مقدمة المؤلف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا مُحمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلقد بات لزامًا على كل من يحمل علمًا -وإن قلَّ- أو يَملك قلمًا -وإن كلَّ- أن يهتك الغشاوات الَّتِي حجبت عقول شباب الأمة عن الإسلام المصفى من البدع والضلالات والغلو والتطرف.
إن غياب "فقه السياسة الشرعية" في ضوء "منهاج النبوة القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة" قد أوقع شباب الصحوة في شتى أرجاء الرقعة الإسلامية في شرور مستطيرة، وفتن كبيرة، "سيارات مفخخة .. تنفجر فجأة.. وفي أحياء سكنية.. أمام المساجد والمدارس.. أمام المتاجر.. وفي قلب الأسواق.. تتطاير الجثث والأشلاء.. تتعالَى الصرخات.. اقتحامات للبيوت.. تُهدد الآمنين.. ترعب النساء والأطفال والعجائز.. لا تفرق بين صغير وكبير.. ولا ترحم الرضيع بين أحضان أمه وهو يلتقم ثديها.. تُذبح الأم دون أن يعبأ بصرخات الرضيع .. إنَّها مزارع للرعب وللقتل ولكل ما نَهى عنه الإسلام"، تُرتكب باسم الإسلام.. ومن أجل إقامة الدولة الإسلامية.. لقد بدا الإسلام في أعين الكثيرين رعبًا مكتظًّا بألوان العداوات.. لا يعرف إلا سفك الدماء.. وقتل الأبرياء !!
ولقد ظلَّ المسلمون وغيرهم ينعمون بالإسلام طيلة الزمان الذي كان النظام السياسي الإسلامي يَحكم أكبر رقعة من الأرض، فشاع العدل والمساواة، والأمن والأمان، وعم الرخاء، وكثرت البركات والخيرات، وسعد الراعي، وسعدت الرعية، وهاهي الأمة اليوم تشقى بسوء الفهم والتطبيق للإسلام.(1/1)
فالمخرج من تلك البلايا الصلعاء، والدهايا الدهياء التي أحاطت بالأمة من كل جانب؛ قراءة متأنية للفكر السياسي الإسلامي في ضوء الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، ليس من الراعي فحسب، بل من الراعي والرعية، فالنظام السياسي الإسلامي لا تقوم به الحكومات وحدها، بل المحكومون كذلك، فالخطاب بتحكيم النظام السياسي الإسلامي عام، لا يتوجه لطائفة دون أخرى: {فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
فإذا كان يَجب على الحكام والمسئولين الحكم بالشريعة الإسلامية والعدل بين الرعية، والقسمة بالسوية، فكذلك يجب على المحكومين بذل الطاعة والتقيد بالأنظمة والقوانين، واحترام المسئولين وتوقيرهم والإخلاص لهم والدعاء بتوفيقهم، ونصحهم بالطريقة الشرعية، والبعد عن الإثارة والشغب وغير ذلك، فكل هذا جاء به رسول الله ج، ولابد من تَحكيمه والعمل به.
وهذا الكتاب مجموعة محاضرات كنت ألقيتها على طلاب جامعة الملك سعود، وإنِّي لأهتبل هذه الفرصة لأنصح شباب الصحوة أن يَحذروا الأفكار المنحرفة، والمذاهب الهدامة، وأن يعتبروا بِما حصل لغيرهم في بلاد قريبة وبعيدة من فتن وشرور؛ بسبب بعدهم عن فهم السلف الصالح للإسلام قرآنًا وسنة، عقيدة وشريعة، كما أنصح شباب الصحوة في المملكة العربية السعودية أن لا ينخدعوا بالمناهج الدعوية الفاشلة، والتحزبات الطائشة، وأن يُحافظوا على ما تنعم به هذه البلاد الطيبة من أمن وأمان، ورخاء واستقرار، وتطبيق لشريعة الإسلام، والله أسأل أن ينفع بِهذا الكتاب، وأن يَجعله خالصًا لوجهه الكريْم، وقربة إليه سبحانه، ومدنيًا من رحمته وجنته: {إِنْ أُرِيدُ إِلاََّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاََّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88].
والحمد لله رب العالمين.(1/2)
وكتب
أبو عبد الرحمن / خالد بن علي بن محمد العنبري
الرياض 26/11/1417’(1/3)
التعريف بالنظام السياسي في الإسلام
السياسة في لغة العرب: "تدبير الأمور والقيام بإصلاحها، يقال: ساس الأمر سياسة أي قام به".
وفي الحديث: $كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء# (1) . "أي تتولَى أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية" (2) .
والسياسة في الاصطلاح: لها تعريفات عديدة مُختلفة، فقيل: هي تدبير أمور الدولة. وقيل: هي علم أو فن حكم الدول. وقيل غير ذلك (3) .
إن السياسة علم وفن، فهي علم، لما لها من مبادئ وقوانين خاصة تشكل في مجموعها: "علم السياسة"، و"بالقول: إن السياسة فن، يراد التأكيد بأنَّها في ممارستها الملموسة لا يمكن أن تنحصر في مجرد تطبيق القوانين النظرية، ولا في الممارسة التجريبية للقوى، بل إنَّها تستلزم براعة معينة تكتسب بالتجربة، وبِمعرفة قواعد ملموسة معينة" (4) .
أما النظام السياسي: "فهو الهيكل الذي ينظم العلاقات بين الحاكمين والمحكومين، ويتشكل من مجموع المؤسسات التي تنظم المجتمع المدنِي، وتلك التي تنظم السلطة، ويرد النص على النظام السياسي في دساتير البلاد المختلفة.. وتختلف الأنظمة السياسية بِحسب: مصدر السلطة.. وطريقة تنظيم السلطات... وبنية الدولة" (5) .
والسياسة في المنظور الإسلامي: رعاية شئون الأمة في الداخل والخارج بِما لا يخالف الشريعة الإسلامية.
فالسياسة الشرعية لا تقف على ما نطق به الشرعُ الشريف، وإنَّما يشترط أن لا تخالف نصوص القرآن والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الشريعة وأصولها العامة.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (3455)، ومسلم (1842).
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (2/421).
(3) انظر: قاموس المصطلحات السياسية (267)، ومبادئ علم السياسة (15).
(4) قاموس المصطلحات السياسية (267).
(5) قاموس المصطلحات السياسية (452).(1/1)
قال ابن قيم الجوزية: "ومن قال: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط، وتغليط للصحابة، وهذا موضع.. فرط فيه طائفة، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بِمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها.. فلما رأى ولاة الأمور ذلك.. أحدثوا من أوضاع سياساتِهم شرًّا طويلاً، وفسادًا عريضًا، فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه.. فإن الله -سبحانه- أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل.. فإذا ظهرت أمارته وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه.." (1) .
"ولِهذا لابد أن نضيف بأنفسنا القوانين الملائمة لزماننا، ومقتضيات حياتنا، شريطة أن لا نبيح لأنفسنا سنَّ قوانين تتعارض مع نص الشريعة أو روحها، فقد حذرنا الله من ذلك، فقال: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. وعلى هذا فإن دستور الدولة يَجب أن ينص على أن أية قوانين إدارية لا تصبح سارية المفعول إذا وجدت متناقضة مع أي نصٍّ من نصوص الشريعة" (2) .
هذا ويقسم شراح القانون الدستوري والنظم السياسية نظم الحكم إلى ثلاثة أنواع:
__________
(1) الطرق الحكمية (21) باختصار، وانظر كذلك بدائع الفوائد (2/162).
(2) منهاج الإسلام في الحكم (75).(1/2)
1- نُظم الحكم الغربية أو الديْمقراطية: وأساسها في مبادئ الثورة الفرنسية، وتفترض فكرة الديمقراطية أن المشاركة السياسية لِجميع المواطنين هي المصدر الوحيد للسلطة التشريعية، ومع تعذر اشتراك كافة المواطنين في تشريع الأحكام والقوانين وتقرير المصير، ظهرت الديمقراطية التمثيلية من خلال انتخاب ممثلين عنهم يتولون تقدير أمورهم والمطالبة بحقوقهم، ولذلك فإن الديمقراطية ترتبط بنظام تعدد الأحزاب، ولصعوبة التوصل إلى إجماع في الرأي والتفكير، فالحكم في النظام الديمقراطي يكون للأغلبية دائمًا، مع خضوع الأقلية لرأي الأغلبية، والحرية المطلقة أهم مقومات الديمقراطية (1) ، وقد خدع بِها الكثيرون ممن يجهلون قواعد النظام السياسي الإسلامي وتَميزه عن النظم السياسية الأرضية الهابطة!
2- نُظم الحكم الشرقية: وهي تلك التي تقوم على أساس الفلسفة الماركسية.
__________
(1) انظر: أصول العلوم السياسية (26-30)، قاموس المصطلحات السياسية (232).(1/3)
ويتمثل الجانب السياسي لنظرية ماركس في صراع الطبقات وثورة الطبقة المضطهدة طبقة الكادحين، "البروليتاريا"، الذين يدخلون في صراع مع الطبقة البرجوازية، فينتصرون ويأخذون السلطة من البرجوازيين، ويعملون على إلغاء الملكية الفردية للأرض، وفرض ضرائب تصاعدية، وإلغاء حق الإرث، والاستيلاء على أملاك المهاجرين والخارجين على النظام، وتركيز ملكية الدولة لجميع الثروات والوسائل، وتزايد دور الدولة في مجالات الصناعة والزراعة، والمساواة في مسئولية العمل، وإزالة الفوارق بين الحياة في المدينة والحياة في الريف، والتعليم المجانِي، فهذا الصراع بين الطبقات يقود إلى مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا، هذه الديكتاتورية ليست سوى مرحلة انتقالية نحو إلغاء جميع الطبقات، نحو مجتمع بدون طبقات، وتبقى الدولة السياسية ضرورة لاستكمال تحطيم الطبقة البرجوازية، وفي النهاية لن تبقى إلا طبقة الكادحين، وهنا لن تكون هناك حاجة للحكومة، وبالتالي ستتلاشى الدولة، فالدولة عند ماركس أداة لسيطرة طبقة على أخرى، وحيث إن المجتمع سيتحول إلى مجتمع لا طبقي، فإن اختفاء الدولة أو الحكومة يصبح حتمًا (1) !!
3- نظم الحكم الديكتاتورية: وهي على النقيض من النظم الديمقراطية، وهي تلك النظم التي يكون الحكم فيها لفرد دون رقابة عليه، ولا رأي للشعب في اتخاذ القرارات، ويعتمد الديكتاتور على مواهبه ونفوذه الشخصي وقوة أنصاره الحزبيين أو العسكريين.
__________
(1) انظر أصول العلوم السياسية (99)، قاموس المصطلحات السياسية (283).(1/4)
والنظام السياسي الإسلامي ليس شيئًا من ذلك كله، ومن الخطأ بِمكان أن يقال هذه الكلمة التي كثيرًا ما تقال في الأندية السياسية والمحافل العلمية: "إن الإسلام نظام ديمقراطي". ولما راجت في العالم "الشيوعية" نادت طائفة أن الشيوعية ما هي طبعة جديدة للنظام السياسي الإسلامي، والذين يذهبون إلى مثل هذه الكلمات الجائرة لَم يقوموا بدراسة الإسلام دراسة علمية واعية، ولَم يقفوا على نظمه السياسية المتميزة المؤسسة على أصول حكيمة وقواعد متقنة.
ويهمنا ثم أن نؤكد أنه ليس بين الإسلام والديمقراطية من نسب ولا سبب، فلا ديمقراطية في الإسلام، كيف والديمقراطية تستبعد حق الله سبحانه في الحكم بين الناس، في الوقت الذي تقوم فيه على أساس أن الشعب مصدر جميع السلطات، لاسيما السلطة التشريعية، فإصدار الأحكام والقوانين حق خالص للشعب، فهو صاحب السلطة العليا، الآمرة الناهية، المحللة المحرمة، وبأغلبية الأصوات، في المجتمعات الغربية، أبيح الشذوذ الجنسي وممارسة الزنى، وبيع الخمور، أما الحكم في الإسلام، فلله وحده، لا شريك له: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاََّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. والتشريع من خصائص ربوبيته وألوهيته: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. والحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.(1/5)
وباسم الحرية التي تكفلها الديمقراطية أقيمت أماكن العري والفساد، وأصبحت الشوارع والحدائق العامة مسرحًا لكل أنواع الرذيلة والفاحشة جاء في إحصائية واحدة أصدرها "مركز الضحايا الوطنِي في الولايات المتحدة الأمريكية" أن (78) امرأة تغتصب في أمريكا كل ساعة! بل عُقد الزواج الكنسي بين الرجل والرجل، وباسم الحرية يعلن الرجل كفره وإلحاده وسبه لله ورسوله، لقد أصبحت الديمقراطية قرينة الفضائح السياسية والأخلاقية والمالية، بل قرينة الظلم والاستبداد، فأين الحرية والعدل والمساواة وحقوق الإنسان عندما قتل الآلاف من المسلمين في البوسنة والهرسك، وماذا فعلت الدول العظمى التي تتبجح بالديمقراطية؟ إنَّها لَم تنسحب من بلد احتلته إلا نَهبت ثرواته، وأفقرت أهله، ونشرت التخلف والجهل في ربوعه.
إن التأمل في أصول الديمقراطية بإنصاف يؤدي إلى القول بأن الإسلام والديمقراطية لا يلتقيان أبدًا، وإن العجب لا ينقضي من بعض الإسلاميين السياسيين حينما يطالبون بنظام الحكم الديمقراطي، فهذا أحدهم يقول: "لماذا نؤكد ونصر على أن الإسلاميين معادون للديمقراطية؟ إن هذا افتراء عظيم، فنحن أول من ينادي بالديمقراطية، ويطبقها، ويذود عنها حتَّى الموت" (1) .
الإسلام دين ودولة
إذا كان هناك من يلصق بالنظام السياسي الإسلامي -زورًا وبُهتانًا- اسم الديمقراطية أو الشيوعية! فإن بعض المنتسبين للإسلام ممن تأثروا بالثقافة الغربية ينكرون أن يكون للإسلام دولة، أو أنه جاء ليحكم أمة، وينظم العلاقات بين جميع البشرية، وظنوا كما ظن أساتذتُهم في الديار الغربية: أن الدين علاقة بين الإنسان وربه، ولا ينبغي للدين أن يتدخل في شئون الناس الاجتماعية والاقتصادية والقضائية، ثُمَّ راحوا ينادون بوجوب فصل الدين عن الدولة، لتلحق الأمة بركب التقدم والحضارة!!
__________
(1) مجلة لواء الإسلام (20/10/1990)، وعنها الطريق إلى الجماعة الأم (46).(1/6)
وهذا الدينُ الذي يُراد به أن يُعزل عن الدولة وسياسة الأمة وشئونِها الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، لا ينبغي أن يكون هو الإسلام الذي أنزله الله على مُحمَّد ج، والذي يتميز بالكمال والشمول لكل شئون الحياة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3]. {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ((((( لاََ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162-163].
وإذا تَمَّ فصل الدين عن الدولة في البلاد الغربية بسبب تعنت الكنيسة ومحاربتها للعلماء الذين كانوا يخرجون عليها بحقائق علمية تناقض العلوم الكنسية، فهذا لا ينسحب بِحال إلى البلاد الإسلامية، ذلك أن الإسلام يفتح آفاق العلم والاختراع والرقي والحضارة الإنسانية، فكثيرة هي النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تشير إلى حقائق علمية لَم تكن معروفة للناس وقت نزول القرآن، وكشفت العلوم الحديثة عن صحتها مصداقًا لقوله تعالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]. وقد صنف العالم الفرنسي "موريس بوكاي" كتابًا في المقارنة بين الكتب المقدسة وبين العلم الحديث، فخرج بنتيجة مذهلة مسكتة، إذ كشف عن التناقضات الكثيرة بين نصوص التوراة والإنجيل وبين الكشوفات العلمية الحديثة، الأمر الذي لا يوجد في آيات القرآن الكريم، بل على العكس تمامًا فقد ذهل بِمدى التوافق والتناسق بين الحقائق التي أشار إليها القرآن وبين ما توصل إليه العلماء في جميع العلوم التجريبية، مِما يثبت أن القرآن خارج عن قدرات البشر، وأنه كلام رب البشر سبحانه، وأن يد العبث والتحريف قد طالت نصوص التوراة والإنجيل.(1/7)
"إن فصل الدين عن الدولة ليس له وجود إلا في المجتمع النصرانِي، حيث يوجد الصراع بين الكنيسة والعلم، وبين الكنيسة والدولة، ومن ثَمَّ كان نزع فتيل الصراع بقاعدة من داخل الدين المسيحي وهي قول المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله".
يقول الكاتب الفرنسي مكسيم رودنسون: "إن انتشار العلم والتصنيع أدى إلى تراجع الإيْمان التقليدي المسيحي، وإلى تفريغ العالم من سحره وفتنته بشكل متسارع، فخاف رجال الكنيسة الكاثوليكية من هذا التطور الخطير الذي قد يقضي في النهاية على هيبتهم وسلطتهم.. وأصبحوا يشعرون بأنَّهم مهددون من كل جانب، وبالتالي فما عليهم إلا أن ينهضوا ضد كل الاكتشافات والاختراعات والتطورات الداخلية والخارجية للدفاع عن الإيمان، وهكذا بذلوا جهودًا يائسة في القرن الماضي وبدايات هذا القرن لسد الثغرات والحفاظ على ديمومة الطائفة أكثر مِما هو حفاظ على الانطلاقة الأولى للعقيدة، فوجود الطائفة المسيحية أصبح هو نفسه مهددًا، ولابد من الدفاع عنه، ولكنهم قدموا هذا الدفاع على أساس أنه دفاع عن المبادئ الخالدة للعقيدة...(1/8)
ويمكن القول فيما يخص الإسلام.. فقد شُكلت الطائفة الإسلامية لأول مرة على هيئة بنية سياسية دينية.. ويوجد هنا فرق واضح بين الإسلام والمسيحية، فالظروف التاريخية التي نشأت فيها المسيحية كانت مختلفة جدًّا عن الظروف التي شهدت ولادة الإسلام، فقد أسست المسيحية دائمًا تقريبًا على بنية مزدوجة: بنية للدين، وبنية للسياسة حتَّى لو كانتا مرتبطتين بشكل وثيق، ومن حيث المبدأ، فإنه ليس لطائفة المؤمنين المسيحيين من مهمة سياسية، وإنَّما فقط روحية أو دينية، فيما أن مملكة المسيح ليست من هذا العالم، فإنه ينبغي أن "نعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.. ولا ينبغي أن نُهمل المبادئ الأولية، وهي في حالة الإسلام تدعو للربط بين الدين والسياسة، وفي حالة المسيحية تدعو للتمييز بينهما، وهذا شيء له أهميته بحد ذاته" (1) .
ويقول أحد الباحثين: "إن المسلمين بتخلفهم في الجانب العلمي إنَّما يبتعدون عن الخط الإسلامي الصحيح، ومنهج الإسلام الذي نَهض بأوربا -باعتراف جَميع المؤرخين- هو المنهج الإسلامي الذي وضعه العلماء المسلمون، متابعة للتوجيه الإلهي، وجاء الغربيون فتتلمذوا على المسلمين فيه، وساروا على قواعده، فكانت الحضارة الغربية التي أسس علماء الغرب المنهج التجريبِي فيها على أساس الإسلام".
__________
(1) انظر جريدة الشرق الأوسط، العدد (6623) وتاريخ 15/1/1997م.(1/9)
وكان أول من أنكر النظام السياسي الإسلامي جملة، وحاول أن يثبت أن الشريعة الإسلامية شريعة روحية مَحضة جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وبين وربه فقط، ولا علاقة لها بالحكم والسياسة، وأن مهمة النَّبِي ج كانت مجردة من الحكم والتنفيذ، ولا تتجاوز حدود البلاغ والبشارة والنذارة: علي عبد الرازق في كتابه: "الإسلام وأصول الحكم" المطبوع في أول أبريل سنة 1925م، وقد لقي معارضة شديدة لتعارضه مع الثوابت الإسلامية، ومطابقته أهداف الاستعمار الإنجليزي آنذاك، ويكفي أن نعرف أن والد المؤلف كان نائبًا لرئيس حزب الأمة، ربيب الاستعمار الإنجليزي (1) !
ثُمَّ جاء خالد مُحمَّد خالد، واقتفى أثره في إنكار النظام السياسي الإسلامي في كتابه "من هنا نبدأ" لكنه رجع عن ذلك الرأي الباطل بعد ربع قرن من الزمان في كتابه "الدولة في الإسلام".
وأعلن علي عبد الرازق أيضًا تراجعه في مجلة "رسالة الإسلام" في عددها الصادر في (مايو 1951م)، وقد ردَّ على الكتابين جلة من أهل العلم.
__________
(1) انظر: كتاب الأزهر "رد هيئة كبار العلماء على كتاب الإسلام وأصول الحكم".(1/10)
وقد استدل أصحاب هذا الرأي ببعض الأدلة القرآنية نزلت قبل تأسيس الدولة الإسلامية، عندما كان الرسول ج وأصحابه في مكة يلاقون صنوف الأذى والعذاب من مشركي قريش، كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (((( لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22]. وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاََّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105]. وقوله: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِِنْ عَلَيْكَ إِلاََّ الْبَلاَغُ} [الشورى:48]. فكان الواجب على أصحاب هذا الرأي أن يفهموا تلك الآيات في ضوء الملابسات التي أحاطت بأسباب نزولها، فلقد كان هدفها مواساة الرسول ج وبيان وظيفته في هذه الفترة المبكرة، وأنه يكفيه القيام بِمجرد البلاغ والتذكير، وأنه ليس مسئولاً عن المعاندين لدعوته، المحاربين لدينه.
وقد غضَّ الطرف هؤلاء عن تلك الأحكام الكثيرة التِي شرعها الله في كتابه المنَزل، وطالب المؤمنين بتنفيذها ومعاقبة المتمردين عليها، وكل ذلك يَحتاج إلى سلطة سياسية، وكانت هذه السلطة متمثلة في شخصية الرسول ج في حياته، ولذلك خاطبه ربه سبحانه قائلا: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]. {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]. وانتقلت هذه السلطة إلى أولياء أمور المسلمين من بعده؛ ولذلك أمر الله سبحانه بطاعتهم فقال في آية الأمراء: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم} [النساء: 59].
والآيات في وجوب تطبيق النظام السياسي الإسلامي كثيرة، وسيأتِي ذكر بعضها في مبحث الحكم بِما أنزل الله.(1/11)
واستدل هؤلاء أيضًا من السنة بِحديث تأبير النخل، وفيه قوله ج لأصحابه: $أنتم أعلم بأمور دنياكم# (1) . وهذا الحديث يتناول وسيلة المحافظة على غزارة ثمار النخل، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن مثل هذه الأمور من وظائف الرسول ج، فلم يرسل ليعلم الناس أمور الزراعة والصناعة والتجارة، أما نظام الحكم وقواعده فقد أنزله الله على رسوله، وأمره بتبليغه وتطبيقه.
واستدلوا أيضًا بِما ثبت: أن رجلاً أتَى رسول الله ج، فقام بين يديه، فكلمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال ج: $هوِّن على نفسك، فإنِّي لستُ بِملك، إنَّما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد# (2) .
والحق أن هذا الحديث يكشف عن عظيم تواضعه ج ورأفته، فقد أراد -عليه الصلاة والسلام- أن يُهدئ من روع الرجل وفزعه وخوفه، فنفى عن نفسه أوصاف الجبروت فكأنه يقول: "لست من الملوك الجبارين الذين يخشى الناس لقاءهم".
__________
(1) رواه مسلم (2363) من حديث عائشة، وقد رواه أيضًا من حديث موسى بن طلحة، عن أبيه، قال: "مررت مع رسول الله ج بقوم على رءوس النخل، فقال: $ما يصنع هؤلاء#؟ فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فيلقح. فقال رسول الله ج: $ما أظن يغني ذلك شيئًا#. فأُخبروا بذلك فتركوه، فأُخبر رسول الله ج بذلك، فقال: $إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنِّي إنَّما ظننت ظنًّا، فلا تؤاخذونِي بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإنِّي لن أكذب على الله - عز وجل - #.
(2) حديث صحيح: أخرجه ابن ماجه (2312)، والحاكم (2/466)، وابن سعد في الطبقات (1/23) وغيرهم، انظر السلسلة الصحيحة (1876).
والقديد: هو اللحم المملح المجفف في الشمس(1/12)
وغض الطرف هؤلاء أيضًا عن الأحاديث الكثيرة التي تبين أن رسول الله ج كان حاكمًا سياسيًّا، كحديث أنس في الصحيحين: $أن الرُّبيِّع بنت النضر عمته كسرت ثنيَّة جارية، فطلبوا إليها العفو فأبوا (1) ، فعرضوا الأرْش فأبوا، فأتوا رسول الله ج، فأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله ج بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتُكسرُ ثنية الرُّبيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتُها. فقال رسول الله ج: يا أنسُ كتابُ الله القصاص. فرضي القوم فعفوا، فقال النَّبِي ج: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبرَّه# (2) .
وحديث أنس في الصحيحين أيضًا: $أن يهوديًّا رض رأس جارية بين حجرين، فقتلها، فجيء بِها إلى النَّبِي ج وبِها رمق، فقيل لها: من فعل بك هذا؟ فلان؟ أو فلان؟ حتَّى سُمِّي اليهودي، فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف، فأمر به النَّبِي ج فرُض رأسه بِحجرين# (3) .
__________
(1) أي طلب أهل الجانية إلى المجنِي عليها العفو، فأبى أهل المجنِي عليها.
(2) متفق عليه: البخاري (4500)، ومسلم (1675).
(3) متفق عليه: البخاري (2413)، ومسلم (1672). وفي رواية للبخاري (5295): $عدا يهودي في عهد رسول الله ج على جارية، فأخذ أوضاعًا -يعنِي: فضة- كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتَى بِها أهلها رسول الله ج، وهي في آخر رمق، وقد أُصمتت، فقال لَها رسول الله ج: من قتلك؟ فلان؟ لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها أن لا، فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت أن لا، فقال: فلان؟ لقاتلها، فأشارت أن نعم، فأمر به رسول الله ج فرضخ رأسُهُ بين حجرين#. قال النووي: "رضخه بين حجرين، ورضه بالحجارة، ورجمه بالحجارة، هذه الألفاظ معناها واحد".(1/13)
وحديث أم سلمة في الصحيحين: أن النَّبِي ج قال: $إنَّما أنا بشر وإنكم تَختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بِحجته من بعض فأقضي بنحوٍ مِما أسْمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار# (1) .
وستأتِي أحاديث كثيرة جدًّا تدل على دلالة واضحة على الذي قلنا كأحاديث البيعة والسمع والطاعة والقضاء والحدود والمعاهدات ونَحوها.
وقد بلغ من اهتمام المسلمين بدولة الإسلام أن بايعوا الخليفة قبل دفنهم للرسول ج، وهذه القضية أوضح من أن توضح، والإجماع منعقد من كافة علماء الأمة على وجوب إقامة الدولة الإسلامية التي تَحكم بشرع الله سبحانه، وألفوا كتبًا في القديْم والحديث في بيان أسس النظام السياسي الإسلامي.
ونَختم هذا المبحث بشهادات جمع من المستشرقين ممن يتعذر أن يوجه إليهم الوصف بالميل أو المجاملة للإسلام.
يقول أ.د/ فتزوجوالد: "ليس الإسلام دينًا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضًا، وعلى الرغم من أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنَّهم عصريون يُحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بُنِي على أساس: أن الجانبين متلازمان، لا يُمكن أن يُفصل أحدهُما عن الآخر".
ويقول ستروتمان: "إن الإسلام ظاهرة دينية وسياسية، إذ إن مؤسسه كان نبيًّا، وكان حاكمًا مثاليًّا خبيرًا بأساليب الحكم".
ويقول شاخت: "إن الإسلام يعنِي أكثر من دين، إنه يُمثل أيضًا نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول: إنه نظام كامل من الثقافة، يشمل الدين والدولة معًا" (2) .
FFFFF
أين توجد مباحث النظام السياسي في الإسلام ؟
__________
(1) متفق عليه: البخاري (7169)، ومسلم (1713).
(2) انظر: النظريات السياسية الإسلامية (17)، والدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية (41).(1/14)
لقد كتب العلماءُ من مختلف المذاهب الإسلامية في أسس النظام السياسي الإسلامي وقواعده وأحكامه، وكانوا يطلقون عليه المصطلح: "الولاية" أو "الإمامة الكبرى" أو "السياسة الشرعية" أو "السياسة المدنية" أو "الأحكام السلطانية" وكان التأليفُ في هذا العلم الشرعي يأخذ منحيين اثنين غالبًا:
الأول: ضمن كتب الفقه الإسلامي والحديث الشريف، فكما ألفينا في هذه الكتب أبوابًا للطهارة والصلاة والزكاة والصيام والشركة والبيوع وغير ذلك، نَجد أيضًا: بابًا للإمامة أو الإمارة أو الأحكام السلطانية.
وتوجد متفرقات من هذه المباحث أيضًا ضمن كتب التفسير والعقيدة.
الثانِي: كتب مستقلة ومصنفات مفردة في السياسة الشرعية منها "الأحكام السلطانية" و"السلوك في سياسة الملوك" و"تسهيل النظر وتعجيل الظفر" كلها للماوردي (ت 450’) و"الأحكام السلطانية" أيضًا لأبِي يعلى الفراء (ت458’) و"غياث الأمم" للجوينِي (ت478’) و"السياسة الشرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت728’) وكتاب الحسبة له أيضًا، و"الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" لتلميذه ابن قيم الجوزية (ت751’) و"تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام" لابن جماعة (ت733’) و"تَهذيب الرياسة وترتيب السياسة" للقلعي (ت630’) و"بدائع السلك في طباع الملك" لأبي عبد الله بن الأزرق (ت896’) و"الشهب اللامعة في السياسة النافعة" لأبي القاسم بن رضوان المالقي (783’)، و"النهج المسلوك في سياسة الملوك" للشيزري (ت589’) وغيرها من الكثرة بِمكان.
ومن العلماء من نحى المنحيين كليهما: يقول أبو يعلى الفراء في مقدمة كتابه "الأحكام السلطانية" (1) : "أما بعد: فإنِي كنتُ صنفت كتاب الإمامة، وذكرته في أثناء كتب "المعتمد"... وقد رأيت أن أفرد كتابًا في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرت هناك من الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولاً أُخر تتعلق بِما يَجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها...".
FFFFF
__________
(1) انظر: ص (11).(1/15)
مصادر النظام السياسي في الإسلام
F المصدر الأول: القرآن الكريم
قال تعالَى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
وقال سبحانه: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105].
"فالمصدر العام للإسلام: هو كتاب الله تعالَى، ولَم يتعرض فيه لتفصيل الجزئيات، بل نص فيه على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يُبنَى عليها تنظيم الشئون العامة للدولة، وهذه الأسس والقواعد قلما تَختلف فيها أمة عن أمة، أو زمان عن زمان، أما التفصيلات التي تَختلف فيها الأمم باختلاف أحوالِها وأزمانِها، فقد سكت عنها، لتكون كل أمة في سعة من أن تراعي فيها مصالِحها الخاصة، وما تقتضيه حالها.
ففي نظام الحكم لَم يفصل القرآن الكريْم نظامًا لشكل الحكومة، ولا لتنظيم سلطانِها، ولا لاختيار أولي الحل والعقد فيها، وإنَّما اكتفى بالنص على الدعائم الثابتة التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم كل حكومة عادلة، ولا تَختلف فيها أمة عن أمة، فقرر العدل في قوله سبحانه: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58]. والشورى في قوله عز شأنه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]. والمساواة في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. أما ما عدا هذه الأسس من النظم التفصيلية، فقد سكت عنه ليتسع لأولِي الأمر أن يضعوا نظمهم، ويشكلوا حكومتهم، ويكونوا مَجالسهم بِما يلائم حالَهم ويتفق ومصالِحهم، غير متجاوزين حدود العدل والشورى والمساواة.(1/16)
وفي القانون الجنائي: لَم يُحدد عقوبات مقدرة إلا لِخمس فئات من المجرمين: الذين يُحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا، والذين يقتلون النفس بغير حق، والذين يرمون المحصنات الغافلات، والزانية والزانِي، والسارق والسارقة.
أما سائر الجرائم -من جنايات وجنح ومخالفات- فلم يُحدد لها عقوبات، وإنَّما ترك لأولِي الأمر أن يقدروا عقوباتِها بِما يرونه كفيلاً بصيانة الأمن وردع المجرم واعتبار غيره، لأن هذه التقديرات مِما تختلف باختلاف البيئات والأمم والأزمان، فمهد السبيل لولاة كل أمة أن يقرروا العقوبات بِما يلائم حال الأمة، ويوصل إلى الغرض من العقوبة، وأرشد الله سبحانه إلى أصل عام لا تَختلف فيه الأمم، وهو أن تكون العقوبة على قدر الجريْمة، فقال -عز من قائل-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل:126]. وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} [البقرة: 194].
وفي قانون المعاملات: اكتفى بالنص على إباحة ما يقتضيه تبادل الحاجات ودفع الضرورات، فأحل البيع والإجارة والرهن وغيرها من عقود المعاملات، وأشار إلى الأساس الذي ينبغي أن تُبنَى عليه تلك المبادلات، وهو التراضي فقال -عز شأنه-: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاََ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاََّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ} [النساء:29]. أما الأحكام التفصيلية لجزئيات هذه المعاملات، فلولاة الأمر في كل أمة أن يفصلوها حسب أحوالها على أساس التراضي.
وكذلك اكتفى بالنص على منع المعاملات التِي تفضي إلى النِّزاع وتوقع في العداوة والبغضاء، فحرم الربا والميسر على أساس دفع الضرر وقطع أسباب الشحناء، وسكت عن تفصيل الأحكام الجزئية لِهذه المعاملات ليتسنَّى أن يكون تفصيلها في كل أمة على وفق حالها.(1/17)
وفي النظام المالي: فرض في أموال ذوي المال وعلى رءوس بعض الأنفس ضرائب وجهها في مصارف ثَمانية، مرجعها إلى سد نفقات المنافع العامة ومعونة المعوزين، وترك تفصيل الترتيب لِهذه الموارد وتصريفها في مصارفها لكل أمة تتبع فيه ما يلائمها.
وفي السياسة الخارجية: أجمل علاقة المسلمين بغيرهم في قوله سبحانه: {لاََ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ((( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9].
فالقرآن الكريْم لََم ينص في الشئون العامة على تفصيل الجزئيات، وما كان هذا لنقص فيه أو قصور، وإنَّما هو لِحكمة بالغة، حتَّى يتيسر لكل أمة أن تفصل نظمها على وفق حالِها وما تقتضيه مصالِحها، على ألا تتجاوز في تفصيلها حدود الدعائم التي ثبتها، فهذا الذي يظن أنه نقص هو غاية الكمال في نظام التقنين الذي يتقبل مصالح الناس كافة، ولا يحول دون أي إصلاح" (1) .
F المصدر الثاني: الحديث الشريف والسيرة النبوية:
قال تعالَى: {فَلاََ وَرَبِِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... الآية} [النساء:65]. وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاََةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7].
__________
(1) السياسة الشرعية للأستاذ عبد الوهاب خلاف (21- 24).(1/18)
فهذا المصدر يعرفنا على النموذج الأمثل للدولة الإسلامية، بدءًا بالطريق الشرعية الموصلة إلى قيامها، وتأسيسها على دعائم قوية، وتنظيم شئون مجتمعها، وعلاقة حاكمها بِمحكومها، وعلاقتها بالدول الأخرى في السلم والحرب، فهذه الأمور وغيرها، لا يُمكن أن نتعلمها إلا من خلال هذا المصدر الأصيل، بل لا يُمكن فهم القرآن فهمًا صحيحًا، وتطبيقه تطبيقًا سليمًا إلا بدراسة السنة المطهرة، فالسنة مثل القرآن في التشريع وإفادة الأحكام، بل القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن -كما قال بعض السلف- وذلك لأنَّها شارحة للقرآن مبينة له، بتفسير مُجمله، وتقييد مطلقه، وتخصيص عمومه، بل جاءت السنة بأحكام من الكثرة بِمكان ليس لها في القرآن من ذكر ولا بيان.
وينبغي للباحثين في السياسة الشرعية والنظم الإسلامية أن يستفيدوا من السيرة النبوية فهي حافلة بأحكام السلم والحرب والسياسة والحكم وغير ذلك.
يقول ابن قيم الجوزية: "وأخذ الأحكام المتعلقة بالحرب، ومصالح الإسلام وأهله، وأمور السياسات الشرعية من سيرة الرسول ج ومغازيه أولَى من أخذها من آراء الرجال" (1) .
F المصدر الثالث: إجماع الأمة، سيما الصحابة والخلفاء الراشدين:
ويعرف الإجماع بأنه: اتفاق المُجتهدين من الأمة الإسلامية في عصر من العصور على حكم شرعي في واقعة.
ودليل حجيته قوله سبحانه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]. والأمة في مجموعها معصومة، ومن المحال أن تَجتمع على باطل، لقوله ج: $إن الله أجار أمتِي من أن تجتمع على ضلالة# (2) .
__________
(1) زاد المعاد (3/143).
(2) حديث حسن: رواه ابن أبِي عاصم في السنة (83) من حديث أنس.
انظر: التحقيق الجديد القيم لكتاب السنة لابن أبِي عاصم لصديقنا الودود الأستاذ الدكتور باسم فيصل الجوابرة -حفظه الله-.(1/19)
وقوله ج: $عليكم بالجماعة، فإن الله لا يَجمع أمة مُحمد ج على ضلالة# (1) . وقوله ج في الحديث المتفق عليه بل المتواتر: $لا تزال طائفة من أمتِي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتَّى تقوم الساعة#.
فالواجب على رجال السلطة التشريعية في الدولة الإسلامية أن يستنبطوا الأحكام والقوانين والنظم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، سيما ما أجمع عليه الخلفاء الراشدون في مختلف المسائل الدستورية والقانونية، لأنه يُمثل التطبيق الصحيح للإسلام، وفي حديث العرباض بن سارية: $عليكم بسنتِي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ# (2) .
F المصدر الرابع: الاجتهاد:
وذلك إذا عُدم النص والإجماع، ويعرف الاجتهاد بأنه بذل الوسع في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية، للمسائل وللوقائع التي لا نص فيها، ولا انعقد إجماع عليها. قال سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وشروط الاجتهاد كثيرة منها: أن يُحيط من الكتاب والسنة بِما يتعلق بالأحكام، وأن يكون عالِمًا بأصول الفقه، ومواضع الإجماع والخلاف، وصحيح الحديث وضعيفه، وأن يكون لديه معرفة بِمقاصد الشريعة، وأن يكون عالِمًا بلسان العرب.
وطرق الاجتهاد عديدة منها: القياس، والاستصحاب، والمصالح المرسلة، وغير ذلك.
__________
(1) حديث صحيح: رواه ابن أبِي عاصم في السنة (85)، والطبرانِي في الكبير (17/239) من حديث ابن مسعود، انظر المرجع السابق.
(2) حديث صحيح: سيأتِي تَخريجه إن شاء الله تعالى- (101).(1/20)
ومن الاجتهاد في السياسة الشرعية: الإفادة من تجارب غير المسلمين في النظم والإدارة إذا كانت تُحقق العدل للناس، وتُحقق مصالحهم، ولَم تتعارض مع نص شرعي، كما في تدوين عمر الدواوين وفرضه الخراج وإنشائه السجون، فالسياسة الشرعية -كما سبق- لا تقف على ما نطق به الشرع المطهر، وإنَّما يشترط أن لا تُخالف النصوص الشرعية والقواعد الكلية.
قال ابن عقيل: "السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لَم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.. فقد جرى من الخلفاء الراشدين.. ما لا يَجحده عالم بالسنن، ولو لَم يكن إلا تَحريق المصاحف كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة".
قال الإمام ابن القيم: "هذا موضع مزلة أقدام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة، فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بِها مصالح العباد، وسدوا على نفوسهم طرقًا عديدة من طرق معرفة الحق من الباطل، بل عطلوها مع علمهم قطعًا وعلم غيرهم بأنَّها أدلة حق، ظنًّا منهم منافاتِها لقواعد الشرع، والذي أوجب لَهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، فلما رأى ولاة الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة، أحدثوا لَهم قوانين سياسية ينتظم بِها أمر العالم، فتولد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل، وفساد عريض، وتفاقم الأمر وتعذر استدراكه.(1/21)
وأفرطت طائفة أخرى فسوغت منه ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلا الطائفتين أتت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السموات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل، وتبين وجهه، بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله تعالَى لَم يحصر طرق العدل، وأدلته، وعلاماته في شيء، ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيَّن بِما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بِها العدل والقسط فهي من الدين.
لا يقال: إنَّها مُخالفة له. فلا تقول: إن السياسة العادلة مُخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونَحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحكم، وإنَّما هي شرع حق" (1) .
FFFFF
سمات النظام السياسي في الإسلام
يتميز النظام السياسي الإسلامي عن الأنظمة السياسية الأخرى بِميزات فريدة، وسِمات مهمة، تُرشحه لقيادة البشرية جمعاء، مهما اختلفت أجناسهم، وتنوعت ثقافاتُهم، وهذه السمات أيضًا تَجعله صالحًا لتطبيقه والعمل به مهما اشتد اختلاف الزمان والمكان، من هذه السمات.
F السمة الأولى: نظام رباني:
أهم ما يَمتاز به النظام السياسي الإسلامي عن الأنظمة السياسية: أنه نظام ربانِي، أسسه وقواعده وأحكامه ليست من وضع بشر يَحكمه العجز والقصور، والتأثر بِمؤثرات الهوى والعواطف، وإنَّما الذي شرع هذه الأسس والقوانين هو ربُّ الناس وخالقهم، وهو أعلم بِما ينفعهم وما يصلحهم، كما قال تعالَى: {أَلاََ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
__________
(1) انظر: بدائع الفوائد (2/162- 163).(1/22)
أما الأنظمة السياسية الأخرى: فالبشر هم الذين وضعوها واخترعوها من عند أنفسهم، لا فرق في ذلك بين الدول الديمقراطية أو الشيوعية أو الديكتاتورية، وهذا التشريع حق لله وحده، لا يَملكه أحد سواه، كما قال تعالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال سبحانه: {وَلاََ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]. وحكمه سبحانه هو الحق والعدل المطلق، المشتمل على أعلى أنواع الحكمة والهداية، وليس فيه من تناقض، أو ميل لصالح طائفة على أخرى، وليس فيه عنت ومشقة، وما عداه فهو الظلم والباطل، فلا ينبغي للبشر أن يتخذوا حكمًا غير الله سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاًَ} [الأنعام: 114]. وقد أنكر -سبحانه- على من لَم يكتف بِحكم كتابه المشتمل على كل خير وهداية: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51].
وقد ذم الله سبحانه اليهود والنصارى لأنَّهم اتَّخذوا أحبارهم ورهبانَهم أربابًا من دون الله، يشرعون لَهم ويُحللون ويُحرمون، قال سبحانه منكرًا عليهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]. فقد روى الترمذي وغيره عن عدي ابن حاتم، قال:(1/23)
أتيتُ النَّبِي ج وفي عنقي صليبٌ من ذهب، فقال: $يا عدي اطرح عنكَ هذا الوثن#، وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} قال: أما إنَّهم لَم يكونوا يعبدونَهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لَهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه# (1) .
الحكام والمحكومون في الدولة الإسلامية كلهم يطبقون شرع الله ويعملون بأحكامه، والحكام في الدول غير الإسلامية هم الذين يشرعون للمحكومين ويضعون لهم القوانين المختلفة التي أفرزتَها زبالات أذهانِهم.
وإذا كان النظام السياسي الإسلامي يتميز بربانية المصدر، فإنه كذلك يتميز بربانية الوجهة، أي أن هذا النظام يسعى جاهدًا إلى ربط الناس بالله سبحانه حتَّى يعرفوه حق معرفته، ويتقوه حق تقاته، ويُحررهم من العبودية لغيره والخضوع لسواه.
F السمة الثانية: نظام أخلاقي:
النظام السياسي الإسلامي يقوم على: الأخلاق والفضيلة واحترام حقوق الإنسان، فقد دعا إلى المحافظة على العهود والمواثيق ورعاية حقوق الإنسان ووقايته من الفتَن والطغيان، فعامل الأسرى -على سبيل المثال- بالبر والإحسان إلى أن يطلق سراحهم بالمنِّ أو الفداء، قال تعالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [مُحمد:4]. وقال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]. فالحرب في الإسلام ليست حرب تنكيل أو تَخريب، ولا يَجوز قتل من لَم يقاتل من النساء والأطفال والشيوخ والعجزة والمدنيين.
__________
(1) حديث حسن: أخرجه الترمذي (3095)، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبِي حاتم، والطبرانِي (17/92)، وابن جرير الطبري (14/210)، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي وحسنه ابن تيمية والألبانِي.(1/24)
فعن ابن عمر: $وُجدت امرأة مقتولة في بعض المغازي، فنهى رسول الله ج عن قتل النساء والصبيان# (1) .
ولا يَجوز كذلك التمثيل بالأعداء بعد قتلهم، لا بِِجدع آذانِهم ولا أنوفهم ولا ببقر بطونِهم، إلا أن يفعلوا ذلك بالمسلمين فيفعل بِهم مثل ما فعلوا، والترك أفضل (2) ، لقوله تعالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ} [النحل: 126].
وعن بريدة، قال: كان رسول الله ج إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثُمَّ قال: $اغزو باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزو ولا تغُلوا (3) ، ولا تغدروا (4) ، ولا تُمثلوا (5) ، ولا تقتلوا وليدًا# (6) .
وليس معنى ذلك أن المجاهد المسلم ممنوع من استخدام الوسائل التي ترمي إلى تضليل العدو في الحرب والتغرير به لكسب المعركة: $فالحرب خدعة# (7) .
قال النووي -رحمه الله-: "اتفقوا على جواز خداع الكفار كيفما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان، فلا يجوز" (8) .
وليس ثمة نظام في الدنيا يقدر فيه قيمة الإنسان ويحفظ حقوقه كالنظام الإسلامي، وإذا كان هذا النظام يحسن إلى الحيوان فكيف الإنسان؟!.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (3015)، ومسلم (1744).
(2) انظر: إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة (191).
(3) أي: لا تَخونوا في الغنيمة.
(4) أي: لا تنقضوا العهد.
(5) أي: لا تشوهوا القتلى بقطع الأنوف والآذان.
(6) رواه مسلم (173).
(7) متفق عليه: البخاري (3029)، ومسلم (1740).
(8) شرح النووي لصحيح مسلم (12/45)، وانظر: المخابرات في الدولة الإسلامية (229).(1/25)
فعن عبد الله بن عمر، أن رسول الله ج قال: $عُذبت امرأة في هرة سجنتها حتَّى ماتت، فدخلت فيها (1) النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش (2) الأرض# (3) .
وعن أبِي هريرة، أن رسول الله ج قال: $بينما رجل يَمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا، فنَزل فيها، فشرب، ثُمَّ خرج، فإذا كلبٌ، يلهث (4) يأكل الثرى (5) من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني. فنَزل البئر، فملأ خُفَّه ماءً، ثُمَّ أمسكه بفيه حتَّى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له#.
قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرًا؟.
فقال: $في كل ذات كبد رطبة أجرٌ# (6) (7) .
وعن أبِي هريرة، قال: قال رسول الله ج: $بينما كلب يطيف بركيَّة (8) قد كاد يقتله العطش، إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنَزعت مُوقها (9) ، فاستقت له به، فسقته إياه فغفر لها به# (10) .
وعن شداد بن أوس عن رسول الله ج، قال: $إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحدَّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته# (11) .
__________
(1) أي: بسببها.
(2) خشاش الأرض: هوام الأرض وحشراتُها.
(3) متفق عليه: البخاري (3318)، ومسلم (2242).
(4) "يلهث": أخرج لسانه من شدة العطش والحر.
(5) "الثرى": التراب الندي.
(6) "في كل ذات رطبة أجر": معناه: في الإحسان إلى كل حيوان حي أجر، وسمي الحي ذا كبد رطبة، لأن الميت جف جسمه وكبده.
(7) متفق عليه: البخاري (6009)، ومسلم (2244).
(8) "يطيف بركية": أي يدور حول البئر.
(9) الموقى: الخف.
(10) متفق عليه: البخاري (3321)، ومسلم (2245).
(11) رواه مسلم (1955).(1/26)
وعن سعيد بن جبير، قال: مرَّ ابن عمر بنفر قد نصبوا دجاجة يترامونَها، فلما رأوا ابن عمر، تفرقوا عنها، فقال ابن عمر: "من فعل هذا؟ إن رسول الله ج لعن من فعل هذا؟" (1) . وفي رواية أخرى: "إن رسول الله ج لعن من اتَّخذ شيئًا من الروح غرضًا" (2) .
إن الإسلام يَحفظ قيمة الإنسان ويعظم حرمته في حضوره، وغيابه، وفي ضمائر الناس، بل وبعد مماته كذلك، ففي حضوره: حرم سبه وشتمه واحتقاره والاستهزاء به وحرم دمه وماله وعرضه، فقال ج: $سباب المسلم فسوق وقتاله كفر# (3) . وفي غيابه: حرم التجسس عليه وتتبع عورته وغيبته، كما قال تعالَى: {وَلاََ تَجَسَّسُوا وَلاََ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات: 12]. وفي ضمائر الناس: حرم تُهمته وسوء الظن به: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}. وقال ج: $إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا# (4) . وبعد مماته حرم أن يذكر بسوء، وجعل كسر عظمه ككسره حيًّا، إلى غير ذلك من أحكام ترفع من قيمة الإنسان.
__________
(1) رواه مسلم (1958).
(2) أي: لا تتخذوا الحيوان الحي غرضًا ترمون إليه.
(3) متفق عليه: البخاري (48)، ومسلم (116).
(4) متفق عليه: البخاري (6064)، ومسلم (2563).(1/27)
والنظام السياسي في الإسلام لا يعرف الاستعلاء، ولا السطو على مقدرات الشعوب، ولا العمل بالدس والخديعة، يقول جوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب": "لما أجلى النصارى العرب سنة (1610) من أسبانيا اتَّخذوا جميع الذرائع للفتك بِهم، فقتل أكثرهم، وكان مجموع من هلك من العرب ثلاثة ملايين، في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم غير مكلفين إلا بدفع الجزية، وقد بلغ تسامح العرب طوال حكمهم في أسبانيا مبلغًا قلما يصادف مثله في هذه الأيام".
عن عروة بن الزبير، قال: "مر هشام بن حكيم بن حزام على أُناس من الأنباط بالشام، قد أقيموا بالشمس، فقال: ما شأنُهم؟ قالوا: حُبسوا في الجزية، فقال هشام: أشهد لسمعتُ رسول الله ج يقول: $إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا#.
وزاد في رواية: "وأميرهم يومئذ عمير بن سعد على فلسطين، فدخل عليه، فحدثه فأمر بِهم فخلُّوا" (1) .
ولقد أسر "ريتشارد" قائد الحملة الصليبية ثلاثة آلاف مسلم، وأعطاهم الأمان، ثُمَّ قتلهم جميعًا.
النظام السياسي الإسلامي هو النظام الوحيد في تاريخ البشرية الذي أكرم أتباع الأديان الأخرى، ولَم يضطهدهم بسبب دينهم، قال نصارى الشام حين دخلها المسلمون بقيادة أبِي عبيدة بن الجراح: "أنتم ولستم على ديننا أرأف بنا من أهل ديننا".
ولما انتصر المسلمون على التتار، واعتنق ملوكهم الإسلام، فك التتار أسرى المسلمين، واحتفظوا بأسرى اليهود والنصارى، فأرسل شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أمير التتار يقول: "لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذي هم من أهل ذمتنا" فأطلق سراحهم!
وهذا عمر بن الخطاب يفرض لسائل يهودي من بيت مال المسلمين قائلاً لعماله: "انظروا هذا وضرباءه".
__________
(1) رواه مسلم (2613).(1/28)
فالنظام الإسلامي يُحسن معاملة الذين لَم يدخلوا فيه، ولكن بشرط ألا يكونوا معتدين، قال تعالَى: {لاََ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
F السمة الثالثة: نظام عقيدي:
إن النظام الإسلامي: يقوم على أساس العقيدة، ويستمد منها نظرته إلى الكون والحياة، ولَم يعتبر النظام السياسي الإسلامي في تكوين الدولة الجنسية أو العنصرية أو المواقع الجغرافية، لأن اعتبار هذه الروابط الأرضية ينافي سمة العالمية، وعموم الرسالة الإسلامية، فالرابطة التي تَجمع أبناء الدولة الإسلامية هي رابطة العقيدة، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللون، وهذا هو الرابط الذي يناسب كرامة الإنسان، وينبغي أن تغلب هذه الرابطة على كل رابطة سواها حتَّى رابطة النسب (1) ، قال تعالَى: {لاََ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم} [المُجادلة: 22].
F السمة الرابعة: نظام كامل شامل:
من خصائص الحكم الإسلامي: تَميزه بالكمال وتَميزه بالشمول، وهذا الكمال دل عليه قوله تعالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].
وهذا الكمال يتلازم معه الشمول، بِمعنَى شمول الشريعة لكل ما يحتاجه الناس على الإطلاق، فلا تخلو حادثة عن حكم الشريعة في جميع الأعصار والأمصار والأحوال.
وقد مرت على البشرية خلال تاريخها الطويل أشكال وأنواع من الشرائع المادية والأرضية، ولكن واحدة منها لَم تدع العموم والشمول الذي ميز الله به الشريعة الخاتمة.
__________
(1) انظر "الحكم والتحاكم".(1/29)
إنه شامل للفرد، وشامل لأحوال الأسرة، وشامل للمجتمع في علاقاته المدنية والتجارية، وشامل لما يتصل بالجرائم وعقوباتِها المقدرة شرعًا كالحدود، والمتروكة لتقدير أهل الشأن كالتعازير، وهذا يشمل ما يُسمى الآن "بالتشريع الجنائي" أو "الجزائي" وقوانين العقوبات.
وشامل لما يتعلق بواجب الحكومة نَحو المحكومين، وواجب المحكومين نَحو الحكام وتنظيم الصلة بين الطرفين، وشامل لما ينظم العلاقات الدولية في السلم والحرب (1) .
F السمة الخامسة: نظام العدالة والمساواة:
قال تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. فالآية تأمر بالعدل بين جنس الناس لا بين أمة منهم دون أمة، أو جنس دون جنس، أو لون غير لون.
وقد أمر الله رسوله ج أمرًا صريحًا بِهذا العدل، كما في قوله تعالَى: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15].
وأمر المؤمنين بالعدل فقال: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]. فقد أمرهم بالعدل في الأمور القولية فقال: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152].
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: "يأمر تعالَى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد، والله تعالَى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت، وفي كل حال".
وأمرهم بالعدل في الأمور الفعلية فقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135].
__________
(1) انظر: "الحكم والتحاكم" (376- 379).(1/30)
وأمرهم بالعدل في الأمور المالية فقال: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} وقال: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282].
وأمرهم بالعدل في الأمور القضائية فقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2].
وأمرهم بالعدل في الأمور السياسية والحكمية فقال: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].
وأمرهم بالعدل مع الأعداء فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاََ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاََ عُدْوَانَ إِلاََّ عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193].
وحذرهم سبحانه أن يتركوا العدل أبدًا، فقال: {فَلاََ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135]. قال ابن كثير: أي فلا يَحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشئونكم، بل الزموا العدل على أي حال كان".
إن هذه العدالة لا تقوم إلا بعد أن يترسخ مفهوم المساواة بين الناس (1) قال تعالَى: { يَأيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13].
فالمسلمون كلهم جميعًا سواء، إنَّما يتفاضلون بالأمور الدينية، طاعة الله تعالَى، وطاعة رسوله ج، وهذا ما قرره نبيُّ الإسلام -عليه الصلاة والسلام- في قوله: $إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم# (2) .
__________
(1) انظر: الحكم والتحاكم (404-413).
(2) رواه مسلم (2564).(1/31)
ولقد حسم الرسول ج هذا المبدأ أيضًا وقرره في خطبته التي ودع فيها أهل الدنيا "خطبة الوداع" قال: $يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربِي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى# (1) .
