دعوة بلا حدود (1/2) يوم أن قتلتني طبيبتي..!
ندى بنت عبدالعزيز محمد اليوسفي
صراحةً كنتُ أقسو كثيراً على الطبيبات بكلماتي، وروايتي الأحاديث التي أسمعها عن سلوكهنّ من هنا وهناك، ولم أكن بِدعاً في ذلك أمام كثيرٍ من أفراد هذا المجتمع الذين يرون في عملِ الطبيبة خرقاً لكل شرعٍ وعُرف، كنتُ أحارب عمل المرأة في المجال الطبي بكل قوة، ولا أفكّر أبداً في حاجتنا فعلاً للطبيبات والممرضات النساء المُؤتَمنَات المسلمات، بل وسعيتُ بشتّى الطُرُق لِحَرفِ ابنة أخي عن دراسة الطب.
لكن كان ماتحمله في قلبها من همّ، و ما ترنو إليه من حلم، أقوى من ألف ألف سلاح، وكلمة فمّ. كانَت تردّد أنّ لا نجاة لمجالاتنا الطبية من النظام الغربي المتفشّي إلا أن يمسك زمامه أخوةٌ صالحون، و أن يكثر سواد المستقيمات والمستقيمين في الكليات الطبية.
كانت تنظر إلى الغد بتفاؤل، ولا تقصر في طرق أي باب يوصلها لما تريد في سبيل إصلاح زميلاتها، والتحرر من المخالفات الشرعية في التعليم الطبي قدر الإمكان، كانت تُطالِب بالمُخاطَبة والمُكاتَبَة، وكم رأينا وجهها يتهللُّ بشرَاً وفرحاً عند نجاح مسعاها في أمر، وكم رأيناها تبكي وتحاول التنفيس عما في النفس من إحباطٍ وهمّ عند فشلها في تحقيق أمر. كانت تتقلّب بين تلك الحالتين فترة دراستها، وكنتُ أنا من وراء الجدار أُراقِب، و بخوفٍ أترقّب، ويكفيني ما أصاب علاقتي بأخي بسبب هذا الأمر، حتى كان ذلك اليوم.
فاجأني ألمٌ بالبطنِ شديد، حملني زوجي للمستشفى القريب، كان انسداداً حادّاً في الأمعاء، ويحتاجُ جراحةً عاجلة، لم نجد إلا جرّاحاً رجلاً، رفضتُ، وقضينا تلك الليلة نقطع العاصمة ذهاباً وإياباً بحثاً عن مستشفى فيه جرّاحة امرأة، وكان ما أطلب من سابع المستحيلات، سلّمت نفسي مُكرَهة لمبضع الجرّاح، وكم زاد ألمي ألماً لاضطراري للتكشّف أمام طاقم الجراحة ولم أكن قد تكشّفت أمام طبيبٍ رجلٍ قطّ.(1/1)
أفقتُ من التخدير وإذ بابنة أخي فوق رأسي بلباس العمليات، وهي طالبة في ذلك المستشفى، تسأل عن حالي، وقد لاحظَت اضطرابي وسعيي للتأكّد من ستر جسمي، أمسكت بيدي بحنان، وهي تطمئنني وتقول لا تقلقي ولا تخافي، اتصل زوجكِ سائلاً عن مهارة الجرّاح وأخبرنا بجراحتكِ العاجلة، فجئتُ مع أبي للمستشفى، وكنتُ معكِ من بداية تخديرك، و حاولت أن لا يتجاوزوا كشف موضع العملية فقط، و حرّصتُ إحدى العاملات أن لا تُدخِل من ذاك الباب أحد.
أهويتُ دون شعورٍ مني على يديها أقّبلها، رفعَت يدها بسرعة، ورفعت نقابها الأخضر، وهوت على رأسي تقبّله بابتسامة وهي تتمتم: (لا بأس، طهور إن شاء الله). ونُقِلت بعدها إلى جناح التنويم، وودّعتني، كنتُ عاجزة عن التحرّك من السرير للألم، وكان صوت التلفاز يزعجني بمعازفه، وصعُب عليّ التفاهم مع الممرضات، وخالفت رغبتي رغبة المريضات الأخريات.
فجأة سمعتُ صوت التلفاز يخفّض، والستائر على المريضات تُغلَق، ويُطلَب منهنّ التحجّب فجولة الأطباء اليومية تكادُ تبدأ، عرفتُ ذلك الصوت وزدتُ به فخراً وفرحاً، زارتني بعد انقضاء الجولة الصباحية ومعها دعاء زيارة المريض لتعلّقه فوق سريري.
