القواعد الشرعية
في
المسائل الطبية
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، أما بعد ..
فقد سألني بعض طلبة كلية العلوم الصحية المتوسطة بمدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أكتب لهم مؤلفًا مختصرًا في عشرين قاعدة فقهية يشتمل على شرح يسير لألفاظها ومعناها الإجمالي مع تذييلها بفروع تخص المسائل الطبية ، من باب رد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها ، فأعجبني ذلك جدًا لأنه وافق ما في نفسي من تدريب الطلبة على التأصيل والتقعيد ، وقطعت كل أعمالي وتفرغت التفرغ الكامل لهذه الكتابة ، ولكنهم قيدوني بالاختصار ، فأسأله جل وعلا الإعانة والإخلاص والتوفيق والسداد .
فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق :
( القاعدة الأولى )
الأصل في المنافع الإباحة
قوله : ( الأصل ) أي القاعدة المستمدة المطردة في كل منفعة .
قوله : ( المنافع ) جمع منفعة ، وهي اسم للشيء الذي ينتفع به ، أي الشيء الذي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جواز الانتفاع به ، فكل شيء فيه منفعة مباحة فإنه يدخل في قولنا : ( المنافع ) ؛ لأن الألف واللام إذا دخلت على الجمع أفادته العموم كما قرره الأصوليون .
وقوله : ( الإباحة ) أي جواز الانتفاع بها .(1/1)
ومعناها الإجمالي : أن الله تعالى برحمته وعظيم مِنَّتِهِ على عباده قد فتح لهم باب الانتفاع بما هو مباح من المنافع الموجودة على وجه هذه الأرض ، فكل ما على هذه الأرض من المنافع فإنه يجوز الانتفاع بها ، فيدخل في ذلك جواز الانتفاع بكل ما على الأرض وما فيها ، من المياه والأشجار والمعادن والتراب والأحجار والأواني والمفارش والمراكب والأطعمة والأشربة والملابس والآلات والمخترعات ، وغير ذلك مما على وجه هذه الأرض ، فكل ذلك الأصل فيه الحل والإباحة ، والأصل هو أن نبقى على هذا الأصل حتى يرد الدليل المانع من الانتفاع بشيء من هذه المنافع ، فإذا ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح بالمنع من شيء معين فإننا نمتنع من الانتفاع به ، وأما لم يرد فيه دليل بخصوصه فإن الأصل فيه الحل والإباحة .
وهذه القاعدة متفرعة عن القاعدة التي تقول : ( الأصل في الأشياء الحل والإباحة ) .
والدليل على هذه القاعدة الكتاب ، والسنة ، والقياس ، والنظر الصحيح .
فأما الكتاب ، فمن وجوه :
الأول : قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ } ، فالله تعالى سخر لنا كل شيء على وجه هذه الأرض وما فيها ، ومعنى تسخيرها لنا أي أنه يجوز لنا الانتفاع بها بسائر أنواع الانتفاع ، فمن حرم علينا شيئًا من الانتفاع بما على هذه الأرض ، فإنه يكون مخالفًا للقرآن .
وقوله : ( سخر لكم ) اللام هنا هي لام التمليك والاختصاص .
وقوله : ( جميعًا ) هي صيغة من صيغ العموم ، أي كل شيء على وجه هذه الأرض فإنه يدخل في التسخير .
الثاني : قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا } ، فكل شيء على وجه هذه الأرض مخلوق لنا ، ومقتضى ذلك أن يكون حلالاً يجوز الانتفاع به ؛ لأنه لو كان حرامًا لما كان مخلوقًا لنا ، وهذا واضح .(1/2)
الثالث : أن الله تعالى قال : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } ، فكل زينة على وجه هذه الأرض فهي حلال ؛ لأن الله تعالى أنكر على من حرم شيئًا من هذه الزينة ، فإنكاره على من حرم شيئًا منها دليل على أن الأصل فيها الحل ، وهذا واضح . ونكتفي بذلك من القرآن .
وأما من السنة ، فمن وجوه :
الأول : حديث : (( إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا من سئل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته )) متفق عليه .
ووجه الدلالة به : أن الأصل في الأشياء الحل ؛ لأنه قال : ( عن شيء لم يحرم فحرم ) أي أن الأصل فيه كان الحل ، ولكنه حرم من أجل مسألة هذا الرجل ، فالأشياء التي لم يرد تحريمها بالشرع فالأصل فيها الحل ؛ لأن الأصل عدم التحريم .
الثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الصحابة يستخدمون أشياء كثيرة في عهده من غير سبق سؤال عن حلها أو حرمتها، فكانوا يستخدمون المفارش والمراكب والأواني وغير ذلك ، ولا تكلف أحدهم أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حلها قبل الانتفاع بها ، وكان يقرهم على ذلك ، والإقرار دليل الجواز فدل ذلك على أن المتقرر في قلوب الصحابة في هذه الأشياء جواز الانتفاع بها وإقراره لهم على عدم السؤال دليل على أن المتقرر في قلبه - صلى الله عليه وسلم - هو جواز الانتفاع بها.
وأي دليل بعد هذا الدليل يفيد صحة هذه القاعدة فتبين بذلك أن كل منفعة على وجه هذه الأرض فإن الأصل فيها الحل والإباحة .
وهذه نعمة يجب أن نشكرها بقلوبنا وألسنتنا وأن نستخدمها فيما يقربنا لربنا جل وعلا حتى تدوم وتكون شاهدة لنا يوم القيامة ونافعة لنا في ديننا ودنيانا .
ويتفرع على ذلك كثير من الفروع نذكر طرفًا منها :(1/3)
فمنها : أن الأصل جواز التداوي ، ولا دليل يمنعه ، فالأصل فيه الحل والإباحة ، فإذا أصيب الإنسان بشيء من الأوجاع والأمراض فإنه يجوز له أن يتداوى منها ، وليس التداوي منها خلاف الأولى كما قاله بعض الفقهاء ، بل التداوي جائز بل قد يكون مطلوبًا في بعض الأحوال طلب وجوب أو استحباب ، فالتداوي فيه منفعة وهي إعادة هذا البدن إلى استقراره الطبيعي ، فتعود له صحته التي بها يستطيع أن يقوم بواجباته الدينية والدنيوية ، وهذه منفعة والأصل في المنافع الإباحة .
ومنها : أن الأصل جواز التداوي بكل دواءٍ موجود على وجه هذه الأرض إلا ما ورد الدليل بالمنع من التداوي به ، ففي الحديث : (( تداووا ولا تتداووا بحرام )) ، فكل الأدوية الموجودة في زماننا والتي ستكتشف - بإذن الله تعالى - يجوز التداوي بها ؛ لأن هذه الأدوية فيها منافع والأصل في المنافع الإباحة ، فيدخل في ذلك الأدوية السائلة بأنواعها ، والجامدة بأنواعها ، ويدخل في ذلك التداوي بالعمليات الجراحية، والتداوي بالأشعة بأنواعها ، والتداوي بالحجامة، وإخراج المواد الفاسدة بأنواع الاستفراغات ، والتداوي بالكي وبالفصد وقطع العضو المتآكل ، وغير ذلك من أنواع الأدوية التي لا تعد ولا تحصى ، كل ذلك الأصل فيه الحل والإباحة ؛ لأنه يشتمل على منفعة ، والأصل في المنافع الحل .
ومنها : صناعة الأدوية ، فإن الباب فيها مفتوح إلا فيما حرمه الشرع ، فصناعة الأدوية مهنة شريفة وهي نوع جهاد ؛ لأننا بهذه الأدوية نجاهد المرض والآفات القاتلة والعلل المهلكة ونحمي بها - بإذن الله تعالى - هذا الإنسان الذي كرمه الله تعالى ، فصناعة الأدوية الأصل فيها الحل ، ولا بد أن يحرص المسلمون على هذه الصناعة ، ولابد أن يكون عندنا الاكتفاء الذاتي في هذه الصناعة ؛ لأن هذه الصناعة فيها المنافع الكبيرة والعوائد الجميلة والآثار الطيبة ، وما فيه منفعة فهو حلال لأن الأصل في المنافع الحل .(1/4)
ومنها : الأصل جواز اشتمال الأدوية على أي شيء من أجزاء هذه الأرض إلا فيما حرمه الشرع ، فأي شيء على وجه هذه الأرض يصلح أن يكون مادة من مواد شيء من الأدوية فيجوز إدخاله فيه ، سواءً كان هذا الشيء سائلاً أو جامدًا ، كل ذلك لا حرج فيه والباب فيه مفتوح ، فلابد من دراسة خصائص هذه الأجزاء الحيوانية والمائية والمعدنية والنباتية وغير ذلك ، وذلك لأن كل جزء من أجزاء هذه الأرض فإنه مسخر لنا لننتفع به ، فحيث كان فيه منفعة فالأصل فيه الحل ؛ لأن الأصل في المنافع الإباحة ، لكن الواجب الابتعاد عن المشتقات المحرمة كالخمر وشحم الخنزير ونحو ذلك من المحرمات ، والله أعلم .
ومنها : الأصل جواز امتهان الطب والصيدلة ، بل هذه المهنة من أهم المهن ومن أشرف الوظائف ، فمن يزهد فيها أو يقلل من أهميتها فهو خفيف العقل لا يعرف المصالح ولا المفاسد ، فالطب فيه منافع لا يعرف تفصيلها إلا العقلاء ، والأصل في المنافع الإباحة .
ومنها : الأصل جواز التأليف في مسائل الطب ؛ لأن ذلك فيه منفعة جليلة ، والأصل في المنافع الإباحة .
والفروع كثيرة ، ولعل هذا كافٍ في فهم هذه القاعدة ، والله أعلم .
( القاعدة الثانية )
الأصل في المضار التحريم
وهي عكس القاعدة الأولى ، فكل شيء فيه مضرة فإنه ممنوع شرعًا ، فيدخل في التداوي بالأدوية الخبيثة ، كالخمر فإن هذا لا يجوز ؛ لأن الخمر أم الخبائث ، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التداوي ، وأخبر أنها داء وليست بدواء ، كالتداوي بشحم الخنزير فإنه حرام لا يجوز ، قال تعالى : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، وقال تعالى : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } .(1/5)
ويدخل في ذلك : التداوي بالنجاسات ، كالتداوي بالبول أو بالدم المسفوح كما يفعله بعض الأعراب في ضواحي نجد وبعض القبائل في أفريقيا .
ويدخل في ذلك : بالميتات أو بشيء من أجزائها ، فإن الميتة حرام ونجسة ، قال تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... } الآية .
ويدخل في ذلك : التداوي بالموسيقى ، كما يفعله بعض أطباء النفس في الغرب ومن يقلدهم من أطباء المسلمين - هداهم الله - ، فكل ذلك حرام لأنه يشتمل على ضرر محقق .
ويدخل في ذلك : التداوي بتعليق التمائم الشركية أو من القرآن ، كل ذلك حرام ، قال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) ، وقال : (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ))، وقال: (( من تعلق تميمية فقد أشرك )) ، ولما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً وفي يده حلقة من صفر قال : (( ما هذه )) ؟ قال : من الواهنة . فقال : (( انزعها عنك فإنها لا تزيدك إلا وهنًا ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدًا )) .
فالتمائم كلها حرام من القرآن أو من غير القرآن .
ويدخل في ذلك : التداوي بالذهاب إلى السحرة وإتيان الكهان والعرافين والمشعوذين ، وهذه طامة وخيمة تذهب الدين وتهلك العقيدة ، وفي الحديث : (( من أتى عرافًا أو كاهنًا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - )) .
ويدخل في ذلك : التداوي بالأعشاب الضارة المهلكة ، ولابد من الحذر من الأعشاب التي تباع عند العطارين ، فإن كثيرًا منها فيه ضرر محقق ، ونحن لا ننكر أصل التداوي بالأعشاب ، ولكن لابد أن يكون المشرف على وصفة العشب الأطباء الثقات وذووا الخبرة والدراية التامة في ذلك المجال ، وأما أن يشرف عليها من هب ودب ، فهذا هو الذي ننكره .(1/6)
ويدخل في ذلك : التداوي بما نهي عن قتله ، كالتداوي بالنملة أو الضفدع أو الهدهد أو الصرد ، كل ذلك لا يجوز التداوي به ؛ لأن التداوي به يوجب قتله ، وقد نهينا عن قتله .
ويدخل في ذلك : التداوي بما أمر الله بقتله ، كالوزغ والغراب والعقرب والكلب العقور والفأرة ونحوها، كل ذلك لا يجوز التداوي به ؛ لأننا لم نؤمر بقتله إلا لأنه خبيث وضار.
ويدخل في ذلك : التداوي بالمخدرات ؛ لأنها أم الضرر وجماعه ، فهي مشتملة على الضرر الديني والجسدي .
ويدخل في ذلك : التداوي بجراحات التجميل التحسينية بمختلف أنواعها ، وأما الجراحات الطبية الضرورية والحاجية فإنها جائزة ، وقد شرحنا هذه المسألة بأدلتها وتفاصيلها في كتاب المسائل الطبية .