وكما رفع الإسلام من شأن المساواة، فقد حط من شأن العصبيات والعنصريات. قال رسول الله ج: $إن الله - عز وجل - قد أذهب عنكم عُبَّيَّة (2) الجاهلية وفخرها بالآباء، فالناس رجلان: مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعنَّ رجال فخرهم بأقوام، إنَّما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونُنَّ أهون على الله من الجعلان (3) التي تدفع بأنفها النتن# (4) .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كنا مع النَّبِي ج في غزاة، فكسع (5) رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: ياللأنصار! وقال المهاجري: ياللمهاجرين. فقال رسول الله ج: $ما بال دعوى الجاهلية#. قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: $دعوها، فإنَّها منتنة (6) # (7) .
__________
(1) حديث صحيح: أخرجه أحمد في مسنده (5/411)، وأبو نعيم في حليته (3/100)، وانظر: غاية المرام (313).
(2) أي: فخرها وكبرها ونَخوتُها.
(3) جعل: جُعل بضم ففتح وهي دويبة سوداء تدفع العذرة بأنفها.
(4) حديث حسن: أخرجه أبو داود (5116)، والترمذي (3270)، وأحمد (2/361، 524)، والبيهقي (10/232)، وغيرهم، وانظر: غاية المرام (312).
(5) أي: ضرب دبره وعجيزته، بيد أو رجل، أو سيف، أو غيره.
(6) أي: قبيحة كريهة مؤذية.
(7) متفق عليه: البخاري (4905)، ومسلم (2584).(1/32)
وعن المعرور بن سويد، قال: $لقيت أبا ذر بالرَّبذة وعليه حلَّة، وعلى غلامه حُلَّة فسألته عن ذلك. فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي النَّبِي ج: يا أبا ذر أعيرته بأمِّهِ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولُكم (1) جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تَحت يده فليطعمه مِما يأكل، وليلبسه مِما يلبسُ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم# (2) .
فالعصبية للجنس، أو للقبيلة، أو للوطن، عصبية جاهلية، ليست من الإسلام في شيء، فقد كان أهل الجاهلية يأخذون الحقوق بالعصبات والقبائل، فجاء الإسلام بإبطال هذه العصبيات، وفصل القضايا بالأحكام الشرعية، وأعطى كل ذي حق حقه من غير تفريق بين عربي وعجمي، وأبيض وأسود، وهكذا يقيم النظم الإسلامي مُجتمعات نظيفة رفيعة، لكل فرد فيها كرامته التي لا تُمس، وحقوقه التي لا تُخدش.
وإذا كان الحق ما شهدت به الأعادي، فإن أعداء الإسلام قديْمًا وحديثًا، شهدوا للحكم الإسلامي بأنه حكم العدالة والمساواة، فمنذ عهد النبوة جاء كفار بنِي إسرائيل ينشدون العدالة عند نبينا ج بعد أن أيسوا من تحصيلها عند قضائهم وحكامهم.
ويقول المؤرخ الشهير "غوستاف لوبون" في كتاب "حضارة العرب": "الحق أن الأمم لَم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم".
ونقل عن عدد من المؤرخين الأوروبيين شهاداتُهم عن عدالة الإسلام التي شهد لها الواقع التطبيقي في تاريخ المسلمين، فنقل عن أحدهم ويُدعى "روبرستون" قوله: "إن المسلمين وحدهم هم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح والعدل نَحو أتباع الأديان الأخرى".
__________
(1) الخول: مثال الخدم والحشم، وزنًا ومعنَى، من التخويل بِمعنى الإعطاء والتمليك.
(2) متفق عليه: البخاري (30)، ومسلم (1661).(1/33)
ونقل عن آخر يدعى "ميشود" قوله: "إن القرآن الذي أمر بالجهاد، متسامح نَحو أتباع الأديان الأخرى، وقد أعفى البطارقة والرهبان من الضرائب، وحرم مُحمد قتل الرهبان لعكوفهم على العبادات، ولَم يمس عمر بن الخطاب النصارى بسوء حين فتح بيت المقدس في حين ذبح الصليبيون المسلمين وحرقوا اليهود بلا رحمة وقتما دخلوها".
ويُبدي "ول ديوارنت" الدهشة للدرجة التي وصل إليها مفهوم المساواة تحت حكم الإسلام فيقول: "كان يُسمح للعبيد أن يتزوجوا وأن يتعلم أبناؤهم إذا أظهروا قدرًا كافيًا من النباهة، وإن المرء ليدهش من كثرة أبناء العبيد والجواري الذين كان لَهم شأن عظيم في الحياة العقلية والسياسية في العالم الإسلامي" (1) .
F السمة السادسة: نظام عالمي:
خصائص النظام السياسي الإسلامي ومقوماته: جعلته نظامًا عالَميًّا، تشريعاته وقوانينه صالحة لكل زمان ومكان، وذلك لأنَّها اشتملت على جميع مصالح الناس ومنافعهم، ولأنَّها كذلك من لدن حكيم خبير يعلم ما كان وما يكون، ومن الأدلة على سمة العالمية قوله تعالَى: {وَمَا هُوَ إِلاََّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ}. وقوله سبحانه: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيْعًا}.
ومن السنة حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله ج يقول: $ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر، ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر# (2) .
وحديث ثوبان، قال: قال رسول الله ج: $إن الله زوى (3) لِي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربَها، وإن أمتِي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها# (4) .
__________
(1) انظر: الحكم والتحاكم (1/422-423).
(2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (6/4)، والطبرانِي (20/601)، والحاكم (4/430) والبيهقي (9/181)، وابن حبان (15/6699) وغيرهم.
(3) "زوى": معناه: جمع وضم.
(4) رواه مسلم (2889).(1/34)
وقد تَحقق هذا خلال التاريخ الإسلامي حيث كانت الدولة الإسلامية تحكم مساحات شاسعة من الأرض، وتَحكم أُمَمًا شتَى، وأجناسًا مُختلفة، بل كانوا يشاركون في الحكم، فقد تقلد غير العرب -وهم مادة الإسلام- أعظم المناصب في الدولة الإسلامية وخضع لَهم العرب أنفسهم.
FFFFF
أهداف النظام السياسي في الإسلام
يهدف النظام السياسي الإسلامي إلى غايات نبيلة، وأهداف سامية، أهمها:
1- إقامة الدين وتحقيق العبودية لرب العالمين:
إقامة الدين في الأرض مقصد أساسي من مقاصد الحكم في الإسلام، فالحاكم وكل نوابه مسئولون عن تحقيق هذه الغاية، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "المقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متَى خسروه خسروا خسرانًا مبينًا، ولَم ينفعهم مانعموا به في الدنيا" (1) .
ويقول الشوكانِي: "إن الغرض المقصود للشارع من نصب الأئمة أمران:
أولهما أو أهمهما: إقامة منار الدين، وتثبيت العباد على صراطه المستقيم ودفعهم عن مُخالفته، والوقوع في مناهيه طوعًا وكرهًا.
وثانيهما: تدبير المسلمين في جلب مصالِحهم، ودفع المفاسد عنهم" (2) .
قال تعالَى: {شَرَعَ لَكُم منَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّين وَلاََ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. "أي أقيموا دين الإسلام بأركانه، وبِما فيه من توحيد الله تعالَى، وطاعته والإيْمان بكتبه وبرسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون الرجل به مؤمنًا، والمراد بإقامته: تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ، والمواظبة عليه والتشمير له" (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (28/262).
(2) انظر: إكليل الكرامة (91).
(3) تفسير أبِي السعود (5/60).(1/35)
ودولة الإسلام تَهدف أيضًا إلى تَهيئة المجتمع الإسلامي للقيام بالعبادة بالمعنَى الشامل، فهي المسئولة عن إقامة الصلاة في الناس، وكذلك تشرف على إيتاء الزكاة وتوزيع الصدقات، وإظهار الشعائر، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق نظام الحسبة، وغير ذلك.
وإذا كان للعبادة أصلان: الإخلاص والمتابعة، فإنه مِما لا شك فيه أن الدولة الإسلامية مسئولة عن حماية هذين الأصلين بِمحاربة الشرك ومقاومة البدع والخرافات والتيارات الفاسدة، فهي تحسم الشرك، وتَحمي الشرع ضد من يعتدي عليه بابتداع أو تَحريف أو تبديل، فإن ذلك يعين على تحقيق العبودية لله رب العالمين، وعلى حماية الدين من انتحالات المبطلين وتأويل الجاهلين (1) ، قال تعالَى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاََةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41].
ويهدف النظام السياسي الإسلامي كذلك إلى نشر رسالة الإسلام في الأرض جميعها بكل الوسائل المشروعة الممكنة، قال تعالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاََّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28].
2- والهدف الثاني: إقامة العدل:
يهدف النظام السياسي الإسلامي إلى تحقيق العدالة بأوسع معانيها، وفي شتى مَجالاتِها الاجتماعية والقضائية والإدارية والسياسية والدولية، ويتضمن ذلك حماية الحقوق والحريات والمساواة.
__________
(1) انظر: "الحكم والتحاكم في خطاب الوحي" (ص436-437).(1/36)
"إن إقامة الدولة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي ليس في ذاته غاية، أما الغاية فهي إيْجاد أمة تُوقف نفسها على الخير والعدل، تحق الحق وتبطل الباطل... إن دفع الظلم عن الناس، وإقامة معالم العدل في الأرض هي الغاية التي تستهدفها رسالة الإسلام الاجتماعية، كما قال تعالَى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. فالدولة الإسلامية ليست هي في الحقيقة سوى الجهاز السياسي لتحقيق هذا المثل الأعلى.. أن تَجعل من شريعة الإسلام القانون المهيمن على شئون الحياة، كيما يسود الحق والخير والعدالة، وأن تنظم العلائق الاجتماعية والاقتصادية بصورة تتيح لجميع الأفراد أن يَحظوا بالحرية والأمن والكرامة" (1) .
3- الهدف الثالث: إصلاح دنيا الناس:
فليس الحكم الإسلامي حدودًا فقط أو مُجرد إمامة وخلافة تَجمع شَمل المسلمين، فالحكم الإسلامي مسئول عن إصلاح دنيا الناس في عالم الاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام والتعليم، والدفاع والاختراع إلى جانب الإصلاح السياسي، وهذا هو المراد بالرسالة الإصلاحية للإسلام.
إن غاية التشريع الإسلامي هي الإصلاح فيما يَحل وفيما يحرم، لأنه ليس لمن أنزل هذا التشريع سبحانه إرادة بالناس، إلا صلاحهم، وهدايتهم والتيسير عليهم، ورفع الحرج عنهم، كما قال تعالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (((( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاًَ عَظِيمًا (((( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26- 28].
__________
(1) انظر: منهاج الإسلام في الحكم: (69-73).(1/37)
"كذلك تستهدف الدولة الإسلامية في سياستها الاقتصادية عمارة الأرض وتَحقيق سبل العيش الكريْم لرعاياها مع تحقيق تكافؤ الفرص والعدالة في توزيع إنفاق الدولة وخدماتِها استرشادًا بقوله تعالَى: {كَيْ لاََ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ}" (1) . [الحشر: 7].
وإن المتأمل لجميع قواعد النظام السياسي الإسلامي وأحكامه يَجدها تَهدف إلى مقاصد ثلاثة: هي درء المفاسد، وجلب المصالح، والجري على مكارم الأخلاق، فبإقامة النظام السياسي الإسلامي وشرع الله تبارك وتعالَى تتحقق هذه المقاصد الثلاثة وتصلح دنيا الناس (2) .
قواعد النظام السياسي الإسلامي
الشورى- الطاعة- العدل- الحرية
F أولاً: الشورى:
الشورى من أهم قواعد الحكم في الإسلام، وهي الطريقة المثلى التي يتوصل بِها ولي الأمر والمسئولون إلى أفضل الحلول والآراء، فيما تتعرض له الدولة من مشكلات، أو فيما تريد أن تحققه من مصالح، "فلا غنَى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالَى أمر بِها نبيه ج، فقال تعالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 259]. وقد روي عن أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: لَم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله ج" (3) .
وقد قيل: إن الله أمر بِها نبيه ج لتأليف قلوب أصحابه، وليقتدي به من بعده، وليستخرج منهم الرأي فيما لَم ينْزل فيه وحي من أمر الحروب والأمور الجزئية وغير ذلك، فغيره ج أولَى بالمشورة.
__________
(1) من أصول الفكر السياسي الإسلامي (65).
(2) انظر: الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (463-465).
(3) ذكره الترمذي في سننه (4/186) معلقًا بصيغة التمريض: فقال: "ويُروى عن أبِي هريرة فذكره" فهو ضعيف! ومع ذلك فقد أغرب د. أبو فارس في كتابه "النظام السياسي في الإسلام" (91) فعزاه إلى صحيح البخاري!!(1/38)
وقد أثنَى الله تعالَى على المؤمنين بذلك في قوله: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاََةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الشورى: 38].
وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله، وسنة رسوله، أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك... وإن كان أمرًا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه، فأيُّ الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به" (1) .
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية (133-134).(1/39)
قال أمير المؤمنين في الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في باب قوله تعالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}: "وشاور النَّبِي ج أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، فرأوا الخروج... وشاور عليًّا وأسامة فيما رمى به أهلُ الإفك عائشة فسمع منهما حتى نزل القرآن، فجلد الرامين، ولَم يلتفت إلى تنازعهم، ولكن حكم بِما أمره الله، وكان الأئمة بعد النَّبِي ج يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة، ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتابُ أو السنة لَم يتعدَّوه إلى غيره اقتداء بالنبي ج، ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة، فقال عمر: "كيف تقاتل وقد قال رسول الله ج: $أمرت أن أقاتل الناس حتَّى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بِحقها وحسابُهم على الله#. فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله ج. ثُمَّ تابعه بعدُ عمر، فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذ كان عنده حكم النَّبِي ج في الذين فرقوا بين الصلاة و الزكاة، وأرادوا تبديل الدين وأحكامه، وقال النَّبِي ج: $من بدل دينه فاقتلوه# وكان القراءُ أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شبانًا، وكان وقافًا عند كتاب الله - عز وجل - " (1) .
وأخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران، قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر، نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله ج قضى به، وإن لَم يعلم، خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم" والأخبار الواردة عن عمر بن الخطاب في المشاورة كثيرة (2) .
حكم الشورى:
__________
(1) البخاري (13/351) 96-كتاب الاعتصام.
(2) انظر فتح الباري (13/354)، فتح القدير (1/394).(1/40)
والراجح من أقوال أهل العلم: القول بوجوب الشورى، لأن الأمر في الآية يدل على الوجوب، ولَم تأتِ قرينة تصرفه إلى الندب والاستحباب، وإليه ذهب جمهور الفقهاء، يقول ابن خويز منداد -من المالكية-: "واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما يُشكل عليهم من أمور الدين، ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ووجوه الكتَّاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بِمصالح البلاد وعمارتِها" (1) .
"وترك التشاور تعريض بِمصالح المسلمين للخطر والفوات" (2) .
نظام الشورى:
وليس هناك نص من الكتاب أو السنة يلزم الدولة الإسلامية بكيفية معينة للشورى، أو بنظام مُحدد لأهل الشورى، فإن ذلك يَختلف باختلاف الزمان والمكان، فمن الحكمة أن ترك الشارع الشريف لولي الأمر تفصيل نظام الشورى بِما يتلاءم وبِما تحققه المصلحة، المهم أن يكون أعضاء مجلس الشورى من المسلمين العدول لا من غيرهم، ومن ذوي الاختصاص والخبرة في كل فن من الفنون، ومن أصحاب الرأي وأرباب السياسة الشرعية "وإذن لا يُمكن القول بأن في الإسلام قصورًا عن مسايرة الزمن في شكل الحكومة الملائمة، لأن الإسلام أقر أسسًا عادلة، لا تختلف فيها أمة عن أمة، وأفسح للناس في أن يقرروا على هذه الأسس ما يرونه -من التفصيلات- كفيلاً بِمصالحهم، وملائمًا لأحوالِهم" (3) . وبِما لا يُخالف نصًّا من النصوص الشرعية.
بين الشورى والديْمقراطية:
ومما ينبغي أن يُجتنب من الزور من القول: أن الديمقراطية هي التطبيق العصري للشورى الإسلامية، فشتان بين الثرى والثريا، فبين النظامين فرق كبير وبون شاسع:
__________
(1) تفسير القرطبِي (4/250).
(2) التحرير والتنوير (4/184).
(3) السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف (31).(1/41)
1- فالشورى مقيدة فيما لَم ينْزل فيه وحي، وملزمة بعدم مخالفة نصوص القرآن والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الشريعة وأصولها العامة، والديمقراطية مطلقة متعدية على أحكام العلي الكبير، فبأغلبية الأصوات تبيح ما حرم الله من الزنَى، والشذوذ، وزواج الرجل بالرجل، وتُحرم ما أحل الله من تعدد الزوجات، والتمتع بالطيبات، وغير ذلك.
2- وأعضاء مجلس الشورى من المسلمين العدول أهل العلم وأصحاب الرأي وذوي الخبرة والاختصاص في كل فن من الفنون، ومَجلس النواب في النظام الديمقراطي يجمع الحابل والنابل، والعالم والجاهل، والحكيم والسفيه، والممثل والراقصة، ممن يستطيع أن يربح أصوات الناخبين فهؤلاء أجمعون هم الذين يشرعون ويُحللون ويُحرمون!
3- ولا يعرف الحق في نظام الشورى بالأكثرية دائمًا أبدًا كما قال تعالَى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. بل بالدليل والبرهان، والحجة والإقناع، ومراعاة الأصول الشرعية، وتَحقيق مصلحة الأمة، وبأغلبية الأصوات في النظام الديمقراطي يفصل في المشكلات والمهمات بغض النظر عن الحجج الشرعية والبراهين العقلية.
F ثانيًا: السمع والطاعة والتقيد بالأنظمة والقوانين:
1- انعقد إجماعُ أهل السنة والجماعة على وجوب السمع والطاعة لولِي الأمر والمسئولين والتقيد بالأنظمة والقوانين، فيما ليس فيه مخالفة للنصوص الشرعية: $فلا طاعة في المعصية، إنَّما الطاعة في المعروف# (1) .
__________
(1) متفق عليه: البخاري (7257)، ومسلم (1840) قال القرطبِي في المفهم (4/41): ويعنِي بالمعروف هنا: ما ليس بِمنكر ولا معصية، فيدخل فيها الطاعات الواجبة، والمندوب إليها والأمور الجائزة شرعًا، فلو أمر بِجائز، لصارت طاعته فيها واجبة، ولما حلَّت مُخالفته". ا’.(1/42)
وأصرح دليل على ذلك آية الأمراء في كتاب الله - عز وجل - وهي قوله سبحانه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًَ} [النساء: 59].
وحديث عبد الله بن عُمر، عن النَّبِي ج، أنه قال: $على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره (1) ، إلا أن يُؤمر بِمعصية، فإن أمر بِمعصية، فلا سَمع ولا طاعة# (2) .
وحديث علي بن أبِي طالب، عن النَّبِي ج، قال: $لا طاعة لبشر في معصية الله -جل وعلا-# (3) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "إنَّهم -يعنِي أهل السنة- لا يُجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يُجوزون طاعته في معصية الله، وإن كان إمامًا عادلاً، فإذا أمرهم بطاعة الله أطاعوه، مثل أن يأمرهم بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصدق، والعدل، والحج، والجهاد في سبيل الله، فهم في الحقيقة إنَّما أطاعوا الله.
والكافر والفاسق إذا أمر بِما هو طاعة لله لَم تحرم طاعته، ولا يسقط وجوبُها لأمر ذلك الفاسق بِها، كما أنه إذا تكلم بحق لَم يجز تكذيبه، ولا يسقط وجوب اتباع الحق، لكونه قد قاله فاسق" (4) .
"ولا يفهم من ذلك أنه إذا أمر بمعصية فلا يسمع له مطلقًا في كل أوامره، بل يسمع له ويطاع مطلقًا إلا في المعصية فلا سَمع ولا طاعة" (5) .
__________
(1) أي: فيما وافق غرضه أو خالفه.
(2) متفق عليه: البخاري (7144)، ومسلم (1839).
(3) حديث صحيح: أخرجه ابن حبان (10/430)، وأبو يعلى (279).
(4) منهاج السنة (3/387).
(5) ينظر: "تَهذيب الرياسة وترتيب السياسة" للقلعي: (ص113-114).
انظر: "معاملة الحكام في ضوء القرآن والسنة" (117) للأخ الشيخ الفاضل عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم- حفظه الله تعالَى ونفع به- وقد استفدت كثيرًا من نقوله وفوائده- فجزاه الله خير الجزاء.(1/43)
"فعلى الرعية أن يطيعوا أولي الأمر... إلا أن يأمروا بِمعصية الله، فإذا أمروا بِمعصية الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن تنازعوا في شيء ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ج، وإن لَم تفعل ولاةُ الأمر ذلك أطيعوا فيما يأمرون به من طاعة الله، لأن ذلك من طاعة الله ورسوله، وأديت حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله" (1) .
2- والسمع والطاعة لولاة الأمور والمسئولين، ليست في حال دون حال، بل دائمًا أبدًا، في العسر واليسر، وفي الرضى والسخط، وفيما تكرهه النفوس ويشق عليها، وغير ذلك.
يقول شيخ الإسلام: "وأما أهل العلم والدين والفضل فلا يرخصون لأحد فيما نَهى الله عنه من معصية ولاة الأمور وغشهم والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديْمًا وحديثًا" (2) .
وبرهان ذلك حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ج: $عليك بالسمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك# (3) .
"ويعني بذلك ج -كما يقول القرطبِي- أن طاعة الأمير واجبة على كل حال، سواء كان المأمور به موافقًا لنشاط الإنسان وهواه، أو مُخالفًا.. وإن استأثروا بالأموال دون الناس، بل وأشد من ذلك، لأنه ج قال لحذيفة: $فاسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك# (4) .
وعن أنس، قال: قال رسول الله ج: $اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة# (5) .
__________
(1) انظر: السياسة الشرعية: (4-5).
(2) مجموع الفتاوى (35/12).
(3) أخرجه مسلم (1836)، والأثرة: الاستئثار والاختصاص بأمور الدنيا.
(4) المفهم: (4/36-37)، والحديث الذي ذكره رواه مسلم (1847).
(5) رواه البخاري (7142).(1/44)
3- وتَجب الطاعة للحكام والمسئولين، وإن منعوا حقوق الرعية، لأن معصيتهم حرام لحق الله تعالَى، ولأن الشارع الشريف لَم يَجعلها لهم في مقابل شيء يبذلونه للرعية، فلم يقيدها إلا بأن تكون في المعروف، وفي حدود الاستطاعة، وهذا من تَمام الحكمة، وكمال المصلحة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة مع أهله، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لَم يكن له أن يستكرهه على ذلك .. لأن هذا حرام لحق الله تعالَى، ولو سب النصارى نبينا ج، لَم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر، فليس لنا أن نكفر عليًّا.." (1) . وكذلك الحكام لو جاروا وظلموا ومنعوا حقوقنا، لَم يكن لنا أن نترك السمع والطاعة.
عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال: سأل سلمة بن يزيد الجُعفي رسول الله ج فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم، ويَمنعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثُمَّ سأله؟ فأعرض عنه، ثُمَّ سأله في الثانية أو في الثالثة؟ فجذبه الأشعث بن قيس، وقال ج: $اسمعوا وأطيعوا، فإنِّما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم# (2) .
__________
(1) منهاج السنة (5/244).
(2) رواه مسلم (1846)، والمعنَى كما يقول النووي: "أي هم يَجب عليهم ما كلفوا به من إقامة العدل وإعطاء حق الرعية، فإن لَم يفعلوا فعليهم الوزر والوبال، وأما أنتم فعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة وأداء الحقوق، فإن قمتم بِما عليكم يكافئكم الله -سبحانه- بأحسن المثوبة".
... ويقول القرطبي في المفهم: (4/55): "يعنِي أن الله تعالَى كلَّف الولاة العدل وحسن الرعاية، وكلف المولى عليهم الطاعة وحسن النصيحة، فأراد: أنه إن عصى الأمراء الله فيكم، ولَم يقوموا بِحقوقكم، فلا تعصوا الله أنتم فيهم، وقوموا بِحقوقهم، فإن الله مجاز كل واحد من الفريقين بِما عمل".(1/45)
وعن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال: قلت: $يا رسول الله، إنا كنا بشرٍّ، فجاء الله بِخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرٌّ، قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء الخير شر؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة، لا يهتدون بِهداي، ولا يستنون بسنتِي، وسيقوم فيهم رجال، قلوبُهم قلوب الشياطين في جثمان إنس#.
قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: $تسمع وتطيع للأمير، وإن ضربك ظهرك، وأخذ مالك؛ فاسمع وأطع# (1) .
"وهذا الحديث من أبلغ الأحاديث التي جاءت في هذا الباب؛ إذ قد وصف النَّبِي ج هؤلاء الأئمة بأنَّهم لا يهتدون بَهديه ولا يستنون بسنته، وذلك غاية الضلال والفساد، ونِهاية الزيغ والعناد، فهم لا يَهتدون بالهدي النبوي في أنفسهم، ولا في أهليهم، ولا في رعاياهم... ومع ذلك فقد أمر النَّبِي ج بطاعتهم -في غير معصية الله كما جاء مقيدًا في أحاديث أخر- حتى لو بلغ الأمر إلى ضربك وأخذ مالك، فلا يحملنك ذلك على ترك طاعتهم وعدم سَماع أوامرهم، فإن هذا الجرم عليهم، وسيحاسبون ويُجازون به يوم القيامة.
فإن قادك الهوى إلى مخالفة هذا الأمر الحكيم والشرع المستقيم، فلم تسمع ولَم تطع لأميرك لحقك الإثم، ووقعت في المحظور.
وهذا الأمر النبوي هو من تَمام العدل الذي جاء به الإسلام، فإن هذا المضروب إذا لَم يسمع ويطع، وذاك المضروب إذا لَم يسمع ويطع.. أفضى ذلك إلى تعطيل المصالح الدينية والدنيوية، وأن تكون الأمور فوضى، فيقع الظلم على جميع الرعية أو أكثرهم، وبذلك يرتفع العدل عن البلاد، فتتحقق المفسدة، وتلحق بالجميع.
بينما لو ظلم هذا فصبر واحتسب، وسأل الله الفرج، وسمع وأطاع، لقامت المصالح ولَم تتعطل، ولَم يضع حقه عند الله تعالَى؛ فربما عوضه خيرًا منه، وربما ادخره له في الآخرة.
__________
(1) رواه مسلم (1847).(1/46)
وهذا من محاسن الشريعة، فإنِّها لَم ترتب السمع والطاعة على عدل الأئمة، ولو كان الأمر كذلك، لكانت الدنيا كلها هرجًا ومرجًا، فالحمد لله على لطفه بعباده" (1) .
ومما يدل على ذلك أيضًا حديث عوف بن مالك عن رسول الله ج قال: $خيار أئمتكم الذين تُحبونَهم ويُحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونَهم ويبغضونكم، وتلعنونَهم ويلعنونكم#.
قيل: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟
فقال: $لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهونه، فاكرهوا عمله، ولا تنْزعوا يدًا من طاعة# (2) .
5- ويَجب السمع والطاعة للحكام والمسئولين وإن فسقوا وفجروا، وجاروا وظلموا.
عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال: قلنا يا رسول الله: لا نسألك عن طاعة من اتقى، ولكن من فعل وفعل -فذكر الشر- فقال: $اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا# (3) .
يقول ابن أبِي العز الحنفي: "وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج عن طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يَحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور" (4) .
6- وتَجب طاعة الحاكم المسلم إذا قيَّد المباح من الأمر، ورأى في ذلك مصلحة، فقد منع عمرُ خروج أكابر الصحابة من المدينة النبوية، وأمر عثمانُ أبا ذر أن يخرج من الشام، ويقطن المدينة، فاستأذنه أن يخرج إلى الربذة، فأذن له، بل "لو أمر بِجائز لصارت طاعته واجبة، ولما حلَّت مخالفته" (5) ، بل "لو أمر بواجب من الواجبات المخيرة، أو ألزم بعض الأشخاص الدخول في واجبات الكفاية لزم ذلك، فهذا أمر شرعي وجب فيه الطاعة" (6) .
__________
(1) معاملة الحكام (120).
(2) رواه مسلم (1855).
(3) أخرجه ابن أبِي عاصم في السنة (2/508) وقال: الشيخ الألبانِي: "حديث صحيح".
(4) شرح العقيدة الطحاوية (2/543).
(5) المفهم (4/41).
(6) انظر: إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة (74).(1/47)
7- وإن طاعة الأمراء في المعروف مع القيام بأركان الإسلام، سبب لدخول الجنات.
فروى أبو أمامة، قال: سمعت رسول الله ج وخطبنا في حجة الوداع، وهو على ناقته الجدعاء، فقال: $أيها الناس)). فقال رجل في آخر الناس: ما تقول أو ما تريد؟ فقال: $ألا تسمعون)): $إنه لا نبِي بعدي، ولا أمة بعدكم، ألا فاعبدوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، طيبة بِها أنفسكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم# (1) .
وقد طبق السلف الصالح مبدأ السمع والطاعة خير تطبيق:
1- عن زيد بن وهب، قال: "لما بعث عثمان إلى ابن مسعود، يأمره بالمجيء إلى المدينة، اجتمع إليه الناس، فقالوا: أقم، فلا تَخرج، ونَحن نَمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال: إن له عليَّ طاعة، وإنَّها ستكون أمور وفتَن، ولا أحب أن أكون أول من فتحها. فرد الناس، وخرج إليه" (2) .
2- وعن حميد بن هلال، قال: قام زيد بن صوحان إلى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، ملتَ فمالت أمتك، اعتدل يعتدلوا. قال عثمان: أسامع مطيع أنت؟ قال: نعم. قال: إلحق بالشام. فطلق امرأته، ثُمَّ لحق بِحيث أمره" (3) .
3- "قيل لأبي وهب الزاهد (ت344) ليلة: قم بنا لزيارة فلان. فقال: وأين العلم؟ ولي الأمر له طاعة، وقد منع من المشي ليلاً" (4) .
4- ويقال: "إن ابن أبِي ليلى وأبا حنيفة كان بينهما وحشة، وكان ابن أبِي ليلى يَجلس للحكم في مسجد الكوفة، فيحكى أنه انصرف يومًا من مجلسه، فسمع امرأة تقول لرجل: "يابن الزانيين" فأمر بِها، فأخذت، ورجع إلى مجلسه، وأمر بِها، فضربت حدين وهي قائمة، فبلغ ذلك أبا حنيفة، فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء:
__________
(1) حديث صحيح: رواه أحمد: (5/251)، والترمذي (616)، وابن حبان (10/426)، والطبرانِي (8/181)، والحاكم في المستدرك (1/9)، وابن أبِي عاصم (1095).
(2) نزهة الفضلاء (1/84).
(3) المصدر السابق (1/307).
(4) المصدر السابق (2/1140).(1/48)
1- في رجوع إلى مجلسه بعد قيامه منه.
2- وفي ضربه الحد في المسجد، وقد نَهى رسول الله ج عن إقامة الحدود في المسجد.
3- وفي ضرب المرأة قائمة، وإنَّما يضرب النساء قعودًا.
4- وفي ضربه إياها حدين، وإنَّما يَجب على القاذف إذا قذف جماعة بكلمة واحدة حد واحد.
5- ولو وجب أيضًا حدان فلا يوالي بينهما، بل يضرب أولاً، ثُمَّ يترك حتَّى يبرأ من ألَم الأول.
6- وفي إقامة الحد عليها بغير طالب!
فبلغ ذلك محمد بن أبِي ليلى، فصار إلى والي الكوفة، وقال: ها هنا شاب يقال له: أبو حنيفة يعارضنِي في أحكامي ويفتِي بِخلاف حكمي، ويشنع عليَّ بالخطأ، فأريد أن تزجره عن ذلك.
فبعث إليه الوالي، ومنعه من الفتيا.
فيقال: إنه كان يومًا في بيته وعنده زوجه، وابنه حماد، وابنته، فقالت له ابنته: إنِّي صائمة وقد خرج من بين أسنانِي دمٌ، وبصقته، حتَّى عاد الريق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق؟ فقال لَها: سلي أخاك حمادًا؛ فإن الأمير منعنِي من الفتيا" (1) .
F ثالثًا: العدل والمساواة:
سبق أن فصلنا القول فيها في موضوع: "سمات النظام السياسي في الإسلام".
F رابعًا: الحرية:
الحرية من أهم مقومات الشخصية الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، فبها يتميز الإنسان على سائر الحيوان، لقد جاء الإسلام ليضمن الحريات بِجميع أنواعها، ويحميها من العبث والإكراه وتعدي الآخرين.
حرية الدين والمعتقد:
__________
(1) الشهب اللامعة: (69-70).(1/49)
لقد أعلن الإسلام الحرية الدينية في الآية الصريحة الواضحة: {لاََ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]. ودخلت جيوش الإسلام معظم أقطار المعمورة بعد سنين من انبثاق فجره، فلم يكرهوا أحدًا على الدخول في الدين الحق، ولَم يمنعوا أحدًا من أهل الكتاب من ممارسة شعائرهم التعبدية، أو ممارسة ما أباحه لهم دينهم من الأطعمة والأشربة التي يُحرمها الإسلام، وعاشوا في ظل الدولة الإسلامية قرونًا طويلة آمنين مطمئنين متمتعين ببر الإسلام لهم وعدله وسماحته.
يقول المؤرخ الإنجليزي توماس أرنولد: "لَم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام الطوائف من غير المسلمين على قبول الإسلام، أو عن أي اضطهاد منظم قُصد منه استئصال الدين المسيحي، ولو اختار الخلفاء لاكتسحوا المسيحية بتلك السهولة التي أقصى فيها فرديناند وإيزابيلا دين الإسلام من أسبانيا.. ولِهذا فإن مجرد بقاء هذه الكنائس حتى الآن ليحمل في طياته الدليل القوي على ما قامت عليه سياسة الحكومات الإسلامية بوجه عام عن تسامح نَحوهم" (1) .
الحرية السياسية:
__________
(1) "الدعوة إلى الإسلام" لتوماس أرنولد (89-99)، نقلاً عن منهج الإسلام في الحرب والسلم (65).(1/50)
أفراد الأمة الإسلامية مكلفون بالدعوة إلى الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن الفساد في الأرض، وقد ورد في أحاديث كثيرة النصح للمسلمين عمومًا، وفي بعضها، النصح لولاة أمورهم خصوصًا، فالنصيحة لأولياء الأمور وأرباب السياسة مِما شرعه الإسلام، فينبغي على المسلم الناصح الأمين الذي لا غرض له ولا هوى، وإنَّما مراده مُجرد مرضاة الله والخير للأمة، لا يشوب ذلك بغيره من أغراضه الدنيوية ومصالحه الشخصية، إذا رأى رأيًا في السياسة يحقق المصلحة للأمة، نصح به ولاة الأمر والمسئولين، وبين لَهم وجهة نظره بالطريقة المشروعة، برفق ولطف، وفيما بينه وبينهم؛ "فإن المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير" كما قال الفضيل ابن عياض، "وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سرًّا" حتى قال بعضهم: "من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رءوس الناس فإنَّما وبخه" (1) وأبلغ من ذلك قول النَّبِي ج: $من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر، فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له# (2) .
أما أن يُتخذ من المعارضة السياسية وسيلة لإثارة الرعاع، وتَهييج العامة، وإشعال الفتَن والثورات، فليس من الإسلام في شيء، فهذا عمر بن الخطاب استنكر صلح الحديبية، ورأى أن فيه إجحافًا للمسلمين؛ وذلك أن من بنوده: "أن من جاء من قريش إلى رسول الله مسلمًا رُدَّ إليهم، ومن جاءهم من عنده ج لا يردونه إليه" فأبدى رأيه بكل وضوح: ألست نبي الله حقًّا؟... ألسنا على الحق وعدوُّنا على الباطل؟... فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ ... أوليس كنت تُحدِّثنا أنا سنأتِي البيت فنطوف به؟ قال ج: $بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟ قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوِّف به#.
__________
(1) انظر: جامع العلوم والحكم (99).
(2) سيأتِي تخريجه -إن شاء الله تعالى-.(1/51)
ثُمَّ جاء أبا بكر: "يا أبا بكر أليس هذا نبيٌّ الله حقًّا؟... ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ ... فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال أبو بكر: "أيها الرجل، إنه لرسول الله ج، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزة، فوالله إنه على الحق" (1) .
ولَم يراجع عمر أحدًا في ذلك بعد رسول الله ج غير أبِي بكر الصديق (2) . ولَم ينْزع يدًا من طاعة، ولَم يقم بتظاهرة يطالب فيها بإلغاء هذا الصلح، لاسيما بأن كثيرًا من المسلمين استنكروا الصلح المذكور وكانوا على رأي عمر في ذلك.
وقد عارض الصحابةُ وعلى رأسهم عمر أبا بكر - رضي الله عنه - في أمره بقتال مانعي الزكاة، وما أسفرت هذه المعارضة إلا عن انصياع الجميع لرأي الخليفة، لقوة حجته ورجحان دليله.
الخلاف في الآراء السياسية لابد أن يكون مضبوطًا بضوابط الشرع وأدب الخلاف، حتَّى يكون مأمون العواقب، حسن النتائج، لصالح الأمة، لا لدمارها وخراب ديارها.
حرية التفكير والرأي:
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري (5/388)، ومسلم (3/1412).
(2) انظر: فتح الباري (5/408).(1/52)
جاء الإسلام ليطلق العقل من إساره ويضع عنه الأغلال التي عطلته زمنًا طويلاً، فكثيرة هي الآيات التي تنتهي بقوله سبحانه: {يَعْقِلُون}، {يَتَفَكَّرُون}، {يَتَدَبَرُون}، وليس في صحيح النصوص ما يعارض صريح العقول البشرية "فلم يجيء في القرآن ولا في السنة حرف واحد يُخالف العقل" (1) . وكان من ثَمرة هذه الحرية أن امتلأت المكتبات الإسلامية بالذخائر الثقافية المختلفة في شتَى العلوم والفنون، وقد بلغ الأمر بِحرية الرأي والتفكير أن نقد العلماء المسلمون الآراء الفكرية المسلمة عند الآخرين، ويكفي مثالاً على ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية انتقد منطق أرسطو في كتابه الفذ الفريد: "الرد على المنطقيين" وكان نقده أول نقد عرفته الحياة العقلية الإنسانية في نقد المنطق الأرسطي نقدًا منهجيًّا، ولقد ظلَّ العقل البشري زمنًا طويلاً يتوهم أن المنطق اليونانِي معصوم من الزلل والخطأ حتَّى جاء شيخ الإسلام -رحمة الله عليه-.
__________
(1) الصواعق المرسلة لابن قيم الجوزية (3/830).(1/53)
إن الإسلام الذي كفل حرية التفكير والرأي لا يأذن أن تكون هذه الحرية سبيلاً لتشكيك المسلمين في عقيدتِهم الحقة أو إضعاف أخلاقهم الكريمة بنشر الفاحشة والرذيلة وبث الشكوك والشبهات، والمتتبع للتاريخ الإسلامي يرى بوضوح أن الخلفاء المسلمين كانوا يواجهون بكل حزم كل من تسول له نفسه أن ينال من الإسلام، وليس هذا من قبيل التطوع، بل من الواجبات اللازمة أن يَحفظ الحكام والمسئولون الإسلام قرآنًا وسنة، عقيدة وشريعة، وأن يأخذوا على أيدي الذين يشيعون الفساد العقائدي والأخلاقي والاجتماعي، فالإسلام الذي كفل الحريات وضع لها ضوابط شرعية، ويرى بعض القوم "أننا في عصر المركبات، وزمن الحريات، ومن التخلف -كما يزعمون- أن يبقى المسلمون منغلقين على ما كانوا عليه من عقائد وقيم وأخلاق، إذ لا مانع عندهم أن تنتشر كل وسائل الفساد الثقافي والسلوكي والاجتماعي؛ لأننا -كما يدعون- نعيش في عصر المدنيات، ولا حرج عندهم كذلك أن يدعو الناس في المجتمع المسلم إلى كل ضلالة فكرية وعقدية وثقافية، لأننا -في زعمهم- نعيش على أعتاب القرن القادم. وفئة أخرى قد يصل بِها الافتراء والبهتان إلى حد القول: إن الإسلام عندما يضع ضوابط على حرية الإنسان السلوكية والفكرية إنَّما يكون بذلك هادمًا لكوامن الإبداع الموجودة عنده، ولكي يستطيع تفجير تلك الكوامن والقوى، لابد -كما يفترون- من هدم تلك الضوابط، وإعطاء الحرية للمسلم كما هو واقع الحال في الغرب.(1/54)
ويظن هؤلاء السذج أصحاب الأهواء أننا في ديار المسلمين عندما نَهدم تلك الضوابط التي أمرنا بِها الإسلام، ونَخرج على تلك الثوابت التي جاء بِها سيد الأنام مُحمَّد ج، نستطيع وبلمح البصر أن نرسل مركبات فضائية تَجوب أجواء الفضاء، وأننا -نَحن العرب والمسلمين- وبلمح البصر كذلك سنبنِي مصانع لإنتاج طائرات الأشباح القاذفة التي لا تتصيدها الأجهزة التقنية مهما بلغت في تطورها وتفوقها، وأننا -نَحن العرب والمسلمين- وبلمح البصر أيضًا ستتحول بلادنا إلى ورش فنية وصناعية تنتج كل هذه الألوان من التقنيات العلمية في شتى المجالات الطبية والفلكية والهندسية وغيرها، وقد غاب عن هؤلاء أن سبب تَخلفنا التقنِي والعلمي هو أننا لَم نأخذ بالأسباب المادية التي تؤهلنا لأن نتقدم في هذا المجال، فضلاً على أن نستلم الريادة من الآخرين، وغاب عنهم كذلك أن هناك أُمَمًا وثنية تفوقت على كثير من المجتمعات الغربية في الجانب التقني والعلمي، مع أنَّها لَم تزل محافظة على عقائدها الوثنية وقيمها وأخلاقها وعاداتِها المستمدة من تلك العقائد الوثنية، وما أمر اليابان عنا ببعيد، إننا بصفتنا مسلمين لو استجبنا إلى دعوات هؤلاء من أصحاب الأهواء لازداد ضياعنا، ولفقدنا الهوية الإسلامية التي جعلنا الله تعالَى بِها خير الأمم" (1) .
FFFFF
أركان الدولة الإسلامية
يتفق معظم كُتَّاب السياسة والقانون على أن الأركان الأساسية للدولة هي السيادة، والحكومة، والشعب، والإقليم، فالدولة الإسلامية كذلك تقوم على أركان أربعة:
الركن الأول: الحكم بِما أنزل الله.
الركن الثانِي: أولو الأمر.
الركن الثالث: الشعب.
الركن الرابع: الدار أو الإقليم.
وسوف نتناول هذه الأركان الأربعة بالتفصيل.
FFFFF
__________
(1) جريدة المسلمون: (8/9/1417’) الدكتور محمد بن عبد القادر هنادي -حفظه الله-.(1/55)
الركن الأول: الحكم بما أنزل الله
يعني كُتَّابُ السياسة بالسيادة: صاحب السلطة العليا في المجتمع والدولة، وهي القضية الأولَى في أي نظام سياسي، ويعبر عن ذلك في النظام السياسي الإسلامي بالحكم بِما أنزل الله، أو الحاكمية لله -كما يسميها البعض- وتفصيل القول في ذلك الركن بِما يلي:
1- وجوب الحكم بِما أنزل الله.
2- الحكم بغير ما أنزل الله.
3- الطريق إلى الحكم بِما أنزل الله.
FFFFF
أولاً: وجوب الحكم بما أنزل الله
"إن تحكيم شرع الله -جل وعلا- والتحاكم إليه مِما أوجبه الله ورسوله، إنه مقتضى العبودية لله، والشهادة بالرسالة لنبيه ج، وإن الإعراض عن ذلك "أو شيء منه" موجب لعذاب الله وعقابه، وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تعامل به الدولة رعيتها، أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل مكان وزمان، وفي حالة الاختلاف والتنازع الخاص والعام" (1) .
والنصوص الإسلامية في وجوب الحكم بِما أنزل الله والتحاكم إليه من الكثرة بِمكان، تغنِي شهرتُها عن إيراد طرف منها، بيد أن الجهل بأوائل الإسلام أكثر وأشهر، ومن ثم فلابد أن نقف عند بعض تلك النصوص.
في قول الله -جل وعز-: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
__________
(1) "وجوب تحكيم شرع الله": لمفتِي المملكة العربية السعودية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -وفقه الله وأمتع به-.(1/1)
يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: أعلم الله نبيه ج أن فرضًا عليه وعلى من قبله والناس إذا حكموا أن يحكموا بالعدل، والعدل: اتباع حكمه الْمُنَزَّل، وفي قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. قال: يعنِي هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم، لأن ذلك الفرض الذي لا منازعة لكم فيه، لقول الله - عز وجل - : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاََ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]. ومن تنازع ممن -بعد عن رسول الله ج- ردَّ الأمر إلى قضاء الله، ثُمَّ إلى قضاء رسول الله ج فإن لَم يكن فيما تنازعوا فيه قضاء نصًّا فيهما، ولا في واحد منهما ردُّوه قياسًا على أحدهما" (1) .
وقال الله تعالَى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].
يقول الحافظ ابن كثير: "أي: فاحكم يا محمد بين الناس عربُهم وعجمهم، أميهم وكتابيهم بِما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم، وبِما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء، ولَم ينسخه شرعك"
__________
(1) أحكام القرآن للشافعي (1/29-30).(1/2)
وقال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]. "أي: ومن لَم يحكم بِما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة؛ لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. ولقوله ج: $ألا إنِّي أوتيت القرآن ومثله معه# (1) .. فأولئك هم الخارجون عن الطاعة" كما يقول صديق حسن خان (2) .
"وقد أقسم - سبحانه وتعالى - بنفسه الكريمة أنا لا نؤمن حتَّى نحكم الرسول ج فيما شجر بيننا، وننقاد لحكمه، ونسلم تسليمًا، فلا ينفعنا تحكيم غيره، ولا ينجينا من عذاب الله، ولا يقبل منا هذا الجواب إذا سَمعنا نداءه سبحانه يوم القيامة يقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]. فإنه لابد أن يسألنا عن ذلك ويطالبنا بالجواب قال تعالَى: {فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (3) [الأعراف: 6].
ولا يكفي ذلك في حصول الإيمان حتى يزول الحرج من نفوسهم بِما حكم به في ذلك أيضًا حتى يحصل منهم الرضا والتسليم فقال تعالَى: {فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاََ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
فأكد ذلك بضروب من التأكيد:
أحدهُما: تصدير الجملة والمقسم عليها بِحرف النفي المتضمن لتأكيد النفي المقسم عليه، وهو في ذلك كتصدير الجملة المثبتة بإن.
الثانِي: القسم بنفسه سبحانه.
__________
(1) حديث صحيح. رواه أحمد (4/130)، وأبو داود (4604)، وابن ماجه (12)، والدارقطنِي (4/287)، والطبرانِي في الكبير (20/283).
(2) إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة (87).
(3) صلاة المحبين (34) لابن قيم الجوزية، تحقيق المؤلف.(1/3)
الثالث: أنه أتى بالمقسم عليه بصيغة الفعل الدالة على الحدوث، أي لا يقع منهم إيْمان ما حتَّى يُحكموك.
الرابع: أنه أتَى في الغاية بِحتَّى دون إلا، المشعرة بأنه لا يوجد الإيْمان إلا بعد حصول التحكيم؛ لأن ما بعد حتَّى يدخل فيما قبلها.
الخامس: أنه أتى المحكم فيه بصيغة الموصول الدالة على العموم، وهو قوله: {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: في جميع ما تنازعوا فيه من الدقيقة والجليلة.
السادس: أنه ضم إلى ذلك انتفاء الحرج، وهو الضيق من حكمه.
السابع: أنه أتى به نكرة في سياق النفي، أي لا يَجدون نوعًا من أنواع الحرج ألبتة.
الثامن: أنه أتى بذكر ما قضى به بصيغة العموم، فإنِّها إما مصدرية، أي من قضائك، أو موصولة، أي من الذي قضيته، وهذا يتناول كل فرد من أفراد قضائه.
التاسع: أنه لَم يكتف منهم بذلك حتَّى يضيفوا إليه التسليم، وهو قدر زائد على التحكيم وانتفاء الحرج، فما كل من حكم انتفى عنه الحرج، ولا كل من انتفى عنه الحرج يكون مسلمًا منقادًا، فإن التسليم يتضمن الرضا بحكمه والانقياد له.
العاشر: أنه أكد فعل التسليم بالمصدر المؤكد" (1) .
وصفوة القول ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية: "ومعلوم باتفاق المسلمين أنه يَجب "تحكيم الرسول" في كل ما شجر بين الناس في أمر دينهم ودنياهم، في أصول دينهم وفروعه، وعليهم كلهم إذا حكم بشيء أن لا يَجدوا في أنفسهم حرجًا مِما حكم ويسلموا تسليمًا" (2) .
والمطلوب شرعًا لتحقيق هذا الركن الركين:
1- التزام الدولة عقيدة أهل السنة والجماعة المتلقاة من الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، المتميزة بالتوحيد الخالص، بِجميع أنواعه من توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، ونبذ الشرك بكافة أشكاله وصوره.
__________
(1) الصواعق المرسلة (4/1520-1521) وفي الآية تفصيل مهم انظره في كتاب المؤلف "الحكم بغير ما أنزل الله".
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام (7/37- 38).(1/4)
2- والتزام الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة.
3- تحليل ما أحله الله ورسوله، وتحريم ما حرمه الله ورسوله، وإيجاب العقاب المقرر لما حرمه الله ورسوله.
4- تطبيق النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإسلامية.
5- عدم مخالفة الدولة لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وقواعد الشريعة، وأصولها العامة.
FFFFF
ثانيًا: الحكم بغير ما أنزل الله
إن مسألة "الحكم بغير ما أنزل الله" من مهمات المسائل العلمية الواقعية، كتب فيها ركام من الكتيبات والرسائل، أغلبها الأعم انتصار لتصورات سابقة، أو استجابة لِحماسة طاغية، وإن مسألة خطيرة كهذه، دعت الحاجة الملحة للكتابة فيها يَجب أن تبحث بإخلاص وتَجرد وموضوعية على منهاج سلف الأمة في فهم نصوص القرآن والسنة (1) .
والغلط في إدراك هذه المسألة من الخطورة بِمكان، أوقع شباب الأمة قديْمًا وحديثًا في فتن مدلهمة، وشرور مستطيرة، وصراعات لا تنتهي.
ويروي لنا التاريخ: "أن رجلاً من الخوارج دخل على الخليفة المأمون.
فقال له المأمون: ما حَملك على خلافنا؟
فقال: آية في كتاب الله.
قال: وما هي؟
قال: قوله تعالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
فقال له المأمون: ألك علم بأنَّها منْزلة؟
قال: نعم.
قال: وما دليلك؟
قال: إجماع الأمة.
قال: فكما رضيت بإجماعهم في التنْزيل فارض بإجماعهم في التأويل.
قال: صدقت، السلام عليك يا أمير المؤمنين" (2) .
__________
(1) من مقدمة الشيخ الدكتور صالح بن غانم السدلان لكتاب: "الحكم بغير ما أنزل الله" للمؤلف.
(2) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (10/186) ، ومن طريقه السيوطي في تاريخ الخلفاء : (296)، وذكره الذهبِي في سير أعلام النبلاء (10/280)(1/5)
والأمر الذي لا اختلاف فيه بين المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين أن من حكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية، والأحكام الجاهلية، منكرًا وجوب الحكم بالشريعة الربانية، أو رأى أنَّها لا تناسب الأعصار المتأخرة، أو أن الحكم بِها وبغيرها سواء، خرج من الملة بالكلية، وسبق إلى ظن بعض المعاصرين أن علماء أهل السنة مُختلفون في كفر من حكم بغير ما أنزل الله من غير جحود، والحق أن أهل السنة لَم يختلفوا في هذه الجزئية، فإنَّهم إذ أجمعوا على كفر من حكم بغير ما أنزل الله جحودًا واستحلالاً فقد أجمعوا كذلك على عدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله من غير جحود، ثبت ذلك من أربع طرق (1) ، وثبت أيضًا أن القول بكفر جميع من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل -بِجحود أو بغير جحود- هو قول الخوارج!
قال الجصاص: "وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بِما أنزل الله من غير جحود" (2) .
ونسب القول بذلك أيضًا إلى الخوارج: أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، وأبو عمر بن عبد البر، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم (3) .
ومما يندى له الجبين أن يسلك بعض القائلين بذلك من المعاصرين سبيل المغضوب عليهم في ليهم أقوال أهل العلم وبتر بعضها ِبما يتوافق ويتناسق مع ما يذهبون إليه من قول الخوارج (4) .!!
مهما يكن، فقد انطلق العلماء في مناقشة هذه المسألة من قاعدتين شرعيتين، مؤسستين على الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة:
القاعدة الأولى:
__________
(1) انظر تفصيل ذلك كتاب المؤلف "الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير" (81-99).
(2) أحكام القرآن (2/534).
(3) انظر: "الحكم بغير ما أنزل الله" للمؤلف (100-101).
(4) انظر: أمثلة على ذلك: المرجع السابق (121-124).(1/6)
تلزمنا هذه القاعدة أن لا نكفر الحاكم إلا إذا جحد وجوب الحكم بالشريعة الإسلامية، فإذا جحد وجوب الحكم بِها، أو ذهب إلى أن الحكم بِها وبغيرها سواء، أو أن الحكم بِها لا يناسب العصور المتأخرة، خرج من الملة بالكلية!
وقد جرى أهل العلم من السلف والخلف على هذه القاعدة فلم يكفروا إلا ما وصفنا، وهذه شذرات من أقوالهم:
فروى علي بن أبِي طلحة، عن ابن عباس في تفسير قوله تعالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} الذي هو الأصل في هذه المسألة قال: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به، ولَم يَحكم به فهو ظالم فاسق" (1) .
وقال شيخ المفسرين الطبري: "وكذلك القول في كل من لَم يحكم بِما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس" (2) .
وقال القرطبِي: "أي: معتقدًا ذلك ومستحلاًّ له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكبُ مُحرمًا فهو من فُساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له" (3) .
وقال أبو السعود: "أي: من لَم يحكم بذلك مستهينًا منكرًا.. {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لاستهانتهم به" (4) .
وقال البيضاوي: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ } مستهينًا به منكرًا له {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لاستهانتهم به (5) .
وقال شارح الطحاوية: "وهنا أمرٌ يَجب أن يُتفطن له، وهو أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرًا ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفرًا إما مجازيًّا وإما كفرًا أصغر، وذلك بِحسب حال الحاكم:
__________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/ 357) ، وابن المنذر وابن أبِي حاتم كما في الدر المنثور (3/87).
(2) تفسير الطبري (10/358).
(3) الجامع لأحكام القرآن (6/190).
(4) تفسير أبِي السعود (1/64).
(5) تفسير البيضاوي (1/268).(1/7)
- فإنه إن اعتقد أن الحكم بِما أنزل الله غيرُ واجب، وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله، فهذا كفرٌ أكبر.
- وإن اعتقد وجوب الحكم بِما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاصٍ، ويسمى كفرًا مجازيًّا، أو كفرًا أصغر" (1) .
وقال ابن الجوزي: "وفصل الخطاب:
- أن من لَم يَحكم بِما أنزل الله، جاحدًا له وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر.
- ومن لَم يحكم بِما أنزل الله ميلاً إلى الهوى من غير جحود، فهو ظالِم وفاسق" (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا بِما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك، بل استحلوا أن يحكموا بِخلاف ما أنزل الله فهم كفار، وإلا كانوا جهالاً" (3) .
وقال الحافظ ابن كثير: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لأنَّهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا" (4) .
وقال صاحب المنار -رحمه الله-: "فمن أعرض عن الحكم بِحد السرقة، أو القذف، أو الزنا، غير مذعن له لاستقباحه إياه، وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعًا.
أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لَم يقل به أحد قط" (5) .
وقال الشيخ العلامة الشنقيطي -رحمه الله تعالَى-: "واعلم أن تَحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق، كل واحد منهما أطلق في الشرع مرادًا به المعصية تارة، والكفر المخرج من الملة أخرى.
