تأثير القرآن الكريم في نفوس سامعيه
إعداد:
د.محسن سميح الخالدي
جامعة النجاح الوطنية-كلية الشريعة
قسم أصول الدين
ملخص البحث
"يتحدث هذا البحث عن الإعجاز الروحي والإعجاز النفسي، وما للقرآن الكريم من تأثير في نفس تاليه وسامعه، وأن هذا التأثير صالح لأن يوظف في علاج الإنسان من بعض الأمراض، ويتحدث أيضاً عن قوة التأثير القرآني في النفوس وقت النزول حيث كان الناس أحد فريقين :فريق أثّر القرآن في نفسه، فعرف صدق حامله، وأحس بهيبة القرآن وعظمته، ومع ذلك عاند وكفر،وفريق أيقن عظمته، فآمن، واتقى، وصدق، ولم يأذن للرَّين أن يتراكم على قلبه، ولا لحجب الكفر والعناد أن تغطي إيمانه أو أن تخرس لسانه، فصدع بالحق ، وشهد شهادة الصدق ، وسلك طريق المتقين مع النبيين ، فكان مع الصديقين والشهداء والصالحين ".
مقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء ففتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [ ص:29]. كتاب أعجزت الفصحاء معارضته، وأعيت الألبّاء مناقضته، وأخرست البلغاء مشاكلته، فلم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، والصلاة والسلام على من أرسله ربه بالقرآن الكريم رحمة للعالمين.
وبعد: فإن خير ما يشتغل به المرء خدمة كتاب الله تعالى، ففي الحديث: " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته" (1) .
__________
(1) حديث أخرجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أحمد ،أبو عبد الله، أحمد بن حنبل الشيباني (ت:241 هـ)، المسند(3/127)، رقم (12301) ،مؤسسة قرطبة-مصر، والحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت:405هـ)، المستدرك على الصحيحين (1/743) رقم (2046)، دار الكتب العلمية – بيروت (ط1/1990م) تحقيق مصطفى عبد القادر عطا.(1/1)
إننا في هذه الأيام بحاجة إلى السواعد الخيرة التي تربط الناس بكتاب ربهم، فهو عصمتهم من الزلل والضياع، وسط مؤامرات لتهميشه عن حاضر أمتنا من جانب، وإغراق الأمة في مستنقع المادية المقيتة المحفوفة بمفاتن الدنيا وزينتها من جانب آخر.
ومن هنا كان لا بد من تذكير الناس بكتاب ربهم المنقذ لهم من الضلال والضياع، واستحضار الوسائل والسبل التي ترسخ عظمته في نفوسهم.
فكان من السبل الهادية لهذا :تذكيرهم بتأثيره وقت النزول ، وما أحدثه من الانبهار الذي أجرى الله الإعجاب به على جوارح المنكر رغم كفره، وجحوده، وعناده ، فتغيرت معالم وجوههم ، ونطقت ألسنتهم بشهادة حق للقرآن الكريم.
وأما من سلَّم لسلطان القرآن الكريم على نفسه فآمن ، فقد كان سلوكه وطاعته وانضباطه في هذا الدين القويم خير دليل على ذلك الأثر الذي أحدثه فيه القرآن الكريم .
لقد تحول بفضل التأثير القرآني في نفسه من كافر محارب شهر سيفه في وجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى مؤمن طيِّع قدم نفسه وماله في سبيل دعوة القرآن الكريم .
ولما كان القرآن الكريم ينجَّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتجدد مع كل نوبة من نوبات التنزيل عجز العرب عن الإتيان بمثله، ويرسَّخ في الأذهان تفوق القرآن الكريم وإعجازه الذي لا يماثل ولا يجارى ،ولعل استدامة الدراسات القرآنية تكشف يوما بعد يوم عن خبايا كنوزه، وخفايا مكنونه لتذكير الناس بحجة الله على العالمين .
من أجل ذلك أحببت أن أخطو بهذا البحث خطوة متواضعة في درب الدرسات القرآنية التي لا تنقضي، وقد أسميته:
(تأثير القرآن الكريم في نفوس سامعيه )
وقسَّمته إلى مقدمة وأربعة مطالب وخاتمة على النحو التالي:
المطلب الأول: الإعجاز الروحي والنفسي.
ويتحدث عن تأثير القرآن الكريم في النفوس وما يلقيه من الروعة والمهابة في قلوب السامعين. والناس أمام هذا البيان البيّن إمّا كافر غطى إعجابه وإيمانه، وإما مؤمن استجاب وآمن.(1/2)
كما يتحدث عن الأمن والأمان، والسكينة والطمأنينة التي يشعر بها سامع القرآن الكريم وتاليه.
المطلب الثاني:تأثير القرآن الكريم في الجماد والنبات والحيوان.
وفيه أن هذه الأصناف الثلاثة تسبح الله تعالى، كما صرحت بذلك النصوص الصحيحة، وقد ثبت أن بعضها يتأثر عند سماع القرآن الكريم.
المطلب الثالث: حمل سامع القرآن الكريم على الدخول في الإسلام:
يعرض هذا المطلب صورة عن نفر أيقنوا عظمة القرآن الكريم وسلموا به آية ظاهرة بيّنة لا مرية فيها لمحمد عليه الصلاة والسلام، فساقهم هذا إلى الإيمان والتسليم.
المطلب الرابع: تأثير القرآن الكريم على المشركين الذين ماتوا وهم كفار.
... ويتحدث هذا المطلب عن اليقين الذي وقع في قلوب المشركين عند سماعهم القرآن الكريم حين يتلوه عليه الصلاة والسلام، فما استكانوا لربهم، وما استجابوا لمطلب صدق برق وميضه في عقولهم، بل غلّقوا عقولهم، وغلّفوا قلوبهم، ولجوا في طغيانهم وعنادهم واستكبارهم وأصروا على شركهم، ورضوا بأن يكون الكفر خاتمتهم رغم إقرارهم ببلاغة القرآن الكريم، وعلو شأنه، ورفعة قدره، وجلال هيبته، وعظمته، وفيه شهادات من المشركين على ذلك.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج التي تم التوصل إليها.
وختاماً: فقد اجتهدت في بحثي هذا أن أصل إلى الصواب ما استطعت، فبحثت ونقبت، واستشرت، واستشرفت ما كتبت، إلا أنني أعلم أن الكمال لله وحده، فلا عصمة إلا لكتابه المبين (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ) (فصلت: 42].
... فما كان فيه من خطأ فهذا شأن نفسي الخطاءة، وما كان فيه من صواب فمن توفيق الله وهديه.
وإن ما أرجوه أن يجعل الله جهدي هذا في ميزان حسناتي، وأن يجعلني ممن يرعى كتابه حق رعايته، ويتدبره حق تدبيره، ويقوم بقسطه، ويوفي بشرطه، ولا يتلمس الهدى في غيره، إنه سميع قريب مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المطلب الأول
الإعجاز الروحي والنفسي
...(1/3)
أولاً: الإعجاز الروحي، ويقصد به: التأثير العظيم للقرآن الكريم في نفوس سامعيه ممن يتقنون لغة القرآن الكريم، وما تشعر به تلك النفوس من الحلاوة واللذة والرغبة والرهبة، فلا يعرف كتاب في الدنيا كلها له من الأثر على تاليه ومستمعه كما لهذا القرآن الكريم (1) .
... ولعل أول من نبه على الإعجاز الروحي -كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم- هو الخطابي في رسالته: بيان إعجاز القرآن (2) حيث قال: "قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن، منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس، وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً".
__________
(1) عباس، د. فضل وسناء، إعجاز القرآن الكريم (ص: 345) (ط1/1991م). وأضاف د. فضل أن أثر القرآن الكريم يشمل أولئك الذين لا يدركون معانيه، ولا يفهمون ألفاظه.
(2) الخطابي، أبو سليمان، حَمْد بن محمد بن إبراهيم البستي (ت: 388هـ)، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (ص: 70)، تحقيق: محمد خلف الله ومحمد زغلول، دار المعارف –مصر (ط2/1387هـ).(1/4)
نعم: لقد كان للقرآن الكريم أثره الكبير في نفوس محبيه وشانئيه، غير أن محبيه لا يملكون منع أثره على نفوسهم، فعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال:" قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر: كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله" (1) .
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا صلى في بيته يقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يتعجبون منه ينظرون إليه، وكان رجلاً بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن الكريم (2) .
يقول ابن القيم: "برز القرآن – في رونق الجمال والجلال في أعدل ميزان من المناسبة والاعتدال، ولذلك يقع في النفوس عند تلاوته وسماعه من الرَّوعة، ما يملأ القلوب هيبة، والنفوس خشية، وتستلذ الأسماع، وتميل إليه بالحنين الطباع، سواء كانت فاهمة لمعانيه أو غير فاهمة، عالمةً بما يحتويه أو غير عالمة، كافرة بما جاء به أو مؤمنة ... " (3) .
__________
(1) البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين (ت: 458هـ)، شعب الإيمان، فصل: في البكاء عند قراءة القرآن (2/365) رقم (2062)، دار الكتب العلمية – بيروت، (ط1/1410هـ)، تحقيق محمد السعيد زغلول.
(2) البيهقي، شعب الإيمان، فصل: في البكاء عند قراءة القرآن (2/364) رقم (2055).