آهٍ يا ابنتي لقد قتلتني بحملكِ الهمّ، لقد قتلتِ فيني ذلك الوهم، لقد قتلتِ فيني كل نظرة انتقاص أو ازدراء لمن حملت على عاتقها إسعاد المؤمنات وسترهنّ و حراسةِ عفافهنّ. تُرى كيف سنطمئنّ إلى أنفسنا وأعراضنا وعوراتنا في المستشفيات مالم نطمئِنّ لوجود أمثالكنّ..؟!!.
المستشفيات يستحيل أن تُغلَق، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم وسيلة توصلهُ لما يرضي الله، و وجود الصالحين والصالحات هو ما سيشحذ العمل الدعوي في هذا القطاع، وسيعجّل بأسلمته، وارتفاع الأصوات بالمطالبة بإصلاحه وفصل الرجال عن النساء به.(1/2)
و مع تزايد الحاجة لعملٍ منظّم مُثمِر للدعوة إلى الله في الأوساط النسائية في المجال الصحي وإصلاح أوضاعه ودعوة أهله بالحكمة والموعظة الحسنة وللإعانة في ترجمة الأفكار لواقع مُثمِر؛ كان انضمام بعض الصالحات لهذا المجال احتساباً وجهاداً، وعلى الرغم من قلّتهنّ بالنسبة لغيرهنّ من العاملات؛ لكن ربّ قليلٍ تُكَثّره النّية، والقليل مع الإخلاص؛ كثير.
العاملة في المجال الصحي، طبيبة كانت أو صيدلانية أو ممرضة أو محضّرَة مختبر، أو فنّية أشعّة، أو مشرفة اجتماعية أو إدارية، ينبغي أن تعلم أن الدعوة إلى الله سبيل الأنبياء و باب للأجر تستطيع أن تبني به جبال من الحسنات ولأن يهدي بها الله امرأة واحدة خير لها من حمر النعم، والدنيا معبر لدار المستقر، و هي محاسبة على كل صغيرة وكبيرة.
ينبغي أن تمتثل الإسلام حقّ الامتثال فتكون داعية بأخلاقها وتعاملها، داعية بحجابها و حشمتها، داعية بحيائها وامتثالها للأوامر الإلهية مهما كلفها ذلك، داعية بلسانها ومالها، داعية بسنّها السنن الحسنة و الصلابة في الحق و عدم تقديم التنازلات وأن لا تخاف في الله لومة لائم، داعية بتغييرها المنكر والتحرّر من المخالفات الشرعية في بيئة عملها قدر الإمكان.
داعية بنشرها الخير وأمرها بالمعروف بين زميلاتها، داعية بتواضعها و تسامحها و نصح مريضاتها، داعية بتفقيههن بأحكام الطهارة والصلاة وتذكيرهن بتجديد التوبة واللجوء إلى الله والتوكل عليه.
تذكّر نفسها بأن النصرانية ما انتشرت إلا عبر بوابة الطب وحفظ الصحة فتسعى حثيثة لأن تقدم الدعوة للدين الحق والعلاج بل وتحرص على دعوة من يخالطنها في مجال العمل من المسلمات وغير المسلمات.(1/3)
متى ماعلمت العاملات في المجال الصحي ذلك وامتثلنه فلنتيقّن -بإذن الله- أنهن سيصبحن مشاعل هداية في مواجهة العقبات و آفات الطريق، وسيكون ذلك فتحاً لهذا الدين وخيراً على أهله، وإصلاحاً لفسادِ هذا المجال و تفرنجه الذي ضاقت به نفوس الموحّدين عقوداً.
لتبدأ كل واحدة بنفسها فلتربها، ولتصلح شأنها، سلاحها التقوى، لتشكر نعمة الله أن هداها و رزقها الثبات في زمنٍ يموج بالفتن والشهوات والشبهات.
لتبادر بالعمل لهذا الدين، علماً وتعليماً ودعوة وأمراً بالمعروف و نهياً عن المنكر، ولتبذل في ذلك الغالي والنّفيس.
لتصبر نفسها مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، و لتحتسب ما قد تلاقيه من صنوف الأذى فهي داعية قبل أن تكون عاملة في المجال الصحي، بل داعية وهي على مقاعد الدراسة في كليتها.