وجماع ذلك أن كل شيء اشتمل على ضرر ديني أو جسدي فإنه يحرم التداوي به ؛ لأنه ضار والأصل في المضار التحريم ، والله أعلم .
( القاعدة الثالثة )
لا ضرر ولا ضرار
وهي إحدى القواعد الكلية الكبرى الخمس ، وهي أصل عظيم من أصول الإسلام ، ينبني عليها كثير من الفروع والمسائل في مختلف أبواب الفقه .
والضرر في اللغة خلاف النفع ، والمضرة خلاف المنفعة ، والضرر هو إلحاق مفسدة بالغير مطلقًا ، والضرار هو مقابلة الضرر بمثله ، أي هو مقابلة الضرر بالضرر ، أو هو إلحاق مفسدة بالغير على جهة المقابلة .
وأصلها حديث إسناده جيد له طرق يقوي بعضها بعضًا ، وهي من القواعد المتفق عليها بين العلماء .(1/7)
والمقصود بهذا النفي ما كان منه بغير حق ، أي لا يجوز الضرر بغير حق ، ولا يجوز مقابلة الضرر بالضرر بغير حق ، وأما ما كان منه بحق فلا يدخل معنا في هذه القاعدة ، ويدل عليها قوله تعالى في شأن الرجعة أي رجعة المطلقة { وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } ، وقوله تعالى في شأن المضارة بالشهود في البيع : { وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ } ، وقوله تعالى في شأن الوصية : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } ، وقوله تعالى في شأن رضاعة الطفل : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } ، وقوله تعالى في شأن سكنى المطلقة : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } ، ويدل عليها حديث : (( من ضار ضار الله به ، ومن شاق شاق الله عليه )) رواه أبو داود بسندٍ حسن ، وغير ذلك من الأدلة .
فيدخل في ذلك : النهي عن السحر ، لأن فيه ضررًا وإضرارًا بالغير بلا وجه حق .
ويدخل في ذلك : الدواء المغشوش ، لأن فيه ضررًا وإضرارًا بالغير بلا وجه حق .
ويدخل في ذلك : تطبيب الرجال للنساء ، وتطبيب النساء للرجال بلا حاجة ولا ضرورة ؛ لأن ذلك فيه ضرر محقق ومفسدة بينة من انكشاف العورات والفتنة وفساد الدين والأخلاق ، لكن إذا دعت الضرورة لذلك فلا بأس به .
ويدخل في ذلك : التداوي بالجراحة التي لا حاجة لها ولا ضرورة تدعو إليها ، لأن ذلك فيه ضرر محقق ، ولا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : انتقام الطبيب من بعض المرضى لسوء أخلاقه ، أو لأن بينهما نوع خصومة أو ثأر كما نسمعه ونقرأه في بعض الصحف ، فإن ذلك حرام ؛ لأنه إضرار بالغير بلا وجه حق .
ويدخل في ذلك : التشريح الذي لا تدعو إليه الحاجة أو الضرورة ، لأن ذلك انتهاكًا لحرمة الميت بلا وجه حق ، ولا ضرر ولا ضرار .(1/8)
ويدخل في ذلك : التداوي بما هو حرام شرعًا ، لأن ذلك فيه ضرر محقق ولا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : كذب الطبيب على المريض بشأن حالته الصحية بلا ضرورة ولا حاجة تدعو لذلك ، لأن ذلك فيه ضرر وإضرار ، ولا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : خلوة الطبيب بمن لا تحل له من الممرضات بحجة المساعدة ، وهذا حرام لا يجوز؛ لأنه لا حاجة له وضرره أعظم من نفعه ومفاسده لا تخفى ، ولا ضرر ولا ضرار.
ويدخل في ذلك : العمليات القيصرية إذا أمكن إخراج المولود من طريقه الطبيعي بحجة الاستعجال وازدحام غرفة الولادة ، فهذا حرام لا يجوز لأن فيه ضررًا وإضرارًا ، وقد تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : التبرع بالأعضاء التي توجب ضررًا محققًا أو متوقعًا في المستقبل على المتبرع بها ، فلا يجوز ذلك حتى لو وافق المتبرع ؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : مخالطة المريض مرضًا معديًا بالأصحاء ، فإنه لا يجوز لأن ذلك يوجب بقدر الله تعالى ومشيئته تعدي المرض منه إليهم ، ولا ضرر ولا ضرار .
وبناءً عليه ، فيجوز الحجر الصحي على المرضى الذين قد أصيبوا بشيء من هذه الأمراض المعدية ولاسيما إذا كانت خطيرة كمرضى فقد المناعة المسمى ( بالإيدز ) ، ومرضى الطاعون ونحوهم ، فلا بأس بالحجر عليهم ، بل يجب الحجر عليهم حماية للصحة ، لأنه لا ضرر ولا ضرار ، وفي الحديث : (( لا يورد ممرض على مصح )) حديث صحيح ، وحديث : (( إذا سمعتم به - أي الطاعون - في بلدٍ فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه )) ، فالحجر الصحي يتفرع على قاعدة لا ضرر ولا ضرار .
ويدخل فيها أيضًا : منع المتطبب الجاهل من مزاولة هذه المهنة كبعض القراء الجهلة وبعض المتطببين بالأعشاب ، وهذا واجب على ولي الأمر حفاظًا على صحة شعبته ، ومنعهم يدخل تحت قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) .(1/9)
ويدخل فيها أيضًا : جواز سحب الشهادة من الطبيب الذي صدرت منه أفعال محرمة مع مرضاه ؛ لأن بقاء هذا الطبيب فيه ضرر محقق ولا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك أيضًا: عدم تضمين الطبيب الحاذق في مهنته ما جنته يداه بلا تفريط؛ لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل ، فإلحاق الضمان به إضرار به بلا وجه حق ولا ضرر ولا ضرار .
ويدخل فيه : عدم جواز المعالجة بالأشد إذا أمكن المعالجة بالأخف ، فإذا كان الأخف يقوم مقام الأشد ويحقق المصلحة المطلوبة فإنه لا يجوز التداوي بالأشد ، لأن التداوي بالأشد هنا ضرر زائد بلا حاجة ولا ضرورة ، وقد تقرر أنه لا ضرر ولا ضرار .
ويدخل في ذلك : جواز تسعير الدخول والكشف بالنسبة للمستوصفات الخاصة المملوكة للأفراد ، فإذا كانت هذه المستوصفات عندها إفراط في أسعار الدخول والكشف وفتح الملفات وأضر ذلك بالمرضى المحتاجين لها فلولي الأمر الحق أن يفرض أسعارًا مناسبة للطرفين بلا إفراط ولا تفريط ، مع أن الأصل عدم جواز التسعير ، لكن إذا دعت إليه الحاجة والضرورة جاز ذلك ؛ لأنه لا ضرر ولا ضرار .
والفروع كثيرة ولكننا اشترطنا الاختصار ، فهذه ستة عشر فرعًا على هذه القاعدة العظيمة ، والله أعلى وأعلم .
( القاعدة الرابعة )
الضرر يدفع بقدر الإمكان(1/10)
وهذه القاعدة فرع عن القاعدة السابقة ، وهي تفيد وجوب بذل قصارى الجهد في دفع الضرر قبل وقوعه بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة ، لأن دفعه قبل وقوعه من باب الوقاية ، والمتقرر شرعًا وعرفًا وعقلاً أن الوقاية خير من العلاج ، فإن أمكن دفع هذا الضرر بلا ضرر مقابل فهو الواجب ، وإذا لم يمكن دفعه إلا بضرر فإنه يجب علينا أن نتوسل لدفعه عنا أفرادًا وجماعات بقدر الإمكان ، ولا نطالب إلا بما هو داخل تحت وسعنا وطاقتنا ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها ، وقد تقرر شرعًا أنه لا واجب مع العجز ، وقد قال - عليه الصلاة والسلام - : (( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )) ، وقال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، ودليل ذلك قوله تعالى : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } ، فقد أمر الله تعالى المؤمنين بالإعداد المستطاع للقوة لدفع ضرر الأعداء بإرهابهم وتخويفهم بذلك الإعداد وتلك القوة .
وقوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } ، فقد أجاز الله تعالى للحر أن ينكح الأمة ؛ لأنه لا يستطيع نكاح الحرة ولا يقدر على مهرها وذلك لدفع الضرر عنه بقدر الإمكان .
ويدل عليها أيضًا مشروعية الحجر على المفلس لدفع الضرر عن الغرماء ، ومشروعية الشفعة في نصيب الشريك لدفع الضرر عن شريكه ، ومشروعية الجهاد لدفع الضرر عن المسلمين وديارهم وأرواحهم وأموالهم ، ومشروعية قتل القاتل لدفع الضرر عن المجتمع حتى لا تراق فيه الدماء ، ولذلك قال الله تعالى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، ومشروعية الأكل من الميتة للمضطر لدفع الضرر عنه ، وهكذا .(1/11)
فالأدلة عليها كثيرًا جدًا ، ولكن طلبًا للاختصار ذكرناها في رؤوس الأقلام وأما فروعها الطبية فكثيرة أيضًا ، ونذكر لك منها ما تيسر ، فنقول :
منها : جواز التحصين الصحي المبكر قبل حلول المرض المتوقع ، وهو الذي يسميه الناس (التوتين) ، فهذا جائز لأنه يحصل به دفع الضرر عن الأصحاء وفيه حفظ لصحتهم وسلامتها من هذا المرض ، كالتطعيم عن الملاريا وعن الحمى وعن الطاعون وعن الجدري ، وغير ذلك من الأمراض ، فجواز ذلك استفدناه من قاعدة : ( الضرر يدفع بقدر الإمكان ) .
ومنها : جواز الإفطار للمريض الذي يشق عليه الصوم ؛ لأن الضرر لا يندفع عنه إلا بالإفطار ، والضرر يدفع بقدر الإمكان ، قال تعالى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
ومنها : جواز بتر العضو المتآكل الذي يغلب على الظن تلف باقي الأعضاء إذا لم يبتر ؛ لأن الضرر عن الجسد لا يدفع إلا بقطعه والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : جواز الحجر على مرضى الإيدز ؛ لأن الضرر لا يدفع عن المجتمع إلا بذلك ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : جواز إسقاط الجنين إذا كان في بقائه تلف لأمه ؛ لأن أمه أحق بالبقاء منه ، ولا يندفع عنها الضرر إلا بإسقاطه والضرر يدفع بقدر الإمكان ، لكن لابد من شهادة الأطباء العدول الثقات .
ومنها : جواز التداوي بلبس الحرير للرجال إذا لم يندفع ضرر المرض إلا بلبسه ، كالحكة في الجسد ونحوها من الأمراض الجلدية ، فإن الحرير يصلح أن يكون علاجًا لها ، وفي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام في قميص الحرير من حكة كانت بهما ، لأن دفع الضرر عن هذا الجسد مطلوب ولا يندفع إلا بالحرير في بعض أنواع الأمراض الجلدية ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .(1/12)
ومنها : جواز شد الأسنان للرجال بالذهب ؛ لأنه لا ينتن ، أي لا تتغير رائحته ، وقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - لعرفجة - رضي الله عنه - أن يركب أنفًا من ذهبٍ لأن أنفه قطع يوم الكلاب ، وهذا من باب التداوي بالمحرم ، لكن أجازه الدليل فيكون مخصوصًا ولا يقاس عليه غيره من المحرمات ؛ لأنه لا يخرج من الدليل العام إلا ما خصه الدليل فقط ، فهذا الذهب يحصل به اندفاع الضرر ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : أن المستحاضة يجوز لها أن تصلي بالوضوء وإن نزل الدم بعده ولو قطر على الأرض ، وإنما عليها أن تغسل فرجها وتشده بشيء وتتوضأ لوقت كل صلاة وتصلي في هذا الوقت ما شاءت من النوافل ، ولا يجب عليها الوضوء مرة أخرى إلا إذا دخل وقت الصلاة الأخرى ، ذلك لأن إلزامها بالوضوء لكل صلاة ولكل نافلة فيه ضرر عليها ، والضرر يدفع بقدر الإمكان ، فدفعت الشريعة الضرر عنها بجواز صلاتها مع خروج حدثها .