(3) ابن القيم ، أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (ت: 751هـ) الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان (ص: 9) دار الكتب العلمية – بيروت (ط2/1988م).(1/5)
... وهذا الذي ذكره ابن القيم قريب من الذي ذكره الخطابي إلا أنه يلاحظ فيه أن ابن القيم لم يقيِّد تأثير القرآن بمن يفهم العربية، وذكر أن القرآن يؤثر في النفوس سواء أكانت فاهمةً لمعانيه أم غير فاهمةٍ، عالمة بما يحتويه أم غير عالمة، فتأثيره لا يرتبط بفهمه عند ابن القيم، ومع هذا التصريح من ابن القيم فإننا نجد أنه جعل الحلاوة واللذة التي تنفذ في المرء عند سماع القرآن الكريم تكون آكد وأقوى إذا كان المرء عالماً بلغة العرب، فتأثير القرآن الكريم عامٌ في من فهم العربية أو لم يفهمها إلا أن الوقوف على إعجاز القرآن الكريم، وملاحظة فضل القرآن الكريم على سائر كلام العرب لا يكون إلا لمن كان عالماً بلغة العرب، متقناً لها، محيطاً بفنون القول فيها، ولهذا نصّ ابن القيّم على هذا المعنى بقوله: "وإنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علْم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها..، فإذا علم ذلك، ونظر في هذا الكتاب العزيز، ورأى ما أودعه الله سبحانه فيه من البلاغة، والفصاحة..." (1) ، بعدها قال: "ولذلك يقع في النفوس عند تلاوته، وسماعه من الروعة ما يملأ القلوب هيبة...".
أما قول الخطابيّ فيلاحظ فيه أن الخطابيّ لم ينص على أن تأثير القرآن الكريم يمكن أن يكون في غير الفاهمين للغة العرب، كما أنه لم يذكر الإعجاز الروحي إلا بعد أن استعرض في مقدمة رسالته تلك الكلام عن بلاغة القرآن، وما حواه من أجناس الكلام، وأكد إعجاز القرآن من هذا الجانب بقوله: "واعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمّناً أصح المعاني" (2) .
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 9).
(2) الخطابي، بيان إعجاز القرآن، (ص: 27).(1/6)
ومن هنا: فإنه يفهم من قول الخطابيّ أن تأثير القرآن الكريم في مستمعيه مرتبطٌ بفهم العربية خلافاً لابن القيم، وما ذكره ابن القيم أقوى وأرجح، فقد أكّدت الدراسات والتجارب التي أُجريت على غير الناطقين بالعربية تأثرهم بسماع القرآن الكريم، وسيأتي بيان ذلك بعد قليل.
ثانياً: الإعجاز النفسي للقرآن الكريم
اختلفت أقوال الباحثين في تحديد مفهوم الإعجاز النفسي حيث إنه يتداخل مع الإعجاز الروحي، فهناك من لم يفرق بينهما بما ألزمه للإعجاز النفسي من جوانب نحو د. صلاح الخالدي الذي جعل للإعجاز النفسي جانبين؛ أولهما: الحديث عن النفس الإنسانية، وبيان صفاتها، وكشف خباياها، وخفاياها، وثانيهما: تأثير القرآن في النفس الإنسانية مؤمنةً كانت أو كافرة، وما ينتج عن هذا التأثير في النفس من نتائج وثمرات (1) . وممن فرَّق بينهما د. فضل عباس الذي نص على الفرق بينهما عادّاً الإعجاز الروحي: تأثير القرآن العظيم في النفوس، أما الإعجاز النفسي فعرفه بقوله: "الإعجاز النفسي هو ما نلمحه في تلك الآيات وهي تتحدث عن أصناف الناس، ومواقفهم ومشاعرهم، وما يفرحهم، وما يحزنهم، ما نجده من بيان لمكنونات النفس وخفاياها، ودوافعها ... .، فإنك لتقرأ الآية من القرآن الكريم، وإذا بها تصور نفسية أولئك الذين تتحدث عنهم صورة واضحة المعالم، بينة الاتجاه، لا تهمل جزئية، ولا تنسى مشهداً" (2) .
__________
(1) الخالدي، د. صلاح عبد الفتاح الخالدي، البيان في إعجاز القرآن (ص: 334)، دار عمار (ط 3/ 1992م).
(2) عباس، إعجاز القرآن(ص:344).(1/7)
ومع أنني أتفق مع د. فضل عباس، فالقرآن كما قال: تحدث عن مكنونات النفس وخفاياها بصورة معجزة، وذلك لأن الله تعالى هو خالق البشر، وهو أعلم بحال نفوسهم وسجاياهم، فهو خير من يصفها، ويصورها، ويتكلم عنها، إلا أنني سأتكلم عن الإعجاز النفسي من جانب آخر أفرّق على أساسه بينه وبين الإعجاز الروحي ألا وهو: أن الإعجاز النفسي هو ما يحدثه القرآن الكريم من تغيرات فسيولوجية إيجابية في النفس الإنسانية من سكون، وطمأنينة، وراحة نفسية، تبدد القلق والخوف، وتجلب السكون والأمن، انطلاقاً من قوله عز وجل: (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب) [الرعد: 28]، وقوله عز وجل(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) [الإسراء: 82]، قال القرطبي: "اختلف العلماء في كونه شفاء على قولين: أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب ... ، الثاني: شفاء الأمراض الظاهرة" (1) . وجمع القرطبي بين القولين عند تفسيره لقوله تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آَمَنُوا هُدَىً وَشِفَاء)[فصّلت: 44] حيث قال:" إعلم أن القرآن هدىً وشفاء لكل من آمن به من الشك والريب والأوجاع" (2) .
وقد أثبتت بعض الدراسات أن تأثير القرآن يكون في من آمن أو لم يؤمن، فهم اللغة العربية أو لم يفهمها، وتوسع بعضهم في جانب البحث فيه، فجعل تأثيره يشمل النبات، والجماد أيضاً.
__________
(1) القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت: 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، (10/316)، دار إحياء التراث العربي – بيروت (سنة: 1985م).
(2) المرجع السابق (15/369)، وقد أفاض الزركشي في نقل الأخبار عن الاستشفاء في القرآن وذلك في النوع (السابع والعشرون) بعنوان (معرفة خواصه)، انظر: الزركشي، أبو عبد الله، محمد بن بهادر بن عبد الله (ت: 794هـ)، البرهان في علوم القرآن (1/434-436)، دار المعرفة، بيروت، ط سنة 1390هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.(1/8)
أما الإعجاز الروحي فهو انبهار يحدثه سماع القرآن الكريم، ولا يكون إلا لمن خَبِر لغة العرب، وسلك مسالكهم في مجاري الخطاب، وهو يشمل المؤمن وغير المؤمن بشرط أن يكون فاهماً للغة القرآن.
وقد يقع التداخل في إطلاق الإعجاز النفسي والروحي بسبب ما ورد في أقوال بعض أهل اللغة من أن النفس والروح واحد لا فرق بينهما، قال ابن منظور: "الروح: النفس، يُذَكَّر ويُؤنّث، والجمع الأرواح" (1) . ويعزز هذا التداخل أن الخطابي الذي يُعدّ أول من نبّه إلى هذا النوع من الإعجاز لم يُطلق عليه اسم (النفسي) أو (الروحي)، إلا أن الناظر في تعريف من أطلق الإعجاز النفسي على حديث القرآن عن النفس الإنسانية يجد أن هذا التعريف يختلف تماماً عن الإعجاز الروحي الذي يتحدث عن تأثير القرآن في النفس الإنسانية.
... ومن هنا يمكن القول: إن الإعجاز النفسي يمكن أن يكون في حديث القرآن عن النفس الإنسانية، ويمكن أن يكون فيما يحدثه في النفس الإنسانية، ويعنيني هنا الإطلاق الثاني؛ لأن النفس في اللغة تُطلَق أيضاً على الجسد، فقد نصّ ابن منظور على أن النفس يعبر بها عن الإنسان جميعه أو عن الجسد (2) .
أما تأثير الإعجاز النفسي للقرآن الكريم على سامعيه فيتمثل في:
أولاً: تأثيره في نفس المؤمن:
للقرآن الكريم تأثيره في نفس المؤمن، فهو يبعث الأمن والطمأنينة في النفس، ويبدد الخوف والقلق، ويغمر الإنسان بالشعور بالسعادة، ويحميه من الإصابة بالأمراض النفسية (3) ،
__________
(1) ابن منظور، أبو الفضل محمد بن مكرم (ت: 711هـ)، مادة (روح)، لسان العرب، دار الفكر- بيروت (ط1/ 1990م).
(2) المرجع السابق، مادة (نفس)، (6/235).
(3) انظر تفصيل ذلك في بحث للأستاذة ناهد عبد العال الخراشي، بعنوان: أثر القرآن في الأمن النفسي:
http://www.55a.net/firas/index.php?page=show(1/9)
قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) [الزمر: 23].
ثانياً: تأثير القرآن الكريم في المسلمين وغيرهم:
للقرآن الكريم تأثير واضح في المسلمين وغيرهم ،وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
1. من خلال العديد من التجارب التي أجريت حول تأثير القرآن الكريم على سامعيه في أكبر عيادات مدينة بنما سيتي بولاية فلوريدا الأمريكية، وهي دراسات قدّمت ببحث إلى المؤتمر العلمي الثالث للطب الإسلامي المنعقد في استنبول بتركيا، وكان هدف البحث هو إثبات أثر سماع القرآن الكريم باستخدام أجهزة المراقبة الإلكترونية المزودة بالكمبيوتر لقياس التغيرات الفسيولوجية في عدد من المتطوعين (1) .
