حلية الطبيب المسلم
تأليف/ د.وسيم فتح الله
…………حلية الطبيب المسلم
مقدمة:
الحمد لله علّام الغيوب، والصلاة والسلام على طبيب القلوب، بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وفضله بالشريعة الخاتمة وأكمل به الدين، فكان من كمال شريعته أن جمع إلى طب القلوب عافية الأبدان، وأيده بمعجزةٍ خالدة هي القرآن، فكانت آياته لقلب مَن تدبرها هداية، ولمن استشفى بها بإذن الله دواءً وحماية، فاستغنى المسلم عن التلفت يمنة ويسرة، وباء مَن تحول عن دين المصطفى بالحسرة، :"وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً"(1)
أما بعد،
فلقد منَّ الله تعالى عليَّ بعد الإسلام بتعلم مادة الطب، وزادت منَّته جل وعلا لما صرفني عن التلهي بظواهره إلى تدبر جوهره، ثم تأملت في ثغراتٍ عديدة ظلت تتبدى لي تباعاً منها ما يتعلق بصيغة تدريس الطب في بلادنا، ومنها ما يتعلق بدواعي طلب هذا العلم بين أبناء جلدتنا، ومنها ما يتعلق بصيغة العلاقة بين الطبيب المسلم ومريضه، ومنها ما يتعلق بمواجهة التحديات العقدية والمنهجية التي يمليها واقع التقدم المادي للكفار، سواءٌ أكانت تحدياتٍ ناجمة عن النوازل الطبية والوقائع المستحدثة التي تحتاج إلى جهدٍ عظيمٍ في تكييفها وتخريجها على مناطات الحكم الشرعي، أم كانت تحدياتٍ ناجمة عن كون مجال الطب سهماً من سهام قوس التغريب والغزو الفكري والعقدي للمسلم فرداً ومجتمعاً وأمةً، وغير ذلك من الثغرات التي تحتاج منا النظر إلى جنسها ومجموعها كخطوةٍ أولى للتعامل معها قبل الاستطراد في سرد جزئياتها وتفاصيلها لتمهيد التعامل معها.
__________
(1) سورة الإسراء - 82(1/1)
إن طبيعة التحديات التي تواجه الطبيب المسلم اليوم ليست إلا جزءاً من منظومة تداعي الأمم علينا اليوم، وإن إيقاظ حس المسؤولية وداعي التأهب لمواجهة هذه التحديات ليس إلا جزءاً من منظومة الدفاع الواجب عن بنيان هذه الأمة وصرح هذا الدين العظيم، ولا يمكن أن تُناط هذه المسؤولية الجزئية إلا بأصحاب الخبرة والاختصاص متعاونين ومتكاتفين مع أهل العلم الربانيين الذين يؤصلون لدينا منهج الدين ويؤججون فينا حمية الذب عنه، لترتفع بذلك عن كواهلنا مسؤولية حماية هذا الثغر فلا يؤتى المسلمون من قِبله، فنلقى الله تعالى عاملين بما علمنا، مستنفذين الجهد ما استطعنا، مترددين بين الرغبة والرهبة والخوف والرجاء أن يقبل منا بضاعتنا المزجاة ويعاملنا بكرمه دون عدله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ولما كان التغيير أي تغيير لا بد من أن يراعي انطلاقةً من الفرد المسلم ولو جزئية، كان العزم مني على إيجاز هذه الحلية لتكون للطبيب المسلم وسام فخارٍ وآية افتخار – لا استكبار – على من سواه، ليقول بلسان الحال : أنت مجرد طبيب، أما أنا فطبيب مسلم، ولا فخر..
وهكذا جاءت درر هذه الحلية لتزين كل واحدةٍ منها جِيد صاحبها لا لأجل دنيا أو مصلحةٍ رخيصة أو مركزٍ علمي مرموق فتلك والله هجرة الدنيا، وإنما من أجل أن الله جميلٌ يحب الجمال، ومن أجل أن كلكلم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، ومن أجل أن من لم يهتم بشؤون المسلمين فليس منهم، ومن أجل أن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه، ومن أجل أن الله تعالى سائلنا يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وفصيلته التي تؤويه عن علمنا هذا ماذا عملنا به؟ وعن ثغور هذا المجال كيف رابطنا عليها؟ وكيف وقينا أمة الإسلام من أن تؤتى من قِبلها؟ وتلك إن شاء الله تعالى هي هجرة الآخرة ..(1/2)
فهلم معي أيها الطبيب المسلم نستعرض هذه الحلية ونلتقط من دررها وجُمانها بعض ما يدل عليها، سائلين المولى أن يوفقنا لإقران القول بالعمل، والفكرة بالعزيمة، وما كان في هذه الرسالة من خير فمن الله، وما كان سوى ذلك فبما كسبت يداي فأسأله المغفرة والرحمة، آمين
الفصل الأول : حلية العبودية
وكيف لا تكون هذه أول حليةٍ وقد اختارها الله تعالى أسمى وصفٍ لأشرف مقامٍ لسيد الثقلين محمد صلى الله عليه وسلم فجعل وصف العبودية لازماً له، قال تعالى:" سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً "(1)، وقال تعالى:" وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَداً"(2)، فكان مقام العبودية هذا أسمى المقامات وأعلاها لا سيما لمن تحقق بمعانيها بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم حيث أجاب أمَّنا عائشة رضي الله عنها حين سألته عن عبادته وقد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فأجاب :"أفلا أكون عبداً شكوراً"(3).
__________
(1) سورة الإسراء - 1
(2) سورة الجن - 19
(3) صحيح البخاري – كتاب تفسير القرآن – حديث 4459(1/3)
ولذا نقول بمطلق الثقة إن أول رداءٍ يجب أن يتدثر به الطبيب هو رداء العبودية، ولن يتحقق ذلك حتى يخلع كل رداءٍ سواه من جاهٍ ومنصبٍ ودنيا، فيدخل في هذه المهنة تعلُّماً وممارسةً وهو يراعي تحقيق شروط التعبد من جهة، ويحرص على نقاء العمل من شوائب الحبوط من جهة أخرى، وبكلام آخر نقول إنه لا بد من استحضار صفة العبودية لله في مجال الطب بتحرير كلٍ من النية والمتابعة؛ فتكون النية خالصةً لله تعالى كما أمر:" وما أُمِروا إلا ليعبداو الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيِّمة"(1)، وتكون المتابعة مجردةً للنبي صلى الله عليه وسلم كما أمر :" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَد"(2)، فإذا سألت عن مكان النية في مجال الطب فاعلم أنها طلب علمه والعمل بمقتضاه طلباً لرضى المولى عز وجل فحسب، بحيث يكون كل عمل متفرعٍ عن هذا المجال خالصاً لله تعالى، تأمل معي هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الله عز وجل يقول يوم القيامة :يا ابن آدم مرضتُ فلم تعُدني. قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعُده، أما علمت أنك لو عُدته لوجدتني عنده"(3)، وهكذا فلتكن عيادتك للمريض وعنايتك بالمريض وقيامك على شأنه عيادةً لله عز وجل، وليكن طلبك للعلم في باب الطب منصرفاً إلى تحصيل ما فيه نفع العباد طلباً لمرضاة رب العباد، ولسوف ترى كيف ينقاد لك هذا العلم ويُسلم لك زمامه، كما قال بعض السلف – وأحسبه سفيان الثوري- : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله(4). أما إذا سألت عن مكان متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في باب الطب أحلتك
__________
(1) سورة البينة- 5
(2) صحيح مسلم – كتاب الأقضية – حديث 1718
(3) صحيح مسلم – كتاب البر والصلة – حديث 4661
(4) أي لم ينقد لهم العلم ولم يسلم زمامه لهم إلا عندما أخلصوا النية لله وجردوها من كل شائبة وهوى(1/4)
على مجموع السنة النبوية المطهرة بما فيها من هديٍ نبويٍ كريمٍ يضبط أصول التطبيب وأصول درء المفسدة عن العباد وجلب المنفعة إليهم، وحسبك من هذا كله في مقام التجريد هذا تلك القاعدة النبوية العظيمة حيث روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو ضامن"(1) فهذا أصلٌ عظيمٌ في عدم جواز العبث بأبدان الناس وصحتهم، ومسؤولية الطبيب مسؤولية كاملة عما يقترفه في حق المريض إذا ما وقع منه تقصير ، ومن أخطر أنواع التقصير في الطب ما كان ناجماً عن مداواة الناس بالجهل. وإنما أردت بتقرير هذه القاعدة هاهنا التنبيه على جنس ما تشتمل عليه السنة النبوية من أصول وقواعد تضبط مهنة الطب لا أقول ضبطاً مهنياً فحسب بل ضبطاً شرعياً مُلزماً للمكلف، بحيث نستطيع القول بثقة مطلقة: إن من لم يلتزم متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أصول مداواة الناس يكون قد خرق شرط قبول العمل وليس له البتة أي حظٍ ولا نصيب من حلية العبودية وإن صَفَت نيته، إذ المعلوم أن شرطَي قبول الأعمال هما سلامة الإجابة على سؤالَي: لمَ عملت؟ وكيف عملت؟ فتنبه لهذا الأمر، واعلم أن من خرق أحد هذين الشرطين أو كليهما فليس له حظ من طبِّه وتطبيبه سوى وظيفة دنيوية أو مكانة علمية موهومة أو مهنة يتكسب بها لا أكثر، ناهيك عن خطر الوقوع في الإثم في بعض الحالات، وإن من يدرك الكم الهائل من الأوقات والأعمار التي تفنى في سبيل تحصيل مراتب هذه المهنة ليشفق على نفسه وعلى غيره ألا يكون له منها حظٌ إلا حظ الدنيا، وأن يكون مِن جنس مَن قال فيهم عز وجل: " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"(2) فاحرص أيها الطبيب المسلم على تحقيق وتحرير هذين الركنين وكن شديد الحرص على تعهدهما بالرعاية والسقاية
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، واللفظ لأبي داود
(2) سورة البقرة – آية 200 خلاق : أي نصيب(1/5)
حتى لا تذبل غرسة الإخلاص في القلب ولا يخبو نور المتابعة في الجوارح.
وننبه في هذا المقام إلى أمرٍ آخر وهو مقام عبودية التوكل الذي يغفل عنه كثير من الأطباء؛ حيث يميل الأطباء – بسبب كثرة ما اطلعوا عليه من أسباب – إلى الركون إلى ما كشفه الله تعالى لهم من علوم، وينسى البعض أو يتناسى فضل الله تعالى عليه فيما يسّره من أسباب التشخيص والعلاج والشفاء، وينسى أنه – أي الطبيب – ليس إلا سبباً من جملة الأسباب لا حول له ولا قوة ولا يملك في نفسه شفاءً ولا نفعاً ولا ضراً، وتأمل معي كيف أن طبيب القلوب الأول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علَّمه ربُه وأدبه فأحسن تأديبه حيث قال تعالى حكايةً عنه صلى الله عليه وسلم :" قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً"(1)،فإذا كان هذا حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنقذ الله تعالى به المؤمنين من النار فأي شيء تحسب نفسك أيها المغرور بعلمك المفتون بمهارتك ومهنتك، أتراك قد استغنيت بيسير العلم الذي حصلت فقمت في مقام :" كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى"(2)، ألا فلتعلم تمام العلم إذاً أن المرض والشفاء بيد الله عز وجل كما جاء على لسان خليل الرحمن في مشهد تجريد الربوبية في قوله تعالى:" وإذا مرضت فهو يشفين"(3).
__________
(1) سورة الجن - 21
(2) سورة العلق – 6-7 ومعنى الآية أن الإنسان يحسب بما أوتيه من علم أو قوة أو مال أنه يستغني عن الله عز وجل فيؤدي به ذلك إلى الطغيان ومجاوزة الحد، والله أعلم.
(3) سورة الشعراء - 80(1/6)
فالواجب على العبد المسلم الطبيب أن يحترز عن مشاهدة الأسباب مشاهدةً تفضي به إلى الإتكال عليها، وأن يجتهد في أن يكون مقام مشاهدة الأسباب هو مقام العبد الذي يحصِّل ما أمره به سيدُه من أسباب ومقدمات ثم يرتمي على عتبة سيده ومولاه راجياً حصول آثار هذه المقدمات، فهو دائماً بين طاعةٍ في تحصيل المقدمات ورجاءٍ في طلب آثارها، لا يركن إلى براعة المشرط في يده، ولا إلى قوة الدواء في جعبته، وهكذا أيها الطبيب المسلم تتزين بجوهرة التوكل على الله لتنتظم درةٌ أخرى في عقد حلية العبودية هذه.(1/7)
فإذا ما تيسرت لك مطالعة مشهد العبودية هذا والتدثر بدثار التوكل والانقطاع عن الركون إلى الأسباب لزمك التحلي بدرةٍ أخرى من درر هذه الحلية ألا وهي التقوى؛ فالتقوى محراب العبودية متى انحرفت عنه اختل العمل بل ربما حبط بالكلية، والتقوى كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : مخافة الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل. وقد تتساءل عن مكان هذه المعالم في رحلة الطب ومعالجة الخلق، فأجيبك بأنك أيها الطبيب لا تستغني وأنت تتطلع على عورات الناس وأسرارهم عن مخافة الله ومراقبته، إذ لا يردعك عن الانحراف فيما تتطلع عليه من عورات الناس ولا عن تجاوز حد الضرورة مما لا يحل في الأصل إلا أن تبذر تربة القلب ببذور التقوى لتثمر مخافة الله، فتصونك هذه الثمرة من الانحراف والزلل والتلبس بالإثم من حيث كنت تبتغي الثواب، ثم اعلم أن الله تعالى قد أنزل في جملة ما أنزل من الوحيين نصوصاً وضوابط تصون أجساد الناس وأرواحهم، فلتكن معالجتك للناس عملاً بالتنزيل وصيانةً لأبدانهم وأرواحهم عن أسباب الهلاك المادي والمعنوي كما تضافرت عليه النصوص، ثم اعلم أن ما رضيه الله تعالى لك من منزلة ومقام في سياق المهنة هو الأصلح لنفسك، فلا تحاول أن تتسلق سلم المهنة رجاء منصب أو سمعة أو رياء، بل كن راضياً بمكانتك ولو كانت في أعين الناس قليلة، فلربما أنك طبيبٌ مغمورٌ غير مشهور ولكنك من جنس الأشعث الأغبر التقي الخفي الذي لو أقسم على الله لأبرَّه، فليكن هذا مقام الرضا بالقليل، وهو إن كان قليلاً في أعين الناس إلا إنه ليس بذلك البتة عند الله عز وجل، وآخر معالم التقوى في هذا المقام أن تستعد ليوم الرحيل، فتعلم أن الله تعالى سائلك عن تلك العورة التي اطلعت عليها لغير ضرورة، وعن ذلك الجسد الذي لمسته لغير ضرورة، وعن ذلك السر الذي اطلعت عليه لحاجة ففضحته ولم تحفظه، وعن تلك الرخصة التي أبحتها لمريض وتلك العبادة التي ضيعتها(1/8)
على آخر دون أن تراعي فيهم لله حقاً ولا للدين فيهم حرمة، فإذا ما تلبست بلباس التقوى هذا فاعلم أنك حينذاك قد تزودت بخير زاد وظفرت بخير معية، أما الزاد فكما قال تعالى:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"(1)، وأما المعية فكما قال تعالى:" إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون"(2).
بهذا أيها الطبيب المسلم ترتسم معالم هذا المشهد العظيم، مشهد الانطراح على عتبة الإخلاص طلباً لرضا المولى، والسير على طريق المتابعة طلباً لسلامة الانتساب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنظر بعين الرجاء إلى سبب الله الموصول، والنظر بعين الازدراء إلى كل ما سواه من أسباب مقطوعة، ثم التشمير والاجتهاد لتجاوز وحشة الطريق بأمن الانقياد لأمر الله وأُنس الطمأنينة إلى رعايته، فإذا بهذه المهنة تستحيل محراباً من محاريب التبتل ونسكاً من أنساك التقرب إلى الله عز وجل، وهكذا تكون حلية الطبيب المسلم.
الفصل الثاني: حلية العلم
وكفى بالعلم شرفاً أن أشهد الله أهله على أعظم حقيقة في الكون :" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم"(3)، ولكن أي علم وأي علماء؟ من هم أولئك الذين ينالون هذا الشرف العظيم وهذه المرتبة السامية؟
__________
(1) سورة البقرة- 197
(2) سورة النحل - 128
(3) سورة آل عمران – آية 18(1/9)
لا شك أن هؤلاء هم العلماء الربانيون، قال تعالى:" ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون"(1)، وإن ربانية العلم لا تتحقق إلا بأمرين؛ أولهما مشروعية العلم المكتسب ( ولا يقتصر مفهوم العلم الشرعي على علوم الشريعة الخاصة وإن كان ينصرف إليها عند الإطلاق)، وثانيهما العمل بهذا العلم عملَ خشيةٍ لله لا يخاف فيه لومة لائم كما قال تعالى:" إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"(2)، فإذا ما تحقق العبد بهذين الركنين أصبح عالماً ربانياً، بخلاف المتعالم الذي قد يحقق مقومات العلم المعرفية ولكنه بعيدٌ أيَّ بُعد عن تحقيق مقام الخشية عملاً بهذا العلم، وتأمل هذا في حال الطبيب الذي قد يفتح الله تعالى عليه من المعارف الطبية الشيء الكثير ولكنه مسكين، نعم مسكين لأنه لا يحقق بهذا العلم شيئاً من مقام الربانية، فهو بهذا العلم متكبرٌ مستعلٍ طاغٍ كما قال تعالى:" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"(3) يظن أنه بهذه المعارف قد فطم نفسه عن مقام الافتقار إلى علم الله الأزلي اللامحدود، فإذا ذكّرته بفضل الله عليه فيما حققه من مرتبة ونجاح :"وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسَن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين"(4) كان لسان حاله :" قال إنما أوتيته على علم عندي "(5).
__________
(1) سورة آل عمران – آية 79
(2) سورة فاطر - آية 28
(3) سورة العلق – آية 6-7
(4) سورة القصص – آية 77
(5) سورة القصص – آية 78(1/10)
أما مقام الطبيب المسلم الرباني فمعراجٌ آخر وأفقٌ أسمى، إنه مقام الافتقار إلى الله عند ذروة شهود النعمة وتحققها، كما كان حال موسى عليه السلام بعد أن أفاء الله تعالى عليه من نعمائه فقال:" رب إني لما أنزلتَ إلي من خيرٍ فقير"(1)، إنه مقام من يدرك أن الغِنى عن الشيء لا به، وأن الافتقار إلى الله عين الغنى وأن الاستغناء عنه تعالى هو عين الفقر، ولما كان العلم هبةَ الله تعالى إلى عبده كان عبده منطرحاً على عتبة الافتقار إلى الله تعالى أبداً، لسان مقاله فيما ينكشف له من العلوم :" قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم"(2) ولسان حاله فيما يجري على يديه من نفعٍ وشفاءٍ وجلب مصلحةٍ لمريض ودرء مفسدةٍ عن آخَر قوله تعالى:" وما فعلته عن أمري "(3) وإنما علم من الله وتوفيق للعمل به من الله أيضاً، وهكذا يكون الطبيب عالماً ربانياً..
ومن درر هذه الحلية أن مقام الطبيب المسلم هو مقام مشاهدة عظمة خلق الله تعالى، لا كأولئك الصم البكم العمي الذين يمرون على آيات الله في بديع خلق الإنسان فلا تعود عليهم أنفسهم المقيتة وعقولهم السفيهة بأحسن من نسبة الصنعة إلى الطبيعة، بخلاف الطبيب الرباني الذي يتمثل قول الله تعالى:" والذين إذا ذُكّروا بآياتنا لم يخِرُّوا عليها صُماً وعمياناً"(4) ، فإن مقام الطبيب الرباني هو مقام :" الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"(5)، ومن جملة هذا الخلق :" وفي أنفسكم أفلا تبصرون"(6) ومن جملة هذا الخلق:" سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق"(7)...
__________
(1) سورة القصص – آية 24
(2) سورة البقرة – آية 32
(3) سورة الكهف - 82
(4) سورة الفرقان – آية 73
(5) سورة آل عمران – آية 191
(6) سورة الذاريات – آية 21
(7) سورة فصلت – آية 53(1/11)
مساكين هم إذاً أولئك الذين ليس لهم من علوم الطب إلا حظ الانتساب إلى القرود(1)، وليس لهم من مشاهدة عجائب الخلق والتكوين الرباني سوى مشهد الاستكبار الإبليسي، بل إن حال مشركي قريش أقرب إلى الحق من هؤلاء المتعالمين، فلقد قال تعالى:" ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله"(2)، أما الأطباء المتعالمين فيقولون صنعت الطبيعة كذا وتطور الإنسان من كذا وكذا وينكرون نسبة الخلق إلى الخالق، ولكن ما العجب في ذلك عند من اتخذ الشيطان ولياً ووساوس الشيطان هادياً، قال تعالى:" إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون"(3)
__________
(1) إشارة إلى الذين لا يزالون يلهثون وراء سراب الداروينية
(2) سورة الزمر – آية 38
(3) سورة الأعراف – آية 30(1/12)
أما المنهج العلمي للطبيب المسلم فقائمٌ على عدم إغفال جهةٍ على حساب الأخرى، فلا يؤدي إعمال دليل الحس والمشاهدة التجريبي إلى إغفال دليل النقل الشرعي،كما لا يؤدي سوءُ فهم ما وصل بطريق النقل الشرعي إلى تعطيل ما سخره الله تعالى لنا بطريق الحس والمشاهدة العقلي، بل يُنزل كلاً منهما منزلته، بلا إفراط ولا تفريط، ويجمع بين مقام:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا"(1)، ومقام :" هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً"(2)، وبهذا المنهج يدرك الطبيب المسلم الحدود التي يقف عندها العلم التجريبي فلا يُقحمه في الروحانيات والغيبيات، كما يدرك قيمة ما أظهره الله تعالى لنا من غيبيات عن طريق الوحيين – الكتاب والسنة – فلا يؤدي جهله بها إلى استهتاره واستهزائه بها والعياذ بالله، ويدرك أيضاً أن طريق التجربة مهما كان فإنه لا يرتقي إلى مصافِّ القطعيات الشرعية، فيركن مطمئناً إلى تلك القطعيات، ويحذر من أن يؤتي من قِبل سوء الفهم، وكلما بدا له تصادم أو تناقض الشرع مع العقل اتهم عقله ولم يتهم النص الشرعي البتة اللهم إلا من جهة سوء فهمه وإنما مَردُّ ذلك إلى عقله، فكانت التهمة منصرفةً إلى العقل دوماً بلا ريب، وانظر كيف قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل العظيم فقد روى أبو سعيد أن رجلاً أتى النبيَ صلى الله عليه وسلم فقال :أخي يشتكي بطنه،فقال:اسقه عسلاً. ثم أتاه الثانية ،فقال :اسقه عسلاً، ثم أتاه الثالثة، فقال : اسقه عسلاً،ثم أتاه فقال قد فعلت، فقال:" صدق الله وكذب بطن أخيك، اسقه عسلاً، فسقاه فبرأ(3). وفي رواية :"إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقاً"(4)، فهذا موقفٌ تعارض فيه ظاهر الحس مع ظاهر الشرع، فرده النبيُ صلى الله عليه وسلم إلى النص لأنه من الله ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولقد نبه ابن قيم الجوزية
__________
(1) سورة البقرة- آية 32
(2) سورة البقرة-آية 29
(3) صحيح البخاري – كتاب الطب – حديث 5252
(4) المرجع السابق(1/13)
رحمه الله على أن هذا الحديث يدل على ضرورة أن يكون المريض محلاً قابلاً لهذا الدواء الشرعي وأن يكون مُوقناً به وإلا فإنه لن يجد فائدته.
والحاصل أن الشريعة وإن لم تكن موضوعة في الأصل لفن الطب، إلا أنها لما كانت موجهةً لطب القلوب ومعافاتها كان للبدن الحاوي لتلك القلوب نصيبٌ من العناية، وكان حرياً بالطبيب المسلم أن يكون ملماً بما جاءت به الشريعة والهدي النبوي من توجيهات منثورة هنا وهناك تحفظ للأبدان عافيتها كما تحفظها للقلوب، ثم إن على الطبيب المسلم أن يُنزل هذا الهدي النبوي منزلته اللائقة، فيدرك ويوقن ارتقاءها فوق ما تأتي به التجارب والمشاهدات الحسية التي لا تخلو من خطأ أو احتماله، ولقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى كلاماً نفيساً في هذا المعنى حيث قال :" ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطُرُقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذاقهم وأئمتهم"(1)، وإن فهم هذا يسيرٌ عند من يدرك أن طب العجائز والطرقية قوامه الجهل، وأن طب الطبائعيين قائم على علم الحس والمشاهدة والتجربة الذي يتطرق إليه الاحتمال، وأن طب النبوة قائم على الوحي المعصوم فحصل من الاطمئنان إلى هديه صلى الله عليه وسلم في الطب أضعاف أضعاف ما حصل من الاطمئنان إلى طب الطبائعيين نسبة لطب العجائز، فتأمل.
ولما كان علم التجربة والمشاهدة مقتصرٌ في أوليته على ما يشهده الباحث والمجرِّب ومن ثمَّ يكون نشره قائماً على أساس النقل، كان منهج التحري الدقيق لما يزعم نسبته إلى العلم قائماً على تحري أمانة النقل وصحة الدليل.
__________
(1) زاد المعاد – ابن قيم الجوزية – 37/4(1/14)
وإنما تعرف صحة النقل بأمانة الناقل ونزاهته، وتعرف صدق الدعوى بالنظر فيما أقيم عليها من حجج، فلا تكن أيها الطبيب المسلم أسير المجلة العلمية الفلانية أو الهيئة الطبية الفلانية تأخذ مقولاتها بغثِّها وسمينها، ولا تميز ضارها من نافعها، فليس كون المجلس الطبي أو العلمي منتسباً إلى الشرق أو الغرب هو دليل الصحة والأمانة، بل اجعل منهجك قول الحق :" الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"(1)، وأُحذرك أيها الطبيب المسلم من أن تكون حاطبَ ليلٍ أو زاملةَ أخبارٍ لا تميز حقاً من باطل فتُروِّج على المسلمين ما يوافق هوى الأعداء متلبساً بلبوس العلمِ والعلمُ منه براء، فحذار أن تغرك ترهات فرويد، وحذار أن يغرك كذب داروين، وحذار أن تصدق دعاوى سلامة الفكر الشذوذي(2) بحجة دراسة علمية مزعومة، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم :" إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يتبيَّن فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق"(3)
__________
(1) سورة الزمر – آية 18
(2) أي الشذوذ الجنسي الذي يروج له المجرمون بحجة أنه سلوك بشري طبيعي عليهم لعائن الله
(3) صحيح البخاري – كتاب الرقاق – حديث 5996(1/15)
وإن من درر هذه الحلية أيضاً أن يحرص الطبيب المسلم على تحقيق الموازنة في تحصيل ما يحتاجه من العلوم الشرعية والعلوم الكونية في سياق مهنته الطبية، فلا يؤدي الانشغال بعلوم الشريعة الخاصة إلى العزوف عن العلوم التجريبية الضرورية لصيانة صحة المريض، كما لا يؤدي الإغراق في ما لا طائل منه والانكباب الكلي على العلوم الطبية التجريبية إلى الزهد في رصيد الهدي الشرعي العظيم في باب الطب، بل يعطي كل علمٍ حقه ويضعه موضعه دون إفراط ولا تفريط، ودون الخلط بين ما يصلح في مقام مع ما يصلح في مقامٍ آخر، وليعلم أنه مؤاخذٌ شرعاً عندما يؤدي تفريطه في ضبط علوم المهنة الخاصة إلى إلحاق الضرر بالمريض أو ربما تفويت المصلحة الأكمل له، فمنزلة الطبيب المسلم من صحة مريضه كمنزلة الوصي في مال اليتيم؛ فلا يكفيه حسن النية في حفظه بل لا بد من أن يجتهد في تحصيل أسباب حماية المال وتنميته وحفظه من الضياع.