- {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} معارضة للرسل، وإبطالاً لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن الملة.
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (323- 324).
(2) زاد المسير (2/366).
(3) منهاج السنة النبوية (5/130).
(4) تفسير القرآن العظيم (2/61).
(5) تفسير المنار (6/405- 406).(1/8)
- {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ} معتقدًا أنه مرتكب حرامًا، فاعل قبيحًا، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج من الملة" (1) .
وقال الشيخ العلامة السعدي -رحمه الله تعالى- "فالحكم بغير ما أنزل الله... ظلم أكبر عند استحلاله، وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له" (2) .
وقال الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم -رحمه الله تعالى-: "من حكم بِها -يعنِي القوانين الوضعية- أو حاكم إليها معتقدًا صحة ذلك وجوازه، فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه، فهو كافر الكفر العملي الذي لا ينقل عن الملة" (3) .
وقال شيخ أهل السنة مفتي المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد الله ابن باز: "من حكم بغير ما أنزل الله فلا يَخرج عن أربعة أمور:
1- من قال: أنا أحكم بِهذا "يعني بالقانون الوضعي" لأنه أفضل من الشريعة الإسلامية فهو كافر كفرًا أكبر.
2- ومن قال: أنا أحكم بِهذا، لأنه مثل الشريعة الإسلامية، فالحكم بِهذا جائز، وبالشريعة جائز، فهو كافر كفرًا أكبر.
3- ومن قال: أنا أحكم بِهذا، والحكم بالشريعة أفضل، لكن الحكم بغير ما أنزل الله جائز، فهو كافر كفرًا أكبر.
4- ومن قال: أنا أحكم بِهذا، وهو يعتقد أن الحكم بغير ما أنزل الله لا يَجوز، ويقول: الحكم بالشريعة الإسلامية أفضل، ولا يَجوز الحكم بغيرها، ولكنه متساهل، أو يفعل هذا لأمر صادر من حكامه فهو كافر كفرًا أصغر لا يَخرج من الملة، ويعتبر من أكبر الكبائر" (4) .
__________
(1) أضواء البيان (2/104).
(2) تيسير الكريم الرحمن (2/296- 297).
(3) مجموع الفتاوى (1/80).
(4) قضية التكفير بين أهل السنة وفرق الضلال (72-73).(1/9)
وقد اشتهر القول بذلك أيضًا عن شيخنا العلامة محمد ناصر الدين الألبانِي -رحمه الله تعالى- (1) . وقد نشرت رأي الشيخ صراحة جريدة "الشرق الأوسط" وصحيفة "المسلمون" وعلق سَماحة الشيخ ابن باز على رأي الشيخ الألبانِي وأكد عليه في الصحيفتين المذكورتين فقال:
"اطلعت على الجواب المفيد القيم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألبانِي -وفقه الله- المنشور في جريدة "الشرق الأوسط" وصحيفة "المسلمون" الذي أجاب به فضيلته من سأله عن "تكفير من حكم بغير ما أنزل الله من غير تفصيل".
فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيها الحق ، وسلك فيها سبيل المؤمنين وأوضح -وفقه الله- أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله بٍمجرد الفعل من دون أن يعلم أنه استحل ذلك بقلبه، واحتج بِما جاء في ذلك عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره من سلف الأمة.
__________
(1) انظر شريط "فتنة التكفير" وغيره من تسجيلات الأخ الفاضل أبو ليلى الأثري، وانظر كذلك الكتاب الماتع "التحذير من فتنة التكفير" للشيخ الألبانِي، تعليق صاحب القلم السيال أخينا في الله الشيخ على الحلبِي.(1/10)
ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالَى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، هو الصواب، وقد أوضح -وفقه الله- أن الكفر كفران: أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنَى، أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تَحريْمها فقد كفر كفرًا أكبر، وظلم ظلمًا أكبر، وفسق فسقًا أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفرًا أصغر وظلمه ظلمًا أصغر وهكذا فسقه؛ لقول النَّبِي ج في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - : $سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر#. أراد بِهذا ج الفسق الأصغر، والكفر الأصغر، وأطلق العبارة تنفيرًا من هذا العمل المنكر، وهكذا قوله ج: $اثنتان في الناس هما بِهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت#. أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله ج: $لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض# (1) .
ثُمَّ قرئ كلام الإمامين: الألبانِي وابن باز على الشيخ ابن عثيمين، فأقره وأيده (2) .
القاعدة الثانية:
تقضي هذه القاعدة الشرعية الثابتة المؤسسة على الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة: أن نتثبت غاية التثبت: هل الحكم بغير ما أنزل الله من غير جحود واستحلال من الكفر الاعتقادي المخرج من الملة بالكلية أم من الكفر العملي غير المخرج من الدائرة الإسلامية؟
__________
(1) الشرق الأوسط العدد (6156)، بتاريخ 12/5/1416’.
(2) انظر الكتاب الماتع القيم "التحذير من فتنة التكفير".(1/11)
فهذا جواب شيوخ الإسلام وجهابذة العلم والإيْمان، ومنهم الذين سبق ذكرهم في القاعدة الماضية، لا اختلاف بينهم: أنه كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكبيرة من أعظم الكبائر، لا يستوي عندهم ألبتة من يحكم بغير ما أنزل الله منكرًا له، أو مكذبًا ومستهينًا به، مستحلاًّ الحكم بالقوانين الوضعية، مؤثرًا لَها على الشريعة الربانية، ومن يَحكم بغير ما أنزل الله، معتقدًا لوجوبه، مفضلاً له، معترفًا أنه مستحق للعقوبة والنكال، فعل ذلك هوى ومعصية، أو خوفًا من أسياده، أو رغبة في دنياهم الزائلة، أو نَحو ذلك مِما لا يَخفى.
فحدث طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: "ليس بالكفر الذين يذهبون إليه" (1) .
وعنه قال: "كفر لا ينقل عن الملة" (2) .
وعنه قال: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" (3) .
__________
(1) صحيح: أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/191)، وأحمد في الإيْمان، وابن أبِي حاتم في تفسيره، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/251)، وابن جرير في تفسيره (10/356) وابن بطة في الإبانة (2/734، 736)، ووكيع في أخبار القضاة (1/41) من طريق معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وهذا إسناد كالشمس.
... وله طريق أخرى ضعيفة فيها هشام بن حجير: ضعيف من قبل حفظه، أخرجها أحمد في الإيْمان، وسعيد بن منصور (749)، وابن بطة في الإبانة (2/736)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/521) ، وابن أبِي حاتم، والحاكم (2/313) ومن طريقه البيهقي في سننه (8/20)، وابن عبد البر في التمهيد (4/237) وغيرهم.
(2) ضعيف: فيه رجل لَم يسم، أخرجه المروزي (2/522).
(3) أخرجه الفريابِي وابن المنذر وابن أبِي حاتم والحاكم (2/313) كما في الدر المنثور (3/87).(1/12)
وعن طاوس قال: قلت لابن عباس: من لَم يحكم بِما أنزل الله فهو كافر؟ قال: "هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" (1) .
وقال طاوس: "ليس بكفر ينقل عن الملة" (2) .
وقال ابن طاوس: "وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله" (3) .
وقال عطاء: "كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق" (4) .
وقال علي بن الحسين: "كفر ليس ككفر الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك".
وقال إسماعيل بن سعيد: "سألت أحمد {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
قلت: فما هذا الكفر؟
قال: "كفر لا يُخرج من الملة" (5) .
وقال الإمام الشاطبِي: "هذه الآية مع أنَّها نزلت في اليهود، والسياق يدل على ذلك، فإن العلماء عمُّوا بِها غير الكفار، وقالوا: كفر دون كفر" (6) .
__________
(1) صحيح: أخرجه المروزي (2/521)، وابن جرير (10/356) من طريق معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه.
(2) صحيح: أخرجه المروزي (2/522)، وابن جرير (10/355-356)، وابن بطة (2/735)، من طريق سفيان، عن سعيد المكي، عنه به.
(3) صحيح: أخرجه المروزي (2/521)، وابن بطة (2/736) بالإسناد المتقدم أولاً.
(4) صحيح: أخرجه أحمد وأبو عبيد في الإيْمان، والمروزي (2/522)، وابن بطة (2/735، 737)، وابن جرير في تفسيره (10/355)، ووكيع في أخبار القضاة (1/43) من طرق. وقد شغب بعض بتضعيف هذه الآثار، ولكن هيهات فأسانيدها كالشمس في رابعة النهار!
(5) مسائل السجستانِي (209)، والنيسابوري (2/192) نقلاً عن: مرويات الإمام أحمد في التفسير (2/45).
(6) انظر الموافقات (4/39) التحقيق الجديد القيم للشيخ النَّبِيل أبي عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان.(1/13)
قال ابن حجر العسقلانِي: "إن الآيات، وإن كان سببها أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول غيرهم، لكن لما تقرر من قواعد الشريعة أن مرتكب المعصية لا يسمى كافرًا، ولا يسمى أيضًا ظالِمًا؛ لأن الظلم قد فسر بالشرك (1) ، بقيت الصفة الثالثة" (2) . يعنِي الفسق.
وقال العينِي: " هذه الآية، والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غير حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء، لأن المسلم، وإن ارتكب كبيرة، لا يقال له: كافر" (3) .
وقد مضى قولُ ابن الجوزي: "من لَم يحكم بِما أنزل الله ميلاً إلى الهوى من غير جحود، فهو ظالَم وفاسق".
وقول شارح الطحاوية ابن أبِي العز: "وإن اعتقد وجوب الحكم بِما أنزل الله، وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة، فهذا عاص، ويُسمى كفرًا مَجازيًا، أو كفرًا أصغر".
وقولُ الشنقيطي: ومن لَم يحكم بِما أنزل الله معتقدًا أنه مرتكب حرامًا، فاعل قبيحًا، فكفره وفسقه غير مُخرج عن الملة".
وقال صديق حسن خان: "ودلَّ كلام السلف أن المراد بالكفر في الآية، أنه معصية عظيمة شبيهة بالكفر وليس به ... وأما الكفر، وهو الخروج عن الإسلام، فلا يحكم به عليهم، لما سمعت من قول السلف: "أنه كفر دون كفر" أي: معصية عظيمة تلحق بالكفر ولا تُخرج عن الإسلام، فالظاهر أنه يبقى لَهم مع ذلك اسم الإيْمان، ولكنه إيْمان ناقص، وإذا ثبت هذا، فلابد من تأويل قوله تعالَى: {فَلاََ وَرَبِّكَ لاََ يُؤْمِنُونَ} أي: إيْمانًا كاملاً..." (4) .
__________
(1) في قوله تعالَى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيْمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فقد فسر النَّبِي ج الظلم ها هنا بالشرك في قوله تعالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]. كما جاء في صحيح البخاري.
(2) فتح الباري (13/129).
(3) عمدة القاري (20/129- 130).
(4) إكليل الكرامة (86).(1/14)
ومضى قول السعدي: "فهو ظلم أكبر عند استحلاله وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له".
ومضى أيضًا قول الألبانِي وابن باز وابن عثيمين.
فهؤلاء جميعًا وغيرهم ممن لَم نذكرهم قضوا أن الحاكم بغير ما أنزل الله هوى ومعصية، أو خوفًا ورغبة، من غير جحود واستحلال، مرتكب حرامًا، وكبيرة من أعظم الكبائر، وأن كفره كفر معصية، أو كفر عملي لا يُخرجه من الملة ألبتة (1) . فماذا بعد الحق إلا الضلال!!.
FFFFF
ثالثًا: الطريق إلى الحكم بما أنزل الله (2)
إذا كان الشرع الشريف قد فرض وأوجب على المسلمين الحكم بِما أنزل الله، فإنه كذلك قد أوضح الطريق السوية الموصلة إلى تحقيقه وتطبيقه غاية الإيضاح، وبينها أكمل بيان وألزمهم بِها، ولَم يذر ذلك إلى العقول البشرية القاصرة، أو النوازع العاطفية الجامحة، وذلك من أجل أن لا تكون فتن ودماء، ونكبات وأرزاء.
فمن المحال أن يكون النَّبِي ج قد علم أمته آداب الخلاء، وآداب الوطء، وآداب الطعام والشراب، ويدع تعليمهم السبيل إلى التمكين لدينه، وتحكيم شرعه، مع شدة حاجتهم إلى تعلم ذلك، كيف وقد أخبرهم بِما سيحصل لهم من هنات وفتنة، وغربة وكربة.
فقال ج: $لتنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة، تشبث الناس بالتِي تليها، فأولُهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة# (3) .
__________
(1) انظر تفصيل القضية كتاب "الحكم بغير ما أنزل الله في ضوء الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة" للمؤلف.
(2) في البلاد التي لا تطبق الشريعة الإسلامية.
(3) حديث حسن: أخرجه الإمام أحمد في مسنده (5/251)، ومن طريقه الطبرانِي في الكبير (8/116) والحاكم في المستدرك (4/92)، وأخرجه أيضًا ابن حبان (موارد/87) من طريق الوليد بن سليمان حدثنِي عبد العزيز بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبِي المهاجر المخزومي، قال: حدثنِي سليمان بن حبيب المحاربي، عن أبِي أمامة مرفوعًا، ورجاله ثقات سوى سليمان، فليس به بأس.(1/15)
وحذر رسول الله ج أمته مغبة الحكم بغير ما أنزل الله، فيلبسهم شيعًا، ويذيق بعضهم بأس بعض: $حتَّى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبِي بعضهم بعضًا# (1) فقال ج: $وما لَم يَحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم# (2) .
لقد بين النَّبِي ج لأمته كل شيء، ووقع ما أخبر به من أحوال بئيسة، وفتن جسيمة، يرقق بعضها بعضًا، فوجب على الأمة أن تستلهم مِما جاء به الطريق إلى تَحكيم الشريعة الغراء والملة السمحاء.
- عن حذيفة قال: "لقد خطبنا النَّبِي ج خطبة، ما ترك فيها شيئًا إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيته، فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه" (3) .
- وعن أبِي زيد عمرو بن أخطب - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله ج الفجر، وصعد المنبر فخطبنا حتَّى حضرت الظهر، فنَزل فصلى، ثُمَّ صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثُمَّ نزل فصلى، ثُمَّ صعد المنبر فخطبنا حتَّى غربت الشمس، فأخبرنا بِما هو كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا" (4) .
__________
(1) رواه مسلم (2889).
(2) حديث صحيح: رواه ابن ماجة (4019)، والحاكم (4/540)، والبيهقي، وأبو نعيم في الحلية (8/333)، وغيرهم، انظر السلسلة الصحيحة (106).
(3) أخرجه البخاري (6604)، ومسلم (2891) (23)، واللفظ للبخاري. قال الذهبِي في سيره (2/366) تعليقًا على هذا الحديث: "قد كان النَّبِي ج يرتل كلامه ويفسره، فلعله قال في مجلسه ذلك ما يكتب في جزء، فذكر أكبر الكوائن، ولو ذكر ما هو كائن في الوجود لما تَهيأ أن يقوله في سنة بل ولا في أعوام، ففكر في هذا" ا’.
(4) خرجه مسلم (2892).(1/16)
- وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: "وعظنا رسول الله ج موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ قال: $قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بِما عرفتم من سنتِي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة وإن عبدًا حبشيًّا، فإنَّما المؤمن كالجمل الأنف (1) ، حيثما قيد انقاد# (2) .
ساء مثلاً القوم الذين تنكبوا الوسائل الشرعية، والطريق النبوية، لإقامة الملة الحنفية، وتوهموا أن ذلك كائن عن طريق المواجهات المسلحة، أو المظاهرات الطائشة، اغترارًا بِجموع غفيرة، وحماسات وفيرة.
لقد أرتأت هذه الطائفة "أن الأمة قد سئمت أنظمة الحكم وأنماط المذاهب الفكرية التي تأسست وقامت عليها دول هذه الأنظمة بِما جرَّتْ عليها من بلاء عظيم، وبِما أصابت الشعوب من ضرائها وبأسائها، ما لا قبل للجبال به، فالأمة بِهذا أصبحت مهيأة راغبة في إقصاء هذه الأنظمة الحاكمة التي لَم تستطع أن ترغب في الإبقاء عليها، وقفزة خاطفة واحدة سوف تطيح بِهذا النظام أو بذاك، فإذا هو مكب على وجهه، لا يقوى على النهوض، والمستقرئ الأحداث التي نَجمت من جراء تغيير هذه الأنظمة، أو محاولة التغيير، يعلم الطامات التي جاشت بِها الأرض وتجشأت، وتناوحت بِها الرياح ونوَّحت، وتَحالكت بِها الليالي وأحلكت" (3) .
__________
(1) الأنف: الذي جعل الزمام من أنفه فيجره من يشاء من صغير وكبير إلى حيث يشاء.
(2) حديث صحيح: أخرجه أحمد (4/126)، والحاكم (1/96)، وابن ماجة (43)، وانظر: السلسلة الصحيحة (937).
(3) هي السلفية (186).(1/17)
ومع أن سلوك هذه الطريق من أعظم وسائل إضعاف الأمة، وإنْهاك قوتِها وإبادة جهودها، وهو أيضًا ذريعة للمتربصين بالدعوة لوئدها والإجهاز عليها، فما زال سفهاء الأحلام مصرين على خوضه، مغرين الأحداث من شباب الأمة بولوجه و السير فيه {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاََ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25]. وحسبك بِهذه الطريق عوجًا أنَّها مُجانبة لما كان عليه سلف الأمة، كما سيتضح في مبحث "تحريم الخروج على أئمة الظلم والجور" إن شاء الله.
إن الحكم بِما أنزل الله لن يتحقق إلا كما أراد الشارع الشريف، ولقد علمت الأمة أن لن يصلح أمرها ألبتة إلا بِما صلح به أولها، من أهل القرون الأولى المفضلة، فسبيلهم أقوم سبيل موصلة إلى موعود الله - عز وجل - لِهذه الأمة، فهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، وهم خير من قام بالإسلام فهمًا وتعليمًا وتطبيقًا، وحسبهم أن زكاهم الله ورسوله، فلنمض في الطريق، الذي فيه مضوا، وإن طالت الأزمنة واستطالت "فأن يطول الزمن بجهد يبذل، ولا يقطعه استدراج ماكر يبيته أعداء الله خير من أن يقصر الزمن بِجهد يبذل ويبتره تدبير ماكر يبيته أعداء الله.
فالتجارب المريرة التِي سارت ليلاً ونَهارًا، صيفًا وشتاء، شرقًا وغربًا طولاً وعرضًا، وأملت على الأمة دروسًا وعبرًا في الماضي والحاضر، يَجب أن تظل محفوظة في الذواكر، وأن تكتب وصايا عزيزة للأجيال المتعاقبة.
والذين لا يجدون في أنفسهم العجز عن السعي لبناء دولة تحكم بِما أنزل الله، أولى أن ينتفي العجز عنهم وهم يعدون الأمة إعدادًا مؤسسًا على العقيدة النقية والأحكام الشرعية الصافية.(1/18)
تخبرنا بذلك سيرة النَّبِي ج في عهديها المكي والمدنِي، حيث امتدت فترة الأولى منهما بزيادة ثلاث سنين عن الفترة الثانية، إذ الجهد الذي يُبذل في بناء الجماعة وتأسيسها أكبر من الجهد الذي يبذل في بناء الدولة وتأسيسها، لأن الجماعة هي التي ستتولى بناء الدولة وتأسيسها، ما لَم تكن هذه الجماعة متمكنة من قدرات هذا البناء والتأسيس، فإنَّها تبعد كثيرًا جدًّا عن الغاية التي تنشدها.
فعلى الأمة أن لا تدخل مادة الزمن بعدًا أو قربًا في حسابِها، فالنجاح كالفشل، قد يطول زمان الأول، ويقصر زمان الثانِي، وقد يكون العكس وهذا ما ألقى به النَّبِي ج في أسماع أصحابه وقلوبِهم - رضي الله عنهم - وهم في مكة قبل الهجرة، وسياط العذاب تُمزق أجسادهم، وألسنة الكفر تسخر منهم، وتدعوهم إلى الخروج عن الخط الذي خطه نبيهم ج من أول يوم جاءهم فيه" (1) .
إن تغيير أنظمة الحكم القائمة والتمكين للدين الحق، على نحو ما يفكر فيه المندفعون بعواطف كاسحة، وحماسات طاغية، إنَّما هو شر مستطير على الأمة.
فهذا هو الطريق الآمن، وهذه بدايته، عودة حميدة إلى ما كان عليه رسول الله ج وصحبه الكرام من اعتقادات وأحكام وسلوك وغير ذلك، والارتقاء بالمسلمين بحرص وشفقة إلى هذا الأفق الكريم، وتربيتهم على إسلامهم المصفى من الخرافات والبدع، والمنخل مِما علق بأجوائهم من الإشراك بالله على اختلاف أشكاله وأنواعه، ومما سيطر على عقول كثير منهم من أفكار مخالفة للكتاب والسنة ونَهج سلف الأمة.
__________
(1) هي السلفية (266-268).(1/19)
قال الإمام الحافظ محمد بن الحسين الآجري (ت360) في كتاب الشريعة (1) له: "علامة من أراد الله - عز وجل - به خيرًا: سلوك هذه الطريق: كتاب الله - عز وجل - وسنن رسول الله ج، وسنن أصحابه - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان -رحمة الله تعالى عليهم- وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بد إلى آخر ما كان من العلماء، مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقهم، ومجانبة كل مذهب لا يذهب إليه هؤلاء العلماء" ا’.
"هذه العملية (2) ذات شقين تسير في خطين اثنين في آن واحد، ولابد من التقائهما في نِهاية هذين الخطين:
والشق الأول: هو تنقية العقيدة وتصفيتها من كل الشوائب التي خالطتها وشوهت وجهها البهيج.
والشق الثانِي: هو تربية أفراد الأمة وتنشئتهم على أساس من الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية وفق ما ورثناه عن القرون الثلاثة المفضلة الأولى.
__________
(1) انظر (ص 14).
(2) عملية التربية والتصفية، وهي الطريق إلى تحكيم الشريعة.(1/20)
وهذه العملية بشقيها هي التي سير عليها النَّبِي ج أصحابه منذ اليوم الأول الذي بدأ فيه نزول الوحي عليه ... وبدهي أن عملية التربية والتصفية كانت أيسر تقبلاً، وأسرع استجابة في الصحابة، فمعلمهم والآخذون عنه محمد ج والوحي لا يبطئ عنهم بأمر إلا لحكمة، ثُمَّ لا تلبث آياته أن تنْزل عليهم سراعًا، فيرونَها ماثلة في شخص نبيهم ج سلوكًا واضحًا نيرًا، لذا فإن إقامة البنية الذاتية للجماعة المسلمة في العهد المكي قد استغرقت وقتًا أطول من الوقت الذي استغرقه بناء الدولة بعد الهجرة، فالإعداد -ولا شك- أصعب مِما يأتِي من بعده في عملية بناء الدولة والمجتمع، من هنا فإن حقًّا على العلماء، والدعاة أيضًا أن يكونوا هم الأسوة الظاهرة للعيان، لا تَخفى منهم خافية من أجزاء هذه العملية، فذلك أدعى لأن يكون هناك استجابة صادقة من الناس لهم، وإذا نحن علمنا أن للأحوال الزمنية والبيئية التِي يعيشها المسلمون -في هذا القرن وما قبله وما سيأتِي من بعده- أثرًا بينًا واضحًا في البطء الذي منيت به الأمة نحو دينها، فإن الإسراع في الحصول على ثَمرة هذه العملية لن يكون مَحمودًا، لا في بدايته، ولا في نِهايته.. إذن فلنلو أعنة نفوسنا وعقولنا إلى الوحي نستبصره ونستجليه، ونستعين الله به، ونصبر على موعوده، ولا نعجل على أنفسنا بأمر قضى الله فيه فكان، ولن يكون إلا كما قضى" (1) .
"إن دعوة الأنبياء جميعًا إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره وأسبابه ووسائله استغرقت مساحة كبيرة جدًّا من دعواتِهم وزمنًا طويلاً جدًّا من حياتِهم حتى لكأنَّما هذا الجانب كان شغلهم الشاغل المتواصل.
وأما مواقفهم من الحكام الطغاة المستبدين، فإنه يأتِي في المرتبة الثانية؛ لأن الشرك أعظم الظلم؛ ولأن مقصدهم هو تعبيد الناس لربِهم سبحانه، وليس إزالة سلطان، وإقامة سلطان.
__________
(1) هي السلفية (174- 176) باختصار.(1/21)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاََ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]. {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} [المائدة: 72].
فإذا أحاطت بأمة مشاكل عقائدية، ومشاكل اقتصادية، ومشاكل سياسية، فبأيها نبدأ المعالجة الحكيمة، أما الأنبياء فبدؤوا بِمعالجة مشاكل العقيدة بكل قوة، إذ البدء بِمعالجة الأمر الأخطر أمر يتفق عليه كل عقلاء البشر، ذلك أن المفاسد المتعلقة بعقائد الناس من الشرك والخرافات والبدع والضلالات أخطر آلاف المرات من المفاسد المترتبة على فساد الحكم وغيره، فإن لَم نقل هذا ونعتقده سفهنا من حيث لا نشعر جميع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجْمعين-.
وكذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - لَم يكلفهم في بداية أمرهم -كما في سيرهم وقصصهم- بإقامة دولة وإسقاط أخرى وذلك في غاية الحكمة، لأن الدعوة إلى إقامة دولة تلوح فيها المطامع لطلاب الدنيا وطلاب الجاه والمناصب، وأصحاب الأغراض والأحقاد، فما أسرع ما تستجيب هذه الأصناف للدعوة إلى قيام دولة يرون فيها تحقيق مآربِهم وشهواتِهم ومطامعهم!
لمثل هذه الاعتبارات -والله أعلم- ابتعدت دعوات الأنبياء ومناهجهم عن استخدام هذا الشعار البراق الملوح بالأطماع والشهوات العاجلة، وسلكت منهجًا حكيمًا نزيْهًا شريفًا ينطوي على الابتلاء والاختبار، فيتبعهم ويؤمن بِهم كل صادق مُخلص متجرد من كل المطامع والأغراض الشخصية، لا يريد بإيْمانه وتوحيده وطاعته للرسل إلا الجنة ومرضاة ربه - عز وجل - فإذا قلَّ أتباعهم، فالعيب كل العيب في الأمم التي رفضت الاستجابة لدعوتِهم، لأنَّها في نظرهم لا تحقق لَهم أغراضهم الدنيئة، فالدعوة إلى إقامة دولة أسهل بكثير، والاستجابة لَها أسرع، لأن أكثر الناس طلاب دنيا وأصحاب شهوات.(1/22)
وخلاصة هذا: أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ما جاؤوا لإسقاط دول وإقامة أخرى، ولا يطلبون مُلكًا، ولا ينظمون لذلك أحزابًا، وإنَّما جاؤوا لِهداية البشر، وإنقاذهم من الضلال والشرك، وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتذكيرهم بأيام الله - عز وجل - .
ومن ثَمَّ كان ج يربِي أصحابه على القرآن والحكمة، وعلى الإيمان والصدق والإخلاص لله في كل عمل بعيدًا عن الأساليب السياسية والإغراء بالمناصب العالية، وما كان يبايع أصحابه إلا على الجنة، وكانت بيعة الأنصار في أحلك الظروف وأشدها فما كان فيها وعدٌ بالمناصب ولا الملك ولا الإمارات ولا بالمال ولا غير ذلك من حظوظ العاجلة.
فينبغي أن نستفيد من هذا المنهج النبوي، فمن الخطر بِمكان أن ينشأ الشباب على حب القيادة والإمارة -كما هو الحاصل في بعض الجماعات والتنظيمات- مِما يؤدي بِهم إلى المهالك والمعاطن والآثام.
والسؤال الذي لابد منه:
هل يَجوز للدعاة والعاملين للإسلام في أي عصر من العصور العدول عن منهج الأنبياء القائم على التصفية والتربية في الدعوة إلى الله والتمكين لشرعه الحكيم؟
فالحق: أنه لا يَجوز شرعًا ولا عقلاً العدول عن هذا المنهج الذي رسمنا خطوطه العريضة واختيار سواه، وذلك لأسباب منها:
- أن هذا هو الطريق الأقوم الذي شرعه الله لجميع الأنبياء، من أولِهم إلى آخرهم، وهو سبحانه الخالق الحكيم العليم بطبائع البشر وما يصلحهم {أَلاََ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
- ثُمَّ إن الأنبياء قد التزموه وطبقوه كاملاً، مِما يدلُّ دلالة واضحة على أن الطريق إلى التمكين لدين الله ليس من ميادين الاجتهاد.
- وقد أوجب الله على رسولنا الكريم ج أن يقتدي بِهم في الدعوة إلى الله ويسلك منهجهم، فقال سبحانه بعد أن ذكر ثَمانية عشر منهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].(1/23)
- والله خلق الكون ونظمه تنظيمًا كونيًّا وشرعيًّا، وجعل للكون سننًا يسير في نطاقها، لو اختلت لفسد وزال، فمن هذه السنن أن الحيوان لا يعيش إلا بروح وجسد، فلو فارقت الروحُ الجسد مات الجسد وفسد، وأن الشجرة لا تقوم إلا على ساق، فإذا ذهب الساق ماتت الفروع، كذلك الشريعة لا تقوم إلا على عقيدة، فلو خلت هذه الشريعة من العقيدة، فسدت وما بقيت شريعة صحيحة، فمثلاً شريعة إبراهيم - عليه السلام - بقيت في الأمة العربية دهورًا، فلما أدخل عمرو بن لُحي الخزاعي الشرك فيها، وأصبحت شريعة وثنية فسدت وتغيرت، وكذلك كانت رسالة موسى وعيسى، رسالة توحيد وتشريع، فلما فقدتا عنصر التوحيد بقول اليهود: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} وبقول النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} صارتا ديانتين كافرتين، لا يجوز نسبتهما إلى الله -سبحانه- ولا إلى هذين النبيين الكريمين، وإن بقي منهما الكثير من شرائع موسى وعيسى، فعقيدة التوحيد بالنسبة لجميع شرائع الأنبياء والرسل كالأساس للبناء، وكالأصل للشجرة، وكالروح للجسد.
ولنَزداد فهمًا لسنن الله التشريعية، وأن التنظيم والترتيب فيها أمرٌ مقصودٌ يجب اتباعه، ولا يجوز العدول عنه، نضرب مثالاً بالصلاة فقد قال ج فيما رواه البخاري: $صلوا كما رأيتمونِي أصلي#. فبدأ بالتكبير، ثُمَّ القراءة، ثُمَّ الركوع، ثُمَّ السجود، هلم جرًّا، فلو قالت جماعة في هذا الزمان: الأفضل أن نبدأ بالسلام ونَختم بالتكبير، أو نقدم السجود على الركوع، فلو تَمَّ هذا، هل تكون هذه الصلاة بِهذه الصفة المخالفة صحيحة مقبولة؟!
وحجَّ رسول الله ج وقال: $خذوا عنِّي مناسككم#. كما في الصحيح، وجعل الوقوف في عرفة في زمان معين، وهو اليوم التاسع، وجعل المبيت بِمزدلفة في ليلة بعينها... إلى آخره، فلو أن جماعة أرادوا أن يغيروا شيئًا من هذه المناسك عن زمانه أو عن مكانه، أيكون هذا حجًّا صحيحًا أو مقبولاً؟!
اللهم لا.(1/24)
فمثل ذلك تمامًا الدعوة إلى الله والتمكين لدين الله، بدأ رسول الله ج بالتوحيد، وكذلك جميع الرسل، فمن ذلك ما قاله لِمعاذ لما بعثه إلى اليمن: $إنك تأتِي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم# (1) .
فبدأ ج بأصل الأصول، ثُمَّ تدرج من الأهم إلى المهم، فلماذا لا نفهم هذا الترتيب والتنظيم الدقيق؟ ولماذا لا نلتزمه؟ ولماذا نفهم أنه يَجب أن نلتزم سنة الله التشريعية وتنظيمه الدقيق في العبادات وجزئياتِها، ولا نفهم سنة الله وتنظيمه وترتيبه الدقيق في ميدان الدعوة، وفي الطريق إلى التمكين لدينه، الذي تتابع فيه الأنبياء جميعًا على وتيرة واحدة، ونستجيز مخالفة هذا المنهج العظيم ونعدل عنه؟!
إن هذا لأمر خطيرٌ، يَجب أن يراجع فيه الدعاة والعاملون للإسلام أنفسهم ويغيروا من مواقفهم ويستضيئوا بِمنهج الأنبياء في البدء بالتوحيد والاهتمام به وجعله منطلقًا لدعوتِهم" (2) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، (103- 132) بتصرف واختصار.(1/25)
"وإن أية دعوة لا تقوم على هذه الأسس ويكون منهجها قائمًا على منهج الرسل -صلى الله عليهم وسلم-، فإنَّها ستبوء بالخيبة وتضمحل وتكون تعبًا بلا فائدة، وخير دليل على ذلك تلك الجماعات المعاصرة التي اختطت لنفسها منهجًا للدعوة يختلف عن منهج الرسل، فقد أغفلت هذه الجماعات -إلا ما قلَّ منها- جانب العقيدة، وصارت تدعو إلى إصلاح أمور جانبية، فجماعة تدعو إلى إصلاح الحكم والسياسة وتطالب بإقامة الحدود وتطبيق الشريعة في الحكم بين الناس، وهذا جانب مهم، لكنه ليس بالأهم... وهؤلاء يريدون قيام دولة إسلامية قبل تطهير البلاد من العقائد الوثنية المتمثلة بعبادة الموتَى والتعلق بالأضرحة بِما لا يختلف عن عبادة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى.
إن تَحكيم الشريعة وإقامة الحدود، وقيام الدولة الإسلامية، واجتناب المحرمات، وفعل الواجبات، كل هذه الأمور من حقوق التوحيد ومكملاته، وهي تابعة له، فكيف يعتنِي بالتابع، ويُهمل الأصل؟
إن ما وقع لتلك الجماعات من مُخالفة لمنهج الرسل في طريقة الدعوة إلى الله، إنَّما نشأ من جهلهم بِهذا المنهج، والجاهل لا يصلح أن يكون داعية، لأن من أهم شروط الدعوة العلم، كما قال تعالَى عن نبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]" (1) .
يقول سيد قطب -رحمه الله-:
__________
(1) من مقدمة فضيلة الشيخ صالح الفوزان لكتاب: "منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله" (9-11).(1/26)
"وبعد مراجعة ودراسة طويلة لحركة الإخوان المسلمين! ومقارنتها بالحركة الإسلامية الأولى للإسلام، أصبحَ واضحًا في تفكيري أن الحركة اليوم تواجه حالة شبيهة بالحالة التي كانت عليها المجتمعات البشرية يوم جاء الإسلام أول مرة، من ناحية الجهل بِحقيقة العقيدة الإسلامية، والبعد عن القيم والأخلاق الإسلامية، وليس فقط البعد عن النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية، وفي الوقت نفسه توجدُ معسكرات صهيونية وصليبية استعمارية قوية تحارب كل محاولة للدعوة الإسلامية، وتعمل على تدميرها، عن طريق الأنظمة والأجهزة المحليَّة بتدبير الدسائس والتوجيهات المؤدية لِهذا الغرض، ذلك بينما الحركات الإسلامية تشغل نفسها في أحيان كثيرة بالاستغراق في الحركات السياسية المحدودة المحليَّة، كمحاربة معاهدة، أو اتفاقية، وكمحاربة حزب، أو تأليب خصم في الانتخابات عليه.
كما أنَّها تشغل نفسها بِمطالبة الحكومات بتطبيق النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية، بينما المجتمعات ذاتُها بجملتها قد بعدت عن فهم مدلول العقيدة الإسلامية والغيرة عليها وعن الأخلاق الإسلامية.(1/27)
ولابدَّ إذن أن تبدأ الحركات الإسلامية من القاعدة وهي إحياء مدلول العقيدة الإسلامية في القلوب، والعقول، وتربية من يقبل هذه الدعوة وهذه المفهومات الصحيحة تربية إسلامية صحيحة، وعدم إضاعة الوقت في الأحداث السياسية الجارية، وعدم محاولات فرض النظام الإسلامي عن طريق الاستيلاء على الحكم، قبل أن تكون القاعدة المسلمة في المجتمعات هي التي تطلب النظام الإسلامي لأنَّها عرفته على حقيقته وتريد أن تحكم به؛ إذ أن الوصول إلى تطبيق النظام الإسلامي والحكم بشريعة الله ليس هدفًا عاجلاً لأنه لا يمكن تحقيقه إلا بعد نقل المجتمعات ذاتِها، أو جملة صالحة منها ذات وزن وثقل في مجرى الحياة العامَّة إلى فهم صحيح للعقيدة الإسلامية، ثُمَّ للنظام الإسلامي، وإلى تربية إسلامية صحيحة في الخُلُق الإسلامي، مهما اقتضى ذلك من الزمن الطويل والمراحل البطيئة" (1) .
"وهذا هو الطريق وحده، وليس هنالك طريق آخر.. وليس هنالك طريقًا سهلاً عن طريق تَحول الجماهير بِجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وبيان أحكام الإسلام! ولكن هذا إنَّما هي "الأمانِي"! فالجماهير لا تتحول أبدًا من الجاهلية وعبادة الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة.. والذي يبدؤه فرد ثُمَّ تتبعه طليعة" (2) .
"قد يقول قائلٌ: لو مشينا على سبيلكم... فإن هؤلاء الأعداء لن يسكتوا.. ولن يتركونا.
فالجواب من وجهين:
الأول: أن سبيلنا هو سبيل السلف، فلن يضرَّنا -بعدُ- ما يصيبنا منهم أو من غيرهم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاََ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
__________
(1) لماذا أعدمونِي (28).
(2) فقه الدعوة في ظلال القرآن (87).(1/28)
الثانِي: أن سبيلنا وسيلة جادة لضرب خططهم وإفشال مكائدهم إذ لا مسوِّغ لَهم بِحال أن يصفونا أو يصفوكم بـ "الإرهابية" أو "التطرف"! بينما طريقكم يناديهم وينبههم إلى المضيِّ قُدُمًا في تنفيذ خططهم وتطبيق مآربِهم واستعداء الآخرين عليكم" (1) .
الركن الثاني: أولو الأمر
1- مكانتهم.
2- وجوب الإمامة.
3- شروط الإمام.
4- طرق تولية ولي الأمر.
5- تعدد الأئمة والسلاطين.
6- قواعد تتعلق بالإمامة:
القاعدة الأولى: وجوب عقد البيعة.
القاعدة الثانية: جواز نصب المفضول مع وجود الفاضل.
القاعدة الثالثة: وجوب الصبر على جور الأئمة.
القاعدة الرابعة: تحريم الخروج على أئمة الظلم والجور بالثورات والانقلابات.
7- واجبات ولي الأمر.
8- حقوق ولي الأمر.
1- مكانة أولي الأمر
"أولو الأمر لهم مكانة علية ومنْزلة رفيعة، منحهم الشارع إياها ليتناسب قدرهم مع علو وظيفتهم ورفيع منصبهم وعظم مسئوليتهم، فإن منصبهم -منصب الإمامة- إنَّما وضع ليكون خلفًا للنبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
وإن وضع الشارع ولاة الأمر في هذه المكانة الشريفة والرتبة المنيفة هو عين الحكمة التي يرعاها في سائر تصرفاته، وعين المصلحة التي يتشوف إلى تحقيقها.
فإن الناس لا يسوسهم إلا قوة الإمام وحزمه، فلو لَم يعطه الشارع ما يناسب طبيعة عمله من فرض احترامه وتعظيمه ونحو ذلك لامتهنه الناس، ولَم ينقادوا له، ومن ثَمَّ يَحل البلاء، وتعم الفوضى، وتفوت المصالح، فتفسد الدنيا، ويضيع الدين" (2) .
قال ابن جماعة في بيان حقوق ولي الأمر:
__________
(1) رؤية واقعية في المناهج الدعوية (94).
(2) معاملة الحكام (47) لفضيلة الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم -حفظه الله تعالى ووفقه وسدد خطاه- وقد استفدت في هذا المبحث من فوائده ونقوله.(1/29)
"الحق الرابع: أن يعرف له عظيم حقه، وما يَجب من تعظيم قدره فيعامل بِما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله تعالَى له من الإعظام، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام يعظمون حرمتهم، ويبلون دعوتَهم، مع زهدهم وورعهم وعدم الطمع فيما لديهم، وما يفعله بعض المنتسبين إلى الزهد من قلة الأدب معهم، فليس من السنة" (1) .
ومما يدلُّ على رفيع منْزلة أولِي الأمر في الشرع المطهر -لاسيما- إذا عدلوا:
1- أن الله قرن طاعته سبحانه وطاعة رسوله ج بطاعتهم، كما في آية الأمراء.
2- أن الله يدفع به القوي عن الضعيف، والظالم عن المظلوم، فلولا الله ثُمَّ السلطان، ما استتب الأمن ولضاعت الحقوق ويدل على ذلك قوله ج: $السلطان ظلُّ الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله# (2) .
وهذه الإضافة إضافة تشريف وتعظيم، والمعنَى أن الله يدفع بأولياء الأمور الأذى والظلم عن الناس، كما يدفع بالظل أذى الحرور والقيظ، كما جاء في بعض تفاسير قوله تعالَى: {وَلَوْلاََ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
"لولا أن الله تعالى أقام السلطان في الأرض يدفع القوي عن الضعيف، وينصف المظلوم عن ظالمه، لتواثب الناس بعضهم على بعض (فلا ينتظم لَهم حال، ولا يستقر لَهم قرار، فتفسد الأرض ومن عليها" (3) . ثم امتن الله تعالى على عباده بإقامة السلطان لَهم بقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (4) .ا’.
قال الألوسي في تفسير هذه الآية:
__________
(1) تحرير الأحكام (63).
(2) سيأتِي تخريجه -إن شاء الله تعالى-.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة من "الشهب اللامعة" للمالقي (ص 61).
(4) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام (ص49).(1/30)
"وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك، وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولِهذا قيل: الدين والملك توءمان، ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الأخر، لأن الدين أس والملك حارس، وما لا أس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع" (1) .
"فامتنان الله تعالى على عباده بإقامة السلطان بين أظهرهم دليل على فضل السلطان، إذ إن الله تعالى إنَّما يمتن على عباده بالأمور العظام تنبيهًا على ما دونِها، وإظهارًا لعظيم فضله تعالى" (2) .
3- "ومن ذلك: الإجماع المنعقد من الأمة على أن الناس لا يستقيم لَهم أمر من أمور دينهم ولا دنياهم إلا بالإمامة، فلولا الله ثُمَّ الإمامة لضاع الدين وفسدت الدنيا.
وفي هذا المعنَى يقول الفقيه أبو عبد الله القلعي الشافعي في كتابه "تَهذيب الرياسة" (3) : "نظام أمر الدين والدنيا مقصود، ولا يحصل ذلك إلا بإمام موجود.
لو لَم نقل بوجوب الإمامة، لأدى ذلك إلى دوام الاختلاف والهرج إلى يوم القيامة.
لو لَم يكن للناس إمام مطاع، لانثلم شرف الإسلام وضاع.
لو لَم يكن للأمة إمام قاهر، لتعطلت المحاريب والمنابر، وانقطعت السبل للوارد والصادر.
لو خلا عصر من إمام لتعطلت فيه الأحكام وضاعت الأيتام، ولَم يحج البيت الحرام.
لولا الأئمة والقضاة والسلاطين والولاة لما نكحت الأيامى، ولا كفلت اليتامى.
لولا السلطان لكان الناس فوضى، ولأكل بعضهم بعضًا".
هذا الكلام من أجمع الكلام وأحكمه وأعذبه، وأعلى منه ما أخرجه البيهقي في "الشعب" (4) بسنده إلى علي بن أبِي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: "لا يصلح الناس إلا أمير، برٌّ أو فاجر".
قالوا: يا أمير المؤمنين هذا البر فكيف بالفاجر؟
قال: "إن الفاجر يؤمن الله - عز وجل - به السبل، ويُجاهد به العدو، ويَجيء به الفيءُ، وتقام به الحدود، ويحج به البيت، ويعبد الله فيه المسلم آمنًا حتَّى يأتيه أجله".
__________
(1) روح المعاني (1/174).
(2) معاملة الحكام (55).
(3) ص 94-95).
(4) 13/187).(1/31)
ومن ذلك: أن السلطان أعظم الناس أجرًا إذا عدل.
يقول العز بن عبد السلام: "وعلى الجملة: فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرًا من جَميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنَّهم يقومون بِجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل.
فإذا أمر الإمام بِجلب المصالح العامة، ودرء المفاسد العامة، كان له أجر بِحسب ما دعا إليه من المصالح العامة، وزجر عنه من المفاسد، ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتِها ...
قال: "وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجر المفتِي والحاكم -يعنِي القاضي- لأن ما يجلبه من المصالح ويدرؤه من المفاسد أتم وأعم" (1) ا’.
ومن الأحاديث الدالة على فضيلة الإمام العادل وعظيم ثوابه وجزائه عند الله تعالى:
1- حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ج: $إن المقسطين عند الله تعالى على منابر من نور على يَمين الرحمن -وكلتا يديه يَمين (2) - الذي يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا# (3) .
2- وحديث أبِي هريرة، عن النَّبِي ج قال: $إنَّما الإمام جُنة، يقاتل من ورائه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل، كان له بذلك أجره، وإن يأمر بغيره، كان عليه منه# (4) .
3- وحديث عبد الرحمن بن شَماسة، قال: "أتيت عائشة أسألُها عن شيء.
فقالت: ممن أنت؟
فقلت: رجل من أهل مصر.
فقالت: كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟
قال: ما نقمنا شيئًا، إن كان ليموت لرجل منا البعير، فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة، فيعطيه النفقة.
__________
(1) القواعد (1/104) انظر "معاملة الحكام" (58).
(2) قال أبو سليمان الخطابي: "ليس فيما يضاف إلى الله - عز وجل - من صفة اليدين شِمال، هي صفة جاء بِها التوقيف، فنحن نطلقها على ما جاءت، ولا نكيفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب، والأخبار الصحيحة، وهو مذهب السنة والجماعة".
... انظر شرح السنة (10/64).
(3) رواه مسلم (1827).
(4) متفق عليه: البخاري (2957)، ومسلم (1841).(1/32)
فقالت: أما إنه لا يَمنعنِي الذي فعل محمد بن أبِي بكر -أخي- أن أخبرك بِما سَمعت من رسول الله ج، يقول في بيتِي هذا: $اللهم من ولي من أمر أمتِي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتِي شيئًا، فرفق بِهم فارفق به# (1) .
- وحديث أبِي هريرة، قال: قال رسول الله ج: $سبعة يظلهم الله في ظلِّه يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل... # (2) .
فالمراد بالإمام العادل -كما يقول ابن حجر-: صاحب الولاية العظمى، ويلتحق به كل من ولي شيء من أمور المسلمين فعدل فيه، ويؤيده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو يرفعه: $إن المقسطين عند الله على منابر من نور.. # (3) .
- وحديث عياض بن حمار، قال: قال رسول الله ج: $أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربَى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال# (4) .
FFFFF
2- وجوب الإمامة
"يجب نصب إمام يقوم بِحراسة الدين، وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظالمين، ويأخذ الحقوق من مواقعها، ويضعها جمعًا وصرفًا في مواضعها، فإن بذلك صلاح البلاد، وأمن العباد، وقطع مواد الفساد؛ لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، ويتجرد لِحراستهم.
وكذلك قال بعض الحكماء: "جور السلطان أربعين سنة خير من رعية مهملة سنة واحدة" (5) .
"فالإمامة موضوعة لِخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بِها في الأمة واجب بالإجماع" (6) . "وهي فرض على الكفاية، يُخاطب بِها طائفتان من الناس:
أحدهما: أهل الاجتهاد حتى يختاروا.
__________
(1) رواه مسلم (1828).
(2) متفق عليه: البخاري (660)، ومسلم (1031).
(3) فتح الباري (2/144-145).
(4) أخرجه مسلم (2865).
(5) تحرير الأحكام، لابن جماعة (48).
(6) الأحكام السلطانية للماوردي (5).(1/33)
والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة" (1) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام إلا بِها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لَهم عند الاجتماع من رأس حتَّى قال النَّبِي ج: $إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم# رواه أبو داود (2) فأوجب ج تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهًا بذلك عن سائر أنواع الاجتماع؛ ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولِهذا رُوي: $أن السلطان ظل الله في الأرض#.
ويقال: "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان".
والتجربة تبين ذلك، ولِهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وغيرهما يقولون: "لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بِها للسلطان".. فالواجب اتِّخاذ الإمارة، وهي قربة يتقرب بِها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات" (3) .
وذكر ابن خلدون في "المقدمة" (4) أيضًا: "أن نصب الإمام واجب، وقد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين، لأن أصحاب رسول الله ج عند وفاته قد بادروا إلى بيعة أبِي بكر - رضي الله عنه - وتسليم النظر إليه في أمورهم، ولَم يترك الناس فوضى في عصر من العصور، واستقر ذلك إجماعًا دالاًّ على وجوب نصب الإمام".
__________
(1) الأحكام السلطانية للفراء (19).
(2) حديث صحيح: رواه أبو داود (2608، 2609) وغيره.
(3) انظر: السياسية الشرعية (136- 137).
(4) انظر: (179).(1/34)
والخلاصة في قول النووي: "لابد للأمة من إمام يقيم الدين، وينصر السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.. وتولي الإمامة فرض كفاية، فإن لَم يكن من يصلح إلا واحدًا تعين عليه ولزمه طلبها إن لَم يبتدؤوه" (1) .
ألقاب الإمام:
يلقب رئيس الدولة الإسلامية بعدة ألقاب، ولا مشاحة في هذه الألقاب إذا كان صاحبها مؤديًا للواجبات المنوطة به.
- فيلقب بالخليفة: لكونه يخلف النَّبِي ج في أمته، ولقوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص: 26].
- وبولي الأمر: لقوله تعالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُم}.
- وبالإمام: لحديث: $من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثَمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر# (2) .
"وأيضًا تشبيهًا بإمام الصلاة في اتباعه والاقتداء به، ولِهذا يقال: الإمامة الكبرى" (3) .
- ويلقب بالسلطان: لحديث الصحيحين: $من خرج من السلطان شبرًا فمات، فميتته الجاهلية# (4) .
- ويلقب بالملك: لأنه قد "صار مالكًا لأمر الرعية" (5) ، ولقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة: 247]. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20].
- وبأمير المؤمنين: وإن كان فاسقًا، لقيامه بأمر المؤمنين وطاعتهم له، وأول من نودي بذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
__________
(1) روضة الطالبين (10/42-43).
(2) رواه مسلم (1844) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(3) مقدمة ابن خلدون (178).
(4) سيأتِي تخريجه -إن شاء الله-.
(5) إكليل الكرامة (52).(1/35)
وينبغي أن لا يقال له: "خليفة الله"؛ "لأنه إنَّما يستخلف من يغيب أو يَموت، والله لا يغيب أو يموت" (1) . بل يقال: "الخليفة" و"خليفة رسول الله ج" لأنه خلف رسول الله ج في أمته" (2) .
ويحرم تحريما غليظًا أن يقال له ولغيره من الخلق: "شاهان شاه" لأن معناه "ملك الملوك" ولا يوصف بذلك غير الله - سبحانه وتعالى - (3) .
وفي حديث أبِي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النَّبِي ج قال: $إن أخنع اسم عند الله تعالَى رجل تسمى ملك الأملاك# (4) أي: أذلها وأوضعها (5) .
FFFFF
3- شروط الإمام
اشترط علماء الإسلام فيمن يتقلد منصب الإمامة أو الرئاسة الشروط التالية:
1- التكليف: ويشمل الإسلام، والبلوغ، والعقل.
فلا يَجوز تولية غير المسلم، قال تعالى: {لاََ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28]. "ولا تنعقد إمامة الصبِي؛ لأنه مولى عليه، والنظر في أموره إلى غيره، فكيف يجوز أن يكون ناظرًا في أمور الأمة، ولا تنعقد إمامة ذاهب العقل بِجنون أو غيره؛ لأن العقل آلة التدبير، فإذا فات العقل فات التدبير" (6) . وفي الحديث: $رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتَّى يستيقظ، وعن الصبِي حتَّى يكبر، وعن المَجنون حتَّى يعقل أو يَفيق# (7) .
__________
(1) الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء (27)، وانظر: زاد المعاد (2/37)، ومفتاح دار السعادة (165)، ومعجم المناهي اللفظية (156).
(2) الأذكار للنووي (517).
(3) المصدر السابق (518).
(4) متفق عليه: البخاري (6205)، ومسلم (2143).
(5) النهاية (2/84).
(6) مآثر الإنافة (1/32).
(7) حديث صحيح: رواه أحمد (6/100، 101، 144)، وأبو داود (4398)، والنسائي (6/156)، وابن ماجه (2041)، وغيرهم من حديث عائشة.(1/36)
2- الذكورة: فالولاية الكبرى لا تصلح لها المرأة باتفاق العلماء، والدليل قوله ج: $لا يفلح قوم ولوا أمرهم امراة# (1) . فالخليفة يَحتاج أن يخلو بمستشاريه، ويفاوض الخصوم، ويقود الجيوش، ويقرر السلم أو الحرب، والمرأة لا تستطيع ذلك، خاصة وأنه قد يعرض لها ما يمنعها من القيام بواجبات الخلافة، أو يقلل من فعاليتها في ذلك، مثل الحيض والنفاس والرضاع وتربية الأولاد، كما أن المرأة سريعة الانفعال، جياشة العاطفة، وشئون الأمة تحتاج إلى عقل راجح، ونظر بعيد، لا يتأثر بِمؤثرات الهوى والعاطفة.
"وليس في ذلك انتقاص للمرأة، أو حط من قدرها، بل هو في الحقيقة تكريْم لَها، وصون لعفتها، وحرصًا على ما تضطلع به من دور هام في بناء الأجيال، فالمرأة لَم تُخلق إلا لتكون مستودع الرحمة والحنان، تقر في بيتها، فتملؤه بالبهجة والسعادة" (2) . ومن ثَمَّ فإن تقليد المرأة رئاسة الدولة وضع لها في غير موضعها التي فطرت عليه.
__________
(1) رواه البخاري (4425).
(2) نظام الأسرة في الإسلام د. محمد عقلة (2/48)، وانظر "المرأة والحقوق السياسية في الإسلام" (131).(1/37)
3- العدالة: وهي التحلي بالفضائل، والتخلي عن الرذائل، وترك المعاصي، وكل ما يخل بالمروءة، فلابد أن يكون عفيفًا عن المحارم، لا يعرف بشيء من الفسق والفجور، متوقيًا المآثم، بعيدًا عن الشبهة، وصادق اللهجة، ظاهر الأمانة، معتدل المزاج، مألوفًا في الغضب والرضا، مثالاً في دينه ودنياه، "فلا ينهض بِمقاصد الإمامة إلا العدل، فإن من لا عدالة له لا يؤمن على نفسه، فضلاً عن أن يؤمن على عباد الله تعالَى، ويوثق به في تدبير دينهم ودنياهم! ومعلوم أن وازع الدين وعزيْمة الورع لا تتم أمور الدين والدنيا إلا بِهما، ومن لَم يكن كذلك خبط في الضلالة، وخلط في الجهالة، واتبع شهوات نفسه، وأثرها على مراضي الله تعالَى ومراضي عباده، لأنه مع عدم تلبسه بالعدالة، وخلوه من صفات الورع، لا يبالِي بزواجر الكتاب والسنة، ولا يبالي أيضًا بالناس، لأنه قد صار متوليًا عليهم نافذ الأمر والنهي فيهم، فليس ينبغي لأهل الحل والعقد أن يبايعوا من لَم يكن عدلاً.. إلا أن يتوب، ويتعذر عليهم العدول إلى غيره، فعليهم أن يأخذوا عليه العمل بأعمال العادلين، والسلوك في مسالك المتقين، ثُمَّ إذا لَم يثبت على ذلك، كان عليهم أمره بِما هو معروف، ونَهيه عما هو منكر، ولا يجوز لَهم أن يطيعوه في معصية الله، ولا يَجوز لَهم أيضًا الخروج عليه ومحاكمته بالسيف، فإن الأحاديث المتواترة قد دلت على ذلك دلالة أوضح من شَمس النهار.. وأما عزل الإمام بالفسق.. فإذا وقعت منه معصية توجب الفسق أو لا توجبه، وجبت عليه التوبة عنها، وأما أنَّها تؤثر في بطلان ولايته فلا، ومن ادعى ذلك فعليه بالدليل" (1) .