وكانت خلاصة النتائج على النحو التالي:
? أظهرت النتائج المبدئية للبحوث القرآنية أن للقرآن أثراً إيجابياً مؤكداً لتهدئة التوتر، وأمكن تسجيل هذا الأثر نوعاً وكمَّاً.
وظهر هذا الأثر على شكل تغيرات في التيار الكهربائي في العضلات، وتغيرات في قابلية الجلد للتوصيل الكهربائي، وتغيرات في الدورة الدموية، وما يصحب ذلك من تغير في عدد ضربات القلب، وكمية الدم الجاري في الجلد، ودرجة حرارة الجلد، وفي المجموعة التي كانت تسمع وتفهم(سواءً أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، أو كانوا يتحدثون العربية أو غيرها) كانت النتائج إيجابية بنسبة 97%، وفي مجموعات المرحلة الثانية ثبت أن لسماع تلاوة القرآن الكريم أثراً واضحاً على تهدئة التوتر، ولو لم يفهم السامع معناه، إذ حقق إيجابية قدرها 60%.
__________
(1) مصطفى، د. احمد، الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة (ص: 524)، دار ابن الجوزي (ط1/2005م).(1/10)
? وكل هذه التغيرات تدلُّ على تغير في وظائف الجهاز العصبي التلقائي والذي يؤثر بدوره على أعضاء الجسم الأخرى ووظائفها، ولذلك فإنه توجد احتمالية أن يكون ذلك عن طريق إفراز الكورتيزول أو غير ذلك من ردود الفعل بين الجهاز العصبي، وجهاز الغدد الصماء، وجهاز المناعة.
ولذلك فإن من المنطق افتراض أن الأثر القرآني المهدئ للتوتر، يمكن أن يؤدي إلى تنشيط وظائف المناعة في الجسم والتي بدورها ستحسن من قابلية الجسم لمقاومة المرض أو الشفاء منه.
? كما أن نتائج هذه التجارب المقارنة تشير إلى أن كلمات القرآن بذاتها، وبغضِّ النظر عن مفهوم معناها، لها أثر فسيولوجي مهدئ للأعصاب في الجسم البشري، فإذا اقترن سماع القرآن الكريم بفهم معناه كان غير محدود الأثر (1) .
2. ومن الدلائل أيضا على تأثير القرآن الكريم في نفوس المسلمين وغيرهم ما أشارت إليه العديد من الدراسات التي قام بها د. أحمد القاضي (2) في الولايات المتحدة على أناس غير مسلمين لا يعرفون العربية قال": إنه ثبت علمياً أن سماع القرآن – بغض النظر عن فهمه واستيعابه – يؤدي إلى زيادة درجة المناعة عند الناس" (3) .
__________
(1) المرجع السابق، (ص: 524).
(2) رئيس مجلس اتحاد إدارة معهد الطب الإسلامي للتعليم والبحوث في أمريكا وأستاذ القلب المصري، وكان هذا الكلام في مؤتمر طبي عقد في القاهرة عن "كيفية تنشيط جهاز المناعة بالجسم للتخلص من الأمراض المستعصية والمزمنة"، انظر:
http://www.majdeh.com/vb/showthread.php?t=7812
(3) مصطفى، الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة (ص: 433).وانظر: firas/arabic/www.55a.net(1/11)
3. وفي دراسة ٍمصريةٍ قامت بها هيئة المستحضرات الطبية واللقاحات أكدت أن سماع الإنسان لآيات القرآن الكريم يعمل على تنشيط الجهاز المناعي نتيجة ما يحققه للسامع من هدوء واطمئنان يبدد التوتر والقلق، والعظيم في هذا الموضوع أن الفائدة تعم على المستمع سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، وذكرت الدراسة أن 79% ممن أجريت عليهم تجربة سماع آيات الذكر الحكيم _سواء أكانوا مسلمين، أم غير مسلمين ،يعرفون العربية أولا يعرفونها_ ظهرت عليهم تغيرات فسيلوجية تدل على تخفيف درجة التوتر العصبي التلقائي.
وأضافت الدراسة أن الأثر القرآني المهديء للتوتر يؤدي إلى تنشيط وظائف المناعة لمقاومة الأمراض والشفاء، وقد شملت الدراسة (210) متطوعين أصحاء تتراوح أعمارهم بين (17_40) سنة، وكانوا من غير المسلمين، وتم ذلك خلال (42) جلسة علاجية، وكانت النتائج إيجابية نظراً للأثر المهديء للقرآن الكريم على المتوتر بنسبة (65%)، وهذ1الأثر المهديء له تأثير علاجي، حيث إنه يرفع كفاءة الجهاز المناعي، ويزيد من تكوين الأجسام المضادة في الدم (1) .
ومما يشهد للأثر النفسي من أنه شفاء يورث الطمأنينة ويوجب السكينة ويزيل الخوف والتوتر إضافة لما سبق ذكره من الآيات:
أ. حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي أخرجه مسلم في صحيحة:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة ... .." (2) .
__________
(1) http:llnou nou1982.
(2) مسلم بن الحجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري (ت: 261هـ)، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر(4/2074)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.(1/12)
قال النووي: "قيل: المراد بالسكينة هنا الرحمة،وهو الذي اختاره القاضي عياض، وهو ضعيف لعطف الرحمة عليه، وقيل: الطمأنينة والوقار، وهو أحسن" (1) .
ب. الأحاديث الكثيرة الواردة في الاستشفاء بالقرآن الكريم، ومن ذلك عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: "كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم[لديغ]، وإن نفرنا غيَّب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبِنُهُ (2) برقيةٍ، فرقاه، فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبنا، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيتُ إلا بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً، حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وما كان يدريه أنها رقية، اقسموا واضربوا لي بسهم" (3) .
__________
(1) النووي، أبو زكريا يحيي بن شرف الدين (ت: 676هـ)، شرح النووي على صحيح مسلم، (17/21)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، (ط2/1392هـ).
(2) نأبنهُ بكسر الباء وضمها، أي نطبه، انظر: السيوطي، أبو الفضل، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت: 911هـ) الديباج، (5/218) دار ابن عفان- السعودية، ط سنة 1416هـ، تحقيق: أبو اسحاق الجويني الأثري، ووضح نص البخاري ما جاء في مسلم من رواية أبي سعيد الخدري أيضاً برقم (2201) (ما كنا نظنه يحسن رقية فرقاه)، وجاءت رواية أخرى عند مسلم برقم (2202) موافقة لنص البخاري.
(3) البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت: 256هـ) صحيح البخاري ومعه فتح الباري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل فاتحة الكتاب(8/671)، رقم (5006)، دار الريان للتراث – القاهرة، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، (ط1/1987م)، ومسلم، صحيح مسلم، كتاب: السلام، باب: جواز اخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار (4/1727) رقم (2201)و (2202) والنص المذكور للبخاري .(1/13)
ج. الأحاديث الواردة في النفث مع القرآن للرقية. وقد عنون النووي فصلاً من كتابه التبيان ب (النفث مع القرآن للرقية) (1) . ومن ذلك ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت :"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها" (2) .
د. أجاز بعض العلماء كتابة القرآن في إناء ثم يغسل ويسقى المريض، أو علاج المريض بالماء المقروء عليه (3) .
المطلب الثاني
تأثير القرآن الكريم في الجماد والنبات والحيوان
__________
(1) النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف الدين الشافعي (ت: 676هـ)، التبيان في آداب حملة القرآن (ص:99)، دار الكتب العلمية – بيروت (ط1/1985م).قال النووي :"النفث :نفخ بلا ريق " .
(2) صحيح البخاري ومعه فتح الباري، كتاب: فضائل القرآن، باب: فضل المعوّذات رقم (5016) (8/679).
(3) النووي، التبيان في آداب حملة القرآن (ص:98)، وانظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (10/318).(1/14)
إن لخطاب الجماد ، والنبات، والحيوان مدخلا يمكِّن الله منه من شاء من عباده في إفهامهم والفهم منهم ، إنها لغة يمتن الله تعالى بها على من يشاء من أصفيائه ،كما أن بعض هذه المخلوقات خوطب بالوحي على صورة مخصوصة تتناسب مع خلقه كالنحل، قال تعالى:( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) [النحل: 68].وفي طريق سفره عليه الصلاة والسلام إلى الحديبية بركت ناقته فزجرها بعض الصحابة فلم تقم ،فقالوا : خلأت القصواء ،فقال عليه الصلاة والسلام :" ما خلأت القصواء ،وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل". (1) فهذا يدل على أن عدم انقياد الناقة لزجر الزاجرين إنما كان لأنها مأمورة من الله ، فالجماد ، والنبات ، والحيوان مخلوقات لله يأمرها الله بما شاء. أما عن تأثرها بسماع القرآن الكريم ففيما يلي بيان ذلك:
أولاً: تأثير القرآن الكريم في الجماد:
__________
(1) صحيح البخاري ومعه فتح الباري،كتاب الشروط ،باب: الشروط في الجهاد رقم (2731) (5/388).(1/15)
ما من شك أن الجماد يتأثر بالذكر، وأن له عبادة مخصوصة لله رب العالمين قال تعالى:( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) [الإسراء:44].وقد خص بعضهم التسبيح بمن فيه حياة، فأثبته للنبات، والحيوان، ونفاه عن الجماد، وإلى هذا ذهب الحسن البصري، والضحاك، وقتادة ، وقد أخرج ابن جرير مروياتهم في تفسيره (1) ، وأورد البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :" وإن من شيء (حي) إلا يسبح بحمده" (2) ، فخصه بمن فيه حياة ،وأورد البغوي أيضا عن قتادة قوله: "يعني الحيوانات، والناميات" (3) ،وفي رواية ابن جرير عن قتادة :"كل شيء فيه الروح يسبح من شجر أو شيء فيه الروح" (4) ،ولعل إضافة الروح للنبات هنا مجازية يراد بها الحياة، وإلا فالنبات فيه حياة ،ولا روح فيه ، وعبارة البغوي المنقولة عن قتادة أدق في أنها في "الحيوانات والناميات " ،فقد فرّقت تلك الرواية بين الناميات التي هي الشجر ونحوها، وبين الحيوانات ، ومن الروايات التي تشير إلى تسبيح الشجر قبل أن ييبس ما أخرجه ابن جرير عن الحسن البصري أنه قدّم له طعام على خوان،ثم قيل له: "يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟: فقال: كان يسبح مرّة" (5) .