ولما كانت مسألة المنهج العلمي بحاجة إلى تفصيل وتحرير فإني أجد من لوزام بيان هذه الحلية بيان معالم هذا المنهج بشيء من التفصيل على النحو التالي:
فصل: المنهج العلمي للطبيب المسلم(1)
__________
(1) هذا الفصل للمؤلف ألقاه محاضرةً في جمعية طالبات الطب في كلية الطب في جامعة الإمارات بتاريخ 31 ديسمبر 2003(1/16)
إن مهنة الطبيب من أنفع المهن لا ريب، وإن فضل الله عز وجل ومنَّته على من تعلم شيئاً من علوم هذه المهنة فضلٌ عظيم، لما يترتب عليه من النفع الوفير والخير العميم للطبيب والمريض إذا ما أحسن تطويعَ هذا العلم للغاية المحمودة، ولم ينجرف في مهالكه المذمومة، ومعلومٌ أن مهنة الطب يُراد بها من حيث الوضع تطبيب الأبدان والمحافظة عليها، وقايةً مما يضر بها وعلاجاً لما يعتورها من أعراض ضارة، وعند هذا المشهد تجد الخلقَ مفترقين إلى ثلاث فرق هي طرفان وواسطة؛ أما طرف الغلو والإفراط فيذهب في سبيل خدمة البدن والمادة كل مذهب، لا يقف عند حدٍ ولا يرعوي عن الشطط المُلهي عما هو أَولى، وهذا هو مسلك الماديين من عشاق الدنيا وصرعى الهوى، لسان حالهم قوله تعالى:"وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر "(1)، وأما طرف التفريط فقومٌ اعتزلوا الدنيا وحسبوا أنهم يرتقون بالروح حين يطلقون كل أسباب المادة، فزهدوا في الحلال الطيب مما سخره الله تعالى وعزفوا عن توجيهه سبحانه وتعالى:" ألم تر أن الله سخَّر لكم ما في الأرض"(2) فأهلكوا أجسادهم بالحرمان من أسباب صلاحها، بل ربما تفننوا في إنزال صنوف العذاب والأذى بأنفسهم وهم يرتقون بالروح التي لم ولن يعوا حقيقتها ناهيك عن أسباب صلاحها وهذا مسلك الرهبنة المذمومة، وفيما بين مشهدي الإفراط والتفريط كان مشهد أهل الحق كما هو الوصف الثابت لهذه الأمة:"وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً"(3) حيث أذنت – بل حثت – الشريعة على رعاية الأبدان، ولكن دونما غفلة عن الغاية من ذلك ألا وهي حفظ القلب؛ فأنت تجد القرآن الكريم يقرر مرض البدن وينبه إلى مراعاته كما في قوله تعالى:" فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسك"(4)، ولكن الشريعة لم تقف عند حد البدن بل نبَّهت
__________
(1) سورة الجاثية - 24
(2) سورة الحج - آية 65
(3) سورة البقرة - آية 143
(4) سورة البقرة - آية 196(1/17)
إلى أمراض أخطر هي أمراض القلوب والتي تنقسم – كما نبه الحافظ ابن حجر والعلامة ابن قيم الجوزية – إلى مرض شُبهة كما في قوله تعالى:" في قلوبهم مرض"(1)، ومرض شهوة كما في قوله تعالى:" فيطمع الذي في قلبه مرض"(2)، والشاهد أن أصحاب مشهد الحق من أتباع الرسالة المحمدية قد فازوا بقصب السبق في مجال الطب والعلاج، كيف لا وقد جاءت شريعته صلى الله عليه وسلم جامعةً بين طب الأبدان وطب القلوب، بل إن رعاية الأبدان ما جاءت إلا تبعاً وتكميلاً لحياة القلوب وصلاحها ،قال تعالى:" يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تُحشرون"(3)، فليس بطبٍ إذاً ذاك الذي يتعهد الأبدان والأوزان والأحجام فحسب، وليس بطبيب حقاً ذلك الذي يراعي القلب من حيث إنه عضلة والعين من حيث إنها آلة إبصار والأذن من حيث إنها آلة سمع ونحوه، وإنما الطبيب حقاً الذي يحافظ على هذه الوسائل وقايةً لصاحبها من أن ينتهي به المطاف إلى مثل قوله تعالى:" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"(4).
__________
(1) سورة البقرة – آية 10
(2) سورة الأحزاب – آية 32
(3) سورة الأنفال – آية 24
(4) سورة الحج - آية 46(1/18)
فإذا عُلم ما تقدم تبينت ضرورة تحرير الطبيب المسلم لمنهجه العلمي الذي يبني عليه وسائل تشخيص وتقييم وتطبيب مرضاه، والأصل في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تطبب ولا يُعلم منه طب فهو ضامن"(1)، فهذا أصل ودليل واضح على ضرورة صدور الطبيب عن علمٍ ، ولهذا وجب تحرير منهج الطبيب المسلم من حيث أنواع الأدلة العلمية الطبية، والجمع بينها عند التعدد، والترجيح بينها عند التعارض، وبهذا تكتمل آلة تحصيل العلوم اللازمة للطبيب المسلم فيخرج من العهدة عند ممارسة المهنة ملتزماً بهذا المنهج إن شاء الله.
فصل: أنواع الأدلة العلمية الطبية :
__________
(1) سنن أبي داود واللفظ له، وأخرجه النسائي وابن ماجة وحسّن الجميع الشيخ الألباني رحمه الله(1/19)
ينقسم الدليل العلمي عموماً إلى خبرٍ صادق أو حسٍ مشاهَدٍ صحيح، قال تعالى:" قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شِرك في السماوات ائتوني بكتابٍ من قَبل هذا أو أثارةٍ من علم إن كنتم صادقين"(1) فأشارت الآية إلى نوعي الأدلة العلمية ؛ فالدليل العقلي القائم على الحس والمشاهدة والتجربة الصحيحة مفقودٌ عند عُبَّاد هذه الآلهة المزعومة حيث لا يوجد خلقٌ خلقوه ولا جزء من الكون يملكونه أو يتصرفون فيه بمشيئتهم فانتفى كونهم آلهة لعدم الخلق وعدم التصرف المطلق، والدليل النقلي الصادق مفقودٌ أيضاً فلا كتاب سماوي سابق ولا هذا الكتاب – أي القرآن – سمى أحداً إلهاً إلا الله سبحانه وتعالى فانتفى كون غيره إلهاً بطريق النقل أيضاً، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (أو أثارة من علم ) :" أي دليل بيِّن على هذا المسلك الذي سلكتموه، (إن كنتم صادقين) أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً" (2)، انتهى. فأنت ترى في سياق الاستدلال على أعظم حقيقة في الكون – حقيقة التوحيد – أن الآية قد استوعبت أنواع الأدلة في نقل صحيح أو عقلٍ صريح ولا ثالث لهما إلا اجتماعهما ولا تناقض.
__________
(1) سورة الأحقاف – آية 4
(2) تفسير القرآن العظيم – تفسير سورة الأحقاف – ابن كثير(1/20)
فإذا عُلم ما تقدم تمحض لدينا لنا السؤال عن أنواع الأدلة التي تتعلق بعلوم الطب، لا سيما وأن الأصوات والدعوات تتوالى علينا تترى معاشرَ الأطباء من أجل ممارسة ما يُسمى "الطب القائم على الدليل"، ولعمري إن هذه الدعوة قد جاءت عند القوم المتبجح بحضارته متأخرةً الشيء الكثير، ولقد بينّا لك سبْق القرآن الكريم في تقرير أسس العلم المقبول - أعني النقل الصحيح أو العقل الصريح أو هما معاً – فهل أدلة علوم الطب المعتبرة هي أدلة العقل فحسب أم أدلة النقل فحسب أم دليلهما معاً؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال أقول – وبالله التوفيق – إننا حين نؤصل للمنهج العلمي الطبي مفتتحين بالنصوص الشرعية فإننا لا نقصد تزيين كتب الطب وجدران المشافي ببعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما أننا لا نتكلم عن طبٍ بديل كما يشيع اليوم الاصطلاح على أساليب المعالجة غير التجريبية كالطب الشعبي ونحوه، وإنما نتكلم عن التأصيل العلمي الشامل المستوعب للأدلة العلمية التي خوطبنا بها، إننا نتكلم عن الطب الأصيل حقيقةً، وهذا ما يجب أن يدركه كل طبيب مسلم اليوم؛ فالطب الأصيل هو الذي يراعي شمولية المنهج وشمولية احتياجات المريض، ولا يوجد تضاد في الحقيقة بين الطب النبوي وبين الطب التجريبي المنضبط بل إن الأخير يندرج في الأول ولا عكس، وبيان ذلك أن ما ورد عن طريق الشرع من أدلة تتعلق بمسائل الطب ينقسم إلى نوعين؛ أحدهما عام يتعلق بأصول الشرع المقرِّرة لمبادئ المداواة والموجِّهة للإنسان كي ينظر ويجرب ويستخرج مما سخره الله تعالى له في الكون من وسائل علاج ودواء ونحوه، والثاني خاص ورد في بيان أدوية مخصوصة لأدواء مخصوصة كنموذج تطبيقي لمبادئ العلاج العامة، بل قد يكون لذكر هذه الأدوية الخاصة هدف تشريعي مؤداه أن يبين الشارع للمكلف أنه لا بأس في تعاطي أسباب معينة للاستشفاء من أمراض معينة، وأن هذا لا ينافي التوكل ولا يعارض القدر ولا يمنعه الشرع،كما(1/21)
يشمل هذا النوع الثاني أيضاً بعض ما يتعلق بالأمراض من أمور شرعية كالأحكام الفقهية المترتبة على وجود المرض كطهارة أهل الأعذار، والمسائل الغيبية المتعلقة بالمرض كالثواب والعقاب وغيرها، وأنت ترى أن ما يَرِدُ من مسائل طبية توقيفية عن طريق الشرع يستحيل على طريق العقل بلوغه والكشف عنه مستقلاً،ولعل بعض الأمثلة في سياق البحث توضح ذلك بجلاء. وبمثل هذا التفصيل يمكننا أن نستوعب ما نقلناه سابقاً عن الحافظ العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى حيث قال :" ونبين أن نسبة طب الأطباء إلى هذا الطب النبوي كنسبة طب الطُرقية والعجائز إلى طبهم، كما اعترف به حُذاقهم وأئمتهم"(1)، نوَّر الله قبره ووسع مدخله.
وحاصل ما تقدم أن الأدلة التي يُتوصل بها إلى علم الطب نوعان: دليلٌ نقلي من مصادر الوحي المعصوم، ودليلٌ عقلي من مصادر الحس والتجربة المحتملة للخطأ والصواب . وأريد أن أنبه إلى أن من العلوم الطبية ما لا يمكن التوصل إليه إلا بطريق النقل أصلاً، ومنها ما لا يمكن التوصل إليه إلا بطريق التجربة والحس والمشاهدة لانقطاع الوحي، ومنها ما يتواتر فيه دليل النقل ودليل العقل فلا إشكال. وببلوغنا هذا القدر من التأصيل والتفريع نكون محتاجين إلى بسط بعض الأمثلة التي توضح ما ذكرنا وتبينه بالمثال.
النوع الأول من الأدلة: دليل النقل :
__________
(1) زاد المعاد – ابن قيم الجوزية – 37/4(1/22)
ونقصد بالنقل بطبيعة الحال ما ورد بطريق القرآن والسنة النبوية، مع ملاحظة أن القرآن الكريم كله يفيد العلم القطعي أما السنة النبوية فلا بد من تحري الصحيح منها والمقبول(1). هذا وإن الأمثلة عديدة جداً في هذا الباب وسوف أكتفي بإثبات بعضها، ولكن أعود فأنبه إلى أن ما ثبت من علوم الطب بطريق النقل ينقسم إلى نوعين؛
أحدهما : نوع يمكن ثبوته أو التوصل إليه بالحس والتجربة فيكون دليل النقل فيه مورداً من موارد الإعجاز ومسلكاً من مسالك الهداية إلى ما فيه نفع الناس ومثال هذا النوع ما ورد في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" إن هذه الحبة السوداء شفاءٌ من كل داء إلا من السام"(2) فهذا دليلٌ نقلي على وجود خصائص علاجية في الحبة السوداء، وهذا فضلاً عن كونه ثابتاً بطريق النقل فإنه يمكن التعرف عليه عن طريق التجربة والحس والمشاهدة، (3) ولكن طريق النقل أثبته لنا على سبيل الهداية إلى ما ينفع الناس في أبدانهم من جهة، وإلى ما ينفع الناس في قلوبهم ودينهم من جهة أخرى حيث أيَّد النبي صلى الله عليه وسلم بدلائل الإعجاز التي تشير إلى صدور الوحي من الله عز وجل، فتأمل.
__________
(1) فالسنة الصحيحة المقبولة حجة كالقرآن وإنما أردت التنبيه على أنه ليس كل ما ينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح فيجب تمييز المقبول من السنة والمردود منها كالضعيف والموضوع، فتنبه.
(2) صحيح البخاري – كتاب الطب – والسام هو الموت
(3) وأنبه هنا إلى أن التثبت بطريق التجربة يجب أن ينطلق من يقين مطلق بثبات هذا النفع بطريق الوحي وأن يتجه البحث والتجربة إلى التعرف على كيفية تطبيق هذا العلاج لا أن يكون على سبيل التثبت من مصداقية النقل أو مراغمةً له فهذا والعياذ بالله من أبواب الهلاك(1/23)
والثاني : نوع لا يمكن ثبوته إلا بطريق الوحي المعصوم فيجب الوقوف عنده وعدم التقحم فيه بغير آلة، ولك على ذلك مثال من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" الحمى من فيح جهنم ، فأطفئوها بالماء"(1) والشاهد في الشطر الأول من الحديث، فقوله صلى الله عليه وسلم " الحمى من فيح جهنم" خبرٌ صحيح، ولكن هذا المخبر عنه مما لا يمكن التوصل إليه بطريق العقل والتجربة البتة، فتأمل. وأما الشطر الثاني من الحديث فيتناول أحد أنواع العلاج من الحمى ولا يعني أن الماء علاج لكل أنواع الحمى(2)،فينبغي التنبه لذلك احترازاً من سوء فهم وسوء تطبيق الحديث. ويندرج تحت هذا النوع من الأدلة كل ما أخبر به المعصوم صلى الله عليه وسلم من الأمور التوقيفية المتعلقة بعيادة المرضى وممارسة المهنة وغيرها، ومثال ذلك ما ورد من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرفة(3) الجنة حتى يرجع"(4)، فهذا مما يتعلق بممارسة الطبيب مهنته حيث يجدر به أن يحتسب تفقده المريض في المشفى أو في زيارة منزلية عيادةً يتقرب بها إلى الله تعالى.
النوع الثاني من الأدلة : دليل العقل :
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الطب
(2) وتحرير هذه المسألة أن تميز ين ما هو خطاب لعموم المسلمين وما هو خطاب لبعضهم ومثال ذلك حديث عدم استقبال القبلة بالبول والغائط وموضع الشاهد فيه :" ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا"، فمن الواضح أنه خطاب لأهل المدينة وما يسامتها ولو جئت تطبقه على أهل المغرب والمشرق لوقعوا في المحذور، ولكن الكثير يقع في توهم العموم والإطلاق في مثل هذا لعدم التنبه إلى سياق الحس ونحوه.
(3) الخرفة: الثمر إذا نضج وجُني، وهو كناية عن الثواب
(4) صحيح مسلم – كتاب البر والصلة والآداب(1/24)
لقد جاءت الشريعة بجواز التداوي، وحثت على النظر والتأمل والبحث عن أسبابه على الأصل من إباحة ما سخره الله تعالى لنا من الطيبات،فلقد قال تعالى:"وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"(1)، وقال تعالى:"اليوم أُحلَّ لكم الطيبات"(2)، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاءً"(3) علمنا أن هذا الإنزال شامل لما نزل على لسان الوحي ولما نزل على سبيل التقدير قضاءً من الله تعالى وهو ما نحن بصدده، وقد تقدم الكلام عن الأول، أما الثاني فيتناول أنواع الأدلة العقلية من حس ومشاهدة وتجربة، ولعل هذا هو الأكثر في مجال العلوم الطبية لأن نصوص الشريعة لم تأت لاستيعاب العلوم الكونية وإنما جاءت موجهةً إليها(4)، فمن هذه الأدلة ما هو قائم على الحس والمشاهدة كعلم التشريح، ومنه ما هو قائم على التجربة كعلم الدواء والكيمياء وهكذا.
__________
(1) سورة الجاثية- آية 13
(2) سورة المائدة – آية 5
(3) صحيح البخاري – كتاب الطب – من حديث أبو هريرة رضي الله عنه
(4) ومع ذلك فإن نصوص الشرع قد جاءت بأصول الطب ولم تغفلها كما يتبين لاحقاً(1/25)
بقي أن ننبه على أمرٍ مهم يغفل عنه كثيرٌ من الناس والأطباء، وهو أن مستند الحس والمشاهدة والتجربة في علوم الطب ينطبق على قلةٍ قليلة من الأطباء والباحثين، وهي القلة التي تقوم بهذه التجارب والأبحاث فعلاً وتباشرها بنفسها، أما السواد الأعظم من الأطباء وأهل الفن فإنما يتلقون نتائج هذه المشاهدات والتجارب عن طريق النقل، كما هو معهود من طريق المجلات والدوريات العلمية والمؤتمرات والندوات والمحاضرات وغيرها من الوسائل التي هي في حقيقتها وسائط نقل أخبار لا وسائط تجربة وحس ومشاهدة، وإذا كان الأمر كذلك فإن التحقق من صحة هذه الأدلة العقلية في أصلها لا يتحقق إلا بأمر من اثنين أو باجتماعهما؛ أحدهما هو التثبت من نفس الدليل العقلي عبر تكرار التجربة والاستشكاف والتوثق من نتائجها، والثاني هو التحقق من صدق الناقل عبر تحرير صفات الأمانة والعدل التي تمنع الناقل من الكذب فيما يخبر عنه، فإذا اجتمعت الوسيلتان كان أثبت وأضبط بلا ريب. ولهذا وجب عليك أيها الطبيب أن تكون فطِناً، فلا يُغرر بك مقال في مجلة طبية مرموقة، ولا نتائج بحث تصدره منظمة دولية، ولا قرارات اجتماع طبي أساسها الرأي المحض، بل اعلم أن كل ما يأتيك خبره من علوم طبية حديثة متجددة فهو خاضع للبحث والتثبت بإحدى الوسائل السابقة، والحق أن هذا الأمر – أعني التثبت من الأخبار الطبية – يستلزم منا وضع منهج متكامل نعرض عليه ما يردنا من أخبار في هذا المجال لنحكم عليه بالصحة أو القبول المبدئي أو الرفض، ولعله يرد لاحقاً إن شاء الله تعالى.
فصل: العلاقة بين دليل النقل والعقل في علوم الطب:
إذا تقرر ما سبق برز التساؤل حول علاقة دليل النقل والعقل ببعضهما البعض في مجال العلوم الطبية،ولما كان تحرير هذه المسألة مهماً فإننا نعرج عليه بإيجازٍ فيما يلي حيث نبين أهم معالم هذه العلاقة:
أولاً: التوافق والتكامل :(1/26)
فأنت إذا علمت أن دليل النقل مصدره الوحي المعصوم وهذا راجع إلى الشرع، ودليل العقل مصدره الحس والتجربة الصحيحة وهذا راجعٌ إلى نواميس الخلق ، وعلمت أن كلاً من الشرع والخلق صادرٌ عن الحق سبحانه وتعالى، بان لك استحالة وقوع التعارض أو التناقض بين دليل عقلي صريح وخبر نقلي صحيح. وكل ما يعرض لك مما ظاهره التعارض راجعٌ إلى توهمِ معنى غير صحيح في صحيح المنقول، أو توهم دليل عقلي لا يرتقي إلى درجة القطع، أما أن يقع التعارض حقيقةً بين معنى صحيح لخبرٍ صحيح وبين معنى صحيح لعقل صريح فممنوع عقلاً وشرعاً وحساً.
ثانياً: دليل النقل في باب الطب معظمه مجمل ودليل العقل في باب الطب معظمه مفصل:(1/27)
بمعنى أنك تجد في مجموع ما ثبت من النصوص الشرعية أصولاً عامة لمبادئ الطب مع جملة يسيرة من تفاصيل العلاج والاستشفاء، في حين تُرك تفصيل واستكشاف تفاصيل الأدوية والعلاج للعقل البشري يشاهد ويستنبط ويستفيد من تسخير الله تعالى لهذا الكون الفسيح له. ويجدر بنا أن نشير في هذا المقام إلى كلامٍ نفيس للحافظ ابن حجر في شرح مقدمة كتاب الطب للإمام البخاري، يقول عليه رحمة الله:" فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى إلى تفريقِ ما يضر بالبدن جمعُه أو عكسه(1)، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه(2)، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحة والاحتماء عن المؤذي واستفراغ المادة الفاسدة، وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن ؛ فالأول من قوله تعالى "فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدةٌ من أيام أُخر"(3) وذلك أن السفر مظنة النصَب وهو من مغيِّرات الصحة، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفِطر إبقاءً على الجسد، وكذا القول في الثاني وهو الحمية من قوله تعالى :" ولا تقتلوا أنفسكم"(4)، فإنه استُنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد، والثالث من قوله تعالى:" أو به أذى من رأسه ففدية"(5) فإنه أُشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي مُنع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس"(6)اهـ. قلت: فهذه كما ترى أمور ومبادئ مجملة، وليس القرآن الكريم ولا السنة النبوية كتاب طب أو صنعة أو مهنة، وإنما هو كتاب توجيهٍ وإرشادٍ، فحسبك أمثال هذه النصوص من القرآن الكريم كي تنطلق في رحاب الكون الفسيح منقباً عن نواميسه، مسخِّراً لما فيه من أسباب قدَّرها الله تعالى لتكون مقدمات البرء أو وسائطه بإذن الله، وما هذه
__________
(1) أي جمع ما يضر بالبدن تفريقه
(2) أي زيادة ما يضر بالبدن نقصانه
(3) سورة البقرة – آية 184
(4) سورة النساء – آية 29
(5) سورة البقرة – آية 196
(6) فتح الباري شرح صحيح البخاري – الحافظ ابن حجر العسقلاني – كتاب الطب(1/28)
التفاصيل والجزئيات المتجددة يومياً في عالم الطب إلا ثمرة من ثمار نعم الله تعالى علينا، لولا أنها يعوزها التنقيح والتجريد لفصل الصالح من الطالح كما هو موضوع هذه الرسالة.
ثالثاً: دليل النقل حاكمٌ على دليل العقل :
ولكن تبقى لمسألة العلاقة بين النقل والعقل أهميةٌ خاصة لمن عزم على هذه الانطلاقة – أعني الاستكشاف العقلي التجريبي - ألا وهي دور النقل في وضع ضوابط وحدود البحث والتطبيق العقليين ؛ فلا يجاوز حدود الحلال إلى الحرام، ولا يأتي بمنهجٍ أو طريقٍ علاجي يعارض أوامر الشرع أو يقارف مناهيه. تأمل معي ما ورد في الحديث أن طارق بن سويد الجُعفِي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها ، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال :" إنه ليس بدواء ولكنه داء"(1)، وذكر البخاري في صحيحه بتعليقٍ جازم :" قال ابن مسعود في السَّكَر : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حُرِّم عليكم"(2)، والشاهد من هذه النصوص أن على الطبيب المسلم أن يلتزم في منهج البحث العلمي التجريبي أمرين؛ أحدهما الانطلاق من قواعد الشرع الثابتة فلا يتقحم الحرام ابتداءً، وثانيهما أن ما قد يتوهمه البعض من وجود الشفاء في المحرمات ليس إلا وهماً باطلاًَ، لما تقدم من أن الله تعالى لم يجعل الاستشفاء المباح في ما منعته الشريعة من الحرام وإلا كان هذا تناقضاً من جهة الشارع وهو ممنوع قطعاً، والنكتة في المسألة أن تعلم أن ما قد يُتصور من نفع طبي في مادةٍ محرمة قد تكون موجودة في الواقع وفي نفس الأمر، ولكنها تُعتبر مصلحة أو منفعة ملغاة بحكم الشرع فلا يُلتفت إليها، أي أن وجودها وعدمه سواء، ودليل هذا قوله تعالى في الخمر والميسر :" قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر نفعهما"(3)، فالنص يثبت وجود منفعة يسيرة ولكنها ملغاة،ومعلوم
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الأشربة
(2) صحيح البخاري – كتاب الأشربة – باب شراب الحلواء والعسل
(3) سورة البقرة- آية 219(1/29)
أن حكم الشرع قد استقر على تحريمهما فلم تلتفت الشريعة إلى هذا النفع اليسير وأسقطته من الاعتبار. وهذه الضوابط كما تنطبق على وسائل الاستشفاء فإنها تنطبق أيضاً على النظريات الطبية، فلا يمكن قبول نظرية طبية تصادم النصوص الثابتة، ولا يمكن جعل هذه النظريات منطلقاً لأي منهج علاجي البتة.
ولعل من المناسب في هذا المقام أن نشير إلى بعض النماذج التطبيقية للخلل الناجم عن عدم الانضباط بضوابط الشرع في مجال الوقاية والعلاج والنظرية والبحث الطبي ؛ فأما أنموذج الوقاية فمنه ما تروجه بعض الدوريات الطبية من نتائج أبحاث تشير إلى دورٍ وقائي للخمر من بعض الأمراض، وأما أنموذج العلاج فمنه إيهام الأطباء والناس عموماً أن علاج مصيبة الأمراض المنتشرة جنسياً يكون بتحسين وسائل الاتصال الجنسي المحرم، ومعالجة آثاره بالعقاقير دون الالتفات إلى العلاج الجذري لهذه المصائب، وأما في مجال النظرية العلمية فحسبك فضائح الفرويدية وفضائح المؤصلين للشذوذ الجنسي باعتباره "سلوكاً بشرياً طبيعياً" خابوا وخسروا، وأما في مجال البحث الطبي فها نحن نسمع ونرى كل يوم ما تتفتق به عقول ومختبرات القوم ممن لا ينضبطون بحدٍ شرعي، ولا يقفون عند حدٍ في أبحاثهم، فمِن استنساخ جنينٍ بشري إلى التلاعب بمورثات الأجنة إلى استئجار الأظآر وهكذا. ولا يخالنَّ أحد أن مقصودنا الحجر على البحث العلمي كلا، بل المقصود الانطلاق من قواعد علمية سليمة – بما في ذلك القواعد العلمية الشرعية – والانضباط بحدود المباح والمشروع، حتى لا نواجَه بنوازلَ فقهية وانحرافاتٍ تطبيقية، ثم نتهافت على دور الفتوى بحثاً عن مخارج فقهية لنوازل غريبة عن عقيدتنا ومنهجنا وشريعتنا.
فصل: تحرير القول في التوثق من أخبار علوم الطب التجريبية:(1/30)
تقدم معنا أن جلَّ العلوم الطبية وإن كان قائماً على دليل العقل من بحث وحس ومشاهدة، فإن طريق معظم الأطباء إلى هذه الأدلة هو طريق النقل، وإذا كان الحال كذلك فلا بد للطبيب المسلم من أن يتسلح بمنهج أو معيار يستطيع من خلاله الحكم على هذا المنقول، لاسيما وأن آلة العلم اليوم من أهم وسائل الاختراق العقدي والفكري لمجتمعاتنا المسلمة، وفيما يلي بيان بعض معالم هذا المنهج :
أولاً: معرفة الثوابت العقدية والأصولية في ديننا الإسلامي العظيم:(1/31)
إن الحكم على أي شاردة أو واردة لا يتم إلا بمعيارٍ نقيس به إمكان صحة المخبَر عنه، بمعنى أن الخبر إذا تعارض مع ما هو مقطوعٌ به شرعاً لم يُقبل كائناً من كان قائله، وعلى سبيل المثال لا الحصر نقول إن من الثوابت الشرعية ثبوت تحريم اللواط، وهذا التحريم تكليف، والقاعدة في الأصول أن التكليف بما لا يطاق ممتنع(1) استناداً إلى قوله تعالى:" لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها"(2)، فإذا جاء خبرٌ عن دراسة أو بحث أو كشف منسوبٍ للعلم يزعم أن اللواط أمر طبيعي، ولا يمثل إلا مظهراً من مظاهر التعبير الطبيعي عن الميول الجنسية الغريزية للإنسان،(3) رُدَّ هذا القول جملةً وتفصيلاً، تأمل معي قوله تعالى:" فلما جاء أمرنا جعلنا عاليَها سافِلَها وأمطرنا عليها حجارةً من سجّيلٍ منضودٍ. مُسَوَّمةً عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد"(4)، وهل يعذب الله تعالى بهذا العذاب البئيس أناساً يعبِّرون عن ميولهم الجنسية تعبيراً طبيعياً؟ كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً..
ثانياً: تحقيق صفة من يُقبل خبره:
__________
(1) لبعض أهل العلام تفصيل في هذا – أعني عدم جواز التكليف بما لا يطاق – باعتبار بعض أنواع ما لا يطاق، ولكنه لا يقدح في موضع الشاهد ويمكن مراجعة الأمر بتفصيلاته في مظانه.
(2) سورة البقرة – آية 286
(3) ولقد تولى كِبَرَ مثل هذا الزعم باحث اسمه دين هامر من المعهد القومي للصحة في الولايات المتحدة الأمريكية في بحث نشره عام 1993 وزعم فيه أنه اكتشف وجود ارتباط مورثي على الصبغي X يؤهب للميول الجنسي المثلي عند الذكور، ثم قامت دعوى كشفت وجود بعض التحريف في معطيات البحث بما يغير من نتيحته، وتشكل فريق من لجنة التحقق من نزاهة البحث العلمي وطوي الأمر من جهة التحقيق، ولم يطوَ هذا الإدعاء الزائف وإن كانت عدة بحوث وراثية علمية أخرى قد عارضت ما زعمه من نتائج.