ومنها : أن المريض يصلي على حسب حاله إن كان يستطيع الوضوء وجب عليه ، فإن لم يستطع فليتمم وإن لم يستطع فليصل على حسب حاله ولا شيء عليه ؛ لأن في تكليفه ما لا يستطيعه ضرر عليه ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : أنه يجوز الانتقال إلى التيمم حتى ولو كان الماء موجودًا إذا كان في استخدامه زيادة المرض أو تأخر الشفاء ؛ لأن ذلك أي زيادة المرض وتأخر الشفاء ضرر ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : أنه يجوز للمريض أن يصلي ولو لغير القبلة إذا كان في توجيهه لها ضرر عليه ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : أن المريض يجوز له أن يصلي ولو كان متصلاً بالأنابيب التي تصرف البول إذا لم يستطع إبعادها عنه أو كان في إبعادها ضرر عليه ، فليصل وهي متصلة به ولا شيء عليه ولا إعادة عليه ؛ لأنه يتضرر بإبعادها والضرر يدفع بقدر الإمكان .(1/13)
ومنها : جواز منع الزيارة لأقارب المريض إذا كان في زيارته ضرر عليه ، وهذا يرجع إلى تقدير الطبيب ، ومنعهم هذا ليس فيه ظلم لهم ، بل فيه رحمة للمريض ومراعاة لحاله ؛ لأن زيارتهم قد توجب زيادة مرضه ، فإذا كان في زيارة بعض المرضى ضرر فإنها تمنع ؛ لأن الضرر يمنع بقدر الإمكان .
ومنها : منع الأطفال من الزيارة ، لأنهم يفسدون ولا يصلحون ، ويحدث منهم الضوضاء والإزعاج ، وقد يتضررون لبعض العدوى لضعف المناعة عندهم والضرر يدفع بقدر الإمكان .
ومنها : جواز الكذب على المريض إذا كان في إخباره بالحقيقة ضرر عليه ، فإن بعض المرضى قد لا يتحمل الحقيقة ، فمراعاة لحالته الصحية يجوز للطبيب أن يكذب ، وهذا ضرورة وحاجة يجوز معها الكذب ، مع أن الأصل المنع ، ولكن يجوز منه ما تحصل به المصلحة ؛ لأن الصدق أحيانًا قد يوجب شيئًا من زيادة المرض أو تأخر الشفاء ، والضرر يدفع بقدر الإمكان .
وعلى ذلك فقس ، والله أعلى أعلم .
( القاعدة الخامسة )
الضرر يزال
…هذه لا داعي لشرحها ؛ لأنها بعينها قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) ولكنها اختلفت معها في العبارة فقط ، وإلا فهي لا تختلف في معناها ولا في أدلتها ولا في فروعها ، فالاكتفاء بأحد التعبيرين كافٍ .
…وبناءً عليه ، فلا تعتبر هذه قاعدة جديدة ، بل هي بعينها القاعدة الثالثة ( لا ضرر ولا ضرار ) وعلى ذلك جرى التنبيه ، والله أعلم .
( القاعدة السادسة )
الضرر لا يكون قديمًا(1/14)
…أي أن الضرر تجب إزالته مطلقًا ، ولو كان زمن حدوثه قديمًا ، فإن الضرر حتى ولو كان قديمًا تجب إزالته ، ولا يجوز لأحدٍ أن يبقيه احترامًا لقدمه ، حتى ولو حدث من قرنٍ فلابد من إزالته الآن ، فمتى ما تحققت القدرة على إزالته وجب علينا ذلك ولو تقادم عهده ، ولا يأتينا أحد ويقول : كيف تزيلونه وقد مرت عليه السنون والسنون ، فإن هذا قول لا نأبه به البتة ، بل يجب أن يزال ولو مرت عليه ألف سنة ، فقد أزال النبي - صلى الله عليه وسلم - الأوثان التي حول الكعبة وهي قد نصبت من قديم الزمان ، ومع ذلك أزالها لأن بقاءها حول الكعبة ضرر محض ، ولم يقل : لا تزال لقدمها ، بل أزالها لأن الضرر لا يكون قديمًا ، ولما هاجر إلى المدينة ووجدهم يعظمون أيامًا لم يرد الشرع بتعظيمها أزال ذلك ونهاهم عن هذا التعظيم ، وقال : (( قد أبدلكم الله يومين ، يوم الفطر ويوم الأضحى )) ، فاستجابوا لذلك ولم يقولوا إن تعظيم هذه الأيام كانت في آبائنا وأجدادنا ، لأنه يعلمون أن الضرر لا يكون قديمًا .
…وبذلك نعرف خطأ كثير من الكتاب وأنصاف المثقفين لما أزال الأفغان أوثانًا قديمة قد نحتت في الجبال يعظمها السفهاء ويذبحون عندها ويحيون بها سنة الجاهلية ، أنكر عليهم الكثير والكثير وقالوا : هذا محاربة للتراث وهدم لأركان السياحة ومعرفة الماضي ، وهذا جهل وحماقة من هؤلاء المنكرين ، بل الحق ما فعله الأفغان ؛ لأنه إزالة لآثار الجاهلية وطمس لمعالم الشرك والوثنية ، ولأن الضرر لا يكون قديمًا .(1/15)
…ولذلك فقد أبطل القرآن في مواضع كثيرة حجة المشركين الشيطانية على بقائهم على شركهم بحجة أنهم وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم ، قال تعالى : { بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ . وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } .
وذلك دليل على أن العادات والأعراف القديمة التي تتوارثها الأمم إذا كانت مخالفة للدليل فإنه يجب تركها وإزالتها ولا حجة بأنها قديمة لأنها ضرر والضرر لا يكون قديمًا ، فمن أبقى ضررًا واحترمه ولم يزله لأنه قديم وقد جد في الأزمنة الماضية فهو أحمق أخرق جاهل مخالف للأدلة من الكتاب والسنة والإجماع .
وأما فروع هذه القاعدة في المجال الصحي فهي كما يلي :
…منها : وجوب تصحيح بعض النظريات الموجودة في بعض كتب الطب ، كالنظرية التي تزعم أن الإنسان كان في مبدئه قردًا ثم تطور إلى إنسان ، فإن هذه النظرية كفرية إلحادية مناقضة للقرآن وللإجماع ، فالواجب إزالتها من المقررات والاجتهاد في ذلك ، وللأسف أنها وإلى وقت قريب لا زالت تدرس في كلية الطب ، ولكنها أزيلت ولله الحمد والمنة بجهود ولاة الأمر من الأمراء والعلماء والغيورين من أهل الدين والصلاح ، ولا تزال هذه النظرية الفاجرة الآثمة تدرس من جيل إلى جيل ولا يتجرأ أحد أن يناقش فيها لأنها قديمة ، ولكن أزيلت لأنها ضرر ، والضرر لا يكون قديمًا ، بل الواجب إزالته ، ول كان عمره عمر نوح ، والله أعلم .(1/16)
…ومنها : وجوب تطهير الأنهار مما يصب فيها من مجاري الأقذار المفتوحة عليها والتي تلوثها حفاظًا على صحة أهل البلد الذين يشربون من هذه الأنهار ، ولا يجوز لأحدٍ أن يقول : إن هذه المجاري قد فتحت من قديم لأن بقاءها مفتوحة على النهر ضرر بيِّن بأهل البلد فلابد من إزالته ولا عبرة بكونها قديمة ؛ لأن الضرر لا يكون قديمًا .
…ومنها : وجوب إتلاف الأدوية المصنعة قديمًا والتي تثبت بالاكتشاف الحديث أنها تحمل في تركيبتها شيئًا من الأضرار المنافية للصحة ، ولا عبرة بكونها من المكتشفات القديمة ؛ لأن الضرر لا يكون قديمًا .
…ومنها : وجوب قطع الأشجار التي يكون بقاؤها إضرارًا بالصحة ، أعني التي في شوارع المسلمين ، فإن هذه الأشجار زرعت في وقت لم يكتشف فيه أنها مضرة وموجبة لبعض الأمراض ، فإذا اكتشف ذلك فإنه يجب إزالتها ولا عبرة بكونها قد زرعت من قديم ؛ لأن الضرر لا يكون قديمًا .
…ومنها : وجوب الحجر على المتطبب الجاهل دفعًا للضرر عن أرواح الناس ، كما يحجر على القاضي الجاهل والمفتي الجاهل وهكذا ، ولا عبرة بأن هذه المهنة قد ورثها كابرًا عن كابر ؛ لأن بقاءه في هذه المهنة ضرر متحقق ، والضرر لا يكون قديمًا .(1/17)
…ومنها : وجوب تعديل بعض الأنظمة الطبية المقررة في السابق إذا كان في بقائها ضرر على الأطباء أو المرضى أو سير الحالة المرضية ، وذلك كالتعقيد في بعض الأنظمة الروتينية التي لا فائدة من ورائها والتي يمكن الاستغناء عنها ، وكإزالة بعض الأنظمة التي تحول بين إدخال المريض المحتاج للمستشفيات المتطورة طبيًا ، فإن دخول هذا المريض لهذه المستشفيات يكون معجزة في بعض الأحيان ؛ لأن هناك أنظمة تحول دون ذلك ، فالواجب إزالة هذه الأنظمة لأن بقاءها ضرر ، ولا عبرة بكونها أنظمة قديمة ؛ لأن الضرر لا يكون قديمًا ، لاسيما وأنها من كلام البشر الذي لا يحمل صفة القداسة ، فلابد أن تكون هذه الأنظمة خاضعة لتغير الأحوال والظروف والأزمان فتدخل تحت قاعدة : ( تغير الأحكام بتغير الأزمان ) .
ولعل القاعدة اتضحت بذلك - إن شاء الله تعالى - ، والله أعلى وأعلم .
( القاعدة السابعة )
الضرر لا يزال بمثله
…وهذه القاعدة أيضًا من القواعد المتفرعة عن قاعدة : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
…وبيانها أن يقال : لقد تقرر بالدليل وجوب إزالة الضرر ، فكل ضرر فإنه يجب أن يزال إلا أنه يجب علينا أن لا نزيل الضرر لضرر مثله ، ولا بأشد منه من باب أولى .
…وبناءً عليه ، فإن إزالة الضرر إن كانت ممكنة لا حدوث ضرر أصلاً فهذا هو الواجب ، وإن لم تمكن إزالة الضرر إلا بضرر أخف فهذا هو الواجب ، وأما إذا لم تمكن إزالة الضرر إلا بضرر مساوي فإنه يجب التوقف ، وكذلك إذا كانت إزالة الضرر توجب ضررًا أشد من باب أولى ، فصارت الحالات أربع :
…الأولى : أن يدفع الضرر بلا ضرر ، فهنا تجب إزالته .
…الثانية : أن يزال الضرر بضرر أخف ، فهنا تجب إزالته .
…الثالثة : أن يزال الضرر ويخلفه ضرر مثله ، فهنا لا تنبغي إزالته .
…الرابعة : أن يزال الضرر ويخلفه ضرر أشد منه ، فهنا تحرم إزالته .(1/18)
…فالضرر يزال في حالتين ولا يزال في حالتين ، فيزال بلا ضرر أو بضرر أخف منه ، ولا يزال بضرر مساوٍ له أو بضررٍ أشد منه ، وهذا واضح - إن شاء الله تعالى - .
…والدليل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابيًا قام فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( دعوه ، وأهريقوا على بوله سجلاً من ماءٍ أو ذنوبًا من ماءٍ ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )) ، فنهاهم عن القيام إليه وزجره لما في قيامه وهو يبول من انتشار النجاسة في أكثر من بقعة في المسجد ، ولأنه ربما ينفر من الدين ويرتد ؛ لأن النفوس تبغض من أساء إليها ، ولأنه لو احتبس بوله بعد خروجه لكان في ذلك ضرر عيه ، والضرر لا يزال بمثله .
…ومن الأدلة أيضًا : أن اليهود كانوا يدخلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : السام عليك يا محمد ، فيقول لهم : (( وعليكم )) ، فقالوها ذات مرة وعائشة عنده فقالت : وعليكم السام واللعنة . فقال - عليه الصلاة والسلام - : (( يا عائشة عليك بالرفق فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ... )) الحديث ، فنهى عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك القول وعن هذا اللعن ؛ لأنه من باب دفع الضرر بالضرر ، والمتقرر أن الضرر لا يزال بمثله ولا بأشد منه .
…ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسكت عن بعض المنافقين ولا يتعرض لهم بشيء مع أن بقاءهم في دولة الإسلام ضرر ، لكن حتى لا يتحدث أن محمدًا يقتل أصحابه ويؤذيهم ، فيكون في ذلك تنفير للناس عن الدخول في الإسلام ؛ لأن الضرر لا يزال بمثله ، فكيف بأشد منه ، ومن الأدلة عليها حديث : (( أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك )) حديث صحيح .
…والأدلة عليها كثيرة ، وأما فروعها فنذكر منها ما يخص المجال الصحي فنقول :(1/19)
…منها : أنه لا يجوز إجراء العمليات التي يغلب على الظن عدم نجاحها التي قد تؤدي إلى هلاك المريض أو تلف بعض أطرافه أو ذهاب بعض حواسه ؛ لأن الضرر - الذي هو المرض الحاصل - لا يدفع بضرر مثله ، الذي هو هذه العملية التي غلب على الظن عدم نجاحها ، وبناءً عليه فلا يجوز إجراء العملية إلا إذا علمنا جزمًا نجاحها أو غلب على ظننا ذلك .
…ومنها : أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء التي يحتاجها المتبرع في جسده لأنه سيدفع ضرر المريض بضرر نفسه والضرر لا يزال بالضرر .