__________
(1) انظر: إكليل الكرامة (115-116).(1/38)
4- العلم والثقافة: فلابد أن يكون على درجة كبيرة من العلم والثقافة، ليتمكن من معرفة الحق من الباطل وسياسة أمور الدولة، وتحقيق مصالح الأمة، ومفاوضة الخصوم والأعداء، وأول العلوم وأهمها العلم بالأحكام الإسلامية والسياسة الشرعية، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يبلغ الخليفة بعلمه درجة الاجتهاد، فيكون عنده القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، بِحيث لا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث والنوازل، ويرى الحنفية والإمام الشاطبِي وأبو حامد الغزالِي أن هذا الشرط ليس ضروريًّا، وإنَّما يكفيه أن يحصل من العلم الشرعي ما يستطيع به قيادة الأمة، لاسيما إذا استعان بعلم غيره من كبار فقهاء الشريعة الإسلامية (1) .
يقول الشهرستاني: "ومالت جَماعة من أهل السنة إلى ذلك حتَّى جوزوا أن يكون الإمام غير مُجتهد، ولا خبير بِمواقع الاجتهاد، ولكن يجب أن يكون معه من يكون من أهل الاجتهاد، فيراجعه في الأحكام، ويستفتِي منه في الحلال والحرام" (2) .
وهذا هو الصحيح، "فإن المقصود من نصب الأئمة -كما يقول الشوكاني- هو تنفيذ أحكام الله - عز وجل - فمن بايعه المسلمون، وقام بِهذه الأمور، فقد تحمل أعباء الإمامة.. ولا دليل على أنه لا يولي الأمر إلا من كان بِهذه المنْزلة من الكمال، وعليه أن ينتخب من العلماء المبرزين المجتهدين المحققين من يشاوره في الأمور، ويجريها على ما ورد به الشرع، ويجعل الخصومات إليهم، فما حكموا به كان عليه إنفاذه، وما أمروا به فعله.. وليس للإمام إذا لَم يكن مُجتهدًا أن يستبد بِما يتعلق بأمور الدين، ولا يدخل نفسه في فصل الخصومات، والحكم بين الناس فيما ينوبُهم؛ لأن ذلك لا يكون إلا من مجتهد" (3) .
__________
(1) انظر: بلغة السالك (2/330)، مغنِي المحتاج (4/130)، الاعتصام (2/126).
(2) الملل والنحل (160).
(3) السيل الجرار: (4/507- 508).(1/39)
"وليس للمسلمين حاجة في إمام قاعد في مصلاه، ممسك سبحته، مؤثر لمطالعة الكتب العلمية، مدرس فيها لطلبة عصره، مصنف في مشكلاتِها، متورع عن سفك الدماء والأموال، والمسلمون يأكل بعضهم بعضًا، ويظلم قويهم ضعيفهم، ويضطهد شريفهم وضيعهم، فإن الأمر إذا كان هكذا لَم يحصل من الإمامة والسلطنة شيء، لعدم وجود الأهم الأعظم الذي شرعتا له، وهذا الكلام لا يعقله إلا الأفراد من أهل العلم" (1) .
5- الكفاية السياسية:
والمقصود بِهذا الشرط أن يكون عالمًا بوجوه فن السياسة، وتدبير المصالح، قادرًا على إدارة شئون البلاد، والنهوض بتبعة الحكم وأعبائه، "وأن يكون ذا خبرة ورأي حصيف بأمر الحرب، وتدبير الجيوش، وسد الثغور، وحماية البيضة، وردع الأمة، والانتقام من الظالم والأخذ للمظلوم" (2) .
6- أن يكون قرشيًا:
لقوله ج: $الأئمة من قريش# (3) .
وقوله ج: $الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم، وكافرهم لكافرهم# (4) .
وقوله ج: $لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان# (5) .
__________
(1) وبل الغمام للشوكاني، بواسطة إكليل الكرامة (114).
(2) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبِي (3/415).
(3) حديث صحيح: رواه أحمد (3/183، 4/421).
(4) متفق عليه: البخاري (3495)، ومسلم (1818).
(5) متفق عليه: البخاري (7140)، ومسلم (1820) و"هذا الخبر عن المشروعية، أي: لا تنعقد الإمامة الكبرى، إلا لَهم متى وجد منهم واحد" قاله القرطبي في المفهم (4/6).(1/40)
"فهذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مُختصة بقريش، لا يَجوز عقدها لأحد غيرهم" (1) . وهذا الشرط من مسائل الإجماع، ولَم ينقل عن أحد من السلف فيه خلاف، ولا يعتد بقول الخوارج، والمصلحة في اشتراط النسب القرشي دفع التنازع والاختلاف على الخليفة، ومساعدته على كمال تنفيذ مهامه، لما لقريش من مكانة عالية في الجزيرة العربية، ولو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بِمخالفتهم وعدم انقيادهم.
وفي ذلك يقول القرطبي: "قوله ج: $الناس تبع لقريش في هذا الشأن#. يعني به شأن الولاية والإمارة، وذلك أن قريشًا كانت في الجاهلية رؤساء العرب وقادتِها، لأنَّهم أهل البيت والحرم، حتى كانت العرب تسميهم: "أهل الله" وإليهم كانوا يرجعون في أمورهم، ويعتمدون عليهم فيما ينوبَهم، ولذلك توقف كثير من الأعراب من الدخول في الإسلام قبل أن تدخل فيه قريش، فلما أسلموا ودخلوا فيه، أطبقت العرب على الدخول في الدين بحكم أنَّهم كانوا لَهم تابعين، ولإسلامهم منتظرين -كذا ذكره ابن إسحاق وغيره- فهذا معنى تبعية الناس لهم في الجاهلية، ثم لما جاء الإسلام استقر أمر الخلافة والملك في قريش شرعًا ووجودًا، ولذلك قالت قريش يوم السقيفة للأنصار: "نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال عمر في كلامه: "إن هذا الأمر لا تعرفه الناس إلا لهذا الحي من قريش، فانقادوا لذلك، ولَم يُخالف فيه أحد، وهو إجماع السلف والخلف" (2) .
على أن هذا الشرط خاص بالإمامة العظمى، عندما تتوحد الأمة، ويتولى أمر المسلمين جميعًا خليفة واحد، "إذا أجمعت الأمة على: أن جميع الولايات تصح لغير قرشي ما خلا الإمامة الكبرى، فهي المقصودة بالحديث قطعًا" (3) .
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (12/200).
(2) المفهم (4/6).
(3) المصدر السابق (4/7).(1/41)
وإذا لَم يوجد من أفراد قبيلة قريش من تتوافر فيهم شروط الخلافة فيقدم غير القرشي، فينبغي أن يتفطن للعلة الحقيقية التي ينبغي أن يدور معها وصف القرشية، وهذا ما أشار إليه الرسول ج بقوله: $إن هذا الأمر في قريش.. ما أقاموا الدين#. فإن خالفوا أمر الله وأمر رسوله فغيرهم ممن يقيم شرع الله وينفذ أوامره أولى منهم.
أمر آخر لابد أن يتفطن إليه أنه من تولى الحكم في بلد من البلاد الإسلامية واستتب له، فهو إمام شرعي تجب بيعته وطاعته، وتحرم منازعته ومعصيته، ويكون له حكم الإمام الأعظم في جميع الأشياء، وإن لَم يكن قرشيًّا؛ لحديث أنس في صحيح البخاري قال: قال رسول الله ج: $اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة# (1) .
على أننا نقول: أين الخليفة القرشي المتسجمع للشروط اللازمة؟ وإذا وجد فهيهات أن يجتمع عليه المسلمون كافة في شتى أقطار الأرض، كيف وأبو حامد الغزالي (ت505’) يقول في عصره: "تقدير قرشي مجتهد مستجمع الصفات، متصد لطلب الإمامة، هذا لا وجود له في عصرنا، وتقدير اقتدار الخلف على الاستبدال بالإمام والتصرف فيه بالخلع والانتقال، هذا محال في زماننا" (2) .
__________
(1) البخاري (7142).
(2) فضائح الباطنية (120).(1/42)
بيد أن كثيرين من المعاصرين يذهبون إلى ما ذهب إليه ابن خلدون وأبو بكر الباقلاني: "أن شرط النسب القرشي في الإمام الأعظم موقوت بزمن عصبية قريش، وأن العلة في اشتراط الإمامة بقريش هي لعصبيتها الغالبة على من سواها من قبائل العرب.. قالوا: "النسب القرشي إن كان مشروطًا لذاته، فليس الغاية تقتضيه؛ لأن حراسة الدين وسياسة الدنيا تكون من الكفء القادر أيًّا كان نسبه، وإن كان مشروطًا لما لقريش من المنعة والقوة التي يستعين بِها الخليفة على أداء واجبه، وجمع الكلمة حوله، فهو شرط زمني مآله اشتراط أن يكون الخليفة من قوم أولي عصبية غالبة، ولا اطراء لاشتراط القرشية" (1) .
"إن وقوع إجماع على قرشية الإمام معلل بِمصلحة قوة قريش ومنعتها وقدرتِها.. فلما ضعف أمر قريش وتلاشت عصبيتها، اقتضت الضرورة الشرعية للمحافظة على أصل المصلحة أن تنتقل الإمامة العظمى من قريش إلى غيرها ذات عصبية غالبة بشوكتها القاهرة على من سواها؛ لأنه بِها ينتظم أمر الملة، وتتوحد كلمة المسلمين من التفرق، وتصان غاية الشارع الكبرى من وضع الإمامة في خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به؛ إذ الحكم يدور عندئذ مع علته وجودًا وعدمًا، وحيث تكون المصلحة، فثمَّ شرعُ الله سبحانه" (2) !!
7- الحرية: فالعبد لا يصلح أن يكون رئيس دولة، فهو لا يَملك أمر نفسه، ومشغول بِخدمة سيده، ومن عادة الأحرار أن لا يطيعوا العبيد لقصور أهليتهم ومكانتهم، والأحاديث التي وردت في طاعة الأمير وإن كان عبدًا حبشيًّا محمولة على غير ولاية الحكم، أو إذا كان الذي استعمله وأمر بطاعته الخليفة، أو أنَّها وردت على سبيل المبالغة في طاعة ولي الأمر، أو إذا تغلب بالقوة واستتب له الأمر، فيجب طاعته إخمادًا للفتن، وصيانة للدماء.
__________
(1) السياسة الشرعية لخلاف (57).
(2) انظر: المرأة والحقوق السياسية في الإسلام (118- 120).(1/43)
8- سلامة الحواس والأعضاء: فأما ما يتعلق بالحواس فيشترط سلامة البصر، والسمع، والنطق، فلا يصلح المبتلى بالعمى أو الصم أو الخرس لِهذا المنصب الخطير، لأنَّها تؤثر في العمل المنوط بولي الأمر، وأما ما يتعلق بالأعضاء فكل ما لا يؤثر فقده في رأي الإمام أو عمله فلا يَمنع من عقد الإمامة (1) .
يقول الشوكانِي: "المقصود بالولاية العامة هو تدبير أمور الناس على العموم والخصوص، وإجراء الأمور مجاريها، ووضعها مواضعها، وهذا لا يتيسر مِمن في حواسه خلل؛ لأنَّها تقتضي نقص التدبير، إما مطلقًا، أو بالنسبة إلى تلك الحاسة، وأما سلامة الأطراف فلا وجه لاشتراطها، فإن الأعرج والأشل لا ينقص من تدبيره شيء، ويقوم بِما يقوم به من ليس كذلك، ومعلوم أنه لا يراد من مثل الإمام السِّباق على الأقدام، ولا ضرب الصولجان، ولا حمل الأثقال" (2) .
FFFFF
4- طرق تولية ولي الأمر
الإمامة ضربان: اختيارية وقهرية، وتنعقد الإمامة الاختيارية بطريقين والقهرية بطريق ثالث (3) ، فهذه طرق ثلاثة لانعقاد الإمامة.
الطريق الأولى في الإمامة الاختيارية "بيعة أهل الحل والعقد":
فهذه الطريق ينتصب لعقدها طائفتان من الأمة الإسلامية:
- الطائفة الأولى: أهل الاختيار، وهم أهل الحل والعقد من الأمراء والعلماء ورؤساء الناس ووجهائهم.
ويشترط فيهم شروط ثلاثة:
1- العدالة.
2- العلم الذي يتوصلون به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
3- الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف (4) .
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية للماوردي (6)، وللفراء (20)، وتحرير الأحكام لابن جماعة (51) والمقدمة لابن خلدون (180)، والسيل الجرار (4/503).
(2) السيل الجرار (4/507).
(3) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة (52).
(4) الأحكام السلطانية للماوردي (6).(1/44)
- الطائفة الثانية: أهل الإمامة، وقد سبقت الشروط المعتبرة فيهم.
فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار، تصفحوا أحوال أهل الإمامة، الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً، وأكملهم شروطًا، ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون في بيعته، مع مراعاة أحوال الزمان وملابساته، فيقدمون الأعلم عند ظهور البدع وقلة العلم وسكون الفتن ووفرة الأمن، ويقدمون الأشجع عند ظهور العدو، وأهل الفساد والبغاة، فإن تعين لَهم من بين أهل الإمامة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت بيعتهم له بالإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته (1) .
وهكذا تمت بيعة شيخ أصحاب النَّبِي أبِي بكر الصديق، بايعه كبار الصحابة في سقيفة بني ساعدة كما في الصحيحين، قال عمر: "ابسط يديك يا أبا بكر، فبسط يده، فبايعه عمر، وبايعه المهاجرون، ثُمَّ بايعه الأنصار" وكانت هذه البيعة قبل دفن رسول الله ج.
فقد كره الصحابة أن يبيتوا يومًا، وليس لهم إمام، وليسوا في جماعة، فلما كان الغد دعا عمر الناس في المسجد إلى البيعة العامة، فقال: "إن أبا بكر صاحب رسول الله ج ثانِي اثنين، فإنه أولى المسلمين بأموركم، فقوموا فبايعوه" (2) .
الطريق الثانية في البيعة الاختيارية "الاستخلاف":
__________
(1) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي (7، 8)، وروضة الطالبين (10/46)، وتحرير الأحكام (56).
(2) رواه البخاري (7219).(1/45)
استخلاف الإمام القائم وعهده بالإمامة إلى من بعده، وهو مِما انعقد إجماع الأمة على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته، فقد عهد الصديق إلى عمر (1) ، وعهد بِها عمر إلى أهل الشورى (2) ،
__________
(1) كانت وفاة الصديق - رضي الله عنه - لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يومًا، وكان عمر بن الخطاب يصلي عنه فيها بالمسلمين، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان، وقرئ على المسلمين، فأقروا به وسَمعوا له وأطاعوا. انظر: البداية والنهاية (7/18).
(2) "روى البخاري (3700) في باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ، وفيه مقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - " عن عمرو بن ميمون، قال: "رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل أن يصاب بأيام بالمدينة... فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب، قال: إنِّي لقائم، ما بينِي وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين، قال: استووا. حتَّى إذا لَم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، وربَّما قرأ بسورة يوسف أو النحل أو نَحو ذلك في الركعة الأولى حتَّى يَجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلنِي أو أكلنِي الكلب. حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يَمينًا ولا شمالاً إلا طعنه حتَّى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسًا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنَّهم لا يدرون غير أنَّهم فقدوا صوت عمر، وهو يقولون: سبحان الله، سبحان الله، فصلى بِهم عبد الرحمن صلاة خفيفة.
فلما انصرفوا، قال: يابن عباس، انظر من قتلنِي. فجال ساعة، ثُمَّ جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله، لقد أمرت به معروفًا، الحمد لله الذي لَم يَجعل ميتتِي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تُحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقًا، فقال: إن شئت فعلت، أي: إن شئت قتلنا.. فقال: كذبت، بعدما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم؟
فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه، وكأن الناس لَم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس. وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثُمَّ أتي بلبن فشرب فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه.
وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله ج وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثُمَّ وليت فعدلت، ثُمَّ شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي. فلما أدبر إذا إزاره يَمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام. قال: يابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك.
يا عبد الله بن عمر: انظر ماذا علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفًا أو نحوه، قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لَم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم فأد عني هذا المال.
انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإنِّي لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثُمَّ دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرنه به اليوم على نفسي.
فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء، قال: ارفعونِي، فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تُحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت، فاحملونِي، ثُمَّ سلم، فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلونِي، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لَهم فسمعنا بكاءها من الداخل.
فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بِهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله ج وهو عنهم راض. فسمى عليًّا وعثمان والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن. وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء -كهيئة التعزية له- فإن أصابت الإمرة سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإنِّي لَم أعزله من عجز ولا خيانة.
وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لَهم حقهم ويَحفظ لَهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرًا الذين تبوؤا الدار والإيْمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم، وأن يعفي عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرًا، فإنَّهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيرًا، فإنَّهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله ج أن يُوفَّى لَهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.
فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر، قال: يستأذن عمر بن الخطاب، قالت: أدخلوه، فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه.
فلما فرغ من دفنه، اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن: اجعلوا إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه وكذا الإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلوا عن أفضلكم؟ قالوا: نعم، فأخذ بيد أحدهما فقال: قرابة من رسول الله ج والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثُمَّ خلا بالآخر فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان، فبايعه، وبايع له علي، وولج أهل الدار فبايعوه".(1/46)
ولَم ينكر ذلك الصحابة. "وإذا أراد الإمام أن يعهد بِها، فعليه أن يجهد رأيه في الأحق بِها والأقوم بشروطها" (1) . و"حاصله -كما يقول النووي- أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت، وقبل ذلك، يَجوز له الاستخلاف، ويَجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي ج في هذا، وإلا فقد اقتدى بأبي بكر، وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف، وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لَم يستخلف الخليفة" (2) .
ويرى ابن حزم أن هذه هي الطريق المثلى في تولية الإمامة، فها هو يقول: "عقد الإمامة يصح بوجوه:
أولها وأفضلها وأصحها: أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يَختاره إمامًا بعد موته، وسواء فعل ذلك في صحته، أو في مرضه، أو عند موته، إذ لا نص ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه، كما فعل رسول الله ج بأبي بكر (3) ، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز. وهذا هو الوجه الذي نَختاره، ونكره غيره، لما في هذا الوجه من اتصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوف من الاختلاف والشغب مِما يتوقع في غيره من بقاء الأمة فوضى ، ومن انتشار الأمر، وارتفاع النفوس، وحدوث الأطماع، وإنَّما أنكر من أنكر من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن التابعين بيعة يزيد بن معاوية، والوليد، وسليمان، لأنَّهم كانوا غير مرضيين، لا لأن الإمام عهد عليهم في حياته" (4) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي (11) يقول ابن الجوزي في المصباح المضيء (1/94) "ثُمَّ يشترط النص عليه من الإمام الذي قبله، أو انعقاد إجماع أهل الحل والعقد عليه".
(2) شرح النووي لصحيح مسلم (12/205).
(3) في ذلك نظر لا يَخفى كما سيأتِي في قول عمر.
(4) الفصل (5/16).(1/47)
وهذا الذي قاله أبو محمد بن حزم أشار إليه من قبل شيخ أصحاب النَّبِي ج أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حينما عهد إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بالأمر من بعده، قال: "اللهم إنِّي لَم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم الفتنة" (1) ، وأشار إليه كذلك أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إذ يقول:
"دخلت على حفصة، فقالت: أعلمت أن أباك غير مستخلف؟
قال: قلت: ما كان ليفعل.
قالت: إنه فاعل.
قال: فحلفت أنِّي أكلمه في ذلك.
فسكتُّ، حتَّى غدوتُ، ولَم أكلمه، فكنتُ كأنَّما أحمل بيمينِي جبلاً، حتَّى رجعتُ، فدخلت عليه، فسألنِي عن حال الناس، وأنا أخبرُهُ.
ثُمَّ قلت له: إنِّي سمعت الناس يقولون مقالةً، فآليتُ أن أقولها لك: زعموا أنك غيرُ مستخلف، وإنه لو كان لك راعي إبل، أو راعي غنم، ثُمَّ جاءك وتركها، رأيت أن قد ضيَّع، فرعاية الناس أشد!
فوافقهُ قولي، فوضع رأسه ساعةً ثُمَّ رفعه إليَّ. فقال:
إن الله - عز وجل - يَحفظ دينه، وإنِّي لئن لا أستخلف فإن رسول الله ج لَم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف.
قال: فوالله! ما هو إلا أن ذكر رسول الله ج وأبا بكر، فعلمت أنه لن يكن ليعدل برسول الله ج أحدًا، وأنه غير مستخلف" (2) .
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي (77).
(2) متفق عليه: البخاري (4108)، ومسلم (1823).(1/48)
- يقول الإمام العلامة صديق حسن خان: "ولا يُتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه، لأنه مأمون على النظر لَهم في حياته، فأولَى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته، خلافًا لمن قال باتِّهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد، فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله، لاسيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة، فتنتفي الظنة عند ذلك رأسًا، كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد، وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب، والذي دعا معاوية إلى إيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه، إنَّما هي مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية، إذ بنو أمية لا يرضون سواهم، وهم عصابة قريش، وأهل الملة أجْمع، وأهل الغلب منهم، فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولَى بِها، وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصًا على الاتفاق واجْتماع الأهواء، الذي شأنه أهم عند الشارع، وإن كان لا يظن بِمعاوية غير هذا، فعدالته وصُحبته مانعة من سوى ذلك، وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتُهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه، فليسوا مِمن يأخذهم في الحق هوادة، وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق، فإنَّهم كلهم أجل من ذلك، وعدالتهم مانعة منه، ثُمَّ إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسُليمان من بنِي أمية، والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس، وأمثالهم مِمن عرف عدالتهم، وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم.
ولا يُعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانِهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك، فشأنُهم غير شأن أولئك الخلفاء، فإنَّهم كانوا على حين لَم تحدث طبيعة الملك، وكان الوازع دينيًّا، فعند كل أحد وازع من نفسه، فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه.(1/49)
وأما بعدهم من لدُن معاوية، فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك، والوازع الدينِي قد ضعف، واحتيج إلى الوازع السلطانِي والعصباني، فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد، وانتقض أمره سريعًا، وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف، أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسَماه الرضا، كيف أنكرت العباسية ذلك، ونقضوا بيعته، وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي، وظهر الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلي الأمر حتَّى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد وردَّ أمرهم لمعاهده، فلابد من اعتبار ذلك في العهد، فالعصور تَختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات، وتختلف باختلاف المصالح، ولكل واحد منها حكم يخصه لطفًا من الله بعباده" (1) .
"وإذا استقرت الخلافة لمن تقلدها إما بعهد أو اختيار لزم كافة الأمة أن يعرفوا إفضاء الخلافة إلى مستحقها... وعليهم تفويض الأمور العامة إليه من غير افتيات عليه، ليقوم بما وكل إليه من وجوه المصالح، وتدبير الأعمال" (2) . "فإن المعتبر هو وقوع البيعة له من أهل الحل والعقد، فإنَّها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة، وتثبت به الولاية، وتحرم معه المخالفة، وقد قامت على ذلك الأدلة، وثبتت به الحجة" (3) .
الطريق الثالثة "القهرية":
"وهي قهر صاحب الشوكة، فإذا خلا الوقت عن إمام، فتصدى للإمامة من هو من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف، انعقدت بيعته، ولزمت طاعته، لينتظم شمل المسلمين، وتجتمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلاً أو فاسقًا في الأصح، لما قدمناه من مصلحة المسلمين وجمع كلمتهم" (4) .
__________
(1) انظر: إكليل الكرامة (33-35).
(2) انظر: الأحكام السلطانية للماوردي (17).
(3) السيل الجرار (4/511).
(4) تحرير الأحكام (55).(1/50)
وهذا الذي قاله ابن جماعة هو الذي اتجه إليه جماهير أهل العلم، بل انعقد عليه الإجماع، وقد أسس "على مبدأ ارتكاب أخف الضررين، إذ عند الموازنة بين الضرر الناشئ عن وصول الحاكم إلى منصب الخلافة بطريق التغلب، والضرر الناشئ عن مقاومته والخروج عليه، من انقسام الجماعة، وحدوث الفتن، وانشغال المسلمين، بِحروب بعضهم البعض، وإراقة الدماء، وإضاعة الجهود والأموال، يظهر بوضوح أن الأضرار الناتجة عن الاحتمال الثانِي أشد جسامة وأكثر خطورة من الأضرار الناجمة عن الاحتمال الأول" (1) .
وقد أشار إلى هذا المعنَى كثيرون، منهم "العلامة الدسوقي في حاشيته" إذ يقول:
"اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة:
1- إما بإيصاء الخليفة الأول.
2- وإما بالتغلب على الناس؛ لأن من اشتدت وطأته بالتغلب، وجبت طاعته، ولا يراعى في هذا شروط الإمامة، إذ المدار على درء المفاسد، وارتكاب أخف الضررين.
3- وإما بيعة أهل الحل والعقد" (2) .
ونخلص من هذا كله بتلك القاعدة المهمة: "من غلب فتولى الحكم واستتب له فهو إمام تجب بيعته وطاعته، وتَحرم منازعته ومعصيته، وإن لَم يستجمع الشروط" (3) .
قال الإمام أحمد: "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين، فلا يَحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إمامًا برًّا كان أو فاجرًا" (4) .
واحتج الإمام أحمد بِما ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: "وأصلي وراء من غلب" (5) .
__________
(1) الدولة الإسلامية وسلطتها التشريعية (182).
(2) حاشية الدسوقي (4/228).
(3) انظر: معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (25) لأخينا الشيخ الفاضل عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم -حفظه الله تعالَى-.
(4) الأحكام السلطانية لأبي يعلى (23).
(5) المصدر السابق (23).(1/51)
وكان ابن عمر امتنع أن يبايع لعبد الله بن الزبير أو لعبد الملك بن مروان، فلما غلب عبد الملك، واستقام له الأمر بايعه، وكتب إليه: "إنِّي أقرُّ بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين، على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بني قد أقروا بِمثل ذلك" (1) .
قال الإمام الشافعي: "كلُّ من غلب على الخلافة بالسيف، حتَّى يسمى خليفة، ويجمع الناسُ عليه، فهو خليفة" (2) .
وقال ابن حجر -رحمه الله- "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء" (3) .
يقول النووي فيما إذا لَم يستجمع المتغلب شروط الإمامة: "وأما الطريق الثالث: فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جَمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده انعقدت خلافته لينتظم شَمل المسلمين، فإن لَم يكن جامعًا للشرائط بأن كان فاسقًا أوجاهلاً، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه" (4) .
ونحو هذا قال الغزالي من قبل: "ولو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة -بأن يغلب عليها جاهل بالأحكام أو فاسق- وكان في صرفه عنها إثارة فتنة لا تطاق، حكمنا بانعقاد إمامته، لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه -أي في هذا الاستبدال من الضرر يزيد على ما يفوتُهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة- فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بِمزاياها، كالذي يبنِي قصرًا ويهدم مصرًا، وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية، وذلك محال" (5) .
__________
(1) رواه البخاري (7203).
(2) مناقب الشافعي للبيهقي (1/448).
(3) فتح الباري (13/7).
(4) روضة الطالبين (10/46).
(5) إحياء علوم الدين، وما بين شرطتين من شرحه للزبيدي: (2/233).(1/52)
"بل إن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية وجميع شرائط الإمامة، واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضهم لإثارة فتن، واضطراب أمور، لَم يجز لهم خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم الطاعة له، والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته" (1) .
والخلاصة أن: "أهل العلم .. متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه، وصحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان، ويرون المنع من الخروج عليهم بالسيف، وتفريق الأمة، وإن كان الأئمة فسقة ما لَم يروا كفرًا بواحًا، ونصوصهم في ذلك موجودة عن الأئمة الأربعة وغيرهم وأمثالهم ونظرائهم" (2) .
FFFFF
__________
(1) فضائح الباطنية: (120).
(2) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/168). والقائل: الشيخ العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ -رحمهم الله-.(1/53)
5- تعدد الأئمة والسلاطين
الأصل أن يكون للمسلمين جميعًا إمام واحد، ولكن "بعد انتشار الإسلام، واتساع رقعته، وتباعد أطرافه، فمعلوم أنه قد صار في كل قطر -أو أقطار- الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمر ولا نَهي في قطر الآخر أو أقطاره التي رجعت إلى ولايته.
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه. وكذلك صاحب القطر الآخر.
فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله، كان الحكم فيه أن يقتل إذا لَم يتب.
ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته، لتباعد الأقطار، فإنه لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانِها، ولا يدري من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذا تكليف بِما لا يطاق، وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد.
فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار (1) .
يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى-: "والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين أو غير ذلك فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود، ويستوفي الحقوق (2) .
__________
(1) السيل الجرار للشوكاني (4/512).
(2) مجموع الفتاوى (35/175-176).(1/1)
وقال الإمام أبو المعالي الجويني: "والذي عندي أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط والمخاليف غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، فأما إذا بعد المدي وتخلل بين الإمامين شيوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع، وكان الأستاذ أبو إسحاق يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية التباعد لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم" (1) .
وقال شيخ الإسلام مُحمَّد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-: "الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدًا من العلماء ذكر أن شيئًا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم (2) .
وقال العلامة الصنعاني -رحمه الله تعالى- في شرح حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: $ من خرج عن الطاعة، وفارق الجماعة، ومات فميتته ميتة جاهلية# (3) .
قوله: $عن الطاعة# أي: طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه، وكأن المراد خليفة أي قطر من الأقطار إذ لَم يجمع الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية، بل استقل أهل كل إقليم بقائم أمورهم، إذ لو حمل الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقلت فائدته.
وقوله: $وفارق الجماعة# أي: خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم عن عدوهم (4) .
FFFFF
6- قواعد تتعلق بالإمامة
F القاعدة الأولى: وجوب عقد البيعة وتحريم نقضها:
__________
(1) جامع الأحكام الفقهية للقرطبي (3/418) وانظر كتاب "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (3/36).
(2) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (7/239).
(3) أخرجه مسلم (1848).
(4) سبل السلام (3/499) وانظر الكتاب القيم "معاملة الحكام (34-38).(1/2)
1- البيعة هي: معاهدة بين الإمام والرعية على "الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على أن يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير، وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده تأكيدًا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري، فسمي بيعة، مصدر "باع" وصارت البيعة مصافحة بالأيدي" (1) .
2- وإذا انعقدت الإمامة... وجب على الناس كافة مبايعة الإمام على السمع والطاعة، وإقامة كتاب الله وسنة رسول الله ج يقول القرطبي: ومن تأبى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبى بغير عذر، جبر وقهر، لئلا تفترق كلمة المسلمين (2) .
3- "وهذه البيعة تسمى بيعة الأمراء، وسميت بذلك؛ لأن المقصود بِها تأكيد السمع والطاعة" (3) . وعدم الخروج والافتيات على الإمام، كما في حديث عبادة: $بايعنا رسول الله ج على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان# (4) (5) .
4- "فمن كان من أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول والمباشرة باليد إن كان حاضرًا، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائبًا، ويكفي من لا يؤبه له ولا يعرف أن يعتقد دخوله تحت طاعة الإمام، ويسمع ويطيع له في السر والجهر، ولا يعتقد خلافًا لذلك، فإن أضمره فمات، مات ميتة جاهلية؛ لأنه لَم يجعل في عنقه بيعة" (6) .
__________
(1) إكليل الكرامة (26).
(2) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي (3/417-418).
(3) المفهم (4/45).
(4) أي: حجة بينة، وأمر لا شك فيه، يحصل به اليقين أنه كفر. كذا في المفهم (4/46).
(5) متفق عليه: البخاري (7199) ومسلم (1709).
(6) المفهم (4/44).(1/3)
5- "فليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين، أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، ولكن التحكم في مسائل الدين وإيقاعها على ما يطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا!
وإذا تقرر لك ما ذكرناه فهذا الذي قد بايعه أهل الحل والعقد قد وجبت على أهل القطر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه طاعته بالأدلة المتواترة، ووجبت عليهم نصيحته كما صرحت به أحاديث النصيحة لله تعالى ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والبيعة هي السبب الذي ثبتت به الولاية ووجبت عنده الطاعة، ولكن على كل مسلم في ذلك القطر أن يقبل إمامته عند وقوع البيعة له، ويطيعه في الطاعة، ويعصيه في المعصية، ولا ينازعه، ولا ينصر من ينازعه، فإن لَم يفعل هكذا، فقد خالف ما تواتر من الأدلة، وصار باغيًا، ذاهب العدالة، مخالفًا لما شرعه الله - عز وجل - ، ووصى عباده به في كتابه من طاعة أولي الأمر، ومخالفًا لما صح عن رسول الله ج من إيجاب الطاعة وتحريم المخالفة، والواجب دفعه عن هذا التثبيط، فإن كف وإلا كان مستحقًّا لتغليظ العقوبة والحيلولة بينه وبين من صار يسعى لديه بالتثبيط بالحبس أو غيره؛ لأنه مرتكب لمحرم عظيم، وساعٍ في إثارة فتنة، تراق بسببها الدماء، وتُهتك عندها الحرم، وفي هذا التثبيط نزع ليده من طاعة الإمام، وقد ثبت في الصحيح عنه ج أنه قال: $من نزع يده من طاعة الإمام، فإنه يجيء يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية# (1) (2) .
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) إكليل الكرامة (126-127).(1/4)
6- وهذه البيعة لا يجوز نقضها، وإن كان الحاكم ظالِمًا أو فاسقًا، "فقد أجمع أهل السنة أن السلطان لا ينعزل بالفسق" (1) . كما مر في حديث عبادة المتفق على صحته: $وألا تنازع الأمر أهله.. إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان#.
وقد دل على ذلك أيضًا ما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" أن عبد الله بن عمر جاء إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال عبد الله بن مطيع: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة. فقال: إني لَم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثًا، سمعت رسول الله ج يقوله، سمعت رسول الله ج يقول: $من خلع يدًا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له (2) ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية# (3) .
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (12/229).
(2) أي لا يجد حجة يحتج بِها عند السؤال، فيستحق العذاب والنكال؛ لأن رسول الله ج قد أبلغه ما أمره الله بإبلاغه من وجوب السمع والطاعة لأولي الأمر. كذا في المفهم (4/62).
(3) مسلم (1851) ويعني بميتة جاهلية، أنَّهم كانوا فيها لا يبايعون إمامًا، ولا يدخلون تحت طاعته، فمن كان من المسلمين، لَم يدخل تحت طاعة إمام فقد شابَههم في ذلك، فإن مات على تلك الحالة مات على مثل حالهم مرتكبًا كبيرة من الكبائر. قاله القرطبي في المفهم: (4/59) وقال النووي في شرح مسلم : (12/238) أي على صفة موتِهم من حيث هم فوضى لا إمام لهم.(1/5)
وما أخرجه مسلم أيضًا عن أبي هريرة، عن النَّبِي ج أنه قال: $من خرج من الطاعة (1) وفارق الجماعة (2) فمات فميتته جاهلية، ومن قاتل تَحت راية عُمَّية (3) يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا ينحاش (4) عن مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده (5) فليس مني، ولست منه# (6) .
قال الحافظ ابن كثير: "ولما خرج أهل المدينة عن طاعته -أي: يزيد- وولوا عليهم ابن مطيع وابن حنظلة لَم يذكروا عنه- وهم أشد الناس عداوة له- إلا ما ذكروه عنه من شرب الخمر، وإتيانه بعض القاذورات... بل قد كان فاسقًا، والفاسق لا يجوز خلعه، لأجل ما يثور بسبب ذلك من الفتنة ووقوع الهرج كما وقع زمن الحرة.
وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لَم ينقض العهد، ولا بايع أحدًا بعد بيعته ليزيد، فعن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد ثم قال: أما بعد؛ فإننا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله ج يقول: $إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة، يقال: هذا غدرة فلان#.
__________
(1) يعني طاعة ولاة الأمر.
(2) المراد جماعة المسلمين التي على إمام واحد، وليس المراد قطعًا الجماعات الإسلامية، كما يحلو للبعض!.
(3) هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، من التعمية يعني التلبيس.
(4) أي لا يكترث بِما يفعله فيها، ولا يخاف وباله وعقوبته. انظر شرح النووي لمسلم: (12/239).
(5) أي عهد البيعة والولاية، كما في المفهم (4/60).
(6) رواه مسلم (1848).(1/6)
وإن من أعظم الغدر إلا أن يكون الإشراك بالله: أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله وبيع رسوله، ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يسرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه (1) .
7- فإن خرج أحد على الإمام الذي تمت له البيعة، فنازعه وطلب البيعة لنفسه، "نُهي عن ذلك، فإن لَم ينته قوتل، فإن لَم يندفع شره إلا بقتله، فقتل كان هدرًا" (2) .
برهان ذلك حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النَّبِي ج قال: $من بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثَمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه، فاضربوا عنق الآخر# (3) .
وحديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله ج: $ستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم (4) فإن الله سائلهم عما استرعاهم# (5) .
قال النووي: "إذا بويع خليفة بعد خليفة، فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء بِها، وبيعة الثاني باطلة يحرم الوفاء بِها، ويحرم عليه طلبها، وسواء عقدوا للثاني عالمين بعقد الأول أو جاهلين، وسواء كانا في بلدين، أو بلد، أحدهما في بلد الإمام المنفصل، والآخر في غيره" (6) .
وبرهان ذلك أيضًا حديث عرفجة - رضي الله عنه - عن النَّبِي ج قال: $ستكون هنات وهنات (7) فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان# (8) .
__________
(1) انظر البداية والنهاية (8/232) والحديث في الصحيحين وغيرهما، وقد ساقه ابن كثير من مسند الإمام أحمد (7/131)، (8/84) بتحقيق أحمد شاكر.
(2) شرح النووي لصحيح مسلم (12/341-342).
(3) أخرجه مسلم (1473).
(4) يعني به كما يقول القرطبي في المفهم(4/50): السمع والطاعة والذب عرضًا ونفسًا، والاحترام، والنصرة له على من بغى عليه.
(5) متفق عليه البخاري (3455) ومسلم (1842).
(6) شرح النووي لصحيح مسلم (12/231).
(7) الهنات: الفتن والأمور الحادثة.
(8) رواه مسلم (1852).(1/7)
F القاعدة الثانية: جواز نصب المفضول مع وجود الفاضل
"يجوز نصب المفضول مع وجود الفاضل خوف الفتنة وألا يستقيم أمر الأمة، وذلك أن الإمام إنَّما نصب لدفع العدو، وحماية البيضة، وسد الخلل، واستخراج الحقوق، وإقامة الحدود، وجباية الأموال لبيت المال، وقسمتها على أهلها، فإذا خيف بإقامة الأفضل الهرج والفساد، وتعطيل الأمور التي لأجلها ينصب الإمام، كان ذلك عذرًا ظاهرًا في العدول عن الفاضل إلى المفضول" (1) .
وفي ذلك يقول أبو مُحمَّد بن حزم -رحمه الله-: "ذهبت طوائف من الخوارج، وطوائف من المعتزلة، وطوائف من المرجئة، منهم مُحمَّد بن الطيب الباقلاني ومن اتبعه، وجميع الرافضة من الشيعة إلى أنه لا يجوز إمامة من يوجد في الناس أفضل منه.
وذهبت طائفة من الخوارج، وطائفة من المعتزلة، وطائفة من المرجئة، وجميع الزيدية من الشيعة، وجميع أهل السنة إلى أن الإمامة جائزة لمن غيره أفضل منه...
وما نعلم لمن قال: إن الإمامة لا تجوز إلا لأفضل من يوجد حجة أصلاً، لا من قرآن، ولا من سنة، ولا من إجماع، ولا من صحة عقل، ولا من قياس، ولا قول صاحب، وما كان هكذا، فهو أحق قول بالاطراح.
وقد قال أبو بكر - رضي الله عنه - يوم السقيفة قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين. يعني أبا عبيدة وعمر، وأبو بكر أفضل منهما بلا شك، فصح بِما ذكرنا إجماع جميع الصحابة - رضي الله عنهم - على جواز إمام المفضول.
ثم عهد عمر - رضي الله عنه - إلى ستة رجال، ولابد أن لبعضهم على بعض فضلاً، وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم، فهو الإمام الواجب طاعته، وفي هذا إطباق منهم على جواز إمام المفضول.
__________
(1) جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي (4/416).(1/8)
ثم مات علي - رضي الله عنه - فبويع الحسن، ثم سلم الأمر إلى معاوية، وفي بقايا الصحابة من هو أفضل منهما بلا خلاف ممن أنفق قبل الفتح وقاتل (1) ، فكلهم أولهم عن آخرهم بايع معاوية ورأى إمامته، وهذا إجماع متيقن بعد إجماع على جواز إمامة من غيره أفضل منه بيقين لا شك فيه" (2) .
F القاعدة الثالثة: في الصبر على جور الأئمة:
"والصبر على جور الأئمة أصل من أصول أهل السنة والجماعة" (3) . لا تكاد ترى مؤلفًا في السنة يخلو من تقرير هذا الأصل، والحض عليه.
وهذا من محاسن الشريعة الغراء، وحكمة الشارع الشريف "فإن الصبر على جواز الأئمة وظلمهم، مع كونه هو الواجب شرعًا، فإنه أخف من ضرر الخروج عليهم، ونزع الطاعة من أيديهم، لما ينتج عن الخروج عليهم من المفاسد العظيمة، فربما سبب الخروج حدوث فتنة يدوم أمدها، ويستشري ضررها، ويقع بسببها سفك للدماء، وانتهاك للأعراض، وسلب للأموال، وغير ذلك من أضرار كثيرة، ومصائب جسيمة على البلاد والعباد" (4) .
__________
(1) وكان معاوية يعترف بذلك، فعن ثابت مولى سفيان، قال: سمعت معاوية وهو يقول: "إني لست بخيركم، وإن فيكم من هو خير مني: ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم، وأنعمكم لكم ولاية، وأحسنكم خلقًا". نزهة الفضلاء (1/242).
(2) الفصل (5/5-6).
(3) قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى(28/179).
(4) الأدلة الشرعية (54).(1/9)
قال شارح الطحاوية: "وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد بالاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]. وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير فليتركوا الظلم (1) .
يقول أبو الوليد الطرطوشي (ت520’): "فلئن قلت إن الملوك اليوم ليسوا كمن مضى من الملوك، فالرعية أيضًا ليسوا كمن مضى من الرعية، ولست بأن تذم أميرك إذا نظرت آثار من مضى منهم بأولى من أن يذمك أميرك إذا نظر آثار من مضى من الرعية، فإذا جار عليك السلطان، فعليك بالصبر، وعليه الوزر.. ولَم أزل أسمع الناس يقولون: "أعمالكم عمالكم"، "كما تكونون يولى عليكم" إلى أن ظفرت بِهذا المعنى في القرآن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]. وكان يقال: ما أنكرت من زمانك فإنَّما أفسده عليك عملك، وقال عبد الملك بن مروان: أنصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر، ولا تسيروا فينا ولا في أنفسكم بسيرتِهما" (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (2/542).
(2) سراج الملوك (100-101).(1/10)
وعن عمرو بن يزيد قال: سمعت الحسن أيام يزيد بن المهلب يقول -وأتاه رهط- فأمرهم أن يلزموا بيوتَهم، ويغلقوا عليهم أبوابَهم، ثم قال: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانِهم صبروا، ما لبثوا أن يرفع الله - عز وجل - ذلك عنهم، وذلك أنَّهم يفزعون إلى السيف، فيوكلون إليه، ووالله ما جاءوا بيوم خير قط، ثم تلا: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137].
وقال الحسن -أيضًا-: "اعلم -عافاك الله- أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنَّما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة، والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إن نقم الله متى لقيت بالسيف كانت هي أقطع".
ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول: "اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنبًا أحدث الله في سلطانكم عقوبة" (1) .
ولَمَّا أظهر الخليفة الواثق القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وامتحن الناس على ذلك، جاء نفر من فقهاء بغداد إلى الإمام المبجل أحمد بن حنبل يدعونه إلى الخروج، فقالوا: إن هذا الأمر قد فشى وتفاقم. فقال لهم: فما تريدون؟ فقالوا: لسنا نرى إمرته ولا سلطانه. فناظرهم ساعة، وقال لهم: لا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر.. هذا -يعني: الخروج- خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر، قال النَّبِي ج: $إن ضربك فاصبر، وإن .. وإن فاصبر# (2) .
__________
(1) الشريعة للآجري (38).
(2) انظر السنة للخلال (134-135).(1/11)
"فهذا موقف أهل السنة والجماعة من جور السلطان، يقابلونه بالصبر والاحتساب، ويعزون حلول ذلك الجور بِهم إلى ما اقترفته أيديهم من خطايا وسيئات، كما قال الله -جل وعلا-: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]. فيهرعون إلى التوبة والاستغفار، ويسألون الله -جل وعلا- أن يكشف ما بِهم من ضر، "ويسلكون الطرق الشرعية لرفع الظلم عنهم بحكمة ورفق".
ولا يقدمون على شيء مما نَهى عنه الشرع المطهر في هذه الحال، من حمل سلاح، أو إثارة فتنة، أو نزع يد من طاعة، لعلمهم أن هذه الأمور إنَّما يفزع إليها من لا قدر لنصوص الشرع في قلبه من أهل الأهواء الذين تسيرهم الآراء لا الآثار، وتتخطفهم الشبه، ويستزلهم الشيطان" (1) . ولعلمهم أيضًا ما يترتب على هذه الأمور من مفاسد أعظم ومنكرات أشد، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، كما قال معاوية - رضي الله عنه - لأهل المدينة: "إياكم والفتنة، فلا تَهموا بِها، فإنَّها تفسد المعيشة، وتكدر النعمة، وتورث الاستئصال" (2) .
والأحاديث كثيرة في وجوب الصبر على ظلم الحكام والمسئولين منها:
1- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النَّبِي ج قال: $من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا، فمات فميتةٌ جاهلية# (3) .
2- حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله ج قال: $إنَّها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونَها#. قالوا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: $تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم# (4) .
__________
(1) معاملة الحكام (164).
(2) نزهة الفضلاء (1/241).
(3) متفق عليه: البخاري (7143) ومسلم (1849).
(4) متفق عليه: البخاري (7078) ومسلم (65).(1/12)
قال النووي -رحمه الله تعالى- "في هذا الحديث الحث على السمع والطاعة، وإن كان المتولي ظالِمًا عسوفًا، فيعطى حقه من الطاعة، ولا يخرج عليه، ولا يخلع، بل يتضرع إلى الله تعالى في كشف أذاه، ودفع شره، وإصلاحه" (1) .
3- حديث أنس، عن أسيد بن حضير، أن رجلاً من الأنصار خلا برسول الله ج، فقال: ألا تستعملني كما استعملت فلانًا؟ فقال: $إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض# (2) .
F القاعدة الرابعة: تَحريْم الخروج على أئمة الظلم والجور بالثورات والانقلابات:
أجمع أهل السنة والجماعة على تحريم الخروج على الحكام الظلمة، والأئمة الفسقة بالثورات، أو الانقلابات، أو غير ذلك، للأحاديث الناهية عن الخروج، ولما يترتب على ذلك من فتن، ودماء، ونكبات، وأرزاء، وصار هذا الأصل من أهم أصولهم التي باينوا بِها الفرق الضالة وأهل الأهواء المارقة، وحرص علماؤهم على تدوينه في مصنفات العقيدة، وكتب السنة.
يقول أبو عثمان الصابوني (ت499’): في كتاب "عقيدة أصحاب الحديث" (3) . له: "ويرى أصحاب الحديث: الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام مسلم برًّا كان أو فاجرًا، ويرون الدعاء لهم بالتوفيق والصلاح، ولا يرون الخروج عليهم، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف".
ويقول الطحاوي: "ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننْزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله - عز وجل - فريضة ما لَم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" (4) .
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (12/232).
(2) متفق عليه: البخاري (7057) ومسلم (1845).
(3) انظر (ص106).
(4) شرح العقيدة الطحاوية (2/540).(1/13)
ولقد ذكر هذا الإجماع جمع من العلماء منهم النووي حيث قال: "وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة ظالمين" (1) .
ونقله ابن حجر في فتح الباري (2) عن ابن بطال فقال: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن للدماء، وتسكين الدهماء... ولَم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح" (3) .
وقد يعترض على الإجماع بقيام الحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، ولكن الذي يظهر أنه قد استقر أهل السنة بعد هذه الفتن على القول بتحريم الخروج، الأمر الذي دفع بعض العلماء إلى القول: "إن هذا الخلاف كان أولاً ثم حصل الإجماع على منع خروجهم" (4) .
والأدلة على إجماع أهل السنة على تحريم الخروج على الحاكم الجائر من الكثرة بمكان منها:
1- النصوص التي ورد فيها الأمر بالطاعة، وعدم نكث البيعة، والصبر على جور الأئمة، ومنها:
حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: $ بايعنا رسول الله ج على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا (5) عندكم من الله فيه برهان # (6) .
__________
(1) شرح النووي لصحيح مسلم (12/229) وانظر: المعلم بفوائد مسلم (3/35).
(2) انظر (13/7).
(3) والعجب من المستشار الدكتور علي أبو جريشة إذ عرض في كتابه "المشروعية الإسلامية العليا" (273-278) لذلك البحث الخطر، وأوهم أن فيه خلافًا بين أهل السنة!.
(4) انظر شرح النووي لصحيح مسلم (12/229). وانظر: "الغلو في الدين" (414).
(5) أي ظاهرًا مكشوفًا، واضحًا جليًّا، لا اختلاف فيه ولا شك.
(6) أخرجه مسلم (1709).(1/14)
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر، وذلك ظلم منه، ونَهى عن منازعة الأمر أهله، وذلك نَهى عن الخروج عليه؛ لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به" (1) .
قال الكرماني: "وفي الحديث أن السلطان لا ينعزل بالفسق، إذ في عزله سبب للفتنة، وإراقة الدماء، وتفريق ذات البين، فالمفسدة في عزله أكثر منها في بقائه" (2) .
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: إن رسول الله ج قال: $إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا# (3) .
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "فقد نَهى رسول الله ج عن قتالهم مع إخباره أنَّهم يأتون أمورًا منكرة، فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف، كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة" (4) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال النَّبِي ج: $من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة جاهلية# (5) .
قال العينِي: "يعني فليصبر على ذلك المكروه ولا يخرج من طاعته، لأن في ذلك حقن الدماء وتسكين الفتنة إلا أن يكفر الإمام ويظهر خلاف دعوة الإسلام فلا طاعة لمخلوق عليه". "وفيه دليل على أن السلطان لا ينعزل بالفسق والظلم، ولا تجوز منازعته في السلطة بذلك" (6) .
__________
(1) منهاج السنة (3/395).
(2) شرح البخاري (24/169) وانظر: الغلو في الدين (416).
(3) رواه مسلم (1854).
(4) منهاج السنة (3/392).
(5) متفق عليه: البخاري (7053) ومسلم (1849).
(6) عمدة القاري: (24/178).(1/15)
وقال ابن أبي جمرة: "وهذه المفارقة معناها أن تسعى في حل تلك البيعة التي للأمير ولو بأدنى شيء، فعبر عنه - عليه السلام - بمقدار الشبر؛ لأن الأخذ في حل تلك البيعة مخالفة لجماعة المسلمين المنعقدين عليها، وهو مع ذلك أمر يئول إلى سفك الدماء بغير حق" (1) .
وهناك أحاديث كثيرة أخرى دالة على هذا المعنى، منها:
الأحاديث الدالة على تحريم اقتتال المسلمين فيما بينهم والتحذير من الفتن التي تقع غالبًا بسبب خروج طائفة من المسلمين على الحكام الفاسقين أو الظالمين الذين ما زالوا مسلمين (2) ، ومن تلك الأحاديث:
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله ج: $لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لَم يصب دمًا حرامًا# (3) .
وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله ج أنه قال: $من قتل مؤمنًا فاعتبط (4) بقتله، لَم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً# (5) .
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ج يقول: $ كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا من مات مشركًا، أو مؤمن قتل مؤمنًا متعمدًا# (6) .
وعن الصنابح الأحمسي قال: قال رسول الله ج: $ألا إني فرطكم على الحوض، وإني مكاثر بكم الأمم فلا تقتلن بعدي# (7) .
__________
(1) بَهجة النفوس (4/357).
(2) الغلو في الدين (418).
(3) رواه البخاري (6822).
(4) قال خالد بن دهقان: سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله: "اعتبط بقتله"؟ قال الذين يقاتلون في الفتنة فيقتل أحدهم، فيرى أنه على هدى، لا يستغفر الله-يعني من ذلك" كذا في سنن أبي داود عقيب الحديث (4271).
(5) صحيح: أخرجه أبو داود (4271) وغيره.
(6) المعنى كما يقول السندي: أن كل ذنب ترجى مغفرته ابتداء إلا قتل المؤمن، فإنه لا يغفر بلا سبق عقوبة، وإلا الكفر فإنه لا يغفر أصلاً، والحديث صحيح رواه أبو داود (4270).
(7) صحيح: رواه ابن ماجه (3944) وغيره.(1/16)
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبِي ج قال: $سباب المسلم فسوق وقتاله كفر# (1) .
عن الأحنف بن قيس قال: "خرجت وأنا أريد هذا الرجل -يعني علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - فلقيني أبو بكرة، فقال: أين تريد؟ فقلت: أنصر هذا ابن عم رسول الله ج، فقال: يا أحنف ارجع فإني سمعت رسول الله ج يقول: $إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار#. فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: $إنه كان حريصًا على قتل صاحبه# (2) .
عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنهما- أن النَّبِي ج قال: $لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض# (3) .
ويدل على هذا المعنى أيضًا ما ورد من أحاديث صحيحة يخبر فيها ج عما يقع في الأمة من ظلم وجور على أيدي بعض الأئمة، فلم يأمر إلا بالصبر، فلو كان الخروج مأذونًا فيه لما تأخر البيان، فهذا وقت الحاجة إليه، ومن تلك الأحاديث:
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لنا رسول الله ج: $إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونَها#. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: $أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم# (4) .
"فقد أخبر النَّبِي ج أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورًا منكرة، ومع هذا أمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم، ونسأل الله الحق الذي لنا، ولَم يأذن في أخذ الحق بالقتال، ولَم يرخص في ترك الحق الذي لهم" (5) .
__________
(1) متفق عليه: البخاري (48) ومسلم (116).
(2) متفق عليه: البخاري (31)، (7083) ومسلم (2888).
(3) متفق عليه: البخاري (7078)، ومسلم (65).
(4) متفق عليه: البخاري (7052)، ومسلم (1843).
(5) منهاج السنة (3/392).(1/17)
"وبِهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول الله ج بِها، وعرفوا أنَّها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بِها، وشاهدوا من يزيد بن معاوية والحجاج ومن بعدهم -خلا الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- أمورًا ظاهرة ليست خفية، ونَهوا عن الخروج عليهم، والطعن فيهم، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج" (1) .
2- ومن براهين إجماع أهل السنة على عدم جواز الخروج على الحكام الفاسقين أو الظالمين بالثورات أو الانقلابات مراعاة مقاصد الشريعة، "فإن الله تعالى بعث رسول الله ج بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ودفع أعظم الفاسدين بالتزام أدناهما، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات والمستحبات، فلابد أن تكون المصلحة فيه راجحة على المفسدة، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لَم يكن مما أمر الله به" (2) .
يقول ابن قيم الجوزية: "إن النَّبِي ج شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر، ليحصل -بإنكاره- من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله.
وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله ج في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: $لا، ما أقاموا الصلاة# (3) .
__________
(1) الدرر السنية (7/276).
(2) انظر: منهاج السنة (4/527) الفتاوى (28/126) الغلو في الدين (421).
(3) رواه مسلم (1855).(1/18)
ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل، وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته، فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله ج يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت، ورده على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإسلام، وكونِهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لَم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء" (1) .
وإن مما علم بالاستقراء لوقائع التاريخ أن الخروج على أئمة الجور مفاسد أكثر من مصالحه -إن كان ثم مصلحة-.