لتدرك أهمية العلم الشرعي فتسعى حثيثة في طلبه فهي تعلم أنها متى ما أخلصت النية فالله تعالى يبارك في أوقاتها وعملها.
ولتحافظ على التوازن و إعطاء كل ذي حق حقه في حياتها العلمية والعملية و حقوقها الأسرية تجاه زوجها وأولادها وأهلها.
ولتعلم أنها مطالبة بإتقان عملها و لتحتسب هذا العمل لتقلب عملها ودراستها إلى عبادة تثاب عليها.
ولتعلم أن الطب أرض خصبة للدعوة، لإنارة المشاعل، لهداية الحائرين، الطب طب للأرواح قبل الأبدان، طب للنفوس والأفئدة التائهة، علاج للقلوب المضطربة، إنارة لدروب الحيارى بآي القرآن.
يقول الشيخ الدكتور عبد الله وكيل الشيخ: ( نأمل أن نرى المجال الطبي من أنشط المجالات في نشر الدعوة وحض الناس على الخير، ولسنا نطلب أن تنقلب العيادات والمستشفيات إلى قاعات محاضرات ولا إلى منابر واعظين، وإنما نبتغي أن يستغل العاملون في هذا المجال مواقعهم المؤثرة لأجل أن يبلغوا ما يستطيعون من الخير وأن يتخففوا قدر ما يستطيعون من المخالفة).(1/4)
هاهي منظمة أطباء بلا حدود التي تجوب الأرض، من أقصاها إلى أقصاها، تنشر مبادئها وأوبئتها، ليست بأحسن حالاً من الطبيب المسلم الداعية الموحّد وأي عامل في المجال الصحي مادامَ يملكُ جناناً متقداً وحماسةً للعمل الدعوي لا حدود لها، إنها الازدواجية المحبّبة، الطب والدعوة.
ليكن إصلاحنا للمجالات الطبية ودعوتنا ديناً ندين الله به، وغايةً سامية يحملها القلب فيترجمها البنان واللسان والأفعال، بالمخاطبات والمطالبات والتغيير والمتابعة كلٌّ في موقعه، طبيباً أو عالماً أو طالب علم أو مريض أو داعيةً مسدّد أو أيّ مسلمٍ موحد.
لنعاضد أختنا في المجال الطبي فهي والله على ثغر، تحتاج من يساعدها على رفع صوتها بالمطالبة في تنظيف بيئة عملها من كل ما يخالف الشريعة، ومن يشدّ على يدها بالتشجيع والمؤازرة إن رأى منها إحساناً، ومن يحسن الوعظ والتذكير والمناصحة إن رأى منها تقصيراً أو إخلالاً.
نريد أن يتوجّه إليها الدعاة بالوعظ والتثبيت و الإصلاح، وأن ينشطوا في دعوة ووعظ المسئولين والعاملين الرجال بالحسنى، فعلى عاتقهم تقع المسئولية الأكبر في المخالفات الشرعية التي تمتلئ بها بعض المستشفيات.
وليتوقّف البعض الذي لا يفتأ يذكر أخواتهُ العاملات في المجال الطبي بالسوء ودون تثبّت، ويقذف المحصنات المؤمنات ويرمي أعراضهنّ بالتّهم دون بيّنة، فقط لعملهن في المجال الطبي. كم يحتاج هؤلاء لوقفة مراجعة للنفس، أو فليسدّوا المكان الذي سدّيْن.
لا نُطالِبهم بتغيير النظرة، لكن لن يكون الحل أبداً في التجنّي على أخواتهم، وحثّهنّ على الهرب وترك المجال، فالفاسدات منتظرات الفرصة للتسيّد والانقضاض وهدم ماتمّ نزعه من حقوق للمرأة المسلمة طالبة الطب والعاملة في المجال الصحي وما زالت المُطالبَة به على أشدها وعلى كل مستوى.(1/5)
المستشفيات النسائية يضع الكثيرون أمامها العقبات ولا تلاقي الدعم والتأييد من البعض لاحتجاجهم بعدم وفرة العناصر النسائية المؤهلة، والهرب وعدم تشجيع المجتمع للعاملة الصحية سيجعل بيننا وبين هذا الأمل مسافات وأميال.
وسنُفلِح بإذن الله إذا صحّ منا العزم وصدَقَت النية وتحمّلنا في ذات الله ما تحمّلنا. ليكن لسان حالنا إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
نُشِرَ بمجلة المتميزة-عدد ربيع الثاني1425هـ(1/6)
دعوة بلا حدود (2) المريضة التي عالجتني..!