…ومنها : أنه لا يجوز صرف دواءٍ لمريض بسبب علة فيه إذا كان هذا الدواء يحدث فيه علة أخرى كالعلة التي فيه أو أشد ؛ لأن الضرر لا يزال بمثله .
…ومنها : أنه لا يجوز الذهاب للسحرة والكهان والعرافين بقصد العلاج عندهم ؛ لأنهم لا يعالجون إلا بذبح التوحيد ولابد ، فإنهم يأمرون المريض بأفعال شركية كالذبح لغير الله أو السجود لهم أو سب الدين أو البول على المصحف أو كتابته بدم الحيض ونحو ذلك من الأفعال التي يعجز اللسان عن الكلام بها ، فالذهاب لهم للعلاج لا يجوز لأنه دفع للضرر بضرر مثله ، بل بضرر أشد منه ، والضرر لا يزال بالضرر .
…ومنها : أنه يجوز في هذه الأزمنة مع تقدم المخترعات الطبية شق بطن المرأة الميتة الحامل لاستخراج جنينها إذا كانت حياته مرجوة ، وهذا الشق يتم بالطرق الحديثة ويعاد مرة أخرى وكأن شيئًا لم يحدث ، فليس فيه انتهاكًا لحرمة الميت ، بل فيه إنقاذ لحياة معصومة ، ولا يجوز التفريط في ذلك ، فلابد من دفع الضرر عنه بهذا العمل ؛ لأنه دفع للضرر بضرر أخف ، وليس هو من باب دفع الضرر بضرر مساوٍ حتى نمنعه ، والله أعلم .(1/20)
…ومنها : أن ما يعرف بقانون إنهاء حياة المريض والذي يعمد بموجبه الطبيب إلى القضاء على مريضه بحقنة أو جرعة زائدة من الدواء يقصد بذلك إراحته التامة ، وهذا عمل إجرامي لا يجوز لأنه ليس له مسوغ شرعًا ، بل هو قتل للنفس المعصومة بلا وجه حق ، وهذا ضرر بحد ذاته ، بل هو ضرر عظيم لا يطاق ، ولو حصل هذا الأمر بإذن المريض فإنه يعتبر انتحارًا - والعياذ بالله تعالى - ، فإزالة الضرر عن هذا المريض الذي طال مرضه واشتد وجعه بمثل هذه الطريقة الآثمة هو من باب إزالة الضرر بالضرر ، والمتقرر أن الضرر لا يزال بالضرر .
…ومنها : أنه لا يجوز للمرأة أن تتناول حبوب منع نزول دم الحيض إذا خافت من نزوله قبل الطواف إذا كان استخدامها يوجب لها ضررًا محققًا ، فحيضها قبل الطواف ضرر عليها في التأخير ، وتناول هذه الحبوب ضرر ، والمتقرر أن الضرر لا يزال بالضرر .
ولعل هذه الفروع كافية في فهم هذه القاعدة ، والله أعلم .
( القاعدة الثامنة )
الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف
…وهي من القواعد الكلية المتفرعة عن قاعدة : ( لا ضرر ولا ضرار ) .
…ومعناها : أنه إذا تعارض ضرران فإننا ننظر أيهما أعظم ، فإذا عرف الأعظم والأشد منهما فإننا نحاول أن ندفعه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً حتى وإن استلزم من دفعه ارتكاب الضرر الأخف ، فإنه إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما ، لأن الشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المصالح وتقليلها ، وإذا تعارض شران فإنه يختار أهونهما ويرتكب لدفع أشدهما ، فأخف الضررين مقدم وأهون الشرين مقدم ، وهذا من باب مراعاة أعلى المصالح بتفويت أدناهما ، ومن باب ارتكاب أدنى المفاسد لاجتناب أعلاهما .
…ودليلها حديث أبي هريرة المتقدم في بول الأعرابي في المسجد ، فيدخل في ذلك جواز شق بطن الميتة الحامل إذا رجي سلامة جنينها ؛ لأن ذلك من باب دفع الضرر الأشد بالضرر الأخف .(1/21)
…ويدخل فيه أيضًا : جواز تناول الأدوية التي فيها شيء من السموم إذا كان الغالب من استعمالها السلامة .
…ويدخل فيه أيضًا : جواز التخدير لإجراء عملية جراحية ، مع أن الأصل فيه المنع لأن فيه ضررًا ظاهرًا ، ولذلك فلا يعمد له الأطباء إلا في مواضع الضرورة وبقدر الحاجة فقط ، لكن يتحمل ضرره إذا كان فيه دفعًا لضرر أشد ؛ لأن الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
…ويدخل فيه أيضًا : جواز بتر العضو الذي يكون فيه بقائه ضرر عام على الجسد .
…ويدخل فيه أيضًا : جواز إسقاط الجنين الذي يكون في بقائه ضرر محقق على أمه ، فإن الضرر الحاصل عليه أهون من الضرر الذي سيصيب أمه، والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف.
…ويدخل تحته أيضًا : أنه يجوز للمرأة أن تأكل مانع الحمل إذا كان الحمل يضر بها إضرارًا متحققًا حتى ولو كان في تناوله شيء من الضرر ؛ لأن الضرر الحاصل بالحمل أعظم وأشد ، والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
…ويدخل تحته أيضًا : جواز استعمال سائر الحقن الطبية مع أن فيها وخزًا للجسد وهذا ضرر ، ولكن يقصد بها دفع ضرر الألم ، وهو أشد والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
…ويدخل فيها أيضًا : جواز استئصال الرحم إذا كان في بقائه مفسدة إذا قرر ذلك الأطباء الحاذقون المهرة الثقات مع أن إخراج ذلك من جسد المرأة فيه ضرر ، لكن يقصدون به دفع ضرر أشد ، والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
…ويدخل تحته أيضًا : جواز كشف ما تدعو الضرورة إلى كشفه من الضورة لضرورة العلاج مع أن كشفها ضرر ، لكن يقصد به دفع ضرر أشد والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
…ويدخل تحته أيضًا : جواز الختان ؛ لأن بقاء هذه الجلدة فيه ضرر شديد ، وقطعها فيه ضرر خفيف لاسيما إذا لم يختتن إلا في زمن الكبر ؛ لأن الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .(1/22)
…ويدخل تحته أيضًا : أن الكافر إذا أسلم غير مختون وخيف من ختانه هلاكه أو ردته على عقبيه فإنه يترك ختانه ، لأن كفره مرة أخرى أو تلف نفسه أعظم ضررًا من بقاء هذه الجلدة ، والضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف .
ولعل هذا كافٍ في فهم هذه القاعدة ، والله أعلى وأعلم .
( القاعدة التاسعة )
إذا تعارضت مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما
ومثلها قاعدة : ( إذا تعارض مصلحتان روعي أعلاهما بتفويت أدناهما ) .
ومعناها أن يقال : الأصل عدم ارتكاب المفاسد ، والأصل عدم ترك المصالح ، لكن أحيانًا تتعارض المفاسد أي لابد من ارتكاب أحدهما ولابد ، وأحيانًا تتعارض ، أي لابد من تفويت أحدهما ولابد ، فما العمل حينئذٍ ؟(1/23)
والجواب أن نعمل بمضمون هاتين القاعدتين ، وهو أنه عند تعارض المفاسد فإننا نراعي أشدهما وأعلاهما بارتكاب أدناهما ، وإذا تعارضت المصالح فإننا نراعي أعلاهما وأعظمهما بتفويت أدناهما ، وكل ذلك يدخل تحت قاعدة : ( الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ) ، كإقامة الحدود مثلاً كقطع يد السارق ، فإنه عند النظر في هذا الأمر قد يقول قائل : إن فيه مفسدة قطع اليد ، وهذا ضرر على السارق ، ولكن يقال له : إن في إقامة هذا الحد من المصالح أكثر من هذه المفسدة ، فإن فيه الأمن العام للناس جميعًا على أموالهم ، فقطعًا لدابر المفسدة الكبرى التي هي ذهاب الأمن وانتشار الخوف ارتكبنا هذه المفسدة الصغرى وهي قطع يده ، ولذلك أفتى الفقهاء بجواز رمي الكفار الذين تترسوا بالمسلمين حتى وإن أدى هذا الرمي إلى قتل هؤلاء المسلمين ؛ لأننا لو تركنا الكفار وما يريدون لغزو بلادنا وانتهكوا أعراضنا وأراقوا دماءنا ، فتركهم فيه مفسدة كبرى ، ورميهم فيه مفسدة صغرى ، وإذا تعارضت المفاسد راعينا الكبرى بارتكاب الصغرى ، ولذلك نهى الله تعالى المسلمين عن سب آلهة المشركين لأن سب آلهة المشركين يفضي إلى سب المشركين لربنا جل وعلا وهذا مفسدة كبرى ، وترك سب آلهتهم فيه مفسدة صغرى ، والمفسدة الكبرى هي التي لابد أن تراعى بارتكاب المفسدة الصغرى وهذا واضح .
وأما فروعها المتعلقة بالمجال الصحي ، فأذكر لك بعضها ، فأقول :
منها : المنع من استعمال الدواء الخبيث ؛ لأن مضرته راجحة على مصلحته من منفعة العلاج لقيام غيره مقامه ، ولأن البرء منه غير متيقن ، فيدخل في ذلك شرب الخمر للدواء فإنه لا يجوز لأن مفسدتها أعظم .
ومنها : جواز إجراء عملية الزائدة المتضخمة مع أنه يلزم منها التخدير الكامل وشق جانب البطن ، وهذه مفسدة ، ولكننا ندفع بذلك مفسدة أكبر وهي مفسدة تلف النفس والهلاك ، وإذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما .(1/24)
ومنها : جواز إجراء التطبيب للمرأة من الرجل والعكس إذا لم يمكن غير ذلك ؛ لأن هذا فيه دفع لمفاسد عظيمة ؛ لأنه لو ترك المريض وحالته المرضية ولم يعالج منها لحصلت بذلك الأضرار الكبيرة والمفاسد الكثيرة ، فنتحمل مفسدة تطبيب الرجال للنساء ، والنساء للرجال إذا لم يكن إلا ذلك دفعًا للمفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى .
ومنها : إن من الناس من قد أصيب بمرض اشتداد الشهوة المفرطة وهو الذي يسميه الفقهاء بـ ( الشبق ) وهو الاضطرار لإخراج المني حتى إنه لو لم يخرجه لانفضخت خصيتاه ومات ، فإذا تحقق ذلك في شخصٍ فإنه يجوز له إخراجه بيده إذا لم يكن عنده زوجة ولا مهرًا يتزوج به ، بل يجوز له الجماع حال صومه ويقضي من أيام أخر ؛ لأنه مضطر لإخراج منيه ، بل يجوز له جماع زوجته حال حيضها إذا لم يكن عنده زوجة أخرى ولم تندفع ضرورته إلا بالوطء في الفرج مع أن هذا كله فيه مفاسد ، لكن أجزنا له أن يرتكبها دفعًا لمفسدة أعظم وهي مفسدة الهلاك وإذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما .
ومنها : أن المحب العاشق مريض وهو وإن كان يحب النظر والاستمتاع بصورة محبوبه وكلامه فليس دواؤه في أن يعطي نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك لأنه مريض والمريض إذا اشتهى ما يضرع أو جزع من تناول الدواء الكريه فأخذتنا به رأفة عليه حتى نمنعه شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه ، فيزداد سقمه فيهلك ، فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات ولا يعان على ذلك ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التي تزيل مرضه ، بل الرأفة أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريهًا وأن يحمى عما يقوي داؤه ويزيد علته وإن اشتهاه لأن الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الذي ترامى به إلى الهلاك والعطب ، ومن المعلوم ألم العلاج أيسر وأخف من ألم المرض الباقي ، والله أعلم .
( القاعدة العاشرة )
يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام(1/25)
نعم ، لأن الضرر الخاص أخف من الضرر العام ، فالضرر العام أشد ، وقد تقرر لنا سابقًا أن الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف ، وخفة الضرر وشدته تكتسب من عدة أشياء ، ومن ذلك عمومه وخصوصه ، فالضرر الخاص أخف ، والضرر العام أشد ، فإذا تعارض ضرران أحدهما عام والآخر خاص ، فإننا نراعي الضرر العام بارتكاب الضرر الخاص ، وهذا يستدل عليه بكل الأدلة التي ذكرناها سابقًا ، ويتفرع على ذلك جواز حجر المرضى في مكان خاص إذا كانت أمراضهم معدية وخطيرة ؛ لأن مخالطتهم للناس توجب ضررًا عامًا وحجرهم ضرر خاص، والضرر العام مقدم على الضرر الخاص .
ويدخل فيه أيضًا : منع زيارة بعض المرضى لضرورة علاجهم ، ويدخل فيه منع الأطفال من الزيارة إذا أوجبت زيارتهم ضررًا عامًا على المرضى ، فيمنعون حتى وإن بكوا تقديمًا للضرر العام على الضرر الخاص .
