الوجيز
في أحكام الجراحة الطبية
والآثار المترتبة عليها
بقلم
فهد بن عبد الله الحزمي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لقد كان للأكاديميات الإسلامية إسهامها الفعال في إنعاش الدراسات الإسلامية بما فيها الأبحاث الفقهية والتي تعالج جوانب مختلفة ومهمة في واقعنا الذي تنوعت فيه المجالات والتخصصات وتوسعت فيه العلوم والأعمال، وكان لهذا الدور تحقيق لخصيصة من خصائص الإسلام وهو معالجته لكل مستجد في أي زمان ومكان.
ولقد وجدت كثيرا من تلك الرسائل اعتنى بها أصحابها، وقضوا فيها ومعها سنوات عدة وأتوا بالفوائد الجمة، فطالعت الكثير منها، كما اختصر الكثير مما طالعت، وكان مما اختصرته كتاب (أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها) لمؤلفه الدكتور/ محمد المختار الشنقيطي، والذي كان أطروحته لنيل درجة الدكتوراة.
وكان سبب الاختصارات هذه هو طلب الفائدة لنفسي وتدوينا للعلم الذي كثيرا ما يذهب مع الزمن ويحتاج طالب العلم دوما لمراجعة ما قرأ ، وبما أن هذه الرسائل يغلب عليها طابع الطول، كما أنها قد لا تتوفر دائما في حوزتي أو قريبا مني أرتأيت أن أختصر بعض هذه الرسائل بما فيها هذه الرسالة، لأفيد نفسي أولا ثم أفيد أخواني طلبة العلم ممن قد يضيق وقته عن قراءة هذا الكتاب بحجمه الكبير.
وليسهل علي الوصول إلى لب تلك الرسائل، وأن أنتزع من تلك الكتب زبدتها.
وبفضل الله اختصرت معظم هذه الرسالة، ولم يبق لي فيها إلى الشيء اليسير جدا، وقد كنت أخرت إخراج هذا المختصر شهورا عدة مؤملا أن أجد الفرصة لإكمال ما بدأت، بيد أني لم أستطع نظرا لكثرة المشاغل والأعمال والدروس المتلاحقة، فارتأيت أن أخرج هذا المختصر بشكله الحالي راجيا من الله أن ييسر لي إتمامه، والله المستعان.
فهد عبد الله
جامعة الإيمان- صنعاء
التمهيد
- تعريف الجراحة الطبية:(1/1)
عرفت الموسوعة الطبية التي أشرف على تأليفها مجموعة من الأطباء المختصين بما يلي: "إجراء جراحي بقصد إصلاح عاهة أو رتق تمزق أو عطب أو بقصد إفراغ صديد أو سائل مرضي آخر أو لاستئصال عضو مريض أو شاذ.
- موقف الشريعة من تعلم الطب والجراحة الطبية:
يعتبر علم الطب من العلوم المهمة والضرورية للحياة البشرية فلا بد للمجتمع من وجود أطباء وإلا كانت حياة الناس مهددة بالخطر، ولهذا فقد جعل فقهاء الإسلام تعلم الطب من الفروض الكفائية، فيجب على الحكومات الإسلامية توفير العدد الكافي من الأطباء في كافة التخصصات واتخاذ كافة الوسائل لذلك، ولا يجوز لهم الاعتماد على غير المسلمين مع قدرتهم على الاستغناء عنهم.
ويدخل في الطب الجراحة الطبية ويدل على مشروعيتها ما يلي:
قوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } والجراحة الطبية تنتظم في كثير من صورها إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك المحقق، ولهذا يشرع القيام بها.
أحاديث الحجامة والتي منها حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه(1) فهذا دليل على جواز شق البدن واستخراج الشيء الفاسد من داخله سواء كان عضوا أو كيسا مائيا أو ورما أو غير ذلك.
- شروط جواز الجراحة الطبية:
إن الحكم بجواز الجراحة الطبية مقيد بشروط أشار إليها الفقهاء وهي مستقاة من أصول الشرع وقواعده وتنحصر في الشروط الثمانية التالية:
الشرط الأول: أن تكون الجراحة مشروعة: فلا يجوز للمريض أن يطلب فعل الجراحة ولا للطبيب ان يجيبه إلا بعد أن تكون تلك الجراحة مأذونا بفعلها شرعا، لأن الجسد ملك لله { لله ملك السماوات والارض وما فيهن } فلا يجوز للإنسان أن يتصرف فيه إلا بإذن المالك الحقيقي، والجراحة منها المشروع والممنوع كما سيأتي بيانه.
الشرط الثاني: ان يكون المريض محتاجا إلى الجراحة:
أي بأن يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو من أعضاء جسده أو دون ذلك كتخفيف الألم،
__________
(1) أخرجه البخاري(1/2)
الشرط الثالث: أن يأذن المريض أو وليه بفعل الجراحة: فغذا رفض المريض ولو كان يتألم فلا يجوز للطبيب أن يجري الجراحة حتى ياذن له.
الشرط الرابع: أن تتوفر الأهليه في الطبيب الجراح:
ويتحقق هذا الشرط بوجود أمرين: أن يكون ذا علم وبصيرة بالعملية المطلوبة، وان يكون قادرا على تطبيقها وأدائها على الوجه المطلوب (1) فلو كان جاهلا بالكلية كأن تكون خارجة عن اختصاصه أو جاهلا ببعضها فإنه يحرم عليه فعلها، ويعتبر إقدامه عليها في حال جهله بمثابة الجاني المعتدي على الجسم المحرم بالقطع والجرح.
الشرط الخامس: أن يغلب على ظن الطبيب الجراح نجاح الجراحة:
بمعنى أن تكون نسبة نجاح العملية ونجاة المريض من أخطارها أكبر من نسبة عدم نجاحها وهلاكه، فإذا غلب على ظنه هلاك المريض بسببها فإنه لا يجوز له فعلها(2).
الشرط السادس: ألا يوجد البديل الذي هو أخف ضررا من الجراحة: كالعقاقير والأدوية، فإن وجد البديل لزم المصير إليه صيانة لأرواح الناس وأجسادهم حتى لا تتعرض لأخطار الجراحة وأضرارها ومتاعبها كالقرحة الهضمية في بدايته يتم علاجه بالعقاقير والتي ثبت مؤخرا تأثيرها على القرحة وأنها أنجح العلاجات وأفيدها.
أما إذا كان الدواء أشد خطرا وضررا ولا ينفع في علاج الداء او زواله فإنه لا يعتبر موجبا للصرف عن فعل الجراحة كبعض الأمراض العصبية حيث يمكن علاج المريض بالعقاقير المهدئة لكنها لا تنفع في زوال الداء وقد تسبب الإدمان فوجود البديل على هذا الوجه وعدمه سواء.
الشرط السابع: أن تترتب المصلحة على فعل الجراحة:
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 5/538
(2) انظر شرح السنة للبغوي 12/147، وقواعد الأحكام 1/4(1/3)
إنما شرعت الجراحة لمصلحة الأجساد ودفع ضرر الأسقام عنها فإذا انتفت تلك المصالح وكانت ضررا محضا فإنه حينئذ ينتفي السبب الموجب للترخيص بفعلها شرعا وتبقى على أصل الحرمة، ومثال على هذا جراحة إزالة الثآليل بالقطع أو الكت الجراحي فقد ثبت طبيا أن الثآليل لا تزول بالعمل الجراحي بل عن فعل القطع والكحت ينتهي بالمصاب إلى عواقب وخيمة وأضرار منها العدوى الجرثومية وتندب موضع الجراحة.
وينبغي في هذه المصلحة أن تكون من جنس المصالح التي شهد الشرع باعتبارها وأنها مصلحة مقصودة أما المبنية على الهوى كجراحة تغيير الجنس فلا يجوز فعلها لعدم اعتبار الشرع لها.
الشرط الثامن: أن لا يترتب على فعلها ضرر أكبر من ضرر المرض:
كجراحة التحدب الظهري الحاد فالغالب فيها أنها تنتهي بالشلل النصفي، فعلى الطبيب أن يقارن بين نتائج ومفاسد الجراحة ومفاسد المرض، فإن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أكبر من المفاسد الموجودة في المرض حرمت الجراحة، لأن الشريعة لا تجيز الضرر بمثله أو بما هو أشد، وأما إذا كان العكس فتجوز.
أنواع الجراحة
- الجراحة المشروعة:
تنحصر الجراحة الطبية المشروعة في الستة الأنواع التالية:
الجراحة العلاجية:
تنقسم موجبات العلاج على ثلاثة مراتب:
الأولى: الجراحة العلاجية الضرورية: وهي التي يقصد منها إنقاذ مريض من الموت مثل: حالة انفجار الزائدة الدودية، حالة انفجار الإثنى عشر، وحالة انسداد الأمعاء، حالة انفجار المعدة، ويعتبر إنقاذ حياة المريض الذي هو هدف هذا النوع من أجل المصالح المقصودة شرعا، لأن مرتبة المحافظة على النفس هي المرتبة الثانية من مراتب الضروريات الخمس، فيتعين على الطبيب الجراح حينئذ إجراء العمل الجراحي ولا يجوز له الامتناع، ويكون بذلك قد فرج كربة عن أخيه المسلم.
الثانية: الجراحة العلاجية الحاجية:(1/4)
والتي يقصد منها علاج الأمراض والحالات الجراحية التي تصل على درجة الخوف على المريض من الموت وتكون مشقة الألم أو خوف الضرر غير يسيرة، وهي تشتمل على علاج نوعين من الأمراض والحالات الجراحية وهي:
الأمراض والحالات الجراحية التي يتضرر المريض بآلامها سواء كانت مستمرة أم متقطعة مثل جراحة استئصال اللوزتين في حال التهابهما المزمن، واستئصال البواسير الشرجية، وقلع الضرس إذا أصابه النخر والألم، فهذه الحالات تنشأ عنها آلام قد تكون مبرحة تنغص على المريض حياته وتمنعه من الراحة وأداء العبادة على وجهها.
الأمراض التي يخشها من ضررها مستقبلا ولا يوجد فيها ألم منغص، ويشترط في الضرر أن يغلب على ظن الطبيب وقوعه، أما إذا كان متوهما كما في جراحة استئصال اللوزتين السليمتين من الأطفال خشية التهابهما مستقبلا فإن هذا الظن لا تأثير له ولا يصير به المريض محتاجا.
ومن أمثلة هذا النوع: استئصال الأكياس المائية الموجودة في الكبد، استئصال الأورام السليمة في القولون وغيرها، وهذا النوع جائز لأن الشريعة راعت رفع الحرج ودفع الضرر عن الناس.
الثالثة: الجراحة العلاجية الحاجية الصغرى:
وهي الجراحة التي لا تصل المشقة الموجودة فيها على مرتبة الحاجيات والضروريات وغالبا ما تجرى للاج الجروح الصغيرة ومن أمثلتها: استئصال الزوائد اللحمية في الأنف، وكي النزيف الأنفي، التهاب الجيوب الأنفية المزمنة.
وهذا النوع مشروع لأن المقصود منه إصلاح الفساد الذي أصاب الجسم.
وتظهر فائدة الترتيب السابق في حال ازدحام الحالات الجراحية بحيث لا يمكن تغطيتها بالعلاج في آن واحد فالواجب تقديم الضروري على الحاجي وهو على ما دونه، بشرط ألا تكون الحالة المقدمة ميؤوسا منها فينتقل الطبيب لغيرها.
جراحة الكشف:(1/5)
وهي كل جراحة تجري للحصول على معلومات عن المرض لا يمكن الحصول عليها بالوسائل الأخرى (الأشعة- المناظير- التحاليل الطبية وغيرها) ومن صورها: الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في البطن، الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في الشرج عن طريق التنظير والخزع، الكشف عن حقيقة الأورام الموجودة في القولون.
وهذا الجراحة يجب الا تجرى إلا بعد أن يستنفد الأطباء الوسائل الأخرى الأقل خطرا.
