِتَطْرِيَةِ الْكَبِدِ وَتَفْتِيحِ سَدَدِهَا وَتَحْلِيلِ صَلَابَةِ الطّحَالِ إذَا كَانَ حَدِيثًا <44> وَالنّفْعُ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ خَاصّةً إذَا اُسْتُعْمِلَ لِحَرَارَتِهِ الّتِي يَخْرُجُ بِهَا مِنْ الضّرْعِ مَعَ بَوْلِ الْفَصِيلِ وَهُوَ حَارّ كَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْحَيَوَانِ فَإِنّ ذَلِكَ مِمّا يَزِيدُ فِي مِلْوَحَتِهِ وَتَقْطِيعِهِ الْفُضُولَ وَإِطْلَاقِهِ الْبَطْنَ فَإِنْ تَعَذّرَ انْحِدَارُهُ وَإِطْلَاقُهُ الْبَطْنَ وَجَبَ أَنْ يُطْلَقَ بِدَوَاءٍ مُسَهّلٍ .
قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا يُقَالُ مِنْ أَنّ طَبِيعَةَ اللّبَنِ مُضَادّةٌ لِعِلَاجِ الِاسْتِسْقَاءِ . قَالَ وَاعْلَمْ أَنّ لَبَنَ النّوقِ دَوَاءٌ نَافِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَلَاءِ بِرِفْقٍ وَمَا فِيهِ مِنْ خَاصّيّةٍ وَأَنّ هَذَا اللّبَنَ شَدِيدُ الْمَنْفَعَةِ فَلَوْ أَنّ إنْسَانًا أَقَامَ عَلَيْهِ بَدَلَ الْمَاءِ وَالطّعَامِ شُفِيَ بِهِ وَقَدْ جُرّبَ ذَلِكَ فِي قَوْمٍ دَفَعُوا إلَى بِلَادِ الْعَرَبِ فَقَادَتْهُمْ الضّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ فَعُوفُوا . وَأَنْفَعُ الْأَبْوَالِ بَوْلُ الْجَمَلِ الْأَعْرَابِيّ وَهُوَ النّجِيبُ انْتَهَى .
[ طَهَارَةُ بَوْلٍ مَأْكُولِ اللّحْمِ ]
(1/62)
وَفِي الْقِصّةِ دَلِيلٌ عَلَى التّدَاوِي وَالتّطَبّبِ وَعَلَى طَهَارَةِ بَوْلِ مَأْكُولِ اللّحْمِ فَإِنّ التّدَاوِي بِالْمُحَرّمَاتِ غَيْرُ جَائِزٍ وَلَمْ يُؤْمَرُوا مَعَ قُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ بِغَسْلِ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا أَصَابَتْهُ ثِيَابُهُمْ مِنْ أَبْوَالِهَا لِلصّلَاةِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَا يَجُوزُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ .
[مُقَاتَلَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ]
وَعَلَى مُقَاتَلَةِ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ فَإِنّ هَؤُلَاءِ قَتَلُوا الرّاعِيَ وَسَمَلُوا عَيْنَيْهِ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " .
وَعَلَى قَتْلِ الْجَمَاعَةِ وَأَخْذِ أَطْرَافِهِمْ بِالْوَاحِدِ .
[ اجْتِمَاعُ الْحَدّ وَالْقِصَاصِ ]
وَعَلَى أَنّهُ إذَا اجْتَمَعَ فِي حَقّ الْجَانِي حَدّ وَقِصَاصٌ اسْتَوْفَيَا مَعًا فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ حَدّا لِلّهِ عَلَى حِرَابِهِمْ وَقَتَلَهُمْ لِقَتْلِهِمْ الرّاعِيَ . <45> وَعَلَى أَنّ الْمُحَارِبَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ وَقُتِلَ .
[إذَا تَعَدّدَتْ الْجِنَايَاتُ تَغَلّظَتْ عُقُوبَاتُهَا ]
وَعَلَى أَنّ الْجِنَايَاتِ إذَا تَعَدّدَتْ تَغَلّظَتْ عُقُوبَاتُهَا فَإِنّ هَؤُلَاءِ ارْتَدّوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَقَتَلُوا النّفْسَ وَمَثّلُوا بِالْمَقْتُولِ وَأَخَذُوا الْمَالَ وَجَاهَرُوا بِالْمُحَارَبَةِ .
[ حُكْمُ رَدْءِ الْمُحَارِبِينَ حُكْمُ مُبَاشِرِهِمْ ]
وَعَلَى أَنّ حُكْمَ رَدْءِ الْمُحَارِبِينَ حُكْمُ مُبَاشِرِهِمْ فَإِنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ وَلَا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ .
[ قَتْلُ الْغِيلَةِ يُوجِبُ قَتْلَ الْقَاتِلِ حَدّا ]
(1/63)
وَعَلَى أَنّ قَتْلَ الْغِيلَةِ يُوجِبُ قَتْلَ الْقَاتِلِ حَدّا فَلَا يُسْقِطُهُ الْعَفْوُ وَلَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ وَهَذَا مَذْهَب ُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد َ اخْتَارَهُ شَيْخُنَا وَأَفْتَى بِهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ الْجُرْحِ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يَسْأَلُ عَمّا دُووِيَ بِهِ جُرْحُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ " جُرِحَ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِمَتْ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ وَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَغْسِلُ الدّمَ وَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الدّمَ لَا يَزِيدُ إلّا كَثْرَةً أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهَا حَتّى إذَا صَارَتْ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ " بِرَمَادِ الْحَصِيرِ الْمَعْمُولِ مِنْ الْبَرْدِيّ وَلَهُ فِعْلٌ قَوِيّ فِي حَبْسِ الدّمِ لِأَنّ فِيهِ تَجْفِيفًا قَوِيّا وَقِلّةَ لَذْعٍ فَإِنّ الْأَدْوِيَةَ الْقَوِيّةَ التّجْفِيفِ إذَا كَانَ فِيهَا لَذْعٌ <46> هَيّجَتْ الدّمَ وَجَلَبَتْهُ وَهَذَا الرّمَادُ إذَا نُفِخَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الْخَلّ فِي أَنْفِ الرّاعِفِ قُطِعَ رُعَافُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : الْبَرْدِيّ يَنْفَعُ مِنْ النّزْفِ وَيَمْنَعُهُ وَيُذَرّ عَلَى الْجِرَاحَاتِ الطّرِيّةِ فَيُدْمِلُهَا وَالْقِرْطَاسُ الْمِصْرِيّ كَانَ قَدِيمًا يُعْمَلُ مِنْهُ وَمِزَاجُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَرَمَادُهُ نَافِعٌ مِنْ أَكَلَةِ الْفَمِ وَيَحْبِسُ نَفَثَ الدّمِ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ أَنْ تَسْعَى .
(1/64)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي الْعِلَاجِ بِشُرْبِ الْعَسَلِ وَالْحِجَامَةِ وَالْكَيّ
فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " : عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ الشّفَاءُ فِي ثَلَاثٍ : شَرْبَةِ عَسَلٍ وَشَرْطَةِ مِحْجَمٍ وَكَيّةِ نَارٍ وَأَنَا أَنْهَى أُمّتِي عَنْ الْكَيّ
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الْمَازِرِيّ : الْأَمْرَاضُ الِامْتِلَائِيّة : إمّا أَنْ تَكُونَ دَمَوِيّةً أَوْ صَفْرَاوِيّةً أَوْ بَلْغَمِيّةً أَوْ سَوْدَاوِيّةً . فَإِنْ كَانَتْ دَمَوِيّةً فَشِفَاؤُهَا إخْرَاجُ الدّمِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْأَقْسَامِ الثّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ فَشِفَاؤُهَا بِالْإِسْهَالِ الّذِي يَلِيقُ بِكُلّ خَلْطٍ مِنْهَا وَكَأَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَبّهَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْمُسَهّلَاتِ وَبِالْحِجَامَةِ عَلَى الْفَصْدِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النّاسِ إنّ الْفَصْدَ يَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ شُرْطَةِ مِحْجَمٍ . فَإِذَا أَعْيَا الدّوَاءُ فَآخِرُ الطّبّ الْكَيّ فَذَكَرَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَدْوِيَةِ لِأَنّهُ يُسْتَعْمَلُ عِنْدَ غَلَبَةِ الطّبَاعِ لِقُوَى الْأَدْوِيَةِ وَحَيْثُ لَا يَنْفَعُ الدّوَاءُ الْمَشْرُوبُ . وَقَوْلُهُ وَأَنَا أَنْهَى أُمّتِي عَنْ الْكَيّ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِيَ إشَارَةً إلَى أَنْ يُؤَخّرَ الْعِلَاجَ بِهِ حَتّى <47> تَدْفَعُ الضّرُورَةَ إلَيْهِ وَلَا يُعَجّلُ التّدَاوِي بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِعْجَالِ الْأَلَمِ الشّدِيدِ فِي دَفْعِ أَلَمٍ قَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْ أَلَمِ الْكَيّ انْتَهَى كَلَامُهُ .
[الْأَمْرَاضُ الْمِزَاجِيّةُ وَعِلَاجُهَا ]
(1/65)
وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ الْأَمْرَاضُ الْمِزَاجِيّةُ إمّا أَنْ تَكُونَ بِمَادّةٍ أَوْ بِغَيْرِ مَادّةٍ وَالْمَادّيّةُ مِنْهَا : إمّا حَارّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ أَوْ رَطْبَةٌ أَوْ يَابِسَةٌ أَوْ مَا تَرَكّبَ مِنْهَا وَهَذِهِ الْكَيْفِيّاتُ الْأَرْبَعُ مِنْهَا كَيْفِيّتَانِ فَاعِلَتَانِ وَهُمَا الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ وَكَيْفِيّتَانِ مُنْفَعِلَتَانِ وَهُمَا الرّطُوبَةُ وَالْيُبُوسَةُ وَيَلْزَمُ مِنْ غَلَبَةِ إحْدَى الْكَيْفِيّتَيْنِ الْفَاعِلَتَيْنِ اسْتِصْحَابُ كَيْفِيّةٍ مُنْفَعِلَةٍ مَعَهَا وَكَذَلِكَ كَانَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخْلَاطِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْبَدَنِ وَسَائِرِ الْمُرَكّبَاتِ كَيْفِيّتَانِ فَاعِلَةٌ وَمُنْفَعِلَةٌ .
[ الْعِلَاجُ بِإِخْرَاجِ الدّمِ ]
فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ أَنّ أَصْلَ الْأَمْرَاضِ الْمِزَاجِيّةِ هِيَ التّابِعَةُ لِأَقْوَى كَيْفِيّاتِ الْأَخْلَاطِ الّتِي هِيَ الْحَرَارَةُ وَالْبُرُودَةُ فَجَاءَ كَلَامُ النّبُوّةِ فِي أَصْلِ مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الّتِي هِيَ الْحَارّةُ وَالْبَارِدَةُ عَلَى طَرِيقِ التّمْثِيلِ فَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ حَارّا عَالَجْنَاهُ بِإِخْرَاجِ الدّمِ بِالْفَصْدِ كَانَ أَوْ بِالْحِجَامَةِ لِأَنّ فِي ذَلِكَ اسْتِفْرَاغًا لِلْمَادّةِ وَتَبْرِيدًا لِلْمِزَاجِ . وَإِنْ كَانَ بَارِدًا عَالَجْنَاهُ بِالتّسْخِينِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَسَلِ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إلَى اسْتِفْرَاغِ الْمَادّةِ الْبَارِدَةِ فَالْعَسَلُ أَيْضًا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِنْضَاجِ وَالتّقْطِيعِ وَالتّلْطِيفِ وَالْجَلَاءِ وَالتّلْيِينِ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ اسْتِفْرَاغُ تِلْكَ الْمَادّةِ بِرِفْقٍ وَأَمْنٍ مِنْ نِكَايَةِ الْمُسَهّلَاتِ الْقَوِيّةِ .
[ الْعِلَاجُ بِالْكَيّ]ِ
(1/66)
وَأَمّا الْكَيّ فَلِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ إمّا أَنْ يَكُونَ حَادّا فَيَكُونُ سَرِيعَ الْإِفْضَاءِ لِأَحَدِ الطّرَفَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مُزْمِنًا وَأَفْضَلُ عِلَاجِهِ بَعْدَ الِاسْتِفْرَاغِ الْكَيّ فِي الْأَعْضَاءِ الّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْكَيّ لِأَنّهُ لَا يَكُونُ مُزْمِنًا إلّا عَنْ مَادّةٍ بَارِدَةٍ غَلِيظَةٍ قَدْ رَسَخَتْ فِي الْعُضْوِ وَأَفْسَدَتْ مِزَاجَهُ وَأَحَالَتْ جَمِيعَ مَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَى مُشَابَهَةِ جَوْهَرِهَا فَيَشْتَعِلُ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيُسْتَخْرَجُ بِالْكَيّ تِلْكَ الْمَادّةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي هُوَ فِيهِ بِإِفْنَاءِ الْجُزْءِ النّارِيّ الْمَوْجُودِ بِالْكَيّ لِتِلْكَ الْمَادّةِ . <48> فَتَعَلّمْنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ الشّرِيفِ أَخْذَ مُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ جَمِيعِهَا كَمَا اسْتَنْبَطْنَا مُعَالَجَةَ الْأَمْرَاضِ السّاذَجَةِ مِنْ قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ شِدّةَ الْحُمّى مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ .
فَصْلٌ [ الْعِلَاجُ بِالْحِجَامَةِ ]
(1/67)
وَأَمّا الْحِجَامَةُ فَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ جُبَارَةَ بْنِ الْمُغَلّسِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ كَثِيرِ بْنِ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا مَرَرْتُ لَيْلَةً أُسْرِيَ بِي بِمَلَإٍ إلّا قَالُوا : يَا مُحَمّدُ مُرْ أُمّتَكَ بِالْحِجَامَة وَرَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ عَلَيْك بِالْحِجَامَةِ يَا مُحَمّدُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ طَاوُوسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجّامَ أَجْرَهُ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " أَيْضًا عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلّمَ مَوَالِيَهُ فَخَفّفُوا عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ وَقَالَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ <49>
(1/68)
وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْ عَبّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ سَمِعْت عِكْرِمَةَ يَقُولُ كَانَ لِابْنِ عَبّاسٍ غِلْمَةٌ ثَلَاثَةٌ حَجّامُونَ فَكَانَ اثْنَانِ يُغَلّانِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ وَوَاحِدٌ لِحَجْمِهِ وَحَجْمِ أَهْلِهِ . قَالَ وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : قَالَ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِعْمَ الْعَبْدُ الْحَجّامُ يَذْهَبُ بِالدّمِ وَيُخِفّ الصّلْبَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ عُرِجَ بِهِ مَا مَرّ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلّا قَالُوا : عَلَيْكَ بِالْحِجَامَةِ وَقَال : إنّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَقَالَ إنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ وَاللّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشْيُ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لُدّ فَقَالَ مَنْ لَدّنِي ؟ فَكُلّهُمْ أَمْسَكُوا فَقَالَ لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إلّا لُدّ إلّا الْعَبّاسَ قَالَ هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
فَصْلٌ [ مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ ]
(1/69)
وَأَمّا مَنَافِعُ الْحِجَامَةِ فَإِنّهَا تُنَقّي سَطْحَ الْبَدَنِ أَكْثَرَ مِنْ الْفَصْدِ وَالْفَصْدُ لِأَعْمَاقِ الْبَدَنِ أَفْضَلُ وَالْحِجَامَةُ تَسْتَخْرِجُ الدّمَ مِنْ نَوَاحِي الْجِلْدِ . قُلْت : وَالتّحْقِيقُ فِي أَمْرِهَا وَأَمْرِ الْفَصْدِ أَنّهُمَا يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الزّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالْأَمْزِجَةِ فَالْبِلَادُ الْحَارّةُ وَالْأَزْمِنَةُ الْحَارّةُ وَالْأَمْزِجَةُ الْحَارّةُ الّتِي دُمّ أَصْحَابُهَا فِي غَايَةِ النّضْجِ الْحِجَامَةُ فِيهَا أَنْفَعُ مِنْ الْفَصْدِ بِكَثِيرٍ فَإِنّ الدّمَ يَنْضَجُ وَيَرِقّ وَيَخْرُجُ إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ الدّاخِلِ فَتَخْرُجُ الْحِجَامَةُ مَا لَا يُخْرِجُهُ الْفَصْدُ وَلِذَلِكَ كَانَتْ أَنْفَعَ لِلصّبْيَانِ مِنْ الْفَصْدِ وَلِمَنْ لَا يَقْوَى عَلَى الْفَصْدِ وَقَدْ نَصّ الْأَطِبّاءُ عَلَى أَنّ الْبِلَادَ الْحَارّةَ الْحِجَامَةُ فِيهَا أَنْفَعُ وَأَفْضَلُ مِنْ الْفَصْدِ وَتُسْتَحَبّ فِي وَسَطِ الشّهْرِ وَبَعْدَ وَسَطِهِ . وَبِالْجُمْلَةِ فِي الرّبُعِ الثّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِ الشّهْرِ لِأَنّ الدّمَ فِي أَوّلِ الشّهْرِ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ قَدْ هَاجَ وَتَبَيّغَ وَفِي آخِرِهِ يَكُونُ <50> قَدْ سَكَنَ .
وَأَمّا فِي وَسَطِهِ وبَعِيدِهِ فَيَكُونُ فِي نِهَايَةِ التّزَيّدِ . قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَيُؤْمَرُ بِاسْتِعْمَالِ الْحِجَامَةِ لَا فِي أَوّلِ الشّهْرِ لِأَنّ الْأَخْلَاطَ لَا تَكُونُ قَدْ تَحَرّكَتْ وَهَاجَتْ وَلَا فِي آخِرِهِ لِأَنّهَا تَكُونُ قَدْ نَقَصَتْ بَلْ فِي وَسَطِ الشّهْرِ حِينَ تَكُونُ الْأَخْلَاطُ هَائِجَةً بَالِغَةً فِي تَزَايُدِهَا لِتَزَيّدِ النّورِ فِي جُرْمِ الْقَمَرِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ
(1/70)
خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ وَفِي حَدِيثٍ خَيْرُ الدّوَاءِ الْحِجَامَةُ وَالْفَصْدُ . انْتَهَى .
[ الْإِشَارَةُ بِالْحِجَامَةِ إلَى أَهْلِ ]
[ مَوَاضِعُ الْفَصْدِ وَنَفْعِهَا ]
وَقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ إشَارَةً إلَى أ َهْلِ الْحِجَازِ وَالْبِلَادِ الْحَارّةِ لِأَنّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَهِيَ أَمْيَلُ إلَى ظَاهِرِ أَبْدَانِهِمْ لِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ لَهَا إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ وَاجْتِمَاعِهَا فِي نَوَاحِي الْجِلْدِ وَلِأَنّ مَسَامّ أَبْدَانِهِمْ وَاسِعَةٌ وَقُوَاهُمْ مُتَخَلْخِلَةٌ فَفِي الْفَصْدِ لَهُمْ خَطَرٌ وَالْحِجَامَةُ تَفَرّقٌ اتّصَالِيّ إرَادِيّ يَتْبَعُهُ اسْتِفْرَاغٌ كُلّيّ مِنْ الْعُرُوقِ وَخَاصّةً الْعُرُوقَ الّتِي لَا تُفْصَدُ كَثِيرًا وَلِفَصْدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَفْعٌ خَاصّ فَفَصْدُ الباسليق : يَنْفَعُ مِنْ <51> حَرَارَةِ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَالْأَوْرَامِ الْكَائِنَةِ فِيهِمَا مِنْ الدّمِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الرّئَةِ وَيَنْفَعُ مِنْ الشّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الدّمَوِيّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرّكْبَةِ إلَى الْوَرِكِ .
(1/71)
الْحِجَازِ و َالْبِلَادِ الْحَارّةِ لِأَنّ دِمَاءَهُمْ رَقِيقَةٌ وَهِيَ أَمْيَلُ إلَى ظَاهِرِ أَبْدَانِهِمْ لِجَذْبِ الْحَرَارَةِ الْخَارِجَةِ لَهَا إلَى سَطْحِ الْجَسَدِ وَاجْتِمَاعِهَا فِي نَوَاحِي الْجِلْدِ وَلِأَنّ مَسَامّ أَبْدَانِهِمْ وَاسِعَةٌ وَقُوَاهُمْ مُتَخَلْخِلَةٌ فَفِي الْفَصْدِ لَهُمْ خَطَرٌ وَالْحِجَامَةُ تَفَرّقٌ اتّصَالِيّ إرَادِيّ يَتْبَعُهُ اسْتِفْرَاغٌ كُلّيّ مِنْ الْعُرُوقِ وَخَاصّةً الْعُرُوقَ الّتِي لَا تُفْصَدُ كَثِيرًا وَلِفَصْدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا نَفْعٌ خَاصّ فَفَصْدُ الباسليق : يَنْفَعُ مِنْ <51> حَرَارَةِ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَالْأَوْرَامِ الْكَائِنَةِ فِيهِمَا مِنْ الدّمِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الرّئَةِ وَيَنْفَعُ مِنْ الشّوْصَةِ وَذَاتِ الْجَنْبِ وَجَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الدّمَوِيّةِ الْعَارِضَةِ مِنْ أَسْفَلِ الرّكْبَةِ إلَى الْوَرِكِ .
وَفَصْدُ الْأَكْحَلِ يَنْفَعُ مِنْ الِامْتِلَاءِ الْعَارِضِ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ إذَا كَانَ دَمَوِيّا وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدّمُ قَدْ فَسَدَ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ .
وَفَصْدُ الْقِيفَالِ يَنْفَعُ مِنْ الْعِلَلِ الْعَارِضَةِ فِي الرّأْسِ وَالرّقَبَةِ مِنْ كَثْرَةِ الدّمِ أَوْ فَسَادِهِ .
وَفَصْدُ الْوَدَجَيْنِ يَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الطّحَالِ وَالرّبْوِ وَالْبَهَرِ وَوَجَعِ الْجَبِينِ .
وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْكَاهِلِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْمَنْكِبِ وَالْحَلْقِ .
(1/72)
وَالْحِجَامَةُ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ تَنْفَعُ مِنْ أَمْرَاضِ الرّأْسِ وَأَجْزَائِهِ كَالْوَجْهِ وَالْأَسْنَانِ وَالْأُذُنَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْأَنْفِ وَالْحَلْقِ إذَا كَانَ حُدُوثُ ذَلِكَ عَنْ كَثْرَةِ الدّمِ أَوْ فَسَادِهِ أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا . قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِل
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ ثَلَاثًا : وَاحِدَةً عَلَى كَاهِلِهِ وَاثْنَتَيْنِ عَلَى الْأَخْدَعَيْنِ . <52>
وَفِي الصّحِيحِ عَنْهُ أَنّه احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ فِي رَأْسِهِ لِصُدَاعٍ كَانَ بِهِ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ عَلِيّ نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحِجَامَةِ الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي وَرِكِهِ مِنْ وَثْءٍ كَانَ بِهِ
فَصْلٌ [ اخْتِلَافُ الْأَطِبّاءِ فِي الْحِجَامَةِ عَلَى نُقْرَةِ الْقَفَا ]
وَاخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي الْحِجَامَةِ عَلَى نُقْرَةِ الْقَفَا وَهِيَ القمحدوة .
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ الطّبّ النّبَوِيّ حَدِيثًا مَرْفُوعًا عَلَيْكُمْ بِالْحِجَامَةِ فِي جَوْزَةِ القمحدوة فَإِنّهَا تَشْفِي مِنْ خَمْسَةِ أَدْوَاءٍ ذَكَرَ مِنْهَا الْجُذَامَ
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَلَيْكُمْ بِالْحِجَامَةِ فِي جَوْزَةِ القمحدوة فَإِنّهَا شِفَاءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ دَاءً
(1/73)
فَطَائِفَةٌ مِنْهُمْ اسْتَحْسَنَتْهُ وَقَالَتْ إنّهَا تَنْفَعُ مِنْ جَحْظِ الْعَيْنِ وَالنّتُوءِ الْعَارِضِ <53> فِيهَا وَكَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهَا وَمِنْ ثِقَلِ الْحَاجِبَيْنِ وَالْجَفْنِ وَتَنْفَعُ مِنْ جَرَبِهِ . وَرُوِيَ أَنّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ احْتَاجَ إلَيْهَا فَاحْتَجَمَ فِي جَانِبَيْ قَفَاهُ وَلَمْ يَحْتَجِمْ فِي النّقْرَةِ وَمِمّنْ كَرِهَهَا صَاحِبُ " الْقَانُونِ " وَقَالَ إنّهَا تُورِثُ النّسْيَانَ حَقّا كَمَا قَالَ سَيّدُنَا وَمَوْلَانَا وَصَاحِبُ شَرِيعَتِنَا مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ مُؤَخّرَ الدّمَاغِ مَوْضِعُ الْحِفْظِ وَالْحِجَامَةُ تُذْهِبُهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَدّ عَلَيْهِ آخَرُونَ وَقَالُوا : الْحَدِيثُ لَا يَثْبُتُ وَإِنْ ثَبَتَ فَالْحِجَامَةُ إنّمَا تُضْعِفُ مُؤَخّرِ الدّمَاغِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَأَمّا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ لِغَلَبَةِ الدّمِ عَلَيْهِ فَإِنّهَا نَافِعَةٌ لَهُ طِبّا وَشَرْعًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ احْتَجَمَ فِي عِدّةِ أَمَاكِنَ مِنْ قَفَاهُ بِحَسْبِ مَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجَمَ فِي غَيْرِ الْقَفَا بِحَسْبِ مَا دَعَتْ إلَيْهِ حَاجَتُهُ .
فَصْلٌ [ تَتِمّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَوَاضِعِ الْحِجَامَةِ وَنَفْعِهَا ]
(1/74)
وَالْحِجَامَةُ تَحْتَ الذّقَنِ تَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَالْوَجْهُ وَالْحُلْقُومُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي وَقْتِهَا وَتُنَقّي الرّأْسَ وَالْفَكّيْنِ وَالْحِجَامَةُ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ تَنُوبُ عَنْ فَصْدِ الصّافِنِ وَهُوَ عِرْقٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الْكَعْبِ وَتَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْفَخِذَيْنِ وَالسّاقَيْنِ وَانْقِطَاعِ الطّمْثِ وَالْحِكّةِ الْعَارِضَةِ فِي الْأُنْثَيَيْنِ وَالْحِجَامَةُ فِي أَسْفَلِ الصّدْرِ نَافِعَةٌ مِنْ دَمَامِيلِ الْفَخِذِ وَجَرَبِهِ وَبُثُورِهِ وَمِنْ النّقْرِسِ وَالْبَوَاسِيرِ وَالْفِيلِ وَحِكّةِ الظّهْرِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ فِي أَوْقَاتِ الْحِجَامَةِ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ إنّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِي يَوْمِ سَابِعَ عَشْرَةَ أَوْ تَاسِعَ عَشْرَةَ وَيَوْمِ إحْدَى وَعِشْرِينَ
<54> وَفِيهِ عَنْ أَنَسٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَالْكَاهِلِ وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَةَ عَشَرَ وَتِسْعَةَ عَشَرَ وَفِي إحْدَى وَعِشْرِينَ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا : مَنْ أَرَادَ الْحِجَامَةَ فَلْيَتَحَرّ سَبْعَةَ عَشَرَ أَوْ تِسْعَةَ عَشَرَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ لَا يَتَبَيّغْ بِأَحَدِكُمْ الدّمُ فَيَقْتُلَهُ "
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : مَنْ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ تِسْعَ عَشْرَةَ أَوْ إحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَتْ شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ وَهَذَا مَعْنَاهُ مِنْ كُلّ دَاءٍ سَبَبُهُ غَلَبَةُ الدّمِ .
(1/75)
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُوَافِقَةٌ لِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْأَطِبّاءُ أَنّ الْحِجَامَةَ فِي النّصْفِ الثّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الرّبُعِ الثّالِثِ مِنْ أَرْبَاعِهِ أَنْفَعُ مِنْ أَوّلِهِ وَآخِرِهِ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا نَفَعَتْ أَيّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ أَوّلِ الشّهْرِ وَآخِرِهِ .
قَالَ الْخَلّالُ أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بْنُ عِصَامٍ قَالَ حَدّثَنَا حَنْبَلٌ قَالَ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَحْتَجِمُ أَيّ وَقْتٍ هَاجَ بِهِ الدّمُ وَأَيّ سَاعَةٍ كَانَتْ . وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : أَوْقَاتُهَا فِي النّهَارِ السّاعَةُ الثّانِيَةُ أَوْ الثّالِثَةُ وَيَجِبُ تَوَقّيهَا بَعْدَ الْحَمّامِ إلّا فِيمَنْ دَمُهُ غَلِيظٌ فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَحِمّ ثُمّ يَسْتَجِمّ سَاعَةً ثُمّ يَحْتَجِمُ انْتَهَى .
[مَفَاسِدُ الْحِجَامَةِ عَلَى الشّبَعِ ]
وَتُكْرَهُ عِنْدَهُمْ الْحِجَامَةُ عَلَى الشّبَعِ فَإِنّهَا رُبّمَا أَوْرَثَتْ سَدَدًا وَأَمْرَاضًا رَدِيئَةً لَا سِيّمَا إذَا كَانَ الْغِذَاءُ رَدِيئًا غَلِيظًا .
وَفِي أَثَرٍ الْحِجَامَةُ عَلَى الرّيقِ دَوَاءٌ وَعَلَى الشّبَعِ دَاءٌ وَفِي سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشّهْرِ شِفَاءٌ " .
(1/76)
<55> وَاخْتِيَارُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لِلْحِجَامَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ وَالتّحَرّزِ مِنْ الْأَذَى وَحِفْظًا لِلصّحّةِ . وَأَمّا فِي مُدَاوَاةِ الْأَمْرَاضِ فَحَيْثُمَا وُجِدَ الِاحْتِيَاجُ إلَيْهَا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهَا . وَفِي قَوْلِهِ " لَا يَتَبَيّغْ بِأَحَدِكُمْ الدّمَ فَيَقْتُلَهُ " دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي لِئَلّا يَتَبَيّغَ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرّ مَعَ ( أَنّ ثُمّ حُذِفَتْ ( أَنّ . وَالتّبَيّغُ الْهَيْجُ وَهُوَ مَقْلُوبُ الْبَغْيِ وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فَإِنّهُ بَغْيُ الدّمِ وَهَيَجَانُهُ . وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ الْإِمَامَ أَحْمَدُ كَانَ يَحْتَجِمُ أَيّ وَقْتٍ احْتَاجَ مِنْ الشّهْرِ .
فَصْلٌ [اخْتِيَارُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ لِلْحِجَامَةِ ]
وَأَمّا اخْتِيَارُ أَيّامِ الْأُسْبُوعِ لِلْحِجَامَةِ فَقَالَ الْخَلّالُ فِي " جَامِعِهِ " : أَخْبَرَنَا حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ قُلْتُ لِأَحْمَدَ تُكْرَهُ الْحِجَامَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَيّامِ ؟ قَالَ قَدْ جَاءَ فِي الْأَرْبِعَاءِ وَالسّبْتِ .
وَفِيهِ عَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ حَسّانَ أَنّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ عَنْ الْحِجَامَةِ أَيّ يَوْمٍ تَكْرَهُ ؟ فَقَالَ فِي يَوْمِ السّبْتِ وَيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ وَيَقُولُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
وَرَوَى الْخَلّالُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا : مَنْ احْتَجَمَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ أَوْ يَوْمَ السّبْتِ فَأَصَابَهُ بَيَاضٌ أَوْ بَرَصٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ
وَقَالَ الْخَلّالُ أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ جَعْفَرٍ أَنّ يَعْقُوبَ بْنَ بختان حَدّثَهُمْ قَالَ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ النّورَةِ وَالْحِجَامَةِ يَوْمَ السّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ ؟ فَكَرِهَهَا .
(1/77)
وَقَالَ بَلَغَنِي عَنْ رَجُلٍ أَنّهُ تَنَوّرَ وَاحْتَجَمَ يَعْنِي يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَأَصَابَهُ <56> الْبَرَصُ . قُلْت لَهُ كَأَنّهُ تَهَاوَنَ بِالْحَدِيثِ ؟ قَالَ نَعَمْ .
وَفِي كِتَابِ " الْأَفْرَادِ " لِلدّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ نَافِعٍ قَالَ قَالَ لِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : تَبَيّغَ بِي الدّمُ فَابْغِ لِي حَجّامًا وَلَا يَكُنْ صَبِيّا وَلَا شَيْخًا كَبِيرًا فَإِنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ الْحِجَامَةُ تَزِيدُ الْحَافِظَ حِفْظًا وَالْعَاقِلَ عَقْلًا فَاحْتَجِمُوا عَلَى اسْمِ اللّهِ تَعَالَى وَلَا تَحْتَجِمُوا الْخَمِيسَ وَالْجُمُعَةَ وَالسّبْتَ وَالْأَحَدَ وَاحْتَجِمُوا الِاثْنَيْنِ وَمَا كَانَ مِنْ جُذَامٍ وَلَا بَرَصٍ إلّا نَزَلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : تَفَرّدَ بِهِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى وَقَدْ رَوَاهُ أَيّوبُ عَنْ نَافِعٍ وَقَالَ فِيهِ وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءِ وَلَا تَحْتَجِمُوا يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ أَنّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْحِجَامَةَ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمُ الثّلَاثَاءِ يَوْمُ الدّمِ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدّمُ
فَصْلٌ [ جَوَازُ احْتِجَامِ الصّائِمِ وَالْخِلَافُ فِي فِطْرِهِ ]
وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدّمَةِ اسْتِحْبَابُ التّدَاوِي وَاسْتِحْبَابُ الْحِجَامَةِ وَأَنّهَا تَكُونُ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَجَوَازُ احْتِجَامِ الْمُحْرِمِ وَإِنْ آلَ إلَى قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ الشّعَرِ فَإِنّ ذَلِكَ جَائِزٌ .
(1/78)
وَفِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ نَظَرٌ وَلَا يَقْوَى الْوُجُوبُ وَجَوَازُ احْتِجَامِ الصّائِمِ فَإِنّ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ
وَلَكِنْ هَلْ يُفْطِرُ بِذَلِكَ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى الصّوَابُ الْفِطْرُ بِالْحِجَامَةِ لِصِحّتِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ <57> وَأَصَحّ مَا يُعَارَضُ بِهِ حَدِيثُ حِجَامَتِهِ وَهُوَ صَائِمٌ .
وَلَكِنْ لَا يَدُلّ عَلَى عَدَمِ الْفِطْرِ إلّا بَعْدَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ
أَحَدُهَا : أَنّ الصّوْمَ كَانَ فَرْضًا .
الثّانِي : أَنّهُ كَانَ مُقِيمًا .
الثّالِثُ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ احْتَاجَ مَعَهُ إلَى الْحِجَامَةِ .
الرّابِعُ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ مُتَأَخّرٌ عَنْ قَوْلِهِ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ
(1/79)
فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتُ الْأَرْبَعُ أَمْكَنَ الِاسْتِدْلَالُ بِفِعْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَقَاءِ الصّوْمِ مَعَ الْحِجَامَةِ وَإِلّا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَكُونَ الصّوْمُ نَفْلًا يَجُوزُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا أَوْ مِنْ رَمَضَانَ لَكِنّهُ فِي السّفَرِ أَوْ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ لَكِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا كَمَا تَدْعُو حَاجَةُ مَنْ بِهِ مَرَضٌ إلَى الْفِطْرِ أَوْ يَكُونُ فَرْضًا مِنْ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا لَكِنّهُ مُبْقًى عَلَى الْأَصْلِ . وَقَوْلُهُ أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ نَاقِلٌ وَمُتَأَخّرٌ فَيَتَعَيّنُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتِ الْأَرْبَعِ فَكَيْفَ بِإِثْبَاتِهَا كُلّهَا . وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْجَارِ الطّبِيبِ وَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ عَقْدِ إجَارَةٍ بَلْ يُعْطِيهِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ أَوْ مَا يُرْضِيهِ .
[ جَوَازُ التّكَسّبِ بِصِنَاعَةِ الْحِجَامَةِ ]
(1/80)
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التّكَسّبِ بِصِنَاعَةِ الْحِجَامَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَطِيبُ لِلْحُرّ <58> أَكْلُ أُجْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ عَلَيْهِ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ أَكْلِهِ وَتَسْمِيَتِهِ إيّاهُ خَبِيثًا كَتَسْمِيَتِهِ لِلثّومِ وَالْبَصَلِ خَبِيثَيْنِ وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُهُمَا . جَوَازُ ضَرْبِ الرّجُلِ الْخَرَاجَ عَلَى عَبْدِهِ كُلّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ ضَرْبِ الرّجُلِ الْخَرَاجَ عَلَى عَبْدِهِ كُلّ يَوْمٍ شَيْئًا مَعْلُومًا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَأَنّ الْعَبْدَ أَنْ يَتَصَرّفَ فِيمَا زَادَ عَلَى خَرَاجِهِ وَلَوْ مُنِعَ مِنْ التّصَرّفِ لَكَانَ كَسْبُهُ كُلّهُ خَرَاجًا وَلَمْ يَكُنْ لِتَقْدِيرِهِ فَائِدَةٌ بَلْ مَا زَادَ عَلَى خَرَاجِهِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ مِنْ سَيّدِهِ لَهُ يَتَصَرّفُ فِيهِ كَمَا أَرَادَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَطْعِ الْعُرُوقِ وَالْكَيّ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَى أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ لَهُ عِرْقًا وَكَوَاهُ عَلَيْه
وَلَمّا رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ حَسَمَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ وَرَمَتْ فَحَسَمَهُ الثّانِيَةَ وَالْحَسْمُ هُوَ الْكَيّ .
وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ ثُمّ حَسَمَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِهِ
(1/81)
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ أَنّ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ رُمِيَ فِي أَكْحَلِهِ بِمِشْقَصٍ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِ فَكُوِي
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَقَدْ أُتِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَجُلٍ نُعِتَ لَهُ الْكَيّ فَقَالَ اكْوُوهُ وَارْضِفُوهُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الرّضْفُ الْحِجَارَةُ تُسَخّنُ ثُمّ يُكْمَدُ بِهَا . <59> وَقَالَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ : حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَاهُ فِي أَكْحَلِه
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّهُ كُوِيَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيّ
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنْ الشّوْكَة وَقَدْ تَقَدّمَ الْحَدِيثُ الْمُتّفَقُ عَلَيْهِ وَفِيهِ وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِيَ وَفِي لَفْظٍ آخَرَ وَأَنَا أَنْهَى أُمّتِي عَنْ الْكَيّ
وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " وَغَيْرِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الْكَيّ قَالَ فَابْتُلِينَا فَاكْتَوَيْنَا فَمَا أَفْلَحْنَا وَلَا أَنْجَحْنَا وَفِي لَفْظٍ نُهِينَا عَنْ الْكَيّ وَقَالَ فَمَا أَفْلَحْنَ وَلَا أَنْجَحْنَ
قَالَ الْخَطّابِيّ : إنّمَا كَوَى سَعْدًا لِيَرْقَأَ الدّمُ مِنْ جُرْحِهِ وَخَافَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْزِفَ فَيَهْلَكُ . وَالْكَيّ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا يُكْوَى مَنْ تُقْطَعُ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ .
(1/82)
وَأَمّا النّهْيُ عَنْ الْكَيّ فَهُوَ أَنْ يَكْتَوِيَ طَلَبًا لِلشّفَاءِ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّهُ <60> مَتَى لَمْ يَكْتَوِ هَلَكَ فَنَهَاهُمْ عَنْهُ لِأَجْلِ هَذِهِ النّيّةِ . وَقِيلَ إنّمَا نَهَى عَنْهُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ خَاصّةً لِأَنّهُ كَانَ بِهِ نَاصُورٌ وَكَانَ مَوْضِعُهُ خَطَرًا فَنَهَاهُ عَنْ كَيّهِ فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ النّهْيُ مُنْصَرِفًا إلَى الْمَوْضِعِ الْمُخَوّفِ مِنْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْكَيّ جِنْسَانِ
كَيّ الصّحِيحِ لِئَلّا يَعْتَلّ فَهَذَا الّذِي قِيلَ فِيهِ لَمْ يَتَوَكّلْ مَنْ اكْتَوَى لِأَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْفَعَ الْقَدَرَ عَنْ نَفْسِهِ .
وَالثّانِي : كَيّ الْجُرْحِ إذَا نَغِلَ وَالْعُضْوُ إذَا قُطِعَ فَفِي هَذَا الشّفَاءُ .
وَأَمّا إذَا كَانَ الْكَيّ لِلتّدَاوِي الّذِي يَجُوزُ أَنْ يَنْجَعَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَنْجَعَ فَإِنّهُ إلَى الْكَرَاهَةِ أَقْرَبُ . انْتَهَى .
وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " فِي حَدِيثِ السّبْعِينَ أَلْفًا الّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ أَنّهُمْ الّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيّرُونَ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ
(1/83)
فَقَدْ تَضَمّنَتْ أَحَادِيثُ الْكَيّ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : فِعْلُهُ وَالثّانِي : عَدَمُ مَحَبّتِهِ لَهُ وَالثّالِثُ الثّنَاءُ عَلَى مَنْ تَرَكَهُ وَالرّابِعُ النّهْيُ عَنْهُ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا بِحَمْدِ اللّهِ تَعَالَى فَإِنّ فِعْلَهُ يَدُلّ عَلَى جِوَازِهِ وَعَدَمُ مَحَبّتِهِ لَهُ لَا يَدُلّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ . وَأَمّا الثّنَاءُ عَلَى تَارِكِهِ فَيَدُلّ عَلَى أَنّ تَرْكَهُ أَوْلَى وَأَفْضَلُ . وَأَمّا النّهْيُ عَنْهُ فَعَلَى سَبِيلِ الِاخْتِيَارِ وَالْكَرَاهَةِ أَوْ عَنْ النّوْعِ الّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَلْ يُفْعَلُ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ الدّاءِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الصّرَعِ
أُخْرِجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ قَالَ <61> ابْنُ عَبّاسٍ : أَلَا أُرِيَك امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ ؟ قُلْت : بَلَى . قَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ السّوْدَاءُ أَتَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ إنّي أُصْرَعُ وَإِنّي أَتَكَشّفُ فَادْعُ اللّهَ لِي فَقَالَ " إنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنّةُ وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللّهَ لَكِ أَنْ يُعَافِيَكِ " فَقَالَتْ أَصْبِرُ . قَالَتْ فَإِنّي أَتَكَشّفُ فَادْعُ اللّهَ أَنْ لَا أَتَكَشّفَ فَدَعَا لَهَا
قُلْتُ الصّرْعُ صَرْعَانِ صَرْعٌ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الْأَرْضِيّةِ وَصَرْعٌ مِنْ الْأَخْلَاطِ الرّدِيئَةِ . وَالثّانِي : هُوَ الّذِي يَتَكَلّمُ فِيهِ الْأَطِبّاءُ فِي سَبَبِهِ وَعِلَاجِهِ .
[ إثْبَاتُ صَرْعِ الْأَرْوَاحِ ]
(1/84)
وَأَمّا صَرْعُ الْأَرْوَاحِ فَأَئِمّتُهُمْ وَعُقَلَاؤُهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِهِ وَلَا يَدْفَعُونَهُ وَيَعْتَرِفُونَ بِأَنّ عِلَاجَهُ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْوَاحِ الشّرِيفَةِ الْخَيّرَةِ الْعُلْوِيّةِ لِتِلْكَ الْأَرْوَاحِ الشّرّيرَةِ الْخَبِيثَةِ فَتَدَافُعُ آثَارِهَا وَتَعَارُضُ أَفْعَالِهَا وَتَبَطّلِهَا وَقَدْ نَصّ عَلَى ذَلِكَ إِبّقْرَاط فِي بَعْضِ كُتُبِهِ فَذَكَرَ بَعْضَ عِلَاجِ الصّرْعِ وَقَالَ هَذَا إنّمَا يَنْفَعُ مِنْ الصّرْعِ الّذِي سَبَبُهُ الْأَخْلَاطُ وَالْمَادّةُ . وَأَمّا الصّرْعُ الّذِي يَكُونُ مِنْ الْأَرْوَاحِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهِ هَذَا الْعِلَاجُ .
وَأَمّا جَهَلَةُ الْأَطِبّاءِ وَسَقَطُهُمْ وَسِفْلَتُهُمْ وَمَنْ يَعْتَقِدُ بِالزّنْدَقَةِ فَضِيلَةً فَأُولَئِكَ يُنْكِرُونَ صَرْعَ الْأَرْوَاحِ وَلَا يُقِرّونَ بِأَنّهَا تُؤَثّرُ فِي بَدَنِ الْمَصْرُوعِ وَلَيْسَ مَعَهُمْ إلّا الْجَهْلُ وَإِلّا فَلَيْسَ فِي الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ وَالْحِسّ وَالْوُجُودُ شَاهِدٌ بِهِ وَإِحَالَتُهُمْ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ بَعْضِ الْأَخْلَاطِ هُوَ صَادِقٌ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهِ لَا فِي كُلّهَا .
وَقُدَمَاءُ الْأَطِبّاءِ كَانُوا يُسَمّوْنَ هَذَا الصّرْعَ الْمَرَضَ الْإِلَهِيّ وَقَالُوا : إنّهُ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَأَمّا جالينوس وَغَيْرُهُ فَتَأَوّلُوا عَلَيْهِمْ هَذِهِ التّسْمِيَةَ وَقَالُوا : إنّمَا سَمّوْهُ بِالْمَرَضِ الْإِلَهِيّ لِكَوْنِ هَذِهِ الْعِلّةِ تَحْدُثُ فِي الرّأْسِ فَتَضُرّ بِالْجُزْءِ الْإِلَهِيّ الطّاهِرِ الّذِي مَسْكَنُهُ الدّمَاغُ .
(1/85)
<62> وَهَذَا التّأْوِيلُ نَشَأَ لَهُمْ مِنْ جَهْلِهِمْ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا وَتَأْثِيرَاتِهَا وَجَاءَتْ زَنَادِقَةُ الْأَطِبّاءِ فَلَمْ يُثْبِتُوا إلّا صَرْعَ الْأَخْلَاطِ وَحْدَهُ . وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِهَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرَاتِهَا يَضْحَكُ مِنْ جَهْلِ هَؤُلَاءِ وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ .
[ الْعِلَاجُ مِنْ صَرْعِ الْأَرْوَاحِ ]
وَعِلَاجُ هَذَا النّوْعِ يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ أَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ وَأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ فَاَلّذِي مِنْ جِهَةِ الْمَصْرُوعِ يَكُونُ بِقُوّةِ نَفْسِهِ وَصِدْقِ تَوَجّهِهِ إلَى فَاطِرِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ وَبَارِئِهَا وَالتّعَوّذِ الصّحِيحِ الّذِي قَدْ تَوَاطَأَ عَلَيْهِ الْقَلْبُ وَاللّسَانُ فَإِنّ هَذَا نَوْعُ مُحَارَبَةٍ وَالْمُحَارِبُ لَا يَتِمّ لَهُ الِانْتِصَافُ مِنْ عَدُوّهِ بِالسّلَاحِ إلّا بِأَمْرَيْنِ أَنْ يَكُونَ السّلَاحُ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ جَيّدًا وَأَنْ يَكُونَ السّاعِدُ قَوِيّا فَمَتَى تَخَلّفَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُغْنِ السّلَاحُ كَثِيرَ طَائِلٍ فَكَيْفَ إذَا عُدِمَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا : يَكُونُ الْقَلْبُ خَرَابًا مِنْ التّوْحِيدِ وَالتّوَكّلِ وَالتّقْوَى وَالتّوَجّهِ وَلَا سِلَاحَ لَهُ . وَالثّانِي : مِنْ جِهَةِ الْمُعَالِجِ بِأَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذَانِ الْأَمْرَانِ أَيْضًا حَتّى إنّ مِنْ الْمُعَالِجِينَ مَنْ يَكْتَفِي بِقَوْلِهِ " اُخْرُجْ مِنْهُ " . أَوْ بِقَوْلِ " بِسْمِ اللّهِ " أَوْ بِقَوْلِ " لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ " وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ اُخْرُجْ عَدُوّ اللّهِ أَنَا رَسُولُ اللّهِ
[ عِلَاجُ ابْنِ تَيْمِيّةَ لِلْمَصْرُوعِ ]
(1/86)
وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا يُرْسِلُ إلَى الْمَصْرُوعِ مَنْ يُخَاطِبُ الرّوحَ الّتِي فِيهِ وَيَقُولُ قَالَ لَك الشّيْخُ اخْرُجِي فَإِنّ هَذَا لَا يَحِلّ لَك فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَرُبّمَا خَاطَبَهَا بِنَفْسِهِ وَرُبّمَا كَانَتْ الرّوحُ مَارِدَةً فَيُخْرِجُهَا بِالضّرْبِ فَيُفِيقُ الْمَصْرُوعُ وَلَا يَحُسّ <63> بِأَلَمٍ وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْهُ ذَلِكَ مِرَارًا . وَكَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [ الْمُؤْمِنُونَ 115 ] .
وَحَدّثَنِي أَنّهُ قَرَأَهَا مَرّةً فِي أُذُنِ الْمَصْرُوعِ فَقَالَتْ الرّوحُ نَعَمْ وَمَدّ بِهَا صَوْتَهُ . قَالَ فَأَخَذْت لَهُ عَصًا وَضَرَبْته بِهَا فِي عُرُوقِ عُنُقِهِ حَتّى كَلّتْ يَدَايَ مِنْ الضّرْبِ وَلَمْ يَشُكّ الْحَاضِرُونَ أَنّهُ يَمُوتُ لِذَلِكَ الضّرْبِ . فَفِي أَثْنَاءِ الضّرْبِ قَالَتْ أَنَا أُحِبّهُ فَقُلْتُ لَهَا : هُوَ لَا يُحِبّك قَالَتْ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحُجّ بِهِ فَقُلْت لَهَا : هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجّ مَعَك فَقَالَتْ أَنَا أَدَعُهُ كَرَامَةً لَك قَالَ قُلْتُ لَا وَلَكِنّ طَاعَةً لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ قَالَتْ فَأَنَا أَخْرُجُ مِنْهُ قَالَ فَقَعَدَ الْمَصْرُوعُ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَقَالَ مَا جَاءَ بِي إلَى حَضْرَةِ الشّيْخِ قَالُوا لَهُ وَهَذَا الضّرْبُ كُلّهُ ؟ فَقَالَ وَعَلَى أَيّ شَيْءٍ يَضْرِبُنِي الشّيْخُ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَمْ يَشْعُرْ بِأَنّهُ وَقَعَ بِهِ ضَرْبٌ أَلْبَتّةَ .
وَكَانَ يُعَالِجُ بِآيَةِ الْكُرْسِيّ وَكَانَ يَأْمُرُ بِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهَا الْمَصْرُوعَ وَمَنْ يُعَالِجُهُ بِهَا وَبِقِرَاءَةِ الْمُعَوّذَتَيْنِ .
[ الْتِفَاتُ الْمُصَنّفِ إلَى خَرَابِ الْقُلُوبِ ]
(1/87)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا النّوْعُ مِنْ الصّرْعِ وَعِلَاجِهِ لَا يُنْكِرُهُ إلّا قَلِيلُ الْحَظّ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَقْلِ وَالْمَعْرِفَةِ وَأَكْثَرُ تَسَلّطِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ عَلَى أَهْلِهِ تَكُونُ مِنْ جِهَةِ قِلّةِ دِينِهِمْ وَخَرَابِ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ حَقَائِقِ الذّكْرِ وَالتّعَاوِيذِ وَالتّحَصّنَاتِ النّبَوِيّةِ وَالْإِيمَانِيّةِ فَتَلْقَى الرّوحُ الْخَبِيثَةُ الرّجُلَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ وَرُبّمَا كَانَ عُرْيَانًا فَيُؤَثّرُ فِيهِ هَذَا .
وَلَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ لَرَأَيْت أَكْثَرَ النّفُوسِ الْبَشَرِيّةِ صَرْعَى هَذِهِ الْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ وَهِيَ فِي أَسْرِهَا وَقَبْضَتِهَا تَسُوقُهَا حَيْثُ شَاءَتْ وَلَا يُمْكِنُهَا الِامْتِنَاعُ عَنْهَا وَلَا مُخَالَفَتُهَا وَبِهَا الصّرْعُ الْأَعْظَمُ الّذِي لَا يُفِيقُ صَاحِبُهُ إلّا عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَالْمُعَايَنَةِ فَهُنَاكَ يَتَحَقّقُ أَنّهُ كَانَ هُوَ الْمَصْرُوعَ حَقِيقَةً وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ .
(1/88)
<64> وَعِلَاجُ هَذَا الصّرْعِ بِاقْتِرَانِ الْعَقْلِ الصّحِيحِ إلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ وَأَنْ تَكُونَ الْجَنّةُ وَالنّارُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ وَقِبْلَةَ قَلْبِهِ وَيَسْتَحْضِرُ أَهْلَ الدّنْيَا وَحُلُولَ الْمَثُلَاتِ وَالْآفَاتِ بِهِمْ وَوُقُوعَهَا خِلَالَ دِيَارِهِمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ وَهُمْ صَرْعَى لَا يُفِيقُونَ وَمَا أَشَدّ دَاءَ هَذَا الصّرْعِ وَلَكِنْ لَمّا عَمّتْ الْبَلِيّةُ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى إلّا مَصْرُوعًا لَمْ يَصِرْ مُسْتَغْرَبًا وَلَا مُسْتَنْكَرًا بَلْ صَارَ لِكَثْرَةِ الْمَصْرُوعِينَ عَيْنَ الْمُسْتَنْكَرِ الْمُسْتَغْرَبِ خِلَافَهُ . فَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا أَفَاقَ مِنْ هَذِهِ الصّرْعَةِ وَنَظَرَ إلَى أَبْنَاءِ الدّنْيَا مَصْرُوعِينَ حَوْلَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْبَقَ بِهِ الْجُنُونُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ أَحْيَانًا قَلِيلَةً وَيَعُودُ إلَى جُنُونِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُفِيقُ مَرّةً وَيُجَنّ أُخْرَى فَإِذَا أَفَاقَ عَمِلَ عَمَلَ أَهْلِ الْإِفَاقَةِ وَالْعَقْلِ ثُمّ يُعَاوِدُهُ الصّرْعُ فَيَقَعُ فِي التّخَبّطِ .
فَصْلٌ [ صَرْعُ الْأَخْلَاطِ ]
(1/89)
وَأَمّا صَرْعُ الْأَخْلَاطِ فَهُوَ عِلّةٌ تَمْنَعُ الْأَعْضَاءَ النّفْسِيّةَ عَنْ الْأَفْعَالِ وَالْحَرَكَةِ وَالِانْتِصَابِ مَنْعًا غَيْرَ تَامّ وَسَبَبُهُ خَلْطٌ غَلِيظٌ لَزِجٌ يَسُدّ مَنَافِذَ بُطُونِ الدّمَاغِ سُدّةً غَيْرَ تَامّةٍ فَيَمْتَنِعُ نُفُوذُ الْحِسّ وَالْحَرَكَةِ فِيهِ وَفِي الْأَعْضَاءِ نُفُوذًا تَامّا مِنْ غَيْرِ انْقِطَاعٍ بِالْكُلّيّةِ وَقَدْ تَكُونُ لِأَسْبَابٍ أُخَرَ كَرِيحٍ غَلِيظٍ يُحْتَبَسُ فِي مَنَافِذِ الرّوحِ أَوْ بُخَارٍ رَدِيءٍ يَرْتَفِعُ إلَيْهِ مِنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ أَوْ كَيْفِيّةٍ لَاذِعَةٍ فَيَنْقَبِضُ الدّمَاغُ لِدَفْعِ الْمُؤْذِي فَيَتْبَعُهُ تَشَنّجٌ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَعَهُ مُنْتَصِبًا بَلْ يَسْقُطُ وَيَظْهَرُ فِي فِيهِ الزّبَدُ غَالِبًا .
وَهَذِهِ الْعِلّةُ تُعَدّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ بِاعْتِبَارِ وَقْتِ وُجُودِهِ الْمُؤْلِمِ خَاصّةً وَقَدْ تُعَدّ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ بِاعْتِبَارِ طُولِ مُكْثِهَا وَعُسْرِ بَرْئِهَا لَا سِيّمَا إنْ تَجَاوَزَ فِي السّنّ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَهَذِهِ الْعِلّةُ فِي دِمَاغِهِ وَخَاصّةً فِي <65> جَوْهَرِهِ فَإِنّ صَرْعَ هَؤُلَاءِ يَكُونُ لَازِمًا . قَالَ إِبّقْرَاط : إنّ الصّرْعَ يَبْقَى فِي هَؤُلَاءِ حَتّى يَمُوتُوا .
[ لَعَلّ صَرْعَ الْمَرْأَةِ الّتِي وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ كَانَ صَرْعُهَا مِنْ صَرْعِ الْأَخْلَاطِ ]
(1/90)
إذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الّتِي جَاءَ الْحَدِيثُ أَنّهَا كَانَتْ تُصْرَعُ وَتَتَكَشّفُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَرْعُهَا مِنْ هَذَا النّوْعِ فَوَعَدَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَنّةَ بِصَبْرِهَا عَلَى هَذَا الْمَرَضِ وَدَعَا لَهَا أَنْ لَا تَتَكَشّفَ وَخَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ وَالْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا بِالشّفَاءِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالْجَنّةَ .
[ جَوَازُ تَرْكِ التّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالتّوَجّهِ إلَى اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ]
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَرْكِ الْمُعَالَجَةِ وَالتّدَاوِي وَأَنّ عِلَاجَ الْأَرْوَاحِ بِالدّعَوَاتِ وَالتّوَجّهِ إلَى اللّهِ يَفْعَلُ مَا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ وَأَنّ تَأْثِيرَهُ وَفِعْلَهُ وَتَأَثّرَ الطّبِيعَةِ عَنْهُ وَانْفِعَالَهَا أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ الْبَدَنِيّةِ وَانْفِعَالِ الطّبِيعَةِ عَنْهَا وَقَدْ جَرّبْنَا هَذَا مِرَارًا نَحْنُ وَغَيْرُنَا وَعُقَلَاءُ الْأَطِبّاءِ مُعْتَرِفُونَ بِأَنّ لِفِعْلِ الْقُوَى النّفْسِيّةِ وَانْفِعَالَاتِهَا فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ عَجَائِبُ وَمَا عَلَى الصّنَاعَةِ الطّبّيّةِ أَضَرّ مِنْ زَنَادِقَةِ الْقَوْمِ وَسِفْلَتِهِمْ وَجُهّالِهِمْ . وَالظّاهِرُ أَنّ صَرْعَ هَذِهِ الْمَرْأَةِ كَانَ مِنْ هَذَا النّوْعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَيَكُونُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ خَيّرَهَا بَيْنَ الصّبْرِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْجَنّةِ وَبَيْنَ الدّعَاءِ لَهَا بِالشّفَاءِ فَاخْتَارَتْ الصّبْرَ وَالسّتْرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ عِرْقِ النّسَا
(1/91)
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ دَوَاءُ عِرْقِ النّسَا أَلْيَةُ شَاةٍ أَعْرَابِيّةٍ تُذَابُ ثُمّ تُجَزّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ثُمّ يُشْرَبُ عَلَى الرّيقِ فِي كُلّ يَوْمٍ جُزْءٌ
<66> عِرْقُ النّسَاءِ وَجَعٌ يَبْتَدِئُ مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْزِلُ مِنْ خَلْفٍ عَلَى الْفَخِذِ وَرُبّمَا عَلَى الْكَعْبِ وَكُلّمَا طَالَتْ مُدّتُهُ زَادَ نُزُولُهُ وَتَهْزُلُ مَعَهُ الرّجْلُ وَالْفَخِذُ وَهَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ مَعْنًى لُغَوِيّ وَمَعْنًى طِبّيّ . فَأَمّا الْمَعْنَى اللّغَوِيّ فَدَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ هَذَا الْمَرَضِ بِعِرْقِ النّسَا خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ هَذِهِ التّسْمِيَةَ وَقَالَ النّسَا هُوَ الْعِرْقُ نَفْسُهُ فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ وَجَوَابُ هَذَا الْقَائِلِ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَرَقَ أَعَمّ مِنْ النّسَا فَهُوَ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الْعَامّ إلَى الْخَاصّ نَحْوُ كُلّ الدّرَاهِمِ أَوْ بَعْضُهَا .
الثّانِي : أَنّ النّسَا : هُوَ الْمَرَضُ الْحَالُ بِالْعِرْقِ وَالْإِضَافَةِ فِيهِ مِنْ بَابِ إضَافَةِ الشّيْءِ إلَى مَحَلّهِ وَمَوْضِعِهِ . قِيلَ وَسُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّ أَلَمَهُ يُنْسِي مَا سِوَاهُ وَهَذَا الْعَرَقُ مُمْتَدّ مِنْ مَفْصِلِ الْوَرِكِ وَيَنْتَهِي إلَى آخِرِ الْقَدَمِ وَرَاءَ الْكَعْبِ مِنْ الْجَانِبِ الْوَحْشِيّ فِيمَا بَيْنَ عَظْمِ السّاقِ وَالْوَتَرِ .
وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ كَلَامَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا : عَامّ بِحَسْبِ الْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ .
(1/92)
وَالثّانِي : خَاصّ بِحَسْبِ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بِضْعِهَا وَهَذَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ فَإِنّ هَذَا خِطَابٌ لِلْعَرَبِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَلَا سِيّمَا أَعْرَابُ الْبَوَادِي فَإِنّ هَذَا الْعِلَاجَ مِنْ أَنْفَعِ الْعِلَاجِ لَهُمْ فَإِنّ هَذَا الْمَرَضَ يَحْدُثُ مِنْ يُبْسٍ وَقَدْ يَحْدُثُ مِنْ مَادّةٍ غَلِيظَةٍ لَزِجَةٍ فَعِلَاجُهَا بِالْإِسْهَالِ .
وَالْأَلْيَةُ فِيهَا الْخَاصّيّتَانِ الْإِنْضَاجُ وَالتّلْيِينُ فَفِيهَا الْإِنْضَاجُ وَالْإِخْرَاجُ . وَهَذَا الْمَرَضُ يَحْتَاجُ عِلَاجُهُ إلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ وَفِي تَعْيِينِ الشّاةِ الْأَعْرَابِيّةِ لِقِلّةِ فُضُولِهَا وَصِغَرِ مِقْدَارِهَا وَلُطْفِ جَوْهَرِهَا وَخَاصّيّةِ مَرْعَاهَا لِأَنّهَا تَرْعَى أَعْشَابَ الْبَرّ الْحَارَةِ كَالشّيحِ وَالْقَيْصُومِ وَنَحْوِهِمَا وَهَذِهِ النّبَاتَاتُ إذَا تَغَذّى بِهَا الْحَيَوَانُ صَارَ فِي لَحْمِهِ مِنْ طَبْعِهَا بَعْدَ أَنْ يُلَطّفَهَا تُغَذّيهِ بِهَا وَيُكْسِبُهَا مِزَاجًا أَلْطَفَ مِنْهَا وَلَا سِيّمَا الْأَلْيَةُ وَظُهُورُ فِعْلِ هَذِهِ النّبَاتَاتِ فِي اللّبَنِ أَقْوَى مِنْهُ فِي اللّحْمِ وَلَكِنّ الْخَاصّيّةَ الّتِي فِي الْأَلْيَةِ مِنْ الْإِنْضَاجِ <67> وَالتّلْيِينِ لَا تُوجَدُ فِي اللّبَنِ وَهَذَا كَمَا تَقَدّمَ أَنّ أَدْوِيَةَ غَالِبِ الْأُمَمِ وَالْبَوَادِي هِيَ الْأَدْوِيَةُ الْمُفْرَدَةُ وَعَلَيْهِ أَطِبّاءُ الْهِنْدِ .
وَأَمّا الرّومُ وَالْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ بِالْمُرَكّبَةِ وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ الطّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا .
(1/93)
الْيُونَانُ فَيَعْتَنُونَ بِالْمُرَكّبَةِ وَهُمْ مُتّفِقُونَ كُلّهُمْ عَلَى أَنّ مِنْ مَهَارَةِ الطّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ بِالْغِذَاءِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِالْمُفْرَدِ فَإِنْ عَجَزَ فَبِمَا كَانَ أَقَلّ تَرْكِيبًا .
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ غَالِبَ عَادَاتِ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي الْأَمْرَاضُ الْبَسِيطَةُ فَالْأَدْوِيَةُ الْبَسِيطَةُ تُنَاسِبُهَا وَهَذَا لِبَسَاطَةِ أَغْذِيَتِهِمْ فِي الْغَالِبِ . وَأَمّا الْأَمْرَاضُ الْمُرَكّبَةُ فَغَالِبًا مَا تَحْدُثُ عَنْ تَرْكِيبِ الْأَغْذِيَةِ وَتَنَوّعِهَا وَاخْتِلَافِهَا فَاخْتِيرَتْ لَهَا الْأَدْوِيَةُ الْمُرَكّبَةُ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ يُبْسِ الطّبْعِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى مَا يُمَشّيهِ وَيُلَيّنُهُ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَاذَا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ ؟ قَالَتْ بِالشّبْرُمِ قَالَ حَارّ جَارّ قَالَتْ ثُمّ اسْتَمْشَيْتُ بِالسّنَا فَقَالَ " لَوْ كَانَ شَيْءٌ يَشْفِي مِنْ الْمَوْتِ لَكَانَ السّنَا . <68> وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُمّ حَرَامٍ وَكَانَ قَدْ صَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقِبْلَتَيْنِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالسّنَا وَالسّنُوتِ فَإِنّ فِيهِمَا شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ إلّا السّامَ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا السّامُ ؟ قَالَ الْمَوْتُ .
[الْعِلَاجُ بِالشّبْرُمِ ]
(1/94)
قَوْلُهُ بِمَاذَا كُنْت تَسْتَمْشِينَ ؟ أَيْ تُلَيّنِينَ الطّبْعَ حَتّى يَمْشِيَ وَلَا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ فَيُؤْذِي بِاحْتِبَاسِ النّجْوِ وَلِهَذَا سُمّيَ الدّوَاءُ الْمُسَهّلُ مَشِيّا عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ . وَقِيلَ لِأَنّ الْمَسْهُولَ يُكْثِرُ الْمَشْيَ وَالِاخْتِلَافُ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ رُوِيَ بِمَاذَا تَسْتَشْفِينَ ؟ فَقَالَتْ بِالشّبْرُمِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدْوِيَةِ الْيَتُوعِيّة وَهُوَ قِشْرُ عِرْقِ شَجَرَةٍ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الرّابِعَةِ وَأَجْوَدُهُ الْمَائِلُ إلَى الْحُمْرَةِ الْخَفِيفُ الرّقِيقُ الّذِي يُشْبِهُ الْجِلْدَ الْمَلْفُوفَ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الّتِي أَوْصَى الْأَطِبّاءُ بِتَرْكِ اسْتِعْمَالِهَا لِخَطَرِهَا وَفَرْطِ إسْهَالِهَا .
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " حَارّ جَارّ " وَيُرْوَى : حَارّ يَارّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : وَأَكْثَرُ كَلَامِهِمْ بِالْيَاءِ . قُلْت : وَفِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْحَارّ الْجَارّ بِالْجِيمِ الشّدِيدُ الْإِسْهَالُ فَوَصَفَهُ بِالْحَرَارَةِ وَشَدّةِ الْإِسْهَالِ وَكَذَلِكَ هُوَ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ .
[مَا الْمَقْصُودُ بِالْإِتْبَاعِ ]
(1/95)
وَالثّانِي - وَهُوَ الصّوَابُ - أَنّ هَذَا مِنْ الْإِتْبَاعِ الّذِي يُقْصَدُ بِهِ تَأْكِيدُ الْأَوّلِ وَيَكُونُ بَيْنَ التّأْكِيدِ اللّفْظِيّ وَالْمَعْنَوِيّ وَلِهَذَا يُرَاعُونَ فِيهِ إتْبَاعَهُ فِي أَكْثَرِ حُرُوفِهِ كَقَوْلِهِمْ حَسَنٌ بَسَنٌ أَيْ كَامِلُ الْحُسْنِ وَقَوْلُهُمْ حَسَنٌ قَسَنٌ بِالْقَافِ وَمِنْهُ شَيْطَانٌ لَيْطَانُ وَحَارّ جَارّ مَعَ أَنّ فِي الْجَارّ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ <69> الّذِي يَجُرّ الشّيْءَ الّذِي يُصِيبُهُ مِنْ شِدّةِ حَرَارَتِهِ وَجَذْبِهِ لَهُ كَأَنّهُ يَنْزِعُهُ وَيَسْلُخُهُ . وَيَارّ إمّا لُغَةٌ فِي جَارّ كَقَوْلِهِمْ صِهْرِيّ وَصِهْرِيج وَالصّهَارِي وَالصّهَارِيجُ وَإِمّا إتْبَاعُ مُسْتَقِلّ .
[ نَبَاتُ السّنَا ]
وَأَمّا السّنَا فَفِيهِ لُغَتَانِ الْمَدّ وَالْقَصْرُ وَهُوَ نَبْتٌ حِجَازِيّ أَفْضَلُهُ الْمَكّيّ وَهُوَ دَوَاءٌ شَرِيفٌ مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ قَرِيبٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الْأُولَى يُسْهِلُ الصّفْرَاءَ وَالسّوْدَاءَ وَيُقَوّي جِرْمَ الْقَلْبِ وَهَذِهِ فَضِيلَةٌ شَرِيفَةٌ فِيهِ وَخَاصّيّتُهُ النّفْعُ مِنْ الْوَسْوَاسِ السّوْدَاوِيّ وَمِنْ الشّقَاقِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَيَفْتَحُ الْعَضَلَ وَيَنْفَعُ مِنْ انْتِشَارِ الشّعَرِ وَمِنْ الْقَمْلِ وَالصّدَاعِ الْعَتِيقِ وَالْجَرَبِ وَالْبُثُورِ وَالْحِكّةِ وَالصّرِعِ وَشُرْبِ مَائِهِ مَطْبُوخًا أَصْلَحُ مِنْ شُرْبِهِ مَدْقُوقًا وَمِقْدَارُ الشّرْبَةِ مِنْهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَمِنْ مَائِهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ طُبِخَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ زَهْرِ الْبَنَفْسَجِ وَالزّبِيبِ الْأَحْمَرِ الْمَنْزُوعِ الْعَجَمُ كَانَ أَصْلَحَ .
(1/96)
قَالَ الرّازِيّ : السّنَاءُ والشاهترج يُسَهّلَانِ الْأَخْلَاطَ الْمُحْتَرِقَةَ وَيَنْفَعَانِ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحِكّة وَالشّرْبَةُ مِنْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ إلَى سَبْعَةِ دَرَاهِمَ .
[ مَا هُوَ السّنُوت ]
وَأَمّا السّنُوت فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ ؟ أَحَدُهَا : أَنّهُ الْعَسَلُ . وَالثّانِي : أَنّهُ رُبّ عُكّةِ السّمْنِ يَخْرُجُ خُطَطًا سَوْدَاءَ عَلَى السّمْنِ حَكَاهُمَا عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ السكسكي . الثّالِثُ أَنّهُ حَبّ يُشْبِهُ الْكَمّونَ وَلَيْسَ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ . الرّابِعُ أَنّهُ الْكَمّونُ الْكَرْمَانِيّ . الْخَامِسُ أَنّهُ الرازيانج . حَكَاهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ عَنْ بَعْضِ الْأَعْرَابِ . السّادِسُ أَنّهُ الشّبِتّ . السّابِعُ أَنّهُ التّمْرُ حَكَاهُمَا أَبُو بَكْرِ بْنُ السّنّيّ الْحَافِظُ . الثّامِنُ أَنّهُ الْعَسَلُ الّذِي يَكُونُ فِي زِقَاقِ السّمْنِ حَكَاهُ عَبْدُ اللّطِيفِ الْبَغْدَادِيّ . قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا أَجْدَرُ <70> بِالْمَعْنَى وَأَقْرَبُ إلَى الصّوَابِ أَيْ يُخْلَطُ السّنَاءُ مَدْقُوقًا بِالْعَسَلِ الْمُخَالِطِ لِلسّمْنِ ثُمّ يُلْعَقُ فَيَكُونُ أَصْلَحَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ مُفْرَدًا لِمَا فِي الْعَسَلِ وَالسّمْنِ مِنْ إصْلَاحِ السّنَا وَإِعَانَتِهِ لَهُ عَلَى الْإِسْهَالِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ ُ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ إنّ خَيْرَ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ السّعُوطُ وَاللّدُودُ وَالْحِجَامَةُ وَالْمَشْيُ وَالْمَشِيّ هُوَ الّذِي يُمَشّي الطّبْعَ وَيُلَيّنُهُ وَيُسَهّلُ خُرُوجَ الْخَارِجِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حِكّة الْجِسْمِ وَمَا يُوَلّدُ الْقَمْلَ
(1/97)
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ لَحِكّةٍ كَانَتْ بِهِمَا
وَفِي رِوَايَةٍ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَالزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا شَكَوْا الْقَمْلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا فَرَخّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ وَرَأَيْتُهُ عَلَيْهِمَا .
هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا فِقْهِيّ وَالْآخَرُ طِبّيّ .
[حُكْمُ لُبْسِ الْحَرِيرِ ]
فَأَمّا الْفِقْهِيّ فَاَلّذِي اسْتَقَرّتْ عَلَيْهِ سُنّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إبَاحَةُ الْحَرِيرِ لِلنّسَاءِ مُطْلَقًا وَتَحْرِيمُهُ عَلَى الرّجَالِ إلّا لِحَاجَةٍ وَمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَالْحَاجَةُ إمّا مِنْ شِدّةِ الْبَرْدِ وَلَا يَجِدُ غَيْرَهُ أَوْ لَا يَجِدُ سُتْرَةً سِوَاهُ . وَمِنْهَا : لِبَاسُهُ لِلْجَرَبِ وَالْمَرَضِ وَالْحِكّةِ وَكَثْرَةِ الْقَمْلِ كَمَا دَلّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أَنَسٍ هَذَا الصّحِيحُ .
<71> وَالْجَوَازُ أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصَحّ قَوْلَيْ الشّافِعِيّ إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ التّخْصِيصِ وَالرّخْصَةُ إذَا ثَبَتَتْ فِي حَقّ بَعْضِ الْأُمّةِ لِمَعْنًى تَعَدّتْ إلَى كُلّ مَنْ وُجِدَ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ بِعُمُومِ سَبَبِهِ .
(1/98)
وَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ قَالَ أَحَادِيثُ التّحْرِيمِ عَامّةٌ وَأَحَادِيثُ الرّخْصَةِ يُحْتَمَلُ اخْتِصَاصُهَا بِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ وَيُحْتَمَلُ تَعَدّيهَا إلَى غَيْرِهِمَا . وَإِذَا اُحْتُمِلَ الْأَمْرَانِ كَانَ الْأَخْذُ بِالْعُمُومِ أَوْلَى وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الرّوَاةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا أَدْرِي أَبْلَغَتْ الرّخْصَةُ مِنْ بَعْدِهِمَا أَمْ لَا ؟
وَالصّحِيحُ عُمُومُ الرّخْصَةِ فَإِنّهُ عُرْفُ خِطَابِ الشّرْعِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرّحْ بِالتّخْصِيصِ وَعَدَمِ إلْحَاقِ غَيْرِ مَنْ رَخّصَ لَهُ أَوّلًا بِهِ كَقَوْلِهِ لِأَبِي بُرْدَةَ فِي تَضْحِيَتِهِ بِالْجَذَعَةِ مِنْ الْمَعْزِ تَجْزِيكَ وَلَنْ تَجْزِيَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِكَاحِ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ الْأَحْزَابُ 50 ] .
(1/99)
وَتَحْرِيمُ الْحَرِيرِ إنّمَا كَانَ سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَلِهَذَا أُبِيحَ لِلنّسَاءِ وَلِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَهَذِهِ قَاعِدَةُ مَا حُرّمَ لِسَدّ الذّرَائِعِ فَإِنّهُ يُبَاحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ كَمَا حَرُمَ النّظَرُ سَدّا لِذَرِيعَةِ الْفِعْلِ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ وَالْمَصْلَحَةُ الرّاجِحَةُ وَكَمَا حَرُمَ التّنَفّلُ بِالصّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النّهْيِ سَدّا لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ الصّورِيّةِ بِعُبّادِ الشّمْسِ وَأُبِيحَتْ لِلْمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ وَكَمَا حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ سَدّا لِذَرِيعَةِ رِبَا النّسِيئَةِ وَأُبِيحَ مِنْهُ مَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ الْعَرَايَا <72> وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَحِلّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ فِي كِتَابِ التّحْبِيرُ لِمَا يَحِلّ وَيَحْرُمُ مِنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ
فَصْلُ [ فَوَائِدِ الْحَرِيرِ ]
(1/100)
وَأَمّا الْأَمْرُ الطّبّيّ فَهُوَ أَنّ الْحَرِيرَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُتّخَذَةِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَلِذَلِكَ يُعَدّ فِي الْأَدْوِيَةِ الْحَيَوَانِيّةِ لِأَنّ مَخْرَجَهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَهُوَ كَثِيرُ الْمَنَافِعِ جَلِيلُ الْمَوْقِعِ وَمِنْ خَاصّيّتِهِ تَقْوِيَةُ الْقَلْبِ وَتَفْرِيحُهُ وَالنّفْعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهِ وَمِنْ غَلَبَةِ الْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَالْأَدْوَاءِ الْحَادِثَةِ عَنْهَا ; وَهُوَ مُقَوّ لِلْبَصَرِ إذَا اكْتَحَلَ بِهِ وَالْخَامُ مِنْهُ - وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي صِنَاعَةِ الطّبّ - حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الْأُولَى . وَقِيلَ حَارّ رَطْبٌ فِيهَا : وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ . وَإِذَا اُتّخِذَ مِنْهُ مَلْبُوسٌ كَانَ مُعْتَدِلَ الْحَرَارَةِ فِي مِزَاجِهِ مُسَخّنًا لِلْبَدَنِ وَرُبّمَا بَرُدَ الْبَدَنُ بِتَسْمِينِهِ إيّاهُ .
قَالَ الرّازِيّ : الْإِبْرَيْسَمُ أَسْخَنُ مِنْ الْكَتّانِ وَأَبْرَدُ مِنْ الْقُطْنِ يُرَبّي اللّحْمَ وَكُلّ لِبَاسٍ خَشِنٍ فَإِنّهُ يُهْزِلُ وَيُصْلِبُ الْبَشَرَةَ وَبِالْعَكْسِ .
[أَقْسَامُ الْمَلَابِسِ مِنْ حَيْثُ تَسْخِينِ الْبَدَنِ ]
قُلْت : وَالْمَلَابِسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ يُسَخّنُ الْبَدَنَ وَيُدَفّئُهُ وَقِسْمٌ يُدَفّئُهُ وَلَا يُسَخّنُهُ وَقِسْمٌ لَا يُسَخّنُهُ وَلَا يُدَفّئُهُ وَلَيْسَ هُنَاكَ مَا يُسَخّنُهُ وَلَا يُدَفّئُهُ إذْ مَا يُسَخّنُهُ فَهُوَ أَوْلَى بِتَدْفِئَتِهِ فَمَلَابِسُ الْأَوْبَارِ وَالْأَصْوَافِ تُسَخّنُ وَتُدَفّئُ وَمَلَابِسُ الْكَتّانِ وَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ تُدَفّئُ وَلَا تُسَخّنُ فَثِيَابُ الْكَتّانِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ وَثِيَابُ الصّوفِ حَارَةٌ يَابِسَةٌ وَثِيَابُ الْقُطْنِ مُعْتَدِلَةُ الْحَرَارَةِ وَثِيَابُ الْحَرِيرِ أَلْيَنُ مِنْ الْقُطْنِ وَأَقَلّ حَرَارَةً مِنْهُ .
(1/101)
قَالَ صَاحِبُ " الْمِنْهَاجِ " : وَلُبْسُهُ لَا يُسَخّنُ كَالْقُطْنِ بَلْ هُوَ مُعْتَدِلٌ وَكُلّ لِبَاسٍ أَمْلَسَ صَقِيلٍ فَإِنّهُ أَقَلّ إسْخَانًا لِلْبَدَنِ وَأَقَلّ عَوْنًا فِي تَحَلّلٍ مَا يَتَحَلّلُ مِنْهُ وَأَحْرَى أَنْ يُلْبَسَ فِي الصّيْفِ وَفِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ .
وَلَمّا كَانَتْ ثِيَابُ الْحَرِيرِ كَذَلِكَ وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الْيُبْسِ وَالْخُشُونَةِ <73> الْكَائِنَيْنِ فِي غَيْرِهَا صَارَتْ نَافِعَةً مِنْ الْحِكّةِ إذْ الْحِكّةُ لَا تَكُونُ إلّا عَنْ حَرَارَةٍ وَيُبْسٍ وَخُشُونَةٍ فَلِذَلِكَ رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلزّبَيْرِ وَعَبْدِ الرّحْمَن ِ فِي لِبَاسِ الْحَرِيرِ لِمُدَاوَاةِ الْحِكّةِ وَثِيَابُ الْحَرِيرِ أَبْعَدُ عَنْ تَوَلّدِ الْقَمْلِ فِيهَا إذْ كَانَ مِزَاجُهَا مُخَالِفًا لِمِزَاجِ مَا يَتَوَلّدُ مِنْهُ الْقَمْلُ .
[عِلّةُ تَحْرِيمِ الْحَرِيرِ ]
وَأَمّا الْقِسْمُ الّذِي لَا يُدَفّئُ وَلَا يُسَخّنُ فَالْمُتّخَذُ مِنْ الْحَدِيدِ وَالرّصَاصِ وَالْخَشَبِ وَالتّرَابِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ أَعْدَلَ اللّبَاسِ وَأَوْفَقَهُ لِلْبُدْنِ فَلِمَاذَا حَرّمَتْهُ الشّرِيعَةُ الْكَامِلَةُ الْفَاضِلَةُ الّتِي أَبَاحَتْ الطّيّبَاتِ وَحَرّمَتْ الْخَبَائِثَ ؟
قِيلَ هَذَا السّؤَالُ يُجِيبُ عَنْهُ كُلّ طَائِفَةٍ مِنْ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ بِجَوَابٍ فَمُنْكِرُو الْحُكْمِ وَالتّعْلِيلِ لِمَا رُفِعَتْ قَاعِدَةُ التّعْلِيلِ مِنْ أَصْلِهَا لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى جَوَابٍ عَنْ هَذَا السّؤَالِ .
(1/102)
وَمُثْبِتُو التّعْلِيلِ وَالْحُكْمِ - وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ - مِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ عَنْ هَذَا بِأَنّ الشّرِيعَةَ حَرّمَتْهُ لِتَصْبِرَ النّفُوسُ عَنْهُ وَتَتْرُكهُ لِلّهِ فَتُثَابُ عَلَى ذَلِكَ لَا سِيّمَا وَلَهَا عِوَضٌ عَنْهُ بِغَيْرِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيبُ عَنْهُ بِأَنّهُ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِلنّسَاءِ كَالْحِلْيَةِ بِالذّهَبِ فَحَرُمَ عَلَى الرّجَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَفْسَدَةِ تَشَبّهِ الرّجَالِ بِالنّسَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ مِنْ الْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْعُجْبِ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ حَرُمَ لِمَا يُورِثُهُ بِمُلَامَسَتِهِ لِلْبَدَنِ مِنْ الْأُنُوثَةِ وَالتّخَنّثِ وَضِدّ الشّهَامَةِ وَالرّجُولَةِ فَإِنّ لُبْسَهُ يُكْسِبُ الْقَلْبَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْإِنَاثِ وَلِهَذَا لَا تَكَادُ تَجِدُ مَنْ يَلْبَسُهُ فِي الْأَكْثَرِ إلّا وَعَلَى شَمَائِلِهِ مِنْ التّخَنّثِ وَالتّأَنّثِ وَالرّخَاوَةِ مَا لَا يَخْفَى حَتّى لَوْ كَانَ مِنْ أَشْهَمِ النّاسِ وَأَكْثَرِهِمْ فَحَوْلِيّةً وَرُجُولِيّةً فَلَا بُدّ أَنْ يُنْقِصَهُ لُبْسُ الْحَرِيرِ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يُذْهِبْهَا وَمَنْ غَلُظَتْ طِبَاعُهُ وَكَثُفَتْ عَنْ فَهْمِ هَذَا فَلْيُسَلّمْ لِلشّارِعِ الْحَكِيمِ وَلِهَذَا كَانَ <74> أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ أَنّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلِيّ أَنْ يُلْبِسَهُ الصّبِيّ لِمَا يَنْشَأُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ التّأْنِيثِ .
وَقَدْ رَوَى النّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ أَحَلّ لِإِنَاثِ أُمّتِي الْحَرِيرَ وَالذّهَبَ وَحَرّمَهُ عَلَى ذُكُورِهَا وَفِي لَفْظٍ حَرُمَ لِبَاسُ الْحَرِيرِ وَالذّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمّتِي وَأُحِلّ لِإِنَاثِهِمْ
(1/103)
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدّيبَاجِ وَأَنْ يُجْلَسَ عَلَيْهِ وَقَالَ هُوَ لَهُمْ فِي الدّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ ذَاتِ الْجَنْبِ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَم َ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تَدَاوَوْا مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ بِالْقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَالزّيْتِ
وَذَاتُ الْجَنْبِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ نَوْعَانِ حَقِيقِيّ وَغَيْرُ حَقِيقِيّ . فَالْحَقِيقِيّ وَرَمٌ حَارّ يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ فِي الْغِشَاءِ الْمُسْتَبْطِنِ لِلْأَضْلَاعِ . وَغَيْرُ الْحَقِيقِيّ أَلَمٌ يُشْبِهُهُ يَعْرِضُ فِي نَوَاحِي الْجَنْبِ عَنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ مُؤْذِيَةٍ تَحْتَقِنُ بَيْنَ الصّفَاقَاتِ <75> فَتُحْدِثُ وَجَعًا قَرِيبًا مِنْ وَجَعِ ذَاتِ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيّ إلّا أَنّ الْوَجَعَ فِي هَذَا الْقِسْمِ مَمْدُودٌ وَفِي الْحَقِيقِيّ نَاخِسٌ .
قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : قَدْ يَعْرِضُ فِي الْجَنْبِ وَالصّفَاقَاتِ وَالْعَضَلِ الّتِي فِي الصّدْرِ وَالْأَضْلَاعِ وَنَوَاحِيهَا أَوْرَامٌ مُؤْذِيَةٌ جِدّا مُوجِعَةٌ تُسَمّى شَوْصَةً وَبِرْسَامًا وَذَاتَ الْجَنْبِ . وَقَدْ تَكُونُ أَيْضًا أَوْجَاعًا فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ لَيْسَتْ مِنْ وَرَمٍ وَلَكِنْ مِنْ رِيَاحٍ غَلِيظَةٍ فَيُظَنّ أَنّهَا مِنْ هَذِهِ الْعِلّةِ وَلَا تَكُونُ مِنْهَا .
(1/104)
قَالَ وَاعْلَمْ أَنّ كُلّ وَجَعٍ فِي الْجَنْبِ قَدْ يُسَمّى ذَاتَ الْجَنْبِ اشْتِقَاقًا مِنْ مَكَانِ الْأَلَمِ لِأَنّ مَعْنَى ذَاتِ الْجَنْبِ صَاحِبَةُ الْجَنْبِ وَالْغَرَضُ بِهِ هَا هُنَا وَجَعُ الْجَنْبِ فَإِذَا عَرَضَ فِي الْجَنْبِ أَلَمٌ عَنْ أَيّ سَبَبٍ كَانَ نُسِبَ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ حُمِلَ كَلَامُ بُقْرَاطَ فِي قَوْلِهِ إنّ أَصْحَابَ ذَاتِ الْجَنْبِ يَنْتَفِعُونَ بِالْحَمَامِ . قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ كُلّ مَنْ بِهِ وَجَعُ جَنْبٍ أَوْ وَجَعُ رِئَةٍ مِنْ سُوءِ مِزَاجٍ أَوْ مِنْ أَخْلَاطٍ غَلِيظَةٍ أَوْ لَذّاعَةٍ مِنْ غَيْرِ وَرَمٍ وَلَا حُمّى .
قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَأَمّا مَعْنَى ذَاتِ الْجَنْبِ فِي لُغَةِ الْيُونَانِ فَهُوَ وَرَمُ الْجَنْبِ الْحَارّ وَكَذَلِكَ وَرَمُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَإِنّمَا سُمّيَ ذَاتَ الْجَنْبِ وَرَمَ ذَلِكَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ وَرَمًا حَارّا فَقَطْ .
وَيَلْزَمُ ذَاتَ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيّ خَمْسَةُ أَعْرَاضٍ وَهِيَ الْحُمّى وَالسّعَالُ وَالْوَجَعُ النّاخِسُ وَضِيقُ النّفَسِ وَالنّبْضُ الْمِنْشَارِيّ .
وَالْعِلَاجُ الْمَوْجُودُ فِي الْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ لِهَذَا الْقِسْمِ لَكِنْ لِلْقِسْمِ الثّانِي الْكَائِنِ عَنْ الرّيحِ الْغَلِيظَةِ فَإِنّ الْقُسْطَ الْبَحْرِيّ - وَهُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيّ عَلَى مَا جَاءَ مُفَسّرًا فِي أَحَادِيثَ أُخَرَ - صِنْفٌ مِنْ الْقُسْطِ إذَا دُقّ دَقّا نَاعِمًا وَخُلِطَ بِالزّيْتِ الْمُسَخّنِ وَدُلِكَ بِهِ مَكَانُ الرّيحِ الْمَذْكُورُ أَوْ لُعِقَ كَانَ دَوَاءً مُوَافِقًا لِذَلِكَ نَافِعًا <76> لَهُ مُحَلّلًا لِمَادّتِهِ مُذْهِبًا لَهَا مُقَوّيًا لِلْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ مُفَتّحًا لِلسّدَدِ وَالْعُودُ الْمَذْكُورُ فِي مَنَافِعِهِ كَذَلِكَ .
(1/105)
قَالَ الْمُسَبّحِيّ الْعُودُ حَارّ يَابِسٌ قَابِضٌ يَحْبِسُ الْبَطْنَ وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ وَيَطْرُدُ الرّيحَ وَيَفْتَحُ السّدَدَ نَافِعٌ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَيُذْهِبُ فَضْلَ الرّطُوبَةِ وَالْعُودُ الْمَذْكُورُ جَيّدٌ لِلدّمَاغِ . قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ يَنْفَعَ الْقُسْطُ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ الْحَقِيقِيّةِ أَيْضًا إذَا كَانَ حُدُوثُهَا عَنْ مَادّةٍ بَلْغَمِيّةٍ لَا سِيّمَا فِي وَقْتِ انْحِطَاطِ الْعِلّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَذَاتُ الْجَنْبِ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْخَطِرَةِ وَفِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهَا قَالَتْ بَدَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَرَضِهِ فِي بَيْت ِ مَيْمُونَة وَكَانَ كُلّمَا خَفّ عَلَيْهِ خَرَجَ وَصَلّى بِالنّاسِ وَكَانَ كُلّمَا وَجَدَ ثِقَلًا قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ " وَاشْتَدّ شَكْوَاهُ حَتّى غُمِرَ عَلَيْهِ مِنْ شِدّةِ الْوَجَعِ فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ نِسَاؤُهُ وَعَمّهُ الْعَبّاسُ وَأُمّ الْفَضْلِ بِنْتُ الْحَارِثِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ فَتَشَاوَرُوا فِي لَدّهِ فَلَدّوهُ وَهُوَ مَغْمُورٌ فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ " مَنْ فَعَلَ بِي هَذَا هَذَا مِنْ عَمَلِ نِسَاءٍ جِئْنَ مِنْ هَا هُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ وَكَانَتْ أُمّ سَلَمَةَ وَأَسْمَاءُ لَدّتَاهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ . قَالَ " فَبِمَ لَدَدْتُمُونِي " ؟ قَالُوا : بِالْعُودِ الْهِنْدِيّ وَشَيْءٍ مِنْ وَرْسٍ وَقَطَرَاتٍ مِنْ زَيْتٍ . فَقَالَ " مَا كَانَ اللّهُ لِيَقْذِفَنِي بِذَلِكَ الدّاءِ " ثُمّ قَالَ " عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إلّا لُدّ إلّا عَمّي الْعَبّاسُ <77>
(1/106)
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ لَدَدْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَشَارَ أَنْ لَا تَلُدّونِي فَقُلْنَا : كَرَاهِيَةَ الْمَرِيضِ لِلدّوَاءِ فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدّونِي لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا لُدّ غَيْرَ عَمّي الْعَبّاسِ فَإِنّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ "
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْأَصْمَعِيّ : اللّدُودُ مَا يُسْقَى الْإِنْسَانُ فِي أَحَدِ شِقّيْ الْفَمِ أُخِذَ مِنْ لَدِيدَيْ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ . وَأَمّا الْوَجُورُ فَهُوَ فِي وَسَطِ الْفَمِ .
قُلْت : وَاللّدُودُ - بِالْفَتْحِ - هُوَ الدّوَاءُ الّذِي يُلَدّ بِهِ . وَالسّعُوطُ مَا أُدْخِلَ مِنْ أَنْفِهِ .
[ مُعَاقَبَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ ]
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ مُعَاقَبَةُ الْجَانِي بِمِثْلِ مَا فَعَلَ سَوَاءٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُحَرّمًا لِحَقّ اللّهِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ لِبِضْعَةَ عَشَرَ دَلِيلًا قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرّاشِدِينَ وَتَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِصَاصِ فِي اللّطْمَةِ وَالضّرْبَةِ وَفِيهَا عِدّةُ أَحَادِيثَ لَا مُعَارِضَ لَهَا أَلْبَتّةَ فَيَتَعَيّنُ الْقَوْلُ بِهَا . <78>
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الصّدَاعِ وَالشّقِيقَةِ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " حَدِيثًا فِي صِحّتِهِ نَظَرٌ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صُدِعَ غَلّفَ رَأْسَهُ بِالْحِنّاءِ وَيَقُولُ إنّهُ نَافِعٌ بِإِذْنِ اللّهِ مِنْ الصّدَاعِ
(1/107)
وَالصّدَاعُ أَلَمٌ فِي بَعْضِ أَجْزَاءِ الرّأْسِ أَوْ كُلّهِ فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَحَدِ شِقّيْ الرّأْسِ لَازِمًا يُسَمّى شَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ شَامِلًا لِجَمِيعِهِ لَازِمًا يُسَمّى بَيْضَةً وَخُودَةً تَشْبِيهًا بِبَيْضَةِ السّلَاحِ الّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الرّأْسِ كُلّهِ وَرُبّمَا كَانَ فِي مُؤَخّرِ الرّأْسِ أَوْ فِي مُقَدّمِهِ .
[ حَقِيقَةُ الصّدَاعِ ]
وَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ وَأَسْبَابُهُ مُخْتَلِفَةٌ . وَحَقِيقَةُ الصّدَاعِ سُخُونَةُ الرّأْسِ وَاحْتِمَاؤُهُ لِمَا دَارَ فِيهِ مِنْ الْبُخَارِ يَطْلُبُ النّفُوذَ مِنْ الرّأْسِ فَلَا يَجِدُ مَنْفَذًا فَيَصْدَعُهُ كَمَا يَصْدَعُ الْوَعْيُ إذَا حَمِيَ مَا فِيهِ وَطَلَبَ النّفُوذَ فَكُلّ شَيْءٍ رَطْبٍ إذَا حَمِيَ طَلَبَ مَكَانًا أَوْسَعَ مِنْ مَكَانِهِ الّذِي كَانَ فِيهِ فَإِذَا عَرَضَ هَذَا الْبُخَارُ فِي الرّأْسِ كُلّهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التّفَشّي وَالتّحَلّلُ وَجَالَ فِي الرّأْسِ سُمّيَ السّدْرُ . <79>
[ أَسْبَابُ الصّدَاعِ ]
وَالصّدَاعُ يَكُونُ عَنْ أَسْبَابٍ عَدِيدَةٍ
أَحَدُهَا : مِنْ غَلَبَةِ وَاحِدٍ مِنْ الطّبَائِعِ الْأَرْبَعَةِ .
وَالْخَامِسُ يَكُونُ مِنْ قُرُوحٍ تَكُونُ فِي الْمَعِدَةِ فَيَأْلَمُ الرّأْسُ لِذَلِكَ الْوَرَمِ لِاتّصَالِ الْعَصَبِ الْمُنْحَدِرِ مِنْ الرّأْسِ بِالْمَعِدَةِ .
وَالسّادِسُ مِنْ رِيحٍ غَلِيظَةٍ تَكُونُ فِي الْمَعِدَةِ فَتَصْعَدُ إلَى الرّأْسِ فَتَصْدَعُهُ .
وَالسّابِعُ يَكُونُ مِنْ وَرَمٍ فِي عُرُوقِ الْمَعِدَةِ فَيَأْلَمُ الرّأْسُ بِأَلَمِ الْمَعِدَةِ لِلِاتّصَالِ الّذِي بَيْنَهُمَا .
وَالثّامِنُ صُدَاعٌ يَحْصُلُ عَنْ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ مِنْ الطّعَامِ ثُمّ يَنْحَدِرُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ نِيئًا فَيُصَدّعُ الرّأْسَ وَيُثْقِلُهُ .
(1/108)
وَالتّاسِعُ يَعْرِضُ بَعْدَ الْجِمَاعِ لِتَخَلْخُلِ الْجِسْمِ فَيَصِلُ إلَيْهِ مِنْ حَرّ الْهَوَاءِ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِهِ .
وَالْعَاشِرُ صُدَاعٌ يَحْصُلُ بَعْدَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ إمّا لِغَلَبَةِ الْيُبْسِ وَإِمّا لِتَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ مِنْ الْمَعِدَةِ إلَيْهِ .
وَالْحَادِي عَشَرَ صُدَاعٌ يَعْرِضُ عَنْ شِدّةِ الْحَرّ وَسُخُونَةِ الْهَوَاءِ .
وَالثّانِي عَشَرَ مَا يَعْرِضُ عَنْ شِدّةِ الْبَرْدِ وَتَكَاثُفِ الْأَبْخِرَةِ فِي الرّأْسِ وَعَدَمِ تَحَلّلِهَا .
وَالثّالِثَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ السّهَرِ وَعَدَمِ النّوْمِ .
وَالرّابِعُ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ ضَغْطِ الرّأْسِ وَحَمْلِ الشّيْءِ الثّقِيلِ عَلَيْهِ .
وَالْخَامِسَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَثْرَةِ الْكَلَامِ فَتَضْعُفُ قُوّةُ الدّمَاغِ لِأَجْلِهِ .
وَالسّادِسَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ كَثْرَةِ الْحَرَكَةِ وَالرّيَاضَةِ الْمُفْرِطَةِ .
وَالسّابِعَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَعْرَاضِ النّفْسَانِيّةِ كَالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْوَسَاوِسِ وَالْأَفْكَارِ الرّدِيئَةِ . <80>
وَالثّامِنَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ مِنْ شِدّةِ الْجُوعِ فَإِنّ الْأَبْخِرَةَ لَا تَجِدُ مَا تَعْمَلُ فِيهِ فَتَكْثُرُ وَتَتَصَاعَدُ إلَى الدّمَاغِ فَتُؤْلِمُهُ .
وَالتّاسِعَ عَشَرَ مَا يَحْدُثُ عَنْ وَرَمٍ فِي صِفَاقِ الدّمَاغِ وَيَجِدُ صَاحِبُهُ كَأَنّهُ يُضْرَبُ بِالْمَطَارِقِ عَلَى رَأْسِهِ .
وَالْعِشْرُونَ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِ الْحُمّى لِاشْتِعَالِ حَرَارَتِهَا فِيهِ فَيَتَأَلّمُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ سَبَبُ صُدَاعِ الشّقِيقَةِ ]
[ تَعْصِيبُ الرّأْسِ يُسْكِنُ الْوَجَعَ ]
(1/109)
وَسَبَبُ صُدَاعِ الشّقِيقَةِ مَادّةٌ فِي شَرَايِينِ الرّأْسِ وَحْدَهَا حَاصِلَةٌ فِيهَا أَوْ مُرْتَقِيَةٌ إلَيْهَا فَيَقْبَلُهَا الْجَانِبُ الْأَضْعَفُ مِنْ جَانِبَيْهِ وَتِلْكَ الْمَادّةُ إمّا بُخَارِيّةٌ وَإِمّا أَخْلَاطٌ حَارّةٌ أَوْ بَارِدَةٌ وَعَلَامَتُهَا الْخَاصّةُ بِهَا ضَرْبَانِ الشّرَايِينُ وَخَاصّةً فِي الدّمَوِيّ . وَإِذَا ضُبِطَتْ بِالْعَصَائِبِ وَمُنِعَتْ مِنْ الضّرَبَان سَكَنَ الْوَجَعُ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الطّبّ النّبَوِيّ " لَهُ أَنّ هَذَا النّوْعَ كَانَ يُصِيبُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَمْكُثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ وَلَا يَخْرُجُ . وَفِيهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ
وَفِي " الصّحِيحِ " أَنّهُ قَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَارْأَسَاه وَكَانَ يُعَصّبُ رَأْسَهُ <81> فِي مَرَضِهِ وَعَصْبُ الرّأْسِ يَنْفَعُ فِي وَجَعِ الشّقِيقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَوْجَاعِ الرّأْسِ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ الصّدَاعِ ]
وَعِلَاجُهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَأَسْبَابِهِ فَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالِاسْتِفْرَاغِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالسّكُونِ وَالدّعَةِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالضّمَادَاتِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالتّبْرِيدِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِالتّسْخِينِ وَمِنْهُ مَا عِلَاجُهُ بِأَنْ يَجْتَنِبَ سَمَاعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحَرَكَاتِ .
[ الْعِلَاجُ بِالْحِنّاءِ جُزْئِيّ ]
(1/110)
إذَا عُرِفَ هَذَا فَعِلَاجُ الصّدَاعِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِالْحِنّاءِ هُوَ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ وَهُوَ عِلَاجُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَإِنّ الصّدَاعَ إذَا كَانَ مِنْ حَرَارَةٍ مُلْهِبَةٍ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ مَادّةٍ يَجِبُ اسْتِفْرَاغُهَا نَفَعَ فِيهِ الْحِنّاءُ نَفْعًا ظَاهِرًا وَإِذَا دُقّ وَضُمّدَتْ بِهِ الْجَبْهَةُ مَعَ الْخَلّ سَكَنَ الصّدَاعُ وَفِيهِ قُوّةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْعَصَبِ إذَا ضُمّدَ بِهِ سَكَنَتْ أَوْجَاعُهُ وَهَذَا لَا يَخْتَصّ بِوَجَعِ الرّأْسِ بَلْ يَعُمّ الْأَعْضَاءَ وَفِيهِ قَبْضٌ تُشَدّ بِهِ الْأَعْضَاءُ وَإِذَا ضُمّدَ بِهِ مَوْضِعُ الْوَرَمِ الْحَارّ وَالْمُلْتَهِبِ سَكّنَهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " تَارِيخِه ِ " وَأَبُو دَاوُدَ فِي " السّنَنِ " أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا شَكَا إلَيْهِ أَحَدٌ وَجَعًا فِي رَأْسِهِ إلّا قَالَ لَهُ " احْتَجِمْ " وَلَا شَكَا إلَيْهِ وَجَعًا فِي رِجْلَيْهِ إلّا قَالَ لَهُ " اخْتَضِبْ بِالْحِنّاءِ " .
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَلْمَى أُمّ رَافِعٍ خَادِمَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ كَانَ لَا يُصِيبُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُرْحَةٌ وَلَا شَوْكَةٌ إلّا وَضَعَ عَلَيْهَا الْحِنّاءَ . <82>
فَصْلٌ [ مَنَافِعُ الْحِنّاءِ وَخَوَاصّهُ ]
وَالْحِنّاءُ بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ وَقُوّةُ شَجَرِ الْحِنّاءِ وَأَغْصَانُهَا مُرَكّبَةٌ مِنْ قُوّةٍ مُحَلّلَةٍ اكْتَسَبَتْهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا مَائِيّ حَارّ بِاعْتِدَالٍ وَمِنْ قُوّةٍ قَابِضَةٍ اكْتَسَبَتْهَا مِنْ جَوْهَرٍ فِيهَا أَرْضِيّ بَارِدٍ .
(1/111)
وَمِنْ مَنَافِعِهِ إنّهُ مُحَلّلٌ نَافِعٌ مِنْ حَرْقِ النّارِ وَفِيهِ قُوّةٌ مُوَافِقَةٌ لِلْعَصَبِ إذَا ضُمّدَ بِهِ وَيَنْفَعُ إذَا مُضِغَ مِنْ قُرُوحِ الْفَمِ وَالسّلَاقِ الْعَارِضِ فِيهِ وَيُبْرِئُ الْقُلَاعَ الْحَادِثَ فِي أَفْوَاهِ الصّبْيَانِ وَالضّمَادُ بِهِ يَنْفَعُ مِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ الْمُلْهِبَةِ وَيَفْعَلُ فِي الْجِرَاحَاتِ فَهَلْ دَمُ الْأَخَوَيْنِ . وَإِذَا خُلِطَ نَوْرُهُ مَعَ الشّمْعِ الْمُصَفّى وَدُهْنِ الْوَرْدِ يَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الْجَنْبِ .
وَمِنْ خَوَاصّهِ أَنّهُ إذَا بَدَأَ الْجُدَرِيّ يَخْرُجُ بِصَبِيّ فَخُضِبَتْ أَسَافِلُ رِجْلَيْهِ بِحِنّاءٍ فَإِنّهُ يُؤْمَنُ عَلَى عَيْنَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْهُ وَهَذَا صَحِيحٌ مُجَرّبٌ لَا شَكّ فِيهِ . وَإِذَا جُعِلَ نَوْرُهُ بَيْنَ طَيّ ثِيَابِ الصّوفِ طَيّبَهَا وَمَنَعَ السّوسَ عَنْهَا وَإِذَا نُقِعَ وَرَقُهُ فِي مَاءٍ يَغْمُرُهُ ثُمّ عُصِرَ وَشُرِبَ مَنْ صَفْوِهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا كُلّ يَوْمٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا مَعَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سُكّرٍ وَيُغَذّى عَلَيْهِ بِلَحْمِ الضّأْنِ الصّغِيرِ فَإِنّهُ يَنْفَعُ مِنْ ابْتِدَاءِ الْجُذَامِ بِخَاصّيّةٍ فِيهِ عَجِيبَةٍ .
وَحُكِيَ أَنّ رَجُلًا تَشَقّقَتْ أَظَافِيرُ أَصَابِعِ يَدِهِ وَإِنّهُ بَذَلَ لِمَنْ يُبْرِئُهُ مَالًا فَلَمْ يُجْدِ فَوَصَفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَنْ يَشْرَبَ عَشَرَةَ أَيّامٍ حِنّاءَ فَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ ثُمّ نَقَعَهُ بِمَاءٍ وَشَرِبَهُ فَبَرَأَ وَرَجَعَتْ أَظَافِيرُهُ إلَى حُسْنِهَا .
(1/112)
وَالْحِنّاءُ إذَا أُلْزِمَتْ بِهِ الْأَظْفَارُ مَعْجُونًا حَسّنَهَا وَنَفَعَهَا وَإِذَا عُجِنَ بِالسّمْنِ <83> وَضُمّدَ بِهِ بَقَايَا الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ الّتِي تَرْشَحُ مَاءً أَصْفَرَ نَفَعَهَا وَنَفَعَ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرّحِ الْمُزْمِنِ مَنْفَعَةً بَلِيغَةً وَهُوَ يُنْبِتُ الشّعْرَ وَيُقَوّيهِ وَيُحَسّنُهُ وَيُقَوّي الرّأْسَ وَيَنْفَعُ مِنْ النّفّاطَاتِ وَالْبُثُورِ الْعَارِضَةِ فِي السّاقَيْنِ وَالرّجْلَيْنِ وَسَائِرِ الْبَدَنِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِتَرْكِ إعْطَائِهِمْ مَا يَكْرَهُونَهُ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَإِنّهُمْ لَا يُكْرَهُونَ عَلَى تَنَاوُلِهِمَا
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تُكْرِهُوا مَرْضَاكُمْ عَلَى الطّعَامِ وَالشّرَابِ فَإِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ
قَالَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ مَا أَغْزَرَ فَوَائِدَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ النّبَوِيّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى حِكَمٍ إلَهِيّةٍ لَا سِيّمَا لِلْأَطِبّاءِ وَلِمَنْ يُعَالِجْ الْمَرْضَى وَذَلِكَ أَنّ الْمَرِيضَ إذَا عَافَ الطّعَامَ أَوْ الشّرَابَ فَذَلِكَ لِاشْتِغَالِ الطّبِيعَةِ بِمُجَاهَدَةِ الْمَرَضِ أَوْ لِسُقُوطِ شَهْوَتِهِ أَوْ نُقْصَانِهَا لِضَعْفِ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ أَوْ خُمُودِهَا وَكَيْفَمَا كَانَ فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ إعْطَاءُ الْغِذَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
(1/113)
وَاعْلَمْ أَنّ الْجُوعَ إنّا هُوَ طَلَبُ الْأَعْضَاءِ لِلْغِذَاءِ لِتَخَلّفِ الطّبِيعَةِ بِهِ عَلَيْهَا عِوَضَ مَا يَتَحَلّلُ مِنْهَا فَتَجْذِبُ الْأَعْضَاءَ الْقُصْوَى مِنْ الْأَعْضَاءِ الدّنْيَا حَتّى يَنْتَهِيَ <84> الْجَذْبُ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُحِسّ الْإِنْسَانُ بِالْجَوْعِ فَيَطْلُبُ الْغِذَاءَ وَإِذَا وُجِدَ الْمَرَضُ اشْتَغَلَتْ الطّبِيعَةُ بِمَادّتِهِ وَإِنْضَاجِهَا وَإِخْرَاجِهَا عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ أَوْ الشّرَابِ فَإِذَا أُكْرِهَ الْمَرِيضُ عَلَى اسْتِعْمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعَطّلَتْ بِهِ الطّبِيعَةُ عَنْ فِعْلِهَا وَاشْتَغَلَتْ بِهَضْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ عَنْ إنْضَاجِ مَادّةِ الْمَرَضِ وَدَفْعِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَرَرِ الْمَرِيضِ وَلَا سِيّمَا فِي أَوْقَاتِ الْبُحْرَانِ أَوْ ضَعْفِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ أَوْ خُمُودِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْبَلِيّةِ وَتَعْجِيلِ النّازِلَةِ الْمُتَوَقّعَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَالْحَالِ إلّا مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ قُوّتَهُ وَيُقَوّيهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ مُزْعِجٍ لِلطّبِيعَةِ أَلْبَتّةَ وَذَلِكَ يَكُونُ بِمَا لَطُفَ قِوَامُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَاعْتَدَلَ مِزَاجُهُ كَشَرَابِ اللّينُوفَرِ وَالتّفّاحِ وَالْوَرْدِ الطّرِيّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَمِنْ الْأَغْذِيَةِ مَرَقُ الْفَرَارِيجِ الْمُعْتَدِلَةِ الطّيّبَةِ فَقَطْ وَإِنْعَاشُ قُوَاهُ بِالْأَرَايِيحِ الْعَطِرَةِ الْمُوَافِقَةِ وَالْأَخْبَارِ السّارّةِ فَإِنّ الطّبِيبَ خَادِمُ الطّبِيعَةِ وَمُعِينُهَا لَا مُعِيقُهَا .
(1/114)
وَاعْلَمْ أَنّ الدّمَ الْجَيّدَ هُوَ الْمُغَذّي لِلْبَدَنِ وَأَنّ الْبَلْغَمَ دَمٌ فَجّ قَدْ نَضِجَ بَعْضَ النّضْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْضُ الْمَرْضَى فِي بَدَنِهِ بَلْغَمٌ كَثِيرٌ وَعَدِمَ الْغِذَاءَ عَطَفَتْ الطّبِيعَةُ عَلَيْهِ وَطَبَخَتْهُ وَأَنْضَجَتْهُ وَصَيّرَتْهُ دَمًا وَغَذّتْ بِهِ الْأَعْضَاءَ وَاكْتَفَتْ بِهِ عَمّا سِوَاهُ وَالطّبِيعَةُ هِيَ الْقُوّةُ الّتِي وَكَلَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ بِتَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَحِفْظِهِ وَصِحّتِهِ وَحِرَاسَتِهِ مُدّةَ حَيَاتِهِ .
[ إجْبَارُ الْمَرِيضِ عَلَى الطّعَامِ ]
وَاعْلَمْ أَنّهُ قَدْ يَحْتَاجُ فِي النّدْرَةِ إلَى إجْبَارِ الْمَرِيضِ عَلَى الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْرَاضِ الّتِي يَكُونُ مَعَهَا اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوصِ أَوْ مِنْ الْمُطْلَقِ الّذِي قَدْ دَلّ عَلَى تَقْيِيدِهِ دَلِيلٌ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّ الْمَرِيضَ قَدْ يَعِيشُ بِلَا غِذَاءٍ أَيّامًا لَا يَعِيشُ الصّحِيحُ فِي مِثْلِهَا . <85>
[ مَعْنَى فَإِنّ اللّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ ]
(1/115)
" وَفِي قَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَإِنّ اللّهَ يُطْعِمُهُمْ وَيَسْقِيهِمْ " مَعْنًى لَطِيفٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبّاءُ لَا يَعْرِفُهُ إلّا مَنْ لَهُ عِنَايَةٌ بِأَحْكَامِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَتَأْثِيرِهَا فِي طَبِيعَةِ الْبَدَنِ وَانْفِعَالِ الطّبِيعَةِ عَنْهَا كَمَا تَنْفَعِلُ هِيَ كَثِيرًا عَنْ الطّبِيعَةِ وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَيْهِ إشَارَةً فَنَقُولُ النّفْسُ إذَا حَصَلَ لَهَا مَا يَشْغَلُهَا مِنْ مَحْبُوبٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مَخُوفٍ اشْتَغَلَتْ بِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ فَلَا تُحِسّ بِجُوعٍ وَلَا عَطَشٍ بَلْ وَلَا حَرّ وَلَا بَرْدٍ بَلْ تَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ الْإِحْسَاسِ الْمُؤْلِمِ الشّدِيدِ الْأَلَمِ فَلَا تُحِسّ بِهِ وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلّا وَقَدْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ ذَلِكَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ وَإِذَا اشْتَغَلَتْ النّفْسُ بِمَا دَهَمَهَا وَوَرَدَ عَلَيْهَا لَمْ تُحِسّ بِأَلَمِ الْجُوعِ فَإِنْ كَانَ الْوَارِدُ مُفْرِحًا قَوِيّ التّفْرِيحِ قَامَ لَهَا مَقَامَ الْغِذَاءِ فَشَبِعَتْ بِهِ وَانْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَتَضَاعَفَتْ وَجَرَتْ الدّمَوِيّةُ فِي الْجَسَدِ حَتّى تَظْهَرَ فِي سَطْحِهِ فَيُشْرِقُ وَجْهُهُ وَتَظْهَرُ دَمَوِيّتُهُ فَإِنّ الْفَرَحَ يُوجِبُ انْبِسَاطَ دَمِ الْقَلْبِ فَيَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ فَتَمْتَلِئُ بِهِ فَلَا تَطْلُبُ الْأَعْضَاءُ حَظّهَا مِنْ الْغِذَاءِ الْمُعْتَادِ لِاشْتِغَالِهَا بِمَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهَا وَإِلَى الطّبِيعَةِ مِنْهُ وَالطّبِيعَةُ إذَا ظَفِرَتْ بِمَا تُحِبّ آثَرَتْهُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ .
(1/116)
وَإِنْ كَانَ الْوَارِدُ مُؤْلِمًا أَوْ مُحْزِنًا أَوْ مَخُوفًا اشْتَغَلَتْ بِمُحَارَبَتِهِ وَمُقَاوَمَتِهِ وَمُدَافَعَتِهِ عَنْ طَلَبِ الْغِذَاءِ فَهِيَ فِي حَالِ حَرْبِهَا فِي شَغْلٍ عَنْ طَلَبِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ . فَإِنْ ظَفِرَتْ فِي هَذَا الْحَرْبِ انْتَعَشَتْ قُوَاهَا وَأَخْلَفَتْ عَلَيْهَا نَظِيرَ مَا فَاتَهَا مِنْ قُوّةِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَإِنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً مَقْهُورَةً انْحَطّتْ قُوَاهَا بِحَسَبِ مَا حَصَلَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذَا الْعَدُوّ سِجَالًا فَالْقُوّةُ تَظْهَرُ تَارَةً وَتَخْتَفِي أُخْرَى وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَرْبُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثَالِ الْحَرْبِ الْخَارِجِ بَيْنَ الْعَدُوّيْنِ الْمُتَقَاتِلَيْنِ وَالنّصْرُ لِلْغَالِبِ وَالْمَغْلُوبِ إمّا قَتِيلٌ وَإِمّا جَرِيحٌ وَإِمّا أَسِيرٌ .
(1/117)
فَالْمَرِيضُ لَهُ مَدَدٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى يُغَذّيهِ بِهِ زَائِدًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْأَطِبّاءُ مِنْ تَغْذِيَتِهِ بِالدّمِ وَهَذَا الْمَدَدُ بِحَسَبِ ضَعْفِهِ وَانْكِسَارِهِ وَانْطِرَاحِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُوجِبُ لَهُ قُرْبًا مِنْ رَبّهِ فَإِنّ الْعَبْدَ أَقْرَبُ مَا يَكُونُ <86> مِنْ رَبّهِ إذَا انْكَسَرَ قَلْبُهُ وَرَحْمَةُ رَبّهِ عِنْدَئِذٍ قَرِيبَةٌ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ وَلِيّا لَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْقَلْبِيّةِ مَا تَقْوَى بِهِ قُوَى طَبِيعَتِهِ وَتَنْتَعِشُ بِهِ قُوَاهُ أَعْظَمَ مِنْ قُوّتِهَا وَانْتِعَاشِهَا بِالْأَغْذِيَةِ الْبَدَنِيّةِ وَكُلّمَا قَوِيَ إيمَانُهُ وَحُبّهُ لِرَبّهِ وَأُنْسُهُ بِهِ وَفَرَحُهُ بِهِ وَقَوِيَ يَقِينُهُ بِرَبّهِ وَاشْتَدّ شَوْفُهُ إلَيْهِ وَرِضَاهُ بِهِ وَعَنْهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ مِنْ هَذِهِ الْقُوّةِ مَا لَا يُعَبّرُ عَنْهُ وَلَا يُدْرِكُهُ وَصْفُ طَبِيبٍ وَلَا يَنَالُهُ عِلْمُهُ .
وَمَنْ غَلَظَ طَبْعُهُ وَكَثُفَتْ نَفْسُهُ عَنْ فَهْمِ هَذَا وَالتّصْدِيقِ بِهِ فَلْيَنْظُرْ حَالَ كَثِيرٍ مِنْ عُشّاقِ الصّوَرِ الّذِينَ قَدْ امْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ بِحُبّ مَا يَعْشَقُونَهُ مِنْ صُورَةٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِلْمٍ وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مِنْ هَذَا عَجَائِبَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ .
[ وِصَالُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الصّوْمِ ]
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يُوَاصِلُ فِي الصّيَامِ الْأَيّامَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ وَيَنْهَى أَصْحَابَهُ عَنْ الْوِصَالِ وَيَقُولُ لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إنّي أَظَلّ يُطْعِمُنِي رَبّي وَيَسْقِينِي
(1/118)
وَمَعْلُومٌ أَنّ هَذَا الطّعَامَ وَالشّرَابَ لَيْسَ هُوَ الطّعَامَ الّذِي يَأْكُلُهُ الْإِنْسَانُ بِفَمِهِ وَإِلّا لَمْ يَكُنْ مُوَاصِلًا وَلَمْ يَتَحَقّقْ الْفَرْقُ بَلْ لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَإِنّهُ قَالَ أَظَلّ يُطْعِمُنِي رَبّي وَيَسْقِينِي "
وَأَيْضًا فَإِنّهُ فَرّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي نَفْسِ الْوِصَالِ وَأَنّهُ يَقْدِرُ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِفَمِهِ لَمْ يَقُلْ لَسْت كَهَيْئَتِكُمْ وَإِنّمَا فَهِمَ هَذَا مِنْ الْحَدِيثِ مَنْ قَلّ نَصِيبُهُ مِنْ غِذَاءِ الْأَرْوَاحِ وَالْقُلُوبِ وَتَأْثِيرُهُ فِي الْقُوّةِ وَإِنْعَاشِهَا وَاغْتِذَائِهَا بِهِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْغِذَاءِ الْجُسْمَانِيّ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ . <87>
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعُذْرَةِ وَفِي الْعِلَاجِ بِالسّعُوطِ
ثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ قَالَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيّ وَلَا تُعَذّبُوا صِبْيَانَكُمْ بِالْغَمْزِ مِنْ الْعُذْرَةِ "
وَفِي " السّنَنِ " و " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى عَائِشَةَ وَعِنْدَهَا صَبِيّ يُسِيلُ مَنْخَرَاهُ دَمًا فَقَالَ مَا هَذَا ؟ " . فَقَالُوا : بِهِ الْعُذْرَةُ أَوْ وَجَعٌ فِي رَأْسِهِ فَقَالَ " وَيْلَكُنّ لَا تَقْتُلْنَ أَوْلَادَكُنّ أَيّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَ وَلَدَهَا عُذْرَةٌ أَوْ وَجَعٌ فِي رَأْسِهِ فَلْتَأْخُذْ قُسْطًا هِنْدِيّا فَلْتَحُكّهُ بِمَاءٍ ثُمّ تُسْعِطْهُ إيّاهُ فَأَمَرَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَصُنِعَ ذَلِكَ بِالصّبِيّ فَبَرَأَ .
(1/119)
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْعُذْرَةُ تَهَيّجٌ فِي الْحَلْقِ مِنْ الدّمِ فَإِذَا عُولِجَ مِنْهُ قِيلَ قَدْ عُذِرَ بِهِ فَهُوَ مَعْذُورٌ انْتَهَى . وَقِيلَ الْعُذْرَةُ قُرْحَةٌ تَخْرُجُ فِيمَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْحَلْقِ وَتَعْرِضُ لِلصّبْيَانِ غَالِبًا .
[ عِلَاجُ الْعُذْرَةِ بِسَعُوطِ الْقُسْطِ ]
وَأَمّا نَفْعُ السّعُوطِ مِنْهَا بِالْقُسْطِ الْمَحْكُوكِ فَلِأَنّ الْعُذْرَةَ مَادّتُهَا دَمٌ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ لَكِنّ تَوَلّدَهُ فِي أَبْدَانِ الصّبْيَانِ أَكْثَرُ وَفِي الْقُسْطِ تَجْفِيفٌ يَشُدّ اللّهَاةَ وَيَرْفَعُهَا إلَى مَكَانِهَا وَقَدْ يَكُونُ نَفْعُهُ فِي هَذَا الدّاءِ بِالْخَاصّيّةِ وَقَدْ يَنْفَعُ فِي الْأَدْوَاءِ الْحَارّةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْحَارّةِ بِالذّاتِ تَارَةً وَبِالْعَرْضِ أُخْرَى .
وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " فِي مُعَالَجَةِ سُقُوطِ اللّهَاةِ الْقُسْطَ مَعَ الشّبّ الْيَمَانِيّ وَبِزْرِ الْمَرْوِ .
<88> وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيّ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْعُودُ الْهِنْدِيّ وَهُوَ الْأَبْيَضُ مِنْهُ وَهُوَ حُلْوٌ وَفِيهِ مَنَافِعُ عَدِيدَةٌ وَكَانُوا يُعَالِجُونَ أَوْلَادَهُمْ بِغَمْزِ اللّهَاةِ وَبِالْعِلَاقِ وَهُوَ شَيْءٌ يُعَلّقُونَهُ عَلَى الصّبْيَانِ فَنَهَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَرْشَدَهُمْ إلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْأَطْفَالِ وَأَسْهَلُ عَلَيْهِمْ .
(1/120)
وَالسّعُوطُ مَا يُصَبّ فِي الْأَنْفِ وَقَدْ يَكُونُ بِأَدْوِيَةٍ مُفْرَدَةٍ وَمُرَكّبَةٍ تُدَقّ وَتُنْخَلُ وَتُعْجَنُ وَتُجَفّفُ ثُمّ تُحَلّ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُسْعَطُ بِهَا فِي أَنْفِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ مَا يَرْفَعُهُمَا لِتَنْخَفِضَ رَأْسُهُ فَيَتَمَكّنُ السّعُوطُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى دِمَاغِهِ وَيَسْتَخْرِجُ مَا فِيهِ مِنْ الدّاءِ بِالْعُطَاسِ وَقَدْ مَدَحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ التّدَاوِي بِالسّعُوطِ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ .
وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعَطَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَفْئُودِ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُجَاهِدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ مَرِضْت مَرَضًا فَأَتَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعُودُنِي فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ ثَدْيَيّ حَتّى وَجَدْت بَرْدَهَا عَلَى فُؤَادِي وَقَالَ لِي : " إنّكَ رَجُلٌ مَفْئُودٌ فَأْتِ الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ مِنْ ثَقِيفٍ فَإِنّهُ رَجُلٌ يَتَطَبّبُ فَلْيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنّ بِنَوَاهُنّ ثُمّ لِيَلُدّكَ بِهِنّ "
الْمَفْئُودُ الّذِي أُصِيبَ فُؤَادُهُ فَهُوَ يَشْتَكِيهِ كَالْمَبْطُونِ الّذِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ .
<89> وَاللّدُودُ مَا يُسْقَاهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحَدِ جَانِبَيْ الْفَمِ .
[ عِلَاجُ الْمَفْئُودِ بِالتّمْرِ ]
(1/121)
وَفِي التّمْرِ خَاصّيّةٌ عَجِيبَةٌ لِهَذَا الدّاءِ وَلَا سِيّمَا تَمْرَ الْمَدِينَةِ وَلَا سِيّمَا الْعَجْوَةَ مِنْهُ . وَفِي كَوْنِهَا سَبْعًا خَاصّيّةٌ أُخْرَى تُدْرَكُ بِالْوَحْيِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَصَبّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمّ وَلَا سِحْرٌ وَفِي لَفْظٍ مَنْ أَكَلَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِمّا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حِينَ يُصْبِحُ لَمْ يَضُرّهُ سَمّ حَتّى يُمْسِيَ
[ فَوَائِدُ التّمْرِ ]
(1/122)
وَالتّمْرُ حَارّ فِي الثّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى . وَقِيلَ رَطْبٌ فِيهَا . وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ وَهُوَ غِذَاءٌ فَاضِلٌ حَافِظٌ لِلصّحّةِ لَا سِيّمَا لِمَنْ اعْتَادَ الْغِذَاءَ بِهِ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ فِي الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ وَالْحَارّةِ الّتِي حَرَارَتُهَا فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَهُوَ لَهُمْ أَنْفَعُ مِنْهُ لِأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ لِبُرُودَةِ بَوَاطِنِ سُكّانِهَا وَحَرَارَةِ بَوَاطِنِ سُكّانِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ وَلِذَلِكَ يُكْثِرُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَالطّائِفِ وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ الْبِلَادِ الْمُشَابِهَةِ لَهَا مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْحَارّةِ مَا لَا يَتَأَتّى لِغَيْرِهِمْ كَالتّمْرِ وَالْعَسَلِ وَشَاهَدْنَاهُمْ يَضَعُونَ فِي أَطْعِمَتِهِمْ مِنْ الْفُلْفُلِ وَالزّنْجَبِيلِ فَوْقَ مَا يَضَعُهُ غَيْرُهُمْ نَحْوَ عَشَرَةِ أَضْعَافٍ أَوْ أَكْثَرَ وَيَأْكُلُونَ الزّنْجَبِيلَ كَمَا يَأْكُلُ غَيْرُهُمْ الْحَلْوَى وَلَقَدْ شَاهَدْتُ مَنْ يَتَنَقّلُ بِهِ مِنْهُمْ كَمَا يَتَنَقّلُ بِالنّقْلِ وَيُوَافِقُهُمْ ذَلِكَ وَلَا يَضُرّهُمْ لِبُرُودَةِ أَجْوَافِهِمْ وَخُرُوجِ الْحَرَارَةِ إلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ كَمَا تُشَاهَدُ مِيَاهُ الْآبَارِ تَبْرُدُ فِي الصّيْفِ وَتَسْخَنُ فِي الشّتَاءِ وَكَذَلِكَ تُنْضِجُ الْمَعِدَةُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْغَلِيظَةِ فِي الشّتَاءِ مَا لَا تُنْضِجُهُ فِي الصّيْفِ .
(1/123)
<90> وَأَمّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَالتّمْرُ لَهُمْ يَكَادُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ لِغَيْرِهِمْ وَهُوَ قُوتُهُمْ وَمَادّتُهُمْ وَتَمْرُ الْعَالِيَةِ مِنْ أَجْوَدِ أَصْنَافِ تَمْرِهِمْ فَإِنّهُ مَتِينُ الْجِسْمِ لَذِيذُ الطّعْمِ صَادِقُ الْحَلَاوَةِ وَالتّمْرُ يَدْخُلُ فِي الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَهُوَ يُوَافِقُ أَكْثَرَ الْأَبْدَانِ مُقَوّ لِلْحَارّ الْغَرِيزِيّ وَلَا يَتَوَلّدُ عَنْهُ مِنْ الْفَضَلَاتِ الرّدِيئَةِ مَا يَتَوَلّدُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ بَلْ يَمْنَعُ لِمَنْ اعْتَادَهُ مِنْ تَعَفّنِ الْأَخْلَاطِ وَفَسَادِهَا .
[ اخْتِصَاصُ الْأَدْوِيَةِ بِالْأَمْكِنَةِ ]
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْخِطَابِ الّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخَاصّ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ جَاوَرَهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنّ لِلْأَمْكِنَةِ اخْتِصَاصًا بِنَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَكُونُ الدّوَاءُ الّذِي قَدْ يَنْبُتُ فِي هَذَا الْمَكَانِ نَافِعًا مِنْ الدّاءِ وَلَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ النّفْعُ إذَا نَبَتَ فِي مَكَانٍ غَيْرِهِ لِتَأْثِيرِ نَفْسِ التّرْبَةِ أَوْ الْهَوَاءِ أَوْ هُمَا جَمِيعًا فَإِنّ لِلْأَرْضِ خَوَاصّ وَطَبَائِعَ يُقَارِبُ اخْتِلَافُهَا اخْتِلَافَ طَبَائِعِ الْإِنْسَانِ وَكَثِيرٌ مِنْ النّبَاتِ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ غِذَاءً مَأْكُولًا وَفِي بَعْضِهَا سَمّا قَاتِلًا وَرُبّ أَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ أَغْذِيَةٌ لِآخَرِينَ وَأَدْوِيَةٍ لِقَوْمٍ مِنْ أَمْرَاضٍ هِيَ أَدْوِيَةٌ لِآخَرِينَ فِي أَمْرَاضٍ سِوَاهَا وَأَدْوِيَةٍ لِأَهْلِ بَلَدٍ لَا تُنَاسِبُ غَيْرَهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ
[ خَاصّيّتُهُ عَدَدَ سَبْعٍ ]
(1/124)
وَأَمّا خَاصّيّةُ السّبْعِ فَإِنّهَا قَدْ وَقَعَتْ قَدْرًا وَشَرْعًا فَخَلَقَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ السّمَاوَاتِ سَبْعًا وَالْأَرَضِينَ سَبْعًا وَالْأَيّامَ سَبْعًا وَالْإِنْسَانُ كَمُلَ خَلْقُهُ فِي سَبْعَةِ أَطْوَارٍ وَشَرَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ الطّوَافَ سَبْعًا وَالسّعْيَ بَيْنَ الصّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا وَرَمْيَ الْجِمَارِ سَبْعًا سَبْعًا وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدَيْنِ سَبْعًا فِي الْأُولَى .
وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرُوهُمْ بِالصّلَاةِ لِسَبْعٍ " وَإِذَا صَارَ لِلْغُلَامِ سَبْعُ سِنِينَ خُيّرَ بَيْنَ أَبَوَيْهِ " فِي <91> رِوَايَةٍ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : " أَبُوهُ أَحَقّ بِهِ مِنْ أُمّهِ " وَفِي ثَالِثَةٍ أُمّهُ أَحَقّ بِهِ وَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَرَضِهِ أَنْ يُصَبّ عَلَيْهِ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ وَسَخّرَ اللّهُ الرّيحَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ سَبْعَ لَيَالٍ وَدَعَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعِينَهُ اللّهُ عَلَى قَوْمِهِ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ وَمَثّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مَا يُضَاعِفُ بِهِ صَدَقَةَ الْمُتَصَدّقِ بِحَبّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبّةٍ وَالسّنَابِلُ الّتِي رَآهَا صَاحِبُ يُوسُفَ سَبْعًا وَالسّنِينَ الّتِي زَرَعُوهَا دَأَبًا سَبْعًا وَتُضَاعَفُ الصّدَقَةُ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ وَيَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ سَبْعُونَ أَلْفًا.