ويدخل فيه : جواز تشريح من مات بمرضٍ مفاجئ غير معروف وخيف من انتشاره في البلد وأراد الأطباء معرفة حقيقة هذا المرض ليتم مدافعته بالطرق العلاجية المشروعة مع أن التشريح فيه ضرر لكنه خاص ويراد به دفع ضرر عام ، ويحتمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام .
ويدخل فيه : جواز سفر بعض الأطباء لبلاد الكفر لتعلم تخصص لا يمكن تعلمه في بلاد المسلمين ، مع أن سفرهم قد يكون فيه ضرر عليهم ، لكنه يحتمل من أجل المصلحة المترتبة عليه ؛ لأن هذا المرض لو انتشر في بلاد الإسلام ولم يوجد من يعرف علاجه لعم الضرر وانتشر الفساد والضرر الخاص يتحمل من أجل دمغ الضرر العام .
ويدخل فيه أيضًا : جواز تخدير موضع الألم في الجسد حتى يخف الألم عن سائر الجسد ؛ لأن ألم البعض ضرر خاص وألم الكل ضرر عام ، والضرر الخاص يتحمل لدفع ضرر عام .(1/26)
ويدخل فيه : قلع السن الملتهب الذي لا فائدة في علاجه لدفع ضرره عن سائر الأسنان وعن سائر الجسد من الصداع ونحو ذلك ، مع أن قلعه فيه ضرر خاص من التخدير وفراغ مكانه وألم القلع معروف ، لكن كل ذلك نتحمله من أجل دفع الضرر العام .
وعلى ذلك فقس ، والله أعلم .
( القاعدة الحادية عشرة )
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح
ودليلها قوله تعالى : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، ففي هذه الآية نهى الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين أن يسبوا أوثان المشركين لأنه علم أنهم إذا سبوها نفر الكفار عن الإسلام وازدادوا كفرًا بسبهم لله تعالى ، فسب آلهتهم مصلحة ، وسب إلهنا مفسدة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - أنه قال : (( رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا )) ، وذلك لأن التفرغ الكامل للعبادة والإثقال على النفس بالإكثار منها قد يوجب للعبد الانقطاع بالكلية ، فدفعًا لهذه المفسدة نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل وهو الانقطاع عن أسباب الدنيا من النكاح ، وطلب المعاش .
وفي الصحيح من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بهدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم - عليه السلام - وأن يجعل لها بابين ، باب يدخل الناس منه ، وباب يخرجون منه ، ولكن منعه من ذلك أنهم حديثوا عهد بجاهلية ، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن فيه مفسدة تغلب المصلحة المطلوبة منه ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
وأدلتها كثيرة ويتفرع عليها عدم جواز العمليات التي ضررها أعظم من نفعها كعمليات التجميل التحسينية ، فإنها وإن كانت تحقق مصلحة إلا أن مفاسدها أعظم والأخطار التي تحف بها كثيرة ، ودرء المفاسد مقدم على جل المصالح .(1/27)
ويدخل فيها : عدم جواز خلوة الطبيب بالممرضة ، بحجة أنها تعينه ؛ لأن خلوته بها مفسدة متحققة عظيمة ، وإعانتها له مصلحة خفيفة يقوم بها الرجال ، فذلك ممنوع وهو حرام ؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
ويدخل فيه أيضًا : نهي المريض عن الطهارة بالماء إذا كان استخدامها يضر به ، وينتقل للتيمم ؛ لأن الطهارة المائية فيها تحصيل مصلحة وتركها فيه تحصيل درء مفسدة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
ويدخل فيه أيضًا : منع المريض من الصيام إذا كان الصيام يزيد في علته ، ويجب عليه الاستجابة لذلك ، لأن الصيام فيه تحصيل مصلحة وتركه فيه درء مفسدة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
ويدخل فيه أيضًا : وجوب ترك الغذاء المعين إذا قرر الطبيب أن استعماله يزيد في الحالة المرضية ولا يجوز للمريض تناوله ما دام الطبيب يمنعه منعًا مؤكدًا من ذلك ؛ لن أكله فيه مصلحة إشباع النفس من الطعام الذي تشتهيه وتركه فيه درء مفسدة زيادة العلة ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والله أعلى وأعلم .
( القاعدة الثانية عشرة )
المشقة تجلب التيسير
( القاعدة الثالثة عشرة )
الأمر إذا ضاق اتسع
وهما قاعدتان معناهما واحد وأدلتهما واحدة وفروعهما واحدة .
وبيانهما أن يقال : إن الأصل هو أن يقوم العبد بكل ما أوجب الله تعالى عليه ، ولكن قد يعرض للإنسان حالة لا يستطيع فيها أن يقوم بكل الواجب أو ببعض الواجب ، ويشق عليه ذلك ، فإذا حصل ذلك فإنه يخفف عليه إما تخفيف إسقاط وإما تخفيف بدل ، قال تعالى : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } ، وقال : { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا } ، وقال : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } ، وقال : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } .(1/28)
وقال - عليه الصلاة والسلام - : (( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه )) ، وقال : (( بعثت بالحنيفية السمحة )) ، وقال : (( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )) وقال: (( فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين )) ، وفي الحديث : (( ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا )) .
وقد ذكر الشاطبي وغيره إجماع أهل العلم - رحمهم الله تعالى - على أن الحرج مرفوع في هذه الشريعة ، وقال تعالى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .
ويدل عليها الأدلة الدالة على العذر بالخطأ والنسيان والإكراه ، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى ، فإذا حل العسر في فعل فإنه يصحب باليسر دائمًا ، وإذا ضاق الأمر على العبد وثقل عليه فإنه يتسع بالتخفيف ولله الحمد والمنة ، وفروعها كثيرة جدًا .
فمن ذلك : أن المريض الذي يعجز ع بعض واجبات الصلاة فإنها تسقط عنه ، وإذا كان يعجز عن بعضها فإنه يسقط عنه القدر الذي يعجز عنه .
ومن ذلك : جواز الصلاة قاعدًا إذا شق عليه الوقوف ، لحديث : (( صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جنب )) .
ومن ذلك : جواز التيمم للمريض الذي يشق عليه التطهر بالماء .
ومن ذلك : أن المريض الذي يشق عليه الصيام فإنه يجوز له الفطر .
ومن ذلك : أن من أصيب بمرض لا يرجى برؤه فإنه يفطر ويطعم عن كل يومٍ مسكينًا.
ومن ذلك : أن الحج بالنفس يسقط عن المريض الذي لا يستطيع الركوب ، وله أن يقيم بدله بماله من يحج عنه ويعتمر .
ومن ذلك : أن المريض الذي لا يستطيع الطواف ماشيًا فله أن يطوف راكبًا أو محمولاً .
ومن ذلك : أن المريض الذي لا يستطيع الرمي بنفسه فإنه يوكل من الحجاج من يرمي عنه .
ومن ذلك : أن المريض الذي لا يستطيع تطهير ثيابه يجوز له أن يصلي بها ولو كان عليها شيء من النجاسات .(1/29)
ومن ذلك : أن الجهاد لا يجب على الأعمى ولا على الأعرج ولا على المريض لأنهم يعجزون عنه ويشق عليهم قال تعالى : { لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } .
ومن ذلك : أنه يجوز لمن به أذى من رأسه أن يغطيه ، ولكن عليه الفدية ، لحديث كعب بن عجرة .
ومن ذلك : أن المريض لا يقام عليه الحد حتى يبرأ خوفًا من السراية .
ومن ذلك : أن الحامل لا يقام عليها الحد حتى تضع خوفًا من هلاك الجنين .
ومن ذلك : جواز إجراء الجراحة الطبية ولو بلا إذن المريض إذا حصل الضيق والحرج وحلت الضرورة ؛ لأن الأمر إذا ضاق اتسع .
ومن ذلك : سقوط وجوب حضور الجمع والجماعات عن المريض الذي يشق عليه ذلك .
ومن ذلك : جواز الجمع بين الصلاتين بسبب المرض إذا كان يشق عليه صلاة كل وقت في وقته وعلى ذلك حديث حمنة .
ومن ذلك : جواز الصلاة لغير القبلة إذا كان في توجيهه إليها حرج وعسر ومشقة وضيق .
ومن ذلك : أن المغمى عليه لا إثم عليه في إخراج الصلاة عن وقتها ، ولكن يجب عليه إذا أفاق أن يصلي ما فاته من الفروض ، هذا إذا كانت مدة الإغماء قليلة عرفًا وهي بمقدرة ثلاثة أيام .
ومن ذلك : جواز الجمع للطبيب الجراح إذا لم يستطع إقامة الصلاة في وقتها بسبب الاشتغال بالعملية الجراحية .
ومن ذلك : جواز ترك المبيت بمنى بلا فدية إذا كانت حالة المريض تستلزم نقله إلى مستشفى آخر خارج حدود منى .
والأمثلة لا تكاد تحصر ، وقد التزمنا الاختصار ، ولعل هذه الفروع كافية في فهم هاتين القاعدتين ، والله أعلم .
( القاعدة الرابعة عشرة )
الضرورات تبيح المحظورات(1/30)
أي أنه إذا حصلت الضرورة لاستخدام شيء من المحرمات ولم يمكن الاستغناء عن ذلك فإنه يجوز له استعمال هذا المحرم ، ولكن ليس هذا على إطلاقه ، بل هو مقيد بالقاعدة الخامسة عشرة التي تقول : ( الضرورات تقدر بقدرها ) ، أي أنه لا يحل له من الحرام إلا المقدار الذي تندفع به ضرورته فقط ، فإن زاد على ذلك فإنه آثم معتدٍ عاصٍ ، قال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ، وقال تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وقال تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، والتجانف للإثم والبغي والعدوان معناه مجاوزة القدر الذي ترتفع به الضرورة ، فلا يتوسع باستخدام المحرم ، بل يقتصر على القدر الذي تزول به الضرورة ، فالمضطر إلى أكل الميتة إنما يجوز له تناول القدر الذي تزول به ضرورته فقط ، والمضطر لدفع الغصة يجوز له أن يشرب - أي من الخمر إذا لم يجد إلا هو - بالقدر الذي تندفع هذه الضرورة ، والمضطر لوضع الجبيرة إنما يجوز له أن يضع القدر الذي يتحقق به التجبير فقط ، ونظر الطبيب للمريضة أو عورة المريض للضرورة جائز ، ولكن ذلك لا يبيح النظر مطلقًا ، بل بالقدر الذي تندفع به تلك الضرورة ، وشق البطن لإجراء العملية يجوز للضرورة ، ولكن لا يشق إلا القدر الذي ترتفع به هذه الضرورة فقط ، فلا يتوسع في الشق لأن ذلك لا ضرورة فيه ، والأصل فيه التحريم والمنع ، والأصل في التخدير المنع ، لكن إذا دعت إليه الضرورة فإنه يجوز منه القدر الذي تندفع به هذه الضرورة ، وهذا واضح .
فهما قاعدتان متلازمتان ، إحداهما تفيد جواز المحرم حال الاضطرار إليه ، والأخرى تفيد المقدار الذي يباح منه ، ولذلك جمعناهما في موضع واحد ، والله أعلم .
( القاعدة السادسة عشرة )
ما جاز لعذرٍ بطل بزواله(1/31)
( القاعدة السابعة عشرة )
إذا زال المانع عاد الممنوع
وهما بمعنى واحد ، وبيانهما أن يقال : لقد ذكرنا سابقًا أن الأصل في المحرم تحريم الفعل ، فلا يجوز لك أن تفعل شيئًا من المحرمات ، لكن إذا اضطررت إلى شيء من المحرمات فيجوز لك منه القدر الذي تندفع به هذه الضرورة حتى تزول هذه الضرورة ، ثم ماذا ؟ أقول : ثم يعود حكم الحرام إلى حكمه الأول ؛ لأنه إنما جاز فعله بسبب العذر وهو الضرورة ، فإذا زالت هذه الضرورة زال الجواز ، لأن الحرام إنما جاز للضرورة ، وقد زالت الضرورة فيعود الفعل إلى حكه السابق ؛ لأن ما جاز من الحرام لعذرٍ فإنه يبطل بزواله ، وإذا زال المانع فإن المحرم يعود إلى حكمه الأول ، فالمحرم الذي أباحته الضرورة لا يأخذ صفة الاستمرار على الإباحة ، بل متى مازالت الضرورة رجع الحكم إلى أصله وهو الحرمة ، فالإباحة هنا طارئة لا أصلية ، فإذا زال العذر الذي من أجله جاز الفطر عاد الحكم إلى وجوب الصوم ، وإذا زال العذر أي من أجله جاز التيمم عاد الحكم إلى وجوب الوضوء ، وإذا زال العذر الذي من أجله جازت الصلاة قاعدًا و على جنب عاد الحكم إلى وجوب الوقوف ، وإذا زال العذر المسوغ للجمع عاد الحكم إلى وجوب صلاة كل وقتٍ في وقتها ، وإذا زال العذر المجيز لنظر الطبيب للمريضة أو للعورة عاد الحكم إلى تحريم النظر وإلى تحريم كشف العورة ، وإذا قرر الأطباء عملية لمريض ثم شفاه الله تعالى من عنده قبل إجرائها حرم إجراؤها ؛ لأن إجراءها جاز لعذر وقد زال العذر ، فيعود الحكم إلى أصله وهو المنع وإذا زال العذر الذي بسببه جوزنا له الصلاة لغير القبلة عاد الحكم إلى أصله وهو وجوب الاستقبال ، وهكذا في سائر الفروع ، ولعل هذا كافٍ في توضيح القاعدتين ، والله أعلم .