قال شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى-: "ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنَّهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النَّبِي ج ؛ لأن الفساد في القتال والفتنة، أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولعله لا يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته، والله تعالى لَم يأمر بقتال كل ظالم وكل باغ كيفما كان، ولا أمر بقتال الباغين ابتداء ... فكيف يأمر بقتال ولاة الأمر ابتداء" (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين: (3/4).
(2) منهاج السنة (3/391).(1/19)
"ولهذا لما أراد الحسين - رضي الله عنه - أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين، كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن لا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يقتل، حتى إن بعضهم قال: "أستودعك الله من قتيل..". فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولَم يكن في الخروج لا مصلحة دين، ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول الله ج حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لَم يكن يحصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده من تحصيل الخير ودفع الشر لَم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشر عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن، كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النَّبِي ج من الصبر على جور الأئمة، وترك قتالهم، والخروج عليهم، هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن من خالف ذلك معتمدًا أو مخطئًا لَم يحصل بفعله صلاح بل فساد، ولهذا أثنى النَّبِي ج على الحسن بقوله: $إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين# (1) . ولَم يثن على أحد لا بقتال في فتنة، ولا بخروج على الأئمة، ولا نزع يد من طاعة، ولا مفارقة للجماعة (2) .
ويكفي أن يعلم أن الخروج على أئمة الجور مفسد لأمن الأمة: ففيه: "استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين والفساد في الأرض" (3) .
__________
(1) رواه البخاري (3746).
(2) منهاج السنة (4/530-531).
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (2/109).(1/20)
3- ومن الأدلة أنه باستقراء التاريخ القديْم والحديث يتبين أنه لا يتحقق للخارجين مقاصدهم ومراداتِهم (1) ، بل لا يرون من الخروج إلا الشر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة وأمثال هؤلاء.
وغاية هؤلاء إما أن يغلبوا وإما أن يغلبوا، ثم يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة، فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابُهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لَم يحمدوا على ما فعلوا من القتال، وهم أعظم قدرًا عند الله وأحسن نية من غيرهم" (2) .
وقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري خمسة وعشرين خارجًا من آل البيت ولَم يصل أي منهم إلى مطلوبه (3) .
"فإذا كان مآل الخروج دائمًا إلى فساد -حتى وإن قصد الخارج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فإنه لا يجوز؛ لأن الشارع لا يأمر إلا بِما فيه مصلحة" (4) .
ولهذا كان السلف الصالح يأمرون بالصبر، وينهون عن الخروج، لما يترتب عليه من مفاسد كبيرة، وشرور مستطيرة.
__________
(1) انظر "الغلو في الدين" (423).
(2) منهاج السنة (4/527-528).
(3) مقالات الإسلاميين: (1/150-166).
(4) الغلو في الدين (424).(1/21)
يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله-: "وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث" (1) .
"ولَمَّا حج ابن عمر -رضي الله عنهما- مع الحجاج وطعن رجله، قيل له: أنبايعك على الخروج على الحجاج وعزله. غلظ الإنكار عليهم، وقال: لا أنزع يدًا من طاعة".
وروى البخاري عن الزبير بن عدي قال: $أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج، فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده أشر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم ج# (2) .
قال ابن كثير -رحمه الله-: ولما رجع أهل المدينة من عند يزيد، مشى عبد الله ابن مطيع وأصحابه إلى مُحمَّد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد، فأبى عليهم.
فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته، وأقمت عنده، فرأيته مواظبًا على الصلاة، متحريًا للخير، يسأل عن الفقه، ملازمًا للسنة.
قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعًا لك.
فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليَّ الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لَم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا لما لَم تعلموا.
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لَم يكن رأيناه.
فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]. ولست من أمركم في شيء.
قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك، فنحن نوليك أمرنا.
قال: ما أستحل القتال على ما تريدونني عليه تابعًا ولا متبوعًا.
قالوا: قد قاتلت مع أبيك، أي: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
__________
(1) منهاج السنة (4/529).
(2) البخاري (7068).(1/22)
قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على مثل ما قاتل عليه.
قالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا.
قال: لو أمرتُهما قاتلت.
قالوا: فقم معنا مقامًا تحض الناس فيه على القتال معنا.
قال: سبحان الله! آمر الناس بِما لا أفعله ولا أرضاه إذًا ما نصحت لله في عباده.
قالوا: إذًا نكرهك.
قال: إذًا آمُرُ الناس بتقوى الله، ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق.
وخرج إلى مكة" (1) . ا’.
قال أيوب السختياني: "وفي القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث لا أعلم أحدًا منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، أو نجا إلا ندم على ما كان منه" (2) .
وروى الخلال في السنة (89) عن أبي الحارث الصائغ: "سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد، وهم قوم بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟.
فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: "سبحان الله، الدماء الدماء، لا أرى ذلك ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة، يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه أيام الفتنة؟.
قلت: والناس اليوم أليس هم في فتنة؟.
قال: وإن كان، فإنَّما هي فتنة خاصة، فإذا وقع السيف؛ عمت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا ويسلم لك دينك خير لك".
__________
(1) انظر البداية والنهاية (8/233) وكتاب "معاملة الحكام في ضوء القرآن والسنة" (19-24).
(2) انظر: طبقات ابن سعد: (7/188) وسير أعلام النبلاء (4/513).(1/23)
ومن الأمثلة المعاصرة ما حدث في الصومال، فرغم فساد الحكومة وجور الحاكم (سياد بري) كانت الحياة قائمة بِما فيها من خير وشر، التاجر في متجره، والفلاح في مزرعته، والعامل في مصنعه، والناس يغدون ويروحون بحثًا عن لقمة العيش ومتطلبات الحياة، وما إن ثارت الفتنة وأطيح بالحكومة حتى سادت الفوضى، وعمت البلوى، وأصبحت البلاد بلا حكومة، حروب دموية، ونزاعات قبلية حتى لحظة كتابي هاتيك السطور، مئات الألوف من القتلى والجرحى، وملايين من المشردين والجياع، واقع مؤلم، ونار مشتعلة، أهلكت الحرث والنسل، وانقطعت بسببها السبل.. ولله در القائل "إمام غشوم ولا فتنة تدوم" (1) .
صفوة هذا البحث ما قاله شيخ أهل السنة مفتي المملكة العربية السعودية أنه: "لا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وشق العصا، إلا إذا وجد منهم كفر بواح، عند الخارجين فيه برهان من الله، وهم قادرون على ذلك، على وجه لا يترتب عليه ما هو أنكر وأكثر فسادًا" (2) .
وليس الحكم بغير ما أنزل الله -من غير ما جحود ولا نكران- من الكفر البواح، بل كفر دون كفر، كفر لا يخرج من الملة، كما أوضحناه سابقًا.
FFFFF
7- واجبات ولي الأمر أو وظائف الدولة
ورد في كتب السياسة الشرعية، كالأحكام السلطانية للماوردي، وأبي يعلى الفراء، وتحرير الأحكام لابن جماعة، وغيرها ما يلزم ولي الأمر أن يقوم به، فمن ذلك:
الأول: "حفظ الدين على أصوله المقررة، وقواعده المحررة، المستنبطة من الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وإيضاح حجج الدين، ونشر العلوم الشرعية، وتعظيم العلم وأهله، ورفع مناره ومحله، ومخالطة العلماء الأعلام، النصحاء لدين الإسلام، ومشاورتُهم في موارد الأحكام، ومصادر النقض والإبرام".
__________
(1) انظر "وجوب طاعة السلطان" للعريني (20).
(2) انظر: الأدلة الشرعية (53).(1/24)
"ورد البدع والمبتدعين، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه؛ أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بِما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل".
"وإقامة شعائر الإسلام كفروض الصلوات، والجمع والجماعات، والأذان، والإقامة، والخطابة، والإمامة، ومنه النظر في أمر الصيام، والفطر وأهلته، وحج البيت الحرام وعمرته، ومنه الاعتناء بالأعياد، وتيسير الحجيج من نواحي البلاد، وإصلاح طرقها وأمنها في مسيرهم، واتخاذ من ينظر أمورهم".
الثاني: "حماية بيضة الإسلام والذب عنها، إما في كل إقليم إن كان خليفة، أو في القطر المختص به إن كان مفوضًا إليه، فيقوم بجهاد المشركين، ودفع المحاربين والباغين، وتدبير الجيوش، وتجنيد الجنود، وتحصين الثغور بالعدة المانعة، والعدة الدافعة، وبالنظر في ترتيب الأجناد في الجهاد علىحسب الحاجات، وتقدير إقطاعهم وأرزاقهم وصلاح أحوالهم".
الثالث: "العدل.. فيجب على من حكمه الله تعالى في عباده، وملكه شيئًا من بلاده، أن يجعل العدل أصل اعتماده، وقاعدة استناده، لما فيه من صلاح العباد وعمارة البلاد.. ولذلك كان كسرى وغيره من كفرة الملوك في غاية العدل، مع أنَّهم لا يعتقدون ثوابًا ولا عقابًا؛ لأنَّهم علموا أن بالعدل صلاح ملكهم، وبقاء دولتهم.. وقد اتفقت شرائع الأنبياء، وآراء الحكماء والعقلاء أن العدل سبب لنمو البركات، ومزيد الخيرات، وأن الظلم والجور سبب لخراب الممالك، واقتحام المهالك، ولا شك عندهم في ذلك".
الرابع: "إقامة الحدود الشرعية على الشروط المرعية، صيانة لمحارم الله عن التجرئ عليها، ولحقوق العباد عن التخطي إليها، ويسوي في الحدود بين القوي والضعيف، والوضيع والشريف.
قال رسول الله ج: $إنَّما أهلك الذين قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْم الله لو أن فاطمة بنت مُحمَّد سرقت لقطعت يدها# (1) .
__________
(1) متفق عليه.(1/25)
الخامس: "فصل القضايا والأحكام، بتقليد الولاة والقضاة، لقطع المنازعات بين الخصوم، وكف الظالم عن المظلوم، ولا يولى ذلك إلا من يثق بديانته وأمانته وصيانته من العلماء والصلحاء، والكفاة النصحاء".
السادس: "جباية الزكوات والجزية من أهلها، وأموال الفيء والخراج عند محلها، وصرف ذلك في مصارفه الشرعية، وجهاته المرضية، وضبط جهات ذلك، وتفويضه إلى الثقات من العمال.
وكذلك النظر في أوقاف البر والقربات، وصرفها فيما هي له من الجهات.
السابع: "استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة".(1/26)
"فيجب على ولي الأمر -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة، ومن أمراء الأجناد والوزراء... وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده.. فيجب على كل من يولي شيئًا من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع، أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية، أو سبق في الطلب.. فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو صداقة، أو موافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، أو لرشوة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله، ودخل فيما نُهي عنه في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27]. وقد دلت سنة رسول الله ج على أن الولاية أمانة يجب أداؤها، مثل قوله ج لأبي ذر - رضي الله عنه - في الإمارة: $إنَّها أمانة، وإنَّها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها# (1) .
__________
(1) رواه مسلم (1826).(1/27)
وقال ج: $ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة# (1) .
إذا عرف هذا فليس عليه أن يستعمل إلا الأصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو صالح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا، وصار في هذا من أئمة العدل والمقسطين عند الله، وإن اختل بعض الأمور بسبب من غيره، وإذا لَم يمكن إلا ذلك، فإن الله يقول: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. ويقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286].
__________
(1) متفق عليه: (7150)، ومسلم (142) وهذا الحديث ينبغي أن يفهم على قاعدة أهل السنة في الوعد والوعيد، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ}. فلا يستفاد منه كفر من غش الرعية، بل هو في خطر المشيئة الإلهية، إما أن يعفو عنه، وإما أن ينفذ وعيده، فتحرم عليه الجنة إلى وقت يطول أو يقصر، فيدخل النار ثم يخرج منها، وقد حمله بعضهم على المستحل، والأولى حمله على غير المستحل فيما يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (13/137) ومما يؤيد ما ذهبنا إليه ما قد وقع في رواية لهذا الحديث في صحيح مسلم بلفظ: $لَم يدخل معهم الجنة# وهو يؤيد أن المراد أنه لا يدخل الجنة في وقت دون وقت".(1/28)
فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، كما قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]. والقوة في كل ولاية بحسبها، فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب، والمخادعة فيها، فإن الحرب خدعة، وإلى القدرة على أنواع القتال.. والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشترى بآياته ثمنًا قليلاً، وترك خشية الناس.. واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "اللهم أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررًا فيها، فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها على الرجل الضعيف العاجز وإن كان أمينًا، وإن كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد قدم الأمين، مثل حفظ الأموال ونحوها.." (1) .
__________
(1) انظر السياسة الشرعية (10-19).(1/29)
ويجب كذلك على ولي الأمر: "المتابعة الدائمة، والإشراف المستمر بطرق مختلفة، ووسائل متنوعة، لمن هم تحته من مسئولي الدولة للاطمئنان على قيام كل مسئول بِما كلف من أعمال على أكمل وجه ممكن، ومن ظهر منه عجز، أو تقصير، أو خيانة، أو إهمال، أوعدم اهتمام برعاية المصلحة العامة، أدبه وعزره بِما يراه مناسبًا من عزل أو غيره، واستبدله بغيره ممن فيه كفاءة وأمانة، وقد كان عمر كثير المتابعة والمحاسبة لأمرائه على البلدان، وكان بعضهم من خيار الصحابة كسعد وأبي موسى وأبي هريرة، فلم يمنعه فضلهم ومكانتهم من محاسبتهم ومساءلتهم والسؤال عنهم، بل وعزل بعضهم عن أعمالهم حينما رأى المصلحة في ذلك، كعزله سعد عن إمارة الكوفة، وخالد عن إمارة جيش الشام، وذلك لما يعلمه من وجوب متابعة ولي الأمر لمن تحته من الأمراء على البلدان، وغيرهم من مسئولي الدولة، فإن ذلك من أعظم الأسباب المعينة على إقامة العدل واستقرار أحوال البلاد" (1) .
الثامن: "أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح" (2) .
هذه هي أهم وظائف الدولة الإسلامية في كتب السياسة الشرعية:
فالأولى: هي الوظيفة الدينية.
والثانية: هي الوظيفة الدفاعية.
والثالثة والرابعة والخامسة: هي الوظيفة القضائية.
والسادسة: هي الوظيفة المالية.
والسابعة والثامنة: هي الوظيفة الإدارية.
ويُمكن أن نضيف إلى ذلك باختصار:
تاسعًا: تحقيق الحياة الطيبة لكل فرد من أفراد الرعية.
عاشرًا: العمل المستمر على تحقيق الأفضل في جميع نواحي الحياة البشرية (3) .
__________
(1) انظر الأدلة الشرعية (9-10).
(2) انظر الأحكام السلطانية للماوردي (18) ولأبي يعلى الفراء (12) وتحرير الأحكام لابن جماعة (65-70).
(3) انظر تفصيل وظائف الدولة الإسلامية: "الفقه الإسلامي وأدلته" (9/880).(1/30)
F من نصائح العلماء للملوك والسلاطين وجميع المسئولين:
لقد كتب علماء السياسة الشرعية فيما يلزم ولي الأمر أو المسئول أن يتحلى به من أخلاق وفضائل، وما ينبغي أن يفطن له من وجوه السياسة وتدابير الحكم، وغير ذلك من موضوعات أطلق عليها المعاصرون "مرايا الحكام والأمراء" وهذه شذرات مما كتبوا:
جاء في كتاب "الدرة الغراء" للخربيتي: "وينبغي للسلطان أولاً أن يعرف قدر الولاية، ويعلم خطرها، فإن الولاية نعمة من نعم الله تعالى، من قام بحقها نال من السعادة ما لا نِهاية له، ولا سعادة بعده، ومن قصر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى (1) .. فإذا كان كذلك، فلا نعمة أجل من أن يعطى العبد درجة السلطان، ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن لَم يعرف قدر هذه النعمة، واشتغل بظلمه وهواه، يخاف عليه أن يجعله الله تعالى من جملة أعدائه، كما قال ج: $ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة# (2) .
فينبغي أن يعلم أن خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، ولا يسلم الولاة منه إلا بمقارنة علماء الدين، ليعلموا الولاة طرق العدل، وليسهلوا عليهم خطر هذا الأمر، وأن يجعل الوالي كلام الله تعالى نصب عينيه، ويشتاق أبدًا إلى رؤية علماء الدين، ويحرص على استماع نصحهم، ويحذر من رؤية علماء السوء، الذين يحرصون على الدنيا، فإنَّهم يثنون عليك، ويغرونك، ويطلبون رضاك طمعًا فيما في يدك.. والعالم الصالح هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال.. فينبغي للملوك أن يعملوا في هذه المملكة العارية الفانية العدل والعمل الصالح ليحصلوا به سلطنة المملكة الباقية.
__________
(1) انظر التبر المسبوك في نصائح الملوك (40).
(2) متفق عليه: البخاري (7150) ومسلم (142).(1/31)
وليعلم السلطان أن السلطنة هي الخلافة عن الله تعالى، فينبغي أن يتصرف في عباد الله تعالى بالأخلاق الحسنة، والألطاف المرضية، والرأفة والرحمة، ومهما أمكنه أن يعمل الأوامر بالرفق واللطف، فلا يعملها بالشدة والعنف، فقد دعا ج: $اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بِهم فارفق به# (1) .
وينبغي للسلطان أيضًا أن يجتهد بأن يرضى عنه جميع رعيته بموافقة الشرع، كما قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه: $خيار أئمتكم الذين تحبونَهم ويحبونكم، وتصلون عليهم، ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونَهم ويبغضونكم، وتلعنونَهم ويلعنونكم# (2) .
وينبغي للوالي ألا يغتر بمن وصل إليه وأثنى عليه، وألا يعتقد أن جميع الرعية مثله راضون.. بل ينبغي أن يرتب معتمدين يسألون الرعية عن أحواله، وليعلم عيبه من ألسنة الناس.
وأيضًا ينبغي للوالي ألا يطلب رضاء أحد من الناس بسخط الله بسبب مخالفة الشرع، فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه.
وينبغي أن يكون الملك متدينًا، محبًّا للدين والعلماء والصالحين؛ لأن الدين والملك مثل أخوين ولدا في بطن واحد، فيجب على الملك أن يهتم بأمور الدين، ويؤدي الفرائض والواجبات والنوافل في أوقاتِها، ويجتنب الهوى والبدع والمنكرات والشبهات، وكل ما يرجع بنقصان الشرع، وإن علم أن في ولايته من يتهم في دينه ومذهبه، فيأمر بإحضاره وتَهديده، وزجره ووعيده، فإن تاب وأناب فبها ونعمت، وإلا عاقبه ونفاه عن ولايته، ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته، وتخلو الولاية من أهل الأهواء، ويعز الإسلام.
ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك، فينبغي للملك أن ينظر في أمور رعيته، ويقف على قليلها وكثيرها، وعظيمها، وحقيرها، ولا يشارك رعيته في الأفعال المذمومة.
__________
(1) رواه مسلم (1828).
(2) رواه مسلم، وقد سبق تخريجه.(1/32)
ولما كانت السلاطين والأمراء خلفاء الله تعالى في أرضه، ينبغي لهم أن يعدلوا بين الرعايا بالعفو والمساهلة بموجب الشرع، ويمنعوا الظالمين عن الظلم والفسق، ويقووا الضعفاء، ويأدبوا الأغنياء، ويكرموا الصلحاء والفقراء، ويوقروا العلماء ويعظموهم غاية التعظيم، ليحرصوا على الاشتغال بتعلم العلم وتعليمه، وقال الحكماء: "ليس شيء أعز من العلم؛ لأن الملوك حكام الناس، والعلماء حكام الملوك".
وينبغي للسلاطين والملوك أن يقضوا حوائج الخلائق، ويغتنموا قضاء حوائج الخلق، ولايحتجبوا عنهم وقت حاجتهم، فإن الاحتجاب وقت حوائج الخلائق آفة لزوال دولة الملوك، وأعظم سبب لخراب المملكة، روى عمرو بن مرة عن رسول الله ج: $من ولاه الله تعالى شيئًا من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره# (1) .
وينبغي للسلاطين والملوك أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر بموجب الشرع، ويؤمنوا الطرق من السُّراق وقطاع الطريق، ويدفعوا شر الكفار والمفسدين عن البلاد والعباد، فإذا فعلوا هذه الأشياء يحصل في ديوان أعمالهم مثل ثواب عبادة جميع أهل مملكتهم، وحينئذ تعمر الولاية، وتحصل الصحة والسلامة، والبركة في الأرزاق والأقوات والمياه، ويزداد عمر الملوك ويحصل الرخاء..".
ثم ذكر قواعد عشرة لا تقوم مصالح الناس، ولا يحصل العدل في الرعية إلا بعد رعاية السلطان أو المسئول لها:
الأولى: أن كل قضية تقع في الناس يقدر أن نفسه رعية والأمير غيره، ولكل شيء لا يرضاه لنفسه لا يرضاه لغيره.
الثانية: ألا يعد انتظار أرباب الحوائج في بابه حقيرًا، ويحترز عن خطر ذلك، فإن الله تعالى لا يطلب منه تأخير قضاء حوائج الخلق.
الثالثة: ألا يستغرق جميع أوقاته بالشهوات، ويجتهد أن يكون أكثر أوقاته مصروفًا في تدبير الملك، وتدبير الرعية.
__________
(1) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (2948)، والحاكم (4/93)، والبيهقي (10/101)، والطبراني (22/331).(1/33)
الرابعة: أن يجتهد في كل أمر أن يحصله بالرفق والسهولة، وقد دعا النَّبِي ج للأمراء فقال: $اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا، فرفق بِهم، فارفق به# (1) .
الخامسة: الاجتهاد بقدر وسعه وطاقته أن يكون أكثر الرعية عنه راضين بحسب الشرع.
السادسة: ألا يطلب رضاء أحد بمخالفة رضاء الله، ويقدم مواجب الشرع على مقتضى نفسه.
السابعة: إن طلب الرعية منه الحكم عدل، وإن طلبوا الرحمة عفا عنهم، وإن وعد لا يخالف ما وعد لهم.
الثامنة: أن يكون حريصًا على ملاقاة العلماء المتقين العاملين، ويكون حريصًا على سماع وعظهم ونصيحتهم.
التاسعة: أن يجتهد أن يترك المفاخرة والكبر والغضب.
العاشرة: ألا يقنع ألا يظلم بنفسه وحده، بل يجتهد ألا يظلم أجناده ونوابه، ومن تحت يده؛ لأن آفة الظلم أسرع لإزالة دولة السلاطين.
ثُمَّ قال: وينبغي للملك أن يقرب إليه أصحاب الرأي والتدبير وأصحاب العقول المتدينين ويكرمهم، ويقبل شفاعتهم ونصائحهم، وتكون مشورته معهم؛ لأن بمشورتِهم تثبت أوتاد الدولة.
وكلما روعيت هذه القواعد العشر في السلطنة والإمارة، تزداد كل يوم دولة الملك، ويزداد آثار الأمن وعمارة الولاية، وينتشر في البلاد آثاره الحسنة، ويفشو عدله، وتميل إليه قلوب العباد" (2) .
وجاء في كتاب "النهج المسلوك في سياسة الملوك" للشيزري (3) : "ينبغي للملك المنتصب لتدبير الرعية أن يتصف بالأوصاف الكريمة، ويتلبس بِها، ويجعلها له خلقًا مطبوعًا، ولا يهمل منها وصفًا واحدًا؛ إذ بِها قوام دولته، ودوام مملكته، وهي خمسة عشر وصفًا: العدل، والعقل، والشجاعة، والسخاء، والرفق، والوفاء، والصدق، والرأفة، والصبر، والعفو، والشكر، والأناة، والحلم، والعفاف، والوقار".
__________
(1) رواه مسلم، وقد سبق تخريجه.
(2) انظر "الدرر الغراء" (178-184) باختصار.
(3) انظر: (95).(1/34)
وجاء في كتاب "درر السلوك" للماوردي: "حق على كل من مكنه الله - عز وجل - في أرضه وبلاده، وائتمنه على خلقه وعباده، أن يقابل جزيل نعمه بحسن السريرة، ويجري في الرعية بجميل السيرة.
وليس أحد أولى بالحذر والإشفاق، وأحرى بالنصب والاجتهاد ممن تقلد أمور الرعية لانقيادهم لحكمه، وتصرفهم بين أمره ونَهيه، وصلاح جماعتهم بصلاحه، وفساد أمورهم بفساده.
وأرشد الولاة من حرس ولايته بالدين، وانتظم بنظره صلاح المسلمين، وربما أهمل بعض الملوك أمر الدين، وعول في أموره على قوته، وكثرة أجناده، وليس يعلم أن أجناده إذا لَم يعتقدوا وجوب طاعته في الدين كانوا أضر عليه، وقد قيل: "من جعل ملكه خادمًا لدينه؛ انقاد له كل سلطان، ومن جعل دينه خادمًا لملكه؛ طمع فيه كل إنسان".
F الدين والملك:
وقال بعض الحكماء: "ينبغي للملك أن يأنف أن يكون في رعيته من هو أفضل دينًا منه، كما يأنف أن يكون فيهم من هو أنفذ أمرًا منه، وكيف يرجو من تظاهر بإهمال الدين استقامة ملك وصلاح حال".
قال بعض الحكماء: "الملك خليفة الله في عباده وبلاده، ولن يستقيم أمر خلافتنا مع مخالفته".
فالسعيد من الملوك من وقى الدين بملكه، ولَم يق الملك بدينه.
F أصول السياسة العادلة:
وأصل ما تبنى عليه السياسة العادلة في سيره: الرغبة والرهبة والإنصاف.
? فأما الرغبة: فتدعو إلى التآلف وحسن الطاعة وتبعث على الإشفاق، وبذل النصيحة، وذلك من أقوى الأسباب في حراسة المملكة.
وقد قيل: "من وثق بإحسانك أشفق على سلطانك".
وقال أبرويز (1) : "أجهل الناس من يعتمد في أموره على من لا يأمل خيره، ولا يأمن شره".
? الرهبة:
وأما الرهبة: فتحسم خلاف ذوي العناد، وتمنع سعي أهل الفساد، وذلك من أقوى الأسباب في تَهذيب المملكة.
? وأما الإنصاف: فهو العدل الذي به يستقيم حال الرعية، وتنتظم أمور المملكة.
__________
(1) كسرى أبرويز (590-627م) المعروف بكسرى الثاني، أحد ملوك الفرس.(1/35)
وقال بعض الحكماء: "الملك يبقى على الكفر، ولا يبقى على الظلم".
وليس تصح هذه الأمور إلا بالوقوف على حدها، واستعمال كل واحد منها في موضعه، فإن استعمال الرغبة في موضع الرهبة فساد في السياسة.
F سياسة الملك للأعوان والحاشية:
وليعلم أنه لا استقامة له ولرعيته إلا بتهذيب أعوانه وحاشيته؛ لأنه لا يقدر على مباشرة الأمر بنفسه، وإنَّما يستنيب فيها الكُفاة من أصحابه.
وأصل ما يبنى عليه قاعدة أمره في اختبار أعوانه وكفاته أن يختبر أهل دولته، ويسبر جميع حاشيته، ويتصفح عقولهم وآراءهم ومعرفة هممهم وأغراضهم، حتى يعرف بواطن أحوالهم، وكوامن أخلاقهم، فإنه إذا فعل ذلك وجد طباعهم مختلفة، وهممهم متباينة، فيصرف كل واحد فيما طبع له وجبل عليه، ولا يعطى أحدهم منْزلة لا يستحقها، ولا يستكفيه أمر ولاية لا ينهض بِها، ولا ينقصه عن مرتبته التي يستحقها بحسن كفاية، فكلا الأمرين مضر، بالسياسة معر.
وقيل: "من استعان بأصاغر رجاله على أكابر أعماله فقد ضيع العمل وأوقع الخلل".
وقد قال بعض الحكماء البلغاء: "من استوزر غير كافي، خاطر بملكه، ومن استشار غير أمين أعان على هلكته، ومن أسر إلى غير ثقة، ضيع سره".
ومن رآه قد تصدى للمعالي ليس من أبنائها فلا بأس باستكفائه إذا كان على ما تصدى له مطبوعًا، وإليه منسوبًا، إذ لا سبيل إلى نجباء أولاد نجباء على الأبد.
وليعلم أن الساعي لَم يحمله على سعيه إفراط النصيحة منه لسلطانه، وإنَّما يفعل ذلك إما حسدًا لمن سعى به، أو طلبًا للتشفي منه بِما شاء للحظوة عند السلطان.
F تفقد الملك للرعية:(1/36)
وينبغي للملك أن يقيم رعيته مقام عياله واللائذين به في ارتياد موادهم، وإصلاح معاشهم بالإحسان إليهم، وحذف الأذى عنهم، ولا يهمل حالهم ويصرف نفسه عن تفقد شأنِهم، فيصيروا رعية قهر، وفريسة دهر، تتشذب أحوالهم غفلة السلطان وحوائج الزمان، فقد قال النَّبِي ج: $كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته# (1) .
وكتب عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- إلى أبي موسى الأشعري: "إن أسعد الرعاة من سعدت به رعيته، وأشقاهم في الدارين من شقوا به".
F الاهتمام بأمن السبل والمسالك:
ويهتم كل الاهتمام بأمن سبلهم ومسالكهم، وتَهذيب طرقهم ومفاوزهم، من أهل الزعارة والمفسدين، لينتشر الناس في متاجرهم آمنين.
F مساواة الملك نفسه مع الرعية:
وينبغي أن يساوي بينهم وبين نفسه في الحق لهم وعليه، ولا يقدم فيه شريفًا على مشروف، ولا قويًّا على ضعيف، بل يعدل بين جميعهم في القضاء، ويجري الحكم على الخاصة والعامة بالسواء، ويتعهد حالة الفقير بينهم بالبر والصدقة، ويراعي خلة الكريم منهم بالذود والصلة، فإن إحسانه إلى الفقراء يشكره عليه الأغنياء.
F كيفية معاملة الملك للأخيار والأشرار من رعيته:
وينبغي أن يميز أخيار رعيته، فيخصهم بالإكرام والتقريب ويقمع أشرارهم بالإبعاد والتأديب، ليرغبوا في منازل الأخيار، ويقلعوا عن أخلاق السفلة الأشرار، ويأمن أهل الورع والسلامة خوف عقوبته، ويراعي أهل النسك والصلاح بغاية الإعظام، ويعتمدهم بأجزل الإكرام، ويتقرب إليهم بطاعة الله تعالى في خلقه، والرغبة إليه في أداء حقه، ليكونوا لفعله حامدين وإلى الله - عز وجل - بالدعاء له مبتهلين، فلن يعدم من الله إجابة دعائهم.
F رعاية العلم ومراعاة العلماء:
فأما العلم فينبغي للملك أن يعرف فضله، ويستبطن أهله، ليكون بالعلم موسومًا، وإليه منسوبًا، فإن الإنسان موسوم بسيما من قاربه، ومنسوب إليه أفاعيل من صاحبه.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (2409) ومسلم (1829).(1/37)
ثم لا يبعد أن يظهر أهل نحل مبتدعة، ومذاهب مخترعة، يزوقون كلامًا مموهًا، ويزخرفون مذهبًا مشوهًا، يخلبون به قلوب الأغمار، ويعتضدون على نصرته بالسفلة الأشرار؛ فيصب الناس إليهم، وينعطفوا عليهم بخلابة كلامهم، وحسن ألطافهم، مع أن لكل جديد لذة، ولكل مستحدث صبوة.. فتصير حينئذ البدع فاشية، ومذاهب الحق واهية، ثم يفضي بِهم الأمر إلى التحزب والعصبة، فإذا رأوا كثرة جمعهم، وقوة شوكتهم، داخلهم عز القوة، ونخوة الكثرة، فتضافر جهال نساكهم، وفسقة علمائهم بالميل على مخالفيهم، فإذا استتب لهم ذلك، زاحموا السلطان في رئاسته، وقبحوا عند العامة جميل سيرته.
وهذا أمر يجب على الملك مراعاته، لما فيه من حراسة الدين، وحفظ المملكة، وحسم ذلك أن يراعي العلم وأهله، ويصرف إليهم حظًّا من عنايته، ويعتمد أهل الكفاءة منهم بالتقريب والصيانة، وأهل الحاجة منهم بالرفد والإعانة، ففي ذلك بَهاء الملك، وإعزاز الدين، وقد قيل: "إن من إجلال الشريعة إجلال أهل الشريعة".
وليكن من دأب الملك فعل الخيرات، إما ابتداءً من نفسه، أو اقتداء بالأخيار من سلفه، وليكن ما يخلفه من جميل الذكر وحسن السيرة، إمامًا يقتدي به الأخيار، ومثالاً يزدجر به الأشرار، فإن ذلك أربح بضائعه يوم معاده، وأنفع ما يخلفه لمن اقتدى به، فإن الله تعالى ولي توفيقه وتسديده وكفيل معونته وتأييده" (1) .
حقوق ولي الأمر: الإخلاص والدعاء - التوقير والاحترام
السمع والطاعة - النصيحة - النصرة
"إن لولاة الأمور على الرعية حقوقًا أوجبها الإسلام، وأكد على الاهتمام بِها، ورعايتها، والقيام بِها، فإن مصالح الأمم والمجتمعات لا تتم ولا تنتظم إلا بالتعاون بين الآمر والمأمور، وقيام كل بِما يجب عليه من واجبات، وأداء ما حمل من أمانة ومسئوليات" (2) .
F أولاً: الإخلاص والدعاء:
__________
(1) انظر "درر السلوك في سياسة الملوك": (87-126) باختصار.
(2) الأدلة الشرعية (24).(1/38)
أول ما يجب على الرعية لأولياء الأمور والمسئولين هو الإخلاص لهم، وحبهم وإرادة الخير لهم، وكراهة ما يسوؤهم، وقد عبر الشارع عن ذلك بكلمة النصح كما في الحديث: $الدين النصيحة.. لله - عز وجل - ، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم# (1) . وحديث: $إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم# (2) .
قال ابن الأثير: "النصيحة كلمة يعبر بِها عن جملة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تجمع معناه غيرها، وأصل النصح في اللغة الخلوص" (3) .
وقال ابن رجب الحنبلي: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فحب صلاحهم ورشدهم وعدلهم، وحب اجتماع الأمة عليهم، وكراهة افتراق الأمة عليهم، والتدين بطاعتهم في طاعة الله - عز وجل - ، وحب إعزازهم في طاعة الله - عز وجل - ، ومعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به، وتنبيههم في رفق ولطف، ومجانبة الوثوب عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق" (4) .
وقال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله-: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاتُهم من السلطان الأعظم إلى الأمير إلى القاضي إلى جميع من لهم ولاية صغيرة أو كبيرة، فهؤلاء لما كانت مهماتُهم وواجباتُهم أعظم من غيرهم وجب لهم من النصيحة بحسب مراتبهم ومقاماتِهم:
وذلك باعتقاد إمامتهم، والاعتراف بولايتهم، ووجوب طاعتهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم، وحث الرعية على طاعتهم، ولزوم أمرهم الذي لا يخالف أمر الله ورسوله، وبذل ما يستطيع الإنسان من نصيحتهم، وتوضيح ما خفي عليهم فيما يحتاجونه إليه في رعايتهم، كل أحد بحسب حالته.
والدعاء لهم بالصلاح والتوفيق، فإن صلاحهم صلاح لرعيتهم.
__________
(1) رواه مسلم (55).
(2) رواه مسلم (1715).
(3) النهاية (5/63).
(4) جامع العلوم والحكم (79).(1/39)
واجتناب سبهم، والقدح فيهم، وإشاعة مثالبهم، فإن في ذلك شرًّا وفسادًا كبيرًا.
وعلى من رأى منهم من لا يحل أن ينبههم سرًّا لا علنًا، بلطف وبعبارة تليق بالمقام، ويحصل بِها المقصود، فإن هذا مطلوب في حق كل أحد، وبالأخص ولاة الأمر، فإن تنبيههم على هذا الوجه فيه خير كثير، وذلك علامة الصدق والإخلاص.
واحذر أيها الناصح لهم على هذا الوجه المحمود: أن تفسد نصيحتك بالتمدح عند الناس، فتقول لهم: إني نصحتهم، وقلتُ وقلتُ. فإن هذا عنوان الرياء، وعلامة ضعف الإخلاص" (1) .
أما الدعاء لأولياء الأمور "فمن أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده" (2) . كما يقول شيخ أهل السنة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- وهو كذلك من عقيدة أهل السنة والجماعة كما نص على ذلك الإمام الطحاوي (ت321).
وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- "لو ظفرت ببيت المال لأخذت من حلاله، وصنعت منه أطيب الطعام، ثم دعوت الصالحين، وأهل الفضل من الأخيار والأبرار، فإذا فرغوا، قلتُ لهم: تعالوا ندعو ربنا أن يوفق ملوكنا، وسائر من يلي أمرنا" (3) .
وقال الإمام البربَهاري -رحمه الله- (ت328): "وإذا رأيت الرجل يدعو على السلطان، فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سنة -إن شاء الله- يقول الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان".
فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولَم نؤمر أن ندعو عليهم، وإن جاروا وظلموا؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين" (4) .
__________
(1) الرياض الناضرة (49-50).
(2) المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم (21).
(3) سراج الملوك (100).
(4) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/36).(1/40)
وقال الإمام أحمد عندما وشي به الخليفة بأن رجلاً من العلويين قد آوى إلى منْزله، وهو يبايع الناس، فلم يشعروا إلا والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوه جالسًا في داره مع عياله، فسألوه عما ذكر عنه، فقال: "ليس من هذا شيء، ولا هذا في نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، في العسر واليسر، ومنشطي ومكرهي، وأثرة علي، وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار، وأرى له ذلك واجبًا علي" (1) .
F ثانيًا: التوقير والاحترام:
أوجب الشارع الشريف على الأمة توقير الأمراء واحترامهم وتبجيلهم، ونَهى في الوقت نفسه عن سبهم وانتقاصهم والحط من أقدارهم، وذلك لتقع مهابتهم والرهبة منهم في نفوس الرعية، فتنكف عن الشر والفساد والبغي والعدوان النفوس الردية.
وفي ذلك المعنى يقول سهل بن عبد الله التستري: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بِهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم" (2) .
وفي تقرير ذلك يقول ابن جماعة: "الحق الرابع: أن يعرف له عظيم حقه، وما يجب من تعظيم قدره، فيعامل بِما يجب له من الاحترام والإكرام، وما جعل الله تعالى له من الإعظام، ولذلك كان العلماء الأعلام من أئمة الإسلام، يعظمون حرمتهم، ويلبون دعوتَهم، مع زهدهم وورعهم وعدم الطمع فيما لديهم، وما يفعله بعض المنتسبين إلى الزهد من قلة الأدب معهم فليس من السنة" (3) .
__________
(1) انظر السنة للخلال: (82-83) والتعليق عليه.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5/260) وانظر "معاملة الحكام" (45).
(3) تحرير الأحكام (63).(1/41)
ويقول صاحب "الدرة الغراء": "يجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية، أو إذا كانوا بعيدًا عنه خافوا منه، وسلطان هذا الزمان يجب أن يكون أوفى سياسة، وأتم هيبة؛ لأن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين، فإن زماننا هذا زمان السفهاء والأشقياء، وإذا كان السلطان -والعياذ بالله- بينهم ضعيفًا، أو كان غير ذي سياسة وهيبة، فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد، وأن الخلل يعود على الدين والدنيا، ولَم يكن لذلك السلطان في أعين الناس خطر، ولا يسمعون كلامه، ولا يطيعون أمره، ويكون الخلق عليه ساخطين" (1) .
ومن الأحاديث القاضية بِهذا الحق، حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله ج يقول: $السلطان ظل الله في الأرض، فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله# (2) .
وحديث معاذ بن جبل قال: قال رسول الله ج: $ خمس من فعل واحدة منهن كان ضامنًا على الله - عز وجل - ، من عاد مريضًا، أو خرج مع جنازة، أو خرج غازيًا، أو دخل على إمامه يريد تعزيره، وتوقيره، أو قعد في بيته فسلم الناس منه، وسلم من الناس# (3) .
وحديث أبي موسى: "إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط" (4) .
قال طاوس: "من السنة أن يوقر أربعة: العالم، وذو الشيبة، والسلطان، والوالد" (5) .
__________
(1) الدرة الغراء (223-224).
(2) حديث حسن: رواه أحمد (5/42) والترمذي (2225) والطيالسي (121) والبيهقي: (8/163) والبخاري في تاريخه (3/366)، وابن أبي عاصم في السنة (1051). وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (5/376).
(3) حديث صحيح: رواه الطبراني في الكبير (2/37) والحاكم (2/90) وابن حبان (2/94) والبيهقي (9/166) وابن أبي عاصم (1055) وغيرهم. انظر التحقيق الجديد القيم لكتاب السنة لابن أبي عاصم: (2/672).
(4) حديث حسن: أخرجه أبو داود (4822) وغيره.
(5) شرح السنة للبغوي (13/41).(1/42)
قال البغوي: "إذا اجتمع قوم، فالأمير أولاهم بالتقديْم، ثم العالم، ثم أكبرهم سنًّا" (1) .
وقد ورد النهي عن ضد ذلك، فعن أنس قال: "نَهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله ج ، قالوا: لا تسبوا أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تبغضوهم، واتقوا الله، واصبروا؛ فإن الأمر قريب" (2) .
وقال حذيفة: "ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل أن يموتوا" (3) .
F ثالثًا: السمع والطاعة:
ومن حقوق ولي الأمر كذلك: "بذل الطاعة له ظاهرًا وباطنًا، في كل ما يأمر به، أو ينهى عنه، إلا أن يكون معصية" (4) . "وهذا من أكبر الحقوق على الرعية، وأعظم الواجبات عليهم نحو ولاة أمورهم، ذلك أن الطاعة من أعظم الأسس والدعائم لانتظام أمور الدول والجماعات، وتحقيق أهدافها ومقاصدها الدينية والدنيوية؛ لأن الولاة لابد لهم من أمر ونَهي، ولا يتحقق المقصود من الأمر والنهي إلا بالسمع والطاعة من الرعية، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : "لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا أمير، ولا أمير بلا طاعة" (5) . وقد سبق تفصيل ذلك.
F رابعًا: النصح والتقويم:
ولاة الأمر والمسئولون غير معصومين، فهم بشر يصيبون ويخطئون. ولا يزالون في حاجة إلى نصيحة المخلصين، وإرشاد المتقين، ونصيحتهم بالطريقة الشرعية من عزائم الدين وهدي السلف الأولين يعوزهم الإخلاص والتعقل والرفق واللين والتفنن في أسلوبِها لكي تؤتي ثمارها.
__________
(1) المرجع السابق.
(2) حديث حسن: رواه ابن أبي عاصم في السنة (1049) والبيهقي في الشعب (6/69).
(3) شرح السنة (10/54).
(4) تحرير الأحكام (61).
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/62) وانظر الأدلة الشرعية (27).(1/43)
"وإن المسئولية الكبرى، والواجب الأعظم في القيام بِهذا الأمر الجليل، يقع على عاتق علماء الأمة، ودعاتِها المخلصين، وهو من أعظم حقوق ولاة أمور المسلمين على الرعية، فعلى علماء الإسلام: أن يقوموا بِما أوجب الله عليهم من بيان الحق، والتذكير به، وأمر ولاة أمور المسلمين بالمعروف، وإعانتهم عليه، ونَهيهم عن المنكر، وتحذيرهم منه، وبيان سوء عاقبته، وخطره على الأمة، في عاجل أمرها وآجله، فإن فشو المنكرات وكثرتِها من أسباب حصول البلاء، ووقوع العذاب، وزوال الدول والملوك، وانتشار الفساد في الأرض، كما قال - سبحانه وتعالى - : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) [الروم:41].
قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس: "حق على كل مسلم أو رجل، جعل الله في صدره شيئًا من العلم والفقه، أن يدخل على ذي سلطان يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويعظه؛ لأن العالم إنَّما يدخل على السلطان يأمره بالخير، وينهاه عن الشر، فإذا كان فهو الفضل الذي ليس بعده فضل" (2) .
ومما يجدر التنبيه إليه: "أنه ينبغي أن يراعى عند إرادة نصح ولاة أمور المسلمين من الملوك والرؤساء وغيرهم، الأوقات المناسبة، والأساليب الحسنة، فيذكرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، بأدب ولطف ورفق ولين، وأن يراعى في ذلك مكانتهم في الأمة، وعلو قدرهم فيها، فإن ذلك أحرى بالقبول، وحصول المقصود" (3) .
__________
(1) الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية (66).
(2) ترتيب المدارك (2/65).
(3) الأدلة الشرعية (66).(1/44)
يقول ابن قيم الجوزية: "النصيحة إحسان صادر عن رحمة وشفقة، مراد به وجه الله تعالى في احتمال أذى المنصوح، ولائمته، بعد التلطف له في إلقاء النصيحة إليه.. والناصح لا يعادي إذا لَم تقبل نصيحته لاقتناعه بوقوع أجره على الله تعالى، مع الكف عن عيوب المنصوح، والدعاء له بظهر الغيب".
ويقول ابن الجوزي: "الجائز من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلاطين: التعريف والوعظ، فأما تخشين القول نحو: يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فإن كان ذلك يحرك فتنة يتعدى شررها إلى الغير لَم يجز، وإن لَم يخف إلا على نفسه فهو جائز عند جمهور العلماء".
قال ابن مفلح معلقًا: "والذي أراه المنع من ذلك" (1) .
"قال رجل للرشيد، وهو في الطواف: أريد أن أكلمك بكلام فيه خشونة فاحتمله! فقال الرشيد: لا، ولا كرامة، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا} (2) [طه:44].
وقال سفيان الثوري: "لا يأمر السلطان بالمعروف إلا رجل عالم بِما يأمر وينهى، رفيق بِما يأمر وينهى، عدل" (3) .
ومن أهم هذه الآداب الواجبة: إلقاء النصيحة في السر وتجنبها في العلانية، وفي ذلك يقول ج: $من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر، فلا يبده علانية، ولكن ليأخذ بيده، فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه له#. أخرجه الإمام أحمد وغيره (4) ، وصححه محدث الشام الشيخ الألباني، وقال: "هذا الحديث أصل في إخفاء نصيحة السلطان، وأن الناصح إذا قام بالنصح على هذا الوجه، فقد برئ، وخلت ذمته من التبعة".
وقد سار وفق هذا التوجيه النبوي سلف هذه الأمة، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة الإسلام المشهورين:
__________
(1) انظر الآداب الشرعية (1/196).
(2) الشهب اللامعة (71).
(3) شرح السنة (10/54).
(4) حديث صحيح: رواه أحمد (3/403) والطبراني (17/367) والحاكم: (3/290) وابن أبي عاصم: (1130-1132).(1/45)
قيل لأسامة بن زيد: "لو أتيت فلانًا -يعنون: عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فكلمته، قال: إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أن أسمعكم، إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابًا لا أكون أول من فتحه" (1) .
وفي رواية لمسلم: "والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، ما دون أن أفتتح أمرًا، لا أحب أن أكون أول من فتحه".
قال القرطبي: "يعني أنه كان يجتنب كلامه بحضرة الناس، ويكلمه إذا خلا به، وهكذا يجب أن يعاتب الكبراء والرؤساء، يعظمون في الملأ، إبقاء لحرمتهم، وينصحون في الخلاء أداء لما يجب من نصحهم... وقوله: "لقد كلمته فيما بيني وبينه" يعني أنه كلمه مشافهة، كلام لطيف؛ لأنه أتقى ما يكون عن المجاهرة بالإنكار والقيام على الأئمة، لعظيم ما يطرأ بسبب ذلك من الفتن والمفاسد" (2) .
وقال القاضي عياض: "مراد أسامة: أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه سرًّا، فذلك أجدر بالقبول" (3) .
وقال سعيد بن جبير لابن عباس: آمر أميري بالمعروف؟ فقال: "فيما بينك وبينه" (4) .
وجاء في "الدرر السنية" (5) لعدد من علماء نجد الأعلام: "وأما ما قد يقع من ولاة الأمور من المعاصي والمخالفات التي لا توجب الكفر والخروج من الإسلام؛ فالواجب فيها: مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح، من عدم التشنيع عليهم في المجالس، ومجامع الناس، واعتقاد أن ذلك من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد، وهذا غلط فاحش، وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين، كما يعرف ذلك من نوَّر الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح، وأئمة الدين".
__________
(1) متفق عليه: البخاري (3267) ومسلم (2989).
(2) المفهم (6/619).
(3) فتح الباري (13/52).
(4) انظر: محنة الإمام أحمد، لحنبل بن إسحاق (84).
(5) انظر: (7/290).(1/46)
وقال ابن النحاس: "ويختار الكلام مع السلطان في الخلوة على الكلام على رءوس الأشهاد، بل يود لو كلَّمه سرًّا، ونصحه خفية من غير ثالث لهما" (1) .
ويقول الشوكاني: "ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه، ولا يظهر الشناعة عليه على رءوس الأشهاد" (2) .
ويقول شيخ أهل السنة مفتي المملكة العربية السعودية: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى، وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف: النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير ذكر أن فلانًا يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم، ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان؟ قال: أنكر عليه عند الناس؟ لا أفتح باب شر على الناس، ولما فتحوا الشر في زمن عثمان - رضي الله عنه - وأنكروا عليه جهرة تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقتل عثمان وعلي بأسباب ذلك، وقتل جم كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني وذكر العيوب علنًا، حتى أبغض الناس ولي أمرهم وحتى قتلوه" (3) .
إن ما حدث من كوارث ونكبات، أمرت العيش، وأضرمت القلب، بسبب التصعيد السياسي في مصر والشام والجزائر وغيرها، يجب أن يظل محفوظًا في الذواكر، وأن يكتب وصايا عزيزة للأجيال القادمة.
وهذه واقعة مفردة من آلاف القصص والوقائع التي حفظها التاريخ. عبرة رادعة، وعظة زاجرة لأصحاب التهييج السياسي والإنكار العلني:
__________
(1) تنبيه الغافلين: (64).
(2) السيل الجرار (4/556).
(3) حقوق الراعي والرعية (27).(1/47)
"فقد كان أمير الأندلس الحكم بن هشام بن الداخل من جبابرة الملوك وفساقهم ومتمرديهم -كما يقول الذهبي- وكثرت العلماء في دولته، حتى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف، فعز عليهم انتهاك الحكم بن هشام للحرمات، فهيجوا الناس عليه، ونكثوه في نفوسهم، وزعموا أنه لا يحل الصبر على سيرته الذميمة، وائتمروا ليخلعوه، وعولوا على تقديْم أحد أهل الشورى بقرطبة لما عرفوا من صلاحه وعقله ودينه، فعرفوه بالأمر، فأبدى الميل إليهم، واستضافهم عنده، ثم أخبر الحكم بشأنِهم، فأرسل إليهم بعض عيونه، وجلسوا وراء الستر، وكاتب منهم يكتب ما يقوله هؤلاء، فمد أحدهم يده وراء الستر فرآهم، فقام وقاموا، وقالوا: فعلتها يا عدو الله فمن فر لحينه نجا، ومن لا، قبض عليه.. في سبعة وسبعين رجلاً ضربت أعناقهم وصلبوا، وأخذ الحكم في جمع الجنود وتَهيأ، واستأسد الناس وتنمروا، ووقعت بينهم موقعة الربض، التي قتل الحكم فيها زهاء أربعين ألفًا من أهلها، الذين بلغ استخفافهم بالحكم أنَّهم كانوا ينادونه ليلاً من أعلى صوامعهم: الصلاة الصلاة يا مخمور" (1) .
وقفز في الذاكرة ذلك الشاب الذي كان يخطب الجمعة في مصر ويقذع النقد للوزراء والارؤساء ويقول في آخر خطبته: "أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه".
__________
(1) انظر: سير أعلام النبلاء (8/255-257).(1/48)
ولقد أثر ذلك المسلك على جمهور المصلين فلا تراهم يزدحمون إلا عند الناقد للحكومات، الفاضح للوزراء، الكاشف عن أسرار حياتِهم الخاصة، وكأنَّهم في أعين هؤلاء مستثنون من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]. وكأن موسى وهارون لَم يبلغا شجاعة هؤلاء الأبطال وورعهم وتقواهم عندما أمرهم ربُّهم باللين والرفق في مخاطبة فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. إنَّها أخطاء كبيرة، وأرزاء رهيبة أثرت بقوة على مسيرة الدعوة، فلقد كان علماؤنا الأقدمون بعيدي النظر عندما يقررون -كما في الآداب الشرعية لابن مفلح (1) - أنه "لا ينكر أحد على سلطان إلا وعظًا له وتخويفًا، أو تحذيرًا من العاقبة في الدنيا والآخرة، فإنه يجب، ويحرم بغير ذلك".
والحق أن التجارب التي مرت بِها الأمة ليلاً ونَهارًا، شرقًا وغربًا، لتؤكد أن الإنكار على الحكومات على رءوس المنابر، وفي مجامع الناس، وفي المنشورات وغيرها يؤدي إلى تأليب العامة، وإثارة الرعاع، وإشعال الفتن، ولا شك أن إنكار المنكرات من الواجبات الشرعية، غير أن الوسيلة كذلك لابد أن تكون شرعية، فإذا كان الشارع الشريف قد فرض إنكار المنكر، والنهي عن الفساد في الأرض، فإنه كذلك أوجب على المنكرين والناهيين وسيلة معينة، وألزمهم بِها، وإن التاركين لها، العادلين عنها إلى غيرها، لواقعون في إثم ربما يفوق إثم التاركين لإنكار المنكر بالكلية، وذلك لما يترتب على مخالفة الوسيلة الشرعية من منكر أكبر، وفساد أعظم.
F خامسًا: النصرة:
__________
(1) انظر: (1/195).(1/49)
1- فعلى المسلمين أن يتعاونوا مع الحاكم في كل ما يحقق التقدم والخير والازدهار في جميع المجالات الخارجية بالجهاد في المال والنفس، والداخلية بزيادة العمران وتحقيق النهضة الصناعية والزراعية والأخلاقية والاجتماعية، وإقامة المجتمع الخير، وتنفيذ القوانين والأحكام الشرعية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء فيما يمس المصلحة العامة أم المصلحة الخاصة، وتقديْم النصيحة وبذل الجهد بتقديْم الآراء والأفكار الجديدة التي تؤدي إلى النهضة والتقدم، وتوعية الناس والدعوة لها في السلم والحرب (1) .
2- ويجب على الرعية أن تنصر ولي أمرها في الحق، وإن كان يمنعها حقوقها فإن نصرته نصرة للدين، وقوة للمسلمين، لاسيما إذا خرجت عليه فئة تريد أن تخلعه، أو تنْزع يدها من طاعته، يدل على ذلك قوله ج: $من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه# (2) .
وقوله ج: $من بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثَمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر# (3) .
وفي هذا الحديث يقول النووي: "معناه ادفعوا الثاني، فإنه خارج على الإمام، فإن لَم يندفع إلا بحرب وقتال فقاتلوه، فإن دعت المقاتلة إلى قتله جاز قتله، ولا ضمان فيه؛ لأنه ظالم متعد في قتاله" (4) .
3- فهؤلاء الذين يخرجون على الحاكم بغاة يجب ردهم إلى طاعته، وإلا قوتلوا.
__________
(1) انظر الفقه الإسلامي وأدلته (5/710).
(2) رواه مسلم (1852).
(3) أخرجه مسلم (1473).
(4) شرح النووي لصحيح مسلم (14/234).(1/50)
يقول ابن جماعة: "فإذا خرج على الإمام طائفة من المسلمين لهم شوكة ومنعة، وقصدت خلعه، أو تركت الانقياد لطاعته، أو منعت حقًّا من الحقوق الواجبة، بتأويل أظهرته، ولَم يقدر على ردها إلى طاعته إلا بقتالها، فهم البغاة، فيبدأ السلطان أولاً بمراسلتهم بِما ينقمونه، ويناظرهم فيما يظنونه، فإن ذكروا شبهة أزالها بجواب يرجعون إليه، وإن شكو مظلمة أزالها، فإن رجعوا إلى طاعته كف عنهم، وإن أبوا قاتلهم فإن تابوا قبلت توبتهم، وترك قتالهم وإن أصروا وجب قتالهم، ولا يكفرون بالبغي، بل هم عصاة، مخطئون فيما تأولوه" (1) .