(4) سورة هود – آية 82-83(1/32)
والحقيقة أن جهابذة علماء الحديث قد وضعوا أدق منهجٍ علمي للتثبت في الأخبار عُرف على وجه الأرض، وليس المقام مقام تفصيل في ذلك، ولكن لنا صفتين اثنتين لناقل الخبر يجدر بالمسلم أن يتشبث بهما وهما العدالة والضبط. أما الضبط فيعود إلى الإتقان والدقة في العزو والنقل، وهذا مقرر في المنهج البحثي المعاصر بحيث لا يُقبل الكلام المجرد عن دليله أو مصدره، كما أنه مقرر في المناهج العلمية المعاصرة التي تنظر في الدراسات والأبحاث القائمة على الأساليب الإحصائية للتحقق من نسبة احتمال الخطأ في النتائج المتوصل إليها، وليس الأمر بدعاً من الأمر، كما أن ليس لأسلوب التحقق من الدقة والضبط حصر، بل لك أن تستعمل أي أسلوبٍ منضبط للتحقق من صحة النقل ومدى قطعية النتائج أو تسرب الاحتمال إليها. وهذا المعيار معيارٌ مستقل عن معيار العدالة، والعدالة مردُّها إلى مدى الوثوق بأهلية الناقل لتحمُّل الخبر، وأدائه على الوجه الصحيح دون ميلٍ أو هوى أو تحريف أو حذفٍ مُخِل، بحيث إذا تخلفت صفة العدالة والأمانة والنزاهة عند الناقل أو كان معروفاً بكونه صاحب فكرٍ أو اعتقاد يهدف للترويج له تُوقِف في خبره، ولا أقول أن خبره يُردُّ مباشرة، وإنما يُتوقف فيه لتسرب احتمال الكذب والإيهام إليه، بحيث يتلقى الطبيب المسلم هذه المعلومة بعين الفاحص الناقد البصير، وليستعِن بمن تتعين الاستعانة به من أهل الخبرة والفن الثقات والعدول من أجل التوصل إلى حكمٍ صحيح على هذا الخبر. ولعلك بناءً على ما تقدم تطالب بالدليل على وجوب سلوك هذا المنهج، فأحيلك إلى قوله تعالى :" يأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقٌ بنبأ فتبينوا"(1)، وإذا كان هذا في الفاسق فالكافر أولى(2)، وإلى قوله تعالى :"وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَه الذين يستنبطونه منهم
__________
(1) سورة الحجرات – آية 6
(2) مع ملاحظة أن كل كافر فاسق ولا عكس(1/33)
ولولا فضلُ الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً"(1)، وهنا تنبيه مهم جداً لعلك تلمسه في حياتك اليومية أيها الطبيب المسلم، وهو أن مسألة عدالة الطبيب والتوثق في خبره ألصق بما يتخذه الطبيب من قرارات طبية لأفراد المرضى منه بعموم المنهج العلمي، فأنت قد تستعيض عن عدالة ناقل الخبر بغير ذلك من وسائل التثبت والتحقق، ولكن حين يتعين الخبر من الطبيب فيما يوصي به المريضَ من مداخلاتٍ طبية قد تترتب عليها جراحة(2) في البدن أو فوات في النفس أو انتقاص في العبادة لأجل رخصة في غير محلها ونحوه فهذا أمرٌ آخر، ولأهل العلم كلام طويل في هذا، ولكن الشاهد أن مهنة الطب ليست مجرد كتابة دواء، أو بتر قدم، أو منع مريض عن الصيام والقيام دون التورع عن اقتحام حقوق العباد وحدود رب العباد، كما أن الطبيب ليس حاطب ليلٍ ينقل لمرضاه ما لا يميز سقيمه من صحيحه، أو قل ليس هذا شأن الطبيب المسلم الذي يخاف الله تعالى.
__________
(1) سورة النساء – آية 83
(2) المقصود بالجراحة التلف الذي يلحق بالبدن دون فوات النفس(1/34)
وهنا استدراك لا بد منه، وهو أن معظم أو أكثر الباحثين والأطباء وذوي الخبرة والاختصاص في مجال الطب اليوم هم من الكفار، فإذا سلكنا المنهج المتقدم وتوقفنا في قبول علومهم لمجرد كفرهم آل ذلك إلى تأخر ركب العلم لدينا وتعطيل الاستفادة مما توصلوا إليه من علوم، وجواب هذا الإشكال أن عدالة الفرد يمكن الاستعاضة عنها بالتواتر، ومعنى هذا أن تواتر الكثيرين على نقل خبرٍ ما مستنده الحس والمشاهدة يسد مسد التحقق من عدالة الناقل الفرد لأن شبهة الكذب تتضاءل، فنحن اليوم عندما نأخذ دراساتٍ علمية حول علاج التهاب السحايا بالمضادات الحيوية، نجد أن الأبحاث العلمية الطبية من الشرق والغرب ومن الدول النصرانية والملحدة والوثنية تجتمع على نفس النتائج، فهذا التواتر والنقل والاستفاضة في الخبر يسد مسد عدالة الناقل الواحد، ويبقى مكان الاحتراز من الخبر العلمي أو البحث العلمي عندما تتفرد مجموعة قليلة من الباحثين بنتائج أو توصيات غريبة، لا سيما إذا توافقت هذه النتائج مع برامج خفية لحرب العقيدة الإسلامية، فهنا يجب التوقف والتحري والاستقصاء قبل أن نأخذ الأمور كما هي، وها هي السياسات الصحية اليوم تُرسم في مجتمعاتنا معتمدةً على تنظير أقوامٍ ليس لهم من همِّ العناية بنا إلا الإفساد والإتلاف إن تعذر الاستبداد والاستغلال، ولعلك تحتاج أن تقرأ ميثاق حقوق الطفل العالمي وتوصيات مؤتمر السكان العالمي لتُلمَّ بشيءٍ من ذاك الذي يُحاك بلَيل، لتعرف دورك أيها الطبيب المسلم في مناصحة القائمين على التخطيط والتسييس والتقعيد للسياسات الصحية في مجتمعك!
فصل: مرابطة الطبيب المسلم على ثغره :(1/35)
نعم، هذا هو المنطلق اليوم لمن أراد أن يتبوأ مقعده في منظومة الدفاع عن العقيدة، إنه منطلقٌ حاصله ألا يؤتى الإسلام والمسلمون من قِبَلِك، فأنت أيها الطبيب المسلم أعظم دوراً من أن تنشغل برتبٍ وظيفية وترقيات مهنية، والدور المنوط بك اليوم – كالدور المنوط بإخوانك وأخواتك – أكبر وأعظم من الانشغال بحظوظ النفس وأهوائها، ولذا عليك أن تلتزم بهذا الرباط وقوامه أمران؛ رباط علمي وآخر عملي.
أما رباطك العلمي فأن تأخذ أنت زمام البحث والتجربة والاستكشاف الصحيح، ولا تقنع بمجلس المتلقي، وأن تأخذ على عاتقك مهمة صد الدخيل من سهام الفكر والمعتقد المتلبسة بلبوس العلم، فتكون حارساً لمجتمعك المسلم، تنبه أفراده ومسؤوليه إلى الدس والكيد المغلَّف، وأن تعيد لكل ذي قدرٍ قدره فتدرك آلية الموازنة الصحيحة بين توجيه الوحي وبين ما سخره الله تعالى من مفردات الكون ونواميسه، فلا يكون حالك البتة كحال ذلك الهالك:" قال إنما أوتيته على علمٍ عندي"(1)، ولا يعميك بريق العلم الكوني عن الاعتراف بالمِنة والفضل لواهبه حتى لا تكون ممن قال فيهم الله تعالى :" يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون"(2).
__________
(1) سورة القصص – آية 78
(2) سورة الروم – آية 7(1/36)
وأما رباطك العملي فأن تستحضر في كل يوم تزاول فيه مهنتك ما أنت عليه من ثغر، وما هو منوط بك من مسؤولية، وتجعل من وقتك وجهدك ما هو مصروف للتحصُّن العلمي والتواصل مع إخوانك في المهنة وأهل العلم، ثم التطبيق العملي لكل ما ذكرنا، وتذكر أن ميدان عملك المباشر يتمثل في المريض الذي أسلم أمره – بعد الله تعالى – إليك، ووثق بك وحمّلك أمانة رعاية جسده الذي هو قالب قلبه، فارعَ الأمانة رعاك الله، وتأمل حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية فلم يَحُطها بنُصحه لم يجد رائحة الجنة"(1)، وإن الله سائلك عما استرعاك واستأمنك، فإذا وصلت إلى هذا الحد، فارتق بطموحك درجةً أخرى لتبحث عن موطأ قدم تقف فيها إلى جانب المنافحين عن هذا الدين بكل ما يملكون، فإن لهم في طِبِّك حظٌ ونصيب، بل حظهم آكد ونصيبهم أشح، والله تعالى أعلم. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يسددنا ويتقبلنا ويوفقنا للعمل في خدمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(2)
الفصل الثالث: حلية الأخلاق والمعاملات
لا يخفى على المشتغل بالطب دراسةً ومهنةً أن مدار عمله على التعامل مع الناس، وإنما جاءت أخلاق الإسلام لتضبط تعامل المسلم مع غيره، ولتجعل هذا التعامل خاضعاً لمنهج طاعة الله عز وجل ومتوجهاً لطلب مرضاته، وبهذا المعنى كاد يقتصر غرض البعثة على تأصيل وتكميل منظومة الأخلاق، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"(3).
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الأحكام
(2) هذه نهاية محاضرة "بحث المنهج العلمي للطبيب المسلم"
(3) مسند الإمام أحمد – باقي مسند المكثرين - حديث 8595(1/37)
وإن حياة الطبيب المهنية تنقسم إلى شقين رئيسين، تتناول كل منهما مجموعة من الأخلاق والسلوكيات والأدبيات المميزة، فالشق الأول هو تعامل الطبيب المسلم مع غيره من الأطباء مسلمين وغير مسلمين، والشق الثاني هو تعامله مع المريض مسلماً كان أم غير مسلم، ولا يخفى أن لكل حالة من هذه الأحوال خصوصيات تتميز بها ومبادئ شرعية تضبطها كما نبين بإذن الله.
أولاً: أخلاق الطبيب المسلم مع زملائه:
لا ينفك الطبيب يتعامل مع زملاء له في الدراسة والمهنة، فهو تارةً يلتقي بهم في مجالس الدرس والتعلُّم، وتارة يلتقي بهم في تدبير بعض المرضى، فلا يكاد يخلو عمل الطبيب أبداً من تعامل مع غيره، فكان لا بد لهذا التعامل من ضوابط وآداب ينضبط بها ولسوف أتناول بعضها فيما يلي:(1/38)
براءة الصدر من الغل والبغض والحسد : …………………وهي – أي البراءة مما تقدم - من أصعب الأخلاق تكسبُّاً لمن لم يُجبل على شيء منها، وهي مع ذلك قابلة للاكتساب، ومحل التكسب منها هو الأخذ بالأسباب والمقدمات الموصلة إليها، فما من خُلُق محمود جِبلةً وطبعاً إلا وللمسلم طريق إلى تكسبه، كما دلت نصوص كثيرة في الكتاب والسنة كقوله تعالى:"يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا "(1) فأمر بالمصابرة لمن لم يكن له الصبر طبعاً منقاداً، فتنبه. ولكن قبل الحث على أخذ أسباب الارتقاء بالنفس إلى مدارج هذه الأخلاق، لا بد لنا من تقريرها والنظر في مكانتها في شرعنا الحنيف، فأما التبرؤ من الغل فأخذناه من قوله تعالى:" والذين جاءوا مِن بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم"(2)، وأما النهي عن البغض فمن نهي النبي صلى الله عليه وسلم :"ولا تباغضوا"(3)، وأما النهي عن التحاسد فمن توجيه الشرع بالاستعاذة من شره : "ومن شر حاسد إذا حسد"(4)، وحديث :" ولا تحاسدوا"(5) ، وقد يُشكل عليك هاهنا حديث عبد الله بن مسعود قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا حسد إلا في اثنتين ؛رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها"(6) إذ قد ورد النهي العام على الحسد في موضع وأبيح في موضع آخر، والحقيقة أنه لا إشكال أو تعارض البتة، فبالتدبر في سياقات النصوص تدرك أن الحسد المنهي عنه بإطلاق هو الحسد المذموم الذي يقوم على تمني زوال النعمة عن الغير وعدم الرضا بما فضل الله به بعضاً على بعض، أما الحسد الجائز
__________
(1) سورة آل عمران – آية 200
(2) سورة الحشر – آية 10
(3) جزء من حديث – صحيح البخاري – كتاب الأدب – حديث 5604 ، وسيأتي بتمامه إن شاء الله
(4) سورة الفلق – آية 5
(5) الحديث السابق ،انظر رقم 17
(6) صحيح البخاري – كتاب العلم – حديث 71(1/39)
فهو ما كان من جنس تمني نظير النعمة المشهودة دون طلب زوالها عن الغير، وبدافع الاقتداء بذلك الغير في فعل الخير والتقرب بالطاعة إلى الله تعالى، وهو ما يصطلح عليه البعض بالغِبطة، وقد يقوى القول على اقتصار الجواز على ما ورد في النص وهو العلم والمال المصروف في موارد الخير، والشاهد هنا أن مجال العمل الطبي تتفاوت فيه القدرات والإنجازات والمناصب فلا يكون ذلك مدعاةً للتلبس بهذه الأخلاق المذمومة، بل يحول الطبيب جهده وسعيه نحو التنافس المشروع في باب الخيرات.
الحب في الله:……………………… ومدار هذا الحب على التجرد الخالص لله تعالى بحيث يدور هذا الحب مع الطاعة والمعصية زيادةً ونقصاناً على الترتيب.ومعنى هذا أن الطبيب المسلم يزداد حبه لأخيه الطبيب المسلم كلما كان هذا الآخر ملتزماً بأمر الله عابداً طالباً مرضاته، يسعى على مصالح المرضى المسلمين، ويغار على صحتهم ودينهم، ويسهر على تخفيف آلامهم، فكلما كان الطبيب المسلم متفانياً في هذا كله كلما أوجب له مزيد محبةٍ في نفوس إخوانه الأطباء، والعكس صحيح فكلما كان الطبيب مهملاً لمرضاه غير قائم على تقوى الله فيهم، كلما نقص حبه بل ربما شرع بغضه في الله، فتأمل هذا وقارنه مع ما يقع – للأسف – بين الأطباء أحياناً من علاقات وروابط أساسها المصالح الدنيوية والارتقاءات الوظيفية والمصالح الشخصية.(1/40)
احترام الطبيب أسبقية إخوانه في العلم والعمل:………… فمن المعلوم أن سياق التعلم والممارسة الطبية يستلزم نوعاً من العرض العلمي أحياناً، ومراجعة بعض الحالات المرضية النادرة ونحو ذلك، وهذا قد يأتي في صورة عرض حالة مرضية أو مراجعة حالة مستعصية، فلا يجوز والحال كذلك للطبيب المسلم أن يعمد إلى حالة مرضية ما قد سبقه إليها زميله فيقدمها ويعرضها بدلاً منه، فإن هذا قريب من البيع والخطبة على بيع وخطبة أخيه المنهي عنها في السنة المطهرة، فقد قال أبو هريرة يأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ..ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك"(1). كما يحرص الطبيب على عدم السرقة العلمية لجهد الغير فإن ذلك داخل في الغش المحرم. والسر في كل ما تقدم يعود إلى سد الذريعة المؤدية إلى التباغض والتشاحن بين إخوة الدين، فتنبه لذلك واتخذه ضابطاً لسلوكك، فكل ما أدى إلى التباغض بين المسلمين حالاً أو مآلاً فإن الشريعة تنهى عنه وتبغضه.
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب النكاح – حديث 4747(1/41)
عدم كتم العلم :…………………… فالعلم إنما يسره الله تعالى لينتشر بين الناس فيعوه، ويهتدوا به إلى الحق وإلى طريق مستقيم فيلتزموه، فأصبح لزاماً علينا أن نعمل على نشر العلم الصحيح، وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سُئل عن علم علمه، ثم كتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار"(1)، ولا يخفى مدى ذم وتوبيخ أهل الكتاب لكتمهم العلم الذي آتاهم الله تعالى : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلا فبئس ما يشترون"(2)، والثمن القليل الذي يسعى وراءه الطبيب بكتم علمه لا يخرج عن عرض من أعراض الدنيا وهوى من أهواء النفس المريضة؛ فهو يكتم علمه ليتفوق على زملائه أو ليحتكر صنعة يعرفها أو ليتفرد بمركز علمي ما، وهي أغراض لَعمري رخيصة في عين من يستحضر ميثاق الله تعالى الذي أخذه على أهل العلم الشرعي أصالةً – وعندي أن أهل كل علم مشروع يدخلون فيه تبعاً- فاحذر أيها الطبيب المسلم من نكث العهد ومن استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، واعلم أن هذا الأصل يلازمك في شتى مراحل حياتك المهنية الطبية من مرحلة العلم والتعلم إلى مرحلة العمل والخبرة ، وإن شر العلماء من يحبسون علمهم ليموت بموتهم ويفقد بفقدهم. وأشير في هذا المقام إلى مدى الشطط الذي بلغته "الحضارة " الغربية فيما اصطلحوه من "حقوق التأليف والاختراع" بحيث صارت بعض العلوم محتكرة على أصحابها رغم شدة حاجة الناس إليها، ولست أنكر حق المخترع والمؤلف بالكلية وإنما أشير إلى روعة الإسلام في إهدار النفع الخاص عندما تؤدي مراعاته إلى الضرر العام، وانظر على سبيل المثال احتكار شركات الدواء لحقوق تصنيع بعض الأدوية وبالتالي التحكم بأسعارها واستغلال احتكارهم هذا
__________
(1) سنن الترمذي، وقال أبو عيسى :حديث حسن، وذكره الألباني في صحيح الترمذي
(2) سورة آل عمران – آية 187(1/42)
لنفعهم الخاص (1)
__________
(1) تأمل هذه المشكلة بوضوح في أدوية مرض نقص المناعة المكتسب "الإيدز"، حيث تحسنت الحالة الصحية لملايين المصابين في الغرب نتيجة توفر الدواء في حين لا تزال الملايين الفقيرة في أفريقيا تقضي تحت شدة المرض فلا هي تستطيع شراء الدواء ولا يسمح لشركات دوائية أخرى بتصنيعه بسعر رخيص، هذا في نفس الوقت الذي يتشدق فيه العالم الغربي والأمم المتحدة برغبتهم في مكافحة الإيدز في أفريقيا فلا ينتج عنهم سوى برامج "التوعية" التي لا تعين في الحقيقة إلا على نشر الرذيلة وتقنينها ، والله المستعان.(1/43)
الستر على زملائه الأطباء : ………………… إن من المعلوم أن مجال الطب مجال اجتهاد واسع، وقد يجانب الطبيب التوفيق أحياناً في اختيار علاج أو تشخيص حالة أو قد يستعصي عليه الأمر بالكلية، بل قد تقع منه أخطاء يسيرة لا تضر في نفس الأمر، فيجب على الطبيب الذي يقع على شيء من أخطاء زملائه التي لا تضر في نفسها أن يستر على أخيه بما لا غش فيه للمريض ولا ضرر، بخلاف ممارسة بعض الأطباء الذين لا يلبثوا أن يكتشفوا زلة يسيرة لطبيب آخر حتى يبادروا إلى تجريحه واتهامه في علمه وفهمه وتوهين ثقة المريض به، ويتظاهر هذا المجرِّح بأنه يريد مصلحة المريض بل ووجه الله أحياناً، وهو في حقيقة الأمر لا يريد إلا إسقاط ذاك الطبيب من عين المريض، عسى أن يعزز ذلك التجريح من مكانته هو في عين المريض والمجتمع، وغاب عن هذا المسكين فضلٌ عظيمٌ هو خيرٌ له من حطام الدنيا الذي يلهث وراءه، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :"ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"(1)، وأعود فأنبه إلى أن محل الستر ها هنا هو فيما لا يضر بالمريض مما هو مسلكٌ سائغ في مجال الطب وإن كان خلاف الأولى، أو كان خلاف مسلك طبي آخر مما هو مغتَفَر في نفس الأمر، أما إذا كان الخطأ مما يضر بالمريض أو يستلزم كشفه له فمحل الستر هنا هو عدم الإفراط وتجاوز الحد في اتهام الطبيب، وإنما البيان على قدر الحاجة، فتنبه إلى هذا الخُلُق فإنه بين الأطباء اليوم نادرٌ جداً.
__________
(1) صحيح البخاري ، من حديث عبد الله بن عمر برقم 2262(1/44)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:…………………إن طبيعة تصرفات الطبيب وما يترتب عليها من أمور تؤثر على كثيرٍ من الناس، توجب على معاشر الأطباء أن يكون كلٌ منهم عوناً لأخيه، ينبهه حين يغفل ويصوبه حين يزل، وما ذلك إلا تفادياً للعواقب الوخيمة الناجمة عن رؤية الخطأ والسكوت عنه، ولا يستشكل هذا مع ما سبق من خُلُق الستر، فقد بينا أن ضابط الستر هو فيما لا يضر بالمريض، بحيث يستر على الزلات اليسيرة لزملائه الأطباء التي لا يترتب عليها ضرر وإنما تكون تفويتاً للأكمل والأفضل(1)، أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو بين الطبيب وأخيه الطبيب، وإنما اصطلحت على هذا السلوك التناصحي الإصلاحي في ميدان المهنة بالاصطلاح الشرعي المشهور "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ليتقرر في نفس كل طبيب مسلم أن هذا التعامل المهني الراقي هو من جنس هذا الواجب الشرعي، فيجب أن ينطلق من نفس الدوافع ويتأطر بنفس الأطر وتراعى فيه نفس المصالح والمفاسد؛ وتوضيحاً للأمر أقول إن توجيه الطبيب المسلم أخاه إلى سلوك مهني صحيح أو تنبيهه على خطأ أو زلة مهنية يجب أن يكون منطلقاً من دافع الحرص لا من دافع التجريح والإحراج، كما يراعى فيه اللين واللطف والأدب بعيداً عن ألفاظ الأذى والتسفيه والتجهيل، كما أن اختيار ما يوجه أو ينبه إليه يجب أن يكون مما تترتب عليه مصلحة أو يندفع به أذى لا أن يكون نقداً لمجرد النقد، وبمثل هذه الأخلاق يتجرد الطبيب المسلم من داعية هواه ويحتسب على هذا العمل مثل ما يحتسب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشرعي من الأجر والمثوبة إن شاء الله.
__________
(1) مثال ذلك طبيب أعطى مريضه مضاداً حيوياً لعلاج إنتان ولكن يوجد مضاد حيوي أفضل منه، فإذا كان المضاد الحيوي المفضول كافياً ولا يتضرر المريض ولا تفوت عليه مصلحة علاجه فلا ينبغي التشهير بهذا الطبيب أمام المريض والناس وإن كان لا بأس بالتناصح بين الأطباء بعضهم البعض.(1/45)
ثانياً: أخلاق الطبيب المسلم مع مريضه:
لا يخفى أن محور الحياة المهنية اليومية للطبيب قائمٌ على التعامل المستمر مع هؤلاء المرضى، وإن واجب الطبيب المسلم التحلي بالأخلاق الإسلامية في سياق هذا التعامل بغض النظر عن معاملة المريض له؛ وعلى الطبيب أن يدرك أن المريض الذي يتعامل معه يمر بظرف طارئ قد يفضي إلى بعض التصرفات القولية أو الفعلية غير المناسبة، وليكن الأصل في التعامل مع المريض في حالات ضعفه ومرضه قوله تعالى:" واخفض جناحك للمؤمنين"(1)، فإنه الوصف الأليق بالمؤمنين الكُمَّل الذين جاء وصفهم في القرآن :" فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"(2)، وقال تعالى:" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم "(3)، فعلى الطبيب المسلم أن يلين جانبه ويتواضع لمريضه المسلم ويحتمل منه ما قد يتفلت منه من سوء تصرف ويتعبد الله تعالى في ذلك. وليكن دأب الطبيب المسلم هذا اللين والرفق والتواضع حتى مع المريض غير المسلم ما لم يكن هنالك مانع شرعي من ذلك، إذ ليس المراد الاستدلال بالآيات على تعنيف المريض غير المسلم ونحوه بل إن مقام العزة على الكافر ليس هذا محله، فالمريض أياً كان أمره ودينه يكون في حالة انكسار أدعى ما تكون للين الجانب والرفق، وإنما أكدت على ذلك مع المريض المسلم لأنه داخلٌ في إطار الحقوق والالتزامات بين المسلمين بعضهم البعض، ولننظر على سبيل المثال كيف كان خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المريض غير المسلم حتى لا تشتبه علينا الأمور أو نتوهم خلاف المشروع، فعن أنس رضي الله عنه قال :كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الحجر – آية 88
(2) سورة المائدة – آية 54
(3) سورة الفتح – آية 29(1/46)
فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الحمد لله الذي أنقذه من النار"(1)، فأي رِفق ولينٍ ورحمةٍ أشد من هذه التي دفعت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عيادة ذلك الصبي اليهودي ؟ إنه رفق ولين طبيب القلوب بل سيد الأطباء، وهكذا ينبغي أن يكون الطبيب المسلم مراعياً لأكمل مصالح مريضه، وخافضاً له جناحه ومحتملاً في الله ما قد يصدر عنه، وإنها نفس الرحمة واللين الذين يسلكهما الداعية إلى الله وهو يخاطب فئام الناس على اختلاف مشاربهم، وهو يتمثل قول الحق سبحانه وتعالى:" ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"(2).
إن المقدمة السابقة تشير إلى وجود أصولٍ عامة يجب أن يتحلى بها الطبيب المسلم في تعامله مع كل المرضى، ثم إن هناك مجموعة من الآداب الخاصة التي يتحتم على الطبيب المسلم مراعاتها مع مريضه المسلم خصوصاً لأنها تتعلق بها جملة من الأحكام الشرعية فوجب التنبيه عليها. وفيما يلي بيان لبعض درر هذه الحلية إن شاء الله:
1- التواضع :
قال الله تعالى :"كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى"(3) والطغيان هو المجاوزة في الحد، ولا شك أن ما يحصله الطبيب من علوم يتفوق بها على كثير من الناس قد تكون مظنة الزهو والاستعلاء الفارغ على الناس، بحيث لا يخاطبهم إلا من عِلٍّ ولا ينظر إليهم إلا بأنف شامخ وكأنه غفل عن قول الشاعر :
ملأى السنابل تنحني بتواضعٍ ……والفارغات رؤوسهن شوامخُ
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الجنائز
(2) سورة آل عمران – آية 159
(3) سورة العلق – آية 7-8(1/47)
فعلى الطبيب المسلم أن يتواضع ويدرك فضل الله تعالى عليه بهذا العلم، وأنه إنما أوتيه بفضل الله ومنته، لا بفضل نفسه أو ذكائه كما قال قارون حين ذُكِّر بفضل الله عليه فيما آتاه من مال :" قال إنما أوتيته على علم عندي أوَلم يعلم أن الله قد أهلك مِن قبله من القرون من هو أشد منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون"(1)، وإني لأذكر عندما كنا في الولايات المتحدة كيف كان يتطاول بعض المجرمين ممن ينتسبون إلى هذه المهنة فيقولون متباهين بعلمهم وبطبهم وبتخصصاتهم الدقيقة أنهم "إله " هذا الفن أو الاختصاص أو يقوله عنهم بعض السفهاء من تلاميذهم والمبهورين بهم فلا حول ولا قوة إلا بالله(2).
2- مخاطبة المريض بما يفهم:
__________
(1) سورة القصص – آية 78
(2) عندما كنا ندرس في المركز الطبي في مدينة هيوستن الأمريكية كان هذا الوصف شائعاً جداً – أعني وصف بعض المتميزين بخبرات طبية دقيقة أو فائقة – فيكاد يكون معتاداً أن تسمع عن فلان أنه "إله" هذا الفن أو ذاك، ولم أكد أنهي دراستي هناك عام 2000 حتى كان ابتلاء الله تعالى لتلك المدينة بفيضان هائل أغرق المدينة الطبية بكاملها ودمر رصيد عقود من الأبحاث الطبية والمخبرية الدقيقة هذا ناهيك عن الخسائر المقدرة بمليارت الدولاارت، فقلت في نقسي: سبحان الله، قد أراهم الله تعالى من هو الإله حقاً(1/48)
والحقيقة أن هذا أصل شرعي في الخطاب التعليمي كما روت أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: "كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه"(1)، وقال علي رضي الله عنه :" حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله"(2) ، ذلك أن الهدف من مخاطبة المريض تفهيمه ما يحتاج إليه في مرضه وعلاجه، ولس الهدف إظهار ما عندك من العلم أو الظهور على المريض والاستعلاء عليه ببعض الكلام الاصطلاحي، أو التشدق ببعض الكلام الأجنبي كما هو شائع اليوم، فعليك أيها الطبيب المسلم أن تخاطب المريض بما يستطيع فهمه لا بما تستطيع قوله، وحذار أن تُشعر المريض بالحرج أو الاحتقار إذا سألك أو استفصل منك عن كلامٍ قلته له، بل عليك أن تفسح المجال للمريض أن يسأل ويستوعب ويفهم ليخرج من عندك قرير العين مجبور الخاطر، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، كان لا يُعنِّف سائلاً ولا يحتقر مسألةً ولا يهون من شأن أحدٍ البتة، مع علمك بأنه كان يَرِد عليه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم الصحابي والأعرابي، الغني والفقير ، العزيز والحقير، المرأة والصبي والشيخ الكبير، وكلهم يصدر عنه وقد أجاب مسألته وراعى خاطره وخاطبه على قدر حاجته، بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وأنبه إلى مسألة أخرى وهي أن المريض قد يُلغز إليك بالسؤال استحياءً من التصريح به، فعليك أن تكون نبيهاً فطناً فتستفصل عما يُحرج المريض، وتطمئنه إلى أنك أهلٌ ومحل للثقة حتى لا تفوِّت عليه مسألته أو تخل بمصلحته.
3- مراعاة مصلحة المريض :
__________
(1) سنن أبي داود – كتاب الأدب – وحسنه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود، وصحيح الجامع.