( القاعدة الثامنة عشرة )
الاضطرار لا يبطل حق الغير(1/32)
لأن الاضطرار وإن كان في بعض المواضع يقتضي تغيير الحكم من الحرمة إلى الإباحة كأكل الميتة ، إلا أنه على كل حال لا يبطل حق الآخرين ، وإلا كان من قبيل إزالة الضرر بالضرر ، وهذا غير جائز .
فبناءً عليه ، لو اضطر لأكل طعام غيره فإنه بعد زوال الاضطرار يجب عليه أن يدفع قيمة ما أكل أو عليه ضمان مثله إن كان مثليًا ، ولو أكره إنسان على إتلاف مال غيره اضطرارًا فإنه لا يسقط حق هذا الغير ، بل على المتلف الضمان أو يضمنه المكرِه - بالكسر - .
وهذه القاعدة من باب إقامة العدل بين العباد ، فما أتلفتَه من مال غيرك حال اضطرارك فإنه يجب عليك ضمانه ، فلو صال عليه حيوان محترم كجمل أو ثور فقتله فإنه يضمنه بمثله أو بقيمته ، ولو استأجرتَ قاربًا فخضت به البحر فاضطرك الموج إلى النزول عنه فتلف ، فإنك تضمن هذا القارب بالمثل أو بالقيمة ، ولو أشرفت السفينة على الغرق فألقيت متاع غيرك فإنك تضمن هذا المتاع لأن اضطرارك للنجاة لا يبطل حق غيرك ، وهكذا .
وأما فروعها في مجال الصحة فنقول :
منها : القول الصحيح الذي لا يجوز القول بغيره هو أنه لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن مريض بحجة أن هناك مريض آخر مضطر لها ؛ لأن الحق فيها للأسبق ، وضرورة المتأخر لها لا يسقط استحقاق الأول لها ؛ لأن الضرورة لا تسقط حق الغير ، وهذا واضح .(1/33)
ومنها : ازدحام المرضى على دخول المستشفيات ومن الأحق بالتقديم ، وهذه مسألة دخل عليها فساد كبير بسبب حرمان من يستحق وتقديم من لا يستحق لأن عنده شفاعة كبيرة لا يستطيع أحد أن يردها ، ونقول في ذلك : إن المريض الأسبق هو الأحق بهذا السرير إن كان مضطرًا له ، والمريض الثاني إن كان مضطرًا فإنه ينتظر حتى يفرغ له سرير آخر ، ومجرد كونه - أي المريض الثاني - مضطرًا لا يسقط ذلك حق المريض الأول في التقديم ؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وكل شفاعة أفضت إلى تأخير من حقه التقديم أو تقديم من حقه التأخير فإنها شفاعة آثمة سيئة ، والله أعلم .
ومنها : دخول غرفة العمليات ، فإن الأحق فيها للمضطر الأسبق ، فلو كان هناك مريض مضطر آخر فإنه لا حق له في أن يتقدم على المريض الأول ، لأن كليهما مضطر إلى هذه العملية ولكن تميز الأول بالأسبقية ، ولا حق لأحد أن يشفع في تقديم هذا على هذا ؛ لأن هذه الشفاعة تتضمن تقديم من حقه التأخير وتأخير من حقه التقديم ، فضرورة المريض الثاني لا تسوغ إبطال حق المريض الأول بالتقديم ؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .
ومنها : من المعلوم أن مرضى الربو والصدر يحتاجون إلى أخذ الأوكسجين ، والعادة الغالبة في كثير من المستشفيات والمستوصفات الصحية أنه لا يتوفر عندها إلا القليل من ذلك ، فإذا تزاحمت أعداد المرضى المحتاجين إلى أخذ ذلك فإنه يقدم الأول فالأول ، لأن الأول مضطر له الثاني مضطر له ، ولا حق لأحدٍ لا طبيب ولا شافع أن يحابي أحدًا لضرورته على حساب ضرورة مريض آخر لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .(1/34)
ومنها : أن هناك بعض أنواع العلاج لا توجد إلا في بلاد الغرب ، والدولة - وفقها الله تعالى لكل خير - سباقة لتسفير المرضى المحتاجين للعلاج في الخارج على حسب الأحقية والأسبقية، فإذا اضطر عدد من المرضى للسفر للعلاج في الخارج فإننا نقدم الأسبق فالذي بعده، فالأسبق مضطر والثاني مضطر، فلا حق لأحدٍ أن يقدم التالي على السابق من أجل محاباة أو قرابة أو معرفة؛ لأنه بذلك يسقط حق الأول، ولا حجة بأن الثاني مضطر، لأننا سنقول: والأول مضطر أيضًا ، وضرورة الثاني لا تسقط ضرورة الأول ، لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .
ومنها : الإخلاء الطبي ، فإذا احتاج عدد من المرضى لهذا الإخلاء ولم يمكن الجمع بينهم فإنه يقدم الأول فالذب بعده ، ولا حق لدخول الشفاعات هنا ، بل الأحق للأسبق على غيره ، وضرورة المريض الثاني للإخلاء الطبي لا تسقط أحقية المضطر الأول ؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وعلى ذلك فقس ، والله أعلى وأعلم .
( القاعدة التاسعة عشرة )
لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير إلا بإذنه
وذلك لأن في التصرف بدون إذنٍ اعتداء على حقوق المالك ، وعدم الجواز هنا شامل لجميع أنواع التصرف من استعمالٍ أو إعارة أو إيداع أو إجارة أو صلح أو هبة أو بيع أو شراء أو رهن أو هدم أو بناء ، وهذا من حقوق الناس فيما بينهم .
وهي قاعدة عظيمة توجب حفظ الحقوق واحترامها ، وتوجب احترام الذات ، ولا تصلح الدنيا إلا بها لأنه لو جاز للآخرين أن يتصرفوا فيما تملكه بغير إذنك لفسد نظام العالم، فلابد من أخذ الإذن قبل تصرفك في ملك غيرك فلا يجوز لأحد أن يعتدي على أحد فيتصرف في ملكه بغير إذنه فإن هذا ظلم وجور وهو محرم شرعًا .
ويدخل في ذلك فروع كثيرة والذي يخصنا منها هنا ما يتعلق بالمجال الصحي ، وتتضح أهمية هذه القاعدة في المجال الصحي بالكلام على عدة مسائل :(1/35)
الأولى : أنه لا يجوز إجراء العملية الجراحية إلا بإذن المريض ، وهو المعمول به عندنا ، بل وفي كل المرافق الصحية ، فلابد من إذن الشارع أولاً في فعل هذه الجراحة بأن لا تكون جراحة محرمة شرعًا ولابد من أخذ إذن المريض ثانيًا إذا أمكن ذلك ، لأن هذا حقه ولا يجوز لأحدٍ أن يتصرف في بدنه إلا بإذنه .
الثانية : ينقسم الإذن إلى قسمين : إذن مطلق وإذن مقيد .
فالإذن المطلق : هو أن يقول المريض للطبيب : ( أذنت لك أن تفعل أي جراحة يحتاج إليها لعلاجي ) ، وهذا النوع من الإذن يطلبه الأطباء في حال خوفهم من وجود أمراضٍ جراحية أخرى يفاجئون بها بعد مباشرتهم للعمل الجراحي ، فيحتاطون لذلك بأخذ الإذن المطلق من المريض قبل تخديره لأنهم يعلمون أنهم لا يستطيعون أخذ الإذن منه بعد ذلك .
والإذن المقيد : أن يقول لهم : ( أذنت لكم أن تفعلوا هذه الجراحة المعينة فقط ) ، وهذان النوعان معتبران شرعًا لأنه لا فرق في الإذن على وجه الإطلاق أو على وجه التقييد ما دام أن المأذون به جائز شرعًا .
الثالثة : لابد في اعتبار الإذن من الأهلية ، فإذا كان المريض بالغًا عاقلاً رشيدًا فإنه لابد من إذنه هو بنفسه بحيث لو امتنع من الإذن مع سماح أقربائه بذلك ، فإن سماحهم غير معتبر شرعًا لأنه لابد من صدور الأذن منه بنفسه ، لأنه أهل للإذن .
وبناءً عليه ، فالصغير والمجنون والمعتوه لا يعتبر إذنهم وإنما المعتبر هو إذن أوليائهم .
الرابعة : لابد في اعتبار الإذن من الاختيار ، فلو صدر الإذن من مكره عليه فإنه غير معتبر ؛ لأن الإكراه رافع للتكليف ، ولابد أن تكون صيغة الإذن صريحة غير محتملة ولا موهمة ، ويكتفى من الأخرس الكتابة والتوقيع ، أو أن يشير إشارة تفهم - من غير احتمال - أنه آذن بذلك .(1/36)
الخامسة : اعلم أنه يستحب للمريض إذا طلب منه الإذن بفعل الجراحة المستوفية للشروط الشرعية أن يأذن بذلك ، لأن حياة المؤمن وصحته كلها خير ولأن الأمر بالتداوي يستفاد منه الاستحباب ، فلا يحسن به أن يتعجرف ويتشدد فيما يعود عليه ضرره .
السادسة : اعلم أن هذا الاستحباب يرتقي إلى مرتبة الوجوب في الحالات الجراحية الضرورية التي يخاف من عدمها هلاك النفس ، فالإذن فيها واجب ولو أبى ولم يأذن بفعلها فمات فهل يكون قاتلاً لنفسه ؟ فيه خلاف ، والراجح أنه لا يكون قاتلاً لنفسه ، وذلك لأن الشفاء بالجراحة من ذلك المرض ليس أمرًا مقطوعًا به كالأكل من الميتة للمضطر .
السابعة : اعلم أن هذا الإذن يسقط في الحالات الإسعافية الضرورية كأن يكون المريض مهددًا بالموت أو تلف عضوٍ من أعضائه إذا لم يتم إسعافه بالعملية الجراحية فورًا ، ولا تسمح حالته الصحية بأخذ الموافقة ، فإذا لم يكن أخذ الإذن ممكنًا ، ولم يكن انتظار إفاقته ممكنًا ، فإن الطبيب يقدم على فعلها ولا حرج ، وهذا هو المتفق مع الأصول الشرعية والقواعد المرعية .
الثامنة : لا يجوز قطع العضو إلا بأخذ الإذن ؛ لأن هذا تصرف في ملك الغير ، فلا يجوز ذلك إلا بإذنه .
التاسعة : لا يجوز قلع سن ملتهب إلا بإذن صاحبه ؛ لأن هذا تصرف في ملك الغير ، فلا يجوز ذلك إلا بإذنه .
العاشرة : لا يجوز سحب الدم من رجل إلى آخر إلا بإذن الأول ؛ لأنه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه .
الحادية عشرة : لا يجوز أخذ شيء من أعضاء الميت - إن قلنا بجواز ذلك - إلا بإذنه ؛ لأن هذا نوع تصرف في ملك ، ولا يجوز ذلك إلا بإذنه .
الثانية عشرة : لابد من إخبار المتبرع بالدم بالقدر الذي سيؤخذ منه ، حتى يؤخذ إذنه في ذلك - دفعًا للنزاع والاختلاف - لأنه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه .(1/37)
الثالثة عشرة : لا يجوز أخذ عينة من جسم المريض لفحصها إلا بأخذ الإذن المسبق منه ، فإن إذن بذلك وإلا فلا يجوز أخذ شيء منه لأنه لا يجوز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه .
وعلى ذلك فقس والله أعلم .
( القاعدة الموفية للعشرين )
الجواز الشرعي ينافي الضمان
والمراد بالجواز الشرعي ، أي الإذن المطلق من الشارع ، ومعنى الضمان : أي تحمل المسؤولية والغرم المالي تعويضًا عن ضرر غيره .
ومعناها الإجمالي : أن الإنسان لا يؤاخذ شرعًا إذا لم يفرط في خطأ حصل منه في شيء أذن له الشارع أن يفعله ، فإذن الشارع يدفع الضمان ويرفع المؤاخذة ، لكن لابد من شرط هو عدم التفريط .