جراحة الولادة:
ولا تخلو الحالة الداعية إلى فعلها من حالتين:
الحالة الأولى أن تكون ضرورية، وهي الحالة التي يخشى فيها على حياة الأم أو جنينها أو هما معا، ومن أمثلتها:
جراحة الحمل المنتبذ: إذ يتكون الجنين خارج الرحم في قناة المبيض، وهذا الموضع الذي يكون فيه الجنين يستحيل بقاؤه فيه حيا، وغالبا ما ينفجر فتصبح الأم مهددة بالخطر، مما يعني ضرورة إجراء الجراحة واستخراجه قبل انفجاره إنقاذا لحياة الأم.
جراحة استخدام الجنين بعد وفاة أمه قبل وفاته حفاظا على حياته.
الجراحة القيصرية في حال التمزق الرحمي.
وهذا النوع من الجراحة مشروع لإنقاذه النفس وداخل في عموم قوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } بل اعتبر ابن حزم فعل هذا النوع من الجراحة فرضا على الطبيب فقال: "ولو ماتت امرأة حامل والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق عن بطنها طولا ويخرج الولد لقوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } ومن تركه عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس"(1).
__________
(1) المحلى 5/166(1/6)
الحالة الثانية: أن تكون حاجية وهي الحالة التي يحتاج الأطباء فيها على فعل الجراحة بسبب تعذر الولادة الطبيعية وترتب الأضرار عليها إلى درجة لا تصل إلى مرتبة الخوف على الجنين أو أمه من الهلاك، ومن اشهر أمثلتها الجراحة القيصرية عند الخوف من حصول الضرر على الأم أو الجنين أو هما معا إذا خرج المولود بالطريقة المعتادة وذلك بسبب وجود العوائق لتلك الأضرار كضيق عظام الحوض أو تشوهها أو إصابتها ببعض الآفات المفصلية بحيث يتعذر تمدد مفاصل الحوض.
والحكم بالحاجة في هذا النوع من الجراحة راجع إلى تقدير الأطباء، ولا يعد طلب المرأة او زوجها مبررا لفعل هذا النوع من الجراحة طلبا للتخلص من آلام الولادة الطبيعية.
ويجب على الطبيبة التقيد بشرط وجود الحاجة، وأن تنظر في حال المرأة وقدرتها على تحمل مشقة الولادة الطبيعية وكذلك ينظر في الآثار المترتبة على ذلك فغن اشتملت على أضرار زائدة عن القدر المعتاد في النساء ووصلت إلى مقام يوجب الحرج والمشقة على المرأة أو غلب على ظنها أنه تتسبب في حصول ضرر للجنين فإنه حينئذ يجوز له العدول إلى الجراحة وفعلها بشرط ألا يوجد بديل يمكن بواسطته دفع تلك الأضرار وإزالتها.
جراحة الختان:
اختلف أهل العلم في حكم الختان على أقوال:
واجب على الذكر والأنثى (الشافعية والحنابلة)
سنة للذكر والأنثى (الحنفية والمالكية)
واجب على الذكور مكرمة للإناث (رواية عن احمد، وبعض المالكية، والظاهرية)
جراحة التشريح:
والغرض منها التدرب والتعلم والدراسة وفيها قولان للفقهاء المعاصرين:
القول الأول: يجوز تشيح جثث الموتى لغرض تعلم الطب(1).
القول الثاني: لا يجوز ذلك(2)
__________
(1) وبه صدرت فنوى من: هيئة كبار العلماء بالسعودية، ومجمع الفقه الإسلامي بمكة، ولجنة الإفتاء بالأزهر.
(2) وبه قال: محمد بخيت المطيعي وغيره.(1/7)
والذي يترجح هو جواز تشريح جثة الكافر دون المسلم، لأن الأصل حرمة التصرف في جثة المسلم إلا في الحدود الشرعية المأذون بها، والتشريح ليس منها، أما الحاجة إلى التشريح فيمكن سدها بجثث الكفار فلا يجوز العدول عنها على جثث المسلمين، ويتفرع على هذا مسألة شراء جثث الكفار لغرض تشريحها، والقول فيها: أن من شرط صحة البيع شرعا أن يكون المبيع ملكا للبائع أو موكلا في بيعه لحديث "لا تبع ما ليس عندك"(1) وهذه الجثث ليست ملكا للبائع ولا موكلا في بيعها من مالكها ومن ثم فإنه لا يصح بيعها شرعا، ولكن يمكن التوصل على هذه الجثث بطريقة التعاقد مع باذلها على وجه الإجارة ويكون بذل الثمن في مقابل السعي والبحث ومؤنة النقل ونحو ذلك مما يجري على سنن الإجارة ويعطى له الثمن في مقابل ذلك.
جراحة التجميل الحاجية:
وهي التي تجري لتحسين جزء من أجزاء الجسم الضاهرة أو وظيفته إذا ما طرا عليه نقص أو تلف أو تشوه(2) ويقسمها الأطباء على اختيارية وسيأتي الكلام عليها، وضرورية –وهي المرادة هنا- وهي المحتاج على فعلها بعيدا عن المصطلح الفقهي في الضروري والحاجي.
وإذا نظرنا إلى العيوب الناشئة في الجسم فإننا نجدها على قسمين: خلقية وطارئة
أما الخلقية فهي عيوب ناشئة في الجسم من سبب فيه لا من سبب خارج عنه فيشمل ذلك ضربين من العيوب وهما: العيوب الخلقية التي ولد بها الإنسان كالشفة المفلوجة وانسداد فتحة الشرج، والعيوب الناشئة من الآفات المرضية كانحسار اللثة بسبب الالتهابات المختلفة.
أما العيوب الطارئة بسبب من خارج الجسم كما في العيوب والتشوهات الناشئة من الحوادث والحروق، وهذا النوع يستضر به الإنسان حسا ومعنى فهي جراحة مشروعة بل يتوسع على المصابين بهذه العيوب بالإذن لهم في إزالتها بالجراحة اللازمة للضرر الحسي والمعنوي ولأنه يدخل في دائرة التداوي.
- الجراحة المحرمة
__________
(1) سنن الترمذي
(2) الموسوعة الطبية الحديثة 3/454(1/8)
وهو ما لم تتوفر فيه الدواعي المعتبرة شرعا للترخيص بفعله وتعتبر مقاصده من جنس المقاصد المحرمة شرعا كما سيأتي بيانها.
جراحة التجميل التحسينية:
وهي جراحة تحسين المظهر بحيث يبدو جميل الصورة والشكل -كتجميل الأنف بتصغيره وتغيير شكله عرضا وارتفاعا، وتجميل الثديين بتصغيرهما عن كانا كبيرين.
وتعمل أيضا لغرض إزالة آثار الشيخوخة كعمليات شد الجلد.
وهذا النوع من الجراحة لا يشتمل على دوافع ضرورية ولا حاجية بل غاية ما فيه تغيير خلقة الله تعالى والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم فهو غير مشروع ولا يجوز فعله لما يلي:
لحديث عبد الله بن مسعود أنه قال سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات والمتفلجات للحسن اللاتي يغيرن خلق الله"(1) والجراحة التجميلية تغيير للخلقة بقصد الزيادة في الحسن.
لا تتم هذه الجراحة إلا بارتكاب محظورات كالتخدير والذي هو في الأصل محرم شرعا وإنما أجزناه في حالات الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلتها، إضافة إلى قيام الرجال بمهمة الجراحة للنساء والعكس وحينئذ ترتكب محظورات عديدة كاللمس والنظر للعورة والخلوة، وإذا فعلها الرجال للرجال وكذلك النساء فإنه يحصل كشف العورة في بعضها كما في جراحة تجميل الأرداف.
لا تخلو هذه الجراحة من الأضرار والمضاعفات والعواقب غير المحمودة.
يستلزم نجاح هذه الجراحة بعد فعلها تغطية المواضع التي تم تجميلها بلفاف طبي قد يستمر أياما ويمتنع بذلك غسل المواضع المذكورة في فريضة الوضوء والغسل الواجب.
جراحة تغيير الجنس:
وهي الجراحة التي يتم بها تحويل الذكر على أنثى وذلك باستئصال عضو الرجل وخصيتيه ثم بناء مهبل وتكبير الثديين، والعكس وذلك باستئصال الثديين وإلغاء القناة التناسلية الأنثوية وبناء عضو الرجل، مع خضوع الحالتين على علاج شخصي وهرموني معين.
__________
(1) البخاري ومسلم(1/9)
وهذا النوع غير جائز لما فيه من تغيير خلق الله، ولما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال(1).
الجراحة الوقائية:
وهي الجراحة التي يقصد منها دفع ضرر محتمل الوقوع في المستقبل، فإن غلب على الظن الوقوع فتشرع، أما إذا كانت شكا أو وهما كاستئصال اللوزتين وهما في حالة صحية جيدة، أو الزائدة الدودية وهي سليمة، فهذه الحالات وأمثالها لا تجوز، لأن الأصل حرمة الإقدام على تغيير خلق الله، ولأن لهذه الأعضاء حكم من أجلها خلقها الله وفي إزالتها تعطيل لتلك المصالح.
أحكام المراحل الممهدة للعمل الجراحي
المرحلة الأولى: أحكام الفحص الطبي:
الفحص الطبي هو بداية عمل الطبيب ويتمثل في فحص المريض بملاحظة العلامات والدلائل السريرية والسؤال عن أعراض المرض، ووضع يده على الجسم ليتحسس الدلائل وقد يقوم بإجراء فحوصات مخبرية أو بالأشعة، وهو أول خطوة يخطوها الطبيب والخطأ فيها يهدد المريض بالخطر.
وهناك فحص طبي آخر والذي يكون بعد معرفة المرض لمعرفة أهلية المريض للعملية الجراحية.
ويشترط في الطبيب الفاحص ومعاونوه (المصور بالأشعة،محلل المختبر وغيرهم) أن يكونوا مؤهلين في العمل الذي يقومون به وإلا نتج عن ذلك الكثير من الأضرار والتي ربما تفوق المرض نفسه، فيحرم الإقدام على ذلك من الجاهل ولو كان متخصصا في مجال طبي آخر، كما يحرم على الطبيب أن يحيل المريض على غير مؤهل مع علمه بعدم أهليته، وتتحمل المستشفيات حكومية أم أهلية المسؤولية الكاملة عن أهلية الأشخاص الذين تنصبهم للقيام بهذه المهمات.
كشف العورة في الفحص:
قد يحتاج الطبيب أو معاونه عند قيامه بالفحص إلى كشف المريض عن عورته، ومع أن الأصل حرمة كشف العورة إلا أن الفحص الطبي لمعرفة المرض يستثنى من هذا الأصل للضرورة والحاجة(2).
__________
(1) البخاري
(2) انظر قواعد الأحكام للعز 2/165(1/10)
ولا يحل للطبيب ولا لغيره أن يطالب المريض بالكشف عن عورته إلا إذا تعذر وجود الوسائل التي يمكن بواسطتها تحقيق مهمة الفحص بدون كشف للعورة، كما لا يجوز للرجال أن يقوموا بفحص النساء ولا العكس غلا إذا تعذر وجود المثيل الذي يمكنه أن يقوم بالمهمة المطلوبة.
ثم إن الجواز مقيد بالاقتصار على القدر الذي يفي بالغرض وكذلك الوقت المحتاج إليه دون زيادة فمتى ما توصل الطبيب على معرفة المرض الجراحي ومصور الأشعة من إسقاط الأشعة حرم عليهم بعد ذلك النظر وغيرهم مثلهم.
حكم التصوير بالأشعة:
ثبت علميا ضرر الأشعة السينية على الجلد والنخاع الشوكي والغدد الجنسية بل أشارت بعض المصادر الطبية المختصة إلى أنها قد تتسبب في الإصابة بالسرطان.
ونظرا لودود هذه الأضرار فإن الأصل حرمة استعمالها إلا لحاجة فعلى الطبيب أن يتولى النظر في مفسدة تعريض المريض للأشعة ومفسدة المرض المشتكى منه ثم يقارن بينهما فإن غلبت مصلحة الأشعة أقدم وإلا فلا، وإذا احتيج إلى الأشعة فيقتصر على القدر الكافي دون زيادة.