ويقول القلقشندي فيما يجب على الرعية تجاه راعيها: "المعاضدة والمناصرة في أمور الدين وجهاد العدو قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}. ولا أعلى من معاونة الإمام على إقامة الدين ونصرته" (2) .
ويقول ابن جماعة كذلك: "القيام بنصرته باطنًا وظاهرًا ببذل المجهود في ذلك، لما فيه نصر المسلمين، وإقامة حرمة الدين، وكف أيدي المعتدين" (3) . وتكون النصرة أيضًا: "بالذب عنه بالقول والفعل، وبالمال والنفس في الظاهر والباطن، والسر والعلانية" (4) .
FFFFF
__________
(1) تحرير الأحكام (240).
(2) مآثر الأنافة (1/63).
(3) تحرير الأحكام (63).
(4) المصدر السابق (64).(1/51)
الركن الثالث
من أركان الدولة الإسلامية ( الشعب )
"التجمع البشري هو أساس الدولة، إذ لا يمكن أن نتصور وجود دولة بدون الأفراد الذين يقيمون بصفة مستقرة فوق إقليمها، ويخضعون لنظامها السياسي، وشعب الدولة يتكون من مجموعة من الأفراد الذين يتماسكون، ويرتبطون بروابط متعددة تجمع بينهم، وتختلف في نوعيتها وأهميتها" (1) .
ويتألف الشعب في مفهوم الدولة الإسلامية من المسلمين الذين يؤمنون بالإسلام شريعة وعقيدة ونظامًا سياسيًّا، ومن غير المسلمين الذين يقيمون إقامة دائمة في الإقليم الإسلامي، وهم الذميون، أو الذين يقيمون بصفة مؤقتة، وهم المستأمنون.
أولاً: المسلمون:
نتكلم في هذا المبحث عن قضيتين مهمتين من قضايا السياسة الشرعية الواقعية:
1- لزوم جماعة المسلمين:
يوجب النظام السياسي الإسلامي على كل مسلم أن يلزم جماعة المسلمين، وأن يسمع لإمامهم ويطيع، ويكون معهم يدًا واحدة على من عداهم، يحب لهم الخير كله، ويكره لهم الشر كله، يسعى في صلاح أمورهم وما ينفعهم، ويعمل على ائتلافهم، ولَم شعثهم، واجتماع كلمتهم، وانتظام أحوالهم.
وبعبارة أخرى: "فإن على المسلمين أن يقفوا متحدين وراء الحكومة الشرعية، يؤيدونَها ويؤازرونَها، ويضحون من أجل هذه الوحدة بكل متعهم وملذاتِهم وما يملكون من متاع الدنيا، بل وبحياتِهم أيضًا.. إن أية محاولة لتحطيم وحدة الأمة أو تفريق كلمتها، لابد وأن تعتبر جريمة كبرى، بل خيانة عظمى تستوجب أقصى العقوبات" (2) . فقد قال رسول الله ج: $إنه ستكون هنات وهنات (3) فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان# (4) . وفي رواية: $من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه#.
__________
(1) مبادئ علم السياسة (157).
(2) انظر منهاج الإسلام في الحكم (132، 139).
(3) المراد بالهنات ها هنا: الفتن والأمور الحادثة.
(4) رواه مسلم (1852).(1/1)
إن النصوص القرآنية والحديثية في الأمر بلزم الجماعة، والنهي عن التفرق عنها، وشق عصاها، من الكثرة بمكان، منها:
قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. وقوله سبحانه: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105]. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (((( مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الروم:31-32].
وقال رسول الله ج: $من رأى من أميره شيئًا يكرهه، فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات، إلا مات ميتة جاهلية# (1) .
وقال رسول الله ج: $عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة، فعليه بالجماعة# (2) .
وقال رسول الله ج: $ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل فارق الجماعة...# (3) .
وقال رسول الله ج: $الجماعة رحمة، والفرقة عذاب# (4) .
والمراد بالجماعة في هذه الأحاديث: جماعة المسلمين المجتمعين على إمام، لا الجماعات الإسلامية القائمة اليوم.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (7143) ومسلم (1851).
(2) حديث صحيح: رواه ابن أبي عاصم في السنة (88) والترمذي (2165) والنسائي في الكبرى (5/388) من حديث عمر وانظر تخريجه بالتفصيل "كتاب السنة لابن أبي عاصم" (1/86) تحقيق صاحبنا الأستاذ الفاضل الدكتور باسم فيصل الجوابرة -وفقه الله وسدد خطاه- وبحبوحة الجنة: وسطها، يقال: تبحبح إذا تمكن وتوسط المنْزل والمكان، انظر النهاية: (1/98).
(3) حديث صحيح: رواه البخاري في الأدب المفرد (590) وأحمد في المسند (6/19) وابن حبان (4559) والحاكم (1/119) وابن أبي عاصم (89) والطبراني في الكبير (8/306) وغيرهم.
(4) حديث حسن: رواه أحمد في المسند (4/278/375) وابن أبي عاصم (93) وغيرهما.(1/2)
يقول الطبري: "إن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة" (1) .
قال الخطابي: "وذلك أن أهل الجاهلية لَم يكن لهم إمام يجمعهم على دين، ويتألفهم على رأي واحد، بل كانوا طوائف شتى وفرقًا مختلفين، آراؤهم متناقضة، وأديانُهم متباينة" (2) .
2- حكم تكوين الأحزاب والجماعات داخل الدولة الإسلامية
__________
(1) فتح الباري (13/37).
(2) العزلة (57).(1/3)
الأمر الذي لا اختلاف فيه أن الأصل في الإسلام وجوب الوحدة والائتلاف، وحرمة الفرقة والاختلاف، وأن المطلوب من كل مسلم أن يكون على الإسلام الصحيح، الذي نزل على رسول الله ج ، وعلى هذا مضى المسلمون الأوائل، وكانوا أمة واحدة إلى أن ظهرت الخوارج، وكفروا كبار الصحابة، ثم توالت الفرق، فظهرت الروافض، ثم القدرية، ثم المعتزلة وغيرها، وكان شعار هذه الفرق جميعًا هو ترك اتباع الصحابة - رضي الله عنهم - في فهم الكتاب والسنة، وهكذا تفرق أهل الإسلام، وكفر بعضهم بعضًا، وأصبحوا أعداء بعد أن كانوا إخوانًا -كما يقول ابن رجب- وخرج كثير منهم عن الإسلام الصحيح الذي كان عليه رسول الله ج وأصحابه، الذي ظل السواد الأعظم من المسلمين في ذلك الوقت المبكر متمسكين به، وبالغ أئمتهم في التحذير من هذه الفرق ما لَم يبالغوا في إنكار الفواحش، إذ رأوا أن ضرر هذه الفرق من الخطورة بمكان، ثم تعاقب على الأمة أطوار مختلفة، تخلت فيها عن كثير من شرائع دينها الصحيح، فتعرضت لهزات عنيفة، وزلازل شديدة من الداخل والخارج، إلى أن ضعفت قوتُها، وذهبت دولتها، وسلبت ثرواتُها وخيراتُها، هنالك قام الغيورون من أبنائها يريدون أن يعيدوا لها مجدها وعزها، لكن الغيرة وحدها لا تكفي، ولابد أن يتحلى أصحابُها بالتمكن من العلم الشرعي، والفهم الصحيح للإسلام، فاشتد خلاف هؤلاء، وتشعبت بِهم الطرق، وتباينت خططهم من أجل تحقيق هذه الغاية الكبرى، وانتهجوا مناهج كثيرة سياسية وغير سياسية، جهادية وغير جهادية، وتحزبوا، واتخذوا كل حزب منهم اسمًا أو لقبًا يعرفون به، وأميرًا يبايعونه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأعطوه من الحقوق ما لا يكون إلا للإمام الأعظم، وأخذوا يقطعون من جسد الأمة ما يكثرون به سوادهم، فزادوا في تصدع الأمة وتفرقها وإنْهاك قوتِها.(1/4)
وكثير من "هؤلاء من يود القفز فوق نواميس الحياة، وقوانين الطبيعة، والسنن الكونية، ويحسبون أن الحكم بالإسلام يمكن أن يتم بانقلاب خاطف، أو سحر ساحر، وأن دور الإعداد التربوي والبناء الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والإعلامي يمكن أن يأتي في مرحلة لاحقة، وفي وقت لا يملك هؤلاء مشروعًا للأداء الدعوي الناجح، فكيف برعاية شئون الأمة المختلفة" (1) .
__________
(1) د. فتحي يكن: الشرق الأوسط، العدد (6637) تاريخ 29/1/1997م.(1/5)
ورأي أهل الحديث والسنة الملتزمون بمنهج النبوة وفهم السلف للكتاب والسنة، وهم الامتداد الطبيعي للإسلام الأول الذي كان عليه الرسول ج وأصحابه، أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بِما صلح به أولها، وبحثوا عن الطريقة الشرعية لإقامة الملة الحنيفية وإعادة مجد الأمة الإسلامية، فمن المحال أن يعلم النَّبِي ج أمته آداب الخلاء ووطء النساء والطعام والشراب، ويدع تعليمها الطريق الموصلة إلى التمكين لدين الله، وتحكيم شرعه، فقاموا بتصفية ما علق بحياة المسلمين من الشرك على اختلاف أشكاله وصوره، وتحذيرهم من البدع المنكرة والأفكار الدخيلة، واجتهدوا في تربيتهم على دينهم الحق، على الإسلام المصفى مما شابه عبر القرون والأجيال من بدع وخرافات، وسلكوا بِهم الطريق الشرعية في التعامل مع الواقع اللاشرعي، لاسيما مع الحكومات التي لا تحكم بِما أنزل الله، وأبوا أن يزيدوا في تفريق الأمة بإنشاء حزب أو جماعة، أو يكون لهم أمير -إلا أن يكون ولي الأمر- أو متبوع غير رسول الله ج ، وبِهذا يتبين -كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- أن أحق الناس بأن تكون هي الفرقة الناجية: أهل الحديث والسنة، الذين ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا رسول الله ج وهو أعلم الناس بأقواله وأحواله وأعظمهم تميزًا بين صحيحها وسقيمها.. فلا ينصبون مقالة ويجعلونَها من أصول دينهم وجمل كلامهم إن لَم تكن ثابتة فيما جاء به الرسول ج ، بل يجعلون ما بعث به الرسول ج من الكتاب والحكمة هو الأصل يعتقدونه ويتعمدونه، وما تنازع فيه الناس.. يردونه إلى الله ورسوله.(1/6)
فهؤلاء هم جماعة المسلمين على الحقيقة دون ما انشق عنهم، وفارقهم بالانتماء إلى حزب أو جماعة، وتميز باسم أو منهج يخالف الإسلام الصحيح في قليل أو كثير، وهم كذلك الذين يمثلون الإسلام الأول، بل هم الامتداد الطبيعي لما كان عليه الرسول ج وأصحابه، ولهذا فليسوا بحاجة إلى التميز بلقب، أو شعار، لَم يرد به نص، وهم كذلك لا يعرفون التنظيمات السرية، ولا يعقدون البيعة إلا للإمام المسلم المستقر، وليست دعوتُهم في شكلها ومضمونِها إلا دعوة الإسلام بكل ما تعنيه هذه الكلمة بخلاف الجماعات الإسلامية القائمة، فمنها ما فيه مخالفات كثيرة لمنهج السلف الصالح، ومنها ما يدعو إلى شعبة من شعب الإسلام دون أخرى، فلا ينبغي للمسلم الحق أن يخرج من سعة الإسلام إلى القوالب الضيقة، ويتقيد بمنهج غير منهج النبوة القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فإن مضار الجماعات والأحزاب على الإسلام والمسلمين من الكثرة بمكان، فمنها:
1- أن الولاء والبراء يعقد عليها، فأصبح الولاء لهذه التنظيمات وتلك الجماعات لا لله -تبارك وتعالى-، وأصبحت الدعوة كذلك إلى هذه الجماعات وليس إلى الإسلام، وكم حصلت من حروب كلامية ودموية بسبب التعصب لهذه الجماعات أو لمؤسسيها أو منظريها، ولا يجوز شرعًا أن يعقد الولاء والبراء على شيء غير الإسلام، فلا ينبغي أن يعقد على اسم، أو رجل، أو حزب "وليس لأحد -كما يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليه غير النَّبِي ج ، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة، ويعادون".(1/7)
"وهذه حال كثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية اليوم: أنَّهم ينصبون أشخاصًا قادة لهم، فيوالون أولياءهم، ويعادون أعداءهم، ويطيعونَهم في كل ما يفتون لهم دون الرجوع إلى الكتاب والسنة، ودون أن يسألوهم عن أدلتهم فيما يقولون أو يفتون" (1) .
أما "أهل الحق والسنة فلا يكون متبوعهم إلا رسول الله ج الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنْزلة لغيره من الأئمة، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ج " (2) .
2- أن الانتماء إلى جماعة يميز المنتسب إليها عن غيره ويجعل له حقوقًا ليست لغيره من المسلمين، ويعقد له عقدًا ليس لغيره، والله قد عقد بين المسلمين جميعًا بعقد الأخوة، فقال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات:10]. والحزبية تنشئ أخوة دون أخوة مبنية على مبادئ الجماعة وشعارها، ولذلك نَهى الشارع الشريف أن يتحالف بعض المسلمين دون البعض؛ لأن التحالف يميز الحلفاء عن سائر المسلمين فقال ج: $لا حلف في الإسلام# (3) . وفي رواية: $لا تحدثوا حلفًا في الإسلام#.
3- كثرة هذه الجماعات بكثرة مناهجها الفكرية فرقت الأمة ومزقت شملها وأورثت المنازعة والشحناء والبغضاء، كما قال ج: $إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم# (4) . وسببت كذلك اضطرابًا للحياة الفكرية وأثارت التهارج والشغب، وذلك كله من أكبر عوامل إضعاف الأمة وذهاب قوتِها كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ} [الأنفال:46].
__________
(1) منهج الأنبياء (1/16).
(2) حكم الانتماء (123).
(3) متفق عليه: (7340) ومسلم (2529).
(4) رواه مسلم (2812).(1/8)
"إن العمل الإسلامي وأهدافه الكبيرة ومقاصده العظمى، يستلزم تضافر قوى المسلمين جميعًا في مسيرة واحدة، وضمن خطة موحدة، في حين أن تشرزم هذه القوى، سيحبط العمل، ويعرقل المسيرة، ويجعل الإنتاج محدودًا على كل صعيد.. إن تفكك الصف الإسلامي من شأنه أن يجعل بأس المسلمين بينهم، ويفتح في صفوفهم وبلادهم ثغرات، يتسلل منها أعداء الإسلام، وهذا ما يجري اليوم..." (1) .
يقول بعض التابعين: "خرج علينا عثمان بن عفان فخطبنا، فقطع قوم عليه كلامه، فتراموا بالبطحاء حتى لَم نبصر أديْم السماء، فسمعنا أم المؤمنين من أحد حجر أزواج النَّبِي ج تقول: "ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب، وتلت قول الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }."
فالأحزاب والجماعات فرقة نَهى الله تعالى عنها، وبرأ نبيه مُحمَّدًا ج وبين سوء عاقبتها في الدين والدنيا، فلا يعين عليها إلا جاهل (2) .
4- "إن السماح بإنشاء جماعات إسلامية على أرض الدولة المسلمة سيؤدي إلى التلاعب بمسألة شرعية خطيرة، وهي مسألة البيعة، إذ ما من جماعة إسلامية إلا ويطالب أتباعها بإعطاء البيعة لزعيمها، أو مؤسسها، أو الذي يتولى أمرها، وعندئذ تتعدد البيعات بتعدد الجماعات، وفي هذا هدم لقاعدة شرعية أساسية، وهي أن البيعة التي هي في عنق المسلم، إنَّما هي بيعة على السمع والطاعة في المعروف لولي أمره.. فلا يجوز توجيه البيعة إلى الجماعات وزعمائها" (3) .
__________
(1) د. فتحي يكن، جريدة الشرق الأوسط العدد (6637) تاريخ 29/1/1997م.
(2) الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم -حفظه الله- جريدة المسلمون العدد (625) تاريخ 15 رمضان 1417’.
(3) بصائر للدعاة (27).(1/9)
5- وفي الحزبية تحجيم للإسلام فلا ينظر إليه إلا من خلالها في تجمع حول قيادة معينة، ومبادئ فكرية خاصة، فعلى أيدي جماعات العنف والتطرف التي تسفك الدماء، وتروع الآمنين، قدمت صورة بشعة مقززة عن الإسلام والمسلمين، لا تمت إلى الحقيقة بصلة ولا نسب!.
6- والحزبية تقوم على التسليم بآراء الجماعة والدعوة إليها وسد منافذ النقد لها، وهذا يناقد ما دعا إليه الشارع من ملازمة الحق ونقد الباطل والتحذير منه ونبذ التقليد الأعمى "ومعظم الجماعات يعتقد المسئولون فيها أنَّهم هم وحدهم الذين يحق لهم أن يناقشوا فيما بينهم، فإذا وصلوا إلى قرار فهو ملزم لجميع الأعضاء في الجماعة، وأن الآخرين كلهم -أي غير أولئك المسئولين- واجبهم السمع والطاعة بغير اعتراض، وتلجأ تلك الجماعات إلى تَهديد المخالفين بالفصل من الجماعة إن لَم يسمعوا ويطيعوا" (1) .
7- وبسبب الحزبية المقيتة تكونت الجماعات الإسلامية التي تعتمد طريق المواجهات المسلحة والاغتيلات المدمرة، فأوقعت الأمة في فتن مدلهمة وشرور كبيرة، وكانت ذريعة للمتربصين بالدعوة الإسلامية لوأدها والإجهاز عليها واستعداء الكثيرين على أصحابِها، ومسوغًا لهم لوصفهم بالإرهاب والتطرف.
8- والغالب أن هذه الجماعات تنقسم على نفسها؛ لتخرج للأمة جماعات أخرى، تزيد في تمزيق شملها وإنْهاك قوتِها، كما هو حال كثير من الجماعات والأحزاب الإسلامية اليوم.
9- وبسبب الحزبية "والسرية في العمل" نشأ الفكر التكفيري فترى كثيرين "يقضون معظم حياتِهم في دهاليز السرية ينظمون الشباب، ويحزبونَهم، وينظرون لهم أفكارهم وتوجهاتِهم.. وهذه السرية في حقيقتها كبت للطاقات، وتمويت للعمل الجاد الشامل..." (2) .
__________
(1) واقعنا المعاصر (498).
(2) رؤية واقعية في المناهج الدعوية (42) وراجع لزامًا حكم الانتماء.(1/10)
"وهل السرية إلا دليل على فساد وضلال يتخفى صاحبه من أعين أهل العلم خشية الانفضاح، يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه-: "وإذا رأيت قومًا يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنَّهم على تأسيس ضلالة" (1) .
وصدق -وايْم الله- فإنه ما انفتح باب سوء على المسلمين كباب "السرية في العمل" الَّتِي أنبتت كل مذهب باطل، يهدم الإسلام، ويزعم أنه ناصر له، وتاريخ نشوء الفرق الضالة خير شاهد على تصديق ذلك" (2) .
ولذلك قال ج: $عليك بالعلانية، وإياك والسر# (3) .
فهذه بعض مضار الحزبية فهل من عودة لهذه الجماعات المتناحرة إلى الجماعة الأم، وإلى نَهج النبوة حيث لا فرقة ولا تباغض، ولا تنازع، وحيث لا جماعة ولا حزب.
ثانيًا: أهل الذمة:
الذمة: هي العهد والأمان والضمان.
وأهل الذمة هم اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم ممن يعيشون في الدولة الإسلامية بصفة دائمة، وأقرهم الحاكم على دينهم، بشرط أن يلتزموا أحكام النظام الإسلامي من معاملات وعقوبات، وأن يدفعوا الجزية نظير قيام المسلمين بحمايتهم والدفاع عنهم.
وهذه الجزية في مقابل فرض الزكاة على المسلمين، ولا تجب على النساء، ولا على الصبيان، ولا العبيد، ولا على الرهبان في الأديرة إلا إذا كانوا أغنياء، ولا على المساكين، ومن لا قدرة لهم على العمل، ولا على ذوي العاهات ونحوهم (4) .
__________
(1) رواه أحمد في الزهد، واللالكائي في السنة.
(2) الشيخ عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم "المسلمون" العدد (625) تاريخ 15رمضان 1417’.
(3) حديث حسن: رواه ابن أبي عاصم في السنة (1104) بتحقيق الأستاذ الدكتور باسم الجوابرة -حفظه الله ووفقه-.
(4) انظر: المغني لابن قدامة (10/581-588) وتحرير الأحكام لابن جماعة (252).(1/11)
وينقض عهد الذمة بالامتناع عن الجزية، أو الاجتماع على قتال المسلمين، أو المعاونة عليه بدلالة الأعداء على عورات المسلمين أو مكاتبتهم أو بالامتناع عن التزام أحكام النظام الإسلامي، أو بفتنة مسلم عن دينه، أو التعدي عليه بقتل أو فاحشة، أو قطع الطريق، أو تجسس، أو سب دين الإسلام، أو ذكر الله، أو كتابه، أو رسوله بسوء (1) ، ولا ينتقض عهد الذمة بِما منعوا منه مما ليس فيه ضرر على المسلمين، كإظهار الخمر، وما يعتقدونه في المسيح (2) ونقض عقد الذمة من البعض منهم ليس نقضًا من الباقين بحال (3) .
ومن حقوق أهل الذمة:
1- الوفاء لهم بعقد الذمة، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل:91]. فلا غش ولا خيانة ولا غدر.
2- عدم إكراههم على دخول الإسلام، كما قال - عز وجل - : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
3- عدم التعرض لكنائسهم، ولا لخمورهم وخنازيرهم ما لَم يظهروها.
4- حمايتهم والدفاع عنهم ضد أي اعتداء يقع عليهم.
5- برهم والإحسان إليهم من غير مودة لهم، قال تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ((( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9].
__________
(1) انظر الروضة (10/337) المغني (10/608) تحرير الأحكام (261).
(2) روضة الطالبين (10/330) تحرير الأحكام (263).
(3) روضة الطالبين (10/338).(1/12)
أما مودتُهم وحبهم وموالاتُهم فحرام، قال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]. وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1]. وقال - عز وجل - : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [المائدة:51].
6- تحريم دمائهم وأموالهم.
7-وتحريم ظلمهم وتكليفهم فوق طاقتهم.
وبرهان ذلك أحاديث كثيرة منها:
قوله ج: $ ألا من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة# (1) .
قوله ج: $من قتل معاهدًا لَم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة أربعين عامًا# (2) .
ووصية عمر للخليفة من بعده: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ج أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم" (3) .
وواجبات أهل الذمة كثيرة منها:
__________
(1) حديث حسن: أخرجه أبو داود (3052) والبيهقي (9/205) وغيرهما.
(2) رواه البخاري (3166).
(3) أخرجه البخاري (3052) باب يقاتل من أهل الذمة ولا يسترقون.(1/13)
1- أداء الجزية عن كل رجل في كل عام مرة، وهي دينار في مذهب الشافعي، وفيه حديث معاذ، أن النَّبِي ج حين بعثه على اليمن، قال: $خذ من كل حالم دينارًا# (1) . وتؤخذ الجزية في آخر كل عام (2) .
2- أن يوقروا المسلمين، فلا يضربوا مسلمًا ولا يسبونه ولا يغشونه ولا يفتنوه عن دينه.
3- أن لا يظهروا شيئًا من شعائر دينهم، أو معتقداتِهم الباطلة، فلا يسمعوا المسلمين شركهم، أو صلاتَهم، أو قراءتَهم، أو معتقداتِهم في المسيح وعزير (3) .
4- أن لا يذكروا كتاب الله، أو رسول الله ج ، أو دين الإسلام بذم أو قدح (4) .
ثالثًا: المستأمنون
هم غير المسلمين الذين يدخلون البلاد الإسلامية، ويقيمون فيها إقامة مؤقتة بعقد أمان من أولياء الأمور أو غيرهم من آحاد الرعية المسلمة. والأمان في لغة العرب ضد الخوف.
وفي الاصطلاح: عقد يفيد ترك القتل والقتال مع الحربيين.
وهذا العقد:
إما عام: وهو ما يكون لأهل ولاية، ولا يعقده إلا الإمام أو نائبه، كعقد الهدنة وعقد الذمة، "فتجوز مهادنة الكفار وملوكهم وقبائلهم إذا اجتهد الإمام وذوو الرأي من المسلمين في ذلك، ولَم يخافوا من الكفار مكيدة" (5) .
__________
(1) حديث صحيح: أخرجه الشافعي وأصحاب السنن وغيرهم. انظر: الإرواء (1254).
(2) تحرير الأحكام (250) المغني لابن قدامة (10/73) روضة الطالبين (10/311).
(3) انظر تحرير الأحكام (259).
(4) انظر الأحكام السلطانية للماوردي (145).
(5) الروضة الندية (2/760).(1/14)
وإما خاص: وهو ما يعقده آحاد المسلمين، فقد أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار آمنًا، ويصح الأمان من كل مسلم، مكلف، مختار، ويستوي فيه الحر والعبد، والغني والفقير، والرجل والمرأة (1) . "وإنَّما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا أمن العدد المحصور، فأما عقد الأمان لأهل ناحية على العموم، فلا يصح إلا من الإمام على سبيل الاجتهاد وتحري المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس، صار ذريعة إلى إبطال الجهاد" (2) .
ومن أدلته قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ} [التوبة:6]. فهذا النص عام يشمل كل مسلم.
وقد أنفذ رسول الله ج أمان أم هانئ لرجل من أحمائها، وقال لها: $قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ# (3) .
وقال ج: $ذمة المسلمين واحدة يسعى بِها أدناهم، فمن أخفر مسلمًا (4) فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله عنه يوم القيامة صرفًا ولا عدلاً# (5) .
والمراد بالذمة ها هنا: الأمان. والمعنى: أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنه أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم.
ويقتضي الأمان ثبوت الأمن والطمأنينة للمستأمنين فيحرم قتلهم، وسبي نسائهم، واغتنام أموالهم، بل ولا يجوز ضرب الجزية عليهم.
ويشترط في الأمان أن لا يعود بضرر على المسلمين، فلا ضرر ولا ضرار، فلا يجوز الأمان لجاسوس مثلاً (6) .
__________
(1) روضة الطالبين (10/279) تحرير الأحكام (235).
(2) الروضة الندية (2/759).
(3) متفق عليه: البخاري (3171)، ومسلم (336).
(4) أي من نقض أمان مسلم، فتعرض لكافر أمنه مسلم.
(5) متفق عليه: البخاري (1870) ومسلم (1370).
(6) انظر روضة الطالبين (10/281)، مغني المحتاج (4/238)، تحرير الأحكام (237).(1/15)
وللمستأمن أن يتنقل في كل البلاد الإسلامية إلى الحجاز، لقوله ج: $لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب، حتى لا أترك إلا مسلمًا# (1) .
فالمراد من جزيرة العرب الحجاز خاصة في رأي الجمهور، وبدليل رواية أخرى: $أخرجوا يهود أهل الحجاز# (2) .
والحديث يفسر بعضه بعضًا، وبدليل فعل عمر - رضي الله عنه - حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأخرهم إلى اليمن مع أنَّها من جزيرة العرب (3) .
FFFFF
الركن الرابع : الإقليم
لكل دولة إقليم، ويعبر عنه العلماء المسلمون بالدار، ويعرفهُ كُتاب السياسة بأنه: "رقعة من الأرض والبحر وطبقات الجو الَّتِي تعلوها، تباشر الدولة عليها سلطاتَها بصفة دائمة ومستقرة، والإقليم عنصر أساسي من عناصر قيام الدولة؛ لأنه لا يُمكن أن يكون لشعب كيان مستقل وحقيقي ما لَمْ يكن على إقليم معين" (4) . "ولأنه تعبير عن شخصية الدولة، وطمأنينة لسكانِها، ومَجال لتطبيق سيادتِها، فأهمية الإقليم لا تأتي فقط من كونه عنصرًا ماديًّا جغرافيًّا يقيم عليه السكان، ولكن له أهمية معنوية فِي وجود الدولة وتَجسيد شخصيتها" (5) .
وقد درج الفقهاءُ على تقسيم العالم إلَى دول إسلام ودول كفر، أو دار إسلام ودار كفر، لكل خصائصها وأحكامها، تَمييزًا للمسلمين عن الكفار، وتأكيدًا على المفاصلة التامة بين الكفر والإيْمان، وإن كان بعض الباحثين لا يرى هذا التقسيم (6) !
__________
(1) رواه مسلم (1767).
(2) رواه أحمد (195) والبيهقي في الكبرى (9/68).
(3) انظر الأحكام السلطانية للماوردي (122) المغني لابن قدامة (10/614) تحرير الأحكام لابن جماعة (338) فتح الباري (6/198) عمدة القاري: (12/123) الفقه الإسلامي وأدلته (6/436).
(4) موسوعة السياسة: (6/496).
(5) مبادئ علم السياسة: (159).
(6) انظر: "أثر القوانين الوضعية فِي الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام" للباحث كاتب هذه السطور.(1/16)
مناط الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام:
سيطرةُ المسلمين أو الكفار على الدار، وسيادتُهم عليها، وامتلاكهم لَها، هو مناط الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام، ثُم يتبع ذلك علامات، توجد أحيانًا وتضعف أحيانًا أخرى، بل ربَّما تنعدم كالأمن أو الخوف، وتطبيق أحكام الإسلام أو الكفر.
إذ تلتقي كلمة المذاهب الأربعة على أن البلدة تصبح دار إسلام إذا دخلت فِي منعة المسلمين واستقرت تَحت سيادتِهم، بحيث يقدرون على إظهار أحكام الإسلام والامتناع عن أعدائهم، وإنَّما يكون ذلك بطريق الفتح عنوة أو صلحًا، سواء أصبح أهلها كلهم أو بعضهم مسلمين، أو بقوا جَميعًا غير مسلمين، كبلد كان جَميع سكانه أهل ذمة مثلاً، وينبغي أن نعلم أن المقصود من ظهور أحكام الإسلام فيها ظهور الشعائر الإسلامية الكبرى، كالجمعة والعيدين وصوم رمضان والحج، دون أي منع أو حرج، وليس المقصود بِها أن تكون القوانين المرعية كلها إسلامية" (1) .
لَمْ أجد اختلافًا بين فقهاء المذاهب الأربعة فِي هذا المناط، غير أنه قد وقع فِي جُملة من نصوصهم تباين فِي الأسلوب، وتغاير فِي العبارات، حسبها بعض الباحثين اختلافًا متباينًا، فحكاها أقوالاً متنافرةً، وليس الأمر كذلك، فإن منهم من ينص على المناط بعينه، ومنهم من يعبر عنه بلوازمه وعلاماته، والكل بِمعنى واحد، وليس هذا بغريب على من عرف طريقة العلماء ومناهجهم فِي البحث والتصنيف.
وهذا المناط الذي ذكرناه نص عليه الشارع صراحة فِي حديث بريدة - رضي الله عنه - ، وعبر عن لازمه أو علامته فِي حديث أنس - رضي الله عنه - .
__________
(1) قضايا فقهية معاصرة (1/182).(1/17)
أما حديث بريدة: $كان رسول الله ج إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه فِي خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا ، ثم قال: اغزوا باسم الله فِي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تُمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلَى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ... ادعهم إلَى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثُمَّ ادعهم إلَى التحول من دارهم إلَى دار المهاجرين، وأخبرهم أنَّهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنَّهم يكونون كأعراب المسلمين، يَجري عليهم حكم الله الذي يَجري على المؤمنين ولا يكون لَهم فِي الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يُجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم ...# (1) .
فأضاف رسول الله ج الدار إلَى المهاجرين لوجودهم فيها وسيادتِهم عليها، ثُمَّ أمر بالانتقال من دار ليس عليها سلطان أهل الإسلام إلَى بلاد عليها سلطان أهل الإسلام، مما يدل على أن الدار إنَّما تُعتبر بامتلاك السيادة والسلطان بحيث يَملك المسلمون أو الكفار إعلان أحكامهم، فبحسبها تكون، فإن كانت السيادة لأهل الإسلام، كانت دار إسلام، وإن كانت السيادة للكفرة، كانت دار كفر.
ومن مشكاة هذا الحديث أخذ شيخ الإسلام بن تيمية -رحِمه الله- قاعدته الشرعية المنضبطة قائلا: "وكون الأرض دار كفر أو دار إيْمان، أو دار الفاسقين ليس صفة لازمة لَها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانِها" (2) .
__________
(1) رواه مسلم (1731).
(2) مجموع الفتاوى (18/287).(1/18)
ويقول: "والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها، فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارًا، ثُمَّ تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة -شرفها الله- فِي أول الأمر دار كفر وحرب" (1) .
أما حديث أنس - رضي الله عنه - : $كان رسول الله ج يغير إذا طلع الأذان، فإن سَمع أذانًا أمسك وإلا أغار# (2) .
ففيه دليل واضح أن وجود بعض أحكام الإسلام الظاهرة للحكم على الدار بالإسلام، وهذه الأحكام من لوازم السيادة على الدار، كما أسلفنا.
والمقصود من ذلك: أن المعول عليه فِي الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام: السيادة والسلطان والامتلاك للدار، ثُمَّ يتبع ذلك ظهور الأحكام، وكذلك الخوف أو الأمن للمسلمين أو الكفار، وبعبارة أخرى: "فالشرط الجوهري لاعتبار الدار دار إسلام هو كونُها محكومة من قبل المسلمين وتحت سيادتِهم وسلطانِهم، فتظهر عند ذاك أحكام الإسلام، ويأمن جَميع السكان مسلمون وكفار بأمان الإسلام، المسلمون بسبب إسلامهم، وغير المسلمين بعقد الذمة.
وليس من شرط هذه الدار أن يكون فيها مسلمون ما دامت تحت سلطانِهم (3) ، وفِي هذا يقول الإمام الرافعي: "ليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكفي كونُها فِي يد الإمام وإسلامه" (4) .
ومن هاهنا جعل العلماء من أقسام دار الإسلام دارًا يفتحها المسلمون ويقرون فيها سكانَها الأصليين "أهل الذمة" مقابل جزية يدفعونَها أو خراج، فمثل هذه الدار حكم عليها بالإسلام مع أن سكانَها كفار، ولَهم قضاة يَحكمون بينهم بغير ما أنزل الله من القوانين الكفرية والأحكام الجاهلية.
__________
(1) مجموع الفتاوى (27/144).
(2) متفق عليه: البخاري (610)، ومسلم (1365).
(3) أحكام الذميين والمستأمنين: (18) للدكتور عبد الكريم زيدان.
(4) فتح العزيز (8/14).(1/19)
قال الشوكانِي: "الاعتبار بظهور الكلمة فإن كانت الأوامر والنواهي فِي الدار لأهل الإسلام بحيث لا يستطيع من فيها من الكفار أن يتظاهر بكفره إلا لكونه مأذونًا له بذلك من أهل الإسلام، فهذه دار إسلام ولا يضر ظهور الخصال الكفرية فيها، لأنَّها لَمْ تظهر بقوة الكفار ولا بصولتهم كما هو مشاهد فِي أهل الذمة من اليهود والنصارى والمعاهدين الساكنين فِي المدائن الإسلامية، وإذا كان الأمر بالعكس فالدار بالعكس" (1) .
وقد اختصر ابن حزم الكلام فِي هذا المناط قائلاً: "والدار إنَّما تنسب للغالب عليها والحاكم فيها والمالك لَها" (2) .
واختصره كذلك الحافظ أبو بكر الإسماعيلي فِي كتابه "اعتقاد أهل السنة" وجعل التمكين والسيطرة مناط الحكم على الدار بالإسلام، وجعل ذلك من عقيدة أهل السنة، إذ يقول: "ويرون الدار إسلام لا دار كفر -كما رأته المعتزلة- ما دام النداء بالصلاة والإقامة بِها ظاهرين، وأهلها ممكنين منها آمنين" (3) .
تحول دار الإسلام إلَى دار كفر:
وصف الدار بالكفر أو الإسلام ليس وصفًا لازمًا لا يتغير، بل هو وصف عارض يُمكن أن يتبدل بتحول صفاتِها وتغير أحوالِها.
وفِي هذا يقول شيخ الإسلام بن تيمية: "وكون الأرض دار كفر أو دار إيْمان، أو دار الفاسقين ليس صفة لازمة لَها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانِها" (4) .
والذي يَهمنا ثمة تَحقيق المناط الذي به تتحول دار الإسلام إلَى دار كفر، وهذا يقتضي عرض مذاهب العلماء فِي هذه المسألة الدقيقة.
المذهب الأول: أن دار الإسلام لا تصير دار كفر مطلقًا، وهذا قول ابن حجر الهيتمي ونسبه إلَى الشافعية.
المذهب الثانِي: أن دار الإسلام تتحول إلَى دار كفر بارتكاب الكبائر، وهذا قول طوائف من الخوارج والمعتزلة.
__________
(1) السيل الجرار (4/575).
(2) المحلى (13/140).
(3) اعتقاد أهل السنة: (51).
(4) مجموع الفتاوى (18/287).(1/20)
المذهب الثالث: أن دار الإسلام لا تتحول إلَى دار كفر بِمجرد استيلاء الكفار، بل حَتَّى تنقطع شعائر الإسلام، وهذا قول الدسوقي المالكي.
المذهب الرابع: أن دار الإسلام تتحول إلَى دار كفر بتمام القهر والغلبة، وهذا قول أبِي حنيفة.
المذهب الخامس: أن دار الإسلام تتحول إلَى دار كفر إذا استولى عليها الكفار، وأظهروا أحكامهم، وهذا مذهب صاحبيه.
وهذا المذهب الأخير أولى بالقبول، وأقرب إلَى الرجحان، ويوافق ما قررناه سابقًا أن مناط الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام هو السيطرة والغلبة وما يتبع ذلك من ظهور الأحكام على النحو الذي فصلنا، وهو مذهب أكثر أهل العلم، ووجهوا ذلك بأن "البقعة إنَّما تنسب إلينا أو إليهم باعتبار القوة والغلبة" وسبق نقل جُملة من أقوالِهم.
استيلاء الكفار على دار الإسلام وإقرارهم المسلمين فيها يظهرون دينهم:
المذاهب السابقة فيما إذا غلب الكفار على دار من ديار الإسلام، وعطلوا فيها شرائعه الربانية، وطبقوا أحكامها الجاهلية، فكان لَهم الحكم والأمر والنهي، وليس للمسلمين فيها من شيء، لكن ماذا لو غلب الكفار على دار إسلامية، فسقطت تحت سيطرتِهم الكاملة، لكنهم أقروا فيها أهلها "المسلمين" على إظهار دينهم، بل وأبقوا فيها من يواليهم من هؤلاء المسلمين يَحكمون فيها بِما يشاءون، غير أن الدار تَحت ذمة الكفار وسيادتِهم، بِحيث يسير المسلمون على الخطوط العامة لسياستهم الخارجية، بل ويتحالف جيش المسلمين معهم ضد المسلمين فِي الدار الأخرى؟(1/21)
هنا تتنَزل بِحق فتوى شيخ الإسلام بن تيمية فِي ماردين (1) : بلدة إسلامية شهيرة فِي تركيا حكمها الأراتقة (2) ما يزيد عن ثلاثة قرون "من سنة 465 إلَى سنة 812’" استولى عليها التتار ودخلت تحت حِمايتهم، وأقروا فيها المسلمين يحكمهم الأراتقة، وبعد هجوم التتار على بلاد الشام تَحول جند ماردين إلَى موالاة الكفار نصارى وتتار، ونصروهم على أهل الإسلام.
هاك فتوى شيخ الإسلام -رحمه الله-:
مسألة: فِي بلدة "ماردين" هل هي بلدة حرب أو بلد سلم؟ وهل يجب على المسلم المقيم بِها الهجرة إلَى بلاد الإسلام أم لا؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولَمْ يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله، هل يأثم فِي ذلك، وهل يأثم من رماه بالنفاق وسبه به أم لا؟
__________
(1) انظر معجم البلدان: (5/39)
(2) تنتسب هذه الدولة إلَى زعيم عشيرة من التركمان يدعى "أرتق بن أكسب" وكان قد التحق عام 449’ بخدمة السلطان السلجوقي تتش بن ألب أرسلان صاحب بلاد الشام فأقطعه القدس وما حولها، ولما توفي فِي (أرتق) خلفه ولداه: معين الدين سقمان، ونجم الدين إيلغازي. وفِي سنة 491’ استرد الفاطميون القدس فأخرجوهما منها، فتوجها بقومهما من التركمان إلَى الجزيرة الفراتية، فتملك معين الدين سقمان ديار بكر (آمد)، وتَملك نجم الدين إيلغازي (ماردين) وأقام كل منهما فيما تَملك دولة أرتقية. "انظر أحداث التاريخ الإسلامي بترتيب السنين تأليف د. عبد السلام الترمنيني.(1/22)
الجواب: الحمد لله دماء المسلمين وأموالهم مُحرمة حيث كانوا فِي ماردين أو غيرها، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام مُحرمة، سواء كانوا أهل ماردين أو غيرهم، والمقيم بِها إن كان عاجزًا عن إقامة دينه وجبت الهجرة عليه، وإلا استحبت ولَمْ تَجب، ومساعدتُهم لعدو المسلمين بالأنفس والأموال مُحرمة عليهم، ويَجب عليهم الامتناع عن ذلك بأي طريق أمكنهم من تغيب، أو تعرض، أو مصانعة، فإذا لَمْ يمكن إلا بالهجرة تعينت، ولا يحل سبهم عمومًا ورميهم بالنفاق، بل السبُّ والرمي بالنفاق يقع على الصفات المذكورة فِي الكتاب والسنة، فيدخل فيها بعض أهل ماردين وغيرهم.
وأما كونُهم دار حرب أو سلم فهي مركبة فيها المعنيان ليست بِمنْزلة دار السلم التي يَجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين، ولا بِمنْزلة دار الحرب الَّتِي أهلها كفر، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بِما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بِما يستحقه.
ولنا وقفات عند هذه الفتوى المباركة:
1- أن شيخ الإسلام لَمْ يكفر حكومة ماردين ولا جندها مع أنَّهم يوالون الكفار وينصرونَهم على المسلمين، وذلك لعدم تَحقق مناط الحكم بالتكفير، وهو الرضا بدين الكفار ونصرتُهم لأجله، والحجة فِي هذا قصة حاطب.(1/23)
2- أنه لَمْ يَحكم على "ماردين" بكفر مع أنَّها قد غلب عليها الكفار، وجعلوها تابعة لَهم، وولاتُها وجندها يبذلون لَهم الولاء والطاعة، وينصرونَهم على المسلمين، وذلك لأن سكانَها مسلمون، ويظهرون أحكام الإسلام، فهم فِي حالة أشبه ما تكون بالحكم الذاتِي، وكذلك لَمْ يَحكم عليها بإسلام مع أن أهلها مسلمون، وهو القائل: "وكون الأرض دار كفر أو دار إيْمان، أو دار الفاسقين ليس صفة لازمة لَها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانِها"، وذلك لأن الغلبة والسيطرة للكفار، ومن ثَم فهي ليست بدار إسلام خالصة، وليست بدار حرب مَحضة، إذن هي دار مركبة يتنازعها الإسلام والكفر، أو خالطها الإيْمان والشرك، وبعبارة أدق هي "قسم ثالث يعامل المسلم فيها بِما يستحقه ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بِما يستحقه".
وإذا كان هذا رأي الإمام بن تيمية، فإن ثَمة رأيًا آخر:
فقد "تعرض الإسبيجابي -الفقيه الحنفي- لِهذه المسألة، بعد إغارة التتار على البلاد الإسلامية واستيلائهم على أجزاء منها، والذي رآه الإمام المذكور هو بقاء تلك البلاد المحتلة من قبل التتار من جُملة الإسلام؛ لعدم اتصالِها بدار الحرب؛ ولأن الكفرة لَمْ يظهروا فيها أحكام الكفر، فقد ظل القضاء من المسلمين، ثُمَّ قال: وقد تقرر أن بقاء شيء من العلة يبقى الحكم، وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام كالأذان والجمع والجماعات وغيرها فتبقى دار إسلام" (1) .
__________
(1) أحكام الذميين للدكتور عبد الكريم زيدان (20).(1/24)
كما تعرض لَها الرملي "الفقيه الشافعي"، فقد سئل عن المسلمين الساكنين فِي وطن من الأوطان الأندلسية، يقال له: "أرغون" (1) وهاهم تَحت ذمة السلطان النصرانِي يأخذ منهم خراج الأرض، ولَمْ يتعد عليها بظلم، ولَهم جوامع يصلون فيها، ويصومون رمضان ويتصدقون، ويقيمون حدود الإسلام جهرًا كما ينبغي، ولا يتعرض لَهم النصرانِي فِي شيء من أفعالهم الدينية؛ فأجاب (2) :
"لا تجب الهجرة على هؤلاء المسلمين من وطنهم لقدرتِهم على إظهار دينهم به، ولأنه ج بعث عثمان يوم الحديبية إلَى مكة على إظهار دينه بِها، بل لا تَجوز الجهرة منه، لأنه يرجى بإقامتهم به إسلام غيرهم، ولأنه دار إسلام فلو هاجروا منها صار دار حرب" (3) .
وهذا الرأي من ذينك الفقيهين "الحنفي والشافعي" يلتقي رأي الدسوقي "الفقيه المالكي" القائل: "إن بلاد الإسلام لا تصير دار حرب يأخذ الكفار لَها بالقهر ما دامت شعائر الإسلام قائمة فيها".
فها نحن أمام رأيين فيما إذا غلب الكفار على الدار، وأقروا فيها أهل الإسلام دينهم مقابل مال أو خراج يدفعونه لَهم، أو نصرتِهم على أهل الإسلام، ليس رأي منهما يَجعلها دار كفر مَحضة!
أثر القوانين الوضعية فِي الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام:
اختلف الإسلاميون فِي عصرنا فِي وصف ديارهم التي تَحكم بالقوانين المخالفة لما أنزل رب البرية، وقال فيها بعضهم أقاويل منكرة، يترتب عليها عواقب وخيمة، ونكبات مدمرة.
ويرجع هذا الخلاف إلَى الأسباب التالية:
- اختلافهم فِي تَحديد المناط التي تتقلب به دار الإسلام إلَى دار كفر.
__________
(1) حصن منيع بالأندلس من أعمال شنتبرية بيد المسلمين إلَى الآن فيما بلغني، كذا قال ياقوت الحموي المتوفى سنة 626’ انظر معجم البلدان: (1/154)، ومراصد الإطلاع: (1/58).
(2) "الغلو فِي الدين": للدكتور عبد الرحمن اللويحق (339).
(3) فتاوى الرملي (4/52).(1/25)
- اختلافهم فِي تكفير من حكم بغير ما أنزل الله (1) .
- عدم فهم بعضهم كلام أهل العلم فِي هذه المسألة، أو تنْزيلهم له فِي غير منْزله.
ويُمكن أن نحصر مذاهبهم فِي ثلاثة مذاهب:
الأول: أن الديار الإسلامية تَحولت إلَى دار كفر محضة.
الثانِي: أن الديار الإسلامية تَحولت إلَى دار مركبة من كفر وإسلام.
الثالث: أن ديارنا إسلامية، وإن حكمت بالقوانين الوضعية.
1- أقول: إذا طبقنا مذهب أبِي حنيفة فكما قال الشيخ أبو زهرة: تكون الأقاليم الإسلامية من أقصى المغرب إلَى سهول تركستان وباكستان ديار إسلامية، لأنَّها وإن كان سكانُها لا يطبقون أحكام الإسلام، يعيشون بأمان الإسلام الأول، وبذلك تكون الديار ديار إسلامية" (2) .
2- وأما على مذهب المالكية أو ما نقلناه عن الدسوقي أن: "بلاد الإسلام لا تصير دار حرب بأخذ الكفار لَها بالقهر ما دامت شعائر الإسلام قائمة فيها" (3) . فلا ريب فِي إسلام ديارنا قولاً واحدًا.
3- وأولى أن تكون إسلامية بلا مرية على رأي ابن حجر الهيتمي القائل: "أن ما حكم بأنه دار إسلام لا يصير دار كفر مطلقًا".
4- أما على رأي أهل البدع والخوارج ومن انتهج سبيلهم ممن يقول: إن دار الإسلام تنقلب إلَى دار كفر بظهور الكبائر، فتكون البلاد جَميعًا على هذا الرأي دار كفر، لكن ما بني على باطل فهو باطل، ومن ثُمَّ فلا نطيل فِي الرد والمناقشة.
5- فإذا أتينا إلَى قول من ذهب إلَى أن غلبة الكفار على دار الإسلام وإظهار أحكامهم يصيرها دار كفر وحرب، وممن ذهب إلَى ذلك صاحبا أبِي حنيفة، فقد فهم منه كثرة من المعاصرين أن بلادنا تصير ديار كفر!!
فها هو الشيخ أبو زهرة -رحِمه الله- يقول:
"لعل ثمرة الخلاف بين الرأيين تظهر فِي عصرنا هذا:
__________
(1) انظر التفصيل "كتاب الحكم بغير ما أنزل الله" للباحث.
(2) الجريْمة والعقوبة فِي الفقه الإسلامي (343).
(3) حاشية الدسوقي (2/188).(1/26)
- فإنه على تطبيق رأي أبِي حنيفة: تكون الأقاليم الإسلامية من أقصى المغرب إلَى سهول تركستان وباكستان ديار إسلامية؛ لأنَّها وإن كان سكانُها لا يطبقون أحكام الإسلام، يعيشون بأمان الإسلام الأول، وبذلك تكون الديار ديارًا إسلامية.
- وبتطبيق رأي أبِي يوسف ومُحَمَّد ومن معهما من الفقهاء تكون الأقاليم الإسلامية لا تعد دار إسلام بل دار حرب، لأنَّها لا تظهر فيها أحكام الإسلام ولا تطبق".
وإذا كنا مع الشيخ أبِي زهرة فيما يثمره رأي أبِي حنيفة، فلسنا معه فِي أن الأقاليم تصير دار كفر وحرب بتطبيق رأي صاحبيه! وذلك لأمور:
أولُها: أن المعتبر عند أصحاب هذا المذهب لصيرورة دار الإسلام إلَى دار كفر غلبة الكفار على الدار بحيث تكون لَهم السيادة عليها والأمر والنهي، وليس مُجرد تطبيق أحكام الكفر "القوانين الوضعية"، فمن الغلط هاهنا أن ينْزل هذا المذهب على بلادنا والغلبة فيها والسيادة للمسلمين!
وبعبارة أخرى فإن هذا القول ممن ذهب إليه مفترض فيما إذا استولى الكفار على دار الإسلام، وليست صورته فيما إذا كان المسلمون هم الذين لَهم السيادة والحكم والأمر والنهي.
ثانيها: أن أحكام الكفر "القوانين الوضعية" لَمْ تظهر بسبب غلبة الكفار وسيطرتِهم على دار الإسلام، إنَّما ظهرت بإذن من حكام المسلمين، وفِي استطاعتهم تطبيق جَميع أحكام الإسلام، ورأي الصاحبين مفترض فيما إذا غلب الكفار على دار الإسلام وسيطروا عليها وأظهروا أحكامهم بقوتِهم وصولتِهم، يؤكد هذا والذي قبله قول الكاساني بعد سياقه رأي أبِي حنيفة ورأي صاحبيه: "وقياس هذا الاختلاف فِي أرض لأهل الإسلام ظهر عليها المشركون وأظهروا فيها أحكام الكفر، أو كان أهلها أهل ذمة فنقضوا الذمة وأظهروا أحكام الشرك هل تصير دار الحرب؟ فهو على ما ذكرنا من الاختلاف" (1) .
__________
(1) بدائع الصنائع (7/131).(1/27)
ثالثها: أن الفقهاء القائلين بِهذا القول يَحكمون بالإسلام على دار الكفر التي غلب عليها المسلمون، وأقروا عليها أهل الذمة بِجزية يؤدونَها أو خراج، وما من شك أن الذميين يَحكمون فِي هذه الدار بغير ما أنزل الله، فالأولى أن يَحكم بإسلام الدار إذا كانت السيادة فيها للمسلمين، ويحكمون بِجملة مما أنزل الله من إقامة للشعائر الظاهرة وأحكام المواريث والأحوال الشخصية وغير ذلك.
رابعها: أن الفقهاء الذين يقولون بِهذا القول لَمْ يشترط أحد منهم تطبيق جَميع أحكام الإسلام للحكم على الدار بأنَّها دار إسلام، فصاحبا أبِي حنيفة وهُما ممن يقولان بِهذا القول يريان صيرورة دار الكفر دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام، وقد بقي فِي أوطاننا كثرة من مظاهر الإسلام من إقامة الجمع والجماعات والأعياد وغيرها من الشعائر الإسلامية، بالإضافة إلَى الحكم فِي الأحوال الشخصية بالشريعة الإسلامية، وقد تقرر أيضًا أن بقاء شيء من العلة يبقى الحكم.
خامسًا: لو سلمنا "جدلاً" أن ديارنا تتقلب دار كفر بتطبيق الأحكام الوضعية على رأي الصاحبين، فإن تطبيق بعض أحكام الإسلام يحول دار الكفر إلَى دار إسلام عند جَميع الأحناف، ومنهم الصاحبان، بل عند فقهاء المذاهب الأربعة كافة، وغير خاف أنه يطبق فِي ديارنا عامة أحكام الميراث والزواج والطلاق وغير ذلك مما يعرف بالأحوال الشخصية، هذا بالإضافة إلَى ظهور الشعائر الإسلامية من الصلوات الخمس والجمعة والعيد وغيرها، فدارنا إسلامية فِي كل الأحوال على مذهب الأحناف بلا خلاف.
يقول التهانوي فِي كشافه: "ولا خلاف فِي أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها" (1) .
وهذا ابن عابدين يكتفي بالشعائر فيقول:
"دار الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها" كجمعة وعيد "وإن بقي فيها كافر أصلي وإن لَمْ تتصل بدار الإسلام" (2) .
__________
(1) كشاف اصطلاحات الفنون (2/92).
(2) الدر المختار (4/175).(1/28)
سادسها: وإذا كان فِي الدار أحكام للكفر وأحكام للإسلام، وهذا هو الواقع للأسف، فينبغي أن يحكم على الدار بالإسلام تغليبًا للإسلام لحديث: $الإسلام يعلو ولا يعلى عليه#. ولا يقال إن القوانين الوضعية أكثر من الشرعية عددًا، فالعبرة هنا ليست بالعدد، ألا ترى أن الفقهاء يَحكمون للقيط فِي الدار التي فيها مسلم واحد وبقيتها كفار بالإسلام، وقد سبق نقل جُملة من أقوالِهم، هذه هي طريقة الفقهاء، ولذلك قال ابن عابدين:
قوله: "بإجراء أحكام أهل الشرك" أي: على الاشتهار وأن لا يَحكم فيها بِحكم أهل الإسلام.
"وظاهره أنه لو أجريت أحكام المسلمين وأحكام أهل الشرك لا تكون دار حرب"
وسابعها الأخير: أنه على فرض تعارض الأدلة أو الشرائط، واختلاف وجهات النظر، فإنه يبقى ما كان على ما كان، أو يترجح جانب الإسلام احتياطًا.
نخلص من ذلك كله: أن الحكم على بلادنا الإسلامية بأنَّها ديار كفرية لأنَّها تطبق القوانين الوضعية مجانب للصواب، لا يجري على أصول الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، اللهم إلا على مذهب الخوارج، الذين يرون تكفير الأشخاص والديار بِمجرد فعل الكبائر.
وقد استروح كثيرون من الإسلاميين فتوى شيخ الإسلام بن تيمية فِي ماردين، وأنزلوا حكمها على بلاد المسلمين، ورأوها حكمًا عدلاً ومَخرجًا حسنًا مما يَجدونه فِي أنفسهم من التردد فِي وصف ديارهم بالكفر أو الإسلام، فنادوا بأن بلادهم ليست بدار إسلام مَحضة ولا كفر خالصة، بل هي دار ثالثة مركبة من الكفر والإسلام، وأعرض أكثرهم عن كلام آخر لشيخ الإسلام بن تيمية يتنَزل على أوطانِهم تَمامًا دون تَمحل أو التواء!(1/29)
يقول أبو بصير من موقعه على الشبكة العالمية: "وأمصارنا لا تختلف كثيرًا عن بلدة ماردين التي سئل عنها شيخ الإسلام بن تيمية .. حيث كان فيها الكفار ويمثلون الطبقة الحاكمة المتنفذة.. والمسلمون ويُمثلون عامة الناس والسكان، فأجاب شيخ الإسلام فذكر الفتوى، ثُمَّ قال: وهذا الحكمُ يُحمل على أكثر أمصار المسلمين فِي هذا العصر لتطابق أوصافها مع أوصاف بلدة ماردين التي سُئل عنها شيخ الإسلام (1) .