__________
(1) الطبري جامع البيان (9/92).
(2) البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء (ت:516 هـ)تفسير البغوي الموسوم ب(معالم التنزيل) (5/96) دار ا المعرفة_بيروت (ط2/ 1407 هـ) تحقيق: خالد العك، ومروان سوار.
(3) المرجع السابق (5/96).
(4) الطبري، جامع البيان (15/93)، وذكره ابن كثير في تفسيره (3/42).
(5) الطبري، جامع البيان (9/92).(1/16)
والخوان مائدة من خشب، والمراد أنها كانت تسبح ما كانت فيها الخضرة قبل أن تيبس وتصبح خشباً لا حياة فيه. ويشهد لتسبيح النبات مالم ييبس الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فدعا بجريدةٍ، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرةً، فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟، قال:" لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا أو إلى أن ييبسا" (1) .
والأصح أن نقول بعموم الآية لأنهالم تقصر التسبيح على من فيه روح، فيحمل على من فيه روح، وعلى الجماد ، ولا يجوز إخراج الجماد من جملة من يسبح الله إلا بدليل قطعي ، ويشهد لتسبيح الجماد، وكلامه، وحركته جملة من النصوص الصحيحة الصريحة التي ثبتت في كتب الصحاح ، ومن ذلك:
1_في صحيح البخاري، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل". (2)
2_ في صحيح مسلم، عن جابر بن سمرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " (3) .
__________
(1) صحيح البخاري ومعه فتح الباري كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله رقم (216) (1/379).
(2) . صحيح البخاري ومعه فتح الباري كتاب المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم(3579) (6/679).
(3) . مسلم ، صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب: فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم و تسليم الحجر عليه قبل النبوة،رقم (2277).(1/17)
قال النووي :"فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات ،وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) [البقرة: 73 ]وقوله تعالى (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء :44] وفي هذه الآية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقة، ويجعل الله تعالى فيه تمييزا بحسبه". (1)
3_ ما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن موسى عليه السلام ذهب مرة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال: فجمح موسى بإثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر. (2)
4_ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة ،فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اهدأ فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد. (3)
فهذه جملة من النصوص الصحيحة تدل على أن الجماد يتأثر ، ويتكلم يُخاطِب، ويُخاطَب ،ويسبح ،ولا مجال فيها للتأويل ، وقد استدل بعضهم (4) بتأثير القرآن على الجماد بقوله تعالى (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [ الحشر: 21].
__________
(1) . النووي، شرح الإمام النووي على صحيح مسلم (15/36_37).
(2) . صحيح البخاري ومعه فتح الباري ،كناب أحاديث الأنبياء ، باب (28) ، رقم (3404) (6/502)، و صحيح مسلم ، كتاب: الحيض ،باب: جواز الاغتسال عريانا في الخلوة رقم (339) (1/267)
(3) صحيح البخاري ومعه فتح الباري ،كتاب المناقب ،باب:علامات النبوة في الإسلام رقم (3584) (6/696).
(4) انظر: مصطفى، الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة النبوية(ص: 431).(1/18)
وليس فيما ذهبوا إليه دلالة لهم، فالآية من قبيل ضرب المثل في أن الجبل لو فهم لعلم وخشع غير أن الجبل لا يعقل، ولا يفهم لذلك فلا نطلب منه الخشوع،فإن (لو) كما هو معلوم حرف امتناع لامتناع، أي امتنع تصدع وخشوع الجبل لامتناع إنزال القرآن عليه،ومما يؤكد أن الآية من قبيل ضرب المثل، والتخييل قوله تعالى في نهاية الآية (وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
قال ابن كثير عند هذه الآية: "أي فإذا كان الجبل في غلظته، وقساوته لو فهم القرآن، فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم، وتخشع، وتتصدع من خشية الله وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه؟!" (1) .
ولست هنا أنكر أثر القرآن الكريم على الجمادات، فربما أثبتت الدراسات يقين هذا الأمر، إنما الذي أنبه إليه أن الآية -التي هي مناط الاستدلال- لا تسعف من حملها هذا المحمل.
وفي صحيح السنة شواهد قريبة تبيّن تأثر الجماد بالذكر والقرآن نحو قصة حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تركه واتخذ منبراً،"فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار _ أو رجل _:يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا ؟ قال: إن شئتم ، فجعلوا له منبرا ، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي ،ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم، فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكّن . قال :كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها" (2) .
__________
(1) ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت: 774هـ)، تفسير القرآن العظيم (4/343) دار المعرفة – بيروت(1969م).
(2) البخاري: صحيح البخاري ومعه فتح الباري، كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام رقم (3584 ) (6/696) .(1/19)
وقد أخرج الترمذي هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال :"وفي الباب عن أنس ، وجابر وسهل بن سعد ، وأبي بن كعب ، وابن عباس ، وأم سلمه " ،وقال أحمد شاكر في شرحه لسنن الترمذي:وفي الباب أحاديث كثيرة ،وصحح كثير من العلماء بالسنة أن حديث حنين الجذع من الأحاديث المتواترة ، لوروده عن جماعة من الصحابة من طرق كثيرة تفيد القطع بوقوع ذلك " (1) .
فهذا نص متواتر صريح بتأثر الجماد بالذكر ، والقرآن ذكر .
ثانياً: تأثير القرآن الكريم في النبات:
يقول الدكتور سمير الحلو (2) : أجريت في مصر تجارب على خمس نبتات من القمح، واحدة وُضع بجوارها مسجل لتلاوة القرآن، وأخرى وضع بجوارها مسجل لكلام عربي عاديّ، وثالثة بدون سماع شيء، ورابعة وضع بجوارها موسيقى، والخامسة كان بجوارها أصوات وشتم النبات.
وكانت النتيجة: أن التي شتمت ماتت، وأن التي سمعت موسيقى انتعشت قليلاً، وأن التي لم يوضع أمامها شيء فكان نموها عادياً، وأن التي استمعت إلى الكلام العربي نمت زيادة عن التي لم يوضع أمامها شيء. أما التي استمعت القرآن فقد زادت بنسبة 70% عن باقي النبتات (3) .
__________
(1) الترمذي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة (ت:297 هـ)، الجامع الصحيح أبواب الصلاة ، باب:ما جاء في الخطبة على المنبر رقم الحديث (505) (2/379) بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر ،دار الكتب العلمية-بيروت.
(2) الدكتور سمير الحلو، رئيس الجمعية الأردنية للنباتات الطبية، درس طب الأعشاب في الأكاديمية الأمريكية لطب الأعشاب، وقد جاء كلامه هذا في ندوة على قناة الجزيرة بتاريخ (2/7/2003م). انظر: www.aljazeera.net/channel، ونقل كلامه مصطفى، د. أحمد: الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنّة النبوية، (ص 432).
(3) انظر هذه الدراسة أيضاً على الموقع: www.alsadea.com/vb/archive/index ،وموقع: www.55a.net/firas/arabic.(1/20)
وأجرت كلية الزراعة في جامعة بغداد دراسة مماثلة في نهاية الثمانينيات، وكانت النتيجة مقاربة لما ذُكر في الدراسة السابقة، فقد كان نمو النبتة التي سمعت القرآن ثلاثة أضعاف النبتة التي لم تتأثر بأي نوع من الأصوات (1) .
ومثل هذه الدراسات لا نستطيع إنكارها غير أننا لا نجزم بها حتى تنتقل من مصاف النظرية إلى مدارج الحقائق التي يقطع بها. وعندها نثبت للقرآن الكريم أثره على النباتات، مع يقننا بأن النبات كائن يسبح الله عز وجل.
ثالثا: تأثير القرآن الكريم في الحيوان : ...
خلّد القرآن الكريم فهم سليمان عليه السلام منطق الحيوان ، وشاهد ذلك قوله تعالى:( وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ * وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ) [ النمل :16_19].
وفي فهم سليمان لغة الهدهد قال تعالى:(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) [النمل :22].
__________
(1) انظر: http://www.55a.net/vb/archive.(1/21)
وثبت فيما أسلفنا أن الحيوانات كائنات تسبح الله تعالى ، أما تأثرها بسماع القرآن، فلم أقف على نص صحيح صريح عن النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، وكل ما وقفت عليه أنها تتأثر عند تلاوة القرآن بطريق غير مباشر ، ومما ورد في ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن أسيد بن حضير قال :"بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة، وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس ، فسكَتَ فَسَكَنت ، فقرأ فجالت الفرس ، فسَكت وسَكتت الفرس ، ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف ،وكان ابنه يحيى قريبا منها فأشفق أن تصيبه ،فلما اجترّه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها فلما أصبح حدّث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: اقرأ يا ابن حضير، اقرأ يا ابن حضير .قال فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى ،وكان منها قريبا، فرفعت رأسي فانصرفت إليه ،فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح، فخرجت حتى لا أراها قال: وتدري ما ذاك ؟قال: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم" (1) .