أحكام التشخيص:
عُرف التشخيص بأنه: الفن الذي يتسنى به تعرف نوع المرض، فهو فن مستقل يكوّن فرعا من فروع الطب، فيلزم الطبيب شرعا بالتقيد بأصوله العلمية المقررة عند أهل الاختصاص، وإلا لم يجز له.
والهدف من التشخيص معرفة نوعية المرض الجراحي والطور الذي وصل إليه.
وإذا توصل الطبيب إلى معرفة وجود المرض الجراحي عن طريق التشخيص فإن كان ذلك على سبيل اليقين أو الظن فيجوز الإقدام على العملية الجراحية، وإن كان على سبيل الشك أو الوهم فلا يجوز ذلك لأن العبرة لغلبة الظن.
أحكام الإذن بفعل الجراحة:
ينقسم الإذن على نوعين:
إذن مطلق: كأن يقول المريض: أذنت لك بفعل أي جراحة لعلاجي، وهذا النوع يطلبه الأطباء في حالة خوفهم من وجود أمراض جراحية أخرى يفاجؤون بها بعد مباشرتهم للعمل الجراحي فيحتاطون بأخذ هذا النوع من الموافقة.(1/11)
إذن مقيد: كأن يقول المريض: أذنت لك بفعل جراحة استئصال اللوزتين.
وهذان النوعان معتبران شرعا.
ويستحق الإذن بالجراحة أحد شخصين: المريض أو وليه.
أما المريض فيعتبر إذنه إذا كان أهلا قادرا على إبداء الإذن فلا يعتد بإذن أي شخص سواه، كما لا يلتفت إلى امتناعهم، فإذا انعدمت أهلية المريض أو لم يقدر على إبداء الإذن انتقل الإذن إلى الولي، وترتيب الأولياء كما يلي: الوالدان ويقوم مقام الأب الجد وإن علا ثم الأخوة الأشقاء ثم الأخوة لأب ثم الأعمام الأشقاء ثم الأعمام لأب ثم بنو الأعمام الأشقاء ثم بنو الأعمام لأب.
وهذا الترتيب اعتبره العلماء في الإرث وهو مبني على مراعاة قوة التعصيب وقد اعتمد الفقهاء في ترتيب القرابة في بعض المسائل على هذا الترتيب كما في تكفين الميت وغسله والصلاة عليه، ولذلك لا مانع من الأخذ بهذا الترتيب هنا.
وبناء على هذا الترتيب فإنه لا يرجع إلى القريب الأبعد في حال وجود من هو أقرب للميت منه، وكذلك لو امتنع القريب البعيد ووافق من هو أقرب منه يسقط امتناع البعيد.
ويشترط لصحة الإذن ما يلي:
أن يكون الإذن صادرا ممن له الحق.
أن تتحقق أهلية الآذن.
أن يكون مختارا.
أن يشتمل الإذن على إجازة فعل الجراحة لأن ذلك هو المقصود من الإذن.
أن تكون دلالة الصيغة على إجازة فعل الجراحة صريحة أو قائمة مقام الصريح كهز الرأس بالموافقة.
أن تكون العملية الجراحية مأذونا بها شرعا.
هذا ويستحب للمريض الإذن بناء على الأصل الدار على استحباب التداوي.
أما لو كان المريض مهددا بالموت أو تلف عضو من أعضائه إذا لم يتم إسعافة بإجراء العملية الجراحية فذهب بعض المعاصرين على وجوب الإذن وأنه لو امتنع من التداوي يعتبر آثما واشترط لذلك بحصول غلبة الظن بحصول الشفاء بناء على شهادة الطبيب المسلم العدل الحاذق المتخصص فيما يقوم به، وهذا القول متفق مع قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .(1/12)
لكن لو مات المريض لا يعتبر قاتلا لنفسه بامتناعه عن الإذن، وذلك لأن الشفاء بالجراحة غير مقطوع به، ومن هنا خالف من ترك الطعام والشراب او ترك الميتة في المخمصة لأن الطعام والشراب مقطوع بنفعة في دفع المخمصة.
هناك حالتان يجوز فيهما للطبيب العمل الجراحي دون إذن:
الحالة الأولى: أن يكون المريض مهددا بالموت أو تلف عضو أو أعضاء من جسده إذا لم يتم إسعافه بالجراحة الطبية اللازمة فورا ولا تسمح حالته بأخذ الموافقة مثل التهاب الزائدة الدودية وجراحات الحروب، أما بالنسبة للإذن فهو واجب في حال الإمكان وأما في حال التعذر والخوف على النفس والأطراف فإنه يسقط الحكم بوجوبه ويبقى وجوب إنقاذ النفس والأطراف على الأطباء كما هو فيلزمهم القيام بواجبهم.
الحالة الثانية: أن يكون المرض الجراحي من الأمراض الوبائية التي يخشى من انتشارها في المجتمع، فإذا امتنع المريض عن الموافقة على إجراء هذا النوع من الجراحة كان امتناعه واقعا في غير موقعه لكونه متضمنا الضرر بالغير.
أحكام التخدير الجراحي:
التخدير في الاصطلاح الطبي الحديث: علم هدفه معرفة وتطبيق الوسائط –أي المواد المخدرة-التي من شأنها أن تحدث عند المريض زوال حس جزئي أو تام بقصد إجراء تدخل جراحي.
والتخدير نوعان:
تخدير عام: وهو الذي يسبب ضياع الإدراك وفقدان الحس التام في سائر الجسم.
تخدير موضعي: وهو الذي يسبب زوال الحس في منطقة محدودة من الجسم.
والمخدرات لم تكن معروفة عند سلف الأمة لذلك لم يتكلموا عن حكمها، وفي أواخر القرن السادس ظهرت الحشيشة وذلك حينما غزا التتار بلاد المسلمين فجلبوها معهم فابتلي فساق المسلمين بأكلها، فتكلم عليها العلماء وانعقد الإجماع على حرمة المسكر منها، لأنها في حكم الخمر، ولأنه داخلة في عموم قوله- صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام" رواه مسلم.(1/13)
أما المخدرات الموجودة في عصرنا فقد ثبت بكل جلاء ضررها على الفرد والمجتمع كله ولهذا انعقد الإجماع الدولي على محاربتها، وتشير الدراسات الطبية إلى أن المواد المخدرة مضرة بالإنسان جسديا ونفسيا وعقليا مما يقضي بحرمتها.
أما بالنسبة لمشروعية التخدير الجراحي فإن الطبيب يحتاج أثناء قيامه بمهمة الجراحة الطبية إلى سكون المريض وعدم حركته كي يستطيع القيام بمهمته، ولا تخلو الحاجة إلى التخدير في الجراحة الطبية من ثلاث حالات:
أن تصل إلى مقام الضرورة: وهي الحالة التي يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير كما في جراحة القلب المفتوح، وهنا يجوز فعله لأن الضرورات تبيح المحضورات.
أن تصل إلى مقام الحاجة: وهي الحالة التي لا يستحيل فيها إجراء الجراحة الطبية بدون تخدير ولكن المريض يلقى فيها مشقة فادحة لا تصل به على درجة الموت، كبتر الأعضاء، وهنا يجوز فعله أيضا لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة.
لا تصل إلى مقام الضرورة والحاجة: حيث يمكن فيها إجراء الجراحة الطبية دون أن يخدر المريض ويلقى فيها بعض الآلام البسيطة التي يمكن الصبر عليها كقلع السن في بعض حالاته، وهنا يرخص في اليسير من المخدر في التداوي بنا على نص الفقهاء المتقدمين على جواز استعمال المخدر في التداوي(1).
ولا يجوز للمخدر أن يختار طريقة اشد ضررا من غيرها متى أمكن التخدير بالطريقة التي هي أقل منها ضررا، كما لا يجوز له أن يعدل إلى التخدير عن طريق العورة "فتحة الشرج" متى أمكن التخدير عن طريق الوريد ونحوه، لأن العورة لا يستباح كشفها إلا عند الحاجة وانعدام البديل.
في أحكام العمل الجراحي
وهنا سنأتي على أهم أعمال الجراحة وهي كما يلي:
المبحث الأول: القطع
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 5/408، وتبصرة الحكام 2/169، روضة الطالبين 1/171، والإنصاف للمرداوي 8/438(1/14)
أي إبانة العضو أو جزئه عن الجسم سواء كان من مفصل أم لا، وقد يكون جزءا غريبا ناشئا بسبب علة أو آفة.
ولأن القطع إتلاف وهو مفسدة فقد نقل ابن حزم الإجماع على حرمة قطع عضو من الأعضاء، لكنه أجيز في الجراحة الطبية للحاجة ومن باب أولى الضرورة(1) وفي صحيح مسلم عن جابر قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه".
وهنا جملة مسائل:
الأولى: هل يجوز قطع الأصبع الزائدة؟
إذا لم يكن فيها ألم يدعو إلى قطعها فلا يجوز، لأنه من تغيير خلق الله، وقد ذهب د. شبير إلى الجواز بحجة أنها عيب ونقص في الخلقة.
أما إذا كان فيها ألم يدعو إلى قطعها فيجوز حينئذ للحاجة الداعية إليه لكن بشرط ألا يوجد دواء بديل غير القطع.
المسألة الثانية: هل يجوز قطع العصب للتغلب على الألم؟:
ويكون هذا في نوع خاص من الآلام وهو الألم العنيد وهو الألم المبرح الذي استعصى علاجه طبيا، ويعتبر الألم عنيدا في إحدى الحالات الثلاث التالية:
الأولى:عدم اكتشاف السبب الموجب للألم.
الثانية: صعوبة معالجة السبب كما في السرطانات.
الثالثة: عدم استجابة الألم للمسكنات المختلفة.
وفي هذه الحالات يقوم الأطباء بقطع العصب الناقل للألم والإشارات الحسية من منطقة الألم إلى الدماغ والعكس وبقطع هذه الأعصاب يتخلص المريض من الألم، ولو فرض أنه استجاب لبعض المهدئات القوية فإن المشكلة تكمن في أن هذه المهدئات مركبة من مواد مخدرة كالأفيون وأشباهه إلا أنه لا يمكن العلاج به لفترة أطول نظرا لخطورة إدمان المريض لها والذي قد يفضي إلى عواقب سيئة قد تفوق الألم المعالج.
والذي يظهر جواز القطع لإجماع أهل العلم على جواز قطع العضو الألم والعصب جزء من العضو فإذا جاز قطع الكل لمشقة الألم جاز قطع جزئة للعلة نفسها، وعملا بقاعدة: "المشقة تجلب التيسير".
__________
(1) انظر قواعد الأحكام 2/87،(1/15)
المسألة الثالثة: هل يجوز الزيادة على قدر الجزء المقطوع على سبيل الاحتياط؟:
قلنا بأن الأصل حرمة القطع ولكن أجزناه دفعا للضرر وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها وعليه فلا يجوز الزيادة في قدر الجزء المقطوع، إلا أن هناك حالات يعمد الأطباء فيها إلى الزيادة على الموضع المحدد لخوف أن تكون الآفة قد سرت إلى ذلك الجزء المزيد فيقومون بقطعه احتياطا ويعتذرون بخوف السريان وصعوبة الفتح للموضع ثانية، والذي يظهر هنا الجواز بشرطين: أن يغلب على الطبيب إمكان السريان وان يصعب فتحة ثانية.
المبحث الثاني: الاستئصال:
يقوم الطبيب باجتثاث الداء وانتزاعه من جذوره، وغالبا ما يجرى لعلاج الأورام والغدد الملتهبة، وهذه العملية مشروعة في الجملة للحاجة بل قد تصل للضرورة كما في استئصال الأورام الخبيثة (السرطان).
