عيادات العلاج بالقرآن الكريم
(منهج مقترح)
أ.د. طارق بن علي الحبيب
بروفسور واستشاري الطب النفسي بكلية الطب جامعة الملك سعود بالرياض ومستشار الهيئة العامة للخدمات الصحية لإمارة أبو ظبي
اختلف الناس في شأن فكرة إنشاء عيادات للعلاج بالقرآن تكون تحت إشراف لجنة من العلماء الذين يقومون بمنح التصاريح للرقاة و متابعتهم و توجيههم .
يقول الشيخ علي بن نفيع العلياني : ينادي بعض المصلحين بإنشاء عيادات قرآنية و تفرغ البعض لرقية الناس و نفعهم من خلال ذلك . و في الحقيقة أن هذه الكيفية في نظري قد يترتب عليها مفاسد\ كثيرة بالنسبة للقارئ و المقروء عليه على حد سواء .و من تلك المفاسد على سبيل المثال لا الحصر ما يلي :
أولا : أن اجتماع عدد كبير من الناس عند قارئ معين قد يجعل عوام الناس يعتقدون بأن لذلك القارئ خصوصية معينة مما يؤدي إلى طغيان أهميته و مكانته عندهم على أهمية كلام الله ، بل لايكاد يفكر كثير من الناس في أهمية المقروء وفائدته ، و إنما تتجه أنظارهم فقط إلى شخص القارئ .و الأصل في الرقية هو المقروء ، و القارئ تبع لذلك و لا ينكر ما لصلاح القارئ و قوة إيمانه و ثقته بربه و توكله عليه من تأثير ، و لكنه تابع للمؤثر الأصلي وهو كلام رب العالمين . و لذلك فإن أي ذريعة تضعف ثقة الناس بالمقروء (القرآن ) فإنه ينبغي أن تسد .(1/1)
ثانيا :أنه بالنظر إلى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - و سيرة أصحابه وسيرة علماء الإسلام الموثوق بعلمهم و فضلهم لم نر أحدا منهم انقطع عن أعماله و قصر نفسه على معالجة المرضى بالرقى و اتخذها حرفة و اشتهر بها بين الناس بحيث إذا ذكر اسمه اقترن بهذه الحرفة .و لا شك أن الناس في كل زمان تكثر فيهم الأمراض و لم نر أحدا من خلفاء المسلمين نصب نفسه قارئا يقرأ على المرضى كما ينصب المفتين و القضاة ،وإنما المريض يقرأ على نفسه من كتاب الله و إن فقابله عالم ذو فضل و ديانة و طلب منه الرقية و قرأ عليه فلا حرج ، و من المعلوم أن المشروع بأصله قد يمنع إذا صاحبته كيفية مستحدثة و لو كان الانقطاع لمعالجة المرضى بالرقى و اتخاذها حرفة و الاشتهار بها بين الناس خيرا لسبقنا إليه الأوائل .
ثالثا: أن الشياطين عندما ترى تعلق الناس بشخص ما قد تساعده وهو لا يشعر فتعلن خوفها منه و خروجها من المريض و نحو ذلك لتزداد ثقة الناس بالشخص أكثر من ثقتهم بما يتلوه و ليعتقدوا أن فيه سرا معينا .
رابعا : قد يصاب بعض الرقاة بالعجب بسبب ازدحام الناس على بابه و كثرة من يعافيهم الله برقيته ، فيتوهم أنه من الأولياء البررة، و قد كان السلف الصالح –رضوان الله عليهم- يخشون هذا الأمر و يسدون مداخله .و ليس حال القارئ المتقدم صفته كالطبيب الذي يزدحم الناس على بابه لأن الطبيب يعالج بعلاج معروف و لا يشعر أن العلاج لا ينفع إلا إذا وصفه هو بل يعتقد أن الأمر مرتبط بالعلاج لا بشخصه بخلاف الراقي إلا من رحم الله .(1/2)
خامسا : نظرا لما تدره تلك الكيفية السابقة على أصحابها من أموال طائلة قد يتظاهر بعض المشعوذين و الدجالين بالقراءة فيفتحون دكاكين لهذا الغرض و يخلطون الحق بالباطل ، فينفتح بذلك على الناس باب شر كبير ، و لا يحصل إنكار المشعوذين لاختلاط أمرهم بالقراء الذين لا يخلطون مع قراءاتهم شعوذة و كهانة فيصعب التمييز. ومن المعلوم أنه يجب سد الذرائع المفضية إلى الشر و إن كان قصد صاحبها البحث عن الحق .و من هذا الباب فقد منع عبد الله بن مسعود و أصحابه ،وجمع من العلماء المحققين تعلق القرآن سدا للذرائع ، لئلا يفضي ذلك إلى تعلّق التمائم .