وأخرج الترمذي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال:" بينما رجل يقرأ سورة الكهف إذ رأى دابته تركض فنظر، فإذا مثل الغمامة، أو السحابة . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة نزلت مع القرآن، أو نزلت على القرآن". (2)
ويلاحظ هنا من خلال هذه الرواية وسابقتها أن تأْثر الدابة لم يأت من القرآن مباشرة، وإنما من الملائكة، أو السكينة التي كانت تتنزل عند قراءة القرآن الكريم.
__________
(1) صحيح البخاري ومعه فتح الباري ،كتاب فضائل الصحابة ، باب: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن رقم (5018) (8/680).
(2) الجامع الصحيح كتاب فضائل القرآن ، باب: ما جاء في فضل سورة الكهف رقم (2885) (5/148) وقال الترمذي :"هذا حديث حسن صحيح".(1/22)
وثمّ عدد من الروايات التي لم تثبت صحتها أشارت إلى تأثر الدواب بسماع القرآن الكريم، ومن ذلك:
1- أخرج الطبراني في الأوسط من طريق محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير عن أبي خلف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ساء خلقه من الرقيق، والدواب، والصبيان، فاقرءوا في اليسرى أفغير دين الله يبغون"، قال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن أنس إلا بهذا الإسناد (1) .
2- أخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة عن يونس بن عبيد بن دينار البصري الشافعي قال: "ليس رجل يكون على دابة صعبة، فيقرأ في أذنها (أفغير دين الله يبغون) الآية إلا ذلت بإذن الله عز وجل" (2) .
__________
(1) الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت: 160هـ)، المعجم الأوسط رقم (64) (1/27)، دار الحرمين- القاهرة، (ط/1415هـ)، تحقيق: طارق بن عوض، وعبد المحسن إبراهيم، وذكره الألباني، محمد ناصر الدين في السلسلة الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ على الأمّة، رقم (676) (2/123)، المكتب الإسلامي- الرياض، (ط 1/ 1399هـ)، وقال: (موضوع).
(2) ابن السنّي،أبو بكر بن السني (ت:364 هـ) عمل اليوم والليلة (ص:190) تحيق وتعليق عبد القادر أحمد عطا دار المعرفة_بيروت سنة ،1399 هـ ، وأورده الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف (ت: 875هـ)، الجواهر الحسان في تفسير القرآن (1/285)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت، والسيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور (2/255)، دار الفكر-بيروت، ط/ سنة 1993م، وعزاه لابن السني في عمل اليوم والليلة، وذكر الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (2/123): أنه خبر مقطوع.(1/23)
3- عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إذا استصعبت دابة أحدكم، أوكانت شموساً، فليقرأ هذه الآية في أذنها (أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [آل عمران: 83] (1) .
المطلب الثالث
حمل سامع القرآن على الدخول في الإسلام
للقرآن الكريم تأثيره العظيم في نفوس سامعيه، والناس أمام هذه العظمة أحد فريقين: مؤمن مصدق تأمل حجة القرآن حق التأمل، فآمن ولم يستكبر، وضال مكذب أصرَّ على كفره، وعطل سمعه، وقلبه على نحو ما أسلفنا في المطلب السابق.
وصور من استجاب لأثر القرآن على نفسه كثيرة منها:
أولاً: تأثير القرآن في نفوس الذين أوتوا العلم قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
أشارت بعض آيات القرآن الكريم إلى أثر القرآن الكريم في نفوس الذين أوتوا العلم قبل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك: قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 82-83].
__________
(1) السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن، (3/140)، دار التراث- القاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعزاه السيوطي للبيهقي في الدعوات، وقد وقفت على الدعوات الكبير للبيهقي، ولم أجده فيه، وأورده القرطبي في تفسيره (4/128) ولم يعزُه.(1/24)
فهؤلاء القسيسين والرهبان، العلماء والعباد لا يستكبرون عن الحق، بل هم متواضعون تمتلئ أعينهم بالدمع فتفيض عند سماعهم الذكر يتلى على مسامعهم.
قال تعالى:
(قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) [الإسراء: 107-109].
هؤلاء وقفوا عند حدود الله، فأيقنوا صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا، أما من أيقن صدق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ممن كانوا على الشرك، فأمثلتهم متوافرة، كان كثير منهم من الصناديد الشجعان يتأهب لقتل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ووأد دعوة الحق، وتجد شواهد هذا القول في قصة إسلام عمر رضي الله عنه، وكذا إسلام سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
ثانياً: تأثير القرآن الكريم فيمن سمعه من العرب فآمن:
كان للقرآن الكريم آثره البالغ في نفوس العرب، سواءً أكانوا من قريش أم من غيرهم ممن خبروا لغة العرب وتمرسوا بها، فلم يجد هؤلاء لأنفسهم ملاذاً بعد سماع القرآن إلا الدخول فيه، والذود عن حياضه، وترك ما كانوا عليه من دين آبائهم، ومن هؤلاء:
1) عمر بن الخطاب:
كان عمر -رضي الله عنه- من أشد الناس أذى، وشدة، وقسوة على المسلمين حتى قال عنه عامر بن ربيعة:" لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب، يأساً منه، لما كان يُرى من غِلظته، وقسوته عن الإسلام" (1) .
__________
(1) ابن هشام، عبد الملك (ت: 218هـ)، السيرة النبوية (1/380)، دار إحياء التراث العربي – بيروت، (ط1/1415هـ)، تحقيق: مصطفى السقا وآخرين ، وانظر: الألباني، محمد ناصر الدين ، صحيح السيرة النبوية (ص: 188) المكتبة الإسلامية – عمان (ط1).(1/25)
روى ابن إسحاق : "أن عمر بن الخطاب خرج يوماً متوشحاً سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطاً من أصحابه، ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، ... ..فلقيه نُعيم بن عبد الله، فقال له: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ الذي فرَّق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها فاقتله، فقال نُعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسِك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض، وقد قتلت محمداًّ، أفلا ترجع إلى أهل بيتك، فتقيم أمرهم؟ قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: خَتنُك وابن عمِّك سعيد بن زيد بن عمرو، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما، وتابعا محمداً على دينه، فعليك بهما؛ فرجع عامداً إلى أخته وخَتنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقرئهما إيّاها، فلما سمعوا حسّ عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهَينمةُ [صوت كلام لا يفهم] الذي سمعتُ؟ قالوا: ما سمعت شيئاً، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها، فضربها فشجها؛ فلما فعل ذلك قالت له أخته وخَتنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سَمِعتكم تقرءون آنفاً أنظرُ ما هذا الذي جاء به محمد، وكان عمر كاتباً، فلما قال ذلك، قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردّنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك، طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نَجِس، على شِرْكك وإنه لا يمسّها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها: (طه) فقرأها، فلما قرأ منها صدراً قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فلما(1/26)
سمع ذلك خباب خرج إليه فقال له: يا عمر، والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصَّك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر ابن الخطاب، فالله الله يا عمر، فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم ... " (1) . إن إسلام عمر ابن الخطاب رضي الله عنه كان نتيجة لاستيلاء القرآن الكريم على قلبه، فتحول من محارب إلى مؤمن مسالم، ومن عدو إلى صديق، ومن مكذب إلى مصدّق، فانجلت ظلمة الكفر عن قلبه، وأشرق وجهه بنور الهداية، واكتسى حلّة الإيمان.
2) الطفيل بن عمرو الدوسي :
... يروي ابن إسحاق عن الطفيل بن عمرو الدوسي أنه قدم مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعْضل [اشتد أمره] بنا وقد فرّق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسّاحر يفرق بين الرجل وبين أبيه، وبين الرجل وبين أخيه، وبين الرجل وبين زوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمه ولا تسمعن منه شيئاً. قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أكلمه، حتى حشوتُ في أذني حين غدوتُ إلى المسجد كُرسُفاً [قطن] فرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.
__________
(1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/381-383).(1/27)
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة ... فقمت منه قريباً فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا ... فقلت في نفسي: واثُكْل أمي، والله إني رجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحُسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته، قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا، للذي قالوا فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك فسمعته قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك.
قال: فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق (1) .
إن موقف الطفيل يمثل صورة الرجل الرشيد الذي يأبى التبعية العمياء التي تسيّر المرء وراء المحاكاة من غير إعمالٍ للعقل و المنطق، إن الرجل الرشيد هو الذي يجلس مع القرآن جلسة صدق حتى يتعرّف على حقيقتة، وعلى صدق حامله، ويعي ما فيه من كنوز وأسرار، ويعمل بمقتضاه.
3) سعد بن معاذ وأسيد بن حُضير :
كانا سيدا قومهما وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير إلى المدينة لدعوة الناس إلى الإسلام نزل على أسعد بن زرارة، وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب بجد وحماس.
__________
(1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/420)، والمباركفوري، صفي الرحمن، الرحيق المختوم (ص: 162)، دار إحياء الكتب العربية – بيروت (ط2/1991م).(1/28)
ومن أروع ما يروى من نجاحه في الدعوة أن أسعد بن زرارة خرج به يوماً يريد دار بني عبد الأشهل ودار بني ظفر، فدخلا في حائط من حوائط بني ظفر، وجلسا على بئر يقال لها بئر مرق، واجتمع إليهما رجال من المسلمين – وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدا قومهما من بني عبد الأشهل يومئذ على الشرك – فلما سمعا بذلك قال سعد لأسيد: اذهب إلى هذين اللذين قد أتيا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك هذا.