وفيما يلي بيان حكم الأعضاء المستأصلة:
حكم استئصال الأورام:
الورم هو كتلة من الأنسجة ناتجة عن نمو غير طبيعي للخلايا، وينقسم إلى:
أورام حميدة: وتمتز ببطء نموها، وبأنها محاطة من الخارج بغلاف يحددها تحديدا واضحا من الأنسجة المحيطة بها، وخلاياها لا تتسرب إلى الدم، وينحصر ضرره في بعض الحالات ومنها أن يضغط على عضو مجاور أو على عصب الأمر الذي يؤدي إلى ألم أو شلل العضو لضيق مجرى العروق، وعليه فالأصل عدم جواز استئصالها إلا بعد وجود الحاجة الداعية لذلك مثل ما تقدم وكذلك التي يخشى تحولها إلى أورام سرطانية.
أورام خبيثة: وهي أورام تتميز بسرعة نموها وانتشارها في الجسم، ولا تخلو من حالتين:
أن تكون منحصرة في موضع معين مثل سرطان القولون، والثدي والخصيتين، وهنا يكون الاستئصال دواء ناجحا فيجوز فعله للحاجة الداعية إلى ذلك، والتي قد تكون ضرورة أحيانا.(1/16)
أن تنتشر الأورام في جسم المصاب فيتعذر استئصالها لتعدد مواضعها، إضافة إلى احتمال عودها، ولهذا يقتصر على الدواء، لفقد الفائدة المرجوة من الاستئصال، فلا حاجة لتعذيب المريض وتحميله عبء الجراحة وأخطارها.
ومن أمثلة هذه الحالة: سرطان البنكرياس في حالاته المتقدمة، وأورام الكبد الثانوية، وسرطان الرئة في حالاته المتقدمة، وسرطان المعدة المنتشر، وسرطان المرارة المستفحل.
حكم استئصال الغدد الملتهبة:
ومن أمثلتها: غدة البروستاتا، والغدة الشحمية، والغدتان النكفيتان.
ونظرا لأهمية وجود هذه الغدد، فإن الأطباء لا يلجؤون إلى استئصالها إلا بعد وجود الحاجة الداعية إليه، وعدم إمكان علاجها بالدواء، بحيث يصبح الاستئصال هو الحل النهائي والأخير، وهذا متفق مع الشرع، للضرر المترتب على وجودها وانعدام أو قلة فائدتها، والقاعدة المتفق عليها تقول: الضرر يزال.
المبحث الثالث: الشق:
ويقصد منه الكشف عن موضع الداء واستئصاله، أو الكشف عن موضع معين لفحصه أو إخراج شيء منه كما في جراحة الولادة.
والشق الجراحي المحتاج إليه لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون ضروريا، والحالة الثانية أن يكون حاجيا.
ففي الحالة الأولى يقصد منه إنقاذ النفس المحرمة، ومن أمثلته ما يجري في جراحة الولادة من شق بطن الحامل بقصد استخراج الجنين الحي أو الميت إذا خشي على ذلك الجنين أو على أمه أو عليهما معا، وهذا لا مانع منه بل يرى بعض العلماء وجوبه.
وأما الثانية:فإنه يقصد منها إزالة الضرر الموجود، أو المتوقع، فمثال الأول: شق الجلد الموجود بين الأصابع، وشق العجان في جراحة الولادة إذا غلب على الظن تمزقه.
وفي كلتا الحالتين يعتبر الشق الجراحي مشروعا للحاجة الداعية إليه، ولأن مصلحته تربو على مفسدة الإتلاف، بل هذه المفسدة زائلة بالخياط والتحام طرفي موضع الشق.
ومما يتعلق بهذا الموضوع مسألة: شق بطن الحامل بعد موتها لإخراج جنينها إذا رجيت حياته.(1/17)
وقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
القول الأول: يجب شق بطنها إذا رجيت حياة الجنين، وبه قال الحنفية والشافعية، واختاره بعض المالكية والحنابلة.
واستدلوا بما يلي:
قوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } وبما أن الشق سبب في إحياء الجنين –بإذن الله- فهو داخل فيما دعت غليه الآية.
لأنه استبقاء حي بإتلاف جزء من الميت، فأشبه إذا اضطر إلى أكل جزء من الميت.
تقديما لحق الحي لكون حرمته أولى.
لأن إنقاذ النفس المحرمة واجب، والجنين نفس محرمة، وقد توقف أداء ذلك الواجب على الشق فوجب فعله.
القول الثاني: لا يشق عن بطنها، وهو مذهب المالكية والحنابلة.
واستدلوا بما يلي:
حديث عائشة رضي الله عنها، قالت قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "إن كسر عظم المؤمن ميتا مثل كسر عظمه حيا" فكما لا يجوز شق بطنها في حياتها فكذلك بعد موتها.
ولكن لا يسلم هذا الاستدلال لأن المقصود من الشق إنقاذ النفس المحرمة من الهلاك، امتثالا لمقصد حفظ النفس، كما أنه قد تعارضت هنا مفسدتان: انتهاك حرمة الميتة بشق بطنها، وانتهاك حرمة الجنين بتركه يموت داخل بطنها، فوجب الترجيح بينهما، وبما أن مفسدة الشق فيها ضرر بجزء من الجسد، ومفسدة ترك الجنين فيها ضرر بتلف النفس والروح رجحنا جواز الشق، لأن المفسدة الأولى أخف من الثانية، والقاعدة تقول: "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما".
لأن فيه انتهاكا لحرمة متيقنة لإبقاء حياة موهومة.
وهذا مناقش بأن الفقهاء اشترطوا ما يوجب غلبة الظن بوجود الجنين وذلك بلوغه ستة أشهر فأكثر، وهي مدة يغلب على الظن فيها حياته، فانتفى الوهم.
لأنه لو خرج حيا فالغالب أنه لا يعيش.
وهذا مناقش بأن حياته أو موته بعد خروجه أمر مرده على الله، والغلبة المذكورة لعلها فيما كان دون المدة السابقة، أو لعدم توفر العناية اللازمة، والتي تيسرت في العصر الحديث.
المبحث الرابع: نقل وزراعة الأعضاء:(1/18)
لا يخلو المنقول منه العضو من إحدى صورتين: أن يكون إنسانا (حيا أو ميتا) أو حيوانا (ميتة أو مذكاة).
أ- حكم نقل الأعضاء من إنسان إلى إنسان: وتشتمل هذه الصورة على ضربين:
1- حكم نقل وزراعة الأعضاء من إنسان إلى نفسه:
لا تخلو الحاجة الداعية إلى النقل في هذا الضرب من حالتين:
الأولى: أن تكون ضرورية كجراحات القلب والأوعية الدموية، حيث يحتاج على استخدام طعم وريدي أو شرياني لعلاج انسداد أو تمزق في الشرايين أو الأوردة، ويكون إنقاذ المريض من الهلاك بسبب هذا الانسداد أو التمزق.
الثانية: أن تكون حاجية كجراحة المحترق، حيث يحتاج الأطباء لعلاج الموضع المحترق إلى أخذ قطعة من الجلد السليم من الجسم نفسه ثم زرعها في الموضع المصاب من الجسد.
وهاتان الحالتان جائزتان، لأنه إذا جاز قطع العضو لإنقاذ النفس ودفع الضرر عنها، فلأن يجوز أخذ جزء منه ونقله لموضع آخر لإنقاذ النفس أو دفع الضرر عنها، فيجوز للطبيب الجراح القيام بمهمتهما متى غلب على ظنه وجود النفع بشرط عدم وجود البديل الذي يمكن بواسطته تحقيق الهدف المنشود دون ضرر أعظم من الجراحة.
2- حكم نقل وزراعة الأعضاء من إنسان إلى غيره: وفيه صورتان:
الصورة الأولى:النقل والزرع من إنسان حي إلى مثله:
لا تخلو الأعضاء المراد نقلها من أن تكون فردية كالقلب أو خلاف ذلك كالكلى.
حكم نقل الأعضاء الفردية:
يحرم التبرع بالأعضاء الفردية الذي يؤدي نقلها إلى وفاة الشخص المنقولة منه، حتى ولو كان الآخر مهددا بالموت إذا لم يتم إسعافه بهذا العضو، كما يحرم على الطبي الجراح ومساعديه أن يقوموا بنقل هذا النوع، لقوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } والتبرع بهذا العضو مفض إلى الهلاك.(1/19)
ولقوله تعالى: { ولا تقتلوا أنفسكم } ولقوله تعالى: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } والطبيب إذا قام بهذا النقل كان معينا على الإثم لحرمة النقل، وعلى عدوان الإنسان على جسده.
حكم نقل الأعضاء غير الفردية:
وهذا يشمل نقل أعضاء لها بديل ولا يؤدي أخذها إلى الوفاة غالبا، وهو يقع في الأعضاء الشفعية، واشتهر منها حاليا نقل الكلية والخصية.
وقد يوجد في غير الأعضاء الشفعية وينحصر ذلك في الجلد خاصة حيث يحتاج المحروق مثلا لقطعة من الجلد تؤخذ من الحي ثم تزرع في الموضع المناسب من جسده، ويقوم جسم الشخص المتبرع بتعويض الموضع الذي أخذت منه تلك القطعة بجلد جديد.
وقد اختلف العلماء المعاصرون في حكم نقل هذه الأعضاء وذلك في مسألتين:
المسألة الأولى: هل يجوز نقل الأعضاء من الحي على مثله؟
المسألة الثانية: إذا قلنا بجواز ذلك هل يشمل الخصية؟ وسيأتي الجواب عن هاتين المسألتين.
الصورة الثانية: النقل أو الزرع من إنسان ميت إلى حي:
تؤخذ الأعضاء التي يراد نقلها من الإنسان الميت ثم تحفظ بطريقة خاصة تمنع من تلفها إلى حين زرعها في جسم الشخص المحتاج إليها.
لكن قبل بيان حكم هذه المسألة لا بد من بيان مسألة مهمة تتعلق بموت جذع الدماغ، هل يعتبر ذلك الموت موجبا للحكم بموت الإنسان أو لا؟
المسألة الأولى: هل موت الدماغ دون القلب يوجب الحكم بموت صاحبه أو لا؟
اختلف المعاصرون هنا على قولين:
القول الأول: لا يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتا بل لا بد من توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان، وهو قول بكر أبو زيد وآخرون.
واستدلوا بما يلي:(1/20)
قوله تعالى: { ثم بعثناهم } أي أيقظناهم، فمجرد فقد الإحساس والشعور لا يعتبر وحده دليلا كافيا للحكم بكون الإنسان ميتا، والحكم باعتبار موت الدماغ موتا مبني على فقد المريض للإحساس والشعور، وقد دلت الآية على عدم اعتباره مع طول الفترة الزمنية والتي بلغت ثلاثمائة سنة وزيادة تسع، فمن باب أولى ألا يعتبر في مدة أقل.
قاعد اليقين لا يزول بالشك، فحياة المريض متيقنة، وشككنا هل هو ميت لأن دماغه ميت، أم هو حي لأن قلبه ينبض، فوجب العمل باليقين.
قاعدة: الأصل بقاء ما كان على ما كان.
استصحاب حياة المريض قبل موت دماغه.
حفظ النفس مقصد ضروري، والحكم بحياة المريض هو محافظة على النفس.
القول الثاني: يعتبر موت دماغ الشخص دون قلبه موتا، بل لا بد من توقف القلب عن النبض حتى يحكم بموت الإنسان.
واستدلوا بما يلي:
أن العلماء قرروا أن حياة الإنسان تنتهي عندما يغدو الجسد الإنساني عاجزا عن خدمة الروح والانفعال لها(1).
أن الفقهاء حكموا بموت الشخص في مسائل الجنايات التفاتا إلى نفاذ المقاتل، ولم يوجبوا القصاص على من جنى عليه في تلك الحالة مع وجود الحركة الاضطرارية، فدل ذلك على عدم اعتبارهم لها.
الترجيح:
الذي يترجح هو القول الأول، لما يلي:
لصحة ما ذكروه.
__________
(1) الروح لابن القيم 242، شرح الطحاوية (381)، إحياء علوم الدين (4/494).(1/21)
أنه ثبت وجود أطفال بدون مخ وعاش بعضهم على حالته أكثر من عشر سنوات، وهذا يدل على أن موت الدماغ لا يعتبر موجبا للحكم بالوفاة، إذ لو كان كذلك لما عاش هؤلاء لحظة بدون المخ الذي يعتبر موته أساسا في الحكم بموت الدماغ(1)، فإذا كانت الحياة موجودة في حال فقد المخ بالكلية، فإنه لا مانع من أن يحكم بوجودها في حال موت الدماغ وبقاء القلب نابضا(2).