وهذه القاعدة يدخل تحتها في المجال الصحي عدة مسائل :
الأولى : أن التلف الحاصل في يد الطبيب الماهر الحاذق خطأ من غير تفريط ولا إهمال ، غير مضمون البتة ، لأن الشارع والمريض أجازوا له فعل هذه الجراحة أو فعل ذلك الأمر العلاجي ، فحيث أجاز له الشارع ذلك فلا ضمان عليه فيما حصل من التلف بلا تفريط لأن الجواز الشرعي ينافي الضمان ، ولابد من ذلك وإلا لتعطلت مصالح كثيرة وحصلت مفاسد لا تحصى ؛ لأن كل طبيب سيخاف على نفسه من الضمان فلا يقوم على فعل شيء من أمور العلاج .
الثانية : المتطبب الجاهل يضمن مطلقًا ، أي سواءً فرط أو لم يفرط لأن مزاولته لهذه المهنة بلا علم هو عين التفريط والخطأ والتساهل ، وفي الحديث : (( من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن )) ، فدل ذلك الحديث على أن الطبيب الجاهل ملزم بضمان ما نتج عنه طبه ، ويفهم منهم بدلالة المفهوم أن الطبيب العالم الحاذق الذي عرف منه الطب قبل ذلك أنه لا ضمان عليه ، قال ابن رشد : (( لا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه معتدٍ )) .(1/38)
الثالثة : لو كان الطبيب عالمًا حاذقًا ماهرًا في صنعة الطب ولكنه لم يتقيد بالأصول الطبية وتساهل في تطبيقها فنتج من ذلك ضرر أو تلف فإنه ضامن ما جنته يداه لأنه منسوب للتساهل والتفريط .
الرابعة : لو أن الطبيب وصف العلاج من غير كشفٍ مسبق وإنما وصف الدواء على حسب وصف المريض لمرضه وأخطأ الطبيب في ذلك فإنه يضمن هذا الخطأ لأنه مفرط في وصفه للدواء بلا سابق كشف .
الخامسة : إذا أجريت العملية لمريض بإذنه من قبل الطبيب الماهر العارف وأخذ الطبيب بكل الإجراءات اللازمة وبذل قصارى جهده في إنجاح العملية ولم يقصر طرفة عين ، ولكن قدر الله أن مات المريض أو تلف شيء من أعضائه فإنه لا ضمان على الطبيب ، لأنه مأذون له شرعًا ومأذون له من قبل المريض بإجراء هذه العملية ولا ينسب إلى تساهل ولا إلى تفريط ، والجواز الشرعي ينافي الضمان .
السادسة : إذا كان هناك عارف بأمور العلاج بالأعشاب ومعروف بذلك ، ومعروف بحذقه ونباهته ودرايته وخبرته القديمة، وجاءه مريض ووصف له الدواء هذا وحصل منه تلف ما، فإن هذا الطبيب غير مؤاخذ على القول الصحيح ، وقد أفتى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - بذلك ، لكن يشترط أن يكون الواصف للدواء معروفًا بخبرته في هذا المجال ؛ لأن هذا الوصف يجوز شرعًا وما جاز شرعًا فإنه لا ضمان فيه ؛ لأن الجواز الشرعي ينافي الضمان .
السابعة : إذا أعطى المريض الصيدلي ورقة العلاج المصروف له من قبل الطبيب العارف الماهر ، ثم سلم الصيدلي الدواء المكتوب في الورقة للمريض واستخدمه المريض وحصل بذلك تلف فإنه لا ضمان على الصيدلي ؛ لأن هذا هو عمله وليس الصيدلي مأمورًا بأن يباشر الكشف بنفسه ، اكتفاءً بكشف الطبيب واعتمادًا على خبرته السابقة ، فلا ضمان على الصيدلي البتة ؛ لأن صرف الدواء جائز شرعًا والجواز الشرعي ينافي الضمان ، ولكن يضمن الصيدلي التلف في حالتين :(1/39)
أحدهما : إذا صرف الدواء ابتداءً من غير سابق كشف وحصل التلف فإنه يضمن لأنه تدخل فيما ليس هو من شأنه وهذا تساهل منه وتفريط .
الثانية : إذا غير الدواء المكتوب في الورقة بدواءٍ آخر خطأ أو ظنًا منه أن الدواء الثاني يقوم مقام الدواء الأول ، أو غير مقدار ما يتناوله المريض من الدواء .
فإذا حصل من الصيدلي شيء من ذلك فإنه يضمن بلا شك لأنه منسوب للتساهل والتفريط ، والله أعلم .
( القاعدة الحادية والعشرون )
الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة
أقول : اعلم رحمك الله تعالى أن مراتب ما يحرص الشرع على توفيره للإنسان ثلاث :
الأولى : الضرورات ، وهو بلوغ الإنسان حدًا إذا لم يتناول الممنوع عنده لهلك أو قارب ، وهذا يبيح تناول الحرام .
الثانية : الحاجة ، وهي بلوغ الإنسان حدًا لو لم يجد ما يأكله لم يهلك غير أنه يكون في جهدٍ ومشقة ، فهذا لا يبيح الحرام .
الثالثة : الكماليات أو التحسينيات ، وهي ما يقصد من فعله نوع من الترفه وزيادة في لين العيش ، لكن دون الخروج عن الحد المشروع .
فإذا كان هناك حاجة عامة لمجموع من الناس أو خاصة بشخصٍ ما ، فإن هذه الحاجة تنزل منزلة الضرورة في جواز الترخيص والتوسع ورفع الحرج والمسامحة وعدم المؤاخذة ، لاسيما إذا كان المنع مبدؤه سد الذريعة ، ولكن من المعلوم أن الحاجة لا تجيز كل ما تجيزه الضرورة ، هذا لا يقوله أحد ، ولكن الحاجة تجيز بعض ما تجيزه الضرورة لا كل ما تجيزه الضرورة .
ويستفاد منها في المجال الصحي في عدة مسائل :(1/40)
منها : جواز العمليات الحاجية والتي لا تصل إلى مرتبة الضرورة ، والجراحة الحاجية هي الجراحة التي لو لم تفعل لحصل الضيق والحرج على الشخص ، فهو لا يطلب بها حسنًا زائدًا وإنما يطلب بها إزالة ذلك الضيق والحرج الحاصل ، كإزالة التشوهات التي حصلت بسبب حريق مثلاً أو حوادث سيارات ونحو ذلك ، أو كإزالة أصبع زائدة ، أو يد زائدة ، أو سن زائدة تضر بالفم وعملية المضغ ، أو كتصحيح الأنف الأعوج الذي من شأنه أن يضر بعملية التنفس ، أو كشد الجفون المتهدلة التي من شأنها إعاقة الرؤية ، أو سحب الدهون من الشخص البدين والتي من شأنها أن تسبب كثيرًا من الأمراض كالسكر والضغط وزيادة الدهون في الدم ، أو تعديل حول في العين يمكن إصلاحه بلا ضرر ، أو كعملية زرع الشعر للمرأة إذا كانت صلعاء بلا شعر، أو كعملية إصلاح الأصابع بإقامتها إذا كان فيها انحناء خلقي يضر بعمل صاحبها بها، وكعملية تخفيف الثديين إذا كانا كبيرين جدًا بحيث يضرا بعمود المرأة الفقري بسبب عدم التوازن لوجود الثقل من الأمام ، أو كعملية رتق الشفة المنشقة بسبب حادث أو حريق وغير ذلك ، فكل ذلك تدعو الحاجة له ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة ، وقد تقرر في الشرع بالإجماع رفع الحرج .
ومنها : أنه يجوز للمحرم المريض الذي لا يستطيع الرمي إلا بكلفةٍ زائدة أن يوكل من يرمي عنه من الحجاج ولا يجب عليه الرمي بنفسه مع أنه لو أراد الرمي لقدر عليه لكن بنوع كلفة ومشقة وحرج زائدين عن العادة ، فهو محتاج لغيره أن يرمي عنه فكأنه شرعًا مضطر لذلك لأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة .
ومنها : أنه يجوز للمحرم أن يحلق شعر رأسه إذا كان يتضرر ببقائه ولكن مع الفدية كأن يكون كثير القمل مثلاً وهذا من باب تنزيل الحاجة منزلة الضرورة .(1/41)
ومنها : جواز التداوي بثوب الحرير للرجال المرضى الذين يحتاجون لهذا الثوب لحكة في أجسادهم مع أنه حرام على الرجال، لكن تحريمه يذهب بسبب الحاجة ؛ لأنها منزلة الضرورة.
ومنها : جواز شد الأسنان التي يخاف سقوطها بالذهب تفريعًا على هذه القاعدة ، فالحرير والذهب من الحرام الذي تجيزه الحاجة ، وقد تقرر في القواعد أن الحرام الذي تجيزه الحاجة يجوز التداوي به ، وأما الحرام الذي لا تجيزه إلا الضرورة الملحة فقط كالخمر والميتة والخنزير ونحوها فإنه لا يجوز التداوي به ، وهذه من قواعد أبي العباس شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - .
ومنها : جواز إجراء عملية تفريج الأصابع الملتصقة بالخلقة أو بسبب الحريق ، مع أنها لو بقيت ملتصقة لما كان هناك ذهاب نفس ولا تلف طرق ، ولكن يحصل بهذا الالتصاق الضيق والحرج لصاحبها والحرج مرفوع ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة .
ومنها : جواز الاحتفاظ بدم الآدميين في بنوك الدم ؛ لأن ذلك صار من الحاجة الملحة في هذا الزمان ، فكم حصل به من نجاة آدمي كما هو معلوم ، والحاجة تنزل منزلة الضرورة .
ومنها : جواز التداوي بالصعق الكهربائي بالقدر المحتاج إليه ؛ لأن ذلك ثبت طبيًا نفعه وليس من التعذيب بالنار المنهي عنه شرعًا ، وذلك صار من الحاجات في هذا الزمان والحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة .
ومنها : ما يعرف بأطفال الأنابيب ، فإن منها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع ، والجائز منها فقط أن تؤخذ بذرة الزوج وتحقن في الموضع المناسب من مهبل زوجته أو رحمها تلقيحًا داخليًا ، فهذه جائزة ، والدليل على جواز الحاجة والمصلحة المترتبة عليها ، وهذه الحاجة قد أنزلها أهل العلم منزلة الضرورة لهذه القاعدة التي نحن بصدد شرحها .
( القاعدة الثانية والعشرون )
تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة(1/42)
إنه لا صلاح للعالم إلا إذا كان يرجع في أموره إلى واحدٍ ، وهذا الواحد هو الإمام الأعظم ، وقد فرض الله طاعته وقرن طاعته بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } .
وقد وردت الأحاديث في وجوب طاعته والتي ليس هذا مجال ذكرها ، إلا أن طاعته مقيدة بما إذا أمر بما لا يخالف الشرع كما هو إجماع أهل السنة ، وهو مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وقوله : ( الرعية ) أي سائر الناس في بلاده ، وحدود نفوذه ، فواجب الإمام علينا هي طاعته والنصيحة له وعدم الخروج عليه بقولٍ أو فعل .
وحقنا عليه أن لا يتصرف علينا بأمر ولا نهي إلا على حسب ما تقتضيه المصلحة العامة والخاصة ، فلا مدخل للشهوة والهوى والرغبات في تصرفاته على رعيته ، بل تصرفه على الرعية منوط - أي معلق - بتحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها .
فيجب عليه وجوب عين أن يراعي المصالح والمفاسد في رعيته حتى تستقيم أمورهم فلا يبغي أحد على أحد وهكذا .
وهذا الأمر وإن كنا نفقده في كثير من أئمة هذا الزمان إلا أن الخير موجود ولا يزال بعض الأئمة يسعى جاهدًا في ليله ونهاره بما يعود نفعه على البلاد والعباد ، وحقهم علينا أن ندعو لهم بالصلاح والإعانة والتوفيق والسداد .
وهذه القاعدة لها مجال واسع جدًا في المسائل الصحية ، ويبرز ذلك في فروع :
منها : طاعته في الحجر الصحي على بعض المرضى إذا كانت المصلحة تدعو إلى الحجر عليهم ، فهذا أمر يجب طاعته فيه ولا تجوز مخالفته ؛ لأن فيه مصلحة وما كان فيه مصلحة فإنه تجب طاعته فيه .(1/43)
ومنها : جواز التسعير على المستشفيات الخاصة إذا كانوا يغالون في الأسعار وهذا من باب تحقيق المصالح الخاضعة لنظر الإمام ، فإذا رأى الإمام أن المصلحة هي التسعير فله ذلك ، ويجب طاعته في ذلك ، لكن ينبغي أن يكون ذلك تسعير عدل لا وكس فيه ولا شطط .
ومنها : جواز منع بعض الأطباء من مزاولة المهنة إذا رأى أن المصلحة هي منعه ، فإن هذا من حقوقه التي يجب طاعته فيها .
ومنها : جواز منع بعض الأدوية من الدخول في بلاده إذا رأى أن المصلحة هو منع هذا النوع من الدواء .