والحق أن الأوصاف غير متطابقة؛ ذلك أن ماردين تغلب عليها التتار الكفار، فصارت لَهم الكلمة والسيادة عليها، بينما السيادة والغلبة فِي بلادنا للمسلمين، وتطبق فيها جُملة من الأحكام كافية للحكم عليها بالإسلام، وما يطبق فيها من القوانين الكفرية ليس بسبب غلبة الكفرة وسيطرتِهم على الدار.
وقد أوضحنا سابقًا أن موضع هذه الفتوى فيما إذا غلب الكفار على دار الإسلام، وأقروا فيها من يواليهم من المسلمين يظهرون دينهم مقابل مال أو خراج يدفعونه لَهم، أو مقابل نصرتِهم على أهل الإسلام.
وإذا كانت السيادة فِي بلادنا للمسلمين، فهم أهلها وأصحاب الأمر والنهي فيها، فأحق أن ينْزل عليها قول شيخ الإسلام: "وكون الأرض دار كفر أو دار إيْمان، أو دار الفاسقين ليس صفة لازمة لَها، بل هي صفة عارضة بحسب سكانِها" (2) .
وقوله فِي موضع آخر:
"والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها، فقد تكون البقعة دار كفر إذا كان أهلها كفارًا، ثُمَّ تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها كما كانت مكة -شرفها الله- فِي أول الأمر دار كفر وحرب".
وغير خاف أن الشيخ ابن تيمية لا يقصد مُجرد السكنى هاهنا، وإنَّما يقصد الغلبة على الدار والسيادة، وهذا ما يترشح من كلمة "سكانِها" فِي النص الأول وكلمة "أهلها" فِي النص الثاني.
والخلاصة: أن الحكم بالقوانين الوضعية لَمْ يسلب عن ديارنا صفة الإسلام ولَمْ يُحولها إلَى وصف آخر، وذلك لأمور:
__________
(1) WWW.abubaseer.com
(2) الفتاوى (18/287).(1/30)
أولها: أن الأصل الذي لا اختلاف فيه بقاء ما كان على ما كان، وهو هاهنا: وصف ديارنا بالإسلام، فلا خروج عن هذا الأصل الأصيل، ولا انتقال عنه إلا بقين، وهو هاهنا: تَحقيق مناط الحكم عليها بالكفر أو الخروج من وصفها بالإسلام.
وهذا يقتضي منا قبل الحكم على الدار أن نتثبت من شيئين:
1- أما أحدهُما: فدلالة القرآن والسنة على أن تحقيق هذا المناط موجب للحكم على الدار بالكفر أو الخروج عن الإسلام.
2- والآخر: انطباق هذا المناط على الدار المعينة.
ثانيًا: أنه قد تبين مما سبق عدم انطباق أي مناط مما ذكره العلماء على أي من ديارنا الإسلامية التي تَحكم بالقوانين الوضعية والسيادة فيها للمسلمين، اللهم إلا المناط الذي ذكره الخوارج والمعتزلة القائلون بأن ظهور الكبائر ينْزع وصف الإسلام عن الدار، وقد سبق تفصيل ذلك.
ثالثها: أنه جدلاً وعلى سبيل التنْزل وفرض انطباق المناط الذي ذكره مُحَمَّد ابن الحسن وأبو يوسف وغيرهُما وهو ظهور أحكام الكفر، "فعند تعارض الأدلة أو الشرائط، فإنه يبقى ما كان على ما كان، أو يترجح جانب الإسلام احتياطًا" (1) فإن فِي الحكم على الدار بالكفر مفسدة بينة لاسيما عند الشباب الذين يَجعلون هذا الحكم منطلقًا لأعمال العنف والإفساد.
ويأتِي على رأس القائلين بذلك من العلماء شيخنا الإمام الرباني مُحَمَّد ابن ناصر الدين الألباني -رحِمه الله- إذ يقول فِي أحد أحاديثه المسجلة:
"يبدو لنا أن الأمر ما ذكره ابن تيمية -رحِمه الله- فِي بعض فصول فتاويه أن الأرض ليست بالجدران، وإنَّما هي بالسكان، فإذا كان الغالب على سكان البلد ونظامهم هو الإسلام، فهِي دار إسلام، وإن كان قد يُحكمون بنظام ليس إسلاميًّا صرفًا، أو مَحضًا.
__________
(1) نقلاً عن أحكام الذميين (51).(1/31)
وعلى العكس من ذلك: إذا كان الحاكم كافرًا واحتل أرضًا مسلمة، فلا شك أنه لو كان هنا دولة مسلمة لغزت هذه البلاد التي حكمها الكفار، كما وقع قديْمًا حينما احتل النصارى فلسطين وحاربَهم صلاح الدين....
ثُمَّ أقر الشيخ الألباني سائله على ما يلي: "سمعناكم فِي شريط قديْم تقولون: إن بالنسبة للجزائر وسوريا تقولون: إن ما دام أغلب سكانِها مسلمين، كون حكامها لا يحكمون بِما أنزل الله، هذا لا يخرجها من كونِها دار إسلام إلَى دار حرب" (1) .
وكان قد اختصر الكلام فِي المسألة فِي حديث مسجل آخر، فقال: "إن بلاد الإسلام اليوم ليست كما كانت من قبل، ولكنها على كل حال هي ليست بلاد كفر، بل هي بلاد إسلام" (2) (3) .
وبِذا نعلم مدى غلو هؤلاء الذين يصفون الدول الإسلامية التي لا تحكم بِما أنزل رب البرية بأنَّها دار كفر، ثم يعلنون على أهلها الجهاد، ويستبيحون الدماء والأموال، بل والأعراض، فهاهم هؤلاء في الجزائر يسبون النساء المسلمات، ويقتلون المصلين الراكعين، الساجدين، فيا لله للمسلمين.
__________
(1) سلسلة الهدى والنور شريط رقم (771) تسجيلات مكتبة طيبة الإسلامية بعجمان الإمارات.
(2) المصدر السابق – شريط رقم: (247).
(3) انظر: "تأثير القوانين الوضعية فِي الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام" للباحث كاتب السطور.(1/32)
ونؤكد ها هنا أن دار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية، والمحرم في دار الإسلام، محرم في دار الحرب، محرم في كل مكان، فليس للمسلم على سبيل المثال أن يتعامل مع الكافر في دار الحرب بالربا، أو أن يقترض منه ثم لا يرده، بزعم أن المداينة في دار الحرب وقعت هدرًا!!، يعلق الشوكاني على قول مؤلف "حدائق الأزهار": "لا قصاص في دار الحرب مطلقًا" فيقول: "هذا لا وجه له، لا من كتاب، ولا سنة، ولا قياس صحيح، ولا إجماع، فإن أحكام الشرع لازمة للمسلمين في أي مكان وجدوا، ودار الحرب ليست بناسخة للأحكام الشرعية، أو لبعضها، مما أوجبه الله على المسلمين من القصاص ثابت في دار الحرب كما هو ثابت في غيرها، مهما وجدنا إلى ذلك سبيلاً... ولا يرفع شيئًا من هذه الأحكام إلا دليل يصلح للنقل، وإلا وجب البقاء على الثابت في الشرع من لزوم القصاص" (1) .
FFFFF
السلطات السياسية في الإسلام
مصدرها ومن يتولاها
تتنوع السلطات في السياسة الشرعية، والنظم الوضعية إلى سلطات ثلاث:
الأولى: السلطة التنظيمية "التشريعية":
وهي التي تتولى سن القوانين، وإصدار التشريعات التي تحتاج إليها الدولة، وتقوم كذلك بمراقبة السلطة التنفيذية ومدى احترامها لتنفيذ القوانين والأحكام، وتتمثل هذه السلطة في النظم الوضعية في مجلس نيابي يتم انتخابه من قبل الشعب، ويسمى تسميات مختلفة، فقد يسمى برلمانًا، أو مجلسًا شعبيًّا، أو جمعية وطنية، أو غير ذلك (2) .
__________
(1) السيل الجرار (4/552).
(2) انظر مقدمة إلى علم السياسة (175).(1/33)
ومصدر التشريع في النظم الوضعية هو الشعب ممثلاً في أعضاء المجالس النيابية، فهم الذين يقومون بسن القوانين وتشريع الأحكام، وهذا أمر مرفوض في النظام السياسي الإسلامي؛ لأن التشريع في مدلول العقيدة الإسلامية من خصائص الربوبية والألوهية، ومن مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحمَّدًا رسول الله، فالله وحده هو الحكم بين الناس، وهو أعلم بِما يصلحهم وما ينفعهم، ولا يزعم أحد أن الشارع الوضعي أرحم بالناس وأعلم بمصالحهم من رب الناس ومليكهم، وأحكامه سبحانه هي الحق والعدل المطلق، وهي سهلة ميسرة لا عنت فيها ولا ضرر ولا مشقة، ومن ثم فهي صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وقد أنكر سبحانه على من لَم يكتف بكتابه وأحكامه المشتملة على كل خير وهداية، فقال -جل وعلا-: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]. وقال عز من قائل: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]. فلا ينبغي للعباد أن يتخذوا حكمًا غير الله، كما قال سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114].
إن الذين يتولون السلطة التنظيمية في النظام السياسي الإسلامي هم المجتهدون والمفتون من العلماء، وسلطتهم لا تعدوا أمرين اثنين:
الأول: بالنسبة لما فيه نص من الكتاب والسنة تفهم هذا النص وبيان الحكم الذي يدل عليه، وفق ما يقتضيه علم أصول الفقه.
الثاني: بالنسبة إلى ما ليس فيه نص من قرآن أو سنة، فالاجتهاد بشروطه وأدواته وضوابطه.(1/34)
ولا تستغني الدولة الإسلامية عن وجود جماعة من أهل الاجتهاد الذين استكملوا شرائطه، وتوفرت لهم القدرة التامة، يرجع إليهم في فهم نصوص القانون الإلهي وتطبيقه، وتشريع الأحكام والقوانين لما يجد من الأقضية والحوادث، وما يطرأ من المصالح والحاجات (1) .
فهؤلاء هم صفوة الأمة الإسلامية، أما أفراد السلطة التشريعية في النظم الوضعية فيختارون في الأعم الأغلب عن طريق الانتخابات النيابية، ولا يشترط فيهم من الناحية العلمية والثقافية سوى القدر الذي يمكنهم من أداء عملهم، وحده الأدنى معرفة القراءة والكتابة (2) ومثل هؤلاء غير مؤهلين لتشريع الأحكام وسن القوانين، والأدهى من ذلك أنَّهم يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله!! ألا ساء ما يصنعون.
الثانية: السلطة القضائية:
وتتولى أعمال القضاء، وفض المنازعات بكل مستوياتِها ودرجاتِها وتتمثل هذه السلطة في مجموعة القضاة باختلاف درجاتِهم ومستوياتِهم (3) .
والذي يتولى هذه السلطة في الدولة الإسلامية القضاة الشرعيون، وتعيينهم من حق الخليفة أو من ينوب عنه من ولاة الأمصار ونحوهم، "وليس في الإسلام ما يمنع وضع نظام للسلطة القضائية يحد اختصاصها ويكفل تنفيذ أحكامها، ويضمن لرجالها حريتهم فِي إقامة العدل بين الناس" (4) .
والقضاء: هو الحكم بين الناس، والفصل في الخصومات والمنازعات الواقعة بينهم بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة.
__________
(1) انظر السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف (45).
(2) انظر مذكرة النظام السياسي في الإسلام للدكتور السامرائي (97).
(3) مقدمة إلى علم السياسة (176).
(4) السياسة الشرعية لعبد الوهاب خلاف (52).(1/35)
"وقد عرف القضاء من زمن بعيد إذ لا يمكن لحكومة من حكومات العالم أيًّا كان نوعها الاستغناء عنه، إذ لابد للفصل فيما لا يخلو عنه المجتمع البشري من النِّزاع، وهو مقدس عند جميع الأمم رغم اختلافها رقيًّا وانحطاطًا" (1) . لأن فيه كما يقول ابن قدامة: "أمرًا بالمعروف، ونَهيًا عن مضرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه، وردًّا للظالم عن ظلمه، وإصلاحًا بين الناس، وتخليصًا لبعضهم عن بعض، فإن الناس لا يستقم أمرهم بدونه" (2) .
وهو من أشرف الأعمال، وأخطرها شأنًا، فالحكم بين الناس من وظائف الأنبياء، كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [ص:26]. وقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة:213].
وهو كذلك مسئولية عظيمة، وغوائله كثيرة، ولذلك امتنع عنه كثير من السلف وحذروا منه، فقد امتنع منه أبو حنيفة والشافعي وخلق كثير.
قال مكحول: "لو خيرت بين القضاء وضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي ولَم أختر القضاء".
وقال الفضيل: "ينبغي للقاضي أن يكون يومًا في القضاء ويومًا في البكاء على نفسه".
ويكفي في التحذير من القضاء قوله ج: $القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة، ورجل عرف الحق، ولَم يقض به، وجار في الحكم فهو في النار، ورجل لَم يعرف الحق وقضى للناس على جهل فهو في النار# (3) .
__________
(1) معالم الدولة الإسلامية.
(2) المغني (9/34).
(3) حديث صحيح بشواهده: أخرجه أبو داود (3573) والترمذي (1323) والنسائي في الكبرى (5922) وابن ماجه (2315) والبيهقي(10/116)انظر إرواء الغليل (2614).(1/36)
ومن أجل حاجة الناس إليه أوجب الشارع على ولي الأمر تعيين القضاة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فطباع البشر مجبولة على الظلم ومنع الحقوق، والواجب على الإمام أن يفصل في الخصومات، وأن يحكم بين الناس بالعدل، ولا يكون ذلك إلا بتعيين القضاة العدول.
وهو من فروض الكفاية بإجماع المسلمين، فإن قام به من يصلح له، سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع أثموا جميعًا، وأجبر الإمام أحدهم عليه.
شروط القاضي:
ويشترط في القاضي أن يكون رجلاً عاقلاً بالغًا حرًّا مسلمًا عدلاً مجتهدًا سميعًا بصيرًا ناطقًا.
فلا ينبغي أن يولى الجاهل بالأحكام الشرعية، أو المقلد الذي يحفظ مذهب إمامه، ولا يتعداه إلى غيره إذا خالف الكتاب والسنة، فقد أمر سبحانه بالرد إلى الله ورسوله عند التنازع: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]. ولا يكون ذلك إلا بالاستنباط من الكتاب والسنة، وأمر تعالى أيضًا بلزوم الحق: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص:26]. والحق لا يتعين في مذهب بعينه (1) .
"فالقول باشتراط الاجتهاد للقاضي هو الحق، لاسيما وأن الاجتهاد في هذه الأعصار أسهل منه في الأعصار الخالية، لمن له في الدين همة عالية، ورزقه الله فهمًا صافيًا، وفكرًا صحيحًا، ونباهة في علمي السنة والكتاب، فإن الأحاديث في الأعصار الخالية كانت متفرقة في صدور الرجال، وعلوم اللغة في أفواه سكان البوادي ورءوس الجبال، فلا يحتاج طالب العلم في هذه الأعصار إلى الخروج من الوطن وإلى شد الرحال... فالعجب ممن يقول بتعذر الاجتهاد في هذه الأعصار وأنه محال" (2) .
__________
(1) انظر المغني (11/482).
(2) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للأمير الصنعاني (103-104).(1/37)
"فلا يخفى على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسره الله - عز وجل - للمتأخرين تيسيرًا لَم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دونت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنة المطهرة قد دونت.." (1) . وعرف صحيحها من سقيمها.
ولنقص العلم، وعدم أهلية الكثيرين، فيجوز أن يتبعض الاجتهاد، بأن يكون القاضي مجتهدًا في باب دون باب (2) . أو موضوع دون آخر، فيولي أحد القضاة عقود الأنكحة، والآخر الحكم في المداينات، والآخر النظر في العقار (3) .. هلم جرًّا.
"فأهلية الاجتهاد: تتوافر بمعرفة ما يتعلق بالأحكام من القرآن والسنة، ومعرفة الإجماع، والاختلاف، والقياس، ولسان العرب، ولا يشترط أن يكون الفقيه محيطًا بكل القرآن والسنة، ولا أن يحيط بجميع الأحاديث الواردة، ولا أن يكون مجتهدًا في كل المسائل، بل يكفي ما يتعلق بموضوع بحثه" (4) .
الثالثة: السلطة التنفيذية:
وهي الَّتِي تقوم بإدارة شئون الدولة، وتنفيذ الأحكام، وعقد المعاهدات، وغير ذلك، وتشمل هذه السلطة رئيس الدولة، والوزراء، وقواد الجيش، ورجال الشرطة، وسائر موظفي الدولة والمصالح الحكومية، "وتملك هذه السلطة الحق -عادة- في إصدار الأنظمة واللوائح التنظيمية ذات الصفة التشريعية التي تكون ضرورية لحسن سير عملها، وذلك بناء على تخويل يعطي لها بذلك، شريطة أن لا تكون مخالفة للتشريعات الأعلى (5) .
__________
(1) إرشاد الفحول للشوكاني (254).
(2) انظر مغني المحتاج للشربيني (4/377).
(3) انظر المغني (11/481).
(4) الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي (6/483-484).
(5) مقدمة إلى علم السياسة (176).(1/38)
"إن هذا التقسيم للسلطات لا يعني أنَّها أصبحت منفصلة عن بعضها، فالأصل أنَّها تمثل الحكومة العامة في الدولة، وبالتالي فإن الحديث عن أقسامها وأنواعها لا ينفي ضرورة وجود نوع من العلاقة بينها كأساس لاستمرار توحدها. إن الفصل بين هذه السلطات يهدف إلى تحقيق نوع من تقسيم العمل الحكومي بين أكثر من جهة، وذلك تحقيقًا لقدر من التخصص من ناحية، وتحقيقًا لنوع من التوازن بين هذه الجهات عن طريق أن تقوم كل منها برقابة أعمال الجهات الأخرى، والتعاون معها من ناحية ثانية، ويتم ذلك بأن تتولى السلطة التشريعية وظيفة التشريع ورسم السياسة العامة، بينما تقوم السلطة التنفيذية بتنفيذ ما تقره السلطة التشريعية، وما تحكم به السلطة القضائية التي تتولى أعمال القضاء" (1) .
FFFFF
الوزارة في الدولة الإسلامية
"والوزارة لَم تتمهد قواعدها، وتقرر قوانينها إلا في دولة بني العباس أما قبل ذلك، فلم تكن مقننة القواعد، ولا مقررة القوانين، بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجا والرأي، فكل منهم يجري مجرى وزير، فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسمي الوزير وزيرًا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبًا أو مشيرًا (2) .
وقسم العباسيون الوزارة إلى قسمين:
1- وزارة تفويض
وهي أن يستوزر الخليفة من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه واجتهاده، ويشترط فيه شروط الإمامة إلا القرشية، ومهامه كثيرة، وله ما للإمام من صلاحيات، غير أنه لا دخل له بولاية العهد، وليس له أن يعزل من قلده الإمام وظيفة.
2- وزارة تنفيذ
__________
(1) المرجع السابق (177).
(2) الفخري في الآداب السلطانية: (152).(1/39)
ومهمة هذه الوزارة تنفيذية، بحسب ما يوكل إلى صاحبها من مهمات، فيعتبر وسيط بين الخليفة وبين الولاة والأمراء والقضاة وبقية الموظفين، فيقوم بتنفيذ أوامر الخليفة، ويعرض عليه ما حدث من مهمات، ولا يشترط فيه ما يشترط لوزارة التفويض، المهم أن يكون مكلفًا أمينًا لا يخون ولا يغش، ذكيًّا فطنًا، صاحب حنكة وتجربة (1) .
"وأما الأمويون في الأندلس فقد أوجدوا لكل مصلحة وزيرًا، فللمال وزارة، وللمراسلات وزارة، وللمظالم كذلك، حتى الثغور كان لها وزير، وكان لكل وزير مكتب خاص يجلس فيه، وبين هؤلاء الوزراء والخليفة وزير يكون أعلى مرتبة عن سائر الوزراء يتميز عليهم بمرتبه ومكتبه وصلاحياته، أشبه ما يكون برئيس الوزراء اليوم" (2) .
مهما يكن فهذه الجزئيات أو تلك التفصيلات التي تختلف باختلاف الأمم أو الأزمنة أو الأمكنة سكت عنها الإسلام، ليكون المسلمون في سعة من أمرهم، فهي محل اجتهاد لتحقيق المصلحة، وإنَّما نص الإسلام على المبادئ الثابتة والقواعد الكلية التي ينبغي أن تعتمد عليها نظم كل حكومة عادلة، ولا تختلف فيها أمة عن أمة.
FFFFF
ملحق فتاوى السياسة الشرعية
1- من فتاوى شيخ أهل السنة مفتي المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س1: سماحة الشيخ هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير، وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد، والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟
جـ1: بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بِهداه، أما بعد:
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية للماوردي (25-30) وأبي يعلى (32) النهج المسلوك (82).
(2) انظر مذكرة النظام السياسي في الإسلام للدكتور سيد نعمان السامرائي (103).(1/40)
فقد قال الله - عز وجل - : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
فهذه الآية نص في وجوب طاعة أولي الأمر وهم الأمراء والعلماء، وقد جاءت السنة الصحيحة عن رسول الله ج تبين أن هذه الطاعة لازمة وهي فريضة في المعروف.
والنصوص من السنة تبين المعنى، وتفيد الآية بأن المراد طاعتهم بالمعروف، فيجب على المسلمين طاعة ولاة الأمور في المعروف، لا في المعاصي، فإذا أمروا بالمعصية فلا يطاعون في المعصية، لكن لا يجوز الخروج عليهم بأسبابِها؛ لقوله ج: $ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينْزعن يدًا من طاعة#. و$من خرج من الطاعة وفارق الجماعات فمات، مات ميتة جاهلية#. وقال ج: $على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بِمعصية، فإن أمر بِمعصية فلا سمع ولا طاعة#.
وسأل الصحابة -لما ذكر أنه يكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون- قالوا: فما تأمرنا؟ قال: $أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم#.
قال عباد بن الصامت - رضي الله عنه - : بايعنا رسول الله ج على الطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهل. وقال: $إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان#.(1/41)
فهذا يدل على أنَّهم لا يجوز لهم منازعة ولاة الأمور ولا الخروج عليهم إلا أن يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، وما ذاك إلا لأن الخروج على ولاة الأمور يسبب فسادًا كبيرًا، وشرًّا عظيمًا، فيختل به الأمن، وتضيع الحقوق، ولا يتيسر ردع الظالم، ولا نصر المظلوم، وتختل السبل، ولا تأمن، فيترتب على الخروج على ولاة الأمور فساد عظيم، وشر كثير، إلا إذا رأى المسلمون كفرًا بواحًا عندهم من الله فيه برهان، فلا بأس أن يخرجوا على هذا السلطان لإزالته إذا كان عندهم قدرة، أما إذا لَم يكن عندهم قدرة فلا يخرجوا، أو كان الخروج يسبب شرًّا أكثر، فليس لهم الخروج، رعاية للمصالح العامة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها "أنه لا يجوز إزالة الشر بِما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بِما يزيله أو يخففه" وأما درء الشر بشر أكثر، فلا يجوز بإجماع المسلمين.
فإذا كانت هذه الطائفة التي تريد إزالة هذا السلطان الذي فعل كفرًا بواحًا، وعندها قدرة تزيله بِها وتضع إمامًا صالِحًا طيبًا من دون أن يترتب على هذا فساد كبير على المسلمين وشر أعظم من شر هذا السلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير، واختلال الأمن، وظلم الناس، واغتيال من لا يستحق الاغتيال إلى غير هذا من الفساد العظيم، فهذا لا يجوز، بل يجب الصبر، والسمع والطاعة في المعروف، ومناصحة ولاة الأمور، والدعوة لهم بالخير، والاجتهاد في تخفيف الشر وتقليله، وتكثير الخير، هذا هو الطريق السوي الذي يجب أن يسلك؛ لأن في ذلك مصالح للمسلمين عامة؛ ولأن في ذلك تقليل الشر وتكثير الخير، ولأن في ذلك حفظ الأمن، وسلامة المسلمين من شر أكثر، نسأل الله للجميع التوفيق والهداية.
FFFFF(1/42)
س2: سماحة الوالد: نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ولكن هناك -للأسف- من أبناء أهل السنة والجماعة من يرى هذا فكرًا انْهزاميًّا، وفيه شيء من التخاذل، وقد قيل هذا الكلام..لذلك يدعون الشباب إلى تبني العنف في التغيير؟.
جـ2: هذا غلط من قائله وقلة فهم؛ لأنَّهم ما فهموا السنة، ولا عرفوها كما ينبغي، وإنَّما تحملهم الحماسة والغيرة لإزالة المنكر على أن يقعوا في ما يخالف الشرع كما وقعت الخوارج والمعتزلة، حملهم حب نصر الحق أو الغيرة للحق، حملهم ذلك على أن وقعوا في الباطل حتى كفَّروا المسلمين بالمعاصي، أو خلدوهم في النار بالمعاصي كما تفعل المعتزلة.
فالخوارج كفروا بالمعاصي وخلدوا العصاة في النار، والمعتزلة وافقوهم في العاقبة وأنَّهم في النار مخلدون فيها، ولكن قالوا: إنَّهم في الدنيا في منْزلة بين المنْزلتين. وكله ضلال، والذي عليه أهل السنة هو الحق: أن العاصي لا يكفر بِمعصيته ما لَم يستحلها.
فإذا زنا لا يكفر، وإذا سرق لا يكفر، وإذا شرب الخمر لا يكفر، ولكن يكون عاصيًا ضعيف الإيْمان فاسقًا، تقام عليه الحدود، ولا يكفر بذلك إلا إذا استحل المعصية، وقال: إنَّها حلال. وما قاله الخوارج في هذا باطل، وتكفيرهم للناس باطل، ولهذا قال فيهم النَّبِي ج إنَّهم: $يمرقون من الإسلام ثم لا يعودون فيه#. يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
هذه حال الخوارج بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، فلا يليق بالشباب ولا غير الشباب أن يقلدوا الخوارج والمعتزلة.(1/43)
بل يجب أن يسيروا على مذهب أهل السنة والجماعة على مقتضى الأدلة الشرعية، فيقفون مع النصوص كما جاءت، وليس لهم الخروج على السلطان من أجل معصية أو معاصٍ وقعت منه، بل عليهم المناصحة بالمكاتبة والمشافهة، بالطرق الطيبة الحكيمة، بالجدال بالتي هي أحسن حتى ينجحوا، وحتى يقل الشر، أو يزول، ويكثر الخير، هكذا جاءت النصوص عن رسول الله ج والله - عز وجل - يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
FFFFF
س3: لو افترضنا أن هناك خروجًا شرعيًّا لدى جماعة من الجماعات، هل هذا يبرر قتل أعوان هذا الحاكم وكل من يعمل في حكومته مثل الشرطة والأمن وغيرهم؟.
جـ3: سبق أن أخبرتك أنه لا يجوز الخروج على السلطان إلا بشرطين:
أحدهما: وجود كفر بواح عندهم من الله فيه برهان.
والشرط الثاني: القدرة على إزالة الحاكم إزالة لا يترتب عليها شر أكبر، وبدون ذلك لا يجوز.
FFFFF
س4: يظن البعض من الشباب أن مجافاة الكفار ممن هم مستوطنون في البلاد الإسلامية أو من الوافدين من الشرع، ولذلك يستحل البعض قتلهم إذا رأوا منهم ما ينكرون؟.
جـ4: لا يجوز قتل الكافر المستأمن الذي أدخلته الدولة آمنًا، ولا قتل العصاة ولا التعدي عليهم بل يحالون للحكم الشرعي، هذه مسائل يحكم فيها بالحكم الشرعي.
FFFFF
س5: وإذا لم توجد محاكم شرعية؟.(1/44)
جـ5: إذا لَم توجد محاكم شرعية، فالنصيحة فقط، النصيحة لولاة الأمور، وتوجيههم للخير، والتعاون معهم حتَّى يحكموا شرع الله، أما أن الآمر والناهي يمد يده أو يقتل أو يضرب فلا يجوز، لكن يتعاون مع ولاة الأمور بالَّتِي هي أحسن حتَّى يحكموا شرع الله في عباد الله، وإلا فواجبه النصح، وواجبه التوجيه إلى الخير، وواجبه إنكار المنكر بالَّتِي هي أحسن، هذا هو واجبه، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]. ولأن إنكاره باليد بالقتل أو الضرب يترتب عليه شر أكثر وفساد أعظم بلا شك ولا ريب لكل من سبر هذه الأمور وعرفها.
FFFFF
س6: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالذات التغيير باليد حق للجميع أم أنه حق مشروط لولي الأمر أو من يعينه ولي الأمر؟.
جـ6: التغيير للجميع، والرسول ج يقول: $من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لَم يستطع فبلسانه، فإن لَم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيْمان#. لكن التغيير باليد لابد أن يكون عن قدرة لا يترتب عليه فساد أكبر وشر أكثر، فليغير باليد في بيته: على أولاده، على زوجته، على خدمه، أو موظف في الهيئة المختصة معطاة له صلاحيات، يغير بيده، وإلا فلا يغير شيئًا بيده ليس له فيه صلاحية؛ لأنه إذا غير بيده يترتب ما هو أكثر شرًّا، ويترتب بلاء كثير، وشر عظيم بينه وبين الناس، وبينه وبين الدولة، ولكن يغير باللسان كأن يقول: "اتق الله يا فلان هذا لا يجوز" "هذا حرام عليك"، "هذا واجب عليك". يبين له بالأدلة الشرعية باللسان، أما باليد فيكون في محل الاستطاعة في بيته، فيمن تحت يده، فيمن أذن له من جهة السلطان أن يأمر بالمعروف كالهيئات التي يأمرها السلطان، ويعطيها الصلاحيات، يغيرون بقدر الصلاحيات التي أعطوها على الوجه الشرعي الذي شرعه الله، لا يزيدون عليه.
FFFFF(1/45)
س7: هناك من يرى -حفظك الله- أن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر كالمرور والجمارك والجوازات ... إلخ. باعتبار أنَّها ليست على أساس شرعي، فما قولكم -حفظكم الله-؟.
جـ7: هذا باطل ومنكر، وقد تقدم أنه لا يجوز الخروج، ولا التغيير باليد، بل يجب السمع والطاعة في هذه الأمور التي ليس فيها منكر، بل نظمها ولي الأمر لمصالح المسلمين، يجب الخضوع لذلك والسمع والطاعة في ذلك؛ لأن هذا من المعروف الذي ينفع المسلمين، وأما الشيء الذي هو منكر، ضريبة يرون أنَّها غير جائزة، هذه يراجع فيها ولي الأمر بالنصيحة، بالدعوة إلى الله، وبالتوجيه إلى الخير، لا بيده، يضرب هذا، أو يسفك دم هذا، أو يعاقب هذا بدون حجة ولا برهان..لا، لابد أن يكون عنده سلطان من ولي الأمر، يتصرف به حسب الأوامر التي لديه، وإلا فحسبه النصيحة والتوجيه، إلا فيما هو تحت يديه من أولاد وزوجات، ونحو ذلك ممن له السلطة عليهم.
FFFFF
س8: هل من مقتضى البيعة -حفظك الله- الدعاء لولي الأمر؟.
جـ8: من مقتضى البيعة النصح لولي الأمر، ومن النصح: الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ لأن من أساب صلاح الوالي، ومن أسباب توفيق الله له أن يكون له وزير صدق يعينه على الخير، ويذكره إذا نسي، ويعينه إذا ذكر، هذه من أسباب توفيق الله له.
فالواجب على الرعية وعلى أعيان الرعية التعاون مع ولي الأمر في الإصلاح وإماتة الشر والقضاء عليه، وإقامة الخير، بالكلام الطيب والأسلوب الحسن والتوجيهات السديدة التي يرجى من ورائها الخير دون الشر، وكل عمل يترتب عليه شر أكثر من المصلحة لا يجوز؛ لأن المقصود من الولايات كلها تحقيق المصالح الشرعية ودرء المفاسد، فأي عمل يعمله الإنسان يريد به الخير، ويترتب عليه ما هو أشر مما أراد إزالته وما هو أنكر منه، لا يجوز له.
FFFFF
س9: ومن يمتنع عن الدعاء لولي الأمر -حفظك الله-؟.(1/46)
جـ9: هذا من جهله، وعدم بصيرته، الدعاء لولي الأمر من أعظم القربات، ومن أفضل الطاعات، ومن النصيحة لله ولعباده، والنبي ج لما قيل له: إن دوسًا عصت قال: $ اللهم اهد دوسًا وأت بِهم، اللهم اهد دوسًا وأت بِهم #. يدعو للناس بالخير، والسلطان أولى من يدعى له؛ لأن صلاحه صلاح للأمة، فالدعاء له من أهم الدعاء، ومن أهم النصح أن يوفق للحق، وأن يعان عليه، وأن يصلح الله له البطانة، وأن يكفيه الله شر نفسه، وشر جلساء السوء، فالدعاء له بأسباب التوفيق والهداية، وبصلاح القلب والعمل من أهم المهمات، ومن أفضل القربات.
FFFFF
س10: ما حكم سن القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بِها؟ وهل يكفر الحاكم بسنه لهذه القوانين؟.
جـ10: إذا كان القانون يوافق الشرع فلا بأس، إذا سن قانونًا في شأن الطريق، في شأن الشوارع، في غير ذلك من الأشياء التي تنفع الناس، وليس فيها مخالفة للشرع، ولكن لتنفيذ الأمور فلا بأس بِها.
أما القوانين التي تخالف الشرع فلا، إذا سن قانونًا معناه أنه لا حد على الزاني، ولا حد على السارق، ولا حد على شارب الخمر، فهذا باطل، وهذه القوانين باطلة، وإذا استحلها الوالي كفر، إذا قال إنَّها حلال، ولا بأس بِها، فهذا يكون كفرًا "من استحل ما حرم الله كفر".
FFFFF
س11: كيف نتعامل مع هذا الوالي؟.
جـ11: نطيعه في المعروف، وليس في المعصية، حتى يأتي الله بالبديل (1) .
FFFFF
2- من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
__________
(1) انظر مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري على ضوء الكتاب والسنة" للدكتور الفاضل عبد الله بن مُحمَّد الرفاعي -حفظه الله تعالى-.(1/47)
س1: هناك حيرة عند كثير من الشباب في كيفية مواجهة المنكرات المنتشرة في كثير من الدول الإسلامية، أيواجهونَها بالعنف، كما يصنع بعض الشباب، أم يواجهونَها بأسلوب آخر، فلا يجدون الاستجابة، خاصة في بعض الدول الإسلامية التي لا تحكم شرع الله بالطريقة المطلوبة، فما رأي فضيلتكم في توجيه هؤلاء الشباب؟.
جـ1: الذي أرى أن يبدءوا أولاً بعرض الإسلام على حقيقته بعقائده، وأعماله، وأخلاقه، وأن لا يهاجموا هؤلاء مهاجمة توجب نفورهم، وفيما أعتقد أن الإسلام إذا عرض على الوجه الصحيح أن الفطر تقبله، مهما كان الأمر؛ لأن الدين الإسلامي موافق للفطرة السليمة، أما مهاجمة الإنسان بِما هو عليه من أزمنة قديمة وما عليه آباؤه وأجداده، فهذا يوجب النفور والكراهية لما يدعو إليه من الحق، ولهذا قال الله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام:108]. فلذا أرى لإخوتي الدعاة في مجتمع كهذا أن يحرصوا على بيان الحق على ما هو عليه، وبيان الباطل على ما هو عليه، دون أن يهاجموا هؤلاء مهاجمة مباشرة في أعمالهم.
FFFFF
س2: هل هناك نصوص في كتاب الله وسنة نبيه ج فيها إباحة تعدد الجماعات الإسلامية؟.
جـ2: ليس في الكتاب ولا في السنة ما يبيح تعدد الجماعات والأحزاب، بل إن في الكتاب والسنة ما يذم ذلك، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وقال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32].(1/48)
ولا شك أن هذه الأحزاب تنافي ما أمر الله به، بل ما حث الله عليه في قوله: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52]. ولاسيما حينما ننظر إلى آثار هذا التفرق والتحزب حيث كان كل حزب وكل فريق يرمي الآخر بالتشنيع والسب والتفسيق، وربما بِما هو أعظم من ذلك، لذلك فإنني أرى أن هذا التحزب خطأ.
FFFFF
س3: هل لتعدد الجماعات الإسلامية في الساحة أثر سلبي أم أنَّها ظاهرة صحية؟.
جـ3: تعدد الجماعات ظاهرة مرضية، وليس ظاهرة صحية، والذي أرى أن تكون الأمة الإسلامية حزبًا واحدًا، ينتمي إلى كتاب الله وسنة رسوله ج ، ولست أريد بذلك أن أجبر الناس أن يتحدوا على رأي واحد؛ لأن هذا شيء غير ممكن، والخلاف في الرأي موجود حتى في عهد الصحابة - رضي الله عنهم - وحتى في حياة الرسول -عليه الصلاة والسلام- فالذين قال لهم الرسول -عليه الصلاة والسلام-: $ لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة # (1) . وخرجوا من المدينة وأدركتهم الصلاة، انقسموا في فهم هذا النص، فمنهم من رأى أن يؤخر الصلاة حتى يصل إلى بني قريظة، وإن خرج الوقت، ومنهم من رأى أن يصلي الصلاة في وقتها، وإن لَم يصل إلى بني قريظة، وبلغ ذلك رسول الله ج ، ولَم يعنف أحدًا منهم.
__________
(1) متفق عليه: البخاري (946)، ومسلم (1770).(1/49)
المهم: أن الخلاف في الرأي موجود، لكن الخلاف في الاتجاه هو الذي يُخشى منه، بمعنى أن كل واحد منا يعتقد بأنه على منهج مخالف عن منهج أخيه، بحيث يتكلم في أخيه ويسبه، وربما يخرجه من الإسلام؛ لأنه لَم يكن على طريقته، هذا هو الذي يُخشى منه، كما هو الواقع من بعض الناس اليوم، تجده إذا خالفه أحد في رأيه وقد يكون الرأي الصواب مع مخالفه، تجده يهاجمه ويسبه في كل فرصة يتمكن فيها من سبه ومهاجمته، وهذا لا شك خلاف طريق المؤمنين، فالمؤمنون إخوة مؤتلفون وإن اختلفوا في الرأي، بل إني أقول: إن الاختلاف في الرأي إذا كان مبنيًّا على الدليل، فليس اختلافًا في الحقيقة؛ لأن كلاًّ من المختلفين إنَّما يريد العمل بالدليل، فهم متفقون في الواقع، لكنهم مختلفون في فهم هذا الدليل، وهذا الاختلاف في الفهم أمر موجود في بني آدم، ولا يضر، ولا يؤدي إلى اختلاف القلوب مع حسن النية.
FFFFF
س4: نشاهد في هذا الوقت كثرة الحديث عن الجماعات الإسلامية التي تدعو إلى الله - عز وجل - ، فأي هذه الجماعات نتبعها؟ وما موقف المسلم من اختلاف الجماعات؟.
جـ4: والله موقفي أنا من هذا أنه أمر مؤلم ومؤسف، ويخشى أن هذه النهضة والصحوة الإسلامية تعود فتخمد، وتتحطم وتشل؛ لأن الناس إذا تفرقوا، كانوا كما قال الله - عز وجل - : {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
إذا تفرقوا وتنازعوا فشلوا أو خسروا، وذهب ريحهم، ولن يكون لهم وزن.
وأعداء الإسلام -ممن يتسمون بالإسلام ظاهرًا، أو ممن هم أعداء له ظاهرًا وباطنًا- يفرحون بِهذه التفرقة، وهم يوقدون نارها، ويأتون إلى هذا ويقولون: هذا فيه كذا، وهذا فيه كذا. يلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الإخوة الدعاة إلى الله - عز وجل - .(1/50)
وأما قوله: أي هذه الطوائف أفضل؟ فأنا إذا قلت: إن الطائفة الفلانية أفضل، فهذا إقرار لهذا التفرق، وأنا لا أقره، وأرى أن الواجب أن ننظر في أمرنا نظرة صدق وإخلاص لله - عز وجل - ، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن نكون يدًا واحدة، والحق والحمد لله بين. الحق لا يخفى إلى على أحد رجلين، إما معرض، وإما مستكبر، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد، فإنه لا شك سيوفق له.
FFFFF
س5: هل يجوز أن يكون في عنق الشخص بيعتان: بيعة للوالي وبيعة لزعيم الحزب؟.
جـ5: لا يجوز للإنسان أن يكون في عنقه بيعتان، بيعة لولي الأمر العام في البلد، وبيعة لرئيس الحزب الذي ينتمي إليه، وقول النَّبِي ج في المسافرين: $إذا خرج ثلاثة في سفر ليؤمروا أحدهم#. لا يعني ذلك أنَّهم يعطونه بيعة، ولكن ذلك يعني أنه لابد للجماعة من شخص، تكون له الكلمة عليهم حتى لا تختلف، وهذا مما يدل على أن الاختلاف ينبغي أن نسد بابه بكل طريقة.
FFFFF
س6: بعض الحكومات تدعو إلى التعددية الحزبية، بل إن النظام نفسه يتبنى واحدًا من هذه الأحزاب، ونجد أن هذا الحزب والذي تتبناه الحكومة يدافع دفاعًا مستميتًا عن نظام الحكم، وهذا النظام لا يطبق الشريعة الإسلامية، علمًا بأن الحزب فيه أفراد مسلمون وأفراد غير مسلمين؟.
جـ6: الواجب على الدولة أن تتبنى حزبًا واحدًا فقط، ألا وهو حزب الله - عز وجل - المتكفل بتحكيم الشريعة الإسلامية في كل الأمور، في العبادات التي هي علاقة الإنسان بربه، وفي المعاملات بين الخلق سواء كانت فيما يتعلق بالأسرة، أو مما يتعلق بالجوانب الأخرى الاقتصادية والحربية وغير ذلك.
هذا الواجب على كل حكومة تحكم بلدًا إسلامية؛ لأن المسلمين فوضوا أمرهم إلى هذه الحكومة مشترطين بألسنتهم أو بأحوالهم أن تطبق هذه الحكومة شريعة الله؛ لأن الشعب المسلم لا يريد إلا أن يكون الإسلام هو المرجع الوحيد.(1/51)
فالواجب على الحكومة في أي بلد من البلاد الإسلامية الرجوع إلى الكتاب والسنة، وتوحيد الأحزاب السياسية وغير السياسية على حزب واحد، وهو حزب الله المنفذ لشريعة الله، والحزب الواحد وهو حزب الله لن يضر بالأمة الإسلامية مثل ما يحصل من التعدد الحزبي، وقد أشار الله - عز وجل - في القرآن الكريم إلى أن التعدد والتنازع هو سبب الفشل فقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
FFFFF
س7: ما حكم الإضراب عن العمل في بلد مسلم للمطالبة بإسقاط النظام العلماني؟
جـ7: هذا السؤال لا شك أن له خطورته بالنسبة لتوجيه الشباب المسلم، وذلك أن قضية الإضراب عن العمل سواء كان هذا العمل خاصًّا أو بالمجال الحكومي لا أعلم له أصلاً من الشريعة ينبني عليه، ولا شك أنه يترتب عليه أضرار كثيرة حسب حجم هذا الإضراب شمولاً، وحسب حجم هذا الإضراب ضرورة، ولا شك أيضًا أنه من أساليب الضغط على الحكومات، والذي جاء في السؤال أن المقصود به إسقاط النظام العلماني، وهنا يجب علينا إثبات أن النظام علماني أولاً، ثم إذا كان الأمر كذلك، فليعلم أن الخروج على السلطة لا يجوز إلا بشروط، بيَّنَها النَّبِي ج ، كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: $بايعنا رسول الله ج على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان#.
الشرط الأول: أن تروا بمعنى أن تعلموا علمًا يقينًا بأن السلطة ارتكبت كفرًا.
الشرط الثاني: أن يكون الذي ارتكبته السلطة كفرًا، فأما الفسق فلا يجوز الخروج عليهم بسببه مهما عظم.
الشرط الثالث: بواحًا أي معلنًا صريحًا لا يحتمل التأويل.(1/52)
الشرط الرابع: عندكم فيه من الله برهان، أي مبني على برهان قاطع من دلالة الكتاب والسنة أو إجماع الأمة، فهذه أربعة شروط.
والشرط الخامس: يؤخذ من الأصول العامة من الدين الإسلامي، وهو قدرة هؤلاء المعارضين على إسقاط السلطة؛ لأنه إذا لَم يكن لديهم قدرة انقلب الأمر عليهم لا لهم، فصار الضرر أكبر بكثير من الضرر المترتب على السكوت على هذه الولاية، حتَّى تقوى الجبهة الأخرى المطالبة لدين الإسلام.
فهذه الشروط الخمسة لابد منها لإسقاط الحكم العلماني في البلاد، فإذا تعين أن الإضراب يكون سببًا لإسقاط الدولة بعد أو لإسقاط الحكم بعد الشروط التي ذكرناها، فإنه يكون لا بأس به، وإذا تخلف شرط من الشروط الأربعة التي ذكرها الرسول ج ، والشرط الخامس الذي ذكرناه أن قواعد الشريعة تقتضيه، فإنه لا يجوز الإضراب ولا يجوز التحرك لإسقاط نظام الحكم.
FFFFF
س8: بعد الإضراب يقدم الذين أضربوا مطالبهم وفي حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب، هل يجوز مواجهة النظام بتفجير ثورة شعبية؟
جـ8: لا أرى أن تقام ثورة شعبية، في هذه الحال؛ لأن القوة المادية بيد الحكومة كما هو معروف، والثورة الشعبية ليس بيدها إلا سكين المطبخ وعصا الراعي، وهذا لا يقاوم الدبابات والأسلحة، لكن يمكن أن يتوصل إلى هذا من طريق آخر إذا تمت الشروط السابقة.(1/53)
ولا ينبغي أن نستعجل الأمر؛ لأن أي بلد عاش سنين طويلة مع الاستعمار لا يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها إلى بلد إسلامي؛ بل لابد أن نتخذ طول النفس لنيل المآرب، والإنسان إذا بنى قصرًا فقد أسس، سواء سكنه أو فارق الدنيا قبل أن يسكنه، فالمهم أن يبني الصرح الإسلامي وإن لَم يتحقق المراد إلا بعد سنوات فالذي أرى ألا نتعجل في مثل هذه الأمور، ولا أن نثير أو نفجر ثورة شعبية؛ لأن المسألة خطيرة، وتعرفون أن الثورة الشعبية غالبها غوغائية لا تثبت على شيء، لو تأتي القوات إلى حي من الأحياء، وتقضي على بعضه، لكان كل الآخرين يتراجعون عما هم عليه (1) .
FFFFF
من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
س1: فضيلة الشيخ، إضافة لحالة التردي، تعيش الأمة الإسلامية حالة اضطراب فكري، خصوصًا في ما يتعلق بالدين، فقد كثرت الجماعات والفرق الإسلامية التي تدعي أن نَهجها هو النهج الإسلامي الصحيح الواجب الاتباع، حتى أصبح المسلم في حيرة من أمره، أيها يتبع، وأيها على الحق؟.
جـ1: التفرق ليس من الدين؛ لأن الدين أمرنا بالاجتماع، وأن نكون جماعة واحدة، وأمة واحدة على عقيدة التوحيد وعلى متابعة الرسول ج ، يقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]. يقول تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وقال - سبحانه وتعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وهذا وعيد شديد على التفرق والاختلاف، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
__________
(1) انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات.(1/54)
فديننا دين الجماعة ودين الألفة والاجتماع، والتفرق ليس من الدين، فتعدد الجماعات هذا ليس من الدين؛ لأن الدين يأمرنا أن نكون جماعة واحدة والنبي ج يقول: $المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا#. ويقول: $مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد#.
فمعلوم أن البنيان وأن الجسد شيء واحد متماسك ليس فيه تفرق، لأن البنيان إذا تفرق سقط، كذلك الجسم إذا تفرق فقد الحياة، فلابد من الاجتماع، وأن نكون جماعة واحدة، أساسها التوحيد، ومنهجها دعوة الرسول ج ، ومسارها على دين الإسلام، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
فهذه الجماعات وهذا التفرق الحاصل على الساحة اليوم لا يقره دين الإسلام، بل ينهى عنه أشد النهي ويأمر بالاجتماع على عقيدة التوحيد، وعلى منهج الإسلام جماعة واحدة، وأمة واحدة كما أمرنا الله - سبحانه وتعالى - بذلك.
والتفرق وتعدد الجماعات إنَّما هو من كيد شياطين الجن والإنس لهذه الأمة، فما زال الكفار والمنافقون من قديْم الزمان يدسون الدسائس لتفريق الأمة، قال اليهود من قبل: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72]. أي يرجع المسلمون عن دينهم إذا رأوكم رجعتم عنه، وقال المنافقون: {لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7]. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:107].
FFFFF(1/55)
س2: فضيلة الشيخ، مما يتساهل به الناس قضية البيعة، فهناك من يرى جواز أخذ البيعة لجماعة من الجماعات مع وجود بيعة أخرى، وقد لا يكون "المبايع" في هذه الجماعات معروفًا لدواعي السرية، ما حكم هذا؟ ثم هل يختلف الحكم في بلاد الكفار، أو تلك التي لا تحكم بما أنزل الله؟.
جـ2: البيعة لا تكون إلا لولي أمر المسلمين، وهذه البيعات المتعددة مبتدعة وهي من إفرازات الاختلاف، والواجب على المسلمين الذين هم في ولاية واحدة، وفي مملكة واحدة أن تكون بيعتهم واحدة لإمام واحد، لا تجوز المبايعات المتعددة، وإنَّما هذا من إفرازات اختلافات هذا العصر، ومن الجهل بالدين.
وقد نَهى الرسول ج عن التفرق في البيعة وتعدد البيعة، وقال: $من جاءكم وأمركم جميع على واحد منكم، يريد تفريق جماعتكم فاضربوا عنقه#. فإذا وجد من ينازع ولي الأمر الطاعة، ويريد شق العصا، وتفريق الجماعة، فقد أمر النَّبِي ج ولي الأمر، وأمر المسلمين معه، بقتال هذا الباغي، قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات:9].
وقد قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعه أكابر الصحابة، قاتلوا الخوارج والبغاة، حتى قضوا عليهم، وأخمدوا شوكتهم، وأراحوا المسلمين من شرهم.
وهذه سنة الرسول ج فإنه أمر بقتال البغاة، وبقتال الخوارج الذين يريدون شق عصا الطاعة، وذلك من أجل الحفاظ على جماعة المسلمين، وعلى كيان المسلمين من التفرق والاختلاف.
س3: ما حكم من ينتمي إلى تلك الجماعات، خصوصًا تلك التي تقوم على السرية والبيعة؟(1/56)
جـ3: النَّبِي ج أخبرنا بحصول التفرق وأمرنا عند ذلك بالاجتماع، وأن نكون على ما كان عليه الرسول ج وأصحابه، قال ج: $افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة#. قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: $من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي#.
وقال ج لما طلب منه أصحابه الوصية: $أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بِها وعضوا عليها بالنواجذ#.
وهذا منهج يجب أن يسير عليه المسلمون إلى يوم القيامة، وهو أنه عند وجود الاختلاف، فإنَّهم يرجعون إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة في المنهج والدين والبيعة وغير ذلك.
FFFFF
س4: يرى البعض أن قيام هذه الجماعات لازم للقيام بالدعوة إلى الله خصوصًا في المجتمعات التي لا تكون شوكة الدين فيها ظاهرة؟.(1/57)
جـ4: الدعوة إلى الله مطلوبة وواجبة، قال - سبحانه وتعالى - : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:135]. ولكن ليس من منهج الدعوة أن يتفرق المسلمون، وأن تكون كل طائفة منهم تزعم لنفسها أنَّها على الحق، وأن غيرها ليس على حق، كما هو الواقع في هذه الجماعات اليوم، فالواجب على المسلم الذي عنده علم وقدرة أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتعاون مع الآخرين من غير أن تكون كل جماعة لها منهج مختص بِها يخالف الجماعة الأخرى، بل الواجب أن يكون المنهج واحدًا عند المسلمين، وأن يتعاونوا جميعًا، وأن يتشاوروا فيما بينهم، ولا حاجة إلى إيجاد جماعات ومناهج متفرقة ومتشتتة؛ لأن هذا يقضي على وحدة المسلمين وعلى كلمة المسلمين، ويسبب النِّزاع والخصام بين الناس، كما هو الواقع اليوم بين تلك الجماعات التي على الساحة في البلاد الإسلامية وغيرها، فليس من ضروريات الدعوة تكوين جماعة، إنَّما من ضروريات الدعوة أن من عنده علم، وعنده حكمة وعنده معرفة، أن يدعو إلى الله - عز وجل - ، ولو كان واحدًا، والدعاة إلى الله يجب أن يكون منهجهم واحدًا على الحق، ولو تفرقوا في مجالات عملهم في مختلف البلدان.
FFFFF
س5: فضيلة الشيخ، من الملاحظ اليوم بروز ظاهرة الغلو، واتجاه العامة للتجاوب مع هذا الغلو، ما السبيل للحد من هذه الظاهرة، ومن المسئول؟.
جـ5: النَّبِي ج حذر أمته من الغلو، قال -عليه الصلاة والسلام-: $إياكم والغلو فإنَّما أهلك من كان قبلكم الغلو#. وقال -عليه الصلاة والسلام-: $هلك المتنطعون#. قالها ثلاثًا، والمتنطعون: هم المتشددون المغالون في دينهم. قال - سبحانه وتعالى - : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُو فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [النساء:171]. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُو فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77].(1/58)
والواجب هو الاستقامة من غير غلو ومن غير تساهل، قال تعالى لنبيه ج ولأتباعه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا} [هود:112]. يعني لا تزيدوا ولا تتشددوا، فالمطلوب من المسلمين الاستقامة، وهي الاعتدال بين التساهل والتشدد، هذا هو منهج الإسلام، وهو منهج الأنبياء جميعًا، وهو الاستقامة على دين الله - سبحانه وتعالى - من غير تشدد ولا تنطع وغلو، ومن غير تساهل وتفسخ.
FFFFF
س6: مما يلاحظ على الثقافة الإسلامية المعاصرة اليوم أنه يشوبُها شيء من فكر بعض الفرق الضالة مثل الخوارج والمعتزلة، فتجد في بعضها تكفير المجتمعات والأفراد، وتسويغ العنف ضد العصاة والفساق من المسلمين، فما توجيهكم؟.
جـ6: هذا منهج خاطئ؛ لأن الإسلام ينهى عن العنف في الدعوة، يقول تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. ويقول لنبييه موسى وهارون -عليهما السلام- تجاه فرعون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]. والعنف يقابل العنف ولا يفيد إلا عكس المطلوب، وتكون آثاره على المسلمين سيئة.
فالمطلوب الدعوة بالحكمة، وبالتي هي أحسن، وباستعمال الرفق مع المدعوين، أما استعمال العنف مع المدعوين والتشدد والمهاترات، فهذا ليس من دين الإسلام، فالواجب على المسلمين أن يسيروا في الدعوة على منهج الرسول ج وعلى حسب توجيهات القرآن الكريم.
والتكفير له ضوابط شرعية، فمن ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام التي ذكرها علماء أهل السنة والجماعة حكم بكفره بعد إقامة الحجة عليه، ومن لَم يرتكب شيئًا من هذه النواقض، فليس بكافر، وإن ارتكب بعض الكبائر التي هي دون الشرك.
FFFFF
س7: هناك من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات المسلمة، لما فيها من فساد، ويرتب على هذا اللفظ ما تعرفون، فهل هذا الاتجاه صحيح يا فضيلة الشيخ؟.(1/59)
جـ7: الجاهلية العامة انتهت ببعثة الرسول ج ، ولله الحمد، وجاء الإسلام وجاء العلم، وجاء النور، وسيبقى ويستمر إلى يوم القيامة، فليس بعد بعثة النَّبِي ج جاهلية عامة، لكن تكون هناك بقايا من الجاهلية، لكنها جاهلية جزئية وجاهلية بمن قامت به، أما الجاهلية العامة فقد انتهت ببعثة الرسول ج ، ولن تعود إلى قيام الساعة.