أن الأطباء الذين يعتبرون موت الدماغ علامة على الوفاة يسلمون بوجود أخطاء في التشخيص، وأن الحكم بالوفاة استنادا على هذا الدليل يحتاج إلى فريق طبي وفحص دقيق، وهذا لا يتوفر في كثير من المستشفيات، ففتح الباب للقول باعتبار هذه العلامة موجبة للحكم بالوفاة سيؤدي إلى خطر عظيم.
المسألة الثاني: هل يجوز نقل الأعضاء من الشخص الميت أو الحي وزرعها في الإنسان الحي؟
اختلف العلماء المعاصرون هنا على قولين:
القول الأول: يجوز نقل الأعضاء الآدمية، وهذا القول صدرت به الفتوى من عدد من المجامع والمؤتمرات الفقهية منها: مجمع الفقه الإسلامي التابع للرابطة، وهيئة كبار العلماء بالسعودية، ولجنة الفتوى في: الكويت ومصر وغيرهما، واستدلوا بما يلي:
أن الآيات اتفقت على استثناء حالة الضرورة من التحريم المنصوص عليه فيها مثل: { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } { فمن اضطر في مخمصة } { إلا ما اضطررتم إليه } والإنسان المريض إذا احتاج إلى نقل العضو فإنه سيكون في حكم المضطر، لأن حياته مهددة بالموت كما في حالة الفشل الكلوي وتلف القلب ونحوهما، وإذا كانت حالته اضطرار فإنه يدخل في عموم الاستثناء المذكور.
قوله تعالى: { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا } عام يشمل كل إنقاذ من تهلكة.
قاعدة :الضرر يزال.
__________
(1) نشرت جريدة المسلمون عدد 232 بتاريخ 11/12/1409هـ السنة الخامسة، مقالا بعنوان: "طفل بلا مخ ولكنه يعيش وينمو ويضحك".
(2) حكم الانتزاع لعضو من مولود حي عديم الدماغ، لبكر أبي زيد.(1/22)
قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات".
قاعدة: "إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما".
القول الثاني: لا يجوز نقل الأعضاء الآدمية، وهو قول: الشعراوي وغيره، واستدلوا بما يلي:
قوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة... } وإقدام الشخص على التبرع بجزء من جسده هو سعي لإهلاك نفسه في سبيل إحياء غيره وليس ذلك مطلوبا منه.
لكن هذه الآية خارجة عن موضع النزاع، لأن القائلين بالجواز يشترطون ألا تكون حياة المتبرع مهددة بالهلاك، كما أن هذه الآية لا تشمل ما بعد الموت.
كما أن استلاهم يمكن قلبه بأن يقال: إذا امتنع المريض من قبول تبرع الغير له بالعضو الذي تتوقف نجاته على نقله إليه يعتبر ملقيا بنفسه إلى الهلاك، فيحرم عليه الامتناع من هذا الوجه.
قوله تعالى: { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله... } ونقل العضو تغيير لخلق الله.
لكن نقل الأعضاء خارج عن هذه الآية، لأنه مبني على وجود الضرورة والحاجة الداعية على فعله، والآية إنما يقص منها ما كان على وجه العبث.
عن عائشة أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي في الإثم".
لكن هذا الحديث خارج عن موضوع النزاع، لأن الأطباء لا يقومون بكسر الأعضاء المنقولة بل يحافظون عليها طلبا لنجاح مهمة النقل والزرع، كما أن هذا الحديث مقيد بالمؤمن كما ورد ذلك صريحا في رواية أخرى، فيجوز التصرف بأعضائه.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه ابن ماجه.
لكن غاية ما دل عليه الحديث هو تحريم الضرر والإضرار، ونحن لا نسلم بأن الشخص المنقول منه يتضرر بهلاكه مستقبلا، لأن الأطباء لا يقومون بالنقل من شخص يؤدي نقل عضوه إلى هلاكه، ولا نجيز النقل في هذه الحالات، وعليه فالحديث خارج محل النزاع.
قاعدة الضرر لا يزال بمثله.
ولا ترد هذه القاعدة على الجواز، لأن من شرطه ألا يؤدي النقل إلى هلاك الشخص المنقول منه العضو.(1/23)
قاعدة: "ما جاز بيعه جازت هبته وما لا فلا".
ويجاب بأن لكل قاعدة مستثنيات، وهذه منها لمكان الحاجة والضرورة وهي إنقاذ النفس.
الإنسان ليس مالكا لأعضائه، ولا مفوضا في التبرع بها.
وهذا مناقش بأن الإنسان مأذون له بالتصرف في جسده بما فيه المصلحة، وإذنه بالتبرع فيه مصلحة عظيمة فيجوز له فعله.
المسألة الثالثة: هل يجوز نقل الخصيتين:
اختلفوا هنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز نقل الخصيتين مطلقا، ودليله ما يلي:
لأن فيه تشويها لخلقة الإنسان المنقول منه، وهذا محرم.
يؤدي إلى حرمان المنقول منه من النسل، وهو محرم.
ليس فيه ضرورة.
يؤدي إلى اختلاط الأنساب.
سيتذرع بالجواز إلى القول بجواز نقل المبيضين، لأنهما في حكم الخصيتين، مما يؤدي إلى ضياع الأنساب واختلاط المحارم.
ذكر الأطباء بأن نقل الخصيتين يوجب انتقال الصفات الوراثية الموجودة في الشخص المنقولة منه إلى أبناء الشخص المنقولة إليه الخصية، وهذه شبهة موجبة للتحريم.
نقل الخصيتين أو إحداهما يؤدي إلى استباحة النظر إلى العورة وتكرار ذلك دون حاجة معتبرة.
أن الخصية إذا نقلت من الحي أو الميت لا بد من بقاء قدر من الحيوانات المنوية فيها، ومن ثم يختلط الماء القديم والماء الجديد، وعند جماع الرجل الثاني وإنزاله لا ندري أي الماءين أنزل؟ وهذا خلط ظاهر للأنساب.
القول الثاني: يجوز نقل الخصيتين مطلقا، وهو قول سيد سابق، وأدلته:
أن الحيوانات المنوية خارجة من الرجل الثاني، وأن الخصية ليست إلا مجرد آلة منظمة لتلك الحيوانات.
ويجاب عن هذا بأن إلغاء تأثير ما تقوم به الخصية من تنظيم للماء غير مسلم، لأنه قائم على الدعوى المختلف فيها، وإنما يصح إلغاء ذلك لو كانت الخصية غير مؤثرة في الماء نفسه، لكن لما وجد التأثير في الماء بتصويره كان ذلك التنظيم مؤثرا.
أن الشخص الثاني قد ملك الخصية، فلا ينبغي النظر إلى الأصل بعد انتقالها منه.(1/24)
وهذا مناقش بأن ملكية الثاني يشترط في اعتبارها إذن الشارع حتى يصح القول بانتقالها ملكيتها للغير، والإذن الشرعي غير موجود هنا، فينتفي القول بصحة الملكية، ومن ثم ينتفي ما تركب عليها من عدم الالتفات للأصل الأول.
لا تأثير للجينات الوراثية، ولا خوف من تطابقها بدليل أن الأخوين ينجب أحدهما الأنثى والآخر الذكر، وكلا الأخوين من أصل واحد انتقلت غليهما صفات وراثية واحدة، ومع ذلك لم يحرم زواج ابن أحدهما بابنة الآخر، فدل هذا على عدم تأثير تطابق الصفات الوراثية.
ويجاب عن هذا قياس مع الفارق،، لأن الأصل لم يحكم فيه بتأثير اتحاد الصفات، لأن انتقالها لم يكن ناشئا عن عامل واحد، بل من عاملين كل واحد منهما متعلق بأحد الأخوين.
ثم إن هذا القياس مبني على إلغاء تأثير التشابه في الصفة، وهذا ليس محل النزاع، بل محل النزاع في شرعية المصدر الموجب لاتحاد الصفات.
القول الثالث: التفصيل: يجوز نقل إحدى الخصيتين من الحي إلى الحي، وبه أفتت مشيخة الأزهر، واستدلوا بما يلي:
أن نقل الخصيتين يؤدي على قطع نسل المتبرع، بخلاف نقل إحداهما وترك الأخرى.
قياسا على جواز نقل إحدى الكليتين والرئتين بجامع الحاجة في كل.
لكن هذا قياس مع الفارق، لأن الأصل لا شبهة فيه، بخلاف الفرع فلم يصح الإلحاق.
ب- حكم نقل العضو من حيوان إلى إنسان:
لا يخلو الحيوان هنا من ضربين:
أن يكون طاهرا كبهيمة الأنعام المذكاة، وهذا لا إشكال في جواز التداوي بأي جزء من أجزائه، أو غرس أعضائه في جسم الإنسان، لعموم الأدلة على مشروعية التداوي، وكما جاز الانتفاع بأجزائه مع إتلافها بالأكل فلأن يجوز الانتفاع بها بغرسها وبقائها أولى، وهذا ما نص عليه الفقهاء قال النووي: "إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر"(1).
__________
(1) المجموع 3/138، وانظر الفتاوى الهندية 5/255(1/25)
أن يكون غير طاهر كالميتة، والأصل فيه الحرمة لنجاسته التي يوجب وضعها في البدن بطلان الصلاة ونحوها، لكن يبقى النظر في الحالات الضرورية هل يجوز فيها النقل أم لا؟ وقد نص الأحناف على جوازه في عظام الميتة مطلقا إذا كانت يابسة، واستثنوا من ذلك عظم الخنزير لحرمة الانتفاع به(1).
وذهب بعض الفقهاء إلى التفصيل: قال النووي: "إذا انكسر عظمه فينبغي أن يجبره بعظم طاهر، قال أصحابنا: ولا يجوز أن يجبره بنجس مع قدرنه على طاهر يقوم مقامه، فإن لم يجد فهو معذور، وإن لم يحتج إليه أو وجد طاهرا يقوم مقامه أثم ووجب نزعه إن لم يخف منه تلف نفسه ولا تلف عضو..."(2).
وبناء على هذا التفصيل فإن التداوي بنقل أعضاء الحيوان في هذا الضرب ينبغي أن يتحقق فيه شرطان:
أن يكون الشخص المريض محتاجا على نقل عضو الحيوان النجس إليه بشهادة الأطباء المختصين.
ألا يوجد العضو الطاهر الذي يمكن أن يقوم مقامه.
فإذا تحقق هذان الشرطان جاز النقل، ولا يؤثر وجود العضو في جسم المريض على عبادته للعذر الموجب للترخيص بوجود هذه النجاسة.
المبحث الخامس: الثقب:
ويلجأ إليه الأطباء لإزالة التشوه الخلقي الموجود في الأطفال كفتح المقعدة المسدودة خلقة، وفتح مجرى البول ع الذكور.
والثقب في الأصل مفسدة لما يشتمل عليه من إتلاف لجزء من الجسم إلا أنه جائز عند وجود الحاجة الداعية على فعله.
مسألة: هل يجوز ثقب المرأة للحلي؟ قولان:
القول الأول: يجوز، وهو مذهب الأحناف والحنابلة.
واستدلوا بحديث ابن عباس في خطبة النبي- صلى الله عليه وسلم - وعظته النساء يوم العيد وفيه: "فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها" أخرجه البخاري.
القول الثاني: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي وبعض الحنابلة.
وعللوا قولهم بأن ثقب الأذن ملحق بتبتيك آذان الأنعام، ولأن الثقب جرح مؤلم لا يجوز فعله إلا لحاجة مهمة والتحلي ليس منها.
__________
(1) الهندية 5/354، ومجمع الأنهر 2/535
(2) المجموع 3/138(1/26)
المبحث السادس: الكحت وتوسيع الرحم:
توسيع عنق الرحم في النساء بقصد فحص جدران الرحم، وتنظيفها أو كشط غشائها المخاطي.