فأخذ أسيد حربته وأقبل إليهما، فلما رآه أسعد قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه، قال مصعب إن يجلس أكلمه. وجاء أسيد فوقف عليهما متشئما، وقال: ما جاء بكما إلينا؟ تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس، فكلمه مصعب بالإسلام، وتلا عليه القرآن. قال: فوالله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله؟ كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قالا له: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد وصلى ركعتين، ثم قال: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرشده إليكما الآن – سعد بن معاذ – ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد في قومه، وهم جلوس في ناديهم. قال سعد: احلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم.
فلما وقف أسيد على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ فقال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت.(1/29)
وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه – وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك – ليخفروك. فقام سعد مغضبا للذي ذكر له، فأخذ حربته، وخرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشئماً، ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، تغشانا في دارنا بما نكره؟
وقد كان أسعد قال لمصعب: جاءك والله سيد من ورائه قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد، فقال مصعب لسعد بن معاذ: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال: قد أنصفت، ثم ركز حربته فجلس. فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم، في إشراقه وتهلله، ثم قال: كيف تصنعون إذا أسلمتم؟ قالا: تغتسل، وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين. ففعل ذلك (1) .
إننا في هذه الأيام بحاجة ماسّة إلى أمثال مصعب بن عمير الذي عرف بنود مهام تكليفه، وقام بها خير قيام، واستنفد وقته في المدينة يدعو إلى الله بحكمة وحنكة، ويفعّل أثر القرآن في النفوس، فتأتيه القلوب طيّعة مؤمنة.
مظاهر تأثير القرآن الكريم في نفوس أوليائه (2) :
__________
(1) الطبري: محمد بن جرير (ت: 310 هـ) تاريخ الأمم والملوك(1/560) دار الكتب العلمية _بيروت (ط1/1407 هـ) ،وابن كثير، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر (ت: 774)، البداية والنهابة، (3/152)، مكتبة المعارف – بيروت، والكلاعي، أبو الربيع سليمان بن موسى (ت:634هـ)، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ومغازي الثلاثة الخلفاء (1/317) عالم الكتب – بيروت، (ط1/1997م)، تحقيق: د. محمد كمال الدين علي.
(2) انظر الزرقاني ، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن (2/439)، دار الكتب العلمية، بيروت (ط1/1988م).(1/30)
لقد أثّر القرآن الكريم في نفوس أوليائه تأثيراً عظيماً، وفيما أسلفنا من صور مَن آمن بعد كُفر كان عليه مثالاً جليّاً لثلّة من خير جنود الإسلام ودعاته من يوم أسلموا، بل من ساعة أسلموا، وثمّ ستّة مظاهر لهذا التأثير:
المظهر الأول: تنافسهم في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة، حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيذ منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار، ومناجاتهم العزيز الغفار، وما كان هذا حالاً نادراً فيهم، بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دوياً كدوي النحل بالقرآن.
المظهر الثاني: عملهم به وتنفيذهم لتعاليمه في كل شأن من شؤونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هدايته؛ طيبةً بذلك نفوسهم ، طيّعةً أجسادهم، سخية أيديهم وأرواحهم، حتى صهرهم القرآن في بوتقتهِ وأخرجهم للعالم خَلقاً آخر مستقيم العقيدة، قويم العبادة، طاهر العادة، كريم الخُلُق، نبيل المطمح.(1/31)
المظهر الثالث: استبسالهم في نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته، فأخلصوا لهُ وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه وهو مدافع عنه، ومنهم من انتظر حتى أتاه اليقين، وهو مجاهدٌ في سبيله ومضحٍ بنفسه ونفيسه. وقد بلغ الأمر إلى حدّ أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يردّ بعض مَن يتطوعوا بالجندية من الشباب لحداثة سنّهم، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام أجاز يوم أُحد سمُرة بن جُندب الفزاريّ، ورافع بن خديج أحد بني حارثة، وهما ابنا خمس عشرة سنة، وكان قد ردّهما، فقيل له: يا رسول الله إن رافعاً رامٍ، فأجازه، فلمّا أجاز رافعاً قيل له: يا رسول الله فإنّ سَمُر يصرعُ رافعاً، فأجازه، وردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، وعبد الله ابن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت، والبراء بن عازب وغيرهم، ثم أجازهم يوم الخندق وهم أبناء خمس عشرة سنة (1) . وكان الشباب يحزنون إذا أُقصوا عن ميدان القتال لحداثة سنّهم ويتألّمون لحرمانهم من ثواب الجهاد في سبيل الله. وكان كثير من ذوي الأعذار يُؤلمهم التخلّف عن الغزوة حتى يضطرّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخلّف معهم جبراً لخاطرهم، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: والذي نفسي بيده لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلّفت عن سريّة تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أُقتَل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أُقتَل، ثم أحيا، ثم أُقتَل، ثم أحيا، ثم أُقتَل" (2) .
__________
(1) انظر: ابن هشام، السيرة النبوية (3/74).
(2) البخاري، ومعه فتح الباري، كتاب الجهاد والسِّير، باب تمنّي الشهادة، رقم (2797) (6/20).(1/32)
المظهر الرابع: ذلك النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم ، وهذه النهضة الرائعة التي أحدثها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في العقيدة والأخلاق، وفي العادات والمعاملات، وفي السياسة والإدارة، وفي كافة نواحي الإصلاح الإنساني،ويقول الزرقاني (1) : وهذا ما دعا أحد فلاسفة فرنسا أن يذكر في كتاب له: ما زعمه أحد النصارى من أن محمداً لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى، ثم يفند هذا الزعم ويقول:" إن محمداً كان يقرأ القرآن خاشعاً أواهاً متألهاً [متنسكاً متعبداً] فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين"!!.
أجل لقد صدق الرجل، إن فعل القرآن في نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء بأقوامهم .
المظهر الخامس :زيادة الإيمان عند سماع القران الكريم ، أخذت مسألة زيادة الإيمان حيزاً واسعاً من بحوث العلماء والراجح فيها أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ،وهذا ما تؤيده نصوص القرآن الكريم التي تشير بوضوح إلى زيادة الإيمان عند سماع القرآن (2) :،ومن هذه النصوص:
1_قوله تعالى: ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [التوبة:124].
__________
(1) الزرقاني مناهل العرفان (2/439).
(2) ذكرها صاحب كتاب حجج القرآن في( الباب العشرون في حجج القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص) ضمن الآيات الدالة على ذلك، انظر :الرازي أحمد بن محمد بن أحمد بن المظفر بن المختار (ت: بعد 630 هـ) حجج القرآن (ص:72) ،دار الرائد _بيروت (ط2/1982)تحقيق:أحمد عمر المحمصاني .(1/33)
2 _قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ )[الأنفال:2].
المظهر السادس: الخوف من الله وخشيته، فإن سماع القرآن الكريم يورث النفوس المؤمنة هيبةً وخشيةً لله عز وجل،
ومن الآيات التي تشير إلى هذا المعنى:
1_قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا . وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)[الإسراء:107-109]
2_قوله تعالى :( فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ) [ق:45].
3_ قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا)[السجدة :73) ].
المطلب الرابع
تأثير القرآن الكريم في المشركين الذين ماتوا وهم كفار
استمع المشركون إلى القرآن يتلوه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبهر عقولهم، وملك جوامع نفوسهم، وذلك لأن العرب قد رزقوا فصاحة اللسان، وقوة البيان، غير أن العناد والاستكبار والأنفة والحمية جعلتهم يسترون إعجابهم وانبهارهم، فهؤلاء المشركون مع حربهم للرسول عليه الصلاة والسلام، ونفورهم مما جاء به كانوا يخرجون في جنح الليل البهيم، يستمعون إلى ترتيل النبي عليه الصلاة والسلام للقرآن، ومع ذلك فقد تنكروا لإعجابهم وانبهارهم وماتوا على شركهم، وأمثلة ذلك في السيرة كثيرة، منها:(1/34)
أولاً: روي ابن اسحق في السيرة أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليسمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلساً ليستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا أصبحوا أو طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودن، لو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصا ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: حدثني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال يا أبا ثعلبة: والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وأشياء ما أعرف معناها ولا ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت له به، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم: ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس بن شريق (1) .
__________
(1) ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار، (ت: 151هـ)، سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث، (4/168-169)، معهد الدراسات والأبحاث، تحقيق محمد حميد الله. وهو عند ابن هشام السيرة النبوية (1/352)،. والكلاعي، ، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ومغازي الثلاثة الخلفاء (1/235 ، والسيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت: 911م)، كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (1/192) دار الكتب العلمية – بيروت (ط1/1985م).(1/35)
... ويدل على عنادهم واستكبارهم أن القرآن الكريم حدثنا عن اختلاف كلمتهم فيما يلصقونه بالنبي عليه الصلاة والسلام افتراءً وكذباً وزوراً، فمرة قالوا: ساحر، ومرة: شاعر، وأخرى: مجنون، وهذا تخبط في الرأي المعلن، أما سرائر النفوس: فقد أيقنت صدقه، دل على ذلك الروايات الكثيرة المنقولة عنهم، وأفرد ابن كثير باباً في البداية والنهاية بعنوان: (مجادلة المشركين رسول الله، وإقامة الحجة الدامغة عليهم واعترافهم في أنفسهم بالحق، وإن أظهروا المخالفة عناداً وحسداً وبغياً وجحوداً) (1) .