سادسا : لقد اشتهر بعض الصحابة بإجابة الدعاء كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وهو أحد الذين دعا لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - باستجابة الدعاء ، كما اشتهر بذلك بعض التابعين كأويس القرني رضي الله عنه ومع هذا لم يؤثر أن المسلمين تزاحموا على أبوابهم أفواجا إثر أفواج لطلب الدعاء رغم حاجة المسلمين إلى إجابة دعائهم في صلاح دينهم و دنياهم ،مع أنه من المعلوم بأنه ليس هناك مانع شرعي من أن يأتي الفرد المسلم و يطلب الدعاء من أحدهم مثلما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أويس القرني ، بل إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أرشده لذلك . و رغم ذلك كله فإن عمر بن الخطاب لا شك بأنه لو رأى أهل المدينة اجتمعوا على أويس لطلب الدعاء ، و قدم كذلك أهل مكة و أهل العراق أو غيرهم لهذا الغرض لمنعهم من ذلك مع فعله له ، و ذلك خشية على الناس من الفتنة و خشية على أويس القرني من الفتنة أيضا.
سابعا : أن انتشار هذه الظواهر قد يوهم عوام الناس ومن لا علم عنده بأن هذه الكفيفة هي الطريقة الصحيحة للرقية ، فيظل الناس يطلبون الرقية من غيرهم و تتعطل سنة رقية الأفراد لأنفسهم ، و انطراحهم بين يدي رب السماوات و الأرض و سؤاله الشفاء (1).(1/3)
وفي المقابل هناك فريق آخر يرى انه لا يوجد ما منع من إنشاء عيادات قرآنية. يقول الشيخ عبد المحسن العبيكان:إن هناك من القراء من يعمل أعمالا مخالفة لعملية الرقية و لا يتقيد بالضوابط الشرعية ، ويستغل حاجة الناس مما أساء إلى سمعة المعالجين.
(1) الرقى على ضوء أهل السنة ، علي نفيع العلياني ، ص 67 -89 بتصرف
و لم يكن هناك من السلف الصالح من اتخذ هذا العمل حرفة و عرف به ،و إنما إذا احتاج أحد رقاه إما في بيته أو في المسجد أو في السوق ، من غير أن يكون هناك تنظيم معين ، مع أنه لا يمنع أن يكون هناك تنظيم أو يكون هناك أناس يتفرغون لا أرى في ذلك مانعا و لكن لابد من الضوابط الشرعية ، و أن يكون عليه رقابة حتى لا تستغل حاجة الناس ، و أن يكون عند القارئ الدراية و المعرفة ، لأنه قد يستعمل و سائل غير صحيحة و مضرة ، و ليست شرعية (1).
و بعد كل ماذكرت ، و لجعل الأمر أكثر وضوحا سنحاول ان نحصر سلبيات و إيجابيات إنشاء مثل تلك العيادات حتى نستطيع أن نصل إلى تصور عملي .
الإيجابيات :
منع أهل السحر و الدجل و الشعوذة من رقية الناس .
تعليم قليلي الحظ من العلم الشرعي من الرقاة .
توجيه الرقاة إلى منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقية.
أن هذه العيادات المتخصصة ستكون مكانا مناسبا لإجراء بعض الدراسات الطبية الشرعية التي يتعاون فيها العلماء و الأطباء .
أن هذه العيادات المتخصصة و ما ينتج عنها من دراسات علمية مقننة بمنهج البحث العلمي المؤطر بضوابط الشرع قد تكون نواة لفتح كبير في الطب الإسلامي .
ان إنشاء مثل هذه العيادات سيعطي تقييما واضحا نوعا ما عن مدى و طبيعة أثر الرقية و نفعها لأي نوع من الأمراض ، و غير ذلك من الأمور التي لم تدرس بمنهجية متكاملة عبر تاريخ الأمة الإسلامية .