(1/125)
فَلَا رَيْبَ أَنّ لِهَذَا الْعَدَدِ خَاصّيّةً لَيْسَتْ لِغَيْرِهِ وَالسّبْعَةُ جَمَعَتْ مَعَانِيَ الْعَدَدِ كُلّهِ وَخَوَاصّهُ فَإِنّ الْعَدَدَ شَفْعٌ وَوَتْرٌ . وَالشّفْعُ أَوّلٌ وَثَانٍ . وَالْوَتْرُ كَذَلِكَ فَهَذِهِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ شَفْعٌ أَوّلٌ وَثَانٍ . وَوَتْرٌ أَوّلٌ وَثَانٍ وَلَا تَجْتَمِعُ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ فِي أَقَلّ مِنْ سَبْعَةٍ وَهِيَ عَدَدٌ كَامِلٌ جَامِعٌ لِمَرَاتِبِ الْعَدَدِ الْأَرْبَعَةِ أَعْنِي الشّفْعَ وَالْوَتْرَ <92> وَالْأَوَائِلَ وَالثّوَانِيَ وَنَعْنِي بِالْوَتْرِ الْأَوّلِ الثّلَاثَةَ وَبِالثّانِي الْخَمْسَةَ وَبِالشّفْعِ الْأَوّلِ الِاثْنَيْنِ وَبِالثّانِي الْأَرْبَعَةَ وَلِلْأَطِبّاءِ اعْتِنَاءٌ عَظِيمٌ بِالسّبْعَةِ وَلَا سِيّمَا فِي الْبَحّارِينَ .
وَقَدْ قَالَ بُقْرَاطُ : كُلّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ فَهُوَ مُقَدّرٌ عَلَى سَبْعَةِ أَجْزَاءٍ وَالنّجُومُ سَبْعَةٌ وَالْأَيّامُ سَبْعَةٌ وَأَسْنَانُ النّاسِ سَبْعَةٌ أَوّلُهَا طِفْلٌ إلَى سَبْعٍ ثُمّ صَبِيّ إلَى أَرْبَعَ عَشْرَةَ ثُمّ مُرَاهِقٌ ثُمّ شَابّ ثُمّ كَهْلٌ ثُمّ شَيْخٌ ثُمّ هَرَمٌ إلَى مُنْتَهَى الْعُمُرِ وَاَللّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحِكْمَتِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدْرِهِ فِي تَخْصِيصِ هَذَا الْعَدَدِ هَلْ هُوَ لِهَذَا الْمَعْنَى أَوْ لِغَيْرِهِ ؟
(1/126)
وَنَفَعَ هَذَا الْعَدَدُ مِنْ هَذَا التّمْرِ مِنْ هَذَا الْبَلَدِ مِنْ هَذِهِ الْبُقْعَةِ بِعَيْنِهَا مِنْ السّمّ وَالسّحْرِ بِحَيْثُ تَمْنَعُ إصَابَتُهُ مِنْ الْخَوَاصّ الّتِي لَوْ قَالَهَا بُقْرَاطُ وجالينوس وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأَطِبّاءِ لَتَلَقّاهَا عَنْهُمْ الْأَطِبّاءُ بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ مَعَ أَنّ الْقَائِلَ إنّمَا مَعَهُ الْحَدْسُ وَالتّخْمِينُ وَالظّنّ فَمَنْ كَلَامُهُ كُلّهُ يَقِينٌ وَقَطْعٌ وَبُرْهَانٌ وَوَحْيٌ أَوْلَى أَنْ تُتَلَقّى أَقْوَالُهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَتَرْكِ الِاعْتِرَاضِ .
وَأَدْوِيَةُ السّمُومِ تَارَةً تَكُونُ بِالْكَيْفِيّةِ وَتَارَةً تَكُونُ بِالْخَاصّيّةِ كَخَوَاصّ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْجَوَاهِرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُ النّفْعِ بِهِ ]
(1/127)
وَيَجُوزُ نَفْعُ التّمْرِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ السّمُومِ فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مِنْ الْعَامّ الْمَخْصُوصِ وَيَجُوزُ نَفْعُهُ لِخَاصّيّةِ تِلْكَ الْبَلَدِ وَتِلْكَ التّرْبَةِ الْخَاصّةِ مِنْ كُلّ سَمّ وَلَكِنْ هَا هُنَا أَمْرٌ لَا بُدّ مِنْ بَيَانِهِ وَهُوَ أَنّ مِنْ شَرْطِ انْتِفَاعِ الْعَلِيلِ بِالدّوَاءِ قَبُولَهُ وَاعْتِقَادَ النّفْعِ بِهِ فَتَقْبَلُهُ الطّبِيعَةُ فَتَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ حَتّى إنّ كَثِيرًا مِنْ الْمُعَالَجَاتِ يَنْفَعُ بِالِاعْتِقَادِ وَحُسْنِ الْقَبُولِ وَكَمَالِ التّلَقّي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مِنْ ذَلِكَ عَجَائِبَ وَهَذَا لِأَنّ الطّبِيعَةَ يَشْتَدّ قَبُولُهَا لَهُ وَتَفْرَحُ النّفْسُ بِهِ فَتَنْتَعِشُ الْقُوّةُ وَيَقْوَى سُلْطَانُ الطّبِيعَةِ وَيَنْبَعِثُ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيُسَاعِدُ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَبِالْعَكْسِ يَكُونُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَدْوِيَةِ نَافِعًا لِتِلْكَ الْعِلّةِ فَيَقْطَعُ عَمَلَهُ سُوءُ اعْتِقَادِ الْعَلِيلِ فِيهِ وَعَدَمُ أَخْذِ الطّبِيعَةِ لَهُ بِالْقَبُولِ فَلَا يُجْدِي عَلَيْهَا شَيْئًا .
(1/128)
وَاعْتَبَرَ هَذَا بِأَعْظَمِ <93> الْأَدْوِيَةِ وَالْأَشْفِيَةِ وَأَنْفَعِهَا لِلْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْمَعَاشِ وَالْمُعَادِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْقُرْآنُ الّذِي هُوَ شِفَاءٌ مِنْ كُلّ دَاءٍ كَيْفَ لَا يَنْفَعُ الْقُلُوبَ الّتِي لَا تَعْتَقِدُ فِيهِ الشّفَاءَ وَالنّفْعَ بَلْ لَا يَزِيدُهَا إلّا مَرَضًا إلَى مَرَضِهَا وَلَيْسَ لِشِفَاءِ الْقُلُوبِ دَوَاءٌ قَطّ أَنْفَعُ مِنْ الْقُرْآنِ فَإِنّهُ شِفَاؤُهَا التّامّ الْكَامِلُ الّذِي لَا يُغَادِرُ فِيهَا سَقَمًا إلّا أَبْرَأَهُ وَيَحْفَظُ عَلَيْهَا صِحّتَهَا الْمُطْلَقَةَ وَيَحْمِيهَا الْحَمِيّةَ التّامّةَ مِنْ كُلّ مُؤْذٍ وَمُضِرّ وَمَعَ هَذَا فَإِعْرَاضُ أَكْثَرِ الْقُلُوبِ عَنْهُ وَعَدَمُ اعْتِقَادِهَا الْجَازِمِ الّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ أَنّهُ كَذَلِكَ وَعَدَمُ اسْتِعْمَالِهِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ إلَى الْأَدْوِيَةِ الّتِي رَكّبَهَا بَنُو جِنْسِهَا حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّفَاءِ بِهِ وَغَلَبَتْ الْعَوَائِدُ وَاشْتَدّ الْإِعْرَاضُ وَتَمَكّنَتْ الْعِلَلُ وَالْأَدْوَاءُ الْمُزْمِنَةُ مِنْ الْقُلُوبِ وَتَرَبّى الْمَرْضَى وَالْأَطِبّاءُ عَلَى عِلَاجِ بَنِي جِنْسِهِمْ وَمَا وَضَعَهُ لَهُمْ شُيُوخُهُمْ وَمَنْ يُعَظّمُونَهُ وَيُحْسِنُونَ بِهِ ظُنُونَهُمْ فَعَظُمَ الْمُصَابُ وَاسْتَحْكَمَ الدّاءُ وَتَرَكّبَتْ أَمْرَاضٌ وَعِلَلٌ أَعْيَا عَلَيْهِمْ عِلَاجُهَا وَكُلّمَا عَالَجُوهَا بِتِلْكَ الْعِلَاجَاتِ الْحَادِثَةِ تَفَاقَمَ أَمْرُهَا وَقَوِيَتْ وَلِسَانُ الْحَالِ يُنَادِي عَلَيْهِمْ
وَمِنْ الْعَجَائِبِ وَالْعَجَائِبُ جَمّة ٌ
قُرْبُ الشّفَاءِ وَمَا إلَيْهِ وُصُولُ
كَالْعِيسِ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْتُلُهَا الظّمَأُ
وَالْمَاءُ فَوْقَ ظُهُورِهَا مَحْمُولُ
(1/129)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي دَفْعِ ضَرَرِ الْأَغْذِيَةِ وَالْفَاكِهَةِ وَإِصْلَاحِهَا بِمَا يَدْفَعُ ضَرَرَهَا وَيُقَوّي نَفْعَهَا
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ الرّطَبَ بِالْقِثّاءِ
وَالرّطَبُ حَارّ رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ الْبَارِدَةَ وَيُوَافِقُهَا وَيَزِيدُ فِي <94> الْبَاهُ وَلَكِنّهُ سَرِيعُ التّعَفّنِ مُعَطّشٌ مُعَكّرٌ لِلدّمِ مُصَدّعٌ مُوَلّدٌ لِلسّدَدِ وَوَجَعِ الْمَثَانَةِ وَمُضِرّ بِالْأَسْنَانِ وَالْقِثّاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الثّانِيَةِ مُسَكّنٌ لِلْعَطَشِ مُنْعِشٌ لِلْقُوَى بِشَمّهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعِطْرِيّةِ مُطْفِئٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ وَإِذَا جُفّفَ بِزْرُهُ وَدُقّ وَاسْتُحْلِبَ بِالْمَاءِ وَشُرِبَ سَكّنَ الْعَطَشَ وَأَدَرّ الْبَوْلَ وَنَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْمَثَانَةِ .
وَإِذَا دُقّ وَنُخِلَ وَدُلِكَ بِهِ الْأَسْنَانُ جَلَاهَا وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ مَعَ الميبختج نَفَعَ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ الْكَلِبِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا حَارّ وَهَذَا بَارِدٌ وَفِي كُلّ مِنْهُمَا صَلَاحُ الْآخَرِ وَإِزَالَةٌ لِأَكْثَرِ ضَرَرِهِ وَمُقَاوَمَةُ كُلّ كَيْفِيّةٍ بِضِدّهَا وَدَفْعِ سُورَتِهَا بِالْأُخْرَى وَهَذَا أَصْلُ الْعِلَاجِ كُلّهِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ بَلْ عِلْمُ الطّبّ كُلّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا .
(1/130)
وَفِي اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ فِي الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إصْلَاحٌ لَهَا وَتَعْدِيلٌ وَدَفْعٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَيْفِيّاتِ الْمُضِرّةِ لِمَا يُقَابِلُهَا وَفِي ذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى صِحّةِ الْبَدَنِ وَقُوّتِهِ وَخَصْبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : سَمّنُونِي بِكُلّ شَيْءٍ فَلَمْ أَسْمَنْ فَسَمّنُونِي بِالْقِثّاءِ وَالرّطَبِ فَسَمِنْت . وَبِالْجُمْلَةِ فَدَفْعُ ضَرَرِ الْبَارِدِ بِالْحَارّ وَالْحَارّ بِالْبَارِدِ وَالرّطَبِ بِالْيَابِسِ وَالْيَابِسِ بِالرّطَبِ وَتَعْدِيلُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجَاتِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَنَظِيرُ هَذَا مَا تَقَدّمَ مِنْ أَمْرِهِ بِالسّنَا وَالسّنّوتِ وَهُوَ الْعَسَلُ الّذِي فِيهِ شَيْءٌ مِنْ السّمْنِ يَصْلُحُ بِهِ السّنَا وَيُعْدِلُهُ فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بُعِثَ بِعِمَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَبِمَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحِمْيَةِ
(1/131)
الدّوَاءُ كُلّهُ شَيْئَانِ حِمْيَةٌ وَحِفْظُ صِحّةٍ . فَإِذَا وَقَعَ التّخْلِيطُ اُحْتِيجَ إلَى <95> الِاسْتِفْرَاغِ الْمُوَافِقِ وَكَذَلِكَ مَدَارُ الطّبّ كُلّهِ عَلَى هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الثّلَاثَةِ . وَالْحِمْيَةُ : حِمْيَتَانِ حِمْيَةٌ عَمّا يَجْلِبُ الْمَرَضَ وَحِمْيَةٌ عَمّا يَزِيدُهُ فَيَقِفُ عَلَى حَالِهِ فَالْأَوّلُ حِمْيَةُ الْأَصِحّاءِ . وَالثّانِيَةُ حِمْيَةُ الْمَرْضَى فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا احْتَمَى وَقَفَ مَرَضُهُ عَنْ التّزَايُدِ وَأَخَذَتْ الْقُوَى فِي دَفْعِهِ . وَالْأَصْلُ فِي الْحِمْيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيدًا طَيّبًا [ النّسَاءِ 43 الْمَائِدَةِ 6 ] فَحَمَا الْمَرِيضَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَنّهُ يَضُرّهُ .
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ عَنْ أُمّ الْمُنْذِرِ بِنْتِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ عَلِيّ وَعَلِيّ نَاقِهٌ مِنْ مَرَضٍ وَلَنَا دَوَالِي مُعَلّقَةٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَامَ عَلِيّ يَأْكُلُ مِنْهَا فَطَفِقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ : " إنّك نَاقِهٌ " حَتّى كَفّ . قَالَتْ وَصَنَعْتُ شَعِيرًا وَسِلْقًا فَجِئْت بِهِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ : " مِنْ هَذَا أَصِبْ فَإِنّهُ أَنْفَعُ لَكَ " وَفِي لَفْظٍ فَقَالَ " مِنْ هَذَا فَأَصِبْ فَإِنّهُ أَوْفَقُ لَكَ "
(1/132)
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " أَيْضًا عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ قَدِمْتُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ خُبْزٌ وَتَمْرٌ فَقَالَ اُدْنُ فَكُلْ فَأَخَذْتُ تَمْرًا فَأَكَلْت فَقَالَ أَتَأْكُلُ تَمْرًا وَبِكَ رَمَدٌ ؟ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْضَغُ مِنْ النّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي حَدِيثٍ مَحْفُوظٍ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ إذَا أَحَبّ عَبْدًا حَمَاهُ مِنْ الدّنْيَا كَمَا يَحْمِي أَحَدُكُمْ مَرِيضَهُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَفِي لَفْظٍ إنّ اللّهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ الدّنْيَا <96> وَأَمّا الْحَدِيثُ الدّائِرُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ النّاسِ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءُ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ فَهَذَا الْحَدِيثُ إنّمَا هُوَ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ طَبِيبِ الْعَرَبِ وَلَا يَصِحّ رَفْعُهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمّةِ الْحَدِيثِ .
وَيُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الْمَعِدَةَ حَوْضُ الْبَدَنِ وَالْعُرُوقُ إلَيْهَا وَارِدَةٌ فَإِذَا صَحّتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالصّحّةِ وَإِذَا سَقِمَتْ الْمَعِدَةُ صَدَرَتْ الْعُرُوقُ بِالسّقَمِ
(1/133)
وَقَالَ الْحَارِثُ رَأْسُ الطّبّ الْحِمْيَةُ وَالْحِمْيَةُ عِنْدَهُمْ لِلصّحِيحِ فِي الْمَضَرّةِ بِمَنْزِلَةِ التّخْلِيطِ لِلْمَرِيضِ وَالنّاقِهِ وَأَنْفَعُ مَا تَكُونُ الْحِمْيَةُ لِلنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ فَإِنّ طَبِيعَتَهُ لَمْ تَرْجِعْ بَعْدُ إلَى قُوّتِهَا وَالْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ ضَعِيفَةٌ وَالطّبِيعَةُ قَابِلَةٌ وَالْأَعْضَاءُ مُسْتَعِدّةٌ فَتَخْلِيطُهُ يُوجِبُ انْتِكَاسَهَا وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ ابْتِدَاءِ مَرَضِهِ .
وَاعْلَمْ أَنّ فِي مَنْعِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْ الدّوَالِي وَهُوَ نَاقِهٌ أَحْسَنُ التّدْبِيرِ فَإِنّ الدّوَالِيَ أَقْنَاءٌ مِنْ الرّطَبِ تُعَلّقُ فِي الْبَيْتِ لِلْأَكْلِ بِمَنْزِلَةِ عَنَاقِيدِ الْعِنَبِ وَالْفَاكِهَةِ تَضُرّ بِالنّاقِهِ مِنْ الْمَرَضِ لِسُرْعَةِ اسْتِحَالَتِهَا وَضَعْفِ الطّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِهَا فَإِنّهَا لَمْ تَتَمَكّنْ بَعْدُ مِنْ قُوّتِهَا وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِدَفْعِ آثَارِ الْعِلّةِ وَإِزَالَتِهَا مِنْ الْبَدَنِ .
وَفِي الرّطَبِ خَاصّةً نَوْعُ ثِقَلٍ عَلَى الْمَعِدَةِ فَتَشْتَغِلُ بِمُعَالَجَتِهِ وَإِصْلَاحِهِ عَمّا هِيَ بِصَدَدِهِ مِنْ إزَالَةِ بَقِيّةِ الْمَرَضِ وَآثَارِهِ فَإِمّا أَنْ تَقِفَ تِلْكَ الْبَقِيّةُ وَإِمّا <97> أَنْ تَتَزَايَدَ فَلَمّا وَضَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ السّلْقَ وَالشّعِيرَ أَمَرَهُ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ فَإِنّهُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَغْذِيَةِ لِلنّاقِهِ فَإِنّ فِي مَاءِ الشّعِيرِ مِنْ التّبْرِيدِ وَالتّغْذِيَةِ وَالتّلْطِيفِ وَالتّلْيِينِ وَتَقْوِيَةِ الطّبِيعَةِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لِلنّاقِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا طُبِخَ بِأُصُولِ السّلْقِ فَهَذَا مِنْ أَوْفَقِ الْغِذَاءِ لِمَنْ فِي مَعِدَتِهِ ضَعْفٌ وَلَا يَتَوَلّدُ عَنْهُ مِنْ الْأَخْلَاطِ مَا يُخَافُ مِنْهُ .
(1/134)
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : حَمَا عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرِيضًا لَهُ حَتّى إنّهُ مِنْ شِدّةِ مَا حَمَاهُ كَانَ يَمُصّ النّوَى .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحِمْيَةُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ قَبْلَ الدّاءِ فَتَمْنَعُ حُصُولَهُ وَإِذَا حَصَلَ فَتَمْنَعُ تَزَايُدَهُ وَانْتِشَارَهُ .
فَصْلٌ [ لَا حَرَجَ فِي تَنَاوُلِ الْإِنْسَانِ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا ]
وَمِمّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنّ كَثِيرًا مِمّا يُحْمَى عَنْهُ الْعَلِيلُ وَالنّاقِهُ وَالصّحِيحُ إذَا اشْتَدّتْ الشّهْوَةُ إلَيْهِ وَمَالَتْ إلَيْهِ الطّبِيعَةُ فَتَنَاوَلَ مِنْهُ الشّيْءَ الْيَسِيرَ الّذِي لَا تَعْجِزُ الطّبِيعَةُ عَنْ هَضْمِهِ لَمْ يَضُرّهُ تَنَاوُلُهُ بَلْ رُبّمَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنّ الطّبِيعَةَ وَالْمَعِدَةَ تَتَلَقّيَانِهِ بِالْقَبُولِ وَالْمَحَبّةِ فَيُصْلِحَانِ مَا يُخْشَى مِنْ ضَرَرِهِ وَقَدْ يَكُونُ أَنْفَعَ مِنْ تَنَاوُلِ مَا تَكْرَهُهُ الطّبِيعَةُ وَتَدْفَعُهُ مِنْ الدّوَاءِ وَلِهَذَا أَقَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبًا وَهُوَ أَرْمَدُ عَلَى تَنَاوُلِ التّمَرَاتِ الْيَسِيرَةِ وَعَلِمَ أَنّهَا لَا تَضُرّهُ وَمِنْ هَذَا مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيّ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَرْمَدُ وَبَيْنَ يَدَيْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْرٌ يَأْكُلُهُ فَقَالَ يَا عَلِيّ تَشْتَهِيهِ؟ وَرَمَى إلَيْهِ بِتَمْرَةٍ ثُمّ بِأُخْرَى حَتّى رَمَى إلَيْهِ سَبْعًا ثُمّ قَالَ " حَسْبُكَ يَا عَلِيّ " .
(1/135)
وَمِنْ هَذَا مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَادَ رَجُلًا فَقَالَ لَهُ مَا تَشْتَهِي ؟ فَقَالَ أَشْتَهِي خُبْزَ بُرّ . وَفِي لَفْظٍ أَشْتَهِي كَعْكًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ خُبْزُ بُرّ فَلْيَبْعَثْ إلَى أَخِيهِ ثُمّ قَالَ إذَا اشْتَهَى مَرِيضُ أَحَدِكُمْ شَيْئًا فَلْيُطْعِمْهُ <98> .
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ سِرّ طِبّيّ لَطِيفٌ فَإِنّ الْمَرِيضَ إذَا تَنَاوَلَ مَا يَشْتَهِيهِ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ طَبِيعِيّ وَكَانَ فِيهِ ضَرَرٌ مَا كَانَ أَنْفَعَ وَأَقَلّ ضَرَرًا مِمّا لَا يَشْتَهِيهِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي نَفْسِهِ فَإِنّ صِدْقَ شَهْوَتِهِ وَمَحَبّةَ الطّبِيعَةِ يَدْفَعُ ضَرَرَهُ وَبُغْضَ الطّبِيعَةِ وَكَرَاهَتَهَا لِلنّافِعِ قَدْ يَجْلِبُ لَهَا مِنْهُ ضَرَرًا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَاللّذِيذُ الْمُشْتَهَى تُقْبِلُ الطّبِيعَةُ عَلَيْهِ بِعِنَايَةٍ فَتَهْضِمُهُ عَلَى أَحْمَدِ الْوُجُوهِ سِيّمَا عِنْدَ انْبِعَاثِ النّفْسِ إلَيْهِ بِصِدْقِ الشّهْوَةِ وَصِحّةِ الْقُوّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الرّمَدِ بِالسّكُونِ وَالدّعَةِ وَتَرْكِ الْحَرَكَةِ وَالْحِمْيَةِ مِمّا يَهِيجُ الرّمَدَ
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَمَا صُهَيْبًا مِنْ التّمْرِ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ أَكْلَهُ وَهُوَ أَرْمَدُ وَحَمَا عَلِيّا مِنْ الرّطَبِ لَمّا أَصَابَهُ الرّمَدُ .
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الطّبّ النّبَوِيّ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا رَمِدَتْ عَيْنُ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ لَمْ يَأْتِهَا حَتّى تَبْرَأَ عَيْنُهَا
[حَقِيقَةُ الرّمَدِ ]
(1/136)
الرّمَدُ وَرَمٌ حَارّ يَعْرِضُ فِي الطّبَقَةِ الْمُلْتَحِمَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَهُوَ بَيَاضُهَا الظّاهِرُ وَسَبَبُهُ انْصِبَابُ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ رِيحٌ حَارّةٌ تَكْثُرُ كَمّيّتُهَا فِي الرّأْسِ وَالْبَدَنِ فَيَنْبَعِثُ مِنْهَا قِسْطٌ إلَى جَوْهَرِ الْعَيْنِ أَوْ ضَرْبَةٌ تُصِيبُ الْعَيْنَ فَتُرْسِلُ الطّبِيعَةُ إلَيْهَا مِنْ الدّمِ وَالرّوحِ مِقْدَارًا كَثِيرًا تَرُومُ بِذَلِكَ شِفَاءَهَا مِمّا عَرَضَ لَهَا وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَرِمُ الْعُضْوَ الْمَضْرُوبَ وَالْقِيَاسُ يُوجِبُ ضِدّهُ . <99>
(1/137)
وَاعْلَمْ أَنّهُ كَمَا يَرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ إلَى الْجَوّ بُخَارَانِ أَحَدُهُمَا : حَارّ يَابِسٌ وَالْآخَرُ حَارّ رَطْبٌ فَيَنْعَقِدَانِ سَحَابًا مُتَرَاكِمًا وَيَمْنَعَانِ أَبْصَارَنَا مِنْ إدْرَاكِ السّمَاءِ فَكَذَلِكَ يَرْتَفِعُ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ إلَى مُنْتَهَاهَا مِثْلَ ذَلِكَ فَيَمْنَعَانِ النّظَرَ وَيَتَوَلّدُ عَنْهُمَا عِلَلٌ شَتّى فَإِنْ قَوِيَتْ الطّبِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَدَفَعَتْهُ إلَى الْخَيَاشِيمِ أَحْدَثَ الزّكَامَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى اللّهَاةِ وَالْمَنْخِرَيْنِ أَحْدَثَ الْخُنَاقَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْجَنْبِ أَحْدَثَ الشّوْصَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الصّدْرِ أَحْدَثَ النّزْلَةَ وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْقَلْبِ أَحْدَثَ الْخَبْطَةَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى الْعَيْنِ أَحْدَثَ رَمَدًا وَإِنْ انْحَدَرَ إلَى الْجَوْفِ أَحْدَثَ السّيَلَانَ وَإِنْ دَفَعَتْهُ إلَى مَنَازِلِ الدّمَاغِ أَحْدَثَ النّسْيَانَ وَإِنْ تَرَطّبَتْ أَوْعِيَةُ الدّمَاغِ مِنْهُ وَامْتَلَأَتْ بِهِ عُرُوقُهُ أَحْدَثَ النّوْمَ الشّدِيدَ وَلِذَلِكَ كَانَ النّوْمُ رَطْبًا وَالسّهَرُ يَابِسًا . وَإِنْ طَلَبَ الْبُخَارُ النّفُوذَ مِنْ الرّأْسِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَعْقَبَهُ الصّدَاعُ وَالسّهَرُ وَإِنْ مَالَ الْبُخَارُ إلَى أَحَدِ شِقّيْ الرّأْسِ أَعْقَبَهُ الشّقِيقَةُ وَإِنْ مَلَكَ قِمّةَ الرّأْسِ وَوَسَطَ الْهَامَةِ أَعْقَبَهُ دَاءُ الْبَيْضَةِ وَإِنْ بَرُدَ مِنْهُ حِجَابُ الدّمَاغِ أَوْ سَخُنَ أَوْ تَرَطّبَ وَهَاجَتْ مِنْهُ أَرْيَاحٌ أَحْدَثَ الْعُطَاسَ وَإِنْ أَهَاجَ الرّطُوبَةَ الْبَلْغَمِيّةَ فِيهِ حَتّى غَلَبَ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ أَحْدَثَ الْإِغْمَاءَ وَالسّكَاتَ وَإِنْ أَهَاجَ الْمِرّةَ السّوْدَاءَ حَتّى أَظْلَمَ هَوَاءُ الدّمَاغِ أَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ وَإِنْ فَاضَ ذَلِكَ
(1/138)
إلَى مَجَارِي الْعَصَبِ أَحْدَثَ الصّرَعَ الطّبِيعِيّ وَإِنْ تَرَطّبَتْ مَجَامِعُ عَصَبِ الرّأْسِ وَفَاضَ ذَلِكَ فِي مَجَارِيهِ أَعْقَبَهُ الْفَالِجُ وَإِنْ كَانَ الْبُخَارُ مِنْ مِرّةٍ صَفْرَاءَ مُلْتَهِبَةٍ مَحْمِيّةٍ لِلدّمَاغِ أَحْدَثَ الْبِرْسَامَ فَإِنْ شَرِكَهُ الصّدْرُ فِي ذَلِكَ كَانَ سِرْسَامًا فَافْهَمْ هَذَا الْفَصْلَ .
[ عِلّةُ الِامْتِنَاعِ عَنْ الْجِمَاعِ حَالَ الرّمَدِ ]
وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَخْلَاطَ الْبَدَنِ وَالرّأْسِ تَكُونُ مُتَحَرّكَةً هَائِجَةً فِي حَالِ الرّمَدِ وَالْجِمَاعُ مِمّا يَزِيدُ حَرَكَتَهَا وَثَوَرَانَهَا فَإِنّهُ حَرَكَةٌ كُلّيّةٌ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالطّبِيعَةِ . فَأَمّا الْبَدَنُ فَيَسْخُنُ بِالْحَرَكَةِ لَا مَحَالَةَ وَالنّفْسُ تَشْتَدّ حَرَكَتُهَا طَلَبًا لِلّذّةِ وَاسْتِكْمَالِهَا <100> وَالرّوحُ تَتَحَرّكُ تَبَعًا لِحَرَكَةِ النّفْسِ وَالْبَدَنِ فَإِنّ أَوّلَ تَعَلّقِ الرّوحِ مِنْ الْبَدَنِ بِالْقَلْبِ وَمِنْهُ يَنْشَأُ الرّوحُ وَتَنْبَثّ فِي الْأَعْضَاءِ . وَأَمّا حَرَكَةُ الطّبِيعَةِ فَلِأَجْلِ أَنْ تُرْسِلَ مَا يَجِبُ إرْسَالُهُ مِنْ الْمَنِيّ عَلَى الْمِقْدَارِ الّذِي يَجِبُ إرْسَالُهُ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِمَاعُ حَرَكَةٌ كُلّيّةٌ عَامّةٌ يَتَحَرّكُ فِيهَا الْبَدَنُ وَقُوَاهُ وَطَبِيعَتُهُ وَأَخْلَاطُهُ وَالرّوحُ وَالنّفْسُ فَكُلّ حَرَكَةٍ فَهِيَ مُثِيرَةٌ لِلْأَخْلَاطِ مُرَقّقَةٌ لَهَا تُوجِبُ دَفْعَهَا وَسَيَلَانَهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الضّعِيفَةِ وَالْعَيْنُ فِي حَالِ رَمَدِهَا أَضْعَفُ مَا تَكُونُ فَأَضَرّ مَا عَلَيْهَا حَرَكَةُ الْجِمَاعِ .
(1/139)
قَالَ بُقْرَاطُ فِي كِتَابِ " الْفُصُولِ " : وَقَدْ يَدُلّ رُكُوبُ السّفُنِ أَنّ الْحَرَكَةَ تُثَوّرُ الْأَبْدَانَ . هَذَا مَعَ أَنّ فِي الرّمَدِ مَنَافِعَ كَثِيرَةً مِنْهَا مَا يَسْتَدْعِيهِ مِنْ الْحِمْيَةِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَتَنْقِيَةِ الرّأْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ فَضَلَاتِهِمَا وَعُفُونَاتِهِمَا وَالْكَفّ عَمّا يُؤْذِي النّفْسَ وَالْبَدَنَ مِنْ الْغَضَبِ وَالْهَمّ وَالْحُزْنِ وَالْحَرَكَاتِ الْعَنِيفَةِ وَالْأَعْمَالِ الشّاقّةِ . وَفِي أَثَرٍ سَلَفِيّ لَا تَكْرَهُوا الرّمَدُ فَإِنّهُ يَقْطَعُ عُرُوقَ الْعَمَى .
وَمِنْ أَسْبَابِ عِلَاجِهِ مُلَازَمَةُ السّكُونِ وَالرّاحَةِ وَتَرْكُ مَسّ الْعَيْنِ وَالِاشْتِغَالُ بِهَا فَإِنّ أَضْدَادَ ذَلِكَ يُوجِبُ انْصِبَابَ الْمَوَادّ إلَيْهَا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَثَلُ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ مَثَلُ الْعَيْنِ وَدَوَاءُ الْعَيْنِ تَرْكُ مَسّهَا . وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ اللّهُ أَعْلَمُ بِهِ عِلَاجُ الرّمَدِ تَقْطِيرُ الْمَاءِ الْبَارِدِ فِي الْعَيْنِ وَهُوَ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ لِلرّمَدِ الْحَارّ فَإِنّ الْمَاءَ دَوَاءٌ بَارِدٌ يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى إطْفَاءِ حَرَارَةِ الرّمَدِ إذَا كَانَ حَارّا وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِامْرَأَتِهِ زَيْنَبَ وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا : لَوْ فَعَلْتِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ خَيْرًا لَك وَأَجْدَرَ أَنْ تُشْفِيَ تَنْضَحِينَ فِي عَيْنِك الْمَاءَ ثُمّ تَقُولِينَ أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا
(1/140)
وَهَذَا مِمّا تَقَدّمَ مِرَارًا أَنّهُ خَاصّ بِبَعْضِ الْبِلَادِ وَبَعْضِ أَوْجَاعِ الْعَيْنِ فَلَا يُجْعَلُ كَلَامُ النّبُوّةِ الْجُزْئِيّ الْخَاصّ كُلّيّا عَامّا وَلَا الْكُلّيّ الْعَامّ <101> جُزْئِيّا خَاصّا فَيَقَعُ مِنْ الْخَطَأِ وَخِلَافُ الصّوَابِ مَا يَقَعُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْخَدَرَانِ الْكُلّيّ الّذِي يَجْمُدُ مَعَهُ الْبَدَنُ
ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّ قَوْمًا مَرّوا بِشَجَرَةٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا فَكَأَنّمَا مَرّتْ بِهِمْ رِيحٌ فَأَجْمَدَتْهُمْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرّسُوا الْمَاءَ فِي الشّنَانِ وَصُبّوا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَرّسُوا : يَعْنِي بَرّدُوا . وَقَوْلُ النّاسِ قَدْ قَرَسَ الْبَرْدُ إنّمَا هُوَ مِنْ هَذَا بِالسّينِ لَيْسَ بِالصّادِ . وَالشّنَانُ الْأَسْقِيَةُ وَالْقِرَبُ الْخُلْقَانِ يُقَالُ لِلسّقَاءِ شَنّ وَلِلْقِرْبَةِ شَنّةٌ . وَإِنّمَا ذَكَرَ الشّنَانَ دُونَ الْجُدُدِ لِأَنّهَا أَشَدّ تَبْرِيدًا لِلْمَاءِ . وَقَوْلُهُ " بَيْنَ الْأَذَانَيْنِ " يَعْنِي أَذَانَ الْفَجْرِ وَالْإِقَامَةَ فَسَمّى الْإِقَامَةَ أَذَانًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
(1/141)
قَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ وَهَذَا الْعِلَاجُ مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَفْضَلِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ إذَا كَانَ وُقُوعُهُ بِالْحِجَازِ وَهِيَ بِلَادٌ حَارّةٌ يَابِسَةٌ وَالْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ سُكّانِهَا وَصَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِمْ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ أَبْرَدُ أَوْقَاتِ الْيَوْمَ - يُوجِبُ جَمْعَ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ الْمُنْتَشِرِ فِي الْبَدَنِ الْحَامِلِ لِجَمِيعِ قُوَاهُ فَيُقَوّي الْقُوّةَ الدّافِعَةَ وَيَجْتَمِعُ مِنْ أَقْطَارِ الْبَدَنِ إلَى بَاطِنِهِ الّذِي هُوَ مَحَلّ ذَاكَ الدّاءِ وَيَسْتَظْهِرُ بِبَاقِي الْقُوَى عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَوْ أَنّ بُقْرَاطَ أَوْ جالينوس أَوْ غَيْرَهُمَا وَصَفَ هَذَا الدّوَاءَ لِهَذَا الدّاءِ لَخَضَعَتْ لَهُ الْأَطِبّاءُ وَعَجِبُوا مِنْ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إصْلَاحِ الطّعَامِ الّذِي يَقَعُ فِيهِ الذّبَابُ وَإِرْشَادِهِ إلَى دَفْعِ مَضَرّاتِ السّمُومِ بِأَضْدَادِهَا
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا وَقَعَ الذّبَابُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ فَإِنّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ <102> شِفَاءً
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَحَدُ جَنَاحَيْ الذّبَابِ سَمّ وَالْآخَرُ شِفَاءٌ فَإِذَا وَقَعَ فِي الطّعَامِ فَامْقُلُوهُ فَإِنّهُ يُقَدّمُ السّمّ وَيُؤَخّرُ الشّفَاءَ
[ إذَا مَاتَ الذّبَابُ فِي مَائِعٍ لَا يُنَجّسُهُ ]
(1/142)
هَذَا الْحَدِيثُ فِيهِ أَمْرَانِ أَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ فَأَمّا الْفِقْهِيّ فَهُوَ دَلِيلٌ ظَاهِرُ الدّلَالَةِ جِدّا عَلَى أَنّ الذّبَابَ إذَا مَاتَ فِي مَاءٍ أَوْ مَائِعٍ فَإِنّهُ لَا يُنَجّسُهُ وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُعْرَفُ فِي السّلَفِ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ . وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِمَقْلِهِ وَهُوَ غَمْسُهُ فِي الطّعَامِ وَمَعْلُومٌ أَنّهُ يَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الطّعَامُ حَارّا . فَلَوْ كَانَ يُنَجّسُهُ لَكَانَ أَمْرًا بِإِفْسَادِ الطّعَامِ وَهُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا أَمَرَ بِإِصْلَاحِهِ ثُمّ عُدّيَ هَذَا الْحُكْمُ إلَى كُلّ مَا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالنّحْلَةِ وَالزّنْبُورِ وَالْعَنْكَبُوتِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ إذْ الْحُكْمُ يَعُمّ بِعُمُومِ عِلّتِهِ وَيَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ فَلَمّا كَانَ سَبَبُ التّنْجِيسِ هُوَ الدّمَ الْمُحْتَقِنَ فِي الْحَيَوَانِ بِمَوْتِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مَفْقُودًا فِيمَا لَا دَمَ لَهُ سَائِلٌ انْتَفَى الْحُكْمُ بِالتّنْجِيسِ لِانْتِفَاءِ عِلّتِهِ .
ثُمّ قَالَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِنَجَاسَةِ عَظْمِ الْمَيْتَةِ إذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فِي الْحَيَوَانِ الْكَامِلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَعَدَمِ الصّلَابَةِ فَثُبُوتُهُ فِي الْعَظْمِ الّذِي هُوَ أَبْعَدُ عَنْ الرّطُوبَاتِ وَالْفَضَلَاتِ وَاحْتِقَانِ الدّمِ أَوْلَى وَهَذَا فِي غَايَةِ الْقُوّةِ فَالْمَصِيرُ إلَيْهِ أَوْلَى .
(1/143)
وَأَوّلُ مَنْ حُفِظَ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنّهُ تَكَلّمَ بِهَذِهِ اللّفْظَةِ فَقَالَ مَا لَا نَفْسَ لَهُ <103> سَائِلَةٌ إبْرَاهِيمُ النّخَعِيّ وَعَنْهُ تَلَقّاهَا الْفُقَهَاءُ - وَالنّفْسُ فِي اللّغَةِ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ الدّمِ وَمِنْهُ نَفَسَتْ الْمَرْأَةُ - بِفَتْحِ النّونِ - إذَا حَاضَتْ وَنُفِسَتْ - بِضَمّهَا - إذَا وَلَدَتْ .
[فَائِدَةُ غَمْسِ الذّبَابِ ]
وَأَمّا الْمَعْنَى الطّبّيّ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى اُمْقُلُوهُ اغْمِسُوهُ لِيَخْرُجَ الشّفَاءُ مِنْهُ كَمَا خَرَجَ الدّاءُ يُقَالُ لِلرّجُلَيْنِ هُمَا يَتَمَاقَلَانِ إذَا تَغَاطّا فِي الْمَاءِ .
(1/144)
وَاعْلَمْ أَنّ فِي الذّبَابِ عِنْدَهُمْ قُوّةً سَمّيّةً يَدُلّ عَلَيْهَا الْوَرَمُ وَالْحَكّةُ الْعَارِضَةُ عَنْ لَسْعِهِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ السّلَاحِ فَإِذَا سَقَطَ فِيمَا يُؤْذِيهِ اتّقَاهُ بِسِلَاحِهِ فَأَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُقَابِلَ تِلْكَ السّمّيّةَ بِمَا أَوْدَعَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي جَنَاحِهِ الْآخَرِ مِنْ الشّفَاءِ فَيُغْمَسُ كُلّهُ فِي الْمَاءِ وَالطّعَامِ فَيُقَابِلُ الْمَادّةَ السّمّيّةَ الْمَادّةُ النّافِعَةُ فَيَزُولُ ضَرَرُهَا وَهَذَا طِبّ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كِبَارُ الْأَطِبّاءِ وَأَئِمّتُهُمْ بَلْ هُوَ خَارِجٌ مِنْ مِشْكَاةِ النّبُوّةِ وَمَعَ هَذَا فَالطّبِيبُ الْعَالِمُ الْعَارِفُ الْمُوَفّقُ يَخْضَعُ لِهَذَا الْعِلَاجِ وَيُقِرّ لِمَنْ جَاءَ بِهِ بِأَنّهُ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنّهُ مُؤَيّدٌ بِوَحْيٍ إلَهِيّ خَارِجٍ عَنْ الْقُوَى الْبَشَرِيّةِ . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَطِبّاءِ أَنّ لَسْعَ الزّنْبُورِ وَالْعَقْرَبِ إذَا دُلِكَ مَوْضِعُهُ بِالذّبَابِ نَفَعَ مِنْهُ نَفْعًا بَيّنًا وَسَكّنَهُ وَمَا ذَاكَ إلّا لِلْمَادّةِ الّتِي فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَإِذَا دُلِكَ بِهِ الْوَرَمُ الّذِي يَخْرُجُ فِي شَعْرِ الْعَيْنِ الْمُسَمّى شَعْرَةً بَعْدَ قَطْعِ رُءُوسِ الذّبَابِ أَبْرَأَهُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْبَثْرَةِ
(1/145)
ذَكَرَ ابْنُ السّنّيّ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَرَجَ فِي أُصْبُعِي بَثْرَةٌ فَقَالَ " عِنْدَكِ ذَرِيرَةٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ . قَالَ " ضَعِيهَا عَلَيْهَا " وَقُولِي : اللّهُمّ مُصَغّرَ الْكَبِيرِ وَمُكَبّرَ الصّغِيرِ صَغّرْ مَا بِي <104> .
الذّرِيرَةُ دَوَاءٌ هِنْدِيّ يُتّخَذُ مِنْ قَصَبِ الذّرِيرَةِ وَهِيَ حَارّةٌ يَابِسَةٌ تَنْفَعُ مِنْ أَوْرَامِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَتُقَوّي الْقَلْبَ لِطِيبِهَا وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَدِي بِذَرِيرَةٍ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ لِلْحِلّ وَالْإِحْرَامِ .
وَالْبَثْرَةُ خُرّاجٌ صَغِيرٌ يَكُونُ عَنْ مَادّةٍ حَارّةٍ تَدْفَعُهَا الطّبِيعَةُ فَتَسْتَرِقُ مَكَانًا مِنْ الْجَسَدِ تَخْرُجُ مِنْهُ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُنْضِجُهَا وَيُخْرِجُهَا وَالذّرِيرَةُ أَحَدُ مَا يُفْعَلُ بِهَا ذَلِكَ فَإِنّ فِيهَا إنْضَاجًا وَإِخْرَاجًا مَعَ طِيبِ رَائِحَتِهَا مَعَ أَنّ فِيهَا تَبْرِيدًا لِلنّارِيّةِ الّتِي فِي تِلْكَ الْمَادّةِ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : إنّهُ لَا أَفْضَلَ لِحَرْقِ النّارِ مِنْ الذّرِيرَةِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْخَلّ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَوْرَامِ وَالْخُرّجَاتِ الّتِي تَبْرَأُ بِالْبَطّ وَالْبَزْلِ
(1/146)
يُذْكَرُ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ بِظَهْرِهِ <105> وَرَمٌ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ بِهَذِهِ مِدّةٌ . قَالَ بُطّوا عَنْهُ قَالَ عَلِي ّ : فَمَا بَرِحْتُ حَتّى بُطّتْ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاهِدٌ
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى الْبَطْنِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ يَنْفَعُ الطّبّ ؟ قَالَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ أَنْزَلَ الشّفَاءَ فِيمَا شَاءَ
(1/147)
الْوَرَمُ مَادّةٌ فِي حَجْمِ الْعُضْوِ لِفَضْلِ مَادّةٍ غَيْرِ طَبِيعِيّةٍ تَنْصَبّ إلَيْهِ وَيُوجَدُ فِي أَجْنَاسِ الْأَمْرَاضِ كُلّهَا وَالْمَوَادّ الّتِي تَكَوّنَ عَنْهَا مِنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمَائِيّةِ وَالرّيحِ وَإِذَا اجْتَمَعَ الْوَرَمُ سُمّيَ خُرّاجًا وَكُلّ وَرَمٍ حَارّ يُؤَوّلُ أَمْرُهُ إلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ إمّا تَحَلّلٍ وَإِمّا جَمْعِ مِدّةٍ وَإِمّا اسْتِحَالَةٍ إلَى الصّلَابَةِ . فَإِنْ كَانَتْ الْقُوّةُ قَوِيّةً اسْتَوْلَتْ عَلَى مَادّةِ الْوَرَمِ وَحَلّلَتْهُ وَهِيَ أَصْلَحُ الْحَالَاتِ الّتِي يُؤَوّلُ حَالُ الْوَرَمِ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَتْ دُونَ ذَلِكَ أَنْضَجَتْ الْمَادّةَ وَأَحَالَتْهَا مِدّةً بَيْضَاءَ وَفَتَحَتْ لَهَا مَكَانًا أَسَالَتْهَا مِنْهُ . وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ أَحَالَتْ الْمَادّةَ مِدّةً غَيْرَ مُسْتَحْكِمَةٍ النّضْجَ وَعَجَزَتْ عَنْ فَتْحِ مَكَانٍ فِي الْعُضْوِ تَدْفَعُهَا مِنْهُ فَيُخَافُ عَلَى الْعُضْوِ الْفَسَادُ بِطُولِ لُبْثِهَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ إلَى إعَانَةِ الطّبِيبِ بِالْبَطّ أَوْ غَيْرِهِ لِإِخْرَاجِ تِلْكَ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُضْوِ .
وَفِي الْبَطّ فَائِدَتَانِ إحْدَاهُمَا : إخْرَاجُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ الْمُفْسِدَةِ .
وَالثّانِيَةُ مَنْعُ اجْتِمَاعِ مَادّةٍ أُخْرَى إلَيْهَا تُقَوّيهَا .
وَأَمّا قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الثّانِي : إنّهُ أَمَرَ طَبِيبًا أَنْ يَبُطّ بَطْنَ رَجُلٍ أَجْوَى <106> الْبَطْنِ فَالْجَوَى يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا : الْمَاءُ الْمُنْتِنُ الّذِي يَكُونُ فِي الْبَطْنِ يَحْدُثُ عَنْهُ الِاسْتِسْقَاءُ .
(1/148)
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ فِي بَزْلِهِ لِخُرُوجِ هَذِهِ الْمَادّةِ فَمَنَعَتْهُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لِخَطَرِهِ وَبُعْدِ السّلَامَةِ مَعَهُ وَجَوّزَتْهُ طَائِفَةٌ أُخْرَى وَقَالَتْ لَا عِلَاجَ لَهُ سِوَاهُ وَهَذَا عِنْدَهُمْ إنّمَا هُوَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ الزّقّيّ فَإِنّهُ كَمَا تَقَدّمَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ طَبْلِيّ وَهُوَ الّذِي يَنْتَفِخُ مَعَهُ الْبَطْنُ بِمَادّةٍ رِيحِيّةٍ إذَا ضَرَبْت عَلَيْهِ سُمِعَ لَهُ صَوْتٌ كَصَوْتِ الطّبْلِ وَلَحْمِيّ وَهُوَ الّذِي يَرْبُو مَعَهُ لَحْمُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِمَادّةٍ بَلْغَمِيّةٍ تَفْشُو مَعَ الدّمِ فِي الْأَعْضَاءِ وَهُوَ أَصْعَبُ مِنْ الْأَوّلِ وَزِقّيّ وَهُوَ الّذِي يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ مَادّةٌ رَدِيئَةٌ يُسْمَعُ لَهَا عِنْدَ الْحَرَكَةِ خَضْخَضَةٌ كَخَضْخَضَةِ الْمَاءِ فِي الزّقّ وَهُوَ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْأَطِبّاءِ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أَرْدَأُ أَنْوَاعِهِ اللّحْمِيّ لِعُمُومِ الْآفَةِ بِهِ .
وَمِنْ جُمْلَةِ عِلَاجِ الزّقّيّ إخْرَاجُ ذَلِكَ بِالْبَزْلِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فَصْدِ الْعُرُوقِ لِإِخْرَاجِ الدّمِ الْفَاسِدِ لَكِنّهُ خَطَرٌ كَمَا تَقَدّمَ وَإِنْ ثَبَتَ هَذَا الْحَدِيثُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ بَزْلِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمَرْضَى بِتَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَتَقْوِيَةِ قُلُوبِهِمْ
(1/149)
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ " فِي سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفّسُوا لَهُ فِي الْأَجَلِ فَإِنّ ذَلِكَ لَا يَرُدّ شَيْئًا وَهُوَ يُطَيّبُ نَفْسَ الْمَرِيضِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعٌ شَرِيفٌ جِدّا مِنْ أَشْرَفِ أَنْوَاعِ الْعِلَاجِ وَهُوَ الْإِرْشَادُ <107> إلَى مَا يُطَيّبُ نَفْسَ الْعَلِيلِ مِنْ الْكَلَامِ الّذِي تَقْوَى بِهِ الطّبِيعَةُ وَتَنْتَعِشُ بِهِ الْقُوّةُ وَيَنْبَعِثُ بِهِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ فَيَتَسَاعَدُ عَلَى دَفْعِ الْعِلّةِ أَوْ تَخْفِيفِهَا الّذِي هُوَ غَايَةُ تَأْثِيرِ الطّبِيبِ .
وَتَفْرِيحُ نَفْسِ الْمَرِيضِ وَتَطْيِيبُ قَلْبِهِ وَإِدْخَالُ مَا يَسُرّهُ عَلَيْهِ لَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي شِفَاءِ عِلّتِهِ وَخِفّتِهَا فَإِنّ الْأَرْوَاحَ وَالْقُوَى تَقْوَى بِذَلِكَ فَتُسَاعِدُ الطّبِيعَةَ عَلَى دَفْعِ الْمُؤْذِي وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ كَثِيرًا مِنْ الْمَرْضَى تَنْتَعِشُ قُوَاهُ بِعِيَادَةِ مَنْ يُحِبّونَهُ وَيُعَظّمُونَهُ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُمْ وَلُطْفِهِمْ بِهِمْ وَمُكَالَمَتِهِمْ إيّاهُمْ وَهَذَا أَحَدُ فَوَائِدِ عِيَادَةِ الْمَرْضَى الّتِي تَتَعَلّقُ بِهِمْ فَإِنّ فِيهَا أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ مِنْ الْفَوَائِدِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَائِدِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى أَهْلِ الْمَرِيضِ وَنَوْعٌ يَعُودُ عَلَى الْعَامّةِ .
(1/150)
وَقَدْ تَقَدّمَ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْمَرِيضَ عَنْ شَكْوَاهُ وَكَيْفَ يَجِدُهُ وَيَسْأَلُهُ عَمّا يَشْتَهِيهِ وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ وَرُبّمَا وَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ وَيَصِفُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ فِي عِلّتِهِ وَرُبّمَا تَوَضّأَ وَصَبّ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ وَضُوئِهِ وَرُبّمَا كَانَ يَقُولُ لِلْمَرِيضِ لَا بَأْسَ طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللّهُ وَهَذَا مِنْ كَمَالِ اللّطْفِ وَحُسْنِ الْعِلَاجِ وَالتّدْبِيرِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ بِمَا اعْتَادَتْهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ دُونَ مَا لَمْ تَعْتَدْهُ
هَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ وَأَنْفَعُ شَيْءٍ فِيهِ وَإِذَا أَخْطَأَهُ الطّبِيبُ أَضَرّ الْمَرِيضَ مِنْ حَيْثُ يَظُنّ أَنّهُ يَنْفَعُهُ وَلَا يَعْدِلُ عَنْهُ إلَى مَا يَجِدُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي كُتُبِ الطّبّ إلّا طَبِيبٌ جَاهِلٌ فَإِنّ مُلَاءَمَةَ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ لِلْأَبْدَانِ بِحَسَبِ <108> اسْتِعْدَادِهَا وَقَبُولِهَا وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْأَكّارُونَ وَغَيْرُهُمْ لَا يَنْجَعُ فِيهِمْ شَرَابُ اللّينُوفَرِ وَالْوَرْدُ الطّرِيّ وَلَا الْمَغْلِيّ وَلَا يُؤَثّرُ فِي طِبَاعِهِمْ شَيْئًا بَلْ عَامّةُ أَدْوِيَةِ أَهْلِ الْحَضَرِ وَأَهْلِ الرّفَاهِيَةِ لَا تُجْدِي عَلّهمْ وَالتّجْرِبَةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ وَمَنْ تَأَمّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعِلَاجِ النّبَوِيّ رَآهُ كُلّهُ مُوَافِقًا لِعَادَةِ الْعَلِيلِ وَأَرْضِهِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ .
(1/151)
فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْعِلَاجِ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ وَقَدْ صَرّحَ بِهِ أَفَاضِلُ أَهْلِ الطّبّ حَتّى قَالَ طَبِيبُ الْعَرَبِ بَلْ أَطَبّهُمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ وَكَانَ فِيهِمْ كَابُقْرَاطَ فِي قَوْمِهِ الْحِمْيَةُ رَأْسُ الدّوَاءِ وَالْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ وَعَوّدُوا كُلّ بَدَنٍ مَا اعْتَادَ . وَفِي لَفْظٍ عَنْهُ الْأَزْمُ دَوَاءٌ وَالْأَزْمُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْأَكْلِ يَعْنِي بِهِ الْجُوعَ وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ فِي شِفَاءِ الْأَمْرَاضِ الِامْتِلَائِيّةِ كُلّهَا بِحَيْثُ إنّهُ أَفْضَلُ فِي عِلَاجِهَا مِنْ الْمُسْتَفْرَغَاتِ إذَا لَمْ يَخِفّ مِنْ كَثْرَةِ الِامْتِلَاءِ وَهَيَجَانِ الْأَخْلَاطِ وَحِدّتِهَا أَوْ غَلَيَانِهَا .
(1/152)
وَقَوْلُهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ . الْمَعِدَةُ عُضْوٌ عَصَبِيّ مُجَوّفٌ كَالْقَرْعَةِ فِي شَكْلِهَا مُرَكّبٌ مِنْ ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ مُؤَلّفَةٍ مِنْ شَظَايَا دَقِيقَةٍ عَصَبِيّةٍ تُسَمّى اللّيفَ وَيُحِيطُ بِهَا لَحْمٌ وَلِيفٌ إحْدَى الطّبَقَاتِ بِالطّولِ وَالْأُخْرَى بِالْعَرْضِ وَالثّالِثَةُ بِالْوَرْبِ وَفَمُ الْمَعِدَةِ أَكْثَرُ عَصَبًا وَقَعْرُهَا أَكْثَرُ لَحْمًا وَفِي بَاطِنِهَا خَمْلٌ وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي وَسَطِ الْبَطْنِ وَأَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ قَلِيلًا خُلِقَتْ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ لِحِكْمَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ الْخَالِقِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ بَيْتُ الدّاءِ وَكَانَتْ مَحَلّا لِلْهَضْمِ الْأَوّلِ وَفِيهَا يَنْضَجُ الْغِذَاءُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَبِدِ وَالْأَمْعَاءِ وَيَتَخَلّفُ مِنْهُ فِيهَا فَضَلَاتٌ قَدْ عَجَزَتْ الْقُوّةُ الْهَاضِمَةُ عَنْ تَمَامِ هَضْمِهَا إمّا لِكَثْرَةِ الْغِذَاءِ أَوْ لِرَدَاءَتِهِ أَوْ لِسُوءِ تَرْتِيبٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لِمَجْمُوعِ ذَلِكَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ بَعْضُهَا مِمّا لَا يَتَخَلّصُ الْإِنْسَانُ مِنْهُ غَالِبًا فَتَكُونُ الْمَعِدَةُ بَيْتَ الدّاءِ لِذَلِكَ وَكَأَنّهُ يُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْحَثّ عَلَى تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَمَنْعِ النّفْسِ مِنْ اتّبَاعِ الشّهَوَاتِ وَالتّحَرّزِ عَنْ الْفَضَلَاتِ .
وَأَمّا الْعَادَةُ فَلِأَنّهَا كَالطّبِيعَةِ لِلْإِنْسَانِ وَلِذَلِكَ يُقَالُ الْعَادَةُ طَبْعٌ ثَانٍ وَهِيَ <109> قُوّةٌ عَظِيمَةٌ فِي الْبَدَنِ حَتّى إنّ أَمْرًا وَاحِدًا إذَا قِيسَ إلَى أَبْدَانٍ مُخْتَلِفَةِ الْعَادَاتِ كَانَ مُخْتَلِفَ النّسْبَةِ إلَيْهَا .
(1/153)
وَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأَبْدَانُ مُتّفِقَةً فِي الْوُجُوهِ الْأُخْرَى مِثَالُ ذَلِكَ أَبْدَانٌ ثَلَاثَةٌ حَارّةُ الْمِزَاجِ فِي سِنّ الشّبَابِ
أَحَدُهَا : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْحَارّةِ .
وَالثّانِي : عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْبَارِدَةِ .
وَالثّالِثُ عُودُ تَنَاوُلِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَوَسّطَةِ .
فَإِنّ الْأَوّلَ مَتَى تَنَاوَلَ عَسَلًا لَمْ يَضُرّ بِهِ وَالثّانِي : مَتَى تَنَاوَلَهُ أَضَرّ بِهِ وَالثّالِثُ يَضُرّ بِهِ قَلِيلًا فَالْعَادَةُ رُكْنٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَمُعَالَجَةِ الْأَمْرَاضِ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْعِلَاجُ النّبَوِيّ بِإِجْرَاءِ كُلّ بَدَنٍ عَلَى عَادَتِهِ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَغْذِيَةِ الْمَرِيضِ بِأَلْطَفِ مَا اعْتَادَهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا كَانَتْ إذَا مَاتَ الْمَيّتُ مَنْ أَهْلِهَا وَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النّسَاءُ ثُمّ تَفَرّقْنَ إلَى أَهْلِهِنّ أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ وَصُنِعَتْ ثَرِيدًا ثُمّ صُبّتْ التّلْبِينَةُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَتْ كُلُوا مِنْهَا فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ التّلْبِينَةُ مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ
وَفِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْكُمْ بِالْبَغِيضِ النّافِعِ التّلْبِين قَالَتْ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَمْ تَزَلْ الْبُرْمَةُ عَلَى النّارِ حَتّى يَنْتَهِيَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ . يَعْنِي يَبْرَأُ أَوْ يَمُوتُ .
(1/154)
وَعَنْهَا : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا قِيلَ لَهُ إنّ فُلَانًا وَجِعٌ لَا يَطْعَمُ الطّعَامَ قَالَ <110> عَلَيْكُمْ بِالتّلْبِينَةِ فَحَسّوهُ إيّاهَا وَيَقُولُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّهَا تَغْسِلُ بَطْنَ أَحَدِكُمْ كَمَا تَغْسِلُ إحْدَاكُنّ وَجْهَهَا مِنْ الْوَسَخِ
[ التّلْبِينُ وَفَوَائِدُهُ ]
التّلْبِينُ هُوَ الْحِسَاءُ الرّقِيقُ الّذِي هُوَ فِي قِوَامِ اللّبَنِ وَمِنْهُ اُشْتُقّ اسْمُهُ قَالَ الْهَرَوِيّ سُمّيَتْ تَلْبِينَةً لِشَبَهِهَا بِاللّبَنِ لِبَيَاضِهَا وَرِقّتِهَا وَهَذَا الْغِذَاءُ هُوَ النّافِعُ لِلْعَلِيلِ وَهُوَ الرّقِيقُ النّضِيحُ لَا الْغَلِيظُ النّيءُ وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ فَضْلَ التّلْبِينَةِ فَاعْرِفْ فَضْلَ مَاءِ الشّعِيرِ بَلْ هِيَ مَاءُ الشّعِيرِ لَهُمْ فَإِنّهَا حِسَاءٌ مُتّخَذٌ مِنْ دَقِيقِ الشّعِيرِ بِنُخَالَتِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَاءِ الشّعِيرِ أَنّهُ يُطْبَخُ صِحَاحًا وَالتّلْبِينَةُ تُطْبَخُ مِنْهُ مَطْحُونًا وَهِيَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِخُرُوجِ خَاصّيّةِ الشّعِيرِ بِالطّحْنِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ لِلْعَادَاتِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ وَكَانَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ أَنْ يَتّخِذُوا مَاءَ الشّعِيرِ مِنْهُ مَطْحُونًا لَا صِحَاحًا وَهُوَ أَكْثَرُ تَغْذِيَةً وَأَقْوَى فِعْلًا وَأَعْظَمُ جَلَاءً وَإِنّمَا اتّخَذَهُ أَطِبّاءُ الْمُدُنِ مِنْهُ صِحَاحًا لِيَكُونَ أَرَقّ وَأَلْطَفَ فَلَا يَثْقُلُ عَلَى طَبِيعَةِ الْمَرِيضِ وَهَذَا بِحَسَبِ طَبَائِعِ أَهْلِ الْمُدُنِ وَرَخَاوَتِهَا وَثِقَلِ مَاءِ الشّعِيرِ الْمَطْحُونِ عَلَيْهَا . وَالْمَقْصُودُ أَنّ مَاءَ الشّعِيرِ مَطْبُوخًا صِحَاحًا يَنْفُذُ سَرِيعًا وَيَجْلُو جَلَاءً ظَاهِرًا وَيُغَذّي غِذَاءً لَطِيفًا . وَإِذَا
(1/155)
شُرِبَ حَارّا كَانَ جَلَاؤُهُ أَقْوَى وَنُفُوذُهُ أَسْرَعَ وَإِنْمَاؤُهُ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ أَكْثَرَ وَتَلْمِيسُهُ لِسُطُوحِ الْمَعِدَةِ أَوْفَقَ .
[ عِلّةُ ذَهَابِ التّلْبِينَةِ بِبَعْضِ الْحُزْنِ ]
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا : مَجَمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ يُرْوَى بِوَجْهَيْنِ . بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْجِيمِ وَبِضَمّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْجِيمِ وَالْأَوّلُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَنّهَا مُرِيحَةٌ لَهُ أَيْ تُرِيحُهُ وَتُسَكّنُهُ مِنْ الْإِجْمَامِ وَهُوَ الرّاحَةُ . وَقَوْلُهُ " تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ " هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّ الْغَمّ وَالْحُزْنَ يُبَرّدَانِ الْمِزَاجَ وَيُضْعِفَانِ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ لِمَيْلِ الرّوحِ الْحَامِلِ لَهَا إلَى جِهَةِ الْقَلْبِ الّذِي هُوَ مَنْشَؤُهَا وَهَذَا الْحِسَاءُ يُقَوّي الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِزِيَادَتِهِ فِي مَادّتِهَا فَتُزِيلُ أَكْثَرَ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْغَمّ وَالْحُزْنِ .
وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ أَقْرَبُ - إنّهَا تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ بِخَاصّيّةٍ فِيهَا مِنْ <111> جِنْسِ خَوَاصّ الْأَغْذِيَةِ الْمُفْرِحَةِ فَإِنّ مِنْ الْأَغْذِيَةِ مَا يُفْرِحُ بِالْخَاصّيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
(1/156)
وَقَدْ يُقَالُ إنّ قُوَى الْحَزِينِ تَضْعُفُ بِاسْتِيلَاءِ الْيُبْسِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَعَلَى مَعِدَتِهِ خَاصّةً لِتَقْلِيلِ الْغِذَاءِ وَهَذَا الْحِسَاءُ يُرَطّبُهَا وَيُقَوّيهَا وَيُغَذّيهَا وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِفُؤَادِ الْمَرِيضِ لَكِنّ الْمَرِيضَ كَثِيرًا مَا يَجْتَمِعُ فِي مَعِدَتِهِ خَلْطٌ مَرَارِيّ أَوْ بَلْغَمِيّ أَوْ صَدِيدِيّ وَهَذَا الْحِسَاءُ يَجْلُو ذَلِكَ عَنْ الْمَعِدَةِ وَيَسْرُوهُ وَيَحْدُرُهُ وَيُمَيّعُهُ وَيُعَدّلُ كَيْفِيّتَهُ وَيَكْسِرُ سَوْرَتَهُ فَيُرِيحُهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ عَادَتُهُ الِاغْتِذَاءُ بِخُبْزِ الشّعِيرِ وَهِيَ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ إذْ ذَاكَ وَكَانَ هُوَ غَالِبَ قُوتِهِمْ وَكَانَتْ الْحِنْطَةُ عَزِيزَةً عِنْدَهُمْ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّمّ الّذِي أَصَابَهُ بِخَيْبَرَ مِنْ الْيَهُود
ذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ امْرَأَةً يَهُودِيّةً أَهْدَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاةً مَصْلِيّةً بِخَيْبَرَ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالَتْ هَدِيّةٌ وَحَذِرَتْ أَنْ تَقُولَ مِنْ الصّدَقَةِ فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَأَكَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكَلَ الصّحَابَةُ ثُمّ
(1/157)
قَالَ أَمْسِكُوا ثُمّ قَالَ لِلْمَرْأَةِ هَلْ سَمَمْتِ هَذِهِ الشّاةَ ؟ قَالَتْ مَنْ أَخْبَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ هَذَا الْعَظْمُ لِسَاقِهَا وَهُوَ فِي يَدِهِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ . قَالَ لِمَ ؟ قَالَتْ أَرَدْتُ إنْ كُنْت كَاذِبًا أَنْ يَسْتَرِيحَ مِنْك النّاسُ وَإِنْ كُنْت نَبِيّا لَمْ يَضُرّك قَالَ فَاحْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَةً عَلَى الْكَاهِلِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْتَجِمُوا فَاحْتَجَمُوا فَمَاتَ بَعْضُهُمْ
<112> وَفِي طَرِيقٍ أُخْرَى : وَاحْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كَاهِلِهِ مِنْ أَجْلِ الّذِي أَكَلَ مِنْ الشّاةِ حَجَمَهُ أَبُو هِنْدٍ بِالْقَرْنِ وَالشّفْرَةِ وَهُوَ مَوْلَى لِبَنِي بَيَاضَةَ مِنْ الْأَنْصَارِ وَبَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ سِنِينَ حَتّى كَانَ وَجَعُهُ الّذِي تُوُفّيَ فِيهِ فَقَالَ مَا زِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأُكْلَةِ الّتِي أَكَلْتُ مِنْ الشّاةِ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتّى كَانَ هَذَا أَوَانَ انْقِطَاعِ الْأَبْهَرِ مِنّي
فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهِيدًا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ .
[ يُعَالَجُ السّمّ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْمُبْطِلَةِ لِفِعْلِ السّمّ ]
(1/158)
مُعَالَجَةُ السّمّ تَكُونُ بِالاسْتِفْراغَاتِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الّتِي تُعَارِضُ فِعْلَ السّمّ وَتُبْطِلُهُ إمّا بِكَيْفِيّاتِهَا وَإِمّا بِخَوَاصّهَا فَمَنْ عَدِمَ الدّوَاءَ فَلْيُبَادِرْ إلَى الِاسْتِفْرَاغِ الْكُلّيّ وَأَنْفَعُهُ الْحِجَامَةُ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ الْبَلَدُ حَارّا وَالزّمَانُ حَارّا فَإِنّ الْقُوّةَ <113> السّمّيّةَ تَسْرِي إلَى الدّمِ فَتَنْبَعِثُ فِي الْعُرُوقِ وَالْمَجَارِي حَتّى تَصِلَ إلَى الْقَلْبِ فَيَكُونُ الْهَلَاكُ فَالدّمُ هُوَ الْمَنْفَذُ الْمُوَصّلُ لِلسّمّ إلَى الْقَلْبِ وَالْأَعْضَاءِ فَإِذَا بَادَرَ الْمَسْمُومُ وَأَخْرَجَ الدّمَ خَرَجَتْ مَعَهُ تِلْكَ الْكَيْفِيّةُ السّمّيّةُ الّتِي خَالَطَتْهُ فَإِنْ كَانَ اسْتِفْرَاغًا تَامّا لَمْ يَضُرّهُ السّمّ بَلْ إمّا أَنْ يَذْهَبَ وَإِمّا أَنْ يَضْعُفَ فَتَقْوَى عَلَيْهِ الطّبِيعَةُ فَتُبْطِلُ فِعْلَهُ أَوْ تُضْعِفُهُ .
[ اسْتِشْهَادُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّمّ ]
(1/159)
وَلَمّا احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ فِي الْكَاهِلِ وَهُوَ أَقْرَبُ الْمَوَاضِعِ الّتِي يُمْكِنُ فِيهَا الْحِجَامَةُ إلَى الْقَلْبِ فَخَرَجَتْ الْمَادّةُ السّمّيّةُ مَعَ الدّمِ لَا خُرُوجًا كُلّيّا بَلْ بَقِيَ أَثَرُهَا مَعَ ضَعْفِهِ لِمَا يُرِيدُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ تَكْمِيلِ مَرَاتِبِ الْفَضْلِ كُلّهَا لَهُ فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ إكْرَامَهُ بِالشّهَادَةِ ظَهَرَ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْأَثَرِ الْكَامِنِ مِنْ السّمّ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَظَهَرَ سِرّ قَوْلِهِ تَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنْ الْيَهُودِ : أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [ الْبَقَرَةِ 87 ] فَجَاءَ بِلَفْظِ كَذّبْتُمْ بِالْمَاضِي الّذِي قَدْ وَقَعَ مِنْهُ وَتَحَقّقَ وَجَاءَ بِلَفْظِ " تَقْتُلُونَ " بِالْمُسْتَقْبَلِ الّذِي يَتَوَقّعُونَهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ السّحْرِ
(1/160)
الّذِي سَحَرَتْهُ الْيَهُودُ بِهِ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ هَذَا عَلَيْهِ وَظَنّوهُ نَقْصًا وَعَيْبًا وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا بَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ يَعْتَرِيهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَهُوَ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَإِصَابَتُهُ بِهِ كَإِصَابَتِهِ بِالسّمّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ سُحِرَ <114> رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إنْ كَانَ لَيُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَأْتِي نِسَاءَهُ وَلَمْ يَأْتِهِنّ وَذَلِكَ أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : وَالسّحْرُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَعَارِضٌ مِنْ الْعِلَلِ يَجُوزُ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ مِمّا لَا يُنْكَرُ وَلَا يَقْدَحُ فِي نُبُوّتِهِ وَأَمّا كَوْنُهُ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِ دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ صِدْقِهِ لِقِيَامِ الدّلِيلِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ هَذَا وَإِنّمَا هَذَا فِيمَا يَجُوزُ طُرُوّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ الّتِي لَمْ يُبْعَثُ لِسَبَبِهَا وَلَا فُضّلَ مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ فِيهَا عُرْضَةٌ لِلْآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنّهُ يُخَيّلَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمّ يَنْجَلِي عَنْهُ كَمَا كَانَ .
[ عِلَاجُ السّحْرِ ]
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ هَدْيِهِ فِي عِلَاجِ هَذَا الْمَرَضِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ نَوْعَانِ
[ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ وَإِبْطَالُهُ ]
(1/161)
أَحَدُهُمَا - وَهُوَ أَبْلَغُهُمَا - اسْتِخْرَاجُهُ وَإِبْطَالُهُ كَمَا صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ سَأَلَ رَبّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ فَدَلّ عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجَهُ مِنْ بِئْرٍ فَكَانَ فِي مُشْطٍ وَمَشّاطَةٍ وَجَفّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ فَلَمّا اسْتَخْرَجَهُ ذَهَبَ مَا بِهِ حَتّى كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَهَذَا مِنْ أَبْلَغِ مَا يُعَالَجُ بِهِ الْمَطْبُوبُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الْمَادّةِ الْخَبِيثَةِ وَقَلْعِهَا مِنْ الْجَسَدِ بِالِاسْتِفْرَاغِ .
[ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إليه أَذَى السّحْرِ ]
وَالنّوْعُ الثّانِي : الِاسْتِفْرَاغُ فِي الْمَحَلّ الّذِي يَصِلُ إلَيْهِ أَذَى السّحْرِ فَإِنّ لِلسّحْرِ تَأْثِيرًا فِي الطّبِيعَةِ وَهَيَجَانَ أَخْلَاطِهَا وَتَشْوِيشَ مِزَاجِهَا فَإِذَا ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي <115> عُضْوٍ وَأَمْكَنَ اسْتِفْرَاغُ الْمَادّةِ الرّدِيئَةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُضْوِ نَفَعَ جِدّا .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " لَهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ احْتَجَمَ عَلَى رَأْسِهِ بِقَرْنٍ حِينَ طُبّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَى طُبّ أَيْ سُحِرَ .
وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا عَلَى مَنْ قَلّ عِلْمُهُ وَقَالَ مَا لِلْحِجَامَةِ وَالسّحْرِ وَمَا الرّابِطَةُ بَيْنَ هَذَا الدّاءِ وَهَذَا الدّوَاءِ وَلَوْ وَجَدَ هَذَا الْقَائِلُ أَبُقْرَاطَ أَوْ ابْنَ سِينَا أَوْ غَيْرَهُمَا قَدْ
نَصّ عَلَى هَذَا الْعِلَاجِ لَتَلَقّاهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَقَالَ قَدْ نَصّ عَلَيْهِ مَنْ لَا يُشَكّ فِي مَعْرِفَتِهِ وَفَضْلِهِ .
(1/162)
فَاعْلَمْ أَنّ مَادّةَ السّحْرِ الّذِي أُصِيبَ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْتَهَتْ إلَى رَأْسِهِ إلَى إحْدَى قُوَاهُ الّتِي فِيهِ بِحَيْثُ كَانَ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَفْعَلُ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ وَهَذَا تَصَرّفٌ مِنْ السّاحِرِ فِي الطّبِيعَةِ وَالْمَادّةِ الدّمَوِيّةِ بِحَيْثُ غَلَبَتْ تِلْكَ الْمَادّةُ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَغَيّرَتْ مِزَاجَهُ عَنْ طَبِيعَتِهِ الْأَصْلِيّةِ .
وَالسّحْرُ هُوَ مُرَكّبٌ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ وَانْفِعَالِ الْقُوَى الطّبِيعِيّةِ عَنْهَا وَهُوَ أَشَدّ مَا يَكُونُ مِنْ السّحْرِ وَلَا سِيّمَا فِي الْمَوْضِعِ الّذِي انْتَهَى السّحْرُ إلَيْهِ وَاسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي تَضَرّرَتْ أَفْعَالُهُ بِالسّحْرِ مِنْ أَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ عَلَى الْقَانُونِ الّذِي يَنْبَغِي .
قَالَ أَبُقْرَاطُ الْأَشْيَاءُ الّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُسْتَفْرَغَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَفْرَغَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الّتِي هِيَ إلَيْهَا أَمْيَلُ بِالْأَشْيَاءِ الّتِي تَصْلُحُ لِاسْتِفْرَاغِهَا .
(1/163)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا أُصِيبَ بِهَذَا الدّاءِ وَكَانَ يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ فَعَلَ الشّيْءَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ ظَنّ أَنّ ذَلِكَ عَنْ مَادّةٍ دَمَوِيّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مَالَتْ إلَى جِهَةِ الدّمَاغِ وَغَلَبَتْ عَلَى الْبَطْنِ الْمُقَدّمِ مِنْهُ فَأَزَالَتْ مِزَاجَهُ عَنْ الْحَالَةِ <116> الطّبِيعِيّةِ لَهُ وَكَانَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَامَةِ إذْ ذَاكَ مِنْ أَبْلَغِ الْأَدْوِيَةِ وَأَنْفَعِ الْمُعَالَجَةِ فَاحْتَجَمَ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ أَنّ ذَلِكَ مِنْ السّحْرِ فَلَمّا جَاءَهُ الْوَحْيُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ سُحِرَ عَدَلَ إلَى الْعِلَاجِ الْحَقِيقِيّ وَهُوَ اسْتِخْرَاجُ السّحْرِ وَإِبْطَالُهُ فَسَأَلَ اللّهَ سُبْحَانَهُ فَدَلّهُ عَلَى مَكَانِهِ فَاسْتَخْرَجَهُ فَقَامَ كَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ وَكَانَ غَايَةُ هَذَا السّحْرِ فِيهِ إنّمَا هُوَ فِي جَسَدِهِ وَظَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَعْتَقِدُ صِحّةَ مَا يُخَيّلُ إلَيْهِ مِنْ إتْيَانِ النّسَاءِ بَلْ يَعْلَمُ أَنّهُ خَيَالٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَحْدُثُ مِنْ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ السّحْرِ بِالْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ ]
(1/164)
وَمِنْ أَنْفَعِ عِلَاجَاتِ السّحْرِ الْأَدْوِيَةُ الْإِلَهِيّةُ بَلْ هِيَ أَدْوِيَتُهُ النّافِعَةُ بِالذّاتِ فَإِنّهُ مِنْ تَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ السّفْلِيّةِ وَدَفْعُ تَأْثِيرِهَا يَكُونُ بِمَا يُعَارِضُهَا وَيُقَاوِمُهَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالْآيَاتِ وَالدّعَوَاتِ الّتِي تُبْطِلُ فِعْلَهَا وَتَأْثِيرَهَا وَكُلّمَا كَانَتْ أَقْوَى وَأَشَدّ كَانَتْ أَبْلَغَ فِي النّشْرَةِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِقَاءِ جَيْشَيْنِ مَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُدّتُهُ وَسِلَاحُهُ فَأَيّهُمَا غَلَبَ الْآخَرَ قَهَرَهُ وَكَانَ الْحُكْمُ لَهُ فَالْقَلْبُ إذَا كَانَ مُمْتَلِئًا مِنْ اللّهِ مَغْمُورًا بِذِكْرِهِ وَلَهُ مِنْ التّوَجّهَاتِ وَالدّعَوَاتِ وَالْأَذْكَارِ وَالتّعَوّذَاتِ وِرْدٌ لَا يُخِلّ بِهِ يُطَابِقُ فِيهِ قَلْبُهُ لِسَانَهُ كَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ الّتِي تَمْنَعُ إصَابَةَ السّحْرِ لَهُ وَمِنْ أَعْظَمِ الْعِلَاجَاتِ لَهُ بَعْدَ مَا يُصِيبُهُ . وَعِنْدَ السّحَرَةِ أَنّ سِحْرَهُمْ إنّمَا يَتِمّ تَأْثِيرُهُ فِي الْقُلُوبِ الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ وَالنّفُوسِ الشّهْوَانِيّةِ الّتِي هِيَ مُعَلّقَةٌ بِالسّفْلِيّاتِ وَلِهَذَا فَإِنّ غَالِبَ مَا يُؤَثّرُ فِي النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ وَالْجُهّالِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي وَمَنْ ضَعُفَ حَظّهُ مِنْ الدّينِ <117> وَالتّوَكّلِ وَالتّوْحِيدِ وَمَنْ لَا نَصِيبَ لَهُ مِنْ الْأَوْرَادِ الْإِلَهِيّةِ وَالدّعَوَاتِ وَالتّعَوّذَاتِ النّبَوِيّةِ .
(1/165)
وَبِالْجُمْلَةِ فَسُلْطَانُ تَأْثِيرِهِ فِي الْقُلُوبِ الضّعِيفَةِ الْمُنْفَعِلَةِ الّتِي يَكُونُ مَيْلُهَا إلَى السّفْلِيّاتِ قَالُوا : وَالْمَسْحُورُ هُوَ الّذِي يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنّا نَجِدُ قَلْبَهُ مُتَعَلّقًا بِشَيْءٍ كَثِيرِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ فَيَتَسَلّطُ عَلَى قَلْبِهِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَيْلِ وَالِالْتِفَاتِ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ إنّمَا تَتَسَلّطُ عَلَى أَرْوَاحٍ تَلْقَاهَا مُسْتَعِدّةً لِتَسَلّطِهَا عَلَيْهَا بِمَيْلِهَا إلَى مَا يُنَاسِبُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ الْخَبِيثَةَ وَبِفَرَاغِهَا مِنْ الْقُوّةِ الْإِلَهِيّةِ وَعَدَمِ أَخْذِهَا لِلْعُدّةِ الّتِي تُحَارِبُهَا بِهَا فَتَجِدُهَا فَارِغَةً لَا عُدّةَ مَعَهَا وَفِيهَا مَيْلٌ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا فَتَتَسَلّطُ عَلَيْهَا وَيَتَمَكّنُ تَأْثِيرُهَا فِيهَا بِالسّحْرِ وَغَيْرِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الِاسْتِفْرَاغِ بِالْقَيْءِ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاءَ فَتَوَضّأَ فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ صَدَقَ أَنَا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ .
قَالَ التّرْمِذِيّ وَهَذَا أَصَحّ شَيْءٍ فِي الْبَابِ .
[ أُصُولُ الِاسْتِفْرَاغِ ]
الْقَيْءُ أَحَدُ الْاِسْتِفْرَاغَات الْخَمْسَةِ الّتِي هِيَ أُصُولُ الِاسْتِفْرَاغِ وَهِيَ الْإِسْهَالُ وَالْقَيْءُ وَإِخْرَاجُ الدّمِ وَخُرُوجُ الْأَبْخِرَةِ وَالْعَرَقِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهَا السّنّةُ .
<118> فَأَمّا الْإِسْهَالُ فَقَدْ مَرّ فِي حَدِيثِ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْمَشْيُ وَفِي حَدِيثٍ " السّنَا " .
(1/166)
وَأَمّا إخْرَاجُ الدّمِ فَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَحَادِيثِ الْحِجَامَةِ .
وَأَمّا اسْتِفْرَاغُ الْأَبْخِرَةِ فَنَذْكُرُهُ عَقِيبَ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
وَأَمّا الِاسْتِفْرَاغُ بِالْعَرَقِ فَلَا يَكُونُ غَالِبًا بِالْقَصْدِ بَلْ بِدَفْعِ الطّبِيعَةِ لَهُ إلَى ظَاهِرِ الْجَسَدِ فَيُصَادِفُ الْمَسَامّ مُفَتّحَةً فَيَخْرُجُ مِنْهَا .
[ أَنْوَاعُ الْقَيْءِ ]
وَالْقَيْءُ اسْتِفْرَاغٌ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَالْحُقْنَةُ مِنْ أَسْفَلِهَا وَالدّوَاءُ مِنْ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلِهَا وَالْقَيْءُ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِالْغَلَبَةِ وَالْهَيَجَانِ وَنَوْعٌ بِالِاسْتِدْعَاءِ وَالطّلَبِ . فَأَمّا الْأَوّلُ فَلَا يَسُوغُ حَبْسُهُ وَدَفْعُهُ إلّا إذَا أَفْرَطَ وَخِيفَ مِنْهُ التّلَفُ . فَيُقْطَعُ بِالْأَشْيَاءِ الّتِي تُمْسِكُهُ . وَأَمّا الثّانِي : فَأَنْفَعُهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إذَا رُوعِيَ زَمَانُهُ وَشُرُوطُهُ الّتِي تُذْكَرُ .
[ أَسْبَابُ الْقَيْءِ ]
وَأَسْبَابُ الْقَيْءِ عَشَرَةٌ
أَحَدُهَا : غَلَبَةُ الْمُرّةِ الصّفْرَاءِ وَطَفْوُهَا عَلَى رَأْسِ الْمَعِدَةِ فَتَطْلُبُ الصّعُودَ .
الثّانِي : مِنْ غَلَبَةِ بَلْغَمٍ لَزِجٍ قَدْ تَحَرّكَ فِي الْمَعِدَةِ وَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ .
الثّالِثُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ضَعْفِ الْمَعِدَةِ فِي ذَاتِهَا فَلَا تَهْضِمُ الطّعَامَ فَتَقْذِفُهُ إلَى جِهَةِ فَوْقَ .
الرّابِعُ أَنْ يُخَالِطَهَا خَلْطٌ رَدِيءٌ يَنْصَبّ إلَيْهَا فَيُسِيءُ هَضْمَهَا وَيُضْعِفُ فِعْلَهَا .
الْخَامِسُ أَنْ يَكُونَ مِنْ زِيَادَةِ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ عَلَى الْقَدْرِ الّذِي تَحْتَمِلُهُ الْمَعِدَةُ فَتَعْجِزُ عَنْ إمْسَاكِهِ فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ .
(1/167)
السّادِسُ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَهَا وَكَرَاهَتِهَا لَهُ فَتَطْلُبُ دَفْعَهُ وَقَذْفَهُ . <119>
السّابِعُ أَنْ يَحْصُلَ فِيهَا مَا يُثَوّرُ الطّعَامَ بِكَيْفِيّتِهِ وَطَبِيعَتِهِ فَتَقْذِفُ بِهِ .
الثّامِنُ الْقَرَفُ وَهُوَ مُوجِبُ غَثَيَانِ النّفْسِ وَتَهَوّعِهَا .
[ الْأَعْرَاضُ النّفْسَانِيّةُ مِنْ أَسْبَابِ الْقَيْءِ ]
التّاسِعُ مِنْ الْأَعْرَاضِ النّفْسَانِيّةِ كَالْهَمّ الشّدِيدِ وَالْغَمّ وَالْحَزَنِ وَغِبّةِ اشْتِغَالِ الطّبِيعَةِ وَالْقُوَى الطّبِيعِيّةِ بِهِ وَاهْتِمَامِهَا بِوُرُودِهِ عَنْ تَدْبِيرِ الْبَدَنِ وَإِصْلَاحِ الْغِذَاءِ وَإِنْضَاجِهِ وَهَضْمِهِ فَتَقْذِفُهُ الْمَعِدَةُ وَقَدْ يَكُونُ لِأَجْلِ تَحَرّكِ الْأَخْلَاطِ عِنْدَ تَخَبّطِ النّفْسِ فَإِنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ النّفْسِ وَالْبَدَنِ يَنْفَعِلُ عَنْ صَاحِبِهِ وَيُؤَثّرُ فِي كَيْفِيّتِهِ . الْعَاشِرُ نَقْلُ الطّبِيعَةِ بِأَنْ يَرَى مَنْ يَتَقَيّأُ فَيَغْلِبُهُ هُوَ الْقَيْءُ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْعَاءٍ فَإِنّ الطّبِيعَةَ نَقّالَةٌ .
[ إخْبَارُ أَحَدِ الْأَطِبّاءِ الْمُصَنّفِ بِقِصّتَيْنِ عَنْ نَقْلِ الْمَرَضِ بِرُؤْيَةِ الْمَرِيضِ ]
(1/168)
وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ حُذّاقِ الْأَطِبّاءِ قَالَ كَانَ لِي ابْنُ أُخْتٍ حَذَقَ فِي الْكُحْلِ فَجَلَسَ كَحّالًا فَكَانَ إذَا فَتَحَ عَيْنَ الرّجُلِ وَرَأَى الرّمَدَ وَكَحّلَهُ رَمِدَ هُوَ وَتَكَرّرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَتَرَكَ الْجُلُوسَ . قُلْتُ لَهُ فَمَا سَبَبُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَقْلُ الطّبِيعَةِ فَإِنّهَا نَقّالَةٌ قَالَ وَأَعْرِفُ آخَرَ كَانَ رَأَى خُرّاجًا فِي مَوْضِعٍ مِنْ جِسْمِ رَجُلٍ يَحُكّهُ فَحَكّ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَخَرَجَتْ فِيهِ خَرّاجَةٌ . قُلْتُ وَكُلّ هَذَا لَا بُدّ فِيهِ مِنْ اسْتِعْدَادِ الطّبِيعَةِ وَتَكُونُ الْمَادّةُ سَاكِنَةً فِيهَا غَيْرَ مُتَحَرّكَةٍ فَتَتَحَرّكُ لِسَبَبٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَهَذِهِ أَسْبَابٌ لِتَحَرّكِ الْمَادّةِ لَا أَنّهَا هِيَ الْمُوجِبَةُ لِهَذَا الْعَارِضِ .
فَصْلٌ [أَنْفَعُ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ لِلْقَيْءِ وَالْإِسْهَالِ ]
وَلَمّا كَانَتْ الْأَخْلَاطُ فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ وَالْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ تَرِقّ وَتَنْجَذِبُ إلَى فَوْقٍ كَانَ الْقَيْءُ فِيهَا أَنْفَعَ . وَلَمّا كَانَتْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْبَارِدَةِ وَالْبِلَادِ الْبَارِدَةِ تَغْلُظُ وَيَصْعُبُ جَذْبُهَا إلَى فَوْقٍ كَانَ اسْتِفْرَاغُهَا بِالْإِسْهَالِ أَنْفَعَ .
[ كَيْفِيّةُ إزَالَةِ الْأَخْلَاطِ وَدَفْعِهَا ]
وَإِزَالَةِ الْأَخْلَاطِ وَدَفْعِهَا تَكُونُ بِالْجَذْبِ وَالِاسْتِفْرَاغُ وَالْجَذْبُ يَكُونُ مِنْ أَبْعَدِ الطّرُقِ وَالِاسْتِفْرَاغُ مِنْ أَقْرَبِهَا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْمَادّةَ إذَا كَانَتْ عَامِلَةً فِي
(1/169)
<120> الِانْصِبَابِ أَوْ التّرَقّي لَمْ تَسْتَقِرّ بَعْدُ فَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى الْجَذْبِ فَإِنْ كَانَتْ مُتَصَاعِدَةً جُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْصَبّةً جُذِبَتْ مِنْ فَوْقٍ وَأَمّا إذَا اسْتَقَرّتْ فِي مَوْضِعِهَا اسْتَفْرَغَتْ مِنْ أَقْرَبِ الطّرُقِ إلَيْهَا فَمَتَى أَضَرّتْ الْمَادّةُ بِالْأَعْضَاءِ الْعُلْيَا اُجْتُذِبَتْ مِنْ أَسْفَلَ وَمَتَى أَضَرّتْ بِالْأَعْضَاءِ السّفْلَى اُجْتُذِبَتْ مِنْ فَوْقٍ وَمَتَى اسْتَقَرّتْ اسْتَفْرَغَتْ مِنْ أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهَا وَلِهَذَا احْتَجَمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كَاهِلِهِ تَارَةً وَفِي رَأْسِهِ أُخْرَى وَعَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ تَارَةً فَكَانَ يَسْتَفْرِغُ مَادّةَ الدّمِ الْمُؤْذِي مِنْ أَقْرَبِ مَكَانٍ إلَيْهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [فَوَائِدُ الْقَيْءِ ]
وَالْقَيْءُ يُنَقّي الْمَعِدَةَ وَيُقَوّيهَا وَيُحِدّ الْبَصَرَ وَيُزِيلُ ثِقَلَ الرّأْسِ وَيَنْفَعُ قُرُوحَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْفَالِجِ وَالرّعْشَةِ وَيَنْفَعُ الْيَرَقَانَ .
[ وَقْتُ الْقَيْءِ ]
[ضَرَرُ الْإِكْثَارِ مِنْ الْقَيْءِ ]
[ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهُ ]
(1/170)
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ الصّحِيحُ فِي الشّهْرِ مَرّتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ حِفْظِ دَوْرٍ لِيَتَدَارَكَ الثّانِي مَا قَصّرَ عَنْهُ الْأَوّلُ وَيُنَقّي الْفَضَلَاتِ الّتِي انْصَبّتْ بِسَبَبِهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَضُرّ الْمَعِدَةَ وَيَجْعَلُهَا قَابِلَةً لِلْفُضُولِ وَيَضُرّ بِالْأَسْنَانِ وَالْبَصَرِ وَالسّمْعِ وَرُبّمَا صَدَعَ عِرْقًا وَيَجِبُ أَنْ يَجْتَنِبَهُ مَنْ بِهِ وَرَمٌ فِي الْحَلْقِ أَوْ ضَعْفٌ فِي الصّدْرِ أَوْ دَقِيقَ الرّقَبَةِ أَوْ مُسْتَعِدّ لِنَفْثِ الدّمِ أَوْ عُسْرِ الْإِجَابَةِ لَهُ .
[ مَضَارّ الْقَيْءِ بَعْدَ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ ]
وَأَمّا مَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِمّنْ يُسِيءُ التّدْبِيرَ وَهُوَ أَنْ يَمْتَلِئَ مِنْ الطّعَامِ ثُمّ يَقْذِفُهُ فَفِيهِ آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّهُ يُعَجّلُ الْهَرَمَ وَيُوقِعُ فِي أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ وَيَجْعَلُ الْقَيْءَ لَهُ عَادَةً . وَالْقَيْءُ مَعَ الْيُبُوسَةِ وَضَعْفِ الْأَحْشَاءِ وَهُزَالِ الْمَرَاقّ . أَوْ ضَعْفِ الْمُسْتَقِيءِ خَطَرٌ ... <121>
[ أَفْضَلُ أَوْقَاتِهِ وَكَيْفِيّتُهُ ]
وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِهِ الصّيْفُ وَالرّبِيعُ دُونَ الشّتَاءِ وَالْخَرِيفِ وَيَنْبَغِي عِنْدَ الْقَيْءِ أَنْ يَعْصِبَ الْعَيْنَيْنِ وَيَقْمِطَ الْبَطْنَ وَيَغْسِلُ الْوَجْهَ بِمَاءٍ بَارِدٍ عِنْدَ الْفَرَاغِ وَأَنْ يَشْرَبَ عَقِيبَهُ شَرَابَ التّفّاحِ مَعَ يَسِيرٍ مِنْ مُصْطَكَى وَمَاءُ الْوَرْدِ يَنْفَعُهُ نَفْعًا بَيّنًا .
[الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَيْءِ وَالِاسْتِفْرَاغِ ]
(1/171)
وَالْقَيْءُ يُسْتَفْرَغُ مِنْ أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَيُجْذَبُ مِنْ أَسْفَلَ وَالْإِسْهَالُ بِالْعَكْسِ قَالَ أَبِقِرَاطٍ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْرَاغُ فِي الصّيْفِ مِنْ فَوْقٍ أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِفْرَاغِ بِالدّوَاءِ وَفِي الشّتَاءِ مِنْ أَسْفَلَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْإِرْشَادِ إلَى مُعَالَجَةِ أَحْذَقِ الطّبِيبَيْنِ
ذَكَرَ مَالِكٌ فِي " مُوَطّئِهِ " : عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ رَجُلًا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصَابَهُ جُرْحٌ فَاحْتَقَنَ الْجُرْحُ الدّمَ وَأَنّ الرّجُلَ دَعَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي أَنْمَار ٍ فَنَظَرَا إلَيْهِ فَزَعَمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمَا : " أَيّكُمَا أَطَبّ ؟ فَقَالَ أَوَ فِي الطّبّ خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ
[ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ ]
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ يَنْبَغِي الِاسْتِعَانَةُ فِي كُلّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ بِأَحْذَقِ مَنْ فِيهَا فَالْأَحْذَقِ فَإِنّهُ إلَى الْإِصَابَةِ أَقْرَبُ .
وَهَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى مَا نَزَلَ بِهِ بِالْأَعْلَمِ فَالْأَعْلَمِ لِأَنّهُ أَقْرَبُ إصَابَةً مِمّنْ هُوَ دُونَهُ .
(1/172)
وَكَذَلِكَ مَنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنّهُ يُقَلّدُ أَعْلَمَ مَنْ يَجِدُهُ وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللّهُ عِبَادَهُ كَمَا أَنّ الْمُسَافِرَ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ إنّمَا سُكُونُ نَفْسِهِ وَطُمَأْنِينَتُهُ إلَى <122> أَحْذَقِ الدّلِيلَيْنِ وَأَخْبَرِهِمَا وَلَهُ يَقْصِدُ وَعَلَيْهِ يَعْتَمِدُ فَقَدْ اتّفَقَتْ عَلَى هَذَا الشّرِيعَةُ وَالْفِطْرَةُ وَالْعَقْلُ .
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْزَلَ الدّوَاءَ الّذِي أَنْزَلَ الدّاءَ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ عَنْهُ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ يِسَافٍ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ فَقَالَ " أَرْسِلُوا إلَى طَبِيبٍ " فَقَالَ قَائِلٌ وَأَنْتَ تَقُولُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " نَعَمْ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إلّا أَنْزَلَ لَهُ دَوَاءً
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ مَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ دَاءٍ إلّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ .
[ مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ ]
(1/173)
" وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى أُنْزِلَ الدّاءُ وَالدّوَاءُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِهِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرَ بِعُمُومِ الْإِنْزَالِ لِكُلّ دَاءٍ وَدَوَائِهِ وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَلِهَذَا قَالَ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا : خَلْقُهُمَا وَوَضْعُهُمَا فِي الْأَرْضِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إنّ اللّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إلّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الّذِي قَبْلَهُ فَلَفْظَةُ الْإِنْزَالِ أَخَصّ مِنْ لَفْظَةِ الْخَلْقِ وَالْوَضْعِ فَلَا يَنْبَغِي إسْقَاطُ خُصُوصِيّةِ اللّفْظَةِ بِلَا مُوجِبٍ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنْزَالُهُمَا بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكّلِينَ بِمُبَاشَرَةِ الْخَلْقِ مِنْ دَاءٍ وَدَوَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنّ الْمَلَائِكَةَ مُوَكّلَةٌ بِأَمْرِ هَذَا الْعَالَمِ وَأَمْرِ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ فِي رَحِمِ أُمّهِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَإِنْزَالُ الدّاءِ وَالدّوَاءِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا أَقْرَبُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَهُ .
(1/174)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ عَامّةَ الْأَدْوَاءِ وَالْأَدْوِيَةِ هِيَ بِوَاسِطَةِ إنْزَالِ الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ الّذِي تَتَوَلّدُ بِهِ الْأَغْذِيَةُ وَالْأَقْوَاتُ وَالْأَدْوِيَةُ وَالْأَدْوَاءُ وَآلَاتُ ذَلِكَ كُلّهِ وَأَسْبَابُهُ وَمُكَمّلَاتُهُ وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ الْمَعَادِنِ الْعُلْوِيّةِ فَهِيَ تَنْزِلُ مِنْ الْجِبَالِ وَمَا <123> كَانَ مِنْهَا مِنْ الْأَوْدِيَةِ وَالْأَنْهَارِ وَالثّمَارِ فَدَاخِلٌ فِي اللّفْظِ عَلَى طَرِيقِ التّغْلِيبِ وَالِاكْتِفَاءِ عَنْ الْفِعْلَيْنِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ يَتَضَمّنهُمَا وَهُوَ مَعْرُوفٌ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بَلْ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأُمَمِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
حَتَى غَدَتْ هَمّالَةً عَيْنَاهَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
مُتَقَلّدًا سَيْفًا وَرُمْحًا
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ
إذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا
وَزَجّجْنَ الْحَوَاجِبَ والعُيونَا
وَهَذَا أَحْسَنُ مِمّا قَبْلَهُ مِنْ الْوُجُوهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
[ كَمَا يَبْتَلِي اللّهُ عِبَادَهُ فَإِنّهُ يُيَسّرُ لَهُمْ مَا يُضَادّهُ ]
(1/175)
وَهَذَا مِنْ تَمَامِ حِكْمَةِ الرّبّ عَزّ وَجَلّ وَتَمَامِ رُبُوبِيّتِهِ فَإِنّهُ كَمَا ابْتَلَى عِبَادَهُ بِالْأَدْوَاءِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالذّنُوبِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِالتّوْبَةِ وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفّرَةِ وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ مِنْ الشّيَاطِينِ أَعَانَهُمْ عَلَيْهَا بِجُنْدٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ الطّيّبَةِ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ . وَكَمَا ابْتَلَاهُمْ بِالشّهَوَاتِ أَعَانَهُمْ عَلَى قَضَائِهَا بِمَا يَسّرَهُ لَهُمْ شَرْعًا وَقَدَرًا مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ اللّذِيذَةِ النّافِعَةِ فَمَا ابْتَلَاهُمْ سُبْحَانَهُ بِشَيْءٍ إلّا أَعْطَاهُمْ مَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ <124> عَلَى ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَيَدْفَعُونَهُ بِهِ وَيَبْقَى التّفَاوُتُ بَيْنَهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ وَالْعِلْمِ بِطَرِيقِ حُصُولِهِ وَالتّوَصّلِ إلَيْهِ وَبِاَللّهِ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي تَضْمِينِ مَنْ طَبّ النّاسَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطّبّ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ الطّبّ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ
هَذَا الْحَدِيثُ يَتَعَلّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ أَمْرٌ لُغَوِيّ وَأَمْرٌ فِقْهِيّ وَأَمْرٌ طِبّيّ .
[مَعْنَى الطّبّ لُغَةً ]
فَأَمّا اللّغَوِيّ فَالطّبّ بِكَسْرِ الطّاءِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُقَالُ عَلَى مَعَانٍ . مِنْهَا الْإِصْلَاحُ يُقَالُ طَبّبْتُهُ إذَا أَصْلَحْته . وَيُقَالُ لَهُ طِبّ بِالْأُمُورِ . أَيْ لُطْفٌ وَسِيَاسَةٌ . قَالَ الشّاعِرُ
(1/176)
وَإِذَا تَغَيّرَ مِنْ تَمِيمٍ أَمْرُهَا
كُنْت الطّبِيبَ لَهَا بِرَأْيٍ ثَاقِبٍ
وَمِنْهَا : الْحِذْقُ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : كُلّ حَاذِقٍ طَبِيبٌ عِنْدَ الْعَرَبِ قَالَ أَبُو عَبِيدٍ : أَصْلُ الطّبّ : الْحِذْقُ بِالْأَشْيَاءِ وَالْمَهَارَةُ بِهَا . يُقَالُ لِلرّجُلِ طِبّ وَطَبِيبٌ إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ عِلَاجِ الْمَرِيضِ . وَقَالَ غَيْرُهُ رَجُلٌ طَبِيبٌ أَيْ حَاذِقٌ سُمّيَ طَبِيبًا لِحِذْقِهِ وَفِطْنَتِهِ . قَالَ عَلْقَمَةُ
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنّسَاءِ فَإِنّنِي
خَبِيرٌ بأْدْوَاءِ النّسَاءِ طَبِيبٌ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلّ مَالُهُ
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدّهِنّ نَصِيبُ
<125> وَقَالَ عَنْتَرَةُ :
إنْ تُغْدِ فِي دُونِي الْقِنَاعَ فَإنّني
طِبّ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أَيْ إنْ تُرْخِي عَنّي قِنَاعَك وَتَسْتُرِي وَجْهَك رَغْبَةً عَنّي فَإِنّي خَبِيرٌ حَاذِقٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الّذِي قَدْ لَبِسَ لَأْمَةَ حَرْبِهِ . وَمِنْهَا : الْعَادَةُ يُقَالُ لَيْسَ ذَاكَ بِطِبّي أَيْ عَادَتِي قَالَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ : <126>
فَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ
مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُتَنَبّي :
وَمَا التّيهُ طِبّي فِيهِمْ غَيْرَ أَنّنِي
بَغِيضٌ إلَيّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
وَمِنْهَا : السّحْرُ يُقَالُ رَجُلٌ مَطْبُوبٌ أَيْ مَسْحُورٌ وَفِي " الصّحِيحِ " فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ لَمّا سَحَرَتْ يَهُودُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَلَسَ الْمَلَكَانِ عِنْدَ رَأْسِهِ وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا بَالُ الرّجُلِ ؟ قَالَ الْآخَرُ مَطْبُوبٌ . قَالَ مَنْ طَبّهُ ؟ قَالَ فُلَانٌ الْيَهُودِيّ .
(1/177)
قَالَ أَبُو عَبِيدٍ : إنّمَا قَالُوا لِلْمَسْحُورِ مَطْبُوبٌ لِأَنّهُمْ كَنّوْا بِالطّبّ عَنْ السّحْرِ كَمَا كَنّوْا عَنْ اللّدِيغِ فَقَالُوا : سَلِيمٌ تَفَاؤُلًا بِالسّلَامَةِ وَكَمَا كَنّوْا بِالْمَفَازَةِ عَنْ الْفَلَاةِ الْمُهْلِكَةِ الّتِي لَا مَاءَ فِيهَا فَقَالُوا : مَفَازَةً تَفَاؤُلًا بِالْفَوْزِ مِنْ الْهَلَاكِ . وَيُقَالُ الطّبّ لِنَفْسِ الدّاءِ . قَالَ ابْنُ أَبِي الْأَسْلَتِ :
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ حَسّا نَ عَنّي
أَسِحْرٌ كَانَ طِبّكَ أَمْ جُنُونٌ
وَأَمّا قَوْلُ الْحَمَاسِيّ :
فَإِنْ كُنْتَ مَطْبُوبًا فَلَا زِلْتَ هَكَذَا
وَإِنْ كُنْتَ مَسْحُورًا فَلَا بَرِئَ السّحْرُ
<127> فَإِنّهُ أَرَادَ بِالْمَطْبُوبِ الّذِي قَدْ سُحِرَ وَأَرَادَ بِالْمَسْحُورِ الْعَلِيلُ بِالْمَرَضِ . قَالَ الْجَوْهَرِيّ : وَيُقَالُ لِلْعَلِيلِ مَسْحُورٌ . وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ . وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ هَذَا الّذِي قَدْ عَرَانِي مِنْك وَمِنْ حُبّك أَسْأَلُ اللّهَ دَوَامَهُ وَلَا أُرِيدُ زَوَالَهُ سَوَاءٌ كَانَ سِحْرًا أَوْ مَرَضًا .
وَالطّبّ : مُثَلّثُ الطّاءِ فَالْمَفْتُوحُ الطّاءِ هُوَ الْعَالِمُ بِالْأُمُورِ وَكَذَلِكَ الطّبِيبُ يُقَالُ لَهُ طِبّ أَيْضًا . وَالطّبّ : بِكَسْرِ الطّاءِ فِعْلُ الطّبِيبِ وَالطّبّ بِضَمّ الطّاءِ اسْمُ مَوْضِعٍ قَالَهُ ابْنُ السّيّدِ وَأَنْشَدَ
فَقُلْتُ هَلْ انْهَلْتُمْ بِطُبّ رِكَابِكُمْ
بِجَائِزَةِ الْمَاءِ الّتِي طَابَ طِينُهَا
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَطَبّبَ وَلَمْ يَقُلْ مَنْ طُبّ لِأَنّ لَفْظَ التّفَعّلِ يَدُلّ عَلَى تَكَلّفِ الشّيْءِ وَالدّخُولِ فِيهِ بِعُسْرٍ وَكُلْفَةٍ وَأَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَتَحَلّمَ وَتَشَجّعَ وَتَصَبّرَ وَنَظَائِرِهَا وَكَذَلِكَ بَنَوْا تَكَلّفَ عَلَى هَذَا الْوَزْنِ قَالَ الشّاعِرُ
(1/178)
وَقَيْسُ عَيْلانَ وَمَنْ تَقَيّسَا
[إيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ ]
وَأَمّا الْأَمْرُ الشّرْعِيّ فَإِيجَابُ الضّمَانِ عَلَى الطّبِيبِ الْجَاهِلِ فَإِذَا تَعَاطَى عِلْمَ الطّبّ وَعَمَلَهُ وَلَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ فَقَدْ هَجَمَ بِجَهْلِهِ عَلَى إتْلَافِ الْأَنْفُسِ وَأَقْدَمَ بِالتّهَوّرِ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ فَيَكُونُ قَدْ غَرّرَ بِالْعَلِيلِ فَيَلْزَمُهُ الضّمَانُ لِذَلِكَ <128> وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ الْخَطّابِي : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنّ الْمُعَالِجَ إذَا تَعَدّى فَتَلِفَ الْمَرِيضُ كَانَ ضَامِنًا وَالْمُتَعَاطِي عِلْمًا أَوْ عَمَلًا لَا يَعْرِفُهُ مُتَعَدّ فَإِذَا تَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ التّلَفُ ضِمْنَ الدّيَةَ وَسَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ لِأَنّهُ لَا يَسْتَبِدّ بِذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ الْمَرِيضِ وَجِنَايَةُ الْمُتَطَبّبِ فِي قَوْلِ عَامّةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
[ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ مِنْ جِهَةِ إتْلَافِ الْأَعْضَاءِ وَذِكْرُ الْقِسْمِ الْأَوّلِ ]
(1/179)
قُلْت : الْأَقْسَامُ خَمْسَةٌ أَحَدُهَا : طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا وَلَمْ تَجْنِ يَدُهُ فَتَوَلّدَ مِنْ فِعْلِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الشّارِعِ وَمِنْ جِهَةِ مَنْ يَطِبّهُ تَلَفُ الْعُضْوِ أَوْ النّفْسِ أَوْ ذَهَابُ صِفَةٍ فَهَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اتّفَاقًا فَإِنّهَا سِرَايَةُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَهَذَا كَمَا إذَا خَتَنَ الصّبِيّ فِي وَقْتٍ وَسِنّهُ قَابِلٌ لِلْخِتَانِ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَتَلِفَ الْعُضْوُ أَوْ الصّبِيّ لَمْ يَضْمَنْ وَكَذَلِكَ إذَا بَطّ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَنْبَغِي بَطّهُ فِي وَقْتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي فَتَلِفَ بِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَهَكَذَا سِرَايَةُ كُلّ مَأْذُونٍ فِيهِ لَمْ يَتَعَدّ الْفَاعِلُ فِي سَبَبِهَا كَسِرَايَةِ الْحَدّ بِالِاتّفَاقِ .
وَسِرَايَةِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِهِ الضّمَانَ بِهَا وَسِرَايَةِ التّعْزِيرِ وَضَرْبِ الرّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمُعَلّمِ الصّبِيّ وَالْمُسْتَأْجِرِ الدّابّةَ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشّافِعِيّ فِي إيجَابِهِمَا الضّمَانَ فِي ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى الشّافِعِيّ ضَرْبَ الدّابّةِ . وَقَاعِدَةُ الْبَابِ إجْمَاعًا وَنِزَاعًا : أَنّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ مَضْمُونَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَسِرَايَةُ الْوَاجِبِ مُهْدَرَةٌ بِالِاتّفَاقِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَفِيهِ النّزَاعُ .
(1/180)
فَأَبُو حَنِيفَةَ أَوْجَبَ ضَمَانَهُ مُطْلَقًا وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ أَهْدَرَا ضَمَانَهُ وَفَرّقَ الشّافِعِيّ بَيْنَ الْمُقَدّرِ فَأَهْدَرَ ضَمَانَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُقَدّرِ فَأَوْجَبَ ضَمَانَهُ . فَأَبُو حَنِيفَةَ نَظَرَ إلَى أَنّ الْإِذْنَ فِي الْفِعْلِ إنّمَا وَقَعَ مَشْرُوطًا بِالسّلَامَةِ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ نَظَرَا إلَى أَنّ الْإِذْنَ أَسْقَطَ الضّمَانَ وَالشّافِعِيّ نَظَرَ إلَى أَنّ الْمُقَدّرَ لَا يُمْكِنُ النّقْصَانُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النّصّ وَأَمّا غَيْرُ الْمُقَدّرِ كَالتّعْزِيرَاتِ وَالتّأْدِيبَاتِ فَاجْتِهَادِيّةٌ فَإِذَا تَلِفَ بِهَا ضَمِنَ لِأَنّهُ فِي مَظِنّةِ الْعُدْوَانِ . <129>
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّانِي ]
الْقِسْمُ الثّانِي : مُطَبّبٌ جَاهِلٌ بَاشَرَتْ يَدُهُ مَنْ يَطِبّهُ فَتَلِفَ بِهِ فَهَذَا إنْ عَلِمَ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ أَنّهُ جَاهِلٌ لَا عِلْمَ لَهُ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَا تُخَالِفُ هَذِهِ الصّورَةُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ فَإِنّ السّيَاقَ وَقُوّةَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ غَرّ الْعَلِيلَ وَأَوْهَمَهُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنْ ظَنّ الْمَرِيضُ أَنّهُ طَبِيبٌ وَأَذِنَ لَهُ فِي طِبّهِ لِأَجْلِ مَعْرِفَتِهِ ضَمِنَ الطّبِيبُ مَا جَنَتْ يَدُهُ وَكَذَلِكَ إنْ وَصَفَ لَهُ دَوَاءً يَسْتَعْمِلُهُ وَالْعَلِيلُ يَظُنّ أَنّهُ وَصَفَهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَحِذْقِهِ فَتَلِفَ بِهِ ضَمِنَهُ وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ أَوْ صَرِيحٌ .
فَصْلٌ [ الْقِسْمُ الثّالِثُ ]
(1/181)
الْقِسْمُ الثّالِثُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَذِنَ لَهُ وَأَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا لَكِنّهُ أَخْطَأَتْ يَدُهُ وَتَعَدّتْ إلَى عُضْوٍ صَحِيحٍ فَأَتْلَفَهُ مِثْلَ أَنْ سَبَقَتْ يَدُ الْخَاتِنِ إلَى الْكَمَرَةِ فَهَذَا يَضْمَنُ لِأَنّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ ثُمّ إنْ كَانَتْ الثّلُثَ فَمَا زَادَ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ فَهَلْ تَكُونُ الدّيَةُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ . وَقِيلَ إنْ كَانَ الطّبِيبُ ذِمّيّا فَفِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فَفِيهِ الرّوَايَتَانِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ تَعَذّرَ تَحْمِيلُهُ فَهَلْ تَسْقُطُ الدّيَةُ أَوْ تَجِبُ فِي مَالِ الْجَانِي ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَشْهُرُهُمَا : سُقُوطُهَا .
فَصْلٌ [الْقِسْمُ الرّابِعُ ]
الْقِسْمُ الرّابِعُ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ الْمَاهِرُ بِصَنَاعَتِهِ اجْتَهَدَ فَوَصَفَ لِلْمَرِيضِ دَوَاءً فَأَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَقَتَلَهُ فَهَذَا يُخَرّجُ عَلَى رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : أَنّ دِيَةَ الْمَرِيضِ فِي بَيْتِ الْمَالِ . وَالثّانِيَةُ أَنّهَا عَلَى عَاقِلَةِ الطّبِيبِ وَقَدْ نَصّ عَلَيْهِمَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي خَطَأِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ . <130>
فصل [ الْقِسْمُ الْخَامِسُ ]
(1/182)
الْقِسْمُ الْخَامِسُ طَبِيبٌ حَاذِقٌ أَعْطَى الصّنْعَةَ حَقّهَا فَقَطَعَ سِلْعَةً مِنْ رَجُلٍ أَوْ صَبِيّ أَوْ مَجْنُونٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ إذْنِ وَلِيّهِ أَوْ خَتَنَ صَبِيّا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَتَلِفَ فَقَالَ أَصْحَابُنَا : يَضْمَنُ لِأَنّهُ تَوَلّدَ مِنْ فِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْبَالِغُ أَوْ وَلِيّ الصّبِيّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَضْمَنْ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَضْمَنَ مُطْلَقًا لِأَنّهُ مُحْسِنٌ وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا فَلَا أَثَرَ لِإِذْنِ الْوَلِيّ فِي إسْقَاطِ الضّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدّيًا فَلَا وَجْهَ لِضَمَانِهِ . فَإِنْ قُلْت : هُوَ مُتَعَدّ عِنْدَ عَدَمِ الْإِذْنِ غَيْرُ مُتَعَدّ عِنْدَ الْإِذْنِ قُلْت : الْعُدْوَانُ وَعَدَمُهُ إنّمَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِهِ هُوَ فَلَا أَثَرَ لِلْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فِيهِ وَهَذَا مَوْضِعُ نَظَرٍ .
فَصْلٌ أَقْسَامُ الْأَطِبّاءِ الْمَذْكُورَةُ سَابِقًا تَتَنَاوَلُ الطّبّ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا إنْسَانًا أَوْ حَيَوَانًا وَاسْمَ كُلّ مِنْهُمْ
(1/183)
وَالطّبِيبُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَتَنَاوَلُ مَنْ يَطِبّ بِوَصْفِهِ وَقَوْلِهِ وَهُوَ الّذِي يُخَصّ بِاسْمِ الطّبَائِعِيّ وَبِمِرْوَدِهِ وَهُوَ الْكَحّالُ وَبِمِبْضَعِهِ وَمَرَاهِمِهِ وَهُوَ الْجَرَائِحِيّ وَبِمُوسَاهُ وَهُوَ الْخَاتِنُ وَبِرِيشَتِهِ وَهُوَ الْفَاصِدُ وَبِمَحَاجِمِهِ وَمِشْرَطِهِ وَهُوَ الْحَجّامُ وَبِخَلْعِهِ وَوَصْلِهِ وَرِبَاطِهِ وَهُوَ الْمُجَبّرُ وَبِمِكْوَاتِهِ وَنَارِهِ وَهُوَ الْكَوّاءُ وَبِقِرْبَتِهِ وَهُوَ الْحَاقِنُ وَسَوَاءٌ كَانَ طِبّهُ لِحَيَوَانٍ بَهِيمٍ أَوْ إنْسَانٍ فَاسْمُ الطّبِيبِ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى هَؤُلَاءِ كُلّهِمْ كَمَا تَقَدّمَ وَتَخْصِيصُ النّاسِ لَهُ بِبَعْضِ أَنْوَاعِ الْأَطِبّاءِ عُرْفٌ حَادِثٌ كَتَخْصِيصِ لَفْظِ الدّابّةِ بِمَا يَخُصّهَا بِهِ كُلّ قَوْمٍ .
فَصْلٌ [ مَا يُرَاعِيهِ الطّبِيبُ الْحَاذِقُ مِنْ الْأُمُورِ ]
وَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ هُوَ الّذِي يُرَاعِي فِي عِلَاجِهِ عِشْرِينَ أَمْرًا :
أَحَدُهَا : النّظَرُ فِي نَوْعِ الْمَرَضِ مِنْ أَيّ الْأَمْرَاضِ هُوَ ؟ <131>
الثّانِي : النّظَرُ فِي سَبَبِهِ مِنْ أَيّ شَيْءٍ حَدَثَ وَالْعِلّةُ الْفَاعِلَةُ الّتِي كَانَتْ سَبَبَ حُدُوثِهِ مَا هِيَ ؟ .
الثّالِثُ قُوّةُ الْمَرِيضِ وَهَلْ هِيَ مُقَاوِمَةٌ لِلْمَرَضِ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ ؟ فَإِنْ كَانَتْ مُقَاوِمَةً لِلْمَرَضِ مُسْتَظْهِرَةً عَلَيْهِ تَرَكَهَا وَالْمَرَضَ وَلَمْ يُحَرّكْ بِالدّوَاءِ سَاكِنًا .
الرّابِعُ مِزَاجُ الْبَدَنِ الطّبِيعِيّ مَا هُوَ ؟
الْخَامِسُ الْمِزَاجُ الْحَادِثُ عَلَى غَيْرِ الْمُجْرَى الطّبِيعِيّ .
السّادِسُ سِنّ الْمَرِيضِ .
السّابِعُ عَادَتُهُ .
الثّامِنُ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ مِنْ فُصُولِ السّنَةِ وَمَا يَلِيقُ بِهِ .
التّاسِعُ بَلَدُ الْمَرِيضِ وَتُرْبَتُهُ .
(1/184)
الْعَاشِرُ حَالُ الْهَوَاءِ فِي وَقْتِ الْمَرَضِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي الدّوَاءِ الْمُضَادّ لِتِلْكَ الْعِلّةِ .
الثّانِيَ عَشَرَ النّظَرُ فِي قُوّةِ الدّوَاءِ وَدَرَجَتِهِ وَالْمُوَازَنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قُوّةِ الْمَرِيضِ .
[ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إزَالَةَ الْعِلّةِ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا ]
الثّالِثَ عَشَرَ أَلّا يَكُونَ كُلّ قَصْدِهِ إزَالَةَ تِلْكَ الْعِلّةِ فَقَطْ بَلْ إزَالَتُهَا عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ مَعَهُ حُدُوثَ أَصْعَبِ مِنْهَا فَمَتَى كَانَ إزَالَتُهَا لَا يَأْمَنُ مَعَهَا حُدُوثَ عِلّةٍ أُخْرَى أَصْعَبَ مِنْهَا أَبْقَاهَا عَلَى حَالِهَا وَتَلْطِيفِهَا هُوَ الْوَاجِبُ وَهَذَا كَمَرَضِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ فَإِنّهُ مَتَى عُولِجَ بِقَطْعِهِ وَحَبْسِهِ خِيفَ حُدُوثُ مَا هُوَ أَصْعَبُ مِنْهُ .
[ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ ]
الرّابِعَ عَشَرَ أَنْ يُعَالِجَ بِالْأَسْهَلِ فَالْأَسْهَلِ فَلَا يَنْتَقِلُ مَنْ الْعِلَاجِ بِالْغِذَاءِ إلَى الدّوَاءِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى الدّوَاءِ الْمُرَكّبِ إلّا عِنْدَ تَعَذّرِ الدّوَاءِ الْبَسِيطِ فَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ عِلَاجُهُ بِالْأَغْذِيَةِ بَدَلَ الْأَدْوِيَةِ وَبِالْأَدْوِيَةِ الْبَسِيطَةِ بَدَلَ الْمُرَكّبَةِ .
(1/185)
الْخَامِسَ عَشَرَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلّةِ هَلْ هِيَ مِمّا يُمْكِنُ عِلَاجُهَا أَوْ لَا ؟ فَإِنْ <132> لَمْ يُمْكِنْ عِلَاجُهَا حَفِظَ صِنَاعَتَهُ وَحُرْمَتَهُ وَلَا يَحْمِلُهُ الطّمَعُ عَلَى عِلَاجٍ لَا يُفِيدُ شَيْئًا . وَإِنْ أَمْكَنَ عِلَاجُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ زَوَالُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ عَلِمَ أَنّهُ لَا يُمْكِنُ زَوَالُهَا نَظَرَ هَلْ يُمْكِنُ تَخْفِيفُهَا وَتَقْلِيلُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيلُهَا وَرَأَى أَنّ غَايَةَ الْإِمْكَانِ إيقَافُهَا وَقَطْعُ زِيَادَتِهَا قَصَدَ بِالْعِلَاجِ ذَلِكَ وَأَعَانَ الْقُوّةَ وَأَضْعَفَ الْمَادّةَ .
السّادِسَ عَشَرَ أَلّا يَتَعَرّضَ لِلْخَلْطِ قَبْلَ نُضْجِهِ بِاسْتِفْرَاغٍ بَلْ يَقْصِدُ إنْضَاجَهُ فَإِذَا تَمّ نُضْجُهُ بَادَرَ إلَى اسْتِفْرَاغِهِ .
[ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ ]
(1/186)
السّابِعَ عَشَرَ أَنْ يَكُونَ لَهُ خِبْرَةٌ بِاعْتِلَالِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَأَدْوِيَتِهَا وَذَلِكَ أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي عِلَاجِ الْأَبْدَانِ فَإِنّ انْفِعَالَ الْبَدَنِ وَطَبِيعَتَهُ عَنْ النّفْسِ وَالْقَلْبِ أَمْرٌ مَشْهُودٌ وَالطّبِيبُ إذَا كَانَ عَارِفًا بِأَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ وَعِلَاجِهِمَا كَانَ هُوَ الطّبِيبَ الْكَامِلَ وَاَلّذِي لَا خِبْرَةَ لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي عِلَاجِ الطّبِيعَةِ وَأَحْوَالِ الْبَدَنِ نِصْفُ طَبِيبٍ . وَكُلّ طَبِيبٍ لَا يُدَاوِي الْعَلِيلَ بِتَفَقّدِ قَلْبِهِ وَصَلَاحِهِ وَتَقْوِيَةِ رُوحِهِ وَقُوَاهُ بِالصّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى اللّهِ وَالدّارِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ بَلْ مُتَطَبّبٌ قَاصِرٌ . وَمِنْ أَعْظَمِ عِلَاجَاتِ الْمَرَضِ فِعْلُ الْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ وَالذّكْرُ وَالدّعَاءُ وَالتّضَرّعُ وَالِابْتِهَالُ إلَى اللّهِ وَالتّوْبَةُ وَلِهَذِهِ الْأُمُورِ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ وَحُصُولِ الشّفَاءِ أَعْظَمُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ وَلَكِنْ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِ النّفْسِ وَقَبُولِهَا وَعَقِيدَتِهَا فِي ذَلِكَ وَنَفْعِهِ .
الثّامِنَ عَشَرَ التّلَطّفُ بِالْمَرِيضِ وَالرّفْقُ بِهِ كَالتّلَطّفِ بِالصّبِيّ .
التّاسِعَ عَشَرَ أَنْ يَسْتَعْمِلَ أَنْوَاعَ الْعِلَاجَاتِ الطّبِيعِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَالْعِلَاجَ بِالتّخْيِيلِ فَإِنّ لِحُذّاقِ الْأَطِبّاءِ فِي التّخْيِيلِ أُمُورًا عَجِيبَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا الدّوَاءُ فَالطّبِيبُ الْحَاذِقُ يَسْتَعِينُ عَلَى الْمَرَضِ بِكُلّ مُعِينٍ .
(1/187)
الْعِشْرُونَ - وَهُوَ مِلَاكُ أَمْرِ الطّبِيبِ - أَنْ يَجْعَلَ عِلَاجَهُ وَتَدْبِيرَهُ دَائِرًا عَلَى سِتّةِ أَرْكَانٍ حِفْظُ الصّحّةِ الْمَوْجُودَةِ وَرَدّ الصّحّةِ الْمَفْقُودَةِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ <133> وَإِزَالَةُ الْعِلّةِ أَوْ تَقْلِيلُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاحْتِمَالِ أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِإِزَالَةِ أَعْظَمِهِمَا وَتَفْوِيتِ أَدْنَى الْمَصْلَحَتَيْنِ لِتَحْصِيلِ أَعْظَمِهِمَا فَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ السّتّةِ مَدَارُ الْعِلَاجِ وَكُلّ طَبِيبٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ أَخِيّتَهُ الّتِي يَرْجِعُ إلَيْهَا فَلَيْسَ بِطَبِيبٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ [مُرَاعَاةُ الطّبِيبِ لِأَحْوَالِ الْمَرَضِ ]
(1/188)
وَلَمّا كَانَ لِلْمَرَضِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ ابْتِدَاءٌ وَصُعُودٌ وَانْتِهَاءٌ وَانْحِطَاطٌ تَعَيّنَ عَلَى الطّبِيبِ مُرَاعَاةُ كُلّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمَرَضِ بِمَا يُنَاسِبُهَا وَيَلِيقُ بِهَا وَيَسْتَعْمِلُ فِي كُلّ حَالٍ مَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُ فِيهَا . فَإِذَا رَأَى فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ أَنّ الطّبِيعَةَ مُحْتَاجَةٌ إلَى مَا يُحَرّكُ الْفَضَلَاتِ وَيَسْتَفْرِغُهَا لِنُضْجِهَا بَادَرَ إلَيْهِ فَإِنْ فَاتَهُ تَحْرِيكُ الطّبِيعَةِ فِي ابْتِدَاءِ الْمَرَضِ لِعَائِقٍ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِضَعْفِ الْقُوّةِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهَا لِلِاسْتِفْرَاغِ أَوْ لِبُرُودَةِ الْفَصْلِ أَوْ لِتَفْرِيطٍ وَقَعَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ كُلّ الْحَذَرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي صُعُودِ الْمَرَضِ لِأَنّهُ إنْ فَعَلَهُ تَحَيّرَتْ الطّبِيعَةُ لِاشْتِغَالِهَا بِالدّوَاءِ وَتَخَلّتْ عَنْ تَدْبِيرِ الْمَرَضِ وَمُقَاوَمَتِهِ بِالْكُلّيّةِ وَمِثَالُهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى فَارِسٍ مَشْغُولٍ بِمُوَاقَعَةِ عَدُوّهِ فَيَشْغَلُهُ عَنْهُ بِأَمْرٍ آخَرَ وَلَكِنّ الْوَاجِبَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يُعِينَ الطّبِيعَةَ عَلَى حِفْظِ الْقُوّةِ مَا أَمْكَنَهُ .
فَإِذَا انْتَهَى الْمَرَضُ وَوَقَفَ وَسَكَنَ أَخَذَ فِي اسْتِفْرَاغِهِ وَاسْتِئْصَالِ أَسْبَابِهِ فَإِذَا أَخَذَ فِي الِانْحِطَاطِ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ . وَمِثَالُ هَذَا مِثَالُ الْعَدُوّ إذَا انْتَهَتْ قُوّتُهُ وَفَرَغَ سِلَاحُهُ كَانَ أَخْذُهُ سَهْلًا فَإِذَا وَلّى وَأَخَذَ فِي الْهَرَبِ كَانَ أَسْهَلَ أَخْذًا وَحِدّتُهُ وَشَوْكَتُهُ إنّمَا هِيَ فِي ابْتِدَائِهِ وَحَالِ اسْتِفْرَاغِهِ وَسِعَةِ قُوّتِهِ فَهَكَذَا الدّاءُ وَالدّوَاءُ سَوَاءٌ .
فَصْلٌ [ مِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ ]
(1/189)
وَمِنْ حِذْقِ الطّبِيبِ أَنّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ التّدْبِيرُ بِالْأَسْهَلِ فَلَا يَعْدِلُ إلَى <134> الْأَصْعَبِ وَيَتَدَرّجُ مِنْ الْأَضْعَفِ إلَى الْأَقْوَى إلّا أَنْ يَخَافَ فَوْتَ الْقُوّةِ حِينَئِذٍ فَيَجِبُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَقْوَى وَلَا يُقِيمَ فِي الْمُعَالَجَةِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ فَتَأْلَفُهَا الطّبِيعَةُ وَيَقِلّ انْفِعَالُهَا عَنْهُ وَلَا تَجْسُرُ عَلَى الْأَدْوِيَةِ الْقَوِيّةِ فِي الْفُصُولِ الْقَوِيّةِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْعِلَاجُ بِالْغِذَاءِ فَلَا يُعَالِجُ بِالدّوَاءِ وَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ أَحَارّ هُوَ أَمْ بَارِدٌ ؟ فَلَا يُقْدِمُ حَتّى يَتَبَيّنَ لَهُ وَلَا يُجَرّبُهُ بِمَا يَخَافُ عَاقِبَتَهُ وَلَا بَأْسَ بِتَجْرِبَتِهِ بِمَا لَا يَضُرّ أَثَرُهُ .
[مَا يَفْعَلُهُ الطّبِيبُ إذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ ]
وَإِذَا اجْتَمَعَتْ أَمْرَاضٌ بَدَأَ بِمَا تَخُصّهُ وَاحِدَةٌ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ
إحْدَاهَا : أَنْ يَكُونَ بُرْءُ الْآخَرِ مَوْقُوفًا عَلَى بُرْئِهِ كَالْوَرَمِ وَالْقُرْحَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِالْوَرَمِ .
الثّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا سَبَبًا لِلْآخَرِ كَالسّدّةِ وَالْحُمّى الْعَفِنَةِ فَإِنّهُ يَبْدَأُ بِإِزَالَةِ السّبَبِ .
الثّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَهَمّ مِنْ الْآخَرِ كَالْحَادّ وَالْمُزْمِنِ فَيَبْدَأُ بِالْحَادّ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَغْفُلُ عَنْ الْآخَرِ .
(1/190)
وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَرَضُ وَالْعَرَضُ بَدَأَ بِالْمَرَضِ إلّا أَنْ يَكُونَ الْعَرْضُ أَقْوَى كَالْقُولَنْجِ فَيُسَكّنُ الْوَجَعَ أَوّلًا ثُمّ يُعَالِجُ السّدّةَ وَإِذَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْ الْمُعَالَجَةِ بِالِاسْتِفْرَاغِ بِالْجُوعِ أَوْ الصّوْمِ أَوْ النّوْمِ لَمْ يَسْتَفْرِغْهُ وَكُلّ صِحّةٍ أَرَادَ حِفْظَهَا حَفِظَهَا بِالْمِثْلِ أَوْ الشّبَهِ وَإِنْ أَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا نَقَلَهَا بِالضّدّ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي التّحَرّزِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُعْدِيَةِ بِطَبْعِهَا وَإِرْشَادِهِ الْأَصِحّاءَ إلَى مُجَانَبَةِ أَهْلِهَا
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْجِعْ فَقَدْ بَايَعْنَاكَ <135> .
وَرَوَى الْبُخَارِيُ فِي " صَحِيحِهِ " تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرّ مِنْ الْأَسَدِ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النَبيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَا تُدِيمُوا النّظَرَ إلَى الْمَجْذُومِينَ
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورِدَنّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحّ
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمْ الْمَجْذُومَ وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قِيدَ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ <136>
[ مَا هُوَ الْجُذَامُ ]
(1/191)
الْجُذَامُ عِلّةٌ رَدِيئَةٌ تَحْدُثُ مِنْ انْتِشَارِ الْمُرّةِ السّوْدَاءِ فِي الْبَدَنِ كُلّهِ فَيَفْسُدُ مِزَاجُ الْأَعْضَاءِ وَهَيْئَتُهَا وَشَكْلُهَا وَرُبّمَا فَسَدَ فِي آخِرِهِ اتّصَالُهَا حَتّى تَتَأَكّلَ الْأَعْضَاءُ وَتَسْقُطَ وَيُسَمّى دَاءَ الْأَسَدِ .
[ سَبَبُ تَسْمِيَةِ الْجُذَامِ بِدَاءِ الْأَسَدِ ]
وَفِي هَذِهِ التّسْمِيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْأَطِبّاءِ أَحَدُهَا : أَنّهَا لِكَثْرَةِ مَا تَعْتَرِي الْأَسَدَ . وَالثّانِي : لِأَنّ هَذِهِ الْعِلّةَ تُجَهّمُ وَجْهَ صَاحِبِهَا وَتَجْعَلُهُ فِي سَحْنَةِ الْأَسَدِ .
وَالثّالِثُ أَنّهُ يَفْتَرِسُ مَنْ يَقْرَبُهُ أَوْ يَدْنُو مِنْهُ بِدَائِهِ افْتِرَاسَ الْأَسَدِ .