ندى بنت عبدالعزيز محمد اليوسفي
قالت لي والدمعة تسبق كلماتها: وكأنّ الله قد أمرضها لتهديني..!، قلتُ: الهداية بيدِ الإله أخية، قالت: في الوقت الذي كانت فيه تتألّم، ويرتفع ضغطها ويهبط فجأة؛ كانت كل قطعةٍ فيّ تضطرب، يصلُ الرعب مني منتهاه، يهبط ضغطي ويصعد، وتحمرّ منّي العينين، أضطّربُ في الممرّ، كنتُ حديثة عهدٍ بتمريض الحالات المزمِنَة.
كانت تدهشني نظراتها الدافئة من خلف قناع الأكسجين، كلها اطمئنان، لا أذكر أنني سمعتها تتألّم بصوتٍ مرتفع، كل ما أتذكّرهُ من صورتها كيف كانت تربتُ على يدي بحنو كلما أحسَّتْ فيها اضطراباً وأنا أحاول تعديل أي من الأنابيب الداخلة والخارجة من جسمها، وكيف كانت تتحامَل على نفسها لتذهب للمتَوَضَّأ مرتكزَةً على الإطار الحامل ذي العجلات، طالبةً منّي أن أساعدها في سحب قاعدة المغذّي في الممَرّ، ولا تطمئن إلا إذا تأكّدت من أدائنا الصلاة.
كان يزدادُ تعجّبي عندما أراها تذكّرني وتذكّر زميلاتي بإغلاق الستائر على المريضات الأخريات عند مرور الفريق الطبي في جولتهِ الصباحية على المرضى، لا أنسى كيف كانت تحرص على أن تكون مستيقظة قبل الجولة الصباحية للأطباء حتى تتمكّن من سترِ نفسها جيداً.
ما أحضر لها الزوّار شيئاً ولا أهدوها أمراً؛ إلا وأشركت فيه جميع العاملين في الجناح، كانت تتلطّف معنا في العبارة مهما أخطأنا أو أتينا بما لا يسرّ، أكره ما كانت تكره أن نفتح التلفاز في الجناح، وكانت تخفض صوت إذاعة القرآن حتى لا تُزعج من حولها من مريضات نائمات.(2/1)
نما شعورٌ غريبٌ في قلبي تجاهها، أحسستُ نحوها بالحبّ، وجهٌ يشعّ منه الصدق، وقلبٌ يسع الكل، ولسانٌ لم أسمع منه إلا ذكر الرب، كلما هممتُ بأمر تذكّرتُ ابتسامتها الحانية وهي تذكّرني بالبسملة قبل أن آخذ منها العيّنة، وكلما مررتُ بذلك الباب، باب حجرتها، تذكّرت ذلك المشهد الأخير، في يوم العملية الجراحية التي كانت مقرّرة لها.
كانت على السرير، وكنّا نقطع الجناح، ونعبر الممرّ، لنذهب إلى المصعد، حتى ننزل لغرفة العمليات، كانت تشد يدي، وتسألني بالله أن أتأكّد أن كل جسمها مغطىً ولا يظهر منها شيء، كانت تردّد: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي".
كان هذا آخر عهدي بها، بعدها لم تعد إلى الجناح، أظلمت الدنيا في عيني، وكأنّ قطعةً من جسدي فُصِلَت، وكأن ألف لترِ دمٍ من طُحالي ونخاع عظمي سُحِب. جاء ابنها في الغد ليأخذ متعلّقات والدته من حجرتها، علاماتُ الحزن عليه ظاهرة، ساعدناهُ في جمع متعلّقاتها، ومازالت آياتُ الفجيعة عليّ بادية، انكفأتُ باكية وأنا أضع في الحقيبةِ مذياعها الطيب.
ولمّا كان من الغد، عادَ ابنها من جديد، وخلفهُ مرافق، يحملون كراتين كثيرة، وأكياس، يضعها أمامنا في قاعدة التمريض، يقول: هذه لكم، من الوالدة، قبل أيام أوصت أن نجهّزها لكم لتعطيكم إياها، وهاهي قد ماتت رحمها الله، وأمانتها لكم قد وصلت.