أنه يمكن من خلال هذه العيادات حفظ أموال الناس وصون أعراضهم من ان يتلاعب بها بعض الجهال .(1/4)
أن منع إنشاء مثل هذه العيادات سيجعل الناس – كما هي العادة في الحرص على كل ما هو ممنوع – أن يطلبوا العلاج بخفية عند من لا يُعلم علمه من جهله و لا صدقه من كذبه فضلا عن أنه ربما يكون من السحرة او المشعوذين أو القساوسة الذين يعالجون المسلم بتعليق الصليب على رأسه فيعود و قد خسر الدنيا و الآخرة.
أنها تمثل مجلا خصبا للدعاة إلى الله في توجيه الناس و إرشادهم و توضيح أثر الرقية و دور الراقي و ربط الناس بالله ،وأن الراقي لا يؤثر بنفسه و إنما بالقرآن . كما يعلمونهم كيف يرقون أنفسهم و يرقون ذويهم مما يساعد مع مرور الزمن على اتزان نظرة الناس و إدراكهم بوضوح لهذا الأمر .
و بالإضافة إلى ذلك فإن هناك الكثير من الإيجابيات مما لايتسع المجال لحصره
مجلة الدعوة 7/9/1417هـ
السلبيات :
أن هذا الأمر مستجد على الأمة و لم يعهد عن السلف . و في الحقيقة لو دققنا النظر لوجدنا أن هذا الأمر معروف عند سلف الأمة ، لكن لم يتم تنظيمه في عيادات أو على نحو آخر .
قد يتعلق الناس بالراقي أكثر من الرقية ، و في هذا خطر على عقيدة المسلم وفتنة الراقي في آن واحد ، لكن هذا الخطر لا يقع – بإذن الله – إذا تم تطبيق منهج العلاج المقترح أدناه .
و لقد نظرت في هذا الأمر و تأملته و استقرأت القرآن و السنة و راجعت كلام السلف ، و حاورت العديد من العلماء ، و أرى انه يمكن عمل ما يلي :(1/5)
1) الاتفاق على البعد عن أي خطوة تسعى إلى تصنيف العلل الروحية إلى سحر و جان و عين ، لأن ذلك لا يمكن القطع به وقد سحر سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - و لم يعلم أنه مسحور إلا حينما جاءه الخبر من عند ربه ، فكيف يعلم غيره من البشر .إضافة إلى ذلك قد يؤدي إلى حدوث أثر نفسي بالغ يعتري المريض حينما يبلغه أنه مصاب بشيء من تلك الأمور الغيبية . و تزداد عدم فائدة ذلك إذا علمنا أن علاج كل تلك الأمور الغيبية – إلا في أحيان نادرة – هو بالقرآن فما الفائدة إذا من التشخيص .
2) ل أي خطوة من وزارة الصحة في هذا الجانب يجب أن تقوم السلطات الشرعية مثل : وزارة الشؤون الإسلامية تقنين العلاج بالقرآن و نبذ ما اعتراه من اجتهادات بعض المعالجين بالقرآن و تقديم المنهج النبوي في ذلك.
3) يلي ذلك إنشاء لجنة مشتركة من الوزارتين ممن لهم باع علمي واهتمام شخصي في هذا الأمر ، يكون دورها تقديم منهج علاجي يشمل العلاج بالقرآن وكذلك أقصى ما توصل إليه الكب الحديث .
و أرجو أن لا يقتصر دور هذه اللجنة على التوصية بضرورة اعتبار القرآن في العلاج ، فهذا أمر معروف ن ولكن يجب عليهم تقديم آلية ذلك على أرض الواقع و متابعة تنفيذه و مراجعته بشكل دوري و حل أي عوائق تعترض تطبيق شيء منه كما يجب أن لا يقتصر دورهم على معاقبة و منع الرقاة كما هو حاصل هذه الأيام و إنما الإرشاد و التوجيه أيضا .