ثانياً: ولعل من أشهر ما ورد من شهادات المشركين للقرآن الكريم ما جاء عن الوليد بن المغيرة بعد أن قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فرق له، وبلغ ذلك قومه فجاءه أبو جهل طالباً منه أن يقول في القرآن قولاً يبلغ قومه أنه منكر له،قال :فما أقول فيه ، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطُلاوة (2) ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.قال أبو جهل: "والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه ،قال:فدعوني أفكر ،فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره فنزلت (ذَرْني َومَنْ خَلَقْتُ وَحيْدَاً) [المدثر:11] (3) .
__________
(1) ابن كثير، البداية والنهاية، (3/60).
(2) طُلاوة: أي رونقاً وحُسناً، وقد تفتح الطاء. لسان العرب مادة (طلي) (15/14).
(3) الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت: 310)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (29/156_157)، دار الفكر – بيروت (1405هـ) والحاكم، المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، سورة المدثر(2/507) وقال: على شرط البخاري ولم يخرجاه. وأورده الألباني، في صحيح السيرة النبوية (ص: 158) رقم (157).
وانظر، ابن إسحاق، سيرة ابن إسحاق (2/132)، وابن هشام، السيرة النبوية. (1/306)، والكلاعي: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ومغازي الثلاثة الخلفاء (1/219).(1/36)
لقد أدرك المشركون سلطان القرآن على نفوسهم وخافوا على أنفسهم أن يفتنهم القرآن عما ورثوه من آبائهم وأجدادهم فتواصوا في مجالسهم أن لا يسمعوا للقرآن حفاظاً على موروثهم، قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [ فصلت: 26].
"كلمة كان يوصي بها الكبراء من قريش أنفسهم، ويغرون بها الجماهير، وقد عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في أنفسهم وفي نفوس الجماهير" (1) .إن هذا التواصي للالتفاف حول كلمة سواء في الغي والضلال، والاعراض عن سماع القرآن الكريم حفاظاً على موروث الآباء "ليدل على الذعر الذي كان يضطرب في نفوسهم من تأثير هذا القرآن فيهم وفي أتباعهم، وهم يرون هؤلاء الأتباع يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الآية والآيتين، والسورة والسورتين، يتلوهما محمد (عليه الصلاة والسلام) أو أحد أتباعه السباقين، فتنقاد إليهم النفوس، وتهوي إليهم الأفئدة، ويهرع إليهم المتقون، ولم يقل رؤساء قريش لأتباعهم وأشياعهم هذه المقالة وهم في نجوة من سحر القرآن، فلولا أنهم أحسّوا في أعماقهم هزّة روَّعتهم، ما أمروا أتباعهم هذا الأمر، وما أشاعوا في قومهم بهذا التحذير الذي هو أدلّ من كل قول على عمق التأثير" (2) .
__________
(1) قطب، سيد، في ظلال القرآن (7/238)، دار إحياء التراث العربي – بيروت (ط7/1971م).
(2) قطب، سيد، التصوير الفني في القرآن (ص: 14_15) دار الشروق – مصر (ط17-2004م).(1/37)
لقد عطل هؤلاء الكفار سمعهم، وأبصارهم، وعقولهم، فراراً من أثر القرآن عليهم، فقيمة البصر وفق المنظور القرآني بقدر ما يؤدي إلى البصيرة العقلية، فهؤلاء لهم قلوب وأعين وآذان إلا أنها معطلة فهم أموات غير أحياء، قال الله تعالى في وصف الكفار الذين لم ينتفعوا بهدي القرآن: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا) [الأعراف: 179]، فليس المراد إذن نفي السمع والبصر عنهم وإنما نفيهما من جهة عدم استخدامهما في الفهم والتبصر الموصل إلى الحق والهدى. قال الله تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) [ فصلت:5 ]، " قالوا هذا إمعاناً في العناد، وتيئيساً للرسول – صلى الله عليه وسلم – ليكف عن دعوتهم لما كانوا يجدونه في قلوبهم من وقع كلماته على حين يريدون عامدين ألا يكونوا مؤمنين" (1) .
__________
(1) قطب، في ظلال القرآن(7/221).(1/38)
ثالثاً: هذا عتبة بن ربيعة أحد سادات المشركين وكبرائهم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض عليه المال والملك ... ..حتى إذا فرغ عتبة من تعداد ما يجمع للرسول عليه الصلاة والسلام _ إن هو ترك دعوته من مفاتن الدنيا وزينتها_، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفرغت يا أبا الوليد؟، قال: نعم، قال: فاسمع مني، قال: فافعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم: (حَم * تَنْزِيلٌ مِنْ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيْم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنَاً عَرَبِيَّاً ... .) فمضى رسول الله يَقرؤها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد فيها، ثم قال: قد سمعت، يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد: قال: ورائي أني والله قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه (1) .
__________
(1) ابن إسحاق، سيرة ابن إسحاق (4/188).(1/39)
وتروي بعض كتب السير أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما وصل إلى الآية (13) من سورة فصلت (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)، فأمسك عتبة على في رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف عن ذلك، ثم انتهى إلى السجدة فيها [أي في سورة فصلت رقم (38)] فسجد (1) .
ولا تعارض بين هذه الزيادة والرواية السابقة إذ يظهر جلياً أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما استوقفه عتبة بن ربيعة عند الآية (13) لم يستجب لطلبه وتابع قراءة السورة عليه بدليل أنه قرأ عليه آية السجدة في السورة ورقمها (38).
ولسائل أن يسأل هنا: لماذا لم يؤمن هؤلاء المشركون رغم تذوقهم فصاحة القرآن؟ ويجيب الباقلاني على هذا بقوله: "إن مِنْ هؤلاء مَنْ كثرت شبهه، أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره" (2) .
كما أن عوائق الدنيا والتمسك بالموروث حال دون الإيمان أو التصريح بصدق القرآن.
مظاهر تأثير القرآن الكريم في نفوس أعدائه (3) :
ثبت أن القرآن الكريم جذب إليه أعداءه بقوته في مظاهر كثيرة، نذكر بعضها على سبيل التمثيل:
__________
(1) انظر: ابن كثير، البداية والنهاية (3/63-64). والحلبي، علي بن برهان الدين (ت: 1044هـ)، السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون (1/487) دار المعرفة – بيروت (1400هـ). والسيوطي، كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب (1/190-191)، وأورده الألباني في صحيح السيرة النبوية (ص: 161).
(2) الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب (ت: 403هـ) إعجاز القرآن (ص: 28) تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف – مصر (ط:5).
(3) الزرقاني ، مناهل العرفان في علوم القرآن (2/437).(1/40)
المظهر الأول: أن هؤلاء المشركين مع حربهم له، ونفورهم مما جاء به، كانوا يخرجون في جنح الليل يستمعون إليه والمسلمون يرتلونه في بيوتهم. فهل ذاك إلا لأنه استولى على مشاعرهم؟ ولكن أبى عليهم عنادهم وكبرهم وكراهيتهم للحق أن يؤمنوا به (بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُوُنْ) [المؤمنون: 70].
المظهر الثاني: أن أئمة الكفر منهم كانوا يجتهدون في صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قراءته في المسجد الحرام، وفي مجامع العرب وأسواقهم، وكذلك كانوا يمنعون المسلمين من إظهاره.
المظهر الثالث: أنهم ذعروا ذعراً شديداً من قوة تأثيره ونفوذه إلى النفوس على رغم صدهم عنه، واضطهادهم لمن أذعن له، فتواصوا على ألا يسمعوه، وتعاقدوا على أن يلغوا فيه إذا سمعوه، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26]. وكان أبو جهل يقول لقومه: إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول، وعن مجاهد أنهم كانوا يصفّرون ويصفّقون عند سماع القرآن الكريم، وذلك للتخليط عليه (1) . وما كان هذا الخوف ليزلزل كيانهم لولا معرفتهم بخطر القرآن الكريم على عقائدهم الفاسدة، وعاداتهم الباطلة.
المظهر الرابع: أن بعض شجعانهم وصناديدهم، كان الواحد منهم يحمله طغيانه وكفره وتحمسه لموروثه، على أن يخرج من بيته شاهراً سيفه معلناً غدره، ناوياً القضاء على دعوة القرآن، ومن جاء بالقرآن، فما يلبث حيث تدركه نفحة من نفحات العناية، وينصت إلى صوت القرآن في سورة أو آية، أن يذل للحق ويخشع، ويؤمن بالله ورسوله وكتابهِ ويخضع.
وفي قصة إسلام عمر بن الخطاب والطفيل بن عمرو الدوسي وإسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير التي أوردناها في المطلب الثالث دلالة على ذلك.
...
... الخاتمة
وفيها أهم النتائج:
__________
(1) انظر: الطبري، جامع البيان (24/111)، والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن (15/356).(1/41)
أولا: إن القرآن بما أودع الله فيه من جوانب الإعجاز حجة على سامعه.
ثانيا: الإعجاز الروحي يختلف عن الإعجاز النفسي، فالأول تأثيره في الروح، والثاني تأثيره في الجسد، وهما يؤثران في المؤمن والكافر.
ثالثا: الإعجاز الروحي هو: أثر القرآن في نفس السامع والتالي، وما تجده النفس عند سماع القرآن من الروعة والحلاوة والهيبة، وهو يرتبط بفهم التالي والسامع للغة العربية.