ومنها : جواز التوتين العام إذا نزل بالبلد وباء وخيف من انتشاره بين أفراد شعبه ، فله أن يلزم بالتوتين الوقائي ويجب على الناس طاعته في ذلك .
ومنها : جواز إغلاق بعض المرافق الصحية التي لا تلتزم بأصول الطب والتي فسادها أكثر من صلاحها ، وهذا من خصائص الإمام ويجب طاعته في ذلك لأنه مصلحة ، وتصرف الإمام منوط بها .
ومنها : جواز إيقاف بعض القراء إذا صدر منهم ما يخل بالقراءة الشرعية إذا نوصحوا ولم يلتزموا بذلك دفعًا للمفسدة الناشئة عن استمرارهم ، ويجب على الراقي طاعة ولي الأمر في هذا الإيقاف ، وعلى ذلك فقس .
* * *
فهذا ما يتعلق بشرح القواعد منا شرحها مع قيدها بفروع مناسبة للمجال الصحي ، وهذه الفروع التي ذيلنا بها هذه القواعد ليست من باب الحصر وإنما هي من باب ضرب المثال فقط ، وقد كتبناها في يومين متتاليين ، فعسى أن أكون قد وفقت في شرحها والتفريع عليها ، والفضل فيها إنما هو لله وحده عز وجل ، فالحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا ، والحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه .
وأرى أنه من تمام الفائدة أن نذكر خلاصة الترجيحات الفقهية المتعلقة ببعض المسائل الطبية مقرونة بقواعدها من باب تدريب الطلاب على رد الفروع إلى قواعدها ، فأقول :(1/44)
القول الراجح : هو أن موت الدماغ لا يعد موتًا ولا تترتب عليه أحكام الموت ؛ لأن الأصل المتبقي هو حياة المريض ، والموت مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك ، ولأن حياته قد كانت في الماضي فهي كائنة الآن ؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وقد تقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل .
والقول الراجح : أن الأصل في التداوي الجواز ؛ لأنه يتحقق منه مصلحة والشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها .
والقول الراجح : تحريم التداوي بالتميمية من القرآن ؛ لأن الأدلة الواردة في شأن منع التمائم عامة ، والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد المخصص .
والقول الراجح : أن لبس السوار لعلاج الروماتيزم لا يجوز احتياطًا قياسًا على المنع من لبس الحلقة والودع ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وفي يده حلقة من صفر فقال : (( انزعها ... )) الحديث ، فالسوار هذا كهذه الحلقة ، والأصل أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات .
والراجح : أن المريض العاجز عن الماء والتراب يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه ؛ لأنه لا واجب مع العجز ، ومن الأصول المقررة شرعًا : ( رفع الحرج ) .
والراجح : أن حديث : (( لا عدوى )) نفي للاعتقاد الذي كان سائدًا في الجاهلية من أن العدوى تنتقل بذاتها بدون تقدير سابق ، وهذا هو المنفي ، وأما العدوى انتقالاً بسبب مخالطة العليل بقدر الله تعالى فإنها مثبتة ، لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن ، فالعدوى ابتداءً منفية، والعدوى انتقالاً مثبتة .
والراجح : أن توبة أصحاب الأمراض الميئوس منها صحيحة إذا توفرت شرط صحتها كمرضى الإيدز والطاعون وأنفلونزا الدجاج ونحو هذه الأمراض ، فإذا تاب منها قبل غرغرة روحه فإنها تعتبر توبة صحيحة .
والراجح : جواز استطباب المريض عند الطبيب الكافر للحاجة والمصلحة ؛ لأن الأصل في المنافع الحل ولا يمنع منها شيء إلا بدليل .(1/45)
والراجح : جواز استخدام الطيب لتطهير الجروح إذا احتيج إليه ولو كان فيه نسبة يسيرة من الكحول .
والراجح : أن من حدثه دائم كالمستحاضة ومن به سلسل البول أو تفلت الريح أو الغائط فإنه يغسل المحل ويشده بخرقة ويتوضأ لو كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه بعد ذلك ما دام في الوقت ؛ لأن إلزامه بالوضوء لكل خارج منه فيه مشقة وعسر والمشقة تجلب التيسير .
والراجح : جواز استخدام حبوب منع الحمل إذا كانت لا تضر المرأة وأذن زوجها بذلك ، لأن الأصل الجواز وعلى المانع الدليل .
والراجح : أن التبرع بالدم مبطل للصيام قياسًا على الحاجة ، والمتقرر أن القياس الصحيح حجة شرعية .
والراجح : تحريم سائر العمليات الجراحية التحسينية ؛ لأنها تتضمن ارتكاب المحرم بلا ضرورة ولا حاجة ، والمتقرر أن الحرام يجب اجتنابه ووسائل الحرام حرام وما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع .
والراجح : جواز صلاة المريض المجروح على سريره ولو كان عليه قطرات الدم إذا لم يستطع الصلاة إلا كذلك ؛ لأن كل فعل فيه عسر فإنه يصحب باليسر .
والراجح : وجوب مسح سائر أجزاء الجبيرة ؛ لأن البدل له حكم المبدل .
والراجح : جواز المسح عليها ولو لبست على غير طهارة ؛ لأن مسحها من باب الضرورة ولأنها تأتي فجأة ، والمشقة تجلب التيسير .
والراجح : أن الجرح الذي يتضرر بالغسل فإنه يجب مسحه فإن كان يتضرر أيضًا بالمسح فإنه يتيمم له بعد الفراغ من الوضوء ؛ لأنه لا واجب مع العجز .
والراجح : أن اليد الاصطناعية أو الرجل الاصطناعية لا يجب غسلها ؛ لأن الغسل واجب في اليد والرجل الأصلية لا البديلة ، وإذا زال محل الفرض سقط ما وجب فيه .
والراجح : أن المسح على الجبيرة لا يتقدر بيوم وليلة ، وقياسها على الخف قياس مع الفارق ، والمتقرر أن القياس مع الفارق باطل .(1/46)
والراجح : أن الدم الخارج من غير السبيلين ليس من نواقض الوضوء ؛ لأن نواقض الوضوء توقيفية ، وقدر تقرر أن العبادة المنعقدة بالدليل الشرعي لا تنقض إلا بالدليل الشرعي .
والراجح : أن المغمى عليه يجب عليه قضاء ما فاته إن كان وقت الإغماء مقدرًا بثلاثة أيام واختاره سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله تعالى - .
والراجح : أن لمس ذكر المريض أو لمس خصيتيه لا ينقض الوضوء ؛ لأن نواقض الوضوء توقيفية .
والراجح : الذي لا يجوز القول بغيره أن تحديد النسل لا يجوز .
والراجح : جواز استعمال حبوب منع الدورة للمصلحة إذا كانت لا تضر .
والراجح : أن الرطوبات التي تخرج من فرج المرأة تنقض الوضوء .
والراجح : أن المريض إذا فاتته عدة فروض فإنه يجب عليه قضاؤها مرتبة ؛ لأن الترتيب في القضاء واجب كالأداء ، والمتقرر في القواعد أن القضاء له حكم الأداء إلا بدليل .
والراجح : جواز إفطار المريض إذا نصحه الطبيب بذلك .
والراجح : أن قطرة العين ليست بمفطرة ، ولو وجد طعمها في حلقه ؛ لأنها منفذ غير معتاد .
والراجح : أن قطرة الأذن ليست بمفطرة ؛ لأنها من منفذ غير معتاد .
والراجح : أن قطرة الأنف مفطرة إذا وجد طعمها في حلقه ؛ لأنها من منفذٍ معتاد .
والراجح : أن قطرة الفم مفطرة إذا وجد طعمها في حلقه لأنها من منفذٍ معتاد .
والراجح : المفتى به في الديار السعودية أن بخاخ الربو ليس من المفطرات لأنه يتعامل مع الشعب في الرئة ولا دخل له في المعدة .
والراجح : أن الاحتجام يفسد الصوم لثبوت الدليل بذلك .
والراجح : جواز استعمال الفرشاة والمعجون في نهار الصوم إذا غلب على ظنه أنه لن يصل إلى الجوف منه شيء وإلا فيمنع .
والراجح : أن قلع السن في نهار رمضان جائز وإبرة التخدير إنما محلها اللثة والدم الخارج بعد السن قليل المقدار لا يؤثر في فساد الصوم ، والأصل الجواز .(1/47)
والراجح : أن الإبر المغذية تفسد الصوم لأنها تقوم مقام الأكل والشرب .
والراجح : أن الإبر التي ليست بمغذية لا تفسد الصوم .
والراجح : أن الدم الخارج بلا اختيار كحادث سيارة مثلاً أو نحو ذلك لا يفسد الصوم ولو كان كثيرًا لأنه مكره على ذلك والمكره لا تكليف عليه .
والراجح : جواز الكشف بالمنظار حال الصوم وبذلك أفتى كثير من أهل العلم في الديار السعودية .
والراجح : أن دم التحليل اليسير عرفًا لا يفسد الصوم .
والراجح : جواز استعمال دواء الغرغرة للصائم إذا غلب على ظنه أنه لن يدخل في جوفه شيء منه .
والراجح : أن المريض إذا مات قبل التمكن من قضاء الأيام التي فاتته فإنه لا شيء عليه البتة ؛ لأن الواجبات منوطة بالقدرة .
والراجح : أن مريض القرحة يجوز له الفطر ويقضي من أيام أخر ، فإن كان لا يرجى برؤه منها فيطعم عن كل يوم مسكينًا .
والراجح : أن غسيل الكلى يبطل الصوم .
والراجح : أن الاكتحال لا يفسد الصوم .
والراجح : أن فاقد الذاكرة يرتفع عنه التكليف بالصلاة ؛ لأن من شرطها التمييز وهو غير مميز .
والراجح : جواز استعمال التحاميل للكبار في رمضان .
والراجح : إن إبر السكر لا تفسد الصوم ، وهو المفتى به عندنا في ديارنا .
والراجح : أن الكبير المخرف الذي يهذي ولا يعرف من حوله يرتفع عنه التكليف .
والراجح : أن المستحاضة لها حكم الطاهرات .…
والراجح : أن طلاق المعتوه لا يقع ؛ لأن من شرط الطلاق القصد وهو لا قصد له .
والراجح : أن طلاق المريض مرض الموت لا يقع .
والراجح : أن سريان البنج في الجسم لا يفطر .
والراجح : أن الحامل إذا أسقطت الجنين قبل التخلق وخرج منها دم فإنه دم فساد لا يسقط الصلاة ولا الصوم .
والراجح : أن السقط إذا سقط من بطن أمه بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويصلى عليه لأنه روح .
والراجح : أن الحامل يجوز لها الفطر إذا خافت على نفسها أو على ولدها .(1/48)
والراجح : أن المريض الذي يخاف أن لا يكمل مناسك الحج أو العمرة بسبب المرض فإنه يجوز له الاشتراط فيقول : ( وإن محلي حيث حبستني ) .
والراجح : أن المريض معدود من الضعفة الذين يجوز لهم النفر من مزدلفة بعد منتصف الليل .
والراجح : أن خروج الدم في الطواف لا يؤثر .
والراجح : صحة وقوف المغمى عليه بعرفات ولو كان الإغماء طويلاً .
والراجح : جواز الحج عن المشلول الذي تعطلت أركانه .
والراجح : أن الأطباء المشتغلين بالمرضى يجوز لهم تأخير الرمي إلى اليوم الثالث عشر .
والراجح : أن ختان الرجل واجب وختان المرأة سنة ومكرمة .
والراجح : أن بيع الدم لا يجوز .
والراجح : جواز تشريح جثة الكافر دون المسلم .
والراجح : جواز قطع العصب إذا لم يمكن إزالة الألم إلا بذلك لأن الضرر يزال .
والراجح : أن استخدام الجن المسلمين في العلاج لا يجوز سدًا للذريعة .
والراجح : أن تسمية السرطان بالمرض الخبيث لا تنبغي ؛ لأن المرض من الخير وهو كفارة للمسلم وإنما يقال : المرض العضال ، أو الأورام الخطيرة ، أو المميتة ونحو ذلك .
* * *
…فهذه بعض الترجيحات المهمة في بعض المسائل الطبية ، وختامًا أسأله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل وأن يفقهنا وإياكم في ديننا وأن يكفينا شرور أنفسنا ونزغات الشياطين ، وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم بهذه الوريقات النفع العام والخاص وأن يجعلها عملاً صالحًا نافعًا متقبلاً مبرورًا لاحظ فيه لأحد ، وأُشهد الله تعالى ومن يطلع عليها من طلبة العلم أنها وقف لله جل وعلا على عموم المسلمين من غير تخصيص ، ومن أراد طباعتها من المسلمين فقد أجزنا له ذلك ولو بغير اسم مؤلفها ، فإن المقصود هو وصول الحق للناس بأي طريق .
…وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليمًا كثيرًا .(1/49)
…وقد وقع الفراغ بعد صلاة العشاء في اليوم الثاني من شهر جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - .(1/50)