4) يتم إنشاء معاهد للمعالجين بالقرآن يتلقون فيها أصول العلاج بالقرآن و ضوابطه و كذلك توعية جيدة بالأمراض العضوية و النفسية (أعراض الأمراض دون وسائل العلاج حتى لا يساء استخدام هذه التوعية)(1/6)
و كذلك تدريبا على منهج العلاج التكاملي مع مختلف التخصصات و كيف يكون عضوا فاعلا في الفريق الطبي . و تكون الدراسة نظرية و عملية يشترك العلماء و المتخصصون في وضع خططها الدراسية و متابعتها و منح الشهادات التي تؤهل الخريج للعمل في المستشفيات حيث يستلزم ذلك إنشاء مسميات وظيفية جديدة (معالج بالقرآن ) و يكون للمعالج مرتب شهري مثل أي موظف حكومي آخر .
5) منع أي أحد كائنا من كان من علاج الناس بالقرآن إلا في تلك العيادات ، و ذلك بعد إجازته من اللجنة الشرعية و اتباعه لمنهج الرقية الذي تقره اللجنة و ذلك حتى لا يندس أهل الشعوذة و الدجل .
6) منع أي راق أجازته اللجنة من نهج أي أسلوب جديد في الرقية إلا بعد إجازة ذلك من اللجنة الشرعية .
7) عدم قبول أي مريض للمعالجة في هذه العيادات دون أن يتم تقييمه طبيا . و بهذه الطريقة نستطيع توظيف إيمان الناس بالرقية الشرعية –وهو حق- في تشخيص عللهم الأخرى و علاجهم و توجيههم بطريقة صحيحة يجتمع فيها نفع الطب الحديث مع بركة العلاج بالقرآن.
8) يجب عدم قصر هذه العيادات على العيادات النفسية ،و إنما يجب تعميمها على جميع العيادات الطبية ، و ذلك لأنه لا يوجد نص في القرآن أو السنة يقصر نفع القرآن على الأمراض النفسية دون العضوية .
9) يجب أن لا يقتصر دور المعالج على قراءة القرآن فقط ، بل أيضا تقديم التوجيهات للمرضى و التي تكون قد أعدتها اللجنة سالفة الذكر .(1/7)
و لعل الناظر في واقع الناس اليوم يجد أن الخطر أكبر إذا بقي الحال على ما هو عليه حيث إن أي أحد يمكن أن يفتح باب بيته و يشخص و يعالج كيف يشاء دون إشراف او توجيه .أما لو تم تنظيم العيادات فيصبح الراقي كالطبيب الذي يأتي إلى عيادته و كل شيء ضمن برنامج و إطار معين ، و بمكن أن يكون أكثر من راق في عيادة واحدة . كما أنه يجب أن يسعى المنظمون إلى تعميق أثر القرآن في نفوس الناس و استغلال ذلك ليس فقط في عدم فتنتهم بالراقي و غنما في تقوية عقائدهم و تصفيتها من الشوائب.
و أما القول بأن الصحابة لم يجعلوا دورا للعلاج بالقرآن ن فربما لأنه لم توجد الحاجة كما هو الحال اليوم . إضافة إلى ذلك فإنه ليس في هذا الأمر ابتداع و إنما هو تنظيم لأمر مشروع و قائم أصلا هدفه نفع الناس و تسهيل أمورهم ، و الذي يمكن أن نقول عنه في أسوأ أحواله : أنه خير من الوضع القائم .
و أما القول باحتمال اعتقاد النسا بخصوصية قارئ معين مما يؤدي إلى طغيان مكانته و أهميته عند الناس على أهمية كلام الله فيمكن منع ذلك من خلال تقنين العلاج بالقرآن وتوعية الناس في ذلك و عدم تركهم يلجأون للعلاج دون إرشاد و توجيه .و كذلك الأمر بالنسبة لاحتمال حدوث العجب عند القارئ فيمكن علاجه بنفس الطريقة علما بأن العجب قد يعتري أي متخصص يبدع في تخصصه و يرى آثار نجاحه .فهل من باب لسد الذرائع أن نمنع أي عمل ناجح خوفا من العجب مع عدم وجود محذور شرعي واضح. و كذلك أيضا بالنسبة للخوف من تظاهر المشعوذين بالعلاج بالقرآن فإن منع ممارسة العلاج بالقرآن خارج العيادات سالفة الذكر يمنع- إلى حد كبير – وقوع مثل هذا المحذور .(1/8)