(2) صحيح البخاري – كتاب العلم – حديث 124(1/49)
إن من يتأمل في علم القواعد الفقهية يتعجب أيما عجب من ذلك المنهج الدقيق الذي وضعته الشريعة الإسلامية في تحديد وترجيح مصالح المكلَّفين، وفي منهج تحرير الاجتهاد والفتيا الذي سلكه فقهاؤنا وعلماؤنا رحمة الله عليهم لما يطرأ عليهم، ويرى أنه عين المنهج الذي يحتاج أن يلتزمه الطبيب المسلم وهو يتحرى نفع مريضه وصلاح بدنه وجسده الذي يطببه، فأنت إذا رجعت إلى القاعدة الفقيهة المشهورة : "لا ضرر ولا ضرار "(1) وهي إحدى قواعد الفقه الكلية الخمسة التي ينبني عليها الفقه الإسلامي، ثم تأملت في القواعد المتفرعة عن هذه القاعدة الكلية رأيت كل ما تحتاجه لضبط قراراتك الطبية، لا سيما في الحالات المرضية المعقدة، وسوف أسرد لك هذه القواعد لتتضح لك الصورة ولتثلج صدرك بروعة التشريع والمنهج الإسلامي، وأهم هذه القواعد ما يلي:
القاعدة الكلية: لا ضرار ولا ضرار
الضرر يُزال
الضرر لا يُزال بالضرر
الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف
إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
الاضطرار لا يُبطل حق الغير(2)
__________
(1) وهذه القاعدة الفقهية نص حديث شريف رواه ابن ماجه، والإمام أحمد في مسنده والإمام مالك في موطأه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح ابن ماجه وغيره
(2) القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه – د. محمد أبو بكر إسماعيل – من 96 إلى 114(1/50)
فهذه أهم القواعد الفقهية في هذا الباب، ولسوف أشير دون إطالة إلى نماذج تطبيقية سريعة تبين لك دور هذه القواعد في القرار الطبي العلاجي؛ فتطبيق قاعدة الضرر يُزال يدفعك لرفع آثار المرض عن المريض ، في حين إن قاعدة الضرر لا يُزال بالضرر تمنعك من أن تعالج خَرَّاجاً يسيراً في طرف من الجسم ببتر ذلك الطرف، أما قاعدة الضرر الأشد يُزال بالضرر الأخف فتسمح لك إعمال المبضع لشق ذلك الخراج مع ما في ذلك من ألم وخرق لأنسجة الجسم، أما إذا تحول الخراج إلى نسيج متموت يضر بالجسم ( كالغرغرينا ) فهنا تطبق قاعدة "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما" فيجوز بتر العضو إذا خيف على باقي الجسد من الهلاك، وهكذا الحال عند مرضى السرطان الذين يحتاجون لأدوية ذات أضرار جانبية شديدة فتحتمل هذه الأضرار لأنها أخف من ضرر السرطان ، وهكذا دواليك.. …(1/51)
وقد يبادرني أحد القول بأن هذه الموازنات في القرار الطبي بدهية معروفة وواضحة، فلماذا نربطها بقواعد فقهية ولماذا نُقحم الشريعة في الطب؟ والجواب على هذا من أوجه، أولها أن كون الأمر بدهي لا يمنع من تقريره بالدليل الشرعي لتستقر في عقول الناس ملائمة ديننا الحنيف لفطرة وحاجة الإنسان، وثانيها أن بيان تقرير هذه المبادئ في ديننا الحنيف يقي الطبيب المسلم من الانبهار بالمنهجية العلمية الطبية التي قد تكون تطورت على أيدي الكافرين، حيث يدرك أن المبادئ العامة التي تضبط منهجية القرار مستقرة راسخة في ديننا فتنقطع مفسدة الانبهار بالكفار وناهيك بها مفسدة، وثالثها وهو أمر يغفل عنه الكثير من الأطباء المسلمين هو أن الانطلاق من هذه القواعد الفقهية الشرعية في تقرير ما هو أصلح لعلاج المريض يُذكرك باعتبار المصالح والمفاسد الشرعية إضافة إلى المصالح والمفاسد الطبية البحتة، بحيث تراعي قدر الإمكان ألا يؤدي القرار العلاجي إلى تفويت مصلحة شرعية أو دينية للمريض أو لغيره طالما أن مراعاة هذا الأمر لا تخل بأسباب العلاج والبرء إن شاء الله، وهذا الاعتبار لا يمكن شهوده عند من لا ينطلق في قراراته من هذه القواعد الفقهية المذكورة. وأورد هنا مثالاً واحداً يبين أهمية مراعاة المصالح الشرعية في القرار العلاجي :(1/52)
هب أنك تعالج مريضاً أصيب بكسر في اليد، وقررت أنه يحتاج إلى جبيرة، وفي سياق وضع الجبيرة لتثبيت الكسر كان حجم الجبيرة أكثر قليلاً مما يحتاجه الكسر، ولكن هذه الزيادة القليلة لا تضر من الناحية الطبية، فإذا توقفت عند حدود المصلحة الطبية لم يكن هناك مانع من الإبقاء على هذه الزيادة، أما لو كنت تخاف الله وتستحضر القواعد الشرعية التي تضبط رفع الضرر، لعلمت أن هذه الزيادة في موضع الوضوء قد تعطل على المريض طهارته وعبادته، لأن هذه الزيادة ليست موضع رخصة للمسح على الجبيرة، فلا يجزيه المسح على الموضع الزائد، ولربما تعطلت عبادته شهراً أو أكثر مدة بقاء الجبيرة، فلو أنك استحضرت هذا الأمر وراعيت هذه المفسدة الشرعية لاتقيت الله ولما أبقيت على القدر الزائد الذي لا حاجة له من هذه الجبيرة، وهكذا تتضح أهمية مراعاة الضرر الشرعي إضافة إلى الضرر الجسدي عند اتخاذ القرار العلاجي ، والأمثلة أكثر من أن تحصر في هذا المقام، ولكن أردت التمثيل فحسب.
4- الستر على المريض:(1/53)
لا شك أن علاقة الطبيب بالمريض علاقة فريدة من نوعها، فالطبيب شخصٌ أجنبي لا يلبث أن يطلع على أدق خصوصيات المريض في أشد حالاته ضعفاً وهي حالة المرض، وقد يؤدي هذا الإطلاع إلى معرفة بعض الأمور الشخصية، سواءٌ أكانت متعلقة بالمرض أم بحياة المريض الخاصة، ومن هنا وجب على الطبيب المسلم أن يخشى الله تعالى ويتقيه في كتمان هذه الأسرار والستر على المريض، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة"(1)، ومفهوم هذا الحديث أن من لم يستر أخاه المسلم لم يستره الله تعالى يوم القيامة نعوذ بالله من ذلك. والمقصود أن ننبه إلى أن ما يطَّلِع عليه الطبيب المسلم من خصوصيات مريضه من جنس الأمانة التي يتوجب حفظها وصونها، والستر على المريض المسلم من لوازم الأخوة الإيمانية، وليس كما يتوهم البعض ثمرةً من ثمرات الحضارة الغربية عند من يتشدق بأخلاقيات المهنة التي يستلهمها ممن لا أخلاق لهم البتة، كما أن على الطبيب المسلم أن يدرك أن الله تعالى مطلعٌ عليه، فيرعوي(2) عن استغلال موضعه المهني الذي قد يتمكن من خلاله من الإطلاع على خصوصيات مرضى لا تربطه بهم علاقة مهنية – كأن يبحث في ملفات المرضى ونحوه – إذ لا يحق له ذلك البتة، بل هو إلى التجسس والتدخل في شؤون الغير أقرب، فإذا احتاج أن ينظر في ذلك – لغرض بحث علمي أو مراجعة ما – فعليه أن يأخذ الإذن اللازم سواء من المريض أم من الطبيب المشرف عليه بحسب العرف الطبي.
__________
(1) سبق تخريجه برقم 31
(2) أي يرتدع(1/54)
بقي أمرٌ مهم في هذا المقام وهو ما قد يقع من إطلاع الطبيب على أمرٍ من المريض فيه إضرار بالغير، فهنا قد تُهدر المصلحة الخاصة حفاظاً على المصلحة العامة، وعلى الطبيب أن يرجع إلى المسؤولين عندما تُشكل عليه مسألة ما، أما أن يسكت عما اطلع عليه مما فيه إضرار بالجماعة المسلمة ويتواطأ مع المريض على كتمانه، فهذا من جنس التعاون على الإثم والعدوان المنهي عنه في قوله تعالى:" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"(1)،والله تعالى أعلم. ومثال ذلك لو أن الطبيب شخص حالةً مرضية وبائية عند المريض بحيث يمكن نشر الوباء ما لم تُتخذ التدابير الوقائية اللازمة، فإن التستر على المريض – لأجل مصلحته الخاصة – قد يضر بالجماعة العامة من حيث تسهيل انتشار المرض وعدم العمل على الحد منه، وعليه يشرع إهدار الحق الخاص لمصلحة الجماعة.
5- النصح للمريض:
__________
(1) سورة المائدة - 2(1/55)
وأقصد بالنصح ها هنا الإخلاص(1)، فعلى الطبيب المسلم أن يكون مخلصاً فيما يقدمه للمريض من وسائل تشخيص وعلاج، ولا يكون همه مجرد تحصيل الأجر من المريض بأي صورة كانت، كأن يطلب من الفحوصات والاختبارات أو يصف من أنواع العلاج ما لا يحتاجه المريض حقيقةً من أجل أن يتكسب من ذلك. واعلم أيها الطبيب أن المريض قد وضع جسده وحياته أمانةً بين يديك، وقد قال الله تعالى :" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"(2)، وإن عدم مراعاة الأمانة وحفظها خيانة واضحة، بل هي خصلة من خصال النفاق التي حذر النبي صلى الله عليه وسلم منها، فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" أربع من كنَّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"(3)، والشاهد في قوله صلى الله عليه وسلم :"إذا اؤتمن خان"،ولا شك أن الطبيب مؤتمن على حفظ ما يطلع عليه من حال مريضه بحكم المهنة وضرورة الكشف والعلاج، وتأمل معي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا حدَّث الرجلُ الحديث ثم التفت فهي أمانة "(4)، قلت: فإذا كان الحال كذلك فما بالك بأخص خصوصيات وأسرار المريض التي تطلع عليها، أفلا تكون أمانةً أثقل من الجبال؟ فحذار أن تتحول أسرار المرضى إلى
__________
(1) قال صاحب القاموس المحيط : نصح : خلص، وتأمل معي قوله تعالى :" ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم"(التوبة 91) يتبين لك معنى النصح وهو الإخلاص والصدق، ومنه التوبة النصوح أي الصادقة، فتأمل.
(2) سورة النساء – 58 آية
(3) صحيح البخاري – كتاب الإيمان
(4) سنن الترمذي – كتاب البر والصلة، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن، وحسنه الألباني أيضاً في صحيح الترمذي وحسنه من حديث أبي داود أيضاً(1/56)
أحاديث يُتفكه بها في ردهات المشافي والمصاعد وغيرها من المجالس.
فإذا عُلم هذا فلتعلم أيها الطبيب المسلم أنك مخاطَب بوجوب التزام الأمانة مع مريضك من جهتين اثنتين؛ إحداهما تتعلق بالمهنة والأخرى تتعلق بالشرع. أما ما يتعلق بالمهنة فقد تقدمت الإشارة إلى شيء منه، بحيث لا يجوز لك أن تخون المريض الذي ائتمنك على صحته وحياته فتتلاعب به، وتهول له الأمور، وتصف له ما لا يلزمه من الفحوصات والعلاجات، والأمر أسوأ إذا كان قصدك من وصف هذه الفحوصات والعلاجات غير اللازمة التكسب المادي بغير وجه حق، وأما ما يتعلق بالشرع فمن جهة عدم هتك ما لا يجوز هتكه مما اطلعت عليه بحكم المهنة من عاهةٍ أو نقصٍ أو عيبٍ خَلقي أو خُلقي، وسواء أكان هذا الهتك بإطْلاع الغير على ما عاينت، أو بإطلاع نفسك على أكثر من الحد الجائز الذي أباحته لك الضرورة الشرعية، ولعل أوضح مثال في هذا الباب ما يتعلق بكشف العورات وهذه من المصائب التي عمَّت وطمَّت، فاعلم رحمك الله أنك إذا احتجت أن تكشف علىجزء من عورة مريضتك لضرورة الفحص والشكاية لم يكن لك عذر في كشف ما عداه، وإذا كان التأمل يكفي لم يكن لك عذر في الجس، وإذا كان في التأمل والجس كفاية لم يكن لك عذر في المس، وهكذا.. وهذا صحيح في العكس – أي اطلاع الطبيبة على عورة المريض إذا تعينت الحاجة أو الضرورة – ومن المناسب أن ننبه في هذا المقام على أمرين يتعلقان بمسألة العورات؛ أحدهما تدرج إباحة الاطلاع على العورة للحاجة أو الضرورة بالنسبة للمريضة فتبدأ بالطبيبة المسلمة، فإن عدمت فالطبيبة غير المسلمة، فإن عدمت فالطبيب المسلم، فإن عدم فالطبيب غير المسلم، ما لم يفوت هذا التدرج مصلحة طبية معتبرة تعود إلى تفاوت المهارة المهنية(1)
__________
(1) أما الندرج بالنسبة للمريض يكون من الطبيب المسلم إلى الطبيب غير المسلم إلى الطبيبة المسلمة إلى الطبيبة غير المسلمة وكل هذا مقيد ومقدر بالحد الذي تندفع به الضرورة والحاجة.(1/57)
، وأما المسألة الثانية المتعلقة بموضوع العورات فهي مراعاة حرمة الاطلاع على العورات المغلَّظة بغض النظر عن توافق الجنسين أو اختلافهما، فعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" (1) والحقيقة أن عدم مراعاة هذا الأمر قد دفعت بكثير من الأطباء والمرضى بل وطلاب العلم إلى اقتحام ما لا يجوز اقتحامه من حرمات وعورات بحجة توافق جنس الطبيب مع المريض، مع أن الأمر ليس على إطلاقه، وكون الطبيب والمريض من جنس واحد – ذكوراً كانوا أم إناثاً – لا يبيح النظر إلى العورة – لا سيما المغلظة منها – بدون ضرورة أو حاجة تكون مُنزَّلة مَنزِلة الضرورة(2)، فتأمل.
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الحيض ورواه الترمذي وابن ماجة وصحح حديثهما الألباني - واللفظ لمسلم
(2) ولعل من أهم الأمثلة على هذا الموضوع المهم ما يتعلق بتركيب ما يسمى "اللولب" لمنع الحمل وما يتعلق بأخذ البويضات وزرع المشيج الملقح في الرحم ضمن إجراءات ما يعرف "بأطفال الانابيب" وهذه الإجراءات تتضمن الإطلاع على ما لا يحل الإطلاع عليه من العورات وليس منع الحمل بضرورة عند معظم من يستخدمن اللوب وإن كان منع الحمل ضرورياً لسبب طبي يتعلق بخطر الحمل على الأم فهذا خارج عن محل النزاع مع ملاحظة أن الوسيلة غير متعينة ومأخذنا في هذا المثال على الوسيلة لا على المنع نفسه، أما بالنسبة للإنجاب عبر وسيلة أطفال الأنابيب فأيضاً لا توجد ضرورة طبية تبيح الإطلاع على هذه العورة وما قد يرد من أن مصلحة التناسل ضرورة صحيح بالنسبة للنوع الإنساني لا بالنسبة للأفراد والأعيان فتأمل الفارق ، ولهاتين المسألتين كلام ومآخذ يضيق عنها المقام وإنما أردت ضرب المثال لمحل ورود مسألة التهاون في كشف العورات بين الطبيب والمريض وإن اتفق جنسهما.(1/58)
ومما يتعلق بالشرع أيضاً أمانة حفظ دين المريض من حيث عدم تفويت فروضه ومصالحه الدينية لغير عذر مشروع، فلا يجوز للطبيب أن يهمل ما يترتب على الإجراء الطبي الذي يقوم به أو الخطة العلاجية التي يضعها للمريض من آثارٍ قد تُخل بعبادات المريض، بحيث يتوجب عليه أن يراعي هذه الآثار ويقلل منها قدر المستطاع، مراعياً الموازنة بين مصلحة المريض الدنيوية في العلاج والاستشفاء ومصلحته الأخروية في القيام بواجباته الدينية، ولعلنا نفصل في هذه النقطة في الفرع السابع مما نحن بصدده الآن.
6- العفو والتسامح مع المريض:(1/59)
مما لا شك فيه أن حالات المرض مظنة لصدور بعض التصرفات التي لا تصدر عن أصحابها في أحوالهم المعتادة، وإنما تقع في ظروف المرض كالشدة النفسية المرافقة لبعض الحالات الخطيرة والحرجة، أو عدم تمام الوعي في بعض الأمراض التي تؤثر على سلامة التفكير والوعي ولو بصورة عابرة أو يسيرة، وغير ذلك مما هو معلوم لدينا معاشر الأطباء، قلت: إن بعض هذه التصرفات قد تسيء إلى الطبيب إما إساءةً معنويةً كصراخٍ وكلامٍ جارحٍ أو تهمة أو حتى بذاءة في بعض الحالات، وإما إساءةً جسديةً لا سيما عند فاقد التصرف السليم لخلل عابر أو مستقر في وظائف الدماغ كالذين يعانون من بعض حالات العته أو بعض الحالات النفسية أو الأطفال الذين ربما يركلون ويعضون الطبيب أو الممرض في بعض الحالات! فلا بد للطبيب والحال كذلك من أن يراعي قدر السلامة له ولفريقه الطبي ولمريضه اتقاءً للأذى الجسدي بالدرجة الأولى، وذلك غالباً ما يتحقق بكسب ثقة المريض والتدرج في مقاربته وتطمينه وإعلامه بكل ما يتم إجراؤه ما تيسر ذلك، وهذا كله مما يتعلمه الطبيب في دراسته وواقعه مما لا حاجة لكثير تفصيلٍ فيه، ولكني أحببت أن أنبه إلى ما يجب أن يتحلى به الطبيب المسلم من خُلُق في تعامله مع هذه الإساءات، سواءٌ أكانت متعمدة أم غير متعمدة، فهذا المريض له علينا حقوق أصيلة من جهة كونه مسلماً فلا يَحلُّ تضييعها بحجة هذه الممارسات التي قد تصدر عنهم، ومن أجمع ما ورد في سياق تقرير حقوق المسلمين بعضهم على بعض قوله تعالى :" محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"(1)، وقوله تعالى :" يأيها الذين آمنوا مَن يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"(2)، وقوله تعالى موجهاً نبيه صلى الله عليه وسلم:" واخفض جناحك للمؤمنين"،(3) والحاصل من هذه النصوص أن
__________
(1) سورة الفتح – آية 29
(2) سورة المائدة – آية 54
(3) سورة الحجر- آية 88(1/60)
يتعامل المسلم مع أخيه المسلم بالتراحم والتذلل وخفض الجناح، وهذا كله أرض خصبة لبذور التسامح والعفو عن الخطأ والإساءة ومراعاة حال الغير حين صدور الإساءة أو الخطأ منه، ولا ينقلب الحال بينك وبين المريض إلى سِجالٍ وخِصام وأنفة وكبرياء، وقد قال أبو عبد الله الجَدَلِيَّ : سألتُ عائشة عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:"لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخَّاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح "(1)، نعم هذا هو خُلُق نبينا صلى الله عليه وسلم، وقَمِنٌ(2) بك أيها الطبيب أن تتخذه خُلُقاً ومسلكاً، وأجرك وحسابك على الله. أما خصوصيات التعامل مع المريض غير المسلم فسنفرد لها فقرة لاحقة إن شاء الله.
7- إرشاد المريض فيما يحتاجه من أمور دينه:
قد يجد الطبيب المسلم نفسه أمام مشهد المرض الذي يكون مَظنة الإخلال ببعض الواجبات والتكاليف الدينية للمريض، أو يجد أن ما يقوم به أو يصفه من علاج أو إجراء طبي يؤدي إلى الإخلال ببعض هذه الواجبات، بل ربما تعلقت بعض الأحكام الشرعية بنفس المرض أو الإجراء الطبي الذي يصفه الطبيب، ولا شك أن من واجب الطبيب المسلم حينذاك أن يكون عوناً لمريضه على الوفاء بالتزاماته الشرعية في سياق رحلة المرض والاستشفاء هذه. ويمكن أن نقسم الاحتياجات الشرعية للمريض إلى قسمين ؛ أحدهما يتعلق بالإخلال والآخر يتعلق بأحكام شرعية جديدة مترتبة على المرض وفيما يلي نبذة عن ذلك:
أولاً: ما يتعلق بالمرض من إخلال بالواجبات الشرعية:
__________
(1) سن الترمذي – كتاب البر والصلة وقال أبو عيسى حسن صحيح، وصححه الألباني رحمة الله على الجميع
(2) قمن: أي جدير بك(1/61)
إن حالة المرض قد تضعف البدن إلى حدٍ يشق على المريض القيام بالعبادة البدنية، أو يتعذر عليه تحصيل شروط عبادة معينة على الوجه الأكمل والصحيح، ولا مجال لاستيعاب مفردات هذه الأحوال في هذه الحلية المختصرة، وإنما أنبه على جنسها من خلال عرض بعض الأمثلة، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حُبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إنما ذلك عِرق وليس بحيض، فإذا أقبَلَت حيضتُك فدعي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدم ثم صلي"(1)، فهذا الحديث أصلٌ في ما يعرف بوضوء وطهارة أهل الأعذار، والشاهد في الحديث أن هذه الصحابية كانت مبتلاة بمرض – هو عرق الدم النازف – وقد التبس عليها هذا المرض حتى حسبته من الحيض الذي لا تصح معه الصلاة، فردها الرسول صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي إلى الصواب، فبيَّن لها حقيقة المرض وأنه عِرقٌ وليس من الحيض في شيء ثم أرشدها – وهذا موضع الشاهد – إلى ما يتعلق بهذا الدم من أحكام شرعية نتيحة الإخلال أو اللبس في مسألة الطهارة. وحريٌ بكل طبيب مسلم أن يعلم هذا الأصل لأنه كثير الورود والتكرار، لا سيما في المستشفيات حيث يفوِّت كثيرٌ من المرضى من أهل الأعذار – كمن عندهم سلس بول أو من وضعت لهم القثاطر البولية ومن أجريت لهم فتحات إفراغ اصطناعية للفضلات ونحوها – يفوِّت هؤلاء على أنفسهم الصلاة لجهلهم بأحكام طهارة أهل الأعذار، ولا أحسب الطبيب الذي وضع القثطرة البولية أو أجرى العملية الجراحية لفتح مخرج للفضلات ونحوه إلا مسؤولاً عن تنبيه وتوجيه مريضه إلى أحكام طهارته(2). ومن الأمور لصيقة الصلة بهذا الباب
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الوضوء
(2) وأضعف الإيمان وأقل ما تبرأ به الذمة أن ينبه الطبيب مريضه إلى ضرورة سؤال من يثق بدينه من أهل العلم كي يفتيه ويرشده إلى ما يحتاج إليه.(1/62)
أيضاً ما يتعلق بأمر الرخص الشرعية كإفطار يومٍ واجبٌ صومه، أو ترك سجود لمن يضر ببصره فعله ونحو ذلك، والأصل الشرعي العظيم في هذا الباب قوله تعالى :"وما جعل عليكم في الدين من حرج"(1)، وأما حديث الباب فهو ما رواه عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه قال : " كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال: صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب"،(2) وهنا لا بد من التنبيه إلى ضرورة تورّع كلٍ من الطبيب والمريض في مسائل الرخص في العبادات، لا سيما المفروضة منها فلا يتهاون الطبيب - لقلة علمه أو قلة ورعه – فيتساهل في الترخيص بما ليس بمرخِّص فيفسد على المريض دينه، ولا يتشدد في عدم الترخيص بما هو مرخِّص فيفسد على المريض صحته وعافيته، كما يجب على المريض أن يتورع عن أخذ الرخصة(3) من دون تحرٍ لأمانة الطبيب، بحيث يجب عليه أن يحتاط عند ظهور ما يقدح في أمانة الطبيب وعدالته، ككونه لا يصلي إن كان ممن ينتسب لأهل القبلة، أو كونه كافراً أصلياً من باب أَولى، ولا يعني
__________
(1) سورة الحج – آية 78
(2) صحيح البخاري – كتاب الجمعة – باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب
(3) وأذكر في هذا المقام والد أحد المرضى الذين أتابعهم في عيادتي وقد حدثني أنه مصاب بحالة مرضية في إحدى عينيه وقد نصحه أحد الأطباء بالامتناع عن السجود في حين أشار عليه طبيب آخر بأن لا حرج في ذلك، فالتبس عليه الأمر فلم يقنع بالركون إلى الرخصة حتى تكبَّد مشقة السفر إلى مركز طبي متخصص في بلد بعيد وأشير عليه بأن لا مانع طبي من السجود ، والشاهد أن الورع يقضي بأن يحتاط المريض ولا يركن إلى الأسهل والأحوط طبياً بل يجتهد في الرجوع إلى أهل الخبرة والفن ، فتأمل كيف اجتهد هذا الرجل فمنّّ الله تعالى عليه بالاطمئنان على حالته الصحية والاطمئنان إلى أداء عبادته أكمل ما يكون فجمع الله تعالى له خيري الدنيا والآخرة ولله الأمر من قبل ومن بعد.(1/63)
الاحتياط ألا يأخذ بالرخصة من هؤلاء مطلقاً، وإنما يعني التثبت وربما عرض الحالة على غير من مضت صفتهم ممن هم أمناء في الدين والمهنة(1).
ثانياً: ما يتعلق بأحكام شرعية جديدة مترتبة على أحوال المريض:
فالطبيب يطلع بطبيعة المهنة على دقائق في حياة المريض قد لا يتنبه إليها غيره أو لا يطلع المريض غيره عليها، فحريٌ به أن ينبه مريضه على ما تلبَّس به من أحوال قد تترتب عليها أحكام شرعية يحتاج إلى مراعاتها؛ ولعل من أدق هذه المسائل التي تعم بها البلوى وتستشكل على كثير من الناس بل وتحير أهل العلم أحياناً ما يتعلق بالدماء الطبيعية عند النساء، وقمنٌ بالطبيبة التي تصدت لهذا التخصص أن تكون ملاذاً لمريضاتها، تحل إشكالهن وتبين ما أبهم عليهن، وإن كان لها علم بحكم الشرع نبَّهت وإلا وضحت لمريضتها صورة المسألة حتى تُحسن الاستفتاء، لا سيما وأن في هذه المسائل من عامل الحياء والخجل ما قد يعيق وضوح التصوير عند عرض المسألة، وهاتيك أمُّنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها تفتي النساء وتعلمهن ما يتعلق بأخص خصوصياتهنَّ، ذكر البخاري رحمه الله في باب إقبال المحيض وإدباره: وكنَّ نساءٌ يبعثن إلى عائشة بالدُرَجة فيها الكُرسف فيه الصُفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين القصَّة البيضاء، تريد بذلك الطُهر من الحيضة(2). قلت: رضي الله عنها وأرضاها ما أحرصها على دين المسلمين وعبادتهم، كيف لا وهي الفقيهة الصدِّيقة بنت الصدِّيق. والشاهد هنا أن بعض هذه الأمور مما يتعرض له الطبيب أو الطبيبة يتعلق بها وجهان؛ أحدهما دقة الأمر من جهة تصوُّره
__________
(1) ولهذا الأمر ضوابطه الفقهية عند العلماء فيرجع إليها في مظانها أو يستفتى فيها أهل العلم
(2) صحيح البخاري – كتاب الحيض - الدُرجة : القطنة ونحوها تحتشي به المرأة في موضع الحيض. الصفرة: أثر الحيض وهي في زمن الحيض حيض وأما خارج زمن الحيض فليست بشيء، والقصة البيضاء : أي القطنة البيضاء دليل انقطاع أثر الحيض(1/64)
أحياناً – كما هو الحال في مسائل الدماء الطبيعية عند النساء المتحيرات(1) – والثاني ما يتعلق به من حرج أو حياء قد يكتم معه المريض مسألته عن أهل العلم والفتيا، وليس أليق من الطبيب والحال كذلك بتصوير المسألة تصويراً دقيقاً يعين المريض على السؤال ويرفع عنه حاجز الحياء المذموم(2) حفاظاً على دينه بعدما اجتهد في تعهد بدنه.
ويدخل في هذا المجال أيضاً – أعني الأحكام الشرعية المترتبة على المرض – ما يتعلق بتشخيص الأمراض المعروفة بالسراية – أعني إمكان انتقال العامل الممرض من المصاب إلى غيره – فقد يشرع الحجر على المريض إذ ذاك فيمنع عن حجٍ مثلاً، فتلحق به أحكام الإحصار على قول من يقيس على الإحصار بمنع العدو، أو خيار التفريق بين الزوجين لمكان الضرر عند تشخيص مرض نقص المناعة المكتسب (المعروف بالإيدز)، ودور الطبيب في هذا المجال يتعلق بالاجتهاد في تعيين التشخيص والتواصل مع الجهة المسؤولة لإبلاغها بالحالة حتى تترتب الإجراءات اللازمة لوقاية باقي أفراد المجتمع وتنبيه المريض إلى احتمال السراية إلى الغير من أفراد الأسرة، لا سيما الزوج باعتبار أن بعض الأمراض تكون سرايتها بطريق الوطء. والحقيقة أن ما ذكرته هنا هو من باب التمثيل وإلا فإن استيعاب كل الجزئيات يحتاج إلى تصنيف مفرد مستقل.
8- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
__________
(1) المتحيرة : من لا تستطيع ضبط عادتها بزمن ولا لون ولا رائحة
(2) وإنما كان الحياء مذموماً في هذا الموضع لأنه أصبح عائقاً عن التعرف على أحكام الشرع(1/65)
لقد تقدم معنا في غير موضع أن الطبيب بحكم مهنته يطلع على ما لا يطلع عليه غيره من خصوصيات المريض، وهو بهذا مخاطَب على وجه أخص بعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم :"من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"(1)، فأما الإنكار باليد مع المريض فلا ريب أنه يفتقر إلى سُلطة، ولا يصح أن يبادر به الطبيب بغير سلطة يخوله إياها ولي الأمر أو من يقوم مقامه – كوزير الصحة مثلاً – أو إذن المريض…نفسه، فمثال الأول أن يأذن أو يأمر ولي الأمر أو من يقوم مقامه بإتلاف ما يحوزه المرضى من شركيات يستشفون بها كتعويذة محرمة أو نُشرة(2) محرمة، ومثال الثاني أن يأذن المريض للطبيب بأن يزيل وشماً أحدثه في جسده مع انتفاء المانع(3) وهكذا، وأما الإنكار باللسان فيراعى فيه أمرٌ مهم ودقيق وهو ألا يفضي إلى ضررٍ أكبر، وأنبه هنا إلى أن خوف الطبيب من أن ينفر المريض منه فيفضي ذلك إلى ترك التطبيب بما يفضي إلى ضرر بصحة المريض أو تلف عضو منه أو هلاك جسده…هو ضرر معتبرٌ شرعاً، لأن حفظ ذلك كله مطلوبٌ شرعاً، فإذا غلب على ظن الطبيب أن إنكاره بالقول على مريضه اقترافَ منكرٍ ما كوشم أو كشف عورة أو تبرج سيؤدي إلى نفور المريض بحيث لا يستجيب للعلاج فيتضرر في جسده، فإن إنكار هذا المنكر لا يُشرع لما يترتب عليه من ضررٍ أكبر، بل قد يأثم الطبيب من جهة إدخال هذا الضرر على المريض فليتنبه لذلك، وليعلم الطبيب أن إنكار المنكر في هذا المقام يراد منه اغتنام فرصة العلاقة بين الطبيب والمريض، ولا يراد منه أن تتحول العيادات والمشافي إلى مراكز للحسبة والوعظ فلذلك مجالٌ آخر، وإنما هو العدل والتوسط
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الإيمان
(2) النشرة ما يطلب به فك السحر وتكون محرمة إذا كان فيها كلام غير مفهوم أو استعانة بغير الله من جن ونحوه
(3) والمانع يكون من جهة خوف ضرر أكبر يترتب على إزالة الوشم من إتلاف عضو ونحوه(1/66)
لا سيما مع ضيق الوقت مع المريض فلا بد من تحقيق مصلحة المريض المتعينة في مجال التطبيب، وهي الاستشفاء بما شرعه الله تعالى من أسباب، فإن تيسر مع ذلك الاحتساب بإنكار ما يجوز أو يجب إنكاره بالقول واللسان فبها ونعمت وإلا انتقل إلى المرتبة الثالثة اللازمة وهي مرتبة الإنكار القلبي كما هو مقرر عند أهل العلم.……
9- الإفساح في أجل المريض:………………………إن عجبي لا ينقضي كلما سمعت من مريض أن طبيبه حدد له أربعة أشهر أو ستة أسابيع أو سنة من الحياة، وإنني لأتساءل عن مغزى ذلك والفائدة منه فلا أجد جواباً إلا قوله تعالى :" كلا إن الإنسان ليطغى. أن رآه استغنى"(1)، نعم هو تجاوز في الحد من الطبيب الذي خوَّله الله تعالى علماً يطلب به أسباب شفاء الناس بإذن الله ولا يحدد به آجالهم وأعمارهم، نعم قد ينبه الطبيب مريضه على أن مرضه مُعضل وقد يفضي إلى الموت بأسلوب لطيف، لينبهه على ضرورة اغتنام ما تبقى من عمره في رد المظالم والتوبة من المعاصي والتزود من القربات، لعل ذلك يكون خيراً يعود به مرضه عليه، ولهذا شاهدٌ في الشرع من حيث جواز تلقين الميت وتذكيره بالآخرة، أما أن نفتئت على الله تعالى وندعي علم الغيب، فلست أدري ما علاقة هذا بالطب والتطبيب، وأي أثرٍ سيء تعود به على مريضك من ذاك، فالله الله أيها الطبيب المسلم أن تتجاوز حدودك وتسيء الأدب مع الله تعالى، ولقد ورد حديث ضعيف في النهي عن ذلك عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا له في أجله فإن ذلك لا يرد شيئاً ويطيب نفسه"(2)، وهذا الحديث مع ضعفه إلا أن معناه صحيح والله أعلم.
__________
(1) سورة العلق – آية 6-7
(2) سنن الترمذي – كتاب الطب ، وسنن ابن ماجه في الجنائز، واللفظ للترمذي، وقال أبو عيسى : حديث غريب. ( فيه موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي منكر الحديث)(1/67)
10 – المريض غير المسلم :………………………إن مهنة الطبيب حفظ الجسد خدمةً للقلب؛ فما صلاح الجسد إذا فسد قلب المرء، وأي فلاحٍ له في أُخراه إذا ما كان حرصه في دنياه على سلامة اللحم والعظم مع غفلةٍ عما جُعل الجسد وعاءً له؟ ونحن عندما نفرد فقرةً للكلام عن علاقة الطبيب المسلم بالمريض غير المسلم لا نعني بذلك التفريق في المعاملة، بحيث قد يُفهم وجود نوع من المحاباة أو التفرقة في تقديم العلاج ، كلا. وإنما يقصد أن ننبه إلى أن للمريض غير المسلم حاجات روحية تماماً كما أن للمريض المسلم حاجات روحية يجب الالتفات إليها، وإعطاؤها حقها من التعهد والرعاية، فلا يجوز الغفلة عن حاجات المريض غير المسلم الروحية والنفسية وإن كان هو نفسه غافلاً عنها، ولذا تجد أن فقهاء المسلمين حين يتحدثون عن عيادة المريض غير المسلم يربطون الأمر بالتألُّف والمداراة والتودد المفضي إلى إمكان تبليغ رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى تكون رعاية البدن وسيلة إلى رعاية القلب أو قل إقامة الحجة والإعذار إلى الله تعالى على أقل تقدير. ولقد تقدم معنا حديث أنس وأعيده هنا لمناسبته فعنه رضي الله عنه قال :كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول :" الحمد لله الذي أنقذه من النار"(1)، ولقد تكلمنا عن هذا الحديث في معرض الإشارة إلى خُلق النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا نؤكد على إبراز الغاية والمقصد من التعامل مع الكافر ألا وهي مد جسور العلاقة المفضية إلى إمكان تبليغ الدعوة مع القيام بذلك التبليغ فعلاً، وهنا قد يبرز إشكال وهو أن هذا الحديث في عيادة المريض، بينما نحن نتكلم عن ممارسة مهنية قد يصعب تطبيق هذا المعنى في سياقها على
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الجنائز(1/68)
الدوام، فكيف يمكن استحضار هذه المقاصد دون إخلال بالواجب المهني ودون أن ينزع بنا إلى نوع تقصير مع المريض غير المسلم نتيجة الانشغال بواجب الدعوة من جهة أو نفرة المرء عن الكافر الذي يصد الدعوة من جهة أخرى؟
إن قيام الطبيب بواجبه المهني يستلزم أمرين لا ينفك عنهما عمل البتة ألا وهما النية والعمل؛ أما النية فلا بد من أن تتمحض لله تعالى وحده، ومجال ذلك من الشريعة رحب وواسع، فإما أن تنوي في طبابتك للمريض غير المسلم مطلق الإحسان إلى الخلق كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:" في كل كبد رطبة أجر"(1)، وهذا الحديث ورد في أجر سُقيا البهائم فيدخل فيه الإنسان من باب أولى، ولم يستثن العلماء من عموم هذا الحديث إلا الكافر الحربي الذي يُخشى من ارتفاقه بالطعام والشراب وما في معناهما التقوي على المسلمين وإدخال الضرر عليهم(2)، وإما أن تنوي مد جسور الدعوة عبر السلوك العملي والتألُّف الحاصل بمجرد الممارسة المهنية المنضبطة بضوابط الإسلام، وإما أن تنوي الوفاء بذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إن كان هذا الكافر ذمياً له عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم فتكون طبابة هؤلاء مشروعة لذاتها من جهة كونها حفظ لدمٍ معصومٍ شرعاً(3) ، وهكذا فإن الطبيب المسلم لن يعدم له نيةً صالحة في تطبيب غير المسلم، والله تعالى أعلم. هذا من جهة النية وأما من جهة العمل فلا يخرج الطبيب المسلم مع
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب المساقاة
(2) راجع فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر- كتاب المساقاة
(3) وهذا خاص بأهل الكتاب الذميين ومن في حكمهم كالمجوس على الصحيح من أقوال العلماء، ولعقد الذمة شروط وأحكام تراجع في مظانها ككتاب أحكام أهل الذمة للحافظ ابن فيم الجوزية رحمه الله تعالى، والمقصود أن الإسلام لما حقن دماء أهل الذمة بموجب عقد الذمة لم تعد هناك غضاضة في تعاطي أسباب رعاية أبدانهم طالما هم موفون بالعهد.(1/69)
المريض الكافر عن أحد حالين؛ فهو إما متبرع بالعلاج أو أجير عليه؛ فأما إن كان متبرعاً بعلاج الكافر فليس هناك ما يمنعه من إقران العلاج بالدعوة وفق ما يقتضيه الحال ويناسبه، وأما إن كان أجيراً فهي إجارة مشروعة من جنس المعاملات المباحة بين المسلم والكافر ما لم تؤدي إلى حرام، وقد قال تعالى في محكم تنزيله:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"(1)، وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم جداً وهو أن هذه العلاقة بين الطبيب المسلم وغير المسلم الأصل فيها أن تكون في دار الإسلام حيث تكون شوكة الإسلام قوية والدين ظاهر، فيكون رجاء إسلام الكافر قوياً أو يكون دم الذمي معصوماً، أما إذا كان الطبيب المسلم مقيماً بين ظهراني الكافرين في بلادهم حيث شوكة الإسلام ضعيفة، وأمر الكفر ظاهر وشأن دولة الكفر محاربة الله ورسوله أو الإرصاد لذلك، فلا ريب أن للأمر حينذاك اعتبارات أخرى، إذ أن رجاء إسلام الكافر أقل ومفاسد تطبيبه قد ترجح من جهة تقوية مجتمع الكفر على مجتمع الإسلام، وإن المتأمل اليوم في تدني مستوى الرعاية الصحية في بلاد المسلمين، وافتقار هذه البلاد إلى الموارد البشرية وغير البشرية اللازمة للارتقاء بالرعاية الصحية إلى حد الكفاية ليتفطر قلبه من جراء مشاهدة مئات إن لم يكن ألوف الأطباء المسلمين في شتى الاختصاصات الطبية وأدقها وأكثرها تطوراً ولكن أين؟ في مجتمعٍ كافر يعلن بحرب الله ورسوله، بل وفي مؤسسات حكومية كافرة همها تقويض أمر الإسلام، بل لقد رأيت والتقيت ممن ينتسبون إلى الإسلام من الأطباء والجراحين من يباهون بخدمتهم في جيوش الكفار المحاربين لله ورسوله، بل إن بعضهم يشارك في حروب حقيقية يصرف فيها جهده وكد مبضعه لإسعاف جنود الكفر في حين تثعب جراحات المسلمين دماً في الجانب الآخر من المعركة، وليس ردء هذه
__________
(1) سورة الممتحنة – آية 8(1/70)
المجتمعات الكافرة في حال السِلم بأقل خطراً منه في حال الحرب، لأن سلم هذه الدول ما هو إلا ساعات تأهُّب وتربص وإرصاد لحرب الإسلام وأهل الإسلام، وإنه لمن العار على الطبيب المسلم أن يكون سبب ارتفاق للكافر في حين يقضي إخوانه المسلمون من المرض بسبب فقد الطبيب ونقص الدواء، ولسوف نعرج في حلية الجهاد على مفاسد أخرى لهذا البلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
الفصل الرابع: حلية الدعوة
إن الأصل في تقلُّد الطبيب المسلم لهذه الحلية هو قول الحق سبحانه وتعالى:" إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"(1)، وقوله تعالى:"والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخِرُّوا عليها صمّاً وعمياناً"(2)، وقوله تعالى:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين"(3). وبيان ذلك أن الطبيب المسلم يعاين في سياق طلبه للعلم وممارسته للمهنة مشهداً من أروع مشاهد الخلق في هذا الكون ألا وهو مشهد الخلق الإنساني، حيث قال تعالى:"سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد"،(4) فلا يصح ولا يجوز للطبيب المسلم أن يمر على هذا المشهد وعلى هذه الآيات العظام دونما تدبر وتأمل؛ إن الطبيب الذي لا يكون حظه من علم وظائف الأعضاء أو علم الجنين أو علم الكيمياء الحيوية إلا حفظ بعض الأسماء وإلقاء بعض المحاضرات ووصف بعض الدواء طبيبٌ يداوي الناس وهو عليل، يداوي أمراض الأبدان ويغفل عن مرض قلبه، يغذي غرسة الجسد ويغفل عن غرسة الإيمان، إنه طبيب يمر على مشاهد العلم الإلهي في اليوم مائة مرة، ولا يذكر الله في اليوم مرة،ولست
__________
(1) سورة آل عمران-آية 190-191
(2) سورة الفرقان – آية 73
(3) سورة فصلت – آية 33
(4) سورة فصلت – آية 53(1/71)
أعني بالذكر مجرد إمرار لفظ الجلالة على اللسان بطبيعة الحال.
وبتعبير آخر أقول: مسكينٌ ذلك الطبيب الذي لا يجد أثر تفكره في مشهد الخلق الإنساني زيادةً في إيمانه، وطمأنينةً في قلبه، وإزعاجاً لجوارحه، مسكينٌ من عاين مشهد الخلق الإنساني ثم لم يعاين المشهد الإيماني المتمثل في قوله تعالى:" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون"(1). نعم، مساكين هم جمهرة الأطباء الذين يمرون على آيات الله عز وجل في كل لحظة من لحظات دراستهم وعملهم وهم في مرورهم هذا غافلون، وبمادية الطب وتجردهم لدنياه غارقون، وتأمل إن شئت واحداً من هؤلاء ثم اسأل : كيف لطبيبٍ كهذا أن يصبح طبيباً داعية؟
إن حلية الدعوة لا يمكن أن تستقر على جيد الطبيب الذي لا يتعهد قلبه وإيمانه بما أطلعه الله تعالى عليه من بديع خلقه وصنعته، والعكس صحيح، فإن الطبيب الذي تستوقفه مشاهد الخلق الإلهي في هذا الجسد الذي يعالجه ويطببه لا بد من أن يثمر ذلك في قلبه رغبةً ودافعاً قوياً ليدعو الناس كل الناس إلى تأمل هذه المشاهد والاقتراب من الله عز وجل، إن حال هذا لا يختلف عن حال العالِم الذي فقِه مسألةً في دين الله، فأراد أن يبلغها للناس حباً في نشر الخير والتزاماً بواجب البلاغ والدعوة إلى الله، وهنا أود أن أشير في نقاط محددة إلى مجالات الدعوة التي يجب أن ينخرط فيها الطبيب المسلم، ليكون من أولئك الربانيين الذين قال الله تعالى فيهم:" ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين"(2)، وفيما يلي بيان ذلك:
أولاً: أسلمة العلوم الطبية:
__________
(1) سورة السجدة – آية 16
(2) سورة فصلت – آية 33(1/72)
لا يخفى على أي مسلمٍ حاذق أن ما نعانيه اليوم من تفريغ واقع الحياة من هويتها وصبغتها الفطرية الإسلامية ليس إلا ثمرةً من ثمار العلمانية النكدة الممتدة إلى كل ناحية من نواحي الحياة بنفس القدر الذي تمتد فيه تعاليم وتوجيهات شريعتنا الإسلامية الغراء إلى تلك النواحي، ومن غير المستغرب والحال كذلك أن يعاني كل صاحب مهنة في مهنته وكل صاحب صنعة وفن في صنعته وفنه من هذه الثمار المرة، ولعمر الحق إن الأمر ليزداد وضوحاً وإن الثمرة لتزداد مرارةً في مجال الطب لأنه مجال يتعامل مع الجانب الروحي للإنسان بطبيعته، ولا يمكن في الحقيقة تفريغ الطب وتجريده من أبعاده الروحية التي شغلها الإسلام إلا من خلال شغل هذه الحاجة الروحية بمبادئ ومعتقدات وأفكار أخرى، وانظر إلى ماهية هذه البدائل كمدرسة التحليل النفسي لفرويد ونظرية النشوء والارتقاء لداروين، وغيرها من الأفكار والمدارس التي تسربت إلى مدرسة الطب وتشربت بها كل العلوم الطبية، فأصبح تفسير كل مشكلةٍ نفسية اليوم قائماً على أساس الكبت وقمع "الأنا" كما تحاول المدرسة الفرويدية أن توهمنا، وأصبحت كل مورثة وصِفةٍ وراثية أو حيوية في الإنسان مدينةً للجراثيم والكائنات وحيدة الخلايا الأولى التي حفظت لنا هذه المورثات والصفات منذ ملايين السنين(1)، فعندما نتكلم
__________
(1) إن استعمال الباحثين المعاصرين في كل المجالات لهذه الأحقاب الزمنية المديدة التي لا يمكن تصورها ناهيك عن تصديقها حيث يذكرون المئة مليون سنة والمائتي مليون سنة ليس له من هدف إلا إيهام الناس بقدم العالم أي أن العالم قديم جداً غير متناهٍ في القدم وهذا مما يعين على ترويج الإلحاد وإنكار الخلق، وهو منهج قديم ومعروف ليس فيه جديد ولكنه أصبح يروج اليوم باسم العلم، وغريب جداً كيف أن كل العلوم المعاصرة اليوم تستخدم نفس الأسلوب فمنذ مئات الملايين من السنين كانت الديناصورات وكانت الأجرام وكانت الجراثيم وكان وكان وكان...(1/73)
عن أول واجبات الطبيب المسلم في سياق الدعوة اليوم علينا ألا نتوهم أن ذلك يقتصر على إلقاء محاضرة للعاملين غير المسلمين في مشافينا أو مجتمعاتنا، فلعمر الحق إن إمام المسجد أجدر بهذه المهمة منا وأقدر، إذ أن واجبنا اليوم ينصرف إلى تحرير المنهج العلمي للطب لإعادة العلاقة المتزنة بين الجسد والروح، بين المبادئ التجريبية الطبية والمبادئ القطعية الإسلامية، حتى يتمكن الطبيب المسلم من معالجة المريض المسلم وفق منهج علمي عملي متزنٍ لا إفراط فيه ولا تفريط، ولقد تقدم الكلام على شيء مما يتعلق بطبيعة المنهج العلمي عند الطبيب المسلم، وأنبه هاهنا على أن الأمر ليس من البساطة بحيث يستدرك في مقال أو كتيب أو رسالة إنه – بلا مبالغة - قضية اليوم في عالم الطب إذ أردنا فعلاً أن نكفي الأمة الإسلامية هذه الثغر، ومع أن الحل النموذجي لهذه المشكلة لا بد من أن ينطلق من كليات الطب في مجتمعاتنا، فإنه من غير العملي وغير المقبول أن ننتظر ذلك ونحن في موقف المتفرج مكتوفي الأيدي، بل إن عبء التغيير يعود علينا نحن آحاد الأطباء، إذ علينا أن ننتقل من مرحلة الإرهاصات الفردية إلى مرحلة الجمع والترتيب الهادف، بحيث نقوم بتقييم ما وصلنا إليه ووضعه موضعه المناسب والبناء عليه، ولئن أعيتنا الحيلة في تصحيح مسار كليات الطب فها هي الجمعيات الطبية العلمية مجالٌ خصب لتلاقح فكري واعٍ يسد هذه الفجوة ويرأب هذا الصدع، والشاهد أن الأمر لا يجتمل تأخيراً ولا تباطؤاً ولا تثاقلاً، لأنه يمسنا كل يوم في سياق المهنة والطبابة، فعلى كل طبيب مسلم اليوم أن يقف ليعرض نفسه على ثوابت الشريعة الغراء نيةً وقصداً وعملاً ليسأل نفسه : هل أنا على ما يرضي الله في كل ذلك؟(1/74)
إن أسلمة العلوم الطبية إذاً تنطلق من الحاجة إلى توأمة حقيقية بين التزامات الطبيب المهنية والتزاماته الشرعية، وبين حاجات المريض المهنية وحاجاته والتزاماته الشرعية، بمعنى أن يكون الطبيب الذي يضع للمريض قثطرة بولية أو الجرَّاح الذي يفتح للمريض فتحة اصطناعية في الأمعاء الغليظة تسبب السلس، هو نفسه الذي يقوم بتنبيه مريضه إلى أحكام طهارته إما على وجه التفصيل إن علمها وإما على وجه الإرشاد إلى أهل العلم للسؤال عنها،(1) بحيث ينبه الطبيب مريضه إلى أن مرضه أو علاجه هذا تتعلق به أحكام شرعية يجدر به أن يراجع أهل العلم لتعليمه إياها. إن توأمة العلم التجريبي مع العلم الشرعي في سياق هذه الأسلمة هو الكفيل بتخريج الطبيب الذي يرقى مريضه بالفاتحة بنفس اليقين والتوكل الذي يأخذ به بالأسباب المشروعة من دواء وجراحة ونحوها، وهو الكفيل بتخريج الطبيب الذي يزف لمريضه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيتيه فصبر عوضته منهما الجنة"(2) في نفس الوقت الذي يحمل له خبر تشخيصه بمرض يذهب بنور عينيه، وليس في مدارس الطب العالمية أجمع نظامٌ يمكِّن الطبيب من تقديم شيء إيحابي لمريضه المصاب بمرض عضال أو خبيث أو لا يرجى برؤه إلا نظام الإسلام ومدرسة الطب النبوي، فمهما كان المرض والبلاء فإن الطبيب المسلم لا يعدم لمريضه بشارة، ومهما كان البلاء فإن المريض المسلم لا يعدم منه نفعاً، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله إلى خير ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر
__________
(1) ولا بد من وجود مستشارين في الفقه الطبي في كل مشفى يعالج فيه المسلمون بحيث يكون هؤلاء حلقة الوصل بين الأطباء والمرضى من جهة وبين الفقهاء وأهل العلم من جهة أخرى
(2) صحيح البخاري – كتاب المرضى – باب فضل من ذهب بصره – حديث 5653، وحبيبتيه : عينيه(1/75)
فكان خيراً له "(1)، بل أقول بكل ثقة إن مدرسة الطب الإسلامي عندما تنجح في تحقيق هذه التوأمة تصبح المدرسة الطبية الوحيدة في العالم التي لا يعتري خريجيها شعور بالعجز أو اليأس أمام المرض، لأن الشرع يرفده بتصورات ومرتكزات لا يعدم فيها شهود خير يدل مريضه عليه، وهذا ما تعجز المدارس الطبية الأخرى عن تقديمه، تأمل رعاك الله عندما تحدث جائحة أو وباء تضطر معه السلطات الصحية أن تحجر على جماعة من الناس خشية سراية مرض كالطاعون ونحوه، ومعلوم أن نسبة من المحجورين هم أناس أصحاء، وأنهم بهذا الحجر عرضة للإصابة بالمرض الساري من أولئك المرضى المحجورين معهم، وقد يقضي هؤلاء إذا سرى المرض إليهم جراء الحجر الصحي، ورغم تعريض هؤلاء الأبرياء لخطر السراية فإن جميع المدارس الصحية العالمية تجمع على صحة هذا المسلك أعني الحجر تقديماً للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة، ولكن هنا يبرز النظام الصحي الإسلامي متميزاً عن كل المدارس الصحية في العالم ليعامل هؤلاء الأبرياء بما يستحقون، حيث يقدم لهم التعويض عن هذه التضحية من خلال هذه المنظومة الشرعية الرائعة، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا سمعتم بالطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها وإذا وقع بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"(2)، فهذا الحديث أصلٌ في جواز الحجر الصحي، حيث أشار إلى عدم الخروج من الأرض التي وقع فيها الطاعون ومعلوم أن هذا يعرض الأصحاء إلى سراية المرض إليهم واحتمال موتهم منه، ثم انظر إلى تمام هذه المنظومة حيث عالج الناحية العقدية التي يؤدي الإخلال بها إلى الخوف والوجل من المخلوق ومن عالم الأسباب، فقطع صلى الله عليه وسلم الطريق إلى مزلزِلات العقيدة فقال:" لا عدوى ولا طيرة ،"(3) وبهذا يمكث من يمكث في أرض
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الزهد – حديث 2999
(2) صحيح البخاري – كتاب الطب – باب ما يذكر في الطاعون – حديث 5728
(3) صحيح البخاري – كتاب الطب – باب الجذام – حديث 5707(1/76)
الطاعون والوباء مطمئناً إلى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن جهة أخرى عالج صلوات الله وسلامه عليه احتمال وقوع القدر الكوني، وهو إصابة من كُتِب عليه الإصابة بالطاعون والموت به فقال صلى الله عليه وسلم :" الطاعون شهادة لكل مسلم"(1)، والشهادة أمنية كل مسلم بلا ريب، وهكذا فبالنظر إلى عناصر هذه المنظومة الشرعية الرائعة تجد أن مصلحة الجماعة قد روعيت باحتواء المرض، وأن مصلحة الأفراد قد روعيت من ناحية ثبات العقيدة ونقائها، ومن ناحية تعويض ضحايا تقديم المصلحة الجماعية بمرتبة الشهادة من جهة أخرى ، وهذا ما لا يمكن لأي منظومة رعاية صحية في العالم أن تقدمه، وإنه لمن السفه بعد هذا ألا نعيد الأمور إلى نصابها ونعيد – بدون مبالغة – كتابة وتأصيل مهنة وعلوم الطب لتتعانق نصوص الآيات والأحاديث الشرعية مع موجودات ومفردات الآيات الكونية فيحدث ذلك الانسجام بين العقيدة والكون، تماماً كما أوجد الله تعالى ذلك الانسجام التام بين الروح والبدن، وهذا ما أعنيه بأسلمة الطب، وهو يتجاوز بكثير مسألة تزيين مداخل المشافي بقوله تعالى :" وإذا مرضت فهو يشفين"(2) وليس هذا تقليلاً من شأن استحضار الآية معاذ الله، ولكنه بيان أن ذاك لازمٌ غير كافٍ البتة، أجل نريد أن نتجاوز بهذه الآية حناجرنا وأن تتشرب بها قلوبنا، والله تعالى وحده المسؤول أن يوفقنا لذلك.
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب الطب – باب ما يذكر في الطاعون – حديث 5732
(2) سورة الشعراء - آية 80(1/77)
وحيث إن كليات الطب بعيدة اليوم عن هذا الواقع، فإن الخطاب متوجه إلى الأطباء أن يعملوا قدر الإمكان على تصحيح مسيرة الطب في أنفسهم وفي بيئاتهم المهنية، فعلى الطبيب أن يقوم هو بتحصيل ما يجب تحصيله من علوم الشرع الأساسية التي لا غنى له عنها في مهنته، ولا مندوحة له اليوم عن الرجوع إلى أهل العلم الشرعي ليدلوه هم على ما لا يسعه جهله من أمور الدين، والهمم ولله الحمد موجودة اليوم لتأصيل ذلك وتقريره، وأملي أن أرى مقررات الفقه الطبي جزءً من المقرر الدراسي لكليات الطب في بلادنا الإسلامية، وأملي أن نجد من جملة التخصصات الطبية في الغد القريب تخصصاً في الفقه الطبي، حيث إن النوازل الطبية قد تشعبت وتعددت تماماً كما تشعبت فروع العلوم الطبية الأخرى، وعلى كلٍ فالمقام هنا مقام تنبيه لا مجال فيه لاستيفاء الموضوع، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى سد شيء من تلك الثغرة في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
ثانياً: تعهد الجانب الروحي للمريض:(1/78)
إن من معالم هذه الحلية ودررها الثمينة مراعاة أن تطبيب الأبدان إنما شُرع حفاظاً على الأهم الذي تحويه هذه الأبدان أعني القلوب؛ فإنما أذنت الشريعة بمداواة البدن لا انشغالاً بالمادة عن الروح، ولا التهاءً بالدنيا عن الآخرة، وإنما تقوياً على رياضة القلب وتعهده بما يدفع الأمراض عنه، أعني أمراض العقيدة التي تفتك بالقلوب فتدعها صرعى ما بين مشهد نفاق أو شرك أو كفر بواح، ولكن تجد مع الأسف أنه كثيراً ما ينهمك الطبيب والمريض في معالجة أسباب المرض البدني وآثاره الظاهرة، ويغفل أحدهما أو كلاهما عن تأمل مشهد الابتلاء في هذا المرض وعن ملاحظة جوانب الخير فيه، وإن من له أدنى إلمام بمهنة الطب يدرك أن هناك طائفةً من الأمراض التي لم نقف لها على علاج سببي بعد، مما يفضي بالبعض إلى توهم أن مشهد هذا المرض مشهد شرٍ محض لا خير فيه البتة، وهنا يكون دور الطبيب أساسياً في تنبيه المريض إلى مظاهر ومعالم الخير في هذا الابتلاء، وأقول إن الطبيب الذي يقتصر في العلاج على تناول الأسباب المادية طبيبٌ مقصر مع مريضه مهما أتقن صنعته، ومهما تفانى في خدمة مريضه من جهة الأسباب، وأقول إن من واجب الطبيب الذي يشخص المرض ويصف الدواء ويوجه المريض إلى أسباب الاستشفاء أن ينبه المريض إلى مثل قوله تعالى:" ونبلوكم بالشر والخير فتنة"(1)، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم :" ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة، في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة"(2)وقوله صلى الله عليه وسلم :" عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له "(3)
__________
(1) سورة الأنبياء - آية 35
(2) سنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال أبو عيسى :حسن صحيح، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترمذي وصحيح الجامع - برقم 5815– وفي صحيح الترغيب، وصحيح الأدب المفرد
(3) صحيح مسلم – كتاب الزهد والرقائق – رقم 5318(1/79)
، وعلى الطبيب المسلم أن يلاحظ أن جانب التعهد الروحي للمريض مطلوب في كل من الحالات التي يكتب الله تعالى لها البرء والشفاء، وتلك التي لا يكتب لها سبحانه وتعالى ذلك؛ فأما في حالات البرء والشفاء فيكون بالتذكير بأن هذا الشفاء نعمة ومنحة من الله سبحانه وتعالى، وأنه تعالى يستحق الشكر على هذه النعمة، كما أنه كان يستحق الحمد حين الابتلاء بالمرض الذي برئ منه، لا أن ينسب الطبيب البرء لنفسه، فتلك والله غاية الحماقة وعين السفه وحقيقة نكران الجميل الذي تفضل الله تعالى به على هذا الطبيب حين أجرى الشفاء على يده وجعله سبباً من أسبابه، فعليك أيها الطبيب حين تعاين برء المريض أن تشكر الله أولاً، ثم تذكِّر المريض بشكر الله ثانياً، وأن تنتبه وتُنبه إلى دوام الالتجاء إلى الله في حفظ نعمة الصحة التي عادت بفضله وكرمه سبحانه، بعد أن عاين المريض منها اختلالاً ونقصاً وهذا هو مقام :" وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد"(1)، وأما حالات استعصاء الداء على الدواء فهي مقام التفكر والتدبر والتصبر والاحتساب، وهي مقام تحقيق التجرد التام من الأسباب والتبرؤ التام من الحول والقوة، فأما الهالكون فيتيهون في مهالك التبرم والتذمر والتسخط، وأما الناجون بإذن الله فيوفقهم الله تعالى إلى مشاهد العبودية الحقيقية والصحيحة، فيهلك الجسد بالمرض وتنعم الروح بالصحة والعافية الإيمانية، وإن دورك أيها الطبيب المسلم أن تنبه وتعين مريضك على الوصول إلى شاطئ النجاة، لتكون سبباً من أسباب نجاته الروحية كما كنت – بفضل الله – سبباً من أسباب النجاة الجسدية لغيره من المرضى، وهنا لا مفر للطبيب المسلم من التسلح برصيدٍ كاف من النصوص والثوابت الشرعية التي تعينه على توجيه مريضه التوجيه المناسب في الوقت المناسب، وليست هذه الحلية المختصرة محلاً لسرد هذه النصوص، وإنما يرجع إليها في مظانها من آيات
__________
(1) سورة إبراهيم - آية 7(1/80)
القرآن الكريم وكتب السنة الصحيحة.