والأسباب الداعية إلى ذلك هي:
إخراج المشيمة بعد الولادة حتى لا تتسبب في النزيف الرحمي.
حالات تفريغ الرحم الضرورية كحالة إخراج الجنين المنتبذ.
فحص الأمراض المتعلقة بالجهاز التناسلي للمرأة.
حالات النزيف الرحمي الحاد.
وهذا جائز بشرط تعذر علاج هذه الحالات بالبدائل الأخرى، أو كانت البدائل تتضمن مفسدة كشف العورة والإيلاج في الفرج، فيعدل عنها إلى فعل الكحت.
وينبغي أن يقوم بهذا العمل النساء وأن يسعى المرضى في طلب ذلك ما أمكن، كما ينبغي على المستشفيات أن يهتموا بذلك، وألا يسند شيء منه على الرجال إلا في الضرورة القصوى.
المبحث السابع: إعادة الأعضاء المبتورة:
وتعتبر من أدق أنواع الجراحة وأصعبها، فقد يستغرق إعادة أصبع واحدة ست ساعات.
وليس كل الأعضاء المبتورة يمكن إعادتها، بل ذلك مختص بأعضاء معينة، وشروط لابد من توفرها في العضو المبتور من أهمها عدم تلوثه بصورة تنع إعادته، وعدم وجود فاصل زمني طويل.
وهذه المهمة –من حيث الأصل- توفرت فيها الدواعي الموجبة للترخيص بفعلها، وذلك لأن الإنسان يتضرر كثيرا بفقده ليده أو رجله أو أصابعهما فيشرع له دفع ذلك الضرر بفعل هذا النوع من الجراحة، ولأنه إذا جاز بتر العضو وإبانته من الجسم عند الحاجة فلأن يجوز رده عند وجودهما أولى وأحرى.
وقد حكى القرطبي عن الشافعي وعطاء وابن المسيب القول بعدم جواز إعادة الأذن المقطوعة، لأنها صارت نجسة بالانفصال، (1) ونص أحمد على جواز ذلك(2).
__________
(1) تفسير القرطبي 6/199، وروضة الطالبين 9/179
(2) الإنصاف 1/489، ومنتهى الإرادات 1/155(1/27)
قال ابن العربي: "إن عودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها، لأن النجاسة كانت فيها للانفصال، وقد عادت متصلة، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها.
والراجح الجواز لما يلي:
أن فيه دفعا للمشقة والحرج الموجود في حال فقد ذلك العضو.
ما أبين من حي فهو كميتته، وميتة الآدمي طاهرة، فوجب أن يكون ذلك العضو الذي أبين طاهرا، وإذا كان كذلك انتفى ما ذكروه من الحكم بنجاسته، ومن ثم لم تلزم إبانته ثانية.
مسألة: هل تجوز إعادة العضو المقطوع حدا أو قصاصا؟:
اختلف العلماء المعاصرون هنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: لا يجوز سواء تاب مرتكب الجريمة أم لا، أذن صاحب الحق أم لم يأذن.
وبهذا القول صدر قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة السعودية، واستدلوا بما يلي:
قوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما... } والجزاء لا يتم إلا بالقطع، والنكال لا يتم إلا برؤية اليد المقطوعة، وإعادتها مفوت للثاني فلا تشرع، كما أن الحكم بالقطع يوجب فصلها عن البدن على التأبيد، وفي إعادتها مخالفة لحكم الشرع ف يجوز فعلها..
أن الحكمة من إيجاب الحد أو القصاص منع المجرم من المعاودة إلى عدوانه وردع غيره من ارتكاب مثل جريمته، والإعادة مفوتة لهذه الحكمة، فلا يشرع فعلها.
الحكم بالجواز يشجع أهل الأجرام على فعل الجرائم، وذلك يفوت المقصود من إقامة الحدود.
القول الثاني: يجوز في الحد وفي القصاص يشترط رضا المجني عليه، وبه قال وهبة الزحيلي.
واستدل بما يلي:
أنه تم تنفيذ الحد بمجرد القطع والبتر، وبذلك تم إعمال النص الشرعي الآمر به، وبقي ما عداه على أصل الإباحة.(1/28)
وهذا مناقش بأن إعمال النص يستلزم القطع ثم الحسم ثم التعليق بالنسبة للحد وكل من الحسم والتعليق يعتبر عائقا عن نجاح إعادة المقطوع، وأما الإباحة المذكورة فهي غير معتبرة، لأن استصحاب الأصل الطارئ عليها الذي دل عليه النص الموجب للحد وإبانة العضو يعتبر رافعا لحكمها.
أنه لا سلطان للحاكم على المحدود بعد تنفيذ الحد، فإذا بادر السارق أو المحارب إلى إعادة يده أو رجله المقطوعة بعمل جراحي فلا يحق للحاكم أن يتدخل في شأنه، كما لا يحق له في الوقت الحاضر منعه من تركيب يد أو رجل صناعية، فتكون إعادة العضو الطبيعي أولى بالسكوت عنها وتركها.
لكن هذا استدلال بالدعوى، وأما قياس العضو على تركيب الأعضاء المصنوعة فقياس مع الفارق، لأن العضو المعاد ثبت النص بإبعاده عن الجسم بالحد والقصاص، وأما المصنوع فهو من الأشياء التي سخر الله للإنسان الانتفاع بها وأذن له بذلك، فلم يكن مثل العضو المقطوع في ذلك.
لقد تحققت جميع الأهداف المقصودة من إقامة الحد من إيلام وزجر وتشهير.
وهذا مناقش بأن الذي تحقق هو القطع فقط دون الحسم والتنكيل وزجر الغير.
أن التوبة تسقط جميع الحدود التي هي حق الله تعالى كما هو مذهب بعض العلماء وقد تاب المحدود فلا تشرع عقوبته بعد توبته بقطع العضو ثانية.
لكن يجاب عن هذا بأن التوبة تسقط الحدود قبل تنفيذها وأما بعد التنفيذ والحكم الشرعي فإنه ينبغي عدم الالتفات إليها لكونها واقعة في غير موقعها، ثم إننا لا نسلم أن السرقة من جنس الحدود التي تسقط بالتوبة لكونها مشتملة على الحق المشترك "حق الله وحق العبد" وما كان كذلك لم تؤثر التوبة في إسقاطه.
أن حقوق الله مبنية على الدرء والإسقاط والمسامحة.
لكنا لا نسلم أن السرقة من حقوق الله المبنية على الدرء والإسقاط، وإذا سلمنا نقول إنما يكون ذلك قبل التنفيذ لا بعده خاصة إذا ثبت الموجب بشهادة الشهود.
القول الثالث: التوقف، وبه قال محمد تقي العثماني.(1/29)
لأن النظر في هذه المسألة موقوف على أن المقصود بالحد هل هو إيلام الجاني بفعل الإبانة فقط فتجوز الإعادة، أو المقصود تفويت عضو بالكلية، فلا تجوز، ولكلا الاحتمالين دلائل.
المبحث الثامن: زراعة الأعضاء المصنوعة:
لا تخلو زراعة هذه الأعضاء من حالتين:
الحالة الأولى: أن تكون ضرورية مثل: وصل شرايين القلب بطعوم صناعية في حالة استئصال جزء من تلك الشرايين وتعذر اتصال طرفي الشريان ببعضهما نظرا لطول المسافة، فيقوم الجراح بوضع تلك القطعة المصنوعة في موضع الاستئصال، لكي تقوم بمهمة الجزء التالف.
الحالة الثانية: أن تكون حاجية: مثل المفاصل الصناعية والتي توضع موضع المفصل الخلقي المستأصل لأفة أوجبت ذلك كالرومتيزم الغضروفي المزمن أو التهاب المفاصل التيبسي.
وهاتان الحالتان جائزتان، لأن الضرورة تبيح المحظور، والحاجة تنزل منزلتها.
المبحث التاسع: الرتق
وهو سد موضع الفتوق الموجود في الجسم ومن أشهرها:
1- الفتوق السرية 2- الفتق الفخذي
3- الفتق المثاني 4- فتوق المعي الغليظة.
ونظرا لحاجة المريض إلى جراحة الفتق لمكان الآلام وخوف الضرر المترتب على ترك الفتق دون علاج فإنه يرخص للمرضى والأطباء في فعله لقاعدة: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة".
مسألة: هل يجوز رتق غشاء البكارة؟:
القول الأول: لا يجوز رتق غشاء البكارة مطلقا، لما يلي:
أنه قد يؤدي على اختلاط الأنساب، فقد تحمل المرأة من الجماع السابق ثم تتزوج بعد رتق غشاء بكارتها وهذا يؤدي إلى إلحاق الحمل بالزوج واختلاط الحلال بالحرام.
في رتق البكارة اطلاع على المنكر.
أنه يسهل ارتكاب جريمة الزنا.
إذا نظرنا إلى رتق غشاء البكارة وما يترتب عليه من مفاسد حكمنا بعدم الجواز لعظيم المفاسد المترتبة عليه.
تبعا لقاعدة : "الضرر لا يزال بمثله" لا يجوز للفتاة أن تزيل الضرر عنها برتق غشاء البكارة وتلحقه بالزوج.
أنه غش.
يفتح أبواب الكذب للفتيات وأهليهن لإخفاء السبب الحقيقي.(1/30)
يفتح الباب للأطباء أن يلجؤوا إلى إجراء عمليات الإجهاض وإسقاط الأجنة بحجة الستر.
القول الثاني: التفصيل:
إذا كان سبب التمزق حادثة أو فعلا لا يعتبر في الشرع معصية وليس وطئا في عقد النكاح، فينظر:
إن غلب على الظن أن الفتاة ستلاقي عنتا وظلما بسبب الأعراف والتقاليد كان إجراؤه واجبا.
إن لم يغلب ذلك على ظن الطبيب كان إجراؤه مندوبا.
إذا كان سبب التمزق وطئا في عقد النكاح كما في المطلقة أو كان بسبب زنى اشتهر بين الناس فإنه يحرم إجراؤه.
إذا كان سبب التمزق زنى لم يشتهر بين الناس كان الطبيب مخيرا بين إجرائه وعدم إجرائه وإجراؤه أولى.
وبه قال د.محمد نعيم ياسين واستدل بما يلي:
أن النصوص الشرعية دالة على مشروعية الستر وندبه ورتق غشاء البكارة معين على تحقيق ذلك في الأحوال التي حكمنا بجواز فعله فيها.
ويجاب عن هذا بأن الستر المطلوب هو الذي شهدت نصوص الشرع باعتبار وسيلته، ورتق غشاء البكارة لم يتحقق فيه ذلك، بل الأصل حرمته، لمكان كشف العورة وفتح باب الفساد.
أن المرأة بريئة من الفاحشة فإذا أجزنا له فعل جراحة الرتق قفلنا باب سوء الظن فيها، فيكون في ذلك دفع للظلم عنها، وتحقيقا لما شهدت النصوص الشرعية باعتباره وقصده من حسن الظن بالمؤمنين والمؤمنات.
ويجاب عن هذا بأن قفل باب سوء الظن يمكن تحقيقه عن طريق الإخبار قبل الزواج، فإن رضي الزوج بالمرأة وإلا عوضها الله غيره.
أن رتق غشاء البكارة يوجب دفع الضرر عن أهل المرأة فلو تركت المرأة من غير رتق واطلع الزوج على ذلك لأضرها وأضر بأهلها وإذا شاع الأمر بين الناس فإن تلك الأسرة قد يمتنع الناس عن الزوج منهم فلذلك يشرع لهم دفع ذلك الضرر، لأنهم بريؤون من سببه.(1/31)
ويجاب بأن المفسدة المذكورة لا تزول بالكلية بعملية الرتق لاحتمال اطلاعه على ذلك، ولو عن طريق إخبار الغير له، ثم إن هذه المفسدة تقع في حال تزويج المرأة بدون إخبار زوجها بزوال بكارتها، والمنبغي إخباره واطلاعه فإن أقدم زالت تلك المفسدة وكذلك الحال لو أحجم.