[عِلّةُ الِابْتِعَادِ عَنْ الْمَجْذُومِ وَالْمَسْلُولِ ]
(1/192)
وَهَذِهِ الْعِلّةُ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْعِلَلِ الْمُعْدِيَةِ الْمُتَوَارَثَةِ وَمُقَارِبُ الْمَجْذُومِ وَصَاحِبُ السّلّ يَسْقَمُ بِرَائِحَتِهِ فَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْأُمّةِ وَنُصْحِهِ لَهُمْ نَهَاهُمْ عَنْ الْأَسْبَابِ الّتِي تُعَرّضُهُمْ لِوُصُولِ الْعَيْبِ وَالْفَسَادِ إلَى أَجْسَامِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْبَدَنِ تَهَيّؤٌ وَاسْتِعْدَادٌ كَامِنٌ لِقَبُولِ هَذَا الدّاءِ وَقَدْ تَكُونُ الطّبِيعَةُ سَرِيعَةَ الِانْفِعَالِ قَابِلَةً لِلِاكْتِسَابِ مِنْ أَبْدَانِ مَنْ تُجَاوِرُهُ وَتُخَالِطُهُ فَإِنّهَا نَقّالَةٌ وَقَدْ يَكُونُ خَوْفُهَا مِنْ ذَلِكَ وَوَهْمُهَا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ إصَابَةِ تِلْكَ الْعِلّةِ لَهَا فَإِنّ الْوَهْمَ فَعّالٌ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْقُوَى وَالطّبَائِعِ وَقَدْ تَصِلُ رَائِحَةُ الْعَلِيلِ إلَى الصّحِيحِ فَتُسْقِمُهُ وَهَذَا مُعَايَنٌ فِي بَعْضِ الْأَمْرَاضِ وَالرّائِحَةُ أَحَدُ أَسْبَابِ الْعَدْوَى وَمَعَ هَذَا كُلّهِ فَلَا بُدّ مِنْ وُجُودِ اسْتِعْدَادِ الْبَدَنِ وَقَبُولِهِ لِذَلِكَ الدّاءِ وَقَدْ <137> تَزَوّجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ امْرَأَةً فَلَمّا أَرَادَ الدّخُولَ بِهَا وَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَقَالَ الْحَقِي بِأَهْلِكِ
[التّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ السّابِقَةِ وَبَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَالْأَكْلِ مَعَ الْمَجْذُومِ ]
(1/193)
وَقَدْ ظَنّ طَائِفَةٌ مِنْ النّاسِ أَنّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مُعَارَضَةٌ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ تُبْطِلُهَا وَتُنَاقِضُهَا فَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ رَجُلٍ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ وَقَالَ كُلْ بِسْمِ اللّهِ ثِقَةً بِاَللّهِ وَتَوَكّلًا عَلَيْهِ وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
وَبِمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ .
وَنَحْنُ نَقُولُ لَا تَعَارُضَ بِحَمْدِ اللّهِ بَيْنَ أَحَادِيثِهِ الصّحِيحَةِ . فَإِذَا وَقَعَ التّعَارُضُ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ الرّوَاةِ مَعَ كَوْنِهِ ثِقَةً ثَبْتًا فَالثّقَةُ يَغْلَطُ أَوْ يَكُونُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ نَاسِخًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ مِمّا يَقْبَلُ النّسْخَ أَوْ يَكُونُ التّعَارُضُ فِي فَهْمِ السّامِعِ لَا فِي نَفْسِ كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا بُدّ مِنْ وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثّلَاثَةِ .
(1/194)
وَأَمّا حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ صَرِيحَانِ مُتَنَاقِضَانِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ لَيْسَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يُوجَدُ أَصْلًا وَمَعَاذَ اللّهِ أَنْ يُوجَدَ فِي كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ الّذِي لَا يُخْرِجُ مِنْ بَيْنِ شَفَتَيْهِ إلّا الْحَقّ وَالْآفَةُ مِنْ التّقْصِيرِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَنْقُولِ وَالتّمْيِيزِ بَيْنَ صَحِيحِهِ وَمَعْلُولِهِ أَوْ مِنْ الْقُصُورِ فِي فَهْمِ مُرَادِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ <138> وَحَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِ مَا عَنَاهُ بِهِ أَوْ مِنْهُمَا مَعًا وَمِنْ هَا هُنَا وَقَعَ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفَسَادِ مَا وَقَعَ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ التّوْفِيقُ بَيْنَهَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ قُتَيْبَةَ ]
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ " لَهُ حِكَايَةً عَنْ أَعْدَاءِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ قَالُوا : حَدِيثَانِ مُتَنَاقِضَانِ رَوَيْتُمْ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَقِيلَ لَهُ إنّ النّقْبَةَ تَقَعُ بِمِشْفَرِ الْبَعِيرِ فَيَجْرَبُ لِذَلِكَ الْإِبِلُ . قَالَ فَمَا أَعْدَى الْأَوّلَ ثُمّ رَوَيْتُمْ لَا يُورِدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ وَفِرّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ مَجْذُومٌ لِيُبَايِعَهُ بَيْعَةَ الْإِسْلَامِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ الْبَيْعَةَ وَأَمَرَهُ بِالِانْصِرَافِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَقَالَ الشّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ وَالدّارِ وَالدّابّةِ قَالُوا : وَهَذَا كُلّهُ مُخْتَلِفٌ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا .
(1/195)
قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ وَنَحْنُ نَقُولُ إنّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ وَلِكُلّ مَعْنًى مِنْهَا <139> وَقْتٌ وَمَوْضِعٌ فَإِذَا وُضِعَ مَوْضِعَهُ زَالَ الِاخْتِلَافُ . وَالْعَدْوَى جِنْسَانِ أَحَدُهُمَا : عَدْوَى الْجُذَامِ فَإِنّ الْمَجْذُومَ تَشْتَدّ رَائِحَتُهُ حَتّى يُسْقِمَ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَتَهُ وَمُحَادَثَتَهُ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تَكُونُ تَحْتَ الْمَجْذُومِ فَتُضَاجِعُهُ فِي شِعَارٍ وَاحِدٍ فَيُوصِلُ إلَيْهَا الْأَذَى وَرُبّمَا جُذِمَتْ وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ يَنْزِعُونَ فِي الْكِبَرِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ بِهِ سِلّ وَدِقّ ونُقْبٌ . وَالْأَطِبّاءُ تَأْمُرُ أَنْ لَا يُجَالِسَ الْمَسْلُولَ وَلَا الْمَجْذُومَ وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ مَعْنَى الْعَدْوَى وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِهِ مَعْنَى تَغَيّرِ الرّائِحَةِ وَأَنّهَا قَدْ تُسْقِمُ مَنْ أَطَالَ اشْتِمَامَهَا وَالْأَطِبّاءُ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِيمَانِ بِيُمْنٍ وَشُؤْمٍ وَكَذَلِكَ النّقْبَةُ تَكُونُ بِالْبَعِيرِ - وَهُوَ جَرَبٌ رَطْبٌ - فَإِذَا خَالَطَ الْإِبِلَ أَوْ حَاكَهَا وَأَوَى فِي مَبَارِكِهَا وَصَلَ إلَيْهَا بِالْمَاءِ الّذِي يَسِيلُ مِنْهُ وَبِالنّطْفِ نَحْوَ مَا بِهِ فَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُورَدُ ذُو عَاهَةٍ عَلَى مُصِحّ كَرِهَ أَنْ يُخَالِطَ الْمَعْيُوهَ الصّحِيحُ لِئَلّا يَنَالَهُ مِنْ نَطَفِهِ وَحِكّتِهِ نَحْوُ مِمّا بِهِ .
(1/196)
قَالَ وَأَمّا الْجِنْسُ الْآخَرُ مِنْ الْعَدْوَى فَهُوَ الطّاعُونُ يَنْزِلُ بِبَلَدٍ فَيَخْرُجُ مِنْهُ خَوْفَ الْعَدْوَى وَقَدْ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا وَقَعَ بِبَلَدٍ وَأَنْتُمْ بِهِ فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهُ وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ . يُرِيدُ بِقَوْلِهِ لَا تَخْرُجُوا مَنْ الْبَلَدِ إذَا كَانَ فِيهِ كَأَنّكُمْ تَظُنّونَ أَنّ الْفِرَارَ مِنْ قَدَرِ اللّهِ يُنْجِيكُمْ مِنْ اللّهِ وَيُرِيدُ إذَا كَانَ بِبَلَدٍ فَلَا تَدْخُلُوهُ أَيْ مَقَامُكُمْ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي لَا طَاعُونَ فِيهِ أَسْكَنُ لِقُلُوبِكُمْ وَأَطْيَبُ لِعَيْشِكُمْ وَمِنْ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُعْرَفُ بِالشّؤْمِ أَوْ الدّارُ فَيَنَالُ الرّجُلَ مَكْرُوهٌ أَوْ جَائِحَةٌ فَيَقُولُ أَعَدْتِنِي بِشُؤْمِهَا فَهَذَا هُوَ الْعَدْوَى الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَدْوَى
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْأَمْرُ بِاجْتِنَابِ الْمَجْذُومِ وَالْفِرَارِ مِنْهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَالِاخْتِيَارِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا الْأَكْلُ مَعَهُ فَفَعَلَهُ لِبَيَانِ الْجَوَازِ وَأَنّ هَذَا لَيْسَ بِحَرَامٍ .
(1/197)
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ الْخِطَابُ بِهَذَيْنِ الْخِطَابَيْنِ جُزْئِيّ لَا كُلّيّ فَكُلّ <140> وَاحِدٍ خَاطَبَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ فَبَعْضُ النّاسِ يَكُونُ قَوِيّ الْإِيمَانِ قَوِيّ التّوَكّلِ تَدْفَعُ قُوّةُ تَوَكّلِهِ قُوّةَ الْعَدْوَى كَمَا تَدْفَعُ قُوّةُ الطّبِيعَةِ قُوّةَ الْعِلّةِ فَتُبْطِلُهَا وَبَعْضُ النّاسِ لَا يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ فَخَاطَبَهُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالتّحَفّظِ وَكَذَلِكَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَلَ الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِتَقْتَدِيَ بِهِ الْأُمّةُ فِيهِمَا فَيَأْخُذُ مَنْ قَوِيَ مِنْ أُمّتِهِ بِطَرِيقَةِ التّوَكّلِ وَالْقُوّةِ وَالثّقَةِ بِاَللّهِ وَيَأْخُذُ مَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ بِطَرِيقَةِ التّحَفّظِ وَالِاحْتِيَاطِ وَهُمَا طَرِيقَانِ صَحِيحَانِ .
أَحَدُهُمَا : لِلْمُؤْمِنِ الْقَوِيّ وَالْآخَرُ لِلْمُؤْمِنِ الضّعِيفِ فَتَكُونُ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الطّائِفَتَيْنِ حُجّةٌ وَقُدْوَةٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ وَمَا يُنَاسِبُهُمْ وَهَذَا كَمَا أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَوَى وَأَثْنَى عَلَى تَارِكِ الْكَيّ وَقَرَنَ تَرْكَهُ بِالتّوَكّلِ وَتَرْكِ الطّيَرَةَ وَلِهَذَا نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ لَطِيفَةٌ حَسَنَةٌ جِدّا مَنْ أَعْطَاهَا حَقّهَا وَرُزِقَ فِقْهَ نَفْسِهِ فِيهَا أَزَالَتْ عَنْهُ تَعَارُضًا كَثِيرًا يَظُنّهُ بِالسّنّةِ الصّحِيحَةِ .
(1/198)
وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى إلَى أَنّ الْأَمْرَ بِالْفِرَارِ مِنْهُ وَمُجَانَبَتِهِ لِأَمْرٍ طَبِيعِيّ وَهُوَ انْتِقَالُ الدّاءِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُخَالَطَةِ وَالرّائِحَةِ إلَى الصّحِيحِ وَهَذَا يَكُونُ مَعَ تَكْرِيرِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَامَسَةِ لَهُ وَأَمّا أَكْلُهُ مَعَهُ مِقْدَارًا يَسِيرًا مِنْ الزّمَانِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَحْصُلُ الْعَدْوَى مِنْ مَرّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ فَنَهَى سَدّا لِلذّرِيعَةِ وَحِمَايَةً لِلصّحّةِ وَخَالَطَهُ مُخَالَطَةً مَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَجْذُومُ الّذِي أَكَلَ مَعَهُ بِهِ مِنْ الْجُذَامِ أَمْرٌ يَسِيرٌ لَا يُعْدِي مِثْلُهُ وَلَيْسَ الْجَذْمَى كُلّهُمْ سَوَاءً وَلَا الْعَدْوَى حَاصِلَةٌ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ لَا تَضُرّ مُخَالَطَتُهُ وَلَا تَعْدِي وَهُوَ مَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ ثُمّ وَقَفَ وَاسْتَمَرّ عَلَى حَالِهِ وَلَمْ يُعْدِ بَقِيّةَ جِسْمِهِ فَهُوَ أَنْ لَا يُعْدِيَ غَيْرَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى .
(1/199)
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : إنّ الْجَاهِلِيّةَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنّ الْأَمْرَاضَ الْمُعْدِيَةَ تُعْدِي بِطَبْعِهَا مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فَأَبْطَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْتِقَادَهُمْ ذَلِكَ وَأَكَلَ مَعَ الْمَجْذُومِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ الّذِي يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَنَهَى عَنْ الْقُرْبِ مِنْهُ <141> لِيَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّ هَذَا مِنْ الْأَسْبَابِ الّتِي جَعَلَهَا اللّهُ مُفْضِيَةً إلَى مُسَبّبَاتِهَا فَفِي نَهْيِهِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَفِي فِعْلِهِ بَيَانُ أَنّهَا لَا تَسْتَقِلّ بِشَيْءٍ بَلْ الرّبّ سُبْحَانَهُ إنْ شَاءَ سَلَبَهَا قُوَاهَا فَلَا تُؤَثّرُ شَيْئًا وَإِنْ شَاءَ أَبْقَى عَلَيْهَا قُوَاهَا فَأَثّرَتْ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا النّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ فَيَنْظُرُ فِي تَارِيخِهَا فَإِنْ عُلِمَ الْمُتَأَخّرُ مِنْهَا حُكِمَ بِأَنّهُ النّاسِخُ وَإِلّا تَوَقّفْنَا فِيهَا . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : بَلْ بَعْضُهَا مَحْفُوظٌ وَبَعْضُهَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَتَكَلّمَتْ فِي حَدِيثِ لَا عَدْوَى
وَقَالَتْ قَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَرْوِيهِ أَوّلًا ثُمّ شَكّ فِيهِ فَتَرَكَهُ وَرَاجَعُوهُ فِيهِ وَقَالُوا : سَمِعْنَاك تُحَدّثُ بِهِ فَأَبَى أَنْ يُحَدّثَ بِهِ .
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ فَلَا أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَمْ نَسَخَ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ الْآخَرَ ؟
(1/200)
وَأَمّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَهَا مَعَهُ فِي الْقَصْعَةِ فَحَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ وَلَا يَصِحّ وَغَايَةُ مَا قَالَ فِيهِ التّرْمِذِيّ : إنّهُ غَرِيبٌ لَمْ يُصَحّحْهُ وَلَمْ يُحَسّنْهُ . وَقَدْ قَالَ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ اتّقُوا هَذِهِ الْغَرَائِبَ .
قَالَ التّرْمِذِيّ : وَيُرْوَى هَذَا مِنْ فِعْلِ عُمَرَ وَهُوَ أَثْبَتُ فَهَذَا شَأْنُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ اللّذَيْنِ عُورِضَ بِهِمَا أَحَادِيثُ النّهْيِ أَحَدُهُمَا : رَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ التّحْدِيثِ بِهِ وَأَنْكَرَهُ وَالثّانِي : لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ " الْمِفْتَاح ِ " بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنْعِ مِنْ التّدَاوِي بِالْمُحَرّمَاتِ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ أَنْزَلَ الدّاءَ وَالدّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً فَتَدَاوَوْا وَلَا تَدَاوَوْا بِالْمُحَرّمِ . <142>
وَذَكَر الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : إنّ اللّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرّمَ عَلَيْكُمْ
وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الدّوَاءِ الْخَبِيثِ
(1/201)
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيّ أَنّهُ سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ إنّمَا أَصْنَعُهَا لِلدّوَاءِ فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنّهُ دَاءٌ
وَفِي " السّنَنِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُجْعَلُ فِي الدّوَاءِ فَقَالَ " إنّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِالدّوَاءِ <143> رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَاَلتّرْمِذِيّ . وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ طَارِقِ بْنِ سُوَيْدٍ الْحَضْرَمِيّ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بِأَرْضِنَا أَعْنَابًا نَعْتَصِرُهَا فَنَشْرَبُ مِنْهَا قَالَ " لَا " فَرَاجَعْته قُلْتُ إنّا نَسْتَشْفِي لِلْمَرِيضِ قَالَ إنّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشِفَاءٍ وَلَكِنّهُ دَاءٌ
وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ أَنّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا
وَيُذْكَرُ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ تَدَاوَى بِالْخَمْرِ فَلَا شَفَاهُ اللّهُ
[ بَيَانُ قُبْحِ الْمُعَالَجَةِ بِالْمُحَرّمَاتِ عَقْلًا ]
(1/202)
الْمُعَالَجَةُ بِالْمُحَرّمَاتِ قَبِيحَةٌ عَقْلًا وَشَرْعًا أَمّا الشّرْعُ فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا وَأَمّا الْعَقْلُ فَهُوَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إنّمَا حَرّمَهُ لِخُبْثِهِ فَإِنّهُ لَمْ يُحَرّمْ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ طَيّبًا عُقُوبَةً لَهَا كَمَا حَرّمَهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ بِقَوْلِهِ فَبِظُلْمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ [ النّسَاء : 160 ] ; وَإِنّمَا حَرّمَ عَلَى هَذِهِ الْأُمّةِ مَا حَرّمَ لِخُبْثِهِ وَتَحْرِيمُهُ لَهُ حَمِيّةً لَهُمْ وَصِيَانَةً عَنْ تَنَاوُلِهِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُطْلَبَ بِهِ الشّفَاءُ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ فَإِنّهُ وَإِنْ أَثّرَ فِي إزَالَتِهَا لَكِنّهُ يُعْقِبُ سَقَمًا أَعْظَمَ مِنْهُ فِي الْقَلْبِ بِقُوّةِ الْخُبْثِ الّذِي فِيهِ فَيَكُونُ الْمُدَاوَى بِهِ قَدْ سَعَى فِي إزَالَةِ سُقْمِ الْبَدَنِ بِسُقْمِ الْقَلْبِ . <144> وَأَيْضًا فَإِنّ تَحْرِيمَهُ يَقْتَضِي تَجَنّبَهُ وَالْبُعْدَ عَنْهُ بِكُلّ طَرِيقٍ وَفِي اتّخَاذِهِ دَوَاءً حَضّ عَلَى التّرْغِيبِ فِيهِ وَمُلَابَسَتِهِ وَهَذَا ضِدّ مَقْصُودِ الشّارِعِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ دَاءٌ كَمَا نَصّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الشّرِيعَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتّخَذَ دَوَاءً .
وَأَيْضًا فَإِنّهُ يُكْسِبُ الطّبِيعَةَ وَالرّوحَ صِفَةَ الْخُبْثِ لِأَنّ الطّبِيعَةَ تَنْفَعِلُ عَنْ كَيْفِيّةِ الدّوَاءِ انْفِعَالًا بَيّنًا فَإِذَا كَانَتْ كَيْفِيّتُهُ خَبِيثَةً اكْتَسَبَتْ الطّبِيعَةُ مِنْهُ خُبْثًا فَكَيْفَ إذَا كَانَ خَبِيثًا فِي ذَاتِهِ وَلِهَذَا حَرّمَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ الْأَغْذِيَةَ وَالْأَشْرِبَةَ وَالْمَلَابِسَ الْخَبِيثَةَ لِمَا تُكْسِبُ النّفْسَ مِنْ هَيْئَةِ الْخُبْثِ وَصِفَتِهِ .
(1/203)
[التّدَاوِي بِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى تَعَاطِيهِ ]
وَأَيْضًا فَإِنّ فِي إبَاحَةِ التّدَاوِي بِهِ وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَتْ النّفُوسُ تَمِيلُ إلَيْهِ ذَرِيعَةً إلَى تَنَاوُلِهِ لِلشّهْوَةِ وَاللّذّةِ لَا سِيّمَا إذَا عَرَفَتْ النّفُوسُ أَنّهُ نَافِعٌ لَهَا مُزِيلٌ لِأَسْقَامِهَا جَالِبٌ لِشِفَائِهَا فَهَذَا أَحَبّ شَيْءٍ إلَيْهَا وَالشّارِعُ سَدّ الذّرِيعَةَ إلَى تَنَاوُلِهِ بِكُلّ مُمْكِنٍ وَلَا رَيْبَ أَنّ بَيْنَ سَدّ الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ وَفَتْحِ الذّرِيعَةِ إلَى تَنَاوُلِهِ تَنَاقُضًا و تَعَارُضًا .
وَأَيْضًا فَإِنّ فِي هَذَا الدّوَاءِ الْمُحَرّمِ مِنْ الْأَدْوَاءِ مَا يَزِيدُ عَلَى مَا يُظَنّ فِيهِ مِنْ الشّفَاءِ وَلْنَفْرِضْ الْكَلَامَ فِي أُمّ الْخَبَائِثِ الّتِي مَا جَعَلَ اللّهُ لَنَا فِيهَا شِفَاءً قَطّ فَإِنّهَا شَدِيدَةُ الْمَضَرّةِ بِالدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَرْكَزُ الْعَقْلِ عِنْدَ الْأَطِبّاءِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلّمِينَ . قَالَ أَبِقِرَاطٍ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ فِي الْأَمْرَاضِ الْحَادّةِ ضَرَرُ الْخَمْرَةِ بِالرّأْسِ شَدِيدٌ . لِأَنّهُ يُسَرّعُ الِارْتِفَاعَ إلَيْهِ . وَيَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِهِ الْأَخْلَاطُ الّتِي تَعْلُو فِي الْبَدَنِ وَهُوَ كَذَلِكَ يَضُرّ بِالذّهْنِ .
وَقَالَ صَاحِبُ " الْكَامِلِ " : إنّ خَاصّيّةَ الشّرَابِ الْإِضْرَارُ بِالدّمَاغِ وَالْعَصَبِ . وَأَمّا غَيْرُهُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُحَرّمَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : تَعَافُهُ النّفْسُ وَلَا تَنْبَعِثُ لِمُسَاعَدَتِهِ الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ بِهِ كَالسّمُومِ وَلُحُومِ الْأَفَاعِي وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ فَيَبْقَى كَلّا عَلَى الطّبِيعَةِ مُثْقِلًا لَهَا فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ دَاءً لَا دَوَاءً . <145>
(1/204)
وَالثّانِي : مَا لَا تَعَافُهُ النّفْسُ كَالشّرَابِ الّذِي تَسْتَعْمِلُهُ الْحَوَامِلُ مَثَلًا فَهَذَا ضَرَرُهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ وَالْعَقْلُ يَقْضِي بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فَالْعَقْلُ وَالْفِطْرَةُ مُطَابِقٌ لِلشّرْعِ فِي ذَلِكَ . وَهَا هُنَا سِرّ لَطِيفٌ فِي كَوْنِ الْمُحَرّمَاتِ لَا يُسْتَشْفَى بِهَا فَإِنّ شَرْطَ الشّفَاءِ بِالدّوَاءِ تَلَقّيه بِالْقَبُولِ وَاعْتِقَادُ مَنْفَعَتِهِ وَمَا جَعَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ الشّفَاءِ فَإِنّ النّافِعَ هُوَ الْمُبَارَكُ وَأَنْفَعُ الْأَشْيَاءِ أَبْرَكُهَا وَالْمُبَارَكُ مِنْ النّاسِ أَيْنَمَا كَانَ هُوَ الّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ حَيْثُ حَلّ وَمَعْلُومٌ أَنّ اعْتِقَادَ الْمُسْلِمِ تَحْرِيمَ هَذِهِ الْعَيْنِ مِمّا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اعْتِقَادِ بَرَكَتِهَا وَمَنْفَعَتِهَا وَبَيْنَ حُسْنِ ظَنّهِ بِهَا وَتَلَقّي طَبْعِهِ لَهَا بِالْقَبُولِ بَلْ كُلّمَا كَانَ الْعَبْدُ أَعْظَمَ إيمَانًا كَانَ أَكْرَهَ لَهَا وَأَسْوَأَ اعْتِقَادًا فِيهَا وَطَبْعُهُ أَكْرَهَ شَيْءٍ لَهَا فَإِذَا تَنَاوَلَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ كَانَتْ دَاءً لَهُ لَا دَوَاءً إلّا أَنْ يَزُولَ اعْتِقَادُ الْخُبْثِ فِيهَا وَسُوءُ الظّنّ وَالْكَرَاهَةُ لَهَا بِالْمَحَبّةِ وَهَذَا يُنَافِي الْإِيمَانَ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْمُؤْمِنُ قَطّ إلّا عَلَى وَجْهِ دَاءٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْقَمْلِ الّذِي فِي الرّأْسِ وَإِزَالَتِهِ
(1/205)
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ كَانَ بِي أَذًى مِنْ رَأْسِي فَحُمِلْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ مَا كُنْت أَرَى الْجَهْدَ قَدْ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ وَأَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتّةٍ أَوْ يُهْدِيَ شَاةً أَوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ
<146> الْقَمْلُ يَتَوَلّدُ فِي الرّأْسِ وَالْبَدَنِ مِنْ شَيْئَيْنِ خَارِجٍ عَنْ الْبَدَنِ وَدَاخِلٍ فِيهِ فَالْخَارِجُ الْوَسَخُ وَالدّنَسُ الْمُتَرَاكِمُ فِي سَطْحِ الْجَسَدِ وَالثّانِي مِنْ خَلْطٍ رَدِيءٍ عَفِنٍ تَدْفَعُهُ الطّبِيعَةُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ فَيَتَعَفّنُ بِالرّطُوبَةِ الدّمَوِيّةِ فِي الْبَشَرَةِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَسَامّ فَيَكُونُ مِنْهُ الْقَمْلُ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ وَبِسَبَبِ الْأَوْسَاخِ وَإِنّمَا كَانَ فِي رُءُوسِ الصّبْيَانِ أَكْثَرَ لِكَثْرَةِ رُطُوبَاتِهِمْ وَتَعَاطِيهِمْ الْأَسْبَابَ الّتِي تُوَلّدُ الْقَمْلَ وَلِذَلِكَ حَلَقَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُءُوسَ بَنِي جَعْفَرٍ .
[عِلَاجُهُ بِالْحَلْقِ ثُمّ بِالطّلْيِ بِالْأَدْوِيَةِ ]
وَمِنْ أَكْبَرِ عِلَاجِهِ حَلْقُ الرّأْسِ لِتَنْفَتِحَ مَسَامّ الْأَبْخِرَةِ فَتَتَصَاعَدُ الْأَبْخِرَةُ الرّدِيئَةُ فَتُضْعِفُ مَادّةَ الْخَلْطِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلَى الرّأْسُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَدْوِيَةِ الّتِي تَقْتُلُ الْقَمْلَ وَتَمْنَعُ تَوَلّدَهُ .
[أَنْوَاعُ حَلْقِ الرّأْسِ ]
(1/206)
وَحَلْقُ الرّأْسِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ أَحَدُهَا : نُسُكٌ وَقُرْبَةٌ . وَالثّانِي : بِدْعَةٌ وَشِرْكٌ وَالثّالِثُ حَاجَةٌ وَدَوَاءٌ فَالْأَوّلُ الْحَلْقُ فِي أَحَدِ النّسُكَيْنِ الْحَجّ أَوْ الْعُمْرَةِ . وَالثّانِي : حَلْقُ الرّأْسِ لِغَيْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ كَمَا يَحْلِقُهَا الْمُرِيدُونَ لِشُيُوخِهِمْ فَيَقُولُ أَحَدُهُمْ أَنَا حَلَقْتُ رَأْسِي لِفُلَانٍ وَأَنْتَ حَلَقْته لِفُلَانٍ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ سَجَدْتُ لِفُلَانٍ فَإِنّ حَلْقَ الرّأْسِ خُضُوعٌ وَعُبُودِيّةٌ وَذُلّ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الْحَجّ حَتّى إنّهُ عِنْدَ الشّافِعِيّ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ لَا يَتِمّ إلّا بِهِ فَإِنّهُ وَضْعُ النّوَاصِي بَيْنَ يَدَيْ رَبّهَا خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ وَتَذَلّلًا لِعِزّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا أَرَادَتْ إذْلَالَ الْأَسِيرِ مِنْهُمْ وَعِتْقَهُ حَلَقُوا رَأْسَهُ وَأَطْلَقُوهُ فَجَاءَ شُيُوخُ الضّلَالِ وَالْمُزَاحِمُونَ لِلرّبُوبِيّةِ الّذِينَ أَسَاسُ مَشْيَخَتِهِمْ عَلَى الشّرَكِ وَالْبِدْعَةِ فَأَرَادُوا مِنْ مُرِيدِيهِمْ أَنْ يَتَعَبّدُوا لَهُمْ فَزَيّنُوا لَهُمْ حَلْقَ رُءُوسِهِمْ لَهُمْ كَمَا زَيّنُوا لَهُمْ السّجُودَ لَهُمْ وَسَمّوْهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَقَالُوا : هُوَ وَضْعُ الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ الشّيْخِ وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ السّجُودَ لِلّهِ هُوَ وَضْعُ الرّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ سُبْحَانَهُ وَزَيّنُوا لَهُمْ أَنْ <147> يَنْذُرُوا لَهُمْ وَيَتُوبُوا لَهُمْ وَيَحْلِفُوا بِأَسْمَائِهِمْ وَهَذَا هُوَ اتّخَاذُهُمْ أَرْبَابًا وَآلِهَةً مِنْ دُونِ اللّهِ قَالَ تَعَالَى : مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ
(1/207)
دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ آلَ عِمْرَانَ 79 - 80 ] .
[ التّحْذِيرُ مِنْ الرّكُوعِ وَالِانْحِنَاءِ لِغَيْرِ اللّهِ وَكَذَا الْقِيَامُ عَلَى رُءُوسِ الْأَكَابِرِ وَهُمْ جُلُوسٌ ]
وَأَشْرَفُ الْعُبُودِيّةِ عُبُودِيّةُ الصّلَاةِ وَقَدْ تَقَاسَمَهَا الشّيُوخُ وَالْمُتَشَبّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْجَبَابِرَةُ فَأَخَذَ الشّيُوخُ مِنْهَا أَشْرَفَ مَا فِيهَا وَهُوَ السّجُودُ وَأَخَذَ الْمُتَشَبّهُونَ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهَا الرّكُوعَ فَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا رَكَعَ لَهُ كَمَا يَرْكَعُ الْمُصَلّي لِرَبّهِ سَوَاءً وَأَخَذَ الْجَبَابِرَةُ مِنْهُمْ الْقِيَامَ فَيَقُومُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ عَلَى رُءُوسِهِمْ عُبُودِيّةً لَهُمْ وَهُمْ جُلُوسٌ وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الثّلَاثَةِ عَلَى التّفْصِيلِ فَتَعَاطِيهَا . مُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لَهُ فَنَهَى عَنْ السّجُودِ لِغَيْرِ اللّهِ وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ وَأَنْكَرَ عَلَى مُعَاذٍ لَمّا سَجَدَ لَهُ وَقَالَ " مَهْ "
(1/208)
<148> وَتَحْرِيمُ هَذَا مَعْلُومٌ مِنْ دِينِهِ بِالضّرُورَةِ وَتَجْوِيزُ مَنْ جَوّزَهُ لِغَيْرِ اللّهِ مُرَاغَمَةٌ لِلّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَنْوَاعِ الْعُبُودِيّةِ فَإِذَا جَوّزَ هَذَا الْمُشْرِكُ هَذَا النّوْعَ لِلْبَشَرِ فَقَدْ جَوّزَ الْعُبُودِيّةَ لِغَيْرِ اللّهِ وَقَدْ صَحّ أَنّهُ قِيلَ لَهُ الرّجُلُ يَلْقَى أَخَاهُ أَيَنْحَنِي لَهُ ؟ قَالَ " لَا " . قِيلَ أَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبّلُهُ قَالَ " لَا " . قِيلَ أَيُصَافِحُهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ "
[أَمْرُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا
لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُو جالسٌ ]
وَأَيْضًا : فَالِانْحِنَاءُ عِنْدَ التّحِيّةِ سُجُودٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا [ الْبَقَرَةُ 58 ] أَيْ مُنْحَنِينَ وَإِلّا فَلَا يُمْكِنُ الدّخُولُ عَلَى الْجِبَاهِ وَصَحّ عَنْهُ النّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَهُوَ جَالِسُ كَمَا تُعَظّمُ الْأَعَاجِمُ بَعْضَهَا بَعْضًا حَتّى مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الصّلَاةِ وَأَمَرَهُمْ إذَا صَلّى جَالِسًا أَنْ يُصَلّوا جُلُوسًا وَهُمْ أَصِحّاءُ لَا عُذْرَ لَهُمْ لِئَلّا يَقُومُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أَنّ قِيَامَهُمْ لِلّهِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ الْقِيَامُ تَعْظِيمًا وَعُبُودِيّةً لِغَيْرِهِ سُبْحَانَهُ .
(1/209)
وَالْمَقْصُودُ أَنّ النّفُوسَ الْجَاهِلَةَ الضّالّةَ أَسْقَطَتْ عُبُودِيّةَ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَأَشْرَكَتْ فِيهَا مَنْ تُعَظّمُهُ مِنْ الْخَلْقِ فَسَجَدَتْ لِغَيْرِ اللّهِ وَرَكَعَتْ لَهُ وَقَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ قِيَامَ الصّلَاةِ وَحَلَفَتْ بِغَيْرِهِ وَنَذَرَتْ لِغَيْرِهِ وَحَلَقَتْ لِغَيْرِهِ وَذَبَحَتْ لِغَيْرِهِ وَطَافَتْ لِغَيْرِ بَيْتِهِ وَعَظّمَتْهُ بِالْحُبّ وَالْخَوْفِ وَالرّجَاءِ وَالطّاعَةِ كَمَا يُعَظّمُ الْخَالِقُ بَلْ أَشَدّ وَسَوّتْ مَنْ تَعْبُدُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِرَبّ الْعَالَمِينَ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُضَادّونَ لِدَعْوَةِ الرّسُلِ وَهُمْ الّذِينَ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ وَهُمْ الّذِينَ يَقُولُونَ - وَهُمْ فِي النّارِ مَعَ آلِهَتِهِمْ يَخْتَصِمُونَ - تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوّيكُمْ بِرَبّ الْعَالَمِينَ <149> [ الشّعَرَاءُ 98 ] . وَهُمْ الّذِينَ قَالَ فِيهِمْ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْدَادًا يُحِبّونَهُمْ كَحُبّ اللّهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدّ حُبّا لِلّهِ [ الْبَقَرَةُ 165 ] وَهَذَا كُلّهُ مِنْ الشّرْكِ وَاَللّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ . فَهَذَا فَصْلٌ مُعْتَرَضٌ فِي هَدْيِهِ فِي حَلْقِ الرّأْسِ وَلَعَلّهُ أَهَمّ مِمّا قُصِدَ الْكَلَامُ فِيهِ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِلَاجِ بِالْأَدْوِيَةِ الرّوحَانِيّةِ الْإِلَهِيّةِ الْمُفْرَدَةِ وَالْمُرَكّبَةِ مِنْهَا وَمِنْ الْأَدْوِيَةِ الطّبِيعِيّةِ
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ
(1/210)
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ
وَفِي " صَحِيحِهِ " أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَيْنُ حَقّ
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَ يُؤْمَرُ الْعَائِنُ فَيَتَوَضّأُ ثُمّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ الْمَعِينُ
<150> وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ أَمَرَنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَمَرَ أَنْ نَسْتَرْقِيَ مِنْ الْعَيْنِ
وَذَكَرَ التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزّرْقِيّ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمْ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
(1/211)
وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ رَأَى عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَغْتَسِلُ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبّأَةٍ قَالَ فَلُبِطَ سَهْلٌ فَأَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامِرًا فَتَغَيّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ " عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ أَلَا بَرّكْتَ اغْتَسِلْ لَهُ " فَغَسَلَ لَهُ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمّ صَبّ عَلَيْهِ فَرَاحَ مَعَ النّاسِ
وَرَوَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَيْضًا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ عَنْ أَبِيهِ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ إنّ الْعَيْنَ حَقّ تَوَضّأْ لَهُ فَتَوَضّأَ لَهُ
وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا الْعَيْنُ حَقّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ <151> وَوَصْلُهُ صَحِيحٌ .
قَالَ الزّهْرِيّ : يُؤْمَرُ الرّجُلُ الْعَائِنُ بِقَدَحٍ فَيُدْخِلُ كَفّهُ فِيهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمّ يَمُجّهُ فِي الْقَدَحِ وَيَغْسِلُ وَجْهَهُ فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُمْنَى فِي الْقَدَحِ ثُمّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فَيَصُبّ عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ثُمّ يَغْسِلُ دَاخِلَةَ إزَارِهِ وَلَا يُوضَعُ الْقَدَحُ فِي الْأَرْضِ ثُمّ يُصَبّ عَلَى رَأْسِ الرّجُلِ الّذِي تُصِيبُهُ الْعَيْنُ مِنْ خَلْفِهِ صَبّةً وَاحِدَةً .
(1/212)
وَالْعَيْنُ عَيْنَانِ عَيْنٌ إنْسِيّةٌ وَعَيْنٌ جِنّيّةٌ فَقَدْ صَحّ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى فِي بَيْتِهَا جَارِيَةً فِي وَجْهِهَا سَفْعَةٌ فَقَالَ اسْتَرْقُوا لَهَا فَإِنّ بِهَا النّظْرَةَ قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْفَرّاءُ : وَقَوْلُهُ سَفْعَةٌ أَيْ نَظْرَةٌ يَعْنِي : مِنْ الْجِنّ يَقُولُ بِهَا عَيْنٌ أَصَابَتْهَا مِنْ نَظَرِ الْجِنّ أَنْفَذُ مِنْ أَسِنّةِ الرّمَاحِ .
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ إنّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ
<152> وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَعَوّذُ مِنْ الْجَانّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ
[قَوْلُ مَنْ أَبْطَلَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ]
فَأَبْطَلَتْ طَائِفَةٌ مِمّنْ قَلّ نَصِيبُهُمْ مِنْ السّمْعِ وَالْعَقْلِ أَمْرَ الْعَيْنِ وَقَالُوا : إنّمَا ذَلِكَ أَوْهَامٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ وَهَؤُلَاءِ مِنْ أَجْهَلِ النّاسِ بِالسّمْعِ وَالْعَقْلِ وَمِنْ أَغْلَظِهِمْ حِجَابًا وَأَكْثَفِهِمْ طِبَاعًا وَأَبْعَدِهِمْ مَعْرِفَةً عَنْ الْأَرْوَاحِ وَالنّفُوسِ . وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا وَتَأْثِيرَاتِهَا وَعُقَلَاءُ الْأُمَمِ عَلَى اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ لَا تَدْفَعُ أَمْرَ الْعَيْنِ وَلَا تُنْكِرُهُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ وَجِهَةِ تَأْثِيرِ الْعَيْنِ .
(1/213)
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّ الْعَائِنَ إذَا تَكَيّفَتْ نَفْسُهُ بِالْكَيْفِيّةِ الرّدِيئَةِ انْبَعَثَ مِنْ عَيْنِهِ قُوّةٌ سُمّيّةٌ تَتّصِلُ بِالْمَعِينِ فَيَتَضَرّرُ . قَالُوا : وَلَا يُسْتَنْكَرُ هَذَا كَمَا لَا يُسْتَنْكَرُ انْبِعَاثُ قُوّةٍ سُمّيّةٍ مِنْ الْأَفْعَى تَتّصِلُ بِالْإِنْسَانِ فَيَهْلَكُ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الْأَفَاعِي أَنّهَا إذَا وَقَعَ بَصَرُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ هَلَكَ فَكَذَلِكَ الْعَائِنُ .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : لَا يُسْتَبْعَدُ أَنْ يَنْبَعِثَ مِنْ عَيْنِ بَعْضِ النّاسِ جَوَاهِرُ لَطِيفَةٌ غَيْرُ مَرْئِيّةٍ فَتَتّصِلُ بِالْمَعِينِ وَتَتَخَلّلُ مَسَامّ جِسْمِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضّرَرُ .
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى : قَدْ أَجْرَى اللّهُ الْعَادَةَ بِخَلْقِ مَا يَشَاءُ مِنْ الضّرَرِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ عَيْنِ الْعَائِنِ لِمَنْ يَعِينُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ قُوّةٌ وَلَا سَبَبٌ وَلَا تَأْثِيرٌ أَصْلًا وَهَذَا مَذْهَبُ مُنْكِرِي الْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالتّأْثِيرَاتِ فِي الْعَالَمِ وَهَؤُلَاءِ قَدْ سَدّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَابَ الْعِلَلِ وَالتّأْثِيرَاتِ وَالْأَسْبَابِ وَخَالَفُوا الْعُقَلَاءَ أَجْمَعِينَ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْإِصَابَةَ بِالْعَيْنِ ]
(1/214)
وَلَا رَيْبَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ قُوًى وَطَبَائِعَ مُخْتَلِفَةً <153> وَجَعَلَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا خَوَاصّ وَكَيْفِيّاتٍ مُؤَثّرَةً وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ إنْكَارُ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ فِي الْأَجْسَامِ فَإِنّهُ أَمْرٌ مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ وَأَنْتَ تَرَى الْوَجْهَ كَيْفَ يَحْمَرّ حُمْرَةً شَدِيدَةً إذَا نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ يَحْتَشِمُهُ وَيَسْتَحِي مِنْهُ وَيَصْفَرّ صُفْرَةً شَدِيدَةً عِنْدَ نَظَرِ مَنْ يَخَافُهُ إلَيْهِ وَقَدْ شَاهَدَ النّاسُ مَنْ يَسْقَمُ مِنْ النّظَرِ وَتَضْعُفُ قُوَاهُ وَهَذَا كُلّهُ بِوَاسِطَةِ تَأْثِيرِ الْأَرْوَاحِ وَلِشِدّةِ ارْتِبَاطِهَا بِالْعَيْنِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَيْهَا وَلَيْسَتْ هِيَ الْفَاعِلَةَ وَإِنّمَا التّأْثِيرُ لِلرّوحِ وَالْأَرْوَاحُ مُخْتَلِفَةٌ فِي طَبَائِعِهَا وَقُوَاهَا وَكَيْفِيّاتِهَا وَخَوَاصّهَا فَرُوحُ الْحَاسِدِ مُؤْذِيَةٌ لِلْمَحْسُودِ أَذًى بَيّنًا
(1/215)
وَلِهَذَا أَمَرَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - رَسُولَهُ أَنْ يَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ شَرّهِ وَتَأْثِيرُ الْحَاسِدِ فِي أَذَى الْمَحْسُودِ أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ إلّا مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِيّةِ وَهُوَ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ فَإِنّ النّفْسَ الْخَبِيثَةَ الْحَاسِدَةَ تَتَكَيّفُ بِكَيْفِيّةٍ خَبِيثَةٍ وَتُقَابِلُ الْمَحْسُودَ فَتُؤَثّرُ فِيهِ بِتِلْكَ الْخَاصّيّةِ وَأَشْبَهُ الْأَشْيَاءِ بِهَذَا الْأَفْعَى فَإِنّ السّمّ كَامِنٌ فِيهَا بِالْقُوّةِ فَإِذَا قَابَلَتْ عَدُوّهَا انْبَعَثَتْ مِنْهَا قُوّةٌ غَضَبِيّةٌ وَتَكَيّفَتْ بِكَيْفِيّةٍ خَبِيثَةٍ مُؤْذِيَةٍ فَمِنْهَا مَا تَشْتَدّ كَيْفِيّتُهَا وَتَقْوَى حَتّى تُؤَثّرَ فِي إسْقَاطِ الْجَنِينِ وَمِنْهَا مَا تُؤَثّرُ فِي طَمْسِ الْبَصَرِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْأَبْتَرِ وَذِي الطّفْيَتَيْنِ مِنْ الْحَيّاتِ إنّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيُسْقِطَانِ الْحَبَل
[الْحَاسِدُ أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ ]
(1/216)
وَمِنْهَا مَا تُؤَثّرُ فِي الْإِنْسَانِ كَيْفِيّتُهَا بِمُجَرّدِ الرّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ اتّصَالٍ بِهِ لِشِدّةِ خُبْثِ تِلْكَ النّفْسِ وَكَيْفِيّتِهَا الْخَبِيثَةِ الْمُؤَثّرَةِ وَالتّأْثِيرُ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى الِاتّصَالَاتِ الْجِسْمِيّةِ كَمَا يَظُنّهُ مَنْ قَلّ عِلْمُهُ وَمَعْرِفَتُهُ بِالطّبِيعَةِ وَالشّرِيعَةِ بَلْ التّأْثِيرُ يَكُونُ تَارَةً بِالِاتّصَالِ وَتَارَةً بِالْمُقَابَلَةِ وَتَارَةً بِالرّؤْيَةِ وَتَارَةً بِتَوَجّهِ الرّوحِ نَحْوَ مَنْ يُؤَثّرُ فِيهِ وَتَارَةً بِالْأَدْعِيَةِ وَالرّقَى وَالتّعَوّذَاتِ وَتَارَةً بِالْوَهْمِ وَالتّخَيّلِ وَنَفْسُ الْعَائِنِ لَا يَتَوَقّفُ <154> تَأْثِيرُهَا عَلَى الرّؤْيَةِ بَلْ قَدْ يَكُونُ أَعْمَى فَيُوصَفُ لَهُ الشّيْءُ فَتُؤَثّرُ نَفْسُهُ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْعَائِنِينَ يُؤَثّرُ فِي الْمَعِينِ بِالْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ وَإِنْ يَكَادُ الّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمّا سَمِعُوا الذّكْرَ [ الْقَلَمُ 51 ] . وَقَالَ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الْفَلَقِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ فَكُلّ عَائِنٍ حَاسِدٌ وَلَيْسَ كُلّ حَاسِدٍ عَائِنًا فَلَمّا كَانَ الْحَاسِدُ أَعَمّ مِنْ الْعَائِنِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ اسْتِعَاذَةً مِنْ الْعَائِنِ وَهِيَ سِهَامٌ تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ الْحَاسِدِ وَالْعَائِنِ نَحْوَ الْمَحْسُودِ وَالْمَعِينِ تُصِيبُهُ تَارَةً وَتُخْطِئُهُ تَارَةً فَإِنْ صَادَفَتْهُ مَكْشُوفًا لَا وِقَايَةَ عَلَيْهِ أَثّرَتْ فِيهِ وَلَا بُدّ وَإِنْ صَادَفَتْهُ حَذِرًا شَاكِيَ السّلَاحِ لَا مَنْفَذَ فِيهِ لِلسّهَامِ لَمْ تُؤَثّرْ فِيهِ وَرُبّمَا
(1/217)
رُدّتْ السّهَامُ عَلَى صَاحِبِهَا وَهَذَا بِمَثَابَةِ الرّمْيِ الْحِسّيّ سَوَاءً فَهَذَا مِنْ النّفُوسِ وَالْأَرْوَاحِ وَذَاكَ مِنْ الْأَجْسَامِ وَالْأَشْبَاحِ .
وَأَصْلُهُ مِنْ إعْجَابِ الْعَائِنِ بِالشّيْءِ ثُمّ تَتْبَعُهُ كَيْفِيّةُ نَفْسِهِ الْخَبِيثَةِ ثُمّ تَسْتَعِينُ عَلَى تَنْفِيذِ سُمّهَا بِنَظْرَةٍ إلَى الْمَعِينِ وَقَدْ يَعِينُ الرّجُلُ نَفْسَهُ وَقَدْ يَعِينُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بَلْ بِطَبْعِهِ وَهَذَا أَرْدَأُ مَا يَكُونُ مِنْ النّوْعِ الْإِنْسَانِيّ وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ إنّ مَنْ عُرِفَ بِذَلِكَ حَبَسَهُ الْإِمَامُ وَأَجْرَى لَهُ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ قَطْعًا .
فَصْلٌ [عِلَاجُ الْمَعْيُونِ بِالتّعَوّذَاتِ وَالرّقَى ]
وَالْمَقْصُودُ الْعِلَاجُ النّبَوِيّ لِهَذِهِ الْعِلّةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ مَرَرْنَا بِسَيْلٍ فَدَخَلْت فَاغْتَسَلْت فِيهِ فَخَرَجْتُ مَحْمُومًا فَنُمِيَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " مُرُوا أَبَا ثَابِتٍ يَتَعَوّذُ قَالَ فَقُلْت : يَا سَيّدِي وَالرّقَى صَالِحَةٌ ؟ فَقَالَ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي نَفْسٍ أَوْ حُمّةٍ أَوْ لَدْغَةٍ
<155> وَالنّفْسُ الْعَيْنُ يُقَالُ أَصَابَتْ فُلَانًا نَفْسٌ أَيْ عَيْنٌ . وَالنّافِسُ الْعَائِنُ . وَاللّدْغَةُ - بِدَالٍ مُهْمَلَةٍ وَغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ - وَهِيَ ضَرْبَةُ الْعَقْرَبِ وَنَحْوَهَا .
[عِبَارَاتٌ مِنْ التّعَوّذَاتِ النّبَوِيّةِ ]
فَمِنْ التّعَوّذَاتِ وَالرّقَى الْإِكْثَارُ مِنْ قِرَاءَةِ الْمُعَوّذَتَيْنِ وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَآيَةِ الْكُرْسِيّ وَمِنْهَا التّعَوّذَاتُ النّبَوِيّةُ .
(1/218)
نَحْوُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ
وَنَحْوُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ كُلّ شَيْطَانٍ وَهَامّةٍ وَمِنْ كُلّ عَيْنٍ لَامّةٍ
وَنَحْوُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ الّتِي لَا يُجَاوِزُهُنّ بَرّ وَلَا فَاجِرٌ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ وَمِنْ شَرّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ شَرّ فِتَنِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمِنْ شَرّ طَوَارِقِ اللّيْلِ إلّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَن
وَمِنْهَا : أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَمِنْ شَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضُرُون
وَمِنْهَا : اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِوَجْهِك الْكَرِيمِ وَكَلِمَاتِك التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللّهُمّ أَنْتَ تَكْشِفُ الْمَأْثَمَ وَالْمَغْرَمَ اللّهُمّ إنّهُ لَا يُهْزَمُ جُنْدُك وَلَا يُخْلَفُ وَعْدُكُ سُبْحَانَك وَبِحَمْدِك
وَمِنْهَا : أَعُوذُ بِوَجْهِ اللّهِ الْعَظِيمِ الّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَبِكَلِمَاتِهِ التّامّاتِ الّتِي لَا يُجَاوِزُهُنّ بَرّ وَلَا فَاجِرٌ وَأَسْمَاءِ اللّهِ الْحُسْنَى مَا عَلِمْتُ مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ لَا أُطِيقُ شَرّهُ وَمِنْ شَرّ كُلّ ذِي شَرّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ إنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(1/219)
وَمِنْهَا : اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ عَلَيْك تَوَكّلْت وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ مَا شَاءَ اللّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنّ اللّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَيْءٍ عِلْمًا وَأَحْصَى كُلّ شَيْءٍعَدَدًا اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ نَفْسِي وَشَرّ الشّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَمِنْ شَرّ كُلّ دَابّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
<156> وَإِنْ شَاءَ قَالَ تَحَصّنْتُ بِاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ إلَهِي وَإِلَهِ كُلّ شَيْءٍ وَاعْتَصَمْتُ بِرَبّي وَرَبّ كُلّ شَيْءٍ وَتَوَكّلْتُ عَلَى الْحَيّ الّذِي لَا يَمُوتُ وَاسْتَدْفَعْتُ الشّرّ بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ حَسْبِي اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حَسْبِي الرّبّ مِنْ الْعِبَادِ حَسَبِي الْخَالِقُ مِنْ الْمَخْلُوقِ حَسَبِي الرّازِقُ مِنْ الْمَرْزُوقِ حَسْبِي الّذِي هُوَ حَسْبِي حَسْبِي الّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ حَسْبِي اللّهُ وَكَفَى سَمِعَ اللّهُ لِمَنْ دَعَا لَيْسَ وَرَاءَ اللّهِ مَرْمَى حَسْبِي اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكّلْت وَهُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
وَمَنْ جَرّبَ هَذِهِ الدّعَوَاتِ وَالْعُوَذَ عَرَفَ مِقْدَارَ مَنْفَعَتِهَا وَشِدّةَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهِيَ تَمْنَعُ وُصُولَ أَثَرِ الْعَائِنِ وَتَدْفَعُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ بِحَسَبِ قُوّةِ إيمَانِ قَائِلِهَا وَقُوّةِ نَفْسِهِ وَاسْتِعْدَادِهِ وَقُوّةِ تَوَكّلِهِ وَثَبَاتِ قَلْبِهِ فَإِنّهَا سِلَاحٌ وَالسّلَاحُ بِضَارِبِهِ .
فَصْلٌ [مَا يَقُولُهُ الْعَائِنُ خَشْيَةً مِنْ ضَرَرِ عَيْنِهِ ]
(1/220)
وَإِذَا كَانَ الْعَائِنُ يَخْشَى ضَرَرَ عَيْنِهِ وَإِصَابَتَهَا لِلْمَعِينِ فَلْيَدْفَعْ شَرّهَا بِقَوْلِهِ اللّهُمّ بَارِكْ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ لَمّا عَانَ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ " أَلَا بَرّكْت " أَيْ قُلْتَ اللُهمّ بَارِكْ عَلَيْهِ
وَمِمّا يُدْفَعُ بِهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ قَوْلُ مَا شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ رَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ كَانَ إذَا رَأَى شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخَلَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهِ قَالَ مَا شَاءَ اللّهُ لَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ .
[الرّقْيَةُ لِلْمَعِينِ ]
وَمِنْهَا رُقْيَةُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " <157> بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيك مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيك مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيك بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ
[كِتَابَةُ الْآيَاتِ ثُمّ شُرْبُهَا ]
وَرَأَى جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ أَنْ تُكْتَبَ لَهُ الْآيَاتُ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمّ يَشْرَبَهَا . قَالَ مُجَاهِدٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ وَيَغْسِلَهُ وَيَسْقِيَهُ الْمَرِيضَ وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي قِلَابَة َ . وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّهُ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ لِاِمْرَأَةٍ تَعَسّرَ عَلَيْهَا وِلَادُهَا أَثَرٌ مِنْ الْقُرْآنِ ثُمّ يُغْسَلُ وَتُسْقَى وَقَالَ أَيّوبُ رَأَيْتُ أَبَا قِلَابَةَ كَتَبَ كِتَابًا مِنْ الْقُرْآنِ ثُمّ غَسَلَهُ بِمَاءٍ وَسَقَاهُ رَجُلًا كَانَ بِهِ وَجَعٌ
فَصْلٌ [اسْتِغْسَالُ الْعَائِنِ لِلْمَعِينِ ]
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهُ مِنْ الْأَطِبّاءِ ]
(1/221)
وَمِنْهَا : أَنْ يُؤْمَرَ الْعَائِنُ بِغَسْلِ مَغَابِنِهِ وَأَطْرَافِهِ وَدَاخِلَةِ إزَارِهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنّهُ فَرْجُهُ . وَالثّانِي : أَنّهُ طَرَفُ إزَارِهِ الدّاخِلِ الّذِي يَلِي جَسَدَهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمّ يُصَبّ عَلَى رَأْسِ الْمَعِينِ مِنْ خَلْفِهِ بَغْتَةً وَهَذَا مِمّا لَا يَنَالُهُ عِلَاجُ الْأَطِبّاءِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ أَنْكَرَهُ أَوْ سَخِرَ مِنْهُ أَوْ شَكّ فِيهِ أَوْ فَعَلَهُ مُجَرّبًا لَا يَعْتَقِدُ أَنّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ .
[حِكْمَةُ الْاِسْتِغْسَالِ ]
(1/222)
وَإِذَا كَانَ فِي الطّبِيعَةِ خَوَاصّ لَا تَعْرِفُ الْأَطِبّاءُ عِلَلَهَا أَلْبَتّةَ بَلْ هِيَ عِنْدَهُمْ خَارِجَةٌ عَنْ قِيَاسِ الطّبِيعَةِ تَفْعَلُ بِالْخَاصّيّةِ فَمَا الّذِي يُنْكِرُهُ زَنَادِقَتُهُمْ وَجَهَلَتُهُمْ مِنْ الْخَوَاصّ الشّرْعِيّةِ هَذَا مَعَ أَنّ فِي الْمُعَالَجَةِ بِهَذَا الْاِسْتِغْسَالِ مَا تَشْهَدُ لَهُ الْعُقُولُ الصّحِيحَةُ وَتُقِرّ لِمُنَاسَبَتِهِ فَاعْلَمْ أَنّ تِرْيَاقَ سُمّ الْحَيّةِ فِي لَحْمِهَا وَأَنّ عِلَاجَ تَأْثِيرِ النّفْسِ الْغَضَبِيّةِ فِي تَسْكِينِ غَضَبِهَا وَإِطْفَاءِ نَارِهِ بِوَضْعِ يَدِكَ عَلَيْهِ وَالْمَسْحِ عَلَيْهِ وَتَسْكِينِ غَضَبِهِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَقْذِفَك بِهَا فَصَبَبْتَ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَهِيَ فِي يَدِهِ حَتّى طُفِئَت وَلِذَلِكَ أُمِرَ الْعَائِنُ أَنْ يَقُولَ <158> اللّهُمّ بَارِكْ عَلَيْهِ لِيَدْفَعَ تِلْكَ الْكَيْفِيّةِ الْخَبِيثَةِ بِالدّعَاءِ الّذِي هُوَ إحْسَانٌ إلَى الْمَعِينِ فَإِنّ دَوَاءَ الشّيْءِ بِضِدّهِ . وَلَمّا كَانَتْ هَذِهِ الْكَيْفِيّةُ الْخَبِيثَةُ تَظْهَرُ فِي الْمَوَاضِعِ الرّقِيقَةِ مِنْ الْجَسَدِ لِأَنّهَا تَطْلُبُ النّفُوذَ فَلَا تَجِدُ أَرَقّ مِنْ الْمَغَابِنِ وَدَاخِلَةِ الْإِزَارِ وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْفَرَجِ فَإِذَا غُسِلَتْ بِالْمَاءِ بَطَلَ تَأْثِيرُهَا وَعَمَلُهَا وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ لِلْأَرْوَاحِ الشّيْطَانِيّةِ بِهَا اخْتِصَاصٌ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ غَسْلَهَا بِالْمَاءِ يُطْفِئُ تِلْكَ النّارِيّةِ وَيَذْهَبُ بِتِلْكَ السّمّيّةِ .
(1/223)
وَفِيهِ أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ وُصُولُ أَثَرِ الْغَسْلِ إلَى الْقَلْبِ مِنْ أَرَقّ الْمَوَاضِعِ وَأَسْرَعِهَا تَنْفِيذًا فَيُطْفِئُ تِلْكَ النّارِيّةِ وَالسّمّيّةِ بِالْمَاءِ فَيُشْفَى الْمَعِينُ وَهَذَا كَمَا أَنّ ذَوَاتَ السّمُومِ إذَا قُتِلَتْ بَعْدَ لَسْعِهَا خَفّ أَثَرُ اللّسْعَةِ عَنْ الْمَلْسُوعِ وَوَجَدَ رَاحَةً فَإِنّ أَنْفُسَهَا تَمُدّ أَذَاهَا بَعْدَ لَسْعِهَا وَتُوَصّلُهُ إلَى الْمَلْسُوعِ . فَإِذَا قُتِلَتْ خَفّ الْأَلَمُ وَهَذَا مُشَاهَدٌ . وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْبَابِهِ فَرَحُ الْمَلْسُوعِ وَاشْتِفَاءُ نَفْسِهِ بِقَتْلِ عَدُوّهِ فَتَقْوَى الطّبِيعَةُ عَلَى الْأَلَمِ فَتَدْفَعُهُ .
وَبِالْجُمْلَةِ غَسْلُ الْعَائِنِ يُذْهِبُ تِلْكَ الْكَيْفِيّةِ الّتِي ظَهَرَتْ مِنْهُ وَإِنّمَا يَنْفَعُ غَسْلُهُ عِنْدَ تَكَيّفِ نَفْسِهِ بِتِلْكَ الْكَيْفِيّةِ .
[حِكْمَةُ صَبّ مَاءِ الْاِسْتِغْسَالِ عَلَى الْمَعِينِ ]
(1/224)
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ظَهَرَتْ مُنَاسَبَةُ الْغَسْلِ فَمَا مُنَاسَبَةُ صَبّ ذَلِكَ الْمَاءِ عَلَى الْمَعِينِ ؟ قِيلَ هُوَ فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ فَإِنّ ذَلِكَ الْمَاءَ مَاءٌ طُفِئَ بِهِ تِلْكَ النّارِيّةُ وَأُبْطِلَ تِلْكَ الْكَيْفِيّةُ الرّدِيئَةُ مِنْ الْفَاعِلِ فَكَمَا طُفِئَت بِهِ النّارِيّةُ الْقَائِمَةُ بِالْفَاعِلِ طُفِئَت بِهِ وَأُبْطِلَتْ عَنْ الْمَحَلّ الْمُتَأَثّرِ بَعْدَ مُلَابَسَتِهِ لِلْمُؤَثّرِ الْعَائِنِ وَالْمَاءُ الّذِي يُطْفَأُ بِهِ الْحَدِيدُ يَدْخُلُ فِي أَدْوِيَةٍ عِدّةٍ طَبِيعِيّةٍ ذَكَرَهَا الْأَطِبّاءُ فَهَذَا الّذِي طُفِئَ بِهِ نَارِيّةُ الْعَائِنِ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَدْخُلَ فِي دَوَاءٍ يُنَاسِبُ هَذَا الدّاءَ . وَبِالْجُمْلَةِ فَطِبّ الطّبَائِعِيّةِ وَعِلَاجُهُمْ بِالنّسْبَةِ إلَى الْعِلَاجِ النّبَوِيّ كَطِبّ الطّرُقِيّةِ بِالنّسْبَةِ إلَى طِبّهِمْ بَلْ أَقَلّ فَإِنّ التّفَاوُتَ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ أَعْظَمُ وَأَعْظَمُ مِنْ التّفَاوُتِ الّذِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطّرُقِيّةِ بِمَا لَا يُدْرِكُ الْإِنْسَانُ مِقْدَارَهُ فَقَدْ ظَهَرَ لَك عَقْدُ الْإِخَاءِ الّذِي <159> بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشّرْعِ وَعَدَمُ مُنَاقَضَةِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَاَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى الصّوَابِ وَيَفْتَحُ لِمَنْ أَدَامَ قَرْعَ بَابَ التّوْفِيقِ مِنْهُ كُلّ بَابٍ وَلَهُ النّعْمَةُ السّابِغَةُ وَالْحُجّةُ الْبَالِغَةُ .
فَصْلٌ [ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ سَتْرُ مَحَاسِنِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ ]
(1/225)
وَمِنْ عِلَاجِ ذَلِكَ أَيْضًا وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ سَتْرُ مَحَاسِنِ مَنْ يُخَافُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ بِمَا يَرُدّهَا عَنْهُ كَمَا ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي كِتَابِ " شَرْحِ السّنّةِ " : أَنّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَأَى صَبِيّا مَلِيحًا فَقَالَ دَسّمُوا نُونَتَهُ لِئَلّا تُصِيبَهُ الْعَيْنُ ثُمّ قَالَ فِي تَفْسِيرِهِ وَمَعْنَى : دَسّمُوا نُونَتَهُ أَيْ سَوّدُوا نُونَتَهُ وَالنّونَةُ النّقْرَةُ الّتِي تَكُونُ فِي ذَقَنِ الصّبِيّ الصّغِيرِ .
وَقَالَ الْخَطّابِي فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " لَهُ عَنْ عُثْمَانَ : إنّهُ رَأَى صَبِيّا تَأْخُذُهُ الْعَيْنُ فَقَالَ دَسّمُوا نُونَتَهُ فَقَالَ أَبُو عَمْرٍو : سَأَلْت أَحْمَدَ بْنَ يَحْيَى عَنْهُ فَقَالَ أَرَادَ بِالنّونَةِ النّقْرَةُ الّتِي فِي ذَقَنِهِ . وَالتّدْسِيمُ التّسْوِيدُ . أَرَادَ سَوّدُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ ذَقَنِهِ لِيَرُدّ الْعَيْنَ . قَالَ وَمِنْ هَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ دَسْمَاءُ أَيْ سَوْدَاءُ . أَرَادَ الِاسْتِشْهَادَ عَلَى اللّفْظَةِ وَمِنْ هَذَا أَخَذَ الشّاعِرُ قَوْلَهُ <160>
مَا كَانَ أَحْوَجَ ذَا الْكَمَالِ إلَى
عَيْبٍ يُوَقّيهِ مِنْ الْعَيْنِ
فَصْلٌ [ذَكَرَ رُقْيَةً تَرُدّ الْعَيْنَ ]
(1/226)
وَمِنْ الرّقَى الّتِي تَرُدّ الْعَيْنَ مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ السّاجِيّ أَنّهُ كَانَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِلْحَجّ أَوْ الْغَزْوِ عَلَى نَاقَةٍ فَارِهَةٍ وَكَانَ فِي الرّفْقَةِ رَجُلٌ عَائِنٌ قَلّمَا نَظَرَ إلَى شَيْءٍ إلّا أَتْلَفَهُ فَقِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللّهِ : احْفَظْ نَاقَتَك مِنْ الْعَائِنِ فَقَالَ لَيْسَ لَهُ إلَى نَاقَتِي سَبِيلٌ فَأُخْبِرَ الْعَائِنُ بِقَوْلِهِ فَتَحَيّنَ غَيْبَةَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ فَجَاءَ إلَى رَحْلِهِ فَنَظَرَ إلَى النّاقَةِ فَاضْطَرَبَتْ وَسَقَطَتْ فَجَاءَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ فَأُخْبِرَ أَنّ الْعَائِنَ قَدْ عَانَهَا وَهِيَ كَمَا تَرَى فَقَالَ دِلّونِي عَلَيْهِ فَدُلّ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ بِسْمِ اللّهِ حَبْسٌ حَابِسٌ وَحَجَرٌ يَابِسٌ وَشِهَابٌ قَابِسٌ رَدَدْتُ عَيْنَ الْعَائِنِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحَبّ النّاسِ إلَيْهِ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [ الْمَلِكُ 4ُ3 ] فَخَرَجَتْ حَدَقَتَا الْعَائِنِ وَقَامَتْ النّاقَةُ لَا بَأْسَ بِهَا .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعِلَاجِ الْعَامّ لِكُلّ شَكْوَى بِالرّقْيَةِ الْإِلَهِيّةِ
(1/227)
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاء ِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ اشْتَكَى مِنْكُمْ شَيْئًا أَوْ اشْتَكَاهُ أَخٌ لَهُ فَلْيَقُلْ رَبّنَا اللّهُ الّذِي فِي السّمَاءِ تَقَدّسَ اسْمُك أَمْرُكَ فِي السّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُكَ فِي السّمَاءِ فَاجْعَلْ رَحْمَتَكَ فِي الْأَرْضِ وَاغْفِرْ لَنَا حُوْبَنَا وَخَطَايَانَا أَنْتَ رَبّ الطّيّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِك وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ فَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللّهِ .
<161> وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي ّ أَنّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ اشْتَكَيْتَ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ " فَقَالَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيك .
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَقُولُونَ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ : لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ وَالْحُمَةُ ذَوَاتُ السّمُومِ كُلّهَا .
[التّوْفِيقُ بَيْنَ جَوَازِ الرّقْيَةِ لِكُلّ شَكْوَى وَبَيْنَ " لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ "]
(1/228)
فَالْجَوّابُ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ جَوَازِ الرّقْيَةِ فِي غَيْرِهَا بَلْ الْمُرَادُ بِهِ لَا رُقْيَةَ أَوْلَى وَأَنْفَعُ مِنْهَا فِي الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فَإِنّ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ قَالَ لَهُ لَمّا أَصَابَتْهُ الْعَيْنُ أَوَ فِي الرّقَى خَيْرٌ ؟ فَقَالَ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي نَفْسٍ أَوْ حُمَةٍ وَيَدُلّ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحَادِيثِ الرّقَى الْعَامّةِ وَالْخَاصّةِ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا رُقْيَةَ إلّا مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ أَوْ دَمٍ يَرْقَأُ
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ أَيْضًا : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَالْحُمَةِ وَالنّمْلَةِ <162>
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ اللّدِيغِ بِالْفَاتِحَةِ
(1/229)
أَخْرَجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ قَالَ ا نْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُفْرَةٍ سَافَرُوهَا حَتّى نَزَلُوا عَلَى حَيّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيّفُوهُمْ فَلُدِغَ سَيّدُ ذَلِكَ الْحَيّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرّهْطَ الّذِينَ نَزَلُوا لَعَلّهُمْ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا : يَا أَيّهَا الرّهْطُ إنّ سَيّدَنَا لُدِغَ وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَعَمْ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيّفُونَا فَمَا أَنَا بَرَاقٍ حَتّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَانْطَلَقَ يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ فَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ قَالَ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ الّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ اقْتَسِمُوا فَقَالَ الّذِي رَقَى : لَا تَفْعَلُوا حَتّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَذْكُرَ لَهُ الّذِي كَانَ فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ " وَمَا يُدْرِيكَ أَنّهَا رُقْيَةٌ ؟ " ثُمّ قَالَ قَدْ أَصَبْتُمْ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ خَيْرُ الدّوَاءِ الْقُرْآنُ
(1/230)
[فَائِدَةُ الرّقْيَةِ بِالْقُرْآنِ وَبِخَاصّةٍ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ ]
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ بَعْضَ الْكَلَامِ لَهُ خَوَاصّ وَمَنَافِعُ مُجَرّبَةٌ فَمَا الظّنّ بِكَلَامِ رَبّ الْعَالَمِينَ الّذِي فَضْلُهُ عَلَى كُلّ كَلَامٍ كَفَضْلِ اللّهِ عَلَى خَلْقِهِ الّذِي هُوَ الشّفَاءُ <163> التّامّ وَالْعِصْمَةُ النّافِعَةُ وَالنّورُ الْهَادِي وَالرّحْمَةُ الْعَامّةُ الّذِي لَوْ أُنْزِلَ عَلَى جَبَلٍ لَتَصَدّعَ مِنْ عَظْمَتِهِ وَجَلَالَتِهِ . قَالَ تَعَالَى : وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [ الْإِسْرَاءُ : 82 ] و " مِنْ " هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتّبْعِيضِ هَذَا أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ الْفَتْحُ 29 ] وَكُلّهُمْ مِنْ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ فَمَا الظّنّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ الّتِي لَمْ يُنْزَلْ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي التّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزّبُورِ مِثْلُهَا الْمُتَضَمّنَةِ لِجَمِيعِ مَعَانِي كُتُبِ اللّهِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ أَسْمَاءِ الرّبّ - تَعَالَى - وَمَجَامِعِهَا و هِيَ اللّهُ وَالرّبّ وَالرّحْمَنُ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَذِكْرِ التّوْحِيدَيْنِ
(1/231)
تَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَذِكْرِ الِافْتِقَارِ إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي طَلَبِ الْإِعَانَةِ وَطَلَبِ الْهِدَايَةِ وَتَخْصِيصِهِ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ وَذِكْرِ أَفْضَلِ الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَنْفَعِهِ وَأَفْرَضِهِ وَمَا الْعِبَادُ أَحْوَجُ شَيْءٍ إلَيْهِ وَهُوَ الْهِدَايَةُ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُتَضَمّنِ كَمَالَ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ - بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ وَالِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ إلَى الْمَمَاتِ وَيَتَضَمّنُ ذِكْرَ أَصْنَافِ الْخَلَائِقِ وَانْقِسَامَهُمْ إلَى مُنْعَمٍ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَةِ الْحَقّ وَالْعَمَلِ بِهِ وَمَحَبّتِهِ وَإِيثَارِهِ وَمَغْضُوبٍ عَلَيْهِ بِعُدُولِهِ عَنْ الْحَقّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ لَهُ وَضَالّ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ لَهُ .
وَهَؤُلَاءِ أَقْسَامُ الْخَلِيقَةِ مَعَ تَضَمّنِهَا لِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَالشّرْعِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ وَالْمَعَادِ وَالنّبُوّاتِ وَتَزْكِيَةِ النّفُوسِ وَإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ وَذِكْرِ عَدْلِ اللّهِ وَإِحْسَانِهِ وَالرّدّ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْبَاطِلِ كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ " مَدَارِجِ السّالِكِينَ " فِي شَرْحِهَا . وَحَقِيقٌ بِسُورَةٍ هَذَا بَعْضُ شَأْنِهَا أَنْ يُسْتَشْفَى بِهَا مِنْ الْأَدْوَاءِ وَيُرْقَى بِهَا اللّدِيغُ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا تَضَمّنَتْهُ الْفَاتِحَةُ مِنْ إخْلَاصِ الْعُبُودِيّةِ وَالثّنَاءِ عَلَى اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ كُلّهِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَسُؤَالِهِ مَجَامِعَ النّعَمِ كُلّهَا وَهِيَ الْهِدَايَةُ الّتِي تَجْلِبُ النّعَمَ وَتَدْفَعُ النّقَمَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدْوِيَةِ الشّافِيَةِ الْكَافِيَةِ . <164>
(1/232)
[ قِرَاءَةُ الْمُصَنّفِ الْفَاتِحَةَ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ وَذَلِكَ عِنْدَ سَقَمِهِ فِي مَكّةَ]
وَقَدْ قِيلَ إنّ مَوْضِعَ الرّقْيَةِ مِنْهَا : إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ مِنْ أَقْوَى أَجْزَاءِ هَذَا الدّوَاءِ فَإِنّ فِيهِمَا مِنْ عُمُومِ التّفْوِيضِ وَالتّوَكّلِ وَالِالْتِجَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ وَالِافْتِقَارِ وَالطّلَبِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ أَعْلَى الْغَايَاتِ وَهِيَ عِبَادَةُ الرّبّ وَحْدَهُ وَأَشْرَفُ الْوَسَائِلِ وَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ عَلَى عِبَادَتِهِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلَقَدْ مَرّ بِي وَقْتٌ بِمَكّةَ سَقِمْتُ فِيهِ وَفَقَدْتُ الطّبِيبَ وَالدّوَاءَ فَكُنْت أَتَعَالَجُ بِهَا آخُذُ شَرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ وَأَقْرَؤُهَا عَلَيْهَا مِرَارًا ثُمّ أَشْرَبُهُ فَوَجَدْتُ بِذَلِكَ الْبُرْءَ التّامّ ثُمّ صِرْت أَعْتَمِدُ ذَلِكَ عِنْد كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْجَاعِ فَأَنْتَفِعُ بِهَا غَايَةَ الِانْتِفَاعِ .
فَصْلٌ [نَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَتَدْفَعُ عَنْهُ الْمَرَضَ بِإِذْنِ اللّهِ ]
(1/233)
وَفِي تَأْثِيرِ الرّقَى بِالْفَاتِحَةِ وَغَيْرِهَا فِي عِلَاجِ ذَوَاتِ السّمُومِ سِرّ بَدِيعٌ فَإِنّ ذَوَاتَ السّمُومِ أَثّرَتْ بِكَيْفِيّاتِ نُفُوسِهَا الْخَبِيثَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَسِلَاحُهَا حُمَاتُهَا الّتِي تَلْدَغُ بِهَا وَهِيَ لَا تَلْدَغُ حَتّى تَغْضَبَ فَإِذَا غَضِبَتْ ثَارَ فِيهَا السّمّ فَتَقْذِفُهُ بِآلَتِهَا وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءً وَلِكُلّ شَيْءٍ ضِدّا وَنَفْسُ الرّاقِي تَفْعَلُ فِي نَفْسِ الْمَرْقِيّ فَيَقَعُ بَيْنَ نَفْسَيْهِمَا فِعْلٌ وَانْفِعَالٌ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ فَتَقْوَى نَفْسُ الرّاقِي وَقُوّتُهُ بِالرّقْيَةِ عَلَى ذَلِكَ الدّاءِ فَيَدْفَعُهُ بِإِذْنِ اللّهِ وَمَدَارُ تَأْثِيرِ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ عَلَى الْفِعْلِ وَالِانْفِعَالِ وَهُوَ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ الطّبِيعِيّيْنِ يَقَعُ بَيْنَ الدّاءِ وَالدّوَاءِ الرّوحَانِيّيْنِ وَالرّوحَانِيّ وَالطّبِيعِيّ وَفِي النّفْثِ وَالتّفْلِ اسْتِعَانَةٌ بِتِلْكَ الرّطُوبَةِ وَالْهَوَاءِ وَالنّفْسِ الْمُبَاشِرِ لِلرّقْيَةِ وَالذّكْرِ وَالدّعَاءِ فَإِنّ الرّقْيَةَ تَخْرُجُ مِنْ قَلْبِ الرّاقِي وَفَمِهِ فَإِذَا صَاحَبَهَا شَيْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ بَاطِنِهِ مِنْ الرّيقِ وَالْهَوَاءِ وَالنّفْسِ كَانَتْ أَتَمّ تَأْثِيرًا وَأَقْوَى فِعْلًا وَنُفُوذًا وَيَحْصُلُ بِالِازْدِوَاجِ بَيْنَهُمَا كَيْفِيّةٌ مُؤَثّرَةٌ شَبِيهَةٌ بِالْكَيْفِيّةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ تَرْكِيبِ الْأَدْوِيَةِ .
[النّفْثُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي دَفْعِ الْمَرَضِ ]
(1/234)
وَبِالْجُمْلَةِ فَنَفْسُ الرّاقِي تُقَابِلُ تِلْكَ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ وَتَزِيدُ بِكَيْفِيّةِ نَفْسِهِ <165> وَتَسْتَعِينُ بِالرّقْيَةِ وَبِالنّفْثِ عَلَى إزَالَةِ ذَلِكَ الْأَثَرِ وَكُلّمَا كَانَتْ كَيْفِيّةُ نَفْسِ الرّاقِي أَقْوَى كَانَتْ الرّقْيَةُ أَتَمّ وَاسْتِعَانَتُهُ بِنَفْثِهِ كَاسْتِعَانَةِ تِلْكَ النّفُوسِ الرّدِيئَةِ بِلَسْعِهَا .
وَفِي النّفْثِ سِرّ آخَرُ فَإِنّهُ مِمّا تَسْتَعِينُ بِهِ الْأَرْوَاحُ الطّيّبَةُ وَالْخَبِيثَةُ وَلِهَذَا تَفْعَلُهُ السّحَرَةُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِيمَانِ .
(1/235)
قَالَ تَعَالَى : وَمِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَذَلِكَ لِأَنّ النّفْسَ تَتَكَيّفُ بِكَيْفِيّةِ الْغَضَبِ وَالْمُحَارَبَةِ وَتُرْسِلُ أَنْفَاسَهَا سِهَامًا لَهَا وَتَمُدّهَا بِالنّفْثِ وَالتّفْلِ الّذِي مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الرّيقِ مُصَاحِبٌ لِكَيْفِيّةٍ مُؤَثّرَةٍ وَالسّوَاحِرُ تَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ اسْتِعَانَةً بَيّنَةً وَإِنْ لَمْ تَتّصِلْ بِجِسْمِ الْمَسْحُورِ بَلْ تَنْفُثُ عَلَى الْعُقْدَةِ وَتَعْقِدُهَا وَتَتَكَلّمُ بِالسّحْرِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي الْمَسْحُورِ بِتَوَسّطِ الْأَرْوَاحِ السّفْلِيّةِ الْخَبِيثَةِ فَتُقَابِلُهَا الرّوحُ الزّكِيّةُ الطّيّبَةُ بِكَيْفِيّةِ الدّفْعِ وَالتّكَلّمِ بِالرّقْيَةِ وَتَسْتَعِينُ بِالنّفْثِ فَأَيّهُمَا قَوِيَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ وَمُقَابَلَةُ الْأَرْوَاحِ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ وَمُحَارَبَتُهَا وَآلَتُهَا مِنْ جِنْسِ مُقَابَلَةِ الْأَجْسَامِ وَمُحَارَبَتُهَا وَآلَتِهَا سَوَاءٌ بَلْ الْأَصْلُ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالتّقَابُلِ لِلْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ آلَتُهَا وَجُنْدُهَا وَلَكِنْ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحِسّ لَا يَشْعُرُ بِتَأْثِيرَاتِ الْأَرْوَاحِ وَأَفْعَالِهَا وَانْفِعَالَاتِهَا لِاسْتِيلَاءِ سُلْطَانِ الْحِسّ عَلَيْهِ وَبُعْدِهِ مِنْ عَالَمِ الْأَرْوَاحِ وَأَحْكَامِهَا وَأَفْعَالِهَا .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ الرّوحَ إذَا كَانَتْ قَوِيّةً وَتَكَيّفَتْ بِمَعَانِي الْفَاتِحَةِ وَاسْتَعَانَتْ بِالنّفْثِ وَالتّفْلِ قَابَلَتْ ذَلِكَ الْأَثَرَ الّذِي حَصَلَ مِنْ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ فَأَزَالَتْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ لَدْغَةِ الْعَقْرَبِ بِالرّقْيَةِ
(1/236)
رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ بَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي إذْ سَجَدَ فَلَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فِي أُصْبُعِهِ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " لَعَنَ اللّهُ الْعَقْرَبَ مَا تَدَعُ نَبِيّا وَلَا غَيْرَهُ قَالَ ثُمّ دَعَا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ وَمِلْحٌ فَجَعَلَ يَضَعُ مَوْضِعَ اللّدْغَةِ فِي الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوّذَتَيْنِ حَتّى سَكَنَتْ
<166>
[ مَا لِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعِلَاجُ بِالدّوَاءِ الْمُرَكّبِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ الطّبِيعِيّ وَالْإِلَهِيّ فَإِنّ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ كَمَالِ التّوْحِيدِ الْعِلْمِيّ الِاعْتِقَادِيّ وَإِثْبَاتِ الأَحَدِيّةِ لِلّهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ نَفْيَ كُلّ شَرِكَةٍ عَنْهُ وَإِثْبَاتَ الصّمَدِيّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِثْبَاتِ كُلّ كَمَالٍ لَهُ مَعَ كَوْنِ الْخَلَائِقِ تَصْمُدُ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهَا أَيْ تَقْصِدُهُ الْخَلِيقَةُ وَتَتَوَجّهُ إلَيْهِ عَلَوِيّهَا وَسُفْلِيّهَا وَنَفْيَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْكُفْءِ عَنْهُ الْمُتَضَمّنِ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالنّظِيرُ وَالْمُمَاثِلُ مِمّا اخْتَصّتْ بِهِ وَصَارَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَفِي اسْمِهِ الصّمَدِ إثْبَاتُ كُلّ الْكَمَالِ وَفِي نَفْيِ الْكُفْءِ التّنْزِيهُ عَنْ الشّبِيهِ وَالْمِثَالِ . وَفِي الْأَحَدِ نَفْيُ كُلّ شَرِيكٍ لِذِي الْجَلَالِ وَهَذِهِ الْأُصُولُ الثّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ التّوْحِيدِ .
[ مَا لِلْمُعَوّذَتَيْنِ مِنْ الْفَائِدَةِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
(1/237)
وَفِي الْمُعَوّذَتَيْنِ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ كُلّ مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَإِنّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ تَعُمّ كُلّ شَرّ يُسْتَعَاذُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْأَجْسَامِ أَوْ الْأَرْوَاحِ وَالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرّ الْغَاسِقِ وَهُوَ اللّيْلُ وَآيَتُهُ وَهُوَ الْقَمَرُ إذَا غَابَ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ مَا يَنْتَشِرُ فِيهِ مِنْ الْأَرْوَاحِ الْخَبِيثَةِ الّتِي كَانَ نُورُ النّهَارِ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الِانْتِشَارِ فَلَمّا أَظْلَمَ اللّيْلُ عَلَيْهَا وَغَابَ الْقَمَرُ انْتَشَرَتْ وَعَاثَتْ .
(1/238)
وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ السّوَاحِرِ وَسِحْرِهِنّ . وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرّ الْحَاسِدِ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ النّفُوسِ الْخَبِيثَةِ الْمُؤْذِيَةِ بِحَسَدِهَا وَنَظَرِهَا . وَالسّورَةُ الثّانِيَةُ تَتَضَمّنُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ شَرّ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنّ فَقَدْ <167> جَمَعَتْ السّورَتَانِ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلّ شَرّ وَلَهُمَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فِي الِاحْتِرَاسِ وَالتّحَصّنِ مِنْ الشّرُورِ قَبْلَ وُقُوعِهَا وَلِهَذَا أَوْصَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ بِقِرَاءَتِهِمَا عَقِبَ كُلّ صَلَاةٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي هَذَا سِرّ عَظِيمٌ فِي اسْتِدْفَاعِ الشّرُورِ مِنْ الصّلَاةِ إلَى الصّلَاةِ . وَقَالَ مَا تَعَوّذَ الْمُتَعَوّذُونَ بِمِثْلِهِمَا . وَقَدْ ذَكَرَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُحِرَ فِي إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةٍ وَأَنّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَيْهِ بِهِمَا فَجَعَلَ كُلّمَا قَرَأَ آيَةً مِنْهُمَا انْحَلّتْ عُقْدَةٌ حَتّى انْحَلّتْ الْعُقَدُ كُلّهَا وَكَأَنّمَا أُنْشِطَ مِنْ عِقَالٍ .
[ الْفَائِدَةُ فِي الْمِلْحِ فِي عِلَاجِ اللّدْغَةِ ]
(1/239)
وَأَمّا الْعِلَاجُ الطّبِيعِيّ فِيهِ فَإِنّ فِي الْمِلْحِ نَفْعًا لِكَثِيرٍ مِنْ السّمُومِ وَلَا سِيّمَا لَدْغَةُ الْعَقْرَبِ قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : يُضَمّدُ بِهِ مَعَ بَزْرِ الْكَتّانِ لِلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ أَيْضًا . وَفِي الْمِلْحِ مِنْ الْقُوّةِ الْجَاذِبَةِ الْمُحَلّلَةِ مَا يَجْذِبُ السّمُومَ وَيُحَلّلُهَا وَلَمّا كَانَ فِي لَسْعِهَا قُوّةٌ نَارِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تَبْرِيدٍ وَجَذْبٍ وَإِخْرَاجٍ جَمَعَ بَيْنَ الْمَاءِ الْمُبَرّدِ لِنَارِ اللّسْعَةِ وَالْمِلْحِ الّذِي فِيهِ جَذْبٌ وَإِخْرَاجٌ وَهَذَا أَتَمّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِلَاجِ وَأَيْسَرُهُ وَأَسْهَلُهُ وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنّ عِلَاجَ هَذَا الدّاءِ بِالتّبْرِيدِ وَالْجَذْبِ وَالْإِخْرَاجِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ عَقْرَبٍ لَدَغَتْنِي الْبَارِحَةَ فَقَالَ " أَمَا لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرّك
(1/240)
وَاعْلَمْ أَنّ الْأَدْوِيَةَ الطّبِيعِيّةَ الْإِلَهِيّةَ تَنْفَعُ مِنْ الدّاءِ بَعْدَ حُصُولِهِ وَتَمْنَعُ مِنْ وُقُوعِهِ وَإِنْ وَقَعَ لَمْ يَقَعْ وُقُوعًا مُضِرّا وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا وَالْأَدْوِيَةُ الطّبِيعِيّةُ إنّمَا تَنْفَعُ بَعْدَ حُصُولِ الدّاءِ فَالتّعَوّذَاتُ وَالْأَذْكَارُ إمّا أَنْ تَمْنَعَ وُقُوعَ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَإِمّا أَنْ تَحُولَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كَمَالِ تَأْثِيرِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ التّعَوّذِ وَقُوّتِهِ وَضَعْفِهِ فَالرّقَى <168> وَالْعُوَذُ تُسْتَعْمَلُ لِحِفْظِ الصّحّةِ وَلِإِزَالَةِ الْمَرَضِ أَمّا الْأَوّلُ فَكَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَوَى إلَى فِرَاشِهِ نَفَثَ فِي كَفّيْهِ قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوّذَتَيْنِ . ثُمّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَمَا بَلَغَتْ يَدُهُ مِنْ جَسَدِهِ
وَكَمَا فِي حَدِيثِ عُوذَةِ أَبِي الدّرْدَاءِ الْمَرْفُوعِ اللّهُمّ أَنْتَ رَبّي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ عَلَيْكَ تَوَكّلْتُ وَأَنْتَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَقَدْ تَقَدّمَ وَفِيهِ مَنْ قَالَهَا أَوّلَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُمْسِيَ وَمَنْ قَالَهَا آخِرَ نَهَارِهِ لَمْ تُصِبْهُ مُصِيبَةٌ حَتّى يُصْبِحَ . وَكَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مَنْ قَرَأَ الْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ وَكَمَا فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التَامّاتِ مِنْ شَرّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرّهُ شَيْءٌ حَتّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ
(1/241)
وَكَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ فِي السّفَرِ يَقُولُ بِاللّيْلِ " يَا أَرْضُ رَبّي وَرَبّكِ اللّهُ أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شَرّكِ وَشَرّ مَا فِيك وَشَرّ مَا يَدُبّ عَلَيْك أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ أَسَدٍ وأَسْودٍ وَمِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ <169> وَأَمّا الثّانِي : فَكَمَا تَقَدّمَ مِنْ الرّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ وَالرّقْيَةِ لِلْعَقْرَبِ وَغَيْرِهَا مِمّا يَأْتِي .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ النّمْلَةِ
قَدْ تَقَدّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحُمَةِ وَالْعَيْنِ وَالنّمْلَةِ
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ اللّهِ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا عِنْدَ حَفْصَةَ فَقَالَ " أَلَا تُعَلّمِينَ هَذِهِ رُقْيَةَ النّمْلَةِ كَمَا عَلّمْتِيها الْكِتَابَةَ
النّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبَيْنِ وَهُوَ دَاءٌ مَعْرُوفٌ وَسُمّيَ نَمْلَةً لِأَنّ صَاحِبَهُ يُحِسّ فِي مَكَانِهِ كَأَنّ نَمْلَةً تَدِبّ عَلَيْهِ وَتَعَضّهُ وَأَصْنَافُهَا ثَلَاثَةٌ قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَغَيْرُهُ كَانَ الْمَجُوسُ يَزْعُمُونَ أَنّ وَلَدَ الرّجُلِ مِنْ أُخْتِهِ إذَا خُطّ عَلَى النّمْلَةِ شَفَى صَاحِبَهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشّاعِرِ
وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عُرْفٍ لِمَعْشَر ٍ
كِرَامٍ وَأَنّا لَا نَخُطّ عَلَى النّمْلِ
(1/242)
وَرَوَى الْخَلّالُ أَنّ الشّفَاءَ بِنْتَ عَبْدِ اللّهِ كَانَتْ تَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ فَلَمّا هَاجَرَتْ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ قَدْ بَايَعَتْهُ بِمَكّةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كُنْت أَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ النّمْلَةِ وَإِنّي أُرِيدُ أَنْ أَعْرِضَهَا عَلَيْك فَعُرِضَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ بِسْمِ اللّهِ ضَلّتْ حَتّى تَعُودَ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَلَا تَضُرّ أَحَدًا اللّهُمّ اكْشِفْ الْبَأْسَ رَبّ النّاسِ قَالَ تَرْقِي بِهَا عَلَى عُودٍ سَبْعَ مَرّاتٍ وَتَقْصِدُ مَكَانًا نَظِيفًا <170>
[ جَوَازُ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ ]
وَتَدْلُكُهُ عَلَى حَجَرٍ بِخَلّ خَمْرٍ حَاذِقٍ وَتَطْلِيهِ عَلَى النّمْلَةِ . وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيمِ النّسَاءِ الْكِتَابَةَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْحَيّةِ
قَدْ تَقَدّمَ قَوْلُهُ لَا رُقْيَةَ إلّا فِي عَيْنٍ أَوْ حُمَة الْحُمَةُ بِضَمّ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِهَا . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ : رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّقْيَةِ مِنْ الْحَيّةِ وَالْعَقْرَبِ .
وَيُذْكَرُ عَنْ ٍ ابْنِ شِهَاب الزّهْرِيّ قَالَ لَدَغَ بَعْضَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيّةٌ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هَلْ مِنْ رَاقٍ ؟ " فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ آلَ حَزْمٍ كَانُوا يَرْقُونَ رُقْيَةَ الْحَيّةِ فَلَمّا نَهَيْتَ عَنْ الرّقَى تَرَكُوهَا فَقَالَ " اُدْعُوا عِمَارَةَ بْنَ حَزْمٍ " فَدَعَوْهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رُقَاهُ فَقَالَ " لَا بَأْسَ بِهَا " فَأَذِنَ لَهُ فِيهَا فَرَقَاهُ
(1/243)
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رُقْيَةِ الْقَرْحَةِ وَالْجُرْحِ
أَخْرَجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اشْتَكَى الْإِنْسَانُ أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جُرْحٌ قَالَ بِأُصْبُعِهِ هَكَذَا وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبّابَتَهُ بِالْأَرْضِ ثُمّ رَفَعَهَا وَقَالَ " بِسْمِ اللّهِ تُرْبَةُ أَرْضِنَا بِرِيقَةِ بَعْضِنَا يُشْفَى سَقِيمُنَا بِإِذْنِ رَبّنَا <171>
[ عِلّةُ اسْتِعْمَالِ التّرَابِ فِي هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
(1/244)
هَذَا مِنْ الْعِلَاجِ الْمُيَسّرِ النّافِعِ الْمُرَكّبِ وَهِيَ مُعَالَجَةٌ لَطِيفَةٌ يُعَالَجُ بِهَا الْقُرُوحُ وَالْجِرَاحَاتُ الطّرِيّةُ لَا سِيّمَا عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهَا مِنْ الْأَدْوِيَةِ إذْ كَانَتْ مَوْجُودَةً بِكُلّ أَرْضٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنّ طَبِيعَةَ التّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ مُجَفّفَةٌ لِرُطُوبَاتِ الْقُرُوحِ وَالْجِرَاحَاتِ الّتِي تَمْنَعُ الطّبِيعَةُ مِنْ جَوْدَةِ فِعْلِهَا وَسُرْعَةِ انْدِمَالِهَا لَا سِيّمَا فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ فَإِنّ الْقُرُوحَ وَالْجِرَاحَاتِ يَتْبَعُهَا فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ سُوءُ مِزَاجٍ حَارّ فَيَجْتَمِعُ حَرَارَةُ الْبَلَدِ وَالْمِزَاجُ وَالْجِرَاحُ وَطَبِيعَةُ التّرَابِ الْخَالِصِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ أَشَدّ مِنْ بُرُودَةِ جَمِيعِ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الْبَارِدَةِ فَتُقَابِلُ بُرُودَةَ التّرَابِ حَرَارَةُ الْمَرَضِ لَا سِيّمَا إنْ كَانَ التّرَابُ قَدْ غُسِلَ وَجُفّفَ وَيَتْبَعُهَا أَيْضًا كَثْرَةُ الرّطُوبَاتِ الرّدِيئَةِ وَالسّيَلَانُ وَالتّرَابُ مُجَفّفٌ لَهَا مُزِيلٌ لِشِدّةِ يُبْسِهِ وَتَجْفِيفِهِ لِلرّطُوبَةِ الرّدِيئَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ بَرْئِهَا وَيَحْصُلُ بِهِ - مَعَ ذَلِكَ - تَعْدِيلُ مِزَاجِ الْعُضْوِ الْعَلِيلِ وَمَتَى اعْتَدَلَ مِزَاجُ الْعُضْوِ قَوِيَتْ قُوَاهُ الْمُدَبّرَةُ وَدَفَعَتْ عَنْهُ الْأَلَمَ بِإِذْنِ اللّهِ .
[ كَيْفِيّةُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الرّقْيَةِ ]
(1/245)
وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ يَأْخُذُ مِنْ رِيقِ نَفْسِهِ عَلَى أُصْبُعِهِ السّبّابَةِ ثُمّ يَضَعُهَا عَلَى التّرَابِ فَيَعْلَقُ بِهَا مِنْهُ شَيْءٌ فَيَمْسَحُ بِهِ عَلَى الْجُرْحِ وَيَقُولُ هَذَا الْكَلَامَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَرَكَةِ ذِكْرِ اسْمِ اللّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ فَيَنْضَمّ أَحَدُ الْعِلَاجَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَيَقْوَى التّأْثِيرُ .
[ هَلْ الْمَقْصُودُ بِاسْتِعْمَالِ التّرَابِ تُرْبَةُ جَمِيعِ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ ]
وَهَلْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ " تُرْبَةُ أَرْضِنَا " جَمِيعُ الْأَرْضِ أَوْ أَرْضُ الْمَدِينَةِ خَاصّةً ؟ فِيهِ قَوْلَانِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مِنْ التّرْبَةِ مَا تَكُونُ فِيهِ خَاصّيّةٌ يَنْفَعُ بِخَاصّيّتِهِ مِنْ أَدْوَاءٍ كَثِيرَةٍ <172> وَيَشْفِي بِهِ أَسْقَامًا رَدِيئَةً .
قَالَ جَالِينُوسُ : رَأَيْت بِالْإِسْكَنْدَرِيّةِ مَطْحُولِينَ وَمُسْتَسْقِينَ كَثِيرًا يَسْتَعْمِلُونَ طِينَ مِصْرَ وَيَطْلُونَ بِهِ عَلَى سُوقِهِمْ وَأَفْخَاذِهِمْ وَسَوَاعِدِهِمْ وَظُهُورِهِمْ وَأَضْلَاعِهِمْ فَيَنْتَفِعُونَ بِهِ مَنْفَعَةً بَيّنَةً .
(1/246)
قَالَ وَعَلَى هَذَا النّحْوِ فَقَدْ يَنْفَعُ هَذَا الطّلَاءُ لِلْأَوْرَامِ الْعَفِنَةِ وَالْمُتَرَهّلَةِ الرّخْوَةِ قَالَ وَإِنّي لَأَعْرِفُ قَوْمًا تَرَهّلَتْ أَبْدَانُهُمْ كُلّهَا مِنْ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِ الدّمِ مِنْ أَسْفَلِ انْتَفَعُوا بِهَذَا الطّينِ نَفْعًا بَيّنًا وَقَوْمًا آخَرِينَ شَفَوْا بِهِ أَوْجَاعًا مُزْمِنَةً كَانَتْ مُتَمَكّنَةً فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ تَمَكّنًا شَدِيدًا فَبَرَأَتْ وَذَهَبَتْ أَصْلًا . وَقَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ الْمَسِيحِيّ قُوّةُ الطّينِ الْمَجْلُوبِ مِنْ كُنُوسَ - وَهِيَ جَزِيرَةُ المصطكى - قُوّةٌ تَجْلُو وَتَغْسِلُ وَتُنْبِتُ اللّحْمَ فِي الْقُرُوحِ وَتَخْتِمُ الْقُرُوحَ . انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ هَذَا فِي هَذِهِ التّرُبَاتِ فَمَا الظّنّ بِأَطْيَبِ تُرْبَةٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَأَبْرَكِهَا وَقَدْ خَالَطَتْ رِيقَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَارَنَتْ رُقْيَتَهُ بِاسْمِ رَبّهِ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ قُوَى الرّقْيَةِ وَتَأْثِيرَهَا بِحَسَبِ الرّاقِي وَانْفِعَالِ الْمَرْقِيّ عَنْ رُقْيَتِهِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُنْكِرُهُ طَبِيبٌ فَاضِلٌ عَاقِلٌ مُسْلِمٌ فَإِنْ انْتَفَى أَحَدُ الْأَوْصَافِ فَلْيَقُلْ مَا شَاءَ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْوَجَعِ بِالرّقْيَةِ
(1/247)
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي العَاصِ أَنّهُ شَكَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " ضَعْ يَدَكَ عَلَى الّذِي تَأَلّمَ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِسْمِ اللّهِ ثَلَاثًا وَقُلْ سَبْعَ مَرّاتٍ أَعُوذُ بِعِزّةِ اللّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ فَفِي هَذَا الْعِلَاجِ مِنْ ذِكْرِ اللّهِ وَالتّفْوِيضِ إلَيْهِ وَالِاسْتِعَاذَةِ بِعِزّتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ الْأَلَمِ مَا يَذْهَبُ بِهِ وَتَكْرَارُهُ لِيَكُونَ أَنْجَعَ وَأَبْلَغَ كَتَكْرَارِ الدّوَاءِ لِأَخْرَاجِ الْمَادّةِ وَفِي السّبْعِ خَاصّيّةٌ لَا تُوجَدُ فِي غَيْرِهَا وَفِي <173> " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَوّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ " اللّهُمّ رَبّ النّاسِ أَذْهِبْ الْبَاسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا فَفِي هَذِهِ الرّقْيَةِ تَوَسّلٌ إلَى اللّهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيّتِهِ وَكَمَالِ رَحْمَتِهِ بِالشّفَاءِ وَأَنّهُ وَحْدَهُ الشّافِي وَأَنّهُ لَا شِفَاءَ إلّا شِفَاؤُهُ فَتَضَمّنَتْ التّوَسّلَ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ وَإِحْسَانِهِ وَرُبُوبِيّتِهِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ حَرّ الْمُصِيبَةِ وَحُزْنِهَا
(1/248)
قَالَ تَعَالَى : وَبَشّرِ الصّابِرِينَ الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنّا لِلّهِ وَإِنّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [ الْبَقَرَةُ 155 ] . وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَا مِنْ أَحَدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ اللّهُمّ أْجُرْني فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إلّا أَجَارَهُ اللّهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا
[ إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِأَنّهُ لِلّهِ وَأَنّ مَصِيرَهُ إلَيْهِ تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ ]
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ مِنْ أَبْلَغِ عِلَاجِ الْمُصَابِ وَأَنْفَعِهِ لَهُ فِي عَاجِلَتِهِ وَآجِلَتِهِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ أَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ إذَا تَحَقّقَ الْعَبْدُ بِمَعْرِفَتِهِمَا تَسَلّى عَنْ مُصِيبَتِهِ .
(1/249)
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَبْدَ وَأَهْلَهُ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ حَقِيقَةً وَقَدْ جَعَلَهُ عِنْدَ الْعَبْدِ عَارِيَةً فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ فَهُوَ كَالْمُعِيرِ يَأْخُذُ مَتَاعَهُ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ مَحْفُوفٌ بِعَدَمَيْنِ عَدَمٍ قَبْلَهُ وَعَدَمٍ بَعْدَهُ وَمِلْكُ الْعَبْدِ لَهُ مُتْعَةٌ مُعَارَةٌ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَيْسَ الّذِي أَوْجَدَهُ عَنْ عَدَمِهِ حَتّى يَكُونَ مِلْكُهُ حَقِيقَةً وَلَا هُوَ <174> الّذِي يَحْفَظُهُ مِنْ الْآفَاتِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَلَا يُبْقِي عَلَيْهِ وُجُودَهُ فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَلَا مِلْكٌ حَقِيقِيّ وَأَيْضًا فَإِنّهُ مُتَصَرّفٌ فِيهِ بِالْأَمْرِ تَصَرّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ الْمَنْهِيّ لَا تَصَرّفَ الْمِلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ التّصَرّفَاتِ فِيهِ إلّا مَا وَافَقَ أَمْرَ مَالِكِهِ الْحَقِيقِيّ .
(1/250)
وَالثّانِي : أَنّ مَصِيرَ الْعَبْدِ وَمَرْجِعَهُ إلَى اللّهِ مَوْلَاهُ الْحَقّ وَلَا بُدّ أَنْ يُخَلّفَ الدّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيَجِيءَ رَبّهُ فَرْدًا كَمَا خَلَقَهُ أَوّلَ مَرّةٍ بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَشِيرَةٍ وَلَكِنْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ بِدَايَةَ الْعَبْدِ وَمَا خُوّلَهُ وَنِهَايَتَهُ فَكَيْفَ يَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ أَوْ يَأْسَى عَلَى مَفْقُودٍ فَفِكْرُهُ فِي مَبْدَئِهِ وَمَعَادِهِ مِنْ أَعْظَمِ عِلَاجِ هَذَا الدّاءِ وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَعْلَمَ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . قَالَ تَعَالَى : مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لَا يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [ الْحَدِيدُ 22 ] .
[ ذِكْرُ بَعْضِ الْعِلَاجَاتِ مِنْهَا النّظَرُ إلَى مَا أَبْقَى اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ النّعَمِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا أُصِيبَ بِهِ فَيَجِدُ رَبّهُ قَدْ أَبْقَى عَلَيْهِ مِثْلَهُ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ وَادّخَرَ لَهُ - إنْ صَبَرَ وَرَضِيَ - مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ فَوَاتِ تِلْكَ الْمُصِيبَةِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَأَنّهُ لَوْ شَاءَ لَجَعَلَهَا أَعْظَمَ مِمّا هِيَ .
[ التّأَسّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ وَذِكْرُ قِصَصٍ فِي ذَلِكَ ]
(1/251)
وَمِنْ عِلَاجِهِ أَنْ يُطْفِئَ نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التّأَسّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ وَلِيَعْلَمَ أَنّهُ فِي كُلّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً فَهَلْ يَرَى إلّا مِحْنَةً ؟ ثُمّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً فَهَلْ يَرَى إلّا حَسْرَةً ؟ وَأَنّهُ لَوْ فَتّشَ الْعَالَمَ لَمْ يَرَ فِيهِمْ إلّا مُبْتَلًى إمّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ وَأَنّ شُرُورَ الدّنْيَا أَحْلَامُ نُوّمٍ أَوْ كَظِلّ زَائِلٍ إنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا أَبْكَتْ كَثِيرًا وَإِنْ سَرّتْ يَوْمًا سَاءَتْ دَهْرًا وَإِنْ مَتّعَتْ قَلِيلًا <175> مَنَعَتْ طَوِيلًا وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إلّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً وَلَا سَرّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إلّا خَبّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِكُلّ فَرْحَةٍ تِرْحَةٌ وَمَا مُلِئَ بَيْتٌ فَرَحًا إلّا مُلِئَ تَرَحًا وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطّ إلّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ
وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ النّعْمَانِ : لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزّ النّاسِ وَأَشَدّهِمْ مُلْكًا ثُمّ لَمْ تَغِبِ الشّمْسُ حَتّى رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلّ النّاسِ وَأَنّهُ حَقّ عَلَى اللّهِ أَلّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلّا مَلَأَهَا عَبْرَةً .
وَسَأَلَهَا رَجُلٌ أَنْ تُحَدّثَهُ عَنْ أَمْرِهَا فَقَالَتْ أَصْبَحْنَا ذَا صَبَاحٍ وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْجُونَا ثُمّ أَمْسَيْنَا وَمَا فِي الْعَرَبِ أَحَدٌ إلّا يَرْحَمُنَا
وَبَكَتْ أُخْتُهَا حُرْقَةُ بِنْتُ النّعْمَانِ يَوْمًا وَهِيَ فِي عِزّهَا فَقِيلَ لَهَا : مَا يُبْكِيك لَعَلّ أَحَدًا آذَاك ؟ قَالَتْ لَاُ وَلَكِنْ رَأَيْتُ غَضَارَةً فِي أَهْلِي وَقَلّمَا امْتَلَأَتْ دَارٌ سُرُورًا إلّا امْتَلَأَتْ حُزْنًا .
(1/252)
قَالَ إسْحَاقُ بْنُ طَلْحَةَ : دَخَلْتُ عَلَيْهَا يَوْمًا فَقُلْتُ لَهَا : كَيْفَ رَأَيْتِ عَبَرَاتِ الْمُلُوكِ ؟ فَقَالَتْ مَا نَحْنُ فِيهِ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِمّا كُنّا فِيهِ الْأَمْسَ إنّا نَجِدُ فِي الْكُتُبِ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَعِيشُونَ فِي خِيرَةٍ إلّا سَيُعْقَبُونَ بَعْدَهَا عِبْرَةً وَأَنّ الدّهْرَ لَمْ يَظْهَرْ لِقَوْمٍ بِيَوْمٍ يُحِبّونَهُ إلّا بَطَنَ لَهُمْ بِيَوْمٍ يَكْرَهُونَهُ ثُمّ قَالَتْ
فَبَيْنَا نَسُوسُ النّاسَ وَالْأَمْرُ أَمْرُنَا
إذَا نَحْنُ فِيهِمْ سُوقَةٌ نَتَنَصّفُ
فَأُفّ لِدُنْيَا لَا يَدُومُ نَعِيمُهَا
تَقَلّبُ تَارَاتٍ بِنَا وتَصَرّفُ
<176>
[ الْجَزَعُ يُضَاعِفُ الْمَرَضَ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ لَا يَرُدّهَا بَلْ يُضَاعِفُهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ تَزَايُدِ الْمَرَضِ .
[ فَوْتُ ثَوَابِ الصّبْرِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ فَوْتَ ثَوَابِ الصّبْرِ وَالتّسْلِيمَ وَهُوَ الصّلَاةُ وَالرّحْمَةُ وَالْهِدَايَةُ الّتِي ضَمِنَهَا اللّهُ عَلَى الصّبْرِ وَالِاسْتِرْجَاعِ أَعْظَمُ مِنْ الْمُصِيبَةِ فِي الْحَقِيقَةِ .
[ الْجَزَعُ يُشْمِتُ الْأَعْدَاءَ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يُعْلَمَ أَنّ الْجَزَعَ يُشْمِتُ عَدُوّهُ وَيَسُوءُ صَدِيقَهُ وَيُغْضِبُ رَبّهُ وَيَسُرّ شَيْطَانَهُ وَيُحْبِطُ أَجْرَهُ وَيُضْعِفُ نَفْسَهُ وَإِذَا صَبَرَ وَاحْتَسَبَ أَنْضَى شَيْطَانَهُ وَرَدّهُ خَاسِئًا وَأَرْضَى رَبّهُ وَسَرّ صَدِيقَهُ وَسَاءَ عَدُوّهُ وَحَمَلَ عَنْ إخْوَانِهِ وَعَزّاهُمْ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُعَزّوهُ فَهَذَا هُوَ الثّبَاتُ وَالْكَمَالُ الْأَعْظَمُ لَا لَطْمُ الْخُدُودِ وَشَقّ الْجُيُوبِ وَالدّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ وَالسّخْطُ عَلَى الْمَقْدُورِ .
(1/253)
[ لَذّةَ الصّبْرِ وَمِنْهَا بَيْتُ الْحَمْدِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَا يُعْقِبُهُ الصّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ مِنْ اللّذّةِ وَالْمَسَرّةِ أَضْعَافُ مَا كَانَ يَحْصُلُ لَهُ بِبَقَاءِ مَا أُصِيبَ بِهِ لَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَيْتُ الْحَمْدِ الّذِي يُبْنَى لَهُ فِي الْجَنّةِ عَلَى حَمْدِهِ لِرَبّهِ وَاسْتِرْجَاعِهِ فَلْيَنْظُرْ أَيّ الْمُصِيبَتَيْنِ أَعْظَمُ ؟ : مُصِيبَةُ الْعَاجِلَةِ أَوْ مُصِيبَةُ فَوَاتِ بَيْتِ الْحَمْدِ فِي جَنّةِ الْخُلْدِ . وَفِي التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : يَوَدّ نَاسٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ بالَمَقَارِيضِ فِي الدّنْيَا لِمَا يَرَوْنَ مِنْ ثَوَابِ أَهْلِ الْبَلَاء
وَقَالَ بَعْضُ السّلَفِ لَوْلَا مَصَائِبُ الدّنْيَا لَوَرَدْنَا الْقِيَامَ مَفَالِيسَ .
[ تَرْوِيحُ الْقَلْبِ بِرَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ اللّهِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُرَوّحَ قَلْبَهُ بِرُوحِ رَجَاءِ الْخَلَفِ مِنْ اللّهِ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ عِوَضٌ إلّا اللّهُ فَمَا مِنْهُ عِوَضٌ كَمَا قِيلَ <177>
مِنْ كُلّ شَيْءٍ إذَا ضَيّعْتَهُ عِوَضٌ
وَمَا مِنْ اللّهِ إنْ ضَيّعْتَهُ عِوَضُ
[ الْحَظّ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ ]
(1/254)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ حَظّهُ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا تُحْدِثُهُ لَهُ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْطُ فَحَظّك مِنْهَا مَا أَحْدَثَتْهُ لَك فَاخْتَرْ خَيْرَ الْحُظُوظِ أَوْ شَرّهَا فَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ سُخْطًا وَكُفْرًا كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْهَالِكِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ جَزَعًا وَتَفْرِيطًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرّمٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُفَرّطِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ شِكَايَةً وَعَدَمَ صَبْرٍ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمَغْبُونِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ اعْتِرَاضًا عَلَى اللّهِ وَقَدْحًا فِي حِكْمَتِهِ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ الزّنْدَقَةِ أَوْ وَلَجَهُ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ صَبْرًا وَثَبَاتًا لِلّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الصّابِرِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الرّضَى عَنْ اللّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرّاضِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ الْحَمْدَ وَالشّكْرَ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الشّاكِرِينَ وَكَانَ تَحْتَ لِوَاءِ الْحَمْدِ مَعَ الْحَمّادِينَ وَإِنْ أَحْدَثَتْ لَهُ مَحَبّةً وَاشْتِيَاقًا إلَى لِقَاءِ رَبّهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْمُحِبّينَ الْمُخْلِصِينَ . وَفِي مُسْنَدِ " الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَالتّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ إذَا أَحَبّ قَوْمًا ا بْتَلَاهُمُ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السّخْط زَادَ أَحْمَدُ : وَمَنْ جَزِعَ فَلَهُ الْجَزَع
(1/255)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ وَإِنْ بَلَغَ فِي الْجَزَعِ غَايَتَهُ فَآخِرُ أَمْرِهِ إلَى صَبْرِ الِاضْطِرَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْمُودٍ وَلَا مُثَابٍ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْعَاقِلُ يَفْعَلُ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ الْمُصِيبَةِ مَا يَفْعَلُهُ الْجَاهِلُ بَعْدَ أَيّامٍ وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ صَبْرَ الْكِرَامِ سَلَا سَلْوَ الْبَهَائِمِ . وَفِي " الصّحِيحِ " مَرْفُوعًا : الصَبْرُ عِنْدَ الصّدْمَةِ الْأُولَى وَقَالَ <178> الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : إنّك إنْ صَبَرْت إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَإِلّا سَلَوْتَ سُلُوّ الْبَهَائِمِ
[أَنْفَعُ الْأَدْوِيَةِ مُوَافَقَةُ اللّهِ فِيمَا أَحَبّهُ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ وَأَنّ خَاصّيّةَ الْمَحَبّةِ وَسِرّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ فَمَنْ ادّعَى مَحَبّةَ مَحْبُوبٍ ثُمّ سَخِطَ مَا يُحِبّهُ وَأَحَبّ مَا يَسْخَطُهُ فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ وَتَمَقّتَ إلَى مَحْبُوبِهِ .
وَقَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ : إنّ اللّهَ إذَا قَضَى قَضَاءً أَحَبّ أَنْ يُرْضَى بِهِ وَكَانَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلّتِهِ أَحَبّهُ إلَيّ أَحَبّهُ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إلّا مَعَ الْمُحِبّينَ وَلَا يُمْكِنُ كُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ .
[ لَذّةُ التّمَتّعِ بِثَوَابِ اللّهِ أَعْظَمُ مِنْ لَذّةِ التّمَتّعِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ ]
(1/256)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يُوَازِنَ بَيْنَ أَعْظَمِ اللّذّتَيْنِ وَالْمُتْعَتَيْنِ وَأَدْوَمِهِمَا : لَذّةِ تَمَتّعِهِ بِمَا أُصِيبَ بِهِ وَلَذّةِ تَمَتّعِهِ بِثَوَابِ اللّهِ لَهُ فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ الرّجْحَانُ فَآثَرَ الرّاجِحَ فَلْيَحْمَدْ اللّهَ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَإِنْ آثَرَ الْمَرْجُوحَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَلْيَعْلَمْ أَنّ مُصِيبَتَهُ فِي عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَدِينِهِ أَعْظَمُ مِنْ مُصِيبَتِهِ الّتِي أُصِيبَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ .
[ ابْتِلَاءُ اللّهِ الْعَبْدَ لِامْتِحَانِ صَبْرِهِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنّ الّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرّاحِمِينَ وَأَنّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ وَلَا لِيُعَذّبَهُ بِهِ وَلَا لِيَجْتَاحَهُ وَإِنّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ وَلِيَسْمَعَ تَضَرّعَهُ وَابْتِهَالَهُ وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ لَائِذًا بِجَنَابِهِ مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ رَافِعًا قِصَصَ الشّكْوَى إلَيْهِ .
قَالَ الشّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ : يَا بُنَيّ إنّ الْمُصِيبَةَ مَا جَاءَتْ لِتُهْلِكَك وَإِنّمَا جَاءَتْ لِتَمْتَحِنَ صَبْرَك وَإِيمَانَك يَا بُنَيّ الْقَدَرُ سَبُعٌ وَالسّبُعُ لَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ الْمُصِيبَةَ كِيرُ الْعَبْدِ الّذِي يُسْبَكُ بِهِ حَاصِلُهُ فَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ <179> ذَهَبًا أَحْمَرَ وَإِمّا أَنْ يَخْرُجَ خَبَثًا كُلّهُ كَمَا قِيلَ
سَبَكْنَاهُ وَنَحْسِبُهُ لُجَيْنَا
فَأَبْدَى الْكِيرُ عَنْ خَبَثِ الْحَدِيدِ
(1/257)
فَإِنْ لَمْ يَنْفَعْهُ هَذَا الْكِيرُ فِي الدّنْيَا فَبَيْنَ يَدَيْهِ الْكِيرُ الْأَعْظَمُ فَإِذَا عَلِمَ الْعَبْدُ أَنّ إدْخَالَهُ كِيرَ الدّنْيَا وَمَسْبَكَهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْكِيرِ وَالْمَسْبَكِ وَأَنّهُ لَا بُدّ مِنْ أَحَدِ الْكِيرَيْنِ فَلْيَعْلَمْ قَدْرَ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَيْهِ فِي الْكِيرِ الْعَاجِلِ .
[ الْمُصِيبَةُ كَاسِرَةٌ لِدَاءِ الْكِبْرِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ ]
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدّنْيَا وَمَصَائِبُهَا لَأَصَابَ الْعَبْدَ - مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ - مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ تَكُونُ حَمِيّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ وَحِفْظًا لِصِحّةِ عُبُودِيّتِهِ وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ الرّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ
قَدْ يُنْعِمُ بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ
وَيَبْتَلِي اللّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنّعَمِ
فَلَوْلَا أَنّهُ - سُبْحَانَهُ - يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ لَطَغَوْا وَبَغَوْا وَعَتَوْا وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ - إذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنْ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنْ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ حَتّى إذَا هَذّبَهُ وَنَقّاهُ وَصَفّاهُ أَهّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدّنْيَا وَهِيَ عُبُودِيّتُهُ وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ .
[ مَرَارَةُ الدّنْيَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ ]
(1/258)
وَمِنْ عِلَاجِهَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنّ مَرَارَةَ الدّنْيَا هِيَ بِعَيْنِهَا حَلَاوَةُ الْآخِرَةِ يَقْلِبُهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ كَذَلِكَ وَحَلَاوَةَ الدّنْيَا بِعَيْنِهَا مَرَارَةُ الْآخِرَةِ وَلَأَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَرَارَةٍ مُنْقَطِعَةٍ إلَى حَلَاوَةٍ دَائِمَةٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْك هَذَا فَانْظُرْ إلَى قَوْلِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ حُفّتْ الْجَنّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفّتْ النّارُ بِالشّهَوَاتِ
وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَفَاوَتَتْ عُقُولُ الْخَلَائِقِ وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ الرّجَالِ فَأَكْثَرُهُمْ <180> آثَرَ الْحَلَاوَةَ الْمُنْقَطِعَةَ عَلَى الْحَلَاوَةِ الدّائِمَةِ الّتِي لَا تَزُولُ وَلَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ سَاعَةٍ لِحَلَاوَةِ الْأَبَدِ وَلَا ذُلّ سَاعَةٍ لِعِزّ الْأَبَدِ وَلَا مِحْنَةَ سَاعَةٍ لِعَافِيَةِ الْأَبَدِ فَإِنّ الْحَاضِرَ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ وَالْمُنْتَظَرَ غَيْبٌ وَالْإِيمَانُ ضَعِيفٌ وَسُلْطَانُ الشّهْوَةِ حَاكِمٌ فَتَوَلّدَ مِنْ ذَلِكَ إيثَارُ الْعَاجِلَةِ وَرَفْضُ الْآخِرَةِ وَهَذَا حَالُ النّظَرِ الْوَاقِعِ عَلَى ظَوَاهِرِ الْأُمُورِ وَأَوَائِلِهَا وَمَبَادِئِهَا وَأَمّا النّظَرُ الثّاقِبُ الّذِي يَخْرِقُ حُجُبَ الْعَاجِلَةِ وَيُجَاوِزُهُ إلَى الْعَوَاقِبِ وَالْغَايَاتِ فَلَهُ شَأْنٌ آخَرُ .
(1/259)
فَادْعُ نَفْسَك إلَى مَا أَعَدّ اللّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنْ النّعِيمِ الْمُقِيمِ وَالسّعَادَةِ الْأَبَدِيّةِ وَالْفَوْزِ الْأَكْبَرِ وَمَا أَعَدّ لِأَهْلِ الْبِطَالَةِ وَالْإِضَاعَةِ مِنْ الْخِزْيِ وَالْعِقَابِ وَالْحَسَرَاتِ الدّائِمَةِ ثُمّ اخْتَرْ أَيّ الْقِسْمَيْنِ أَلْيَقَ بِك وَكُلّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ وَكُلّ أَحَدٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَمَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا الْعِلَاجَ فَشِدّةُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ مِنْ الطّبِيبِ وَالْعَلِيلِ دَعَتْ إلَى بَسْطِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحَزَنِ
أَخْرَجَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبّ الْأَرْضِ رَبّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ
وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ قَالَ " يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا أَهَمّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى <181> السّمَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ الْعَظِيمِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ قَالَ يَا حَيّ يَا قَيّومُ
(1/260)
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ
وَفِيهَا أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا أُعَلّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنّ عَنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ اللّهُ رَبّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَفِي رِوَايَةٍ أَنّهَا تُقَالُ سَبْعَ مَرّاتٍ .
<182> وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَا أَصَابَ عَبْدًا هَمّ وَلَا حُزْنٌ فَقَالَ : اللَهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك نَاصِيَتِي بِيَدِك مَاضٍ فِيّ حُكْمُك عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك أَسْأَلُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمّيْتَ بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك أَوْ عَلّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمّي إلّا أَذْهَبَ اللّهُ حُزْنَهُ وَهَمّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَوةُ ذِي النّونِ إذْ دَعَا رَبّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْت مِنْ الظّالِمِينَ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطّ إلّا اُسْتُجِيبَ لَهُ
وَفِي رِوَايَةٍ إنّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلّا فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ
(1/261)
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَامَةَ مَالِي أَرَاكَ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصّلَاةِ ؟ " فَقَالَ هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " أَلَا أُعَلّمُكَ كَلَامًا إذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ هَمّكَ وَقَضَى دَيْنَكَ ؟ " قَالَ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَالِ قَالَ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ هَمّي وَقَضَى عَنّي دَيْنِي <183>
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللّهُ لَهُ مِنْ كُلّ هَمّ فَرَجًا وَمِنْ كُلّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَفِي " الْمُسْنَدِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم كَانَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصّلَاةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ [ الْبَقَرَةُ 4ُ5 ] .
وَفِي " السّنَنِ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فَإِنّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ يَدْفَعُ اللّهُ بِهِ عَنْ النّفُوسِ الْهَمّ وَالْغَمّ
وَيَذْكُرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ كَثُرَتْ هُمُومُهُ وَغُمُومُهُ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ
(1/262)
وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنّةِ .
<184> وَفِي التّرْمِذِيّ : " أَنّهَا بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ " .
هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ تَتَضَمّنُ خَمْسَةَ عَشَرَ نَوْعًا مِنْ الدّوَاءِ فَإِنْ لَمْ تَقْوَ عَلَى إذْهَابِ دَاءِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحُزْنِ فَهُوَ دَاءٌ قَدْ اسْتَحْكَمَ وَتَمَكّنَتْ أَسْبَابُهُ وَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِفْرَاغٍ كُلّيّ . الْأَوّلُ تَوْحِيدُ الرّبُوبِيّةِ .
الثّانِي : تَوْحِيدُ الْإِلَهِيّةِ .
الثّالِثُ التّوْحِيدُ الْعِلْمِيّ الِاعْتِقَادِيّ .
الرّابِعُ تَنْزِيهُ الرّبّ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَظْلِمَ عَبْدَهُ أَوْ يَأْخُذَهُ بِلَا سَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ يُوجِبُ ذَلِكَ .
الْخَامِسُ اعْتِرَافُ الْعَبْدِ بِأَنّهُ هُوَ الظّالِمُ .
السّادِسُ التّوَسّلُ إلَى الرّبّ تَعَالَى بِأَحَبّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَمِنْ أَجْمَعِهَا لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ الْحَيّ الْقَيّومُ .
السّابِعُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ وَحْدَهُ .
الثّامِنُ إقْرَارُ الْعَبْدِ لَهُ بِالرّجَاءِ .
التّاسِعُ تَحْقِيقُ التّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالتّفْوِيضِ إلَيْهِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُ بِأَنّ نَاصِيَتَهُ فِي يَدِهِ يَصْرِفُهُ كَيْفَ يَشَاءُ وَأَنّهُ مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ عَدْلٌ فِيهِ قَضَاؤُهُ .
الْعَاشِرُ أَنْ يَرْتَعَ قَلْبُهُ فِي رِيَاضِ الْقُرْآنِ وَيَجْعَلَهُ لِقَلْبِهِ كَالرّبِيعِ لِلْحَيَوَانِ وَأَنْ يَسْتَضِيءَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الشّبُهَاتِ وَالشّهَوَاتِ وَأَنْ يَتَسَلّى بِهِ عَنْ كُلّ فَائِتٍ وَيَتَعَزّى بِهِ عَنْ كُلّ مُصِيبَةٍ وَيَسْتَشْفِي بِهِ مِنْ أَدْوَاءِ صَدْرِهِ فَيَكُونَ جَلَاءَ حُزْنِهِ وَشِفَاءَ هَمّهِ وَغَمّهِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ الِاسْتِغْفَارُ .
<185> الثّانِيَ عَشَرَ التّوْبَةُ .
الثّالِثَ عَشَرَ الْجِهَادُ .
(1/263)
الرّابِعَ عَشَرَ الصّلَاةُ .
الْخَامِسَ عَشَرَ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ وَتَفْوِيضِهِمَا إلَى مَنْ هُمَا بِيَدِهِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ جِهَةِ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْرَاضِ
خَلَقَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - ابْنَ آدَمَ وَأَعْضَاءَهُ وَجَعَلَ لِكُلّ عُضْوٍ مِنْهَا كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ أَحَسّ بِالْأَلَمِ وَجَعَلَ لِمَلِكِهَا وَهُوَ الْقَلْبُ كَمَالًا إذَا فَقَدَهُ حَضَرَتْهُ أَسْقَامُهُ وَآلَامُهُ مِنْ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ .
فَإِذَا فَقَدَتْ الْعَيْنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْإِبْصَارِ وَفَقَدَتْ الْأُذُنُ مَا خُلِقَتْ لَهُ مِنْ قُوّةِ السّمْعِ وَاللّسَانُ مَا خُلِقَ لَهُ مِنْ قُوّةِ الْكَلَامِ فَقَدَتْ كَمَالَهَا .
[ وَظِيفَةُ الْقَلْبِ ]
وَالْقَلْبُ خُلِقَ لِمَعْرِفَةِ فَاطِرِهِ وَمَحَبّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَالسّرُورِ بِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِحُبّهِ وَالرّضَى عَنْهُ وَالتّوَكّلِ عَلَيْهِ وَالْحُبّ فِيهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالْمُوَالَاةِ فِيهِ وَالْمُعَادَاةِ فِيهِ وَدَوَامِ ذِكْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَأَرْجَى عِنْدَهُ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَأَجَلّ فِي قَلْبِهِ مِنْ كُلّ مَا سِوَاهُ وَلَا نَعِيمَ لَهُ وَلَا سُرُورَ وَلَا لَذّةَ بَلْ وَلَا حَيَاةَ إلّا بِذَلِكَ وَهَذَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ وَالصّحّةِ وَالْحَيَاةِ فَإِذَا فَقَدَ غِذَاءَهُ وَصِحّتَهُ وَحَيَاتَهُ فَالْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ مُسَارِعَةٌ مِنْ كُلّ صَوْبٍ إلَيْهِ وَرَهْنٌ مُقِيمٌ عَلَيْهِ .
[ أَمْرَاضُ الْقَلْبِ ]
(1/264)
وَمِنْ أَعْظَمِ أَدْوَائِهِ الشّرْكُ وَالذّنُوبُ وَالْغَفْلَةُ وَالِاسْتِهَانَةُ بِمَحَابّهِ وَمَرَاضِيهِ وَتَرْكُ التّفْوِيضِ إلَيْهِ وَقِلّةُ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالرّكُونُ إلَى مَا سِوَاهُ وَالسّخْطُ بِمَقْدُورِهِ وَالشّكّ فِي وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ .
[ عِلَاجَاتُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ ]
وَإِذَا تَأَمّلْت أَمْرَاضَ الْقَلْبِ وَجَدْت هَذِهِ الْأُمُورَ وَأَمْثَالَهَا هِيَ أَسْبَابُهَا لَا <186> سَبَبَ لَهَا سِوَاهَا فَدَوَاؤُهُ الّذِي لَا دَوَاءَ لَهُ سِوَاهُ مَا تَضَمّنَتْهُ هَذِهِ الْعِلَاجَاتُ النّبَوِيّةُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُضَادّةِ لِهَذِهِ الْأَدْوَاءِ فَإِنّ الْمَرَضَ يُزَالُ بِالضّدّ وَالصّحّةُ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ فَصِحّتُهُ تُحْفَظُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ النّبَوِيّةِ وَأَمْرَاضُهُ بِأَضْدَادِهَا .
[ فَوَائِدُ التّوْحِيدِ فَوَائِدُ التّوْبَةِ ]
فَالتّوْحِيدُ يَفْتَحُ لِلْعَبْدِ بَابَ الْخَيْرِ وَالسّرُورِ وَاللّذّةِ وَالْفَرَحِ وَالِابْتِهَاجِ وَالتّوْبَةُ اسْتِفْرَاغٌ لِلْأَخْلَاطِ وَالْمَوَادّ الْفَاسِدَةِ الّتِي هِيَ سَبَبُ أَسْقَامِهِ وَحَمِيّةٌ لَهُ مِنْ التّخْلِيطِ فَهِيَ تُغْلِقُ عَنْهُ بَابَ الشّرُورِ فَيُفْتَحُ لَهُ بَابُ السّعَادَةِ وَالْخَيْرِ بِالتّوْحِيدِ وَيُغْلَقُ بَابُ الشّرُورِ بِالتّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ . قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَدّمِينَ مِنْ أَئِمّةِ الطّبّ : مَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْجِسْمِ فَلْيُقَلّلْ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَمَنْ أَرَادَ عَافِيَةَ الْقَلْبِ فَلْيَتْرُكْ الْآثَامَ .
(1/265)
وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قُرّةَ : رَاحَةُ الْجِسْمِ فِي قِلّةِ الطّعَامِ وَرَاحَةُ الرّوحِ فِي قِلّةِ الْآثَامِ وَرَاحَةُ اللّسَانِ فِي قِلّةِ الْكَلَامِ . وَالذّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ السّمُومِ إنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أَضْعَفَتْهُ وَلَا بُدّ وَإِذَا ضَعُفَتْ قُوّتُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُقَاوَمَةِ الْأَمْرَاضِ قَالَ طَبِيبُ الْقُلُوبِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ .
رَأَيْتُ الذّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ
وَقَدْ يُورِثُ الذّلّ إدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذّنُوبِ حَيَا ةُ الْقُلُوبِ
وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
[ الْهَوَى أَكْبَرُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ فَلَا بُدّ مِنْ مُخَالَفَتِهِ ]
فَالْهَوَى أَكْبَرُ أَدْوَائِهَا وَمُخَالَفَتُهُ أَعْظَمُ أَدْوِيَتِهَا وَالنّفْسُ فِي الْأَصْلِ خُلِقَتْ جَاهِلَةً ظَالِمَةً فَهِيَ لِجَهْلِهَا تَظُنّ شِفَاءَهَا فِي اتّبَاعِ هَوَاهَا وَإِنّمَا فِيهِ تَلَفُهَا وَعَطَبُهَا وَلِظُلْمِهَا لَا تَقْبَلُ مِنْ الطّبِيبِ النّاصِحِ بَلْ تَضَعُ الدّاءَ مَوْضِعَ الدّوَاءِ فَتَعْتَمِدُهُ وَتَضَعُ الدّوَاءَ مَوْضِعَ الدّاءِ فَتَجْتَنِبُهُ فَيَتَوَلّدُ مِنْ بَيْنِ إيثَارِهَا لِلدّاءِ وَاجْتِنَابِهَا لِلدّوَاءِ أَنْوَاعٌ مِنْ الْأَسْقَامِ وَالْعِلَلِ الّتِي تُعْيِي الْأَطِبّاءَ وَيَتَعَذّرُ مَعَهَا الشّفَاءُ .
وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى أَنّهَا تُرَكّبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَدَرِ فَتُبْرِئُ نَفْسَهَا وَتَلُومُ رَبّهَا بِلِسَانِ الْحَالِ دَائِمًا وَيَقْوَى اللّوْمُ حَتّى يُصَرّحَ بِهِ اللّسَانُ . <187>
[ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ مُشْتَمِلٌ عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَالرّبُوبِيّةِ وَصِفَتَيْ الْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ ]
(1/266)
وَإِذَا وَصَلَ الْعَلِيلُ إلَى هَذِهِ الْحَالِ فَلَا يَطْمَعُ فِي بُرْئِهِ إلّا أَنْ تَتَدَارَكَهُ رَحْمَةٌ مِنْ رَبّهِ فَيُحْيِيهِ حَيَاةً جَدِيدَةً وَيَرْزُقُهُ طَرِيقَةً حَمِيدَةً فَلِهَذَا كَانَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فِي دُعَاءِ الْكَرْبِ مُشْتَمِلًا عَلَى تَوْحِيدِ الْإِلَهِيّةِ وَالرّبُوبِيّةِ وَوَصْفِ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِالْعَظَمَةِ وَالْحِلْمِ وَهَاتَانِ الصّفَتَانِ مُسْتَلْزِمَتَانِ لِكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالتّجَاوُزِ وَوَصْفِهِ بِكَمَالِ رُبُوبِيّتِهِ لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْعَرْشِ الّذِي هُوَ سَقْفُ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَعْظَمُهَا وَالرّبُوبِيّةُ التّامّةُ تَسْتَلْزِمُ تَوْحِيدَهُ وَأَنّهُ الّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ وَالْحُبّ وَالْخَوْفُ وَالرّجَاءُ وَالْإِجْلَالُ وَالطّاعَةُ إلّا لَهُ . وَعَظَمَتُهُ الْمُطْلَقَةُ تَسْتَلْزِمُ إثْبَاتَ كُلّ كَمَالٍ لَهُ وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ . وَحِلْمُهُ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى خَلْقِهِ .
فَعِلْمُ الْقَلْبِ وَمَعْرِفَتُهُ بِذَلِكَ تُوجِبُ مَحَبّتَهُ وَإِجْلَالَهُ وَتَوْحِيدَهُ فَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ الِابْتِهَاجِ وَاللّذّةِ وَالسّرُورِ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ أَلَمَ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَأَنْتَ تَجِدُ الْمَرِيضَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ مَا يَسُرّهُ وَيُفْرِحُهُ وَيُقَوّي نَفْسَهُ كَيْفَ تَقْوَى الطّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ الْمَرَضِ الْحِسّيّ فَحُصُولُ هَذَا الشّفَاءِ لِلْقَلْبِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
(1/267)
ثُمّ إذَا قَابَلْت بَيْنَ ضِيقِ الْكَرْبِ وَسَعَةِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الّتِي تَضَمّنَهَا دُعَاءُ الْكَرْبِ وَجَدْته فِي غَايَةِ الْمُنَاسَبَةِ لِتَفْرِيجِ هَذَا الضّيقِ وَخُرُوجِ الْقَلْبِ مِنْهُ إلَى سَعَةِ الْبَهْجَةِ وَالسّرُورِ وَهَذِهِ الْأُمُورُ إنّمَا يُصَدّقُ بِهَا مَنْ أَشْرَقَتْ فِيهِ أَنْوَارُهَا وَبَاشَرَ قَلْبُهُ حَقَائِقَهَا .
[ فَوَائِدُ صِفَتَيْ الْحَيّ الْقَيّومِ ]
" وَفِي تَأْثِيرِ قَوْلِهِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيث فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ مُنَاسِبَةٌ بَدِيعَةٌ فَإِنّ صِفَةَ الْحَيَاةِ مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْكَمَالِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا وَصِفَةُ الْقَيّومِيّةِ مُتَضَمّنَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَلِهَذَا كَانَ اسْمَ اللّهِ الْأَعْظَمَ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى : هُوَ اسْمُ الْحَيّ الْقَيّومِ وَالْحَيَاةُ التّامّةُ تُضَادّ جَمِيعَ الْأَسْقَامِ وَالْآلَامِ وَلِهَذَا لَمّا كَمُلَتْ حَيَاةُ أَهْلِ الْجَنّةِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ هَمّ وَلَا غَمّ وَلَا حَزَنٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْآفَاتِ . وَنُقْصَانُ الْحَيَاةِ تَضُرّ بِالْأَفْعَالِ وَتُنَافِي الْقَيّومِيّةَ <188> فَكَمَالُ الْقَيّومِيّةِ لِكَمَالِ الْحَيَاةِ فَالْحَيّ الْمُطْلَقُ التّامّ الْحَيَاةِ لَا تَفُوتُهُ صِفَةُ الْكَمَالِ الْبَتّةَ وَالْقَيّومُ لَا يَتَعَذّرُ عَلَيْهِ فِعْلٌ مُمْكِنٌ الْبَتّةَ فَالتّوَسّلُ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ الْقَيّومِيّةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ مَا يُضَادّ الْحَيَاةَ وَيَضُرّ بِالْأَفْعَالِ .
[ تَوَسّلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرُبُوبِيّةِ اللّهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ ]
(1/268)
وَنَظِيرُ هَذَا تَوَسّلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى رَبّهِ بِرُبُوبِيّتِهِ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقّ بِإِذْنِهِ فَإِنّ حَيَاةَ الْقَلْبِ بِالْهِدَايَةِ وَقَدْ وَكّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ هَؤُلَاءِ الْأَمْلَاكَ الثّلَاثَةَ بِالْحَيَاةِ فَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ وَمِيكَائِيلُ بِالْقَطْرِ الّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ وَالْحَيَوَانِ وَإِسْرَافِيلُ بِالنّفْخِ فِي الصّورِ الّذِي هُوَ سَبَبُ حَيَاةِ الْعَالَمِ وَعَوْدِ الْأَرْوَاحِ إلَى أَجْسَادِهَا فَالتّوَسّلُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِرُبُوبِيّةِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الْعَظِيمَةِ الْمُوَكّلَةِ بِالْحَيَاةِ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ لِاسْمِ الْحَيّ الْقَيّومِ تَأْثِيرًا خَاصّا فِي إجَابَةِ الدّعَوَاتِ وَكَشْفِ الْكُرُبَاتِ وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ أَبِي حَاتِمٍ " مَرْفُوعًا : اسْمُ اللّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْن وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمُ [ الْبَقَرَةُ 163 ] وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ
قَالَ التّرْمِذِي ّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ . وَفِي " السّنَنِ " و " صَحِيحِ ابْنِ حِبّانَ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ رَجُلًا دَعَا <189> فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُكَ بِأَنّ لَكَ الْحَمْدَ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ يَا حَيّ يَا قَيّومُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ الّذِي إذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى
(1/269)
وَلِهَذَا كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ قَالَ يَا حَيّ يَا قَيّومُ .
[ مَا فِي اللّهُمّ رَحْمَتَك أَرْجُو . . و اللّهُ رَبّي . . ]
" وَفِي قَوْلِهِ اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنْت مِنْ تَحْقِيقِ الرّجَاءِ لِمَنْ الْخَيْرُ كُلّهُ بِيَدَيْهِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ وَالتّضَرّعُ إلَيْهِ أَنْ يَتَوَلّى إصْلَاحَ شَأْنِهِ وَلَا يَكِلَهُ إلَى نَفْسِهِ وَالتّوَسّلُ إلَيْهِ بِتَوْحِيدِهِ مِمّا لَهُ تَأْثِيرٌ قَوِيّ فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ اللّهُ رَبّي لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا .
[ مَا فِي اللّهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك مِنْ الْفَوَائِدِ ]
وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : اللّهُمّ إنّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ فَفِيهِ مِنْ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيّةِ وَأَسْرَارِ الْعُبُودِيّةِ مَا لَا يَتّسِعُ لَهُ كِتَابٌ فَإِنّهُ يَتَضَمّنُ الِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ وَعُبُودِيّةِ آبَائِهِ وَأُمّهَاتِهِ وَأَنّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِهِ يُصَرّفُهَا كَيْفَ يَشَاءُ فَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ دُونَهُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرّا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا لِأَنّ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ فَلَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ بَلْ هُوَ عَانٍ فِي قَبْضَتِهِ ذَلِيلٌ تَحْتَ سُلْطَانِ قَهْرِهِ .
[ إثْبَاتُ الْقَدْرِ وَالْعَدْلِ لِلّهِ فِي مَاضٍ فِيّ حُكْمُك . . ]
وَقَوْلُهُ مَاضٍ فِيّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُكَ مُتَضَمّنٌ لِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ عَلَيْهِمَا مَدَارُ التّوْحِيدِ .
(1/270)
أَحَدُهُمَا : إثْبَاتُ الْقَدَرِ وَأَنّ أَحْكَامَ الرّبّ تَعَالَى نَافِذَةٌ فِي عَبْدِهِ مَاضِيَةٌ فِيهِ لَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهَا وَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِهَا .
[ أَسْأَلُك بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَك . .]
وَالثّانِي : أَنّهُ - سُبْحَانَهُ - عَدْلٌ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ غَيْرُ ظَالِمٍ لِعَبْدِهِ بَلْ لَا <190> يَخْرُجُ فِيهَا عَنْ مُوجَبِ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ فَإِنّ الظّلْمَ سَبَبُهُ حَاجَةُ الظّالِمِ أَوْ جَهْلُهُ أَوْ سَفَهُهُ فَيَسْتَحِيلُ صُدُورُهُ مِمّنْ هُوَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَمَنْ هُوَ غَنِيّ عَنْ كُلّ شَيْءٍ وَكُلّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إلَيْهِ وَمَنْ هُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ فَلَا تَخْرُجُ ذَرّةٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ عَنْ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ كَمَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ فَحِكْمَتُهُ نَافِذَةٌ حَيْثُ نَفَذَتْ مَشِيئَتُهُ وَقُدْرَتُهُ وَلِهَذَا قَالَ نَبِيّ اللّهِ هُودٌ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ خَوّفَهُ قَوْمُهُ بِآلِهَتِهِمْ إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ لَا تُنْظِرُونِي إِنّي تَوَكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَبّكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ هُود : 54 - 57 ] أَيْ مَعَ كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ آخِذًا بِنَوَاصِي خَلْقِهِ وَتَصْرِيفِهِمْ كَمَا يَشَاءُ فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا يَتَصَرّفُ فِيهِمْ إلّا بِالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالْإِحْسَانِ وَالرّحْمَةِ . فَقَوْلُهُ مَاضٍ فِيّ حُكْمُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ ( مَا مِنْ دَابّةٍ إِلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَقَوْلُهُ عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ثُمّ تَوَسّلَ إلَى
(1/271)
رَبّهِ بِأَسْمَائِهِ الّتِي سَمّى بِهَا نَفْسَهُ مَا عَلِمَ الْعِبَادُ مِنْهَا وَمَا لَمْ يَعْلَمُوا . وَمِنْهَا : مَا اسْتَأْثَرَهُ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ مَلَكًا مُقَرّبًا وَلَا نَبِيّا مُرْسَلًا وَهَذِهِ الْوَسِيلَةُ أَعْظَمُ الْوَسَائِلِ وَأَحَبّهَا إلَى اللّهِ وَأَقْرَبُهَا تَحْصِيلًا لِلْمَطْلُوبِ . "
[ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي . . ]
ثُمّ سَأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقُرْآنَ لِقَلْبِهِ كَالرّبِيعِ الّذِي يَرْتَعُ فِيهِ الْحَيَوَانُ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ شِفَاءَ هَمّهِ وَغَمّهِ فَيَكُونَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الدّوَاءِ الّذِي يَسْتَأْصِلُ الدّاءَ وَيُعِيدُ الْبَدَنَ إلَى صِحّتِهِ وَاعْتِدَالِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ لِحُزْنِهِ كَالْجَلَاءِ الّذِي يَجْلُو الطّبُوعَ وَالْأَصْدِيَةَ وَغَيْرَهَا فَأَحْرَى بِهَذَا الْعِلَاجِ إذَا صَدَقَ الْعَلِيلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ أَنْ يُزِيلَ عَنْهُ دَاءَهُ وَيُعْقِبَهُ شِفَاءً تَامّا وَصِحّةً وَعَافِيَةً وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ .
[ دَعْوَةُ ذِي النّونِ ]
(1/272)
وَأَمّا دَعْوَةُ ذِي النّونِ فَإِنّ فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّوْحِيدِ وَالتّنْزِيهِ لِلرّبّ تَعَالَى وَاعْتِرَافِ الْعَبْدِ بِظُلْمِهِ وَذَنْبِهِ مَا هُوَ مِنْ أَبْلَغِ أَدْوِيَةِ الْكَرْبِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَأَبْلَغِ الْوَسَائِلِ إلَى اللّهِ - سُبْحَانَهُ - فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ فَإِنّ التّوْحِيدَ وَالتّنْزِيهَ يَتَضَمّنَانِ إثْبَاتَ كُلّ كَمَالِ اللّهِ وَسَلْبَ كُلّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ وَتَمْثِيلٍ عَنْهُ . وَالِاعْتِرَافُ بِالظّلْمِ <191> يَتَضَمّنُ إيمَانَ الْعَبْدِ بِالشّرْعِ وَالثّوَابَ وَالْعِقَابَ وَيُوجِبُ انْكِسَارَهُ وَرُجُوعَهُ إلَى اللّهِ وَاسْتِقَالَتَهُ عَثْرَتَهُ وَالِاعْتِرَافَ بِعُبُودِيّتِهِ وَافْتِقَارَهُ إلَى رَبّهِ فَهَا هُنَا أَرْبَعَةُ أُمُورٍ قَدْ وَقَعَ التّوَسّلُ بِهَا : التّوْحِيدُ وَالتّنْزِيهُ وَالْعُبُودِيّةُ وَالِاعْتِرَافُ .
[ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ . .]
(1/273)
وَأَمّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالْحَزَنِ فَقَدْ تَضَمّنَ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْيَاءَ كُلّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ مُزْدَوَجَانِ فَالْهَمّ وَالْحَزَنُ أَخَوَانِ وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ أَخَوَانِ وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ أَخَوَانِ وَضَلَعُ الدّيْنِ وَغَلَبَةُ الرّجَالِ أَخَوَانِ فَإِنّ الْمَكْرُوهَ الْمُؤْلِمَ إذَا وَرَدَ عَلَى الْقَلْبِ فَإِمّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَمْرًا مَاضِيًا فَيُوجِبُ لَهُ الْحُزْنَ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا مُتَوَقّعًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْجَبَ الْهَمّ وَتَخَلّفُ الْعَبْدِ عَنْ مَصَالِحِهِ وَتَفْوِيتُهَا عَلَيْهِ إمّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْعَجْزُ أَوْ مِنْ عَدَمِ الْإِرَادَةِ وَهُوَ الْكَسَلُ وَحَبْسُ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ بَنِي جَنْسِهِ إمّا أَنْ يَكُونَ مَنَعَ نَفْعَهُ بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ أَوْ بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ وَقَهْرُ النّاسِ لَهُ إمّا بِحَقّ فَهُوَ ضَلَعُ الدّيْنِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَهُوَ غَلَبَةُ الرّجَالِ فَقَدْ تَضَمّنَ الْحَدِيثُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ كُلّ شَرّ وَأَمّا تَأْثِيرُ الِاسْتِغْفَارِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالضّيقِ فَلَمّا اشْتَرَكَ فِي الْعِلْمِ بِهِ أَهْلُ الْمِلَلِ وَعُقَلَاءُ كُلّ أُمّةٍ أَنّ الْمَعَاصِيَ وَالْفَسَادَ تُوجِبُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْخَوْفَ وَالْحُزْنَ وَضِيقَ الصّدْرِ وَأَمْرَاضَ الْقَلْبِ حَتّى إنّ أَهْلَهَا إذَا قَضَوْا مِنْهَا أَوْطَارَهُمْ وَسَئِمَتْهَا نَفُوسُهُمْ ارْتَكَبُوهَا دَفْعًا لِمَا يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ مِنْ الضّيقِ وَالْهَمّ وَالْغَمّ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْفُسُوقِ
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
[ التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ]
(1/274)
وَإِذَا كَانَ هَذَا تَأْثِيرَ الذّنُوبِ وَالْآثَامِ فِي الْقُلُوبِ فَلَا دَوَاءَ لَهَا إلّا التّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ . <192>
[ الصّلَاةُ وَتَأْثِيرُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ ]
وَأَمّا الصّلَاةُ فَشَأْنُهَا فِي تَفْرِيحِ الْقَلْبِ وَتَقْوِيتِهِ وَشَرْحِهِ وَابْتِهَاجِهِ وَلَذّتِهِ أَكْبَرُ شَأْنٍ وَفِيهَا مِنْ اتّصَالِ الْقَلْبِ وَالرّوحِ بِاَللّهِ وَقُرْبِهِ وَالتّنَعّمِ بِذِكْرِهِ وَالِابْتِهَاجِ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقُوَاهُ وَآلَاتِهِ فِي عُبُودِيّتِهِ وَإِعْطَاءِ كُلّ عُضْوٍ حَظّهُ مِنْهَا وَاشْتِغَالِهِ عَنْ التّعَلّقِ بِالْخَلْقِ وَمُلَابَسَتِهِمْ وَمُحَاوَرَاتِهِمْ وَانْجِذَابِ قُوَى قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إلَى رَبّهِ وَفَاطِرِهِ وَرَاحَتِهِ مِنْ عَدُوّهِ حَالَةَ الصّلَاةِ مَا صَارَتْ بِهِ مِنْ أَكْبَرِ الْأَدْوِيَةِ وَالْمُفَرّحَاتِ وَالْأَغْذِيَةِ الّتِي لَا تُلَائِمُ إلّا الْقُلُوبَ الصّحِيحَةَ . وَأَمّا الْقُلُوبُ الْعَلِيلَةُ فَهِيَ كَالْأَبْدَانِ لَا تُنَاسِبُهَا إلّا الْأَغْذِيَةُ الْفَاضِلَةُ .
فَالصّلَاةُ مِنْ أَكْبَرِ الْعَوْنِ عَلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ مَفَاسِدِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهِيَ مُنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ وَدَافِعَةٌ لِأَدْوَاءِ الْقُلُوبِ وَمُطْرِدَةٌ لِلدّاءِ عَنْ الْجَسَدِ وَمُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ وَمُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ وَمُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ وَالنّفْسِ وَجَالِبَةٌ لِلرّزْقِ وَدَافِعَةٌ لِلظّلْمِ وَنَاصِرَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَقَامِعَةٌ لِأَخْلَاطِ الشّهَوَاتِ وَحَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ وَدَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ وَمُنْزِلَةٌ لِلرّحْمَةِ وَكَاشِفَةٌ لِلْغُمّةِ وَنَافِعَةٌ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَوْجَاعِ الْبَطْنِ .
(1/275)
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ مُجَاهَدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَآنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا نَائِمٌ أَشْكُو مِنْ وَجَعِ بَطْنِي فَقَالَ لِي : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشِكَمَتْ دَرْدْ ؟ " قَالَ قُلْتُ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " قُمْ فَصَلّ فَإِنّ فِي الصّلَاةِ شِفَاءً
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مَوْقُوفًا عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنّهُ هُوَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ وَهُوَ أَشْبَهُ . وَمَعْنَى هَذِهِ اللّفْظَةِ بِالْفَارِسِيّ أَيُوجِعُك بَطْنُك ؟ .
[ الرّدّ عَلَى الْأَطِبّاءِ الْمُنْكِرِينَ لِفَائِدَةِ الصّلَاةِ فِي الْعِلَاجِ ]
فَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ صَدْرُ زِنْدِيقِ الْأَطِبّاءِ بِهَذَا الْعِلَاجِ فَيُخَاطَبُ بِصِنَاعَةِ الطّبّ وَيُقَالُ لَهُ الصّلَاةُ رِيَاضَةُ النّفْسِ وَالْبَدَنِ جَمِيعًا إذْ كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى حَرَكَاتٍ وَأَوْضَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ الِانْتِصَابِ وَالرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالتّوَرّكِ وَالِانْتِقَالَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْضَاعِ الّتِي يَتَحَرّكُ مَعَهَا أَكْثَرُ الْمَفَاصِلِ وَيَنْغَمِزُ مَعَهَا أَكْثَرُ الْأَعْضَاءِ <193> الْبَاطِنَةِ كَالْمَعِدَةِ وَالْأَمْعَاءِ وَسَائِرِ آلَاتِ النّفْسِ وَالْغِذَاءِ فَمَا يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الْحَرَكَاتِ تَقْوِيَةٌ وَتَحْلِيلٌ لِلْمَوَادّ وَلَا سِيّمَا بِوَاسِطَةِ قُوّةِ النّفْسِ وَانْشِرَاحِهَا فِي الصّلَاةِ فَتَقْوَى الطّبِيعَةُ فَيَنْدَفِعُ الْأَلَمُ وَلَكِنْ دَاءُ الزّنْدَقَةِ وَالْإِعْرَاضِ عَمّا جَاءَتْ بِهِ الرّسُلُ وَالتّعَوّضِ عَنْهُ بِالْإِلْحَادِ دَاءٌ لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ إلّا نَارٌ تَلَظّى لَا يَصِلَاهَا إلّا الْأَشْقَى الّذِي كَذّبَ وَتَوَلّى .
[ تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
(1/276)
وَأَمّا تَأْثِيرُ الْجِهَادِ فِي دَفْعِ الْهَمّ وَالْغَمّ فَأَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْوِجْدَانِ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى تَرَكَتْ صَائِلَ الْبَاطِلِ وَصَوْلَتَهُ وَاسْتِيلَاءَهُ اشْتَدّ هَمّهَا وَغَمّهَا وَكَرْبُهَا وَخَوْفُهَا فَإِذَا جَاهَدَتْهُ لِلّهِ أَبْدَلَ اللّهُ ذَلِكَ الْهَمّ وَالْحُزْنَ فَرَحًا وَنَشَاطًا وَقُوّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى : قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [ التّوْبَة : 14 15 ] فَلَا شَيْءَ أَذْهَبُ لِجَوَى الْقَلْبِ وَغَمّهِ وَهَمّهِ وَحُزْنِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
[ تَأْثِيرُ الْحَوْقَلَةِ فِي دَفْعِ الْهَمّ ]
وَأَمّا تَأْثِيرُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ فِي دَفْعِ هَذَا الدّاءِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ كَمَالِ التّفْوِيضِ وَالتّبَرّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوّةِ إلّا بِهِ وَتَسْلِيمِ الْأَمْرِ كُلّهِ لَهُ وَعَدَمِ مُنَازَعَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَعُمُومُ ذَلِكَ لِكُلّ تَحَوّلٍ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ وَالْقُوّةِ عَلَى ذَلِكَ التّحَوّلِ وَأَنّ ذَلِكَ كُلّهُ بِاَللّهِ وَحْدَهُ فَلَا يَقُومُ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ شَيْءٌ . وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ إنّهُ مَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنْ السّمَاءِ وَلَا يَصْعَدُ إلَيْهَا إلّا بِلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ وَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي طَرْدِ الشّيْطَانِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْفَزَعِ وَالْأَرَقِ الْمَانِعِ مِنْ النّوْمِ
(1/277)
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْ بُريْدَةَ قَالَ شَكَى خَالِدٌ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَامُ اللّيْلَ مِنْ الْأَرَقِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ : اللّهُمّ رَبّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الْأَرْضِينَ وَمَا أَقَلّتْ وَرَبّ الشّيَاطِينِ وَمَا أَضَلّتْ كُنْ لِي جَارًا مِنْ شَرّ خَلْقِكَ كُلّهِمْ جَمِيعًا أَنْ يَفْرُطَ عَلَيّ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَوْ يَبْغِيَ عَلَيّ عَزّ جَارُك وَجَلّ ثَنَاؤُك وَلَا إلَهَ غَيْرُكَ <194>
وَفِيهِ أَيْضًا : عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَلّمُهُمْ مِنْ الْفَزَعِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللّهِ التّامّةِ مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرّ عِبَادِهِ وَمِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو يُعَلّمُهُنّ مَنْ عَقَلَ مِنْ بَنِيهِ . وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ كَتَبَهُ فَأَعْلَقَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَخْفَى مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْعُوذَةِ لِعِلَاجِ هَذَا الدّاءِ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ دَاءِ الْحَرِيقِ وَإِطْفَائِهِ
(1/278)
يُذْكَرُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَأَيْتُمْ الْحَرِيقَ فَكَبّرُوا فَإِنّ التّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ لَمّا كَانَ الْحَرِيقُ سَبَبُهُ النّارُ وَهِيَ مَادّةُ الشّيْطَانِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا وَكَانَ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ الْعَامّ مَا يُنَاسِبُ الشّيْطَانَ بِمَادّتِهِ وَفِعْلِهِ كَانَ لِلشّيْطَانِ إعَانَةٌ عَلَيْهِ وَتَنْفِيذٌ لَهُ وَكَانَتْ النّارُ تَطْلُبُ بِطَبْعِهَا الْعُلُوّ وَالْفَسَادَ وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ وَهُمَا الْعُلُوّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادُ هُمَا هَدْيُ الشّيْطَانِ وَإِلَيْهِمَا يَدْعُو وَبِهِمَا يُهْلِكُ بَنِي آدَمَ فَالنّارُ وَالشّيْطَانُ كُلّ مِنْهُمَا يُرِيدُ الْعُلُوّ فِي <195> الْأَرْضِ وَالْفَسَادَ وَكِبْرِيَاءَ الرّبّ - عَزّ وَجَلّ - تَقْمَعُ الشّيْطَانَ وَفِعْلَهُ .
[ أَثَرُ التّكْبِيرِ فِي إخْمَادِ النّارِ مَادّةِ الشّيْطَانِ ]
وَلِهَذَا كَانَ تَكْبِيرُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَهُ أَثَرٌ فِي إطْفَاءِ الْحَرِيقِ فَإِنّ كِبْرِيَاءَ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - لَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ فَإِذَا كَبّرَ الْمُسْلِمُ رَبّهُ أَثّرَ تَكْبِيرُهُ فِي خُمُودِ النّارِ وَخُمُودِ الشّيْطَانِ الّتِي هِيَ مَادّتُهُ فَيُطْفِئُ الْحَرِيقَ وَقَدْ جَرّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا هَذَا فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ
[ قِوَامُ الْبَدَنِ عَلَى الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ]
(1/279)
لَمّا كَانَ اعْتِدَالُ الْبَدَنِ وَصِحّتُهُ وَبَقَاؤُهُ إنّمَا هُوَ بِوَاسِطَةِ الرّطُوبَةِ الْمُقَاوِمَةِ لِلْحَرَارَةِ فَالرّطُوبَةُ مَادّتُهُ وَالْحَرَارَةُ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ فَضَلَاتِهَا وَتُصْلِحُهَا وَتُلَطّفُهَا وَإِلّا أَفْسَدَتْ الْبَدَنَ وَلَمْ يُمْكِنْ قِيَامُهُ وَكَذَلِكَ الرّطُوبَةُ هِيَ غِذَاءُ الْحَرَارَةِ فَلَوْلَا الرّطُوبَةُ لَأَحْرَقَتْ الْبَدَنَ وَأَيْبَسَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ فَقِوَامُ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبَتِهَا وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِمَا جَمِيعًا وَكُلّ مِنْهُمَا مَادّةٌ لِلْأُخْرَى
(1/280)
فَالْحَرَارَةُ مَادّةٌ لِلرّطُوبَةِ تَحْفَظُهَا وَتَمْنَعُهَا مِنْ الْفَسَادِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَالرّطُوبَةُ مَادّةٌ لِلْحَرَارَةِ تَغْذُوهَا وَتَحْمِلُهَا وَمَتَى مَالَتْ إحْدَاهُمَا إلَى الزّيَادَةِ عَلَى الْأُخْرَى حَصَلَ لِمِزَاجِ الْبَدَنِ الِانْحِرَافُ بِحَسَبِ ذَلِكَ فَالْحَرَارَةُ دَائِمًا تُحَلّلُ الرّطُوبَةَ فَيَحْتَاجُ الْبَدَنُ إلَى مَا بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ مَا حَلّلَتْهُ الْحَرَارَةُ - لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ - وَهُوَ الطّعَامُ وَالشّرَابُ وَمَتَى زَادَ عَلَى مِقْدَارِ التّحَلّلِ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلَاتِهِ فَاسْتَحَالَتْ مَوَادّ رَدِيئَةٍ فَعَاثَتْ فِي الْبَدَنِ وَأَفْسَدَتْ فَحَصَلَتْ الْأَمْرَاضُ الْمُتَنَوّعَةُ بِحَسَبِ تَنَوّعِ مَوَادّهَا وَقَبُولِ الْأَعْضَاءِ وَاسْتِعْدَادِهَا وَهَذَا كُلّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [ الْأَعْرَافِ 31 ] فَأَرْشَدَ عِبَادَهُ إلَى إدْخَالِ مَا يُقِيمُ الْبَدَنَ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ عِوَضَ مَا تَحَلّلَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُونَ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَدَنُ فِي الْكَمّيّةِ وَالْكَيْفِيّةِ فَمَتَى جَاوَزَ ذَلِكَ كَانَ إسْرَافًا وَكِلَاهُمَا مَانِعٌ مِنْ الصّحّةِ جَالِبٌ لِلْمَرَضِ أَعْنِي عَدَمَ الْأَكْلِ وَالشّرْبِ أَوْ الْإِسْرَافَ فِيهِ .
(1/281)
<196> فَحِفْظُ الصّحّةِ كُلّهُ فِي هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ الْإِلَهِيّتَيْنِ وَلَا رَيْبَ أَنّ الْبَدَنَ دَائِمًا فِي التّحَلّلِ وَالِاسْتِخْلَافِ وَكُلّمَا كَثُرَ التّحَلّلُ ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ لِفَنَاءِ مَادّتِهَا فَإِنّ كَثْرَةَ التّحَلّلِ تُفْنِي الرّطُوبَةَ وَهِيَ مَادّةُ الْحَرَارَةِ وَإِذَا ضَعُفَتْ الْحَرَارَةُ ضَعُفَ الْهَضْمُ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتّى تَفْنَى الرّطُوبَةُ وَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ جُمْلَةً فَيَسْتَكْمِلُ الْعَبْدُ الْأَجَلَ الّذِي كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ .
[ غَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ الِاعْتِدَالُ بَيْنَ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ ]
(1/282)
فَغَايَةُ عِلَاجِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ حِرَاسَةُ الْبَدَنِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَا أَنّهُ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ اللّتَيْنِ بَقَاءُ الشّبَابِ وَالصّحّةِ وَالْقُوّةِ بِهِمَا فَإِنّ هَذَا مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِبَشَرٍ فِي هَذِهِ الدّارِ وَإِنّمَا غَايَةُ الطّبِيبِ أَنْ يَحْمِيَ الرّطُوبَةَ عَنْ مُفْسِدَاتِهَا مِنْ الْعُفُونَةِ وَغَيْرِهِ وَيَحْمِيَ الْحَرَارَةَ عَنْ مُضْعِفَاتِهَا وَيَعْدِلَ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ فِي التّدْبِيرِ الّذِي بِهِ قَامَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ كَمَا أَنّ بِهِ قَامَتْ السّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَسَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ إنّمَا قِوَامُهَا بِالْعَدْلِ وَمَنْ تَأَمّلَ هَدْيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ أَفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصّحّةِ بِهِ فَإِنّ حِفْظَهَا مَوْقُوفٌ عَلَى حُسْنِ تَدْبِيرِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْهَوَاءِ وَالنّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَالْمَنْكَحِ وَالِاسْتِفْرَاغِ وَالِاحْتِبَاسِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَدِلِ الْمُوَافِقِ الْمُلَائِمِ لِلْبَدَنِ وَالْبَلَدِ وَالسّنّ وَالْعَادَةِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى دَوَامِ الصّحّةِ أَوْ غَلَبَتِهَا إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ .
[ الصّحّةُ مِنْ أَجَلّ النّعَمِ وَذِكْرُ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ]
(1/283)
وَلَمّا كَانَتْ الصّحّةُ وَالْعَافِيَةُ مِنْ أَجَلّ نِعَم اللّهِ عَلَى عَبْدِهِ وَأَجْزَلِ عَطَايَاهُ وَأَوْفَرِ مِنَحِهِ بَلْ الْعَافِيَةُ الْمُطْلَقَةُ أَجَلّ النّعَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَحَقِيقٌ لِمَنْ رُزِقَ حَظّا مِنْ التّوْفِيقِ مُرَاعَاتُهَا وَحِفْظُهَا وَحِمَايَتُهَا عَمّا يُضَادّهَا وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ : الصّحّةُ وَالْفَرَاغُ
وَفِي التّرْمِذِيّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَنْصَارِيّ قَالَ قَالَ <197> رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنّمَا حِيزَتْ لَهُ الدّنْيَا
وَفِي التّرْمِذِيّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ النّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَلَمْ نُصِحّ لَكَ جِسْمَك وَنَرْوِك مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ
وَمِنْ هَا هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنْ السّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ [ التّكَاثُرِ 8 ] قَالَ عَنْ الصّحّةِ . وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلْعَبّاسِ يَا عَبّاسُ يَا عَمّ رَسُولِ اللّهِ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
(1/284)
وَفِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ سَلُوا اللّهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ فَجَمَعَ بَيْنَ عَافِيَتَيْ الدّينِ وَالدّنْيَا وَلَا يَتِمّ صَلَاحُ الْعَبْدِ فِي الدّارَيْنِ إلّا بِالْيَقِينِ وَالْعَافِيَةِ فَالْيَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ وَالْعَافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أَمْرَاضَ الدّنْيَا فِي قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ .
وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ <198> سَلُوا اللّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمُعَافَاةَ فَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِنْ مُعَافَاةٍ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ تَتَضَمّنُ إزَالَةَ الشّرُورِ الْمَاضِيَةِ بِالْعَفْوِ وَالْحَاضِرَةِ بِالْعَافِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ بِالْمُعَافَاةِ فَإِنّهَا تَتَضَمّنُ الْمُدَاوَمَةَ وَالِاسْتِمْرَارَ عَلَى الْعَافِيَةِ .
وَفِي التّرْمِذِيّ مَرْفُوعًا : مَا سُئِلَ اللّهُ شَيْئًا أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ الْعَافِيَةِ
وَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لَأَنْ أُعَافَى فَأَشْكُرَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فَأَصْبِرَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ يُحِبّ مَعَكَ الْعَافِيَةَ
وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أَعْرَابِيّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ مَا أَسْأَلُ اللّهَ بَعْدَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؟ فَقَالَ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ " فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ سَلْ اللّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
(1/285)
[هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ أُمُورِ الصّحّةِ ]
وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ الْعَافِيَةِ وَالصّحّةِ فَنَذْكُرُ مِنْ هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مُرَاعَاةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَا يَتَبَيّنُ لِمَنْ نَظَرَ فِيهِ أَنّهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَنَالُ بِهِ حِفْظَ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التّكْلَانُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِاَللّهِ .
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ ]
فَأَمّا الْمَطْعَمُ وَالْمَشْرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَبْسُ النّفْسِ عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ لَا يَتَعَدّاهُ إلَى مَا سِوَاهُ فَإِنّ ذَلِكَ يَضُرّ بِالطّبِيعَةِ جِدّا وَقَدْ يَتَعَذّرُ عَلَيْهَا أَحْيَانًا فَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَهُ ضَعُفَ أَوْ هَلَكَ وَإِنْ تَنَاوَلَ غَيْرَهُ لَمْ تَقْبَلْهُ الطّبِيعَةُ وَاسْتَضَرّ بِهِ فَقَصَرَهَا عَلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ دَائِمًا - وَلَوْ أَنّهُ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَةِ - خَطَرٌ مُضِرّ .
<199> بَلْ كَانَ يَأْكُلُ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ بَلَدِهِ بِأَكْلِهِ مِنْ اللّحْمِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُبْزِ وَالتّمْرِ وَغَيْرِهِ مِمّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَدْيِهِ فِي الْمَأْكُولِ فَعَلَيْك بِمُرَاجَعَتِهِ هُنَاكَ .
[ تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ ]
وَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الطّعَامَيْنِ كَيْفِيّةٌ تَحْتَاجُ إلَى كَسْرٍ وَتَعْدِيلٍ كَسَرَهَا وَعَدَلَهَا بِضِدّهَا إنْ أَمْكَنَ كَتَعْدِيلِ حَرَارَةِ الرّطَبِ بِالْبِطّيخِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ تَنَاوَلَهُ عَلَى حَاجَةٍ وَدَاعِيَةٍ مِنْ النّفْسِ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ فَلَا تَتَضَرّرُ بِهِ الطّبِيعَةُ .
(1/286)
[ تَرْكُ مَا تَعَافُهُ النّفْسُ ]
وَكَانَ إذَا عَافَتْ نَفْسُهُ الطّعَامَ لَمْ يَأْكُلْهُ وَلَمْ يَحْمِلْهَا إيّاهُ عَلَى كُرْهٍ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ فَمَتَى أَكَلَ الْإِنْسَانُ مَا تَعَافُهُ نَفْسُهُ وَلَا يَشْتَهِيهِ كَانَ تَضَرّرُهُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِهِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : مَا عَابَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَعَامًا قَطّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ وَإِلّا تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَلَمّا قُدّمَ إلَيْهِ الضّبّ الْمَشْوِيّ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أَهُوَ حَرَامٌ ؟ قَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ فَرَاعَى عَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ يَعْتَادُ أَكْلَهُ بِأَرْضِهِ وَكَانَتْ نَفْسُهُ لَا تَشْتَهِيهِ أَمْسَكَ عَنْهُ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْلِهِ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَمَنْ عَادَتُهُ أَكْلُهُ .
[مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلذّرَاع ]
وَكَانَ يُحِبّ اللّحْمَ وَأَحَبّهُ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَمُقَدّمُ الشّاةِ وَلِذَلِكَ سُمّ فِيهِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إلَيْهِ الذّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلرّقَبَةِ ]
(1/287)
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ ضِبَاعَةَ بِنْتِ الزّبَيْرِ أَنّهَا ذَبَحَتْ فِي بَيْتِهَا شَاةً <200> فَأَرْسَلَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَطْعِمِينَا مِنْ شَاتِكُمْ فَقَالَتْ لِلرّسُولِ مَا بَقِيَ عِنْدَنَا إلّا الرّقَبَةُ وَإِنّي لَأَسْتَحْيِيَ أَنْ أُرْسِلَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَجَعَ الرّسُولُ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ ارْجِعْ إلَيْهَا فَقُلْ لَهَا : أَرْسِلِي بِهَا فَإِنّهَا هَادِيَةُ الشّاةِ وَأَقْرَبُ إلَى الْخَيْرِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ الْأَذَى
وَلَا رَيْبَ أَنّ أَخَفّ لَحْمِ الشّاةِ لَحْمُ الرّقَبَةِ وَلَحْمُ الذّرَاعِ وَالْعَضُدِ وَهُوَ أَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَسْرَعُ انْهِضَامًا وَفِي هَذَا مُرَاعَاةُ الْأَغْذِيَةِ الّتِي تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ أَوْصَافٍ .
أَحَدُهَا : كَثْرَةُ نَفْعِهَا وَتَأْثِيرِهَا فِي الْقُوَى .
الثّانِي : خِفّتُهَا عَلَى الْمَعِدَةِ وَعَدَمُ ثِقَلِهَا عَلَيْهَا .
الثّالِثُ سُرْعَةُ هَضْمِهَا وَهَذَا أَفْضَلُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغِذَاءِ وَالتّغَذّي بِالْيَسِيرِ مِنْ هَذَا أَنْفَعُ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ .
[ مَحَبّتُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ وَبَيَانُ أَنّهُمَا مَعَ اللّحْمِ أَفْضَلُ الْأَغْذِيَة ]
وَكَانَ يُحِبّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ وَهَذِهِ الثّلَاثَةُ - أَعْنِي اللّحْمَ وَالْعَسَلَ وَالْحَلْوَاءَ - مِنْ أَفْضَلِ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعِهَا لِلْبَدَنِ وَالْكَبِدِ وَالْأَعْضَاءِ وَلِلِاغْتِذَاءِ بِهَا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ وَلَا يَنْفِرُ مِنْهَا إلّا مَنْ بِهِ عِلّةٌ وَآفَةٌ .
(1/288)
[ يُؤْدِمُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُبْزَ الشّعِيرِ بِاللّحْمِ وَالْبِطّيخِ وَالتّمْرِ وَالْخَلّ وَفَوَائِدُ ذَلِكَ ]
وَكَانَ يَأْكُلُ الْخُبْزَ مَأْدُومًا مَا وَجَدَ لَهُ إدَامًا فَتَارَةً يَأْدِمُهُ بِاللّحْمِ وَيَقُولُ هُوَ سَيّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ . وَتَارَةً بِالْبِطّيخِ وَتَارَةً بِالتّمْرِ فَإِنّهُ وَضَعَ تَمْرَةً عَلَى كِسْرَةِ شَعِيرٍ وَقَالَ هَذَا إدَامُ هَذِهِ وَفِي هَذَا مِنْ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ أَنّ خُبْزَ الشّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتّمْرَ حَارّ رَطْبٌ عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ فَأَدْمُ <201> خُبْزِ الشّعِيرِ بِهِ مِنْ أَحْسَنِ التّدْبِيرِ لَا سِيّمَا لِمَنْ تِلْكَ عَادَتُهُمْ كَأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَارَةً بِالْخَلّ وَيَقُولُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَل وَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْحَالِ الْحَاضِرِ لَا تَفْضِيلٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا يَظُنّ الْجُهّالُ وَسَبَبُ الْحَدِيثِ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمًا فَقَدّمُوا لَهُ خُبْزًا فَقَالَ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ إدَامٍ ؟ " قَالُوا : مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ فَقَالَ " نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ
وَالْمَقْصُودُ أَنّ أَكْلَ الْخُبْزِ مَأْدُومًا مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ بِخِلَافِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ . وَسُمّيَ الْأَدْمُ أُدُمًا : لِإِصْلَاحِهِ الْخُبْزَ وَجَعْلِهِ مُلَائِمًا لِحِفْظِ الصّحّةِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي إبَاحَتِهِ لِلْخَاطِبِ النّظَرَ إنّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَهُمَا أَيْ أَقْرَبُ إلَى الِالْتِئَامِ وَالْمُوَافَقَةِ فَإِنّ الزّوْجَ يَدْخُلُ عَلَى بَصِيرَةٍ فَلَا يَنْدَمُ .
[ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاكِهَةَ ]
(1/289)
وَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ عِنْدَ مَجِيئِهَا وَلَا يَحْتَمِي عَنْهَا وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ جَعَلَ فِي كُلّ بَلْدَةٍ مِنْ الْفَاكِهَةِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَهْلُهَا فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ تَنَاوُلُهُ مِنْ أَسْبَابِ صِحّتِهِمْ وَعَافِيَتِهِمْ وَيُغْنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَقَلّ مَنْ احْتَمَى عَنْ فَاكِهَةِ بَلَدِهِ خَشْيَةَ السّقَمِ إلّا وَهُوَ مِنْ أَسْقَمِ النّاسِ جِسْمًا وَأَبْعَدِهِمْ مِنْ الصّحّةِ وَالْقُوّةِ .
وَمَا فِي تِلْكَ الْفَاكِهَةِ مِنْ الرّطُوبَاتِ فَحَرَارَةُ الْفَصْلِ وَالْأَرْضِ وَحَرَارَةُ الْمَعِدَةِ تُنْضِجُهَا وَتَدْفَعُ شَرّهَا إذَا لَمْ يُسْرِفْ فِي تَنَاوُلِهَا وَلَمْ يُحَمّلْ مِنْهَا الطّبِيعَةَ فَوْقَ مَا تَحْتَمِلُهُ وَلَمْ يُفْسِدْ بِهَا الْغِذَاءَ قَبْلَ هَضْمِهِ وَلَا أَفْسَدَهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ عَلَيْهَا وَتَنَاوُلِ الْغِذَاءِ بَعْدَ التّحَلّي مِنْهَا فَإِنّ الْقُولَنْجَ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ عِنْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مَا يَنْبَغِي فِي الْوَقْتِ الّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْوَجْهِ الّذِي يَنْبَغِي كَانَتْ لَهُ دَوَاءً نَافِعًا . <202>
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَيْئَةِ الْجُلُوسِ لِلْأَكْلِ
[ عَدَمُ الِاتّكَاءِ عِنْدَ الْأَكْلِ ]
صَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَا آكُلُ مُتّكِئًا " وَقَالَ " إنّمَا أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ .
[ عَدَمُ الْأَكْلِ مَعَ الِانْبِطَاحِ ]
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ " أَنّهُ نَهَى أَنْ يَأْكُلَ الرّجُلُ وَهُوَ مُنْبَطِحٌ عَلَى وَجْهِهِ
[ تَفْسِيرُ الِاتّكَاءِ ]
(1/290)
وَقَدْ فُسّرَ الِاتّكَاءُ بِالتّرَبّعِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الشّيْءِ وَهُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ وَفُسّرَ بِالِاتّكَاءِ عَلَى الْجَنْبِ . وَالْأَنْوَاعُ الثّلَاثَةُ مِنْ الِاتّكَاءِ فَنَوْعٌ مِنْهَا يَضُرّ بِالْآكِلِ وَهُوَ الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ فَإِنّهُ يَمْنَعُ مَجْرَى الطّعَامِ الطّبِيعِيّ عَنْ هَيْئَتِهِ وَيَعُوقُهُ عَنْ سُرْعَةِ نُفُوذِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَيَضْغَطُ الْمَعِدَةَ فَلَا يُسْتَحْكَمُ فَتْحُهَا لِلْغِذَاءِ وَأَيْضًا فَإِنّهَا تَمِيلُ وَلَا تَبْقَى مُنْتَصِبَةً فَلَا يَصِلُ الْغِذَاءُ إلَيْهَا بِسُهُولَةٍ .
(1/291)
<203> وَأَمّا النّوْعَانِ الْآخَرَانِ فَمِنْ جُلُوسِ الْجَبَابِرَةِ الْمُنَافِي لِلْعُبُودِيّةِ وَلِهَذَا قَالَ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَكَانَ يَأْكُلُ وَهُوَ مُقْعٍ وَيُذْكَرُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَجْلِسُ لِلْأَكْلِ مُتَوَرّكًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَضَعُ بَطْنَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى عَلَى ظَهْرِ قَدَمِهِ الْيُمْنَى تَوَاضُعًا لِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَدَبًا بَيْنَ يَدَيْهِ وَاحْتِرَامًا لِلطّعَامِ وَلِلْمُؤَاكِلِ فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ أَنْفَعُ هَيْئَاتِ الْأَكْلِ وَأَفْضَلُهَا لِأَنّ الْأَعْضَاءَ كُلّهَا تَكُونُ عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ الّذِي خَلَقَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْهَيْئَةِ الْأَدَبِيّةِ وَأَجْوَدُ مَا اغْتَذَى الْإِنْسَانُ إذَا كَانَتْ أَعْضَاؤُهُ عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إلّا إذَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُنْتَصِبًا الِانْتِصَابَ الطّبِيعِيّ وَأَرْدَأُ الْجِلْسَاتِ لِلْأَكْلِ الِاتّكَاءُ عَلَى الْجَنْبِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْمَرِيءَ وَأَعْضَاءَ الِازْدِرَادِ تَضِيقُ عِنْدَ هَذِهِ الْهَيْئَةِ وَالْمَعِدَةُ لَا تَبْقَى عَلَى وَضْعِهَا الطّبِيعِيّ لِأَنّهَا تَنْعَصِرُ مِمّا يَلِي الْبَطْنَ بِالْأَرْضِ وَمِمّا يَلِي الظّهْرَ بِالْحِجَابِ الْفَاصِلِ بَيْنَ آلَاتِ الْغِذَاءِ وَآلَاتِ التّنَفّسِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالِاتّكَاءِ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْوَسَائِدِ وَالْوَطَاءِ الّذِي تَحْتَ الْجَالِسِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ مُتّكِئًا عَلَى الْأَوْطِيَةِ وَالْوَسَائِدِ كَفِعْلِ الْجَبَابِرَةِ وَمَنْ يُرِيدُ الْإِكْثَارَ مِنْ الطّعَامِ لَكِنّي آكُلُ بُلْغَةً كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ .
فَصْلٌ [ الْأَكْلُ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ ]
(1/292)
وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَهَذَا أَنْفَعُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكَلَاتِ فَإِنّ الْأَكْلَ بِأُصْبُعٍ أَوْ أُصْبُعَيْنِ لَا يَسْتَلِذّ بِهِ الْآكِلُ وَلَا يُمْرِيهِ وَلَا يُشْبِعُهُ إلّا بَعْدَ <204> طُولٍ وَلَا تَفْرَحُ آلَاتُ الطّعَامِ وَالْمَعِدَةُ بِمَا يَنَالُهَا فِي كُلّ أَكْلَةٍ فَتَأْخُذُهَا عَلَى إغْمَاضٍ كَمَا يَأْخُذُ الرّجُلُ حَقّهُ حَبّةً أَوْ حَبّتَيْنِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَلَا يَلْتَذّ بِأَخْذِهِ وَلَا يُسَرّ بِهِ وَالْأَكْلُ بِالْخَمْسَةِ وَالرّاحَةِ يُوجِبُ ازْدِحَامَ الطّعَامِ عَلَى آلَاتِهِ وَعَلَى الْمَعِدَةِ وَرُبّمَا انْسَدّتْ الْآلَاتُ فَمَاتَ وَتُغْصَبُ الْآلَاتُ عَلَى دَفْعِهِ وَالْمَعِدَةُ عَلَى احْتِمَالِهِ وَلَا يَجِدُ لَهُ لَذّةً وَلَا اسْتِمْرَاءً فَأَنْفَعُ الْأَكْلِ أَكْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَكْلُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ بِالْأَصَابِعِ الثّلَاثِ .
فَصْلٌ [ عَدَمُ الْأَكْلِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ ]
(1/293)
وَمَنْ تَدَبّرَ أَغْذِيَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا كَانَ يَأْكُلُهُ وَجَدَهُ لَمْ يَجْمَعْ قَطّ بَيْنَ لَبَنٍ وَسَمَكٍ وَلَا بَيْنَ لَبَنٍ وَحَامِضٍ وَلَا بَيْنَ غِذَاءَيْنِ حَارّيْنِ وَلَا بَارِدَيْنِ وَلَا لَزِجَيْنِ وَلَا قَابِضَيْنِ وَلَا مُسْهِلَيْنِ وَلَا غَلِيظَيْنِ وَلَا مُرْخِيَيْنِ وَلَا مُسْتَحِيلَيْنِ إلَى خَلْطٍ وَاحِدٍ وَلَا بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ كَقَابِضٍ وَمُسْهِلٍ وَسَرِيعِ الْهَضْمِ وَبَطِيئِهِ وَلَا بَيْنَ شَوِيّ وَطَبِيخٍ وَلَا بَيْنَ طَرِيّ وَقَدِيدٍ وَلَا بَيْنَ لَبَنٍ وَبَيْضٍ وَلَا بَيْنَ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَلَمْ يَكُنْ يَأْكُلُ طَعَامًا فِي وَقْتِ شِدّةِ حَرَارَتِهِ وَلَا طَبِيخًا بَائِتًا يُسَخّنُ لَهُ بِالْغَدِ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ الْعَفِنَةِ وَالْمَالِحَةِ كَالْكَوَامِخِ وَالْمُخَلّلَاتِ وَالْمُلُوحَاتِ وَكُلّ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ ضَارّ مُوَلّدٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الصّحّةِ وَالِاعْتِدَالِ .
[ تَعْدِيلُ الطّعَامِ بِضِدّهِ ]
وَكَانَ يُصْلِحُ ضَرَرَ بَعْضِ الْأَغْذِيَةِ بِبَعْضٍ إذَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا فَيَكْسِرُ حَرَارَةَ هَذَا بِبُرُودَةِ هَذَا وَيُبُوسَةَ هَذَا بِرُطُوبَةِ هَذَا كَمَا فَعَلَ فِي الْقِثّاءِ وَالرّطَبِ وَكَمَا كَانَ يَأْكُلُ التّمْرَ بِالسّمْنِ وَهُوَ الْحَيْسُ وَيَشْرَبُ نَقِيعَ التّمْرِ يُلَطّفُ بِهِ كَيْمُوسَاتِ الْأَغْذِيَةِ الشّدِيدَةِ .
[ الْأَمْرُ بِالْعَشَاءِ ]
وَكَانَ يَأْمُرُ بِالْعَشَاءِ وَلَوْ بِكَفّ مِنْ تَمْرٍ وَيَقُولُ تَرْكُ الْعَشَاءِ مَهْرَمَةٌ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " . <205>
[ عَدَمُ النّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ ]
(1/294)
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَنْهَى عَنْ النّوْمِ عَلَى الْأَكْلِ وَيَذْكُرُ أَنّهُ يُقْسِي الْقَلْبَ وَلِهَذَا فِي وَصَايَا الْأَطِبّاءِ لِمَنْ أَرَادَ حِفْظَ الصّحّةِ أَنْ يَمْشِيَ بَعْدَ الْعَشَاءِ خُطُوَاتٍ وَلَوْ مِائَةَ خُطْوَةٍ وَلَا يَنَامُ عَقِبَهُ فَإِنّهُ مُضِرّ جِدّا وَقَالَ مُسْلِمُوهُمْ أَوْ يُصَلّيَ عَقِيبَهُ لِيَسْتَقِرّ الْغِذَاءُ بِقَعْرِ الْمَعِدَةِ فَيَسْهُلَ هَضْمُهُ وَيَجُودَ بِذَلِكَ .
[ عَدَمُ الشّرْبِ عَلَى الطّعَامِ ]
وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ أَنْ يَشْرَبَ عَلَى طَعَامِهِ فَيُفْسِدَهُ وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ الْمَاءُ حَارّا أَوْ بَارِدًا فَإِنّهُ رَدِيءٌ جِدّا . قَالَ الشّاعِرُ
لَا تَكُنْ عِنْدَ أَكْلِ سُخْنٍ وَبَرْدٍ
وَدُخُولِ الْحَمّامِ تَشْرَبُ مَاءَ
فَإِذَا مَا اجْتَنَبْتَ ذَلِكَ حَقّا
لَمْ تَخَفْ مَا حَيِيت فِي الْجَوْفِ دَاءَ
[الْأَوْقَاتُ الّتِي يُنْصَحُ فِيهَا بِعَدَمِ الشّرْبِ ]
وَيُكْرَهُ شُرْبُ الْمَاءِ عَقِيبَ الرّيَاضَةِ وَالتّعَبِ وَعَقِيبَ الْجِمَاعِ وَعَقِيبَ الطّعَامِ وَقَبْلَهُ وَعَقِيبَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَإِنْ كَانَ الشّرْبُ عَقِيبَ بَعْضِهَا أَسْهَلَ مِنْ بَعْضٍ وَعَقِبَ الْحَمّامِ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ فَهَذَا كُلّهُ مُنَافٍ لِحِفْظِ الصّحّةِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْعَوَائِدِ فَإِنّهَا طَبَائِعُ ثَوَانٍ .
فَصْلٌ [ هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرَابِ ]
[شُرْبُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفَوَائِدُهُ ]
(1/295)
وَأَمّا هَدْيُهُ فِي الشّرَابِ فَمِنْ أَكْمَلِ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ فَإِنّهُ كَانَ يَشْرَبُ الْعَسَلَ الْمَمْزُوجَ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ وَفِي هَذَا مِنْ حِفْظِ الصّحّةِ مَا لَا يَهْتَدِي إلَى مَعْرِفَتِهِ إلّا أَفَاضِلُ الْأَطِبّاءِ فَإِنّ شُرْبَهُ وَلَعْقَهُ عَلَى الرّيقِ يُذِيبُ الْبَلْغَمَ وَيَغْسِلُ خَمْلَ الْمَعِدَةِ وَيَجْلُو لُزُوجَتَهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْفَضَلَاتِ <206> وَيُسَخّنُهَا بِاعْتِدَالٍ وَيَفْتَحُ سَدَدَهَا وَيَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِالْكَبِدِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَهُوَ أَنْفَعُ لِلْمَعِدَةِ مِنْ كُلّ حُلْوٍ دَخَلَهَا وَإِنّمَا يَضُرّ بِالْعَرَضِ لِصَاحِبِ الصّفْرَاءِ لِحِدّتِهِ وَحِدّةِ الصّفْرَاءِ فَرُبّمَا هَيّجَهَا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ لَهُمْ بِالْخَلّ فَيَعُودُ حِينَئِذٍ لَهُمْ نَافِعًا جِدّا وَشُرْبُهُ أَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُتّخَذَةِ مِنْ السّكّرِ أَوْ أَكْثَرِهَا وَلَا سِيّمَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ وَلَا أَلِفَهَا طَبْعُهُ فَإِنّهُ إذَا شَرِبَهَا لَا تُلَائِمُهُ مُلَاءَمَةَ الْعَسَلِ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ وَالْمُحَكّمُ فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ فَإِنّهَا تَهْدِمُ أُصُولًا وَتَبْنِي أُصُولًا .
وَأَمّا الشّرَابُ إذَا جُمِعَ وَصُفّيَ الْحَلَاوَةُ وَالْبُرُودَةُ فَمِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَمِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَلِلْأَرْوَاحِ وَالْقُوَى وَالْكَبِدِ وَالْقَلْبِ عِشْقٌ شَدِيدٌ لَهُ وَاسْتِمْدَادٌ مِنْهُ وَإِذَا كَانَ فِيهِ الْوَصْفَانِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ وَتَنْفِيذُ الطّعَامِ إلَى الْأَعْضَاءِ وَإِيصَالُهُ إلَيْهَا أَتَمّ تَنْفِيذٍ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَارِدِ ]
(1/296)
وَالْمَاءُ الْبَارِدُ رَطْبٌ يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ وَيَحْفَظُ عَلَى الْبَدَنِ رُطُوبَاتِهِ الْأَصْلِيّةَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا تَحَلّلَ مِنْهَا وَيُرَقّقُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ فِي الْعُرُوقِ .
[ هَلْ الْمَاءُ الْبَارِدُ يُغَذّي الْبَدَنَ ]
وَاخْتَلَفَ الْأَطِبّاءُ هَلْ يُغَذّي الْبَدَنَ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَأَثْبَتَتْ طَائِفَةٌ التّغْذِيَةَ بِهِ بِنَاءً عَلَى مَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ النّمُوّ وَالزّيَادَةِ وَالْقُوّةِ فِي الْبَدَنِ بِهِ وَلَا سِيّمَا عِنْدَ شِدّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
قَالُوا : وَبَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ مِنْهَا : النّمُوّ وَالِاغْتِذَاءُ وَالِاعْتِدَالُ وَفِي النّبَاتِ قُوّةُ حِسّ تُنَاسِبُهُ وَلِهَذَا كَانَ غِذَاءُ النّبَاتِ بِالْمَاءِ فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ لِلْحَيَوَانِ بِهِ نَوْعُ غِذَاءٍ وَأَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ غِذَائِهِ التّامّ .
قَالُوا : وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ قُوّةَ الْغِذَاءِ وَمُعْظَمَهُ فِي الطّعَامِ وَإِنّمَا أَنْكَرْنَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَاءِ تَغْذِيَةٌ الْبَتّةَ . قَالُوا : وَأَيْضًا الطّعَامُ إنّمَا يُغَذّي بِمَا فِيهِ مِنْ الْمَائِيّةِ وَلَوْلَاهَا لَمَا حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ .
(1/297)
<207> قَالُوا : وَلِأَنّ الْمَاءَ مَادّةُ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَالنّبَاتِ وَلَا رَيْبَ أَنّ مَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مَادّةِ الشّيْءِ حَصَلَتْ بِهِ التّغْذِيَةُ فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ مَادّتَهُ الْأَصْلِيّةَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ [ الْأَنْبِيَاءِ 30 ] فَكَيْفَ نُنْكِرُ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِمَا هُوَ مَادّةُ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؟ . قَالُوا : وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَطْشَانَ إذَا حَصَلَ لَهُ الرّيّ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ تَرَاجَعَتْ إلَيْهِ قُوَاهُ وَنَشَاطُهُ وَحَرَكَتُهُ وَصَبَرَ عَنْ الطّعَامِ وَانْتَفَعَ بِالْقَدْرِ الْيَسِيرِ مِنْهُ وَرَأَيْنَا الْعَطْشَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِالْقَدْرِ الْكَثِيرِ مِنْ الطّعَامِ وَلَا يَجِدُ بِهِ الْقُوّةَ وَالِاغْتِذَاءَ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ الْمَاءَ يُنْفِذُ الْغِذَاءَ إلَى أَجْزَاءِ الْبَدَنِ وَإِلَى جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَأَنّهُ لَا يَتِمّ أَمْرُ الْغِذَاءِ إلّا بِهِ وَإِنّمَا نُنْكِرُ عَلَى مَنْ سَلَبَ قُوّةَ التّغْذِيَةِ عَنْهُ الْبَتّةَ وَيَكَادُ قَوْلُهُ عِنْدَنَا يَدْخُلُ فِي إنْكَارِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيّةِ .
[ مَنْ أَنْكَرَ حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ]
(1/298)
وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى حُصُولَ التّغْذِيَةِ بِهِ وَاحْتَجّتْ بِأُمُورٍ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ بِهِ وَأَنّهُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الطّعَامِ وَأَنّهُ لَا يَزِيدُ فِي نُمُوّ الْأَعْضَاءِ وَلَا يُخَلّفُ عَلَيْهَا بَدَلَ مَا حَلّلَتْهُ الْحَرَارَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمّا لَا يُنْكِرُهُ أَصْحَابُ التّغْذِيَةِ فَإِنّهُمْ يَجْعَلُونَ تَغْذِيَتَهُ بِحَسَبِ جَوْهَرِهِ وَلَطَافَتِهِ وَرِقّتِهِ وَتَغْذِيَةُ كُلّ شَيْءٍ بِحَسْبِهِ وَقَدْ شُوهِدَ الْهَوَاءُ الرّطْبُ الْبَارِدُ اللّيّنُ اللّذِيذُ يُغَذّي بِحَسْبِهِ وَالرّائِحَةُ الطّيّبَةُ تُغَذّي نَوْعًا مِنْ الْغِذَاءِ فَتَغْدِيَةُ الْمَاءِ أَظْهَرُ وَأَظْهَرُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنّهُ إذَا كَانَ بَارِدًا وَخَالَطَهُ مَا يُحَلّيهِ كَالْعَسَلِ أَوْ الزّبِيبِ أَوْ التّمْرِ أَوْ السّكّرِ كَانَ مِنْ أَنْفَعِ مَا يَدْخُلُ الْبَدَنَ وَحَفِظَ عَلَيْهِ صِحّتَهُ فَلِهَذَا كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَارِدَ الْحُلْوَ . وَالْمَاءُ الْفَاتِرُ يَنْفُخُ وَيَفْعَلُ ضِدّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
[ مَنَافِعُ الْمَاءِ الْبَائِتِ ]
وَلَمّا كَانَ الْمَاءُ الْبَائِتُ أَنْفَعَ مِنْ الّذِي يُشْرَبُ وَقْتَ اسْتِقَائِهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ دَخَلَ إلَى حَائِطِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التّيْهَانِ <208> هَلْ مِنْ مَاءٍ بَاتَ فِي شَنّةٍ ؟ " فَأَتَاهُ بِهِ فَشَرِبَ مِنْهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَلَفْظُهُ إنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّةٍ وَإِلّا كَرَعْنَا .
(1/299)
وَالْمَاءُ الْبَائِتُ بِمَنْزِلَةِ الْعَجِينِ الْخَمِيرِ وَاَلّذِي شُرِبَ لِوَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْفَطِيرِ وَأَيْضًا فَإِنّ الْأَجْزَاءَ التّرَابِيّةَ وَالْأَرْضِيّةَ تُفَارِقُهُ إذَا بَاتَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ وَيُخْتَارُ الْبَائِتُ مِنْهُ . وَقَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُسْتَقَى لَهُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْ بِئْرِ السّقْيَا .
[ الْمَاءُ الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي فِي آنِيَةِ الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا ]
وَالْمَاءُ الّذِي فِي الْقِرَبِ وَالشّنَانِ أَلَذّ مِنْ الّذِي يَكُونُ فِي آنِيَةِ الْفَخّارِ وَالْأَحْجَارِ وَغَيْرِهِمَا وَلَا سِيّمَا أَسْقِيَةَ الْأُدُمِ وَلِهَذَا الْتَمَسَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاءً بَاتَ فِي شَنّةٍ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَوَانِي وَفِي الْمَاءِ إذَا وُضِعَ فِي الشّنَانِ وَقِرَبِ الْأُدُمِ خَاصّةٌ لَطِيفَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَسَامّ الْمُنْفَتِحَةِ الّتِي يَرْشَحُ مِنْهَا الْمَاءُ وَلِهَذَا كَانَ الْمَاءُ فِي الْفَخّارِ الّذِي يَرْشَحُ أَلَذّ مِنْهُ وَأَبْرَدَ فِي الّذِي لَا يَرْشَحُ فَصَلَاةُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْخَلْقِ وَأَشْرَفِهِمْ نَفْسًا وَأَفْضَلِهِمْ هَدْيًا فِي كُلّ شَيْءٍ لَقَدْ دَلّ أُمّتَهُ عَلَى أَفْضَلِ الْأُمُورِ وَأَنْفَعِهَا لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
[ مَعْنَى الْحُلْوَ الْبَارِدَ ]
(1/300)
قَالَتْ عَائِشَةُ كَانَ أَحَبّ الشّرَابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُلْوَ الْبَارِدَ . وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الْعَذْبَ كَمِيَاهِ الْعُيُونِ وَالْآبَارِ <209> الْحُلْوَةِ فَإِنّهُ كَانَ يُسْتَعْذَبُ لَهُ الْمَاءُ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَاءَ الْمَمْزُوجَ بِالْعَسَلِ أَوْ الّذِي نُقِعَ فِيهِ التّمْرُ أَوْ الزّبِيبُ . وَقَدْ يُقَالُ - وَهُوَ الْأَظْهَرُ - يَعُمّهُمَا جَمِيعًا .
[ مَعْنَى الْكَرْعِ وَبَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِيهِ ]
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ إنْ كَانَ عِنْدَك مَاءٌ بَاتَ فِي شَنّ وَإِلّا كَرَعْنَا فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْكَرْعِ وَهُوَ الشّرْبُ بِالْفَمِ مِنْ الْحَوْضِ وَالْمِقْرَاةِ وَنَحْوِهَا وَهَذِهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَاقِعَةُ عَيْنٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ فِيهَا إلَى الْكَرْعِ بِالْفَمِ أَوْ قَالَهُ مُبَيّنًا لِجَوَازِهِ فَإِنّ مِنْ النّاسِ مَنْ يَكْرَهُهُ وَالْأَطِبّاءُ تَكَادُ تُحَرّمُهُ وَيَقُولُونَ إنّهُ يَضُرّ بِالْمَعِدَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ لَا أَدْرِي مَا حَالُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَانَا أَنْ نَشْرَبَ عَلَى بُطُونِنَا وَهُوَ الْكَرْعُ وَنَهَانَا أَنْ نَغْتَرِفَ بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ وَقَالَ لَا يَلَغْ أَحَدُكُمْ كَمَا يَلَغُ الْكَلْبُ وَلَا يَشْرَبْ بِاللّيْلِ مِنْ إنَاءٍ حَتّى يَخْتَبِرَهُ إلّا أَنْ يَكُونَ مُخَمّرًا .
(1/301)
وَحَدِيثُ الْبُخَارِيّ أَصَحّ مِنْ هَذَا وَإِنْ صَحّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا إذْ لَعَلّ الشّرْبَ بِالْيَدِ لَمْ يَكُنْ يُمْكِنُ حِينَئِذٍ فَقَالَ وَإِلّا كَرَعْنَا وَالشّرْبُ بِالْفَمِ إنّمَا يَضُرّ إذَا انْكَبّ الشّارِبُ عَلَى وَجْهِهِ وَبَطْنِهِ كَاَلّذِي يَشْرَبُ مِنْ النّهْرِ وَالْغَدِيرِ فَأَمّا إذَا شَرِبَ مُنْتَصِبًا بِفَمِهِ مِنْ حَوْضٍ مُرْتَفِعٍ وَنَحْوِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ بِيَدِهِ أَوْ بِفَمِهِ .
فَصْلٌ [ بَيَانُ الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ الشّرْبِ قَائِمًا ]
وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ الشّرْبُ قَاعِدًا هَذَا كَانَ هَدْيَهُ الْمُعْتَادَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ <210> نَهَى عَنْ الشّرْبِ قَائِمًا وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ الّذِي شَرِبَ قَائِمًا أَنْ يَسْتَقِيئَ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ شَرِبَ قَائِمًا . قَالَتْ طَائِفَةٌ هَذَا نَاسِخٌ لِلنّهْيِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ مُبَيّنٌ أَنّ النّهْيَ لَيْسَ لِلتّحْرِيمِ بَلْ لِلْإِرْشَادِ وَتَرْكِ الْأَوْلَى وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا فَإِنّهُ إنّمَا شَرِبَ قَائِمًا لِلْحَاجَةِ فَإِنّهُ جَاءَ إلَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْتَقُونَ مِنْهَا فَاسْتَقَى فَنَاوَلُوهُ الدّلْوَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ وَهَذَا كَانَ مَوْضِعَ حَاجَةٍ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ قَائِمًا ]
(1/302)
وَلِلشّرْبِ قَائِمًا آفَاتٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ الرّيّ التّامّ وَلَا يَسْتَقِرّ فِي الْمَعِدَةِ حَتّى يَقْسِمَهُ الْكَبِدُ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَيَنْزِلَ بِسُرْعَةٍ وَحِدّةٍ إلَى الْمَعِدَةِ فَيُخْشَى مِنْهُ أَنْ يُبْرِدَ حَرَارَتَهَا وَيُشَوّشَهَا وَيُسْرِعَ النّفُوذَ إلَى أَسْفَلِ الْبَدَنِ بِغَيْرِ تَدْرِيجٍ وَكُلّ هَذَا يَضُرّ بِالشّارِبِ وَأَمّا إذَا فَعَلَهُ نَادِرًا أَوْ لِحَاجَةٍ لَمْ يَضُرّهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِالْعَوَائِدِ عَلَى هَذَا فَإِنّ الْعَوَائِدَ طَبَائِعُ ثَوَانٍ وَلَهَا أَحْكَامٌ أُخْرَى وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْخَارِجِ عَنْ الْقِيَاسِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ .
فَصْلٌ [ تَنَفّسُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الشّرْبِ ثَلَاثًا ]
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرَابِ ثَلَاثًا وَيَقُولُ إنّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ .
الشّرَابُ فِي لِسَانِ الشّارِعِ وَحَمَلَةُ الشّرْعِ هُوَ الْمَاءُ وَمَعْنَى تَنَفّسِهِ فِي الشّرَابِ إبَانَتُهُ الْقَدَحَ عَنْ فِيهِ وَتَنَفّسُهُ خَارِجَهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى الشّرَابِ كَمَا جَاءَ مُصَرّحًا بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَتَنَفّسْ فِي الْقَدَحِ وَلَكِنْ لِيُبِنّ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ . <211>
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ]
(1/303)
وَفِي هَذَا الشّرْبِ حِكَمٌ جَمّةٌ وَفَوَائِدُ مُهِمّةٌ وَقَدْ نَبّهَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَجَامِعِهَا بِقَوْلِهِ إنّهُ أَرْوَى وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ فَأَرْوَى : أَشَدّ رِيّا وَأَبْلَغُهُ وَأَنْفَعُهُ وَأَبْرَأُ أَفْعَلُ مِنْ الْبُرْءِ وَهُوَ الشّفَاءُ أَيْ يُبْرِئُ مِنْ شَدّةِ الْعَطَشِ وَدَائِهِ لِتَرَدّدِهِ عَلَى الْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ دُفُعَاتٍ فَتُسْكِنُ الدّفْعَةُ الثّانِيَةُ مَا عَجَزَتْ الْأُولَى عَنْ تَسْكِينِهِ وَالثّالِثَةُ مَا عَجَزَتْ الثّانِيَةُ عَنْهُ وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ وَأَبْقَى عَلَيْهَا مِنْ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهَا الْبَارِدُ وَهْلَةً وَاحِدَةً وَنَهْلَةً وَاحِدَةً .
وَأَيْضًا فَإِنّهُ لَا يَرْوِي لِمُصَادَفَتِهِ لِحَرَارَةِ الْعَطَشِ لَحْظَةً ثُمّ يُقْلِعُ عَنْهَا وَلَمّا تُكْسَرْ سَوْرَتُهَا وَحِدّتُهَا وَإِنْ انْكَسَرَتْ لَمْ تَبْطُلْ بِالْكُلّيّةِ بِخِلَافِ كَسْرِهَا عَلَى التّمَهّلِ وَالتّدْرِيجِ .
وَأَيْضًا فَإِنّهُ أَسْلَمُ عَاقِبَةً وَآمَنُ غَائِلَةً مِنْ تَنَاوُلِ جَمِيعِ مَا يُرْوِي دُفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنّهُ يُخَافُ مِنْهُ أَنْ يُطْفِئَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ بِشِدّةِ بَرْدِهِ وَكَثْرَةِ كَمّيّتِهِ أَوْ يُضْعِفُهَا فَيُؤَدّي ذَلِكَ إلَى فَسَادِ مِزَاجِ الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَإِلَى أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ خُصُوصًا فِي سُكّانِ الْبِلَادِ الْحَارّةِ كَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَنَحْوِهِمَا أَوْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ كَشِدّةِ الصّيْفِ فَإِنّ الشّرْبَ وَهْلَةً وَاحِدَةً مَخُوفٌ عَلَيْهِمْ جِدّا فَإِنّ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ ضَعِيفٌ فِي بَوَاطِنِ أَهْلِهَا وَفِي تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الْحَارّةِ . <212>
[ مَعْنَى أَمْرَأُ ]
(1/304)
وَقَوْلُهُ " وَأَمْرَأُ هُوَ أَفْعَلُ مِنْ مَرِيءِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فِي بَدَنِهِ إذَا دَخَلَهُ وَخَالَطَهُ بِسُهُولَةٍ وَلَذّةٍ وَنَفْعٍ . وَمِنْهُ فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [ النّسَاءِ 4 ] هَنِيئًا فِي عَاقِبَتِهِ مَرِيئًا فِي مَذَاقِهِ . وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنّهُ أَسْرَعُ انْحِدَارًا عَنْ الْمَرِيءِ لِسُهُولَتِهِ وَخِفّتِهِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ فَإِنّهُ لَا يَسْهُلُ عَلَى الْمَرِيءِ انْحِدَارُهُ .
[ آفَاتُ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً ]
وَمِنْ آفَاتِ الشّرْبِ نَهْلَةً وَاحِدَةً أَنّهُ يُخَافُ مِنْهُ الشّرَقُ بِأَنْ يَنْسَدّ مَجْرَى الشّرَابِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ فَيَغَصّ بِهِ فَإِذَا تَنَفّسَ رُوَيْدًا ثُمّ شَرِبَ أَمِنَ مِنْ ذَلِكَ .
[فَوَائِدُ تَكْرَارِ الشّرْبِ ]
وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنّ الشّارِبَ إذَا شَرِبَ أَوّلَ مَرّةٍ تَصَاعَدَ الْبُخَارُ الدّخّانِيّ الْحَارّ الّذِي كَانَ عَلَى الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ لِوُرُودِ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ الطّبِيعَةُ عَنْهَا فَإِذَا شَرِبَ مَرّةً وَاحِدَةً اتّفَقَ نُزُولُ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَصُعُودُ الْبُخَارِ فَيَتَدَافَعَانِ وَيَتَعَالَجَانِ وَمِنْ ذَلِكَ يَحْدُثُ الشّرَقُ وَالْغُصّةُ وَلَا يَتَهَنّأُ الشّارِبُ بِالْمَاءِ وَلَا يُمْرِئْهُ وَلَا يَتِمّ رِيّهُ . وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَالْبَيْهَقِيّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمُصّ الْمَاءَ مَصّا وَلَا يَعُبّ عَبّا فَإِنّهُ مِنْ الْكُبَادِ .
[وُرُودُ الْمَاءِ عَلَى الْكَبِدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً يُؤْلِمُهَا ]
(1/305)
وَالْكُبَادُ - بِضَمّ الْكَافِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ - هُوَ وَجَعُ الْكَبِدِ وَقَدْ عُلِمَ بِالتّجْرِبَةِ أَنّ وُرُودَ الْمَاءِ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى الْكَبِدِ يُؤْلِمُهَا وَيُضْعِفُ حَرَارَتَهَا وَسَبَبُ ذَلِكَ الْمُضَادّةُ الّتِي بَيْنَ حَرَارَتِهَا وَبَيْنَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا مِنْ كَيْفِيّةِ الْمَبْرُودِ وَكَمّيّتِهِ . وَلَوْ وَرَدَ بِالتّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يُضَادّ حَرَارَتَهَا وَلَمْ يُضْعِفْهَا وَهَذَا مِثَالُهُ صَبّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الْقِدْرِ وَهِيَ تَفُورُ لَا يَضُرّهَا صَبّهُ قَلِيلًا قَلِيلًا . وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِهِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَشْرَبُوا نَفَسًا وَاحِدًا كَشُرْبِ الْبَعِيرِ وَلَكِنْ اشْرَبُوا مَثْنَى وَثُلَاثَ وَسَمّوا إذَا أَنْتُمْ شَرِبْتُمْ وَاحْمَدُوا إذَا أَنْتُمْ فَرَغْتُمْ <213>
[فَوَائِدُ التّسْمِيَةِ ]
وَلِلتّسْمِيَةِ فِي أَوّلِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَحَمْدِ اللّهِ فِي آخِرِهِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي نَفْعِهِ وَاسْتِمْرَائِهِ وَدَفْعِ مَضَرّتِهِ .
[ كَمَالُ الطّعَامِ فِي التّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ وَتَكْثِيرِ الْأَيْدِي وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا ]
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إذَا جَمَعَ الطّعَامُ أَرْبَعًا فَقَدْ كَمُلَ إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ فِي أَوّلِهِ وَحُمِدَ اللّهُ فِي آخِرِهِ وَكَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَكَانَ مِنْ حِلّ .
فَصْلٌ [ تَغْطِيَةُ الْإِنَاءِ وَإِيكَاءُ السّقَاءِ ]
(1/306)
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ غَطّوا الْإِنَاءَ وَأَوْكُوا السّقَاءَ فَإِنّ فِي السّنَةِ لَيْلَةً يَنْزِلُ فِيهَا وَبَاءٌ لَا يَمُرّ بِإِنَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غِطَاءٌ أَوْ سِقَاءٍ لَيْسَ عَلَيْهِ وِكَاءٌ إلّا وَقَعَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الدّاءِ . وَهَذَا مِمّا لَا تَنَالُهُ عُلُومُ الْأَطِبّاءِ وَمَعَارِفُهُمْ وَقَدْ عَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ عُقَلَاءُ النّاسِ بِالتّجْرِبَةِ . قَالَ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ أَحَدُ رُوَاةِ الْحَدِيثِ الْأَعَاجِمُ عِنْدَنَا يَتّقُونَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي السّنَةِ فِي كَانُونَ الْأَوّلِ مِنْهَا .
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ بِتَخْمِيرِ الْإِنَاءِ وَلَوْ أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ عُودًا . وَفِي عَرْضِ <214> الْعُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَنّهُ لَا يَنْسَى تَخْمِيرَهُ بَلْ يَعْتَادُهُ حَتّى بِالْعُودِ وَفِيهِ أَنّهُ رُبّمَا أَرَادَ الدّبِيبُ أَنْ يَسْقُطَ فِيهِ فَيَمُرّ عَلَى الْعُودِ فَيَكُونُ الْعُودُ جِسْرًا لَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ السّقُوطِ فِيهِ .
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ أَمَرَ عِنْدَ إيكَاءِ الْإِنَاءِ بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فَإِنّ ذِكْرَ اسْمِ اللّهِ عِنْدَ تَخْمِيرِ الْإِنَاءِ يَطْرُدُ عَنْهُ الشّيْطَانَ وَإِيكَاؤُهُ يَطْرُدُ عَنْهُ الْهَوَامّ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِذِكْرِ اسْمِ اللّهِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ .
[ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ فَمِ السّقَاءِ وَالْآدَابُ الْمُتَرَتّبَةُ عَلَيْهِ ]
وَرَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى عَنْ الشّرْبِ مِنْ فِي السّقَاءِ .
(1/307)
وَفِي هَذَا آدَابٌ عَدِيدَةٌ مِنْهَا : أَنّ تَرَدّدَ أَنْفَاسِ الشّارِبِ فِيهِ يُكْسِبُهُ زُهُومَةً وَرَائِحَةً كَرِيهَةً يُعَافُ لِأَجْلِهَا .
وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا غَلَبَ الدّاخِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْمَاءِ فَتَضَرّرَ بِهِ .
وَمِنْهَا : أَنّهُ رُبّمَا كَانَ فِيهِ حَيَوَانٌ لَا يَشْعُرُ بِهِ فَيُؤْذِيهِ .
وَمِنْهَا : أَنّ الْمَاءَ رُبّمَا كَانَ فِيهِ قَذَاةٌ أَوْ غَيْرُهَا لَا يَرَاهَا عِنْدَ الشّرْبِ فَتَلِجُ جَوْفَهُ .
وَمِنْهَا : أَنّ الشّرْبَ كَذَلِكَ يَمْلَأُ الْبَطْنَ مِنْ الْهَوَاءِ فَيَضِيقُ عَنْ أَخْذِ حَظّهِ مِنْ الْمَاءِ أَوْ يُزَاحِمُهُ أَوْ يُؤْذِيهِ وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ .
[ ضَعْفُ حَدِيثِ الشّرْبِ مِنْ فَمِ الْإِدَاوَةِ ]
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا بِإِدَاوَةٍ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اخْنِثْ فَمَ الْإِدَاوَةِ ثُمّ شَرِبَ مِنْهَا مِنْ فِيهَا ؟ قُلْنَا : <215> نَكْتَفِي فِيهِ بِقَوْلِ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْعُمَرِيّ يُضَعّفُ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَلَا أَدْرِي سَمِعَ مِنْ عِيسَى أَوْ لَا انْتَهَى . يُرِيدُ عِيسَى بْنَ عَبْدِ اللّهِ الّذِي رَوَاهُ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
فَصْلٌ [ النّهْيُ عَنْ الشّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَبَيَانُ مَفَاسِدِهِ ]
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الشّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ وَأَنْ يَنْفُخَ فِي الشّرَابِ وَهَذَا مِنْ الْآدَابِ الّتِي تَتِمّ بِهَا مَصْلَحَةُ الشّارِبِ فَإِنّ الشّرْبَ مِنْ ثُلْمَةِ الْقَدَحِ فِيهِ عِدّةُ مَفَاسِدَ
(1/308)
أَحَدُهَا : أَنّ مَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ مِنْ قَذَى أَوْ غَيْرِهِ يَجْتَمِعُ إلَى الثّلْمَةِ بِخِلَافِ الْجَانِبِ الصّحِيحِ .
الثّانِي : أَنّهُ رُبّمَا شَوّشَ عَلَى الشّارِبِ وَلَمْ يَتَمَكّنْ مِنْ حُسْنِ الشّرْبِ مِنْ الثّلْمَةِ .
الثّالِثُ أَنّ الْوَسَخَ وَالزّهُومَةَ تَجْتَمِعُ فِي الثّلْمَةِ وَلَا يَصِلُ إلَيْهَا الْغَسْلُ كَمَا يَصِلُ إلَى الْجَانِبِ الصّحِيحِ .
الرّابِعُ أَنّ الثّلْمَةَ مَحَلّ الْعَيْبِ فِي الْقَدَحِ وَهِيَ أَرْدَأُ مَكَانٍ فِيهِ فَيَنْبَغِي تَجَنّبُهُ وَقَصْدُ الْجَانِبِ الصّحِيحِ فَإِنّ الرّدِيءَ مِنْ كُلّ شَيْءٍ لَا خَيْرَ فِيهِ وَرَأَى بَعْضُ السّلَفِ رَجُلًا يَشْتَرِي حَاجَةً رَدِيئَةً فَقَالَ لَا تَفْعَلْ أَمَا عَلِمْتَ أَنّ اللّهَ نَزَعَ الْبَرَكَةَ مِنْ كُلّ رَدِيءٍ .
<216> الْخَامِسُ أَنّهُ رُبّمَا كَانَ فِي الثّلْمَةِ شَقّ أَوْ تَحْدِيدٌ يَجْرَحُ فَمَ الشّارِبِ وَلِغَيْرِ هَذِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ .
[ مَفَاسِدُ النّفْخِ فِي الشّرَابِ ]
وَأَمّا النّفْخُ فِي الشّرَابِ فَإِنّهُ يُكْسِبُهُ مِنْ فَمِ النّافِخِ رَائِحَةً كَرِيهَةً يُعَافُ لِأَجْلِهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ مُتَغَيّرَ الْفَمِ . وَبِالْجُمْلَةِ فَأَنْفَاسُ النّافِخِ تُخَالِطُهُ وَلِهَذَا جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ النّهْيِ عَنْ التّنَفّسِ فِي الْإِنَاءِ وَالنّفْخِ فِيهِ فِي الْحَدِيثِ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَصَحّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُتَنَفّسَ فِي الْإِنَاءِ أَوْ يُنْفَخَ فِيهِ .
[ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَنَفّسُ فِي الشّرْبِ وَلَا يَتَنَفّسُ فِي الْإِنَاءِ ]
(1/309)
فَإِنْ قِيلَ فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَتَنَفّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا ؟ قِيلَ نُقَابِلُهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوّلِ فَإِنّ مَعْنَاهُ أَنّهُ كَانَ يَتَنَفّسُ فِي شُرْبِهِ ثَلَاثًا وَذَكَرَ الْإِنَاءَ لِأَنّهُ آلَةُ الشّرْبِ وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَنّ إبْرَاهِيمَ ابْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاتَ فِي الثّدْيِ أَيْ فِي مُدّةِ الرّضَاعِ .
فَصْلٌ [ شُرْبُ اللّبَنِ خَالِصًا وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ وَمَنَافِعُهُ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَشْرَبُ اللّبَنَ خَالِصًا تَارَةً وَمَشُوبًا بِالْمَاءِ أُخْرَى .
وَفِي شُرْبِ اللّبَنِ الْحُلْوِ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الْحَارّةِ خَالِصًا وَمَشُوبًا نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَتَرْطِيبِ الْبَدَنِ وَرِيّ الْكَبِدِ وَلَا سِيّمَا اللّبَنَ الّذِي تَرْعَى دَوَابّهُ الشّيحَ وَالْقَيْصُومَ وَالْخُزَامَى <217> وَمَا أَشْبَهَهَا فَإِنّ لَبَنَهَا غِذَاءٌ مَعَ الْأَغْذِيَةِ وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَدَوَاءٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَفِي " جَامِعِ التّرْمِذِيّ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَأَطْعِمْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَإِذَا سُقِيَ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُجْزِئُ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنُ . قَالَ التّرْمِذِيّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
فَصْلٌ [ الِانْتِبَاذُ فِي الْمَاءِ ]
(1/310)
وَثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُنْبَذُ لَهُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَشْرَبُهُ إذَا أَصْبَحَ يَوْمَهُ ذَلِكَ وَاللّيْلَةَ الّتِيتَجِيءُ وَالْغَدَ وَاللّيْلَةَ الْأُخْرَى وَالْغَدَ إلَى الْعَصْرِ فَإِنْ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ سَقَاهُ الْخَادِمَ أَوْ أَمَرَ بِهِ فَصُبّ . وَهَذَا النّبِيذُ هُوَ مَا يُطْرَحُ فِيهِ تَمْرٌ يُحَلّيهِ وَهُوَ يَدْخُلُ فِي الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ وَلَهُ نَفْعٌ عَظِيمٌ فِي زِيَادَةِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَلَمْ يَكُنْ يَشْرَبُهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ خَوْفًا مِنْ تَغَيّرِهِ إلَى الْإِسْكَارِ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَلْبَسِ
وَكَانَ مِنْ أَتَمّ الْهَدْيِ وَأَنْفَعِهِ لِلْبَدَنِ وَأَخَفّهِ عَلَيْهِ وَأَيْسَرِهِ لُبْسًا وَخَلْعًا وَكَانَ أَكْثَرُ لُبْسِهِ الْأَرْدِيَةَ وَالْأُزُرَ وَهِيَ أَخَفّ عَلَى الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِهَا وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ بَلْ كَانَ أَحَبّ الثّيَابِ إلَيْهِ .
(1/311)
وَكَانَ هَدْيُهُ فِي لَبْسِهِ لِمَا يَلْبَسُهُ أَنْفَعَ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ فَإِنّهُ لَمْ يَكُنْ يُطِيلُ أَكْمَامَهُ وَيُوَسّعُهَا بَلْ كَانَتْ كُمّ قَمِيصِهِ إلَى الرّسْغِ لَا <218> يُجَاوِزُ الْيَدَ فَتَشُقّ عَلَى لَابِسِهَا وَتَمْنَعُهُ خِفّةَ الْحَرَكَةِ وَالْبَطْشِ وَلَا تَقْصُرُ عَنْ هَذِهِ فَتَبْرُزُ لِلْحَرّ وَالْبَرْدِ وَكَانَ ذَيْلُ قَمِيصِهِ وَإِزَارِهِ إلَى أَنْصَافِ السّاقَيْنِ لَمْ يَتَجَاوَزْ الْكَعْبَيْنِ فَيُؤْذِي الْمَاشِيَ وَيُؤَوّدُهُ وَيَجْعَلُهُ كَالْمُقَيّدِ وَلَمْ يَقْصُرْ عَنْ عَضَلَةِ سَاقَيْهِ فَتَنْكَشِفُ وَيَتَأَذّى بِالْحَرّ وَالْبَرْدِ وَلَمْ تَكُنْ عِمَامَتُهُ بِالْكَبِيرَةِ الّتِي تُؤْذِي الرّأْسَ حَمْلُهَا وَيُضْعِفُهُ وَيَجْعَلُهُ عُرْضَةً لِلضّعْفِ وَالْآفَاتِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ حَالِ أَصْحَابِهَا وَلَا بِالصّغِيرَةِ الّتِي تُقَصّرُ عَنْ وِقَايَةِ الرّأْسِ مِنْ الْحَرّ وَالْبَرْدِ بَلْ وَسَطًا بَيْنَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْخِلُهَا تَحْتَ حَنَكِهِ وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ عَدِيدَةٌ فَإِنّهَا تَقِي الْعُنُقَ الْحَرّ وَالْبَرْدَ وَهُوَ أَثْبَتُ لَهَا وَلَا سِيّمَا عِنْدَ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَالْكَرّ وَالْفَرّ وَكَثِيرٌ مِنْ النّاسِ اتّخَذَ الْكَلَالِيبَ عِوَضًا عَنْ الْحَنَكِ وَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا فِي النّفْعِ وَالزّينَةِ وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْت هَذِهِ اللّبْسَةَ وَجَدْتَهَا مِنْ أَنْفَعِ اللّبْسَاتِ وَأَبْلَغِهَا فِي حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَقُوّتِهِ وَأَبْعَدِهَا مِنْ التّكَلّفِ وَالْمَشَقّةِ عَلَى الْبَدَنِ .
وَكَانَ يَلْبَسُ الْخِفَافَ فِي السّفَرِ دَائِمًا أَوْ أَغْلَبَ أَحْوَالِهِ لِحَاجَةِ الرّجْلَيْنِ إلَى مَا يَقِيهِمَا مِنْ الْحَرّ وَالْبَرْدِ وَفِي الْحَضَرِ أَحْيَانًا .
(1/312)
وَكَانَ أَحَبّ أَلْوَانِ الثّيَابِ إلَيْهِ الْبَيَاضَ وَالْحِبَرَةَ وَهِيَ الْبُرُودُ الْمُحَبّرَةُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ لَبْسُ الْأَحْمَرِ وَلَا الْأَسْوَدِ وَلَا الْمُصَبّغِ وَلَا الْمَصْقُولِ . وَأَمّا الْحُلّةُ الْحَمْرَاءُ الّتِي لَبِسَهَا فَهِيَ الرّدَاءُ الْيَمَانِيّ الّذِي فِيهِ سَوَادٌ وَحُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ كَالْحُلّةِ الْخَضْرَاءِ فَقَدْ لَبِسَ هَذِهِ وَهَذِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ تَقْرِيرُ ذَلِكَ وَتَغْلِيطُ مَنْ زَعَمَ أَنّهُ لَبِسَ الْأَحْمَرَ الْقَانِيَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ الْمَسْكَنِ
لَمّا عَلِمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ عَلَى ظَهْرِ سَيْرٍ وَأَنّ الدّنْيَا مَرْحَلَةُ مُسَافِرٍ يَنْزِلُ فِيهَا مُدّةَ عُمُرِهِ ثُمّ يَنْتَقِلُ عَنْهَا إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَدْيِهِ وَهَدْيِ أَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُ <219> الِاعْتِنَاءُ بِالْمَسَاكِنِ وَتَشْيِيدِهَا وَتَعْلِيَتِهَا وَزَخْرَفَتِهَا وَتَوْسِيعِهَا بَلْ كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ مَنَازِلِ الْمُسَافِرِ تَقِي الْحَرّ وَالْبَرْدَ وَتَسْتُرُ عَنْ الْعُيُونِ وَتَمْنَعُ مِنْ وُلُوجِ الدّوَابّ وَلَا يُخَافُ سُقُوطُهَا لِفَرْطِ ثِقَلِهَا وَلَا تُعَشّشُ فِيهَا الْهَوَامّ لِسِعَتِهَا وَلَا تَعْتَوِرُ عَلَيْهَا الْأَهْوِيَةُ وَالرّيَاحُ الْمُؤْذِيَةُ لِارْتِفَاعِهَا وَلَيْسَتْ تَحْتَ الْأَرْضِ فَتُؤْذِي سَاكِنَهَا وَلَا فِي غَايَةِ الِارْتِفَاعِ عَلَيْهَا بَلْ وَسَطٌ وَتِلْكَ أَعْدَلُ الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعُهَا وَأَقَلّهَا حَرّا وَبَرْدًا وَلَا تَضِيقُ عَنْ سَاكِنِهَا فَيَنْحَصِرُ وَلَا تَفْضُلُ عَنْهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ فَتَأْوِي الْهَوَامّ فِي خُلُوّهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا كُنُفٌ تُؤْذِي سَاكِنَهَا بِرَائِحَتِهَا .
(1/313)
بَلْ رَائِحَتُهَا مِنْ أَطْيَبِ الرّوَائِحِ لِأَنّهُ كَانَ يُحِبّ الطّيبَ وَلَا يَزَالُ عِنْدَهُ وَرِيحُهُ هُوَ مِنْ أَطْيَبِ الرّائِحَةِ وَعَرَقُهُ مِنْ أَطْيَبِ الطّيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الدّارِ كَنِيفٌ تَظْهَرُ رَائِحَتُهُ وَلَا رَيْبَ أَنّ هَذِهِ مِنْ أَعْدَلِ الْمَسَاكِنِ وَأَنْفَعِهَا وَأَوْفَقِهَا لِلْبَدَنِ وَحِفْظِ صِحّتِهِ .
فَصْلٌ فِي تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ النّوْمِ وَالْيَقَظَةِ
مَنْ تَدَبّرَ نَوْمَهُ وَيَقَظَتَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَدَهُ أَعْدَلَ نَوْمٍ وَأَنْفَعَهُ لِلْبَدَنِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْقُوَى فَإِنّهُ كَانَ يَنَامُ أَوّلَ اللّيْلِ وَيَسْتَيْقِظُ فِي أَوّلِ النّصْفِ الثّانِي فَيَقُومُ وَيَسْتَاكُ وَيَتَوَضّأُ وَيُصَلّي مَا كَتَبَ اللّهُ لَهُ فَيَأْخُذُ الْبَدَنُ وَالْأَعْضَاءُ وَالْقُوَى حَظّهَا مِنْ النّوْمِ وَالرّاحَةِ وَحَظّهَا مِنْ الرّيَاضَةِ مَعَ وُفُورِ الْأَجْرِ وَهَذَا غَايَةُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ النّوْمِ فَوْقَ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَلَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنْ الْقَدْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ مِنْهُ وَكَانَ يَفْعَلُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَيَنَامُ إذَا دَعَتْهُ الْحَاجَةُ إلَى النّوْمِ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ ذَاكِرًا اللّهَ حَتّى تَغْلِبَهُ عَيْنَاهُ غَيْرَ مُمْتَلِئِ الْبَدَنِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَلَا مُبَاشِرٍ بِجَنْبِهِ الْأَرْضَ وَلَا مُتّخِذٍ لِلْفُرَشِ الْمُرْتَفِعَةِ بَلْ لَهُ ضِجَاعٌ مَنْ أُدْمٍ حَشْوُهُ لِيفٌ وَكَانَ يَضْطَجِعُ عَلَى الْوِسَادَةِ وَيَضَعُ يَدَهُ تَحْتَ خَدّهِ أَحْيَانًا . <220>
[ نَوْعَا النّوْمِ ]
[ النّوْمُ الطّبِيعِيّ ]
وَنَحْنُ نَذْكُرُ فَصْلًا فِي النّوْمِ وَالنّافِعِ مِنْهُ وَالضّارّ فَنَقُولُ
(1/314)
النّوْمُ حَالَةٌ لِلْبَدَنِ يَتْبَعُهَا غَوْرُ الْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ وَالْقُوَى إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ لِطَلَبِ الرّاحَةِ وَهُوَ نَوْعَانِ طَبِيعِيّ وَغَيْرُ طَبِيعِيّ . فَالطّبِيعِيّ إمْسَاكُ الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا وَهِيَ قُوَى الْحِسّ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيّةِ وَمَتَى أَمْسَكَتْ هَذِهِ الْقُوَى عَنْ تَحْرِيكِ الْبَدَنِ اسْتَرْخَى وَاجْتَمَعَتْ الرّطُوبَاتُ وَالْأَبْخِرَةُ الّتِي كَانَتْ تَتَحَلّلُ وَتَتَفَرّقُ بِالْحَرَكَاتِ وَالْيَقَظَةِ فِي الدّمَاغِ الّذِي هُوَ مَبْدَأُ هَذِهِ الْقُوَى فَيَتَخَدّرُ وَيَسْتَرْخِي وَذَلِكَ النّوْمُ الطّبِيعِيّ .
[ النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ ]
وَأَمّا النّوْمُ غَيْرُ الطّبِيعِيّ فَيَكُونُ لِعَرَضٍ أَوْ مَرَضٍ وَذَلِكَ بِأَنْ تَسْتَوْلِيَ الرّطُوبَاتُ عَلَى الدّمَاغِ اسْتِيلَاءً لَا تَقْدِرُ الْيَقَظَةُ عَلَى تَفْرِيقِهَا أَوْ تَصْعَدُ أَبْخِرَةٌ رَطْبَةٌ كَثِيرَةٌ كَمَا يَكُونُ عَقِيبَ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ فَتُثْقِلُ الدّمَاغَ وَتُرْخِيهِ فَيَتَخَدّرُ وَيَقَعُ إمْسَاكُ الْقُوَى النّفْسَانِيّةِ عَنْ أَفْعَالِهَا فَيَكُونُ النّوْمُ .
[ فَائِدَتَا النّوْم ]
وَلِلنّوْمِ فَائِدَتَانِ جَلِيلَتَانِ إحْدَاهُمَا : سُكُونُ الْجَوَارِحِ وَرَاحَتُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ التّعَبِ فَيُرِيحُ الْحَوَاسّ مِنْ نَصْبِ الْيَقَظَةِ وَيُزِيلُ الْإِعْيَاءَ وَالْكَلَالَ .
وَالثّانِيَةُ هَضْمُ الْغِذَاءِ وَنُضْجُ الْأَخْلَاطِ لِأَنّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ فِي وَقْتِ النّوْمِ تَغُورُ إلَى بَاطِنِ الْبَدَنِ فَتُعِينُ عَلَى ذَلِكَ وَلِهَذَا يَبْرُدُ ظَاهِرُهُ وَيَحْتَاجُ النّائِمُ إلَى فَضْلِ دِثَارٍ .
[أَنْفَعُ كَيْفِيّاتِ النّوْمِ ]
(1/315)
وَأَنْفَعُ النّوْمِ أَنْ يَنَامَ عَلَى الشّقّ الْأَيْمَنِ لِيَسْتَقِرّ الطّعَامُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي الْمَعِدَةِ اسْتِقْرَارًا حَسَنًا فَإِنّ الْمَعِدَةَ أَمْيَلُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا ثُمّ يَتَحَوّلُ إلَى الشّقّ الْأَيْسَرِ قَلِيلًا لِيُسْرِعَ الْهَضْمَ بِذَلِكَ لِاسْتِمَالَةِ الْمَعِدَةِ عَلَى الْكَبِدِ ثُمّ يَسْتَقِرّ نَوْمُهُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِيَكُونَ الْغِذَاءُ أَسْرَعَ انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ فَيَكُونُ النّوْمُ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ بُدَاءَةَ نَوْمِهِ وَنِهَايَتَهُ وَكَثْرَةُ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مُضِرّ بِالْقَلْبِ بِسَبَبِ مَيْلِ الْأَعْضَاءِ إلَيْهِ فَتَنْصَبّ إلَيْهِ الْمَوَادّ .
[ أَرْدَأُ نَوْعِيّاتِ النّوْمِ ]
وَأَرْدَأُ النّوْمِ النّوْمُ عَلَى الظّهْرِ وَلَا يَضُرّ الِاسْتِلْقَاءُ عَلَيْهِ لِلرّاحَةِ مِنْ غَيْرِ <221> نَوْمٍ وَأَرْدَأُ مِنْهُ أَنْ يَنَامَ مُنْبَطِحًا عَلَى وَجْهِهِ وَفِي " الْمُسْنَدِ " و " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ مَرّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى رَجُلٍ نَائِمٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْبَطِحٍ عَلَى وَجْهِهِ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ قُمْ أَوْ اُقْعُدْ فَإِنّهَا نَوْمَةٌ جَهَنّمِيّةٌ
قَالَ إِبّقْرَاطُ فِي كِتَابِ " التّقْدِمَةِ " : وَأَمّا نَوْمُ الْمَرِيضِ عَلَى بَطْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَادَتَهُ فِي صِحّتِهِ جَرَتْ بِذَلِكَ يَدُلّ عَلَى اخْتِلَاطِ عَقْلٍ وَعَلَى أَلَمٍ فِي نَوَاحِي الْبَطْنِ قَالَ الشّرّاحُ لِكِتَابِهِ لِأَنّهُ خَالَفَ الْعَادَةَ الْجَيّدَةَ إلَى هَيْئَةٍ رَدِيئَةٍ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ وَلَا بَاطِنٍ .
[ مَنَافِعُ النّوْمِ الْمُعْتَدِلِ ]
(1/316)
وَالنّوْمُ الْمُعْتَدِلُ مُمَكّنٌ لِلْقُوَى الطّبِيعِيّةِ مِنْ أَفْعَالِهَا مُرِيحٌ لِلْقُوّةِ النّفْسَانِيّةِ مُكْثِرٌ مِنْ جَوْهَرِ حَامِلِهَا حَتّى إنّهُ رُبّمَا عَادَ بِرَخَائِهِ مَانِعًا مِنْ تَحَلّلِ الْأَرْوَاحِ .
[مَفَاسِدُ نَوْمِ النّهَارِ وَبِخَاصّةٍ آخِرُهُ ]
وَنَوْمُ النّهَارِ رَدِيءٌ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الرُطُوبِيّةَ وَالنّوَازِلَ وَيُفْسِدُ اللّوْنَ وَيُورِثُ الطّحَالَ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُكْسِلُ وَيُضْعِفُ الشّهْوَةَ إلّا فِي الصّيْفِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ وَأَرْدَؤُهُ نَوْمُ أَوّلِ النّهَارِ وَأَرْدَأُ مِنْهُ النّوْمُ آخِرَهُ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرَأَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ ابْنًا لَهُ نَائِمًا نَوْمَةَ الصّبْحَةِ فَقَالَ لَهُ قُمْ أَتَنَامُ فِي السّاعَةِ الّتِي تُقَسّمُ فِيهَا الْأَرْزَاق ؟
وَقِيلَ نَوْمُ النّهَارِ ثَلَاثَةٌ خُلُقٌ وَحُرَقٌ وَحُمْقٌ . فَالْخُلُقُ نَوْمَةُ الْهَاجِرَةِ وَهِيَ خُلُقُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالْحُرَقُ نَوْمَةُ الضّحَى تَشْغَلُ عَنْ أَمْرِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَالْحُمْقُ نَوْمَةُ الْعَصْرِ .
قَالَ بَعْضُ السّلَفِ مَنْ نَامَ بَعْدَ <222> الْعَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلَا يَلُومَن إلّا نَفْسَهُ . وَقَالَ الشّاعِرُ
أَلَا إنّ نَوْمَاتِ الضّحَى تُورِثُ الْفَتَى
خَبَالًا وَنَوْمَاتُ الْعُصَيْرِ جُنُونُ
[ مَفَاسِدُ نَوْمِ الصّبْحَةِ ]
(1/317)
وَنَوْمُ الصّبْحَةِ يَمْنَعُ الرّزْقَ لِأَنّ ذَلِكَ وَقْتٌ تَطْلُبُ فِيهِ الْخَلِيقَةُ أَرْزَاقَهَا وَهُوَ وَقْتُ قِسْمَةِ الْأَرْزَاقِ فَنَوْمُهُ حِرْمَانٌ إلّا لِعَارِضٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَهُوَ مُضِرّ جِدّا بِالْبَدَنِ لِإِرْخَائِهِ الْبَدَنَ وَإِفْسَادِهِ لِلْفَضَلَاتِ الّتِي يَنْبَغِي تَحْلِيلُهَا بِالرّيَاضَةِ فَيُحْدِثُ تَكَسّرًا وَعِيّا وَضَعْفًا . وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التّبَرّزِ وَالْحَرَكَةِ وَالرّيَاضَةِ وَإِشْغَالِ الْمَعِدَةِ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ الدّاءُ الْعُضَالُ الْمُوَلّدُ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ .
[ مَفَاسِدُ النّوْمِ فِي الشّمْسِ أَوْ بَعْضِهِ فِي الشّمْسِ ]
وَالنّوْمُ فِي الشّمْسِ يُثِيرُ الدّاءَ الدّفِينَ وَنَوْمُ الْإِنْسَانِ بَعْضَهُ فِي الشّمْسِ وَبَعْضَهُ فِي الظّلّ رَدِيءٌ وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي الشّمْسِ فَقَلَصَ عَنْهُ الظّلّ فَصَارَ بَعْضُهُ فِي الشّمْسِ وَبَعْضُهُ فِي الظّلّ فَلْيَقُمْ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ بْنِ الْحَصِيبِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَهَى أَنْ يَقْعُدَ الرّجُلُ بَيْنَ الظّلّ وَالشّمْسِ وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْعِ النّوْمِ بَيْنَهُمَا .
(1/318)
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضّأْ وُضُوءَك لِلصّلَاةِ ثُمّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقّكَ الْأَيْمَنِ ثُمّ قُلْ اللّهُمّ إنّي أَسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْك وَوَجّهْتُ وَجْهِي إلَيْك وَفَوّضْتُ أَمْرِي إلَيْك وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْك رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْك إلّا إلَيْك آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الّذِي أَنْزَلْت وَنَبِيّكَ الّذِي أَرْسَلْت وَاجْعَلْهُنّ آخِرَ كَلَامِك فَإِنْ مُتّ مِنْ لَيْلَتِك مُتّ عَلَى الْفِطْرَةِ <223> .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صَلّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ - يَعْنِي سُنّتَهَا - اضْطَجَعَ عَلَى شِقّهِ الْأَيْمَنِ
[ الْحِكْمَةُ مِنْ النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ]
وَقَدْ قِيلَ إنّ الْحِكْمَةَ فِي النّوْمِ عَلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَنْ لَا يَسْتَغْرِقَ النّائِمُ فِي نَوْمِهِ لِأَنّ الْقَلْبَ فِيهِ مَيْلٌ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ فَإِذَا نَامَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ طَلَبَ الْقَلْبُ مُسْتَقَرّهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ اسْتِقْرَارِ النّائِمِ وَاسْتِثْقَالِهِ فِي نَوْمِهِ بِخِلَافِ قَرَارِهِ فِي النّوْمِ عَلَى الْيَسَارِ فَإِنّهُ مُسْتَقَرّهُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الدّعَةُ التّامّةُ فَيَسْتَغْرِقُ الْإِنْسَانُ فِي نَوْمِهِ وَيَسْتَثْقِلُ فَيَفُوتُهُ مَصَالِحُ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .
[فَوَائِدُ الدّعَاءِ قَبْلَ النّوْمِ ]
(1/319)
وَلَمّا كَانَ النّائِمُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيّتِ وَالنّوْمُ أَخُو الْمَوْتِ - وَلِهَذَا يَسْتَحِيلُ عَلَى الْحَيّ الّذِي لَا يَمُوتُ وَأَهْلُ الْجَنّةِ لَا يَنَامُونَ فِيهَا - كَانَ النّائِمُ مُحْتَاجًا إلَى مَنْ يَحْرُسُ نَفْسَهُ وَيَحْفَظُهَا مِمّا يَعْرِضُ لَهَا مِنْ الْآفَاتِ وَيَحْرُسُ بَدَنَهُ أَيْضًا مِنْ طَوَارِقِ الْآفَاتِ وَكَانَ رَبّهُ وَفَاطِرُهُ تَعَالَى هُوَ الْمُتَوَلّيَ لِذَلِكَ وَحْدَهُ .
عَلّمَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّائِمَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَاتِ التّفْوِيضِ وَالِالْتِجَاءِ وَالرّغْبَةِ وَالرّهْبَةِ لِيَسْتَدْعِيَ بِهَا كَمَالَ حِفْظِ اللّهِ لَهُ وَحِرَاسَتِهِ لِنَفْسِهِ وَبَدَنِهِ وَأَرْشَدَهُ مَعَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَسْتَذْكِرَ الْإِيمَانَ وَيَنَامَ عَلَيْهِ وَيَجْعَلَ التّكَلّمَ بِهِ آخِرَ كَلَامِهِ فَإِنّهُ رُبّمَا تَوَفّاهُ اللّهُ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ آخِرَ كَلَامِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ فَتَضَمّنَ هَذَا الْهَدْيُ فِي الْمَنَامِ مَصَالِحَ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ فِي النّوْمِ وَالْيَقَظَةِ وَالدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَصَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ نَالَتْ بِهِ أُمّتُهُ كُلّ خَيْرٍ .
<224> وَقَوْلُهُ أَسْلَمْت نَفَسِي إلَيْك أَيْ جَعَلْتهَا مُسَلّمَةً لَك تَسْلِيمَ الْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ نَفْسَهُ إلَى سَيّدِهِ وَمَالِكِهِ . وَتَوْجِيهٌ وَجّهَهُ إلَيْهِ يَتَضَمّنُ إقْبَالَهُ بِالْكُلّيّةِ عَلَى رَبّهِ وَإِخْلَاصَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ لَهُ وَإِقْرَارَهُ بِالْخُضُوعِ وَالذّلّ وَالِانْقِيَادِ قَالَ تَعَالَى : فَإِنْ حَاجّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتّبَعَنِ [ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ الْآيَةِ 20 ] .
(1/320)
وَذَكَرَ الْوَجْهَ إذْ هُوَ أَشْرَفُ مَا فِي الْإِنْسَانِ وَمَجْمَعُ الْحَوَاسّ وَأَيْضًا فَفِيهِ مَعْنَى التّوَجّهِ وَالْقَصْدِ مِنْ قَوْلِهِ
أَسْتَغْفِرُ اللّهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَه ُ
رَبّ الْعِبَادِ إلَيْهِ الْوَجْهُ وَالْعَمَل ُ
وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ إلَيْهِ رَدّهُ إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ سُكُونَ الْقَلْبِ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَالرّضَى بِمَا يَقْضِيهِ وَيَخْتَارُهُ لَهُ مِمّا يُحِبّهُ وَيَرْضَاهُ وَالتّفْوِيضُ مِنْ أَشْرَفِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيّةِ وَلَا عِلّةَ فِيهِ وَهُوَ مِنْ مَقَامَاتِ الْخَاصّةِ خِلَافًا لِزَاعِمِي خِلَافِ ذَلِكَ .
(1/321)
وَإِلْجَاءُ الظّهْرِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَضَمّنُ قُوّةَ الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ وَالثّقَةَ بِهِ وَالسّكُونَ إلَيْهِ وَالتّوَكّلَ عَلَيْهِ فَإِنّ مَنْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ لَمْ يَخَفْ السّقُوطَ . وَلَمّا كَانَ لِلْقَلْبِ قُوّتَانِ قُوّةُ الطّلَبِ وَهِيَ الرّغْبَةُ وَقُوّةُ الْهَرَبِ وَهِيَ الرّهْبَةُ وَكَانَ الْعَبْدُ طَالِبًا لِمَصَالِحِهِ هَارِبًا مِنْ مَضَارّهِ جَمَعَ الْأَمْرَيْنِ فِي هَذَا التّفْوِيضِ وَالتّوَجّهِ فَقَالَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْك ثُمّ أَثْنَى عَلَى رَبّهِ بِأَنّهُ لَا مَلْجَأَ لِلْعَبْدِ سِوَاهُ وَلَا مَنْجَا لَهُ مِنْهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الّذِي يَلْجَأُ إلَيْهِ الْعَبْدُ لِيُنَجّيَهُ مِنْ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِك وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِك وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ الّذِي يُعِيذُ عَبْدَهُ وَيُنَجّيهِ مِنْ بَأْسِهِ الّذِي هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ <225> فَمِنْهُ الْبَلَاءُ وَمِنْهُ الْإِعَانَةُ وَمِنْهُ مَا يَطْلُبُ النّجَاةَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ الِالْتِجَاءُ فِي النّجَاةِ فَهُوَ الّذِي يُلْجَأُ إلَيْهِ فِي أَنْ يُنْجِيَ مِمّا مِنْهُ وَيُسْتَعَاذُ بِهِ مِمّا مِنْهُ فَهُوَ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلّا هُوَ [ سُورَةِ الْأَنْعَامِ الْآيَةِ 17 ] قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً [ سُورَةِ الْأَحْزَابِ الْآيَةِ 17 ] ثُمّ خَتَمَ الدّعَاءَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ بِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ الّذِي هُوَ مَلَاكُ النّجَاةِ وَالْفَوْزِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَهَذَا هَدْيُهُ فِي نَوْمِهِ .
(1/322)
لَوْ لَمْ يَقُلْ إنّي رَسُولٌ لَكَا
نَ شَاهِدٌ فِي هَدْيِهِ يَنْطِقُ
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْيَقَظَةِ ]
وَأَمّا هَدْيُهُ فِي يَقَظَتِهِ فَكَانَ يَسْتَيْقِظُ إذَا صَاحَ الصّارِخُ وَهُوَ الدّيكُ فَيَحْمَدُ اللّهَ تَعَالَى وَيُكَبّرُهُ وَيُهَلّلُهُ وَيَدْعُوهُ ثُمّ يَسْتَاكُ ثُمّ يَقُومُ إلَى وُضُوئِهِ ثُمّ يَقِفُ لِلصّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ رَبّهِ مُنَاجِيًا لَهُ بِكَلَامِهِ مُثْنِيًا عَلَيْهِ رَاجِيًا لَهُ رَاغِبًا رَاهِبًا فَأَيّ حِفْظٍ لِصِحّةِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقُوَى وَلِنَعِيمِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَوْقَ هَذَا .
فَصْلٌ [هَدْيُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الرّيَاضَةِ ]
وَأَمّا تَدْبِيرُ الْحَرَكَةِ وَالسّكُونِ وَهُوَ الرّيَاضَةُ فَنَذْكُرُ مِنْهَا فَصْلًا يُعْلَمُ مِنْهُ مُطَابَقَةُ هَدْيِهِ فِي ذَلِكَ لِأَكْمَلِ أَنْوَاعِهِ وَأَحْمَدِهَا وَأَصْوَبِهَا فَنَقُولُ
[السّبَبُ الْمُوجِبُ لِلرّيَاضَةِ ]
مِنْ الْمَعْلُومِ افْتِقَارُ الْبَدَنِ فِي بَقَائِهِ إلَى الْغِذَاءِ وَالشّرَابِ وَلَا يَصِيرُ الْغِذَاءُ بِجُمْلَتِهِ جُزْءًا مِنْ الْبَدَنِ بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَبْقَى مِنْهُ عِنْدَ كُلّ هَضْمٍ بَقِيّةٌ مَا إذَا كَثُرَتْ عَلَى مَمَرّ الزّمَانِ اجْتَمَعَ مِنْهَا شَيْءٌ لَهُ كَمّيّةٌ وَكَيْفِيّةٌ فَيَضُرّ بِكَمّيّتِهِ بِأَنْ يَسُدّ وَيُثْقِلَ الْبَدَنَ وَيُوجِبَ أَمْرَاضَ الِاحْتِبَاسِ وَإِنْ اسْتَفْرَغَ تَأَذّى الْبَدَنُ بِالْأَدْوِيَةِ لِأَنّ أَكْثَرَهَا سُمّيّةٌ وَلَا تَخْلُو مِنْ إخْرَاجِ الصّالِحِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ وَيَضُرّ بِكَيْفِيّتِهِ بِأَنْ يُسَخّنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَفَنِ أَوْ يُبَرّدَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُضْعِفَ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ عَنْ إنْضَاجِهِ .
[فَوَائِدُ الرّيَاضَةِ ]
(1/323)
وَسُدَدُ الْفَضَلَاتِ لَا مَحَالَةَ ضَارّةٌ تُرِكَتْ أَوْ اُسْتُفْرِغَتْ وَالْحَرَكَةُ أَقْوَى <226> الْأَسْبَابِ فِي مَنْعِ تَوَلّدِهَا فَإِنّهَا تُسَخّنُ الْأَعْضَاءَ وَتُسِيلُ فَضَلَاتِهَا فَلَا تَجْتَمِعُ عَلَى طُولِ الزّمَانِ وَتُعَوّدُ الْبَدَنَ الْخِفّةَ وَالنّشَاطَ وَتَجْعَلُهُ قَابِلًا لِلْغِذَاءِ وَتُصَلّبُ الْمَفَاصِلَ وَتُقَوّيَ الْأَوْتَارَ وَالرّبَاطَاتِ وَتُؤَمّنُ جَمِيعَ الْأَمْرَاضِ الْمَادّيّةِ وَأَكْثَرَ الْأَمْرَاضِ الْمِزَاجِيّةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ الْقَدْرُ الْمُعْتَدِلُ مِنْهَا فِي وَقْتِهِ وَكَانَ بَاقِي التّدْبِيرِ صَوَابًا .
[وَقْتُهَا وَأَنْوَاعُهَا ]
وَوَقْتُ الرّيَاضَةِ بَعْدَ انْحِدَارِ الْغِذَاءِ وَكَمَالِ الْهَضْمِ وَالرّيَاضَةُ الْمُعْتَدِلَةُ هِيَ الّتِي تَحْمَرّ فِيهَا الْبَشَرَةُ وَتَرْبُو وَيَتَنَدّى بِهَا الْبَدَنُ وَأَمّا الّتِي يَلْزَمُهَا سَيَلَانُ الْعَرَقِ فَمُفْرِطَةٌ وَأَيّ عُضْوٍ كَثُرَتْ رِيَاضَتُهُ قَوِيَ وَخُصُوصًا عَلَى نَوْعِ تِلْكَ الرّيَاضَةِ بَلْ كُلّ قُوّةٍ فَهَذَا شَأْنُهَا فَإِنّ مَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْحِفْظِ قَوِيَتْ حَافِظَتُهُ وَمَنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الْفِكْرِ قَوِيَتْ قُوّتُهُ الْمُفَكّرَةُ وَلِكُلّ عُضْوٍ رِيَاضَةٌ تَخُصّهُ فَلِلصّدْرِ الْقِرَاءَةُ فَلْيَبْتَدِئْ فِيهَا مِنْ الْخُفْيَةِ إلَى الْجَهْرِ بِتَدْرِيجٍ وَرِيَاضَةُ السّمْعِ بِسَمْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْكَلَامِ بِالتّدْرِيجِ فَيَنْتَقِلُ مِنْ الْأَخَفّ إلَى الْأَثْقَلِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ اللّسَانِ فِي الْكَلَامِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْبَصَرِ وَكَذَلِكَ رِيَاضَةُ الْمَشْيِ بِالتّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا .
(1/324)
وَأَمّا رُكُوبُ الْخَيْلِ وَرَمْيُ النّشَابِ وَالصّرَاعُ وَالْمُسَابَقَةُ عَلَى الْأَقْدَامِ فَرِيَاضَةٌ لِلْبَدَنِ كُلّهِ وَهِيَ قَالِعَةٌ لِأَمْرَاضٍ مُزْمِنَةٍ كَالْجُذَامِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْقُولَنْجِ .
[رِيَاضَةُ النّفُوسِ ]
وَرِيَاضَةُ النّفُوسِ بِالتّعَلّمِ وَالتّأَدّبِ وَالْفَرَحِ وَالسّرُورِ وَالصّبْرِ وَالثّبَاتِ وَالْإِقْدَامِ وَالسّمَاحَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا تَرْتَاضُ بِهِ النّفُوسُ وَمِنْ أَعْظَمِ رِيَاضَتِهَا : الصّبْرُ وَالْحُبّ وَالشّجَاعَةُ وَالْإِحْسَانُ فَلَا تَزَالُ تَرْتَاضُ بِذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى تَصِيرَ لَهَا هَذِهِ الصّفَاتُ هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً .
وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْتَ هَدْيَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَجَدْتَهُ أَكْمَلَ هَدْيٍ حَافِظٍ لِلصّحّةِ وَالْقُوَى وَنَافِعٍ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ .
[فَائِدَةُ الصّلَاةِ ]
(1/325)
وَلَا رَيْبَ أَنّ الصّلَاةَ نَفْسَهَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَإِذَابَةِ أَخْلَاطِهِ وَفَضَلَاتِهِ مَا هُوَ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لَهُ سِوَى مَا فِيهَا مِنْ حِفْظِ صِحّةِ الْإِيمَانِ وَسَعَادَةِ <227> الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ قِيَامُ اللّيْلِ مِنْ أَنْفَعِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَمِنْ أَمْنَعِ الْأُمُورِ لِكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ وَمِنْ أَنْشَطِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالرّوحِ وَالْقَلْبِ كَمَا فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ يَعْقِدُ الشّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ عَلَى كُلّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ هُوَ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللّهَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضّأَ انْحَلّتْ عُقْدَةٌ ثَانِيَةٌ فَإِنْ صَلّى انْحَلّتْ عُقَدُهُ كُلّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيّبَ النّفْسِ وَإِلّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النّفْسِ كَسْلَانَ
[فَائِدَةُ الصّوْمِ ]
وَفِي الصّوْمِ الشّرْعِيّ مِنْ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَرِيَاضَةِ الْبَدَنِ وَالنّفْسِ مَا لَا يَدْفَعُهُ صَحِيحُ الْفِطْرَةِ .
[فَائِدَةُ الْجِهَادِ ]
وَأَمّا الْجِهَادُ وَمَا فِيهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ الْكُلّيّةِ الّتِي هِيَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْقُوّةِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَصَلَابَةِ الْقَلْبِ وَالْبَدَنِ وَدَفْعِ فَضَلَاتِهِمَا وَزَوَالِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحُزْنِ فَأَمْرٌ إنّمَا يَعْرِفُهُ مَنْ لَهُ مِنْهُ نَصِيبٌ .
[رِيَاضَاتٌ أُخْرَى ]
(1/326)
وَكَذَلِكَ الْحَجّ وَفِعْلُ الْمَنَاسِكِ وَكَذَلِكَ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الْخَيْلِ وَبِالنّصَالِ وَالْمَشْيُ فِي الْحَوَائِجِ وَإِلَى الْإِخْوَانِ وَقَضَاءُ حُقُوقِهِمْ وَعِيَادَةُ مَرْضَاهُمْ وَتَشْيِيعُ جَنَائِزِهِمْ وَالْمَشْيُ إلَى الْمَسَاجِدِ لِلْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ وَحَرَكَةُ الْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَهَذَا أَقَلّ مَا فِيهِ الرّيَاضَةُ الْمُعِينَةُ عَلَى حِفْظِ الصّحّةِ وَدَفْعِ الْفَضَلَاتِ وَأَمّا مَا شُرِعَ لَهُ مِنْ التّوَصّلِ بِهِ إلَى خَيْرَاتِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَدَفْعِ شُرُورِهِمَا فَأَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ .فَعَلِمْتَ أَنّ هَدْيَهُ فَوْقَ كُلّ هَدْيٍ فِي طِبّ الْأَبْدَانِ وَالْقُلُوبِ وَحِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ أَسْقَامِهِمَا وَلَا مَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ لِمَنْ قَدْ أَحْضَرَ رُشْدَهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ . <228>
فَصْلٌ هَدْيُهُ [صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْجِمَاعِ ]
[مَقَاصِدُ الْجِمَاعِ ]
وَأَمّا الْجِمَاعُ وَالْبَاهُ فَكَانَ هَدْيُهُ فِيهِ أَكْمَلَ هَدْيٍ يُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ وَتَتِمّ بِهِ اللّذّةُ وَسُرُورُ النّفْسِ وَيَحْصُلُ بِهِ مَقَاصِدُهُ الّتِي وُضِعَ لِأَجْلِهَا فَإِنّ الْجِمَاعَ وُضِعَ فِي الْأَصْلِ لِثَلَاثَةِ أُمُورٍ هِيَ مَقَاصِدُهُ الْأَصْلِيّةُ
أَحَدُهَا : حِفْظُ النّسْلِ وَدَوَامُ النّوْعِ إلَى أَنْ تَتَكَامَلَ الْعُدّةُ الّتِي قَدّرَ اللّهُ بُرُوزَهَا إلَى هَذَا الْعَالَمِ .
الثّانِي . إخْرَاجُ الْمَاءِ الّذِي يَضُرّ احْتِبَاسُهُ وَاحْتِقَانُهُ بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ .
الثّالِثُ قَضَاءُ الْوَطَرِ وَنَيْلُ اللّذّةِ وَالتّمَتّعُ بِالنّعْمَةِ وَهَذِهِ وَحْدَهَا هِيَ الْفَائِدَةُ الّتِي فِي الْجَنّةِ إذْ لَا تَنَاسُلَ هُنَاكَ وَلَا احْتِقَانَ يَسْتَفْرِغُهُ الْإِنْزَالُ .
(1/327)
[ الْجِمَاعُ مِنْ أَسْبَابِ الصّحّةِ ]
وَفُضَلَاءُ الْأَطِبّاءِ يَرَوْنَ أَنّ الْجِمَاعَ مِنْ أَحَدِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ . قَالَ جالينوس : الْغَالِبُ عَلَى جَوْهَرِ الْمَنِيّ النّارُ وَالْهَوَاءُ وَمِزَاجُهُ حَارّ رَطْبٌ لِأَنّ كَوْنَهُ مِنْ الدّمِ الصّافِي الّذِي تَغْتَذِي بِهِ الْأَعْضَاءُ الْأَصْلِيّةُ وَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْمَنِيّ فَاعْلَمْ أَنّهُ لَا يَنْبَغِي إخْرَاجُهُ إلّا فِي طَلَبِ النّسْلِ أَوْ إخْرَاجُ الْمُحْتَقِنِ مِنْهُ فَإِنّهُ إذَا دَامَ احْتِقَانُهُ أَحْدَثَ أَمْرَاضًا رَدِيئَةً مِنْهَا : الْوَسْوَاسُ وَالْجُنُونُ وَالصّرَعُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَقَدْ يُبْرِئُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ كَثِيرًا فَإِنّهُ إذَا طَالَ احْتِبَاسُهُ فَسَدَ وَاسْتَحَالَ إلَى كَيْفِيّةٍ سُمّيّةٍ تُوجِبُ أَمْرَاضًا رَدِيئَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلِذَلِكَ تَدْفَعُهُ الطّبِيعَةُ بِالِاحْتِلَامِ إذَا كَثُرَ عِنْدَهَا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ .
وَقَالَ بَعْضُ السّلَفِ يَنْبَغِي لِلرّجُلِ أَنْ يَتَعَاهَدَ مِنْ نَفْسِهِ ثَلَاثًا : أَنْ لَا يَدَعَ الْمَشْيَ فَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ يَوْمًا قَدَرَ عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الْأَكْلَ فَإِنّ أَمْعَاءَهُ تَضِيقُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الْجِمَاعَ فَإِنّ الْبِئْرَ إذَا لَمْ تُنْزَحْ ذَهَبَ مَاؤُهَا . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ زَكَرِيّا : مَنْ تَرَكَ الْجِمَاعَ مُدّةً طَوِيلَةً ضَعُفَتْ قُوَى أَعْصَابِهِ وَانْسَدّتْ مَجَارِيهَا وَتَقَلّصَ ذَكَرُهُ .
قَالَ وَرَأَيْتُ جَمَاعَةً تَرَكُوهُ لِنَوْعٍ مِنْ التّقَشّفِ فَبَرُدَتْ <229> أَبْدَانُهُمْ وَعَسُرَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ كَآبَةٌ بِلَا سَبَبٍ وَقَلّتْ شَهَوَاتُهُمْ وَهَضْمُهُمْ انْتَهَى .
[ مَنَافِعُهُ ]
[ مَحَبّتُهُ لَهُ ]
(1/328)
وَمِنْ مَنَافِعِهِ غَضّ الْبَصَرِ وَكَفّ النّفْسِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْعِفّةِ عَنْ الْحَرَامِ وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ فَهُوَ يَنْفَعُ نَفْسَهُ فِي دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ وَيَنْفَعُ الْمَرْأَةَ وَلِذَلِكَ كَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَعَاهَدُهُ وَيُحِبّهُ وَيَقُولُ حُبّبَ إلَيّ مِنْ دُنْيَاكُمْ : النّسَاءُ وَالطّيبُ
وَفِي كِتَابِ " الزّهْدِ " لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَصْبِرُ عَنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنّ
[الْحَثّ عَلَى الزّوَاجِ ]
وَحَثّ عَلَى التّزْوِيجِ أُمّتَهُ فَقَالَ تَزَوّجُوا فَإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ . وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً
وَقَالَ إنّي أَتَزَوّجُ النّسَاءَ وَأَنَامُ وَأَقُومُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي .
وَقَالَ يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ فَإِنّهُ أَغَضّ لِلْبَصَرِ وَأَحْفَظُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ فَإِنّهُ لَهُ وِجَاءٌ <230> .
وَلَمّا تَزَوّجَ جَابِرٌ ثَيّبًا قَالَ لَهُ هَلّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُكَ
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَلْقَى اللّهَ طَاهِرًا مُطَهّرًا فَلْيَتَزَوّجْ الْحَرَائِرَ
وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ لَمْ نَرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلَ النّكَاحِ
(1/329)
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الدّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدّنْيَا الْمَرْأَةُ الصّالِحَةُ .
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحَرّضُ أُمّتَهُ عَلَى نِكَاحِ الْأَبْكَارِ الْحِسَانِ وَذَوَاتِ الدّينِ وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّ النّسَاءِ خَيْرٌ ؟ <231> قَالَ الّتِي تَسُرّهُ إذَا نَظَرَ وَتُطِيعُهُ إذَا أَمَرَ وَلَا تُخَالِفُهُ فِيمَا يَكْرَهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ
[ الْحَثّ عَلَى نِكَاحِ الْوَلُودِ ]
وَكَانَ يُحِثّ عَلَى نِكَاحِ الْوَلُودِ وَيَكْرَهُ الْمَرْأَةُ الّتِي لَا تَلِدُ كَمَا فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنّهَا لَا تَلِدُ أَفَأَتَزَوّجُهَا ؟ قَالَ " لَا " ثُمّ أَتَاهُ الثّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمّ أَتَاهُ الثّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْهُ مَرْفُوعًا : أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ : النّكَاحُ وَالسّوَاكُ وَالتّعَطّرُ وَالْحِنّاءُ رُوِيَ فِي " الْجَامِعِ " بِالنّونِ وَالْيَاءِ وَسَمِعْت أَبَا الْحَجّاجِ الْحَافِظَ يَقُولُ الصّوَابُ أَنّهُ الْخِتَانُ وَسَقَطَتْ النّونُ مِنْ الْحَاشِيَةِ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الْمَحَامِلِيّ عَنْ شَيْخِ أَبِي عِيسَى التّرْمِذِيّ .
(1/330)
[ أُمُورٌ تَتَعَلّقُ بِمَا قَبْلَ الْجِمَاعِ ]
وَمِمّا يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ عَلَى الْجِمَاعِ مُلَاعَبَةُ الْمَرْأَةِ وَتَقْبِيلُهَا وَمَصّ <232> لِسَانِهَا وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَاعِبُ أَهْلَهُ وَيُقَبّلُهَا .
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُقَبّلُ عَائِشَةَ وَيَمُصّ لِسَانَهَا .
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ قَبْلَ الْمُلَاعَبَةِ .
[ الْغُسْلُ مِنْ الْجِمَاعِ ]
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُبّمَا جَامَعَ نِسَاءَهُ كُلّهُنّ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ وَرُبّمَا اغْتَسَلَ عِنْدَ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِي لَيْلَةٍ فَاغْتَسَلَ عِنْدَ كُلّ امْرَأَةٍ مِنْهُنّ غُسْلًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ اغْتَسَلْت غُسْلًا وَاحِدًا فَقَالَ هَذَا أَزْكَى وَأَطْهَرُ وَأَطْيَبُ
وَشُرِعَ لِلْمُجَامِعِ إذَا أَرَادَ الْعَوْدَ قَبْلَ الْغَسْلِ الْوُضُوءُ بَيْنَ الْجِمَاعَيْنِ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ ثُمّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ فَلْيَتَوَضّأْ
[ مَنَافِعُ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَطْءِ ]
(1/331)
وَفِي الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ بَعْدَ الْوَطْءِ مِنْ النّشَاطِ وَطِيبِ النّفْسِ وَإِخْلَافِ بَعْضِ مَا تَحَلّلَ بِالْجِمَاعِ وَكَمَالِ الطّهْرِ وَالنّظَافَةِ وَاجْتِمَاعِ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ إلَى <233> دَاخِلِ الْبَدَنِ بَعْدَ انْتِشَارِهِ بِالْجِمَاعِ وَحُصُولِ النّظَافَةِ الّتِي يُحِبّهَا اللّهُ وَيَبْغَضُ خِلَافَهَا مَا هُوَ مِنْ أَحْسَنِ التّدْبِيرِ فِي الْجِمَاعِ وَحِفْظِ الصّحّةِ وَالْقُوَى فِيهِ .