رابعا: الإعجاز النفسي: هو تأثير القرآن في النفس الإنسانية وما يحدثه فيها من تغير فسيولوجي إيجابي يحدث السكينة ، ويزيل الخوف والقلق والتوتر، وهو لا يختص بمن يتقن اللغة العربية أو يفهم لغة القرآن.
خامسا:أشارت بعض التجارب على تأثير القرآن الكريم في النباتات، ولا نجزم بيقين تأثير القرآن في النباتات حتى تتحول نتائج الدراسات التي تجرى من النظرية إلى اليقين.
سادسا: الجماد ، والنبات ، والحيوان جميعها تسبح الله تعالى،وقد ثبت في الأحاديث المتواترة تأثر الجماد بالذكر والقرآن ،وذلك في حديث حنين الجذع الذي خشع لسماع ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم عنده من الذكر والقران .
سابعا: خص بعض المفسرين التسبيح بمن له روح ونفاه عن الجماد ، والصحيح أن هذه الصفة تشمل الجماد أيضاً ولا يجوز إخراجه من عموم جملة النصوص إلا بدليل ، ولا يوجد .
ثامنا: القرآن شفاء يحمي الإنسان من التوتر، والقلق، ويشفي من الأسقام.
تاسعا:الحيوانات كائنات تتأثر بالسكينة التي تنزل عند تلاوة القرآن ، ولم يثبت أنها تتأثر بالقرآن مباشرة ، ولا مانع من ذلك إذا ما أثبتت الدراسات القطعية ذلك .
عاشرا:للقرآن تأثيره البالغ في تربية الأمة، وذلك بفضل ما أحدثه في نفوس سامعيه ممن آمنوا به.
حادي عشر:هناك حجب حجزت الكفار عن إعلان إيمانهم منها:
(أ) اتّباع الهوى. (ب) حب الدنيا .
(ج) الحفاظ على الموروث، وعلى المسلمين أن يكسروا تلك الحواجز ليصل تأثير القرآن الكريم إلى النفوس.(1/42)
ثاني عشر: بما أن القرآن يحوِّل العداوة إلى صداقة والكفر إلى إيمان، فعلى الأمة تفعيل الخطاب القرآني لنشر هدى القرآن.
ثالث عشر: إن غياب التأثير القرآني في الوقت الحاضر يستنهض الهمم لبث روح القرآن في النفوس من جديد ، وإزالة العوائق والحجب التي حالت دون ذلك ، وهذا ماشرعت بتدوينه _ مستعينا بالله رب العالمين _في بحث بعنوان :( غياب التأثير القرآني في النفوس ،أسباب وعلاج ) .
وختاماً:أقول كما أسلفت في خاتمة المقدمة : قد اجتهدت أن أخرج بحثي هذا في أبهى الحلل بحيث يكون لائقا بالدراسات التي تتصل بكتاب الله ،فإن أصبت فهذا من توفيق الله ومنته وفضله علي ، وإن قاربت فبما هداني ربي، وإن قصرت فمن نفسي الخطاءة ، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ، والحمد لله رب العالمين.
مسرد المراجع
1. أحمد، أبو عبد الله بن حنبل الشيباني (ت: 241هـ)، المسند، مؤسسة قرطبة – مصر.
2. ابن إسحاق، محمد بن إسحاق بن يسار (ت: 151هـ)، سيرة ابن إسحاق المسماة بكتاب المبتدأ والمبعث، معهد الدراسات والأبحاث، تحقيق محمد حميد الله.
3. الألباني، محمد ناصر الدين، السلسلة الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ على الأمّة ، المكتب الإسلامي- الرياض، (ط 1/ 1399هـ).
4. الألباني، محمد ناصر الدين، صحيح السيرة النبوية، المكتبة الإسلامية – عمان (ط1).
5. البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت: 256هـ)، صحيح البخاري ومعه فتح الباري، دار الريان للتراث – القاهرة، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي (ط1/1987م).
6. الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب(ت: 403هـ)، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف – مصر(ط: 5).
7. البغوي، أبو محمد الحسين بن مسعود الفراء (ت:516 هـ)تفسير البغوي الموسوم ب(معالم التنزيل) ،دار ا المعرفة_بيروت (ط2/ 1407 هـ) تحقيق: خالد العك، ومروان سوار.(1/43)
8. البيهقي، أبو بكر بن الحسين (ت: 458هـ)، شعب الإيمان، دار الكتب العلمية –بيروت (ط1/1410هـ)، تحقيق محمد السعيد زغلول.
9. الترمذي أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة (ت:297 هـ)، الجامع الصحيح بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر ،دار الكتب العلمية _بيروت .
10. الثعالبي، عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف (ت: 875هـ)، الجواهر الحسان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت.
11. الحاكم، أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري (ت:405 هـ )، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العليمة – بيروت (ط1/1990م)، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا.
12. الحلبي، علي بن برهان الدين (ت: 1044هـ)، السيرة الحلبية في سيرة الأمين لمأمون، دار المعرفة – بيروت(ط1/1985م).
13. الخالدي، د. صلاح عبد الفتاح، البيان في إعجاز القرآن، دار عمار.
14. لخطابي، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم البستي (ت: 388هـ)، بيان إعجاز القرآن، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، دار المعارف – مصر، تحقيق: محمد خلف الله، ومحمد زغلول .
15. الرازي أحمد بن محمد بن أحمد بن المظفر بن المختار (ت: بعد : 630 هـ ) حجج القرآن ،دار الرائد _بيروت (ط2/1982)تحقيق:أحمد عمر المحمصاني .
16. الزرقاني، محمد عبد العظيم، مناهل العرفان في علوم القرآن، دار الكتب العلمية – بيروت (ط1/1988م).
17. الزركشي، أبو عبد الله، محمد بن بهادر بن عبد الله (ت: 794هـ)، البرهان في علوم القرآن، دار المعرفة، بيروت، ط سنة 1390هـ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.
18. ابن السنّي،أبو بكر بن السني (ت:364 هـ) عمل اليوم والليلة ، تحيق وتعليق عبد القادر أحمد عطا دار المعرفة_بيروت سنة ،1399 هـ.
19. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ)، الإتقان في علوم القرآن،دار التراث- القاهرة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم .(1/44)
20. السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر (ت: 911هـ)، الدر المنثور في التفسير بالمأثور دار الفكر-بيروت، ط/ سنة 1993م.
21. : السيوطي، أبو الفضل، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت: 911هـ)، الديباج، دار ابن عفان- السعودية، ط سنة 1416هـ، تحقيق: أبو اسحاق الجويني الأثري.
22. السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن (ت: 911 هـ)، كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب، دار الكتب العليمة –بيروت (ط1/1985م).
23. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت: 160هـ)، المعجم الأوسط ، دار الحرمين- القاهرة، (ط/1415هـ)، تحقيق: طارق بن عوض، وعبد المحسن إبراهيم .
24. الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري(ت:310هـ)، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، دار الفكر- بيروت (1405هـ).
25. الطبري، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري (ت:310هـ) ، تاريخ الأمم والملوك ، دار الكتب العلمية- بيروت(ط1/1407 هـ).
26. عباس، د. فضل وسناء فضل، إعجاز القرآن الكريم، (ط1/1991م).
27. القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري (ت: 671هـ)، الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث العربي – بيروت (1985م).
28. قطب، سيد، في ظلال القرآن، دار إحياء التراث العربي – بيروت (ط7/1971م.
29. قطب، سيد،التصوير الفني في القرآن ،دار الشروق _مصر (ط17/2004م) .
30. ابن القيم ،أبو عبد الله، محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (ت:751هـ)، الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان، دار الكتب العلمية – بيروت، (ط2/1988م).
31. ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت:774هـ). تفسير القرآن العظيم، دار المعرفة – بيروت(1969م).
32. ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي (ت:774هـ). البداية والنهاية، مكتبة المعارف – بيروت .(1/45)
33. الكلاعي، أبو الربيع سليمان بن موسى (ت: 565هـ)، الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله ومغازي الثلاثة الخلفاء، عالم الكتب – بيروت(ط1/1997م)، تحقيق د. كمال الدين عز الدين علي.
34. المباركفوري، صفي الرحمن ،الرحيق المختوم، دار إحياء الكتب – بيروت(ط1/1991م).
35. مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري(ت:261هـ)، صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
36. مصطفى، د. أحمد، الموسوعة الذهبية في إعجاز القرآن والسنة، دار ابن الجوزي(ط1/2005م).
37. ابن منظور، محمد بن مكرم الإفريقي (ت: 711هـ)، لسان العرب، دار الفكر-بيروت (ط1/1990م).
38. النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف الدين (ت: 676هـ) ،شرح النووي على صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي – بيروت(ط2/1392هـ).
39. النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف الدين (ت: 676هـ) ،التبيان في آداب حملة القرآن، دار الكتب العليمة – بيروت (ط1/1985م).
40. ابن هشام، عبد الملك (ت: 218هـ)، السيرة النبوية، دار إحياء التراث العربي – بيروت (ط1/1415هـ)، تحقيق مصطفى السقا وآخرون.
41. http://www.55a.net/faris/index.php?page=show
42. http://www.majdeh.com/vb/showthread.php?=7812
43. http:llnou nou1982
44. www.aljazeera.net/channel
45. www.alsadea.com/vb/archive/index
46. www.55a.net/firas/arabic
47. http://www.55a.net/vb/archive(1/46)