وأنبه هاهنا إلى الخلل العميق الواقع في مجتمعاتنا في هذه المسألة، وصورة الخلل تتمثل في الافتراق الذي نشاهده بين الطبين؛ طب الأبدان وطب القلوب، بحيث تجد أن الطبيب لا يمارس طب القلوب، ولا يدمجه في سياق التعامل مع المريض، في حين أن العامة يلتجئون إلى بعض أصحاب الخبرة وأهل العلم الشرعي – وأحياناً كثيرة للأسف إلى بعض المشعوذين والسحرة – لتلبية حاجاتهم القلبية والروحية، أو حتى بحثاً عن سبل بديلة للعلاج، وما نريده من الطبيب المسلم وما يحتمه واقع التوافق المادي الروحي في الإسلام أن يكون الطبيب الذي يضع جهاز التنفس ويعطي المضاد الحيوي والأكسجين ويصف الدواء، هو نفسه الطبيب الذي يرقي مريضه بالرقى الشرعية ويطمعه في رحمة الله ويثيبه إلى رشده في التعامل مع هذا الابتلاء ونحوه. أما افتراق العلاج المادي عن الروحي فليس إلا شكلاً من أشكال ترسيخ العلمانية النكدة في حياتنا نسأل الله تعالى السلامة والعافية من ذلك إنه حسبنا ونعم الوكيل.(1/81)
ثم إن من المسائل المتعلقة بالدعوة في مجال تطبيب المرضى تنبيههم على ما يقعون فيه من منكر، ولقد تعرضنا لهذه المسألة في فقرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الكلام على أخلاق الطبيب مع مريضه المسلم، وهنا أود التأكيد على المسألة من جهة المسؤولية الشرعية، فأهل الخبرة والعلم بفن الطب يُجمعون على أن الطبيب مؤاخذٌ من جهة المهنة إذا ما اطلع على عَرَضٍ أو مرض عند مريضه غير ذلك المرض الذي جاء يستشفي منه ثم لم يخبره الطبيب بذلك، فلو جاء مريضٌ يشتكي من ذات الرئة، وأثناء فحص المريض اكتشف الطبيب بقعة جلدية يحتمل أنها آفة سرطانية يفضي إهمالها إلى هلاك المريض، فإن الطبيب مقصر في عدم إخبار مريضه بذلك قولاً واحداً عند أهل الفن، رغم أن المريض لم يراجع الطبيب لهذه الشكاية، وأقول إنه من باب أولى أن يكون الطبيب مسؤولاً عندما يفحص مريضه الذي يشتكي من ذات الرئة ويجد تميمة شركية أو خيطاً معلقاً في عنقه ولا ينبه مريضه على هذه الآفة المهلكة، ولا يكفي في هذا المقام ما يقوم به البعض من قطع أو إزالة الخيط أو التميمة دون تنبيه المريض إلى خطرها، لأن هذا سيعود إلى تعليق غيرها بمجرد مغاردة الطبيب، إذ ربما توهم أن الطبيب أزالها لغرض الفحص الطبي ولا يستشعر الإنكار الشرعي على هذا الفعل الشركي، بل على الطبيب أن ينبه إلى حرمة هذا الفعل وإفضائه إلى الشرك أو البدعة كلٌ بحسبه.(1/82)
وهكذا عندما يقوم الطبيب بالاستفسار عن جملة من المشعرات الصحية فيما يعرف بالطب الوقائي لا سيما عند الأطفال، حيث ينهمك الطبيب في السؤال عن المعالم التطورية للطفل وهذا جيد، ولكن يجب أن يندرج في منظومة الرعاية الصحية الأولية هذه السؤال عن المعالم التطورية الشرعية، فيُسأل عن الأمر بالصلاة في السابعة، ويُسأل عن الصلاة في العاشرة، وينبه على التفريق في المضاجع وغيره كل بحسب سنه، علينا أن نستشعر جميعاً أننا اليوم في خضم معركة عقدية خطيرة تستلزم منا إعداد جندها ورجالها، علينا أن نطرح جانباً شعار "العقل السليم في الجسم السليم" ونعلن مكانه " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، حتى تتضح هوية المعركة ويستشعر الفرد أنه جندي من جنودها، وأن كل حجرٍ في سد الإسلام المنيع له دوره مهما صغر حجمه وأينما كان موضعه، وعليه فلا بد من اغتنام كل فرصة للتذكير والتنبيه على ذلك.
ثالثاً : الاعتدال والتوسط في مسائل الإعجاز العلمي:(1/83)
لقد جاء القرآن الكريم معجزاً، وتحدى الله تعالى به العرب والعجم، بل تحدى به الإنس والجن، ومع اتفاق أهل القبلة على إعجاز القرآن الكريم تنوعت مشاربهم في أوجه هذا الإعجاز، وليس هذا مجال البحث في ذلك، ولكن لما كان مجال العلم ولا سيما علوم الطب أحد أوجه الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، كان حرياً بالطبيب المسلم أن يتعرف على جملةٍ صالحةٍ من القطعيات العلمية التي كشفها الطب الحديث ووجه موافقتها للثابت في القرآن الكريم دون تكلف ولا تشدُّق، لتكون له زاداً في طريق الدعوة إلى الله، وكان حرياً به أيضاً أن ينأى عن الإفراط في حمل آيات القرآن الكريم على كل ما يرد في الطب من علوم قد تكون ظنية أو نظرية فيختلج عليه الأمر حين يظهر زيفها وبطلانها، فعلى الطبيب المسلم أن يعرف طريق الحق ومنهج التوسط والاعتدال في مسائل الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في باب الطب، ولقد قرأت وسمعت من الشطحات والمبالغات ما لا يليق نسبته إلى القرآن الكريم بحجة التودد إلى أمة الدعوة(1) بلغة العصر ، وعند النظر في هذه المبالغات تجد فيها من التكلف والتقعر ما قد يأتي بنقيض المقصود، وعادة ما تكون هذه الشطحات ممن يجتزئون بعض المعلومات في فن من الفنون، ولا يكون هو من أهل هذا الفن ثم يهرع إلى إنشاء علاقة موهومة مع نص من نصوص القرآن، ولست أطعن معاذ الله في هؤلاء ولا في نواياهم، بل هو الدوران مع الحق، فالزم أيها الطبيب المسلم منهج الاعتدال وحذار من الإفراط أو التفريط في هذا الباب، واعلم أن قليلاً من الموافقات القطعية بين علم الطب الكوني ونصوص القرآن الكريم كفيل ببيان وجه الإعجاز، ولا حاجة لتكلف كثيرٍ من الأمثلة لأن من
__________
(1) أمة الدعوة – كما هو معلوم – يقصد بها من لم يدخل في الإسلام ممن يتوجه إليهم خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، فمن أسلم من أمة الدعوة يصطلح عليه أنه من أمة الإجابة، والكل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم باعتبار.(1/84)
يذعن للحجة الواحدة لا يعوزه غيرها، ومن لا يذعن لحجة بينة قطعية لن يذعن لعشرات الحجج والبراهين،كما قال الله تعالى:" وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون"(1)، فالذي يكذب بمعجزة يكذب بالمعجزات كلها مهما حشدت له منها، ومن أراد وجه الحق كفته الآية والمعجزة، إذ أن المسألة ليست مسألة كمية يفضي تراكم آحادها إلى تحقيق الغاية منها، وحذار أيها الطبيب المسلم أن يدفع بك واقع الهزيمة النفسية إلى التزلف بليِّ آيات القرآن الكريم لموافقة كل شاردة وواردة، فقرآن ربنا أسمى من أن يعوزه ذلك، وإن كنا مهزومين في حقيقة الأمر فعلاج ذلك العودة إلى القرآن لا تطويع القرآن لموافقة واقعنا المريض.
ومن المهم التنبيه على أننا في سياق الإغراق المادي الذي نعيشه اليوم أحوج ما نكون إلى إبراز النواحي الروحية للقرآن الكريم في عالم يكاد يفتقر إلى أدنى مراتب ذاك، لقد شبعت أجسادنا وأتخمت من السرف المادي، وبات الجسد المتخم عبئاً على الروح بعد أن كان حصناً ومأوى لها، وآن الأوان لأن نعرض للعالم بضاعتنا، ونبرز للعالم منهجنا المتزن الذي يعطي كل ذي حق حقه، ولن يكون ذلك طالما أن حظنا من الإعجاز العلمي للقرآن يقتصر على ربط مراحل تطور الجنين بالآية والآيتين، ولست أثرب على من سلك هذا المسلك ما دام معتدلاً، ولكني أقول إن الحاجة اليوم أشد لعرض شمولي لمنهج الإسلام ولمعجزة القرآن، بل إن حقيقة الإعجاز القرآني تتمثل في شموليته وهذا ما نحتاج اليوم أن نبرزه واقعاً عملياً يمتد أثره إلى الحياة كل الحياة.
رابعاً: العمل الطبي الخيري والإغاثي:
__________
(1) سورة الإسراء – آية 59(1/85)
إن شمولية الإسلام العظيمة والتوازن الدقيق بين تعبيد الناس لله تعالى قَدَرَاً ودعوتهم لعبادته شرعاً، تفرض على المسلم مراعاة حدٍ أدنى من الحقوق الإنسانية المشتركة التي تكفل الله تعالى بها قدراً وأذن بها شرعاً بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى للخلق أجمعين، بحيث لا تجد في منهج الدعوة إلى عبادة الله تعالى إجحافاً بتلك الحقوق الإنسانية البتة، ولعل من أجمع النصوص في ذلك قوله تعالى :" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"(1) وليس هذا الإكراه المذموم محصوراً في تسليط السيف على رقبة الكافر ليُسلم، بل إن معناه يتعدى إلى كل وسيلة إكراه يُفهم منها أن الكافر ما كان ليختار الإسلام لولا تَسلُّط هذه الوسيلة عليه، ثم إنه لا فرق بين كون هذه الوسيلة حرمان طعام أو شراب أو دواء أو مأوى أو غير ذلك من المشتركات الإنسانية التي تكفل الله تعالى بها لمخلوقاته بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى لهم، فلقد قال تعالى :" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها"(2)، بل إن الله تعالى قد يستجيب لدعاء الكافر بحكم ربوبيته سبحانه وتعالى:" وإذا مسَّكم الضُر في البحر ضلَّ من تدعون إلا إياه فلما نجَّاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً"(3)، فدعاء غير الله شرك وكفر، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يستجيب لهؤلاء في وقت الضراعة والمحنة إذا ما دعوه سبحانه وتعالى وهي استجابة ربوبية لا استجابة ألوهية، فإن الله تعالى خلق خلقه وهو سبحانه لا يدع خلقه لغيره بدون تدبير وكفالة بل هو الحي القيوم الرزاق، وها نحن نرى الكفار بل المحاربين لله تعالى، والله تعالى يطعمهم ويسقيهم ويمتعهم بعافية الأبدان كل يوم، وليس ذلك لرضاه عنهم شرعاً، وإنما لكمال ربوبيته عز وجل في علاه. والشاهد من هذا كله أن الإسلام لم يشرع لنا التضييق على الناس في معايشهم - التي هي مقتضى ربوبية الله عز وجل لهم-
__________
(1) سورة البقرة –آية 256
(2) سورة هود – آية 6
(3) سورة الإسراء – آية 67(1/86)
كوسيلة للدعوة إلى الله، وإن كان ذلك مسلك أهل الكفر والضلالة ودأبهم على الدوام، وهو التضييق على أهل التوحيد والإيمان لصرفهم عن عبادة الله ، ولكن الله لم يرضَ لعباده الموحدين ودعاته الهداة المهتدين بإذنه أن يسلكوا مثل هذا المسلك المنحرف البتة، وليس سلوك الكفار ودعاة التنصير لهذا المسلك المنحرف مسوغاً ولا مبرراً لسلوكنا له. ولئن كان سلوك هؤلاء واتخاذهم العلاج الطبي – وهو ضرورة وحاجة معاشية بلا ريب – مطيةً لتمرير باطلهم وتسويق إفكهم بل لفرضه على عقول البسطاء والمعدومين، فإن هذا الواقع يفرض علينا مسؤوليات محددة لمواجهة هذا التيار التنصيري المنحرف والشاذ، ولكن وفق منهج أهل الحق لا وفق الإكراه والتغرير ومساومة البدن بالروح.(1/87)
ولئن سألت أيها الطبيب المسلم الغيور عن طريق مجابهة ما تقدم مما تقوم به المؤسسات التنصيرية في أرجاء العالم الإسلامي من حملات التنصير تحت ستار الطب ولبوس الخدمات الإغاثية الطبية، فلتعلم أنه يتمثل في سد الثغرات التي يستغلها هؤلاء للوصول إلى الاحتكاك والتواصل مع الفئة المستهدفة بسهام تنصيرهم المسمومة، ونحن نتكلم في مجال الطب عن واحدة من أهم هذه الثغرات، إذ لا يخفى على المتأمل مدى ما تعيشه شعوب المسلمين من فاقة وعوز في أبسط الحاجات الطبية، والتي تعمل هذه الهيئات العالمية ذات الامتداد الأخطبوطي والتمويل المهول على استغلالها من أجل تغليف إنجيلهم المحرف بضمادات الجراحة، وستر سمومهم العقدية بأنواع الأدوية والعلاجات، وإخفاء خبثهم وحقدهم وسوء نيتهم تجاه المسلمين وراء جدران مشفى خيري أو مركز رعاية صحية ، ولست هنا بصدد توثيق هذه الحقائق فإنها بارزة مكشوفة لمن فتح عينيه وسأل عن حال إخوانه المستضعفين، ولقد شاهد كاتب هذه السطر نماذج من ذلك بأم عينيه، ولكني بصدد التنبيه على عظم مسؤولية الأطباء الذين يغفلون عن سد حاجات إخوانهم الطبية، فيما هم ساهون لاهثون وراء مقامات علمية وشهادات وأبحاث هي بالنسبة لواقع حال أمتنا أقرب إلى الترف العلمي منها إلى الحاجة الطبية. نعم إن سد حاجات إخواننا هؤلاء أقرب إلى فروض الكفايات منه إلى فروض الأعيان ،ولكن علينا ألا ننسى أن الفرض الكفائي متعين على كل مستطيع حتى تنسد الحاجة، وأقولها مهما كانت الحقيقة مؤلمة إننا معاشر الأطباء المسلمين مسؤولون عن كل طفل وضع أبواه الصليب في عنقه في مقابل تحصيل دوائه، وعن كل نسخةٍ من الإنجيل المحرف اضطر مسلم لأخذها في مقابل جرعة دواء أو جراحة أو علاج، وعن كل ساقٍ بُترت نكايةً في مسلم لم يجد من يناصحه الرأي في علاج أذيتها فاضطر للأخذ برأي صليبي حاقد، وعن كل ثغرة في حاجات الأمة الصحية لم نسدها ولم نرابط عليها فإذا بها مدخلاً من(1/88)
مداخل أتباع إبليس للنفوذ إلى عقيدة المسلمين منها...
إن من المهم أن نعلم أننا لا نتكلم في هذا المجال عن بضع مئات من المسلمين ولا عن بضعة آلاف منهم، بل إننا نتكلم عن ملايين المسلمين في أرجاء المعمورة ممن هذا حالهم، وليس العدد للمبالغة البتة، نعم إن هذا العدد فوق طاقة الأفراد ولكن يجب ألا يكون دون اهتماماتهم؛ إن الاهتمام بهذه الشريحة من المرضى المستضعفين المتربص بدينهم ليس إلا فرعاً من فروع الإيمان ولازماً من لوزامه، كما قال المعصوم صلى الله عليه وسلم:" مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد إذا اشتكى له عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(1)، ولعل من النكت اللطيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار حالة المرض لتشبيه حال الأمة الإسلامية مع بعضها البعض، فكان لزاماً أن يكون التكافل في مجال المرض من أولى هذه المناسبات إعمالاً لواجب الاهتمام بشؤون بعضنا البعض والتكافل والتراحم والتواد والتعاطف، فتأمل. ثم إن أحداً منا معاشر الأطباء لا يعدم فيما حوله من مجتمعات إسلامية قد استبيحت بيضتها اليوم فئاتٍ من المسلمين تتربص بهم أذرع المد التنصيري فرصة الاختراق والنفوذ ما لم يقم طبيب مسلم أو ثلة من الأطباء المسلمين بسد هذا الثغر وإراحة الأمة الإسلامية من خطره. إن ما نريده من الطبيب المسلم في هذا السياق يتناول حداً أدنى هو الاهتمام الحقيقي بهذا الأمر، بحيث تظهر آثار هذا الاهتمام على قلبه ولسانه وجوارحه، والارتباط بجنس العمل الذي يحقق انتماء الطبيب المسلم إلى جملة المرابطين على هذا الثغر؛ وقد يكون هذا العمل ميدانياً وقد يكون منهجياً تنظيرياً وقد يكون تعليمياً تدريبياً، والمجالات في هذا الباب كُثُر. وفي مقابل ما تقدم ننبه مرةً أخرى على أن الطبيب المسلم حين يضطلع بجنس العمل الطبي الخيري أو الإغاثي من هذا المنطلق ابتداءً فإنه لا
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب البر والصلة – حديث 4785(1/89)
يقدِّم خدمته الطبية على أساس التمييز بين البشر في دياناتهم كلا، فلقد قال الله تعالى :" أفنجعل المسلمين كالمجرمين. ما لكم كيف تحكمون"(1)، فهيهات أن يكون سلوك المسلم مع الخلق كسلوك المجرمين ممن يجعلون جرعة الدواء ثمناً لترويج المعتقد وإن كان حقاً، فما بالك بمعتقدات القوم الباطلة، بل إن مسلك الطبيب المسلم في هذا الباب هو قوله صلى الله عليه وسلم :" في كل كبدٍ رطبةٍ أجر"(2) وليس لهذا النص سوى استثناءات قليلة ذكرها العلماء(3)، ولكن أنبه في هذا السياق على أن عدم استثناء الكافر من العمل الطبي الخيري أو الإغاثي يجب ألا يكون على حساب أولويات حقوق المسلمين، بمعنى ألا ينصرف جهد المسلمين وطاقاتهم المحدودة في طلب أجر سقيا البهائم أو الكفار في حين جراحات المسلمين وآلامهم تستغيث – بعد الله تعالى – بإخوانهم في الدين، فتنبه لهذا لا سيما في يومنا هذا الذي أصبح التزلف لملل الكفر ديدن بعض مرضى القلوب، ودأب بعض المسارعين في استرضاء أهل الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم إن الطبيب المسلم في سياق كل ما تقدم ملتزمٌ بسمته الإسلامي يشع نور عقيدة التوحيد من ثغره ووجهه وجوارحه، يداوي الناس بالبسمة الحانية والنظرة الشفوق قبل الدواء والمبضع والترياق، وهو لا يعدم في كل ما تقدم مناسبةً يقول فيها للخلق دون إكراه ولا ابتزاز ولا ضغط ولا إلجاء :" إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون"(4)
الفصل الخامس: حلية الجهاد
__________
(1) سورة القلم – آية 35-36
(2) صحيح البخاري – كتاب المساقاة – حديث 2190
(3) كمن يُخشى من ارتفاقه بالدواء والطعام والشراب أن يترتب عليه أذى على المسلمين، راجع فتح الباري لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
(4) سورة يوسف – آية 37-38(1/90)
كثيراً ما يغفل الطبيب المسلم عن تسديد جهده إلى تحقيق ذروة سنام الإسلام، أعني بطبيعة الحال الجهاد في سبيل الله ، فتلك هي قمة الإسلام السامية وذلك هو الهدف الأسمى لمن عايش مفردات التوحيد، وانطرح على عتبة العبودية، وأحب أن يتقرب إلى محبوبه الأوحد بأغلى وأعز ما يملك ؛ النفس والمال. ولقد صح في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:"رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد"(1)، ولقد قال تعالى في محكم تنزيله:" يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير"،(2) وهذا التفصيل يقتضي أن نسد الثغر في كلٍ من جهاد الرمح والسنان وجهاد القلم والبيان، أما الأول فيكون بقيام الطبيب المسلم بدوره الميداني يطبب فيه جراحات المجاهدين، ويسعف فيه مصاب المسلمين إذا ما ادلهمت الخطوب ودارت رحى الحروب، واعتدى من اعتدى من أهل الكفر والأوثان على دماء المسلمين وأعراضهم ومقدساتهم بما لا حيلة في دفعه إلا فَلُّ الحديد بالحديد، وأما الثاني – أعني جهاد القلم والبيان – فإنما يتوجه إلى أصحاب الأقلام المسمومة والأفكار المحمومة التي تتربص لعقيدة المسلمين وتتسلل عن طريق العلم والطب لتروِّج غثها وسمها، وتبذر بذور الشقاء والفساد في جنبات المجتمع المسلم متسترين بلقبٍ علمي أو مكانةٍ وظيفية أو أمانةٍ وُضعت في غير محلها، ولا شك أن الطبيب المسلم مخاطَبٌ بنصوص الجهاد الشرعي عموماً من جهة كونه مسلماً، ولكن حديثي في هذه الحلية عن الدور المنوط بالطبيب المسلم من جهة كونه طبيباً، فنحن نتكلم في سياق المهنة عن خصوصيات تتعلق بدور الطبيب لا يستيطع غيره أن يسد ثغرها، أما عمومات عبادة الجهاد وضوابطها الشرعية فيرجع إليها في مظانها من كتب الفقه مع التنبيه على ضرورة الانضباط بالضوابط الشرعية في ممارسة
__________
(1) سنن الترمذي – كتاب الإيمان وقال أبو عيسى حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي
(2) سورة التحريم - آية 9(1/91)
هذه العبادة الجليلة، ولا يصدنَّك أيها الطبيب بل المسلم عن الاستشراف لفضل هذه العبادة تشويه المغرضين ونعيق المنافقين وتهويل أتباع الشياطين ممن يشوهون صورة هذه العبادة ويُلبِّسون عليها بكل ما يملكون تنفيراً للمسلمين الخلَّص من الاستجابة لنداء رب العالمين :"يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل"(1). فما هي خصوصيات دور الطبيب في محراب هذه العبادة السامية؟ هذا ما نعرضه في درر هذه الحلية إن شاء الله.
أولاً: جهاد القلم والبيان:
__________
(1) سورة التوبة – آية 38(1/92)
يكاد كلنا يحفظ اليوم حديث النبي صلى الله عليه وسلم :" يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلةُ إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال :" بل أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليَنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، ولَيقذفن الله في قلوبكم الوهن" فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن؟ قال:" حب الدنيا وكراهية الموت"(1)، ومن الوهم أن نقتصر على تصور هذا التداعي الأممي علينا معاشر المسلمين على الصورة الحسية، ونغفل عن التداعي العقدي والفكري والثقافي الذي يراد من خلاله مسخ هويتنا الإسلامية، ولهذا كان لزاماً على كل أهل فن وعلم من المسلمين أن ينكَبُّوا على ثغور علمهم وفنهم لا يؤتى المسلمون من قِبَلهم، إذ أن هذه العلوم والفنون أصبحت أقواس سهام التغريب والإقصاء عن الدين؛ لقد أصبحت جزءاً لا يتجزأ من منظومة تداعي الأمم علينا اليوم، إذ لا يخفى على من له أدنى اهتمام وتعلق بشؤون المسلمين مدى تغلغل المد التنصيري في مجتمعات المسلمين في لَبوسٍ شتى وتحت شعارات عدة، ومن مظاهر هذا المد التنصيري ما هو صفيقٌ وقح يمد يداً بالدواء للاجئ مسلمٍ محتاج وفي يده الأخرى نسخة من الإنجيل المحرَّف – ولقد تقدمت الإشارة إلى هذا – ومنه ما هو خفيٌ مقنَّع يأتي في صورة محاضرة أو نشاط علمي المظهر يدس فيه السموم المغلفة بابتسامة خادعة تروج على جملةٍ غير يسيرة من العاملين في مشافي المجتمعات المسلمة، وقد رأينا هذا بأم أعيننا أيضاً، وقد يأتي في صورة وثيقة من مواثيق الأمم المتحدة الطاغوتية متسللةً إلى ديارنا بدعوى حقوق الطفل وصحة التناسل وغيرها من الترهات والأباطيل، ويبقى أمام الطبيب المسلم أن يقف متفرجاً شيطاناً أخرس فيبوء بإثم السكوت والتثاقل عن أداء دوره في صد هذه الهجمات، أو أن
__________
(1) سنن أبي داود – كتاب الملاحم – حديث 3754 ، ورواه أحمد في مسنده واللفظ لأبي داود وصحح الألباني رحمة الله على الجميع(1/93)
يتبوأ موقعه الدفاعي بالحكمة والموعظة الحسنة يحذر مريضه ومجتمعه من خِدع هؤلاء تارة، ويفضح مكائدهم على الملأ تارةٌ أخرى، وهكذا يكون دأب الطبيب المجاهد المرابط على هذا الثغر ؛ فهو في مخيمات اللاجئين يسد حاجاتهم حتى لا تستغل أوضاعهم لتضييع دينهم، وهو في المكتبة يقرأ ويطالع ويكتب ويدافع كلما صوَّب أصحاب أقلام التنصير سهماً نتناً إلى صدر الأمة، وهو في قاعة المحاضرات يتصدى لدسائس الفرويديين والطبائعيين خَفيةً كانت أم جلية، وهو في غرفة المريض يستر عورته في حين يهتكها طبيب كافر، وهو في العيادة يُحِل الحلال ويُحرِّم الحرام في حين تفتن ممرضة كافرة قلوب الرجال أو يتعلق المرضى بتمائم الشرك، وهو يشغل حاجة مريضه الروحية بالقرآن ومأثور الدعاء حتى لا يشغله منصرٌ بترانيم محرَّفة، وهو يحافظ على العقيدة بنفس الاهتمام والحرارة التي يعالج فيها البدن وأكثر، إنه على الجملة مرابطٌ على ثغر العقيدة أن يؤتى المريضُ من قِبله مهما كانت حالة المريض وأينما كان هذا المريض، فوالله لئن قطعت آلاف الأميال لتمسح على مريض مسلم قبل أن تمسه يد منصِّر فلقد صدقت العهد بإذن الله، أما وأنت تتنعم بالرخاء وتبتلى بالغفلة ومرضى المسلمين ومجتمعاتهم صرعى أمام تيارات التنصير ومعسكراته الطبية وندواته الصحية وأدويته الفاسدة وأناجيله المحرَّفة فلا وألف لا.(1/94)
ومن المهم في هذه المرحلة أن نترقى فوق العموميات والمجملات لنتكلم بكلام محدد وبضوابط مقعَّدة عن الثغور الرئيسية التي يتحتم على الطبيب المسلم المرابطة عليها اليوم في مجال الجهاد العلمي أو جهاد القلم والبيان، ولقد تأملت في منظومة المقاصد الشرعية الإسلامية فوجدت فيها الغاية والسبيل لوضوح الرؤية والهدف والتزام منهج الإسلام الشمولي دون إفراط أو تفريط، إذ أن الشريعة الإسلامية كما هو معلوم جاءت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولقد وضعت الشريعة نصب عينيها مقاصد رئيسية تدور مصالح المكلفين عليها، وهي الدين والنفس والعقل والعرض (أو النسل) والمال، بحيث لا تكاد تجد تشريعاً في الإسلام إلا وهو يحقق لواحدةٍ أو أكثر من هذه المقاصد مصلحةً مرجوة أو يدفع عنها مفسدةً مخوفة، وفيما يلي بيان تعلق واجب الطبيب بهذه المقاصد على سبيل الإشارة والتمثيل لا على سبيل الاستيفاء والتفصيل فإن لذلك مقاماً آخر إن شاء الله.