فَصْلٌ وَقْتُهُ
وَأَنْفَعُ الْجِمَاعِ : مَا حَصَلَ بَعْدَ الْهَضْمِ وَعِنْدَ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ فِي حَرّهِ وَبَرْدِهِ وَيُبُوسَتِهِ وَرُطُوبَتِهِ وَخَلَائِهِ وَامْتِلَائِهِ . وَضَرَرُهُ عِنْدَ امْتِلَاءِ الْبَدَنِ أَسْهَلُ وَأَقَلّ مِنْ ضَرَرِهِ عِنْدَ خُلُوّهِ وَكَذَلِكَ ضَرَرُهُ عِنْدَ كَثْرَةِ الرّطُوبَةِ أَقَلّ مِنْهُ عِنْدَ الْيُبُوسَةِ وَعِنْدَ حَرَارَتِهِ أَقَلّ مِنْهُ عِنْدَ بُرُودَتِهِ وَإِنّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُجَامِعَ إذَا اشْتَدّتْ الشّهْوَةُ وَحَصَلَ الِانْتِشَارُ التّامّ الّذِي لَيْسَ عَنْ تَكَلّفٍ وَلَا فِكْرٍ فِي صُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ مُتَتَابِعٍ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْعِيَ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيَتَكَلّفَهَا وَيَحْمِلَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا وَلْيُبَادِرْ إلَيْهِ إذَا هَاجَتْ بِهِ كَثْرَةُ الْمَنِيّ وَاشْتَدّ شَبَقُهُ
[التّحْذِيرُ مِنْ جِمَاعِ الْعَجُوزِ وَالصّغِيرَةِ ]
وَلْيَحْذَرْ جِمَاعَ الْعَجُوزِ وَالصّغِيرَةِ الّتِي لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا وَاَلّتِي لَا شَهْوَةَ لَهَا وَالْمَرِيضَةُ وَالْقَبِيحَةُ الْمَنْظَرِ وَالْبَغِيضَةُ فَوَطْءُ هَؤُلَاءِ يُوهِنُ الْقُوَى وَيُضْعِفُ الْجِمَاعَ بِالْخَاصّيّةِ .
[ جِمَاعُ الثّيّبِ ]
(1/332)
وَغَلِطَ مَنْ قَالَ مِنْ الْأَطِبّاءِ إنّ جِمَاعَ الثّيّبِ أَنْفَعُ مِنْ جِمَاعِ الْبِكْرِ وَأَحْفَظُ لِلصّحّةِ وَهَذَا مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ حَتّى رُبّمَا حَذّرَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا عَلَيْهِ عُقَلَاءُ النّاسِ وَلِمَا اتّفَقَتْ عَلَيْهِ الطّبِيعَةُ وَالشّرِيعَةُ .
[ أَسْبَابُ التّرْغِيبِ بِالْبِكْرِ ]
وَفِي جِمَاعِ الْبِكْرِ مِنْ الْخَاصّيّةِ وَكَمَالِ التّعَلّقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مُجَامِعِهَا وَامْتِلَاءِ قَلْبِهَا مِنْ مَحَبّتِهِ وَعَدَمِ تَقْسِيمِ هَوَاهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مَا لَيْسَ لِلثّيّبِ .
وَقَدْ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِجَابِرٍ هَلّا تَزَوّجْتَ بِكْرًا
وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ كَمَالِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ أَنّهُنّ لَمْ يَطْمِثْهُنّ أَحَدٌ قَبْلَ مَنْ جُعِلْنَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَأَيْتَ لَوْ مَرَرْتَ بِشَجَرَةٍ قَدْ أُرْتِعَ فِيهَا وَشَجَرَةٍ لَمْ يُرْتَعْ فِيهَا فَفِي أَيّهِمَا كُنْت تُرْتِعُ بَعِيرَك ؟ قَالَ فِي الّتِي لَمْ يُرْتَعْ فِيهَا <234> تُرِيدُ أَنّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِكْرًا غَيْرَهَا .
وَجِمَاعُ الْمَرْأَةِ الْمَحْبُوبَةِ فِي النّفْسِ يَقِلّ إضْعَافُهُ لِلْبَدَنِ مَعَ كَثْرَةِ اسْتِفْرَاغِهِ لِلْمَنِيّ وَجِمَاعُ الْبَغِيضَةِ يُحِلّ الْبَدَنَ وَيُوهِنُ الْقُوَى مَعَ قِلّةِ اسْتِفْرَاغِهِ وَجِمَاعُ الْحَائِضِ حَرَامٌ طَبْعًا وَشَرْعًا فَإِنّهُ مُضِرّ جِدّا وَالْأَطِبّاءُ قَاطِبَةً تُحَذّرُ مِنْهُ .
[ أَحْسَنُ أَشْكَالِهِ ]
(1/333)
وَأَحْسَنُ أَشْكَالِ الْجِمَاعِ أَنْ يَعْلُوَ الرّجُلُ الْمَرْأَةَ مُسْتَفْرِشًا لَهَا بَعْدَ الْمُلَاعَبَةِ وَالْقُبْلَةِ وَبِهَذَا سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوّامِيّةِ الرّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : الرّجَالُ قَوّامُونَ عَلَى النّسَاءِ [ النّسَاءِ 34 ] وَكَمَا قِيلَ
إذَا رُمْتُهَا كَانَتْ فِرَاشًا يُقِلّنِي
وَعِنْدَ فَرَاغِي خَادِمٌ يَتَمَلّقُ
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : هُنّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ [ الْبَقَرَةِ 187 ] وَأَكْمَلُ اللّبَاسِ وَأَسْبَغُهُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنّ فِرَاشَ الرّجُلِ لِبَاسٌ لَهُ وَكَذَلِكَ لِحَافُ الْمَرْأَةِ لِبَاسٌ لَهَا فَهَذَا الشّكْلُ الْفَاضِلُ مَأْخُوذٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَبِهِ يَحْسُنُ مَوْقِعُ اسْتِعَارَةِ اللّبَاسِ مِنْ كُلّ مِنْ الزّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّهَا تَنْعَطِفُ عَلَيْهِ أَحْيَانًا فَتَكُونُ عَلَيْهِ كَاللّبَاسِ قَالَ الشّاعِرُ
إذَا مَا الضّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا
تَثَنّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسًا
[ أَرْدَأُ أَشْكَالِهِ ]
(1/334)
وَأَرْدَأُ أَشْكَالِهِ أَنْ تَعْلُوَهُ الْمَرْأَةُ وَيُجَامِعَهَا عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ خِلَافُ الشّكْلِ الطّبِيعِيّ الّذِي طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهِ الرّجُلَ وَالْمَرْأَةَ بَلْ نَوْعَ الذّكَرِ وَالْأُنْثَى وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنّ الْمَنِيّ يَتَعَسّرُ خُرُوجُهُ كُلّهُ فَرُبّمَا بَقِيَ فِي الْعُضْوِ مِنْهُ فَيَتَعَفّنُ وَيَفْسُدُ فَيَضُرّ وَأَيْضًا : فَرُبّمَا سَالَ إلَى الذّكَرِ رُطُوبَاتٌ مِنْ الْفَرْجِ وَأَيْضًا فَإِنّ الرّحِمَ لَا <235> يَتَمَكّنُ مِنْ الِاشْتِمَالِ عَلَى الْمَاءِ وَاجْتِمَاعِهِ فِيهِ وَانْضِمَامِهِ عَلَيْهِ لِتَخْلِيقِ الْوَلَدِ وَأَيْضًا : فَإِنّ الْمَرْأَةَ مَفْعُولٌ بِهَا طَبْعًا وَشَرْعًا وَإِذَا كَانَتْ فَاعِلَةً خَالَفَتْ مُقْتَضَى الطّبْعِ وَالشّرْعِ .
وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ إنّمَا يَأْتُونَ النّسَاءَ عَلَى جُنُوبِهِنّ عَلَى حَرْفٍ وَيَقُولُونَ هُوَ أَيْسَرُ لِلْمَرْأَةِ .
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ تَشْرَحُ النّسَاءَ عَلَى أَقْفَائِهِنّ فَعَابَتْ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ [ الْبَقَرَةِ 223 ] .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَتْ الْيَهُودُ تَقُولُ إذَا أَتَى الرّجُلُ امْرَأَتَهُ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا كَانَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ إنْ شَاءَ مُجَبّيَةً وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مُجَبّيَةٍ غَيْرَ أَنّ ذَلِكَ فِي صِمَامٍ وَاحِدٍ "
وَالْمُجَبّيَةُ الْمُنْكَبّةُ عَلَى وَجْهِهَا وَالصّمَامُ الْوَاحِدُ الْفَرْجُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْحَرْثِ وَالْوَلَدِ .
[تَحْرِيمُ الدّبُرِ ]
(1/335)
وَأَمّا الدّبُرُ فَلَمْ يُبَحْ قَطّ عَلَى لِسَانِ نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَمَنْ نَسَبَ إلَى بَعْضِ السّلَفِ إبَاحَةَ وَطْءِ الزّوْجَةِ فِي دُبُرِهَا فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى الْمَرْأَةَ فِي دُبُرِهَا .
<236> وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ : لَا يَنْظُرُ اللّهُ إلَى رَجُلٍ جَامَعَ امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا
وَفِي لَفْظٍ لِلتّرْمِذِيّ وَأَحْمَدَ مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدّقَهُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي لَفْظٍ لِلْبَيْهَقِيّ مَنْ أَتَى شَيْئًا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ فَقَدْ كَفَرَ
وَفِي " مُصَنّفِ وَكِيعٍ " : حَدّثَنِي زَمْعَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَق لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنّ وَقَالَ مرّة : " فِي أَدْبَارِهِنّ " .
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ عَلِيّ بْنِ طَلْقٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنّ فَإِنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقّ
وَفِي " الْكَامِلِ " لِابْنِ عَدِيّ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ الْمَحَامِلِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَحْيَى الْأُمَوِيّ <237> قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ رَفِيعٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنّ
(1/336)
وَرُوِينَا فِي حَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّ الْجَوْهَرِيّ عَنْ أَبِي ذَرّ مَرْفُوعًا : مَنْ أَتَى الرّجَالَ أَوْ النّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنّ فَقَدْ كَفَرَ
وَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ اسْتَحْيُوا مِنْ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنّ وَرَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ مِنْ هَذِهِ الطّرِيقِ وَلَفْظُهُ إنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ لَا يَحِلّ مَأْتَاكَ النّسَاءَ فِي حُشُوشِهِنّ
وَقَالَ الْبَغَوِيّ : حَدّثَنَا هُدْبَةُ حَدّثَنَا هَمّامٌ قَالَ سُئِلَ قَتَادَةُ عَنْ الّذِي يَأْتِي امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ؟ فَقَالَ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ تِلْكَ اللّوطِيّةُ الصّغْرَى وَقَالَ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " : حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ قَالَ حَدّثَنَا هَمّامٌ أَخْبَرَنَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ فَذَكَرَهُ . <238>
وَفِي " الْمُسْنَدِ " أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ ائْتِهَا عَلَى كُلّ حَالٍ إذَا كَانَ فِي الْفَرْجِ
(1/337)
وَفِي " الْمُسْنَدِ " أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكْت فَقَالَ وَمَا الّذِي أَهْلَكَكَ ؟ " قَالَ حَوّلْتُ رَحْلِي الْبَارِحَةَ قَالَ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِ شَيْئًا فَأَوْحَى اللّهُ إلَى رَسُولِهِ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتّقِ الْحَيْضَةَ وَالدّبُرَ
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا : لَا يَنْظُرُ اللّهُ إلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فِي الدّبُرِ
وَرُوِينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَلِيّ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ دُومَا عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ يَرْفَعُهُ كَفَرَ بِاَللّهِ الْعَظِيمِ عَشَرَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ : الْقَاتِلُ وَالسّاحِرُ وَالدّيّوثُ وَنَاكِحُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا وَمَانِعُ الزّكَاةِ وَمَنْ وَجَدَ سَعَةً فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجّ وَشَارِبُ الْخَمْرِ وَالسّاعِي فِي الْفِتَنِ وَبَائِعُ السّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَنْ نَكَحَ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَلْعُونٌ مَنْ يَأْتِي النّسَاءَ فِي مَحَاشّهِنّ يَعْنِي : أَدْبَارَهُنّ " .
(1/338)
<239> وَفِي " مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبّاسٍ قَالَا : خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ وَهِيَ آخِرُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بِالْمَدِينَةِ حَتّى لَحِقَ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَظَنَا فِيهَا وَقَالَ " مَنْ نَكَحَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ رَجُلًا أَوْ صَبِيّا حُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَرِيحُهُ أَنْتَنُ مِنْ الْجِيفَةِ يَتَأَذّى بِهِ النّاسُ حَتّى يَدْخُلَ النّارَ وَأَحْبَطَ اللّهُ أَجْرَهُ وَلَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَيُدْخَلُ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ وَيُشَدّ عَلَيْهِ مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : هَذَا لِمَنْ لَمْ يَتُبْ .
وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيّ مِنْ حَدِيثِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ يَرْفَعُهُ إنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنّ
وَقَالَ الشّافِعِيّ : أَخْبَرَنِي عَمّي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ شَافِعٍ . قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَلِيّ بْنِ السّائِبِ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجِلَاحِ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ أَنّ رَجُلًا سَأَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنّ فَقَالَ حَلَالٌ " فَلَمّا وَلّى دَعَاهُ فَقَالَ " كَيْفَ قُلْت فِي أَيّ الْخَرِبَتَيْنِ أَوْ فِي أَيّ الْخَرَزَتَيْنِ أَوْ فِي أَيّ الْخَصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا ؟ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي دُبُرِهَا فَلَا إنّ اللّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقّ لَا تَأْتُوا النّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنّ
(1/339)
قَالَ الرّبِيعُ فَقِيلَ لِلشّافِعِيّ فَمَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ عَمّي ثِقَةٌ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَلِيّ ثِقَةٌ وَقَدْ أَثْنَى عَلَى الْأَنْصَارِيّ خَيْرًا يَعْنِي عَمْرَو بْنَ الْجِلَاحِ وَخُزَيْمَةُ <240> مِمّنْ لَا يُشَكّ فِي ثِقَتِهِ فَلَسْت أُرَخّصُ فِيهِ بَلْ أَنْهَى عَنْهُ .
قُلْت : وَمِنْ هَاهُنَا نَشَأَ الْغَلَطُ عَلَى مَنْ نُقِلَ عَنْهُ الْإِبَاحَةُ مِنْ السّلَفِ وَالْأَئِمّةِ فَإِنّهُمْ أَبَاحُوا أَنْ يَكُونَ الدّبُرُ طَرِيقًا إلَى الْوَطْءِ فِي الْفَرْجِ فَيَطَأُ مِنْ الدّبُرِ لَا فِي الدّبُرِ فَاشْتَبَهَ عَلَى السّامِعِ " مِنْ " ب " فِي " وَلَمْ يَظُنّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا فَهَذَا الّذِي أَبَاحَهُ السّلَفُ وَالْأَئِمّةُ فَغَلِطَ عَلَيْهِمْ الْغَالِطُ أَقْبَحَ الْغَلَطِ وَأَفْحَشَهُ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ قَالَ مُجَاهِدٌ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ فَقَالَ تَأْتِيهَا مِنْ حَيْثُ أُمِرْت أَنْ تَعْتَزِلَهَا يَعْنِي فِي الْحَيْضِ . وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ يَقُولُ فِي الْفَرْجِ وَلَا تَعْدُهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَقَدْ دَلّتْ الْآيَةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْوَطْءِ فِي دُبُرِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ أَبَاحَ إتْيَانَهَا فِي الْحَرْثِ وَهُوَ مَوْضِعُ الْوَلَدِ لَا فِي الْحُشّ الّذِي هُوَ مَوْضِعُ الْأَذَى وَمَوْضِعُ الْحَرْثِ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللّهُ الْآيَةَ قَالَ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَإِتْيَانُهَا فِي قُبُلِهَا مِنْ دُبُرِهَا مُسْتَفَادٌ مِنْ الْآيَةِ أَيْضًا لِأَنّهُ قَالَ أَنّى شِئْتُمْ أَيْ مِنْ أَيْنَ شِئْتُمْ مِنْ أَمَامٍ أَوْ مِنْ خَلْفٍ . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ :
(1/340)
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ يَعْنِي : الْفَرْج
[ مَفَاسِدُ إتْيَانِ الدّبُرِ ]
وَاذَا كَانَ اللّهُ حَرّمَ الْوَطْءَ فِي الْفَرْجِ لِأَجْلِ الْأَذَى الْعَارِضِ فَمَا الظّنّ بِالْحُشّ الّذِي هُوَ مَحَلّ الْأَذَى اللّازِمِ مَعَ زِيَادَةِ الْمَفْسَدَةِ بِالتّعَرّضِ لِانْقِطَاعِ النّسْلِ وَالذّرِيعَةِ الْقَرِيبَةِ جِدّا مِنْ أَدْبَارِ النّسَاءِ إلَى أَدْبَارِ الصّبْيَانِ .
وَأَيْضًا : فَلِلْمَرْأَةِ حَقّ عَلَى الزّوْجِ فِي الْوَطْءِ وَوَطْؤُهَا فِي دُبُرِهَا يُفَوّتُ حَقّهَا وَلَا يَقْضِي وَطَرَهَا وَلَا يُحَصّلُ مَقْصُودَهَا . وَأَيْضًا : فَإِنّ الدّبُرَ لَمْ يَتَهَيّأْ لِهَذَا الْعَمَلِ وَلَمْ يُخْلَقْ لَهُ وَإِنّمَا الّذِي هُيّئَ لَهُ الْفَرْجُ فَالْعَادِلُونَ عَنْهُ إلَى الدّبُرِ خَارِجُونَ عَنْ حِكْمَةِ اللّهِ وَشَرْعِهِ جَمِيعًا . <241> وَأَيْضًا : فَإِنّ ذَلِكَ مُضِرّ بِالرّجُلِ وَلِهَذَا يَنْهَى عَنْهُ عُقَلَاءُ الْأَطِبّاءِ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ لِأَنّ لِلْفَرْجِ خَاصّيّةً فِي اجْتِذَابِ الْمَاءِ الْمُحْتَقَنِ وَرَاحَةُ الرّجُلِ مِنْهُ وَالْوَطْءُ فِي الدّبُرِ لَا يُعِينُ عَلَى اجْتِذَابِ جَمِيعِ الْمَاءِ وَلَا يُخْرِجُ كُلّ الْمُحْتَقَنِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ الطّبِيعِيّ .
وَأَيْضًا : يَضُرّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ إحْوَاجُهُ إلَى حَرَكَاتٍ مُتْعِبَةٍ جِدّا لِمُخَالَفَتِهِ لِلطّبِيعَةِ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ مَحَلّ الْقَذَرِ وَالنّجْوِ فَيَسْتَقْبِلُهُ الرّجُلُ بِوَجْهِهِ وَيُلَابِسُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يَضُرّ بِالْمَرْأَةِ جِدّا لِأَنّهُ وَارِدٌ غَرِيبٌ بَعِيدٌ عَنْ الطّبَاعِ مُنَافِرٌ لَهَا غَايَةَ الْمُنَافَرَةِ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُحْدِثُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالنّفْرَةَ عَنْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ .
(1/341)
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُسَوّدُ الْوَجْهَ وَيَظْلِمُ الصّدْرَ وَيَطْمِسُ نُورَ الْقَلْبِ وَيَكْسُو الْوَجْهَ وَحْشَةً تَصِيرُ عَلَيْهِ كَالسّيمَاءِ يَعْرِفُهَا مَنْ لَهُ أَدْنَى فِرَاسَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُوجِبُ النّفْرَةَ وَالتّبَاغُضَ الشّدِيدَ وَالتّقَاطُعَ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَلَا بُدّ . وَأَيْضًا فَإِنّهُ يُفْسِدُ حَالَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ فَسَادًا لَا يَكَادُ يُرْجَى بَعْدَهُ صَلَاحٌ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ بِالتّوْبَةِ النّصُوحِ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُذْهِبُ بِالْمَحَاسِنِ مِنْهُمَا وَيَكْسُوهُمَا ضِدّهَا كَمَا يُذْهِبُ بِالْمَوَدّةِ بَيْنَهُمَا وَيُبْدِلُهُمَا بِهَا تَبَاغُضًا وَتَلَاعُنًا .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ زَوَالِ النّعَمِ وَحُلُولِ النّقَمِ فَإِنّهُ يُوجِبُ اللّعْنَةَ وَالْمَقْتَ مِنْ اللّهِ وَإِعْرَاضَهُ عَنْ فَاعِلِهِ وَعَدَمَ نَظَرِهِ إلَيْهِ فَأَيّ خَيْرٍ <242> يَرْجُوهُ بَعْدَ هَذَا وَأَيّ شَرّ يَأْمَنُهُ وَكَيْفَ حَيَاةُ عَبْدٍ قَدْ حَلّتْ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَمَقْتُهُ وَأَعْرَضَ عَنْهُ بِوَجْهِهِ وَلَمْ يَنْظُرْ إلَيْهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُذْهِبُ بِالْحَيَاءِ جُمْلَةً وَالْحَيَاءُ هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ فَإِذَا فَقَدَهَا الْقَلْبُ اسْتَحْسَنَ الْقَبِيحَ وَاسْتَقْبَحَ الْحَسَنَ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ اسْتَحْكَمَ فَسَادُهُ .
(1/342)
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُحِيلُ الطّبَاعَ عَمّا رَكّبَهَا اللّهُ وَيُخْرِجُ الْإِنْسَانَ عَنْ طَبْعِهِ إلَى طَبْعٍ لَمْ يُرَكّبْ اللّهُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْحَيَوَانِ بَلْ هُوَ طَبْعٌ مَنْكُوسٌ وَإِذَا نُكِسَ الطّبْعُ انْتَكَسَ الْقَلْبُ وَالْعَمَلُ وَالْهُدَى فَيَسْتَطِيبُ حِينَئِذٍ الْخَبِيثَ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْهَيْئَاتِ وَيَفْسُدُ حَالُهُ وَعَمَلُهُ وَكَلَامُهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ . وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُورِثُ مِنْ الْوَقَاحَةِ وَالْجُرْأَةِ مَا لَا يُورِثُهُ سِوَاهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يُورِثُ مِنْ الْمَهَانَةِ وَالسّفَالِ وَالْحَقَارَةِ مَا لَا يُورِثُهُ غَيْرُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنّهُ يَكْسُو الْعَبْدَ مِنْ حُلّةِ الْمَقْتِ وَالْبَغْضَاءِ وَازْدِرَاءِ النّاسِ لَهُ وَاحْتِقَارِهِمْ إيّاهُ وَاسْتِصْغَارِهِمْ لَهُ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ بِالْحِسّ فَصَلَاةُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ سَعَادَةِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي هَدْيِهِ وَاتّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ وَهَلَاكُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي مُخَالَفَةِ هَدْيِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ .
فَصْلٌ [ أَنْوَاعُ الْجِمَاعِ الضّارّ ]
وَالْجِمَاعُ الضّارّ نَوْعَانِ ضَارّ شَرْعًا وَضَارّ طَبْعًا . فَالضّارّ شَرْعًا : الْمُحَرّمُ وَهُوَ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَشَدّ مِنْ بَعْضٍ . وَالتّحْرِيمُ الْعَارِضُ مِنْهُ أَخَفّ مِنْ اللّازِمِ كَتَحْرِيمِ الْإِحْرَامِ وَالصّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَتَحْرِيمِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا قَبْلَ التّكْفِيرِ وَتَحْرِيمِ وَطْءِ الْحَائِضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِهَذَا لَا حَدّ فِي هَذَا الْجِمَاعِ . <243>
(1/343)
وَأَمّا اللّازِمُ فَنَوْعَانِ . نَوْعٌ لَا سَبِيلَ إلَى حِلّهِ أَلْبَتّةَ كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فَهَذَا مِنْ أَضَرّ الْجِمَاعِ وَهُوَ يُوجِبُ الْقَتْلَ حَدّا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَغَيْرِهِ وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ ثَابِتٌ .
وَالثّانِي : مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَلَالًا كَالْأَجْنَبِيّةِ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَفِي وَطْئِهَا حَقّانِ . حَقّ لِلّهِ وَحَقّ لِلزّوْجِ . فَإِنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَإِنْ كَانَ لَهَا أَهْلٌ وَأَقَارِبُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِذَلِكَ صَارَ فِيهِ أَرْبَعَةُ حُقُوقٍ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ صَارَ فِيهِ خَمْسَةُ حُقُوقٍ . فَمَضَرّةُ هَذَا النّوْعِ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِ فِي التّحْرِيمِ .
وَأَمّا الضّارّ طَبْعًا فَنَوْعَانِ أَيْضًا : نَوْعٌ ضَارّ بِكَيْفِيّتِهِ كَمَا تَقَدّمَ وَنَوْعٌ ضَارّ بِكَمّيّتِهِ كَالْإِكْثَارِ مِنْهُ فَإِنّهُ يُسْقِطُ الْقُوّةَ وَيَضُرّ بِالْعَصَبِ وَيُحْدِثُ الرّعْشَةَ وَالْفَالِجَ وَالتّشَنّجَ وَيُضْعِفُ الْبَصَرَ وَسَائِرَ الْقُوَى وَيُطْفِئُ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيّةَ <244> وَيُوَسّعُ الْمَجَارِيَ وَيَجْعَلُهَا مُسْتَعِدّةً لِلْفَضَلَاتِ الْمُؤْذِيَةِ .
[أَنْفَعُ أَوْقَاتِهِ ]
(1/344)
وَأَنْفَعُ أَوْقَاتِهِ مَا كَانَ بَعْدَ انْهِضَامِ الْغِذَاءِ فِي الْمَعِدَةِ وَفِي زَمَانٍ مُعْتَدِلٍ لَا عَلَى جُوعٍ فَإِنّهُ يُضْعِفُ الْحَارّ الْغَرِيزِيّ وَلَا عَلَى شِبَعٍ فَإِنّهُ يُوجِبُ أَمْرَاضًا شَدِيدَةً وَلَا عَلَى تَعَبٍ وَلَا إثْرَ حَمّامٍ وَلَا اسْتِفْرَاغٍ وَلَا انْفِعَالٍ نَفْسَانِيّ كَالْغَمّ وَالْهَمّ وَالْحُزْنِ وَشِدّةِ الْفَرَحِ . وَأَجْوَدُ أَوْقَاتِهِ بَعْدَ هَزِيعٍ مِنْ اللّيْلِ إذَا صَادَفَ انْهِضَامَ الطّعَامِ ثُمّ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضّأُ وَيَنَامُ عَلَيْهِ وَيَنَامُ عَقِبَهُ فَتَرَاجَعُ إلَيْهِ قُوَاهُ وَلْيَحْذَرْ الْحَرَكَةَ وَالرّيَاضَةَ عَقِبَهُ فَإِنّهَا مُضِرّةٌ جِدّا .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عِلَاجِ الْعِشْقِ
هَذَا مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ مُخَالِفٌ لِسَائِرِ الْأَمْرَاضِ فِي ذَاتِهِ وَأَسْبَابِهِ وَعِلَاجِهِ وَإِذَا تَمَكّنَ وَاسْتَحْكَمَ عَزّ عَلَى الْأَطِبّاء دَوَاؤُهُ وَأَعْيَا الْعَلِيلَ دَاؤُهُ وَإِنّمَا حَكَاهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنْ النّاسِ مِنْ النّسَاءِ وَعُشّاقِ الصّبْيَانِ الْمُرْدَانِ فَحَكَاهُ عَنْ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِي شَأْنِ يُوسُفَ وَحَكَاهُ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ فَقَالَ تَعَالَى إخْبَارًا عَنْهُمْ لَمّا جَاءَتْ الْمَلَائِكَةُ لُوطًا : وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتّقُوا اللّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ الْحِجْرِ : 68 :73 ] .
[ سَبَبُ طَلَاقِ زَيْدٍ لِزَيْنَبَ ]
(1/345)
وَأَمّا مَا زَعَمَهُ بَعْضُ مَنْ لَمْ يُقَدّرْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَقّ قَدْرِهِ أَنّهُ اُبْتُلِيَ بِهِ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَأَنّهُ رَآهَا فَقَالَ سُبْحَانَ مُقَلّبَ الْقُلُوبِ وَأَخَذَتْ بِقَلْبِهِ وَجَعَلَ يَقُول لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ : أَمْسِكْهَا حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَاللّهُ أَحَقّ أَنْ تَخْشَاهُ [ الْأَحْزَابِ 37 ] فَظَنّ هَذَا الزّاعِمُ أَنّ ذَلِكَ فِي شَأْنِ الْعِشْقِ <245>
(1/346)
وَصَنّفَ بَعْضُهُمْ كِتَابًا فِي الْعِشْقِ وَذَكَرَ فِيهِ عِشْقَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ وَهَذَا مِنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ بِالْقُرْآنِ وَبِالرّسُلِ وَتَحْمِيلِهِ كَلَامَ اللّهِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَنِسْبَتِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَا بَرّأَهُ اللّهُ مِنْهُ فَإِنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ كَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَبَنّاهُ وَكَانَ يُدْعَى زَيْدَ بْنَ مُحَمّدٍ وَكَانَتْ زَيْنَبُ فِيهَا شَمَمٌ وَتَرَفّعَ عَلَيْهِ فَشَاوَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي طَلَاقِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ اللّهَ وَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَتَزَوّجَهَا إنْ طَلّقَهَا زَيْدٌ وَكَانَ يَخْشَى مِنْ قَالَةِ النّاسِ أَنّهُ تَزَوّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ لِأَنّ زَيْدًا كَانَ يُدْعَى ابْنَهُ فَهَذَا هُوَ الّذِي أَخْفَاهُ فِي نَفْسِهِ وَهَذِهِ هِيَ الْخَشْيَةُ مِنْ النّاسِ الّتِي وَقَعَتْ لَهُ وَلِهَذَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُعَدّدُ فِيهَا نِعَمَهُ عَلَيْهِ لَا يُعَاتِبُهُ فِيهَا وَأَعْلَمَهُ أَنّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْشَى النّاسَ فِيمَا أَحَلّ اللّهُ لَهُ وَأَنّ اللّهَ أَحَقّ أَنْ يَخْشَاهُ فَلَا يَتَحَرّجُ مَا أَحَلّهُ لَهُ لِأَجْلِ قَوْلِ النّاسِ ثُمّ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سُبْحَانَهُ زَوّجَهُ إيّاهَا بَعْدَ قَضَاءِ زَيْدٍ وَطَرَهُ مِنْهَا لِتَقْتَدِيَ أُمّتُهُ بِهِ فِي ذَلِكَ وَيَتَزَوّجَ الرّجُلُ بِامْرَأَةِ ابْنِهِ مِنْ التّبَنّي لَا امْرَأَةِ ابْنِهِ لِصُلْبِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي آيَةِ التّحْرِيمِ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ [ النّسَاءِ 23 ]
(1/347)
<246>
وَقَالَ فِي هَذِهِ السّورَةِ مَا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْأَحْزَابِ 40 ] وَقَالَ فِي أَوّلِهَا : وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ [ الْأَحْزَابِ 4 ] فَتَأَمّلْ هَذَا الذّبّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَفْعَ طَعْنِ الطّاعِنِينَ عَنْهُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
نَعَمْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّ نِسَاءَهُ وَكَانَ أَحَبّهُنّ إلَيْهِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَلَمْ تَكُنْ تَبْلُغُ مَحَبّتُهُ لَهَا وَلَا لِأَحَدٍ سِوَى رَبّهِ نِهَايَةَ الْحُبّ بَلْ صَحّ أَنّهُ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُتّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَفِي لَفْظٍ وَإِنّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ الرّحْمَن
فَصْلٌ [ الْإِخْلَاصُ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْعِشْق]
وَعِشْقُ الصّوَرِ إنّمَا تُبْتَلَى بِهِ الْقُلُوبُ الْفَارِغَةُ مِنْ مَحَبّةِ اللّهِ تَعَالَى الْمُعْرِضَةُ عَنْهُ الْمُتَعَوّضَةُ بِغَيْرِهِ عَنْهُ فَإِذَا امْتَلَأَ الْقَلْبُ مِنْ مَحَبّةِ اللّهِ وَالشّوْقِ إلَى لِقَائِهِ دَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُ مَرَضَ عِشْقِ الصّوَرِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي حَقّ يُوسُفَ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [ يُوسُفَ 24 ] فَدَلّ عَلَى أَنّ الْإِخْلَاصَ سَبَبٌ لِدَفْعِ الْعِشْقِ وَمَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهِ مِنْ السّوءِ وَالْفَحْشَاءِ الّتِي هِيَ ثَمَرَتُهُ وَنَتِيجَتُهُ فَصَرْفُ الْمُسَبّبِ صَرْفٌ لِسَبَبِهِ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ الْعِشْقُ حَرَكَةُ قَلْبٍ فَارِغٍ يَعْنِي فَارِغًا مِمّا سِوَى مَعْشُوقِهِ .
(1/348)
قَالَ تَعَالَى : وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ [ الْقَصَصِ 11 ] أَيْ فَارِغًا مِنْ كُلّ شَيْءٍ إلّا مِنْ مُوسَى لِفَرْطِ مَحَبّتِهَا لَهُ وَتَعَلّقِ قَلْبِهَا بِهِ . <247>
[ عِلّةُ الْعِشْقِ ]
وَالْعِشْقُ مُرَكّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ اسْتِحْسَانٍ لِلْمَعْشُوقِ وَطَمَعٍ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ فَمَتَى انْتَفَى أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْعِشْقُ وَقَدْ أَعْيَتْ عِلّةُ الْعِشْقِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَتَكَلّمَ فِيهَا بَعْضُهُمْ بِكَلَامٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ إلَى الصّوَابِ . فَنَقُولُ قَدْ اسْتَقَرّتْ حِكْمَةُ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَلَى وُقُوعِ التّنَاسُبِ وَالتّآلُفِ بَيْنَ الْأَشْبَاهِ وَانْجِذَابِ الشّيْءِ إلَى مُوَافِقِهِ وَمُجَانِسِهِ بِالطّبْعِ وَهُرُوبِهِ مِنْ مُخَالِفِهِ وَنُفْرَتِهِ عَنْهُ بِالطّبْعِ فَسِرّ التّمَازُجِ وَالِاتّصَالِ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيّ وَالسّفْلِيّ إنّمَا هُوَ التّنَاسُبُ وَالتّشَاكُلُ وَالتّوَافُقُ وَسِرّ التّبَايُنِ وَالِانْفِصَالِ إنّمَا هُوَ بِعَدَمِ التّشَاكُلِ وَالتّنَاسُبِ وَعَلَى ذَلِكَ قَامَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فَالْمِثْلُ إلَى مِثْلِهِ مَائِلٌ وَإِلَيْهِ صَائِرٌ وَالضّدّ عَنْ ضِدّهِ هَارِبٌ وَعَنْهُ نَافِرٌ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : هُوَ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [ الْأَعْرَافِ 189 ] فَجَعَلَ سُبْحَانَهُ عِلّةَ سُكُونِ الرّجُلِ إلَى امْرَأَتِهِ كَوْنَهَا مِنْ جِنْسِهِ وَجَوْهَرِهِ فَعِلّةُ السّكُونِ الْمَذْكُورِ - وَهُوَ الْحُبّ - كَوْنُهَا مِنْهُ فَدَلّ عَلَى أَنّ الْعِلّةَ لَيْسَتْ بِحُسْنِ الصّورَةِ وَلَا الْمُوَافَقَةِ فِي الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَلَا فِي الْخُلُقِ وَالْهَدْيِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ
(1/349)
أَيْضًا مِنْ أَسْبَابِ السّكُونِ وَالْمَحَبّةِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَف وَفِي " مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ " وَغَيْرِهِ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ امْرَأَةً بِمَكّةَ كَانَتْ تُضْحِكُ النّاسَ فَجَاءَتْ إلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ عَلَى امْرَأَةٍ تُضْحِكُ النّاسَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ الْحَدِيثَ . <248>
وَقَدْ اسْتَقَرّتْ شَرِيعَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنّ حُكْمَ الشّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ فَلَا تُفَرّقُ شَرِيعَتُهُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ أَبَدًا وَلَا تَجْمَعُ بَيْنَ مُتَضَادّيْنِ وَمَنْ ظَنّ خِلَافَ ذَلِكَ فَإِمّا لِقِلّةِ عِلْمِهِ بِالشّرِيعَةِ وَإِمّا لِتَقْصِيرِهِ فِي مَعْرِفَةِ التّمَاثُلِ وَالِاخْتِلَافِ وَإِمّا لِنِسْبَتِهِ إلَى شَرِيعَتِهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَانًا بَلْ يَكُونُ مِنْ آرَاءِ الرّجَالِ فَبِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ ظَهَرَ خَلْقُهُ وَشَرْعُهُ وَبِالْعَدْلِ وَالْمِيزَانِ قَامَ الْخَلْقُ وَالشّرْعُ وَهُوَ التّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالتّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ .
وَهَذَا كَمَا أَنّهُ ثَابِتٌ فِي الدّنْيَا فَهُوَ كَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . فَالَ تَعَالَى : احْشُرُوا الّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [ الصّافّاتِ 22 ] .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَبَعْدَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللّهُ أَزْوَاجُهُمْ أَشْبَاهُهُمْ وَنُظَرَاؤُهُم
(1/350)
وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذَا النّفُوسُ زُوّجَتْ [ التّكْوِيرِ 7 ] أَيْ قَرَنَ كُلّ صَاحِبِ عَمَلٍ بِشَكْلِهِ وَنَظِيرِهِ فَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابّيْنِ فِي اللّهِ فِي الْجَنّةِ وَقَرَنَ بَيْنَ الْمُتَحَابّيْنِ فِي طَاعَةِ الشّيْطَانِ فِي الْجَحِيمِ فَالْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبّ شَاءَ أَوْ أَبَى وَفِي " مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ " وَغَيْرِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُحِبّ الْمَرْءُ قَوْمًا إلّا حُشِرَ مَعَهُمْ <249>
[ أَنْوَاعُ الْمَحَبّةِ ]
وَالْمَحَبّةُ أَنْوَاعٌ مُتَعَدّدَةٌ فَأَفْضَلُهَا وَأَجَلّهَا : الْمَحَبّةُ فِي اللّهِ وَلِلّهِ وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ مَحَبّةَ مَا أَحَبّ اللّهُ وَتَسْتَلْزِمُ مَحَبّةَ اللّهِ وَرَسُولِهِ .
وَمِنْهَا مَحَبّةُ الِاتّفَاقِ فِي طَرِيقَةٍ أَوْ دِينٍ أَوْ مَذْهَبٍ أَوْ نِحْلَةٍ أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ أَوْ مُرَادٍ مَا .
وَمِنْهَا : مَحَبّةٌ لِنَيْلِ غَرَضٍ مِنْ الْمَحْبُوبِ إمّا مِنْ جَاهِهِ أَوْ مِنْ مَالِهِ أَوْ مِنْ تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ أَوْ قَضَاءِ وَطَرٍ مِنْهُ وَهَذِهِ هِيَ الْمَحَبّةُ الْعَرَضِيّةُ الّتِي تَزُولُ بِزَوَالِ مُوجِبِهَا فَإِنّ مَنْ وَدّك لِأَمْرٍ وَلّى عَنْك عِنْدَ انْقِضَائِهِ .
وَأَمّا مَحَبّةُ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ الّتِي بَيْنَ الْمُحِبّ وَالْمَحْبُوبِ فَمَحَبّةٌ لَازِمَةٌ لَا تَزُولُ إلّا لِعَارِضٍ يُزِيلُهَا وَمَحَبّةُ الْعِشْقِ مِنْ هَذَا النّوْعِ فَإِنّهَا اسْتِحْسَانٌ رُوحَانِيّ وَامْتِزَاجٌ نَفْسَانِيّ وَلَا يَعْرِضُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَحَبّةِ مِنْ الْوَسْوَاسِ وَالنّحُولِ وَشَغْلِ الْبَالِ وَالتّلَفِ مَا يَعْرِضُ مِنْ الْعِشْقِ .
[ سَبَبُ كَوْنِ الْعِشْقِ أَحْيَانًا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ ]
(1/351)
فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْعِشْقِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الِاتّصَالِ وَالتّنَاسُبِ الرّوحَانِيّ فَمَا بَالُهُ لَا يَكُونُ دَائِمًا مِنْ الطّرَفَيْنِ بَلْ تَجِدُهُ كَثِيرًا مِنْ طَرَفِ الْعَاشِقِ وَحْدَهُ فَلَوْ كَانَ سَبَبُهُ الِاتّصَالَ النّفْسِيّ وَالِامْتِزَاجَ الرّوحَانِيّ لَكَانَتْ الْمَحَبّةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا .
فَالْجَوَابُ أَنّ السّبَبَ قَدْ يَتَخَلّفُ عَنْهُ مُسَبّبِهِ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ وَتَخَلّفُ الْمَحَبّةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ لَا بُدّ أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَسْبَابٍ
الْأَوّلُ عِلّةٌ فِي الْمَحَبّةِ وَأَنّهَا مَحَبّةٌ عَرَضِيّةٌ لَا ذَاتِيّةٌ وَلَا يَجِبُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْمَحَبّةِ الْعَرَضِيّةِ بَلْ قَدْ يَلْزَمُهَا نُفْرَةٌ مِنْ الْمَحْبُوبِ .
الثّانِي : مَانِعٌ يَقُومُ بِالْمُحِبّ يَمْنَعُ مَحَبّةَ مَحْبُوبِهِ لَهُ إمّا فِي خُلُقِهِ أَوْ فِي خَلْقِهِ أَوْ هَدْيِهِ أَوْ فِعْلِهِ أَوْ هَيْئَتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . <250>
الثّالِثُ مَانِعٌ يَقُومُ بِالْمَحْبُوبِ يَمْنَعُ مُشَارَكَتَهُ لِلْمُحِبّ فِي مَحَبّتِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ الْمَانِعِ لَقَامَ بِهِ مِنْ الْمَحَبّةِ لِمُحِبّهِ مِثْلُ مَا قَامَ بِالْآخَرِ فَإِذَا انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعُ وَكَانَتْ الْمَحَبّةُ ذَاتِيّةً فَلَا يَكُونُ قَطّ إلّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْلَا مَانِعُ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرّيَاسَةِ وَالْمُعَادَاةِ فِي الْكُفّارِ لَكَانَتْ الرّسُلُ أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَلَمّا زَالَ هَذَا الْمَانِعُ مِنْ قُلُوبِ أَتْبَاعِهِمْ كَانَتْ مَحَبّتُهُمْ لَهُمْ فَوْقَ مَحَبّةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ .
فَصْلٌ [ عِلَاجُ الْعِشْقِ بِالزّوَاجِ بِالْمَعْشُوقِ ]
(1/352)
وَالْمَقْصُودُ أَنّ الْعِشْقَ لَمّا كَانَ مَرَضًا مِنْ الْأَمْرَاضِ كَانَ قَابِلًا لِلْعِلَاجِ وَلَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ الْعِلَاجِ فَإِنْ كَانَ مِمّا لِلْعَاشِقِ سَبِيلٌ إلَى وَصْلِ مَحْبُوبِهِ شَرْعًا وَقَدْرًا فَهُوَ عِلَاجُهُ كَمَا ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " . مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مَعْشَرَ الشّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصّوْمِ فَإِنّهُ لَهُ وِجَاءٌ
فَدَلّ الْمُحِبّ عَلَى عِلَاجَيْنِ أَصْلِيّ وَبَدَلِيّ . وَأَمَرَهُ بِالْأَصْلِيّ وَهُوَ الْعِلَاجُ الّذِي وُضِعَ لِهَذَا الدّاءِ فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلًا . وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَمْ نَرَ لِلْمُتَحَابّيْنِ مِثْلَ النّكَاحِ
(1/353)
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ عَقِيبَ إحْلَالِ النّسَاءِ حَرَائِرِهِنّ وَإِمَائِهِنّ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِقَوْلِهِ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [ النّسَاءِ 28 ] . فَذِكْرُ تَخْفِيفِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِخْبَارِهِ عَنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ يَدُلّ عَلَى ضَعْفِهِ عَنْ احْتِمَالِ هَذِهِ الشّهْوَةِ وَأَنّهُ - سُبْحَانَهُ - خَفّفَ عَنْهُ أَمْرَهَا بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ مِنْ أَطَايِبِ النّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ وَأَبَاحَ لَهُ مَا شَاءَ مِمّا مَلَكَتْ يَمِينُهُ ثُمّ أَبَاحَ لَهُ أَنْ يَتَزَوّجَ بِالْإِمَاءِ إنْ احْتَاجَ <251> إلَى ذَلِكَ عِلَاجًا لِهَذِهِ الشّهْوَةِ وَتَخْفِيفًا عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الضّعِيفِ وَرَحْمَةً بِهِ .
فَصْلٌ [ وَمِنْ عِلَاجِ العشقِ إشْعَارُ النّفْسِ الْيَأْسَ مِنْهُ إنْ كَانَ الْوِصَالُ
مُتَعَذّرًا قَدْرًا وَشَرْعًا ]
وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ لِلْعَاشِقِ إلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ قَدْرًا أَوْ شَرْعًا أَوْ هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلْيِهِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَهُوَ الدّاءُ الْعُضَالُ فَمِنْ عِلَاجِهِ إشْعَارُ نَفْسِهِ الْيَأْسَ مِنْهُ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى يَئِسَتْ مِنْ الشّيْءِ اسْتَرَاحَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَزَلْ مَرَضُ الْعِشْقِ مَعَ الْيَأْسِ فَقَدْ انْحَرَفَ الطّبْعُ انْحِرَافًا شَدِيدًا فَيَنْتَقِلُ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ وَهُوَ عِلَاجُ عَقْلِهِ بِأَنْ يُعْلَمَ بِأَنّ تَعَلّقَ الْقَلْبِ بِمَا لَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ نَوْعٌ مِنْ الْجُنُونِ وَصَاحِبُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْشَقُ الشّمْسَ وَرُوحُهُ مُتَعَلّقَةٌ بِالصّعُودِ إلَيْهَا وَالدّوَرَانِ مَعَهَا فِي فَلَكِهَا وَهَذَا مَعْدُودٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمَجَانِينِ .
(1/354)
[ إنْ كَانَ الْوِصَالُ مُتَعَذّرًا شَرْعًا فَعِلَاجُهُ إنْزَالُهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَذّرِ قَدْرًا وَذِكْرُ عِلَاجَاتٍ أُخْرَى ]
وَإِنْ كَانَ الْوِصَالُ مُتَعَذّرًا شَرْعًا لَا قَدْرًا فَعِلَاجُهُ بِأَنْ يُنْزِلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُتَعَذّرِ قَدْرًا إذْ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ اللّهُ فَعِلَاجُ الْعَبْدِ وَنَجَاتُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اجْتِنَابِهِ فَلْيُشْعِرْ نَفْسَهُ أَنّهُ مَعْدُومٌ مُمْتَنِعٌ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ وَأَنّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْمُحَالَاتِ فَإِنْ لَمْ تُجِبْهُ النّفْسُ الْأَمّارَةُ فَلْيَتْرُكْهُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمّا خَشْيَةٍ وَإِمّا فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ وَخَيْرٌ لَهُ مِنْهُ وَأَدْوَمُ لَذّةً وَسُرُورًا فَإِنّ الْعَاقِلَ مَتَى وَازَنَ بَيْنَ نَيْلِ مَحْبُوبٍ سَرِيعِ الزّوَالِ بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ أَعْظَمَ مِنْهُ وَأَدْوَمَ وَأَنْفَعَ وَأَلَذّ أَوْ بِالْعَكْسِ ظَهَرَ لَهُ التّفَاوُتُ فَلَا تَبِعْ لَذّةَ الْأَبَدِ الّتِي لَا خَطَرَ لَهَا بِلَذّةِ سَاعَةٍ تَنْقَلِبُ آلَامًا وَحَقِيقَتُهَا أَنّهَا أَحْلَامُ نَائِمٍ أَوْ خَيَالٌ لَا ثَبَاتَ لَهُ فَتَذْهَبُ اللّذّةُ وَتَبْقَى التّبِعَةُ وَتَزُولُ الشّهْوَةُ وَتَبْقَى الشّقْوَةُ .
(1/355)
الثّانِي : حُصُولُ مَكْرُوهٍ أَشَقّ عَلْيِهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ بَلْ يَجْتَمِعُ لَهُ الْأَمْرَانِ أَعْنِي : فَوَاتَ مَا هُوَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ وَحُصُولَ مَا هُوَ أَكْرَهُ إلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ فَإِذَا تَيَقّنَ أَنّ فِي إعْطَاءِ النّفْسِ حَظّهَا مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ وَرَأَى أَنّ صَبْرَهُ عَلَى قُوّتِهِ أَسْهَلُ مِنْ صَبْرِهِ عَلَيْهِمَا بِكَثِيرٍ فَعَقْلُهُ وَدِينُهُ وَمُرُوءَتُهُ وَإِنْسَانِيّتُهُ تَأْمُرُهُ بِاحْتِمَالِ الضّرَرِ <252> الْيَسِيرِ الّذِي يَنْقَلِبُ سَرِيعًا لَذّةً وَسُرُورًا وَفَرَحًا لِدَفْعِ هَذَيْنِ الضّرَرَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ . وَجَهْلُهُ وَهَوَاهُ وَظُلْمُهُ وَطَيْشُهُ وَخِفّتُهُ يَأْمُرُهُ بِإِيثَارِ هَذَا الْمَحْبُوبِ الْعَاجِلِ بِمَا فِيهِ جَالِبًا عَلَيْهِ مَا جَلَبَ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَهُ اللّهُ .
فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ نَفْسُهُ هَذَا الدّوَاءَ وَلَمْ تُطَاوِعْهُ لِهَذِهِ الْمُعَالَجَةِ فَلْيَنْظُرْ مَا تَجْلِبُ عَلَيْهِ هَذِهِ الشّهْوَةُ مِنْ مَفَاسِدِ عَاجِلَتِهِ وَمَا تَمْنَعُهُ مِنْ مَصَالِحِهَا فَإِنّهَا أَجْلَبُ شَيْءٍ لِمَفَاسِدِ الدّنْيَا وَأَعْظَمُ شَيْءٍ تَعْطِيلًا لِمَصَالِحِهَا فَإِنّهَا تَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رُشْدِهِ الّذِي هُوَ مِلَاكُ أَمْرِهِ وَقِوَامُ مَصَالِحِهِ .
(1/356)
فَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ نَفْسُهُ هَذَا الدّوَاءَ فَلْيَتَذَكّرْ قَبَائِحَ الْمَحْبُوبِ وَمَا يَدْعُوهُ إلَى النّفْرَةِ عَنْهُ فَإِنّهُ إنْ طَلَبَهَا وَتَأَمّلَهَا وَجَدَهَا أَضْعَافَ مَحَاسِنِهِ الّتِي تَدْعُو إلَى حُبّهِ وَلْيَسْأَلْ جِيرَانَهُ عَمّا خَفِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَإِنّهَا الْمَحَاسِنُ كَمَا هِيَ دَاعِيَةُ الْحُبّ وَالْإِرَادَةِ فَالْمَسَاوِئُ دَاعِيَةُ الْبُغْضِ وَالنّفْرَةِ فَلْيُوَازِنْ بَيْنَ الدّاعِيَيْنِ وَلْيُحِبّ أَسْبَقَهُمَا وَأَقْرَبَهُمَا مِنْهَا بَابًا وَلَا يَكُنْ مِمّنْ غَرّهُ لَوْنُ جَمَالٍ عَلَى جِسْمٍ أَبْرَصَ مَجْذُومٍ وَلْيُجَاوِزْ بَصَرُهُ حُسْنَ الصّورَةِ إلَى قُبْحِ الْفِعْلِ وَلْيَعْبُرْ مِنْ حُسْنِ الْمَنْظَرِ وَالْجِسْمِ إلَى قُبْحِ الْمَخْبَرِ وَالْقَلْبِ .
فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ كُلّهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا صِدْقُ اللّجَأِ إلَى مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ وَلْيَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرّعًا مُتَذَلّلًا مُسْتَكِينًا فَمَتَى وُفّقَ لِذَلِكَ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ التّوْفِيقِ فَلِيَعِفّ وَلْيَكْتُمْ وَلَا يُشَبّبْ بِذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَلَا يَفْضَحْهُ بَيْنَ النّاسِ وَيُعَرّضْهُ لِلْأَذَى فَإِنّهُ يَكُونُ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا .
[ بُطْلَانُ حَدِيثِ " مَنْ عَشِقَ فَعَفّ ... " ]
وَلَا يَغْتَرّ بِالْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَوَاهُ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
(1/357)
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي مُسْهِر ٍ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَوَاهُ الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَبْدِ 253 - الْعَزِيزِ بْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ عَشِقَ فَعَفّ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيد وَفِي رِوَايَةٍ مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفّ وَصَبَرَ غَفَرَ اللّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنّةَ
فَإِنّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلَامِهِ فَإِنّ الشّهَادَةَ دَرَجَةٌ عَالِيَةٌ عِنْدَ اللّهِ مَقْرُونَةٌ بِدَرَجَةِ الصّدّيقِيّةِ وَلَهَا أَعْمَالٌ وَأَحْوَالٌ هِيَ شَرْطٌ فِي حُصُولِهَا وَهِيَ نَوْعَانِ عَامّةٌ وَخَاصّةٌ فَالْخَاصّةُ الشّهَادَةُ فِي سَبِيلِ اللّهِ .
(1/358)
وَالْعَامّةُ خَمْسٌ مَذْكُورَةٌ فِي " الصّحِيحِ " لَيْسَ الْعِشْقُ وَاحِدًا مِنْهَا . <254> وَكَيْفَ يَكُونُ الْعِشْقُ الّذِي هُوَ شِرْكٌ فِي الْمَحَبّةِ وَفَرَاغُ الْقَلْبِ عَنْ اللّهِ وَتَمْلِيكُ الْقَلْبِ وَالرّوحِ وَالْحُبّ لِغَيْرِهِ تُنَالُ بِهِ دَرَجَةُ الشّهَادَةِ هَذَا مِنْ الْمُحَالِ فَإِنّ إفْسَادَ عِشْقِ الصّوَرِ لِلْقَلْبِ فَوْقَ كُلّ إفْسَادٍ بَلْ هُوَ خَمْرُ الرّوحِ الّذِي يُسْكِرُهَا وَيَصُدّهَا عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَحُبّهِ وَالتّلَذّذِ بِمُنَاجَاتِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَيُوجِبُ عُبُودِيّةَ الْقَلْبِ لِغَيْرِهِ فَإِنّ قَلْبَ الْعَاشِقِ مُتَعَبّدٌ لِمَعْشُوقِهِ بَلْ الْعِشْقُ لُبّ الْعُبُودِيّةِ فَإِنّهَا كَمَالُ الذّلّ وَالْحُبّ وَالْخُضُوعِ وَالتّعْظِيمِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَعَبّدُ الْقَلْبِ لِغَيْرِ اللّهِ مِمّا تُنَالُ بِهِ دَرَجَةُ أَفَاضِلِ الْمُوَحّدِينَ وَسَادَاتِهِمْ وَخَوَاصّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَوْ كَانَ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ كَالشّمْسِ كَانَ غَلَطًا وَوَهْمًا وَلَا يُحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَفْظُ الْعِشْقِ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ أَلْبَتّةَ .
(1/359)
ثُمّ إنّ الْعِشْقَ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ فَكَيْفَ يُظَنّ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ يَحْكُمُ عَلَى كُلّ عَاشِقٍ يَكْتُمُ وَيَعِفّ بِأَنّهُ شَهِيدٌ فَتَرَى مَنْ يَعْشَقُ امْرَأَةَ غَيْرِهِ أَوْ يَعْشَقُ الْمُرْدَانَ وَالْبَغَايَا يَنَالُ بِعِشْقِهِ دَرَجَةَ الشّهَدَاءِ وَهَلْ هَذَا إلّا خِلَافُ الْمَعْلُومِ مِنْ دِينِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالضّرُورَةِ ؟ كَيْفَ وَالْعِشْقُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ الّتِي جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ لَهَا الْأَدْوِيَةَ شَرْعًا وَقَدْرًا وَالتّدَاوِي مِنْهُ إمّا وَاجِبٌ إنْ كَانَ عِشْقًا حَرَامًا وَإِمّا مُسْتَحَبّ .
وَأَنْتَ إذَا تَأَمّلْت الْأَمْرَاضَ وَالْآفَاتِ الّتِي حَكَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهَا بِالشّهَادَةِ وَجَدْتهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ الّتِي لَا عِلَاجَ لَهَا كَالْمَطْعُونِ وَالْمَبْطُونِ وَالْمَجْنُوبِ وَالْغَرِيقِ وَمَوْتِ الْمَرْأَةِ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَإِنّ هَذِهِ <255> بَلَايَا مِنْ اللّهِ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَلَا عِلَاجَ لَهَا وَلَيْسَتْ أَسْبَابُهَا مُحَرّمَةً وَلَا يَتَرَتّبُ عَلَيْهَا مِنْ فَسَادِ الْقَلْبِ وَتَعَبّدِهِ لِغَيْرِ اللّهِ مَا يَتَرَتّبُ عَلَى الْعِشْقِ فَإِنْ لَمْ يَكْفِ هَذَا فِي إبْطَالِ نِسْبَةِ هَذَا الْحَدِيثِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَلّدْ أَئِمّةَ الْحَدِيثِ الْعَالِمِينَ بِهِ وَبِعِلَلِهِ فَإِنّهُ لَا يُحْفَظُ عَنْ إمَامٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَطّ أَنّهُ شَهِدَ لَهُ بِصِحّةٍ بَلْ وَلَا بِحُسْنٍ كَيْفَ وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَى سُوَيْدٍ هَذَا الْحَدِيثَ وَرَمَوْهُ لِأَجْلِهِ بِالْعَظَائِمِ وَاسْتَحَلّ بَعْضُهُمْ غَزْوَهُ لِأَجْلِهِ .
(1/360)
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيّ فِي " كَامِلِهِ " : هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا أُنْكِرَ عَلَى سُوَيْدٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْبَيْهَقِيّ : إنّهُ مِمّا أُنْكِرَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ طَاهِرٍ فِي " الذّخِيرَةِ " وَذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي " تَارِيخِ نَيْسَابُورَ " وَقَالَ أَنَا أَتَعَجّبُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَإِنّهُ لَمْ يُحَدّثْ بِهِ عَنْ غَيْرِ سُوَيْدٍ وَهُوَ ثِقَةٌ وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيّ فِي كِتَابِ " الْمَوْضُوعَاتِ " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَزْرَقُ يَرْفَعُهُ أَوّلًا عَنْ سُوَيْدٍ فَعُوتِبَ فِيهِ فَأَسْقَطَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ ابْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا .
(1/361)
وَمِنْ الْمَصَائِبِ الّتِي لَا تُحْتَمَلُ جَعْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَمَنْ لَهُ أَدْنَى إلْمَامٍ بِالْحَدِيثِ وَعِلَلِهِ لَا يَحْتَمِلُ هَذَا أَلْبَتّةَ وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَدِيثِ الْمَاجِشُونِ عَنْ ابْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا وَفِي صِحّتِهِ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ نَظَرٌ وَقَدْ رَمَى النّاسُ سُوَيْدَ بْنَ سَعِيدٍ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ بِالْعَظَائِمِ وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَقَالَ هُوَ سَاقِطٌ كَذّابٌ لَوْ كَانَ لِي فَرَسٌ وَرُمْحٌ كُنْت أَغْزُوهُ وَقَالَ الْإِمَام ُ أَحْمَدُ : مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النّسَائِيّ : لَيْسَ بِثِقَةٍ وَقَالَ الْبُخَارِيّ : كَانَ قَدْ عَمِيَ فَيُلَقّنُ مَا لَيْسَ مِنْ حَدِيثِهِ وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : يَأْتِي بِالْمُعْضِلَاتِ عَنْ الثّقَاتِ يَجِبُ مُجَانَبَةُ مَا رَوَى . انْتَهَى .
وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ قَوْلُ أَبِي حَاتِمٍ الرّازِيّ : إنّهُ صَدُوقٌ كَثِيرُ التّدْلِيسِ ثُمّ قَوْلُ الدّارَقُطْنِيّ : هُوَ ثِقَةٌ غَيْرَ أَنّهُ لَمّا كَبِرَ كَانَ رُبّمَا قُرِئَ عَلَيْهِ حَدِيثٌ فِيهِ بَعْضُ النّكَارَةِ فَيُجِيزُهُ انْتَهَى .
وَعِيبَ عَلَى مُسْلِمٍ <256> إخْرَاجُ حَدِيثِهِ وَهَذِهِ حَالُهُ وَلَكِنْ مُسْلِمٌ رَوَى مِنْ حَدِيثِهِ مَا تَابَعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا وَلَا شَاذّا بِخِلَافِ هَذَا الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ الصّحّةِ بِالطّيبِ
(1/362)
لَمّا كَانَتْ الرّائِحَةُ الطّيّبَةُ غِذَاءَ الرّوحِ وَالرّوحُ مَطِيّةُ الْقُوَى وَالْقُوَى تَزْدَادُ بِالطّيبِ وَهُوَ يَنْفَعُ الدّمَاغَ وَالْقَلْبَ وَسَائِرَ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنِيّةِ وَيُفَرّحُ الْقَلْبَ وَيَسُرّ النّفْسَ وَيَبْسُطُ الرّوحَ وَهُوَ أَصْدَقُ شَيْءٍ لِلرّوحِ وَأَشَدّهُ مُلَاءَمَةً لَهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الرّوحِ الطّيّبَةِ نِسْبَةٌ قَرِيبَةٌ . كَانَ أَحَدَ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الدّنْيَا إلَى أَطْيَبِ الطّيّبِينَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَا يَرُدّ الطّيبَ
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدّهُ . فَإِنّهُ طَيّبُ الرّيحِ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " وَالنّسَائِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ خَفِيفُ الْمَحْمَلِ طَيّبُ الرّائِحَةِ
وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ اللّهَ طَيّبٌ يُحِبّ الطّيبَ نَظِيفٌ يُحِبّ النّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبّ الْجُودَ فَنَظّفُوا أَفْنَاءَكُمْ وَسَاحَاتِكُمْ وَلَا تَشَبّهُوا بِالْيَهُودِ يَجْمَعُونَ الْأُكُبّ فِي دُورِهِم الْأُكُبّ الزّبَالَةُ .
<257> وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ لَهُ سِكّةٌ يَتَطَيّبُ مِنْهَا
وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ إنّ لِلّهِ حَقّا عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلّ سَبْعَةِ أَيّامٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ طِيبٌ أَنْ يَمَسّ مِنْهُ
(1/363)
وَفِي الطّيبِ مِنْ الْخَاصّيّةِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تُحِبّهُ وَالشّيَاطِينَ تَنْفِرُ عَنْهُ وَأَحَبّ شَيْءٍ إلَى الشّيَاطِينِ الرّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ الْكَرِيهَةُ فَالْأَرْوَاحُ الطّيّبَةُ تُحِبّ الرّائِحَةَ الطّيّبَةَ وَالْأَرْوَاحُ الْخَبِيثَةُ تُحِبّ الرّائِحَةَ الْخَبِيثَةَ وَكُلّ رُوحٍ تَمِيلُ إلَى مَا يُنَاسِبُهَا فَالْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبُونَ لِلطّيّبَاتِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي النّسَاءِ وَالرّجَالِ فَإِنّهُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْمَالَ وَالْأَقْوَالَ وَالْمَطَاعِمَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ وَالرّوَائِحَ إمّا بِعُمُومِ لَفْظِهِ أَوْ بِعُمُومِ مَعْنَاهُ .
فَصْلٌ فِي هَدْيِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حِفْظِ صِحّةِ الْعَيْنِ
[ حِفْظُ صِحّةِ الْعَيْنِ بِالِاكْتِحَالِ ]
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدٍ بْنِ هَوْذَةَ الْأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ بِالْإِثْمِدِ الْمُرَوّحِ عِنْدَ النّوْمِ وَقَالَ لِيَتّقِهِ الصّائِمُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْمُرَوّحُ الْمُطَيّبُ بِالْمِسْكِ . <258>
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا ثَلَاثًا فِي كُلّ عَيْنٍ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اكْتَحَلَ يَجْعَلُ فِي الْيُمْنَى ثَلَاثًا يَبْتَدِئُ بِهَا وَيَخْتِمُ بِهَا وَفِي الْيُسْرَى ثِنْتَيْنِ
(1/364)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ اكْتَحَلَ فَلْيُوتِرْ فَهَلْ الْوِتْرُ بِالنّسْبَةِ إلَى الْعَيْنَيْنِ كِلْتَيْهِمَا فَيَكُونُ فِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَفِي هَذِهِ ثِنْتَانِ وَالْيُمْنَى أَوْلَى بِالِابْتِدَاءِ وَالتّفْضِيلِ أَوْ هُوَ بِالنّسْبَةِ إلَى كُلّ عَيْنٍ فَيَكُونُ فِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَفِي هَذِهِ ثَلَاثٌ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ . <259>
[ فَوَائِدُ الْكُحْلِ لِلْعَيْنِ ]
وَفِي الْكُحْلِ حِفْظٌ لِصِحّةِ الْعَيْنِ وَتَقْوِيَةٌ لِلنّورِ الْبَاصِرِ وَجَلَاءٌ لَهَا وَتَلْطِيفٌ لِلْمَادّةِ الرّدِيئَةِ وَاسْتِخْرَاجٌ لَهَا مَعَ الزّينَةِ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ وَلَهُ عِنْدَ النّوْمِ مَزِيدُ فَضْلٍ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْكُحْلِ وَسُكُونِهَا عَقِيبَهُ عَنْ الْحَرَكَةِ الْمُضِرّةِ بِهَا وَخِدْمَةِ الطّبِيعَةِ لَهَا وَلِلْإِثْمِدِ مِنْ ذَلِكَ خَاصّيّةٌ .
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشّعْرَ
وَفِي " كِتَابِ أَبِي نُعَيْمٍ " : فَإِنّهُ مَنْبَتَةٌ لِلشّعْرِ مَذْهَبَةٌ لِلْقَذَى مَصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - يَرْفَعُهُ خَيْرُ أَكْحَالِكُمْ الْإِثْمِدُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشّعْرَ <260>
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ الْمُفْرَدَةِ الّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرَتّبَةً عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ
حَرْفُ الْهَمْزَةِ
إثْمِدٌ
(1/365)
هُوَ حَجَرُ الْكُحْلِ الْأَسْوَدِ يُؤْتَى بِهِ مِنْ أَصْبَهَانَ وَهُوَ أَفْضَلُهُ وَيُؤْتَى بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَغْرِبِ أَيْضًا وَأَجْوَدُهُ السّرِيعُ التّفْتِيتُ الّذِي لِفُتَاتِهِ بَصِيصٌ وَدَاخِلُهُ أَمْلَسُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَوْسَاخِ .
وَمِزَاجُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ يَنْفَعُ الْعَيْنَ وَيُقَوّيهَا وَيَشُدّ أَعْصَابَهَا وَيَحْفَظُ صِحّتَهَا وَيُذْهِبُ اللّحْمَ الزّائِدَ فِي الْقُرُوحِ وَيُدْمِلُهَا وَيُنَقّي أَوْسَاخَهَا وَيَجْلُوهَا وَيُذْهِبُ الصّدَاعَ إذَا اكْتَحَلَ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ الْمَائِيّ الرّقِيقِ وَإِذَا دُقّ وَخُلِطَ بِبَعْضِ الشّحُومِ الطّرِيّةِ وَلُطّخَ عَلَى حَرْقِ النّارِ لَمْ تَعْرِضْ فِيهِ خشكريشة وَنَفَعَ مِنْ التّنَفّطِ الْحَادِثِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ أَجْوَدُ أَكْحَالِ الْعَيْنِ لَا سِيّمَا لِلْمَشَايِخِ وَاَلّذِينَ قَدْ ضَعُفَتْ أَبْصَارُهُمْ إذَا جُعِلَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمِسْكِ .
أُتْرُجّ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْأُتْرُجّةِ طَعْمُهَا طَيّبٌ وَرِيحُهَا طَيّبٌ
فِي الْأُتْرُجّ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَهُوَ مُرَكّبٌ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ قِشْرٌ وَلَحْمٌ وَحَمْضٌ وَبَزْرٌ وَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِزَاجٌ يَخُصّهُ فَقِشْرُهُ حَارّ يَابِسٌ وَلَحْمُهُ حَارّ رَطْبٌ وَحَمْضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَبَزْرُهُ حَارّ يَابِسٌ . <261>
[ مَنَافِعُ قِشْرِ الْأُتْرُجّ ]
(1/366)
وَمِنْ مَنَافِعِ قِشْرِهِ أَنّهُ إذَا جُعِلَ فِي الثّيَابِ مَنَعَ السّوسَ وَرَائِحَتُهُ تُصْلِحُ فَسَادَ الْهَوَاءِ وَالْوَبَاءِ وَيُطَيّبُ النّكْهَةَ إذَا أَمْسَكَهُ فِي الْفَمِ وَيُحَلّلُ الرّيَاحَ وَإِذَا جُعِلَ فِي الطّعَامِ كَالْأَبَازِيرِ أَعَانَ عَلَى الْهَضْمِ . قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَعُصَارَةُ قِشْرِهِ تَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْأَفَاعِي شُرْبًا وَقِشْرُهُ ضِمَادًا وَحُرَاقَةُ قِشْرِهِ طِلَاءٌ جَيّدٌ لِلْبَرَصِ . انْتَهَى .
[ مَنَافِعُ لَحْمِ الْأُتْرُجّ ]
وَأَمّا لَحْمُهُ فَمُلَطّفٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الْمِرّةِ الصّفْرَاءِ قَامِعٌ لِلْبُخَارَاتِ الْحَارّةِ . وَقَالَ الْغَافِقِيّ : أَكْلُ لَحْمِهِ يَنْفَعُ الْبَوَاسِيرَ . انْتَهَى .
[ مَنَافِعُ حَمْضِ الْأُتْرُجّ ]
وَأَمّا حَمْضُهُ فَقَابِضٌ كَاسِرٌ لِلصّفْرَاءِ وَمُسَكّنٌ لِلْخَفَقَانِ الْحَارّ نَافِعٌ مِنْ الْيَرَقَانِ شُرْبًا وَاكْتِحَالًا قَاطِعٌ لِلْقَيْءِ الصّفْرَاوِيّ مُشَهّ لِلطّعَامِ عَاقِلٌ لِلطّبِيعَةِ نَافِعٌ مِنْ الْإِسْهَالِ الصّفْرَاوِيّ وَعُصَارَةُ حَمْضِهِ يُسَكّنُ غِلْمَةَ النّسَاءِ وَيَنْفَعُ طِلَاءً مِنْ الْكَلَفِ وَيَذْهَبُ بِالْقَوْبَاءِ وَيُسْتَدَلّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ فِي الْحِبْرِ إذَا وَقَعَ فِي الثّيَابِ قَلَعَهُ وَلَهُ قُوّةٌ تُلَطّفُ وَتَقْطَعُ وَتُبْرِدُ وَتُطْفِئُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَتُقَوّي الْمَعِدَةَ وَتَمْنَعُ حِدّةَ الْمِرّةِ الصّفْرَاءِ وَتُزِيلُ الْغَمّ الْعَارِضَ مِنْهَا وَتُسَكّنُ الْعَطَشَ .
[ مَنَافِعُ بَزْرِ الْأُتْرُجّ ]
(1/367)
وَأَمّا بَزْرُهُ فَلَهُ قُوّةٌ مُحَلّلَةٌ مُجَفّفَةٌ . وَقَالَ ابْنُ مَاسَوَيْهِ : خَاصّيّةُ حَبّهِ النّفْعُ مِنْ السّمُومِ الْقَاتِلَةِ إذَا شُرِبَ مِنْهُ وَزْنُ مِثْقَالٍ مُقَشّرًا بِمَاءٍ فَاتِرٍ وَطِلَاءٍ مَطْبُوخٍ . وَإِنْ دُقّ وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ اللّسْعَةِ نَفَعَ وَهُوَ مُلَيّنٌ لِلطّبِيعَةِ مُطَيّبٌ لِلنّكْهَةِ وَأَكْثَرُ هَذَا الْفِعْلِ مَوْجُودٌ فِي قِشْرِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ خَاصّيّةُ حَبّهِ النّفْعُ مِنْ لَسَعَاتِ الْعَقَارِبِ إذَا شُرِبَ مِنْهُ وَزْنُ مِثْقَالَيْنِ مُقَشّرًا بِمَاءٍ فَاتِرٍ وَكَذَلِكَ إذَا دُقّ وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ <262> اللّدْغَةِ . وَقَالَ غَيْرُهُ حَبّهُ يَصْلُحُ لِلسّمُومِ كُلّهَا وَهُوَ نَافِعٌ مِنْ لَدْغِ الْهَوَامّ كُلّهَا .
[ قِصّةٌ عَنْ الْأُتْرُجّ ]
وَذُكِرَ أَنّ بَعْضَ الْأَكَاسِرَةِ غَضِبَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْأَطِبّاءِ فَأَمَرَ بِحَبْسِهِمْ وَخَيّرَهُمْ أُدْمًا لَا يَزِيدُ لَهُمْ عَلَيْهِ فَاخْتَارُوا الْأُتْرُجّ فَقِيلَ لَهُمْ لِمَ اخْتَرْتُمُوهُ عَلَى غَيْرِهِ ؟ فَقَالُوا : لِأَنّهُ فِي الْعَاجِلِ رَيْحَانٌ وَمَنْظَرُهُ مُفْرِحٌ وَقِشْرُهُ طَيّبُ الرّائِحَةِ وَلَحْمُهُ فَاكِهَةٌ وَحَمْضُهُ أُدْمٌ وَحَبّهُ تِرْيَاقٌ وَفِيهِ دُهْنٌ .
[ تَشْبِيهُ الْمُؤْمِنِ بِالْأُتْرُجّ ]
وَحَقِيقٌ بِشَيْءٍ هَذِهِ مَنَافِعُهُ أَنْ يُشَبّهَ بِهِ خُلَاصَةُ الْوُجُودِ وَهُوَ الْمُؤْمِنُ الّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَكَانَ بَعْضُ السّلَفِ يُحِبّ النّظَرَ إلَيْهِ لِمَا فِي مَنْظَرِهِ مِنْ التّفْرِيحِ .
أَرُزّ
(1/368)
فِيهِ حَدِيثَانِ بَاطِلَانِ مَوْضُوعَانِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا لَكَانَ حَلِيمًا الثّانِي : كُلّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ فَفِيهِ دَاءٌ وَشِفَاءٌ إلّا الْأَرُزّ فَإِنّهُ شِفَاءٌ لَا دَاءَ فِيهِ ذَكَرْنَاهُمَا تَنْبِيهًا وَتَحْذِيرًا مِنْ نِسْبَتِهِمَا إلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَبَعْدُ فَهُوَ حَارّ يَابِسٌ وَهُوَ أَغْذَى الْحُبُوبِ بَعْدَ الْحِنْطَةِ وَأَحْمَدِهَا خَلْطًا يَشُدّ الْبَطْنَ شَدّا يَسِيرًا وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُدَبّغُهَا وَيَمْكُثُ فِيهَا . وَأَطِبّاءُ الْهِنْدِ تَزْعُمُ أَنّهُ أَحْمَدُ الْأَغْذِيَةِ وَأَنْفَعُهَا إذَا طُبِخَ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي خِصْبِ الْبَدَنِ وَزِيَادَةِ الْمَنِيّ وَكَثْرَةِ التّغْذِيَةِ وَتَصْفِيَةِ اللّوْنِ .
أَرْزٌ
بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الرّاءِ وَهُوَ الصّنَوْبَرُ ذَكَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَوْلِهِ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْخَامَةِ مِنْ الزّرْعِ تُفَيّئُهَا الرّيَاحُ تُقِيمُهَا مَرّةً وَتُمِيلُهَا أُخْرَى وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ مَثَلُ الْأَرْزَةِ لَا تَزَالُ قَائِمَةً عَلَى أَصْلِهَا حَتّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرّةً وَاحِدَةً وَحَبّهُ حَارّ رَطْبٌ وَفِيهِ إنْضَاجٌ وَتَلْيِينٌ وَتَحْلِيلٌ وَلَذْعٌ يَذْهَبُ بِنَقْعِهِ فِي الْمَاءِ وَهُوَ عَسِرُ الْهَضْمِ وَفِيهِ تَغْذِيَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ جَيّدٌ لِلسّعَالِ وَلِتَنْقِيَةِ <263> رُطُوبَاتِ الرّئَةِ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيّ وَيُولِدُ مَغَصًا وَتِرْيَاقُهُ حَبّ الرّمّانِ الْمُزّ .
إذْخِرٌ
(1/369)
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِي مَكّةَ : لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " فَقَالَ لَه ُ الْعَبّاس رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّهُ لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ " إلّا الْإِذْخِرَ
وَالْإِذْخِرُ حَارّ فِي الثّانِيَةِ يَابِسٌ فِي الْأُولَى لَطِيفٌ مُفَتّحٌ لِلسّدَدِ وَأَفْوَاهِ الْعُرُوقِ يُدِرّ الْبَوْلَ وَالطّمَثَ وَيُفَتّتُ الْحَصَى وَيُحَلّلُ الْأَوْرَامَ الصّلْبَةَ فِي الْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَيْنِ شُرْبًا وَضِمَادًا وَأَصْلُهُ يُقَوّي عَمُودَ الْأَسْنَانِ وَالْمَعِدَةَ وَيُسَكّنُ الْغَثَيَانَ وَيَعْقِلُ الْبَطْنَ .
حَرْفُ الْبَاءِ
بِطّيخٌ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَأْكُلُ الْبِطّيخَ بِالرّطَبِ يَقُولُ نَكْسِرُ حَرّ هَذَا بِبَرْدِ هَذَا وَبَرْدَ هَذَا بِحَرّ هَذَا
وَفِي الْبِطّيخِ عِدّةُ أَحَادِيثَ لَا يَصِحّ مِنْهَا شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَخْضَرُ وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ وَفِيهِ جَلَاءٌ وَهُوَ أَسْرَعُ انْحِدَارًا عَنْ الْمَعِدَةِ مِنْ الْقِثّاءِ وَالْخِيَارِ وَهُوَ سَرِيعُ الِاسْتِحَالَةِ إلَى أَيّ خَلْطٍ كَانَ صَادَفَهُ فِي الْمَعِدَةِ وَإِذَا كَانَ آكِلُهُ مَحْرُورًا انْتَفَعَ بِهِ جِدّا وَإِنْ كَانَ مَبْرُودًا دُفِعَ ضَرَرُهُ بِيَسِيرٍ مِنْ الزّنْجَبِيلِ وَنَحْوِهِ وَيَنْبَغِي أَكْلُهُ قَبْلَ الطّعَامِ وَيُتْبِعُ بِهِ وَإِلّا غَثّى وَقُيّئَ وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ <264> إنّهُ قَبْلَ الطّعَامِ يَغْسِلُ الْبَطْنَ غَسْلًا وَيَذْهَبُ بِالدّاءِ أَصْلًا .
بَلَحٌ
(1/370)
رَوَى النّسَائِيّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِمَا " : مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتّمْرِ فَإِنّ الشّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى ابْنِ آدَمَ يَأْكُلُ الْبَلَحَ بِالتّمْرِ يَقُولُ بَقِيَ ابْنُ آدَمَ حَتّى أَكَلَ الْحَدِيثَ بِالْعَتِيقِ . وَفِي رِوَايَةٍ كُلُوا الْبَلَحَ بِالتّمْرِ فَإِنّ الشّيْطَانَ يَحْزَنُ إذَا رَأَى ابْنَ آدَمَ يَأْكُلُهُ يَقُولُ عَاشَ ابْنُ آدَمَ حَتّى أَكَلَ الْجَدِيدَ بِالْخَلَقِ رَوَاهُ الْبَزّارُ فِي " مُسْنَدِهِ " وَهَذَا لَفْظُهُ .
قُلْت : الْبَاءُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى : مَعَ أَيْ كُلُوا هَذَا مَعَ هَذَا قَالَ بَعْضُ أَطِبّاءِ الْإِسْلَامِ إنّمَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَكْلِ الْبَلَحِ بِالتّمْرِ وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَكْلِ الْبُسْرِ مَعَ التّمْرِ لِأَنّ الْبَلَحَ بَارِدٌ يَابِسٌ وَالتّمْرَ حَارّ رَطْبٌ فَفِي كُلّ مِنْهُمَا إصْلَاحٌ لِلْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْبُسْرُ مَعَ التّمْرِ فَإِنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَارّ وَإِنْ كَانَتْ حَرَارَةُ التّمْرِ أَكْثَرَ وَلَا يَنْبَغِي مِنْ جِهَةِ الطّبّ الْجَمْعُ بَيْنَ حَارّيْنِ أَوْ بَارِدَيْنِ كَمَا تَقَدّمَ .
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التّنْبِيهُ عَلَى صِحّةِ أَصْلِ صِنَاعَةِ الطّبّ وَمُرَاعَاةِ التّدْبِيرِ الّذِي يَصْلُحُ فِي دَفْعِ كَيْفِيّاتِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَمُرَاعَاةِ الْقَانُونِ الطّبّيّ الّذِي تُحْفَظُ بِهِ الصّحّةُ .
(1/371)
وَفِي الْبَلَحِ بُرُودَةٌ وَيُبُوسَةٌ وَهُوَ يَنْفَعُ الْفَمَ وَاللّثَةَ وَالْمَعِدَةَ وَهُوَ رَدِيءٌ لِلصّدْرِ وَالرّئَةِ بِالْخُشُونَةِ الّتِي فِيهِ بَطِيءٌ فِي الْمَعِدَةِ يَسِيرُ التّغْذِيَةِ وَهُوَ لِلنّخْلَةِ كَالْحِصْرِمِ لِشَجَرَةِ الْعِنَبِ وَهُمَا جَمِيعًا يُوَلّدَانِ رِيَاحًا وَقَرَاقِرَ وَنَفْخًا وَلَا سِيّمَا إذَا شُرِبَ عَلَيْهِمَا الْمَاءُ وَدَفْعُ مَضَرّتِهِمَا بِالتّمْرِ أَوْ بِالْعَسَلِ وَالزّبْدِ .
بُسْرٌ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : أَنّ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيْهَانِ لَمّا ضَافَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا جَاءَهُمْ بِعَذْقٍ - وَهُوَ مِنْ النّخْلَةِ كَالْعُنْقُودِ مِنْ <265> الْعِنَبِ - فَقَالَ لَهُ " هَلّا انْتَقَيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ فَقَالَ " أَحْبَبْتُ أَنْ تَنْتَقُوا مِنْ بُسْرِهِ وَرُطَبِهِ .
الْبُسْرُ حَارّ يَابِسٌ وَيُبْسُهُ أَكْثَرُ مِنْ حَرّهِ يُنَشّفُ الرّطُوبَةَ وَيَدْبَغُ الْمَعِدَةَ وَيَحْبِسُ الْبَطْنَ وَيَنْفَعُ اللّثَةَ وَالْفَمَ وَأَنْفَعُهُ مَا كَانَ هَشّا وَحُلْوًا وَكَثْرَةُ أَكْلِهِ وَأَكْلِ الْبَلَحِ يُحْدِثُ السّدَدَ فِي الْأَحْشَاءِ .
بَيْضٌ
ذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ فِي " شُعَبِ الْإِيمَانِ " أَثَرًا مَرْفُوعًا : أَنّ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ شَكَا إلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ الضّعْفَ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِ الْبَيْض . وَفِي ثُبُوتِهِ نَظَرٌ وَيُخْتَارُ مِنْ الْبَيْضِ الْحَدِيثُ عَلَى الْعَتِيقِ وَبَيْضُ الدّجَاجِ عَلَى سَائِرِ بَيْضِ الطّيْرِ وَهُوَ مُعْتَدِلٌ يَمِيلُ إلَى الْبُرُودَةِ قَلِيلًا .
(1/372)
قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَمُحّهُ حَارّ رَطْبٌ يُولِدُ دَمًا صَحِيحًا مَحْمُودًا وَيُغَذّي غِذَاءً يَسِيرًا وَيُسْرِعُ الِانْحِدَارَ مِنْ الْمَعِدَةِ إذَا كَانَ رَخْوًا .
وَقَالَ غَيْرُهُ مُحّ الْبَيْضِ مُسَكّنٌ لِلْأَلَمِ مُمَلّسٌ لِلْحَلْقِ وَقَصَبَةِ الرّئَةِ نَافِعٌ لِلْحَلْقِ وَالسّعَالِ وَقُرُوحِ الرّئَةِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ مُذْهِبٌ لِلْخُشُونَةِ لَا سِيّمَا إذَا أُخِذَ بِدُهْنِ اللّوْزِ الْحُلْوِ وَمُنْضِجٌ لِمَا فِي الصّدْرِ مُلَيّنٌ لَهُ مُسَهّلٌ لِخُشُونَةِ الْحَلْقِ وَبَيَاضُهُ إذَا قُطِرَ فِي الْعَيْنِ الْوَارِمَةِ وَرَمًا حَارّا بَرّدَهُ وَسَكّنَ الْوَجَعَ وَإِذَا لُطّخَ بِهِ حَرْقُ النّارِ أَوْ مَا يَعْرِضُ لَهُ لَمْ يَدَعْهُ يَتَنَفّطُ وَإِذَا لُطّخَ بِهِ الْوَجَعُ مَنَعَ الِاحْتِرَاقَ الْعَارِضَ مِنْ الشّمْسِ إذَا خُلِطَ بالكندر وَلُطّخَ عَلَى الْجَبْهَةِ نَفَعَ مِنْ النّزْلَةِ .
وَذَكَرَهُ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " فِي الْأَدْوِيَةِ الْقَلْبِيّةِ ثُمّ قَالَ وَهُوَ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُطْلَقَةِ - فَإِنّهُ مِمّا لَهُ مَدْخَلٌ فِي تَقْوِيَةِ الْقَلْبِ جِدّا أَعْنِي الصّفْرَةَ وَهِيَ <266> تَجْمَعُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : سُرْعَةُ الِاسْتِحَالَةِ إلَى الدّمِ وَقِلّةُ الْفَضْلَةِ وَكَوْنُ الدّمِ الْمُتَوَلّدِ مِنْهُ مُجَانِسًا لِلدّمِ الّذِي يَغْذُو الْقَلْبَ خَفِيفًا مُنْدَفِعًا إلَيْهِ بِسُرْعَةٍ وَلِذَلِكَ هُوَ أَوْفَقُ مَا يُتَلَافَى بِهِ عَادِيَةُ الْأَمْرَاضِ الْمُحَلّلَةِ لِجَوْهَرِ الرّوحِ .
بَصَلٌ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا سُئِلَتْ عَنْ الْبَصَلِ فَقَالَتْ إنّ آخِرَ طَعَامٍ أَكَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ فِيهِ بَصَلٌ
(1/373)
وَثَبَتَ عَنْهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " أَنّهُ مَنَعَ آكِلَهُ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ .
[ مَنَافِعُ البصل ]
وَالْبَصَلُ حَارّ فِي الثّالِثَةِ وَفِيهِ رُطُوبَةٌ فَضْلِيّةٌ يَنْفَعُ مِنْ تَغَيّرِ الْمِيَاهِ وَيَدْفَعُ رِيحَ السّمُومِ وَيُفَتّقُ الشّهْوَةَ وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُهَيّجُ الْبَاهَ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيّ وَيُحَسّنُ اللّوْنَ وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَيَجْلُو الْمَعِدَةَ وَبَزْرُهُ يُذْهِبُ الْبَهَقَ وَيُدَلّكُ بِهِ حَوْلَ دَاءِ الثّعْلَبِ فَيَنْفَعُ جِدّا وَهُوَ بِالْمِلْحِ يُقْلِعُ الثّآلِيلِ وَإِذَا شَمّهُ مَنْ شَرِبَ دَوَاءً مُسَهّلًا مَنَعَهُ مِنْ الْقَيْءِ وَالْغَثَيَانِ وَأَذْهَبَ رَائِحَةَ ذَلِكَ الدّوَاءِ وَإِذَا اسْتَعَطَ بِمَائِهِ نَقّى الرّأْسَ وَيُقْطَرُ فِي الْأُذُنِ لِثِقَلِ السّمْعِ وَالطّنِينِ وَالْقَيْحِ وَالْمَاءِ الْحَادِثِ فِي الْأُذُنِينَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْمَاءِ النّازِلِ فِي الْعَيْنَيْنِ اكْتِحَالًا يُكْتَحَلُ بِبَزْرِهِ مَعَ الْعَسَلِ لِبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْمَطْبُوخُ مِنْهُ كَثِيرُ الْغِذَاءِ يَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ وَالسّعَالِ وَخُشُونَةِ الصّدْرِ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيُلَيّنُ الطّبْعَ وَيَنْفَعُ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ غَيْرِ الْكَلِبِ إذَا نُطِلَ عَلَيْهَا مَاؤُهُ بِمِلْحٍ وَسَذَابٍ وَإِذَا اُحْتُمِلَ فَتَحَ أَفْوَاهِ الْبَوَاسِيرِ .
[ ضَرَرُ البَصَل ]
وَأَمّا ضَرَرُهُ فَإِنّهُ يُورِثُ الشّقِيقَةَ وَيُصَدّعُ الرّأْسَ وَيُوَلّدُ أَرْيَاحًا وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ وَكَثْرَةُ أَكْلِهِ تُورِثُ النّسْيَانَ وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ وَيُغَيّرُ رَائِحَةَ الْفَمِ وَالنّكْهَةِ <267> وَيُؤْذِي الْجَلِيسَ وَالْمَلَائِكَةَ وَإِمَاتَتُهُ طَبْخًا تَذْهَبُ بِهَذِهِ الْمُضِرّاتِ مِنْهُ .
(1/374)
وَفِي السّنَنِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ آكِلَهُ وَآكِلَ الثّومِ أَنْ يُمِيتَهُمَا طَبْخًا وَيُذْهِبَ رَائِحَتَهُ مَضْغُ وَرَقِ السّذَابِ عَلَيْهِ.
بَاذِنْجَانٌ
فِي الْحَدِيثِ الْمَوْضُوعِ الْمُخْتَلَقِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَاذِنْجَانُ لِمَا أُكِلَ لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ مِمّا يُسْتَقْبَحُ نِسْبَتُهُ إلَى آحَادِ الْعُقَلَاءِ فَضْلًا عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَبَعْدُ فَهُوَ نَوْعَانِ أَبْيَضُ وَأَسْوَدُ وَفِيهِ خِلَافٌ هَلْ هُوَ بَارِدٌ أَوْ حَارّ ؟ وَالصّحِيحُ أَنّهُ حَارّ وَهُوَ مُوَلّدٌ لِلسّوْدَاءِ وَالْبَوَاسِيرِ وَالسّدَدِ وَالسّرَطَانِ وَالْجُذَامِ وَيُفْسِدُ اللّوْنَ وَيُسَوّدُهُ وَيَضُرّ بِنَتِنِ الْفَمِ وَالْأَبْيَضُ مِنْهُ الْمُسْتَطِيلُ عَارٍ مِنْ ذَلِكَ .
حَرْفُ التّاءِ
تَمْرٌ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ تَصَبّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ وَفِي لَفْظٍ مِنْ تَمْرِ الْعَالِيَةِ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سَمّ وَلَا سِحْرٌ وَثَبَتَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ بَيْتٌ لَا تَمْرَ فِيهِ جِيَاعٌ أَهْلُهُ وَثَبَتَ عَنْهُ أَكْلُ التّمْرِ بِالزّبْدِ وَأَكْلُ التّمْرِ بِالْخُبْزِ وَأَكْلُهُ مُفْرَدًا .
(1/375)
وَهُوَ حَارّ فِي الثّانِيَةِ وَهَلْ هُوَ رَطْبٌ فِي الْأُولَى أَوْ يَابِسٌ فِيهَا ؟ . عَلَى <268> قَوْلَيْنِ . وَهُوَ مُقَوّ لِلْكَبِدِ مُلَيّنٌ لِلطّبْعِ يَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَلَا سِيّمَا مَعَ حَبّ الصّنَوْبَرِ وَيُبْرِئُ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ كَأَهْلِ الْبِلَادِ الْبَارِدَةِ فَإِنّهُ يُورِثُ لَهُمْ السّدَدَ وَيُؤْذِي الْأَسْنَانَ وَيُهَيّجُ الصّدَاعَ وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِاللّوْزِ وَالْخِشْخَاشِ وَهُوَ مِنْ أَكْثَرِ الثّمَارِ تَغْذِيَةً لِلْبَدَنِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْجَوْهَرِ الْحَارّ الرّطْبِ وَأَكْلُهُ عَلَى الرّيقِ يَقْتُلُ الدّودَ فَإِنّهُ مَعَ حَرَارَتِهِ فِيهِ قُوّةٌ تِرْيَاقِيّةٌ فَإِذَا أُدِيمَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الرّيقِ خَفّفَ مَادّةَ الدّودِ وَأَضْعَفَهُ وَقَلّلَهُ أَوْ قَتَلَهُ وَهُوَ فَاكِهَةٌ وَغِذَاءٌ وَدَوَاءٌ وَشَرَابٌ وَحَلْوَى .
تِينٌ
لَمّا لَمْ يَكُنْ التّينُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَالْمَدِينَةِ لَمْ يَأْتِ لَهُ ذِكْرٌ فِي السّنّةِ فَإِنّ أَرْضَهُ تُنَافِي أَرْضَ النّخْلِ وَلَكِنْ قَدْ أَقْسَمَ اللّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَفَوَائِدِهِ وَالصّحِيحُ أَنّ الْمُقْسَمَ بِهِ هُوَ التّينُ الْمَعْرُوفُ .
وَهُوَ حَارّ وَفِي رُطُوبَتِهِ وَيُبُوسَتِهِ قَوْلَانِ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ النّاضِجُ الْقِشْرُ يَجْلُو رَمْلَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَيُؤَمّنُ مِنْ السّمُومِ وَهُوَ أَغْذَى مِنْ جَمِيعِ الْفَوَاكِهِ وَيَنْفَعُ خُشُونَةَ الْحَلْقِ وَالصّدْرِ وَقَصَبَةِ الرّئَةِ وَيَغْسِلُ الْكَبِدَ وَالطّحَالَ وَيُنَقّي الْخَلْطَ الْبَلْغَمِيّ مِنْ الْمَعِدَةِ وَيَغْذُو الْبَدَنَ غِذَاءً جَيّدًا إلّا أَنّهُ يُوَلّدُ الْقَمْلَ إذَا أَكْثَرَ مِنْهُ جِدّا .
(1/376)
وَيَابِسُهُ يَغْذُو وَيَنْفَعُ الْعَصَبَ وَهُوَ مَعَ الْجَوْزِ وَاللّوْزِ مَحْمُودٌ قَالَ جالينوس : " وَإِذَا أُكِلَ مَعَ الْجَوْزِ وَالسّذَابِ قَبْلَ أَخْذِ السّمّ الْقَاتِلِ نَفَعَ وَحَفِظَ مِنْ الضّرَرِ .
وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي الدّرْدَاءِ أُهْدِيَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَبَقٌ مِنْ تِينٍ فَقَالَ " كُلُوا وَأَكَلَ مِنْهُ وَقَالَ " لَوْ قُلْتُ إنّ فَاكِهَةً نَزَلَتْ مِنْ الْجَنّةِ قُلْت : هَذِهِ لِأَنّ فَاكِهَةَ الْجَنّةِ بِلَا عَجَمٍ فَكُلُوا مِنْهَا فَإِنّهَا تَقْطَعُ الْبَوَاسِيرَ وَتَنْفَعُ مِنْ النّقْرِسِ وَفِي ثُبُوتِ هَذَا نَظَرٌ . <269>
وَاللّحْمُ مِنْهُ أَجْوَدُ وَيُعَطّشُ الْمَحْرُورِينَ وَيُسَكّنُ الْعَطَشَ الْكَائِنَ عَنْ الْبَلْغَمِ الْمَالِحِ وَيَنْفَعُ السّعَالَ الْمُزْمِنَ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيَفْتَحُ سُدَدَ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَيُوَافِقُ الْكُلَى وَالْمَثَانَةَ وَلِأَكْلِهِ عَلَى الرّيقِ مَنْفَعَةٌ عَجِيبَةٌ فِي تَفْتِيحِ مَجَارِي الْغِذَاءِ وَخُصُوصًا بِاللّوْزِ وَالْجَوْزِ وَأَكْلُهُ مَعَ الْأَغْذِيَةِ الْغَلِيظَةِ رَدِيءٌ جِدّا وَالتّوتُ الْأَبْيَضُ قَرِيبٌ مِنْهُ لَكِنّهُ أَقَلّ تَغْذِيَةً وَأَضَرّ بِالْمَعِدَةِ .
تَلْبِينَةٌ قَدْ تَقَدّمَ إنّهَا مَاءُ الشّعِيرِ الْمَطْحُونِ وَذَكَرْنَا مَنَافِعَهَا وَأَنّهَا أَنْفَعُ لِأَهْلِ الْحِجَازِ مِنْ مَاءِ الشّعِيرِ الصّحِيحِ .
حَرْفُ الثّاءِ
ثَلْجٌ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ اللّهُمّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالْمَاءِ وَالثّلْجِ وَالْبَرَدِ
[ الدّاءُ يُدَاوَى بِضِدّهِ ]
(1/377)
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ الدّاءَ يُدَاوَى بِضَدّهِ فَإِنّ فِي الْخَطَايَا مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْحَرِيقِ مَا يُضَادّهُ الثّلْجُ وَالْبَرَدُ وَالْمَاءُ الْبَارِدُ وَلَا يُقَالُ إنّ الْمَاءَ الْحَارّ أَبْلَغُ فِي إزَالَةِ الْوَسَخِ لِأَنّ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنْ تَصْلِيبِ الْجِسْمِ وَتَقْوِيَتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْحَارّ وَالْخَطَايَا تُوجِبُ أَثَرَيْنِ التّدْنِيسَ وَالْإِرْخَاءَ فَالْمَطْلُوبُ مُدَاوَاتُهَا بِمَا يُنَظّفُ الْقَلْبَ وَيُصَلّبُهُ فَذَكَرَ الْمَاءَ الْبَارِدَ وَالثّلْجَ وَالْبَرَدَ إشَارَةً إلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ .
وَبَعْدُ فَالثّلْجُ بَارِدٌ عَلَى الْأَصَحّ وَغَلِطَ مَنْ قَالَ حَارّ وَشُبْهَتُهُ تَوَلّدُ الْحَيَوَانِ فِيهِ وَهَذَا لَا يَدُلّ عَلَى حَرَارَتِهِ فَإِنّهُ يَتَوَلّدُ فِي الْفَوَاكِهِ الْبَارِدَةِ وَفِي الْخَلّ وَأَمّا تَعْطِيشُهُ فَلِتَهْيِيجِهِ الْحَرَارَةَ لَا لِحَرَارَتِهِ فِي نَفْسِهِ وَيَضُرّ الْمَعِدَةَ وَالْعَصَبَ وَإِذَا <270> كَانَ وَجَعُ الْأَسْنَانِ مِنْ حَرَارَةٍ مُفْرِطَةٍ سَكّنَهَا .
ثُومٌ
هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْبَصَلِ وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ أَكَلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا وَأُهْدِيَ إلَيْهِ طَعَامٌ فِيهِ ثُومٌ فَأَرْسَلَ بِهِ إلَى أَبِي أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ تَكْرَهُهُ وَتُرْسِلُ بِهِ إلَيّ ؟ فَقَالَ إنّي أُنَاجِي مَنْ لَا تُنَاجِي
(1/378)
وَبَعْدُ فَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الرّابِعَةِ يُسَخّنُ تَسْخِينًا قَوِيّا وَيُجَفّفُ تَجْفِيفًا بَالِغًا نَافِعٌ لِلْمَبْرُودِينَ وَلِمَنْ مِزَاجُهُ بَلْغَمِيّ وَلِمَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْفَالِجِ وَهُوَ مُجَفّفٌ لِلْمَنِيّ مُفَتّحٌ لِلسّدَدِ مُحَلّلٌ لِلرّيَاحِ الْغَلِيظَةِ هَاضِمٌ لِلطّعَامِ قَاطِعٌ لِلْعَطَشِ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ مُدِرّ لِلْبَوْلِ يَقُومُ فِي لَسْعِ الْهَوَامّ وَجَمِيعِ الْأَوْرَامِ الْبَارِدَةِ مَقَامَ التّرْيَاقِ وَإِذَا دُقّ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ عَلَى نَهْشِ الْحَيّاتِ أَوْ عَلَى لَسْعِ الْعَقَارِبِ نَفَعَهَا وَجَذَبَ السّمُومَ مِنْهَا وَيُسَخّنُ الْبَدَنَ وَيَزِيدُ فِي حَرَارَتِهِ وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَيُحَلّلُ النّفْخَ وَيُصَفّي الْحَلْقَ وَيَحْفَظُ صِحّةَ أَكْثَرِ الْأَبْدَانِ وَيَنْفَعُ مَنْ تَغَيّرِ الْمِيَاهِ وَالسّعَالِ الْمُزْمِنِ وَيُؤْكَلُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَمَشْوِيّا <271> وَيَنْفَعُ مِنْ وَجَعِ الصّدْرِ مِنْ الْبَرْدِ وَيُخْرِجُ الْعَلَقَ مِنْ الْحَلْقِ وَإِذَا دُقّ مَعَ الْخَلّ وَالْمِلْحِ وَالْعَسَلِ ثُمّ وُضِعَ عَلَى الضّرْسِ الْمُتَأَكّلِ فَتّتَهُ وَأَسْقَطَهُ وَعَلَى الضّرْسِ الْوَجِعِ سَكّنَ وَجَعَهُ .
وَإِنّ دُقّ مِنْهُ مِقْدَارُ دِرْهَمَيْنِ وَأُخِذَ مَعَ مَاءِ الْعَسَلِ أَخْرَجَ الْبَلْغَمَ وَالدّودَ وَإِذَا طُلِيَ بِالْعَسَلِ عَلَى الْبَهَقِ نَفَعَ .
[ مَضَارالثوم ]
وَمِنْ مَضَارّهِ أَنّهُ يُصَدّعُ وَيَضُرّ الدّمَاغَ وَالْعَيْنَيْنِ وَيُضْعِفُ الْبَصَرَ وَالْبَاهَ وَيُعَطّشُ وَيُهَيّجُ الصّفْرَاءَ وَيَجِيفُ رَائِحَةَ الْفَمِ وَيُذْهِبُ رَائِحَتَهُ أَنْ يُمْضَغَ عَلَيْهِ وَرَقُ السّذَابِ .
ثَرِيدٌ
(1/379)
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطّعَامِ
وَالثّرِيد ُ وَإِنْ كَانَ مُرَكّبًا فَإِنّهُ مُرَكّبٌ مِنْ خُبْزٍ وَلَحْمٍ فَالْخُبْزُ أَفْضَلُ الْأَقْوَاتِ وَاللّحْمُ سَيّدُ الْإِدَامِ فَإِذَا اجْتَمَعَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُمَا غَايَةٌ .
[ تَنَازُعُ النّاسِ فِي أَفْضَلِيّةِ اللّحْمِ عَلَى الْخُبْزِ ]
وَتَنَازَعَ النّاسُ أَيّهُمَا أَفْضَلُ ؟ وَالصّوَابُ أَنّ الْحَاجَةَ إلَى الْخُبْزِ أَكْثَرُ وَأَعَمّ وَاللّحْمُ أَجَلّ وَأَفْضَلُ وَهُوَ أَشْبَهُ بِجَوْهَرِ الْبَدَنِ مِنْ كُلّ مَا عَدَاهُ وَهُوَ طَعَامُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِمَنْ طَلَبَ الْبَقْلَ وَالْقِثّاءَ وَالْفُوَمَ وَالْعَدَسَ وَالْبَصَلَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَى بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ [ الْبَقَرَةِ 62 ] وَكَثِيرٌ مِنْ السّلَفِ عَلَى أَنّ الْفُومَ الْحِنْطَةُ وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ نَصّ عَلَى أَنّ اللّحْمَ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ .
حَرْفُ الْجِيمِ
جُمّارٌ
قَلْبُ النّخْلِ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جُلُوسٌ إذْ أُتِيَ بِجُمّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ الشّجَرِ شَجَرَةً مِثْلَ الرّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا الْحَدِيثَ " . <272>
(1/380)
وَالْجُمّارُ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الْأُولَى يَخْتِمُ الْقُرُوحَ وَيَنْفَعُ مِنْ نَفْثِ الدّمِ وَاسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ وَغَلَبَةِ الْمِرّةِ الصّفْرَاءِ وَثَائِرَةِ الدّمِ وَلَيْسَ بِرَدِيءِ الْكَيْمُوسِ وَيَغْذُو غِذَاءً يَسِيرًا وَهُوَ بَطِيءُ الْهَضْمِ وَشَجَرَتُهُ كُلّهَا مَنَافِعُ وَلِهَذَا مَثّلَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالرّجُلِ الْمُسْلِمِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَمَنَافِعِهِ .
جُبْنٌ
فِي " السّنَنِ " عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أُتِيَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجُبْنَةٍ فِي تَبُوكَ فَدَعَا بِسِكّينٍ وَسَمّى وَقَطَعَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَأَكَلَهُ الصّحَابَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ بِالشّامِ وَالْعِرَاقِ وَالرّطَبُ مِنْهُ غَيْرُ الْمَمْلُوحِ جَيّدٌ لِلْمَعِدَةِ هَيّنُ السّلُوكِ فِي الْأَعْضَاءِ يَزِيدُ فِي اللّحْمِ وَيُلَيّنُ الْبَطْنَ تَلْيِينًا مُعْتَدِلًا وَالْمَمْلُوحُ أَقَلّ غِذَاءً مِنْ الرّطَبِ وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ مُؤْذٍ لِلْأَمْعَاءِ وَالْعَتِيقُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ وَكَذَا الْمَشْوِيّ وَيَنْفَعُ الْقُرُوحَ وَيَمْنَعُ الْإِسْهَالَ .
وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ مَشْوِيّا كَانَ أَصْلَحَ لِمِزَاجِهِ فَإِنّ النّارَ تُصْلِحُهُ وَتُعَدّلُهُ وَتُلَطّفُ جَوْهَرَهُ وَتُطَيّبُ طَعْمَهُ وَرَائِحَتَهُ . وَالْعَتِيقُ الْمَالِحُ حَارّ يَابِسٌ وَشَيّهُ يُصْلِحُهُ أَيْضًا بِتَلْطِيفِ جَوْهَرِهِ وَكَسْرِ حَرَافَتِهِ لِمَا تَجْذِبُهُ النّارُ مِنْهُ مِنْ الْأَجْزَاءِ الْحَارّةِ الْيَابِسَةِ الْمُنَاسِبَةِ لَهَا وَالْمُمَلّحُ مِنْهُ يُهْزِلُ وَيُوَلّدُ حَصَاةَ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْمَعِدَةِ وَخَلْطُهُ بِالْمُلَطّفَاتِ أَرْدَأُ بِسَبَبِ تَنْفِيذِهَا لَهُ إلَى الْمَعِدَةِ .
حَرْفُ الْحَاءِ
حِنّاءٌ
(1/381)
قَدْ تَقَدّمَتْ الْأَحَادِيثُ فِي فَضْلِهِ وَذِكْرِ مَنَافِعِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ . <273>
حَبّةُ السّوْدَاءِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ الْحَبّةِ السّوْدَاءِ فَإِنّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ إلّا السّامَ وَالسّامُ الْمَوْتُ .
الْحَبّةُ السّوْدَاءُ هِيَ الشّونِيزُ فِي لُغَةِ الْفُرْسِ وَهِيَ الْكَمّونُ الْأَسْوَدُ وَتُسَمّى الْكَمّونُ الْهِنْدِيّ قَالَ الْحَرْبِيّ عَنْ الْحَسَنِ إنّهَا الْخَرْدَلُ وَحَكَى الْهَرَوِيّ أَنّهَا الْحَبّةُ الْخَضْرَاءُ ثَمَرَةُ الْبُطْمِ وَكِلَاهُمَا وَهْمٌ وَالصّوَابُ أَنّهَا الشّونِيزُ .
وَهِيَ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ جِدّا وَقَوْلُهُ " شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ " مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى : تُدَمّرُ كُلّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبّهَا [ الْأَحْقَافِ 25 ] أَيْ كُلّ شَيْءٍ يَقْبَلُ التّدْمِيرَ وَنَظَائِرَهُ وَهِيَ نَافِعَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْرَاضِ الْبَارِدَةِ وَتَدْخُلُ فِي الْأَمْرَاضِ الْحَارّةِ الْيَابِسَةِ بِالْعَرْضِ فَتُوَصّلُ قُوَى الْأَدْوِيَةِ الْبَارِدَةِ الرّطْبَةِ إلَيْهَا بِسُرْعَةِ تَنْفِيذِهَا إذَا أَخَذَ يَسِيرَهَا .
(1/382)
وَقَدْ نَصّ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " وَغَيْرُهُ عَلَى الزّعْفَرَانِ فِي قُرْصِ الْكَافُورِ لِسُرْعَةِ تَنْفِيذِهِ وَإِيصَالِهِ قُوّتَهُ وَلَهُ نَظَائِرُ يَعْرِفُهَا حُذّاقُ الصّنَاعَةِ وَلَا تَسْتَبْعِدْ مَنْفَعَةَ الْحَارّ فِي أَمْرَاضٍ حَارّةٍ بِالْخَاصّيّةِ فَإِنّك تَجِدُ ذَلِكَ فِي أَدْوِيَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا : الأنزروت وَمَا يُرَكّبُ مَعَهُ مِنْ أَدْوِيَةِ الرّمَدِ كَالسّكّرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُفْرَدَاتِ الْحَارّةِ وَالرّمَدُ وَرَمٌ حَارّ بِاتّفَاقِ الْأَطِبّاءِ وَكَذَلِكَ نَفْعُ الْكِبْرِيتِ الْحَارّ جِدّا مِنْ الْجَرَبِ .
وَالشّونِيزُ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّالِثَةِ مُذْهِبٌ لِلنّفْخِ مُخْرِجٌ لِحَبّ الْقَرَعِ نَافِعٌ مِنْ الْبَرَصِ وَحُمّى الرّبْعِ وَالْبَلْغَمِيّةِ مُفَتّحٌ لِلسّدَدِ وَمُحَلّلٌ لِلرّيَاحِ مُجَفّفٌ لِبَلّةِ الْمَعِدَةِ وَرُطُوبَتِهَا . وَإِنْ دُقّ وَعُجِنَ بِالْعَسَلِ وَشُرِبَ بِالْمَاءِ الْحَارّ أَذَابَ الْحَصَاةَ الّتِي تَكُونُ فِي الْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَثَانَةِ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَالْحَيْضَ وَاللّبَنَ إذَا أُدِيمَ شُرْبُهُ أَيّامًا <274> وَإِنْ سُخّنَ بِالْخَلّ وَطُلِيَ عَلَى الْبَطْنِ قَتَلَ حَبّ الْقَرَعِ فَإِنْ عُجِنَ بِمَاءِ الْحَنْظَلِ الرّطْبِ أَوْ الْمَطْبُوخِ كَانَ فِعْلُهُ فِي إخْرَاجِ الدّودِ أَقْوَى وَيَجْلُو وَيَقْطَعُ وَيُحَلّلُ وَيَشْفِي مِنْ الزّكَامِ الْبَارِدِ إذَا دُقّ وَصُيّرَ فِي خِرْقَةٍ وَاشْتُمّ دَائِمًا أَذْهَبَهُ .
(1/383)
وَدُهْنُهُ نَافِعٌ لِدَاءِ الْحَيّةِ وَمِنْ الثّآلِيلِ وَالْخِيلَانِ وَإِذَا شُرِبَ مِنْهُ مِثْقَالٌ بِمَاءٍ نَفَعَ مِنْ الْبَهَرِ وَضِيقِ النّفَسِ وَالضّمَادُ بِهِ يَنْفَعُ مِنْ الصّدَاعِ الْبَارِدِ وَإِذَا نُقِعَ مِنْهُ سَبْعُ حَبّاتٍ عَدَدًا فِي لَبَنِ امْرَأَةٍ وَسُعِطَ بِهِ صَاحِبُ الْيَرَقَانِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا .
وَإِذَا طُبِخَ بِخَلّ وَتُمُضْمِضَ بِهِ نَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ عَنْ بَرْدٍ وَإِذَا اُسْتُعِطَ بِهِ مَسْحُوقًا نَفَعَ مِنْ ابْتِدَاءِ الْمَاءِ الْعَارِضِ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ ضُمّدَ بِهِ مَعَ الْخَلّ قَلَعَ الْبُثُورَ وَالْجَرَبَ الْمُتَقَرّحَ وَحَلّلَ الْأَوْرَامَ الْبَلْغَمِيّةَ الْمُزْمِنَةَ وَالْأَوْرَامَ الصّلْبَةَ وَيَنْفَعُ مِنْ اللّقْوَةِ إذَا تُسُعّطَ بِدُهْنِهِ وَإِذَا شُرِبَ مِنْهُ مِقْدَارُ نِصْفِ مِثْقَالٍ إلَى مِثْقَالٍ نَفَعَ مِنْ لَسْعِ الرّتَيْلَاءِ وَإِنْ سُحِقَ نَاعِمًا وَخُلِطَ بِدُهْنِ الْحَبّةِ الْخَضْرَاءِ وَقُطِرَ مِنْهُ فِي الْأُذُنِ ثَلَاثَ قَطَرَاتٍ نَفَعَ مِنْ الْبَرْدِ الْعَارِضِ فِيهَا وَالرّيحِ وَالسّدَدِ .
وَإِنْ قُلِيَ ثُمّ دُقّ نَاعِمًا ثُمّ نُقِعَ فِي زَيْتٍ وَقُطِرَ فِي الْأَنْفِ ثَلَاثُ قَطَرَاتٍ أَوْ أَرْبَعُ نَفَعَ مِنْ الزّكَامِ الْعَارِضِ مَعَهُ عُطَاسٌ كَثِيرٌ .
وَإِذَا أُحْرِقَ وَخُلِطَ بِشَمْعٍ مُذَابٍ بِدُهْنِ السّوْسَنِ أَوْ دُهْنِ الْحِنّاءِ وَطُلِيَ بِهِ الْقُرُوحُ الْخَارِجَةُ مِنْ السّاقَيْنِ بَعْدَ غَسْلِهَا بِالْخَلّ نَفَعَهَا وَأَزَالَ الْقُرُوحَ .
وَإِذَا سُحِقَ بِخَلّ وَطُلِيَ بِهِ الْبَرَصُ وَالْبَهَقُ الْأَسْوَدُ وَالْحَزَازُ الْغَلِيظُ نَفَعَهَا وَأَبْرَأَهَا . <275>
(1/384)
وَإِذَا سُحِقَ نَاعِمًا وَاسْتُفّ مِنْهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ بِمَاءٍ بَارِدٍ مَنْ عَضّهُ كَلْبٌ كَلِبٌ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْمَاءِ نَفَعَهُ نَفْعًا بَلِيغًا وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ . وَإِذَا اُسْتُعِطَ بِدُهْنِهِ نَفَعَ مِنْ الْفَالِجِ وَالْكُزَازِ وَقَطَعَ مَوَادّهُمَا وَإِذَا دُخّنَ بِهِ طَرَدَ الْهَوَامّ .
وَإِذَا أُذِيبَ الأنزروت بِمَاءٍ وَلُطِخَ عَلَى دَاخِلِ الْحَلْقَةِ ثُمّ ذُرّ عَلَيْهَا الشّونِيزُ كَانَ مِنْ الذرورات الْجَيّدَةِ الْعَجِيبَةِ النّفْعِ مِنْ الْبَوَاسِيرِ وَمَنَافِعُهُ أَضْعَافُ مَا ذَكَرْنَا وَالشّرْبَةُ مِنْهُ دِرْهَمَانِ وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ قَاتِلٌ .
حَرِيرٌ
قَدْ تَقَدّمَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَاحَهُ لِلزّبَيْرِ وَلِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ حِكّةٍ كَانَتْ بِهِمَا وَتَقَدّمَ مَنَافِعُهُ وَمِزَاجُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ .
حُرْفٌ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الدّينَوَرِيّ : هَذَا هُوَ الْحَبّ الّذِي يُتَدَاوَى بِهِ وَهُوَ الثّفّاءُ الّذِي جَاءَ فِيهِ الْخَبَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَبَاتُهُ يُقَالُ لَهُ الْحُرْفُ وَتُسَمّيهِ الْعَامّةُ الرّشَادُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الثّفّاءُ هُوَ الْحُرْفُ .
قُلْت : وَالْحَدِيثُ الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَاذَا فِي الْأَمَرّيْنِ مِنْ الشّفَاءِ ؟ الصّبِرُ وَالثّفّاءُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي الْمَرَاسِيلِ .
(1/385)
وَقُوّتُهُ فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ وَهُوَ يُسَخّنُ وَيُلَيّنُ الْبَطْنَ وَيُخْرِجُ الدّودَ وَحَبّ الْقَرَعِ وَيُحَلّلُ أَوْرَامَ الطّحَالِ وَيُحَرّكُ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَيَجْلُو الْجَرَبَ الْمُتَقَرّحَ وَالْقُوَبَاءَ .
وَإِذَا ضُمّدَ بِهِ مَعَ الْعَسَلِ حَلّلَ وَرَمَ الطّحَالِ وَإِذَا طُبِخَ مَعَ الْحِنّاءِ أَخْرَجَ الْفُضُولَ الّتِي فِي الصّدْرِ وَشُرْبُهُ يَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْهَوَامّ وَلَسْعِهَا وَإِذَا دُخّنَ بِهِ فِي <276> مَوْضِعٍ طَرَدَ الْهَوَامّ عَنْهُ وَيُمْسِكُ الشّعْرَ الْمُتَسَاقِطَ وَإِذَا خُلِطَ بِسَوِيقِ الشّعِيرِ وَالْخَلّ وَتُضُمّدَ بِهِ نَفَعَ مِنْ عِرْقِ النّسَا وَحَلّلَ الْأَوْرَامَ الْحَارّةَ فِي آخِرِهَا .
وَإِذَا تُضُمّدَ بِهِ مَعَ الْمَاءِ وَالْمِلْحِ أَنْضَجَ الدّمَامِيلَ وَيَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِرْخَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَيُشَهّي الطّعَامَ وَيَنْفَعُ الرّبْوَ وَعُسْرَ التّنَفّسِ وَغِلَظَ الطّحَالِ وَيُنَقّي الرّئَةَ وَيُدِرّ الطّمْثَ وَيَنْفَعُ مِنْ عِرْقِ النّسَا وَوَجَعِ حُقّ الْوَرِكِ مِمّا يَخْرُجُ مِنْ الْفُضُولِ إذَا شُرِبَ أَوْ احْتُقِنَ بِهِ وَيَجْلُو مَا فِي الصّدْرِ وَالرّئَةِ مِنْ الْبَلْغَمِ اللّزِجِ .
وَإِنْ شُرِبَ مِنْهُ بَعْدَ سَحْقِهِ وَزْنُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ بِالْمَاءِ الْحَارّ أَسْهَلَ الطّبِيعَةَ وَحَلّلَ الرّيَاحَ وَنَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْقُولَنْجِ الْبَارِدِ السّبَبِ وَإِذَا سُحِقَ وَشُرِبَ نَفَعَ مِنْ الْبَرَصِ .
(1/386)
وَإِنْ لُطّخَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَهَقِ الْأَبْيَضِ بِالْخَلّ نَفَعَ مِنْهُمَا وَيَنْفَعُ مِنْ الصّدَاعِ الْحَادِثِ مِنْ الْبَرْدِ وَالْبَلْغَمِ وَإِنْ قُلِيَ وَشُرِبَ عَقَلَ الطّبْعَ لَا سِيّمَا إذَا لَمْ يُسْحَقْ لِتَحَلّلِ لُزُوجَتِهِ بِالْقَلْيِ وَإِذَا غُسِلَ بِمَائِهِ الرّأْسُ نَقّاهُ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَالرّطُوبَاتِ اللّزِجَةِ .
قَالَ جالينوس : قُوّتُهُ مِثْلُ قُوّةِ بَزْرِ الْخَرْدَلِ وَلِذَلِكَ قَدْ يُسَخّنُ بِهِ أَوْجَاعُ الْوَرِكِ الْمَعْرُوفَةُ بِالنّسَا وَأَوْجَاعُ الرّأْسِ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلَلِ الّتِي تَحْتَاجُ إلَى التّسْخِينِ كَمَا يُسَخّنُ بَزْرُ الْخَرْدَلِ وَقَدْ يُخْلَطُ أَيْضًا فِي أَدْوِيَةٍ يُسْقَاهَا أَصْحَابُ الرّبْوِ مِنْ طَرِيقِ أَنّ الْأَمْرَ فِيهِ مَعْلُومٌ أَنّهُ يُقَطّعُ الْأَخْلَاطَ الْغَلِيظَةَ تَقْطِيعًا قَوِيّا كَمَا يَقْطَعُهَا بَزْرُ الْخَرْدَلِ لِأَنّهُ شَبِيهٌ بِهِ فِي كُلّ شَيْءٍ .
حُلْبَةٌ
يُذْكَرُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ عَاد سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمَكّةَ فَقَالَ اُدْعُوا لَهُ طَبِيبًا فَدُعِيَ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ فَنَظَرَ إلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْسٌ فَاِتّخِذُوا لَهُ فَرِيقَةً وَهِيَ الْحُلْبَةُ مَعَ تَمْرِ عَجْوَةٍ رَطْبٍ يُطْبَخَانِ فَيَحْسَاهُمَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَبَرِئَ <277>
(1/387)
وَقُوّةُ الْحُلْبَةِ مِنْ الْحَرَارَةِ فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَمِنْ الْيُبُوسَةِ فِي الْأُولَى وَإِذَا طُبِخَتْ بِالْمَاءِ لَيّنَتْ الْحَلْقَ وَالصّدْرَ وَالْبَطْنَ وَتُسَكّنُ السّعَالَ وَالْخُشُونَةَ وَالرّبْوَ وَعُسْرَ النّفَسِ وَتَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَهِيَ جَيّدَةٌ لِلرّيحِ وَالْبَلْغَمِ وَالْبَوَاسِيرِ مُحْدِرَةُ الْكَيْمُوسَاتِ الْمُرْتَبِكَةِ فِي الْأَمْعَاءِ وَتُحَلّلُ الْبَلْغَمَ اللّزِجَ مِنْ الصّدْرِ وَتَنْفَعُ مِنْ الدّبَيْلَاتِ وَأَمْرَاضِ الرّئَةِ وَتُسْتَعْمَلُ لِهَذِهِ الْأَدْوَاءِ فِي الْأَحْشَاءِ مَعَ السّمْنِ وَالْفَانِيذِ .
وَإِذَا شُرِبَتْ مَعَ وَزْنِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فُوّةٍ أَدَرّتْ الْحَيْضَ وَإِذَا طُبِخَتْ وَغُسِلَ بِهَا الشّعْرُ جَعّدَتْهُ وَأَذْهَبَتْ الْحَزَازَ .
وَدَقِيقُهَا إذَا خُلِطَ بِالنّطْرُونِ وَالْخَلّ وَضُمّدَ بِهِ حَلّلَ وَرَمَ الطّحَالِ وَقَدْ تَجْلِسُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَاءِ الّذِي طُبِخَتْ فِيهِ الْحُلْبَةُ فَتَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ وَجَعِ الرّحِمِ الْعَارِضِ مِنْ وَرَمٍ فِيهِ .
وَإِذَا ضُمّدَ بِهِ الْأَوْرَامُ الصّلْبَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَرَارَةُ نَفَعَتْهَا وَحَلّلَتْهَا وَإِذَا شُرِبَ مَاؤُهَا نَفَعَ مِنْ الْمَغَصِ الْعَارِضِ مِنْ الرّيَاحِ وَأَزْلَقَ الْأَمْعَاءَ .
وَإِذَا أُكِلَتْ مَطْبُوخَةً بِالتّمْرِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ التّينِ عَلَى الرّيقِ حَلّلَتْ الْبَلْغَمَ اللّزِجَ الْعَارِضَ فِي الصّدْرِ وَالْمَعِدَةِ وَنَفَعَتْ مِنْ السّعَالِ الْمُتَطَاوِلِ مِنْهُ . <278> وَهِيَ نَافِعَةٌ مِنْ الْحَصْرِ مُطْلِقَةٌ لِلْبَطْنِ وَإِذَا وُضِعَتْ عَلَى الظّفْرِ الْمُتَشَنّجِ أَصْلَحَتْهُ وَدُهْنُهَا يَنْفَعُ إذَا خُلِطَ بِالشّمْعِ مِنْ الشّقَاقِ الْعَارِضِ مِنْ الْبَرْدِ وَمَنَافِعُهَا أَضْعَافُ مَا ذَكَرْنَا .
(1/388)
وَيُذْكَرُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَشْفُوا بِالْحُلْبَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ لَوْ عَلِمَ النّاسُ مَنَافِعَهَا لَاشْتَرَوْهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا .
حَرْفُ الْخَاءِ
خُبْزٌ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفّؤُهَا الْجَبّارُ بِيَدِهِ كَمَا يَكْفُؤُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنّةِ
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ أَحَبّ الطّعَامِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الثّرِيدُ مِنْ الْخُبْزِ وَالثّرِيدُ مِنْ الْحَيْسِ
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدِدْتُ أَنّ عِنْدِي خُبْزَةً بَيْضَاءَ مِنْ بُرّةٍ سَمْرَاءَ مُلَبّقَةً بِسَمْنٍ وَلَبَنٍ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَاِتّخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ فَقَالَ فِي أَيّ شَيْءٍ كَانَ هَذَا السّمْنُ ؟ فَقَالَ فِي عُكّةِ ضَبّ فَقَالَ ارْفَعْهُ . <279>
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَرْفَعُهُ أَكْرِمُوا الْخُبْزَ وَمِنْ كَرَامَتِهِ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ بِهِ الْإِدَامُ وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ فَلَا يَثْبُتُ رَفْعُهُ وَلَا رَفْعُ مَا قَبْلَهُ .
[ لَا يَصِحّ حَدِيثٌ فِي النّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ بِالسّكّينِ ]
(1/389)
وَأَمّا حَدِيثُ النّهْيِ عَنْ قَطْعِ الْخُبْزِ بِالسّكّينِ فَبَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّمَا الْمَرْوِيّ النّهْيُ عَنْ قَطْعِ اللّحْمِ بِالسّكّينِ وَلَا يَصِحّ أَيْضًا .
قَالَ مُهَنّا : سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَقْطَعُوا اللّحْمَ بِالسّكّينِ فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ فَقَالَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ خِلَافُ هَذَا وَحَدِيثُ الْمُغِيرَةِ - يَعْنِي بِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ - كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَحْتَزّ مِنْ لَحْمِ الشّاةِ وَبِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنّهُ لَمّا أَضَافَهُ أَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ ثُمّ أَخَذَ الشّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحُزّ
فَصْلٌ [ أَنْوَاعُ الْخُبْزِ وَأَنْفَعُهَا ]
وَأَحْمَدُ أَنْوَاعِ الْخُبْزِ أَجْوَدُهَا اخْتِمَارًا وَعَجْنًا ثُمّ خُبْزُ التّنّورِ أَجْوَدُ أَصْنَافِهِ <280> وَبَعْدَهُ خُبْزُ الْفُرْنِ ثُمّ خُبْزُ الْمَلّةِ فِي الْمَرْتَبَةِ الثّالِثَةِ وَأَجْوَدُهُ مَا اُتّخِذَ مِنْ الْحِنْطَةِ الْحَدِيثَةِ .
وَأَكْثَرُ أَنْوَاعِهِ تَغْذِيَةً خُبْزُ السّمِيذِ وَهُوَ أَبْطَؤُهَا هَضْمًا لِقِلّةِ نُخَالَتِهِ وَيَتْلُوهُ خُبْزُ الْحُوّارَى ثُمّ الْخُشْكَارِ .
[ أَفْضَلُ أَوْقَاتِ أَكْلِهِ بَعْدَ خَبْزِهِ ]
(1/390)
وَأَحْمَدُ أَوْقَاتِ أَكْلِهِ فِي آخِرِ الْيَوْمِ الّذِي خُبِزَ فِيهِ وَاللّينُ مِنْهُ أَكْثَرُ تَلْيِينًا وَغِذَاءً وَتَرْطِيبًا وَأَسْرَعُ انْحِدَارًا وَالْيَابِسُ بِخِلَافِهِ . وَمِزَاجُ الْخُبْزِ مِنْ الْبُرّ حَارّ فِي وَسَطِ الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَقَرِيبٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ فِي الرّطُوبَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَالْيُبْسُ يَغْلِبُ عَلَى مَا جَفّفَتْهُ النّارُ مِنْهُ وَالرّطُوبَةُ عَلَى ضِدّهِ .
[ خُبْزُ الْحِنْطَةِ ]
وَفِي خُبْزِ الْحِنْطَةِ خَاصّيّةٌ وَهُوَ أَنّهُ يُسَمّنُ سَرِيعًا وَخُبْزُ الْقَطَائِفِ يُوَلّدُ خَلْطًا غَلِيظًا وَالْفَتِيتُ نُفّاخٌ بَطِيءُ الْهَضْمِ وَالْمَعْمُولُ بِاللّبَنِ مُسَدّدٌ كَثِيرُ الْغِذَاءِ بَطِيءُ الِانْحِدَارِ .
[ خُبْزُ الشّعِيرِ ]
وَخُبْزُ الشّعِيرِ بَارِدٌ يَابِسٌ فِي الْأَوْلَى وَهُوَ أَقَلّ غِذَاءً مِنْ خُبْزِ الْحِنْطَةِ .
خَلّ
رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَ أَهْلَهُ الْإِدَامَ فَقَالُوا : مَا عِنْدَنَا إلّا خَلّ فَدَعَا بِهِ وَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " عَنْ أُمّ سَعْدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلّ اللّهُمّ بَارِكْ فِي الْخَلّ فَإِنّهُ كَانَ إدَامَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَلَمْ يَفْتَقِرْ بَيْتٌ فِيهِ الْخَلّ
(1/391)
الْخَلّ مُرَكّبٌ مِنْ الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ أَغْلَبُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَابِسٌ فِي الثّالِثَةِ قَوِيّ التّجْفِيفِ يَمْنَعُ مِنْ انْصِبَابِ الْمَوَادّ وَيُلَطّفُ الطّبِيعَةَ وَخَلّ الْخَمْرِ يَنْفَعُ <281> الْمَعِدَةَ الْمُلْتَهِبَةَ وَيَقْمَعُ الصّفْرَاءَ وَيَدْفَعُ ضَرَرَ الْأَدْوِيَةِ الْقَتّالَةِ وَيُحَلّلُ اللّبَنَ وَالدّمَ إذَا جَمَدَا فِي الْجَوْفِ وَيَنْفَعُ الطّحَالَ وَيَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيَعْقِلُ الْبَطْنَ وَيَقْطَعُ الْعَطَشَ وَيَمْنَعُ الْوَرَمَ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَحْدُثَ وَيُعِينُ عَلَى الْهَضْمِ وَيُضَادّ الْبَلْغَمَ وَيُلَطّفُ الْأَغْذِيَةَ الْغَلِيظَةَ وَيُرِقّ الدّمَ .
وَإِذَا شُرِبَ بِالْمِلْحِ نَفَعَ مِنْ أَكْلِ الْفِطْرِ الْقَتّالِ وَإِذَا اُحْتُسِيَ قَطَعَ الْعَلَقَ الْمُتَعَلّقَ بِأَصْلِ الْحَنَكِ وَإِذَا تُمُضْمِضَ بِهِ مُسَخّنًا نَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ وَقَوّى اللّثَةَ .
وَهُوَ نَافِعٌ لِلدّاحِسِ إذَا طُلِيَ بِهِ وَالنّمْلَةِ وَالْأَوْرَامِ الْحَارّةِ وَحَرْقِ النّارِ وَهُوَ مُشَهّ لِلْأَكْلِ مُطَيّبٌ لِلْمَعِدَةِ صَالِحٌ لِلشّبَابِ وَفِي الصّيْفِ لِسُكّانِ الْبِلَادِ الْحَارّةِ .
خِلَالٌ
فِيهِ حَدِيثَانِ لَا يَثْبُتَانِ أَحَدُهُمَا : يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ يَرْفَعُهُ يَا حَبّذَا الْمُتَخَلّلُونَ مِنْ الطّعَامِ إنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَشَدّ عَلَى الْمَلَكِ مِنْ بَقِيّةٍ تَبْقَى فِي الْفَمِ مِنْ الطّعَامِ وَفِيهِ وَاصِلُ بْنُ السّائِبِ قَالَ الْبُخَارِيّ وَالرّازِيّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَقَالَ النّسَائِيّ وَالْأَزْدِيّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
(1/392)
الثّانِي : يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ : سَأَلْت أَبِي عَنْ شَيْخٍ رَوَى عَنْهُ صَالِحٌ الْوُحَاظِيّ يُقَالُ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْأَنْصَارِيّ حَدّثَنَا عَطَاءٌ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُتَخَلّلَ بِاللّيطِ وَالْآسِ وَقَالَ إنّهُمَا يَسْقِيَانِ عُرُوقَ الْجُذَامِ فَقَالَ أَبِي : رَأَيْتُ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَكَانَ أَعْمَى - يَضَعُ الْحَدِيثَ وَيَكْذِبُ .