كانت هدايا رائعة، تحف صغيرة راقية، مع رسالة رقيقة مذيّلة باسمها تشكرنا فيها على حُسن عنايتنا بها وبالمرضى، ومعها كتيبات وأشرطة دعوية باللغة العربية وأخرى بلغات زميلاتي.(2/2)
على الرغم من امتلاء جناحنا بهذه الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية، التي يحضرها مرضانا للأجنحة والعيادات؛ إلا أننا لم نسمعها، ولا أدري ما الذي جذبنا لنسمع هذه بالذات، ونقرأ تلك بالتحديد، ربما احتراماً لهذه المرأة الحديدية، التي تغلّبَت على آلامها، و حافظت رغم قسوة ظروفها الصحية على فروض دينها، و أطفأت تعبنا وعملنا الشاق بابتسامة حانية ومعاملةٍ حسنةٍ طيبة.
أحببتُ الاستقامة من خلالها، أحببتُ البشاشة في تعاملها، أحببتُ صبرها وثباتها، أحببتُ سترها وعفافها، أعترف، كنتُ لا أحرص على حجابي، وكنتُ أتباسط كثيراً في حديثي مع بعض الزملاء، كنتُ أجمع الصلوات وأؤخّرها، وأحياناً كثيرة أغضب ممن ينصحني وألقي ما يعطيني من شريطٍ أو كتاب.
كنتُ أستحي من نفسي أمامها، وأخجل من ضآلتي أمام صبرها والتزامها، في أسابيع مُكثها معنا تحوّلت همّتي إلى همّةٍ أخرى، إلى عزيمةٍ وعمل، كنتُ أتمنّى أن أبشرها، وتفرح عينها بعودتي إلى الحق. لكن حين جاءني خبر توقّف قلبها؛ حلّقتُ في أفق الخشوع وقد شرَقْتُ بدمعتي، وتركتُ أوصالي يجول بها ارتعاد الخشيةِ، وبدأتُ أبكي مثل طفلٍ خائفٍ في الظلمةِ، كأنّي بها أمامي.....، وسكتَت محدّثتي.
ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض وجد مكاناً له بين الدُعاة، نعم، المريض الداعية، بابتسامته، ببشاشته، بصبره، وتحمّله، بتذكيره، ووعظه، كل السلف وأفراد الأمّة الصالحين الأُوَل كانوا دعاةً في المرض، وعلى فراش الموت.
ما أعظم هذا الدين..!، في أحلك الظروف وأصعب المواقف، ومهما كانت حالة الإنسان، فإنه لا يمكن أن يشعر بالضعف أبداً، لا يمكن أن يشعر بقلة أهميته، بأنه عالة على المجتمع.(2/3)
ما أعظم هذا الدين..!، حتى المريض، حتى العاجز والضرير، حتى الأصم والأبكم والكسير، يمكنه أداء هذه الوظيفة. وظيفة لا تعرف توقيعاً للحضور ولا الغياب، لا تعرف مكافأةً ولا ترقيةً دنيوية، لا تعرف ليلاً أو نهار، لا تعرف مناوبَة ولا استلام، لا تعرفُ سليماً أو ضرير، وظيفة تُشعر المرء بالسمو، بالعلو، بالسعادة، وبالتوازن في الحياة.
ما أعظم هذا الدين..!، هذه الوظيفة، وظيفة الدعوة إلى الله، في كل مكان، وأي زمان، وعلى أيّ حال، بكلامٍ أو بصمت، في غربٍ أو شرق، في مستشفاً أو سوق، في مدرسة أو بيت، في وزارة أو حتى طائرة وسيّارة.
ما أعظم هذا الدين..!، إنها دعوة لا تعرف الحدود، إنها دعوة بلا حدود، صاحبها ذلك المسلم الموحّد، الذي يملك جناناً متقداً بحب الخير، وحماسة للعمل لهذا الدين لا حدود لها.
ما أعظم هذا الدين..!، وما أكسل البعض أمام هذه الوظيفة الشاغرة، وما أعجزه عن تحقيق خيريته المكفولة بأمرنا بكل معروف ونهينا عن كل منكر، وما أعجب حال من يدعون قلة علمهم الشرعي أو بعض المخالفات التي يحملونها عائقاً لهم عن سلك هذا الطريق.
ما أعظم هذا الدين..!، وعد بالحسنى والزيادة، (( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة))، والإحسان في القدوة أعظم وسيلة دعوية صامتة ومتحدثة، قائمة وقاعدة، ساكنة ومتحركة، يطيقها الصحيح والمريض، فعجباً لمن عجز عن استغلالها..؟!!
نُشِرَ بمجلة المتميزة-عدد جماد الأول 1425هـ(2/4)