أولاً: المرابطة على ثغر الدين:(1/95)
لقد تقدمت الإشارة إلى أن صيانة عقيدة التوحيد هي غاية حفظ الروح والبدن، وما تعهُد البدن بالعلاج والطب إلا تعهدٌ للمحل الحافظ لتلك الروح الطيبة إن شاء الله، ولهذا تجد الشريعة الإسلامية حريصةً على تطهير وتخلية قلب المكلَّف من الاعتقادات الفاسدة التي قد تتسرب إليه حين الابتلاء بالمرض، تأمل كيف جاءت نصوص الشريعة لدفع توهُّم النفع والضر فيما عدا الله عز وجل، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"لا عدوى ولا طِيرة ولا هامَة ولا صفر"(1)، ولئن كان الأمر في الأمس القريب يتعلق بنفي الطيرة والشؤم وتحريم الاستعانة بالجن والكَهَنة، فإن الأمر اليوم ربما خرج عن تلك الطلاسم والطقوس المشبوهة إلى لبوسٍ جديد اسمه النظريات العلمية ، تلك النظريات التي تطعن في صُلب العقيدة، وتتخذ من الطب والعلوم التجريبية مطيةً لترويج إفكها، فإذا بقول الله تعالى:"الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل"(2) يعارضه أقوام بنظريات النشوء والارتقاء الفاسدة عقلاً ونقلاً، وإذا بتوحيد الربوبية الذي لم يتجرأ الإنسان في القديم على جحوده أو إنكاره يصبح مثار فتنٍ وتدليس عند من يصر على استعمال لفظ (الخلق) في التدليل على كشفٍ أو سبقٍ علمي كالاستنساخ ونحوه، ولعمر الحق إن الطبيب المسلم اليوم أحوج ما يكون إلى التسلح بقوله تعالى :" يأيها الناس ضُرب مثلٌ فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب"(3)، إي ورب الكعبة، ضعف الطالب والمطلوب فكلاهما في مشهد الخلق حقير، وأمرهما عند بارئهما يسير، وفي الحديث عن بسر بن جحَّاش رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله :" ابنَ آدم، أنَّى تُعجزني
__________
(1) صحيح البخاري- كتاب الطب - حديث 5316
(2) سورة الزمر - آية 62
(3) سورة الحج- آية 73(1/96)
وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلَغَت التراقي قلتَ أتصدق ، وأنى أوان الصدقة"(1)، ألا فليعلم الإنسان قدره، وليعلم أنه مهما أوتي من علم ومن قدرة فإنما هو فيض فضل الله تعالى ورحمته، واعلم أيها الطبيب المسلم أن التسلح بهذه النصوص والثوابت العقدية هو الكفيل بإذن الله تعالى بالتنبه إلى كل دسيسة وفتنة يروج لها أتباع إبليس، سواءٌ أكانت التصريح أو التمليح إلى قِدم العالم(2)، أو إلى أن الإنسان يخلق كخلق الله تعالى الله عن ذلك، أو أن النفع والضر بيد غير الله سبحانه وتعالى، ألا فلتعلم مقام الأسباب من المسببات، ولتعلم أن الكل من الله، وأن ما من سبب وُجد مسببه إلا والله خالقهما، قال تعالى:"والله خلقكم وما تعملون"(3)، وإن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يَقعد لهؤلاء كل مرصد، ويترقب لهم كل سهم تصوبه قوس الإلحاد إلى عقيدة التوحيد في صدر الأمة، وليس المقام مقام تفصيل وإنما هو مقام تنبيه على خطورة الغفلة عن هذه الأخطار وضرورة التصدي لها.
ثانياً: المرابطة على ثغر النفس:
__________
(1) مسند الإمام أحمد – مسند الشاميين – حديث 17170، واللفظ له ، ورواه ابن ماجة في الوصايا، رحمة الله على الجميع
(2) وهو ما يحاول البعض ترسيخه في قلوب الناس من خلال ذكر أحقاب زمنية خيالية فيقول لك إنه قبل مائي مليون سنة أو مليون مليون سنة كانت البكتريا على نحو كذا ثم تطورت إلى كذا وكذا، فإن استخدام هذه الأحقاب الزمنية طريق إلى ترسيخ قِدم العالم وبالتالي نفي خالقية الله تعالى لهذا الكون.
(3) سورة الصافات - آية 96(1/97)
إن حفظ النفس المسلمة مقصد شرعي ضروري أولته الشريعة عنايةً فائقة، ففي الحديث عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأةً ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة، فقال:" تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم"(1)، وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن امرأةً قتلت ضَرَّتها بعمود فسطاط، فأُتي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى على عاقِلَتها بالدية وكانت حاملاً فقضى في الجنين بغرَّة. فقال بعض عَصَبتها : أندي من لا طَعِم ولا شَرِب ولا صاح فاستهل، ومثل ذلك يُطَل. قال: فقال: سجعٌ كسجع الأعراب"(2)، وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لَزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم"(3)، والشاهد من هذه الأحاديث بيان مدى اهتمام الشرع بالنفس طلباً وحفظاً؛ أما الطلب فبالحث على التناسل والتكاثر، وقد جعل الشرع لذلك غاية هي أسمى الغايات ألا وهي التنافس في توحيد الله وعبادته، وأما الحفظ فمن جهة التنبيه على أهمية وحرمة نفس المسلم في كل مرحلة من مراحل حياته، حتى لو كان جنيناً في مراحل الحمل المبكرة، ومن جهة التنبيه على عظم مكانة النفس المسلمة عند الله عز وجل، حتى إن فوات الدنيا بأكملها أهون عند الله تعالى من فوات نفسٍ موحِّدة واحدة، ولا شك أن هذا يولِّد الدافع على حفظ الأنفس وحقن دمائها، فإذا أتيت إلى دور الطبيب المسلم في مرابطته على هذا الثغر وجدت أن تصدي الطبيب المسلم
__________
(1) سنن أبي داود – كتاب النكاح – 1754 وقا ل الألباني حسن صحيح
(2) صحيح مسلم – كتاب القسامة والمحاربين – حديث 3187، والعاقلة هم عصبة المرء الذين يتحملون عنه دية القتل الخطأ ، والغرة : أي غرة عبد وهذه هي دية الجنين
(3) سنن الترمذي والنسائي وابن ماجة، واللفظ للترمذي – كتاب الديات – حديث 1315(1/98)
لاختراقات العدو على جبهة طلب النسل داخلاً في هذا الجهاد، فالطبيب المسلم العاقل لا ينخدع بمسوغات ترويج وسائل منع الحمل وما يُدعى تلبيساً وتضليلاً (تنظيم الأسرة)، وهو يضبط وصف هذه الوسائل للمريض بالضوابط الشرعية الصحيحة، من حيث دفع ضررٍ أكبر كأن يغلب الظن على أن الحمل خطر على حياة الأم، ويتورع كل الورع عن وصف الوسائل غير المشروعة لمنع الحمل كاللولب والوسائل الدائمة كقطع أو ربط الأنابيب (1) ، وإن الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم نتيجة استرسال الأطباء والنساء في تعاطي موانع الحمل دون وازع من دين أو ورع من تقوى الله أو وعي لمكائد العداء، قد أفضى بكثير من الأسر المسلمة إلى ذلك الانكماش العددي الذي لا يتناسب مع طبيعة التحديات التي تواجهه أمتنا شرقاً وغرباً؛ نعم نريد التكاثر النوعي والكيفي ولكن ذلك لا يستلزم التفريط بالكثرة المطلوبة والمقصودة شرعاً، بل أقول نحن أُمة جهادٍ واستشهاد، وإن العقل والحس يشهدان أنه كلما كان للمرء نصيب أكثر من الذرية والنسل، كلما كان أقدر على بذل الولد والولدين في سبيل الله، ولئن كانت
__________
(1) اللولب وسيلة غير متعينة لمنع الحمل بمعنى أنه توجد غيره من الوسائل إذا شُرع منع الحمل، أما محظورات اللولب فمن جهة كشف العورة المغلظة بغير ضرورة أو حاجة متعينة وهذا محرم ولو كانت التي تضع اللولب طبيبة، ومن جهة إرباك عادة المرأة في تمييز حيضها وما يترتب عليه من خلل في ضبط العادة ومن جهة الأضرار الصحية الناجمة عن اللولب كالالتهابات والحمل الهاجر ونحوها، وأما الوسائل الدائمة لمنع الحمل فما لم يكن منع الحمل متحتماً لحفظ حياة الأم فالورع ألا تتخذ هذه الوسائل لما فيها من إشعار بتمام التوكل على السبب وقطع مادة النسل والاعتراض على أمر الله تعالى في حين يبقى للوسائل غير الدائمة فرصة للعبد لإعادة تقييم الوضع وهي أحرى باستخراج عبودية الخوف والرجاء وعدم الركون التام للأسباب والله أعلم.(1/99)
مخططات التجفيف الكمي للمسلمين تروَّج في العيادات والمشافي ومراكز الرعاية الأولية حيث توزع وسائل منع الحمل بالمجان، فإن أحد محاور صد هذا الهجوم يجب أن تنطلق في هذه العيادات والمشافي والمراكز، وأقول بكل صراحة ووضوح إن على كل طبيب مسلم أن يرعوي وينزجر عن القيام بهذا الدور المشبوه في ترويج هذه الوسائل ونشرها، وأن يتقي الله تعالى في كل مرة يصف فيها وسيلةً من وسائل منع الحمل سائلاً نفسه : هل هناك استطباب طبي حقيقي وإذن شرعي معتبر لاستعمال مانع الحمل، وهل الوسيلة المعينة لمنع الحمل مأذون بها شرعاً أم لا؟ فإن كان جواب أحد السؤالين السابقين النفي فليعلم هذا الطبيب أنه متعاونٌ على الإثم والعدوان، وأنه من حيث يدري أو لا يدري قد أصبح أداةً للفت في عضد المسلمين ولتوهين جموعهم خدمةً لأعدائهم، والعكس صحيح حيث يقف موقف الطبيب المسلم الواعي الحاذق الذي يوازن بين مصلحة المريضة والحذر من مفاسد ومكائد العدو، ولا تحسبن الكلام مبالغاً فيه البتة فإن قليلاً من النظر والتأمل فيما يجري في مجتمعاتنا كفيلٌ بجلاء وجه الحق إن شاء الله.(1/100)
فإذا تجاوزنا مرحلة طلب النسل وضرورة التصدي لمحاولات تحجيمه جاءت المرحلة الثانية التي اعتنى الإسلام بها ألا وهي مرحلة حفظ الجنين كما تقدم في حديث دية الجنين، ولقد بدأ الاسترسال في مسألة الإجهاض يستشري في مجتمعاتنا، والمؤسف أن بعض الفتاوى المعاصرة قد استرسلت في الإفتاء بالجواز بناءً على تعليلات لا يصح اعتبارها شرعاً، ولعل من يتأمل حديث الغامدية حيث أتت الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت:" يا رسول الله طهرني" فقال:"ويحك، ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت:" أراك تريد أن تردَّدني كما ردَّدت ماعز بن مالك؟" قال:" وما ذاك؟" قالت: إنها حبلى من الزنا. فقال:" أنتِ؟" قالت:"نعم". فقال لها:" حتى تضعي ما في بطنك". قال : فكفلها رجلٌ من الأنصار حتى وضعت. قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" قد وضَعَت الغامدية". فقال:"إذاً لا نرجمها وندع ولدها صغيراً ليس له من يُرضعه" فقام رجلٌ من الأنصار فقال:" إليَّ رضاعه يا نبي الله " قال: فرجَمَها.(1)، والشاهد في هذا الحديث العظيم أن الغامدية قد استحقت إقامة الحد عليها بالرجم لإقرارها بالزنى وهي محصنة، ولكن لمَّا علم رسول الله صلى الله عليه سلم أنها حبلى أجَّل إقامة الحد إلى ما بعد الولادة حفظاً للجنين الذي لا ذنب له، ومعلوم أن إقامة الحد بعد ثبوت موجبه واجبٌ لا يملك أحد تأخيره أو تعطيله إلا لعذر معتبر شرعاً، فلما أجَّل الرسول صلى الله عليه سلم إقامة الحد علمنا أن حياة الجنين معتبرةٌ شرعاً، ولمَّا لم يسأل صلوات الله وسلامه عليه الغامدية عن عمر الحمل مع احتمال أن يكون قبل الأربعين يوماً أو المائة والعشرين يوماً – وهو عمر نفخ الروح في الجنين – علمنا أن حياة الجنين معتبرة في كل مراحلها، لأن القاعدة في الأصول أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال دليل إرادة العموم في المقال، فاعتبار
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الحدود – باب من اعترف على نفسه بالزنى - حديث 1695(1/101)
حياة الجنين عام يشمل كل مراحله، إذ لو كانت حياة الجنين قبل نفخ الروح مرخص في فواتها لما جاز تأجيل الحد الواجب لأجلها، فلما أجَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بدون تحري عمر الحمل علمنا أن حياة الجنين معتبرة في كل مراحلها، هذه مع ملاحظة أن إخبار الغامدية عن نفسها أنها حبلى وعدم ظهور أمارات ذلك عليها بحيث يميزه الناس يرجح أن حبلها كان في مرحلة مبكرة لا يبعد أن تكون قبل اليوم المائة والعشرين، ولقد استطردت في هذه المسألة قليلاً لأن بعض الاجتهادات الفقهية ترى جواز الإجهاض قبل المائة والعشرين يوماً لاعتبار عمر نفخ الروح ونحن لا نخاصم في هذا الحد(أي نفخ الروح في اليوم العشرين بعد المائة) فلقد ثبت بالسنة الصحيحة، ولكن نخاصم في كونه علة لجواز الإجهاض، وما قلناه من ترك الاستفصال عن عُمر حمل الغامدية يُقال مثله في حديث دية الجنين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستفصل ويتحرى عمر الجنين حين قضى فيه بالدية، مما يدل على أن حياته معتبرة وأن الاعتداء عليه معتبر شرعاً بغض النظر عن عمر الحمل، وإن من يتأمل اللوزام الفاسدة المترتبة على القول بجواز هذا الإجهاض ليدرك أن الحق الذي لا مرية فيه بخلافه، وعسى الله أن ييسر الرد على هذا وبيانه في رسالة مستقلة والحديث هنا منصبٌ على ما سوى حالات الضرورة فليتنبه.(1/102)
ثم إذا تأملت بقية حديث الغامدية وكيفية مراعاة النبي صلى الله عليه سلم لكفالة الطفل ورضاعته قبل المباشرة في رجم الغامدية، لعلمت كمال عناية الإسلام بالنفس وطلب أسباب بقائها ورعايتها، وحسبك من ذلك الأمر القرآني العام :" ولاتقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً"(1)، ولا بد للطبيب المسلم في هذا المقام من أن يمارس مهتنه في رعاية وحفظ نفس المريض من هذه المنطلقات الشرعية التي تجتهد في صون النفس المعصومة، إن مكافحتنا لخبائث التدخين والخمر والمخدرات والأمراض المنتقلة عبر الجنس والأمراض السارية وغيرها يجب أن ينطلق من منطلق مراعاة مقاصد الشريعة في حفظ الأنفس المعصومة، لا مجرد الممارسة التقليدية العمياء التي لا تنطلق من مبدأ شرعي ولا تمضي نحو غاية شرعية، وإن هذا المنطلق والغاية هما الكفيلان بإذن الله بتوجيه الطبيب المسلم نحو دوره في كشف ومجاهدة مؤامرات ومكائد الأعداء الهادفة إلى الفتك بمجتمعاتنا من خلال هذه الأمراض الهدامة، وإن دور الطبيب في التنبه لهذا كله وتحذير مجتمعه المسلم منه لدورٌ عظيم لا يليق به أن يتوانى عن القيام به أو يتقاعس عن المرابطة على ثغره.
ثالثاً: المرابطة على ثغر العقل:
__________
(1) سورة النساء - آية 29(1/103)
إن العقل مناط التكليف، ولقد جاءت شريعتنا الغراء بكل ما من شأنه حفظ هذه النعمة، وبدرء كل ما يفضي إلى الإضرار بها نقصاً أو تلفاً، تأمل كلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أما بعد أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير،والخمر ما خامر العقل"(1)، والشاهد في قوله (والخمر ما خامر العقل) أي غطى عليه وستره وحجبه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" كل مسكرٍ حرام"(2)، وإن من واجب الطبيب المسلم أن يسهر على حراسة هذا الثغر، وأن يعنى به أيما عناية لأنه مناط تحمل تكاليف الشرع، ومناط القيام بواجب العبودية لله تعالى، ولا بد لنا في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الصراع أن ننطلق في توجيه المريض والمجتمع المسلم من منطلقاتنا الشرعية في حفظ وصيانة العقل المسلم، حتى يكون الدافع لدينا أشد والوازع عند المريض أقوى على الوقوف عند ما نهى الله تعالى عنه مما فيه ضرر على عقولنا، إن تسرب الخمر أم الخبائث إلى مجتمعاتنا ودولنا تحت غطاء من القانون الوضعي العلماني، بل وتحت حماية القانون وفي ظل تعطيل حدود الله الرادعة عن اقتراف هذه الجريمة لَيجعل من مهمة الطبيب أمراً عسيراً، ولكن أي شيء يكون الجهاد بغير هذه المشقة والعناء، وهل الجهاد إلا بالمشقة والتعب والنَصَب واستفراغ الوسع والوقت والجهد والمال والبدن في سبيل تحصيل مرضاة الله عز وجل؟ على الطبيب المسلم إذاً أن يكون صريحاً وواضحاً مع كل من تجب مناصحته لله من حاكم ومسؤول ومحكوم من عوام المسلمين وخاصتهم، فيكون ناصحاً أميناً يلتزم في إنكاره آداب الشرع بلا هرج ومرج، وبلا رعونة وتهور، وإنما السلوك الشرعي المنضبط الذي يُحسن من خلاله توظيف معطيات العلم اليقينية التي تثبت خطورة هذه السموم على
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب التفسير – حديث 4253
(2) صحيح البخاري – كتاب الأدب – حديث 5659(1/104)
أمن مجتمعاتنا المسلمة، فيستنهض همم المجتمع بكل طبقاته لمكافحة هذه الخبائث، ويثير في المجتمع بكل طبقاته الدافع على العودة إلى تحكيم شرع الله، وتطبيق حدوده تعبداً لله تعالى وتحصيلاً لمقاصد الشرع في مجال حفظ النفس والعقل،وهل جاءت شريعتنا الغراء إلا لتحصيل مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم في الدنيا والآخرة؟
إن نظرةً واحدةً إلى سراية الأمراض والمضاعفات المترتبة على استشراء هذه السموم في مجتمعاتنا اليوم كفيلة بأن يتفرغ بعض أطبائنا- بكل ما تعنيه كلمة التفرغ من معنى - إلى العمل على مكافحة هذه الخبائث، بدءاً بتقييم حجم الضرر الواقع في مجتمعاتنا، وانتقالاً إلى التوعية حول هذه الأضرار والأخطار الفردية والجماعية، ومروراً بالمناصحة والتواصل مع المسؤولين من أجل تجفيف منابع التدمير العقلي هذه، ومن ثم إيجاد صيغ عملية تطبيقية لاجتثاث هذه الاثام والخبائث من مجتمعاتنا، أما مجتمعات الكفر فلتهنأ بكأس الخمر الذي تتجرعه كل يوم للوقاية من أمراض الشرايين القلبية، ولتهنأ بما تتفتق به الدوريات الطبية من أمثال هذه الترهات، إذ أن أياً من هذه الدوريات لم ولن يتنبه يوماً إلى أثر طينة الخبال التي توعد وتعهد الله تعالى شاربَ خمر الدنيا بسقياها يوم القيامة، فذرهم في سكرتهم سادرون، وذرهم في طغيانهم يعمهون، أمَّا أن نسير وراءهم متخبطين ثمالى فتلك والله الطامة الكبرى.
رابعاً: المرابطة على ثغر العرض والنسل:(1/105)
إن الباحثين في مقاصد الشريعة الإسلامية يقرنون مصلحة العرض والنسل عادةً بسبب التلازم الحاصل بينهما، ولئن كان هذا التلازم يكاد لا ينفك في القديم، فإن الأمر اليوم قد لا يكون كذلك في بعض الحالات، نتيجة ما تفتقت عنه آلة العلم من تقنيات تسمح باستكثار النسل بمعزلٍ عن المعاشرة المباشرة التي قد تتهدد العرض، ففي القديم كان الزنا هو المتصور حين الكلام عن تهديد مصلحة العرض والنسل، حيث تُنتهك الأعراض المحرمة وتضيع الأنساب، أما اليوم فلقد أصبح تضييع الأنساب متصوراً بدون التلازم مع انتهاك العرض مباشرةً بالزنا، وهنا تبرز أهمية وعي الطبيب المسلم تجاه اعتبار مصلحة النسل والنسب في شريعتنا الغراء ولو لم تُنتهك الأعراض مباشرةً بالزنا، وبالمثال يتضح المقال؛ حيث إن التقنة العلمية الحديثة التي سمحت بطلب النسل عن طريق ما يسمى أطفال الأنابيب قد قدمت لنا قالباً واقعياً يُتصور من خلاله تضييع الأنساب دونما انتهاك العرض بالزنا، وذلك نتيجة الخطأ المخبري غير المقصود الناتج عن تداول ماء الرجل وبويضات المرأة، أو الخلط المتعمد في بعض المختبرات والمراكز التي قد تستعمل ماء رجل خصب أو بويضات امرأة خصبة من زبائنها لتحسين نتائج الإخصاب عند زبائن آخرين، وهذا كله مما لا يشك عاقل في إمكانية حدوثه بل ومما تدلل الوقائع والمشاهدات على حدوثه فعلاً، ولئن كانت بعض الفتاوى المعاصرة التي ترى جواز بعض صور أطفال الأنابيب (كالتي تكون من ماء الزوج والزوجة وفي رحم نفس الزوجة حصراً) تُغفل واقع الاسترسال في التطبيق والممارسة والتهاون في الشروط والقيود التي تضعها الفتيا للقول بالجواز، وإذا أخذنا بعين الاعتبار تعدد المحاذير الشرعية المتعلقة بطلب النسل عن طريق أطفال الأنابيب(1)
__________
(1) وأشد هذه المحاذير خطورةً التهاون في كشف العورة المغلظة بغير ضرورة وليس طلب النسل ضرورة شرعية بالنسبة للأفراد، نعم هي ضرورة بالنسبة للنوع الإنساني أما الأفراد فإن حياة الواحد منا لا تتوقف على حصول الولد والإنجاب، فتأمل.(1/106)
مع التنبه إلى أن مثل هذه التقنيات تعتبر مظنة تضييع الأنساب ولو عن طريق الخطأ، لتبيَّن لك أن القول بالمنع هو الأحظ بأصول الشرع والأقرب إلى روح الشريعة، وعسى الله أن ييسر إخراج ذلك في رسالة مستقلة، فإذا انتقلت من هذه التقنة إلى مسائل استئجار الأرحام وتجميد البويضات والتبرع بماء الرجل وماء الأنثى لعلمت أن في حشايا التقدم التقني العلمي غير المنضبط من المهالك ما هو كفيلٌ بتدمير المجتمع بأسره، ولا يخفى أن الطبيب المسلم الخبير بهذه التقنيات وبكل مراحل التطور العلمي المتعلقة بها هو الأجدر والأليق بحمل درع الوقاية لهذه الأمة من تضييع أنسابها وذراريها، وهو الأقدر بإذن الله على حسن تصوير النوازل لفقهاء وعلماء الشريعة حتى تكون اجتهاداتهم موفقةً بإذن الله، وأريد أن أنبه إلى أن النظر والاجتهاد في هذه النوازل الطبية يجب أن يكون ضمن إطارٍ من الوعي العام تجاه المكائد التي تُحاك للأمة، تأمل كيف انطلت تلك الخدعة اللفظية المسماة (تنظيم الأسرة) حيث تسربت إلى بيوتنا وحرماتنا بل إلى فتاوانا فتجد من التناقض بين من يفتي بحرمة منع النسل ثم يفتي بجواز تنظيم النسل ما يُشعرك بالغفلة التامة عما يُحاك لهذه الأمة بِلَيل(1)، فلا غنى للطبيب المسلم والأمر كذلك عن التسلح بثوابت الشريعة وفهم روحها ومقاصدها وتأطير كل النوازل في إطار هذا الفهم والوعي حتى لا تؤتى الأمة من قِبَلنا.
__________
(1) ووجه التناقض هنا واضح إذ أن مسألة تنظيم النسل تستلزم تحديد النسل نظراً لأن فترة الخصوبة عند المرأة محددة، فأصبح القول بتحريم تحديد النسل مع القول بجواز تنظيم النسل نوعاً من التعارض والتناقض،فتأمل!(1/107)
ولئن كان الافتراق في جهة العرض والنسل متمثلاً في بعض الوسائل المعاصرة لطلب النسل فإن الأمر لا يقل خطورة فيما يتعلق بانتهاك العرض، ولست أعني الزنا بطبيعة الحال، وإنما أعني انتهاك العورات بدون مبرر طبي شرعي معتبر، ولقد نبهنا على ذلك فيما تقدم من هذه الرسالة، كما أن انتهاك مصلحة حفظ الأعراض يتناول أيضاً تمييع مفاهيم الفاحشة والرذيلة ووضعها في أُطر من النظريات النفسية السلوكية المنحرفة، بحيث تُعرض هذه الفواحش وتُصوَّر على أنها سلوكيات إنسانية طبيعية(1) فأصبحت اللوطية أمراً طبيعياً، والسحاقية أمراً طبيعياً، وتغيير الجنس أمراً طبيعياً يُفرض قبوله على الناس، بل ربما يحميه القانون الوضعي وحُكم مَن تبوأ منصب القضاء بهذه الأنظمة الطاغوتية نسأل الله السلامة والعافية، والشاهد هنا أن على الطبيب المسلم أن يكون حارساً أميناً على عورات المسلمين وأعراضهم وذراريهم وأنسابهم، وعلى الطبيب المسلم أن يدرك أنه سيُمتَحن في سبيل هذه الحراسة وسيلاقي شدةً وعناءً فليوطِّن نفسه على الصبر والاحتساب، وليكن ثمن هذه الحراسة والذب عن العورات ما يكون فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد"(2)، فإياك والتقاعس فالمهمة خطيرة ولقد بدأت غراس الكائدين تؤتي أكلها في بلادنا مع الأسف، فليتنبه.