أن مفسدة الغش في رتق غشاء البكارة ليست موجودة في الأحوال التي حكمنا بجواز الرتق فيها.
مفسدة الغش في رتق غشاء البكارة ليست موجودة في الأحوال التي حكمنا بجواز الرتق فيه.
ويجاب بأنا لا نسلم انتفاء الغش، لأن هذه البكارة مستحدثة، وليست هي البكارة الأصلية، فلو سلمنا أن غش الزوج منتف في حال زوالها بالقفز ونحوه مما يوجب زوال البكارة طبيعة، فإننا لا نسلم أن غشه منتف في حال زوالها بالاعتداء عليها.
ويزاد على هذا:
أن سد الذريعة الذي اعتبره أصحاب القول الأول أمر مهم خاصة فيما يعود إلى انتهاك حرمة الفروج والأبضاع والمفسدة لا شك مترتبة على القول بجواز رتق غشاء البكارة.
أن الأصل يقتضي حرمة كشف العورة ولمسها والنظر إليها، والأعذار التي ذكرها أصحاب القول الثاني ليست بقوية على درجة تمكن من استثناء الرتق.
أن مفسدة التهمة يمكن إزالتها عن طريق شهادة طبية بعد الحادثة تثبت براءة المرأة، وهذا السبيل هو أمثل السبل، وبه تزول الحاجة إلى الرتق.
المبحث العاشر: الكي:
وهو إحراق الجلد أو الغشاء المخاطي بمواد كاوية أو آلات ساخنة أو تيار كهربائي، ويندر استعمالها إلا في حالات قليلة منها: علاج قروح الرحم، واستئصال الزائدة الدودية.
والأصل في مشروعية هذه النوع ما ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي- صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه.
المبحث الحادي عشر: الخياطة:(1/32)
تعتبر هذه المهمة ضرورية في حال الشق عن الجوف كما في جراحة القلب والبطن وغيرها من أنواع الجراحة الجوفية، لأنه لو ترك موضع الجراحة مفتوحا فإن المريض سيموت قطعا، لذلك فإن الخياطة تعتبر الحاجة إليها بالغة مبلغ الضرورة، وفعلها مشروع.
أما الخياطة في الحالات الأخرى كخياطة الشفة المفلوجة فإنها تعتبر في مرتبة الحاجيات، فيشرع للطبيب فعلها.
المسؤولية عن الجراحة الطبية
المبحث الأول: أركان المسؤولية وأقسامها ومشروعيتها:
أولا: أركان المسؤولية الطبية:
تقوم المسؤولية الطبية من الناحية القانونية على ثلاثة أركان:
الخطأ الطبي وهو: إخلال بموجب سابق لا يرتكبه شخص متبصر وجد في مثل الظروف التي وجد فيها مرتكب الضرر.
الضرر.
الرابطة السببية بين الخطأ والضرر وهي: انتفاء تأثير الأسباب الخارجية عن إرادة الطبيب في وجود ذلك الضرر الناشيء عن الخطأ، لكي يمتنع إعفاء الطبيب من المسؤولية.
والواقع أن هذه الأمور الثلاثة ليست أركانا للمسؤولية:
فأما الخطأ الطبي فهو سبب موجب للمسؤولية لا موجدا لها، فليس ركنا لعدم توقف المسؤولية عليه.
وأما الضرر فهو أثر من آثار الخطأ الطبي يقوى به اعتبار السبب الموجب للمسؤولية.
وأما الرابطة فهي شرط في اعتبارهما.
ثانيا: أقسام المسؤولية الطبية:
تنقسم المسؤولية الطبية في الشريعة الإسلامية على قسمين:
القسم الأول: المسؤولية الأخلاقية (الأدبية): فيسأل الطبيب ومساعدوه عن القضايا المتعلقة بسلوكهم وآدابهم ومن أمثلته: قضايا الغش والكذب، فيتهم الطبيب بغش المريض بأن يدعى إصابته بمرض جراحي أو يقوم المحلل أو المصور بالأشعة أو المناظير الطبية بالتزوير والكذب في التقارير التي قام بكتابتها كل ذلك طلبا لأغراض ومطامع شخصية.(1/33)
فهذه القضايا وأمثالها تجب فيها مساءلة الطبيب ومساعديه عن صحة دعواها وعند ثبوتها يحكم بإدانتها أخلاقيا فيتم تعزيزهم بما يستحقون، كما يحكم بتضمينهم أو القصاص منهم، إذا ترتبت أضرار على تزويرهم وكذبهم.
القسم الثاني: المسؤولية المهنية (العملية): فيسأل الطبيب ومساعدوه عن القضايا المتعلقة بأعمالهم الطبية وما ترتب عليها من أضرار ومن أمثلته الخطأ الطبي من الطبيب الفاحص أو الطبيب الجراح أو من المساعدين لهما أو مشتركا من الجميع فيتهم هؤلاء مثلا بكونهم خرجوا في أثناء قيامهم بمهامهم عن الأصول المتبعة عند أهل الاختصاص فنتج عن خروجهم الضرر الموجود في جسم المريض.
ثالثا: أدلة مشروعية المسؤولية الطبية:
ثبت في السنة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن"(1).
فهذا الحديث يعتبر أصلا في تضمين المتطبب الجاهل إذا عالج غيره واستضر بعلاجه.
وقد دل الحديث على اعتبار المسؤولية الطبية على من يدعي الطب وهو جاهل به وهذا شامل لما يلي:
لكافة فروع الطب.
لمن كان في حكم الأطباء كالمحللين والممرضين والمخدرين والمصورين بالأشعة والمناظير.
الجاهل بالفرع الذي يعالجه كالمختص بجراحة العيون يقوم بجراحة خارج اختصاصه، هي داخل اختصاصه لكن لا علم له بمراحلها أو لا قدرة عنده على تطبيقها على الوجه المطلوب، وهكذا الحكم بالنسبة لمساعدي الأطباء.
وقد نقل ابن القيم الإجماع على تضمين الطبيب الجاهل، وأما الطبيب المتعدي فقال الخطابي: "لا أعلم خلافا في أن المعالج إذا تعدى فتلف المريض كان ضامنا"(2).
المبحث الثاني: المسؤولية الأخلاقية في الجراحة الطبية
على الأطباء ومساعديهم آداب يجب عليهم مراعاتها شرعا وهي:
__________
(1) صححه الحاكم في المستدرك 4/212، ووافقه الذهبي.
(2) الطب النبوي لابن القيم 109(1/34)
الصدق: قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا من الصادقين } فيجب أن تكون أقوال الطبيب ومساعديه متفقة مع الحقيقة، ويحرم عليهم إخبار المريض بما يخالف الواقع، ويعتبر كل واحد منهم مسؤولا عن جميع الأقوال الصادرة عنهم، ومتحملا للأضرار المترتبة عليها إذا كذب فيها وترتب على كذبه ضرر وبهذا نصت القوانين المنظمة لسلوك الأطباء.
وهنا يرد سؤال عن الحالات الخطيرة التي يخشى فيها على المريض لو أخبر بأنه مصاب بمرض جراحي مميت، فلو قام الطبيب بفحص المريض فوجده مصابا بمرض السرطان فهل يجب عليه أن يصدقه مع أن ذلك قد يضر المريض نفسيا فتزداد حالته سوءا؟ أم أنه يجوز له أن يكذب لهذه الظروف، ويكون مستثنى من أصل تحريم الكذب للحاجة؟
الذي يظهر عدم جواز الكذب على المريض مطلقا لعموم الأدلة على تحريم الكذب، كما أنه يترتب على إخباره بالحقيقة مصالح شرعية إذ يمكنه ذلك من الاحتياط لنفسه بالوصية بحقوق الآخرين، وتحصيل الأجر بالاستعداد بخصال الخير من ذكر وصدقة ونحو ذلك، وهذا كله يفوت بالكذب عليه.
ويمكن للطبيب إذا خشي الضرر على المريض أن يخبر وليه أو قريبه ليقوم بإخباره بطريقة مناسبة يخف معها وقع الخبر، ولو فرض الخوف على المريض في هذه الحالة أيضا فإنه يمكن للأولياء والقرابة ألا يخبروه ويسألونه عن الحقوق التي له وعليه ويرغبونه في الزيادة من خصال البر والخير، وبهذا يندفع الضرر وتحقق المصالح الشرعية مع الابتعاد عن الكذب.
الوفاء بالمواعيد، وقد ثبت السنة أن إخلاف الوعد من علامات المنافق، فيجب على الطبيب ومساعدوه ألا يواعدوا المرضى إلا بعد تحققهم أو غلبة ظنهم بالوفاء بالوعد، إلا إذا طرأ طارئ كإسعاف عاجل لإنقاذ مريض خشي موته أو تلف عضو من أعضائه أو حصول مضاعفات خطيرة، ولكن هذا مقيد بعدم وجود طبيب يمكنه القيام بذلك.(1/35)
الوفاء بالعقود: قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } فيجب على الطبيب ومساعدوه الالتزام بالعقود المبرمة مع المريض، ويأثمون ويتحملون المسؤولية التاتجة عن امتناعهم إذا امتنعوا دون عذر شرعي.
وقد ذهب البعض إلى أن الطبيب إذا اتفق مع المريض ثم امتنع من معالجته حتى مات فإنه يعتبر قاتلا متعمدا إذا كان امتناعه على وجه العمد، أو لأسباب واهية وثبت القصد في الامتناع.
وهذا القول ليس بمسلم شرعيا فامتناع الطبيب عن المداواة إذا كان لأسباب واهية فإنه يعتبر وجودها شبهة موجبة لدرء الحد عنه خاصة إذا تأول فيها فظن أنها مقنعة في نظرة والحقيقة أنها ليست بمقنعة، وبظنه لكونها مقنعة ينتفي فيه قصد العمد.
وأما إذا امتنع مع علمه بحصول الضرر فلا يخلو إما ألا يغلب على ظنه موت المريض أو يغلب، فإن غلب على ظنه موت المريض فلا إشكال في اعتبار ظنه شبهة مسقطة للحد،والقصد لموته منتف على هذا الوجه، وأما إذا غلب على ظنه موت المريض فلا تخلو الجراحة التي امتنع من فعلها من حالتين:
أن يغلب على ظنه عدم نجاة المريض بعدها لاستفحال المرض أو غيره فيعتبر المريض هنا في حكم الأموات، والامتناع هنا ليس فيه توقف عن بذل السبب الموجب لنجاته بإذن الله، فانتفى فيه وصف السببية الموجب للحكم بوصف الطبيب قاتلا.
أن يغلب على ظنه نجاة المريض بتلك الجراحة بإذن الله ويكون قاصدا بامتناعه موت المريض وهلاكه، وسيأتي بيان هذه الحالة.
النصيحة للمرضى: وهذا من حقوق المسلم على أخيه، وفي الحديث الصحيح: "الدين النصيحة" فالواجب على الأطباء ومساعديهم القيام بواجب النصح للمرضى فيشيروا عليهم باختيار الأصلح والأخف ضرر سواء كان ذلك في الفحص الطبي أم الجراحة، ولو كان في سبيل فوات مصلحة دنيوية لهم فما عند الله خير وأبقى، ومن صور النصح:
إذا علم أن الفحص بوسائل لا توجد عنده وتوجد عند غيره وتتحقق بها المصحة فعليه أن ينصحه بالذهاب على الغير.(1/36)
وهكذا لو كانت تلك الوسائل مأمونة الضرر ووسائله بخلافها.
إذا علم الطبيب بالبديل الذي يمكن علاج المريض به وهو أخف ضررا من الجراحة فإن عليه أن يخبر المريض بذلك.
بيان العواقب السيئة للمريض المترتبة على بعض المهمات التي يطلب من المرضى فعلها حتى يكونوا على بينة فيقدموا أو يحجموا، ومن الغش ومخالفة النصح أن يقوم الطبيب أو مساعدوه بخدع المريض وذلك بتهوين أمر الجراحة وتكاليفها بأسلوب يجذب المريض إلى فعلها مع اشتمالها على كثير من المخاطر والتكاليف المالية الباهضة، ويأثمون بتقصيرهم هذا.