<282> وَبَعْدُ فَالْخِلَالُ نَافِعٌ لِلّثَةِ وَالْأَسْنَانِ حَافِظٌ لِصِحّتِهَا نَافِعٌ مِنْ تَغَيّرِ النّكْهَةِ وَأَجْوَدُهُ مَا اُتّخِذَ مِنْ عِيدَانِ الْأَخِلّةِ وَخَشَبِ الزّيْتُونِ وَالْخِلَافِ وَالتّخَلّلُ بِالْقَصَبِ وَالْآسِ وَالرّيْحَانِ والباذروج مُضِرّ .
حَرْفُ الدّالِ
دُهْنٌ
رَوَى التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ " الشّمَائِل ِ " مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ دُهْنَ رَأْسِهِ وَتَسْرِيحَ لِحْيَتِهِ وَيُكْثِرُ الْقِنَاعَ كَأَنّ ثَوْبَهُ ثَوْبُ زَيّاتٍ
الدّهْنُ يَسُدّ مَسَامّ الْبَدَنِ وَيَمْنَعُ مَا يَتَحَلّلُ مِنْهُ وَإِذَا اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ بِالْمَاءِ الْحَارّ حَسّنَ الْبَدَنَ وَرَطّبَهُ وَإِنْ دُهِنَ بِهِ الشّعْرُ حَسّنَهُ وَطَوّلَهُ وَنَفَعَ مِنْ الْحَصْبَةِ وَدَفَعَ أَكْثَرَ الْآفَاتِ عَنْهُ
وَفِي التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا : كُلُوا الزّيْتَ وَادّهِنُوا بِهِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
(1/393)
وَالدّهْنُ فِي الْبِلَادِ الْحَارّةِ كَالْحِجَازِ وَنَحْوِهِ مِنْ آكَدِ أَسْبَابِ حِفْظِ الصّحّةِ وَإِصْلَاحِ الْبَدَنِ وَهُوَ كَالضّرُورِيّ لَهُمْ وَأَمّا الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَهْلُهَا وَالْإِلْحَاحُ بِهِ فِي الرّأْسِ فِيهِ خَطَرٌ بِالْبَصَرِ . <283> وَأَنْفَعُ الْأَدْهَانِ الْبَسِيطَةِ الزّيْتُ ثُمّ السّمْنُ ثُمّ الشّيْرَجُ .
[ مَنَافِعُ الْأَدْهَانِ الْمُرَكّبَةِ ]
وَأَمّا الْمُرَكّبَةُ فَمِنْهَا بَارِدٌ رَطْبٌ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ يَنْفَعُ مِنْ الصّدَاعِ الْحَارّ وَيُنَوّمُ أَصْحَابَ السّهَرِ وَيُرَطّبُ الدّمَاغَ وَيَنْفَعُ مِنْ الشّقَاقِ وَغَلَبَةِ الْيُبْسِ وَالْجَفَافِ وَيُطْلَى بِهِ الْجَرَبُ وَالْحِكّةُ الْيَابِسَةُ فَيَنْفَعُهَا وَيُسَهّلُ حَرَكَةَ الْمَفَاصِلِ وَيَصْلُحُ لِأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ فِي زَمَنِ الصّيْفِ وَفِيهِ حَدِيثَانِ بَاطِلَانِ مَوْضُوعَانِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدُهُمَا فَضْلُ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْهَانِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ النّاسِ .
وَالثّانِي : فَضْلُ دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْهَانِ كَفَضْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى سَائِرِ الْأَدْيَانِ .
وَمِنْهَا : حَارّ رَطْبٌ كَدَهْنِ الْبَانِ وَلَيْسَ دُهْنُ زَهْرِهِ بَلْ دُهْنٌ يُسْتَخْرَجُ مِنْ حَبّ أَبْيَضَ أَغْبَرَ نَحْوَ الْفُسْتُقِ كَثِيرَ الدّهْنِيّةِ وَالدّسَمِ يَنْفَعُ مِنْ صَلَابَةِ الْعَصَبِ وَيُلَيّنُهُ وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَرَشِ وَالنّمَشِ وَالْكَلَفِ وَالْبَهَقِ وَيُسَهّلُ بَلْغَمًا غَلِيظًا وَيُلِينُ الْأَوْتَارَ الْيَابِسَةَ وَيُسَخّنُ الْعَصَبَ وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ بَاطِلٌ مُخْتَلَقٌ لَا أَصْلَ لَهُ ادّهِنُوا بِالْبَانِ فَإِنّهُ أَحْظَى لَكُمْ عِنْدَ نِسَائِكُمْ
(1/394)
وَمِنْ مَنَافِعِهِ أَنّهُ يَجْلُو الْأَسْنَانَ وَيُكْسِبُهَا بَهْجَةً وَيُنَقّيهَا مِنْ الصّدَأِ وَمَنْ مَسَحَ بِهِ وَجْهَهُ وَأَطْرَافَهُ لَمْ يُصِبْهُ حَصًى وَلَا شِقَاقٌ وَإِذَا دَهَنَ بِهِ حِقْوَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَمَا وَالَاهَا نَفَعَ مِنْ بَرْدِ الْكُلْيَتَيْنِ وَتَقْطِيرِ الْبَوْلِ .
حَرْفُ الذّالِ
ذَرِيرَةٌ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ طَيّبْتُ رَسُولَ اللّهِ كُلّهُ بِيَدَيّ بِذَرِيرَةٍ فِي حِجّةِ الْوَدَاعِ لِحِلّهِ وَإِحْرَامِه ِ تَقَدّمَ الْكَلَامُ فِي <284> الذّرِيرَةِ وَمَنَافِعِهَا وَمَاهِيّتِهَا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَتِهِ .
ذُبَابٌ
تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتّفَقِ عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِغَمْسِ الذّبَابِ فِي الطّعَامِ إذَا سَقَطَ فِيهِ لِأَجْلِ الشّفَاءِ الّذِي فِي جَنَاحِهِ وَهُوَ كَالتّرْيَاقِ لِلسّمّ الّذِي فِي الْجَنَاحِ الْآخَرِ وَذَكَرْنَا مَنَافِعَ الذّبَابِ هُنَاكَ .
ذَهَبٌ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ " أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَخّصَ لِعَرْفَجَةَ بْنِ أَسْعَدَ لَمّا قُطِعَ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلّابِ وَاِتّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَتّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ . وَلَيْسَ لِعَرْفَجَةَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاحِدِ .
الذّهَبُ زِينَةُ الدّنْيَا وَطِلّسْمُ الْوُجُودِ وَمُفْرِحُ النّفُوسِ وَمُقَوّي الظّهُورِ وَسِرّ اللّهِ فِي أَرْضِهِ وَمِزَاجُهُ فِي سَائِرِ الْكَيْفِيّاتِ وَفِيهِ حَرَارَةٌ لَطِيفَةٌ تَدْخُلُ فِي سَائِرِ الْمَعْجُونَاتِ اللّطِيفَةِ وَالْمُفْرِحَاتِ وَهُوَ أَعْدَلُ الْمَعَادِنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا .
(1/395)
[ خَوَاصّ الذهب ]
وَمِنْ خَوَاصّهِ أَنّهُ إذَا دُفِنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَضُرّهُ التّرَابُ وَلَمْ يُنْقِصْهُ شَيْئًا وَبُرَادَتُهُ إذَا خُلِطَتْ بِالْأَدْوِيَةِ نَفَعَتْ مِنْ ضَعْفِ الْقَلْبِ وَالرّجَفَانِ الْعَارِضِ مِنْ السّوْدَاءِ وَيَنْفَعُ مِنْ حَدِيثِ النّفْسِ وَالْحُزْنِ وَالْغَمّ وَالْفَزَعِ وَالْعِشْقِ وَيُسَمّنُ الْبَدَنَ وَيُقَوّيهِ وَيُذْهِبُ الصّفَارَ وَيُحَسّنُ اللّوْنَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْجُذَامِ وَجَمِيعِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ السّوْدَاوِيّةِ وَيَدْخُلُ بِخَاصّيّةٍ فِي أَدْوِيَةِ دَاءِ الثّعْلَبِ وَدَاءِ الْحَيّةِ شُرْبًا وَطِلَاءً وَيَجْلُو الْعَيْنَ وَيُقَوّيهَا وَيَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهَا وَيُقَوّي جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ . <285>
وَإِمْسَاكُهُ فِي الْفَمِ يُزِيلُ الْبَخَرَ وَمَنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَحْتَاجُ إلَى الْكَيّ وَكُوِيَ بِهِ لَمْ يَتَنَفّطْ مَوْضِعُهُ وَيَبْرَأُ سَرِيعًا وَإِنْ اتّخَذَ مِنْهُ مَيْلًا وَاكْتَحَلَ بِهِ قَوّى الْعَيْنَ وَجَلَاهَا وَإِذَا اُتّخِذَ مِنْهُ خَاتَمٌ فَصّهُ مِنْهُ وَأُحْمِيَ وَكُوِيَ بِهِ قَوَادِمُ أَجْنِحَةِ الْحَمَامِ أَلِفَتْ أَبْرَاجَهَا وَلَمْ تَنْتَقِلْ عَنْهَا .
وَلَهُ خَاصّيّةٌ عَجِيبَةٌ فِي تَقْوِيَةِ النّفُوسِ لِأَجْلِهَا أُبِيحَ فِي الْحَرْبِ وَالسّلَاحُ مِنْهُ مَا أُبِيحَ وَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيثِ مُزَيْدَةَ الْعَصَرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى سَيْفِهِ ذَهَبٌ وَفِضّةٌ
(1/396)
وَهُوَ مَعْشُوقُ النّفُوسِ الّتِي مَتَى ظَفِرَتْ بِهِ سَلّاهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ مَحْبُوبَاتِ الدّنْيَا قَالَ تَعَالَى : زُيّنَ لِلنّاسِ حُبّ الشّهَوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ [ آلِ عِمْرَانَ 14 ] .
وَفِي " الصّحِيحَيْن ِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إلَيْهِ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَابْتَغَى إلَيْهِ ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلّا التّرَابُ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَنْ تَابَ
هَذَا وَإِنّهُ أَعْظَمُ حَائِلٍ بَيْنَ الْخَلِيقَةِ وَبَيْنَ فَوْزِهَا الْأَكْبَرِ يَوْمَ مُعَادِهَا وَأَعْظَمُ شَيْءٍ عُصِيَ اللّهُ بِهِ وَبِهِ قُطِعَتْ الْأَرْحَامُ وَأُرِيقَتْ الدّمَاءُ وَاسْتُحِلّتْ الْمَحَارِمُ وَمُنِعَتْ الْحُقُوقُ وَتَظَالَمَ الْعِبَادُ وَهُوَ الْمُرَغّبُ فِي الدّنْيَا وَعَاجِلِهَا وَالْمُزَهّدُ فِي <286> الْآخِرَةِ وَمَا أَعَدّهُ اللّهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِيهَا فَكَمْ أُمِيتَ بِهِ مِنْ حَقّ وَأُحْيِيَ بِهِ مِنْ بَاطِلٍ وَنُصِرَ بِهِ ظَالِمٌ وَقُهِرَ بِهِ مَظْلُومٌ وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ فِيهِ الْحَرِيرِيّ :
تَبّا لَهُ مِنْ خَادِعٍ مُمَاذِقِ
أَصْفَرَ ذِي وَجْهَيْنِ كَالْمُنَافِقِ
يَبْدُو بِوَصْفَيْنِ لِعَيْنِ الرّامِقِ
زِينَةَ مَعْشُوقٍ وَلَوْنٍ عَاشِقِ
وَحُبّهُ عِنْدَ ذَوِي الْحَقَائِقِ
يَدْعُو إلَى ارْتِكَابِ سُخْطِ الْخَالِقِ
لَوْلَاهُ لَمْ تُقْطَعْ يَمِينُ السّارِقِ
وَلَا بَدَتْ مَظْلِمَةٌ مِنْ فَاسِقِ
وَلَا اشْمَأَزّ بَاخِلٌ مِنْ طَارِقِ
وَلَا اشْتَكَى الْمَمْطُولُ مَطْلَ الْعَائِقِ
وَلَا اُسْتُعِيذَ مِنْ حَسُودٍ رَاشِقِ
وَشَرّ مَا فِيهِ مِنْ الْخَلَائِقِ
(1/397)
أَنْ لَيْسَ يُغْنِي عَنْكَ فِي الْمَضَايِقِ
إلّا إذَا فَرّ فِرَارَ الْآبِقِ
حَرْفُ الرّاءِ
رُطَبٌ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى لِمَرْيَمَ وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرّي عَيْنًا [ مَرْيَمَ : 25 ] .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ الْقِثّاءَ بِالرّطَبِ
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلّيَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٍ فَتَمَرَاتٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمَرَاتٍ حَسَا حُسُوَاتٍ مِنْ مَاءٍ <287>
طَبْعُ الرّطَبِ طَبْعُ الْمِيَاهِ حَارّ رَطْبٌ يُقَوّي الْمَعِدَةَ الْبَارِدَةَ وَيُوَافِقُهَا وَيَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَيُخْصِبُ الْبَدَنَ وَيُوَافِقُ أَصْحَابَ الْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ وَيَغْذُو غِذَاءً كَثِيرًا .
وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَاكِهَةِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبِلَادِ الّتِي هُوَ فَاكِهَتُهُمْ فِيهَا وَأَنْفَعُهَا لِلْبَدَنِ وَإِنْ كَانَ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ يُسْرِعُ التّعَفّنَ فِي جَسَدِهِ وَيَتَوَلّدُ عَنْهُ دَمٌ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ وَيُحْدِثُ فِي إكْثَارِهِ مِنْهُ صُدَاعٌ وَسَوْدَاءُ وَيُؤْذِي أَسْنَانَهُ وَإِصْلَاحُهُ بِالسّكَنْجَبِينِ وَنَحْوِهِ .
[ فَوَائِدُ فِطْرِ الصّائِمِ عَلَيْهِ ]
(1/398)
وَفِي فِطْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الصّوْمِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى التّمْرِ أَوْ الْمَاءِ تَدْبِيرٌ لَطِيفٌ جِدّا فَإِنّ الصّوْمَ يُخَلّي الْمَعِدَةَ مِنْ الْغِذَاءِ فَلَا تَجِدُ الْكَبِدُ فِيهَا مَا تَجْذِبُهُ وَتُرْسِلُهُ إلَى الْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ وَالْحُلْوُ أَسْرَعُ شَيْءٍ وُصُولًا إلَى الْكَبِدِ وَأَحَبّهُ إلَيْهَا وَلَا سِيّمَا إنْ كَانَ رُطَبًا فَيَشْتَدّ قَبُولُهَا لَهُ فَتَنْتَفِعُ بِهِ هِيَ وَالْقُوَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالتّمْرُ لِحَلَاوَتِهِ وَتَغْذِيَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَحُسُوَاتُ الْمَاءِ تُطْفِئُ لَهِيبَ الْمَعِدَةِ وَحَرَارَةَ الصّوْمِ فَتَتَنَبّهُ بَعْدَهُ لِلطّعَامِ وَتَأْخُذُهُ بِشَهْوَةٍ .
رَيْحَانٌ
قَالَ تَعَالَى : فَأَمّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنّةُ نَعِيمٍ [ الْوَاقِعَةِ 88 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَالْحَبّ ذُو الْعَصْفِ وَالرّيْحَانُ [ الرّحْمَنِ 12 ] .
وَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدّهُ فَإِنّهُ خَفِيفُ الْمَحْمِلِ طَيّبُ الرّائِحَةِ
(1/399)
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَلَا مُشَمّرٌ لِلْجَنّةِ فَإِنّ الْجَنّةَ لَا خَطَرَ لَهَا هِيَ وَرَبّ الْكَعْبَةِ نُورٌ يَتَلَأْلَأُ وَرَيْحَانَةٌ تَهْتَزّ وَقَصْرٌ مَشِيدٌ وَنَهْرٌ مُطّرِدٌ وَثَمَرَةٌ نَضِيجَةٌ وَزَوْجَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ وَحُلَلٌ كَثِيرَةٌ فِي مَقَامٍ أَبَدًا فِي حِبَرَةٍ وَنَضِرَةٍ فِي دُورٍ عَالِيَةٍ سَلِيمَةٍ بَهِيّةٍ قَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ الْمُشَمّرُونَ لَهَا قَالَ " قُولُوا : إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى " فَقَالَ الْقَوْمُ " إنْ شَاءَ اللّهُ <288>
[ أَنْوَاعُ الرّيْحَانِ ]
الرّيْحَانُ كُلّ نَبْتٍ طَيّبِ الرّيحِ فَكُلّ أَهْلِ بَلَدٍ يَخُصّونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَهْلُ الْغَرْبِ يَخُصّونَهُ بِالْآسِ وَهُوَ الّذِي يَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ الرّيْحَانِ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَالشّامِ يَخُصّونَهُ بِالْحَبَقِ .
[ مَنَافِعُ الْآسِ وَهُوَ الرّيْحَانُ ]
فَأَمّا الْآسُ فَمِزَاجُهُ بَارِدٌ فِي الْأُولَى يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُرَكّبٌ مِنْ قُوًى مُتَضَادّةٍ وَالْأَكْثَرُ فِيهِ الْجَوْهَرُ الْأَرْضِيّ الْبَارِدُ وَفِيهِ شَيْءٌ حَارّ لَطِيفٌ وَهُوَ يُجَفّفُ تَجْفِيفًا قَوِيّا وَأَجْزَاؤُهُ مُتَقَارِبَةُ الْقُوّةِ وَهِيَ قُوّةٌ قَابِضَةٌ حَابِسَةٌ مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ مَعًا .
وَهُوَ قَاطِعٌ لِلْإِسْهَالِ الصّفْرَاوِيّ دَافِعٌ لِلْبُخَارِ الْحَارّ الرّطْبِ إذَا شُمّ مُفْرِحٌ لِلْقَلْبِ تَفْرِيحًا شَدِيدًا وَشَمّهُ مَانِعٌ لِلْوَبَاءِ وَكَذَلِكَ افْتِرَاشُهُ فِي الْبَيْتِ .
(1/400)
وَيُبْرِئُ الْأَوْرَامَ الْحَادِثَةَ فِي الْحَالِبَيْنِ إذَا وُضِعَ عَلَيْهَا وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ وَهُوَ غَضّ وَضُرِبَ بِالْخَلّ وَوُضِعَ عَلَى الرّأْسِ قَطَعَ الرّعَافَ وَإِذَا سُحِقَ وَرَقُهُ الْيَابِسُ وَذُرّ عَلَى الْقُرُوحِ ذَوَاتِ الرّطُوبَةِ نَفَعَهَا وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ الْوَاهِيَةَ إذَا ضُمّدَ بِهِ وَيَنْفَعُ دَاءَ الدّاحِسِ وَإِذَا ذُرّ عَلَى الْبُثُورِ وَالْقُرُوحِ الّتِي فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجْلَيْنِ نَفَعَهَا .
وَإِذَا دُلِكَ بِهِ الْبَدَنُ قَطَعَ الْعَرَقَ وَنَشّفَ الرّطُوبَاتِ الْفَضْلِيّةَ وَأَذْهَبَ نَتْنَ الْإِبِطِ وَإِذَا جُلِسَ فِي طَبِيخِهِ نَفَعَ مِنْ خَرَارِيجِ الْمَقْعَدَةِ وَالرّحِمِ وَمِنْ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ وَإِذَا صُبّ عَلَى كُسُورِ الْعِظَامِ الّتِي لَمْ تَلْتَحِمْ نَفَعَهَا . <289>
وَيَجْلُو قُشُورَ الرّأْسِ وَقُرُوحَهُ الرّطْبَةَ وَبُثُورَهُ وَيُمْسِكُ الشّعْرَ الْمُتَسَاقِطَ وَيُسَوّدُهُ وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ وَصُبّ عَلَيْهِ مَاءٌ يَسِيرٌ وَخُلِطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ زَيْتٍ أَوْ دُهْنِ الْوَرْدِ وَضُمّدَ بِهِ وَافَقَ الْقُرُوحَ الرّطْبَةَ وَالنّمِلَةَ وَالْحُمْرَةَ وَالْأَوْرَامَ الْحَادّةَ وَالشّرَى وَالْبَوَاسِيرَ .
[ مَنَافِعُ حَبّهِ ]
وَحَبّهُ نَافِعٌ مَنْ نَفْثِ الدّمِ الْعَارِضِ فِي الصّدْرِ وَالرّئَةِ دَابِغٌ لِلْمَعِدَةِ وَلَيْسَ بِضَارّ لِلصّدْرِ وَلَا الرّئَةِ لِجَلَاوَتِهِ وَخَاصّيّتُهُ النّفْعُ مِنْ اسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ مَعَ السّعَالِ وَذَلِكَ نَادِرٌ فِي الْأَدْوِيَةِ وَهُوَ مُدِرّ لِلْبَوْلِ نَافِعٌ مَنْ لَذْعِ الْمَثَانَةِ وَعَضّ الرّتَيْلَاءِ وَلَسْعِ الْعَقَارِبِ وَالتّخَلّلُ بِعَرَقِهِ مُضِرّ فَلْيُحْذَرْ .
[ مَنَافِعُ الرّيْحَانِ الْفَارِسِيّ الْمُسَمّى الْحَبَقَ ]
(1/401)
وَأَمّا الرّيْحَانُ الْفَارِسِيّ الّذِي يُسَمّى الْحَبَقُ فَحَارّ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَنْفَعُ شَمّهُ مِنْ الصّدَاعِ الْحَارّ إذَا رُشّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَيُبَرّدُ وَيُرَطّبُ بِالْعَرْضِ وَبَارِدٌ فِي الْآخَرِ وَهَلْ هُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصّحِيحُ أَنّ فِيهِ مِنْ الطّبَائِعِ الْأَرْبَعِ وَيَجْلِبُ النّوْمَ وَبَزْرُهُ حَابِسٌ لِلْإِسْهَالِ الصّفْرَاوِيّ وَمُسَكّنٌ لِلْمَغَصِ مُقَوّ لِلْقَلْبِ نَافِعٌ لِلْأَمْرَاضِ السّوْدَاوِيّةِ .
رُمّانٌ
قَالَ تَعَالَى : فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمّانٌ [ الرّحْمَنِ 68 ] . وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا : مَا مِنْ رُمّانٍ مِنْ رُمّانِكُمْ هَذَا إلّا وَهُوَ مُلَقّحٌ بِحَبّةٍ مِنْ رُمّانِ الْجَنّةِ وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ . وَذَكَرَ حَرْبٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ كُلُوا الرّمّانَ بِشَحْمِهِ فَإِنّهُ دِبَاغُ الْمَعِدَةِ .
حُلْوُ الرّمّانِ حَارّ رَطْبٌ جَيّدٌ لِلْمَعِدَةِ مُقَوّ لَهَا بِمَا فِيهِ مِنْ قَبْضٍ لَطِيفٍ نَافِعٌ لِلْحَلْقِ وَالصّدْرِ وَالرّئَةِ جَيّدٌ لِلسّعَالِ مَاؤُهُ مُلَيّنٌ لِلْبَطْنِ يَغْذُو الْبَدَنَ غِذَاءً فَاضِلًا يَسِيرًا سَرِيعُ التّحَلّلِ لِرِقّتِهِ وَلَطَافَتِهِ وَيُوَلّدُ حَرَارَةً يَسِيرَةً فِي الْمَعِدَةِ وَرِيحًا وَلِذَلِكَ يُعِينُ عَلَى الْبَاهِ وَلَا يَصْلُحُ لِلْمَحْمُومِينَ وَلَهُ خَاصّيّةٌ <290> عَجِيبَةٌ إذَا أُكِلَ بِالْخُبْزِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْفَسَادِ فِي الْمَعِدَةِ .
وَحَامِضُهُ بَارِدٌ يَابِسٌ قَابِضٌ لَطِيفٌ يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ الْمُلْتَهِبَةَ وَيُدِرّ الْبَوْلَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الرّمّانِ وَيُسَكّنُ الصّفْرَاءَ وَيَقْطَعُ الْإِسْهَالَ وَيَمْنَعُ الْقَيْءَ وَيُلَطّفُ الْفُضُولَ .
(1/402)
وَيُطْفِئُ حَرَارَةَ الْكَبِدِ وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ نَافِعٌ مِنْ الْخَفَقَانِ الصّفْرَاوِيّ وَالْآلَامِ الْعَارِضَةِ لِلْقَلْبِ وَفَمِ الْمَعِدَةِ وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيَدْفَعُ الْفُضُولَ عَنْهَا وَيُطْفِئُ الْمِرّةَ الصّفْرَاءَ وَالدّمَ .
وَإِذَا اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ بِشَحْمِهِ وَطُبِخَ بِيَسِيرٍ مِنْ الْعَسَلِ حَتّى يَصِيرَ كَالْمَرْهَمِ وَاكْتُحِلَ بِهِ قَطَعَ الصّفْرَةَ مِنْ الْعَيْنِ وَنَقّاهَا مِنْ الرّطُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ وَإِذَا لُطّخَ عَلَى اللّثَةِ نَفَعَ مِنْ الْأَكَلَةِ الْعَارِضَةِ لَهَا وَإِنْ اُسْتُخْرِجَ مَاؤُهُمَا بِشَحْمِهِمَا أَطْلَقَ الْبَطْنَ وَأَحْدَرَ الرّطُوبَاتِ الْعَفِنَةَ الْمَرِيّةَ وَنَفَعَ مِنْ حُمّيَاتِ الْغَبّ الْمُتَطَاوِلَةِ .
وَأَمّا الرّمّانُ الْمِزّ فَمُتَوَسّطٌ طَبْعًا وَفِعْلًا بَيْنَ النّوْعَيْنِ وَهَذَا أَمْيَلُ إلَى لَطَافَةِ الْحَامِضِ قَلِيلًا وَحَبّ الرّمّانِ مَعَ الْعَسَلِ طِلَاءٌ لِلدّاحِسِ وَالْقُرُوحِ الْخَبِيثَةِ وَأَقْمَاعُهُ لِلْجِرَاحَاتِ قَالُوا : وَمَنْ ابْتَلَعَ ثَلَاثَةً مِنْ جُنْبُذِ الرّمّانِ فِي كُلّ سَنَةٍ أَمِنَ مِنْ الرّمَدِ سَنَتَهُ كُلّهَا .
حَرْفُ الزّايِ
زَيْتٌ
قَالَ تَعَالَى : يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيّةٍ وَلَا غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ [ النّورِ 35 ] .
وَفِي التّرْمِذِيّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ <291> أَنّهُ قَالَ كُلُوا الزّيْتَ وَادّهِنُوا بِهِ فَإِنّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ .
(1/403)
وَلِلْبَيْهَقِيّ وَابْنِ مَاجَهْ أَيْضًا : عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ائْتَدِمُوا بِالزّيْتِ وَادّهِنُوا بِهِ فَإِنّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ .
الزّيْتُ حَارّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى وَغَلِطَ مَنْ قَالَ يَابِسٌ وَالزّيْتُ بِحَسَبِ زَيْتُونِهِ فَالْمُعْتَصَرُ مِنْ النّضِيجِ أَعْدَلُهُ وَأَجْوَدُهُ وَمِنْ الْفَجّ فِيهِ بُرُودَةٌ وَيُبُوسَةٌ وَمِنْ الزّيْتُونِ الْأَحْمَرِ مُتَوَسّطٌ بَيْنَ الزّيْتَيْنِ وَمِنْ الْأَسْوَدِ يُسَخّنُ وَيُرَطّبُ بِاعْتِدَالٍ وَيَنْفَعُ مِنْ السّمُومِ وَيُطْلِقُ الْبَطْنَ وَيُخْرِجُ الدّودَ وَالْعَتِيقُ مِنْهُ أَشَدّ تَسْخِينًا وَتَحْلِيلًا وَمَا اُسْتُخْرِجَ مِنْهُ بِالْمَاءِ فَهُوَ أَقَلّ حَرَارَةً وَأَلْطَفُ وَأَبْلَغُ فِي النّفْعِ وَجَمِيعُ أَصْنَافِهِ مُلَيّنَةٌ لِلْبَشَرَةِ وَتُبْطِئُ الشّيْبَ .
[ مَنَافِعُ مَاءِ الزّيْتُونِ الْمَالِحِ ]
وَمَاءُ الزّيْتُونِ الْمَالِحِ يَمْنَعُ مِنْ تَنَفّطِ حَرْقِ النّارِ وَيَشُدّ اللّثَةَ وَوَرَقُهُ يَنْفَعُ مِنْ الْحُمْرَةِ وَالنّمْلَةِ وَالْقُرُوحِ الْوَسِخَةِ وَالشّرَى وَيَمْنَعُ الْعَرَقَ وَمَنَافِعُهُ أَضْعَافُ مَا ذَكَرْنَا .
زُبْدٌ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ ابْنَيْ بُسْرٍ السّلَمِيّيْنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَا : دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدّمْنَا لَهُ زُبْدًا وَتَمْرًا وَكَانَ يُحِبّ الزّبْدَ وَالتّمْرَ .
(1/404)
الزّبْدُ حَارّ رَطْبٌ فِيهِ مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْإِنْضَاجُ وَالتّحْلِيلُ وَيُبْرِئُ الْأَوْرَامَ الّتِي تَكُونُ إلَى جَانِبِ الْأُذُنَيْنِ وَالْحَالِبَيْنِ وَأَوْرَامَ الْفَمِ وَسَائِرَ الْأَوْرَامِ الّتِي تَعْرِضُ فِي أَبْدَانِ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ إذَا اُسْتُعْمِلَ وَحْدَهُ وَإِذَا لُعِقَ مِنْهُ نَفَعَ فِي نَفْثِ <292> الدّمِ الّذِي يَكُونُ مِنْ الرّئَةِ وَأَنْضَجَ الْأَوْرَامَ الْعَارِضَةَ فِيهَا .
وَهُوَ مُلَيّنٌ لِلطّبِيعَةِ وَالْعَصَبِ وَالْأَوْرَامِ الصّلْبَةِ الْعَارِضَةِ مِنْ الْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَالْبَلْغَمِ نَافِعٌ مِنْ الْيُبْسِ الْعَارِضِ فِي الْبَدَنِ وَإِذَا طُلِيَ بِهِ عَلَى مَنَابِتِ أَسْنَانِ الطّفْلِ كَانَ مُعِينًا عَلَى نَبَاتِهَا وَطُلُوعِهَا وَهُوَ نَافِعٌ مِنْ السّعَالِ الْعَارِضِ مِنْ الْبَرْدِ وَالْيُبْسِ وَيُذْهِبُ الْقُوَبَاءَ وَالْخُشُونَةَ الّتِي فِي الْبَدَنِ وَيُلَيّنُ الطّبِيعَةَ وَلَكِنّهُ يُضْعِفُ شَهْوَةَ الطّعَامِ وَيُذْهِبُ بِوَخَامَتِهِ الْحُلْوُ كَالْعَسَلِ وَالتّمْرِ وَفِي جَمْعِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ التّمْرِ وَبَيْنَهُ مِنْ الْحِكْمَةِ إصْلَاحُ كُلّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ .
زَبِيبٌ
رُوِيَ فِيهِ حَدِيثَانِ لَا يَصِحّانِ . أَحَدُهُمَا : نِعْمَ الطّعَامُ الزّبِيبُ يُطَيّبُ النّكْهَةَ وَيُذِيبُ الْبَلْغَمَ . وَالثّانِي : نِعْمَ الطّعَامُ الزّبِيبُ يُذْهِبُ النّصَبَ وَيَشُدّ الْعَصَبَ وَيُطْفِئُ الْغَضَبَ وَيُصَفّي اللّوْنَ وَيُطَيّبُ النّكْهَةَ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَصِحّ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ .
[ أَجْوَدُ أَنْوَاعِهِ ]
وَبَعْدُ فَأَجْوَدُ الزّبِيبِ مَا كَبُرَ جِسْمُهُ وَسَمِنَ شَحْمُهُ وَلَحْمُهُ وَرَقّ قِشْرُهُ وَنُزِعَ عَجَمُهُ وَصَغُرَ حَبّهُ .
(1/405)
وَجُرْمُ الزّبِيبِ حَارّ رَطْبٌ فِي الْأُولَى وَحَبّهُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَهُوَ كَالْعِنَبِ الْمُتّخَذِ مِنْهُ الْحُلْوُ مِنْهُ حَارّ وَالْحَامِضُ قَابِضٌ بَارِدٌ وَالْأَبْيَضُ أَشَدّ قَبْضًا مِنْ غَيْرِهِ وَإِذَا أُكِلَ لَحْمُهُ وَافَقَ قَصَبَةَ الرّئَةِ وَنَفَعَ مِنْ السّعَالِ وَوَجَعِ الْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُلَيّنُ الْبَطْنَ .
وَالْحُلْوُ اللّحْمُ أَكْثَرُ غِذَاءً مِنْ الْعِنَبِ وَأَقَلّ غِذَاءً مِنْ التّينِ الْيَابِسِ وَلَهُ قُوّةٌ مُنْضِجَةٌ هَاضِمَةٌ قَابِضَةٌ مُحَلّلَةٌ بِاعْتِدَالٍ وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَالطّحَالَ نَافِعٌ مِنْ وَجَعِ الْحَلْقِ وَالصّدْرِ وَالرّئَةِ وَالْكُلَى وَالْمَثَانَةِ وَأَعْدَلُهُ أَنْ يُؤْكَلَ بِغَيْرِ عَجَمِهِ .
وَهُوَ يُغَذّي غِذَاءً صَالِحًا وَلَا يُسَدّدُ كَمَا يَفْعَلُ التّمْرُ وَإِذَا أُكِلَ مِنْهُ بِعَجَمِهِ كَانَ أَكْثَرَ نَفْعًا لِلْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَإِذَا لُصِقَ لَحْمُهُ عَلَى الْأَظَافِيرِ الْمُتَحَرّكَةِ <293> أَسْرَعَ قَلْعَهَا وَالْحُلْوُ مِنْهُ وَمَا لَا عَجَمَ لَهُ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الرّطُوبَاتِ وَالْبَلْغَمِ وَهُوَ يُخَصّبُ الْكَبِدَ وَيَنْفَعُهَا بِخَاصّيّتِهِ .
[ نَفْعُهُ لِلْحِفْظِ ]
وَفِيهِ نَفْعٌ لِلْحِفْظِ قَالَ الزّهْرِيّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَحْفَظَ الْحَدِيثَ فَلْيَأْكُلْ الزّبِيبَ وَكَانَ الْمَنْصُورُ يَذْكُرُ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ عَجَمُهُ دَاءٌ وَلَحْمُهُ دَوَاءٌ .
زَنْجَبِيلٌ
(1/406)
قَالَ تَعَالَى : وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا [ الْإِنْسَانِ 17 ] . وَذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ " الطّبّ النّبَوِيّ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَهْدَى مَلِكُ الرّومِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَرّةَ زَنْجَبِيلٍ فَأَطْعَمَ كُلّ إنْسَانٍ قِطْعَةً وَأَطْعَمَنِي قِطْعَةً .
الزّنْجَبِيلُ حَارّ فِي الثّانِيَةِ رَطْبٌ فِي الْأُولَى مُسْخِنٌ مُعِينٌ عَلَى هَضْمِ الطّعَامِ مُلَيّنٌ لِلْبَطْنِ تَلْيِينًا مُعْتَدِلًا نَافِعٌ مِنْ سُدَدِ الْكَبِدِ الْعَارِضَةِ عَنْ الْبَرْدِ وَالرّطُوبَةِ وَمِنْ ظُلْمَةِ الْبَصَرِ الْحَادِثَةِ عَنْ الرّطُوبَةِ أَكْلًا وَاكْتِحَالًا مُعِينٌ عَلَى الْجِمَاعِ وَهُوَ مُحَلّلٌ لِلرّيَاحِ الْغَلِيظَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْأَمْعَاءِ وَالْمَعِدَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ صَالِحٌ لِلْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ الْبَارِدَتَيْ الْمِزَاجِ وَإِذَا أُخِذَ مِنْهُ مَعَ السّكّرِ وَزْنُ دِرْهَمَيْنِ بِالْمَاءِ الْحَارّ أَسْهَلَ فُضُولًا لَزِجَةً لُعَابِيّةً وَيَقَعُ فِي الْمَعْجُونَاتِ الّتِي تُحَلّلُ الْبَلْغَمَ وَتُذِيبُهُ . وَالْمِزّيّ مِنْهُ حَارّ يَابِسٌ يُهَيّجُ الْجِمَاعَ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيّ وَيُسَخّنُ الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَيُعِينُ عَلَى الِاسْتِمْرَاءِ وَيُنَشّفُ الْبَلْغَمَ الْغَالِبَ عَلَى الْبَدَنِ وَيَزِيدُ فِي الْحِفْظِ وَيُوَافِقُ بَرْدَ الْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ وَيُزِيلُ بِلّتَهَا الْحَادِثَةَ عَنْ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَيُطَيّبُ النّكْهَةَ وَيُدْفَعُ بِهِ ضَرَرُ الْأَطْعِمَةِ الْغَلِيظَةِ الْبَارِدَةِ .
حَرْفُ السّينِ
سنا
قَدْ تَقَدّمَ وَتَقَدّمَ سَنّوت أَيْضًا وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ
أَحَدُهَا : أَنّهُ الْعَسَلُ . <294>
(1/407)
الثّانِي : أَنّهُ رُبّ عُكّةِ السّمْنِ يُخْرِجُ خُطَطًا سَوْدَاءَ عَلَى السّمْنِ .
الثّالِثُ أَنّهُ حَبّ يُشْبِهُ الْكَمّونَ وَلَيْسَ بِكَمّونٍ .
الرّابِعُ الْكَمّونُ الْكَرْمَانِيّ .
الْخَامِسُ أَنّهُ الشّبَتُ .
السّادِسُ أَنّهُ التّمْرُ .
السّابِعُ أَنّهُ الرازيانج .
سفرجل
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدٍ الطّلْحِيّ عَنْ نَقِيبِ بْنِ حَاجِبٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ الزّبَيْرِيّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِيَدِهِ سَفَرْجَلَةٌ فَقَالَ دُونَكَهَا يَا طَلْحَةُ فَإِنّهَا تُجِمّ الْفُؤَادَ .
وَرَوَاهُ النّسَائِيّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَ " أَتَيْتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَبِيَدِهِ سَفَرْجَلَةٌ يُقَلّبُهَا فَلَمّا جَلَسْتُ إلَيْهِ دَحَا بِهَا إلَيّ ثُمّ قَالَ دُونَكَهَا أَبَا ذَرّ فَإِنّهَا تَشُدّ الْقَلْبَ وَتُطَيّبُ النّفْسَ وَتُذْهِبُ بِطَخَاءِ الصّدْرِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي السّفَرْجَلِ أَحَادِيثُ أُخَرُ هَذَا أَمْثَلُهَا وَلَا تَصِحّ .
(1/408)
وَالسّفَرْجَلُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَيَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ طَعْمِهِ وَكُلّهُ بَارِدٌ قَابِضٌ جَيّدٌ لِلْمَعِدَةِ وَالْحُلْوُ مِنْهُ أَقَلّ بُرُودَةً وَيُبْسًا وَأَمْيَلُ إلَى الِاعْتِدَالِ وَالْحَامِضُ أَشَدّ قَبْضًا وَيُبْسًا وَبُرُودَةً وَكُلّهُ يُسَكّنُ الْعَطَشَ وَالْقَيْءَ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيَعْقِلُ الطّبْعَ وَيَنْفَعُ مِنْ قُرْحَةِ الْأَمْعَاءِ وَنَفْثِ الدّمِ وَالْهَيْضَةِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْغَثَيَانِ وَيَمْنَعُ مِنْ تَصَاعُدِ الْأَبْخِرَةِ إذَا اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ الطّعَامِ وَحُرَاقَةُ أَغْصَانِهِ وَوَرَقِهِ الْمَغْسُولَةِ كَالتّوتِيَاءِ فِي فِعْلِهَا .
<295> وَهُوَ قَبْلَ الطّعَامِ يَقْبِضُ وَبَعْدَهُ يُلَيّنُ الطّبْعَ وَيُسْرِعُ بِانْحِدَارِ الثّفْلِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مُضِرّ بِالْعَصَبِ مُوَلّدٌ لِلْقُولَنْجِ وَيُطْفِئُ الْمُرّةَ الصّفْرَاءَ الْمُتَوَلّدَةَ فِي الْمَعِدَةِ .
وَإِنْ شُوِيَ كَانَ أَقَلّ لِخُشُونَتِهِ وَأَخَفّ وَإِذَا قُوّرَ وَسَطُهُ وَنُزِعَ حَبّهُ وَجُعِلَ فِيهِ الْعَسَلُ وَطُيّنَ جُرْمُهُ بِالْعَجِينِ وَأُودِعَ الرّمَادَ الْحَارّ نَفَعَ نَفْعًا حَسَنًا .
وَأَجْوَدُ مَا أُكِلَ مُشْوِيًا أَوْ مَطْبُوخًا بِالْعَسَلِ وَحَبّهُ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَقَصَبَةِ الرّئَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ وَدُهْنُهُ يَمْنَعُ الْعَرَقَ وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ وَالْمُرَبّى مِنْهُ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ وَيَشُدّ الْقَلْبَ وَيُطَيّبُ النّفَسَ .
وَمَعْنَى تُجِمّ الْفُؤَادَ تُرِيحُهُ . وَقِيلَ تُفَتّحُهُ وَتُوَسّعُهُ مِنْ جُمَامِ الْمَاءِ وَهُوَ اتّسَاعُهُ وَكَثْرَتُهُ وَالطّخَاءُ لَلْقَلْبِ مِثْلُ الْغَيْمِ عَلَى السّمَاءِ . قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الطّخَاءُ ثِقَلٌ وَغَشْيُ تَقُولُ مَا فِي السّمَاءِ طَخَاءٌ أَيْ سَحَابٌ وَظُلْمَةٌ .
(1/409)
سِوَاك
فِي " الصّحِيحَيْنِ " عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لوْلَا أَنْ أَشُقّ عَلَى أُمّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسّوَاكِ عِنْدَ كُلّ صَلَاةٍ .
وَفِيهِمَا : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا قَامَ مِنْ اللّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسّوَاكِ .
وَفِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيّ " تَعْلِيقًا عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرّبّ .
<296> وَفِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " : أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسّوَاكِ .
وَالْأَحَادِيثُ فِيهِ كَثِيرَةٌ وَصَحّ عَنْهُ مِنْ حَدِيثٍ أَنّهُ اسْتَاكَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِسِوَاكِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَصَحّ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السّوَاكِ .
وَأَصْلَحُ مَا اُتّخِذَ السّوَاكُ مِنْ خَشَبِ الْأَرَاكِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرَةٍ مَجْهُولَةٍ فَرُبّمَا كَانَتْ سما وَيَنْبَغِي الْقَصْدُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فَإِنْ بَالَغَ فِيهِ فَرُبّمَا أَذْهَبَ طَلَاوَةَ الْأَسْنَانِ وَصِقَالَتَهَا وَهَيّأَهَا لِقَبُولِ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنْ الْمَعِدَةِ وَالْأَوْسَاخِ وَمَتَى اُسْتُعْمِلَ بِاعْتِدَالٍ جَلَا الْأَسْنَانَ وَقَوّى الْعَمُودَ وَأَطْلَقَ اللّسَانَ وَمَنَعَ الْحَفَرَ وَطَيّبَ النّكْهَةَ وَنَقّى الدّمَاغَ وَشَهّى الطّعَامَ .
وَأَجْوَدُ مَا اُسْتُعْمِلَ مَبْلُولًا بِمَاءِ الْوَرْدِ وَمِنْ أَنْفَعِهِ أُصُولُ الْجَوْزِ قَالَ صَاحِبُ " التّيْسِيرِ " : زَعَمُوا أَنّهُ إذَا اسْتَاكَ بِهِ الْمُسْتَاكُ كُلّ خَامِسٍ مِنْ الْأَيّامِ نَقّى الرّأْسَ وَصَفّى الْحَوَاسّ وَأَحَدّ الذّهْنَ .
[مَنَافِعُ السّوَاكِ ]
(1/410)
وَفِي السّوَاكِ عِدّةُ مَنَافِعَ يُطَيّبُ الْفَمَ وَيَشُدّ اللّثَةَ وَيَقْطَعُ الْبَلْغَمَ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَيَذْهَبُ بِالْحَفَرِ وَيُصِحّ الْمَعِدَةَ وَيُصَفّي الصّوْتَ وَيُعِينُ عَلَى هَضْمِ الطّعَامِ وَيُسَهّلُ مَجَارِيَ الْكَلَامِ وَيُنَشّطُ لِلْقِرَاءَةِ وَالذّكْرِ وَالصّلَاةِ وَيَطْرُدُ النّوْمَ وَيُرْضِي الرّبّ وَيُعْجِبُ الْمَلَائِكَةَ وَيُكْثِرُ الْحَسَنَاتِ .
[أَوْقَاتُ اسْتِحْبَابِهِ ]
وَيُسْتَحَبّ كُلّ وَقْتٍ وَيَتَأَكّدُ عِنْدَ الصّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ وَتَغْيِيرِ رَائِحَةِ الْفَمِ وَيُسْتَحَبّ لِلْمُفْطِرِ وَالصّائِمِ فِي كُلّ وَقْتٍ لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ فِيهِ وَلِحَاجَةِ الصّائِمِ إلَيْهِ وَلِأَنّهُ مَرْضَاةٌ لِلرّبّ وَمَرْضَاتُهُ مَطْلُوبَةٌ فِي الصّوْمِ <297> أَشَدّ مِنْ طَلَبِهَا فِي الْفِطْرِ وَلِأَنّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ وَالطّهُورُ لِلصّائِمِ مَنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِهِ .
[اسْتِيَاكُ الصّائِمِ ]
وَفِي " السّنَنِ " : عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَا أُحْصِي يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ وَقَالَ الْبُخَارِيّ قَالَ ابْنُ عُمَر : يَسْتَاكُ أَوّلَ النّهَارِ وَآخِرَهُ .
وَأَجْمَعَ النّاسُ عَلَى أَنّ الصّائِمَ يَتَمَضْمَضُ وُجُوبًا وَاسْتِحْبَابًا وَالْمَضْمَضَةُ أَبْلَغُ مِنْ السّوَاكِ وَلَيْسَ لِلّهِ غَرَضٌ فِي التّقَرّبِ إلَيْهِ بِالرّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَلَا هِيَ مِنْ جِنْسِ مَا شُرِعَ التّعَبّدُ بِهِ وَإِنّمَا ذُكِرَ طِيبُ الْخُلُوفِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَثّا مِنْهُ عَلَى الصّوْمِ لَا حَثّا عَلَى إبْقَاءِ الرّائِحَةِ بَلْ الصّائِمُ أَحْوَجُ إلَى السّوَاكِ مِنْ الْمُفْطِرِ .
(1/411)
وَأَيْضًا فَإِنّ رِضْوَانَ اللّهِ أَكْبَرُ مَنْ اسْتِطَابَتِهِ لِخُلُوفِ فَمِ الصّائِمِ .
وَأَيْضًا فَإِنّ مَحَبّتَهُ لِلسّوَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَحَبّتِهِ لِبَقَاءِ خُلُوفِ فَمِ الصّائِمِ .
وَأَيْضًا فَإِنّ السّوَاكَ لَا يَمْنَعُ طِيبَ الْخُلُوفِ الّذِي يُزِيلُهُ السّوَاكُ عِنْدَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَلْ يَأْتِي الصّائِمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَخُلُوفُ فَمِهِ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ عَلَامَةً عَلَى صِيَامِهِ وَلَوْ أَزَالَهُ بِالسّوَاكِ كَمَا أَنّ الْجَرِيحَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْنُ دَمِ جُرْحِهِ لَوْنُ الدّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِزَالَتِهِ فِي الدّنْيَا .
وَأَيْضًا فَإِنّ الْخُلُوفَ لَا يَزُولُ بِالسّوَاكِ فَإِنّ سَبَبَهُ قَائِمٌ وَهُوَ خُلُوّ الْمَعِدَةِ عَنْ الطّعَامِ وَإِنّمَا يَزُولُ أَثَرُهُ وَهُوَ الْمُنْعَقِدُ عَلَى الْأَسْنَانِ وَاللّثَةِ .
وَأَيْضًا فَإِنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلّمَ أُمّتَهُ مَا يُسْتَحَبّ لَهُمْ فِي الصّيَامِ وَمَا يُكْرَهُ <298> لَهُمْ وَلَمْ يَجْعَلْ السّوَاكَ مِنْ الْقِسْمِ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّهُمْ يَفْعَلُونَهُ وَقَدْ حَضّهُمْ عَلَيْهِ بِأَبْلَغِ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَالشّمُولِ وَهُمْ يُشَاهِدُونَهُ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مِرَارًا كَثِيرَةً تَفُوتُ الْإِحْصَاءَ وَيَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقْتَدُونَ بِهِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ لَا تَسْتَاكُوا بَعْدَ الزّوَالِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ مُمْتَنِعٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
سمن
(1/412)
رَوَى مُحَمّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ مِنْ حَدِيثِ صُهَيْبٍ يَرْفَعُهُ عَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ فَإِنّهَا شِفَاءٌ وَسَمْنُهَا دَوَاءٌ وَلُحُومُهَا دَاءٌ رَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ التّرْمِذِيّ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ مُوسَى النّسَائِيّ حَدّثَنَا دَفّاعُ بْنُ دَغْفَلٍ السّدُوسِيّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْن صَيْفِيّ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ وَلَا يَثْبُتُ مَا فِي هَذَا الْإِسْنَادِ .
وَالسّمْنُ حَارّ رَطْبٌ فِي الْأَوْلَى وَفِيهِ جَلَاءٌ يَسِيرٌ وَلَطَافَةٌ وَتَفْشِيَةُ الْأَوْرَامِ الْحَادِثَةِ مِنْ الْأَبْدَانِ النّاعِمَةِ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الزّبْدِ فِي الْإِنْضَاجِ وَالتّلْيِينِ وَذَكَرَ جَالِينُوسُ أَنّهُ أَبْرَأَ بِهِ الْأَوْرَامَ الْحَادِثَةَ فِي الْأُذُنِ وَفِي الْأَرْنَبَةِ وَإِذَا دُلّكَ بِهِ مَوْضِعُ الْأَسْنَانِ نَبَتَتْ سَرِيعًا وَإِذَا خُلِطَ مَعَ عَسَلٍ وَلَوْزٍ مُرّ جَلَا مَا فِي الصّدْرِ وَالرّئَةِ وَالْكَيْمُوسَاتِ الْغَلِيظَةِ اللّزِجَةِ إلّا أَنّهُ ضَارّ بِالْمَعِدَةِ سِيّمَا إذَا كَانَ مِزَاجُ صَاحِبِهَا بَلْغَمِيّا .
[مَنَافِعُ سَمْنِ الْبَقَرِ وَالْمَعِزِ ]
وَأَمّا سَمْنُ الْبَقَرِ وَالْمَعِزِ فَإِنّهُ إذَا شُرِبَ مَعَ الْعَسَلِ نَفَعَ مِنْ شُرْبِ السّمّ الْقَاتِلِ وَمِنْ لَدْغِ الْحَيّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَفِي " كِتَابِ ابْنِ السّنّيّ " عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لَمْ يَسْتَشْفِ النّاسُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ السّمْن .
سمك
(1/413)
رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ <299> حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ السّمَكُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطّحَالُ .
[أَجْوَدُ أَصْنَافِهِ ]
[أَصْلَحُ أَمَاكِنَهُ ]
أَصْنَافُ السّمَكِ كَثِيرَةٌ وَأَجْوَدُهُ مَا لَذّ طَعْمُهُ وَطَابَ رِيحُهُ وَتَوَسّطَ مِقْدَارُهُ وَكَانَ رَقِيقَ الْقِشْرِ وَلَمْ يَكُنْ صَلْبَ اللّحْمِ وَلَا يَابِسَهُ وَكَانَ فِي مَاءٍ عَذْبٍ جَارٍ عَلَى الْحَصْبَاءِ وَيَغْتَذِي بِالنّبَاتِ لَا الْأَقْذَارِ وَأَصْلَحُ أَمَاكِنَهُ مَا كَانَ فِي نَهْرٍ جَيّدِ الْمَاءِ وَكَانَ يَأْوِي إلَى الْأَمَاكِنِ الصّخْرِيّةِ ثُمّ الرّمْلِيّةِ وَالْمِيَاهِ الْجَارِيَةِ الْعَذْبَةِ الّتِي لَا قَذَرَ فِيهَا وَلَا حَمْأَةٌ الْكَثِيرَةِ الِاضْطِرَابِ وَالتّمَوّجِ الْمَكْشُوفَةِ لِلشّمْسِ وَالرّيَاحِ .
[مَنَافِعُ السّمَكِ الطّرِيّ ]
وَالسّمَكِ الْبَحْرِيّ فَاضِلٌ مَحْمُودٌ لَطِيفٌ وَالطّرِيّ مِنْهُ بَارِدٌ رَطْبٌ عَسِرُ الِانْهِضَامِ يُوَلّدُ بَلْغَمًا كَثِيرًا إلّا الْبَحْرِيّ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَإِنّهُ يُولَدُ خَلْطًا مَحْمُودًا وَهُوَ يُخَصّبُ الْبَدَنَ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيّ وَيُصْلِحُ الْأَمْزِجَةَ الْحَارّةَ .
[السّمَكُ الْمَالِحُ ]
(1/414)
وَأَمّا الْمَالِحُ فَأَجْوَدُهُ مَا كَانَ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالتّمَلّحِ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ وَكُلّمَا تَقَادَمَ عَهْدُهُ ازْدَادَ حَرّهُ وَيُبْسُهُ وَالسّلّوْرُ مِنْهُ كَثِيرُ اللّزُوجَةِ وَيُسَمّى الْجَرِيّ وَالْيَهُودُ لَا تَأْكُلُهُ وَإِذَا أُكِلَ طَرِيّا كَانَ مُلَيّنًا لِلْبَطْنِ وَإِذَا مُلّحَ وَعَتَقَ وَأُكِلَ صَفّى قَصَبَةَ الرّئَةِ وَجَوّدَ الصّوْتَ وَإِذَا دُقّ وَوُضِعَ مِنْ خَارِجٍ أَخْرَجَ السّلَى وَالْفُضُولَ مِنْ عُمْقِ الْبَدَنِ مِنْ طَرِيقِ أَنّ لَهُ قُوّةً جَاذِبَةً .
وَمَاءُ مِلْحِ الْجِرّيّ الْمَالِحِ إذَا جَلَسَ فِيهِ مَنْ كَانَتْ بِهِ قُرْحَةُ الْأَمْعَاءِ فِي <300> ابْتِدَاءِ الْعِلّةِ وَافَقَهُ بِجَذْبِهِ الْمَوَادّ إلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَإِذَا احْتَقَنَ بَهْ أَبْرَأَ مِنْ عِرْقِ النّسَا .
[مَنَافِعُ الطّرِيّ السّمِينِ مِنْهُ ]
وَأَجْوَدُ مَا فِي السّمَكِ مَا قَرُبَ مِنْ مُؤَخّرِهَا وَالطّرِيّ السّمِينُ مِنْهُ يُخَصّبُ الْبَدَنَ لَحْمُهُ وَوَدَكُهُ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ بَعَثَنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ فَأَتَيْنَا السّاحِلَ فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ حَتّى أَكْلَنَا الْخَبَطَ فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهَا : عَنْبَرُ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ وَائْتَدَمْنَا بِوَدَكِهِ حَتّى ثَابَتْ أَجْسَامُنَا فَأَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ وَحَمَلَ رَجُلًا عَلَى بَعِيرِهِ وَنَصَبَهُ فَمَرّ تَحْتَهُ .
سلق
(1/415)
رَوَى التّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ أُمّ الْمُنْذِرِ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَنَا دَوَالٍ مُعَلّقَةٌ قَالَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ وَعَلِيّ مَعَهُ يَأْكُلُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَهْ يَا عَلِيّ فَإِنّكَ نَاقِهٌ " قَالَتْ فَجَعَلْت لَهُمْ سِلْقًا وَشَعِيرًا فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَلِيّ فَأَصِبْ مِنْ هَذَا فَإِنّهُ أَوْفَقُ لَكَ . قَالَ التّرْمِذِيّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
السّلْقُ حَارّ يَابِسٌ فِي الْأَوْلَى وَقِيلَ رَطْبٌ فِيهَا وَقِيلَ مُرَكّبٌ مِنْهُمَا وَفِيهِ بُرُودَةٌ مُلَطّفَةٌ وَتَحْلِيلٌ . وَتَفْتِيحٌ وَفِي الْأَسْوَدِ مِنْهُ قَبْضٌ وَنَفْعٌ مِنْ دَاءِ الثّعْلَبِ وَالْكَلَفِ وَالْحَزّازِ وَالثّآلِيلِ إذَا طُلِيَ بِمَائِهِ وَيَقْتُلُ الْقُمّلَ وَيُطْلَى بِهِ الْقُوَبَاءُ مَعَ الْعَسَلِ وَيُفَتّحُ سُدَدَ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَأَسْوَدُهُ يَعْقِلُ الْبَطْنَ وَلَا سِيّمَا مَعَ الْعَدَسِ وَهُمَا رَدِيئَانِ . وَالْأَبْيَضُ يُلَيّنُ مَعَ الْعَدَسِ وَيُحْقَنُ بِمَائِهِ لِلْإِسْهَالِ وَيَنْفَعُ مِنْ الْقُولَنْحِ مَعَ الْمَرِيّ وَالتّوَابِلِ وَهُوَ قَلِيلُ الْغِذَاءِ رَدِيءُ <301> الْكَيْمُوسُ يُحْرِقُ الدّمَ وَيُصْلِحُهُ الْخَلّ وَالْخَرْدَلُ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُوَلّدُ الْقَبْضَ .
حَرْفُ الشّينِ
شونيز
هُوَ الْحَبّةُ السّوْدَاءُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي حَرْفِ الْحَاءِ .
شُبْرُمٌ
(1/416)
رَوَى التّرْمِذِيّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِمَا " : مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَاذَا كُنْتِ تَسْتَمْشِينَ ؟ " قَالَتْ بِالشّبْرِمِ . قَالَ " حَارّ جَارّ
الشّبْرُمُ شَجَرٌ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ كَقَامَةِ الرّجُلِ وَأَرْجَحُ لَهُ قُضْبَانٌ حُمْرٌ مُلَمّعَةٌ بِبَيَاضٍ وَفِي رُءُوسِ قُضْبَانِهِ جُمّةٌ مِنْ وَرَقٍ وَلَهُ نُورٌ صِغَارٌ أَصْفَرُ إلَى الْبَيَاضِ يَسْقُطُ وَيَخْلُفُهُ مَرَاوِدُ صِغَارٌ فِيهَا حَبّ صَغِيرٌ مِثْلَ الْبُطْمِ فِي قَدْرِهِ أَحْمَرُ اللّوْنِ وَلَهَا عُرُوقٌ عَلَيْهَا قُشُورٌ حُمْرٌ وَالْمُسْتَعْمَلُ مِنْهُ قِشْرُ عُرُوقِهِ وَلَبَنُ قُضْبَانِهِ .
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الدّرَجَةِ الرّابِعَةِ وَيُسَهّلُ السّوْدَاءَ وَالْكَيْمُوسَاتِ الْغَلِيظَةَ وَالْمَاءَ الْأَصْفَرَ وَالْبَلْغَمَ مُكْرِبٌ مُغَثّ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَقْتُلُ وَيَنْبَغِي إذَا اُسْتُعْمِلَ أَنْ يُنْقَعَ فِي اللّبَنِ الْحَلِيبِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَيُغَيّرَ عَلَيْهَا اللّبَنُ فِي الْيَوْمِ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيُخْرَجُ وَيُجَفّفُ فِي الظّلّ وَيُخْلَطُ مَعَهُ الْوُرُودُ وَالْكَثِيرَاءُ وَيُشْرَبُ بِمَاءِ الْعَسَلِ أَوْ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَالشّرْبَةُ مِنْهُ مَا بَيْنَ أَرْبَعِ دَوَانِقَ إلَى دَانِقَيْنِ عَلَى حَسَبِ الْقُوّةِ قَالَ حُنَيْنٌ : أَمّا لَبَنُ الشّبْرُمِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا أَرَى شُرْبَهُ الْبَتّةَ فَقَدْ قَتَلَ بِهِ أَطِبّاءُ الطّرُقَاتِ كَثِيرًا مِنْ النّاس
شَعِيرٌ
(1/417)
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ : مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ <302> كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَخَذَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ الْوَعْكُ أَمَرَ بِالْحِسَاءِ مِنْ الشّعِيرِ فَصُنِعَ ثُمّ أَمَرَهُمْ فَحَسَوْا مِنْهُ ثُمّ يَقُولُ " إنّهُ لَيَرْتُو فُؤَادَ الْحَزِينِ وَيَسْرُو فُؤَادَ السّقِيمِ كَمَا تَسْرُوَا إحْدَاكُنّ الْوَسَخَ بِالْمَاءِ عَنْ وَجْهِهَا وَمَعْنَى يَرْتُوهُ يَشُدّهُ وَيُقَوّيهِ . وَيَسْرُو يَكْشِفُ وَيُزِيلُ .
[مَنَافِعُ مَاءِ الشّعِيرِ الْمَغْلِيّ وَصِفَتُهُ ]
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ هَذَا هُوَ مَاءُ الشّعِيرِ الْمَغْلِيّ وَهُوَ أَكْثَرُ غِذَاءً مِنْ سَوِيقِهِ وَهُوَ نَافِعٌ لِلسّعَالِ وَخُشُونَةِ الْحَلْقِ صَالِحٌ لِقَمْعِ حِدّةِ الْفُضُولِ مُدِرّ لِلْبَوْلِ جِلَاءٌ لِمَا فِي الْمَعِدَةِ قَاطِعٌ لِلْعَطَشِ مُطْفِئٌ لِلْحَرَارَةِ وَفِيهِ قُوّةٌ يَجْلُو بِهَا وَيُلَطّفُ وَيُحَلّلُ .
وَصِفَتُهُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الشّعِيرِ الْجَيّدِ الْمَرْضُوضِ مِقْدَارٌ وَمِنْ الْمَاءِ الصّافِي الْعَذْبِ خَمْسَةُ أَمْثَالِهِ وَيُلْقَى فِي قِدْرٍ نَظِيفٍ وَيُطْبَخُ بِنَارٍ مُعْتَدِلَةٍ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْهُ خُمُسَاهُ وَيُصَفّى وَيُسْتَعْمَلَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَاجَةِ مُحَلّا.
شِوَاءٌ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى فِي ضِيَافَةِ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَضْيَافِهِ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [ هُود : 69 ] وَالْحَنِيذُ الْمَشْوِيّ عَلَى الرّضْفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمُحْمَاةُ .
وَفِي التّرْمِذِيّ : عَنْ أُمّ سَلَمَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَرّبَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَنْبًا مَشْوِيّا فَأَكَلَ مِنْهُ ثُمّ قَامَ إلَى الصّلَاةِ وَلَمْ يَتَوَضّأْ قَالَ التّرْمِذِيّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
(1/418)
وَفِيهِ أَيْضًا : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ أَكَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شِوَاءً فِي الْمَسْجِدِ <303> وَفِيهِ أَيْضًا : عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ ضِفْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَأَمَرَ بِجَنْبٍ فَشُوِيَ ثُمّ أَخَذَ الشّفْرَةَ فَجَعَلَ يَحُزّ لِي بِهَا مِنْهُ قَالَ فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤَذّنُ لِلصّلَاةِ فَأَلْقَى الشّفْرَةَ فَقَالَ " مَا لَهُ تَرِبَتْ يَدَاهُ "
أَنْفَعُ الشّوَاءِ شِوَاءُ الضّأْنِ الْحَوْلِيّ ثُمّ الْعِجْلِ اللّطِيفِ السّمِينِ وَهُوَ حَارّ رَطْبٌ إلَى الْيُبُوسَةِ كَثِيرُ التّوْلِيدِ لِلسّوْدَاءِ وَهُوَ مِنْ أَغْذِيَةِ الْأَقْوِيَاءِ وَالْأَصِحّاءِ وَالْمُرْتَاضِينَ وَالْمَطْبُوخُ أَنْفَعُ وَأَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَرْطَبُ مِنْهُ وَمِنْ الْمُطَجّنِ .
وَأَرْدَؤُهُ الْمَشْوِيّ فِي الشّمْسِ وَالْمَشْوِيّ عَلَى الْجَمْرِ خَيْرٌ مِنْ الْمَشْوِيّ بِاللّهَبِ وَهُوَ الْحَنِيذُ .
شَحْمٌ
ثَبَتَ فِي " الْمُسْنَدِ " : عَنْ أَنَسٍ أَنّ يَهُودِيّا أَضَافَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدّمَ لَهُ خُبْزَ شَعِيرٍ وَإِهَالَةً سَنِخَةً وَالْإِهَالَةُ الشّحْمُ الْمُذَابُ وَالْأَلْيَةُ وَالسّنِخَةُ الْمُتَغَيّرَةُ
وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفّلٍ قَالَ دُلّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ وَقُلْتُ وَاَللّهِ لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَالْتَفَتّ فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَضْحَكُ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا
(1/419)
أَجْوَدُ الشّحْمِ مَا كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ مُكْتَمِلٍ وَهُوَ حَارّ رَطْبٌ وَهُوَ أَقَلّ رُطُوبَةً مِنْ السّمْنِ وَلِهَذَا لَوْ أُذِيبَ الشّحْمُ وَالسّمْنُ كَانَ الشّحْمُ أَسْرَعَ جُمُودًا وَهُوَ يَنْفَعُ <304> مِنْ خُشُونَةِ الْحَلْقِ وَيُرْخِي وَيُعْفِنُ وَيُدْفَعُ ضَرَرُهُ بِاللّيْمُونِ الْمَمْلُوحِ وَالزّنْجَبِيلِ وَشَحْمِ الْمَعِزِ أَقْبَضُ الشّحُومِ وَشَحْمُ التّيُوسِ أَشَدّ تَحْلِيلًا وَيَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْأَمْعَاءِ وَشَحْمُ الْعَنْزِ أَقْوَى فِي ذَلِكَ وَيُحْتَقَنُ بِهِ لِلسّحَجِ وَالزّحِيرِ .
حَرْفُ الصّادِ
صَلَاةٌ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَاسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ الْبَقَرَةُ 45 ] وَقَالَ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصّبْرِ وَالصّلَاةِ إِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ [ الْبَقَرَةُ 153 ] . وَقَالَ تَعَالَى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتّقْوَى [ طَه : 132 ] .
وَفِي " السّنَنِ " : كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إلَى الصّلَاةِ
وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الِاسْتِشْفَاءِ بِالصّلَاةِ مِنْ عَامّةِ الْأَوْجَاعِ قَبْلَ اسْتِحْكَامِهَا .
[مَنَافِعُ الصّلَاةِ ]
وَالصّلَاةُ مُجْلِبَةٌ لِلرّزْقِ حَافِظَةٌ لِلصّحّةِ دَافِعَةٌ لِلْأَذَى مُطْرِدَةٌ لِلْأَدْوَاءِ مُقَوّيَةٌ لِلْقَلْبِ مُبَيّضَةٌ لِلْوَجْهِ مُفْرِحَةٌ لِلنّفْسِ مُذْهِبَةٌ لِلْكَسَلِ مُنَشّطَةٌ لِلْجَوَارِحِ مُمِدّةٌ لِلْقُوَى شَارِحَةٌ لِلصّدْرِ مُغَذّيَةٌ لِلرّوحِ مُنَوّرَةٌ لِلْقَلْبِ حَافِظَةٌ لِلنّعْمَةِ دَافِعَةٌ لِلنّقْمَةِ جَالِبَةٌ لِلْبَرَكَةِ مُبْعِدَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ مُقَرّبَةٌ مِنْ الرّحْمَنِ .
(1/420)
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَهَا تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ صِحّةِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَقُوَاهُمَا وَدَفْعِ الْمَوَادّ الرّدِيئَةِ عَنْهُمَا وَمَا اُبْتُلِيَ رَجُلَانِ بِعَاهَةٍ أَوْ دَاءٍ أَوْ مِحْنَةٍ أَوْ بَلِيّةٍ إلّا كَانَ حَظّ الْمُصَلّي مِنْهُمَا أَقَلّ وَعَاقِبَتُهُ أَسْلَمَ .
وَلِلصّلَاةِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي دَفْعِ شُرُورِ الدّنْيَا وَلَا سِيّمَا إذَا أُعْطِيَتْ حَقّهَا مِنْ <305> التّكْمِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَمَا اُسْتُدْفِعَتْ شُرُورُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا اُسْتُجْلِبَتْ مَصَالِحُهُمَا بِمِثْلِ الصّلَاةِ وَسِرّ ذَلِكَ أَنّ الصّلَاةَ صِلَةٌ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَلَى قَدْرِ صِلَةِ الْعَبْدِ بِرَبّهِ عَزّ وَجَلّ تُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَبْوَابُهَا وَتُقْطَعُ عَنْهُ مِنْ الشّرُورِ أَسْبَابُهَا وَتُفِيضُ عَلَيْهِ مَوَادّ التّوْفِيقِ مِنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ وَالْعَافِيَةُ وَالصّحّةُ وَالْغَنِيمَةُ وَالْغِنَى وَالرّاحَةُ وَالنّعِيمُ وَالْأَفْرَاحُ وَالْمَسَرّاتُ كُلّهَا مُحْضَرَةٌ لَدَيْهِ وَمُسَارِعَةٌ إلَيْهِ .
صَبْرٌ
(1/421)
الصّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ فَإِنّهُ مَاهِيّةٌ مُرَكّبَةٌ مِنْ صَبْرٍ وَشُكْرٍ كَمَا قَالَ بَعْضُ السّلَفِ الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ قَالَ تَعَالَى : إِنّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلّ صَبّارٍ شَكُورٍ [ إبْرَاهِيمُ 5 ] وَالصّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ صَبْرٌ عَلَى فَرَائِضِ اللّهِ فَلَا يُضِيعُهَا وَصَبْرٌ عَنْ مَحَارِمِهِ فَلَا يَرْتَكِبُهَا وَصَبْرٌ عَلَى أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ فَلَا يَتَسَخّطُهَا وَمَنْ اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الثّلَاثَ اسْتَكْمَلَ الصّبْرَ وَلَذّةَ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَنَعِيمَهَا وَالْفَوْزَ وَالظّفَرَ فِيهِمَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ أَحَدٌ إلّا عَلَى جِسْرِ الصّبْرِ كَمَا لَا يَصِلُ أَحَدٌ إلَى الْجَنّةِ إلّا عَلَى الصّرَاطِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصّبْرِ وَإِذَا تَأَمّلْتَ مَرَاتِبَ الْكَمَالِ الْمُكْتَسَبِ فِي الْعَالَمِ رَأَيْتَهَا كُلّهَا مَنُوطَةً بِالصّبْرِ وَإِذَا تَأَمّلْتَ النّقْصَانَ الّذِي يُذَمّ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَيَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ رَأَيْتَهُ كُلّهُ مِنْ عَدَمِ الصّبْرِ فَالشّجَاعَةُ وَالْعِفّةُ وَالْجُودُ وَالْإِيثَارُ كُلّهُ صَبْرُ سَاعَةٍ .
فَالصّبْرُ طَلْسَمٌ عَلَى كَنْزِ الْعُلَى
مَنْ حَلّ ذَا الطّلْسَمَ فَازَ بِكَنْزِهِ
[أَكْثَرُ أَسْقَامِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِنْ عَدَمِ الصّبْرِ ]
(1/422)
وَأَكْثَرُ أَسْقَامِ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ إنّمَا تَنْشَأُ عَنْ عَدَمِ الصّبْرِ فَمَا حُفِظَتْ صِحّةُ <306> الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَالْأَرْوَاحِ بِمِثْلِ الصّبْرِ فَهُوَ الْفَارُوقُ الْأَكْبَرُ وَالتّرْيَاقُ الْأَعْظَمُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلّا مَعِيّةُ اللّهِ مَعَ أَهْلِهِ فَإِنّ اللّهَ مَعَ الصّابِرِينَ وَمَحَبّتَهُ لَهُمْ فَإِنّ اللّهَ يُحِبّ الصّابِرِينَ وَنَصْرُهُ لِأَهْلِهِ فَإِنّ النّصْرَ مَعَ الصّبْرِ وَإِنّهُ خَيْرٌ لِأَهْلِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ [ النّحْلُ 126 ] وَإِنّهُ سَبَبُ الْفَلَاحِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عِمْرَانَ 200 ] .
صَبِرٌ
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ ( الْمَرَاسِيلِ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ رَافِعٍ الْقَيْسِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَاذَا فِي الْأَمَرّيْنِ مِنْ الشّفَاءِ ؟ الصّبْرُ وَالثّفّاءُ وَفِي " السّنَنِ " لِأَبِي دَاوُدَ : مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ تُوُفّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلِيّ صَبِرًا فَقَالَ مَاذَا يَا أُمّ سَلَمَةَ ؟ " فَقُلْت : إنّمَا هُوَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللّهِ لَيْسَ فِيهِ طَيّبٌ قَالَ " إنّهُ يَشُبّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلّا بِاللّيْلِ وَنَهَى عَنْهُ بِالنّهَارِ .
[مَنَافِعُ الصّبْرِ عَامّةُ ]
(1/423)
الصّبْرِ كَثِيرُ الْمَنَافِعِ لَا سِيّمَا الْهِنْدِيّ مِنْهُ يُنَقّي الْفُضُولَ الصّفْرَاوِيّةَ الّتِي فِي الدّمَاغِ وَأَعْصَابِ الْبَصَرِ وَإِذَا طُلِيَ عَلَى الْجَبْهَةِ وَالصّدْغِ بِدُهْنِ الْوَرْدِ نَفَعَ مِنْ الصّدَاعِ وَيَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْأَنْفِ وَالْفَمِ وَيُسَهّلُ السّوْدَاءَ والماليخوليا .
[ مَنَافِعُ الصّبْرِ الْفَارِسِيّ ]
وَالصّبْرُ الْفَارِسِيّ يُذَكّي الْعَقْلَ وَيُمِدّ الْفُؤَادَ وَيُنَقّي الْفُضُولَ الصّفْرَاوِيّةَ وَالْبَلْغَمِيّهَ مِنْ الْمَعِدَةِ إذَا شُرِبَ مِنْهُ مِلْعَقَتَانِ بِمَاءٍ وَيَرُدّ الشّهْوَةَ الْبَاطِلَةَ وَالْفَاسِدَةَ وَإِذَا شُرِبَ فِي الْبَرْدِ خِيفَ أَنْ يُسْهِلَ دَمًا . <307>
صَوْمٌ
الصّوْمُ جُنّةٌ مِنْ أَدْوَاءِ الرّوحِ وَالْقَلْبِ وَالْبَدَنِ مَنَافِعُهُ تَفُوتُ الْإِحْصَاءَ وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَإِذَابَةِ الْفَضَلَاتِ وَحَبْسِ النّفْسِ عَنْ تَنَاوُلِ مُؤْذِيَاتِهَا وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ بِاعْتِدَالٍ وَقَصْدٍ فِي أَفْضَلِ أَوْقَاتِهِ شَرْعًا وَحَاجَةُ الْبَدَنِ إلَيْهِ طَبْعًا .
ثُمّ إنّ فِيهِ مِنْ إرَاحَةِ الْقُوَى وَالْأَعْضَاءِ مَا يَحْفَظُ عَلَيْهَا قُوَاهَا وَفِيهِ خَاصّيّةٌ تَقْتَضِي إيثَارَهُ وَهِيَ تَفْرِيحُهُ لِلْقَلْبِ عَاجِلًا وَآجِلًا وَهُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لِأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ وَالرّطْبَةِ وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ فِي حِفْظِ صِحّتِهِمْ .
(1/424)
وَهُوَ يَدْخُلُ فِي الْأَدْوِيَةِ الرّوحَانِيّةِ وَالطّبِيعِيّةِ وَإِذَا رَاعَى الصّائِمُ فِيهِ مَا يَنْبَغِي مُرَاعَاتُهُ طَبْعًا وَشَرْعًا عَظُمَ انْتِفَاعُ قَلْبِهِ وَبَدَنِهِ بِهِ وَحَبَسَ عَنْهُ الْمَوَادّ الْغَرِيبَةَ الْفَاسِدَةَ الّتِي هُوَ مُسْتَعِدّ لَهَا وَأَزَالَ الْمَوَادّ الرّدِيئَةَ الْحَاصِلَةَ بِحَسَبِ كَمَالِهِ وَنُقْصَانِهِ وَيَحْفَظُ الصّائِمَ مِمّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفّظَ مِنْهُ وَيُعِينُهُ عَلَى قِيَامِهِ بِمَقْصُودِ الصّوْمِ وَسِرّهِ وَعِلّتِهِ الْغَائِيّةِ فَإِنّ الْقَصْدَ مِنْهُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ تَرْكِ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْأَمْرِ اخْتَصّ مِنْ بَيْنِ الْأَعْمَالِ بِأَنّهُ لِلّهِ سُبْحَانَهُ وَلَمّا كَانَ وِقَايَةً وَجُنّةً بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِي قَلْبَهُ وَبَدَنِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ [ الْبَقَرَةُ 183 ] فَأَحَدُ مَقْصُودِي الصّيَامِ الْجُنّةُ وَالْوِقَايَةُ وَهِيَ حِمْيَةٌ عَظِيمَةُ النّفْعِ وَالْمَقْصُودُ الْآخَرُ اجْتِمَاعُ الْقَلْبِ وَالْهَمّ عَلَى اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيرُ قُوَى النّفْسِ عَلَى مَحَابّهِ وَطَاعَتِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ فِي بَعْضِ أسرار الصوم عند ذكر هديه صلى الله عليه وسلم فيه .
حَرْف الضّادِ
ضَبّ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْهُ لَمّا قُدّمَ إلَيْهِ وَامْتَنَعَ مِنْ أَكْلِهِ أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ <308> بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ . وَأُكِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَعَلَى مَائِدَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ
(1/425)
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا أُحِلّهُ وَلَا أُحَرّمُهُ
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ يُقَوّي شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَإِذَا دُقّ وَوُضِعَ عَلَى مَوْضِعِ الشّوْكَةِ اجْتَذَبَهَا .
ضِفْدَعٌ
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : الضّفْدَعُ لَا يَحِلّ فِي الدّوَاءِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ قَتْلِهَا يُرِيدُ الْحَدِيثَ الّذِي رَوَاهُ فِي " مُسْنَدِهِ " مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا
قَالَ صَاحِبُ الْقَانُونِ : مَنْ أَكَلَ مِنْ دَمِ الضّفْدَعِ أَوْ جِرْمِهِ وَرِمَ بَدَنُهُ وَكَمَدَ لَوْنُهُ وَقَذَفَ الْمَنِيّ حَتّى يَمُوتَ وَلِذَلِكَ تَرَكَ الْأَطِبّاءُ اسْتِعْمَالَهُ خَوْفًا مِنْ ضَرَرِهِ وَهِيَ نَوْعَانِ مَائِيّةٌ وَتُرَابِيّةٌ وَالتّرَابِيّةُ يَقْتُلُ أَكْلُهَا .
حَرْفُ الطّاءِ
طِيبٌ
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ حُبّبَ إلَيّ مِنْ دُنْيَاكُمْ : النّسَاءُ وَالطّيبُ وَجُعِلَتْ قُرّةُ عَيْنِي فِي الصّلَاةِ
(1/426)
وَكَانَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُكْثِرُ التّطَيّبَ وَتَشْتَدّ عَلَيْهِ الرّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ وَتَشُقّ عَلَيْهِ وَالطّيبُ غِذَاءُ الرّوحِ الّتِي هِيَ مَطِيّةُ الْقُوَى تَتَضَاعَفُ وَتَزِيدُ بِالطّيبِ كَمَا تَزِيدُ بِالْغِذَاءِ <309> وَالشّرَابِ وَالدّعَةِ وَالسّرُورِ وَمُعَاشَرَةِ الْأَحِبّةِ وَحُدُوثِ الْأُمُورِ الْمَحْبُوبَةِ وَغَيْبَةِ مَنْ تُسَرّ غِيبَتُهُ وَيَثْقُلُ عَلَى الرّوحِ مُشَاهَدَتُهُ كَالثّقَلَاءِ وَالْبُغَضَاءِ فَإِنّ مُعَاشَرَتَهُمْ تُوهِنُ الْقُوَى وَتَجْلِبُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَهِيَ لِلرّوحِ بِمَنْزِلَةِ الْحُمّى لِلْبَدَنِ وَبِمَنْزِلَةِ الرّائِحَةِ الْكَرِيهَةِ وَلِهَذَا كَانَ مِمّا حَبّبَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الصّحَابَةَ بِنَهْيِهِمْ عَنْ التّخَلّقِ بِهَذَا الْخُلُقِ فِي مُعَاشَرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِتَأَذّيهِ بِذَلِكَ فَقَالَ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النّبِيّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ [ الْأَحْزَابُ 53 ] .
وَالْمَقْصُودُ أَنّ الطّيبَ كَانَ مِنْ أَحَبّ الْأَشْيَاءِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَهُ تَأْثِيرٌ فِي حِفْظِ الصّحّةِ وَدَفْعِ كَثِيرٍ مِنْ الْآلَامِ وَأَسْبَابِهَا بِسَبَبِ قُوّةِ الطّبِيعَةِ بِهِ .
طِينٌ
وَرَدَ فِي أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةٍ لَا يَصِحّ مِنْهَا شَيْءٌ مِثْلَ حَدِيثِ مَنْ أَكَلَ الطّينَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ نَفْسِهِ وَمِثْلَ حَدِيثِ يَا حُمَيْرَاءُ لَا تَأْكُلِي الطّينَ فَإِنّهُ يَعْصِمُ الْبَطْنَ وَيُصَفّرُ اللّوْنَ وَيُذْهِبُ بَهَاءَ الْوَجْهِ
(1/427)
وَكُلّ حَدِيثٍ فِي الطّينِ فَإِنّهُ لَا يَصِحّ وَلَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنّهُ رَدِيءٌ مُؤْذٍ يَسُدّ مَجَارِيَ الْعُرُوقِ وَهُوَ بَارِدٌ يَابِسٌ قَوِيّ التّجْفِيفِ وَيَمْنَعُ اسْتِطْلَاقَ الْبَطْنِ وَيُوجِبُ نَفْثَ الدّمِ وَقُرُوحِ الْفَمِ .
طَلْحٌ
قَالَ تَعَالَى : وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [ الْوَاقِعَةُ 29 ] قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ هُوَ الْمَوْزُ . وَالْمَنْضُودُ هُوَ الّذِي قَدْ نُضّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ كَالْمُشْطِ .
وَقِيلَ الطّلْحُ الشّجَرُ ذُو الشّوْكِ نُضّدَ مَكَانَ كُلّ شَوْكَةٍ ثَمَرَةٌ فَثَمَرُهُ قَدْ نُضّدَ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ مِثْلُ الْمَوْزِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَصَحّ وَيَكُونُ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْزِ مِنْ السّلَفِ أَرَادَ التّمْثِيلَ لَا التّخْصِيصَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
وَهُوَ حَارّ رَطْبٌ أَجْوَدُهُ النّضِيجُ الْحُلْوُ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الصّدْرِ وَالرّئَةِ <310> وَالسّعَالِ وَقُرُوحِ الْكُلْيَتَيْنِ وَالْمَثَانَةِ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيَزِيدُ فِي الْمَنِيّ وَيُحَرّكُ الشّهْوَةَ لِلْجِمَاعِ وَيُلَيّنُ الْبَطْنَ وَيُؤْكَلُ قَبْلَ الطّعَامِ وَيَضُرّ الْمَعِدَةَ وَيَزِيدُ فِي الصّفْرَاءِ وَالْبَلْغَمِ وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِالسّكّرِ أَوْ الْعَسَلِ .
طَلْعٌ
قَالَ تَعَالَى : وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ ق : 10 ] وَقَالَ تَعَالَى : وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ [ الشّعَرَاءُ 148 ] .
طَلْعُ النّخْلِ مَا يَبْدُو مِنْ ثَمَرَتِهِ فِي أَوّلِ ظُهُورِهِ وَقِشْرُهُ يُسَمّى الْكُفُرّى وَالنّضِيدُ الْمَنْضُودُ الّذِي قَدْ نُضّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَإِنّمَا يُقَالُ لَهُ نَضِيدٌ مَا دَامَ فِي كُفُرّاهُ فَإِذَا انْفَتَحَ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ .
(1/428)
وَأَمّا الْهَضِيمُ فَهُوَ الْمُنْضَمّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ فَهُوَ كَالنّضِيدِ أَيْضًا وَذَلِكَ يَكُونُ قَبْلَ تَشَقّقِ الْكُفُرّى عَنْهُ .
وَالطّلْعُ نَوْعَانِ ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَالتّلْقِيحُ هُوَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الذّكَرِ وَهُوَ مِثْلُ دَقِيقِ الْحِنْطَةِ فَيُجْعَلَ فِي الْأُنْثَى وَهُوَ التّأْبِيرُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللّقَاحِ بَيْنَ الذّكَرِ وَالْأُنْثَى وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نَخْلٍ فَرَأَى قَوْمًا يُلَقّحُونَ فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ " قَالُوا : يَأْخُذُونَ مِنْ الذّكَرِ فَيَجْعَلُونَهُ فِي الْأُنْثَى قَالَ " مَا أَظُنّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا " فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ فَلَمْ يَصْلُحْ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا هُوَ ظَنّ فَإِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوهُ فَإِنّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنّ الظّنّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ عَنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ . فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللّهِ انْتَهَى .
<311> طَلْعُ النّخْلِ يَنْفَعُ مِنْ الْبَاهِ وَيَزِيدُ فِي الْمُبَاضَعَةِ وَدَقِيقُ طَلْعِهِ إذَا تَحَمّلَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الْجِمَاعِ أَعَانَ عَلَى الْحَبَلِ إعَانَةً بَالِغَةً وَهُوَ فِي الْبُرُودَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُجَفّفُهَا وَيُسَكّنُ ثَائِرَةَ الدّمِ مَعَ غِلْظَةٍ وَبُطْءِ هَضْمٍ .
(1/429)
وَلَا يَحْتَمِلُهُ إلّا أَصْحَابُ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ وَمَنْ أَكْثَرُ مِنْهُ فَإِنّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الجوارشات الْحَارّةِ وَهُوَ يُعَقّلُ الطّبْعَ وَيُقَوّي الْأَحْشَاءَ وَالْجُمّارُ يَجْرِي مَجْرَاهُ وَكَذَلِكَ الْبَلَحُ وَالْبُسْرُ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يَضُرّ بِالْمَعِدَةِ والصدر، وربما أورث القولنج، وإصلاحه بالسمن، أو بما تقدم ذكره.
حَرْفُ الْعَيْنِ
عِنَبٌ
فِي " الْغَيْلَانِيّاتِ " مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْكُلُ الْعِنَبَ خَرْطًا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْعُقَيْلِيّ : لَا أَصْلَ لِهَذَا الْحَدِيثِ قُلْتُ وَفِيهِ دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبّارِ أَبُو سُلَيْمٍ الْكُوفِيّ قَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ : كَانَ يَكْذِبُ .
وَيَذْكُرُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يُحِبّ الْعِنَبَ وَالْبِطّيخَ .
(1/430)
<312> وَقَدْ ذَكَرَ اللّهُ سُبْحَانَهُ الْعِنَبَ فِي سِتّةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فِي جُمْلَةِ نِعَمِهِ الّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الدّارِ وَفِي الْجَنّةِ وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْفَوَاكِهِ وَأَكْثَرِهَا مَنَافِعَ وَهُوَ يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَأَخْضَرَ وَيَانِعًا وَهُوَ فَاكِهَةٌ مَعَ الْفَوَاكِهِ وَقُوتٌ مَعَ الْأَقْوَاتِ وَأُدْمٌ مَعَ الْإِدَامِ وَدَوَاءٌ مَعَ الْأَدْوِيَةِ وَشَرَابٌ مَعَ الْأَشْرِبَةِ وَطَبْعُهُ طَبْعُ الْحَبّاتِ الْحَرَارَةُ وَالرّطُوبَةُ وَجَيّدُهُ الْكِبَارُ الْمَائِيّ وَالْأَبْيَضُ أَحْمَدُ مِنْ الْأَسْوَدِ إذَا تَسَاوَيَا فِي الْحَلَاوَةِ وَالْمَتْرُوكُ بَعْدَ قَطْفِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَحْمَدُ مِنْ الْمَقْطُوفِ فِي يَوْمِهِ فَإِنّهُ مُنَفّخٌ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ وَالْمُعَلّقُ حَتّى يَضْمُرَ قِشْرُهُ جَيّدٌ لِلْغِذَاءِ مُقَوّ لِلْبَدَنِ وَغِذَاؤُهُ كَغِذَاءِ التّينِ وَالزّبِيبِ وَإِذَا أُلْقِيَ عَجَمُ الْعِنَبِ كَانَ أَكْثَرَ تَلْيِينًا لِلطّبِيعَةِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مُصَدّعٌ لِلرّأْسِ وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ بِالرّمّانِ الْمُزّ .
وَمَنْفَعَةُ الْعِنَبِ يُسَهّلُ الطّبْعَ وَيُسَمّنُ وَيَغْذُو جَيّدُهُ غِذَاءً حَسَنًا وَهُوَ أَحَدُ الْفَوَاكِهِ الثّلَاثِ الّتِي هِيَ مُلُوكُ الْفَوَاكِهِ هُوَ وَالرّطَبُ وَالتّينُ .
عَسَلٌ
قَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ مَنَافِعِهِ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قَالَ الزّهْرِيّ : عَلَيْك بِالْعَسَلِ فَإِنّهُ جَيّدٌ لِلْحِفْظِ وَأَجْوَدُهُ أَصْفَاهُ وَأَبْيَضُهُ وَأَلْيَنُهُ حِدّةً وَأَصْدَقُهُ حَلَاوَةً وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْجِبَالِ وَالشّجَرِ لَهُ فَضْلٌ عَلَى مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْخَلَايَا وَهُوَ بِحَسَبِ مَرْعَى نَحْلِهِ .
عَجْوَةٌ
(1/431)
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ تَصَبّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُرّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ سُمّ وَلَا سِحْرٌ
<313> وَفِي " سُنَنِ النّسَائِيّ " وَابْنِ مَاجَهْ : مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَجْوَةُ مِنْ الْجَنّةِ وَهِيَ شِفَاءٌ مِنْ السّمّ والكمأة مِنْ الْمَنّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ
وَقَدْ قِيلَ إنّ هَذَا فِي عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ أَحَدُ أَصْنَافِ التّمْرِ بِهَا وَمِنْ أَنْفَعِ تَمْرِ الْحِجَازِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ صِنْفٌ كَرِيمٌ مُلَذّذٌ مَتِينٌ لِلْجِسْمِ وَالْقُوّةِ مِنْ أَلْيَنِ التّمْرِ وَأَطْيَبِهِ وَأَلَذّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ التّمْرِ وَطَبْعُهُ وَمَنَافِعُهُ فِي حَرْفِ التّاءِ وَالْكَلَامُ عَلَى دَفْعِ الْعَجْوَةِ لِلسّمّ وَالسّحْرِ فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَتِهِ .
[إبَاحَةُ مَا فِي الْبَحْرِ لَا يَخْتَصّ بِالسّمَكِ ]
عَنْبَرٌ
(1/432)
تَقَدّمَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي قِصّةِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَأَكْلِهِمْ مِنْ الْعَنْبَرِ شَهْرًا وَأَنّهُمْ تَزَوّدُوا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ إلَى الْمَدِينَةِ وَأَرْسَلُوا مِنْهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ أَحَدُ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ إبَاحَةَ مَا فِي الْبَحْرِ لَا يَخْتَصّ بِالسّمَكِ وَعَلَى أَنّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ وَاعْتُرِضَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنّ الْبَحْرَ أَلْقَاهُ حَيّا ثُمّ جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَمَاتَ وَهَذَا حَلَالٌ فَإِنّ مَوْتَهُ بِسَبَبِ مُفَارَقَتِهِ لِلْمَاءِ وَهَذَا لَا يَصِحّ فَإِنّهُمْ إنّمَا وَجَدُوهُ مَيّتًا بِالسّاحِلِ وَلَمْ يُشَاهِدُوهُ قَدْ خَرَجَ عَنْهُ حَيّا ثُمّ جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ حَيّا لَمَا أَلْقَاهُ الْبَحْرُ إلَى سَاحِلِهِ فَإِنّهُ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنّ الْبَحْرَ إنّمَا يَقْذِفُ إلَى سَاحِلِهِ الْمَيّتَ مِنْ حَيَوَانَاتِهِ لَا الْحَيّ مِنْهَا .
وَأَيْضًا : فَلَوْ قُدّرَ احْتِمَالُ مَا ذَكَرُوهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي الْإِبَاحَةِ فَإِنّهُ لَا يُبَاجُ الشّيْءُ مَعَ الشّكّ فِي سَبَبِ إبَاحَتِهِ وَلِهَذَا مَنَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَكْلِ الصّيْدِ إذَا <314> وَجَدَهُ الصّائِدُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ لِلشّكّ فِي سَبَبِ مَوْتِهِ هَلْ هُوَ الْآلَةُ أَمْ الْمَاءُ ؟ .
[طِيبُ الْعَنْبَرِ وَالْمُفَاضَلَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِسْكِ ]
(1/433)
وَأَمّا الْعَنْبَرُ الّذِي هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الطّيبِ فَهُوَ مِنْ أَفْخَرِ أَنْوَاعِهِ بَعْدَ الْمِسْكِ وَأَخْطَأَ مَنْ قَدّمَهُ عَلَى الْمِسْكِ وَجَعَلَهُ سَيّدَ أَنْوَاعِ الطّيبِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِي الْمِسْكِ هُوَ أَطْيَبُ الطّيبِ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ذِكْرُ الْخَصَائِصِ وَالْمَنَافِعِ الّتِي خُصّ بِهَا الْمِسْكُ حَتّى إنّهُ طِيبُ الْجَنّةِ وَالْكُثْبَانِ الّتِي هِيَ مَقَاعِدُ الصّدّيقِينَ هُنَاكَ مِنْ مِسْكٍ لَا مِنْ عَنْبَرٍ .
وَاَلّذِي غَرّ هَذَا الْقَائِلَ أَنّهُ لَا يَدْخُلُهُ التّغَيّرُ عَلَى طُولِ الزّمَانِ فَهُوَ كَالذّهَبِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمِسْكِ فَإِنّهُ بِهَذِهِ الْخَاصّيّةِ الْوَاحِدَةِ لَا يُقَاوِمُ مَا فِي الْمِسْكِ مِنْ الْخَوَاصّ .
[أَنْوَاعُ طِيبِ الْعَنْبَرِ ]
وَبَعْدُ فَضُرُوبُهُ كَثِيرَةٌ وَأَلْوَانُهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُ الْأَبْيَضُ وَالْأَشْهَبُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالْأَخْضَرُ وَالْأَزْرَقُ وَالْأَسْوَدُ وَذُو الْأَلْوَانِ وَأَجْوَدُهُ الْأَشْهَبُ ثُمّ الْأَزْرَقُ ثُمّ الْأَصْفَرُ وَأَرْدَؤُهُ الْأَسْوَدُ . وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي عُنْصُرِهِ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ هُوَ نَبَاتٌ يَنْبُتُ فِي قَعْرِ الْبَحْرِ فَيَبْتَلِعُهُ بَعْضُ دَوَابّهِ فَإِذَا ثَمِلَتْ مِنْهُ قَذَفَتْهُ رَجِيعًا فَيَقْذِفُهُ الْبَحْرُ إلَى سَاحِلِهِ . وَقِيلَ طَلّ يَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ فِي جَزَائِرِ الْبَحْرِ فَتُلْقِيهِ الْأَمْوَاجُ إلَى السّاحِلِ وَقِيلَ رَوْثُ دَابّةٍ بَحْرِيّةٍ تُشْبِهُ الْبَقَرَةَ . وَقِيلَ بَلْ هُوَ جَفَاءٌ مِنْ جَفَاءِ الْبَحْرِ أَيْ زَبَدٌ .
(1/434)
وَقَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : هُوَ فِيمَا يُظَنّ يَنْبُعُ مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَحْرِ وَاَلّذِي يُقَالُ إنّهُ زَبَدُ الْبَحْرِ أَوْ رَوْثُ دَابّةٍ بَعِيدٌ انْتَهَى .
وَمِزَاجُهُ حَارّ يَابِسٌ مُقَوّ لِلْقَلْبِ وَالدّمَاغِ وَالْحَوَاسّ وَأَعْضَاءِ الْبَدَنِ نَافِعٌ مِنْ الْفَالِجِ وَاللّقْوَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْبَلْغَمِيّةِ وَأَوْجَاعِ الْمَعِدَةِ الْبَارِدَةِ وَالرّيَاحِ <315> الْغَلِيظَةِ وَمِنْ السّدَدِ إذَا شُرِبَ أَوْ طُلِيَ بِهِ مِنْ خَارِجٍ وَإِذَا تُبُخّرَ بِهِ نَفَعَ مِنْ الزّكَامِ وَالصّدَاعِ والشقيقة الْبَارِدَةِ .
عُودٌ
(1/435)
الْعُودُ الْهِنْدِيّ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَهُوَ الْكُسْتُ وَيُقَالُ لَهُ الْقُسْطُ وَسَيَأْتِي فِي حَرْفِ الْقَافِ . الثّانِي : يُسْتَعْمَلُ فِي الطّيبِ وَيُقَالُ لَهُ الْأَلُوّةُ . وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ ابْنِ عُمَر َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُ كَانَ يَسْتَجْمِرُ بِالْأَلُوّةِ غَيْرَ مُطَرّاةٍ وَبِكَافُورٍ يُطْرَحُ مَعَهَا وَيَقُولُ هَكَذَا كَانَ يَسْتَجْمِرُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَثَبَتَ عَنْهُ فِي صِفَةِ نَعِيمِ أَهْلِ الْجَنّةِ مَجَامِرُهُمْ الْأَلُوّةُ وَالْمَجَامِرُ جَمْعُ مِجْمَرٍ وَهُوَ مَا يُتَجَمّرُ بِهِ مِنْ عُودٍ وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ . أَجْوَدُهَا : الْهِنْدِيّ ثُمّ الصّينِيّ ثُمّ الْقَمَارِيّ ثُمّ الْمَنْدَلِيّ وَأَجْوَدُهُ الْأَسْوَدُ وَالْأَزْرَقُ الصّلْبُ الرّزِينُ الدّسَمِ وَأَقَلّهُ جَوْدَةً مَا خَفّ وَطَفَا عَلَى الْمَاءِ وَيُقَالُ إنّهُ شَجَرٌ يُقْطَعُ وَيُدْفَنُ فِي الْأَرْضِ سَنَةً فَتَأْكُلُ الْأَرْضُ مِنْهُ مَا لَا يَنْفَعُ وَيَبْقَى عُودُ الطّيبِ لَا تَعْمَلُ فِيهِ الْأَرْضُ شَيْئًا يَتَعَفّنُ مِنْهُ قِشْرُهُ وَمَا لَا طِيبَ فِيهِ .
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّالِثَةِ يَفْتَحُ السّدَدَ وَيَكْسِرُ الرّيَاحَ وَيَذْهَبُ بِفَضْلِ الرّطُوبَةِ وَيُقَوّي الْأَحْشَاءَ وَالْقَلْبَ وَيُفْرِحُهُ وَيَنْفَعُ الدّمَاغَ وَيُقَوّي الْحَوَاسّ وَيَحْبِسُ الْبَطْنَ وَيَنْفَعُ مِنْ سَلَسِ الْبَوْلِ الْحَادِثِ عَنْ بَرْدِ الْمَثَانَةِ .
(1/436)
قَالَ ابْنُ سَمْجُونٍ : الْعُودُ ضُرُوبٌ كَثِيرَةٌ يَجْمَعُهَا اسْمُ الْأَلُوّةِ وَيُسْتَعْمَلُ <316> مِنْ دَاخِلٍ وَخَارِجٍ وَيُتَجَمّرُ بِهِ مُفْرَدًا وَمَعَ غَيْرِهِ وَفِي الْخَلْطِ لِلْكَافُورِ بِهِ عِنْدَ التّجْمِيرِ مَعْنًى طِبّيّ وَهُوَ إصْلَاحُ كُلّ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَفِي التّجَمّرِ مُرَاعَاةُ جَوْهَرِ الْهَوَاءِ وَإِصْلَاحُهُ فَإِنّهُ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ السّتّةِ الضّرُورِيّةِ الّتِي فِي صَلَاحِهَا صَلَاحُ الْأَبْدَانِ .
عَدَسٌ
قَدْ وَرَدَ فِيهِ أَحَادِيثُ كُلّهَا بَاطِلَةٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْهَا كَحَدِيثِ إنّهُ قُدّسَ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيّا وَحَدِيثِ إنّهُ يُرِقّ الْقَلْبَ وَيُغْزِرُ الدّمْعَةَ وَإِنّهُ مَأْكُولُ الصّالِحِينَ وَأَرْفَعُ شَيْءٍ جَاءَ فِيهِ وَأَصَحّهُ أَنّهُ شَهْوَةُ الْيَهُودِ الّتِي قَدّمُوهَا عَلَى الْمَنّ وَالسّلْوَى وَهُوَ قَرِينُ الثّومِ وَالْبَصَلِ فِي الذّكْرِ .
وَطَبْعُهُ طَبْعُ الْمُؤَنّثِ بَارِدٌ يَابِسٌ وَفِيهِ قُوّتَانِ مُتَضَادّتَانِ . إحْدَاهُمَا : يُعَقّلُ الطّبِيعَةَ . وَالْأُخْرَى : يُطْلِقُهَا وَقِشْرُهُ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّالِثَةِ حِرّيفٌ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ وَتِرْيَاقُهُ فِي قِشْرِهِ وَلِهَذَا كَانَ صِحَاحُهُ أَنْفَعَ مِنْ مَطْحُونِهِ وَأَخَفّ عَلَى الْمَعِدَةِ وَأَقَلّ ضَرَرًا فَإِنّ لُبّهُ بَطِيءُ الْهَضْمِ لِبُرُودَتِهِ وَيُبُوسَتِهِ وَهُوَ مُوَلّدٌ لِلسّوْدَاءِ وَيَضُرّ بالماليخوليا ضَرَرًا بَيّنًا وَيَضُرّ بِالْأَعْصَابِ وَالْبَصَرِ .
(1/437)
وَهُوَ غَلِيظُ الدّمِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنّبَهُ أَصْحَابُ السّوْدَاءِ وَإِكْثَارُهُمْ مِنْهُ يُوَلّدُ لَهُمْ أَدْوَاءً رَدِيئَةً كَالْوَسْوَاسِ وَالْجُذَامِ وَحُمّى الرّبْعِ وَيُقَلّلُ ضَرَرَهُ السّلْقُ وَالْإِسْفَانَاخُ وَإِكْثَارُ الدّهْنِ . وَأَرْدَأَ مَا أُكِلَ بالنمكسود وَلْيُتَجَنّبْ خَلْطُ الْحَلَاوَةِ بِهِ فَإِنّهُ يُورِثُ سُدَدًا كَبِدِيّةً وَإِدْمَانُهُ يُظْلِمُ الْبَصَرَ لِشِدّةِ تَجْفِيفِهِ وَيُعْسِرُ الْبَوْلَ وَيُوجِبُ الْأَوْرَامَ الْبَارِدَةَ وَالرّيَاحَ الْغَلِيظَةَ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ السّمِينُ السّرِيعُ النّضْجِ .
وَأَمّا مَا يَظُنّهُ الْجُهّالُ أَنّهُ كَانَ سِمَاطَ الْخَلِيلِ الّذِي يُقَدّمُهُ لِأَضْيَافِهِ <317> فَكَذِبٌ مُفْتَرًى وَإِنّمَا حَكَى اللّهُ عَنْهُ الضّيَافَةَ بِالشّوَاءِ وَهُوَ الْعِجْلُ الْحَنِيذُ .
[قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ فِي الْعَدَسِ ]
وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ إسْحَاقَ قَالَ سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ الْحَدِيثِ الّذِي جَاءَ فِي الْعَدَسِ أَنّهُ قُدّسَ عَلَى لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيّا فَقَالَ وَلَا عَلَى لِسَانِ نَبِيّ وَاحِدٍ وَإِنّهُ لِمُؤْذٍ مُنَفّخٌ مَنْ حَدّثَكُمْ بِهِ ؟ قَالُوا : سَلْمُ بْنُ سَالِمٍ فَقَالَ عَمّنْ ؟ قَالُوا : عَنْك . قَالَ وَعَنّي أَيْضًا ؟ .
حَرْفُ الْغَيْنِ
غَيْثٌ
(1/438)
مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدّةِ مَوَاضِعَ وَهُوَ لَذِيذُ الِاسْمِ عَلَى السّمْعِ وَالْمُسَمّى عَلَى الرّوحِ وَالْبُدْنِ تَبْتَهِجُ الْأَسْمَاعُ بِذِكْرِهِ وَالْقُلُوبُ بِوُرُودِهِ وَمَاؤُهُ أَفْضَلُ الْمِيَاهِ وَأَلْطَفُهَا وَأَنْفَعُهَا وَأَعْظَمُهَا بَرَكَةً وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَ مِنْ سَحَابٍ رَاعِدٍ وَاجْتَمَعَ فِي مُسْتَنْقَعَاتِ الْجِبَالِ وَهُوَ أَرْطَبُ مِنْ سَائِرِ الْمِيَاهِ لِأَنّهُ لَمْ تَطُلْ مُدّتُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَيَكْتَسِبُ مِنْ يُبُوسَتِهَا وَلَمْ يُخَالِطْهُ جَوْهَرٌ يَابِسٌ وَلِذَلِكَ يَتَغَيّرُ وَيَتَعَفّنُ سَرِيعًا لِلَطَافَتِهِ وَسُرْعَةِ انْفِعَالِهِ وَهَلْ الْغَيْثُ الرّبِيعِيّ أَلْطَفُ مِنْ الشّتْوِيّ أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
[التّرْجِيحُ بَيْنَ الْغَيْثِ الشّتْوِيّ وَالرّبِيعِيّ ]
قَالَ مَنْ رَجّحَ الْغَيْثَ الشّتْوِيّ حَرَارَةُ الشّمْسِ تَكُونُ حِينَئِذٍ أَقَلّ فَلَا تَجْتَذِبُ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ إلّا أَلْطَفَهُ وَالْجَوّ صَافٍ وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الدّخّانِيّةِ وَالْغُبَارِ الْمُخَالِطِ لِلْمَاءِ وَكُلّ هَذَا يُوجِبُ لُطْفَهُ وَصَفَاءَهُ وَخُلُوّهُ مِنْ مُخَالِطٍ .
قَالَ مَنْ رَجّحَ الرّبِيعِيّ الْحَرَارَةُ تُوجِبُ تَحَلّلَ الْأَبْخِرَةِ الْغَلِيظَةِ وَتُوجِبُ رِقّةَ الْهَوَاءِ وَلَطَافَتَهُ فَيَخِفّ بِذَلِكَ الْمَاءُ وَتَقِلّ أَجْزَاؤُهُ الْأَرْضِيّةُ وَتُصَادِفُ وَقْتَ حَيَاةِ النّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَطِيبَ الْهَوَاءِ . <318>
[تَبَرّكُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَطَرُ]
(1/439)
وَذَكَرَ الشّافِعِيّ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَصَابَنَا مَطَرٌ فَحَسَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَوْبَهُ وَقَالَ إنّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي هَدْيِهِ فِي الِاسْتِشْفَاءِ ذِكْرُ اسْتِمْطَارِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَبَرّكِهِ بِمَاءِ الْغَيْثِ عند أول مجيئه.
حَرْفُ الْفَاءِ
فَاتِحَةُ الْكِتَابِ
وَأُمّ الْقُرْآنِ وَالسّبْعُ الْمَثَانِي وَالشّفَاءُ التّامّ وَالدّوَاءُ النّافِعُ وَالرّقْيَةُ التّامّةُ وَمِفْتَاحُ الْغِنَى وَالْفَلَاحِ وَحَافِظَةُ الْقُوّةِ وَدَافِعَةُ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْخَوْفِ وَالْحَزَنِ لِمَنْ عَرَفَ مِقْدَارَهَا وَأَعْطَاهَا حَقّهَا وَأَحْسَنَ تَنْزِيلَهَا عَلَى دَائِهِ وَعَرَفَ وَجْهَ الِاسْتِشْفَاءِ وَالتّدَاوِي بِهَا وَالسّرّ الّذِي لِأَجْلِهِ كَانَتْ كَذَلِكَ .
وَلَمّا وَقَعَ بَعْضُ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ رَقَى بِهَا اللّدِيغَ فَبَرَأَ لِوَقْتِهِ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا أَدْرَاك أَنّهَا رُقْيَةٌ
(1/440)
وَمَنْ سَاعَدَهُ التّوْفِيقُ وَأُعِينَ بِنُورِ الْبَصِيرَةِ حَتّى وَقَفَ عَلَى أَسْرَارِ هَذِهِ السّورَةِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ التّوْحِيدِ وَمَعْرِفَةِ الذّاتِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ وَإِثْبَاتِ الشّرْعِ وَالْقَدَرِ وَالْمَعَادِ وَتَجْرِيدِ تَوْحِيدِ الرّبُوبِيّةِ وَالْإِلَهِيّةِ وَكَمَالِ التّوَكّلِ وَالتّفْوِيضِ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلّهُ وَلَهُ الْحَمْدُ كُلّهُ وَبِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلّهُ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلّهُ وَالِافْتِقَارُ إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْهِدَايَةِ الّتِي هِيَ أَصْلُ سَعَادَةِ الدّارَيْنِ وَعَلِمَ ارْتِبَاطَ مَعَانِيهَا بِجَلْبِ مَصَالِحِهِمَا وَدَفْعِ مَفَاسِدِهِمَا وَأَنّ الْعَاقِبَةَ الْمُطْلَقَةَ التّامّةَ وَالنّعْمَةَ الْكَامِلَةَ مَنُوطَةٌ بِهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى التّحَقّقِ بِهَا أَغْنَتْهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالرّقَى وَاسْتَفْتَحَ بِهَا مِنْ الْخَيْرِ أَبْوَابَهُ وَدَفَعَ بِهَا مِنْ الشّرّ أَسْبَابَهُ .
<319> وَهَذَا أَمْرٌ يَحْتَاجُ اسْتِحْدَاثَ فِطْرَةٍ أُخْرَى وَعَقْلٍ آخَرَ وَإِيمَانٍ آخَرَ وَتَاللّهِ لَا تَجِدُ مَقَالَةً فَاسِدَةً وَلَا بِدْعَةً بَاطِلَةً إلّا وَفَاتِحَةُ الْكِتَابِ مُتَضَمّنَةٌ لِرَدّهَا وَإِبْطَالِهَا بِأَقْرَبِ الطّرُقِ وَأَصَحّهَا وَأَوْضَحِهَا وَلَا تَجِدُ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيّةِ وَأَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَأَدْوِيَتِهَا مِنْ عِلَلِهَا وَأَسْقَامِهَا إلّا وَفِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ مِفْتَاحُهُ وَمَوْضِعُ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ وَلَا مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِ السّائِرِينَ إلَى رَبّ الْعَالَمِينَ إلّا وَبِدَايَتُهُ وَنِهَايَتُهُ فِيهَا .
(1/441)
وَلَعَمْرُ اللّهِ إنّ شَأْنَهَا لَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ فَوْقَ ذَلِكَ . وَمَا تَحَقّقَ عَبْدٌ بِهَا وَاعْتَصَمَ بِهَا وَعَقَلَ عَمّنْ تَكَلّمَ بِهَا وَأَنْزَلَهَا شِفَاءً تَامّا وَعِصْمَةً بَالِغَةً وَنُورًا مُبِينًا وَفَهِمَهَا وَفَهِمَ لَوَازِمَهَا كَمَا يَنْبَغِي وَوَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا شِرْكٍ وَلَا أَصَابَهُ مَرَضٌ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ إلّا لِمَامًا غَيْرَ مُسْتَقِرّ .
هَذَا وَإِنّهَا الْمِفْتَاحُ الْأَعْظَمُ لِكُنُوزِ الْأَرْضِ كَمَا أَنّهَا الْمِفْتَاحُ لِكُنُوزِ الْجَنّةِ وَلَكِنْ لَيْسَ كُلّ وَاحِدٍ يُحْسِنُ الْفَتْحَ بِهَذَا الْمِفْتَاحِ وَلَوْ أَنّ طُلّابَ الْكُنُوزِ وَقَفُوا عَلَى سِرّ هَذِهِ السّورَةِ وَتَحَقّقُوا بِمَعَانِيهَا وَرَكّبُوا لِهَذَا الْمِفْتَاحِ أَسْنَانًا وَأَحْسَنُوا الْفَتْحَ بِهِ لَوَصَلُوا إلَى تَنَاوُلِ الْكُنُوزِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوِقٍ وَلَا مُمَانِعٍ .
وَلَمْ نَقُلْ هَذَا مُجَازَفَةً وَلَا اسْتِعَارَةً بَلْ حَقِيقَةً وَلَكِنْ لِلّهِ تَعَالَى حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي إخْفَاءِ هَذَا السّرّ عَنْ نُفُوسِ أَكْثَرِ الْعَالَمِينَ كَمَا لَهُ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فِي إخْفَاءِ كُنُوزِ الْأَرْضِ عَنْهُمْ وَالْكُنُوزُ الْمَحْجُوبَةُ قَدْ اُسْتُخْدِمَ عَلَيْهَا أَرْوَاحٌ خَبِيثَةٌ شَيْطَانِيّةٌ تَحُولُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَبَيْنَهَا وَلَا تَقْهَرُهَا إلّا أَرْوَاحٌ عُلْوِيّةٌ شَرِيفَةٌ غَالِبَةٌ لَهَا بِحَالِهَا الْإِيمَانِيّ مَعَهَا مِنْهُ أَسْلِحَةٌ لَا تَقُومُ لَهَا الشّيَاطِينُ وَأَكْثَرُ نُفُوسِ النّاسِ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَلَا يُقَاوِمُ تِلْكَ الْأَرْوَاحَ وَلَا يَقْهَرُهَا وَلَا يَنَالُ مَنْ سَلَبِهَا شَيْئًا فَإِنّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ .
فَاغِيَةٌ
(1/442)
هِيَ نَوْرُ الْحِنّاءِ وَهِيَ مِنْ أَطْيَبِ الرّيَاحِينِ وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِهِ " شُعَبُ الْإِيمَانِ " مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ <320> سَيّدُ الرّيَاحِينِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْفَاغِيَةُ وَرَوَى فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ أَحَبّ الرّيَاحِينِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْفَاغِيَةُ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِحَالِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فَلَا نَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا لَا نَعْلَمُ صِحّتَهُ .
وَهِيَ مُعْتَدِلَةٌ فِي الْحَرّ وَالْيُبْسِ فِيهَا بَعْضُ الْقَبْضِ وَإِذَا وُضِعَتْ بَيْنَ طَيّ ثِيَابِ الصّوفِ حَفِظَتْهَا مِنْ السّوسِ وَتَدْخُلُ فِي مَرَاهِمِ الْفَالِجِ وَالتّمَدّدِ وَدُهْنُهَا يُحَلّلُ الْأَعْضَاءَ وَيُلَيّنُ الْعَصَبَ .
فِضّةٌ
ثَبَتَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضّةٍ وَفَصّهُ مِنْهُ وَكَانَتْ قَبِيعَةُ سَيْفِهِ فِضّةً وَلَمْ يَصِحّ عَنْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ لِبَاسِ الْفِضّةِ وَالتّحَلّي بِهَا شَيْءٌ الْبَتّةَ كَمَا صَحّ عَنْهُ الْمَنْعُ مِنْ الشّرْبِ فِي آنِيَتِهَا وَبَابُ الْآنِيَةِ أَضْيَقُ مِنْ بَابِ اللّبَاسِ وَالتّحَلّي وَلِهَذَا يُبَاحُ لِلنّسَاءِ لِبَاسًا وَحِلْيَةً مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنّ اسْتِعْمَالُهُ آنِيَةً فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِ الْآنِيَةِ تَحْرِيمُ اللّبَاسِ وَالْحِلْيَةِ .
(1/443)
وَفِي " السّنَنِ " عَنْهُ وَأَمّا الْفِضّةُ فَالْعَبُوا بِهَا لَعِبًا فَالْمَنْعُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ يُبَيّنُهُ إمّا نَصّ أَوْ إجْمَاعٌ فَإِنْ ثَبَتَ أَحَدُهُمَا وَإِلّا فَفِي الْقَلْبِ مِنْ تَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَى الرّجَالِ شَيْءٌ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسَكَ بِيَدِهِ ذَهَبًا وَبِالْأُخْرَى حَرِيرًا وَقَالَ هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمّتِي حِلّ لِإِنَاثِهِمْ
<321> وَالْفِضّةُ سِرّ مِنْ أَسْرَارِ اللّهِ فِي الْأَرْضِ وَطَلْسَمُ الْحَاجَاتِ وَإِحْسَانُ أَهْلِ الدّنْيَا بَيْنَهُمْ وَصَاحِبُهَا مَرْمُوقٌ بِالْعُيُونِ بَيْنَهُمْ مُعَظّمٌ فِي النّفُوسِ مُصَدّرٌ فِي الْمَجَالِسِ لَا تُغْلَقُ دُونَهُ الْأَبْوَابُ وَلَا تُمَلّ مُجَالَسَتُهُ وَلَا مُعَاشَرَتُهُ وَلَا يُسْتَثْقَلُ مَكَانُهُ تُشِيرُ الْأَصَابِعُ إلَيْهِ وَتَعْقِدُ الْعُيُونُ نِطَاقَهَا عَلَيْهِ إنْ قَالَ سُمِعَ قَوْلُهُ وَإِنْ شَفَعَ قُبِلَتْ شَفَاعَتُهُ وَإِنْ شَهِدَ زُكّيَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ خَطَبَ فَكُفْءٌ لَا يُعَابُ وَإِنْ كَانَ ذَا شَيْبَةٍ بَيْضَاءَ فَهِيَ أَجْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ حِلْيَةِ الشّبَابِ .
وَهِيَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْمُفْرِحَةِ النّافِعَةِ مِنْ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالْحَزَنِ وَضَعْفِ الْقَلْبِ وَخَفَقَانهُ وَتَدْخُلُ فِي الْمَعَاجِينِ الْكِبَارِ وَتَجْتَذِبُ بِخَاصّيّتِهَا مَا يَتَوَلّدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْأَخْلَاطِ الْفَاسِدَةِ خُصُوصًا إذَا أُضِيفَتْ إلَى الْعَسَلِ الْمُصَفّى وَالزّعْفَرَانِ .
(1/444)
وَمِزَاجُهَا إلَى الْيُبُوسَةِ وَالْبُرُودَةِ وَيَتَوَلّدُ عَنْهَا مِنْ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ مَا يَتَوَلّدُ وَالْجِنَانُ الّتِي أَعَدّهَا اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِأَوْلِيَائِهِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ أَرْبَعٌ جَنّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَجَنّتَانِ مِنْ فِضّةٍ آنِيَتُهُمَا وَحِلْيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا . وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " الصّحِيحُ " مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ أَنّهُ قَالَ الّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ إنّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنّمَ
وَصَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا فَإِنّهَا لَهُمْ فِي الدّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ
[عِلّةُ تَحْرِيمِ الْفِضّةِ ]
فَقِيلَ عِلّةُ التّحْرِيمِ تَضْيِيقُ النّقُودِ فَإِنّهَا إذَا اُتّخِذَتْ أَوَانِيَ فَاتَتْ الْحِكْمَةُ <322> الّتِي وُضِعَتْ لِأَجْلِهَا مِنْ قِيَامِ مَصَالِحِ بَنِي آدَمَ وَقِيلَ الْعِلّةُ الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ . وَقِيلَ الْعِلّةُ كَسْرُ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ إذَا رَأَوْهَا وَعَايَنُوهَا .
(1/445)
وَهَذِهِ الْعِلَلُ فِيهَا مَا فِيهَا فَإِنّ التّعْلِيلَ بِتَضْيِيقِ النّقُودِ يَمْنَعُ مِنْ التّحَلّي بِهَا وَجَعْلِهَا سَبَائِكَ وَنَحْوَهَا مِمّا لَيْسَ بِآنِيَةٍ وَلَا نَقْدٍ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ حَرَامٌ بِأَيّ شَيْءٍ كَانَ وَكَسْرُ قُلُوبِ الْمَسَاكِينِ لَا ضَابِطَ لَهُ فَإِنّ قُلُوبَهُمْ تَنْكَسِرُ بِالدّورِ الْوَاسِعَةِ وَالْحَدَائِقِ الْمُعْجِبَةِ وَالْمَرَاكِبِ الْفَارِهَةِ وَالْمَلَابِسِ الْفَاخِرَةِ وَالْأَطْعِمَةِ اللّذِيذَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَكُلّ هَذِهِ عِلَلٌ مُنْتَقِضَةٌ إذْ تُوجَدُ الْعِلّةُ وَيَتَخَلّفُ مَعْلُولُهَا .
[عِلّةٌ عِنْدَ الْمُصَنّفِ ]
فَالصّوَابُ أَنّ الْعِلّةَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مَا يُكْسِبُ اسْتِعْمَالُهَا الْقَلْبَ مِنْ الْهَيْئَةِ وَالْحَالَةِ الْمُنَافِيَةِ لِلْعُبُودِيّةِ مُنَافَاةً ظَاهِرَةً وَلِهَذَا عَلّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهَا لِلْكُفّارِ فِي الدّنْيَا إذْ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ الْعُبُودِيّةِ الّتِي يَنَالُونَ بِهَا فِي الْآخِرَةِ نَعِيمَهَا فَلَا يَصْلُحُ اسْتِعْمَالُهَا لِعَبِيدِ اللّهِ فِي الدّنْيَا وَإِنّمَا يَسْتَعْمِلُهَا مَنْ خَرَجَ عَنْ عُبُودِيّتِهِ وَرَضِيَ بِالدّنْيَا وَعَاجِلِهَا مِنْ الْآخِرَةِ .
حَرْفُ الْقَافِ
قُرْآنٌ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [ الْإِسْرَاءُ : 82 ] وَالصّحِيحُ أَنّ " مِنْ " هَا هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا لِلتّبْعِيضِ وَقَالَ تَعَالَى : يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ [ يُونُسُ 57 ] .
(1/446)
فَالْقُرْآنُ هُوَ الشّفَاءُ التّامّ مِنْ جَمِيعِ الْأَدْوَاءِ الْقَلْبِيّةِ وَالْبَدَنِيّةِ وَأَدْوَاءِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا كُلّ أَحَدٍ يُؤَهّلُ وَلَا يُوَفّقُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ وَإِذَا أَحْسَنَ الْعَلِيلُ التّدَاوِي بِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى دَائِهِ بِصِدْقٍ وَإِيمَانٍ وَقَبُولٍ تَامّ وَاعْتِقَادٍ جَازِمٍ وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ لَمْ يُقَاوِمْهُ الدّاءُ أَبَدًا .
<323> وَكَيْفَ تُقَاوِمُ الْأَدْوَاءُ كَلَامَ رَبّ الْأَرْضِ وَالسّمَاءِ الّذِي لَوْ نَزَلَ عَلَى الْجِبَالِ لَصَدّعَهَا أَوْ عَلَى الْأَرْضِ لَقَطّعَهَا فَمَا مِنْ مَرَضٍ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ إلّا وَفِي الْقُرْآنِ سَبِيلُ الدّلَالَةِ عَلَى دَوَائِهِ وَسَبَبِهِ وَالْحَمِيّةِ مِنْهُ لِمَنْ رَزَقَهُ اللّهُ فَهْمًا فِي كِتَابِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكَلَامِ عَلَى الطّبّ بَيَانُ إرْشَادِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى أُصُولِهِ وَمَجَامِعِهِ الّتِي هِيَ حِفْظُ الصّحّةِ وَالْحِمْيَةُ وَاسْتِفْرَاغُ الْمُؤْذِي وَالِاسْتِدْلَالُ بِذَلِكَ عَلَى سَائِرِ أَفْرَادِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ .
وَأَمّا الْأَدْوِيَةُ الْقَلْبِيّةُ فَإِنّهُ يَذْكُرُهَا مُفَصّلَةً وَيَذْكُرُ أَسْبَابَ أَدْوَائِهَا وَعِلَاجَهَا . قَالَ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [ الْعَنْكَبُوت : 51 ] فَمَنْ لَمْ يَشْفِهِ الْقُرْآنُ فَلَا شَفَاهُ اللّهُ وَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلَا كَفَاهُ اللّهُ .
قِثّاءٌ
(1/447)
فِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْقِثّاءَ بِالرّطَبِ وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ وَغَيْرُهُ الْقِثّاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ مُطْفِئٌ لِحَرَارَةِ الْمَعِدَةِ الْمُلْتَهِبَةِ بَطِيءُ الْفَسَادِ فِيهَا نَافِعٌ مِنْ وَجَعِ الْمَثَانَةِ وَرَائِحَتُهُ تَنْفَعُ مِنْ الْغَشْيِ وَبِزْرُهُ يُدِرّ الْبَوْلَ وَوَرَقُهُ إذَا اُتّخِذَ ضِمَادًا نَفَعَ مِنْ عَضّةِ الْكَلْبِ وَهُوَ بَطِيءُ الِانْحِدَارِ عَنْ الْمَعِدَةِ وَبَرْدُهُ مُضِرّ بِبَعْضِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ مَعَهُ مَا يُصْلِحُهُ وَيَكْسِرُ بُرُودَتَهُ وَرُطُوبَتَهُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ أَكَلَهُ بِالرّطَبِ فَإِذَا أُكِلَ بِتَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ عَسَلٍ عَدّلَهُ .
قُسْطٌ وَكُسْتٌ
بِمَعْنًى وَاحِدٍ . وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرُ مَا تَدَاوَيْتُمْ بِهِ الْحِجَامَةُ وَالْقُسْطُ الْبَحْرِيّ
<324> وَفِي " الْمُسْنَدِ " : مِنْ حَدِيثِ أُمّ قَيْسٍ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيّ فَإِنّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ
الْقُسْطُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا : الْأَبْيَضُ الّذِي يُقَالُ لَهُ الْبَحْرِيّ . وَالْآخَرُ الْهِنْدِيّ وَهُوَ أَشَدّهُمَا حَرّا وَالْأَبْيَضُ أَلْيَنُهُمَا وَمَنَافِعُهُمَا كَثِيرَةٌ جِدّا .
(1/448)
وَهُمَا حَارّانِ يَابِسَانِ فِي الثّالِثَةِ يُنَشّفَانِ الْبَلْغَمَ قَاطِعَانِ لِلزّكَامِ وَإِذَا شُرِبَا نَفَعَا مِنْ ضَعْفِ الْكَبِدِ وَالْمَعِدَةِ وَمِنْ بَرْدِهِمَا وَمِنْ حُمّى الدّوْرِ وَالرّبْعِ وَقَطَعَا وَجَعَ الْجَنْبِ وَنَفَعَا مِنْ السّمُومِ وَإِذَا طُلِيَ بِهِ الْوَجْهُ مَعْجُونًا بِالْمَاءِ وَالْعَسَلِ قَلَعَ الْكَلَفَ وَقَالَ جَالِينُوسُ : يَنْفَعُ مِنْ الْكُزَازِ وَوَجَعِ الْجَنْبَيْنِ وَيَقْتُلُ حَبّ الْقَرَعِ .
[الرّدّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ نَفْعَهُ لِلْمَجْنُوبِ ]
وَقَدْ خَفِيَ عَلَى جُهّالِ الْأَطِبّاءِ نَفْعُهُ مِنْ وَجَعِ ذَاتِ الْجَنْبِ فَأَنْكَرُوهُ وَلَوْ ظَفِرَ هَذَا الْجَاهِلُ بِهَذَا النّقْلِ عَنْ جَالِينُوسَ لِنُزُولِهِ مَنْزِلَةَ النّصّ كَيْفَ وَقَدْ نَصّ كَثِيرٌ مِنْ الْأَطِبّاءِ الْمُتَقَدّمِينَ عَلَى أَنّ الْقُسْطَ يَصْلُحُ لِلنّوْعِ الْبَلْغَمِيّ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ ذَكَرَهُ الْخَطّابِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْجَهْمِ .
وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ طِبّ الْأَطِبّاءِ بِالنّسْبَةِ إلَى طِبّ الْأَنْبِيَاءِ أَقَلّ مِنْ نِسْبَةِ طِبّ الطّرُقِيّةِ وَالْعَجَائِزِ إلَى طِبّ الْأَطِبّاءِ وَأَنّ بَيْنَ مَا يُلْقَى بِالْوَحْيِ وَبَيْنَ مَا يُلْقَى بِالتّجْرِبَةِ وَالْقِيَاسِ مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمّا بَيْنَ الْقَدَمِ وَالْفَرَقِ .
وَلَوْ أَنّ هَؤُلَاءِ الْجُهّالَ وَجَدُوا دَوَاءً مَنْصُوصًا عَنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ مِنْ الْأَطِبّاءِ لَتَلَقّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالتّسْلِيمِ وَلَمْ يَتَوَقّفُوا عَلَى تَجْرِبَتِهِ .
(1/449)
نَعَمْ نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنّ لِلْعَادَةِ تَأْثِيرًا فِي الِانْتِفَاعِ بِالدّوَاءِ وَعَدَمِهِ فَمَنْ اعْتَادَ <325> دَوَاءً وَغِذَاءً كَانَ أَنْفَعَ لَهُ وَأَوْفَقَ مِمّنْ لَمْ يَعْتَدْهُ بَلْ رُبّمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ مَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ .
وَكَلَامُ فُضَلَاءِ الْأَطِبّاءِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا فَهُوَ بِحَسَبِ الْأَمْزِجَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْعَوَائِدِ وَإِذَا كَانَ التّقْيِيدُ بِذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي كَلَامِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ فَكَيْفَ يَقْدَحُ فِي كَلَامِ الصّادِقِ الْمَصْدُوقِ وَلَكِنّ نُفُوسَ الْبَشَرِ مُرَكّبَةٌ عَلَى الْجَهْلِ وَالظّلْمِ إلّا مَنْ أَيّدَهُ اللّهُ بِرُوحِ الْإِيمَانِ وَنَوّرَ بَصِيرَتَهُ بِنُورِ الْهُدَى .
قَصَبُ السّكّرِ
جَاءَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ السّنّةِ الصّحِيحَةِ فِي الْحَوْضِ مَاؤُهُ أَحْلَى مِنْ السّكّر وَلَا أَعْرِفُ السّكّرَ فِي الْحَدِيثِ إلّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَالسّكّرُ حَادِثٌ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ مُتَقَدّمُو الْأَطِبّاءِ وَلَا كَانُوا يَعْرِفُونَهُ وَلَا يَصِفُونَهُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَإِنّمَا يَعْرِفُونَ الْعَسَلَ وَيُدْخِلُونَهُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَقَصَبُ السّكّرِ حَارّ رَطْبٌ يَنْفَعُ مِنْ السّعَالِ وَيَجْلُو الرّطُوبَةَ وَالْمَثَانَةَ وَقَصَبَةَ الرّئَةِ وَهُوَ أَشَدّ تَلْيِينًا مِنْ السّكّرِ وَفِيهِ مَعُونَةٌ عَلَى الْقَيْءِ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيَزِيدُ فِي <326> الْبَاهِ .
قَالَ عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ الصّفّارُ : مَنْ مَصّ قَصَبَ السّكّرِ بَعْدَ طَعَامِهِ لَمْ يَزَلْ يَوْمَهُ أَجْمَعَ فِي سُرُورٍ انْتَهَى .
وَهُوَ يَنْفَعُ مِنْ خُشُونَةِ الصّدْرِ وَالْحَلْقِ إذَا شُوِيَ وَيُوَلّدُ رِيَاحًا دَفَعَهَا بِأَنْ يُقَشّرَ وَيُغْسَلَ بِمَاءٍ حَارّ .
(1/450)
وَالسّكّرُ حَارّ رَطْبٌ عَلَى الْأَصَحّ وَقِيلَ بَارِدٌ وَأَجْوَدُهُ الْأَبْيَضُ الشّفّافُ الطّبَرْزَدُ وَعَتِيقُهُ أَلْطَفُ مِنْ جَدِيدِهِ وَإِذَا طُبِخَ وَنُزِعَتْ رَغْوَتُهُ سَكّنَ الْعَطَشَ وَالسّعَالَ وَهُوَ يَضُرّ الْمَعِدَةَ الّتِي تَتَوَلّدُ فِيهَا الصّفْرَاءُ لِاسْتِحَالَتِهِ إلَيْهَا وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِمَاءِ اللّيْمُونِ أَوْ النّارِنْجِ أَوْ الرّمّانِ اللفان .