خامساً: المرابطة على ثغر المال:
__________
(1) ولقد فصلت في هذه المسألة في كتابي (تربية الطفل للإسلام ) فارجع إليه غير مأمور
(2) سنن الترمذي – كتاب الديات – حديث 1341 – وقال حديث حسن صحيح(1/108)
لا يخفى مقدار ما تتكبده مجتمعاتنا من مصاريف وتكاليف مادية للقيام بعبء الرعاية الصحية، وقبل أن يبادر أحدنا إلى انتقاد شح هذه الموارد أو التقصير في جوانب الرعاية الصحية في معظم مجتمعاتنا، فليلتفت أحدنا إلى نفسه وليتساءل عن مدى الجهد والحرص الذي يبذله هو في سبيل حفظ مال المسلمين في سياق ممارسته اليومية، لا سيما الطبيب العامل في المؤسسات الصحية العامة الذي قد يسترسل في طلب ما لا يُحتاج إليه من اختبارات وعلاجات بدعوى أنها لا تكلف المريض شيئاً، في حين أن هذه التكلفة تكون على حساب أموال المسلمين، وحسب هذا الطبيب أن ينتبه إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع :" فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(1)، ولا يقتصر هذا على الممارسة اليومية مع آحاد المرضى بل ينصرف أيضاً إلى رسم السياسات الصحية الاجتماعية بما يوافق حاجات المجتمع وأولوياته، فمن العبث والسفه هدر الأموال في بناء مراكز علاج العقم في حين يقضي آلاف أطفال المسلمين الأحياء من الأمراض السارية القابلة للعلاج بأبسط الأدوية والتدابير، كما أنه من العبث هدر الملايين من الأموال في برامج كشف وعلاج مضاعفات تعاطي السموم والخبائث كالتبغ والخمر وسائر النجاسات، في حين إن الوقاية من هذه الخبائث كلها يكون باستئصال مادتها من مجتمعاتنا، وإنه لمن المضحك أن يكون غاية الإنجاز في بعض المجتمعات المسلمة سن قانون لمنع بيع الدخان والسجائر لمن هم دون سن الثامنة عشرة، وكأن الضرار الصحية والنفسية والشرعية للتبغ تقتصر على هذه الفئة، ولكنه التقليد الأعمى وسلوك جحر الضب(2) وراء كل ما هو أجنبي مهما كان سفيهاً، نعم لا بد من توعية المجتمعات المسلمة
__________
(1) صحيح البخاري – كتاب العلم – حديث 65
(2) إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من تقليد اليهود والنصارى وفيه :" حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه"(1/109)
اليوم تجاه هذه المخاطر، ولكن على الطبيب الواعي أن ينصح واضعي السياسة الصحية في مجتمعه تجاه أسس البلاء وجذور المحنة، وقل مثل هذا فيما يتعلق بعلاج الأمراض السارية بطريق الفاحشة والجنس، حيث يقتصر محترفو التقليد الببغائي على إيجاد مراكز للرعاية الجنسية من أجل تشخيص أمراض البدن في حين يُعزف عن أمراض الروح، فإذا بالأمر يقتصر على إعطاء وصفة بنسلين لعلاج الزهري أو الأفرنجي دون النظر إلى مرض الشهوة في قلب من سوَّلت له نفسه الانغماس في مستنقع الفاحشة والرذيلة، ووالله لقد دمعت العين منا لما رأينا أطفال المسلمين يولدون مصابين بالأمراض المنتشرة جنسياً، ولا ذنب لهم إلا جناية أبٍ زانٍ أو أمٍ مرتادة للفواحش والعياذ بالله، والشاهد أن ما يُصرف من الأموال في ترقيع هذه الظواهر ليس إلا نوعاً من أنواع الهدر ما لم تتمخض سياسة صحية شرعية تنادي بسد ذرائع الفاحشة وبإقامة حدود الله الزاجرة على أهل الزنا والفواحش ومعاقري الخمر والخبائث بنفس الوقت التي تنادي بها بكشف وعلاج آحاد المرضى المصابين بهذه الأمراض.(1/110)
وخلاصة الأمر أن الهدر المالي في مجال الصحة يكون بإنفاق ما لا يلزم أو بتقديم ما يقبُح تقديمه من المصاريف الصحية على حساب أولويات أشد حاجةً للمجتمع، لا سيما إذا كانت هذه الأولويات أكثر انتشاراً وأعم بلوى من غيرها، فليتأمل الطبيب الحاذق هذا كله، وليعلم أنه مسؤول عما في يده وعهدته، وليس عليه وزر ما يهدره غيره من مال، وليست عليه تبعة سفاهة غيره من المتصرفين بأموال الأمة،وحذار أن يغري بك استهتار الغير كائناً من كان بحرمات أموال المسلمين مهما كان الزمان ومهما كانت الفتنة، وتأمل معي حديث إمامنا وقدوتنا صلوات الله وسلامه عليه:" إنها ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها " قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال:" تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الذي لكم"(1)، وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم:"فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم"(2)، والشاهد هنا أن على الفرد أن يؤدي ما عليه وفق ضوابط الشرع مهما فسد الزمان، ومهما قصَّر غيره ومهما تقالَّ أثرَ قيامه بدوره، إذ أن ذمته لا تبرأ إلا بأداء ما عليه، وليس بمؤاخذٍ عن تقصير غيره، فعليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حمِّلتم، ولو أن كل طبيب في المشفى يصرف دواءً لا حاجة لصرفه ولم يبق إلا أنت فلا تكن إمعةً ولا تغتر بكثرتهم، بل اعلم أن عليك أن تتقي الله فلا تصرف هذا الدواء وتهدر هذه الفلوس مهما استحقرتها لأنك مسؤول عنها، ولأنها داخلة ضمن حرمات المسلمين، فتأمل رعاك الله ثم تساءل: كم من أموال المسلمين قد أهدرت إلى اليوم، ثم ليجهش أحدنا بالحسرة والندم وليُصلح حاله في هذه الأمانات، ورضي الله عن الفاروق عمر حين تقلد أمر المؤمنين فقال: وإني جعلت نفسي من أموالكم بمنزلة الوصي من مال
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة – حديث 1843
(2) صحيح مسلم – كتاب الإمارة – باب وجوب الوفاء ببيعة الخليفة – حديث 1842(1/111)
اليتيم، آهٍ كم هو البون شاسع بين هذا وذاك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذه إشارة سريعة وأمثلة موجزة مقتضبة لما قصدنا بيانه من الثغور والمرابط التي يجدر بالطبيب المسلم أن يستشعر مسؤوليته تجاهها في هذا النوع من الجهاد، ولا شك أن التفصيل في هذه الأمور يحتاج إلى إفراده بالتأليف ولكن عسى أن يكون في الإشارة دافع إلى استنهاض الهمم في استدراك ما يعوزنا للاضطلاع بهذه المهام، وإن معركة اليوم لا تحتمل أي هدر للطاقات والمصادر كما أنها لا تحتمل أية غفلة عن ثغرٍ يُغيرُ من خلاله أعداء الدين علينا، ومهما كان الثغر الذي تكفيه أمتك صغيراً فقد أديت الحق الذي عليك فلا تحقِرنَّ من المعروف شيئاً البتة.
ثانياً : جهاد الرمح والسنان:(1/112)
قال الله تعالى :" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون"(1)، ومعلوم أن صيغة "إنما" من أساليب الحصر، فقد حصرت الآية كمال الإيمان بتحقيق قاعدة عقدية هي الإيمان بالله ورسوله، والتعبير العملي عن صدق تقرر هذه القاعدة في القلب وذلك بالجهاد المالي والبدني في سبيل الله. فهل تساءلت أيها الطبيب المسلم عن موقعك من آيات الصدق هذه وأنت تتوسم منهج النبوة في حمل هذه المهنة الراقية والهوية السامية، أعني الطب والإسلام؟ ولقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات ولم يغزُ ولم يحدث به نفسه مات على شعبةٍ من نفاق"(2)، ولا شك أن عموم قوله "من" يشمل الطبيب المسلم، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للتخلص من شعبة النفاق هذه وسيلةً من اثنتين؛ إما أن يغزو المرء وإما أن يحدِّث نفسه بالغزو. قلت: وتحديث النفس ليس بالتمني ولا بالتحلي، وإنما رغبة وهمة صادقة يدل عليها جهد ملموس في تحصيل مقدمات هذا المرغوب، فعادت المسألة إلى نفس الغزو، لأن من أراد الغزو وتمناه حقيقةً أخذ بأسبابه ومقدماته، فإما أن يوفق لنفس الفعل، وإما أن تتقاصر به الأسباب وتقصر به مشيئة الله عما أراد، فينطبق عليه وصف من حدَّث نفسه دون وصف من غزا، وتأمل مصداق هذا في قوله تعالى:" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدةً ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"(3).
__________
(1) سورة الحجرات - آية 15
(2) صحيح مسلم – كتاب الإمارة
(3) سورة التوبة - آية 46(1/113)
إن حاصل ما تقدم إذاً أنه ينبغي على الطبيب المسلم أن يأخذ بمقدمات الجهاد في سبيل الله، ولست أقصد بطبيعة الحال أن يترك الطبيب ثمار كدِّ وتعب سنوات طويلة من التحصيل العلمي والعملي واقتحام صفوف القتال فلذلك أهله(1)، وإنما أقصد التنبيه على خصوصيات الطبيب المسلم فيما يتعلق بتحقيق عبادة الجهاد المالية والبدنية على النحو التالي:
أولاً: الجهاد المالي:
لا يخفى أن مهنة الطب من حيث هي مهنة كسب عيشٍ طيب تعتبر مورداً من موارد الرزق التي يعتاش منها الطبيب، ولئن كان الحال كذلك فإن الطبيب المسلم مخاطَب من جهة المهنة ومن جهة الرزق المكتسب عن طريقها بجملةٍ من الأحاديث النبوية المتعلقة بجهاد الرمح والسنان، أما الحديث الأول فيتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم :"من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا"(2)، وأما الحديث الثاني فقوله صلى الله عليه وسلم :" من جهَّز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا"(3)، وإن تدبُّر هذه الأحاديث يتمخض عن ثلاث صيغٍ جهادية خليق بالطبيب المسلم أن يحرص على التحلي بواحدة منها على أقل تقدير وهي :
__________
(1) ولست أعني بهذه العبارة التثريب أو الإنكار أو المنع على من فعل ذلك حاشا لله فأي شيء أحب إلى المرء من بذل روحه رخيصة في سبيل الله وإنما أقصد ضرورة توخي الحكمة في توزيع وتوجيه طاقات الأمة بما يحقق مصالحها على أكمل الوجوه.
(2) صحيح البخاري – كتاب الجهاد والسير – حديث 2631
(3) صحيح مسلم – كتاب الإمارة – حديث 3511(1/114)
تجهيز المجاهد في سبيل الله : أي بالمال فيعينه على شراء سلاحه ولباسه العسكري وراحلته أو مؤونة سفره، ولا يخفى أن الطبيب في معظم المجتمعات من ذوي الدخل الجيد، فقَمِنٌ به أن يبذل شيئاً من هذا الرزق في تجهيز إخوانه المجاهدين، وكيف يضن الطبيب المسلم على الغازي في سبيل الله مثل هذا وهما إنما زميلان في مهنة واحدة ؛ فالطبيب يسعى في حفظ أبدان المسلمين رعايةً لأرواحهم ودينهم، والمجاهد في سبيل الله يدافع عن حمى المسلمين ودمائهم وأموالهم وأعراضهم حفظاً لذلك كله وتمكيناً لهم من إقامة دين الله حتى يحيوا الحياة الطيبة النافعة، فالطبيب أحرى الناس أن يستشعر ويُثمِّن دور المجاهد وقيمة عمله وسمو غايته، وهو بالتالي أجدر الناس وأحراهم بمد يد العون والمدد له، وليس من المبالغة والحال كذلك أن نعلنها بكل صراحة ووضوح بل وبكل فخر واعتزاز: إن الطبيب والمجاهد زملاء مهنة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وبكل ما يترتب عليها من تبعات ومسؤوليات وتمحيص وابتلاء..(1/115)
كفالة أهل المجاهد في سبيل الله : أعني كفالتهم مادياً بما يمكِّن المجاهد من الانطلاق في مسيرته وهو مطمئنٌ إلى أن أهله بخير، وأنهم مكفولون، وأنه يوجد – بعد الله تعالى – من يقوم على تدبير شؤونهم، بحيث لا يستحيل الأهل والولد عائقاً عن الجهاد، ومرد هذه الصورة إلى الصورة السابقة أعني الجهاد بالإنفاق المالي وإن اختلفت جهة الإنفاق في هذه الصورة. وأنبه هاهنا إلى أن أهل المجاهد في سبيل الله ليسوا من الذلة والمهانة بحيث يستجدون الناس وإن الله تعالى مغنيهم عمن سواه، بل إن الواجب علينا نحن أن نبحث عن هؤلاء وأن نُقدِّر هؤلاء حين يقبلون منا أن نقوم ولو على بعض شؤونهم، وأن نعرف لهم فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى، فإن أهل المجاهد في سبيل الله هم تاج هذه الأمة ورمز سؤددها، هم الذين تفطَّرت أكبادهم وتقرَّحت قلوبهم لِحُرقة الفراق عن الابن المجاهد والزوج المجاهد والأخ المجاهد والأب المجاهد، فحذار أن تتلكأ أو تتوانى عن السعي في أمورهم أو تنتظر من يطرق بابك ليقول لك: هناك أسرة مجاهد تحتاج من يعيلها، بل قم وابحث ونقِّب وكد واتعب واطرق الأبواب وتضرع إلى الله تعالى أن يهديك إلى بيوت هؤلاء عسى أن تفوز بشرف القيام على بعض شأنهم، وإنه والله لشرفٌ وأي شرف.(1/116)
تقديم الرعاية الصحية لأهل المجاهد في سبيل الله: وهذا فرعٌ عن الجهاد المالي من جهة تسخير مهنة الطبيب التي يتكسب بها رزقه لخدمة أهل المجاهد في سبيل الله، بحيث يُقدِّم قسطاً من رعايتهم الصحية لهم بغير عوض، وإن طموحنا يجب أن يرتقي إلى مستوى قيام الأطباء المسلمين بتقديم نظام رعاية صحية متكاملة لأسر المجاهدين والشهداء من خلال الهيئات المهنية الطبية المختلفة، سواء أكان بالتعاون مع الجهات الرسمية أم كان مجرد احتساب مستقل من الهيئات الطبية النقابية أو الجمعيات الطبية ونحوها، وننبه على ما نوهنا إليه آنفاً من وجوب الحذر من إظهار الامتنان على هؤلاء، بل إن المنة لله أولاً ثم الشكر والتقدير لهذه الأسر والعائلات التي قبلت عربون الوفاء هذا، فهؤلاء كما ذكرنا هم رموز العزة والشموخ في مجتمعاتنا، وإن الخسران كل الخسران أن نغفل عنهم ونزهد في التشرف بالقيام على بعض شؤونهم، فإن أم المجاهد أمٌ لنا وإن أبا المجاهد أبٌ لنا، وإن ابن المجاهد وابنته ابنٌ وبنتٌ لنا، وإن زوج المجاهد في سبيل الله عرضٌ لنا وحريمٌ لنا تُفتدى بالأرواح تلك التي ودَّعت زوجها ليبذل النفس رخيصةً في سبيل الله فلله درها من امرأة، فالله الله أيها الطبيب دونك هذه الآفاق السامية التي لن تبلغ معشار معشارها بشهادات وندوات وألقاب ومسميات.
فحاصل الأمر في الجهاد بالمال أن يستفرغ الطبيب وسعه في القيام بواحد أو أكثر من هذه الصور ما أمكن، وليعلم الطبيب أن التوفيق للقيام بشيءٍ مما ذكرنا رهين الإخلاص في النوايا، أما من أراد من هذه الأعمال الدعاية والشهرة والسمعة والرياء فخير له ألا يتاجر بهذه النفائس ببضاعته المزجاة فإن أمره ليس بشيء البتة، فليتنبه.
ثانياً: الجهاد بالنفس:(1/117)
وهذا لعمري ذروة سنام الإسلام وغاية العبودية لرب الأنام، والمقام هنا مقام الحديث عن خصوصيات مهنة الطبيب حيث يُحتاج إليه ميدانياً لردء إخوانه المجاهدين في سبيل الله، يضمد جراحهم ويسعف مصابهم ويستنقذ أرواحهم ويتفانى في حفظ أجسادهم ليطول بذلهم لها في سبيل الله، فإن غاية مراد المجاهد أن يكون له النفس بعد النفس والجسد بعد الجسد ليبذل ذلك كله في سبيل الله مرات ومرات، تأمل معي حديث قائد المجاهدين وإمام الغُرِّ المحجلين صلوات الله وسلامه عليه:"والذي نفس محمدٍ بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأُقتل ثم أغزو فأُقتل ثم أغزو فأُقتل"(1)، والشاهد أن المجاهد في سبيل الله يتردد بين شوقين، شوقٌ إلى لقاء الله وشوقٌ إلى إعادة بذل النفس في سبيل الله، فكلما استنقذ الطبيب من جسده شيئاً يجدد به بلاءه في سبيل الله، كلما كان متعاوناً مع المجاهد في سبيل تحقيق هذه الأشواق، وأي تعاونٍ على برٍ وتقوى أجلُّ من هذا، وأي معروفٍ تسديه لهذا الذي باع نفسه من الله تعالى أرفع من هذا، ألا فلتعلم أيها الطبيب المجاهد أنك في الميدان مع إخوانك الجرحى والمصابين من المجاهدين إنما تتردد بين ألوانٍ من الخير وتتنعم في خُرَفٍ من الجنة، فلئن كنت سبباً في استنقاذ طرفٍ من البتر فأنت على خير، ولئن بترت طرفاً مصاباً إنقاذاً لحياة الجريح المكلوم فقد كنت سبباً لسبق عضوٍ منه إلى الجنة بإذن الله تعالى فأنت على خير، ولئن استفرغت الوسع في استنقاذ حياة المجاهد فتفلتت منك روحه إلى بارئها فأنت شاهد على أعظم مشاهد العبودية في هذا الكون وأنت على خير، ألا طوبى لذاك الطبيب الذي يتقلب فيما يراه الناس ويحسبونه الدم والأشلاء في حين أن حقيقته جنة الله في الأرض وعاجل بشرى المؤمن تحت بارقة السيوف، اللون لون الدم نعم ولكن الريح ريح المسك، المشهد غبارٌ ونقعٌ نعم ولكن في حس المجاهد ريحٌ تهب من تلقاء الجنة،
__________
(1) صحيح مسلم – كتاب الإمارة – حديث 3484(1/118)
ذلك والله هو عاجل بشرى المؤمن إن شاء الله.
إن الطبيب قد يجد بينه وبين هذه المشاهد مسافات ومفاوز تنقطع دونها أعناق المطي، ولكن الشريعة رحبة قريبة ممن أقبل على الله، فأنت ترى السنة النبوية تعلمنا أن نبدأ بتحديث النفس بالجهاد ترويضاً لها وتشويقاً واستعداداً لطلاق الدنيا، ثم إنك ترى النص القرآني يضع لك معالم في الطريق تدلل على صدق هذا التمني وتجعل من تحقيق هذه المراحل خطوات تتقدم بالمرء نحو هذا السمو:" ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدةً"(1) نعم، إن هذا النوع من الطب يحتاج إلى إعداد العدة، بل إن طب الحروب اليوم قد أصبح اختصاصاً قائماً بنفسه، وهو بهذا القدر لا يُتصور تحصيله لكل طبيب إذ أن الحاجة ليست محصورة فيه، ولكنه حري بكل طبيب مسلم أن يكون ملماً بالحد الأدنى الذي يمكّنه من أداء دوره عند الحاجة إليه في نفير عام أو في مهام ميدانية لا يصح استنزاف طاقة المتخصصين فيها، ولا شك أن أبجديات هذا الإعداد مبسوطة في مظانها من المراجع الطبية، ولعمري إن واجب كل طبيب مسلم اليوم ونحن نعيش معركة وجود هذه الأمة أن يلم بالحد الأدنى من طب الحروب والكوارث، كي يكون معيناً لأمته ومجتمعه في النوائب والكروب، ألا فليعد كل منا عدته ولينظر إلى مدى استعداده لسد هذا الثغر ليكون ذلك أدعى لكفاءة عمله عند الحاجة، وليكون دليلاً على صدق تمني مرتبة المجاهد في سبيل الله من جهة أخرى.
الخاتمة
__________
(1) سورة التوبة- آية 46(1/119)
هذا ما تيسر لي خطه من معالم هذه الحلية المباركة إن شاء الله، ولعمري إن الحاجة اليوم شديدة إلى العودة إلى معين القرآن والسنة ليستلهم كل صاحب فن وكل ذي علم أصول فنه وعلمه منهما، إذ أن هذا هو الطريق لتحقيق العبودية الشاملة في كل مسارات حياتنا، كما أنه هو الطريق إلى التمايز إلى حزب الله وحزب الشيطان، إلى فريق الحق وفريق الباطل، إلى فريق الجنة وفريق السعير، ولئن كانت مفرزات العلمانية الوافدة قد أحدثت شرخاً بين العلوم التجريبية وبين أصول الشريعة الإسلامية، فلقد آن الأوان لإعادة الأمور إلى نصابها لتعود الانطلاقة العلمية في مجال الطب – وغيره من العلوم – إلى الصدور عن أصول وقواعد الشريعة الكلية، حتى تنقاد مجالات الحياة كلها للشريعة الخاتمة الكاملة مصداقاً لقوله تعالى :" وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مُبدِّل لكلماته وهو السميع العليم"(1)، ولقد بينا أن هذا الصدور عن أصول وقواعد الشريعة لا يراد منه الحجر على العقل الإنساني فيما هو أهلٌ للخوض والبحث والتجربة والكشف فيه، وإنما هو تأصيلٌ وتأطيرٌ لمنهجٍ شموليٍ يحث العبد على كشف الكون المسخَر له في نفس الوقت الذي يقي العبد من شطحات العقل غير المنضبط، وإن هذه العودة منوطة اليوم بجهود أفراد ومجموعات من الغيورين المخلصين المستعدين لتقديم التضحيات ومكابدة المشاق في سبيل إبراز هذه الصورة المتناسقة المتكاملة بين الوحي والعقل إلى أن يأذن الله تعالى بإبرام أمر رشدٍ لهذه الأمة تعاد فيه الأمور إلى نصابها فيحق الحق ويبطل الباطل ويعود بالإنسانية إلى جادة الاستقامة.
__________
(1) سورة الأنعام – آية 115(1/120)
إننا نعيش اليوم صراعاً وجودياً حقيقياً يرمي إلى اجتثاث شأفة الإسلام لا مجرد السيطرة على أهله ودياره وموارده، ولئن كان إرهاب البطش العسكري لصعاليك الكفر أكثر ما يشد أبناء الإسلام اليوم ويرهبهم، فإن حقيقة المعركة أعمق من ذلك بكثير وأشد خطراً من ذلك بكثير، لأنها اليوم معركةٌ عقديةٌ فكريةٌ اجتماعيةٌ ثقافية تتسلل من كل باب شهوة وشبهة، وتتواطأ مع كل ضعيف نفس ومنافق، لتفت المرة تلو الأخرى في عضد هذه الأمة، نعم إن الدين محفوظ ولكننا حَمَلَةَ الدين لسنا محفوظين، بل نحن في خطرِ وعيد الله تعالى بالاستبدال كما قال تعالى:" إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير"(1)، وقال تعالى:"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"(2)، فلا بديل إذاً عن الاستجابة لأمر الله عز وجل إن نحن أردنا الأمن من هذا الوعيد، والمهمة اليوم منوطةٌ بكل منا كلٌ بحسبه وكلٌ بحسب طاقته، الطبيب في المشفى والمهندس في المصنع والمعلم في المدرسة والإمام في المسجد والأم في البيت والجندي في الميدان ، لا غنى – بعد الله تعالى – عن هؤلاء لاستكمال منظومة الأسباب التي أمرنا الله تعالى باستفراغ الوسع في تحصيلها، وإن ما أشرت إليه في هذه الحلية الموجزة ليس إلا مقدمةً موجزة لأهم مسائل الطبيب المسلم الكلية، وإلا فإن الجزئيات تحتاج مؤلفات مستقلة لتتبعها ومعاصرة جديد النوازل فيها نسأل الله تعالى أن يوفقنا لذلك أو لشيء منه.
ولئن كان الحد المقصود من كتابة هذه الحلية الوقوف على معالمها العامة فإنه لا حرج في التنبيه في هذا الموضع على أهم المسائل العملية التي ينبغي للطبيب المسلم أن ينشغل بها اليوم من ساعته، فأسأله تعالى أن أوفق إلى عرضها فيما يلي:
__________
(1) سورة التوبة - آية 39
(2) سورة محمد - آية 38(1/121)
إن واجب كل طبيب مسلم اليوم أن يتوقف قليلاً ليراجع رصيده من العلوم الشرعية اللازمة له بحسب اختصاصه وطبيعة ممارسته، ولا يعني ذلك هجر الطب والتفرغ لدراسة علوم الشريعة كلا، وإنما يعني التواصل مع المرجعيات الشرعية المعتبرة المأمونة على دين الله عز وجل لاستلهام التوجيه والترشيد، ولا يقدح في هذا ضرورة أن يتسلح الطبيب بحدٍ أدنى من النصوص الشرعية والمعارف الشرعية، ولا أقل من أن يطلع الطبيب المسلم على المبادئ القرآنية المتعلقة بحفظ الأنفس والإطلاع على الأحاديث النبوية في المرضى والطب كالتي في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنن وشروحها، وأسأل الله أن يوفقني أو غيري إلى جمع متن مختصر فيما لا يسع الطبيب جهله من نصوص الوحيين.
إن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يكون مطلعاً على كل ما يستجد من فتاوى الفقهاء المعاصرين والمجامع الفقهية المعاصرة تجاه ما يستجد من نوازل فقهية طبية، حتى لا يتوهم عجز الشريعة عن مجاراة التطور العلمي من جهة، وحتى يكون أهلاً لتطبيقها في مجال ممارسته من جهة أخرى، مع مراعاة أن الاجتهادات المتفاوتة في المسألة الواحدة لا تُشكل البتة، فالمسألة لا تخرج عن حالٍ من اثنين فإما أن تتبنى الدولة المسلمة اجتهاداً فقهياً معيناً فيصبح ملزماً للجميع ويحمل ولي الأمر تبعته، وإما أن لا يكون فيتبع الطبيب اجتهاد من يثق في دينه وأمانته مقلداً إن لم يكن من أهل الاجتهاد أو بالدليل إن كان له حظٌ من النظر في ذلك.
إن واجب الطبيب المسلم اليوم أن يعمل على التواصل مع زملائه الأطباء في سبيل التعاون على تحقيق ما تقدم، ولا يقتصر تواصله مع الآخرين على الأطباء بل يوسع ذلك ليشمل أهل العلم الشرعي وأهل الخبرة في رسم السياسات الصحية الاجتماعية ومنابر التوعية الاجتماعية العامة للوصول إلى شرائح المجتمع المختلفة.(1/122)
إن من أهم لوازم هذه المرحلة العمل على إدراج أبجديات الفقه الطبي في مقررات الدراسة النظامية في كليات الطب، ولا بد أن يسبق ذلك بحملة توعية منهجية تستثير همم المسؤولين والمتعلمين تجاه ذلك، وأول ما يمكن النفاذ من خلاله إلى كليات الطب مادة آداب الطب وأخلاقياته التي لا يخلو منهج كلية منه ولكنه لا يرقى اليوم مع الأسف إلى المستوى المنشود في معظم كلياتنا.
إن من واجب الطبيب المسلم اليوم العمل على تأصيل مسائل أخلاقيات المهنة في مجال الممارسة سواء أكان في المشفى أم العيادة أم غيره، بحيث تكون الضوابط العامة لما يتعلق بممارسة المهنة من أخلاق وضوابط نابعةً من شمولية المنهج الإسلامي ومراعيةً لحاجات المريض ومصالحه الدينية والدنيوية معاً.
إن الطبيب المسلم مستأمن حين يُطلب منه عرض أو تصوير مسألة طبية بغرض الاستفتاء، وليعلم أن دقة وشمولية التصوير أمرٌ مهم جداً لسلامة الفتيا، ولا يجوز للطبيب أبداً أن يصور المسألة المدروسة تصويراً منحازاً بأي شكل من الأشكال بل يعرض المسألة كما هي بدقة وتجرد تام ويدع الاجتهاد الشرعي لأهله إن لم يكن من أهله.
إن من واجب الطبيب المسلم اليوم أن يعنى ولو في مرحلة لاحقة بعرض هذا التصور الإسلامي الشامل الموازن بين حاجات البدن والروح إلى العالم بأسره لأن هذا جزء من مسؤوليتنا الأخلاقية تجاه العالم كمسلمين وكأطباء أخذنا على عاتقنا مهمة تخفيف المعاناة عن جنس الإنسان.
إن على الطبيب المسلم اليوم أن يستشعر عظيم فضل الله تعالى عليه بنعمة الدين، وأن يستشعر العزة الإيمانية التي توَّجه الله تعالى بها، فلا يخجل من عرض بضاعته ولا يستعلي على الناس بغير حق، ولكن يتوسط بين ذلك كله ليُشعر الناس أنه صاحب رسالة لا تتوقف عند حدود الطب ولا تشتغل بعافية الأبدان فحسب، بل هي رسالة أسمى ومهمة أعظم مضمونها :" وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين"(1)
__________
(1) سورة الأنبياء - آية 107(1/123)
وختاماً أسال الله تعالى القبول لهذا العمل، وأسأله سبحانه العفو عما فيه من الزلل، وجزى الله خيراً من وقف على حقٍ مما ذكرت فدعا لي به أو وقف على زلةٍ فنبهني إليها مشكوراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم.
وكتب الفقير إلى رحمة ربه
الطبيب المسلم وسيم فتح الله
24 جمادى الأولى 1425 هجرية
الموافق 11 تموز 2004 ميلادية
…………الفهرس
الموضوع ……………………الصفحة
مقدمة………………………2
الفصل الأول : حلية العبودية………………4
الفصل الثاني: حلية العلم…………………9
فصل: المنهج العلمي للطبيب المسلم………………13
فصل:أنواع الأدلة العلمية الطبية………………15
النوع الأول: دليل النقل …………………17
النوع الثاني: دليل العقل…………………19
فصل: العلاقة بين دليل النقل والعقل في علوم الطب…………20
فصل: تحرير القول في التوثق من أخبار علوم الطب التجريبية…………23
فصل: مرابطة الطبيب المسلم على ثغره………………26
الفصل الثالث: حلية الأخلاق والمعاملات……………28
أولاً: أخلاق الطبيب المسلم مع زملائه………………28
ثانياً: أخلاق الطبيب المسلم مع مريضه………………33
الفصل الرابع: حلية الدعوة…………………52
أولاً: أسلمة العلوم الطبية…………………53
ثانياً: تعهد الجانب الروحي للمريض………………57
ثالثاً: الاعتدال والتوسط في مسائل الإعجاز العلمي…………60
رابعاً: العمل الطبي الخيري والإغاثي………………62
الفصل الخامس: حلية الجهاد…………………66
أولاً: جهاد القلم والبيان…………………67
أولاً: المرابطة على ثغر الدين…………………69
ثانياً: المرابطة على ثغر النفس…………………70
ثالثاً: المرابطة على ثغر العقل…………………74
رابعاً: المرابطة على ثغر العرض والنسل………………75
خامساً: المرابطة على ثغر المال…………………78
ثانياً: جهاد الرمح والسنان…………………80
أولاً: الجهاد المالي……………………81
ثانياً: الجهاد بالنفس……………………84
الخاتمة………………………86(1/124)