حفظ عورة المريض: دلت النصوص على وجوب حفظ العورات وستر السوءات وعدم النظر إليها بدون حاجة داعية على النظر، وفي الحديث الصحيح: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" فعلى الأطباء ومساعديهم التزام هذا الأدب، فلا يجوز أن يقوموا بمطالبة المرضى رجالا كانوا أم نساءا بالكشف عن موضع العورة، إلا عند الحاجة الداعية لذلك بحيث يتعذر الفحص والعلاج.
فإذا انتهكوا هذا الأدب كان للقاضي تعزيرهم.
المبحث الثالث: المسؤولية المهنية عن الجراحة الطبية:
المطلب الأول: موجبات المسؤولية المهنية:
وهي: الأسباب التي تترتب عليها مساءلة الطبيب ومساعديه من جهة المهمات التي قاموا بها.
وهذه الموجبات هي:
عدم اتباع الأصول العلمية:
وهي الأصول الثابتة والقواعد المتعارف عليها نظريا وعمليا بين الأطباء، والتي يجب أن يلم بها كل طبيب وقت قيامه بالعمل الطبي.
وبناء عليه فإن الأصول العلمية تشمل النوعين التاليين:
العلوم الثابتة التي أقرها علماء الطب قديما وحديثا كالمواد العلمية المقررة في الجامعات والمعاهد الطبية.
العلوم المستجدة: وهي العلوم والمعارف التي يطرأ اكتشافها، فتكون حديثة عند الأطباء، فهذه تعتبر أصولا علمية مت تحقق فيها شرطان:
الأول: أن تكون صادرة من جهة معتبرة.
الثاني: أن يشهد أهل الخبرة بكفاءتها وصلاحيتها للتطبيق.(1/37)
الخطأ: كان تزل يد الطبيب الجراح أو أخصائي التخدير أو الممرض أو المصور بالأشعة والمناظير وينشا ‘ن ذلك ضرر بجسم المريض، وهذا النوع من الموجبات لا يترتب عليه تأثيم فاعله { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } لكن يلزم صاحبه بضمان ما نشأ عن خطئه.
الجهل: وهو ان يقدم الإنسان على فعل طبي جراحي دون أن يكون أهلا لفعله، وقد اتفق العلماء على اعتباره موجبا للمسؤولية فحكموا بوجوب الضمان فيه، وتأديب الشخص المرتكب له بما يوجب كفه وزجر غيره.
الاعتداء: وهو الإقدام على فعل ما يوجب الضرر بالمريض سواء بالجراحة أو بما تستلزمه من مهام كالفحص والتخدير مع قصده فيقوم الطبيب بإجراء عملية تضر المريض مع علمه بآثارها السيئة وقصده لها، أو يقوم الطبيب الفاحص بادعاء إصابة المريض بمرض يستلزم التدخل بجراحة إذا أجريت له هلك أو تضرر في جسده مع علمه بتلك العواقب السيئة وقصده لها، أو يزيد طبيب التخدير من جرعة المخدر مع علمه بأثرها السيء، فهذه الصور وأمثالها موجبة للضمان.
المطلب الثاني: إثبات موجبات المسؤولية:
أجمع أهل العلم على أن صاحب الدعوى مطالب بالدليل لكي يحكم باعتبارها إذا أنكر الأطباء ومساعدوهم تلك الدعوى.
ويعتمد القاضي في إثبات موجب المسؤولية المهنية على الأدلة المعتبرة شرعا في إثبات الحقوق وهي:
الإقرار: وهو أقوى الأدلة.
الشهادة: وتكون برجلين عدلين إذا ترتب على الحكم بها إثبات القصاص والتعزير، أما إذا كان المترتب عليه من الحقوق المالية كالضمان فإنه يقبل شهادة النسوة منفردات ومشتركات مع الرجال.
المستندات الخطية: وهي التقارير المكتوبة من قبل الأطباء ومساعديهم فتعتبر حجة في حال العثور عليها في سجلات المستشفيات، أما إذا كانت عند المرضى وأنكرها الأطباء فلا تعتبر حجة.
المطلب الثالث: الجهة المسؤولة عن الموجب:(1/38)
تعتبر الجهة المسؤولة عن الجراحة الطبية هي الجهة المتحملة عبأها، والآثار المترتبة عليها وهي المصدر الذي نشأ عنه موجب المسؤولية سواء كان ذلك عن طريق المباشرة كما في الطبيب الجراح الذي يقوم بمباشرة العمل الجراحي الخارج عن اختصاصه والذي تسبب حصول الضرر.
أو كان ذلك عن طريق السببية كما في الطبيب الفاحص الذي يقوم بإحالة المريض على مصور بالأشعة يعلم عدم أهليته للقيام بمهمة التصوير ثم ينتج الضرر عن تصويره للمريض.
وهذه الجهة المسؤولة عن الأضرار تشتمل على طائفتين:
الطائفة الأولى: الأطباء ومساعدوهم، وتشتمل على:
1- الأطباء الفاحصين 4- أخصائي المناظير الطبية.
2- أخصائي الأشعة 5- أخصائي التخدير.
3- أخصائي المختبر 6- الطبيب الجراح.
7- الممرضون والممرضات
ومسؤولية هؤلاء الأشخاص تختلف بحسب اختلاف المراحل التي تتم بها الجراحة والمهمات التي يقومون بأدائها، وبيان حدود مسؤولياتهم يتضح في الفروع الآتية:
الفرع الأول: في المسؤولين عن المراحل الممهدة للعمل الجراحي:
وتشتمل المراحل الممهدة للعمل الجراحي على خمس مراحل:
1- الفحص الطبي العام 2- الإذن بفعل الجراحة
3- تشخيص المرض الجراحي 4- الفحص الطبي الخاص بالجراحة
5- التخدير
أولا: المسؤولية عن الفحص الطبي العام:
يشتمل الفحص الطبي العام على دراسة الطبيب الفاحص لحال المريض وشكواه ثم يقوم بعد ذلك بإجراء الفحص السريري وإذا لزم الأمر قام بطلب إجراء الفحوصات الأخرى التي يستعان بها للوصول إلى معرفة المرض الجراحي.
ولا تخلو المسؤولية هنا من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن تكون المسؤولية متعلقة بالطبيب الفاحص وحده إذا كان الموجب للمسؤولية ناشئا عن فعل الطبيب الفاحص فإنه يتحمل المسؤولية عنه وحده ولا يتحمل مساعدوه من تلك المسؤولية إذا انتفت العلاقة بينهم وبين ذلك الموجب.(1/39)
ومن أمثلة هذه الحالة: أن يقدم على تشخيص المرض بالحدس والتخمين مع توفر الوسائل التي يمكن بواسطتها التأكد من وجود المرض وعدمه.
الحالة الثانية: أن تكون المسؤولية متعلقة بالمساعدين:
يتحمل المحلل للدم والبول والبراز المسؤولية الكاملة عن أي خطأ يقع في تحليله كما يتحمل المسؤولية عن الطريقة التي اختارها للوصول إلى نتائج التحليل.
وكذلك يتحمل أخصائي الأشعة المسؤولية عن طريقة التصوير وكذلك عن مقدار الجرعة الإشعاعية التي أرسلها على جسمه وما ترتب عليها من أضرار، كما يتحمل المسؤولية عن التقارير التي كتبها للطبيب وما تضمنها من نتائج، وكذلك يقال في المصور بالمناظير الطبية وغيره، فجميع هؤلاء المساعدين يتحمل المسؤولية كاملة عن مهامهم كل بحسب اختصاصه ومجال عمله، ولا يعتبر الطبيب مشاركا لهم بشرط أن يكونوا أهلا للقيام بهذه المهمة التي طلب منهم فعلها، وإعطاء التقارير الطبية المتعلقة بها.
الحالة الثالثة: أن تكون المسؤولية مشتركة بين الطبيب ومساعديه:
إذا كان الموجب للمسؤولية ناشئا عن فعل المساعد وللطبيب أثر في ذلك الموجب فإن المسؤولية تكون مشتركة بينهما، كان يحيل الطبيب الفاحص المريض على المصور بالأشعة أو المصور بالمناظير الطبية مع علمه بأن ذلك المصور ليس أهلا للقيام بمهمة التصوير بالأشعة أو المناظير فتم التصوير بطريقة لا تتفق مع الأصول المتبعة ونشأ عن ذلك ضرر بالمريض كزيادة الجرعة الإشعاعية التي أدت على تلف في الجسم، أو جرح أمعاء المريض أو أي ضرر آخر، فإن المسؤولية حينئذ تقع على المباشر للتصوير لكونه مباشرا لفعل موجب المسؤولية، وعلى والطبيب الذي أحال المريض عليه مع علمه بعدم أهليته لتسببه في إيقاع الموجب.
ثانيا: المسؤولية عن تشخيص المرض الجراحي:(1/40)
يعتبر الطبيب مؤولا وحده إذا كان الموجب للمسؤولية ناشئا عن تشخيصه ولم يكن لغيره تأثير في ذلك الموجب، كما لو ادعى إصابة المريض بداء جراحي واستند على الحدس والتخمين، أو إلى أمارات لم تثبت دلالتها على وجود ذلك الداء.
وكذلك لو بنى تشخيصه على تقارير مطابقة للحقيقة من المحلل أو المصور بالأشعة أو نحوهم وأساء فهمها، فأخطأ في تشخيصه، فإنه يتحمل المسؤولية وحده.
كما يتحمل المساعدون للأطباء في مهمة التشخيص المسؤولية وحدهم إذا كان الموجب للخطأ في التشخيص واقعا بسببهم، ولا علاقة للطبيب في ذلك الموجب الناشيء، كما إذا كان الخطأ في التشخيص مبنيا على خطأ تقارير المساعدين.
ثالثا: المسؤولية عن الإذن بفعل الجراحة:
يتحمل الطبيب الجراح المسؤولية عن موافقة المريض وإذنه بالجراحة، لأنه لا يجوز له الإقدام على الجراحة إلا بعد الإذن.
رابعا: المسؤولية عن الفحص الطبي:
يقصد من هذه المرحلة أمران هما: إثبات وجود المرض الذي يستدعي الجراحة، وصلاحية المريض لتحمل متاعب الجراحة وأخطارها.
أما الطبيب الجراح فيتحمل المسؤولية هنا دنيويا وأخرويا في موضعين:
إذا امتنع عن إحالة المريض للفحص وأجرى الجراحة دون أن يتأكد من وجود المرض الجراحي وأن المريض قادر على تحمل أخطارها.
إذا اشتملت التقارير والنتائج على ما يوجب عليه الامتناع عن فعل الجراحة كأن ينتفي وجود المرض أو أن المريض مصاب بما يحول دون نجاح الجراحة فأقدم على الجراحة دون استناد إلى ما يوجب عليه فعلها.
ويستثنى في الموضع الأول الحالات الاضطرارية التي توجب إسعاف المريض بالجراحة فورا، والتي يغلب فيها الظن هلاك المريض إذا تأخر إسعافه بالجراحة مدة الفحص، فيجوز عمل الجراحة وتسقط المسؤولية.
أما الطبيب الفاحص ومساعدوه فيتحملون المسؤولية هنا بالصورة التي سبق بيانها في الفحص الطبي.
خامسا: المسؤولية عن التخدير:
تتعلق المسؤولية في هذه المرحلة بالطبيب الجراح وأخصائي التخدير:(1/41)
أما الجراح فيتحمل المسؤولية السببية عن أهلية الشخص المخدر، لأنه لا يجوز له أن يعهد بمهمة التخدير إلى أي شخص لا تتوفر فيه الأهلية المعتبرة للقيام بهذه المهمة.
ويتحمل المسؤولية كذلك في حالة عدوله عن قرار المخدر بعدم صلاحية المريض للتخدير بناء على نتائج فحص جهاز تنفسه وقلبه، فإذا أقدم على الجراحة فإنه حينئذ يعتبر مقصرا وحكمه كما سبق بيانه في المرحلة السابقة.(1/42)