وَبَعْضُ النّاسِ يُفَضّلُهُ عَلَى الْعَسَلِ لِقِلّةِ حَرَارَتِهِ وَلِينِهِ وَهَذَا تَحَامُلٌ مِنْهُ عَلَى الْعَسَلِ فَإِنّ مَنَافِعَ الْعَسَلِ أَضْعَافُ مَنَافِعِ السّكّرِ وَقَدْ جَعَلَهُ اللّهُ شِفَاءً وَدَوَاءً وَإِدَامًا وَحَلَاوَةً وَأَيْنَ نَفْعُ السّكّرِ مِنْ مَنَافِعِ الْعَسَلِ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَتَلْيِينِ الطّبْعِ وَإِحْدَادِ الْبَصَرِ وَجَلَاءِ ظُلْمَتِهِ وَدَفْعِ الْخَوَانِيقِ بِالْغَرْغَرَةِ بِهِ وَإِبْرَائِهِ مِنْ الْفَالِجِ وَاللّقْوَةِ وَمِنْ جَمِيعِ الْعِلَلِ الْبَارِدَةِ الّتِي تَحْدُثُ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ الرّطُوبَاتِ فَيَجْذِبُهَا مِنْ قَعْرِ الْبَدَنِ وَمِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَحِفْظِ صِحّتِهِ وَتَسْمِينِهِ وَتَسْخِينِهِ وَالزّيَادَةِ فِي الْبَاهِ وَالتّحْلِيلِ وَالْجِلَاءِ وَفَتْحِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ وَتَنْقِيَةِ الْمِعَى وَإِحْدَارِ الدّودِ وَمَنْعِ التّخَمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعَفَنِ وَالْأُدْمِ النّافِعِ وَمُوَافَقَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْبَلْغَمُ وَالْمَشَايِخُ وَأَهْلُ الْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا شَيْءَ أَنْفَعُ مِنْهُ لِلْبَدَنِ وَفِي الْعِلَاجِ وَعَجْزِ الْأَدْوِيَةِ وَحِفْظِ قُوَاهَا وَتَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ إلَى أَضْعَافِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ فَأَيْنَ لِلسّكّرِ مِثْلُ هَذِهِ الْمَنَافِعِ
حَرْفُ الْكَافِ
كِتَابٌ لِلْحُمّى
(1/451)
قَالَ الْمَرْوَزِيّ : بَلَغَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ أَنّي حُمِمْت فَكَتَبَ لِي مِنْ <327> الْحُمّى رُقْعَةٌ فِيهَا : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمُ بِسْمِ اللّهِ وَبِاَللّهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ قُلْنَا : يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الْأَخْسَرِينَ اللّهُمّ رَبّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ اشْفِ صَاحِبَ هَذَا الْكِتَابِ بِحَوْلِك وَقُوّتِك وَجَبَرُوتِك إلَهَ الْحَقّ آمِينَ .
[ الِاخْتِلَافُ فِي حُكْمِ التّمَائِمِ ]
قَالَ الْمَرْوَزِيّ : وَقَرَأَ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللّهِ - وَأَنَا أَسْمَعُ - أَبُو الْمُنْذِرِ عَمْرُو بْنُ مُجَمّعٍ حَدّثَنَا يُونُسُ بْنُ حِبّانَ قَالَ سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمّدَ بْنَ عَلِيّ أَنْ أُعَلّقَ التّعْوِيذَ فَقَالَ
إنْ كَانَ مِنْ كِتَابِ اللّهِ أَوْ كَلَامٍ عَنْ نَبِيّ اللّهِ فَعَلّقْهُ وَاسْتَشْفِ بِهِ مَا اسْتَطَعْتَ . قُلْتُ أَكْتُبُ هَذِهِ مِنْ حُمّى الرّبْعِ بِاسْمِ اللّهِ وَبِاَللّهِ وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ إلَى آخِرِهِ ؟ قَالَ أَيْ نَعَمْ .
وَذَكَرَ أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا وَغَيْرِهَا أَنّهُمْ سَهّلُوا فِي ذَلِكَ .
قَالَ حَرْبٌ وَلَمْ يُشَدّدْ فِيهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ أَحْمَدُ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً جِدّا . وَقَالَ أَحْمَدُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ التّمَائِمِ تُعَلّقُ بَعْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ ؟ قَالَ أَرْجُو أَنْ لَا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ .
قَالَ الْخَلّالُ وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ رَأَيْتُ أَبِي يَكْتُبُ التّعْوِيذَ لِلّذِي يَفْزَعُ وَلِلْحُمّى بَعْدَ وُقُوعِ الْبَلَاءِ .
كِتَابٌ لِعُسْرِ الْوِلَادَةِ
(1/452)
قَالَ الْخَلّالُ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَحْمَدَ : قَالَ رَأَيْتُ أَبِي يَكْتُبُ لِلْمَرْأَةِ إذَا عَسُرَ عَلَيْهَا وِلَادَتُهَا فِي جَامٍ أَبْيَضَ أَوْ شَيْءٍ نَظِيفٍ يَكْتُبُ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ [ الْأَحْقَافُ 35 ] كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلّا عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا
[ النّازِعَاتُ 46 ] .
قَالَ الْخَلّالُ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيّ أَنّ أَبَا عَبْدِ اللّهِ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ تَكْتُبُ لِامْرَأَةٍ قَدْ عَسُرَ عَلَيْهَا وَلَدُهَا مُنْذُ يَوْمَيْنِ ؟ فَقَالَ قُلْ لَهُ يَجِيءُ بِجَامٍ وَاسِعٍ وَزَعْفَرَانٍ وَرَأَيْتُهُ يَكْتُبُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَيَذْكُرُ عَنْ عِكْرِمَةَ <328> عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ
مَرّ عِيسَى صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَقَرَةٍ قَدْ اعْتَرَضَ وَلَدُهَا فِي بَطْنِهَا فَقَالَتْ يَا كَلِمَةَ اللّهِ اُدْعُ اللّه لِي أَنْ يُخَلّصَنِي مِمّا أَنَا فِيهِ فَقَالَ
يَا خَالِقَ النّفْسِ مِنْ النّفْسِ وَيَا مُخَلّصَ النّفْسِ مِنْ النّفْسِ وَيَا مُخْرِجَ النّفْسِ مِنْ النّفْسِ خَلّصْهَا . قَالَ فَرَمَتْ بِوَلَدِهَا فَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تَشُمّهُ قَالَ فَإِذَا عَسُرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا فَاكْتُبْهُ لَهَا . وَكُلّ مَا تَقَدّمَ مِنْ الرّقَى فَإِنّ كِتَابَتَهُ نَافِعَةٌ .
[ حُكْمُ كِتَابَةِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَشُرْبِهِ ]
(1/453)
وَرَخّصَ جَمَاعَةٌ مِنْ السّلَفِ فِي كِتَابَةِ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَشُرْبِهِ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الشّفَاءِ الّذِي جَعَلَ اللّه فِيهِ .
كِتَابٌ آخَرُ لِذَلِكَ يُكْتَبُ فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ إِذَا السّمَاءُ انْشَقّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقّتْ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلّتْ [ الِانْشِقَاقُ 41 ] وَتَشْرَبُ مِنْهُ الْحَامِلُ وَيُرَشّ عَلَى بَطْنِهَا .
كِتَابٌ لِلرّعَافِ
كَانَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيّةَ رَحِمَهُ اللّهُ يَكْتُبُ عَلَى جَبْهَتِهِ
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ [ هُود : 44 ] . وَسَمِعْته يَقُولُ كَتَبْتهَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ فَبَرَأَ فَقَالَ وَلَا يَجُوزُ كِتَابَتُهَا بِدَمِ الرّاعِفِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهّالُ فَإِنّ الدّمَ نَجِسٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكْتَبَ بِهِ كَلَامُ اللّهِ تَعَالَى .
كِتَابٌ آخَرُ لَهُ خَرَجَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ بِرِدَاءٍ فَوَجَدَ شُعَيْبًا فَشَدّهُ بِرِدَائِهِ يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمّ الْكِتَابِ [ الرّعْدُ 39 ] .
كِتَابٌ آخَرُ لِلْحَزّازِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [ الْبَقَرَةُ 266 ] بِحَوْلِ اللّهِ وَقُوّتِهِ . كِتَابٌ آخَرُ لَهُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشّمْسِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْحَدِيدُ 28 ] .
<329> كِتَابٌ آخَرُ لِلْحُمّى الْمُثَلّثَةِ يُكْتَبُ عَلَى ثَلَاثِ وَرَقَاتٍ لِطَافٍ
(1/454)
بِسْمِ اللّهِ فَرّتْ بِسْمِ اللّهِ مَرّتْ بِسْمِ اللّهِ قَلّتْ وَيَأْخُذُ كُلّ يَوْمٍ وَرَقَةً وَيَجْعَلُهَا فِي فَمِهِ وَيَبْتَلِعُهَا بِمَاءٍ .
كِتَابٌ آخَرُ لِعِرْقِ النّسَا : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ اللّهُمّ رَبّ كُلّ شَيْءٍ وَمَلِيكَ كُلّ شَيْءٍ وَخَالِقَ كُلّ شَيْءٍ أَنْتَ خَلَقْتنِي وَأَنْتَ خَلَقْت النّسَا فَلَا تُسَلّطْهُ عَلَيّ بِأَذًى وَلَا تُسَلّطْنِي عَلَيْهِ بِقَطْعٍ وَاشْفِنِي شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا لَا شَافِيَ إلّا أَنْتَ .
كِتَابٌ لِلْعَرَقِ الضّارِبِ
رَوَى التّرْمِذِي ّ فِي " جَامِعِهِ " : مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُعَلّمُهُمْ مِنْ الْحُمّى وَمِنْ الْأَوْجَاعِ كُلّهَا أَنْ يَقُولُوا : بِسْمِ اللّهِ الْكَبِيرِ أَعُوذُ بِاَللّهِ الْعَظِيمِ مِنْ شَرّ كُلّ عَرَقٍ نَعّارٍ وَمِنْ شَرّ حَرّ النّارِ
كِتَابٌ لِوَجَعِ الضّرْسِ
يُكْتَبُ عَلَى الْخَدّ الّذِي يَلِي الْوَجَعَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قُلْ هُوَ الّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [ النّحْلُ 78 ] وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ [ الْأَنْعَامُ 13 ] . كِتَابٌ لِلْخَرَاجِ يُكْتَبُ عَلَيْهِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا [ طه : 105 ] .
كَمْأَةٌ
ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْن ِ " .
(1/455)
قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ : الْكَمْأَةُ جَمْعٌ وَاحِدُهُ كَمْءٌ وَهَذَا خِلَافُ <330> قِيَاسِ الْعَرَبِيّةِ فَإِنّ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ التّاءُ فَالْوَاحِدُ مِنْهُ التّاءُ وَإِذَا حُذِفَتْ كَانَ لِلْجَمْعِ . وَهَلْ هُوَ جَمْعٌ أَوْ اسْمُ جَمْعٍ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ قَالُوا : وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا إلّا حَرْفَانِ كَمْأَةٌ وَكَمْءٌ وَجَبْأَةٌ وَجَبْءٌ وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ : بَلْ هِيَ عَلَى الْقِيَاسِ الْكَمْأَةُ لِلْوَاحِدِ وَالْكَمْءُ لِلْكَثِيرِ وَقَالَ غَيْرُهُمَا : الْكَمْأَةُ تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا .
وَاحْتَجّ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ بِأَنّهُمْ قَدْ جَمَعُوا كَمْئًا عَلَى أَكْمُؤٍ قَالَ الشّاعِرُ
وَلَقَدْ جَنَيْتُكَ أَكْمُؤًا وَعَسَاقِلًا
وَلَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ بَنَاتِ الْأَوْبَرِ
وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ " كَمْئًا " مُفْرَدٌ " وَكَمْأَةً " جَمْعٌ .
وَالْكَمْأَةُ تَكُونُ فِي الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُزْرَعَ وَسُمّيَتْ كَمْأَةً لِاسْتِتَارِهَا وَمِنْهُ كَمَأَ الشّهَادَةَ إذَا سَتَرَهَا وَأَخْفَاهَا وَالْكَمْأَةُ مَخْفِيّةٌ تَحْتَ الْأَرْضِ لَا وَرَقَ لَهَا وَلَا سَاقَ وَمَادّتُهَا مِنْ جَوْهَرِ أَرْضِيّ بُخَارِيّ مُحْتَقِنٍ فِي الْأَرْضِ نَحْوَ سَطْحِهَا يَحْتَقِنُ بِبَرْدِ الشّتَاءِ وَتُنَمّيهِ أَمْطَارُ الرّبِيعِ فَيَتَوَلّدُ وَيَنْدَفِعُ نَحْوَ سَطْحِ الْأَرْضِ مُتَجَسّدًا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهَا : جُدَرِيّ الْأَرْضِ تَشْبِيهًا بِالْجُدَرِيّ فِي صُورَتِهِ وَمَادّتِهِ لِأَنّ مَادّتَهُ رُطُوبَةٌ دَمَوِيّةٌ فَتَنْدَفِعُ عِنْدَ سِنّ التّرَعْرُعِ فِي الْغَالِبِ وَفِي ابْتِدَاءِ اسْتِيلَاءِ الْحَرَارَةِ وَنَمَاءِ الْقُوّةِ .
(1/456)
وَهِيَ مِمّا يُوجَدُ فِي الرّبِيعِ وَيُؤْكَلُ نِيئًا وَمَطْبُوخًا وَتُسَمّيهَا الْعَرَبُ : نَبَاتَ الرّعْدِ لِأَنّهَا تَكْثُرُ بِكَثْرَتِهِ وَتَنْفَطِرُ عَنْهَا الْأَرْضُ وَهِيَ مِنْ أَطْعِمَةِ أَهْلِ الْبَوَادِي <331> وَتَكْثُرُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَأَجْوَدُهَا مَا كَانَتْ أَرْضُهَا رَمْلِيّةً قَلِيلَةَ الْمَاءِ .
وَهِيَ أَصْنَافٌ مِنْهَا صِنْفٌ قَتّالٌ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إلَى الْحُمْرَةِ يُحْدِثُ الِاخْتِنَاقَ . وَهِيَ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ فِي الدّرَجَةِ الثّالِثَةِ رَدِيئَةٌ لِلْمَعِدَةِ بَطِيئَةُ الْهَضْمِ وَإِذَا أُدْمِنَتْ أَوْرَثَتْ الْقُولَنْجَ وَالسّكْتَةَ وَالْفَالِجَ وَوَجَعَ الْمَعِدَةِ وَعُسْرَ الْبَوْلِ وَالرّطْبَةُ أَقَلّ ضَرَرًا مِنْ الْيَابِسَةِ وَمَنْ أَكَلَهَا فَلْيَدْفِنْهَا فِي الطّينِ الرّطْبِ وَيَسْلُقْهَا بِالْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالصّعْتَرِ وَيَأْكُلْهَا بِالزّيْتِ وَالتّوَابِلِ الْحَارّةِ لِأَنّ جَوْهَرَهَا أَرْضِيّ غَلِيظٌ وَغِذَاؤُهَا رَدِيءٌ لَكِنْ فِيهَا جَوْهَرٌ مَائِيّ لَطِيفٌ يَدُلّ عَلَى خِفّتِهَا وَالِاكْتِحَالُ بِهَا نَافِعٌ مِنْ ظُلْمَةِ الْبَصَرِ وَالرّمَدِ الْحَارّ وَقَدْ اعْتَرَفَ فُضَلَاءُ الْأَطِبّاءِ بِأَنّ مَاءَهَا يَجْلُو الْعَيْنَ وَمِمّنْ ذَكَرَهُ الْمَسِيحِيّ وَصَاحِبُ الْقَانُونِ وَغَيْرُهُمَا .
[ مَعْنَى " الْكَمْأَةِ مِنْ الْمَنّ " ]
(1/457)
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْمَنّ الّذِي أُنْزِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْحُلْوَ فَقَطْ بَلْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ بِهَا مِنْ النّبَاتِ الّذِي يُوجَدُ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ وَلَا عِلَاجٍ وَلَا حَرْثٍ فَإِنّ الْمَنّ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أَيْ " مَمْنُونٌ " بِهِ فَكُلّ مَا رَزَقَهُ اللّهُ الْعَبْدَ عَفْوًا بِغَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُ وَلَا عِلَاجٍ فَهُوَ مَنّ مَحْضٌ وَإِنْ كَانَتْ سَائِرُ نِعَمِهِ مَنّا مِنْهُ عَلَى عَبْدِهِ فَخَصّ مِنْهَا مَا لَا كَسْبَ لَهُ فِيهِ وَلَا صُنْعَ بِاسْمِ الْمَنّ فَإِنّهُ مَنّ بِلَا وَاسِطَةِ الْعَبْدِ وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ قُوّتَهُمْ بِالتّيهِ الْكَمْأَةُ وَهِيَ تَقُومُ مَقَامَ الْخَبَزِ وَجَعَلَ أُدْمَهُمْ السّلْوَى وَهُوَ يَقُومُ مَقَامَ اللّحْمِ وَجَعَلَ حَلْوَاهُمْ الطّلّ الّذِي يَنْزِلُ عَلَى الْأَشْجَارِ يَقُومُ لَهُمْ مَقَامَ الْحَلْوَى فَكَمُلَ عَيْشُهُمْ .
وَتَأَمّلْ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَمْأَةُ مِنْ الْمَنّ الّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَجَعَلَهَا مِنْ جُمْلَتِهِ وَفَرْدًا مِنْ أَفْرَادِهِ والترنجبين الّذِي يَسْقُطُ عَلَى الْأَشْجَارِ نَوْعٌ مِنْ الْمَنّ ثُمّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْمَنّ عَلَيْهِ عُرْفًا حَادِثًا . <332>
وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّهُ شَبّهَ الْكَمْأَةَ بِالْمَنّ الْمُنَزّلِ مِنْ السّمَاءِ لِأَنّهُ يُجْمَعُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا كُلْفَةٍ وَلَا زَرْعِ بِزْرٍ وَلَا سَقْيٍ .
[ مِنْ أَيْنَ أَتَى الضّرَرُ الْوَاقِعُ فِيهَا ]
(1/458)
فَإِنْ قُلْت : فَإِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَ الْكَمْأَةِ فَمَا بَالُ هَذَا الضّرَرِ فِيهَا وَمِنْ أَيْنَ أَتَاهَا ذَلِكَ ؟ فَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَتْقَنَ كُلّ شَيْءٍ صُنْعَهُ وَأَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلْقَهُ فَهُوَ عِنْدَ مَبْدَأِ خَلْقِهِ بَرِيءٌ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعِلَلِ تَامّ الْمَنْفَعَةِ لِمَا هُيّئَ وَخُلِقَ لَهُ وَإِنّمَا تَعْرِضُ لَهُ الْآفَاتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأُمُورٍ أُخَرَ مِنْ مُجَاوَرَةٍ أَوْ امْتِزَاجٍ وَاخْتِلَاطٍ أَوْ أَسْبَابٍ أُخَرَ تَقْتَضِي فَسَادَهُ فَلَوْ تُرِكَ عَلَى خِلْقَتِهِ الْأَصْلِيّةِ مِنْ غَيْرِ تَعَلّقِ أَسْبَابِ الْفَسَادِ بِهِ لَمْ يَفْسُدْ .
[ قِلّةُ الْبَرَكَةِ وَالْآفَاتُ جَاءَتْ مِنْ كَثْرَةِ الْفَسَادِ ]
(1/459)
وَمَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ وَمَبْدَئِهِ يَعْرِفُ أَنّ جَمِيعَ الْفَسَادِ فِي جَوّهِ وَنَبَاتِهِ وَحَيَوَانِهِ وَأَحْوَالِ أَهْلِهِ حَادِثٌ بَعْدَ خَلْقِهِ بِأَسْبَابٍ اقْتَضَتْ حُدُوثَهُ وَلَمْ تَزَلْ أَعْمَالُ بَنِي آدَمَ وَمُخَالَفَتُهُمْ لِلرّسُلِ تُحْدِثُ لَهُمْ مِنْ الْفَسَادِ الْعَامّ وَالْخَاصّ مَا يَجْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالطّوَاعِينِ وَالْقُحُوطِ وَالْجُدُوبِ وَسَلْبِ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَنَبَاتِهَا وَسَلْبِ مَنَافِعِهَا أَوْ نُقْصَانِهَا أُمُورًا مُتَتَابِعَةً يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِنْ لَمْ يَتّسِعْ عِلْمُك لِهَذَا فَاكْتَفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ [ الرّومُ : 41 ] وَنَزّلْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَطَابِقْ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَهَا وَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ تَحْدُثُ الْآفَاتُ وَالْعِلَلُ كُلّ وَقْتٍ فِي الثّمَارِ وَالزّرْعِ وَالْحَيَوَانِ وَكَيْفَ يَحْدُثُ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ آفَاتٌ أُخَرُ مُتَلَازِمَةٌ بَعْضُهَا آخِذٌ بِرِقَابِ بَعْضٍ وَكُلّمَا أَحْدَثَ النّاسُ ظُلْمًا وَفُجُورًا أَحْدَثَ لَهُمْ رَبّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ الْآفَاتِ وَالْعِلَلِ فِي أَغْذِيَتِهِمْ وَفَوَاكِهِهِمْ وَأَهْوِيَتِهِمْ وَمِيَاهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَخَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ مِنْ النّقْصِ وَالْآفَاتِ مَا هُوَ مُوجَبُ أَعْمَالِهِمْ وَظُلْمِهِمْ وَفُجُورِهِمْ .
وَلَقَدْ كَانَتْ الْحُبُوبُ مِنْ الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا أَكْبَرَ مِمّا هِيَ الْيَوْمَ كَمَا كَانَتْ <333> الْبَرَكَةُ فِيهَا أَعْظَمَ .
(1/460)
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنّهُ وَجَدَ فِي خَزَائِنِ بَعْضِ بَنِي أُمَيّةَ صُرّةً فِيهَا حِنْطَةٌ أَمْثَالَ نَوَى التّمْرِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا : هَذَا كَانَ يَنْبُتُ أَيّامَ الْعَدْلِ . وَهَذِهِ الْقِصّةُ ذَكَرَهَا فِي " مُسْنَدِهِ " عَلَى أَثَرِ حَدِيثٍ رَوَاهُ .
وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَالْآفَاتِ الْعَامّةِ بَقِيّةُ عَذَابٍ عُذّبَتْ بِهِ الْأُمَمُ السّالِفَةُ ثُمّ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيّةٌ مُرْصَدَةٌ لِمَنْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بَقِيّةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ حَكَمًا قِسْطًا وَقَضَاءً عَدْلًا وَقَدْ أَشَارَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى هَذَا بِقَوْلِهِ فِي الطّاعُونِ إنّهُ بَقِيّةُ رِجْزٍ أَوْ عَذَابٍ أُرْسِلَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
وَكَذَلِكَ سَلّطَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الرّيحَ عَلَى قَوْمٍ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيّامٍ ثُمّ أَبْقَى فِي الْعَالَمِ مِنْهَا بَقِيّةً فِي تِلْكَ الْأَيّامِ وَفِي نَظِيرِهَا عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ .
(1/461)
وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ أَعْمَالَ الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مُقْتَضِيَاتٍ لِآثَارِهَا فِي هَذَا الْعَالَمِ اقْتِضَاءً لَا بُدّ مِنْهُ فَجَعَلَ مَنْعَ الْإِحْسَانِ وَالزّكَاةِ وَالصّدَقَةِ سَبَبًا لِمَنْعِ الْغَيْثِ مِنْ السّمَاءِ وَالْقَحْطِ وَالْجَدْبِ وَجَعَلَ ظُلْمَ الْمَسَاكِينِ وَالْبَخْسَ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ وَتَعَدّي الْقَوِيّ عَلَى الضّعِيفِ سَبَبًا لِجَوْرِ الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ الّذِينَ لَا يَرْحَمُونَ إنْ اُسْتُرْحِمُوا وَلَا يَعْطِفُونَ إنْ اُسْتُعْطِفُوا وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أَعْمَالُ الرّعَايَا ظَهَرَتْ فِي صُوَرِ وُلَاتِهِمْ <334> فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ بِحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ يُظْهِرُ لِلنّاسِ أَعْمَالَهُمْ فِي قَوَالِبَ وَصُوَرٍ تُنَاسِبُهَا فَتَارَةً بِقَحْطٍ وَجَدْبٍ وَتَارَةً بِعَدُوّ وَتَارَةً بِوُلَاةٍ جَائِرِينَ وَتَارَةً بِأَمْرَاضٍ عَامّةٍ وَتَارَةً بِهُمُومٍ وَآلَامٍ وَغُمُومٍ تُحْضِرُهَا نُفُوسُهُمْ لَا يَنْفَكّونَ عَنْهَا وَتَارَةً بِمَنْعِ بَرَكَاتِ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَنْهُمْ وَتَارَةً بِتَسْلِيطِ الشّيَاطِينِ عَلَيْهِمْ تَؤُزّهُمْ إلَى أَسْبَابِ الْعَذَابِ أَزّا لِتَحِقّ عَلَيْهِمْ الْكَلِمَةُ وَلِيَصِيرَ كُلّ مِنْهُمْ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ وَالْعَاقِلُ يُسَيّرُ بَصِيرَتَهُ بَيْنَ أَقْطَارِ الْعَالَمِ فَيُشَاهِدُهُ وَيَنْظُرُ مَوَاقِعَ عَدْلِ اللّهِ وَحِكْمَتِهِ وَحِينَئِذٍ يَتَبَيّنُ لَهُ أَنّ الرّسُلَ وَأَتْبَاعَهُمْ خَاصّةً عَلَى سَبِيلِ النّجَاةِ وَسَائِرُ الْخَلْقِ عَلَى سَبِيلِ الْهَلَاكِ سَائِرُونَ وَإِلَى دَارِ الْبَوَارِ صَائِرُونَ وَاَللّهُ بَالِغٌ أَمْرَهُ لَا مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادّ لِأَمْرِهِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
[ مَعْنَى " مَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ " ]
(1/462)
وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْكَمْأَةِ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
أَحَدُهَا : أَنّ مَاءَهَا يُخْلَطُ فِي الْأَدْوِيَةِ الّتِي يُعَالَجُ بِهَا الْعَيْنُ لَا أَنّهُ يُسْتَعْمَلُ وَحْدَهُ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ .
الثّانِي : أَنّهُ يُسْتَعْمَلُ بَحْتًا بَعْدَ شَيّهَا وَاسْتِقْطَارِ مَائِهَا لِأَنّ النّارَ تُلَطّفُهُ وَتُنْضِجُهُ وَتُذِيبُ فَضَلَاتِهِ وَرُطُوبَتَهُ الْمُؤْذِيَةَ وَتُبْقِي الْمَنَافِعَ .
الثّالِثُ أَنّ الْمُرَادَ بِمَائِهَا الْمَاءُ الّذِي يَحْدُثُ بِهِ مِنْ الْمَطَرِ وَهُوَ أَوّلُ قَطْرٍ يَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ اقْتِرَانٍ لَا إضَافَةَ جُزْءٍ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيّ وَهُوَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ وَأَضْعَفُهَا .
وَقِيلَ إنْ اُسْتُعْمِلَ مَاؤُهَا لِتَبْرِيدِ مَا فِي الْعَيْنِ فَمَاؤُهَا مُجَرّدًا شِفَاءٌ إنْ كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَمُرَكّبٌ مَعَ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الْغَافِقِيّ : مَاءُ الْكَمْأَةِ أَصْلَحُ الْأَدْوِيَةِ لِلْعَيْنِ إذَا عُجِنَ بِهِ الْإِثْمِدُ وَاكْتُحِلَ بِهِ وَيُقَوّي أَجْفَانَهَا وَيَزِيدُ الرّوحَ الْبَاصِرَةَ قُوّةً وَحِدّةً وَيَدْفَعُ عَنْهَا نُزُولَ النّوَازِلِ . <335>
كَبَاثٌ
فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَجْنِي الْكَبَاثَ فَقَالَ " عَلَيْكُمْ بِالْأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنّهُ أَطْيَبُهُ .
(1/463)
الْكَبَاثُ بِفَتْحِ الْكَافّ وَالْبَاءِ الْمُوَحّدَةِ الْمُخَفّفَةِ وَالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ - ثَمَرُ الْأَرَاكِ وَهُوَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ وَطَبْعُهُ حَارّ يَابِسٌ وَمَنَافِعُهُ كَمَنَافِعِ الْأَرَاكِ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُجِيدُ الْهَضْمَ وَيَجْلُو الْبَلْغَمَ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الظّهْرِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَدْوَاءِ . قَالَ ابْنُ جُلْجُلٍ إذَا شُرِبَ طَحِينُهُ أَدَرّ الْبَوْلَ وَنَقّى الْمَثَانَةَ وَقَالَ ابْنُ رِضْوَانَ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُمْسِكُ الطّبِيعَةَ .
كَتَم
رَوَى الْبُخَارِيّ فِي " صَحِيحِهِ " : عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْن مَوْهِبٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا فَأَخْرَجَتْ إلَيْنَا شَعْرًا مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِذَا هُوَ مَخْضُوبٌ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ .
وَفِي " السّنَنِ الْأَرْبَعَةِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ أَحْسَنَ مَا غَيّرْتُمْ بِهِ الشّيْبَ الْحِنّاءُ وَالْكَتَمُ .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ أَبَا بَكْر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اخْتَضَبَ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ .
وَفِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " : عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا <336> قَالَ مَرّ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنّاءِ فَقَالَ مَا أَحْسَنَ هَذَا ؟ فَمَرّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ فَقَالَ هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا فَمَرّ آخَرُ قَدْ خَضَبَ بِالصّفْرَةِ فَقَالَ هَذَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلّهِ .
(1/464)
قَالَ الْغَافِقِيّ الْكَتَمُ نَبْتٌ يَنْبُتُ بِالسّهُولِ وَرَقُهُ قَرِيبٌ مِنْ وَرَقِ الزّيْتُونِ يَعْلُو فَوْقَ الْقَامَةِ وَلَهُ ثَمَرٌ قَدْرَ حَبّ الْفُلْفُلِ فِي دَاخِلِهِ نَوًى إذَا رُضِخَ اسْوَدّ وَإِذَا اُسْتُخْرِجَتْ عُصَارَةُ وَرَقِهِ وَشُرِبَ مِنْهَا قَدْرُ أُوقِيّةٍ قَيّأَ قَيْئًا شَدِيدًا وَيَنْفَعُ عَنْ عَضّةِ الْكَلْبِ وَأَصْلُهُ إذَا طُبِخَ بِالْمَاءِ كَانَ مِنْهُ مِدَادٌ يُكْتَبُ بِهِ .
وَقَالَ الْكِنْدِيّ بَزْرُ الْكَتَمِ إذَا اُكْتُحِلَ بِهِ حَلّلَ الْمَاءَ النّازِلَ فِي الْعَيْنِ وَأَبْرَأَهَا . وَقَدْ ظَنّ بَعْضُ النّاسِ أَنّ الْكَتَمَ هُوَ الْوَسْمَةُ وَهِيَ وَرَقُ النّيلِ وَهَذَا وَهْمٌ فَإِنّ الْوَسْمَةَ غَيْرُ الْكَتَمِ . قَالَ صَاحِبُ " الصّحَاحِ " : الْكَتَمُ بِالتّحْرِيكِ نَبْتٌ يُخْلَطُ بِالْوَسْمَةِ يُخْتَضَبُ بِهِ قِيلَ وَالْوَسْمَةُ نَبَاتٌ لَهُ وَرَقٌ طَوِيلٌ يَضْرِبُ لَوْنُهُ إلَى الزّرْقَةِ أَكْبَرُ مِنْ وَرَقِ الْخِلَافِ يُشْبِهُ وَرَقَ اللّوبِيَا وَأَكْبَرُ مِنْهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ .
[ هَلْ اخْتَضَبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ ]
فَإِنْ قِيلَ قَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ لَمْ يَخْتَضِبْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قِيلَ قَدْ أَجَابَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا وَقَالَ قَدْ شَهِدَ بِهِ غَيْرُ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ خَضَبَ وَلَيْسَ مَنْ شَهِدَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ فَأَحْمَدُ أَثْبَتَ خِضَابَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَدّثِينَ وَمَالِكٌ أَنْكَرَهُ .
(1/465)
فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ <337> فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " النّهْيُ عَنْ الْخِضَابِ بِالسّوَادِ فِي شَأْنِ أَبِي قُحَافَةَ لَمّا أُتِيَ بِهِ وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَالثّغَامَةِ بَيَاضًا فَقَالَ غَيّرُوا هَذَا الشّيْبَ وَجَنّبُوهُ السّوَادَ . وَالْكَتَمُ يُسَوّدُ الشّعْرَ .
[ حُكْمُ الْخِضَابِ بِالسّوَادِ ]
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ النّهْيَ عَنْ التّسْوِيدِ الْبَحْتِ فَأَمّا إذَا أُضِيفَ إلَى الْحِنّاءِ شَيْءٌ آخَرُ كَالْكَتَمِ وَنَحْوِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَإِنّ الْكَتَمَ وَالْحِنّاءَ يَجْعَلُ الشّعْرَ بَيْنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ بِخِلَافِ الْوَسْمَةِ فَإِنّهَا تَجْعَلُهُ أَسْوَدَ فَاحِمًا وَهَذَا أَصَحّ الْجَوَابَيْنِ .
(1/466)
الْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ الْخِضَابَ بِالسّوَادِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ خِضَابُ التّدْلِيسِ كَخِضَابِ شَعْرِ الْجَارِيَةِ وَالْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ تَغُرّ الزّوْجَ وَالسّيّدَ بِذَلِكَ وَخِضَابِ الشّيْخِ يَغُرّ الْمَرْأَةَ بِذَلِكَ فَإِنّهُ مِنْ الْغِشّ وَالْخِدَاعِ فَأَمّا إذَا لَمْ يَتَضَمّنْ تَدْلِيسًا وَلَا خِدَاعًا فَقَدْ صَحّ عَنْ الْحَسَن وَالْحُسَيْن رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّهُمَا كَانَا يَخْضِبَانِ بِالسّوَادِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِير عَنْهُمَا فِي كِتَابِ " تَهْذِيبُ الْآثَارِ " وَذَكَرَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَحَكَاهُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ التّابِعِينَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَعَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَد وَمُوسَى بْنُ طَلْحَةَ وَالزّهْرِيّ وَأَيّوبُ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ . وَحَكَاهُ ابْنُ الْجَوْزِيّ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ وَيَزِيدَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَزِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ وَغِيلَانَ بْنِ جَامِعٍ <338> وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَمْرِو بْنِ عَلِيّ الْمُقَدّمِيّ وَالْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ .
كَرْمٌ
(1/467)
شَجَرَةُ الْعِنَبِ وَهِيَ الْحَبَلَةُ وَيُكْرَهُ تَسْمِيَتُهَا كَرْمًا لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا يَقُولَنّ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ . الْكَرْمُ الرّجُلُ الْمُسْلِمُ . وَفِي رِوَايَةٍ إنّمَا الْكَرْمُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَفِي أُخْرَى : لَا تَقُولُوا : الْكَرْمُ وَقُولُوا : الْعِنَبُ وَالْحَبَلَةُ .
[ عِلّةُ النّهْيِ عَنْ تَسْمِيَةِ الْعِنَبِ كَرْمًا ]
وَفِي هَذَا مَعْنَيَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنّ الْعَرَبَ كَانَتْ تُسَمّي شَجَرَةَ الْعِنَبِ الْكَرْمَ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَخَيْرِهَا فَكَرِهَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْمِيَتَهَا بِاسْمٍ يُهَيّجُ النّفُوسَ عَلَى مَحَبّتِهَا وَمَحَبّةِ مَا يُتّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْمُسْكِرِ وَهُوَ أُمّ الْخَبَائِثِ فَكَرِهَ أَنْ يُسَمّى أَصْلُهُ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ وَأَجْمَعِهَا لِلْخَيْرِ .
وَالثّانِي : أَنّهُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ لَيْسَ الشّدِيدُ بِالصّرْعَة . وَلَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطّوّافِ . أَيْ أَنّكُمْ تُسَمّونَ شَجَرَةَ الْعِنَبِ كَرْمًا لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ وَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ أَوْ الرّجُلِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى بِهَذَا الِاسْمِ مِنْهُ فَإِنّ الْمُؤْمِنَ خَيْرٌ كُلّهُ <339> وَنَفْعٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّنْبِيهِ وَالتّعْرِيفِ لِمَا فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ مِنْ الْخَيْرِ وَالْجُودِ وَالْإِيمَانِ وَالنّورِ وَالْهُدَى وَالتّقْوَى وَالصّفَاتِ الّتِي يَسْتَحِقّ بِهَا هَذَا الِاسْمَ أَكْثَرَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْحَبَلَةِ لَهُ .
(1/468)
وَبَعْدُ فَقُوّةُ الْحَبَلَةِ بَارِدَةٌ يَابِسَةٌ وَوَرَقُهَا وَعَلَائِقُهَا وَعُرْمُوشُهَا مُبَرّدٌ فِي آخِرِ الدّرَجَةِ الْأُولَى وَإِذَا دُقّتْ وَضُمّدَ بِهَا مِنْ الصّدَاعِ سَكّنَتْهُ وَمِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ وَالْتِهَابِ الْمَعِدَةِ . وَعُصَارَةُ قُضْبَانِهِ إذَا شُرِبَتْ سَكّنَتْ الْقَيْءَ وَعَقَلَتْ الْبَطْنَ وَكَذَلِكَ إذَا مُضِغَتْ قُلُوبُهَا الرّطْبَةُ . وَعُصَارَةُ وَرَقِهَا تَنْفَعُ مِنْ قُرُوحِ الْأَمْعَاءِ وَنَفْثِ الدّمِ وَقَيْئِهِ وَوَجَعِ الْمَعِدَةِ وَدَمْعُ شَجَرِهِ الّذِي يُحْمَلُ عَلَى الْقَضْبَانِ كَالصّمْغِ إذَا شُرِبَ أَخْرَجَ الْحَصَاةَ وَإِذَا لُطّخَ بِهِ أَبْرَأَ الْقُوَبَ وَالْجَرَبَ الْمُتَقَرّحَ وَغَيْرَهُ وَيَنْبَغِي غَسْلُ الْعُضْوِ قَبْلَ اسْتِعْمَالِهَا بِالْمَاءِ وَالنّطْرُونِ وَإِذَا تُمُسّحَ بِهَا مَعَ الزّيْتِ حَلَقَ الشّعْرَ وَرَمَادُ قُضْبَانِهِ إذَا تُضُمّدَ بِهِ مَعَ الْخَلّ وَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالسّذَابِ نَفَعَ مِنْ الْوَرَمِ الْعَارِضِ فِي الطّحَالِ وَقُوّةُ دُهْنِ زُهْرَةِ الْكَرْمِ قَابِضَةٌ شَبِيهَةٌ بِقُوّةِ دُهْنِ الْوَرْدِ وَمَنَافِعُهَا كَثِيرَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَنَافِعَ النّخْلَةِ .
كَرَفْسٌ
رُوِيَ فِي حَدِيثٍ لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَكَلَهُ ثُمّ نَامَ عَلَيْهِ نَامَ وَنَكْهَتُهُ طَيّبَةٌ وَيَنَامُ آمِنًا مِنْ وَجَعِ الْأَضْرَاسِ وَالْأَسْنَانِ وَهَذَا بَاطِلٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَكِنّ الْبُسْتَانِيّ مِنْهُ يُطَيّبُ النّكْهَةَ جِدّا وَإِذَا عُلّقَ أَصْلُهُ فِي الرّقَبَةِ نَفَعَ مِنْ وَجَعِ الْأَسْنَانِ .
(1/469)
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ وَقِيلَ رَطْبٌ مُفَتّحٌ لِسُدَادِ الْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَوَرَقُهُ رَطْبًا يَنْفَعُ الْمَعِدَةَ وَالْكَبِدَ الْبَارِدَةَ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَالطّمْثَ وَيُفَتّتُ الْحَصَاةَ وَحَبّهُ أَقْوَى فِي ذَلِكَ وَيُهَيّجُ الْبَاهَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْبَخْرِ . قَالَ الرّازِيّ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ أَكْلُهُ إذَا خِيفَ مِنْ لَدْغِ الْعَقَارِبِ .
كُرّاثٌ
فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ هُوَ بَاطِلٌ مَوْضُوعٌ مَنْ أَكَلَ الْكُرّاثَ ثُمّ نَامَ عَلَيْهِ نَامَ آمِنًا مِنْ رِيحِ الْبَوَاسِيرِ وَاعْتَزَلَهُ الْمَلَكُ لِنَتْنِ نَكْهَتِهِ حَتّى يُصْبِحَ . <340>
وَهُوَ نَوْعَانِ نَبَطِيّ وَشَامِيّ فَالنّبَطِيّ الْبَقْلُ الّذِي يُوضَعُ عَلَى الْمَائِدَةِ . وَالشّامِيّ الّذِي لَهُ رُءُوسٌ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ مُصَدّعٌ وَإِذَا طُبِخَ وَأُكِلَ أَوْ شُرِبَ مَاؤُهُ نَفَعَ مِنْ الْبَوَاسِيرِ الْبَارِدَةِ . وَإِنْ سُحِقَ بِزْرُهُ وَعُجِنَ بِقَطْرَانٍ وَبُخّرَتْ بِهِ الْأَضْرَاسُ الّتِي فِيهَا الدّودُ نَثَرَهَا وَأَخْرَجَهَا وَيُسَكّنُ الْوَجَعَ الْعَارِضَ فِيهَا وَإِذَا دُخّنَتْ الْمَقْعَدَةُ بِبِزْرِهِ خَفّتْ الْبَوَاسِيرُ هَذَا كُلّهُ فِي الْكُرّاثِ النّبَطِيّ .
وَفِيهِ مَعَ ذَلِكَ فَسَادُ الْأَسْنَانِ وَاللّثَةِ وَيُصَدّعُ وَيُرِي أَحْلَامًا رَدِيئَةً وَيُظْلِمُ الْبَصَرَ وينتن النكهة، وفيه إدرار للبول والطمث، وتحريك للباه ، وهو بطيئ الهضم .
حَرْفُ الْلاَم
لَحْمٌ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمّا يَشْتَهُونَ [ الطّورُ 22 ] . وَقَالَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ [ الْوَاقِعَةُ 21 ] .
(1/470)
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدّرْدَاءِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيّدُ طَعَامِ أَهْلِ الدّنْيَا وَأَهْلِ الْجَنّةِ اللّحْمُ وَمِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ يَرْفَعُهُ خَيْرُ الْإِدَامِ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللّحْمُ
وَفِي " الصّحِيحِ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضْلُ عَائِشَة عَلَى النّسَاءِ كَفَضْلِ الثّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطّعَامِ وَالثّرِيدُ الْخُبْزُ وَاللّحْمُ <341>
قَالَ الشّاعِرُ
إذَا مَا الْخُبْزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ
فَذَاكَ أَمَانَةَ اللّهِ الثّرِيدُ
وَقَالَ الزّهْرِيّ : أَكْلُ اللّحْمِ يَزِيدُ سَبْعِينَ قُوّةً . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ وَاسِعٍ : اللّحْمُ يَزِيدُ فِي الْبَصَرِ وَيُرْوَى عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ كُلُوا اللّحْمَ " فَإِنّهُ يُصَفّي اللّوْنَ وَيُخْمِصُ الْبَطْنَ وَيُحَسّنُ الْخُلُقَ وَقَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا كَانَ رَمَضَانُ لَمْ يَفُتْهُ اللّحْمُ وَإِذَا سَافَرَ لَمْ يَفُتْهُ اللّحْمُ وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيّ مَنْ تَرَكَهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاءَ خُلُقُه
وَأَمّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا الّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا : لَا تَقْطَعُوا اللّحْمَ بِالسّكّينِ فَإِنّهُ مِنْ صَنِيعِ الْأَعَاجِمِ وَانْهَسُوهُ فَإِنّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ " فَرَدّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِمَا صَحّ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَطْعِهِ بِالسّكّينِ فِي حَدِيثَيْنِ وَقَدْ تَقَدّمَا .
وَاللّحْمُ أَجْنَاسٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أُصُولِهِ وَطَبَائِعِهِ فَنَذْكُرُ حُكْمَ كُلّ جِنْسٍ وَطَبْعَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَمَضَرّتَهُ .
[ لَحْمُ الضّأْنِ ]
(1/471)
لَحْمُ الضّأْنِ حَارّ فِي الثّانِيَةِ رَطْبٌ فِي الْأُولَى جَيّدُهُ الْحَوْلِيّ يُوَلّدُ الدّمَ الْمَحْمُودَ الْقَوِيّ لِمَنْ جَادَ هَضْمُهُ يَصْلُحُ لِأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ وَالْمُعْتَدِلَةِ وَلِأَهْلِ الرّيَاضَاتِ التّامّةِ فِي الْمَوَاضِعِ وَالْفُصُولِ الْبَارِدَةِ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الْمِرّةِ السّوْدَاءِ يُقَوّي الذّهْنَ وَالْحِفْظَ . وَلَحْمٌ الْهَرِمِ وَالْعَجِيفِ رَدِيءٌ وَكَذَلِكَ لَحْمُ النّعَاجِ وَأَجْوَدُهُ لَحْمُ الذّكَرِ الْأَسْوَدِ <342> مِنْهُ فَإِنّهُ أَخَفّ وَأَلَذّ وَأَنْفَعُ وَالْخَصِيّ أَنْفَعُ وَأَجْوَدُ وَالْأَحْمَرُ مِنْ الْحَيَوَانِ السّمِينُ أَخَفّ وَأَجْوَدُ غِذَاءً وَالْجَذَعُ مِنْ الْمَعْزِ أَقَلّ تَغْذِيَةً وَيَطْفُو فِي الْمَعِدَةِ .
وَأَفْضَلُ اللّحْمِ عَائِذُهُ بِالْعَظْمِ وَالْأَيْمَنُ أَخَفّ وَأَجْوَدُ مِنْ الْأَيْسَرِ وَالْمُقَدّمُ أَفْضَلُ مِنْ الْمُؤَخّرِ وَكَانَ أَحَبّ الشّاةِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقَدّمُهَا وَكُلّ مَا عَلَا مِنْهُ سِوَى الرّأْسِ كَانَ أَخَفّ وَأَجْوَدَ مِمّا سَفَلَ وَأَعْطَى الْفَرَزْدَقُ رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ لَحْمًا وَقَالَ لَهُ خُذْ الْمُقَدّمَ وَإِيّاكَ وَالرّأْسَ وَالْبَطْنَ فَإِنّ الدّاءَ فِيهِمَا . وَلَحْمُ الْعُنُقِ جَيّدٌ لَذِيذٌ سَرِيعُ الْهَضْمِ خَفِيفٌ وَلَحْمُ الذّرَاعِ أَخَفّ اللّحْمِ وَأَلَذّهُ وَأَلْطَفُهُ وَأَبْعَدُهُ مِنْ الْأَذَى وَأَسْرَعُهُ انْهِضَامًا .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّهُ كَانَ يُعْجِبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَحْمُ الظّهْرِ كَثِيرُ الْغِذَاءِ يُوَلّدُ دَمًا مَحْمُودًا . وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مَرْفُوعًا : أَطْيَبُ اللّحْمِ لَحْمُ الظّهْر
[ لَحْمُ الْمَعْزِ ]
(1/472)
لَحْمُ الْمَعْزِ قَلِيلُ الْحَرَارَةِ يَابِسٌ وَخَلْطُهُ الْمُتَوَلّدُ مِنْهُ لَيْسَ بِفَاضِلٍ وَلَيْسَ بِجَيّدِ الْهَضْمِ وَلَا مَحْمُودِ الْغِذَاءِ . وَلَحْمُ التّيْسِ رَدِيءٌ مُطْلَقًا شَدِيدُ الْيُبْسِ عَسِرُ الِانْهِضَامِ مُوَلّدٌ لِلْخَلْطِ السّوْدَاوِيّ . قَالَ الْجَاحِظُ : قَالَ لِي فَاضِلٌ مِنْ الْأَطِبّاءِ يَا أَبَا عُثْمَانَ إيّاكَ وَلَحْمَ الْمَعْزِ فَإِنّهُ يُورِثُ الْغَمّ وَيُحَرّكُ السّوْدَاءَ وَيُورِثُ النّسْيَانَ وَيُفْسِدُ الدّمَ وَهُوَ وَاَللّهِ يَخْبِلُ الْأَوْلَادَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ إنّمَا الْمَذْمُومُ مِنْهُ الْمُسِنّ وَلَا سِيّمَا لِلْمُسِنّينَ وَلَا رَدَاءَةَ <343> فِيهِ لِمَنْ اعْتَادَهُ . وَجَالِينُوسُ جَعَلَ الْحَوْلِيّ مِنْهُ مِنْ الْأَغْذِيَةِ الْمُعْتَدِلَةِ الْمُعَدّلَةِ للكيموس الْمَحْمُودِ وَإِنَاثُهُ أَنْفَعُ مِنْ ذُكُورِهِ .
وَقَدْ رَوَى النّسَائِيّ فِي " سُنَنِهِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحْسِنُوا إلَى الْمَاعِزِ وَأَمِيطُوا عَنْهَا الْأَذَى فَإِنّهَا مِنْ دَوَابّ الْجَنّةِ
وَفِي ثُبُوتِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ . وَحُكْمُ الْأَطِبّاءِ عَلَيْهِ بِالْمَضَرّةِ حُكْمٌ جُزْئِيّ لَيْسَ بِكُلّيّ عَامّ وَهُوَ بِحَسَبِ الْمَعِدَةِ الضّعِيفَةِ وَالْأَمْزِجَةِ الضّعِيفَةِ الّتِي لَمْ تَعْتَدْهُ وَاعْتَادَتْ الْمَأْكُولَاتِ اللّطِيفَةَ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الرّفَاهِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْمُدُنِ وَهُمْ الْقَلِيلُونَ مِنْ النّاسِ .
[ لَحْمُ الْجَدْي ]ِ
(1/473)
لَحْمُ الْجَدْيِ قَرِيبٌ إلَى الِاعْتِدَالِ خَاصّةً مَا دَامَ رَضِيعًا وَلَمْ يَكُنْ قَرِيبَ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ وَهُوَ أَسْرَعُ هَضْمًا لِمَا فِيهِ مِنْ قُوّةِ اللّبَنِ مُلَيّنٌ لِلطّبْعِ مُوَافِقٍ لِأَكْثَرِ النّاسِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ وَهُوَ أَلْطَفُ مِنْ لَحْمِ الْجَمَلِ وَالدّمُ الْمُتَوَلّدُ عَنْهُ مُعْتَدِلٌ .
[ لَحْمُ الْبَقَر ]ِ
لَحْمُ الْبَقَرِ بَارِدٌ يَابِسٌ عَسِرُ الِانْهِضَامِ بَطِيءُ الِانْحِدَارِ يُوَلّدُ دَمًا سَوْدَاوِيّا لَا يَصْلُحُ إلّا لِأَهْلِ الْكَدّ وَالتّعَبِ الشّدِيدِ وَيُورِثُ إدْمَانُهُ الْأَمْرَاضَ السّوْدَاوِيّةَ كَالْبَهَقِ وَالْجَرَبِ وَالْقُوبَاءِ وَالْجُذَامِ وَدَاءِ الْفِيلِ وَالسّرَطَانِ وَالْوَسْوَاسِ وَحُمّى الرّبْعِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَوْرَامِ وَهَذَا لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ ضَرَرَهُ بِالْفُلْفُلِ وَالثّومِ والدارصيني وَالزّنْجَبِيلِ وَنَحْوِهِ وَذَكَرُهُ أَقَلّ بُرُودَةً وَأُنْثَاهُ أَقَلّ يُبْسًا . وَلَحْمُ الْعِجْلِ وَلَا سِيّمَا السّمِينُ مِنْ أَعْدَلِ الْأَغْذِيَةِ وَأَطْيَبِهَا وَأَلَذّهَا وَأَحْمَدِهَا وَهُوَ حَارّ رَطْبٌ وَإِذَا انْهَضَمَ غَذّى غِذَاءً قَوِيّا .
[ لَحْمُ الْفَرَسِ ]
لَحْمُ الْفَرَسِ : ثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ أَسْمَاءَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ نَحَرْنَا فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَثَبَتَ عَنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ أَذِنَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُر <344> أَخْرَجَاهُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " . وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ حَدِيثُ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ نَهَى عَنْهُ . قَالَهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
(1/474)
[ سَبَبُ اقْتِرَانِ الْخَيْلِ مَعَ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الْقُرْآنِ ]
وَاقْتِرَانُهُ بِالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الْقُرْآنِ لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ حُكْمَ لَحْمِهِ حُكْمُ لُحُومِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَمَا لَا يَدُلّ عَلَى أَنّ حُكْمَهَا فِي السّهْمِ فِي الْغَنِيمَةِ حُكْمُ الْفَرَسِ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ يَقْرِنُ فِي الذّكْرِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَاتِ تَارَةً وَبَيْنَ الْمُخْتَلِفَاتِ وَبَيْنَ الْمُتَضَادّاتِ وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ
لِتَرْكَبُوهَا [ النّحْلُ 8 ] مَا يَمْنَعُ مِنْ أَكْلِهَا كَمَا لَيْسَ فِيهِ مَا يَمْنَعُ مِنْ غَيْرِ الرّكُوبِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ وَإِنّمَا نَصّ عَلَى أَجَلّ مَنَافِعِهَا وَهُوَ الرّكُوبُ وَالْحَدِيثَانِ فِي حِلّهَا صَحِيحَانِ لَا مُعَارِضَ لَهُمَا وَبَعْدُ فَلَحْمُهَا حَارّ يَابِسٌ غَلِيظٌ سَوْدَاوِيّ مُضِرّ لَا يَصْلُحُ لِلْأَبْدَانِ اللّطِيفَةِ .
[ لَحْمُ الْجَمَلِ ]
لَحْمُ الْجَمَلِ فَرْقَ مَا بَيْنَ الرّافِضَةِ وَأَهْلِ السّنّةِ كَمَا أَنّهُ أَحَدُ الْفُرُوقِ بَيْنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَالْيَهُودُ وَالرّافِضَةُ تَذُمّهُ وَلَا تَأْكُلُهُ وَقَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ حِلّهُ وَطَالَمَا أَكَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ حَضَرًا وَسَفَرًا .
[ عِلّةُ الْوُضُوءِ مَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَمَل ِ ]
(1/475)
وَلَحْمِ الْفَصِيلِ مِنْهُ مِنْ أَلَذّ اللّحُومِ وَأَطْيَبِهَا وَأَقْوَاهَا غِذَاءً وَهُوَ لِمَنْ اعْتَادَهُ بِمَنْزِلَةِ لَحْمِ الضّأْنِ لَا يَضُرّهُمْ الْبَتّةَ وَلَا يُوَلّدُ لَهُمْ دَاءً وَإِنّمَا ذَمّهُ بَعْضُ الْأَطِبّاءِ بِالنّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الرّفَاهِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ الّذِينَ لَمْ يَعْتَادُوهُ فَإِنّ فِيهِ حَرَارَةً وَيُبْسًا وَتَوْلِيدًا لِلسّوْدَاءِ وَهُوَ عَسِرُ الِانْهِضَامِ وَفِيهِ قُوّةٌ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ لِأَجْلِهَا أَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْوُضُوءِ مِنْ أَكْلِهِ فِي حَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ لَا مُعَارِضَ لَهُمَا وَلَا يَصِحّ تَأْوِيلُهُمَا بِغَسْلِ الْيَدِ لِأَنّهُ خِلَافُ الْمَعْهُودِ مِنْ الْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِتَفْرِيقِهِ <345> بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ فَخَيّرَ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَتَرْكِهِ مِنْهَا وَحَتّمَ الْوُضُوءَ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ . وَلَوْ حُمِلَ الْوُضُوءُ عَلَى غَسْلِ الْيَدِ فَقَطْ لَحُمِلَ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مَنْ مَسّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضّأْ
وَأَيْضًا : فَإِنّ آكِلَهَا قَدْ لَا يُبَاشِرُ أَكْلَهَا بِيَدِهِ بِأَنْ يُوضَعَ فِي فَمِهِ فَإِنْ كَانَ وُضُوءُهُ غَسْلَ يَدِهِ فَهُوَ عَبَثٌ وَحَمْلٌ لِكَلَامِ الشّارِعِ عَلَى غَيْرِ مَعْهُودِهِ وَعُرْفِهِ وَلَا يَصِحّ مُعَارَضَتُهُ بِحَدِيثٍ كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمّا مَسّتْ النّارُ لِعِدّةِ أَوْجُهٍ
أَحَدُهَا : أَنّ هَذَا عَامّ وَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْهَا خَاصّ .
(1/476)
الثّانِي : أَنّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ فَالْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ مِنْهَا بِجِهَةِ كَوْنِهَا لَحْمَ إبِلٍ سَوَاءٌ كَانَ نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا أَوْ قَدِيدًا وَلَا تَأْثِيرَ لِلنّارِ فِي الْوُضُوءِ وَأَمّا تَرْكُ الْوُضُوءِ مِمّا مَسّتْ النّارُ فَفِيهِ بَيَانُ أَنّ مَسّ النّارِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْوُضُوءِ فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ ؟ هَذَا فِيهِ إثْبَاتُ سَبَبِ الْوُضُوءِ وَهُوَ كَوْنُهُ لَحْمَ إبِلٍ وَهَذَا فِيهِ نَفْيٌ لِسَبَبِ الْوُضُوءِ وَهُوَ كَوْنُهُ مَمْسُوسَ النّارِ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهٍ .
الثّالِثُ أَنّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ حِكَايَةَ لَفْظٍ عَامّ عَنْ صَاحِبِ الشّرْعِ وَإِنّمَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ وَاقِعَةِ فِعْلٍ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مُتَقَدّمٌ عَلَى الْآخَرِ كَمَا جَاءَ ذَلِكَ مُبَيّنًا فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ أَنّهُمْ قَرّبُوا إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَحْمًا فَأَكَلَ ثُمّ حَضَرَتْ <346> الصّلَاةُ فَتَوَضّأَ فَصَلّى ثُمّ قَرّبُوا إلَيْهِ فَأَكَلَ ثُمّ صَلّى وَلَمْ يَتَوَضّأْ فَكَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمّا مَسّتْ النّارُ هَكَذَا جَاءَ الْحَدِيثُ فَاخْتَصَرَهُ الرّاوِي لِمَكَانِ الِاسْتِدْلَالِ فَأَيْنَ فِي هَذَا مَا يَصْلُحُ لِنَسْخِ الْأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْهُ حَتّى لَوْ كَانَ لَفْظًا عَامّا مُتَأَخّرًا مُقَاوِمًا لَمْ يَصْلُحْ لِلنّسْخِ وَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْخَاصّ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الظّهُورِ .
[ لَحْمُ الضّبّ ]
لَحْمُ الضّبّ تَقَدّمَ الْحَدِيثُ فِي حِلّهِ وَلَحْمُهُ حَارّ يَابِسٌ يُقَوّي شَهْوَةَ الْجِمَاعِ .
[ لَحْمُ الْغَزَالِ ]
(1/477)
لَحْمُ الْغَزَالِ الْغَزَالُ أَصْلَحُ الصّيْدِ وَأَحْمَدُهُ لَحْمًا وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ جِدّا نَافِعٌ لِلْأَبْدَانِ الْمُعْتَدِلَةِ الصّحِيحَةِ وَجَيّدُهُ الْخِشْفُ .
[ لَحْمُ الظّبْيِ ]
لَحْمُ الظّبْيِ حَارّ يَابِسٌ فِي الْأَوْلَى مُجَفّفٌ لِلْبَدَنِ صَالِحٌ لِلْأَبْدَانِ الرّطْبَةِ . قَالَ صَاحِبُ " الْقَانُونِ " : وَأَفْضَلُ لُحُومِ الْوَحْشِ لَحْمُ الظّبْيِ مَعَ مَيْلِهِ إلَى السّوْدَاوِيّةِ .
[ لَحْمُ الْأَرَانِبِ ]
لَحْمُ الْأَرَانِبِ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أَنْفَجْنَا أَرْنَبًا فَسَعَوْا فِي طَلَبِهَا فَأَخَذُوهَا فَبَعَثَ أَبُو طَلْحَةَ بِوَرِكِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَبِلَهُ
لَحْمُ الْأَرْنَبِ مُعْتَدِلٌ إلَى الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ وَأَطْيَبُهَا وَرِكُهَا وَأَحْمَدُهُ أَكْلُ لَحْمِهَا مَشْوِيّا وَهُوَ يُعْقِلُ الْبَطْنَ وَيُدِرّ الْبَوْلَ وَيُفَتّتُ الْحَصَى وَأَكْلُ رُءُوسِهَا يَنْفَعُ مِنْ الرّعْشَةِ .
[ لَحْمُ حِمَارِ الْوَحْشِ ]
لَحْمُ حِمَارِ الْوَحْشِ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُمْ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَعْضِ عُمْرِهِ وَأَنّهُ صَادَ حِمَارَ وَحْشٍ فَأَمَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَكْلِهِ <347> وَكَانُوا مُحْرِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ أَبُو قَتَادَةَ مُحْرِمًا .
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " : عَنْ جَابِرٍ قَالَ أَكَلْنَا زَمَنَ خَيْبَرَ الْخَيْلَ وَحُمُرَ الْوَحْشِ
[ لَحْمُ الْوُحُوشِ ]
(1/478)
لَحْمُهُ حَارّ يَابِسٌ كَثِيرُ التّغْذِيَةِ مُوَلّدٌ دَمًا غَلِيظًا سَوْدَاوِيّا إلّا أَنّ شَحْمَهُ نَافِعٌ مَعَ دُهْنِ الْقُسْطِ لِوَجَعِ الظّهْرِ وَالرّيحِ الْغَلِيظَةِ الْمُرْخِيَةِ لِلْكُلَى وَشَحْمُهُ جَيّدٌ لِلْكَلَفِ طِلَاءً وَبِالْجُمْلَةِ فَلُحُومُ الْوُحُوشِ كُلّهَا تُوَلّدُ دَمًا غَلِيظًا سَوْدَاوِيّا وَأَحْمَدُهُ الْغَزَالُ وَبَعْدَهُ الْأَرْنَبُ .
[ لُحُومُ الْأَجِنّةِ وَحُكْمُ أَكْلِهَا ]
لُحُومُ الْأَجِنّةِ غَيْرُ مَحْمُودَةٍ لِاحْتِقَانِ الدّمِ فِيهَا وَلَيْسَتْ بِحَرَامٍ لِقَوْلِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمّهِ وَمَنَعَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْ أَكْلِهِ إلّا أَنْ يُدْرِكَهُ حَيّا فَيُذَكّيَهُ وَأَوّلُوا الْحَدِيثَ عَلَى أَنّ الْمُرَادَ بِهِ أَنّ ذَكَاتَهُ كَذَكَاةِ أُمّهِ . قَالُوا : فَهُوَ حُجّةٌ عَلَى التّحْرِيمِ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنّ أَوّلَ الْحَدِيثِ أَنّهُمْ سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ نَذْبَحُ الشّاةَ فَنَجِدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا أَفَنَأْكُلُهُ ؟ فَقَالَ " كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ فَإِنّ ذَكَاتَهُ ذَكَاةُ أُمّهِ
وَأَيْضًا : فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي حِلّهُ فَإِنّهُ مَا دَامَ حَمْلًا فَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمّ فَذَكَاتُهَا ذَكَاةٌ لِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَهَذَا هُوَ الّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الشّرْعِ <348> بِقَوْلِهِ " ذَكَاتُهُ ذَكَاةُ أُمّهِ كَمَا تَكُونُ ذَكَاتُهَا ذَكَاةَ سَائِرِ أَجْزَائِهَا فَلَوْ لَمْ تَأْتِ عَنْهُ السّنّةُ الصّرِيحَةُ بِأَكْلِهِ لَكَانَ الْقِيَاسُ الصّحِيحُ يَقْتَضِي حِلّهُ .
[ لَحْمُ الْقَدِيدِ ]
(1/479)
لَحْمُ الْقَدِيدِ فِي " السّنَنِ " مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ ذَبَحْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَاةً وَنَحْنُ مُسَافِرُونَ فَقَالَ " أَصْلِحْ لَحْمَهَا " فَلَمْ أَزَلْ أُطْعِمُهُ مِنْهُ إلَى الْمَدِينَةِ
الْقَدِيدُ أَنْفَعُ مِنْ النمكسود وَيُقَوّي الْأَبْدَانَ وَيُحْدِثُ حَكّةً وَدَفْعُ ضَرَرِهِ بِالْأَبَازِيرِ الْبَارِدَةِ الرّطْبَةِ وَيُصْلِحُ الْأَمْزِجَةَ الْحَارّةَ والنمكسود : حَارّ يَابِسٌ مُجَفّفٌ جَيّدُهُ مِنْ السّمِينِ الرّطْبِ يَضُرّ بِالْقُولَنْجِ وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ طَبْخُهُ باللبن والدهن، ويصلح للمزاج الحار الرطب .
فَصْلٌ فِي لُحُومِ الطّيْر
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمّا يَشْتَهُونَ [ الْوَاقِعَةُ 21 ] .
وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا إنّكَ لَتَنْظُرُ إلَى الطّيْرِ فِي الْجَنّةِ فَتَشْتَهِيهِ فَيَخِرّ مَشْوِيّا بَيْنَ يَدَيْكَ
[ الْحَرَامُ مِنْ الطّيُور ]ِ
وَمِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ . فَالْحَرَامُ ذُو الْمِخْلَبِ كَالصّقْرِ وَالْبَازِي <349> وَالشّاهِينِ وَمَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالنّسْرِ وَالرّخَمِ وَاللّقْلَقِ وَالْعَقْعَقِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَالْأَسْوَدِ الْكَبِيرِ وَمَا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ كَالْهُدْهُدِ وَالصّرَدِ وَمَا أُمِرَ بِقَتْلِهِ كَالْحِدَأَةِ وَالْغُرَابِ .
[ لَحْمُ الدّجَاجِ ]
وَالْحَلَالُ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ فَمِنْهُ الدّجَاجُ فَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَكَلَ لَحْمَ الدّجَاجِ
(1/480)
وَهُوَ حَارّ رَطْبٌ فِي الْأَوْلَى خَفِيفٌ عَلَى الْمَعِدَةِ سَرِيعُ الْهَضْمِ جَيّدُ الْخَلْطِ يَزِيدُ فِي الدّمَاغِ وَالْمَنِيّ وَيُصَفّي الصّوْتَ وَيُحَسّنُ اللّوْنَ وَيُقَوّي الْعَقْلَ وَيُوَلّدُ دَمًا جَيّدًا وَهُوَ مَائِلٌ إلَى الرّطُوبَةِ وَيُقَالُ إنّ مُدَاوَمَةَ أَكْلِهِ تُورِثُ النّقْرِسُ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ .
[ لَحْمُ الدّيكِ ]
وَلَحْمُ الدّيكِ أَسْخَنُ مِزَاجًا وَأَقَلّ رُطُوبَةً وَالْعَتِيقُ مِنْهُ دَوَاءٌ يَنْفَعُ الْقُولَنْجَ وَالرّبْوَ وَالرّيَاحَ الْغَلِيظَةَ إذَا طُبِخَ بِمَاءِ الْقُرْطُمِ وَالشّبْثِ وَخَصِيّهَا مَحْمُودُ الْغِذَاءِ سَرِيعُ الِانْهِضَامِ وَالْفَرَارِيجُ سَرِيعَةُ الْهَضْمِ مُلَيّنَةٌ لِلطّبْعِ وَالدّمُ الْمُتَوَلّدُ مِنْهَا دَمٌ لَطِيفٌ جَيّدٌ .
[ لَحْمُ الدّرّاجِ ]
لَحْمُ الدّرّاجِ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ خَفِيفٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الِانْهِضَامِ مُوَلّدٌ لِلدّمِ الْمُعْتَدِلِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ يُحِدّ الْبَصَرَ .
[ لَحْمُ الْحَجَلِ ]
لَحْمُ الْحَجَلِ يُوَلّدُ الدّمَ الْجَيّدَ سَرِيعُ الِانْهِضَامِ .
لَحْمُ الْإِوَزّ
لَحْمُ الْإِوَزّ . حَارّ يَابِسٌ رَدِيءُ الْغِذَاءِ إذَا اُعْتِيدَ وَلَيْسَ بِكَثِيرِ الْفُضُولِ .
[ لَحْمُ الْبَطّ ]
لَحْمُ الْبَطّ حَارّ رَطْبٌ كَثِيرُ الْفُضُولِ عَسِرُ الِانْهِضَامِ غَيْرُ مُوَافِقٍ لِلْمَعِدَةِ .
[ لَحْمُ الْحُبَارَى ]
لَحْمُ الْحُبَارَى : فِي " السّنَنِ " . مِنْ حَدِيثِ بُرَيْهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ سَفِينَةَ عَنْ أَبِيهِ <350> عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ أَكَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَحْمَ حُبَارَى
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ عَسِرُ الِانْهِضَامِ نَافِعٌ لِأَصْحَابِ الرّيَاضَةِ وَالتّعَبِ .
[ لَحْمُ الْكُرْكِيّ ]
(1/481)
لَحْمُ الْكُرْكِيّ يَابِسٌ خَفِيفٌ وَفِي حَرّهِ وَبَرْدِهِ خِلَافٌ يُوَلّدُ دَمًا سَوْدَاوِيّا وَيَصْلُحُ لِأَصْحَابِ الْكَدّ وَالتّعَبِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ بَعْدَ ذَبْحِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ يُؤْكَلُ .
[ لَحْمُ الْعَصَافِيرِ وَالْقَنَابِر ]ِ
لَحْمُ الْعَصَافِيرِ وَالْقَنَابِرِ رَوَى النّسَائِيّ فِي " سُنَنِهِ " : مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَا مِنْ إنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهُ بِغَيْرِ حَقّهِ إلّا سَأَلَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَنْهَا . قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا حَقّهُ ؟ قَالَ " تَذْبَحُهُ فَتَأْكُلَهُ وَلَا تَقْطَعُ رَأْسَهُ وَتَرْمِي بِهِ
وَفِي " سُنَنِهِ " أَيْضًا : عَنْ عَمْرِو بْنِ الشّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجّ إلَى اللّهِ يَقُولُ يَا رَبّ إنّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي لِمَنْفَعَة
وَلَحْمُهُ حَارّ يَابِسٌ عَاقِلٌ لِلطّبِيعَةِ يَزِيدُ فِي الْبَاهِ وَمَرَقُهُ يُلَيّنُ الطّبْعَ وَيَنْفَعُ الْمَفَاصِلَ وَإِذَا أُكِلَتْ أَدْمِغَتُهَا بِالزّنْجَبِيلِ وَالْبَصَلِ هَيّجَتْ شَهْوَةَ الْجِمَاعِ وَخَلْطُهَا غَيْرُ مَحْمُودٍ .
[ لَحْمُ الْحَمَامِ ]
(1/482)
<351> لَحْمُ الْحَمَامِ حَارّ رَطْبٌ وَحَشْيُهُ أَقَلّ رُطُوبَةً وَفِرَاخُهُ أَرْطَبُ خَاصّيّةً وَمَا رُبّيَ فِي الدّورِ وَنَاهِضُهُ أَخَفّ لَحْمًا وَأَحْمَدُ غِذَاءً وَلَحْمُ ذُكُورِهَا شِفَاءٌ مِنْ الِاسْتِرْخَاءِ وَالْخَدَرِ وَالسّكْتَةِ وَالرّعْشَةِ وَكَذَلِكَ شَمّ رَائِحَةِ أَنْفَاسِهَا وَأَكْلُ فِرَاخِهَا مُعِينٌ عَلَى النّسَاءِ وَهُوَ جَيّدٌ لِلْكُلَى يَزِيدُ فِي الدّمِ وَقَدْ رُوِيَ فِيهَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ رَجُلًا شَكَا إلَيْهِ الْوِحْدَةَ فَقَالَ " اتّخِذْ زَوْجًا مِنْ الْحَمَامِ " . وَأَجْوَدُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَى رَجُلًا يَتْبَعُ حَمَامَةً فَقَالَ شَيْطَانٌ يَتْبَعُ شَيْطَانَةً
وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلَابِ وَذَبْحِ الْحَمَامِ .
[ لَحْمُ الْقَطَا ]
لَحْمُ الْقَطَا : يَابِسٌ يُوَلّدُ السّوْدَاءَ وَيَحْبِسُ الطّبْعَ وَهُوَ مِنْ شَرّ الْغِذَاءِ إلّا أَنّهُ يَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِسْقَاءِ .
[ لَحْمُ السّمَانَى ]
لَحْمُ السّمَانَى : حَارّ يَابِسٌ يَنْفَعُ الْمَفَاصِلَ وَيَضُرّ بِالْكَبِدِ الْحَارّ وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ بِالْخَلّ وَالْكُسْفُرَةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ مِنْ لُحُومِ الطّيْرِ مَا كَانَ فِي الْآجَامِ وَالْمَوَاضِعِ الْعَفِنَةِ وَلُحُومُ الطّيْرِ كُلّهَا أَسْرَعُ انْهِضَامًا مِنْ الْمَوَاشِي وَأَسْرَعُهَا انْهِضَامًا أَقَلّهَا غِذَاءً وَهِيَ الرّقَابُ وَالْأَجْنِحَةُ وَأَدْمِغَتُهَا أَحْمَدُ مِنْ أَدْمِغَةِ الْمَوَاشِي .
(1/483)
الْجَرَادُ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبْعَ غَزَوَاتٍ نَأْكُلُ الْجَرَادَ <352> وَفِي " الْمُسْنَدِ " عَنْهُ أُحِلّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ : الْحُوتُ وَالْجَرَادُ وَالْكَبِدُ وَالطّحَالُ يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ قَلِيلُ الْغِذَاءِ وَإِدَامَةُ أَكْلِهِ تُورِثُ الْهُزَالَ وَإِذَا تُبُخّرَ بِهِ نَفَعَ مِنْ تَقْطِيرِ الْبَوْلِ وَعُسْرِهِ وَخُصُوصًا لِلنّسَاءِ وَيُتَبَخّرُ بِهِ لِلْبَوَاسِيرِ وَسِمَانُهُ يُشْوَى وَيُؤْكَلُ لِلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَهُوَ ضَارّ لِأَصْحَابِ الصّرْعِ رَدِيءُ الْخَلْطِ وَفِي إبَاحَةِ مَيْتَتِهِ بِلَا سَبَبٍ قَوْلَانِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى حِلّهِ وَحَرّمَهُ مَالِكٌ وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ مَيْتَتِهِ إذَا مَاتَ بِسَبَبٍ كَالْكَبْسِ وَالتّحْرِيقِ وَنَحْوِهِ .
فَصْلٌ [ ضَرَرُ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى اللّحْمِ ]
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُدَاوَمَ عَلَى أَكْلِ اللّحْمِ فَإِنّهُ يُورِثُ الْأَمْرَاضَ الدّمَوِيّةَ والِامتِلائيّة وَالْحُمّيّاتِ الْحَادّةِ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إيّاكُمْ وَاللّحْمَ فَإِنّ لَهُ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ الْخَمْرِ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطّأِ " عَنْهُ . وَقَالَ أبقراط لا تجعلوا أجوافكم مقبرة للحيوان.
[ اللبن ]
(1/484)
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَإِنّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشّارِبِينَ [ النّحْلُ 66 ] وَقَالَ فِي الْجَنّةِ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيّرْ طَعْمُهُ [ مُحَمّد : 15 ] . وَفِي " السّنَنِ " مَرْفُوعًا : مَنْ أَطْعَمَهُ اللّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَارْزُقْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللّهُ لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّي لَا أَعْلَمُ مَا يُجْزِئُ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنَ
<353> اللّبَنُ وَإِنْ كَانَ بَسِيطًا فِي الْحِسّ إلّا أَنّهُ مُرَكّبٌ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ تَرْكِيبًا طَبِيعِيّا مِنْ جَوَاهِرَ ثَلَاثَةٍ الْجُبْنِيّةُ وَالسّمْنِيّةُ وَالْمَائِيّةُ ، فَالْجُبْنِيّةُ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ مُغَذّيَةٌ لِلْبَدَنِ ، وَالسّمْنِيّةُ مُعْتَدِلَةُ الْحَرَارَةِ وَالرّطُوبَةِ مُلَائِمَةٌ لِلْبَدَنِ الْإِنْسَانِيّ الصّحِيحِ كَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ وَالْمَائِيّةُ حَارّةٌ رَطْبَةٌ مُطْلِقَةٌ لِلطّبِيعَةِ مُرَطّبَةٌ لِلْبَدَنِ وَاللّبَنُ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَبْرَدُ وَأَرْطَبُ مِنْ الْمُعْتَدِلِ .
وَقِيلَ قُوّتُهُ عِنْدَ حَلْبِهِ الْحَرَارَةُ وَالرّطُوبَةُ وَقِيلَ مُعْتَدِلٌ فِي الْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ .
(1/485)
وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ اللّبَنُ حِينَ يُحْلَبُ ثُمّ لَا يَزَالُ تَنْقُصُ جَوْدَتُهُ عَلَى مَمَرّ السّاعَاتِ فَيَكُونُ حِينَ يُحْلَبُ أَقَلّ بُرُودَةً وَأَكْثَرَ رُطُوبَةً وَالْحَامِضُ بِالْعَكْسِ وَيُخْتَارُ اللّبَنُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَجْوَدُهُ مَا اشْتَدّ بَيَاضُهُ وَطَابَ رِيحُهُ وَلَذّ طَعْمُهُ وَكَانَ فِيهِ حَلَاوَةٌ يَسِيرَةٌ وَدُسُومَةٌ مُعْتَدِلَةٌ وَاعْتَدَلَ قِوَامُهُ فِي الرّقّةِ وَالْغِلَظِ وَحُلِبَ مِنْ حَيَوَانٍ فَتِيّ صَحِيحٍ مُعْتَدِلِ اللّحْمِ مَحْمُودِ الْمَرْعَى وَالْمَشْرَبِ .
وَهُوَ مَحْمُودٌ يُوَلّدُ دَمًا جَيّدًا وَيُرَطّبُ الْبَدَنَ الْيَابِسَ وَيَغْذُو غِذَاءً حَسَنًا وَيَنْفَعُ مِنْ الْوَسْوَاسِ وَالْغَمّ وَالْأَمْرَاضِ السّوْدَاوِيّةِ وَإِذَا شُرِبَ مَعَ الْعَسَلِ نَقّى الْقُرُوحَ الْبَاطِنَةَ مِنْ الْأَخْلَاطِ الْعَفِنَةِ وَشُرْبُهُ مَعَ السّكّرِ يُحَسّنُ اللّوْنَ جِدّا وَالْحَلِيبُ يَتَدَارَكُ ضَرَرَ الْجِمَاعِ وَيُوَافِقُ الصّدْرَ وَالرّئَةَ جَيّدٌ لِأَصْحَابِ السّلّ رَدِيءٌ لِلرّأْسِ وَالْمَعِدَةِ وَالْكَبِدِ وَالطّحَالِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ مُضِرّ بِالْأَسْنَانِ وَاللّثَةِ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتَمَضْمَضَ بَعْدَهُ بِالْمَاءِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَرِبَ لَبَنًا ثُمّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ وَقَالَ إنّ لَهُ دَسَمًا
(1/486)
<354> وَهُوَ رَدِيءٌ لِلْمَحْمُومِينَ وَأَصْحَابِ الصّدَاعِ مُؤْذٍ لِلدّمَاغِ وَالرّأْسِ الضّعِيفِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهِ تُحْدِثُ ظُلْمَةَ الْبَصَرِ وَالْغِشَاءَ وَوَجَعَ الْمَفَاصِلِ وَسُدّةَ الْكَبِدِ وَالنّفْخَ فِي الْمَعِدَةِ وَالْأَحْشَاءِ وَإِصْلَاحُهُ بِالْعَسَلِ وَالزّنْجَبِيلِ الْمُرَبّى وَنَحْوِهِ وَهَذَا كُلّهُ لِمَنْ لَمْ يَعْتَدْهُ .
[ لَبَنُ الضّأْنِ ]
لَبَنُ الضّأْنِ أَغْلَظُ الْأَلْبَانِ وَأَرْطَبُهَا وَفِيهِ مِنْ الدّسُومَةِ وَالزّهُومَةِ مَا لَيْسَ فِي لَبَنِ الْمَاعِزِ وَالْبَقَرِ يُوَلّدُ فُضُولًا بَلْغَمِيّا وَيُحْدِثُ فِي الْجِلْدِ بَيَاضًا إذَا أُدْمِنَ اسْتِعْمَالُهُ وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُشَابَ هَذَا اللّبَنَ بِالْمَاءِ لِيَكُونَ مَا نَالَ الْبَدَنَ مِنْهُ أَقَلّ وَتَسْكِينُهُ لِلْعَطَشِ أَسْرَعُ وَتَبْرِيدُهُ أَكْثَرُ .
[لَبَنُ الْمَعْزِ ]
لَبَنُ الْمَعْزِ لَطِيفٌ مُعْتَدِلٌ مُطْلِقٌ لِلْبَطْنِ مُرَطّبٌ لِلْبَدَنِ الْيَابِسِ نَافِعٌ مِنْ قُرُوحِ الْحَلْقِ وَالسّعَالِ الْيَابِسِ وَنَفْثِ الدّمِ .
وَاللّبَنُ الْمُطْلِقُ أَنْفَعُ الْمَشْرُوبَاتِ لِلْبَدَنِ الْإِنْسَانِيّ لِمَا اجْتَمَعَ فِيهِ مِنْ التّغْذِيَةِ وَالدّمَوِيّةِ وَلِاعْتِيَادِهِ حَالَ الطّفُولِيّةُ وَمُوَافَقَتِهِ لِلْفِطْرَةِ الْأَصْلِيّةِ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحٍ مِنْ خَمْرٍ وَقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَنَظَرَ إلَيْهِمَا ثُمّ أَخَذَ اللّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمّتُكَ وَالْحَامِضُ مِنْهُ بَطِيءُ الِاسْتِمْرَاءِ خَامُ الْخَلْطِ وَالْمَعِدَةُ الْحَارّةُ تَهْضِمُهُ وَتَنْتَفِعُ بِهِ .
[ لَبَنُ الْبَقَرِ ]
(1/487)
لَبَنُ الْبَقَرِ يَغْذُو الْبَدَنَ وَيُخَصّبُهُ وَيُطْلِقُ الْبَطْنَ بِاعْتِدَالٍ وَهُوَ مِنْ أَعْدَلِ الْأَلْبَانِ وَأَفْضَلِهَا بَيْنَ لَبَنِ الضّأْنِ وَلَبَنِ الْمَعْزِ فِي الرّقّةِ وَالْغِلَظِ وَالدّسَمِ وَفِي " السّنَنِ " : مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَرْفَعُهُ عَلَيْكُمْ بِأَلْبَانِ الْبَقَرِ <355> فَإِنّهَا تَرُمّ مِنْ كُلّ الشّجَرِ " .
[ لَبَنُ الْإِبِلِ ]
لَبَنُ الْإِبِلِ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوّلِ الْفَصْلِ وَذِكْرُ مَنَافِعِهِ فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَتِهِ .
لُبَانٌ
[ بَيَانُ فَائِدَتِهِ لِطَرْدِ النّسْيَانِ ]
هُوَ الْكُنْدُرُ قَدْ وَرَدَ فِيهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَخّرُوا بُيُوتَكُمْ بِاللّبَانِ وَالصّعْتَرِ وَلَا يَصِحّ عَنْهُ وَلَكِنْ يُرْوَى عَنْ عَلِيّ أَنّهُ قَالَ لِرَجُلٍ شَكَا إلَيْهِ النّسْيَانَ عَلَيْكَ بِاللّبَانِ فَإِنّهُ يُشَجّعُ الْقَلْبَ وَيَذْهَبُ بِالنّسْيَانِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا أَنّ شُرْبَهُ مَعَ السّكّرِ عَلَى الرّيقِ جَيّدٌ لِلْبَوْلِ وَالنّسْيَانِ . وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ شَكَا إلَيْهِ رَجُلٌ النّسْيَانَ فَقَالَ عَلَيْكَ بِالْكُنْدُرِ وَانْقَعْهُ مِنْ اللّيْلِ فَإِذَا أَصْبَحْت فَخُذْ مِنْهُ شَرْبَةً عَلَى الرّيقِ فَإِنّهُ جَيّدٌ لِلنّسْيَانِ .
(1/488)
وَلِهَذَا سَبَبٌ طَبِيعِيّ ظَاهِرٌ فَإِنّ النّسْيَانَ إذَا كَانَ لِسُوءِ مِزَاجٍ بَارِدٍ رَطْبٍ يَغْلِبُ عَلَى الدّمَاغِ فَلَا يَحْفَظُ مَا يَنْطَبِعُ فِيهِ نَفَعَ مِنْهُ اللّبَانُ وَأَمّا إذَا كَانَ النّسْيَانُ لِغَلَبَةِ شَيْءٍ عَارِضٍ أَمْكَنَ زَوَالُهُ سَرِيعًا بِالْمُرَطّبَاتِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنّ الْيُبُوسِيّ يَتْبَعُهُ سَهَرٌ وَحِفْظُ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ دُونَ الْحَالِيّةِ وَالرّطُوبِيّ بِالْعَكْسِ .
وَقَدْ يُحْدِثُ النّسْيَانَ أَشْيَاءَ بِالْخَاصّيّةِ كَحِجَامَةِ نُقْرَةِ الْقَفَا وَإِدْمَانِ أَكْلِ الْكُسْفُرَةِ الرّطْبَةِ وَالتّفّاحِ الْحَامِضِ وَكَثْرَةِ الْهَمّ وَالْغَمّ وَالنّظَرِ فِي الْمَاءِ الْوَاقِفِ وَالْبَوْلِ فِيهِ وَالنّظَرِ إلَى الْمَصْلُوبِ وَالْإِكْثَارِ مِنْ قِرَاءَةِ أَلْوَاحِ الْقُبُورِ وَالْمَشْيِ بَيْنَ جَمَلَيْنِ مَقْطُورَيْنِ وَإِلْقَاءِ الْقَمْلِ فِي الْحِيَاضِ وَأَكْلِ سُؤْرِ الْفَأْرِ وَأَكْثُرُ هَذَا مَعْرُوفٌ بِالتّجْرِبَةِ . <356>
(1/489)
وَالْمَقْصُودُ أَنّ اللّبَانَ مُسَخّنٌ فِي الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَمُجَفّفٌ فِي الْأُولَى وَفِيهِ قَبْضٌ يَسِيرٌ وَهُوَ كَثِيرُ الْمَنَافِعِ قَلِيلُ الْمَضَارّ فَمِنْ مَنَافِعِهِ أَنْ يَنْفَعَ مِنْ قَذْفِ الدّمِ وَنَزْفِهِ وَوَجَعِ الْمَعِدَةِ وَاسْتِطْلَاقِ الْبَطْنِ وَيَهْضِمُ الطّعَامَ وَيَطْرُدُ الرّيَاحَ وَيَجْلُو قُرُوحَ الْعَيْنِ وَيُنْبِتُ اللّحْمَ فِي سَائِرِ الْقُرُوحِ وَيُقَوّي الْمَعِدَةَ الضّعِيفَةَ وَيُسَخّنُهَا وَيُجَفّفُ الْبَلْغَمَ وَيُنَشّفُ رُطُوبَاتِ الصّدْرِ وَيَجْلُو ظُلْمَةَ الْبَصَرِ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ مِنْ الِانْتِشَارِ وَإِذَا مُضِغَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الصّعْتَرِ الْفَارِسِيّ جَلَبَ الْبَلْغَمَ وَنَفَعَ مِنْ اعْتِقَالِ اللّسَانِ وَيَزِيدُ فِي الذّهْنِ وَيُذَكّيهِ وَإِنْ بُخّرَ بِهِ مَاءٌ نَفَعَ مِنْ الْوَبَاءِ وَطَيّبَ رَائِحَةَ الْهَوَاءِ .
حَرْفُ الْمِيمِ
مَاءٌ
مَادّةُ الْحَيَاةِ وَسَيّدُ الشّرَابِ وَأَحَدُ أَرْكَانِ الْعَالَمِ بَلْ رُكْنُهُ الْأَصْلِيّ فَإِنّ السّمَاوَاتِ خُلِقَتْ مِنْ بُخَارِهِ وَالْأَرْضَ مِنْ زَبَدِهِ وَقَدْ جَعَلَ اللّهُ مِنْهُ كُلّ شَيْءٍ حَيّ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ يَغْذُو أَوْ يُنْفِذُ الْغِذَاءَ فَقَطْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَدْ تَقَدّمَا وَذَكَرْنَا الْقَوْلَ الرّاجِحَ وَدَلِيلَهُ .
وَهُوَ بَارِدٌ رَطْبٌ يَقْمَعُ الْحَرَارَةَ وَيَحْفَظُ عَلَى الْبَدَنِ رُطُوبَاتِهِ وَيَرُدّ عَلَيْهِ بَدَلَ مَا تَحَلّلَ مِنْهُ وَيُرَقّقُ الْغِذَاءَ وَيُنْفِذُهُ فِي الْعُرُوقِ .
[اخْتِبَارُ جَوْدَةِ الْمَاءِ ]
وَتُعْتَبَرُ جَوْدَةُ الْمَاءِ مِنْ عَشَرَةِ طُرُقٍ
أَحَدُهَا : مِنْ لَوْنِهِ بِأَنْ يَكُونَ صَافِيًا .
الثّانِي : مِنْ رَائِحَتِهِ بِأَنْ لَا تَكُونَ لَهُ رَائِحَةٌ الْبَتّةَ .
(1/490)
<357> الثّالِثُ مِنْ طَعْمِهِ بِأَنْ يَكُونَ عَذْبَ الطّعْمِ حُلْوَهُ كَمَاءِ النّيلِ وَالْفُرَاتِ .
الرّابِعُ مِنْ وَزْنِهِ بِأَنْ يَكُونَ خَفِيفًا رَقِيقَ الْقِوَامِ .
الْخَامِسُ مِنْ مَجْرَاهُ . بِأَنْ يَكُونَ طَيّبَ الْمَجْرَى وَالْمَسْلَكَ .
السّادِسُ مِنْ مَنْبَعِهِ بِأَنْ يَكُونَ بَعِيدَ الْمَنْبَعِ .
السّابِعُ مِنْ بُرُوزِهِ لِلشّمْسِ وَالرّيحِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مُخْتَفِيًا تَحْتَ الْأَرْضِ فَلَا تَتَمَكّنُ الشّمْسُ وَالرّيحُ مِنْ قُصَارَتِهِ .
الثّامِنُ مِنْ حَرَكَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ سَرِيعَ الْجَرْيِ وَالْحَرَكَةِ .
التّاسِعُ مِنْ كَثْرَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ كَثْرَةٌ يَدْفَعُ الْفَضَلَاتِ الْمُخَالِطَةِ لَهُ .
الْعَاشِرُ مِنْ مَصَبّهِ بِأَنْ يَكُونَ آخِذًا مِنْ الشّمَالِ إلَى الْجَنُوبِ أَوْ مِنْ الْمَغْرِبِ إلَى الْمَشْرِقِ .
وَإِذَا اعْتَبَرْت هَذِهِ الْأَوْصَافَ لَمْ تَجِدْهَا بِكَمَالِهَا إلّا فِي الْأَنْهَارِ الْأَرْبَعَةِ النّيلِ وَالْفُرَاتِ وَسَيْحُونَ وَجَيْحُونَ .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ وَالنّيلُ وَالْفُرَاتُ كُلّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنّةِ
[اخْتِبَارُ خِفّةِ الْمَاءِ ]
وَتُعْتَبَرُ خِفّةُ الْمَاءِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا : سُرْعَةُ قَبُولِهِ لِلْحَرّ وَالْبَرْدِ قَالَ أبقراط : الْمَاءُ الّذِي يَسْخَنُ سَرِيعًا وَيَبْرُدُ سَرِيعًا أَخَفّ الْمِيَاهِ . الثّانِي : بِالْمِيزَانِ الثّالِثُ أَنْ تُبَلّ قُطْنَتَانِ مُتَسَاوِيَتَا الْوَزْنِ بِمَاءَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ثُمّ يُجَفّفَا بَالِغًا ثُمّ تُوزَنَا فَأَيّتُهُمَا كَانَتْ أَخَفّ فَمَاؤُهَا كَذَلِكَ . <358>
(1/491)
وَالْمَاءُ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ بَارِدًا رَطْبًا فَإِنّ قُوّتَهُ تَنْتَقِلُ وَتَتَغَيّرُ لِأَسْبَابٍ عَارِضَةٍ تُوجِبُ انْتِقَالَهَا فَإِنّ الْمَاءَ الْمَكْشُوفَ لِلشّمَالِ الْمَسْتُورَ عَنْ الْجِهَاتِ الْأُخَرِ يَكُونُ بَارِدًا وَفِيهِ يُبْسٌ مُكْتَسَبٌ مِنْ رِيحِ الشّمَالِ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى سَائِرِ الْجِهَاتِ الْأُخَرِ .
وَالْمَاءُ الّذِي يَنْبُعُ مِنْ الْمَعَادِنِ يَكُونُ عَلَى طَبِيعَةِ ذَلِكَ الْمَعْدِنِ وَيُؤَثّرُ فِي الْبَدَنِ تَأْثِيرَهُ وَالْمَاءُ الْعَذْبُ نَافِعٌ لِلْمَرْضَى وَالْأَصِحّاءِ وَالْبَارِدُ مِنْهُ أَنْفَعُ وَأَلَذّ وَلَا يَنْبَغِي شُرْبُهُ عَلَى الرّيقِ وَلَا عُقَيْبَ الْجِمَاعِ وَلَا الِانْتِبَاهِ مِنْ النّوْمِ وَلَا عُقَيْبَ الْحَمّامِ وَلَا عُقَيْبَ أَكْلِ الْفَاكِهَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ .
وَأَمّا عَلَى الطّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا اُضْطُرّ إلَيْهِ بَلْ يَتَعَيّنُ وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ بَلْ يَتَمَصّصُهُ مَصّا فَإِنّهُ لَا يَضُرّهُ الْبَتّةَ بَلْ يُقَوّي الْمَعِدَةَ وَيُنْهِضُ الشّهْوَةَ وَيُزِيلُ الْعَطَشَ .
وَالْمَاءُ الْفَاتِرُ يَنْفُخُ وَيَفْعَلُ ضِدّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَبَائِتُهُ أَجْوَدُ مِنْ طَرِيّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ . وَالْبَارِدُ يَنْفَعُ مِنْ دَاخِلٍ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ مِنْ خَارِجٍ وَالْحَارّ بِالْعَكْسِ وَيَنْفَعُ الْبَارِدُ مِنْ عُفُونَةِ الدّمِ وَصُعُودِ الْأَبْخِرَةِ إلَى الرّأْسِ وَيَدْفَعُ الْعُفُونَاتِ وَيُوَافِقُ الْأَمْزِجَةَ وَالْأَسْنَانَ وَالْأَزْمَانَ وَالْأَمَاكِنَ الْحَارّةَ وَيَضُرّ عَلَى كُلّ حَالَةٍ تَحْتَاجُ إلَى نُضْجٍ وَتَحْلِيلٍ كَالزّكَامِ وَالْأَوْرَامِ وَالشّدِيدُ الْبُرُودَةِ مِنْهُ يُؤْذِي الْأَسْنَانَ وَالْإِدْمَانُ عَلَيْهِ يُحْدِثُ انْفِجَارَ الدّمِ وَالنّزَلَاتِ وَأَوْجَاعَ الصّدْرِ .
(1/492)
وَالْبَارِدُ وَالْحَارّ بِإِفْرَاطٍ ضَارّانِ لِلْعَصَبِ وَلِأَكْثَرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنّ أَحَدَهُمَا مُحَلّلٌ وَالْآخَرُ مُكَثّفٌ وَالْمَاءُ الْحَارّ يُسَكّنُ لَذْعَ الْأَخْلَاطِ الْحَادّةِ وَيُحَلّلُ وَيُنْضِجُ وَيُخْرِجُ الْفُضُولَ وَيُرَطّبُ وَيُسَخّنُ وَيُفْسِدُ الْهَضْمَ شُرْبُهُ وَيَطْفُو بِالطّعَامِ إلَى أَعْلَى الْمَعِدَةِ وَيُرْخِيهَا وَلَا يُسْرِعُ فِي تَسْكِينِ الْعَطَشِ وَيُذْبِلُ الْبَدَنَ وَيُؤَدّي إلَى أَمْرَاضٍ رَدِيئَةٍ وَيَضُرّ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ عَلَى أَنّهُ صَالِحٌ لِلشّيُوخِ وَأَصْحَابِ الصّرْعِ وَالصّدَاعِ الْبَارِدِ وَالرّمَدِ . وَأَنْفَعُ مَا اُسْتُعْمِلَ مِنْ خَارِجٍ .
[الْمَاءُ الْمُشَمّسُ ]
وَلَا يَصِحّ فِي الْمَاءِ الْمُسَخّنِ بِالشّمْسِ حَدِيثٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا كَرِهَهُ أَحَدٌ مِنْ <359> قُدَمَاءِ الْأَطِبّاءِ وَلَا عَابُوهُ وَالشّدِيدُ السّخُونَةِ يُذِيبُ شَحْمَ الْكُلَى وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَاءِ الْأَمْطَارِ فِي حَرْفِ الْعَيْنِ .
مَاءُ الثّلْجِ وَالْبَرَدِ
ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَدْعُو فِي الِاسْتِفْتَاحِ وَغَيْرِهِ اللّهُمّ اغْسِلْنِي مِنْ خَطَايَايَ بِمَاءِ الثّلْجِ وَالْبَرَدِ
الثّلْجُ لَهُ فِي نَفْسِهِ كَيْفِيّةٌ حَادّةٌ دُخّانِيّةٌ فَمَاؤُهُ كَذَلِكَ وَقَدْ تَقَدّمَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي طَلَبِ الْغَسْلِ مِنْ الْخَطَايَا بِمَائِهِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْقَلْبُ مِنْ التّبْرِيدِ وَالتّصْلِيبِ وَالتّقْوِيَةِ وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا أَصْلُ طِبّ الْأَبْدَانِ وَالْقُلُوبِ وَمُعَالَجَةِ أَدْوَائِهَا بِضِدّهَا .
وَمَاءُ الْبَرَدِ أَلْطَفُ وَأَلَذّ مِنْ مَاءِ الثّلْجِ وَأَمّا مَاءُ الْجُمْدِ وَهُوَ الْجَلِيدُ فَبِحَسَبِ أَصْلِهِ .
(1/493)
وَالثّلْجُ يَكْتَسِبُ كَيْفِيّةَ الْجِبَالِ وَالْأَرْضِ الّتِي يَسْقُطُ عَلَيْهَا فِي الْجَوْدَةِ وَالرّدَاءَةِ وَيَنْبَغِي تَجَنّبُ شُرْبِ الْمَاءِ الْمَثْلُوجِ عُقَيْبَ الْحَمّامِ وَالْجِمَاعِ وَالرّيَاضَةِ وَالطّعَامِ الْحَارّ وَلِأَصْحَابِ السّعَالِ وَوَجَعِ الصّدْرِ وَضَعْفِ الْكَبِدِ وَأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْبَارِدَةِ .
[ مَاءُ الْآبَارِ وَالْقُنِيّ ]
مِيَاهُ الْآبَارِ قَلِيلَةُ اللّطَافَةِ وَمَاءُ الْقُنِيّ الْمَدْفُونَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ ثَقِيلٌ لِأَنّ أَحَدَهُمَا مُحْتَقِنٌ لَا يَخْلُو عَنْ تَعَفّنٍ وَالْآخَرَ مَحْجُوبٌ عَنْ الْهَوَاءِ وَيَنْبَغِي أَلّا يُشْرَبَ عَلَى الْفَوْرِ حَتّى يُصْمَدَ لِلْهَوَاءِ وَتَأْتِيَ عَلَيْهِ لَيْلَةٌ وَأَرْدَؤُهُ مَا كَانَتْ مَجَارِيهِ مِنْ رَصَاصٍ أَوْ كَانَتْ بِئْرُهُ مُعَطّلَةً وَلَا سِيّمَا إذَا كَانَتْ تُرْبَتُهَا رَدِيئَةً فَهَذَا الْمَاءُ وَبِيءٌ وَخِيمٌ .
مَاءُ زَمْزَمَ
سَيّدُ الْمِيَاهِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجَلّهَا قَدْرًا وَأَحَبّهَا إلَى النّفُوسِ وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ النّاسِ وَهُوَ هَزْمَةُ جِبْرِيلَ وَسُقِيَا اللّهِ إسْمَاعِيلَ . <360> وَثَبَتَ فِي " الصّحِيحِ " عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرّ وَقَدْ أَقَامَ بَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ لَهُ طَعَامٌ غَيْرَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَزَادَ غَيْرُ مُسْلِمٍ بِإِسْنَادِهِ وَشِفَاءُ سُقْمٍ تَحْسِينُ الْمُصَنّفِ لِحَدِيثِ مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ
(1/494)
وَفِي " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " . مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَقَدْ ضَعّفَ هَذَا الْحَدِيثَ طَائِفَةٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُؤَمّلِ رَاوِيهِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ . وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ أَنّهُ لَمّا حَجّ أَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ اللّهُمّ إنّ ابْنَ أَبِي الْمَوَالِي حَدّثَنَا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ <361> جَابِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَنْ نَبِيّك صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ وَإِنّي أَشْرَبَهُ لِظَمَإِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَابْنُ أَبِي الْمَوَالِي ثِقَةٌ فَالْحَدِيثُ إذًا حَسَنٌ وَقَدْ صَحّحَهُ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مَوْضُوعًا وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ فِيهِ مُجَازَفَةٌ .
[ تَجْرِيبُ الْمُصَنّفِ لَهُ فِي الِاسْتِشْفَاءِ ]
وَقَدْ جَرّبْتُ أَنَا وَغَيْرِي مِنْ الِاسْتِشْفَاءِ بِمَاءِ زَمْزَمَ أُمُورًا عَجِيبَةً وَاسْتَشْفَيْتُ بِهِ مِنْ عِدّةِ أَمْرَاضٍ فَبَرَأْت بِإِذْنِ اللّهِ وَشَاهَدْتُ مَنْ يَتَغَذّى بِهِ الْأَيّامَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَرِيبًا مِنْ نِصْفِ الشّهْرِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا يَجِدُ جُوعًا وَيَطُوفُ مَعَ النّاسِ كَأَحَدِهِمْ وَأَخْبَرَنِي أَنّهُ رُبّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَ لَهُ قُوّةً يُجَامِعُ بِهَا أَهْلَهُ وَيَصُومُ وَيَطُوفُ مِرَارًا .
مَاءُ النّيلِ
(1/495)
أَحَدُ أَنْهَارِ الْجَنّةِ أَصْلُهُ مِنْ وَرَاءِ جِبَالِ الْقَمَرِ فِي أَقْصَى بِلَادِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَمْطَارٍ تَجْتَمِعُ هُنَاكَ وَسُيُولٍ يَمُدّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَسُوقُهُ اللّهُ تَعَالَى إلَى الْأَرْضِ الْجُرْزِ الّتِي لَا نَبَاتَ لَهَا فَيُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ الْأَنْعَامُ وَالْأَنَامُ وَلَمّا كَانَتْ الْأَرْضُ الّتِي يَسُوقُهُ إلَيْهَا إِبْلِيزًا صُلْبَةً إنْ أُمْطِرَتْ مَطَرَ الْعَادَةِ لَمْ تُرْوَ وَلَمْ تَتَهَيّأْ لِلنّبَاتِ وَإِنْ أُمْطِرَتْ فَوْقَ الْعَادَةِ ضَرّتْ الْمَسَاكِنَ وَالسّاكِنَ وَعَطّلَتْ الْمَعَايِشَ وَالْمَصَالِحَ فَأَمْطَرَ الْبِلَادَ الْبَعِيدَةَ ثُمّ سَاقَ تِلْكَ الْأَمْطَارَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ وَجَعَلَ سُبْحَانَهُ زِيَادَتَهُ فِي أَوْقَاتٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى قَدْرِ رَيّ الْبِلَادِ وَكِفَايَتِهَا فَإِذَا أَرْوَى الْبِلَادَ وَعَمّهَا أَذِنَ سُبْحَانَهُ بِتَنَاقُصِهِ وَهُبُوطِهِ لِتَتِمّ الْمَصْلَحَةُ بِالتّمَكّنِ مِنْ الزّرْعِ وَاجْتَمَعَ فِي هَذَا الْمَاءِ الْأُمُورُ الْعَشْرَةُ الّتِي تَقَدّمَ ذِكْرُهَا وَكَانَ مِنْ أَلْطَفِ الْمِيَاهِ وَأَخَفّهَا وَأَعْذَبِهَا وَأَحْلَاهَا .
مَاءُ الْبَحْرِ
(1/496)
ثَبَتَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلّ مَيْتَتُهُ وَقَدْ جَعَلَهُ اللّهُ سُبْحَانَهُ مِلْحًا أُجَاجًا مُرّا زُعَاقًا لِتَمَامِ مَصَالِحَ مَنْ هُوَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ الْآدَمِيّينَ وَالْبَهَائِمِ فَإِنّهُ دَائِمٌ رَاكِدٌ كَثِيرُ الْحَيَوَانِ وَهُوَ يَمُوتُ فِيهِ <362> كَثِيرًا وَلَا يُقْبَرُ فَلَوْ كَانَ حُلْوًا لَأَنْتَنَ مِنْ إقَامَتِهِ وَمَوْتِ حَيَوَانَاتِهِ فِيهِ وَأَجَافَ وَكَانَ الْهَوَاءُ الْمُحِيطُ بِالْعَالَمِ يَكْتَسِبُ مِنْهُ ذَلِكَ وَيَنْتُنُ وَيُجِيفُ فَيَفْسُدُ الْعَالَمُ فَاقْتَضَتْ حِكْمَةُ الرّبّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ جَعَلَهُ كَالْمَلّاحَةِ الّتِي لَوْ أُلْقِيَ فِيهِ جِيَفُ الْعَالِمِ كُلّهَا وَأَنْتَانُهُ وَأَمْوَاتُهُ لَمْ تُغَيّرْهُ شَيْئًا وَلَا يَتَغَيّرُ عَلَى مُكْثِهِ مِنْ حِينِ خُلِقَ وَإِلَى أَنْ يَطْوِيَ اللّهُ الْعَالَمَ فَهَذَا هُوَ السّبَبُ الْغَائِيّ الْمُوجِبُ لِمُلُوحَتِهِ وَأَمّا الْفَاعِلِيّ فَكَوْنُ أَرْضِهِ سَبِخَةً مَالِحَةً .
[فَوَائِدُ الِاغْتِسَالِ بِهِ ]
[مَا يُدْفَعُ بِهِ مَضَرّةُ الشّرْبِ مِنْهُ ]
وَبَعْدُ فَالِاغْتِسَالُ بِهِ نَافِعٌ مِنْ آفَاتٍ عَدِيدَةٍ فِي ظَاهِرِ الْجِلْدِ وَشُرْبُهُ مُضِرّ بِدَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ فَإِنّهُ يُطْلِقُ الْبَطْنَ وَيُهْزِلُ وَيُحْدِثُ حَكّةً وَجَرَبًا وَنَفْخًا وَعَطَشًا وَمَنْ اُضْطُرّ إلَى شُرْبِهِ فَلَهُ طُرُقٌ مِنْ الْعِلَاجِ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرّتَهُ .
(1/497)
مِنْهَا : أَنْ يُجْعَلَ فِي قِدْرٍ وَيُجْعَلَ فَوْقَ الْقِدْرِ قَصَبَاتٌ وَعَلَيْهَا صُوفٌ جَدِيدٌ مَنْفُوشٌ وَيُوقَدَ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتّى يَرْتَفِعَ بُخَارُهَا إلَى الصّوفِ فَإِذَا كَثُرَ عَصَرَهُ وَلَا يَزَالُ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتّى يَجْتَمِعَ لَهُ مَا يُرِيدُ فَيَحْصُلُ فِي الصّوفِ مِنْ الْبُخَارِ مَا عَذُبَ وَيَبْقَى فِي الْقِدْرِ الزّعَاقُ .
وَمِنْهَا : أَنْ يُحْفَرَ عَلَى شَاطِئِهِ حُفْرَةٌ وَاسِعَةٌ يُرَشّحُ مَاؤُهُ إلَيْهَا ثُمّ إلَى جَانِبِهَا قَرِيبًا مِنْهَا أُخْرَى تُرَشّحُ هِيَ إلَيْهَا ثُمّ ثَالِثَةٌ إلَى أَنْ يَعْذُبَ الْمَاءُ . وَإِذَا أَلْجَأَتْهُ الضّرُورَةُ إلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْكَدِرِ فَعِلَاجُهُ أَنْ يُلْقِيَ فِيهِ نَوَى الْمِشْمِشِ أَوْ قِطْعَةٌ مِنْ خَشَبِ السّاجِ أَوْ جَمْرًا مُلْتَهِبًا يُطْفَأُ فِيهِ أَوْ طِينًا أَرْمَنِيّا أَوْ سَوِيقَ حِنْطَةٍ فَإِنّ كُدْرَتَهُ تُرَسّبُ إلَى أَسْفَلَ .
مِسْكٌ
ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ أَطْيَبُ الطّيبِ الْمِسْكُ .
وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : كُنْتُ أُطَيّبُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ <363> أَنْ يُحْرِمَ وَيَوْمَ النّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِطِيبِ فِيهِ مِسْكٌ .
(1/498)
الْمِسْكُ مَلِكُ أَنْوَاعِ الطّيبِ وَأَشْرَفُهَا وَأَطْيَبُهَا ، وَهُوَ الّذِي تُضْرَبُ بِهِ الْأَمْثَالُ وَيُشَبّهُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يُشَبّهُ بِغَيْرِهِ وَهُوَ كُثْبَانُ الْجَنّةِ وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ يَسُرّ النّفْسَ وَيُقَوّيهَا ، وَيُقَوّي الْأَعْضَاءَ الْبَاطِنَةَ جَمِيعَهَا شُرْبًا وَشَمّا ، وَالظّاهِرَةَ إذَا وُضِعَ عَلَيْهَا . نَافِعٌ لِلْمَشَايِخِ وَالْمَبْرُودِينَ لَا سِيّمَا زَمَنَ الشّتَاءِ جَيّدٌ لِلْغَشْيِ وَالْخَفَقَانِ وَضَعْفِ الْقُوّةِ بِإِنْعَاشِهِ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيّةِ وَيَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ وَيُنَشّفُ رُطُوبَتَهَا ، وَيَفُشّ الرّيَاحَ مِنْهَا وَمِنْ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ وَيُبْطِلُ عَمَلَ السّمُومِ وَيَنْفَعُ مِنْ نَهْشِ الْأَفَاعِي ، وَمَنَافِعُهُ كَثِيرَةٌ جِدّا ، وَهُوَ مِنْ أَقْوَى الْمُفَرّحَاتِ .
مَرْزَنْجُوش
وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَا نَعْلَمُ صِحّتَهُ عَلَيْكُمْ بالمَرْزَنْجُوش فَإِنّهُ جَيّدٌ لِلْخُشَامِ . وَالْخُشَامُ الزّكَامُ .
وَهُوَ حَارّ فِي الثّالِثَةِ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ يَنْفَعُ شَمّهُ مِنْ الصّدَاعِ الْبَارِدِ وَالْكَائِنِ عَنْ الْبَلْغَمِ وَالسّوْدَاءِ وَالزّكَامِ وَالرّيَاحِ الْغَلِيظَةِ وَيَفْتَحُ السّدُدَ الْحَادِثَةَ فِي الرّأْسِ وَالْمَنْخِرَيْنِ وَيُحَلّلُ أَكْثَرَ الْأَوْرَامِ الْبَارِدَةِ فَيَنْفَعُ مِنْ أَكْثَرِ الْأَوْرَامِ وَالْأَوْجَاعِ الْبَارِدَةِ الرّطْبَةِ وَإِذَا اُحْتُمِلَ أَدَرّ الطّمْثَ وَأَعَانَ عَلَى الْحَبَلِ وَإِذَا دُقّ وَرَقُهُ الْيَابِسُ وَكُمِدَ بِهِ أَذْهَبَ آثَارَ الدّمِ الْعَارِضِ تَحْتَ الْعَيْنِ وَإِذَا ضُمّدَ بِهِ مَعَ الْخَلّ نَفَعَ لَسْعَةَ الْعَقْرَبِ .
(1/499)
وَدُهْنُهُ نَافِعٌ لِوَجَعِ الظّهْرِ وَالرّكْبَتَيْنِ وَيُذْهِبُ بِالْإِعْيَاءِ وَمَنْ أَدْمَنَ شَمّهُ لَمْ يَنْزِلْ فِي عَيْنَيْهِ الْمَاءُ وَإِذَا اُسْتُعِطَ بِمَائِهِ مَعَ دُهْنِ اللّوْزِ الْمُرّ فَتَحَ سُدُدَ الْمَنْخِرَيْنِ وَنَفَعَ مِنْ الرّيحِ الْعَارِضَةِ فِيهَا ، وَفِي الرّأْسِ . <364>
مِلْحٌ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِه " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ سَيّدُ إدَامِكُمْ الْمِلْحُ . وَسَيّدُ الشّيْءِ هُوَ الّذِي يُصْلِحُهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَغَالِبُ الْإِدَامِ إنّمَا يَصْلُحُ بِالْمِلْحِ وَفِي " مُسْنَدِ الْبَزّارِ " مَرْفُوعًا : سَيُوشِكُ أَنْ تَكُونُوا فِي النّاسِ مِثْلَ الْمِلْحِ فِي الطّعَامِ وَلَا يَصْلُحُ الطّعَامُ إلّا بِالْمِلْحِ .
وَذَكَر الْبَغَوِيّ فِي " تَفْسِيرِه " : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا : إنّ اللّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ الْحَدِيدَ وَالنّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ . وَالْمَوْقُوفُ أَشْبَهُ .
(1/500)
الْمِلْحُ يُصْلِحُ أَجْسَامَ النّاسِ وَأَطْعِمَتَهُمْ وَيُصْلِحُ كُلّ شَيْءٍ يُخَالِطُهُ حَتّى الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَذَلِكَ أَنّ فِيهِ قُوّةً تَزِيدُ الذّهَبَ صُفْرَةً وَالْفِضّةَ بَيَاضًا ، وَفِيهِ جِلَاءٌ وَتَحْلِيلٌ وَإِذْهَابٌ لِلرّطُوبَاتِ الْغَلِيظَةِ وَتَنْشِيفٌ لَهَا ، وَتَقْوِيَةٌ لِلْأَبْدَانِ وَمَنْعٌ مِنْ عُفُونَتِهَا وَفَسَادِهَا ، وَنَفْعٌ مِنْ الْجَرَبِ الْمُتَقَرّحِ . وَإِذَا اُكْتُحِلَ بِهِ قَلَعَ اللّحْمَ الزّائِدَ مِنْ الْعَيْنِ وَمَحَقَ الظّفَرَة . والأندراني أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ وَيَمْنَعُ الْقُرُوحَ الْخَبِيثَةَ مِنْ الِانْتِشَارِ وَيُحْدِرُ الْبَرَازَ وَإِذَا دُلِكَ بِهِ بُطُونُ أَصْحَابِ الِاسْتِسْقَاءِ نَفَعَهُمْ وَيُنَقّي الْأَسْنَانَ وَيَدْفَعُ عَنْهَا الْعُفُونَةَ وَيَشُدّ اللّثَةَ وَيُقَوّيهَا ، وَمَنَافِعُهُ كَثِيرَةٌ جِدّا .
حَرْفُ النّونِ
نَخْلٌ
مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَفِي " الصّحِيحَيْنِ " <365> عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ أُتِيَ بِجُمّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّ مِنْ الشّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا مَثَلُ الرّجُلِ الْمُسْلِمِ لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا أَخْبِرُونِي مَا هِيَ ؟ فَوَقَعَ النّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنّهَا النّخْلَةُ فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النّخْلَةُ ثُمّ نَظَرْتُ فَإِذَا أَنَا أَصْغُرُ الْقَوْمِ سِنّا فَسَكَتّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " هِيَ النّخْلَةُ " فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ كَذَا وَكَذَا .
[فَوَائِدُ حَدِيثِ النّخْلَةِ ]
(2/1)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إلْقَاءُ الْعَالِمِ الْمَسَائِلَ عَلَى أَصْحَابِهِ وَتَمْرِينُهُمْ وَاخْتِبَارُ مَا عِنْدَهُمْ .
وَفِيهِ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ وَالتّشْبِيهُ .
وَفِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مِنْ الْحَيَاءِ مِنْ أَكَابِرِهِمْ وَإِجْلَالِهِمْ وَإِمْسَاكِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ .
وَفِيهِ فَرَحُ الرّجُلِ بِإِصَابَةِ وَلَدِهِ وَتَوْفِيقِهِ لِلصّوَابِ .
وَفِيهِ أَنّهُ لَا يُكْرَهُ لِلْوَلَدِ أَنْ يُجِيبَ بِمَا يَعْرِفُ بِحَضْرَةِ أَبِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ الْأَبُ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إسَاءَةُ أَدَبٍ عَلَيْهِ .
وَفِيهِ مَا تَضَمّنَهُ تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ بِالنّخْلَةِ مِنْ كَثْرَةِ خَيْرِهَا وَدَوَامِ ظِلّهَا وَطِيبِ ثَمَرِهَا وَوُجُودِهِ عَلَى الدّوَامِ .
وَثَمَرُهَا يُؤْكَلُ رَطْبًا وَيَابِسًا وَبَلَحًا وَيَانِعًا وَهُوَ غِذَاءٌ وَدَوَاءٌ وَقُوتٌ وَحَلْوَى وَشَرَابٌ وَفَاكِهَةٌ وَجُذُوعُهَا لِلْبِنَاءِ وَالْآلَاتِ وَالْأَوَانِي وَيُتّخَذُ مِنْ خُوصِهَا الْحُصُرُ وَالْمَكَاتِلُ وَالْأَوَانِي وَالْمَرَاوِحُ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَمِنْ لِيفِهَا الْحِبَالُ <366> وَالْحَشَايَا وَغَيْرُهَا ثُمّ آخِرُ شَيْءٍ نَوَاهَا عَلَفٌ لِلْإِبِلِ وَيَدْخُلُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَكْحَالِ ثُمّ جَمَالُ ثَمَرَتِهَا وَنَبَاتِهَا وَحُسْنُ هَيْئَتِهَا وَبَهْجَةُ مَنْظَرِهَا وَحُسْنُ نَضْدِ ثَمَرِهَا وَصَنْعَتِهِ وَبَهْجَتُهُ وَمَسَرّةُ النّفُوسِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَرُؤْيَتُهَا مُذَكّرَةٌ لِفَاطِرِهَا وَخَالِقِهَا وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ وَلَا شَيْءَ أَشْبَهُ بِهَا مِنْ الرّجُلِ الْمُؤْمِنِ إذْ هُوَ خَيْرٌ كُلّهُ وَنَفْعٌ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ .
(2/2)
وَهِيَ الشّجَرَةُ الّتِي حَنّ جِذْعُهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا فَارَقَهُ شَوْقًا إلَى قُرْبِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ وَهِيَ الّتِي نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ لَمّا وَلَدَتْ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ . وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ فِي إسْنَادِهِ نَظَرٌ أَكْرِمُوا عَمّتَكُمْ النّخْلَةَ فَإِنّهَا خُلِقَتْ مِنْ الطّينِ الّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ
[اخْتِلَافُ النّاسِ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى الْحَبَلَةِ ]
وَقَدْ اخْتَلَفَ النّاسُ فِي تَفْضِيلِهَا عَلَى الْحَبَلَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ عَلَى قَوْلَيْنِ وَقَدْ قَرَنَ اللّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَمَا أَقْرَبَ أَحَدِهِمَا مِنْ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلّ سُلْطَانِهِ وَمَنْبَتِهِ وَالْأَرْضِ الّتِي تُوَافِقُهُ أَفْضَلَ وَأَنْفَعَ .
نَرْجِسُ
فِيهِ حَدِيثٌ لَا يَصِحّ عَلَيْكُمْ بِشَمّ النّرْجِسِ فَإِنّ فِي الْقَلْبِ حَبّةَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ لَا يَقْطَعُهَا إلّا شَمّ النّرْجِسِ
وَهُوَ حَارّ يَابِسٌ فِي الثّانِيَةِ وَأَصْلُهُ يُدْمِلُ الْقُرُوحَ الْغَائِرَةَ إلَى الْعَصَبِ وَلَهُ قُوّةُ غُسَالَةٍ جَالِيَةٌ جَابِذَةٌ وَإِذَا طُبِخَ وَشُرِبَ مَاؤُهُ أَوْ أُكِلَ مَسْلُوقًا هَيّجَ الْقَيْءَ وَجَذَبَ الرّطُوبَةَ مِنْ قَعْرِ الْمَعِدَةِ وَإِذَا طُبِخَ مَعَ الْكِرْسِنّةِ وَالْعَسَلِ نَقّى أَوْسَاخَ الْقُرُوحِ وَفَجّرَ الدّبَيْلَاتِ الْعَسِرَةِ النّضْجِ .
(2/3)
<367> وَزَهْرُهُ مُعْتَدِلُ الْحَرَارَةِ لَطِيفٌ يَنْفَعُ الزّكَامَ الْبَارِدَ وَفِيهِ تَحْلِيلٌ قَوِيّ وَيَفْتَحُ سُدَدَ الدّمَاغِ وَالْمَنْخَرَيْنِ وَيَنْفَعُ مِنْ الصّدَاعِ الرّطْبِ وَالسّوْدَاوِيّ وَيُصَدّعُ الرّءُوسَ الْحَارّةَ وَالْمُحْرَقُ مِنْهُ إذَا شُقّ بَصَلُهُ صَلِيبًا وَغُرِسَ صَارَ مُضَاعَفًا وَمَنْ أَدْمَنَ شَمّهُ فِي الشّتَاءِ أَمِنَ مِنْ الْبِرْسَامِ فِي الصّيْفِ وَيَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِ الرّأْسِ الْكَائِنَةِ مِنْ الْبَلْغَمِ وَالْمِرّةِ السّوْدَاءِ وَفِيهِ مِنْ الْعِطْرِيّةِ مَا يُقَوّي الْقَلْبَ وَالدّمَاغَ وَيَنْفَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْرَاضِهَا . وَقَالَ صَاحِبُ التّيْسِيرِ : شَمّهُ يُذْهِبُ بِصَرْعِ الصّبْيَانِ .
نُورَةٌ
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ : مِنْ حَدِيثِ أُمّ سَلَمَة َ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم كَانَ إذَا اطّلَى بَدَأَ بِعَوْرَتِهِ فَطَلَاهَا بِالنّورَةِ وَسَائِرَ جَسَدِهِ أَهْلُهُ وَقَدْ وَرَدَ فِيهَا عِدّةُ أَحَادِيثَ هَذَا أَمْثَلُهَا .
قِيلَ إنّ أَوّلَ مَنْ دَخَلَ الْحَمّامَ وَصُنِعَتْ لَهُ النّورَةُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَأَصْلُهَا : كِلْسٌ جُزْءَانِ وَزَرْنِيخٌ جُزْءٌ يُخْلَطَانِ بِالْمَاءِ وَيُتْرَكَانِ فِي الشّمْسِ أَوْ الْحَمّامِ بِقَدْرِ مَا تَنْضَجُ وَتَشْتَدّ زُرْقَتُهُ ثُمّ يُطْلَى بِهِ وَيَجْلِسُ سَاعَةً رَيْثَمَا يَعْمَلُ وَلَا يُمَسّ بِمَاءٍ ثُمّ يُغْسَلُ وَيُطْلَى مَكَانُهَا بِالْحِنّاءِ لِإِذْهَابِ نَارِيّتِهَا .
نَبْقٌ
ذَكَر َ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِهِ " الطّبّ النّبَوِيّ " مَرْفُوعًا : إنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ كَانَ أَوّلَ شَيْءٍ أَكَلَ مِنْ ثِمَارِهَا النّبْقُ
(2/4)
وَقَدْ ذَكَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّبْقَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتّفَقِ عَلَى صِحّتِهِ أَنّهُ رَأَى سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لَيْلَة أُسْرِيَ بِهِ وَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلَ قِلَالِ هَجَرَ
وَالنّبْقُ ثَمَرُ شَجَرِ السّدْرِ يُعْقِلُ الطّبِيعَةَ وَيَنْفَعُ مِنْ الْإِسْهَالِ وَيَدْبُغُ الْمَعِدَةَ وَيُسَكّنُ الصّفْرَاءَ وَيَغْذُو الْبَدَنَ وَيُشَهّي الطّعَامَ وَيُوَلّدُ بَلْغَمًا وَيَنْفَعُ <368> الذّرَبَ الصّفْرَاوِيّ وَهُوَ بَطِيءُ الْهَضْمِ وَسَوِيقُهُ يُقَوّي الْحَشَا وَهُوَ يُصْلِحُ الْأَمْزِجَةَ الصّفْرَاوِيّةَ وَتُدْفَعُ مَضَرّتُهُ بِالشّهْدِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ رَطْبٌ أَوْ يَابِسٌ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَالصّحِيحُ أَنّ رَطْبُهُ بَارِدٌ رَطْبٌ وَيَابِسَهُ بَارِدٌ يَابِسٌ
حَرْفُ الْهَاءِ
هِنْدَبَا
وَرَدَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ لَا تَصِحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يَثْبُتُ مِثْلُهَا بَلْ هِيَ مَوْضُوعَةٌ أَحَدُهَا : كُلُوا الْهِنْدَبَاءَ وَلَا تَنْفُضُوهُ فَإِنّهُ لَيْسَ يَوْمٌ مِنْ الْأَيّامِ إلّا وَقَطَرَاتٌ مِنْ الْجَنّةِ تَقْطُرُ عَلَيْهِ .
الثّانِي : مَنْ أَكَلَ الْهِنْدَبَاءَ ثُمّ نَامَ عَلَيْهَا لَمْ يَحُلّ فِيهِ سُمّ وَلَا سِحْرٌ .
الثّالِثُ مَا مِنْ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَق ِ الْهِنْدَبَاءِ إلّا وَعَلَيْهَا قَطْرَةٌ مِنْ الْجَنّةِ .
(2/5)
وَبَعْدُ فَهِيَ مُسْتَحِيلَةُ الْمِزَاجِ مُنْقَلِبَةٌ بِانْقِلَابِ فُصُولِ السّنَةِ فَهِيَ فِي الشّتَاءِ بَارِدَةٌ رَطْبَةٌ وَفِي الصّيْفِ حَارّةٌ يَابِسَةٌ وَفِي الرّبِيعِ وَالْخَرِيفِ مُعْتَدِلَةٌ وَفِي الْغَالِبِ أَحْوَالُهَا تَمِيلُ إلَى الْبُرُودَةِ وَالْيُبْسِ وَهِيَ قَابِضَةٌ مُبَرّدَةٌ جَيّدَةٌ لِلْمَعِدَةِ وَإِذَا طُبِخَتْ وَأُكِلَتْ بِخَلّ عَقَلَتْ الْبَطْنَ وَخَاصّةً الْبَرّيّ مِنْهَا فَهِيَ أَجْوَدُ لِلْمَعِدَةِ وَأَشَدّ قَبْضًا وَتَنْفَعُ مِنْ ضَعْفِهَا .
وَإِذَا تُضُمّدَ بِهَا سَلَبَتْ الِالْتِهَابَ الْعَارِضَ فِي الْمَعِدَةِ وَتَنْفَعُ مِنْ النّقْرِسِ وَمِنْ أَوْرَامِ الْعَيْنِ الْحَارّةِ وَإِذَا تُضُمّدَ بِوَرَقِهَا وَأُصُولِهَا نَفَعَتْ مِنْ لَسْعِ الْعَقْرَبِ وَهِيَ تُقَوّي الْمَعِدَةَ وَتَفْتَحُ السّدَدَ الْعَارِضَةَ فِي الْكَبِدِ وَتَنْفَعُ مِنْ أَوْجَاعِهَا حَارّهَا وَبَارِدُهَا وَتَفْتَحُ سُدَدَ الطّحَالِ وَالْعُرُوقِ وَالْأَحْشَاءِ وَتُنَقّي مَجَارِيَ الْكُلَى .
<369> وَأَنْفَعُهَا لِلْكَبِدِ أَمَرّهَا وَمَاؤُهَا الْمُعْتَصَرُ يَنْفَعُ مِنْ الْيَرَقَانِ السّدَدِيّ وَلَا سِيّمَا إذَا خُلِطَ بِهِ مَاءُ الرازيانج الرّطْبُ وَإِذَا دُقّ وَرَقُهَا وَوُضِعَ عَلَى الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ بَرّدَهَا وَحَلّلَهَا وَيَجْلُو مَا فِي الْمَعِدَةِ وَيُطْفِئُ حَرَارَةَ الدّمِ وَالصّفْرَاءَ وَأَصْلَحَ مَا أُكِلَتْ غَيْرَ مَغْسُولَةٍ وَلَا مَنْفُوضَةٍ لِأَنّهَا مَتَى غُسِلَتْ أَوْ نُفِضَتْ فَارَقَتْهَا قُوّتُهَا وَفِيهَا مَعَ ذَلِكَ قُوّةٌ تِرْيَاقِيّةٌ تَنْفَعُ مِنْ جَمِيعِ السّمُومِ .
(2/6)
وَإِذَا اُكْتُحِلَ بِمَائِهَا نَفَعَ مِنْ الْعَشَا وَيَدْخُلُ وَرَقُهَا فِي التّرْيَاقِ وَيَنْفَعُ مِنْ لَدْغِ الْعَقْرَبِ وَيُقَاوِمُ أَكْثَرَ السّمُومِ وَإِذَا اُعْتُصِرَ مَاؤُهَا وَصُبّ عَلَيْهِ الزّيْتُ خَلّصَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ الْقَتّالَةِ وَإِذَا اُعْتُصِرَ أَصْلُهَا وَشُرِبَ مَاؤُهُ نَفَعَ مِنْ لَسْعِ الْأَفَاعِي وَلَسْعِ الْعَقْرَبِ وَلَسْعِ الزّنْبُورِ وَلَبَنُ أَصْلِهَا يَجْلُو بَيَاضَ الْعَيْنِ .
حَرْفُ الْوَاوِ
وَرْسٌ
ذَكَرَ التّرْمِذِيّ فِي " جَامِعِه " : مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ كَانَ يَنْعَتُ الزّيْتَ وَالْوَرْسَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ قَالَ قَتَادَةُ يُلَدّ بِهِ وَيُلَدّ مِنْ الْجَانِبِ الّذِي يَشْتَكِيهِ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي " سُنَنِهِ " مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَيْضًا قَالَ نَعَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ذَاتِ الْجَنْبِ وَرْسًا وَقُسْطًا وَزَيْتًا يُلَدّ بِهِ .
وَصَحّ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ كَانَتْ النّفَسَاءُ تَقْعُدُ بَعْدَ نِفَاسِهَا <370> أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَانَتْ إحْدَانَا تَطْلِي الْوَرْسَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ الْكَلَف .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اللّغَوِيّ الْوَرْسُ يُزْرَعُ زَرْعًا وَلَيْسَ بِبَرّيّ وَلَسْتُ أَعْرِفُهُ بِغَيْرِ أَرْضِ الْعَرَبِ وَلَا مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ بِغَيْرِ بِلَادِ الْيَمَنِ .
(2/7)
وَقُوّتُهُ فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ فِي أَوّلِ الدّرَجَةِ الثّانِيَةِ وَأَجْوَدُهُ الْأَحْمَرُ اللّيّنُ فِي الْيَدِ الْقَلِيلُ النّخَالَةِ يَنْفَعُ مِنْ الْكَلَفِ وَالْحَكّةِ وَالْبُثُورِ الْكَائِنَةِ فِي سَطْحِ الْبَدَنِ إذَا طُلِيَ بِهِ وَلَهُ قُوّةٌ قَابِضَةٌ صَابِغَةٌ وَإِذَا شُرِبَ نَفَعَ مِنْ الْوَضَحِ وَمِقْدَارُ الشّرْبَةِ مِنْهُ وَزْنُ دِرْهَمٍ .
وَهُوَ فِي مِزَاجِهِ وَمَنَافِعِهِ قَرِيبٌ مِنْ مَنَافِعِ الْقُسْطِ الْبَحْرِيّ وَإِذَا لُطّخَ بِهِ عَلَى الْبَهَقِ وَالْحَكّةِ وَالْبُثُورِ وَالسّفْعَةِ نَفَعَ مِنْهَا وَالثّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ يُقَوّي عَلَى الْبَاهِ .
وَسْمَةٌ
هِيَ وَرَقُ النّيلِ وَهِيَ تُسَوّدُ الشّعْرَ وَقَدْ تَقَدّمَ قَرِيبًا ذِكْرُ الْخِلَافِ فِي جَوَازِ الصّبْغِ بِالسّوَادِ وَمَنْ فَعَلَهُ .
حَرْفُ الْيَاءِ
يَقْطِينٌ
وَهُوَ الدّبّاءُ وَالْقَرْعُ وَإِنْ كَانَ الْيَقْطِينُ أَعَمّ فَإِنّهُ فِي اللّغَةِ كُلّ شَجَرٍ لَا تَقُومُ عَلَى سَاقُ كَالْبِطّيخِ وَالْقِثّاءِ وَالْخِيَارِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [ الصّافّاتُ 146 ] .
[السّبَبُ فِي إطْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى الْيَقْطِينِ اسْمَ الشّجَرِ ]
فَإِنْ قِيلَ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ يُسَمّى نَجْمًا لَا شَجَرًا وَالشّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ قَالَهُ أَهْلُ اللّغَةِ فَكَيْفَ قَالَ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ؟ .
<371> فَالْجَوَابُ أَنّ الشّجَرَ إذَا أُطْلِقَ كَانَ مَا لَهُ سَاقٌ يَقُومُ عَلَيْهِ وَإِذَا قُيّدَ بِشَيْءٍ تَقَيّدَ بِهِ فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيّدِ فِي الْأَسْمَاءِ بَابٌ مُهِمّ عَظِيمُ النّفْعِ فِي الْفَهْمِ وَمَرَاتِبِ اللّغَةِ .
(2/8)
وَالْيَقْطِينُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ نَبَاتُ الدّبّاءِ وَثَمَرُهُ يُسَمّى الدّبّاءَ وَالْقَرْعَ وَشَجَرَةَ الْيَقْطِينِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصّحِيحَيْنِ " : مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ خَيّاطًا دَعَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَرّبَ إلَيْهِ خُبْزًا مِنْ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبّاءٌ وَقَدِيدٌ قَالَ أَنَسٌ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَتَبّعُ الدّبّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الصّحْفَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبّ الدّبّاءَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
وَقَالَ أَبُو طَالُوتَ دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِك ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَأْكُلُ الْقَرْعَ وَيَقُولُ يَا لَك مِنْ شَجَرَةٍ مَا أَحَبّكِ إلَيّ لِحُبّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاكَ .
وَفِي " الْغَيْلَانِيّاتِ " : مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " يَا عَائِشَةُ إذَا طَبَخْتُمْ قِدْرًا فَأَكْثِرُوا فِيهَا مِنْ الدّبّاءِ فَإِنّهَا تَشُدّ قَلْبَ الْحَزِينِ .
الْيَقْطِينُ بَارِدٌ رَطْبٌ يَغْذُو غِذَاءً يَسِيرًا وَهُوَ سَرِيعُ الِانْحِدَارِ وَإِنْ لَمْ يَفْسُدْ قَبْلَ الْهَضْمِ تَوَلّدَ مِنْهُ خَلْطٌ مَحْمُودٌ وَمِنْ خَاصّيّتِهِ أَنّهُ يَتَوَلّدُ مِنْهُ خَلْطٌ مَحْمُودٌ مُجَانِسٌ لِمَا يَصْحَبُهُ فَإِنْ أُكِلَ بِالْخَرْدَلِ تَوَلّدَ مِنْهُ خَلْطٌ حِرّيفٌ وَبِالْمَلْحِ خَلْطٌ مَالِحٌ وَمَعَ الْقَابِضِ قَابِضٌ وَإِنْ طُبِخَ بِالسّفَرْجَلِ غَذَا الْبَدَنَ غِذَاءً جَيّدًا .
(2/9)
وَهُوَ لَطِيفٌ مَائِيّ يَغْذُو غِذَاءً رَطْبًا بَلْغَمِيّا وَيَنْفَعُ الْمَحْرُورِينَ وَلَا يُلَائِمُ الْمَبْرُودِينَ وَمَنْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْبَلْغَمُ وَمَاؤُهُ يَقْطَعُ الْعَطَشَ وَيُذْهِبُ الصّدَاعَ <372> الْحَارّ إذَا شُرِبَ أَوْ غُسِلَ بِهِ الرّأْسُ وَهُوَ مُلَيّنٌ لِلْبَطْنِ كَيْفَ اُسْتُعْمِلَ وَلَا يَتَدَاوَى الْمَحْرُورُونَ بِمِثْلِهِ وَلَا أَعْجَلَ مِنْهُ نَفْعًا .
وَمِنْ مَنَافِعِهِ أَنّهُ إذَا لُطّخَ بِعَجِينٍ وَشُوِيَ فِي الْفُرْنِ أَوْ التّنّورِ وَاسْتُخْرِجَ مَاؤُهُ وَشُرِبَ بِبَعْضِ الْأَشْرِبَةِ اللّطِيفَةِ سَكّنَ حَرَارَةَ الْحُمّى الْمُلْتَهِبَةَ وَقَطَعَ الْعَطَشَ وَغَذّى غِذَاءً حَسَنًا وَإِذَا شُرِبَ بترنجبين وَسَفَرْجَلٍ مُرَبّى أَسْهَلَ صَفْرَاءَ مَحْضَةً .
وَإِذَا طُبِخَ الْقَرْعُ وَشُرِبَ مَاؤُهُ بِشَيْءٍ مِنْ عَسَلٍ وَشَيْءٍ مِنْ نَطْرُونٍ أَحْدَرَ بَلْغَمًا وَمِرّةً مَعًا وَإِذَا دُقّ وَعُمِلَ مِنْهُ ضِمَادٌ عَلَى الْيَافُوخِ نَفَعَ مِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ فِي الدّمَاغِ .
وَإِذَا عُصِرَتْ جُرَادَتُهُ وَخُلِطَ مَاؤُهَا بِدُهْنِ الْوَرْدِ وَقُطِرَ مِنْهَا فِي الْأُذُنِ نَفَعَتْ مِنْ الْأَوْرَامِ الْحَارّةِ وَجُرَادَتُهُ نَافِعَةٌ مِنْ أَوْرَامِ الْعَيْنِ الْحَارّةِ وَمِنْ النّقْرِسِ الْحَارّ وَهُوَ شَدِيدُ النّفْعِ لِأَصْحَابِ الْأَمْزِجَةِ الْحَارّةِ وَالْمَحْمُومِينَ وَمَتَى صَادَفَ فِي الْمَعِدَةِ خَلْطًا رَدِيئًا اسْتَحَالَ إلَى طَبِيعَتِهِ وَفَسَدَ وَوَلّدَ فِي الْبَدَنِ خَلْطًا رَدِيئًا وَدَفْعُ مَضَرّتِهِ بِالْخَلّ وَالْمُرّيّ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ أَلْطَفِ الْأَغْذِيَةِ وَأَسْرَعِهَا انْفِعَالًا وَيُذْكَرُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُكْثِرُ مِنْ أَكْلِهِ .
(2/10)
فَصْلٌ الوصايا الكلية لحفظ الصحة
[ مَحَاذِرُ طِبّيّةٌ لِابْنِ مَاسَوَيْهِ ]
وَقَدْ رَأَيْتُ أَنّ أَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ بِفَصْلٍ مُخْتَصَرٍ عَظِيمِ النّفْعِ فِي الْمَحَاذِرِ وَالْوَصَايَا الْكُلّيّةِ النّافِعَةِ لِتَتِمّ مَنْفَعَةُ الْكِتَابِ وَرَأَيْتُ لِابْن ِ مَاسُوَيْهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ " الْمَحَاذِيرِ " نَقَلْتُهُ بِلَفْظِهِ قَالَ <373> مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَكَلِفَ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ افْتَصَدَ فَأَكَلَ مَالِحًا فَأَصَابَهُ بَهَقٌ أَوْ جَرَبٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ الْبَيْضَ وَالسّمَكَ فَأَصَابَهُ فَالِجٌ أَوْ لَقْوَةٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ دَخَلَ الْحَمّامَ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ فَأَصَابَهُ فَالِجٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ اللّبَنَ وَالسّمَكَ فَأَصَابَهُ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ أَوْ نِقْرِسٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ جَمَعَ فِي مَعِدَتِهِ اللّبَنَ وَالنّبِيذَ فَأَصَابَهُ بَرَصٌ أَوْ نِقْرِسٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ احْتَلَمَ فَلَمْ يَغْتَسِلْ حَتّى وَطِئَ أَهْلَهُ فَوَلَدَتْ مَجْنُونًا أَوْ مُخْبَلًا فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ أَكَلَ بَيْضًا مَسْلُوقًا بَارِدًا وَامْتَلَأَ مِنْهُ فَأَصَابَهُ رَبْوٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ جَامَعَ فَلَمْ يَصْبِرْ حَتّى يَفْرُغَ فَأَصَابَهُ حَصَاةٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
وَمَنْ نَظَرَ فِي الْمِرْآةِ لَيْلًا فَأَصَابَهُ لَقْوَةٌ أَوْ أَصَابَهُ دَاءٌ فَلَا يَلُومَنّ إلّا نَفْسَهُ .
فَصْلٌ [ مَحَاذِرُ طِبّيّةٌ لِابْنِ بَخْتَيْشُوعَ ]
(2/11)
وَقَالَ ابْنُ بَخْتَيْشُوعَ احْذَرْ أَنْ تَجْمَعَ الْبَيْضَ وَالسّمَكَ فَإِنّهُمَا يُورِثَانِ الْقُولَنْجَ وَالْبَوَاسِيرَ وَوَجَعَ الْأَضْرَاسِ .
وَإِدَامَةُ أَكْلِ الْبَيْضِ يُوَلّدُ الْكَلَفَ فِي الْوَجْهِ وَأَكْلُ الْمُلُوحَةِ وَالسّمَكِ الْمَالِحِ وَالِافْتِصَادُ بَعْدَ الْحَمّامِ يُوَلّدُ الْبَهَقَ وَالْجَرَبَ .
<374> إدَامَةُ أَكْلِ كُلَى الْغَنَمِ يَعْقِرُ الْمَثَانَةَ . الِاغْتِسَالُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ بَعْدَ أَكْلِ السّمَكِ الطّرِيّ يُوَلّدُ الْفَالِجَ .
وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ يُوَلّدُ الْجُذَامَ الْجِمَاعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُهْرِيقَ الْمَاءَ عُقَيْبَهُ يُوَلّدُ الْحَصَاةَ طُولُ الْمُكْثِ فِي الْمَخْرَجِ يُوَلّدُ الدّاءَ الدّوِيّ .
[ وَصَايَا أبقراط ]
قَالَ أبقراط : الْإِقْلَالُ مِنْ الضّارّ خَيْرٌ مِنْ الْإِكْثَارِ مِنْ النّافِعِ . وَقَالَ اسْتَدِيمُوا الصّحّةَ بِتَرْكِ التّكَاسُلِ عَنْ التّعَبِ وَبِتَرْكِ الِامْتِلَاءِ مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ .
[وَصَايَا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ وَغَيْرِه]
(2/12)
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ مَنْ أَرَادَ الصّحّةَ فَلْيُجَوّدْ الْغِذَاءَ وَلْيَأْكُلْ عَلَى نَقَاءٍ وَلْيَشْرَبْ عَلَى ظَمَأٍ وَلْيُقْلِلْ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ وَيَتَمَدّدْ بَعْدَ الْغَدَاءِ وَيَتَمَشّ بَعْدَ الْعِشَاءِ وَلَا يَنَمْ حَتّى يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الْخَلَاءِ وَلْيَحْذَرْ دُخُولَ الْحَمّامِ عُقَيْبَ الِامْتِلَاءِ وَمَرّةً فِي الصّيْفِ خَيْرٌ مِنْ عَشْرٍ فِي الشّتَاءِ وَأَكْلُ الْقَدِيدِ الْيَابِسِ بِاللّيْل ِ مُعِينٌ عَلَى الْفِنَاءِ وَمُجَامَعَةُ الْعَجَائِزِ تُهْرِمُ أَعْمَارَ الْأَحْيَاءِ وَتُسْقِمُ أَبْدَانَ الْأَصِحّاءِ وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَلِي رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَلَا يَصِحّ عَنْهُ وَإِنّمَا بَعْضُهُ مِنْ كَلَامِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ طَبِيبِ الْعَرَبِ وَكَلَامِ غَيْرِهِ .
وَقَالَ الْحَارِثُ : مَنْ سَرّهُ الْبَقَاءُ - وَلَا بَقَاءَ - فَلْيُبَاكِرْ الْغَدَاءَ وَلْيُعَجّلْ الْعِشَاءَ وَلْيُخَفّفْ الرّدَاءَ وَلْيُقْلِلْ غَشَيَانَ النّسَاءِ .
وَقَالَ الْحَارِثُ : أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تَهْدِمُ الْبَدَنَ الْجِمَاعُ عَلَى الْبِطْنَةِ وَدُخُولُ الْحَمّامِ عَلَى الِامْتِلَاءِ وَأَكْلُ الْقَدِيدِ وَجِمَاعُ الْعَجُوزِ .
وَلَمّا احْتَضَرَ الْحَارِثُ اجْتَمَعَ إلَيْهِ النّاسُ فَقَالُوا : مُرْنَا بِأَمْرٍ نَنْتَهِي إلَيْهِ مِنْ بَعْدِ ك فَقَالَ لَا تَتَزَوّجُوا مِنْ النّسَاءِ إلّا شَابّةً وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ الْفَاكِهَةِ إلّا فِي أَوَانِ نُضْجِهَا وَلَا يَتَعَالَجَنّ أَحَدُكُمْ مَا احْتَمَلَ بَدَنُهُ الدّاءَ وَعَلَيْكُمْ بِتَنْظِيفِ الْمَعِدَةِ فِي كُلّ شَهْرٍ فَإِنّهَا مُذِيبَةٌ لِلْبَلْغَمِ مُهْلِكَةٌ لِلْمِرّةِ مُنْبِتَةٌ لِلّحْمِ وَإِذَا تَغَدّى أَحَدُكُمْ فَلْيَنَمْ <375> عَلَى إثْرِ غَدَائِهِ سَاعَةً وَإِذَا تَعَشّى فَلْيَمْشِ أَرْبَعِينَ خُطْوَةً .
(2/13)
[وَصَايَا لِطَبِيبٍ]
وَقَالَ بَعْضُ الْمُلُوكِ لِطَبِيبِهِ لَعَلّك لَا تَبْقَى لِي فَصِفْ لِي صِفَةً آخُذُهَا عَنْكُ فَقَالَ لَا تَنْكِحْ إلّا شَابّةً وَلَا تَأْكُلْ مِنْ اللّحْمِ إلّا فَتِيّا وَلَا تَشْرَبْ الدّوَاءَ إلّا مِنْ عِلّةٍ وَلَا تَأْكُلْ الْفَاكِهَةَ إلّا فِي نُضْجِهَا وَأَجِدْ مَضْغَ الطّعَامِ . وَإِذَا أَكَلْت نَهَارًا فَلَا بَأْسَ أَنْ تَنَامَ وَإِذَا أَكَلْت لَيْلًا فَلَا تَنَمْ حَتّى تَمْشِيَ وَلَوْ خَمْسِينَ خُطْوَةً وَلَا تَأْكُلَنّ حَتّى تَجُوعَ وَلَا تَتَكَارَهَنّ عَلَى الْجِمَاعِ وَلَا تَحْبِسْ الْبَوْلَ وَخُذْ مِنْ الْحَمّامِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْك وَلَا تَأْكُلَنّ طَعَامًا وَفِي مَعِدَتِك طَعَامٌ وَإِيّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا تَعْجِزُ أَسْنَانُك عَنْ مَضْغِهِ فَتَعْجِزَ مَعِدَتُك عَنْ هَضْمِهِ وَعَلَيْك فِي كُلّ أُسْبُوعٍ بِقَيْئَةٍ تُنَقّي جِسْمَك وَنِعْمَ الْكَنْزُ الدّمُ فِي جَسَدِك فَلَا تُخْرِجْهُ إلّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَعَلَيْكَ بِدُخُولِ الْحَمّامِ فَإِنّهُ يُخْرِجُ مِنْ الْأَطْبَاقِ مَا لَا تَصِلُ الْأَدْوِيَةُ إلَى إخْرَاجِهِ .
[وَصَايَا لِلشّافِعِيّ]
وَقَالَ الشّافِعِيّ :
أَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْبَدَنَ أَكْلُ اللّحْمِ وَشَمّ الطّيبِ وَكَثْرَةُ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَلُبْسُ الْكَتّانِ .
وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَدَنَ كَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَكَثْرَةُ الْهَمّ وَكَثْرَةُ شُرْبِ الْمَاءِ عَلَى الرّيقِ وَكَثْرَةُ أَكْلِ الْحَامِضِ .
وَأَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْبَصَرَ الْجُلُوسُ حِيَالَ الْكَعْبَةِ وَالْكُحْلُ عِنْدَ النّوْمِ وَالنّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَتَنْظِيفُ الْمَجْلِسِ .
وَأَرْبَعَةٌ تُوهِنُ الْبَصَرَ النّظَرُ إلَى الْقَذَرِ وَإِلَى الْمَصْلُوبِ وَإِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَالْقُعُودُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ .
(2/14)
وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْجِمَاعِ أَكْلُ الْعَصَافِيرِ والإطريفل وَالْفُسْتُقِ وَالْخَرّوبِ .
<376> وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْعَقْلِ تَرْكُ الْفُضُولِ مِنْ الْكَلَامِ وَالسّوَاكُ وَمُجَالَسَةُ الصّالِحِينَ وَمُجَالَسَةُ الْعُلَمَاءِ .
[ مَحَاذِرُ أَفْلَاطُونَ ]
وَقَالَ أَفْلَاطُونُ : خَمْسٌ يُذِبْنَ الْبَدَنَ وَرُبّمَا قَتَلْنَ قِصَرُ ذَاتِ الْيَدِ وَفِرَاقُ الْأَحِبّةِ وَتَجَرّعُ الْمَغَايِظِ وَرَدّ النّصْحِ وَضَحِكُ ذَوِي الْجَهْلِ بِالْعُقَلَاءِ .
[ مَحَاذِرُ لِطَبِيبِ الْمَأْمُونِ ]
وَقَالَ طَبِيبُ الْمَأْمُونِ : عَلَيْك بِخِصَالٍ مَنْ حَفِظَهَا فَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَعْتَلّ إلّا عِلّةَ الْمَوْتِ لَا تَأْكُلْ طَعَامًا وَفِي مَعِدَتِك طَعَامٌ وَإِيّاكَ أَنْ تَأْكُلَ طَعَامًا يُتْعِبُ أَضْرَاسَك فِي مَضْغِهِ فَتَعْجِزَ مَعِدَتُك عَنْ هَضْمِهِ وَإِيّاكَ وَكَثْرَةَ الْجِمَاعِ فَإِنّهُ يُطْفِئُ نُورَ الْحَيَاةِ وَإِيّاكَ وَمُجَامَعَةَ الْعَجُوزِ فَإِنّهُ يُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ وَإِيّاكَ وَالْفَصْدَ إلّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَعَلَيْك بِالْقَيْءِ فِي الصّيْفِ .
[ وَصِيّةٌ لأبقراط ]
وَمِنْ جَوَامِعِ كَلِمَاتِ أبقراط قَوْلُهُ كُلّ كَثِيرٍ فَهُوَ مُعَادٍ لِلطّبِيعَةِ .
[ وَصِيّةٌ لِجَالِينُوسَ ]
وَقِيلَ لِجَالِينُوسَ مَا لَك لَا تَمْرَضُ ؟ فَقَالَ لِأَنّي لَمْ أَجْمَعْ بَيْنَ طَعَامَيْنِ رَدِيئَيْنِ وَلَمْ أُدْخِلْ طَعَامًا عَلَى طَعَامٍ وَلَمْ أَحْبِسْ فِي الْمَعِدَةِ طَعَامًا تَأَذّيْت بِهِ .
فَصْلٌ [أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تُمْرِضُ الْبَدَنَ ]
وَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تُمْرِضُ الْجِسْمَ الْكَلَامُ الْكَثِيرُ وَالنّوْمُ الْكَثِيرُ وَالْأَكْلُ الْكَثِيرُ وَالْجِمَاعُ الْكَثِيرُ .
[مَضَارّ الْكَلَامِ الْكَثِيرِ ]
(2/15)
فَالْكَلَامُ الْكَثِير: يُقَلّلُ مُخّ الدّمَاغِ وَيُضْعِفُهُ وَيُعَجّلُ الشّيْبَ .
[مَضَارّ النّوْمِ الْكَثِيرِ ]
وَالنّوْمُ الْكَثِيرُ يُصَفّرُ الْوَجْهَ وَيُعْمِي الْقَلْبَ وَيُهَيّجُ الْعَيْنَ وَيُكْسِلُ عَنْ الْعَمَلِ وَيُوَلّدُ الرّطُوبَاتِ فِي الْبَدَنِ . <377>
[مَضَارّ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ ]
وَالْأَكْلُ الْكَثِيرُ يُفْسِدُ فَمَ الْمَعِدَةِ وَيُضْعِفُ الْجِسْمَ وَيُوَلّدُ الرّيَاحَ الْغَلِيظَةَ وَالْأَدْوَاءَ الْعَسِرَةَ .
[مَضَارّ الْجِمَاعِ الْكَثِيرِ]
وَالْجِمَاعُ الْكَثِيرُ يَهُدّ الْبُدْنَ وَيُضْعِفُ الْقُوَى وَيُجَفّفُ رُطُوبَاتِ الْبَدَنِ وَيُرْخِي الْعَصَبَ وَيُورِثُ السّدَدَ وَيَعُمّ ضَرَرُهُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَيَخُصّ الدّمَاغَ لِكَثْرَةِ مَا يَتَحَلّلُ بِهِ مِنْ الرّوحِ النّفْسَانِيّ وَإِضْعَافِهِ أَكْثَرَ مِنْ إضْعَافِ جَمِيعِ الْمُسْتَفْرِغَاتِ وَيَسْتَفْرِغُ مِنْ جَوْهَرِ الرّوحِ شَيْئًا كَثِيرًا .
[ أَنْفَعُ الْجِمَاعِ ]
وَأَنْفَعَ مَا يَكُونُ إذَا صَادَفَ شَهْوَةً صَادِقَةً مِنْ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ حَدِيثَةِ السّنّ حَلَالًا مَعَ سِنّ الشّبُوبِيّةِ وَحَرَارَةِ الْمِزَاجِ وَرُطُوبَتِهِ وَبُعْدِ الْعَهْدِ بِهِ وَخَلَاءِ الْقَلْبِ مِنْ الشّوَاغِلِ النّفْسَانِيّةِ وَلَمْ يُفَرّطْ فِيهِ وَلَمْ يُقَارِنْهُ مَا يَنْبَغِي تَرْكُهُ مَعَهُ مِنْ امْتِلَاءٍ مُفْرِطٍ أَوْ خَوَاءٍ أَوْ اسْتِفْرَاغٍ أَوْ رِيَاضَةٍ تَامّةٍ أَوْ حَرّ مُفْرِطٍ أَوْ بَرْدٍ مُفْرِطٍ فَإِذَا رَاعَى فِيهِ هَذِهِ الْأُمُورَ الْعَشْرَةَ انْتَفَعَ بِهِ جِدّا وَأَيّهَا فَقَدَ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الضّرَرِ بِحَسَبِهِ وَإِنْ فُقِدَتْ كُلّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا فَهُوَ الْهَلَاكُ الْمُعَجّلُ .
فَصْلٌ [الْحِمْيَةُ ]
[وَصَايَا جَالِينُوسَ ]
(2/16)
وَالْحِمْيَةُ الْمُفْرِطَةُ فِي الصّحّةِ كَالتّخْلِيطِ فِي الْمَرَضِ وَالْحِمْيَةُ الْمُعْتَدِلَةُ نَافِعَةٌ وَقَالَ جَالِينُوسُ لِأَصْحَابِهِ اجْتَنِبُوا ثَلَاثًا وَعَلَيْكُمْ بِأَرْبَعٍ وَلَا حَاجَةَ بِكُمْ إلَى طَبِيبٍ اجْتَنِبُوا الْغُبَارَ وَالدّخَانَ وَالنّتْنَ وَعَلَيْك بِالدّسَمِ وَالطّيبِ وَالْحَلْوَى وَالْحَمّامِ وَلَا تَأْكُلُوا فَوْقَ شِبَعِكُمْ وَلَا تَتَخَلّلُوا بالباذروج وَالرّيْحَانِ وَلَا تَأْكُلُوا الْجَوْزَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَلَا يَنَمْ مَنْ بِهِ زُكْمَةٌ عَلَى قَفَاهُ وَلَا يَأْكُلْ مَنْ بِهِ غَمّ حَامِضًا وَلَا يُسْرِعْ الْمَشْيَ مَنْ افْتَصَدَ فَإِنّهُ مُخَاطَرَةُ الْمَوْتِ وَلَا يَتَقَيّأُ مَنْ تُؤْلِمُهُ عَيْنُهُ وَلَا تَأْكُلُوا فِي الصّيْفِ لَحْمًا كَثِيرًا وَلَا يَنَمْ صَاحِبُ الْحُمّى الْبَارِدَةِ فِي الشّمْسِ وَلَا تَقْرُبُوا الْبَاذِنْجَانَ الْعَتِيقَ الْمُبَزّرَ وَمَنْ شَرِبَ كُلّ يَوْمٍ فِي الشّتَاءِ <378> قَدَحًا مِنْ مَاءٍ حَارّ أَمِنَ مِنْ الْأَعْلَالِ وَمَنْ دَلّكَ جِسْمَهُ فِي الْحَمّامِ بِقُشُورِ الرّمّانِ أَمِنَ مِنْ الْجَرَبِ وَالْحَكّةِ وَمَنْ أَكَلَ خَمْسَ سَوْسَنَاتٍ مَعَ قَلِيلٍ مَصْطَكَا رُومِيّ وَعُودٍ خَامٍ وَمِسْكٍ بَقِيَ طُولَ عُمْرِهِ لَا تَضْعُفَ مَعِدَتُهُ وَلَا تَفْسُدُ وَمَنْ أَكَلَ بِزْرَ الْبِطّيخِ مَعَ السّكّرِ نَظّفَ الْحَصَى مِنْ مَعِدَتِهِ وَزَالَتْ عَنْهُ حُرْقَةُ الْبَوْلِ .
فَصْلٌ [ وَصَايَا عَامّةٌ ]
أَرْبَعَةٌ تَهْدِمُ الْبَدَنَ الْهَمّ وَالْحُزْنُ وَالْجُوعُ وَالسّهَرُ .
وَأَرْبَعَةٌ تُفْرِحُ النّظَرُ إلَى الْخُضْرَةِ وَإِلَى الْمَاءِ الْجَارِي وَالْمَحْبُوبِ وَالثّمَارِ .
(2/17)
وَأَرْبَعَةٌ تُظْلِمُ الْبَصَرَ الْمَشْيُ حَافِيًا وَالتّصَبّحُ وَالتّمَسّي بِوَجْهِ الْبَغِيضِ وَالثّقِيلِ وَالْعَدُوّ وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ وَكَثْرَةُ النّظَرِ فِي الْخَطّ الدّقِيقِ .
وَأَرْبَعَةٌ تُقَوّي الْجِسْمَ لُبْسُ الثّوْبِ النّاعِمِ وَدُخُولُ الْحَمّامِ الْمُعْتَدِلُ وَأَكْلُ الطّعَامِ الْحُلْوِ وَالدّسِمِ وَشَمّ الرّوَائِحِ الطّيّبَةِ .
وَأَرْبَعَةٌ تُيَبّسُ الْوَجْهَ وَتُذْهِبُ مَاءَهُ وَبَهْجَتَهُ وَطَلَاوَتَهُ الْكَذِبُ وَالْوَقَاحَةُ وَكَثْرَةُ السّؤَالِ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَثْرَةُ الْفُجُورِ .
وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي مَاءِ الْوَجْهِ وَبَهْجَتِهِ الْمُرُوءَةُ وَالْوَفَاءُ وَالْكَرَمُ وَالتّقْوَى .
وَأَرْبَعَةٌ تَجْلِبُ الْبَغْضَاءَ وَالْمَقْتَ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ وَالْكَذِبُ وَالنّمِيمَةُ .
وَأَرْبَعَةٌ تَجْلِبُ الرّزْقَ قِيَامُ اللّيْلِ وَكَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ بِالْأَسْحَارِ وَتَعَاهُدُ الصّدَقَةِ وَالذّكْرُ أَوّلَ النّهَارِ وَآخِرَهُ .
وَأَرْبَعَةٌ تَمْنَعُ الرّزْقَ نَوْمُ الصّبْحَةِ وَقِلّةُ الصّلَاةِ وَالْكَسَلُ وَالْخِيَانَةُ .
وَأَرْبَعَةٌ تَضُرّ بِالْفَهْمِ وَالذّهْنِ إدْمَانُ أَكْلِ الْحَامِضِ وَالْفَوَاكِهِ وَالنّوْمُ عَلَى الْقَفَا وَالْهَمّ وَالْغَمّ .
<379> وَأَرْبَعَةٌ تَزِيدُ فِي الْفَهْمِ فَرَاغُ الْقَلْبِ وَقِلّةُ التّمَلّي مِنْ الطّعَامِ وَالشّرَابِ وَحُسْنُ تَدْبِيرِ الْغِذَاءِ بِالْأَشْيَاءِ الْحُلْوَةِ وَالدّسِمَةِ وَإِخْرَاجُ الْفَضَلَاتِ الْمُثْقِلَةِ لِلْبَدَنِ .
وَمِمّا يَضُرّ بِالْعَقْلِ إدْمَانُ أَكْلِ الْبَصَلِ وَالْبَاقِلّا وَالزّيْتُونِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَكَثْرَةُ الْجِمَاعِ وَالْوَحْدَةُ وَالْأَفْكَارُ وَالسّكّرُ وَكَثْرَةُ الضّحِكِ وَالْغَمّ .
(2/18)
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ النّظَرِ قُطِعَتْ فِي ثَلَاثِ مَجَالِسَ فَلَمْ أَجِدْ لِذَلِكَ عِلّةً إلّا أَنّي أَكْثَرْتُ مِنْ أَكْلِ الْبَاذِنْجَانِ فِي أَحَدِ تِلْكَ الْأَيّامِ وَمِنْ الزّيْتُونِ فِي الْآخَرِ وَمِنْ الْبَاقِلّا فِي الثّالِثِ .
فَصْلٌ [ فَضْلُ الطّبّ النّبَوِيّ ]
قَدْ أَتَيْنَا عَلَى جُمْلَةٍ نَافِعَةٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطّبّ الْعِلْمِيّ وَالْعَمَلِيّ لَعَلّ النّاظِرَ لَا يَظْفَرُ بِكَثِيرٍ مِنْهَا إلّا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَرَيْنَاكَ قُرْبَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشّرِيعَةِ وَأَنّ الطّبّ النّبَوِيّ نِسْبَةُ طِبّ الطّبَائِعِيّينَ إلَيْهِ أَقَلّ مِنْ نِسْبَةِ طِبّ الْعَجَائِزِ إلَى طِبّهِمْ .
وَالْأَمْرُ فَوْقَ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَعْظَمُ مِمّا وَصَفْنَاهُ بِكَثِيرٍ وَلَكِنْ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ تَنْبِيهٌ بِالْيَسِيرِ عَلَى مَا وَرَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يَرْزُقْهُ اللّهُ بَصِيرَةً عَلَى التّفْصِيلِ فَلْيَعْلَمْ مَا بَيْنَ الْقُوّةِ الْمُؤَيّدَةِ بِالْوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَالْعُلُومِ الّتِي رَزَقَهَا اللّهُ الْأَنْبِيَاءَ وَالْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ الّتِي مَنَحَهُمْ اللّهُ إيّاهَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَ غَيْرِهِمْ .
وَلَعَلّ قَائِلًا يَقُولُ مَا لِهَدْيِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا لِهَذَا الْبَابِ وَذِكْرِ قُوَى الْأَدْوِيَةِ وَقَوَانِينِ الْعِلَاجِ وَتَدْبِيرِ أَمْرِ الصّحّةِ ؟ .
وَهَذَا مِنْ تَقْصِيرِ هَذَا الْقَائِلِ فِي فَهْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ هَذَا وَأَضْعَافَهُ وَأَضْعَافَ أَضْعَافِهِ مِنْ فَهْمِ بَعْضِ مَا جَاءَ بِهِ وَإِرْشَادِهِ إلَيْهِ وَدِلَالَتِهِ عَلَيْهِ وَحُسْنُ الْفَهْمِ عَنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ مَنّ يَمُنّ اللّهُ بِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ .
(2/19)
<380> فَقَدْ أَوْجَدْنَاك أُصُولَ الطّبّ الثّلَاثَةِ فِي الْقُرْآنِ وَكَيْفَ تُنْكِرُ أَنْ تَكُونَ شَرِيعَةُ الْمَبْعُوثِ بِصَلَاحِ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى صَلَاحِ الْأَبْدَانِ كَاشْتِمَالِهَا عَلَى صَلَاحِ الْقُلُوبِ وَأَنّهَا مُرْشِدَةٌ إلَى حِفْظِ صِحّتِهَا وَدَفْعِ آفَاتِهَا بِطُرُقٍ كُلّيّةٍ قَدْ وُكِلَ تَفْصِيلُهَا إلَى الْعَقْلِ الصّحِيحِ وَالْفِطْرَةِ السّلِيمَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالتّنْبِيهِ وَالْإِيمَاءِ كَمَا هُوَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِ فُرُوعِ الْفِقْهِ وَلَا تَكُنْ مِمّنْ إذَا جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ .
وَلَوْ رُزِقَ الْعَبْدُ تَضَلّعًا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَسُنّةِ رَسُولِهِ وَفَهْمًا تَامّا فِي النّصُوصِ وَلَوَازِمِهَا لَاسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ كُلّ كَلَامٍ سِوَاهُ وَلَاسْتَنْبَطَ جَمِيعَ الْعُلُومِ الصّحِيحَةِ مِنْهُ .
فَمَدَارُ الْعُلُومِ كُلّهَا عَلَى مَعْرِفَةِ اللّهِ وَأَمْرِهِ وَخَلْقِهِ وَذَلِكَ مُسَلّمٌ إلَى الرّسُلِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ فَهُمْ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِاَللّهِ وَأَمْرِهِ وَخَلْقِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ .
(2/20)
وَطِبّ أَتْبَاعِهِمْ أَصَحّ وَأَنْفَعُ مِنْ طِبّ غَيْرِهِمْ . وَطِبّ أَتْبَاعِ خَاتَمِهِمْ وَسَيّدِهِمْ وَإِمَامِهِمْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَكْمَلُ الطّبّ وَأَصَحّهُ وَأَنْفَعُهُ وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إلّا مَنْ عَرَفَ طِبّ النّاسِ سِوَاهُمْ وَطِبّهُمْ ثُمّ وَازَنَ بَيْنَهُمَا فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ لَهُ التّفَاوُتُ وَهُمْ أَصَحّ الْأُمَمِ عُقُولًا وَفِطَرًا وَأَعْظَمُهُمْ عِلْمًا وَأَقْرَبُهُمْ فِي كُلّ شَيْءٍ إلَى الْحَقّ لِأَنّهُمْ خِيرَةُ اللّهِ مِنْ الْأُمَمِ كَمَا أَنّ رَسُولَهُمْ خِيرَتُهُ مِنْ الرّسُلِ . وَالْعِلْمُ الّذِي وَهَبَهُمْ إيّاهُ وَالْحِلْمُ وَالْحِكْمَةُ أَمْرٌ لَا يُدَانِيهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي " مُسْنَدِهِ " : مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ تُوفُونَ سَبْعِينَ أُمّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللّهِ فَظَهَرَ أَثَرُ كَرَامَتِهَا عَلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ فِي عُلُومِهِمْ وَعُقُولِهِمْ وَأَحْلَامِهِمْ وَفِطَرِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عُلُومُ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ وَعُقُولُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَدَرَجَاتُهُمْ فَازْدَادُوا بِذَلِكَ عِلْمًا وَحِلْمًا وَعُقُولًا إلَى مَا <381> أَفَاضَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ مِنْ عِلْمِهِ وَحِلْمِهِ .
[ غَلَبَ عَلَى النّصَارَى الْبَلَادَةُ وَعَلَى الْيَهُودِ الْهَمّ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَقْلُ وَالشّجَاعَةُ . . ]
(2/21)
وَلِذَلِكَ كَانَتْ الطّبِيعَةُ الدّمَوِيّةُ لَهُمْ وَالصّفْرَاوِيّةُ لِلْيَهُودِ وَالْبَلْغَمِيّةُ لِلنّصَارَى وَلِذَلِكَ غَلَبَ عَلَى النّصَارَى الْبَلَادَةُ وَقِلّةُ الْفَهْمِ وَالْفِطْنَةِ وَغَلَبَ عَلَى الْيَهُودِ الْحُزْنُ وَالْهَمّ وَالْغَمّ وَالصّغَارُ وَغَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْعَقْلُ وَالشّجَاعَةُ وَالْفَهْمُ وَالنّجْدَةُ وَالْفَرَحُ وَالسّرُورُ . وَهَذِهِ أَسْرَارٌ وَحَقَائِقُ إنّمَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا مِنْ حُسْنِ فَهْمِهِ وَلُطْفِ ذِهْنِهِ وَغُزْرِ عِلْمِهِ وَعَرَفَ مَا عِنْدَ النّاسِ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ .
تَمّ بِعَوْنِهِ تَعَالَى .
(2/22)
طبُّ النَّبِي ?
لأبي العباس المستغفري
محذوف الأسانيد
ذكر المصنفات في علم الطب النبوي
1 ـ أبو بكر أحمد بن أبي إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري المعروف بابن السني المتوفى سنة 363 ـ 364 له ( الطب النبوي ) .
2 ـ أبو نعيم الأصفهاني المتوفى سنة 432 هـ ، له ( الطب النبوي )
3- ابن أبي عاصم له ( الطب والامراض ) .
4 ـ أبو الحسن علي بن عبد الكريم الحموي علاء الدين الكحال المتوفى سنة 720 هـ وضع كتابه ( الأحكام النبوية في الصناعة الطبية ) وقد طبع بمطبعة مصطفى الحلبي سنة 1374هـ بتحقيق عبد السلام هاشم .
5 ـ الحافظ شمس الدين الذهبي المتوفى سنة 748 هج له ( الطب النبوي ) وقد طبع مرارًا ، ولعل أول مرة هي طبعة القاهرة على الحجر بدون تاريخ وبهامشه تسهيل المنافع في الطب والحكمة لإبراهيم بن أبي بكر الأزرقي ، ولعل آخرها سنة 1380 هج وقد راجعها وعلق عليه وراجعه أحد أعلام الطب الحديث ، كما وقد طبعت ترجمة نفس كتاب الذهبي باللغة الفرنسية في الجزائر سنة 1860 م .
6 ـ الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هج له كتاب ( الطب النبوي ) وهو فصول مستلة من كتاب ( زاد المعاد في هدى خير العباد ) ولعل كتابه ( الطب النبوي ) أجمع ما كتب في ذلك فقد استفاد مما كتبه السابقون وخاصة بكتابي الحموي والذهبي ، كما أشير إلى ذلك في مقدمة الكتاب ص د طبع القاهرة ، وقد طبع أول مرة بحلب سنة 1346 هجرية ، ثم اعيد طبعه بمصر ثانياً محققاً سنة 1377 هـ .
7 ـ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ أوله : الحمد لله الذي اعطى كل نفس خلقها إلخ وهو مرتب على ثلاثة فنون ( الأول ) في قواعد الطب ، ( الثاني ) في الأدوية والأغذية . الثالث في علاج الأمراض .
(3/1)
8 ـ أبو الوزير بن أحمد الأبهري له كتاب ( طب النبي ص ) فيه ما ورد عنه في الأدوية والأطعمة والأشربة ، وآداب الأكل والشرب ، وتوجد نسخته بمكتبة الصدر في الكاظمية ، وأخرى بمكتبة المشهد الرضوي كتابتها 1070هـ .
9 ـ عبد الملك بن حبيب الأندلسي المالكي المتوفى سنة 238 فقد جمع الطب النبوي في كتاب خاص به .
10 ـ الحبيب النيسابوري .
11 ـ أبو العباس جعفر بن محمد المستغفري المتوفى سنة 432 هـ مؤلف كتابنا هذا الذي نقدمه إلى القراء ، ومن الخير ان نعرّف الرجل في سطور ، ربما تكشف بعض الجوانب من حياته ، إذ لا يسعنا التوسع في ترجمته في هذه العجالة .
ترجمة المؤلف
نسبه ونسبته : هو الشيخ الإمام أبو العباس جعفر بن أبي علي محمد بن أبي بكر المعتز بن محمد ابن المستغفر بن الفتح بن ادريس ، المستغفري النسفي السمرقندي النخشبي الحنفي في الفروع الأشعري في الاصول .
أسرته : الذي يظهر من ترجمة جده وأبيه وابنه أنهم كانوا من الأعلام وحفاظ الحديث :
أ ـ فجده : أبو بكر المعتز بن محمد بن المستغفر وقد روى عنه حفيده ـ المترجم له ـ كما في رياض العلماء في باب الكنى حرف العين القسم الثاني .
ب ـ وابوه : أبو علي محمد النسفي وصف بالشيخ وانه سمع ابا حفص احمد بن محمد العجلي جزءاً واحداً واسمع ابنه كثيراً عن شيخه ، وكانت ولادته سنة 318 هج ووفاته في شهر ربيع الآخر سنة 372 هج .
ج ـ وابنه : أبو ذر كان خطيب نسف ولي الخطابة بعد ابيه واسمعه ابوه من جماعة من الشيوخ ، وكان من اهل العلم والخير ، ذكره ابو محمد النخشبي في معجم شيوخه ، وقال : ابو ذر المستغفري ابن شيخنا ابي العباس سمع ابا الفضل يعقوب بن اسحاق السلامي ، وابا محمد عبد الملك ابن مروان الميداني ، ورحل به ابوه إلى ابي علي الحاجبي فاسمعه صحيح البخاري وكان صحيح السماع .
(3/2)
ولادته : كانت ولادة المترجم له في سنة 350 وقد ورد سهواً في تاج التراجم ص21 طبع بغداد انها سنة 450 والصواب ما ذكرناه كما طبقت عليه كافة المصادر التي ذكرته ولم اقف على من ذكر محل ولادته الا ان اكبر الظن انها كانت بنسف إذا كان من اهلها وبها كان ابوه وجده وبها كانت وفاته وكان بها ابنه أيضاً .
مشايخه : طلب الحديث ورحل في طلبه فأخذ عن جماعة وروى عنهم ، منهم :
أ ـ جده ابو بكر المعتز بن محمد بن المستغفر كما سبقت اليه الاشارة .
ب ـ والده ابو علي محمد بن المستغفري سمع منه كثيراً .
ج ـ سمع بسرخس ابن ابي علي زاهر بن احمد السرخسي واكثر من السماع عليه .
د ـ رحل إلى نيسابور وسمع بها من ابي سهل هارون بن احمد الاسترابادي وغيره .
هـ ـ ورحل إلى بخارى فسمع بها ابا عبد الله محمد بن أحمد غنجار الحافظ .
و ـ ودخل مرو فأخذ عن ابن الهيثم محمد بن المكي الكشميهني .
ز ـ وممن سمع منهم بنسف ابو محمد عبد الله بن محمد بن زر الرازي وجماعة كثيرة سواهم قاله السمعاني في انسابه .
تلاميذه :
أ ـ ابنه ابو ذر كما سبق .
ب ـ ابو محمد عبد العزيز النخشبي النسفي المتوفى سنة 456 ـ 457 صحبه واكثر عنه .
ج ـ القاضي ابو منصور السمعاني الجد الأعلى لأبي سعد السمعاني صاحب الأنساب .
د ـ الحافظ ابو محمد الحسن بن أحمد السمرقندي .
هـ ـ القاضي ابو علي الحسن بن عبد الملك ، وغير هؤلاء جمع كثير لا يحصون . قاله السمعاني في انسابه .
وفاته : توفي بنسف سلخ جمادي الأولى سنة 432 قال السمعاني في انسابه :
وزرت قبره بنسف على طرف الوادي . وصرح الذهبي وغيره بانه عاش ثمانين سنة مع إنا لولاحظنا تاريخ ولادته وتاريخ وفاته لكان عمره إثنان وثمانون سنة ، فهل كان تحديد الذهبي وغيره مبني على التسامح ؟ وهو ينافي الدقة والضبط في أمثاله من المؤرخين ، أم انه حقيقة كان عمره ثمانين سنة ؟ فلا بد إذن من افتراض الغلط في أحد التاريخين ، إما الولادة أو الوفاة .
(3/3)
ثناء العلماء عليه :
1 ـ قال اللكنوي في الفوائد البهية ص 57 : ولم يكن بما وراء النهر في عصره من يجري مجراه في الجمع والتصنيف وفهم الحديث .
2 ـ قال السمعاني في انسابه ورقة 528 ـ 2 : خطيب نسف كان فقيها فاضلا ، ومحدثاً مكثراً ، صدوقاً يرجع إلى فهم ومعرفة واتقان جمع الجموع وصنف التصانيف ، ورحل إلى خراسان واقام بسرخس ومرو مدة .
3 ـ وقال ابن قطلوبغا في تاج التراجم ص21 خطيب نسف لم يكن بما وراء النهر في عصره مثله كان فقيهاً محدثاً فاضلا مكثراً حافظاً صدوقاً .
4 ـ وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ ج3 ص283 الحافظ العلامة المحدث و ..... وكان صدوقاً في نفسه لكنه روى الموضوعات في الأبواب ولا يوهنها . وقال ابن ناصر الدين : كان حافظاً مصنفاً ثقة مبرزا على اقرانه ، لكنه يروي الموضوعات من غير تبيين .
5 ـ وقال ابن العماد الحنبلي في شذراته ج3 ص 249 : صاحب التصانيف الكثيرة ... وكان محدث ما وراء النهر في زمانه .
6 ـ وقال الميرزا عبد الله افندي في رياض العلماء في القسم الأول من باب الكنى حرف العين : هو الامام الخطيب الحافظ ، وقال لي القسم الثاني من الباب نفسه : الكامل الجليل المعروف بالشيخ الامام ابي العباس الخ ..
7 ـ ووصفه المحقق الخواجة نصير الدين الطوسي في آداب المتعلمين بالشيخ الامام .
مؤلفاته : لقد وصف المترجم له بكثرة التصانيف ، وإلى القارئ ما حصلنا عليه من اسماء تصانيفه ، وهي :
1 ـ تاريخ نسف .
2 ـ تاريخ سمرقند .
3 ـ تاريخ كش .
4 ـ كتاب معرفة الصحابة .
5 ـ كتاب دلائل النبوة وقد جعل فيه الدلائل ، اعني ما كان قبل البعثة ، سبعة ابواب ، والمعجزات عشرة ابواب .
6 ـ كتاب الأوائل .
7 ـ كتاب الشمائل ( شمائل النبي ص ) .
8 ـ كتاب فضائل القرآن .
9 ـ كتاب خطب النبي ص « الخطب النبوية » .
10 ـ كتاب الشعر والشعراء .
11 ـ المسلسلات في الحديث .
12 ـ كتاب الوفاء .
13 ـ كتاب في الحكمة .
14 ـ كتاب الايام والليالي .
(3/4)
15 ـ كتاب الدعوات ينقل عنه السيد ابن طاووس في رسالة الاستخارات كما قيل .
16 ـ كتاب المنامات او ( المناسبات ) كما في كشف الظنون .
17 ـ كتاب الزيادات مما زاده على كتاب المختلف والمؤتلف لعبد الغني بن سعيد .
18 ـ الطب النبوي ( طب النبي ص ) ولعله الذي ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة ص 51 باسم ( الطب ) بدون إضافة .
وصف الكتاب
كتاب طب النبي ص وان كان اكثر اخباره من طرق المخالفين لكنه مشهور متداول بين علمائنا ، أقول وقد طبع مكرراً بطهران على الحجر بضميمة كتاب القانونجه ، وكتاب ابقراط في الطب المسمى بترتيب الطب ، فطبعاته في سنة 1281 وسنة 1294 ، وسنة 1304 ، وسنة 1318 ، وسنة 1327 ، وبالرغم من تكرر طبعاته خمس مرات فقد ندرت نسخته وعزت حتى فقدت ، وعسر الحصول عليها ، ولذلك عزمت على تحقيقه وإخراجه للناس ، مع أنه محذوف الأسانيد ، وهذا ما أصابني بالصدمة الشديدة ، لكن الكتاب يستحق أن يخرج للناس لأنه من الكتب المهمة في هذا العلم ، والله الموفق .
مصادر ترجمته :
1 ـ الاعلام لخير الدين الزركلي ج2 ص123 الطبعة الثانية .
2 ـ الانساب لأبي سعد السمعاني ورقمه 528 ـ 2 طبع ليدن .
3 ـ تاج التراجم لابن قطلو بغا المتوفى سنة 879 ص21 طبع بغداد .
4 ـ تذكرة الحفاظ للذهبي ج3 ص283 ـ 284 .
5 ـ الجواهر المضيئة للقرشي الحنفي ج1 ص180 .
6 ـ الرسالة المستطرفة للكتاني ص51 الطبعة الثالثة وغيرها الثانية .
7 ـ روضات الجنات للخونساري ص160 الطبعة الحجرية الثانية .
8 ـ شذرات الذهب لابن العماد ص249 .
9 ـ العبر للذهبي ج3 ص177 .
10 ـ الفوائد البهية للكنوي الحنفي ص57 .
11 ـ كشف الظنون في موارد متعددة منها : 296 ، 308 ، 715 ، 760 ، 1059 ، 1095 ، 1277 ، 1417 ، 1463 ، 1739 .
12 ـ اللباب لابن الاثير ج3 ص136 .
13 ـ مرآة الجنان لليافعي ج3 ص54 .
14 ـ معجم المؤلفين لكحالة ج3 ص150 .
15 ـ هدية العارفين لاسماعيل پاشا ج1 ص253 .
(3/5)
هذه الرسالة الموسومة بطب النبي ? . وجدت بحذف الاسانيد مكتوبة :
قال رسول الله ( ص ) : ما خلق الله تعالى داء إلا وخلق له دواء إلا السام .
وقال ص : الذي انزل الداء انزل الشفاء .
وقال ص : بشر المحرورين بطول العمر .
وقال ص : اصل كل داء البرودة .
وقال ص : كل وانت تشتهي وامسك وانت تشتهي .
وقال ص : المعدة بيت كل داء ، والحمية رأس كل دواء فاعط نفسك ما عودتها .
وقال ص : احب الطعام إلى الله تعالى ما كثرت عليه الايدي .
وقال ص : الأكل بأصبع واحدة أكل الشيطان والأكل بالاثنين أكل الجبابرة ، وبالثلاث اكل الانبياء .
وقال ص : برد الطعام فان الحار لا بركة فيه .
وقال ص : إذا أكلتم فاخلعوا نعالكم فانه اروح لاقدامكم وانه سنة جميلة .
وقال ص : الأكل مع الخدام من التواضع ، فمن أكل معهم اشتاقت اليه الجنة .
وقال ص : الأكل في السوق من الدنائة .
وقال ص : المؤمن يأكل بشهوة اهله ، والمنافق يأكل اهله بشهوته .
وقال ص : إذا وضعت المائدة فليأكل احدكم مما يليه ، ولا يتناول ذروة الطعام ، فأن البركة تأتيها من اعلاها ، ولا يقوم احدكم ولا يرفع يده وان شبع ، حتى يرفع القوم ايديهم فان ذلك يخجل جليسه .
وقال ص : البركة في وسط الطعام فكلوا من حافاته ولا تأكلوا من وسطه .
وقال ص : البركة في الثلاثة : الجماعة ، والسحور ، والثريد .
وقال ص : من استعمل الخشبتين امن من عذاب الكليتين .
وقال ص : تخللوا على اثر الطعام وتمضمضوا فأنهما مصحة الناب والنواجد .
وقال ص : تخللوا فانه من النظافة ، والنظافة من الايمان ، والايمان مع صاحبه في الجنة .
وقال ص : طعام الجواد دواء ، وطعام البخيل داء .
وقال ص : القصعة تستغفر لمن يلحسها .
وقال ص : كلوا جميعاً ولا تفرقوا ، فان البركة في الجماعة .
وقال ص : كثرة الطعام شؤم .
وقال ص : من جاع او احتاج وكتمه من الناس ومضى الى الله تعالى كان حقاً عليه ان يفتح له رزق سنة حلالا .
(3/6)
وقال ص : من اكل ما يسقط من المائدة عاش ما عاش في سعة من رزقه ، وعوفي ولده وولد ولده من الحرام .
وقال ص : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه .
وقال ص : من التواضع ان يشرب الرجل من سؤر اخيه المؤمن .
وقال ص : من قل اكله قل حسابه .
وقال ص : لا يشربن احدكم قائماً ، فمن نسى فليقيء .
وقال ص : المحتكر ملعون ـ في الدنيا والآخرة ـ .
وقال ص : الاحتكار في عشرة : البر والشعير والتمر والزبيب والذرة والسمن والعسل والجبن والجوز والزيت .
وقال ص : إذا لم يكن للمرء تجارة إلا في الطعام طغى وبغى .
وقال ص : من جمع طعاماً يتربص به الغلاء اربعين يوماً فقد برىء من الله وبرئ الله منه .
وقال ص : من احتكر على المسلمين طعاماً ضربه الله تعالى بالجذام والافلاس .
وقال ص : تسحروا فأن السحور بركة .
وقال ص : تسحروا خلاف اهل الكتاب .
وقال ص : خير طعامكم الخبز ، وخير فاكهتكم العنب .
وقال ص : عليكم بالجزار ... متى ... أي كونوا منهم (1) .
وقال ص : عليكم بالهريسة فأنها تنشط للعبادة اربعين يوماً وهي التي انزلت علينا بدل مائدة عيسى عليه السلام .
وقال ص : لا تقطعوا الخبز بالسكين واكرموه فأن الله تعالى اكرمه .
وقال ص : ثلاث لقمات بالملح قبل الطعام تصرف عن ابن آدم اثنين وسبعين نوعا من البلاء منه الجنون والجذام والبرص .
وقال ص : سيد ادامكم الملح .
وقال ص : من اكل الملح قبل كل شيء دفع الله عنه ثلثمائة وثلاثين نوعاً من البلاء اهونها الجذام .
وقال ص : افتتحوا بالملح فانه دواء من سبعين داء .
وقال ص : افضل الصدقة الماء .
وقال ص : سيد الاشربة في الدنيا والآخرة الماء .
وقال ص : إن الحمى من قيح جهنم .
وقال ص : إذا اشتهيتم الماء فاشربوه مصاً ، ولا تشربوه عباً .
وقال ص : العب يورث الكباد .
وقال ص : كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها نفس سايلة فماتت فهو حلال وطهور .
وقال ص : من تعود كثرة الطعام والشراب قسا قلبه .
(3/7)
وقال ص : إذا شرب احدكم الماء وتنفس ثلاثاً كان آمناً .
وقال ص : شرار امتي الذين يأكلون مخاخ العظام .
وقال ص : ان ابليس يخطب شياطينه ويقول عليكم باللحم ، والمسكر ، والناي ، فاني لا اجد جماع الشر إلا فيها .
وقال ص : خير الادام في الدنيا والآخرة اللحم .
وقال ص : عليكم بأكل الجزور مخالفة لليهود .
وقال ص : اللحم ينبت اللحم ، ومن ترك اللحم اربعين صباحاً ساء خلقه .
وقال ص : من ترك اكل الميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار ومات فله النار خالداً مخلداً .
وقال ص : لا تقطعوا اللحم بالسكين على الخوان فانه من صنع الاعاجم ، وانهشوه نهشاً فانه اهنأ وامرأ .
وقال ص : لا تأكلوا من صيد المجوس إلا السمك .
وقال ص : من اكل اللحم اربعين يوماً صباحاً قسا قلبه .
وقال ص : اوحى الله تعالى إلى نبي من انبيائه حين شكى اليه ضعفه ان اطبخ اللحم مع اللبن فاني قد جعلت الشفاء والبركة فيهما .
وقال ص : الارز في الاطعمة كالسيد في القوم وانا في الانبياء كالملح في الطعام .
وقال ص : من اكل الفاكهة وتراً لم تضره .
وقال ص : ادهنوا بالبنفسج فانه بارد بالصيف ، حار في الشتاء .
وقال ص : اسقوا نساءكم الحوامل الالبان فانها تزيد في عقل الصبي .
وقال ص : إذا شربتم اللبن فتمضمضوا فان فيه دسماً .
وقال ص : ثلاثة لا ترد ، الوسادة ، واللبن ، والدهن .
وقال ص : أكل الجبن داء ، والجوز دواء ، فاذا اجتمعا معاً صارا دواءاً .
وقال ص : شرب اللبن ( من ) محض الايمان .
وقال ص : عليكم بالألبان فانها تمسح الحر عن القلب كما يكسح الاصبع العرق عن الجبين ، وتشد الظهر وتزيد في العقل وتذكي الذهن وتجلو البصر وتذهب النسيان .
وقال ص : عشر خصال تورث النسيان : أكل الجبن ، واكل سؤر الفارة ، وأكل التفاح الحامض ، والجلجلان ، والجحامة على النقرة ، والمشي بين المرأتين ، والنظر إلى المصلوب ، والتعاز ، وقراءة لوح المقابر .
(3/8)
وقال ص : ليس يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن .
وقال ص : الشاة بركة ، والشاتان بركتان ، وثلاث شياه غنيمة .
وقال ص : ثلاثة يفرح بهن الجسم ويربو ، الطيب ولباس اللين ، وشرب العسل .
وقال ص : عليكم بالعسل فو الذي نفسي بيده ما من بيت فيه عسل إلا وتستغفر الملائكة لاهل ذلك البيت فان شربها رجل دخل في جوفه الف دواء ، وخرج عنه الف الف داء ، فان مات وهو في جوفه لم تمس النار جسده .
وقال ص : قلب المؤمن حلو يحب الحلاوة .
وقال ص : من ألقم في فم اخيه المؤمن لقمة حلو لا يرجو بها رشوة ولا يخاف بها من شره ولا يريد إلا وجهه ، صرف الله عنه بها حرارة الموقف يوم القيامة .
وقال ص : نعم الشراب العسل يربي ويذهب درن الصدر .
وقال ص : من أراد الحفظ فياكل العسل .
وقال ص : إذا اشترى احدكم الخادمة فليكن اول ما يطعمها العسل فانه اطيب لنفسها .
وقال ص : إذا ولدت المرأة فليكن اول ما تأكل الرطب الحلو والتمر فأنه لو كان شيء افضل منه اطعمه الله تعالى مريم حين ولدت عيسى عليه السلام .
وقال ص : إذا جاء الرطب فهنئوني ، وإذا ذهب فعزوني .
وقال ص : بيت لا تمرة فيه كأن ليس فيه طعام .
وقال ص : خلقت النخلة والرمان من فضل طينة آدم « ع » .
وقال ص : اكرموا عمتكم النخلة ، النخلة والزبيب .
وقال ص : كل التمر على الريق فانه يقتل الدود .
وقال ص : نعم السحور للمؤمن التمر .
وقال ص : من وجد التمر فليفطر عليه ، ومن لم يجد فليفطر على الماء فانه طهور .
وقال ص : لا تردوا شربة العسل على من اتاكم بها .
وقال ص : لحم البقر داء ولبنها دواء ، ولحم الغنم دواء ولبنها داء .
وقال ص : عليكم بالفواكه في اقبالها فأنها مصحة للابدان مطردة للاحزان ، والقوها في ادبارها فانها داء الابدان .
وقال ص : افضل ما يبدأ به الصائم الزبيب والتمر او شيء حلو .
وقال ص : اكل التين امان من القولنج .
وقال ص : اكل السفرجل يذهب ظلمة البصر .
(3/9)
وقال ص : ربيع امتي العنب والبطيخ .
وقال ص : تفكهوا بالبطيخ فانها فاكهة الجنة وفيها الف بركة والف رحمة ، واكلها شفاء من كل داء .
وقال ص : عض البطيخ ولا تقطعها قطعاً فأنها فاكهة مباركة طيبة مطهرة الفم مقدسة القلب تبيض الاسنان وترضى الرحمان ، ريحها من العنبر وماؤها من الكوثر ، ولحمها من الفردوس ولذتها من الجنة واكلها من العبادة .
وعن ابن عباس انه قال ص : عليكم بالبطيخ فان فيه عشر خصال هو طعام وشراب واسنان وريحان يغسل المثانة ويغسل البطن ويكثر ماء الظهر ويزيد في الجماع ويقطع البرودة وينقي البشرة .
وقال ص : عليكم بالرمان وكلوا شحمه فانه دباغ المعدة وما من حبة تقع في جوف احدكم إلا انارت قلبه وحبسته من الشيطان والوسوسة اربعين يوماً .
وقال ص : عليكم بالاترج فانه ينير الفوائد ويزيد في الدماغ .
وقال ص : كل العنب حبة حبة فانها أهنأ .
وقال ص : كل التين فانه ينفع البواسير والنقرس .
وقال ص : كل الباذنجان واكثر فانها شجرة رأيتها في الجنة . فمن اكلها على انها داء كانت داءاً ، ومن اكلها على انها دواء كانت دواءاً .
وقال ص : كل اليقطين فلو كان لله سبحانه وتعالى شجرة اخف من هذه ، لأنبتها على اخي يونس عليه السلام .
وقال ص : إذا أتخذ احدكم مرقاً فليكثر فيه الدبا فانه يزيد في الدماغ ، والعقل .
وقال ص : من اكل رمانة حتى يتممها نور الله قلبه اربعين يوماً .
وقال ص : نعم الادام الزبيب .
وقال ص : ما من احد اكل رمانة إلا مرض شيطانه اربعين يوماً .
وقال ص : الكرفس بقلة الانبياء .
وقال ص : من اكل الخل . قام عليه ملك يستغفر له حتى يفرغ منه .
وقال ص : نعم الادام الخل وكان النبي يحب الفاكهة ـ العنب والبطيخ .
وقال ص : عليكم بالزبيب فانه يطفي المرة ويسكن البلغم ويشد العصب ويذهب النصب ويحسن القلب .
وقال ص : عليكم بالقرع فانه يزيد في الدماغ .
وقال ص : العناب يذهب بالحمى والكحة ويجلي القلب .
(3/10)
وقال ص : شكى نوح إلى الله تعالى الغم فاوحى الله اليه ان يأكل العنب فانه يذهب الغم .
وقال ص : إذا اكلتم القثاء فكلوه من اسفله .
وقال ص : تفكهوا بالبطيخ وعضوه فان ماءه رحمة وحلاوته من حلاوة الايمان ، والايمان في الجنة ، فمن لقم لقمة من البطيخ كتب الله له سبعين الف حسنة ومحى عنه سبعين الف سيئة .
وقال ص : ان في البطيخ خصال عشرة وهي التي ذكرها من قبل وانه اهدى إلى النبي ص بطيخ من الطائف فشمه وقبله ثم قال : عضوا البطيخ فانه من حلل الارض وماؤه من رحمة الله وحلاوته من الجنة . وقيل كان يوماً في محفل من اصحابه فقال رحم الله من اطعمنا بطيخاً فقام علي عليه السلام وذهب فجاء بجملة من البطيخ فاكل هو واصحابه فقال ص : رحم الله من اطعمنا هذا ، ومن اكل او يأكل من يومنا هذا إلى يوم القيامة من المسلمين .
وقال ص : ما من امرأة حاملة اكلت البطيخ إلا يكون مولودها حسن الوجه والخلق .
وقال ص : البطيخ قبل الطعام ، يغسل البطن ويذهب بالداء اصلا .
وكان ص وسلم يأكل القثاء بالملح ، ويأكل البطيخ بالجبن ، ويأكل الفاكهة الرطبة ، وربما أكل البطيخ باليدين جميعاً .
وقال ص : شموا النرجس ولو في اليوم مرة ، ولو في الاسبوع مرة ، ولو في الشهر مرة ، ولو في السنة مرة ، ولو في الدهر مرة ، فان في القلب حبة من الجنون والجذام والبرص وشمه يقلعها .
وقال ص : الحناء خضاب الاسلام يزيد في المؤمن عمله ويذهب بالصداع ويحد البصر ويزيد في الوقاع وهو سيد الرياحين في الدنيا والآخرة .
وقال ص : عليكم بالمرزنجوش شموه فانه جيد للخشام ـ والخشام داء .
وقال ص : فضل دهن البنفسج على الادهان كفضل الاسلام على الأديان .
وقال ص : ما من ورقة من ورق الهندباء إلا عليها قطرة من ماء الجنة .
وقال ص : من اراد ان يريح فليشم الورد الاحمر .
وقال ص : ما خلق الله شجرة احب اليه من الحناء .
(3/11)
وقال ص : نفقة درهم في سبيل الله بسبع مائة ، ونفقة درهم في خضاب الحناء بتسعة آلاف .
وقال ص : زينوا موائدكم بالبقل فأنها مطردة للشياطين مع التسمية .
وقال ص : الشونيز دواء من كل داء إلا السام .
وقال ص : كلوا الجبن فانه يورث النعاس ويهضم الطعام .
وقال ص : كلوا الثوم فان فيها شفاء من سبعين داء .
وقال ص : من اكل السداب ونام عليه أمن من الدوار وذات الجنب .
وقال ص : من اكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربنا ولا يقرب المسجد .
وقال ص : إذا دخلتم بلداً فكلوا من بقله او بصلة يطرد عنكم داؤه ويذهب بالنصب ويشد العصب ويزيد في الباه ـ ويذهب بالحمى .
وقال ص : عليكم بالكرفس فانه ان كان شيء يزيد في العقل فهو هو .
وقال ص : لو كان في شيء شفاء لكان في السناء .
وقال ص : عليكم بالاهليلج الاسود فانه من شجر الجنة طعمه مر وفيه شفاء من كل داء .
وقال ص : يستحب الحجامة في تسعة عشر من الشهر ، وواحد وعشرين .
وقال ص : في ليلة اسري بي إلى السماء ما مررت بملك من الملائكة إلا قالوا يا محمد مر أمتك بالحجامة ، وخير ما تداويتم به الحجامة ، والشونيز والقسط .
وقال ص : اكل الطين حرام على كل مسلم ومسلمة .
وقال ص : من مات وفي بطنه مثقال ذرة من الطين ادخله الله النار .
وقال ص : من اكل الطين فكأنما اعان على قتل نفسه .
وقال ص : لا تأكلوا الطين فان فيها ثلاث خصال تورث الداء ، وتعظم البطن ، وتصفر اللون .
وقال ص : من مرض سبعة ايام مرضاً سخيناً كفر الله عنه ذنوب سبعين سنة .
وقال ص : لا تكرهوا اربعة : الرمد فانه يقطع عروق العمى ، والزكام فانه يقطع عروق الجذام ، والسعال فانه يقطع عروق الفالج ، والدماميل فانها تقطع عروق البرص .
وقال ص : الحمى نصيب كل مؤمن من النار .
وقال ص : لا وجع إلا وجع العين ، ولاهم إلا هم الدين .
وقال ص : الحمى تحط الخطايا كما تحط الشجرة الورق .
وقال ص : من سبق العاطس بالحمد لله أمن من الشوص واللوص والقلوص .
(3/12)
وقال ص : من قال عبد عند امرئ مريض أسأل الله العظيم رب العرش العظيم ان يشفيك سبع مرات إلا عوفي .
وقال ص : من شكا عن ضرسه فليضع اصبعه عليه وليقرأ : هو الذي انشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون وبالحق انزلناه وبالحق نزل وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين .
وكان ص إذا أتى مريضاً قال : اذهب الوسواس والبأس رب الناس اشف وانت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك ، وقيل عاد رسول الله ص مريضاً فقال ارقيك رقية علمنيها جبرئيل ، فقال : نعم يا رسول الله ، قال بسم الله يشفيك من كل داء يأتيك ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسد إذا حسد .
تمت الرسالة الموسومة بطب النبي ص والحمد لله رب العالمين
(3/13)
كتاب الأمراض والكفارات والطب والرقيات
للشيخ الإمام الحافظ القدوة بقية السلف
أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد ضياء المقدسي
(569 - 643)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطب النبوي
أو كتاب الأمراض والكفارات والطب والرقيات
للشيخ الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد ضياء المقدسي
المتوفى سنة ثلاث وأربعين وستمئة رحمه الله تعالى.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أكتفي
قال الشيخ الإمام العالم الحافظ ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن المقدسي قدس الله روحه ونور ضريحه أما بعد الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده وصلى الله على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا أما بعد فإن بعض إخواني سألني مرة بعد أخرى أن أجمع كتابا في الطب مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روي من ذلك في الكتب المشهوة فأجبته إلى مسألته ورأيت أن أبتدئ بأحاديث الكفارات وأن الأمراض لرفع الدرجات ومحو السيئات.
ذكر خيرة الله للعبد فيما ابتدأه
(1) أخبرنا أبو المجد زاهر بن أحمد بن حامد الثقفي رحمه الله بأصبهان أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك الخلال الأديب قراءة عليه أخبرنا إبراهيم بن منصور بحرويه أخبرنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي أخبرنا أبو يعلى الموصلي حدثنا هدبة وشيبان قالا حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. وفي حديث شيبان وليس ذلك إلا للمؤمن. هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن هدبة بن خالد وشيبان بن فروخ.
(4/1)
(2) أخبرنا عبد الله بن أحمد بن أبي المجد رحمه الله قراءة عليه قيل له أخبركم أبو القاسم بن الحصين حدثنا أبو علي بن المذهب أخبرنا أبو بكر القطيعي ثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعيد بن أبي وقاص عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبت للمؤمن إن أصابه خير حمد الله وشكر وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر فالمؤمن يؤجر في كل أمره حتى يؤجر في اللقمة يرفعها إلى في امرأته. كذا رواه الإمام أحمد بن حنبل ورواه النسائي أيضا.
(3) أخبرنا المؤيد الطوسي رحمه الله أخبرنا هبة الله بن سهل أخبرنا أبو عثمان البحيري أخبرنا راشد بن أحمد أخبرنا إبراهيم بن عبد الصمد أخبرنا أبو مصعب أن مالكا أخبرهم عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أنه قال سمعت أبا الحباب سعيد بن يسار يقول سمعت أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه. أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك.
ما ذكر من تشديد البلاء على الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى الصالحين
(4) أخبرنا أبو طاهر المبارك بن أبي المعالي بن المعطوش رحمه الله بقراءتي عليه ببغداد وقلت له أخبركم هبة الله بن محمد قراءة عليه أخبرنا أبو علي الحسن بن أبي علي أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر حدثنا عبد الله بن أحمد حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة أنها قالت ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحيح أخرجه البخاري عن بشر بن محمد عن عبد الله بن المبارك ورواه غيره عن بشر بن خالد عن محمد بن جعفر كلاهما عن شعبة.
(4/2)
(5) أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربي رحمه الله قراءة عليه قيل له أخبركم هبة الله بن محمد قراءة عليه أخبرنا الحسن بن علي أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة. ورواه شعبة بن الحجاج وحماد عن عاصم أخرجه الترمذي بنحو عن قتيبة عن حماد وقال حديث صحيح حسن.
(6) أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر بن أبي الفتح سبط حسين بن عبد الملك بن مسندة رحمه الله تعالى أخبرنا الحسن بن أحمد الحداد وأنا حاضر أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله الحافظ حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان حدثنا أحمد بن عيسى المصري حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو موعوك فقلت من أشد الناس بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون إن كان أحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله ولأحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحكم بالعطاء. هذا على شرط مسلم.
(4/3)
(7) أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حمزة بن محمد رحمه الله أخبرنا محمد رحمه الله أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن الموازيني أخبرنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن الشاهد بدمشق أخبرنا أبو بكر محمد بن سليمان بن يوسف بن حاجب بن .. . الفرغاني حدثنا محمد بن إسماعيل الأعشى حدثنا الحسن بن عبد الله حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال وضعت يدي على النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت الحمى عليه شديدة فقلت يا رسول الله إنها عليك لشديدة فقال إنا كذلك معاشر الأنبياء يضعف علينا البلاء كما يضاعف الأجر قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء قلت ثم من قال ثم الصالحون وإن كان أحدهم ليبتلى حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يجوبها وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء يصيبه كما يفرح أحدكم بالغائب أو بالرخاء. رواه ابن ماجه بنحوه من حديث هشام.
(8) أخبرنا أبو عبد الله محمد بن معمر بن الفاخر القرشي رحمه الله أخبرنا أبو الفرج سعد بن أبي الرجاء الصيرفي قراءة عليه أخبرنا عبد الواحد بن أحمد أخبرنا عبد الله بن يعقوب بن إسحاق أخبرنا جدي إسحاق بن إبراهيم بن جميل أخبرنا أحمد بن منيع حدثنا عبيدة بن حميد عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحارث بن سويد عن عبد الله قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكا شديدا قال إني أوعك وعك رجلين منكم قلت ذاك بأن لك أجرين. أخرجه البخاري ومسلم بمعناه من حديث سليمان بن مهران الأعمش.
(4/4)
(9) أخبرنا أبو الفرج يحيى بن محمود بن سعد الثقفي رحمه الله أخبرنا أبو علي الحداد أخبرنا أبو نعيم أحمد عن عبد الله عن عبد الله بن جعفر حدثنا أبو مسعود قال أخبرنا أبو عامر العقدي حدثنا شعبة عن حصين بن عبد الرحمن قال سمعت أبا عبد الله بن حذيفة يحدث عن عمته فاطمة قالت عدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فإذا سقاء معلق وماء يقطر عليه من شدة ما يجد من حر الحمى فقلت يا رسول الله لو دعوت الله فأذهب عنك هذا قال أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. رواه الإمام أحمد في المسند عن محمد بن جعفر عن شعبة.
ذكر بلاء أيوب عليه السلام
(4/5)
(10) أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الحداد قال حدثنا الحافظ أبو نعيم أحمد بن عيد الله أخبرنا عبد الله بن جعفر أخبرنا إسماعيل بن عبد الله سمويه حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم أخبرنا نافع بن يزيد أخبرنا عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانية عشر سنة و شهرا فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم تعلم والله إن أيوب قد أذنب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين قال له صاحبه وما ذاك قال من ثمانية عشر عاما لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب عليه السلام ما أدري ما تقولان غير أن الله يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله إلا في خير وكان يخرج لحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها فأوحى الله إلى أيوب في مكانه: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب. فاستبطأته فتلقته تنظر وأقبل عليها قد أذهب الله تعالى ما به من البلاء وهو أحسن ما كان فلما رأته قالت أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله عليه السلام هذا المبتلى فالله على ذلك ما رأيت أشبه به منك إذ كان صحيحا قال فإني أنا هو وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض. هذا حديث غريب صحيح ورجال إسناده ثقات ورواه الإمام محمد بن يحيى الذهلي عن سعيد بن الحكم وقال ثمانية عشر سنة في الموضعين بغير شك.
ذكر محبة الله عز وجل لمن يبتلى من عباده المسلمين الصالحين
(4/6)
(11) أخبروا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله تعالى قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن حرج فله الحرج. أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن سليمان بن داود عن إسماعيل بن جعفر.
ذكر أن ما يصيب المؤمن من الأذى ونحوه يكفر الله تعالى به من خطاياه
(12) عن عائشة قالت قال نبي الله صلى الله عليه وسلم ما من مرض أبو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنبه حتى الشوكة.
(13) وري عن النبي الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما فوقه إلا حط الله خطاياه كما تحط الشجرة ورقها. أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش.
ذكر أن الله يرفع درجة المؤمن بما يصيبه من البلاء
(14) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة و حط عنه بها خطيئة. صحيح أخرجه مسلم من حديث سليمان بن مهران معناه.
ذكر أن الحمى والمرض يكونان طهورا
(15) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمى استأذنت فقال من أنت قالت أنا أم ملدم قال أتنهدين إلى أهل قباء قالت نعم قال فأتتهم فحموا ولقوا منها شدة فاشتكوا إليه وقالوا يا رسول الله ما لقينا من الحمى قال إن شئتم دعوت الله فكشفها عنكم وإن شئتم كانت لكم طهورا قالوا بل تكون لنا طهورا.
(16) وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم يصرع صرعة من مرض إلا بعثه الله منها طاهرا. لا أعلم فيهم جرحا.
ذكر مثل المؤمن ومثل المنافق
(17) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل المؤمن مثل خامة الزرع لا تزال الريح تميله ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد.
(18) ومن صحيح مسلم أنه قال إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك أوالحمى كمثل حديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها. لا أعلم له علة.
ذكر من صبر على البلاء لينال درجة البقاء
(4/7)
(19) أخبرنا محمد بن أحمد بن نصر بقراءتي عليه بأصبهان قلت له أخبرتكم فاطمة بنت عبد الله الجوزذانية فأقر به أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عمران أبي بكر قال حدثني عطاء بن أبي رباح قال قال ابن عباس ألا أريك امرأة من أهل الجنة قلت بلى قال هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي فقال إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت أصبر فقالت إني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها.
(20) وقال أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها طيف فقالت يا رسول الله ادع الله أن يشفيني قال إن شئت دعوت الله عز وجل فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك قالت أصبر ولا حساب علي. رواه الإمام أحمد في المسند عن محمد بن عمرو بمعناه ورجاله على شرط مسلم.
(21) أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد أخبرنا محمود بن إسماعيل الصيرفي أخبرنا محمد بن عبد الله بن شاذان أخبرنا عبد الله بن محمد بن محمد القباب أخبرنا محمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو بكر حدثنا علي بن مسهر عن محمد بن عمرو عن أبو سلمة عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل أخذتك أم ملدم قط قال وما أم ملدم قال حر يكون بين الجلد واللحم قال ما وجدت هذا قط قال فهل صدعت قط قال وما الصداع قال عرق يضرب في الرأس قال ما وجدت هذا قط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا. رواه الإمام أحمد في مسنده عن محمد بن بشر عن محمد بن عمرو بمعناه ورواه عمرو بن مرزوق عن ابن المسيب عن أبي هريرة.
ذكر الأجر على ذهاب البصر إذا احتسب صاحبه وصبر
(4/8)
(22) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا زيد أرأيت لو أن عينيك كانتا لما بهما فقلت يا رسول الله أصبر وأحتسب فقال إذن لقيت الله ولا ذنب لك.
(23) وعن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله عز وجل إذا ابتلى عبدا من عباده بحبيبتيه فصبر عوضه الله منهما الجنة. يريد عينيه أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف عن الليث.
(24) أخبرنا أبو المجد بن أحمد الثقفي أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن عبد الملك الأديب .. .. . عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل من أذهبت حبيبتيه فصبر واحتسب لم أرض له ثوابا دون الجنة. هذا على شرط الصحيحن فقد أخرج مسلم بهذا الإسناد غير حديث رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عبد الرزاق عن سفيان عن الأعمش وقال هذا حديث حسن صحيح وفيه حبيبتيه.
ذكر أن الله عز وجل يكتب للمريض أجر ما كان يعمل من الخير وهو صحيح
(25) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من كان له عمل يعلمه من خير فشغله عنه مرض أو سفر فإنه يكتب له صالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. أخرجه البخاري بمعناه عن مطر بن الفضل عن يزيد بن هارون.
(26) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أحد من المسلمين يصاب ببلاء في جسده إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه فيقول اكتبوا لعبدي كل يوم وليلة مثل ما كان يعمل من الخير ما دام محبوسا في وثاقي. رجاله على شرط الصحيحين.
ذكر أجر المسترجع على المصيبة
(4/9)
(27) عبد الله بن محمد بن أبي المجد الحربي أخبرنا هبة الله بن محمد أخبرنا الحسن بن علي أخبرنا أحمد بن جعفر حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا أخبرنانا هشام بن أبي هشام قال عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها قال عباد قدم عهدها فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه أجرها يوم أصيب. هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام.
كتاب الطب
(28) أخبرنا عمر بن علي الواعظ أخبرنا هبة الله بن محمد أخبرنا الحسن بن علي أخبرنا أحمد بن جعفر أخبرنا عبد الله حدثني أبي حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن ابن أبي خزامة عن أبيه قال قلت يا رسول الله وقال سفيان مرة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت دواء نتداوى به ورقى يسترقي بها وتقى نتقيها أترد من قدر الله شيئا قال إنها من قدر الله عز وجل. رواه الترمذي وابن ماجه قال الإمام أحمد الصواب عن أبي خزامة عن أبيه وكلا الروايتين جاءتا عن سفيان رواه مالك ويونس وعمرو بن الحارث والأوزاعي عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه.
ذكر أن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء إلا الهرم
(29) أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني بقراءتي عليه بأصبهان قلت له أخبركم أبو علي الحسن بن أحمد الحداد وأنت حاضر قال أخبرنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن حيان حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات الرازي أخبرنا أبو أحمد الزبيري حدثنا ابن أبي حسين عن عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء. صحيح أخرجه البخاري عن محمد بن المثنى عن أبي أحمد الزبيري عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عطاء بن أبي رباح.
(4/10)
(30) وأخبرنا محمد أخبرنا الحسين أخبرنا أحمد بن عبد الله حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أبو مسعود أخبرنا أبو داود حدثنا شعبة عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء إلا الهرم. صحيح أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في كتبهم وقال الترمذي حسن صحيح.
(31) أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني أخبرنا أبو علي الحداد أخبرنا أبو نعيم أخبرنا أبو محمد بن مادش حدثنا أبو مسعود الرازي حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن عطاء عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله. أخرجه ابن ماجه عن محمد بن بشار عن ابن مهدي عن سفيان عن عطاء وهو ابن السائب عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب. رواه عن عطاء شعبة بن الحجاج وسفيان بن عيينة وخالد بن عبد الله وجرير بن عبد الحميد وهمام بن الحارث كنحو رواية سفيان الثوري. وعطاء بن السائب تغير في آخر عمره وما رواه عنه سفيان الثوري وشعبة فإنه صحيح لأنهما سمعا منه قبل تغيره والله أعلم.
ذكر أن لكل داء دواء
(32) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى. صحيح أخرجه مسلم في صحيحه عن أحمد بن عيسى.
ذكر الحمية
(33) عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء.
ذكر أن الشفاء في ثلاث
(34) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن كان في أدويتكم خير أو يكون ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي.
ما ذكر في العسل
قال الله عز وجل: فيه شفاء للناس.
(4/11)
(35) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسقه عسلا فقال له ثلاث مرات ثم جاء الرابعة فقال اسقه عسلا فقال قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرأ.
(36) وقال عليه السلام عليكم بالشفاءين العسل والقرآن.
ذكر الكمأة
(37) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
ذكر الإثمد
(38) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالثياب البياض فليلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها موتاكم وعليكم بالإثمد فإنه يجلوا البصر وينبت الشعر.
ذكر تضميد العين بالصبر
(39) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المحرم يشتكي عينه يضمدهما بالصبر.
ما ذكر في الحبة السوداء
(40) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام والسام هو الموت.
ما ذكر في الحجامة
(41) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أنس عن كسب الحجام فقال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأمر له بصاعين من طعام وكاتب أهله فرفعوا عنه من خراجه قال إن أفضل ما تداويتم به الحجامة أو من أمثل دوائكم.
(42) وقال ابن عباس احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره ولو علمه خبيثا لم يعطه.
الحجامة في الرأس
(43) روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق مكة على رأسه وهو محرم.
(44) روي عن امرأة عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن جدته سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا إلا قال احتجم ولو وجعا في رجليه إلا قال اخضبها.
الحجامة على الكاهل والأخدعين
(4/12)
(45) روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في الأخدعين والكاهل.
الاحتجام بين الكتفين
(46) روي عن أبي كبشة الأنماري أنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجم على هامته وبين كتفيه ويقول من أهراق منه هذه الدماء فلا يضره أن لا يتداوى بشيء.
الاحتجام على ظهر القدم
(47) روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم على ظهر قدمه من وجع كان به.
الحجامة للنساء
(48) روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أبا طيبة أن يحجم أم سلمة قال حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة أو غلاما لم يحتلم. كذا أخرجه مسلم قلت ولا أدري قول من هذا ويحتمل أن يكون هذا قبل نزول الحجاب ويجوز ذلك عند الضرورة والله أعلم.
ذكر أي يوم يستحب فيه الحجامة
(49) عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتجم في الأخدعين والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين. وقال الترمذي حديث حسن غريب.
ما ذكر في الكي
(50) روي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رمى رجل أبيا يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ما ذكر في الرضف
(51) روي عن عبد الله أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا صاحب لنا يشتكي أنكويه قال فسكت قالوا أنكويه فسكت فقال اكووه وارضفوه بالرضف رضفا.
الأمر بتبريد الحمى بالماء البارد
(52) روي عن رافع بن خديج قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الحمى فور من فور جهنم فأطفؤوها عنكم بماء زمزم.
ذكر التداوي بالقسط البحري والزيت
(53) روي عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت.
(4/13)
(54) روي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دما فقال ما هذا قالوا به العذرة قال ويلكن لا تقتلن أولادكن أيما امرأة أصاب ولدها العذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطا هنديا فلتحكه بماء زمزم ثم تسعطه به قال فأمرت عائشة فصنعت ذلك به فبرأ. هذا على شرط مسلم.
ذكر التداوي بالعود الهندي
(55) روي عن عبيد الله عن أم قيس بنت محصن قالت دخلت بابن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علقت عليه من العذرة فقال علام تدغرن أولادكم بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية يسعط به من العذرة ويلد به من ذات الجنب.
ذكر التداوي بالورس والزيت
(56) روي عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينعت الزيت والورس من ذات الجنب. قال قتادة ويلد من الجانب الذي يشتكيه.
ذكر التداوي بالسنا
(57) يروى عن بنت عميس قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا تستمشين قالت بالشبرم فقال النبي صلى الله عليه وسلم حار حار وقال أين أنت من السنا فلو كان في شيء شفاء من الموت لكان في السنا.
(58) وقال النبي صلى الله عليه وسلم عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام. قالوا يا رسول الله وما السام قال الموت.
ذكر التداوي بالعجوة
(59) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر.
ذكر عرق النسا
(60) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي به عرق النسا أن يأخذ إلية كبش عربي ليس بالصغير ولا بالكبير فيقطعا قطعا صغارا ثم يجزئها ثلاثة أجزاء فيشرب كل يوم جزء.
ذكر توقي المواضع التي بها الوباء
(61) عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه.
(4/14)
(62) وقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذب به قوم فإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها فرارا منه وإذا وقع ولستم بها فلا تدخلوها.
(63) قال عليه الصلاة والسلام عن الطاعون إنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء فجعله الله رحمة للمؤمنين فليس من عبد وقع الطاعون في بلده فيمكث في بلده صابرا محتسبا يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد.
ذكر الحساء
(64) قال عليه السلام التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب بعض الحزن.
ذكر عصب الرأس من الوجع
(65) عن ابن عباس قال صعد النبي صلى الله عليه وسلم يوما المنبر عليه ملحفة موشحا عاصبا رأسه بعصابة دسمة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي من أمركم شيئا فيقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
ذكر مقل الذباب في الطعام
(66) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء وإنه يتقي جناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله.
ذكر ما يستمسك به الدم من الجراح
(67) عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما والله إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان يسكب وبم دووي قال كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسله وعلي يكب الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن الدم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها فاستمسك الدم. أخرجاه جميعا عن قتيبة.
ذكر الحناء يترك على القروح
(68) قالت عائشة رضي الله عنها ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شكى إليه أحد قرحة ولا شوكة إلا وأمره أن يضع عليه الحناء.
ذكر الذريرة
(4/15)
(69) أخبرته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فقال أعندك ذريرة قالت نعم فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجليه ثم قال اللهم مطفي الكبير ومكبر الصغير اطفها عني فطفئت.
ذكر النهي عن التداوي بالخمر
(70) سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر يجعل في الدواء فقال إنها ليست بدواء.
ذكر النهي عن الدواء بالسم
(71) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سم نفسه فسمه في يده يتحسى بها في نار جهنم مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه يوم القيامة خالدا مخلدا فيها أبدا.
ذكر النهي أن يجعل الضفدع في الدواء
(72) سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء فنهى النبي عن قتلها.
ذكر كراهية شرب الترياق
(73) عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبالي ما أتيت أو ما ركبت إذا علقت تميمة أو شربت ترياقا أو قلت الشعر من قبل نفسي.
ذكر ما يذهب العي والتعب
(74) روي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان حتى بلغ كراع الغميم قال فصام الناس وهم مشاة وركبان فقيل له إن الناس قد شق عليهم الصوم إنما ينتظرون ما نفعل أنت فدعا بقدح فرفعه إليه حتى نظر الناس وصام بعض فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن بعضهم صائم فقال أولئك العصاة واجتمع إليه المشاة من أصحابه فصفوا إليه يعني وقالوا نتعرض لدعوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتد السفر وطالت المشقة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استعينوا بالنسل فإنه يقطع عنكم الأرض وتخفون له قال ففعلنا فخففنا له.
ذكر إباحة مداواة النساء للرجال
(75) عن أم عطية قالت غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أخلفهم في رجالهم وأصنع له الطعام وأجبر الجارحات وأداوي المرضى.
كراهته أن يقال طبيب
(4/16)
(76) عن أبي رمثة قال دخلت مع أبي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أبي الذي بظهره فقال دعني أعالج الذي بظهرك فإني طبيب فقال أنت رفيق والله طبيب. هذا على شرط الصحيح والله أعلم.
ذكر ضمان من لا يحسن الطب
(77) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تطبب ولم يكن معروفا فأصاب نفسا فما دونها فهو ضامن.
(78) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نام وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه.
ذكر أن قيام الليل يطرد الداء عن الجسد
(79) عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى الله ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الإثم ومطردة للداء من الجسد.
ذكر أن الصدقة يدفع الله بها عن المصدق
(80) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء.
ذكر كراهية ورود المريض على الصحيح
(81) قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يورد الممرض على المصح.
ذكر أنه لا يعدي شيء شيئا
(82) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى ولا صفر ولا هامة قال أعرابي فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها فقال عليه الصلاة والسلام فمن أعدى الأول.
ما ذكر في الغيل
(83) عن حذافة بنت وهب الأسدية قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى ذكرت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضر أولادهم.
باب ذكر في الرقى
(84) عن جابر قال كان خالي من الأنصارية يرقي من الحية فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقى فأتاه خالي فقال يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى وكنت أرقي من الحية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علي قال فعرضتها فقال لا بأس بهذه هذه من المواثيق.
(4/17)
ذكر السبب الذي لأجله نهى عن الرقى
(85) عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك قال كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال أعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن شركا.
ذكر أن الرقى من قدر الله عز وجل
(86) عن أبي خزامة أحد بني الحارث بن سعد بن هريم أنه حدثه أباه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أرأيت دواء نتداوى به ورقى نسترقيها وتقى نتقيها هل يرد ذلك من قدر الله من شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه من قدر الله.
ذكر الرقية من كل ذي حمة
(87) عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في الرقى من كل ذي حمة.
ذكر الرقية من العين والنظرة وأن العين حق
(88) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين فإذا استغسلتم فاغسلوا.
(89) وقد جاء آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا شيء في الهام والعين حق وأصدق الطيرة الفأل.
(90) عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال استرقوا لها فإن بها النظرة.
ذكر ما يؤمر به العائن من الوضوء
(91) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم علام يقتل أحدكم أخاه ألا بركت إن العين حق توضأ له. فتوضأ له عامر بن ربيعة فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس.
ذكر ما يقال عند زوال البلاء
(92) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم حسن يصبح لم يفجأه فجأة بلاء حتى يمسي. كذا رواه النسائي والأحاديث المذكورة كلهم عن مسلم والبخاري والحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين.
(4/18)
الخمسين من طب سيد الأولين والآخرين
صلى الله عليه وسلم
(من صحيح الجامع الصغير)
أبو أحمد معتز أحمد عبد الفتاح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم0
دونك خمسين حديثا صحيحا في الطب النبوي انتقيتها من الموسوعة الحديثية المصغرة(صحيح الجامع الصغير)وطريقتي أن اذكر الحديث وقد اذكر جزءا من شرحه وأقتصر على تحقيق الشيخ الألباني والشرح من فتح القدير للمناوى0
ولم أتوسع عندما ذكرت الحبة السوداء والعسل ونحوها بل أردت الإشارة فقط0وأحب أن أشير إلى أهمية اعتماد الأحاديث الصحيحة والشروح السنية التي تجمع بين الأدلة في هذا المجال وغيره وعدم اعتماد الفهم الخاطئ
(أن اى وصفة عشبية هي عن سيد البرية صلى الله عليه وسلم)
وفى الخاتمة ذكرت خمسة وعشرين حديثا لا تصح في الحجامة
وأحب ان أشير إلى الجهد الطيب في هذا المجال للدكتور عبد الباسط السيد في سلسلة الطب النبوي العلاجي وغيرها من الأشرطة السمعية والكتب لكن يؤخذ عليه ذكره الأحاديث غير الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم000000
الأحاديث:
الله الطبيب الشافي
1- الله الطبيب0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1252 في صحيح الجامع0
الشرح :
أي هو المداوي الحقيقي بالدواء الشافي من الداء وهذا قاله لوالد أبي رمثة حين رأى خاتم النبوة وكان ناتئاً فظنه سلعة تولدت من الفضلات فرّد المصطفى صلى اللّه عليه وسلم كلامه بإخراجه مدرجاً منه إلى غيره يعني ليس هذا علاجاً بل كلامك يفتقر إلى العلاج حيث سميت نفسك طبيباً ، واللّه هو الطبيب وإنما أنت رفيق ترفق بالمريض وتتلطف به وله فهو من الأسلوب الحكيم في فن البديع . وذلك لأن الطبيب هو العالم بحقيقة الدواء والداء والقادر على الصحة والشفاء وليس ذلك إلا اللّه 0
2ـ أنت رفيق و الله الطبيب 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1481 في صحيح الجامع0
التداوى
(5/1)
3ــ إن الله تعالى حيث خلق الداء خلق الدواء فتداووا 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 1754 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إن اللّه تعالى حيث خلق الداء ) أي أوجده وقدره 0
( خلق الدواء فتداووا ) ندباً بكل طاهر حلال وكذا بغيره إن توقف البرء عليه ولم يجد غيره يقوم مقامه كما سبق والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب وكذا تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك ودخل فيه الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له وأقروا بالعجز عن مداواته .
4ـ إن الذي أنزل الداء أنزل الشفاء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1688 في صحيح الجامع0
5ـ إن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه و جهله من جهله إلا السام و هو الموت 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1809 في صحيح الجامع0
الشرح :
فإذا شاء اللّه الشفاء يسر ذلك الدواء ، على مستعمله بواسطة أو دونها فيستعمله على وجهه وفي وقته فيبرأ ، وإذا أراد هلاكه أذهله عن دوائه وحجبه بمانع فهلك وكل ذلك بمشيئته وحكمه كما سبق في علمه 0
قال ابن حجر رحمه اللّه تعالى : ومما يدخل في قوله جهله من جهله ما يقع لبعضهم أنه يداوي من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيداويه بذلك الدواء بعينه فلا ينجع وسببه الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين نشابها ويكون أحدهما مركباً لا ينجع فيه ما ينجع في غير المركب فيقع الخطأ وقد يكون متحداً لكن يريد اللّه أن لا ينجع وهنا تخضع رقاب الأطباء ولهذا قال :
إن الطبيب لذو عقل ومعرفة **** ما دام في أجل الإنسان تأخير
حتى إذا ما انقضت أيام مدته **** حار الطبيب وخانته العقاقير
( إلا السام ) بمهملة مخففاً ( وهو الموت ) فإنه لا دواء له والتقدير إلا داء الموت أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت فيه
(5/2)
قال ابن القيم : والحديث يعم أدواء القلب والروح والبدن وأدويتها وقد سمى النبي صلى اللّه عليه وسلم الجهل داء وجعل دواءه سؤال العلماء وفيه كالذي قبله الأمر بالتداوي ومشروعيته وقد تداوى المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وأمر به صحبه لكن لم يتداووا بالأدوية المركبة بل المفردة وربما أضافوا للمنفرد ما يعاونه أو يكسر صورته قال ابن القيم : وهذا غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها وإنما عني بالمركب الروم واليونان والأدوية من جنس الأغذية فمن غالب غذائه بالمفردات كالعرب فطبه بها فمن ثم أفرد المصطفى صلى اللّه تعالى عليه وآله وسلم اللبن بالذكر ومن غالب غذائه المركبات فطبه بالأدوية المركبة أنفع والتداوي لا ينافي التوكل .
6ـ لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 5164 في صحيح الجامع0
7ــ الدواء من القدر و قد ينفع بإذن الله تعالى 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 3415 في صحيح الجامع0
الشرح :
( الدواء من القدر وقد ينفع ) في إزالة الداء أو تخفيفه
( بإذن اللّه ) الذي لا ينفع شيء ولا يضر إلا بإذنه وهذا قاله لما سئل هل ينفع الدواء من القدر؟ فهو الذي قدر الداء والدواء .
8 ـ الدواء من القدر و هو ينفع من يشاء بما شاء 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 3416 في صحيح الجامع0
9ــ إن الله تعالى خلق الداء و الدواء فتداووا و لا تتداووا بحرام 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1762 في صحيح الجامع0
10 ـ نهى عن الدواء الخبيث 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 6878 في صحيح الجامع0
الشرح :
أي السم أو النجس أو الخمر ولحم غير المأكول وروثه وبوله 0000
11ـ إنه ليس بدواء و لكنه داء - يعني الخمر - 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 2408 في صحيح الجامع0
ومن الشفاء
12ـ الشفاء في ثلاثة : شربة عسل و شرطة محجم و كية نار و أنهى أمتي عن الكي 0
تحقيق الألباني
(5/3)
(صحيح) انظر حديث رقم: 3734 في صحيح الجامع0
الشرح :
( شربة عسل وشرطة محجم ) الشرطة ما يشرط به وقيل هو مفعلة من الشرط وهو الشق بالمحجم بكسر الميم وفي معناه الفصد وإنما خص الحجم لأنه في بلاد حارة والحجم فيها أنجح وأما غير الحارة فالفصد فيها أنجح 0
( وكية نار ) انتظم جملة ما يداوى به لأن الحجم يستفرغ الدم وهو أعظم الأخلاط والعسل يسهل الأخلاط البلغمية ويحفظ على المعجونان قوامها والكي يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به ولهذا وصفه ثم كرهه لكبر ألمه وعظم خطره كما قال ( وأنهى أمتي عن الكي ) لأن فيه تعذيباً فلا يرتكب إلا لضرورة ولهذا تقول العرب في أمثالها : آخر الطب الكي .
000فمن تلك القواعد أنه ، وإن احتمل الحصر هنا ، غير أنه لا يلزم إلا إذا أتى التصريح به كقوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . } أما مجرد ورود " ال " التعريف فلا يلزم منه الحصر؛ مثاله الحديث 3201 : البركة في نواصي الخيل . فمن الواضح فيه أن " التعريف " أتى للإعلام بأهمية شأن الخيل ، وأنه لم يقصد به حصر البركة بها كما هو معلوم ضرورة ونصا . أما " ضرورة " فلا حاجة لتبيينه لوضوحه ، وأما نصا فللحديث رقم 3202 : البركة في ثلاثة : في الجماعة ، والثريد ، والسحور . إذ ورد هذا الحديث كذلك بالتعريف ، وذكر فيه غير الخيل . ويماثل ذلك حديث البحث الحالي ، فقد ورد ذكر الشفاء أيضا في : ألبان البقر ، السنا والسنوت ، الحبة السوداء ، ماء زمزم ، السواك ، ألية الشاة الأعرابية ، ، الكمأة ، العجوة ، الكبش العربي ، غبار المدينة ، التلبينة ، أبوال الإبل ، الزيت ، ووردت بشأن العديد منها عبارة " شفاء من كل داء " .
13ـ ألبان البقر شفاء و سمنها دواء و لحومها داء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1233 في صحيح الجامع0
الشرح :
(5/4)
( ألبان البقر شفاء ) من الأمراض السوداوية والغم والوسواس ويحفظ الصحة ويرطب البدن ويطلق البدن باعتدال وشربه بالعسل ينقي القروح الباطنة وينفع من كل سم ولدغ حية وعقرب وتفصيله في الطب ( وسمنها دواء )إذ هو ترياق السموم المشروبة كما في الموجز وغيره ( ولحومها داء ) مضرة بالبدن جالبة للسوداء . قال في الإرشاد : عسير الهضم يولد أخلاطاً غليظة 000000
قلت:لموضوع لحم البقر بحث آخر وانظر الشرح على الحديث التالى0000
14ـ إن في الحجم شفاء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 2128 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إن في الحجم شفاء ) أي من غالب الأمراض لغالب الناس في قطر مخصوص في زمن مخصوص هكذا فافهم كلام الرسول ولا عليك من ضعفاء العقول فإن هذا وأشباهه يخرج جواباً لسؤال معين يكون الحجم له من أنفع الأدوية ولا يلزم من ذلك الإطراد .
15ـ خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم فيه طعام من الطعم و شفاء من السقم و شر ماء على وجه الأرض ماء بوادي برهوت بقبة حضرموت كرجل الجراد من الهوام تصبح تتدفق و تمسي لا بلال بها 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3322 في صحيح الجامع0
الشرح :
( خير ماء ) بالمد ( على وجه الأرض ماء ) ببئر ( زمزم فيه طعام من الطعم ) كذا في نسخة المصنف بخطه وفي رواية طعام طعم بالإضافة والضم أي طعام إشباع أو طعام شبع من إضافة الشيء إلى صفته والطعم بالضم الطعام ( وشفاء من السقم ) كذا في خطه وفي رواية شفاء سقم بالإضافة أي شفاء من الأمراض إذا شرب بنية صالحة رحمنية 0
( وشر ماء ) بالمد ( على وجه الأرض ماء ) بالمد ( بوادي برهوت ) أي ماء بئر بوادي برهوت بفتح الباء والبئر بئر عميقة بحضرموت لا يمكن نزول قعرها وقد تضم الباء وتسكن الراء وهي المشار إليها بآية { وبئر معطلة }0000
16ـ زمزم طعام طعم و شفاء سقم 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3572 في صحيح الجامع0
الشرح :
(5/5)
وهي كما قال المحب الطبري بئر في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثين ذراعاً سميت به لكثرة مائها أو لزمزمة جبريل وكلامه عندها أو لغير ذلك (طعام طعم ) أي فيها قوة الاغتذاء الأيام الكثيرة لكن مع الصدق كما وقع لأبي ذرّ بل كثر لحمه وزاد سمنه يقال هذا الطعام طعم أي يشبع من أكله ويجوز تخفيف طعم جمع طعام كأنه قال إنها طعام أطعمه كما يقال أصل أصلاً وشيد أشياد والمعنى أنه خير طعام وأجوده ذكره كله الزمخشري 0
( وشفاء سقم ) أي حسي أو معنوي مع قوة اليقين وكمال التصديق ولهذا سنّ لكل أحد شربه أن يقصد به نيل مطالبه الدنيوية والأخروية .
17-شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم تشرب على الريق كل يوم جزء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3713 في صحيح الجامع0
الشرح :
( شفاء عرق النسا ) كالعصا عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ والأفصح النسا لا عرق النساء ذكره في النهاية وتعقبه ابن القيم بأن العرق أعم فهو من إضافة العام إلى الخاص سمي به لأن ألمه ينسى سواه ( ألية شاة أعرابية ) في رواية كبش عربي أسود ليس بالعظيم ولا بالصغير 0
تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق كل يوم جزء ) قال أنس : وصفته لثلاثمائة نفس كلهم يعافى وهذا خطاب لأهل الحجاز ونحوهم فإن هذا العلاج ينفعهم إذ المرض يحدث من يبس وقد يحصل من مادّة غليظة لزجة وفي الألية إنضاج وتليين والمرض يحتاجها وخص الشاة الأعرابية لقلة فضولها ولطف جوهرها وطيب مرعاها .
(5/6)
ملاحظة : مرض " عرق النسا " الوارد هنا غير مرادف تماما لتشخيص معين في الطب الحديث ، ويصعب تعيينه بيقين لمن أراد الاستفادة من هذا الحديث . وأقرب ما يوجد له هو أحد أوجاع المفاصل الذي ينتج عنه انضغاط عصب يسمى " عرق الأنسر " . وفي بعض حالات هذا المرض ، قد توجد في نوع معين من الأدهان مواد تساعد الجسم على ترميم الضرر ، وقد تكون إحدى تلك الحالات هي المرض الذي عناه أبو هريرة والمناوي . دار الحديث ]
18ـ عليكم بالسنا و السنوت فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام و هو الموت0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 4067 في صحيح الجامع0
الشرح :
( عليكم بالسنا ) بالمد والقصر معروف ومنافعه لا تحصى ( والسنوت ) السبت أو العسل أو رغوة السمن أو حب كالكمون وليس به أو الكمون الكرماني أو الرازنانج أو التمر أو العسل الذي في زقاق السمن أقوال نقلها في الهدى وصوب آخرها ( فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السأم ) بالمهملة بغير همز ( وهو الموت ) وفيه أن الموت داء من جملة الأدواء قال الشاعر : *وكنه الموت ليس له دواء* وطريق استعمال ذلك أن يخلط السنا مدقوقاً بالعسل المخالط للسمن ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفرداً لما في العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال .
19ـ العجوة من الجنة و فيها شفاء من السم و الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4126 في صحيح الجامع0
الشرح :
( وفيها شفاء من السم ) ظاهره خصوصية عجوة المدينة وقيل أراد العموم
( والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين)أي الماء الذي تنبت فيه وهو مطر الربيع وإن كان أراد ماء الكمأة نفسها فالمراد بللها أو نداؤها الذي يخلص إلى المرود منها إذا غرز فيها واكتحل به فإنه ينفع العين الذي غلب عليها اليبس الشديد000
20ـ في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم 0
تحقيق الألباني
(5/7)
(صحيح) انظر حديث رقم: 4262 في صحيح الجامع0
الشرح :
( في عجوة العالية ) العجوة تمر بضرب إلى سواد والعالية الحوائط والقرى التي في الجهة العليا للمدينة مما يلي نجد ( أول البكرة ) بضم فسكون نصب على الظرفية ( على ريق النفس ) أي بزاق الإنسان نفسه ( شفاء من كل سحر أو سم ) لخاصية فيه أو لدعاء النبي صلى اللّه تعالى عليه وعلى آله وسلم له أو لغير ذلك وهل تناوله أول الليل كتناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السحر والسم إلى الصباح احتمالان وظاهر الإطلاق المواظبة على ذلك قال الخطابي : كون العجوة ينفع من السحر والسم إنما هو ببركة دعوة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لتمر المدينة لا لخاصية في التمر وقال ابن التين : يحتمل أن المراد نخل خاص لا يعرف الآن أو هو خاص بزمنه .
21- إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء و في الآخر شفاء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 837 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إذا وقع ) أي سقط ( الذباب ) بذال معجمة ، واحده ذبابة ( في شراب أحدكم ) ماءاً أو غيره من المائعات ، وفي رواية ابن ماجه : إذا وقع في الطعام ، وفي أخرى : وقع في إناء أحدكم ، والإناء يكون فيه كل مأكول ومشروب 0
( فليغمسه ) وفي رواية فليمقله زاد الطبراني : كله وفيه دفع توهم المجاز في الاكتفاء بغمس بعضه . والأمر إرشادي لمقابلة الداء بالدواء ( ثم لينزعه ) وفي رواية البخاري : لينزعه -بزيادة فوقية قبل الزاي - وفي الطبراني : ثم ليطرحه 0
( فإن في إحدى ) بكسر الهمزة وسكون الحاء ( جناحيه )
( داء ) أي قوة سمية يدل عليها الورم . والحكة العارضة عند لدغه وهي بمنزلة سلاحه فإذا سقط في شيء تلقاه بها . قال الزركشي : وداء منصوب اسم إن ( وفي الأخرى ) بضم الهمزة 0
(5/8)
( شفاء ) حقيقة فأمر الشارع بمقابلة السمية بما في جناحه الأخر من الشفاء؟ ولا بعد في حكمة الله أن يجعلهما في جزء الحيوان الواحد كالعقرب بإبرتها السم ويداوي منه بجزء منها ، فلا ضرورة للعدول عن الحقيقة هنا وجعله مجازاً ، كما وقع للبعض 00000
قال التوربشتي : ووجدنا لكون أحد جناحي الذباب داء والآخر دواء فيما أقامه الله لنا من عجائب خلقه وبدائع فطرته شواهد ونظائر ، منها النحلة يخرج من بطنها شراب نافع وبث في إبرتها السم الناقع . والعقرب تهيج الداء بإبرتها ، ويتداوى من ذلك بجرمها . وأما اتفاؤه بالجناح الذي فيه هذا الداء على ما ورد في رواية فإنه تعالى ألهم الحيوان بطبعه ما هو أعجب منه . فلينظر المتعجب من ذلك إلى النملة كيف تسعى لجمع القوت وتصون الحب على المدى وتجفف الحب إذا أثر فيه الندى ثم تقطع الحب لئلا ينبت وتترك الكزبرة بحالها لكونها لا تنبت وهي صحيحة . فتبارك الله . وفيه أن الماء القليل والمائع لا ينجس بوقوع مالا نفس له سائلة فيه ، إذ غمسه يفضي لموته . فلو نجسه لم يأمر به ، لكن شرطه ألا يغير ولا يطرح 0
( والأمر للندب كما ذكره في شرح الحديث 5941 . وقد أثبت ذلك الطب الحديث بدون أدنى شك ، و اختصاره أن في إحدى جناحيه نوع من الجراثيم ، وفي الآخر مضادات حيوية antibiotics . و سمعت في دار الحديث النبوي الشريف بدمشق الأستاذ الشيخ رفيق السباعي رحمه الله يروي قصة أحد المسلمين في ألمانيا ، سأله أستاذه في علم الكيمياء عن وجود هذا الحديث فقال نعم . فقال أستاذه أن الأمر سهل وأنه يمكن التأكد من صحة الحديث علميا . و بعد التجارب اكتشف الأستاذ صحة الحديث فأرسل لجامعة الأزهر بمصر للتأكد من ورود الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم 0 و عندما أتاه الخبر منهم بالإيجاب أعلن إسلامه . عرفان الرباط 0 دار الحديث )
الحبة السوداء
22ـ الحبة السوداء فيها شفاء من كل داء إلا الموت 0
تحقيق الألباني
(5/9)
(صحيح) انظر حديث رقم: 3168 في صحيح الجامع0
الشرح :
قيل : هذا من العام المراد به الخاص والمراد كل داء يحدث من الرطوبة والبرودة والبلغم لأنها حارة يابسة .
23ــ عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام و هو الموت 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4083 في صحيح الجامع0
الشرح :
( عليكم بهذه الحبة ) وفي رواية للبخاري الحبيبة مصغراً
( السوداء فإن فيها شفاء من كل داء ) يحدث من الرطوبة إذ ليس في شيء من النبات ما يجمع جميع الأمور التي تقابل جميع الطبائع في معالجة الأدواء بمقابلها إلا هي ، وأخذ من أحاديث أخر أن معنى كونها شفاء من كل داء أنها لا تستعمل في كل داء صرفاً بل ربما استعملت مفردة وربما استعملت مركبة وربما استعملت مسحوقة وغير مسحوقة أكلاً وشرباً وسعوطاً وضماداً وغير ذلك وقيل قوله من كل داء تقديره يقبل العلاج بها فإنها إنما تنفع من الأمراض الباردة لا الحارة إلا بالعرض 0000
24- في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4247 في صحيح الجامع0
الشرح :
( في الحبة ) في رواية لمسلم إن في الحبة ( السوداء ) وهي الشونيز كما في صحيح مسلم
( شفاء من كل داء ) بالمد ( إلا السام ) والسام الموت 0
0000 وفيه أن الموت داء من جملة الأدواء ، والشونيز كثير المنافع ، وقوله من كل داء من قبيل { تدمر كل شيء بأمر ربها } أي كل شيء يقبل التدمير وفي رواية لمسلم ما من داء إلا في الحبة السوداء منه شفاء إلا السام قال الخطابي : هذا من العموم الذي أريد به الخصوص ولا يجمع في طبع شيء من النبات كالشجر جميع القوى التي تقابل الطبائع كلها في معالجة الأدواء على اختلافها وتباين طبائعها وإنما أراد أنه شفاء من كل داء يحدث من كل ورطوبة وبرودة وبلغم لأنه حار يابس فيشفي ما يقابله لأن الدواء بالمضاد والفداء بالمشاكل000
العسل
25ـ كان يحب الحلواء و العسل 0
(5/10)
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4919 في صحيح الجامع0
الشرح :
( كان يحب الحلواء ) المراد هنا كما قال النووي : كل حلو وإن لم تدخله صنعة وقد تطلق على الفاكهة ( و ) عطف عليه ( العسل ) عطف خاص على عام تنبيهاً على شرفه وعموم خواصه وقد تنعقد الحلواء من السكر فيتفارقان وحبه لذلك لم يكن للتشهي وشدة نزوع النفس له وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترفه المترفين الآن بل معناه أنه إذا قدم له نال منه نيلاً صالحاً فيعلم منه أنه أعجبه وفيه حل اتخاذ الحلاوات والطيبات من الرزق وأنه لا ينافي الزهد ورد على من كره من الحلوى ما كان مصنوعاً 0
قال ابن العربي : والحلاوة محبوبة لملاءمتها للنفس والبدن ويختلف الناس في أنواع المحبوب منها كان ابن عمر يتصدق بالسكر ويقول إنه تعالى يقول { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وإني أحبه .
26- إن كان في شيء من أدويتكم خير ففى شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار توافق داء و ما أحب أن أكتوي 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1431 في صحيح الجامع0
الشرح :
000وقال القرطبي : إنما خص المذكورات لأنها أغلب أدويتهم وأنفع لهم من غيرها بحكم العادة ولا يلزم كونها كذلك في حق غيرهم ممن يخالفهم في البلد والعادة والهوى والمشاهدة قاضية باختلاف العلاج والأدوية باختلاف البلاد والعادة ( وما أحب أنا أن أكتوي ) لشدة ألم الكي فإنه يزيد على ألم المرض فلا يفعل إلا عند عدم قيام غيره مقامه ولأنه يشبه التعذيب بعذاب اللّه انتهى 0
27ـ ثلاث إن كان في شيء شفاء فشرطة محجم أو شربة عسل أو كية تصيب ألما و أنا أكره الكي و لا أحبه 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3026 في صحيح الجامع0
28- الشفاء في ثلاثة : شربة عسل و شرطة محجم و كية نار و أنهى أمتي عن الكي 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3734 في صحيح الجامع0
زيت الزيتون
(5/11)
29-ائتدموا من هذه الشجرة - يعني الزيت - و من عرض عليه طيب فليصب منه 0
تحقيق الألباني
( حسن ) انظر حديث رقم : 19 في صحيح الجامع 0
الشرح :
( ائتدموا من ) عصارة ( هذه الشجرة ) شجرة الزيتونة لما تقرر من عموم منافعها وقوله
( يعني الزيت ) مدرج من بعض رواته بياناً لما وقعت الإشارة عليه .
قال ابن العربي وللشجر قسمان طيب ومبارك فالطيب النخلة والمبارك الزيتون ومن بركة شجر الزيتون إنارتها بدهنها وهي تكشف به الأسرار للأبصار وتقلب البواطن ظواهر ولذلك ضربه الله مثلاً ( ومن عرض عليه) أن أظهر وقدم إليه 0
( طيب ) بكسر فسكون أي شيء من طيب كمسك وعنبر وغالية أي قدم إليه في نحو ضيافة أو وليمة أو هدية فلا يردّه كما يأتي في خبر ، وإذا قبله
( فليصب ) أي فليتطيب يقال أصاب بغيته نالها 00000
( منه ) ندباً فإن المنة فيه قليلة وهو غذاء الروح التي هي مطية القوى والقوى تتضاعف وتزيد به كما تزيد بالغذاء والسرور ومعاشرة الأحبة وحدوث الأمور المحبوبة وغيبة من تسر غيبته ويثقل على الروح مشهده ولهذا كان من أحب الأشياء إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وله تأثير كبير في حفظ الصحة ودفع كثير من الأسقام وأسبابها بسبب قوة الطبيعة .
30- كلوا الزيت و ادهنوا به فإنه من شجرة مباركة 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4498 في صحيح الجامع0
الشرح :
( كلوا الزيت وادهنوا به ) قال بعضهم : مثال هذا الأمر للإباحة والندب لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه ( فإنه طيب مبارك ) أي كثير الخير والنفع والأمر فيه وفيما قبله إرشادي كما مر قال ابن القيم : الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لهم وأما في البلاد الباردة فضارّ وكثرة دهن الرأس به فيها خطر بالبصر .
31 ـ ائتدموا بالزيت و ادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة 0
تحقيق الألباني
( حسن ) انظر حديث رقم : 18 فى صحيح الجامع 0
الشرح :
(5/12)
( ائتدموا بالزيت ) إرشاداً وندباً أي كلوا الخبز ( بالزيت ) المعتصر من الزيتون والباء للإلصاق أو الاستعانة أو المصاحبة والإدام بالكسر والأدم بضم فسكون ما يؤتدم به 0
وقال المطرزي : مدار التركيب على الموافقة والملائمة وهو يعم المائع وغيره ( وادهنوا به ) أي اطلوا به بدنكم بشراً وشعراً . قال في الصحاح وغيره : ادّهن على وزن افتعل تطلي بالدهن
( فإنه يخرج ) أي يتفصل ويظهر والخروج في الأصل الانفصال من المحيط إلى الخارج ويلزمه الظهور والمراد هنا أنه يعصر ( من شجرة ) أي من ثمرة شجرة ( مباركة ) لكثرة ما فيها من القوى النافعة أو لأنها لا تكاد تنبت إلا في شريف البقاع التي بورك فيها ويلزم من بركتها بركة ما يخرج منها والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء ، ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس ولا يدرك قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة هو مبارك وفيه بركة . ذكره الراغب ، قال الغزالي : والزيت يختص من سائر الادهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان . واعلم أن المخصوص المخاطب بهذا الحديث أهل قطر مخصوص وهو الحجاز ونحوه 00
الحجامة
32ــ أخبرني جبريل أن الحجم أنفع ما تداوى به الناس 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 218 في صحيح الجامع0
33- إن في الحجم شفاء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 2128 في صحيح الجامع0
الشرح :
أي من غالب الأمراض لغالب الناس في قطر مخصوص في زمن مخصوص هكذا فافهم كلام الرسول ولا عليك من ضعفاء العقول فإن هذا وأشباهه يخرج جواباً لسؤال معين يكون الحجم له من أنفع الأدوية ولا يلزم من ذلك الإطراد .
34ــ في الحجم شفاء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 4248 في صحيح الجامع0
الشرح :
(5/13)
لاستفراغه أعظم الأخلاط وهو الدم وهو في البلاد الحارة أنجح من الفصد قال الموفق البغدادي : الحجامة نتقي سطح البدن أكثر من الفصد والفصد لأعماق البدن والحجامة للصبيان في البلاد الحارة أولى من الفصد وآمن غائلة وقد يغني عن كثير من الأدية ولهذا وردت الأحاديث بذكره دون الفصد لأن العرب ما كانت تعرف إلا الحجامة غالباً وقال ابن القيم : التحقيق أن الحجامة والفصد مختلفان اختلاف الأزمان والمكان والمزاج فالحجامة في الزمان الحار والمكان الحار أولى والفصد بعكسه 0
35- الشفاء في ثلاثة:شربة عسل وشرطة محجم و كية نار وأنهى أمتي عن الكي
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3734 في صحيح الجامع0
36ـ من احتجم لسبع عشرة من الشهر و تسع عشرة و إحدى و عشرين كان له شفاء من كل داء 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 5968 في صحيح الجامع0
الشرح :
أي من كل داء سببه غلبة الدم وهذا الخبر وما اكتنفه وما أشبهه موافق لما أجمع عليه الأطباء أن الحجامة في النصف الثاني وما يليه من الربع الثالث من الشهر أنفع من أوله وآخرة ، قال ابن القيم : ومحل اختيار هذه الأوقات لها ما إذا كانت للاحتياط والتحرز عن الأذى وحفظ الصحة ، أما في مداواة الأمراض فحيث احتيج إليها وجب فعلها أيّ وقت كان .
37ـ لا يفطر من قاء و لا من احتلم و لا من احتجم 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 7742 في صحيح الجامع0
38- كان إذا اشتكى أحد رأسه قال : اذهب فاحتجم و إذا اشتكى رجله قال : اذهب فاخضبها بالحناء 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 4671 في صحيح الجامع0
الشرح :
( كان إذا اشتكى أحدٌ رأسه ) أي وجع رأسه ( قال ) له
( اذهب فاحتجم ) فإن للحجامة أثراً بيناً في شفاء بعض أنواع الصداع فلا يجعل كلام النبوة الخاص الجزئي كلياً عاماً ولا الكلي العام جزئياً خاصاً وقس على ذلك ( وإذا اشتكى رجله ) أي وجع رجله ( قال ) له
(5/14)
( اذهب فاخضبها بالحناء ) لأنه بارد يابس محلل نافع من حرق النار والورم الحارّ وللعصب إذا ضمد به ويفعل في الجراحات فعل دم الأخوين ، فلعل المراد هنا إذا اشتكى ألم رجله من إحدى هذه لعلل
39 ـ ثمن الكلب خبيث و مهر البغي خبيث و كسب الحجام خبيث 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3077 في صحيح الجامع0
الشرح :
( ثمن الكلب خبيث ) فيبطل بيعه عند الشافعي وأخذ ثمنه أكل له بالباطل أو رديء دنيء فيصح بيعه عند الحنفية قالوا الخبيث كما يستعمل في الحرام يستعمل في الرديء الدنيء
(ومهر البغي) أجرة الزانية فعيل من البغاء وهو صفة لمؤنث ولذلك سقطت التاء
( خبيث ) أي حرام إجماعاً لأن بذل العوض في الزنا ذريعة إلى التوصل إليه فيكون في التحريم مثله
( وكسب الحجام خبيث ) أي مكروه لدناءته ولا يحرم لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أعطاه أجره ولو كان حراماً لم يعطه قال الخطابي : قد يجمع الكلام بين القرائن في اللفظ ويفرق بينهما في المعنى بالأغراض والمقاصد قال القاضي : الخبيث في الأصل ما يكره لرداءته وخسته ويستعمل للحرام من حيث كرهه الشارع واسترداه كما يستعمل الطيب للحلال قال تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } أي الحرام بالحلال والرديء من المال قال سبحانه وتعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي الدنيء من المال ولما كان مهر الزانية وهو ما تأخذه عوضاً عن الزنا حرام كان الخبيث المسند إليه بمعنى الحرام وكسب الحجام لما لم يكن حراماً لأنه عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجام أجرته كان المراد من المسند إليه المعنى الثاني وأما الأول فمبني على صحة بيع الكلب فمن صححه كالحنفية فسره بالدناءة ومن لم يصححه كأصحابنا فسره بأنه حرام 0
40 ـ شر الكسب مهر البغي و ثمن الكلب و كسب الحجام 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3707 في صحيح الجامع0
الشرح :
(شر الكسب مهر البغي)أي ما تأخذه على الزنا سماه مهراً توسعاً
(5/15)
(وثمن الكلب) غير المعلم عند الحنفية وكذا المعلم عند الشافعية واختَلَفَ فيه قولُ مالك 0 ( وكسب الحجام ) حراً أو عبداً فالأولان حرامان والثالث مكروه قال القرطبي : لفظ شر من باب تعميم المشترك في مسمياته أو من استعمالها في القدر المشترك بين الحرام والمكروه .
41- أمثل ما تداويتم به الحجامة و القسط البحري 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1365 في صحيح الجامع0
الشرح :
( أمثل ما تداويتم به ) أي أنفعه وأفضله (الحجامة) لمن احتمل ذلك سناً ولاق به قطراً ومرضاً
( والقسط ) بضم القاف بخور معروف وهو فارسي معرب ( البحري ) بالنسبة لمن يليق به ذلك ويختلف باختلاف البلدان والأزمان والأشخاص فهذا جواب وقع لسؤال سال فأجيب بما يلائم حاله واحترز بالبحري وهو مكي أبيض عن الهندي وغيره وهو أسود والأول هو الأجود قال بعض الأطباء : القسط ثلاثة أنواع مكي وهو عربي أبيض وشامي وهندي وهو أسود وأجودها الأبيض وهو حار في الثالثة يابس في الثانية ينفع للرعشة واسترخاء العصب وعرق النسا ويلين الطبع ويخرج حب القرع ويجلو الكلف لطوفاً بعسل وينفع نهش الهوام والهندي أشد حرارة ولا ينافي تقييده هنا بالبحري وصفه للأسود وهو الهندي في خبر آخر لأنه كان يذكر لكل إنسان ما يوافق فحيث وصف الهندي كان الدواء يحتاج لمعالجته بما تشتد حرارته أو البحري كان دون ذلك .
42ـ خير يوم تحتجمون فيه سبع عشرة و تسع عشرة و إحدى و عشرين و ما مررت بملإ من الملائكة ليلة أسري بي إلا قالوا : عليك بالحجامة يا محمد 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 3332 في صحيح الجامع0
الشرح :
( وما مررت بملأ ) أي جماعة ( من الملائكة ليلة أسري بي ) إلى السماء ( إلا قالوا عليك بالحجامة يا محمد ) أي الزمها وأمر أمتك بها كما في خبر آخر وذلك دلالة على عظيم فضلها وبركة نفعه 0
43 -ما مررت ليلة أسري بي بملأ من الملائكة إلا كلهم يقول لي:عليك يا محمد بالحجامة 0
(5/16)
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 5672 في صحيح الجامع0
اللبن
44ـ إذا أكل أحدكم طعاما فليقل : اللهم بارك لنا فيه و أبدلنا خيرا منه و إذا شرب لبنا فليقل : اللهم بارك لنا فيه و زدنا منه فإنه ليس شيء يجزي من الطعام و الشراب إلا اللبن 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 381 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إذا أكل أحدكم ) أي أراد أن يأكل ويحتمل جعله على ظاهره
( طعاماً ) غير لبن ( فليقل ) ندباً ( اللهم بارك لنا فيه )من البركة وهي زيادة الخير ودوامه ( وأبدلنا ) بفتح الهمزة
( خيراً ) اسم تفضيل وأصله أخير فلا يراد أنها ليست على وزن أفعل
( منه ) من طعام الجنة أو أعم فيشمل خير الدارين ويؤيده أن النكرة في سياق الدعاء تعم وإن كانت للإثبات
( وإذا شرب ) أي تناول ( لبنا ) ولو غير حليب وعبر بالشرب لأنه الغالب
( فليقل) ندباً ( اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه ) ولا يقل خيراً منه لأنه ليس في الأطعمة خير منه ( فإنه ليس بشيء يجزئ ) بضم أوله أي يكفي يقال جزأت الإبل بالرطب عن الماء اكتفت
( من الطعام والشراب إلا اللبن ) يعني لا يكفي في دفع العطش والجوع معاً شيء واحد إلا هو لأنه وإن كان بسيطاً في الحس لكنه مركب من أصل الخلقة تركيباً طبيعياً من جواهر ثلاث جبنية وسمنية ومائية فالجبنية باردة رطبة مغذية للبدن والسمنية معتدلة في الحرارة والرطوبة ملائمة للبدن الإنساني الصحيح كثيرة المنافع والمائية حارة رطبة مطلقة للطبيعة مرطبة للبدن فلذلك لا يجزئ من الطعام غيره وهو أفضل من العسل على ما عليه السبكي وألف فيه لكن عكس بعضهم وجمع ابن رسلان بأن الأفضل من جهة التغذي والري اللبن والعسل أفضل من حيث عموم المنافع والحلاوة وقضية الحديث أيضاً أن اللبن أفضل من اللحم ويعارضه الخبر الآتي أفضل طعام أهل الدنيا والآخرة اللحم 0
45- إذا شربتم اللبن فتمضمضوا منه فإن له دسما 0
تحقيق الألباني
(5/17)
(صحيح) انظر حديث رقم: 628 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إذا شربتم اللبن ) أي فرغتم من شربه ( فتمضمضوا ) إرشاداً أو ندباً بالماء ( منه ) أي من أثره وفضلته ، وعلل ذلك بقوله
( فإن له دسماً ) وقيس باللبن المضمضة من ذي دسم بل أخذ من مضمضته صلى الله عليه وسلم من السويق ندبها في غير ما له دسم أيضاً إذا كان يعلق منه شيء بين الأسنان أو نواحي الفم ، وذكر بعض الأطباء أن بقايا اللبن يضر باللثة والأسنان،وللمضمضة عند الأكل وشرب غير الماء فوائد دينية منها سلامة الأسنان من الحفر ونحوه إذ بقايا المأكول يورثه ،وسلامة الفم من البخر وغير ذلك000
46- ثلاث لا ترد : الوسائد و الدهن و اللبن 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 3046 في صحيح الجامع0
الشرح :
( ثلاث لا ترد ) أي لا ينبغي ردها ( الوسائد ) جمع وسادة المخدة
( والدهن ) قال الترمذي : يعني بالدهن الطيب
( واللبن ) قال الطيبي : يريد أن يكرم الضيف بالطيب والوسادة واللبن ولا يردها فإنها هدية قليلة المنة فلا ينبغي ردها .
الحناء
47- إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب : الحناء و الكتم 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 1546 في صحيح الجامع0
الشرح :
( إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب ) وهو بياض الشعر( الحناء)بكسر فتشديد فمد
( والكتم ) بالتحريك نبت يخلط بالوسمة ويختضب به ذكره في الصحاح ورقه كورق الزيتون وله ثمرة قدر الفلفل وليس هو ورق النيل كما وهم ولا يشكل بالنهي عن الخضاب بالسواد لأن الكتم إنما يسوّد منفرداً فإذا ضم للحناء صير الشعر بين أحمر وأسود والمنهي عنه الأسود البحت وقيل الواو بمعنى أو على التخيير والتعاقب لا الجمع وهنا أجوبة مدخولة فاحذرها .
48- سيد ريحان أهل الجنة الحناء 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3677 في صحيح الجامع0
49- كان لا يصيبه قرحة و لا شوكة إلا وضع عليها الحناء 0
تحقيق الألباني
(حسن) انظر حديث رقم: 4860 في صحيح الجامع0
الشرح :
(5/18)
(كان لا يصيبه قرحة)بالضم والفتح(ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء)لما مر أنها قابضة يابسة تبرد فهي في غاية المناسبة للقروح والجروح وهذا من طبه الحسن0
القسط البحرى
50ـ خير ما تداويتم به الحجامة و القسط البحري و لا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة 0
تحقيق الألباني
(صحيح) انظر حديث رقم: 3324 في صحيح الجامع0
الشرح :
( خير ما تداويتم به الحجامة ) سيما في البلاد الحارة
( والقسط البحري ) وهو الأبيض فإنه يقطع البلغم وينفع الكبد والمعدة وحمى الربع والورد والسموم وغيرها وفي رواية بدل البحري الهندي وهو الأسود وهو يقرب منه لكن أيبس ولا تعارض لأنه وصف لكل ما يلائمه فحيث وصف الهندي كان الاحتجاج في المعالجة إلى دواء شديد الحرارة وحيث وصف البحري كان دون ذلك في الحرارة لأن الهندي أشد حرارة وقد ذكر الأطباء من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول ويقتل دود الأمعاء ويدفع السم وحمى الربع والورد ويسخن المعدة ويحرك الباءة ويذهب الكلف 0
( ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة ) بضم المهملة وسكون المعجمة وجع في الحلق يعترى الصبيان غالباً وقيل قرحة تخرج بين الأذن والحلق سميت به لأنها تخرج عند طلوع العذراء كوكب تحت الشعرى وطلوعها يكون في الحر والمعنى عالجوا العذرة بالقسط ولا تعذبوهم بالغمز وذلك أن مادة العذرة دم يغلب عليه بلغم وفي القسط تخفيف للرطوبة والأدوية الحارة قد تنفع في الأمراض الحارة بالعرض .
أحاديث لا تصح في الحجامة
من كتاب(ضعيف الجامع الصغير)
1 ـ من احتجم يوم الأربعاء أو يوم السبت فرأى في جسده وضحا فلا يلومن إلا نفسه0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2924 في ضعيف الجامع0
2ـ من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان دواء لداء سنة 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2924 في ضعيف الجامع0
3 ـ من احتجم يوم الخميس فمرض فيه مات فيه 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2924 في ضعيف الجامع0
(5/19)
4 ـ احتجموا لخمس عشرة أو لسبع عشرة أو لتسع عشرة أو إحدى و عشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2924 في ضعيف الجامع.0
5 ـ نعم العبد الحجام يذهب بالدم و يخف الصلب و يجلو عن البصر 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 3244 في ضعيف الجامع0
6 ـ حلق القفا من غير حجامة مجوسية 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2740 في ضعيف الجامع0
7 ـ إني وهبت لخالتي غلاما و أنا أرجو أن يبارك الله لها فيه فقلت لها : لا تسلميه حجاما و لا صائغا و لا قصابا 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2098 في ضعيف الجامع.0
8 ـ العرب للعرب أكفاء و الموالي أكفاء للموالي إلا حائك أوحجام 0
تحقيق الألباني
(موضوع) انظر حديث رقم: 3857 في ضعيف الجامع0
9 ــ إذا اشتد الحر فاستعينوا بالحجامة لا يتبيغ الدم بأحدكم فيقتله 0
تحقيق الألباني
(موضوع) انظر حديث رقم: 367 في ضعيف الجامع0
10 ـ استعينوا على شدة الحر بالحجامة فإن الدم ربما يتبيغ بالرجل 0
تحقيق الألباني
(موضوع) انظر حديث رقم: 820 في ضعيف الجامع0
11- عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها دواء من اثنين و سبعين داء و خمسة أدواء : من الجنون و الجذام و البرص و وجع الأضراس0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 3758 في ضعيف الجامع0
12 ـ إن خير ما تداويتم به اللدود و السعوط و الحجامة و المشي و خير ما اكتحلتم به الإثمد فإنه يجلوا البصر و ينبت الشعر 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 1855 في ضعيف الجامع0
13 ـ ثلاث لا يفطرن الصائم : الحجامة و القيء و الاحتلام 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2567 في ضعيف الجامع0
14 ـ الحجامة تكره في أول الهلال و لا يرجى نفعها حتى ينقص الهلال 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 2754 في ضعيف الجامع0
(5/20)
15- الحجامة في الرأس شفاء من سبع إذا ما نوى صاحبها:من الجنون و الصداع و الجذام و البرص و النعاس و وجع الضرس و ظلمة يجدها في عينيه 0
تحقيق الألباني
(موضوع) انظر حديث رقم: 2756 في ضعيف الجامع0
16- الحجامة في الرأس من الجنون و الجذام و البرص و الأضراس و النعاس0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
17-الحجامة في الرأس هي المغيثة أمرني بها جبريل حين أكلت طعام اليهودية0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
18 ـ الحجامة يوم الأحد شفاء 0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
19ـ الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء سنة 0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
20 ـ خمس من سنن المرسلين : الحياء و الحلم و الحجامة و التعطر و 0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
21 ـ خير الدواء اللدود و السعوط و المشي و الحجامة و العلق 0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
22 ـ قطع العرق مسقمة و الحجامة خير منه 0
تحقيق الألباني
(ضعيف جدا) انظر حديث رقم: 2757 في ضعيف الجامع0
23 ـ إن في الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات 0
تحقيق الألباني
(موضوع) انظر حديث رقم: 1888 في ضعيف الجامع0
24 ـ ما أصاب الحجام فاعلفوه الناضح 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 3244 في ضعيف الجامع0
25 ـ نهى عن كسب الحجام 0
تحقيق الألباني
(ضعيف) انظر حديث رقم: 3244 في ضعيف الجامع0
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين0
تعريف مبسط بـ كتاب (صحيح الجامع الصغير وزيادته)
ألف الحافظ السيوطى كتاب (الجامع الصغير من حديث البشير النذير)
ثم ألف (الزيادة على الجامع الصغير)
(5/21)
ثم ضم الشيخ يوسف النبهانى( الزيادة على الجامع الصغير)الى(الجامع الصغير من حديث البشير النذير)وسماه ( الفتح الكبير في ضم الزيادة الى الجامع الصغير)
شرح الشيخ المناوى(الجامع الصغير من حديث البشير النذير)
ثم حقق الالبانى ( الفتح الكبير في ضم الزيادة الى الجامع الصغير)
وصنف(صحيح الجامع الصغير وزيادته)أورد فيه8202حديث صحيح
(ضعيف الجامع الصغير وزيادته)أورد فيه6452حديث بين الضعيف إلى الموضوع فيكون المجموع النهائي لهذه الموسوعة 14654 حديث
(بتصرف من (صحيح الجامع الصغير وزيادته) للشيخ الألبانى رحمه الله)
ahmdmotaz@hotmail.com
إعداد: أبو أحمد معتز أحمد عبد الفتاح
(5/22)