أما وجود الجاهلية في بعض الأفراد، أو الجماعات، أو بعض المجتمعات، فهذا أمر واقع، لكنه جاهلية خاصة بمن وجدت فيه، وليست عامة.
فلا يجوز إطلاق الجاهلية على وجه العموم، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "اقتضاء الصراط المستقيم".
FFFFF
س8: فضيلة الشيخ، هناك للأسف من يسوغ الخروج على الحكومات دون الضوابط الشرعية، ما هو منهجنا في التعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم؟
جـ8: منهجنا في التعامل مع الحاكم المسلم السمع والطاعة، يقول الله - سبحانه وتعالى - : {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
والنبي ج كما مر في الحديث يقول: $ أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم يرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي #. هذا الحديث يوافق الآية تَمامًا.
ويقول ج: $من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني#. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في الحث على السمع والطاعة ويقول ج: $اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك#.
فولي أمر المسلمين يجب طاعته في طاعة الله، فإن أمر بمعصية فلا يطاع في هذا الأمر، يعني في أمر المعصية، لكنه يطاع في غير ذلك مما لا معصية فيه.(1/60)
وأما التعامل مع الحاكم الكافر، فهذا يختلف باختلاف الأحوال، فإن كان في المسلمين قوة وفيهم استطاعة لمقاتلته وتنحيته عن الحكم وإيجاد حاكم مسلم، فإنه يجب عليهم ذلك، وهذا من الجهاد في سبيل الله.
أما إذا كانوا لا يستطيعون إزالته، فلا يجوز لهم أن يتحرشوا بالظلمة والكفرة؛ لأن هذا يعود على المسلمين بالضرر والإبادة.
والنبي ج عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بعد البعثة، والولاية فيها للكفار، ومعه من أسلم من أصحابه ولَم ينازلوا الكفار، بل كانوا منهيين عن قتال الكفار في هذه الحقبة، ولَم يؤمروا بالقتال إلا بعدما هاجر ج ، وصار له دولة وجماعة، يستطيع بِهم أن يقاتل الكفار، هذا هو منهج الإسلام.
فإذا كان المسلمون تحت ولاية كافرة ولا يستطيعون إزالتها، فإنَّهم يتمسكون بإسلامهم وبعقيدتِهم، ولكن لا يخاطرون بأنفسهم ويغامرون في مجابَهة الكفار؛ لأن ذلك يعود عليهم بالإبادة والقضاء على الدعوة، أما إذا كانت لهم قوة يستطيعون بِها الجهاد، فإنَّهم يجاهدون في سبيل الله على الضوابط الشرعية المعروفة.
FFFFF
س9: هل المقصود بالقوة هنا القوة اليقينية أم الظنية ؟
جـ9: القوة معروفة فإذا تحققت فعلاً، وصار المسلمون يستطيعون القيام بالجهاد في سبيل الله عند ذلك يشرع جهاد الكفار، أما إذا كانت القوة مظنونة أو غير متيقنة، فإنه لا تجوز المخاطرة بالمسلمين والزج بِهم في مخاطرات قد تؤدي بِهم إلى النهاية غير الحميدة، وسيرة النَّبِي ج في مكة والمدينة خير شاهد على هذا.
FFFFF
س10: يزعم بعض الناس أن منهج أهل السنة والجماعة لَم يعد مناسبًا لهذا العصر، مستدلين بأن الضوابط الشرعية التي يراها أهل السنة والجماعة لا يمكن أن تتحقق اليوم ؟(1/61)
جـ10: الذي يرى أن منهج السلف الصالح لَم يعد صالِحًا لهذا الزمان، هذا يعتبر ضالاًّ مضلاًّ؛ لأن منهج السلف الصالح هو المنهج الذي أمرنا الله باتباعه حتَّى تقوم الساعة، يقول ج: $فإنه من يعش منكم فسوف يرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بِها وعضوا عليها بالنواجذ#. وهذا خطاب للأمة إلى أن تقوم الساعة، وهذا يدل على أنه لابد من السير على منهج السلف، وأن منهج السلف صالح لكل زمان ومكان، والله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100]. وهذا يشمل الأمة إلى أن تقوم الساعة، فالواجب عليها أن تتابع منهج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والإمام مالك بن أنس يقول:
$ لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بِما صلح أولها#.
فالذي يريد أن يعزل الأمة عن ماضيها، ويعزل الأمة عن السلف الصالح، يريد الشر بالمسلمين، ويريد تغيير هذا الإسلام، ويريد إحداث البدع والمخالفات، وهذا يجب رفضه، ويجب قطع حجته، والتحذير من شره؛ لأنه لابد من التمسك بمنهج السلف، والاقتداء بالسلف، ولابد من السير على منهج السلف، وذلك في كتاب الله - عز وجل - ، وفي سنة رسوله ج كما ذكرنا، فالذي يريد قطع خلف الأمة عن سلفها في الأرض يجب أن يرفض قوله، وأن يرد قوله، وإن يحذر منه، والذين عرف عنهم هذا القول السيئ لا عبرة بِهم.
FFFFF
س11: يلاحظ على بعض طلبة العلم التساهل في إطلاق لفظ الردة على المسلم، بل قد يطالب هذا البعض المسلمين بانتداب من يرون لإقامة حد الردة في المحكوم بردته عندهم إذا لَم يقم به السلطان؟.(1/62)
جـ11: إقامة الحدود من صلاحيات سلطان المسلمين، وليس لكل أحد أن يقيم الحد؛ لأن هذا يلزم منه الفوضى والفساد، ويلزم منه تفكك المجتمع، وحدوث الثارات، وحدوث الفتن، فالحدود من صلاحيات السلطان المسلم، يقول النَّبِي ج: $تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا أبلغت الحدود السلطان، فلعن الله الشافع والمشفع#. ومن وظائف السلطان في الإسلام، ومن صلاحياته إقامة الحدود بعدما ثبت شرعًا لدى المحاكم الشرعية على من وقع في جريمة رتب الشارع عليها حدًّا كحد الردة وحد السرقة..إلخ.
فالحاصل: أن إقامة الحدود من صلاحيات السلطان، وإذا لَم يكن هناك في المسلمين سلطان، فإنه يكتفي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - عز وجل - بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يجوز للأفراد أن يقيموا الحدود؛ لأن هذا كما ذكرنا يلزم منه الفوضى، ويلزم منه حدوث الثارات والفتن، وفيه مفسدة أعظم مما فيه من المصلحة، ومن القواعد الشرعية المسلم بِها: "أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
FFFFF
س12: فضيلة الشيخ من هو المرتد نرجو تحديده بشكل واضح، فقد يحكم بردة شخص لديه شبهة؟
جـ12: الحكم بالردة والخروج من الدين من صلاحيات أهل العلم الراسخين في العلم، وهم القضاة في المحاكم الشرعية والمفتون المعتبرون، وهي كغيرها من القضايا، وليس من حق كل أحد، أو من حق أنصاف المتعلمين أو المنتسبين إلى العلم الذين ينقصهم الفقه في الدين، ليس من صلاحياتِهم أن يحكموا بالردة؛ لأن هذا يلزم منه الفساد، وقد يحكمون على المسلم بالردة وهو ليس كذلك وتكفير المسلم الذي لَم يرتكب ناقضًا من نواقض الإسلام فيه خطورة عظيمة، ومن قال لأخيه: يا كافر أو يا فاسق، وهو ليس كذلك، فإن هذا الكلام يعود على قائله، فالذين يحكمون بالردة هم القضاة الشرعيون المفتون المعتبرون، والذين ينفذون هذا الحكم هم ولاة أمر المسلمين، وما عدا هذا فهو فوضى.
FFFFF(1/63)
س13: ماذا عن الحد تعزيرًا؟
جـ13: أحيانًا يصل التعزير إلى القتل، إذا رأى ولي أمر المسلمين أن هذا المفسد لا يمكن منع شره إلا بالقتل فإنه يقتله (1) .
FFFFF
__________
(1) انظر "مراجعات في فقه الواقع السياسي والفكري".(1/64)
فهرس الموضوعات
الموضوع ... الصفحة
مقدمة المؤلف ... 5
التعريف بالنظام السياسي في الإسلام ... 9
الإسلام دين ودولة ... 15
أين توجد مباحث النظام السياسي في الإسلام ؟ ... 24
مصادر النظام السياسي في الإسلام ... 26
F المصدر الأول: القرآن الكريم ... 26
F المصدر الثاني: الحديث الشريف والسيرة النبوية: ... 29
F المصدر الثالث: إجماع الأمة سيما الصحابة والخلفاء الراشدين ... 30
F المصدر الرابع: الاجتهاد: ... 31
سمات النظام السياسي في الإسلام ... 34
F السمة الأولى: نظام رباني: ... 34
F السمة الثانية: نظام أخلاقي: ... 36
F السمة الثالثة: نظام عقيدي: ... 42
F السمة الرابعة: نظام كامل شامل: ... 42
F السمة الخامسة: نظام العدالة والمساواة: ... 43
F السمة السادسة: نظام عالمي: ... 48
أهداف النظام السياسي في الإسلام ... 50
1- إقامة الدين وتحقيق العبودية لرب العالمين: ... 50
2- والهدف الثاني: إقامة العدل: ... 52
3- الهدف الثالث: إصلاح دنيا الناس: ... 52
قواعد النظام السياسي الإسلامي الشورى- الطاعة- العدل- الحرية ... 54
F أولاً: الشورى: ... 54
حكم الشورى: ... 56
نظام الشورى: ... 57
بين الشورى والديْمقراطية: ... 57
F ثانيًا: السمع والطاعة والتقيد بالأنظمة والقوانين: ... 58
F ثالثًا: العدل والمساواة: ... 68
F رابعًا: الحرية: ... 68
حرية الدين والمعتقد: ... 69
الحرية السياسية: ... 70
حرية التفكير والرأي: ... 72
أركان الدولة الإسلامية ... 75
F الركن الأول: الحكم بما أنزل الله ... 76
أولاً: وجوب الحكم بما أنزل الله ... 77
ثانيًا: الحكم بغير ما أنزل الله ... 82
ثالثًا: الطريق إلى الحكم بما أنزل الله() ... 96
F الركن الثاني: أولو الأمر ... 112
1- مكانة أولي الأمر ... 113
2- وجوب الإمامة ... 120
3- شروط الإمام ... 125
4- طرق تولية ولي الأمر ... 135
5- تعدد الأئمة والسلاطين ... 149
6- قواعد تتعلق بالإمامة ... 152
( القاعدة الأولى: وجوب عقد البيعة وتحريم نقضها: ... 152
( القاعدة الثانية: جواز نصب المفضول مع وجود الفاضل ... 158
( القاعدة الثالثة: في الصبر على جور الأئمة: ... 159
((1/1)
القاعدة الرابعة: تَحريْم الخروج على أئمة الظلم والجور
بالثورات والانقلابات: ... 164
7- واجبات ولي الأمر أو وظائف الدولة ... 180
( من نصائح العلماء للملوك والسلاطين وجميع المسئولين: ... 186
( الدين والملك: ... 193
( أصول السياسة العادلة: ... 193
( الرهبة: ... 193
( سياسة الملك للأعوان والحاشية: ... 194
( تفقد الملك للرعية: ... 195
( الاهتمام بأمن السبل والمسالك: ... 195
( مساواة الملك نفسه مع الرعية: ... 196
( كيفية معاملة الملك للأخيار والأشرار من رعيته: ... 196
( رعاية العلم ومراعاة العلماء: ... 196
حقوق ولي الأمر: الإخلاص والدعاء - التوقير والاحترام السمع
والطاعة - النصيحة - النصرة ... 198
( أولاً: الإخلاص والدعاء: ... 198
( ثانيًا: التوقير والاحترام: ... 201
( ثالثًا: السمع والطاعة: ... 204
( رابعًا: النصح والتقويم: ... 205
( خامسًا: النصرة: ... 213
F الركن الثالث من أركان الدولة الإسلامية (الشعب ) ... 216
أولاً: المسلمون: ... 216
1- لزوم جماعة المسلمين ... 216
2- حكم تكوين الأحزاب والجماعات داخل الدولة الإسلامية ... 219
ثانيًا: أهل الذمة: ... 228
( الذمة: هي العهد والأمان والضمان. ... 228
( ومن حقوق أهل الذمة: ... 229
( وواجبات أهل الذمة كثيرة منها: ... 231
ثالثًا: المستأمنون ... 232
F الركن الرابع : الإقليم ... 235
مناط الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام: ... 236
تحول دار الإسلام إلى دار كفر: ... 240
فتوى شيخ الإسلام -رحمه الله- في ماردين ... 243
أثر القوانين الوضعية في الحكم على الدار بالكفر أو الإسلام ... 246
السلطات السياسية في الإسلام مصدرها ومن يتولاها ... 258
تتنوع السلطات في السياسة الشرعية، والنظم الوضعية إلى
سلطات ثلاث: ... 258
( الأولى: السلطة التنظيمية "التشريعية": ... 258
( الثانية: السلطة القضائية: ... 260
شروط القاضي ... 262
( الثالثة: السلطة التنفيذية: ... 264
الوزارة في الدولة الإسلامية ... 266
تقسيم العباسيون الوزارة إلى قسمين: ... 266
1- وزارة تفويض ... 266
2- وزارة تنفيذ ... 266
F ملحق فتاوى السياسة الشرعية ... 268(1/2)
1- من فتاوى شيخ أهل السنة مفتي المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س1: سماحة الشيخ هناك من يرى أن اقتراف بعض الحكام للمعاصي والكبائر موجب للخروج عليهم ومحاولة التغيير، وإن ترتب عليه ضرر للمسلمين في البلد، والأحداث التي يعاني منها عالمنا الإسلامي كثيرة، فما رأي سماحتكم؟ ... 268
س2: سماحة الوالد: نعلم أن هذا الكلام أصل من أصول أهل السنة والجماعة، ولكن هناك -للأسف- من أبناء أهل السنة والجماعة من يرى هذا فكرًا انْهزاميًّا، وفيه شيء من التخاذل، وقد قيل هذا الكلام..لذلك يدعون الشباب إلى تبني العنف في التغيير؟. ... 270
س3: لو افترضنا أن هناك خروجًا شرعيًّا لدى جماعة من الجماعات، هل هذا يبرر قتل أعوان هذا الحاكم وكل من يعمل في حكومته مثل الشرطة والأمن وغيرهم؟. ... 272
س4: يظن البعض من الشباب أن مجافاة الكفار ممن هم مستوطنون في البلاد الإسلامية أو من الوافدين من الشرع، ولذلك يستحل البعض قتلهم إذا رأوا منهم ما ينكرون؟. ... 272
س5: وإذا لم توجد محاكم شرعية؟. ... 273
س6: هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالذات التغيير باليد حق للجميع أم أنه حق مشروط لولي الأمر أو من يعينه ولي الأمر؟. ... 273
س7: هناك من يرى -حفظك الله- أن له الحق في الخروج على الأنظمة العامة التي يضعها ولي الأمر كالمرور والجمارك والجوازات ... إلخ. باعتبار أنَّها ليست على أساس شرعي، فما قولكم -حفظكم الله-؟. ... 274
س8: هل من مقتضى البيعة -حفظك الله- الدعاء لولي الأمر؟. ... 275
س9: ومن يمتنع عن الدعاء لولي الأمر -حفظك الله-؟. ... 276
س10: ما حكم سن القوانين الوضعية؟ وهل يجوز العمل بِها؟ وهل يكفر الحاكم بسنه لهذه القوانين؟. ... 276
س11: كيف نتعامل مع هذا الوالي؟. ... 277
2- من فتاوى فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين(1/3)
س1: هناك حيرة عند كثير من الشباب في كيفية مواجهة المنكرات المنتشرة في كثير من الدول الإسلامية، أيواجهونَها بالعنف، كما يصنع بعض الشباب، أم يواجهونَها بأسلوب آخر، فلا يجدون الاستجابة، خاصة في بعض الدول الإسلامية التي لا تحكم شرع الله بالطريقة المطلوبة، فما رأي فضيلتكم في توجيه هؤلاء الشباب؟. ... 278
س2: هل هناك نصوص في كتاب الله وسنة نبيه ج فيها إباحة تعدد الجماعات الإسلامية؟. ... 279
س3: هل لتعدد الجماعات الإسلامية في الساحة أثر سلبي أم أنَّها ظاهرة صحية؟. ... 279
س4: نشاهد في هذا الوقت كثرة الحديث عن الجماعات الإسلامية التي تدعو إلى الله - عز وجل - ، فأي هذه الجماعات نتبعها؟ وما موقف المسلم من اختلاف الجماعات؟. ... 281
س5: هل يجوز أن يكون في عنق الشخص بيعتان: بيعة للوالي وبيعة لزعيم الحزب؟. ... 282
س6: بعض الحكومات تدعو إلى التعددية الحزبية، بل إن النظام نفسه يتبنى واحدًا من هذه الأحزاب، ونجد أن هذا الحزب والذي تتبناه الحكومة يدافع دفاعًا مستميتًا عن نظام الحكم، وهذا النظام لا يطبق الشريعة الإسلامية، علمًا بأن الحزب فيه أفراد مسلمون وأفراد غير مسلمين؟. ... 282
س7: ما حكم الإضراب عن العمل في بلد مسلم للمطالبة بإسقاط النظام العلماني؟ ... 284
س8: بعد الإضراب يقدم الذين أضربوا مطالبهم وفي حالة عدم الاستجابة لهذه المطالب، هل يجوز مواجهة النظام بتفجير ثورة شعبية؟ ... 285
3- من فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان
س1: فضيلة الشيخ، إضافة لحالة التردي، تعيش الأمة الإسلامية حالة اضطراب فكري، خصوصًا في ما يتعلق بالدين، فقد كثرت الجماعات والفرق الإسلامية التي تدعي أن نَهجها هو النهج الإسلامي الصحيح الواجب الاتباع، حتى أصبح المسلم في حيرة من أمره، أيها يتبع، وأيها على الحق؟. ... 287(1/4)
س2: فضيلة الشيخ، مما يتساهل به الناس قضية البيعة، فهناك من يرى جواز أخذ البيعة لجماعة من الجماعات مع وجود بيعة أخرى، وقد لا يكون "المبايع" في هذه الجماعات معروفًا لدواعي السرية، ما حكم هذا؟ ثم هل يختلف الحكم في بلاد الكفار، أو تلك التي لا تحكم بما أنزل الله؟. ... 288
س3: ما حكم من ينتمي إلى تلك الجماعات، خصوصًا تلك التي تقوم على السرية والبيعة؟ ... 290
س4: يرى البعض أن قيام هذه الجماعات لازم للقيام بالدعوة إلى الله خصوصًا في المجتمعات التي لا تكون شوكة الدين فيها ظاهرة؟. ... 290
س5: فضيلة الشيخ، من الملاحظ اليوم بروز ظاهرة الغلو، واتجاه العامة للتجاوب مع هذا الغلو ما السبيل للحد من هذه الظاهرة ومن المسئول؟ ... 291
س6: مما يلاحظ على الثقافة الإسلامية المعاصرة اليوم أنه يشوبُها شيء من فكر بعض الفرق الضالة مثل الخوارج والمعتزلة، فتجد في بعضها تكفير المجتمعات والأفراد، وتسويغ العنف ضد العصاة والفساق من المسلمين، فما توجيهكم؟. ... 292
س7: هناك من يطلق لفظ الجاهلية على المجتمعات المسلمة، لما فيها من فساد، ويرتب على هذا اللفظ ما تعرفون، فهل هذا الاتجاه صحيح يا فضيلة الشيخ؟. ... 293
س8: فضيلة الشيخ، هناك للأسف من يسوغ الخروج على الحكومات دون الضوابط الشرعية، ما هو منهجنا في التعامل مع الحاكم المسلم وغير المسلم؟ ... 294
س9: هل المقصود بالقوة هنا القوة اليقينية أم الظنية ؟ ... 296
س10: يزعم بعض الناس أن منهج أهل السنة والجماعة لَم يعد مناسبًا لهذا العصر، مستدلين بأن الضوابط الشرعية التي يراها أهل السنة والجماعة لا يمكن أن تتحقق اليوم ؟ ... 296
س11: يلاحظ على بعض طلبة العلم التساهل في إطلاق لفظ الردة على المسلم، بل قد يطالب هذا البعض المسلمين بانتداب من يرون لإقامة حد الردة في المحكوم بردته عندهم إذا لَم يقم به السلطان؟. ... 297
س12: فضيلة الشيخ من هو المرتد نرجو تحديده بشكل واضح، فقد يحكم بردة شخص لديه شبهة؟ ... 298(1/5)
س13: ماذا عن الحد تعزيرًا؟ ... 299
فهرس الموضوعات ... 303
فهرس المراجع ... 314(1/6)
مسرد المراجع
1- ... الآداب الشرعية -لابن مفلح- تحقيق شعيب الأرناؤوط-مؤسسة الرسالة.
2- ... الأحكام السلطانية -للقاضي أبي يعلى الفراء (ت458هـ) صححه وعلق عليه مُحمَّد حامد الفقي -دار الكتب العلمية- بيروت.
3- ... الأحكام السلطانية -للماوردي- دار الكتب العلمية.
4- ... أحكام القرآن -لابن العربي- دار الجيل- بيروت.
5- ... أحكام القرآن -للجصاص.
6- ... أحكام القرآن –للشافعي- دار الكتب العلمية- بيروت.
7- ... أضواء البيان –للشنقيطي.
8- ... إرشاد النقاد لتيسير الاجتهاد -للأمير الصنعاني.
9- ... إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل -للشيخ المحدث مُحمَّد ناصر الدين الألباني.
10- ... الإسلام عقيدة وشريعة -الشيخ محمود شلتوت- دار الشروق- القاهرة.
11- ... إعلام الموقعين -لابن قيم الجوزية- تحقيق عبد الرءوف سعد-دار الجيل- بيروت.
12- ... إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة- تأليف صديق حسن خان (ت1307هـ).
13- ... الأدلة الشرعية في بيان حق الراعي والرعية -تأليف الشيخ مُحمَّد بن عبد الله بن سبيل - دار السلف- الرياض.
14- ... الاعتصام -للإمام الشاطبي- دار التراث العربي.
15- ... البحر المحيط -لأبي حيان الأندلسي - دار الكتاب الإسلامي - القاهرة.
16- ... البداية والنهاية -لابن كثير- دار الريان للتراث.
17- ... بدائع الفوائد للإمام ابن قيم الجوزية -تحقيق بشير عون- مكتبة المؤيد- الرياض.
18- ... بهجة النفوس شرح مختصر صحيح البخاري -لابن أبي جمة- دار الكتب العلمية.
19- ... البيعة -التكفير- النصيحة- بصائر في بلد الحرمين- للدكتور مُحمَّد عبد القادر هنادي- كتاب المسلمون.
20- ... تاريخ الخلفاء -للسيوطي- مكتبة الرياض الحديثة.
21- ... تاريخ بغداد –للخطيب البغدادي- دار الكتب العلمية.
22- ... التبر المسبوك في نصائح الملوك -للغزالي- تحقيق نعمان الصالح-دار الغاذرية- الرياض
23- ... التحذير من فتنة التكفير -للعلامة المحدث الشيخ مُحمَّد ناصر الدين الألباني- تعليق الشيخ على الحلبي -دار الراية- الرياض.(1/1)
24- ... تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام -لابن جماعة (733هـ) تحقيق د. فؤاد عبد المنعم- دار الثقافة- الدوحة.
25- ... تفسير الألوسي المسمى "روح المعاني".
26- ... تفسير أبي السعود -رئاسة إدارات البحوث العلمية.
27- ... تفسير الطبري- مكتبة ابن تيمية- القاهرة.
28- ... تفسير القرآن العظيم لابن كثير- دار الفكر- بيروت.
29- ... التمهيد -لابن عبد البر- تحقيق سعيد أحمد أعراب.
30- ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- للشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
31- ... جامع الأحكام الفقهية للإمام القرطبي من تفسيره-جمع فريد الجندي-دار الكتب العلمية.
32- ... جامع العلوم والحكم -لابن رجب الحنبلي- مكتبة الدعوة الإسلامية- شباب الأزهر.
33- ... الجامع لأحكام القرآن -للقرطبي- دار الكتاب العربي.
34- ... الحسبة في الإسلام لابن تيمية -تحقيق سيد مُحمَّد أبي سعدة -الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء -الرياض.
35- ... حكم الانتماء للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد.
36- ... الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير -تأليف خالد بن علي بن مُحمَّد العنبري، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض.
37- ... الحكم والتحاكم في خطاب الوحي-تأليف عبد العزيز مصطفى كامل-دار طيبة-الرياض.
38- ... حلية الأولياء -لأبي نعيم الأصبهاني- دار الكتاب العربي.
39- ... الدر المنثور في التفسير بالمأثور -للسيوطي -دار الكفر- بيروت.
40- ... الدرة الغراء في نصيحة السلاطين والقضاة والأمراء، تأليف محمود إسماعيل الخيربتي- مكتبة الباز- مكة المكرمة.
41- ... الدولة الإسلامية وسطلتها التشريعية -الدكتور حسن صبحي-مؤسسة الشباب- الإسكندرية.
42- ... روضة الطالبين-للنووي- إشراف زهير الشاويش- المكتب الإسلامي.
43- ... الروضة الندية شرح الدرر البهية -تأليف مُحمَّد صديق خان القنوجي- تخريج مُحمَّد صبحي حلاق- مكتبة الكوثر- الرياض.
44- ... زاد المعاد في هدي خير العباد-لابن قيم الجوزية-تحقيق شعيب الأرناؤوط-مؤسسة الرسالة.(1/2)
45- ... سبل السلام –للصنعاني- دار الكتاب العربي- بيروت.
46- ... سراج الملوك -لأبي بكر الطرطوشي (ت520هـ) دار الكتاب الإسلامي.
47- ... سلسلة الأحاديث الصحيحة -للشيخ المحدث مُحمَّد ناصر الدين الألباني.
48- ... سلسلة الأحاديث الضعيفة- للشيخ المحدث مُحمَّد ناصر الدين الألباني.
49- ... السنة لابن أبي عاصم -تحقيق الدكتور باسم فيصل الجوابرة، دار المعارف.
50- ... السنة لأبي بكر الخلال -دراسة وتحقيق الدكتور عطية الزهراني- دار الراية -الرياض.
51- ... سنن أبي داود -تعليق عزت دعاس- دار الحديث- بيروت.
52- ... سنن ابن ماجه -تحقيق مُحمَّد فؤاد عبد الباقي -المكتبة العلمية- بيروت.
53- ... سنن الترمذي -تحقيق أحمد شاكر- دار الكتب العلمية- بيروت
54- ... سنن الدارمي -تحقيق فواز زمرلي -دار الكتاب العربي- بيروت.
55- ... السنن الكبرى للبيهقي -دار المعرفة- بيروت.
56- ... السنن الكبرى للنسائي- تحقيق عبد الغفار البنداري- دار الكتب العلمية.
57- ... سنن النسائي -اعتنى بِها عبد الفتاح أبو غدة- مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب.
58- ... سنن سعيد بن منصور -تحقيق الدكتور سعد الحميد، دار الصميعي الرياض.
59- ... السياسة الشرعية -بقلم عبد الوهاب خلاف- مؤسسة الرسالة -بيروت.
60- ... السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية -تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية- تحقيق بشير عون، مكتبة المؤيد الرياض، وأيضًا طبعة دار المعرفة.
61- ... سير أعلام النبلاء - للذهبي- مؤسسة الرسالة.
62- ... السيل الجرار-للشوكاني (ت1250هـ)تحقيق محمود إبراهيم زايد دار الكتب العلمية.
63- ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي تحقيق أحمد سعد حمدان -دار طيبة-الرياض.
64- ... شرح السنة -للبغوي- تحقيق زهير الشاويش وشعيب الأرناءوط-المكتب الإسلامي.
65- ... شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز.
66- ... الشرعية -للآجري- تحقيق مُحمَّد حامد الفقي- دار الكتب العلمية. بيروت.
67- ... الشورى لا الديمقراطية - عدنان علي رضا النحوي.(1/3)
68- ... الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، تأليف فضيلة الشيخ مُحمَّد بن صالح العثيمين. إعداد أبو أنس علي بن حسين أبو لوز -دار المجد- الرياض.
69- ... صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان-تحقيق شعيب الأرناؤوط-مؤسسة الرسالة- بيروت.
70- ... صحيح ابن خزيمة -تحقيق الدكتور مُحمَّد مصطفى الأعظمي-المكتب الإسلامي.
71- ... صحيح البخاري -دار السلام للنشر والتوزيع -الرياض.
72- ... صحيح سنن أبي داود -للشيخ الألباني.
73- ... صحيح سنن ابن ماجه -للشيخ الألباني.
74- ... صحيح سنن الترمذي - للشيخ الألباني.
75- ... صحيح سنن النسائي - للشيخ الألباني.
76- ... صحيح مسلم -تحقيق مُحمَّد فؤاد عبد الباقي- دار الفكر- بيروت.
77- ... صحيح مسلم بشرح الإمام النووي - دار الكتب العلمية. بيروت.
78- ... صلاة المحبين -لابن القيم -تحقيق خالد بن علي العنبري.
79- ... الصواعق المرسلة-لابن القيم-تحقيق الدكتور على الدخيل الله-دار العاصمة- الرياض.
80- ... ضعيف سنن أبي داود -للشيخ الألباني.
81- ... ضعيف سنن ابن ماجه- للشيخ الألباني.
82- ... ضعيف سنن الترمذي- للشيخ الألباني.
83- ... ضعيف سنن النسائي- للشيخ الألباني.
84- ... طبقات ابن سعد -دار صادر- بيروت.
85- ... الطرق الحكمية في السياسة الشرعية- لابن قيم الجوزية- مكتبة الباز.
86- ... عقيدة أصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني.
87- ... عمدة القاري- للعيني مكتبة الحلبي- القاهرة.
88- ... الغلو في الدين - تأليف عبد الرحمن بن معلا اللويحق- مؤسسة الرسالة.
89- ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري -للحافظ ابن حجر -المكتبة السلفية بالقاهرة.
90- ... فتح القدير -للشوكاني- دار المعرفة.
91- ... الفصل في الملل والأهواء والملل- لابن حزم الظاهري -دار الجيل- بيروت.
92- ... فضائح الباطنية -لأبي حامد الغزالي (ت505هـ) دار البشير عمان.
93- ... الفقه الإسلامي وأدلته -تأليف الدكتور وهبه الزحيلي- دار الفكر- دمشق.
94- ... فيض القدير -للمناوي- دار المعرفة.(1/4)
95- ... قاموس المصطلحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية -سامي ذيبان وآخرون.
96- ... القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم -دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة -تأليف موريس بوكاي- دار المعارف -القاهرة.
97- ... الكشاف -للزمخشري- دار المعرفة- بيروت.
98- ... كشف الغمة عن أحوال الأمة -تأليف خالد العنبري -دار الصميعي -الرياض.
99- ... مبادئ علم السياسة -تأليف د. نظام بركات. د. عثمان الرواف. د. مُحمَّد الحلوة.
100- ... المجتمع الإسلامي وأصول الحكم-الدكتور مُحمَّد الصادق عفيفي-دار الاعتصام.
101- ... مجمع الزوائد للهيثمي -مؤسسة المعارف.
102- ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية-جمع وترتيب عبد الرحمن بن مُحمَّد بن قاسم.
103- ... مجموع فتاوى ومقالات متنوعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية.
104- ... المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز -لابن عطية- تحقيق عبد الله الأنصاري.
105- ... المخابرات في الدولة الإسلامية د. سلامة مُحمَّد الهرفي- المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب -الرياض.
106- ... مختصر استدراك الحافظ الذهبي على مستدرك الحاكم لابن الملقن -تحقيق الدكتور سعد الحميد -دار العاصمة -الرياض.
107- ... مدخل إلى علم السياسة -موريس دوفرجيه- دار الجيل- بيروت.
108- ... مذكرة النظام السياسي في الإسلام- الدكتور سيد نعمان عبد الرزاق السامرائي.
109- ... المرأة والحقوق السياسة في الإسلام- مجيد محمود أبو حجير-مكتبة الرشد- الرياض.
110- ... مراجعات في فقه الواقع السياسية والفكري على ضوء الكتاب والسنة، إعداد وحوار د. عبد الله بن مُحمَّد الرفاعي، دار الفتح- بيروت.
111- ... المستدرك على الصحيحين -للحاكم النيسابوري -دار المعرفة- بيروت.
112- ... مسند أبي داود الطيالسي- دار المعرفة- بيروت.
113- ... مسند أبي يعلى الموصلي -تحقيق حسين أسد دار المأمون- دمشق.
114- ... مسند الإمام أحمد -المكتب الإسلامي.(1/5)
115- ... مشكاة المصابيح- للخطيب التبريزي تحقيق الشيخ الألباني، المكتب الإسلامي.
116- ... مصنف ابن أبي شيبة -الدار السلفية- الهند.
117- ... مصنف عبد الرزاق -تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي- المكتب الإسلامي.
118- ... معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة-تأليف عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم.
119- ... المعجم الكبير -للطبراني -تحقيق حمدي السلفي.
120- ... المعلم بفوائد مسلم-للمازري (536هـ) تحقيق مُحمَّد الشاذلي النيفر -دار الغرب.
121- ... المعلوم من واجب العلاقة بين الحاكم والمحكوم-أسئلة أجاب عنها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز- إعداد أبي عبد الله بن إبراهيم الوايلي.
122- ... المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم- لأبي العباس القرطبي (ت656هـ).
123- ... المغرب في حلي المغرب -تحقيق شوقي ضيف -دار المعارف- القاهرة.
124- ... المغني -لابن قدامة (ت630هـ) -دار الكتاب العربي- بيروت.
125- ... مغني المحتاج -للخطيب الشربيني - دار إحياء التراث العربي- بيروت.
126- ... مقدمة إلى علم السياسة - الدكتور عبد المعطي مُحمَّد عساف- دار عالم الكتب.
127- ... ملامح الشورى في الدعوة الإسلامية- عدنان النحوي- دار الإصلاح- الدمام.
128- ... الملل والنحل- للشهرستاني -تحقيق مُحمَّد سيد كيلاني- دار المعرفة.
129- ... من أصول الفكر السياسي الإسلامي-الدكتور مُحمَّد فتحي عثمان-مؤسسة الرسالة.
130- ... منهاج السنة لابن تيمية-تحقيق الدكتور مُحمَّد رشاد سالم-جامعة الإمام- الرياض.
131- ... منهج الإسلام في الحرب والسلام- عثمان ضميريه- دار الأرقم- الكويت.
132- ... الموافقات للإمام الشاطبي- تحقيق مشهور حسن- دار ابن عفان.
133- ... نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء-للإمام الذهبي-اختصار مُحمَّد حسن عقيل.
134- ... نظام الحياة في الإسلام -لأبي الأعلى المودودي- الدار السعودية للنشر والتوزيع.
135- ... نظرية الإسلام السياسية- لأبي الأعلى المودودي- مؤسسة الرسالة.(1/6)
136- ... النهاية في غريب الحديث والأثر-لابن الأثير-تحقيق طاهر الزاوي ومحمود الطناحي.
137- ... النهج المسلوك في سياسة الملوك -لعبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيزري.
138- ... هي السلفية -مُحمَّد إبراهيم شقرة- مكتبة ابن تيمية- مكة المكرمة.
139- ... واقعنا المعاصر-مُحمَّد قطب.
140- ... وجوب طاعة السلطان في غير معصية الرحمن- إعداد مُحمَّد بن ناصر العريني.(1/7)
الكلية الإسلامية لمكافحة الإرهاب والغلو والتطرف
رؤية الكلية وأهدافها
تنبثق رؤية الكلية عن منهج أهل السنة المتميز بالتوسط والاعتدال، البعيد عن الغلو والتطرف، القائم على الفهم الصحيح لنصوص الإسلام قرآنا وسنة، المتبع لما كان عليه الجيل الأول من الصحابة من فهم قويم لأصول الدين وفروع الشريعة، والإيمان بين بناء الفرد المؤمن الواعي، والمجتمع القوي المتماسك، والربط بين التأصيل الشرعي والحضاري والتعامل مع مستجدات العصر، وضرورة التميز في تأكيد منهجية التفكير العلمي سلوكاً وعلماً وعملاً. وتسعى الكلية في إطار هذه الرؤية إلى الإسهام في تحقيق الأهداف العامة التالية:
1. إتاحة فرص التعليم العالي والتخصص في مختلف ميادين العلوم الإنسانية والطبيعية والآداب والفنون والإسهام في تزويد المجتمع بالمتخصصين والخبراء في فروع العلوم المختلفة
2. تطوير المعرفة في المجالات المختلفة عن طريق القيام بالبحث العلمي وتشجيعه وتوظيفه في حل مشكلات المجتمع وقضايا التنمية فيه
3. خدمة المجتمع المحلي وتطويره وحل مشكلاته من خلال برامج التدريب، والتعليم المستمر والإرشاد الميداني، وتقديم الخبرة والمشورة المتخصصة في النواحي التطبيقية المختلفة
4. بناء الشخصية المتكاملة والمتوازنة للطالب الجامعي في أبعادها المختلفة، وفق منظومة القيم الإسلامية مع التأكيد على منهجية التفكير العلمي والمبادرة والشعور بالمسؤولية وقيمة العمل، والخدمة العامة، وتعزيز انتمائه لوطنه وامته، ليكون فرداً مصلحاً في مجتمعه
5. الاهتمام بالبناء الفكري والثقافي للأمة مع الانفتاح الواعي على علوم الأمم الأخرى ولغاتها، وثقافاتها وتجاربها
6. العناية بالحضارة العربية والإسلامية، ونشر تراثها وتفعيل دورها في بناء الأمة، وترشيد الحضارة الإنسانية(1/1)
7. التأصيل الإسلامي للمعرفة في مجالاتها المتعددة، وبخاصة العلوم الإنسانية وفي أوجه النشاط الجامعي المختلفة من تدريس وبحث وما إلى ذلك
8. الاهتمام باللغة العربية في التدريس الجامعي، والبحث العلمي والعمل على نقل المعرفة من مصادرها المختلفة إلى اللغة العربية ، والسعي الجاد إلى نشرها
9. توثيق الروابط مع الجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية محلياً وعربياً وإسلامياً وعالمياً
القسم الأكاديمي في أي جامعة يعتبر الأهم بين الأقسام، ولهذا تهتم الجامعة بالبرامج الأكاديمية بشقيها النظامي وغير النظامي، وتقدم الجامعة أكثر من عشرين برنامجاً عن طريق سبع كليات والعديد من الدورات عن طريق مراكزها العلمية الأربعة
كلية الشريعة طليعة كليات جامعة الزرقاء الأهلية، فقد أنشئت في العام الأول للجامعة (1994-1995) وتسنمت الرقم الأول بين تلك الكليات، وكان هذا منسجماً مع رسالة الجامعة الحضارية المنبثقة من الدين الاسلامي، والمرتكزة على عقيدة الاسلام الخالصة الصافية، ومفاهيم الايمان الراعي الأصيل، والقائمة على أساس من العلم النافع والعمل الصالح .
الأهداف :
يسعى القائمون على الكلية الى تحقيق الأهداف التالية :
1. اعداد جيل مؤمن بربه، متمسك بدينه، معتز بتراثه، واع لحاضره، مستشرق لمستقبله، قادر على حمل رسالة الاسلام العالمية، وترسيخ القيم الاسلامية.
2. الإسهام في بناء شخصية الطالب بناء متكاملاً متوازناً وفقاً للتصور الإسلامي .
3. تعريف الطلبة بأصول التعامل مع القرآن الكريم تلاوة وفهماً وتطبيقاً .
4. تعريف الطلبة بأصول الاعتقاد الصحيح وإعدادهم للدفاع عن عقيدة الإسلام في مواجهة العقائد الباطلة .
5. إمداد الطلبة بمنهجية التعامل مع السنة وعلومها فهماً وممارسة .
6. تنمية الملكة الفقهية لدى الطلبة مما يمكنهم من فهم آراء الفقهاء القدامى والتعامل مع القضايا الفقهية المعاصرة .(1/2)
7. تعريف الطلبة بأصول الفقه وقواعده الكلية ومقاصد الشريعة، مما يمكنهم من استنباط الأحكام الشرعية .
8. تنمية القدرات الدعوية لدى الطلبة، مما يعزز قدرتهم على التأثير الإيجابي في المجتمع المحيط .
9. تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس العلمية وتطوير أدائهم البحثي .
10. تنمية التعاون على البر والتقوى بين أعضاء هيئة التدريس للنهوض بالكلية وتنمية العلاقة فيما بينهم وأداء رسالتهم نحو طلبتهم وجامعتهم .
11. ارتقاء أعضاء هيئة التدريس بأنفسهم كي يبلغوا درجة الإحسان والإتقان في الأعمال الموكولة إليهم .
12. تفعيل البحث العلمي في مجالاته المتعددة .
الوسائل :
يسعى القائمون على الكلية الى تحقيق الأهداف بالوسائل التالية :
1. استقطاب النوعيات المتميزة من أعضاء الهيئة التدريسية ورفع كفاءتهم علماً وتدريساً.
2. توفير المناخ العلمي في رحاب الكلية للابداع لدى الأساتذة والطلبة .
3. فتح المجال واسعاً للاساتذة والطلبة في مجالات البحث والتأليف والتحقيق .
4. تفعيل دور العمادة والأقسام واللجان لعطاء مستمر متصاعد .
5. مواكبة التطورات العلمية التي تخدم العملية التدريسية عامة والشرعية خاصة .
6. رصد العقبات والمشكلات والمعوقات التي تواجه العلمية التدريسية والاجتهاد في حلها، وتجاوزها بالطرق التربوية المناسبة .
7. عقد المؤتمرات العلمية بمعدل مؤتمر لكل عام .
8. اصدار النشرات حول المناسبات والظروف التي تمر بها الأمة .
9. تفعيل دور الهيئات واللجان الطلابية في الكلية .
10. التواصل مع المجتمع المحلي من خلال الندوات واللقاءات العلمية والفقهية .
التخطيط المستقبلي للكلية :
يخطط القائمون في الكلية للوصول الى ما يأتي :
1. التوسع في فتح أقسام جديدة في المرحلة الجامعة الأولى .
2. فتح الدراسات العليا في مرحلتي الماجستير والدكتوراه في علوم الشريعة .
3. ادامة احياء حركة البحث العلمي والتأليف والتحقيق وعقد الندوات والمؤتمرات .(1/3)
4. إدامة العناية بالطلبة المتميزين وتحفيزهم للالتحاق بالدراسات العليا .
5. بذل المزيد من العطاء في تفعيل الأنشطة العلمية والاجتماعية والثقافية وتكثيفها وتجديدها.
تخصص الفقه وأصوله
تخصص أصول الدين
يتولى مجلس الجامعة المهام والمسؤوليات التالية
1. التنسيق بين الأنشطة العلمية والتعليمية والتدريبية والاستشارية للكليات والوحدات الأكاديمية الفنية الأخرى في الجامعة، وتوثيق صلتها مع مؤسسات القطاعين العام والخاص
2. العمل على رفع مستوى الخدمات التي تقدمها الجامعة في مجالات التعليم والتدريب والبحث العلمي وخدمة المجتمع
3. مناقشة التعليمات التي يقدمها الرئيس لتنظيم شؤون العمل في الجامعة ورفعها إلى مجلس الأمناء لإقرارها
4. مناقشة مشروع موازنة الجامعة السنوية ورفعه إلى مجلس الأمناء
5. الاطلاع على التقرير السنوي الذي يضعه الرئيس عن سير العمل في الجامعة لتقويم إنجازاتها، وعلى الميزانية العمومية للجامعة وحساباتها الختامية، ورفعه إلى مجلس الأمناء
6. أي أمور أخرى يرى الرئيس عرضها عليه
يتألف مجلس الجامعة من
? الأستاذ الدكتور اسحق أحمد فرحان /رئيس المجلس/ رئيس الجامعة
? الأستاذ الدكتور عبد السلام غيث / عميد الدراسات المسائية / نائب رئيس الجامعة
? الأستاذ الدكتور منير البياتي / عميد كلية الحقوق
? الأستاذ الدكتور موسى الأقطم / عميد كلية العلوم الطبية المساندة / عميد البحث العلمي والدراسات العليا
? الأستاذ الدكتور عمر الأشقر/ عميد كلية الشريعة
? الدكتور عبد الله الخباص / عميد كلية الآداب
? الدكتور عماد أبو الرب/ عميد كلية العلوم وتكنولوجيا المعلومات
? الدكتور محمود الوادي / عميد كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية
? الدكتور محمد أبو سل / عميد كلية العلوم التربوية
? الدكتور جميل بني عطا / عميد شؤون الطلبة
? الدكتور بسام العموش / ممثل كلية الشريعة
? الدكتور باسل الشيخ / ممثل كلية الآداب(1/4)
? الدكتور مهند شهوان / ممثل كلية العلوم وتكنولوجيا المعلومات
? الدكتور خليل الرفاعي / ممثل كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية
? الدكتور ناصر المخزومي / ممثل كلية العلوم التربوية
? الدكتور هاني طهراوي / ممثل كلية الحقوق
? الدكتور مؤيد شهوان / ممثل كلية العلوم الطبية المساندة
? السيد عوني منصور / مدير المكتبة
? السيد أسامه المعاني / مدير الشؤون المالية
? الدكتور احمد الشوابكة / ممثل المجتمع المحلي
? الاستاذ ممدوح المحيسن / ممثل المجتمع المحلي
? الطالبة إيمان سفيان / ممثل مجلس الطلبة
? الطالب جهاد ابو العيس / ممثل الطلبة الخريجين
يتولى مجلس الأمناء المهام والصلاحيات التالية
1. رسم السياسة العامة للجامعة في ضوء سياسة التعليم العالي
2. التنسيب إلى المجلس بإنشاء الكليات والأقسام والبرامج والتخصصات الأكاديمية أو دمجها في غيرها وإلغائها
3. التنسيب إلى المجلس بتعيين الرئيس وفقاً لأحكام القانون
4. تعيين نواب الرئيس والعمداء بتنسيب من الرئيس وفقاً لأحكام القانون
5. إقرار التعليمات التي يقدمها الرئيس لتنظيم شؤون العمل في الجامعة
6. تحديد أعداد الطلبة المقبولين سنوياً في البرامج والتخصصات المختلفة للجامعة في ضوء الطاقة الاستيعابية المقررة لكل تخصص، وموافاة المجلس بأعداد الطلبة المقبولين في مطلع كل فصل دراسي
7. تحديد الرسوم الجامعية وتدبير المصادر لدعم الموارد المالية للجامعة، وتنظيم شؤون استثمارها
8. تحديد سلّم الرواتب لجميع العاملين في الجامعة بمن في ذلك أعضاء الهيئة التدريسية
9. النظر في الخطة السنوية التي يقدمها الرئيس عن المشاريع الانمائية التي تنوي الجامعة القيام بها ومناقشتها وإقرارها
10. قبول الهبات والمنح والوصايا إذا كانت من مصدر أردني وقلت عن مئة ألف دينار، على أن تخصص للإنفاق على الأغراض التنموية والتطويرية داخل الجامعة(1/5)
11. إقرار مشروع الموازنة السنوية للجامعة ورفعها إلى المجلس للمصادقة عليها
12. إقرار التقرير السنوي الذي يضعه الرئيس عن سير العمل في الجامعة لتقويم إنجازاتها، وإقرار الميزانية العمومية والحسابات الختامية للجامعة ورفعها إلى المجلس
13. إعداد مشروعات الأنظمة الداخلية للجامعة ورفعها إلى المجلس لإقرارها خلال مدة لا تتجاوز الشهرين، بما في ذلك اعتماد نظام الهيئة التدريسية المطبق في أي من الجامعات الأردنية الرسمية
14. النظر في أي أمور تتعلق بالجامعة يعرضها الرئيس، مما لا يدخل في صلاحيات أي جهة أخرى وفقاً لأحكام القانون والأنظمة الصادرة بمقتضاه
يتألف مجلس أمناء الجامعة من
? معالي الدكتور عبد اللطيف عربيات / رئيس المجلس
? لأستاذ الدكتور محمد صقر / نائب الرئيس
? معالي الأستاذ الدكتور اسحق احمد فرحان / رئيس الجامعة
? السيد فاروق بدران / أمين السر
الأعضاء
? الأستاذ الدكتور علي الصوا
? الأستاذ الدكتور نايف الشروف
? الأستاذ الدكتور خالد الطراونة
? الأستاذ الدكتور منير دبابنة
? الأستاذ الدكتور عقلة الصمادي
? الدكتور محمد الحاج
? الدكتور أحمد الشوابكة
? المهندس رائف نجم
? الدكتور طلال الزعبي
أخي الطالب .. أختي الطالبة ..
تُعد مديرية القبول والتسجيل قلب الجامعة النابض بالحيوية والعمل الدؤوب والمتواصل على مدار العام، نظراً لأهمية الدور المناط بها ومسؤوليتها المباشرة عن طلبة الجامعة منذ التحاقهم بها مروراً بسنوات دراستهم فيها، وانتهاءً بتخرجهم منها.
لذا فإن مديرية القبول والتسجيل ترحب بجميع الطلبة ويسرها أن تقدم لهم هذه النشرة التوضيحية وتؤكد حرصها على تقديم كافة الخدمات والتسهيلات الممكنة، راجين لكم حياة جامعية موفقة.
كليات الجامعة ورسومها ... معلومات... اخر تعديل بتاريخ 21/8/2005
متطلبات التخرج في كافة التخصصات
معدل القبول
نظام الدراسة
الدراسة المسائية
الانتقال والتجسير(1/6)
مدة الدراسة والعبء الدراسي
النسب المئوية للمعدلين الفصلي والتراكمي
تقديم الطلبات للالتحاق في الجامعة
إجراءات القبول والتسجيل
تأشيرة الدخول والإقامة
إرشادات عامة
المواد المطروحة ضمن الفصل الأول 2005 / 2006
كليةالشريعة
كليةالآداب
كلية العلوم وتكنولوجيا المعلومات
كلية الإقتصاد والعلوم الإدارية
كلية العلوم التربوية
كليةالحقوق
كلية العلوم الطبية المساندة
مواعيد التسجيل (ف1، 2005 / 2006)
نشرة توضيحية عن التسجيل الإلكتروني عبر الشبكة الداخلية
كليات الجامعة وتخصصاتها
تضم جامعة الزرقاء الأهلية سبع كليات تشتمل على عشرين تخصصاً وبرنامجاً مختلفاً وفيما يلي هذه التخصصات والرسوم الدراسية للساعة المعتمدة لكل تخصص إزاء كل واحد منها :
الكلية ... التخصص ... رسوم الساعات المعتمدة (بالدينار)
كلية الشريعة ... ? الفقه وأصوله ... 30
? أصول الدين
كلية الآداب ... ? اللغة العربية وآدابها ... 30
? التاريخ
? علم المكتبات والمعلومات ... 40
? اللغة الإنجليزية وآدابها
كلية العلوم وتكنولوجيا المعلومات ... ? علم الحاسوب ... 60
? نظم المعلومات الحاسوبية
? الفيزياء الطبية ... 50
? الرياضيات ... 40
كلية الاقتصاد والعلوم الإدارية ... ? نظم المعلومات الإدارية ... 50
? المحاسبة
? إدارة الأعمال ... 45
? العلوم المالية والمصرفية
? التسويق
? الاقتصاد ... 30
كلية العلوم التربوية ... ? معلم صف ... 40
? معلم صف لغة انجليزية
كلية الحقوق ... ? الحقوق ... 40
كلية العلوم الطبية المساندة ... ? التحاليل الطبية ... 50
علماً بأنه يوجد خصم مقداره 25% على رسوم الساعات المعتمدة لطلبة الدراسات المسائية
الرسوم الجامعية الأخرى
العلوم العسكرية ... 30 ديناراً ... متطلب جامعة إجباري لكافة التخصصات
رسم التسجيل ... 130 ديناراً ... كل فصل من الفصلين الأول والثاني
65 ديناراً ... للفصل الصيفي
رسم الالتحاق ... 30 ديناراً ... رسوم غير مستردة يدفعها الطالب المستجد مرة واحدة فقط في الفصل الأول لالتحاقه بالجامعة(1/7)
غرامة التسجيل المتأخر ... 20 ديناراً ... تدفع في حال عدم التزام الطالب بموعد التسجيل المحدد له من قبل مديرية القبول والتسجيل
تأمينات مستردة ... 30 ديناراً ... يدفعها الطالب المستجد مرة واحدة ويستردها عند تخرجه أو عمله براءة ذمة من الجامعة
رسم شهادة التخرج لدرجة البكالوريوس ... 60 ديناراً
رسم كشف العلامات او المصدقة باللغة العربية او الإنجليزية ... ديناران
رسم وثيقة إثبات الطالب ... ديناراً واحداً
رسم تصديق كل وثيقة ... ديناراً واحداً
للأعلى
متطلبات التخرج في كافة التخصصات
يكون مجموع الساعات المطلوبة للحصول على درجة البكالوريوس في كافة التخصصات (132) ساعة معتمدة، باستثناء تخصص التحاليل الطبية في كلية العلوم الطبية المساندة، فعلى الطالب أن ينهي ما مجموعه (140) ساعة معتمدة منها (12) ساعة معتمدة للتدريب. وتوزع هذه الساعات حسب التخصص على النحو التالي:
24 ساعة ... متطلبات الجامعة
18-26 ساعة ... متطلبات الكلية
72-102 ساعة ... متطلبات القسم التخصصية
0-21 ساعة ... متطلبات القسم المساندة
3-6 ساعات ... مواد حرة
للأعلى
معدل القبول
يقبل الطالب الذي حصل على معدل 55% فما فوق في الثانوية العامة في جميع التخصصات حسب فرع الثانوية باستثناء تخصص التحاليل الطبية والفيزياء الطبية حيث يشترط أن يكون الطالب حاصلاً على معدل 75% في الفرع العلمي في الحدّ الأدنى ويقبل الطالب الناجح الذي حصل على معدل أقل من 55% في حال مرور عامين دراسيين على حصوله على شهادة الدراسة الثانوية العامة.
للأعلى
نظام الدراسة
تمنح جامعة الزرقاء الأهلية درجة البكالوريوس في تخصصاتها المختلفة شريطة أن ينهي الطالب المواد المطلوبة في خطته الدراسية، بحيث لا يقل معدله التراكمي عن 60% عند تخرجه.
وتعتمد الجامعة نظام الدراسة بالانتظام ولغة التدريس فيها هي اللغة العربية باستثناء تخصصات كليتي تكنولوجيا المعلومات والعلوم الطبية المساندة حيث تعتمد اللغة الإنجليزية في التدريس
للأعلى(1/8)
الدراسة المسائية
حرصاً من الجامعة على خدمة قطاع الموظفين أو الذين لا يستطيعون الالتحاق بالدراسة الصباحية تم فتح المجال أمامهم للدراسة في الفترة المسائية والتي تبدأ من الساعة الرابعة عصراً وحتى الساعة الثامنة والنصف مساءً والطلاب الذين يدرسون في الفترة المسائية يحصلون على خصم قيمته 25% من رسوم الساعات المعتمدة علماً أن التخصصات الحالية في الفترة المسائية هي:
? علم الحاسوب
? المحاسبة
? العلوم المالية والمصرفية
? إدارة الأعمال
? اللغة الإنجليزية
? الحقوق
معلومات اضافية
للأعلى
الانتقال والتجسير
الانتقال
يمكن قبول الطلبة المنتقلين من جامعات أخرى من داخل المملكة أو خارجها على أن تكون الجامعة المنتقل منها الطالب معترفاً بها من قبل وزارة التعليم العالي الأردنية بعد تقديم كشف العلامات الأصلي المصدق وفق الأصول بحيث يمكن معادلة 66 ساعة معتمدة بحد أقصى لجميع التخصصات عدا التحاليل الطبية بحيث يمكن أن يصل الحد الأقصى إلى 70 ساعة معتمدة من المواد التي درسها الطالب في جامعته السابقة ويوجد في جامعة الزرقاء الأهلية ما يقابلها ضمن خطة الطالب الدراسية.
التجسير
يمكن قبول الطلبة الحاصلين على دبلوم كليات المجتمع في التخصصات المناظرة في جامعة الزرقاء الأهلية بحيث يتم معادلة (66) ساعة معتمدة لهم بحد أقصى، وذلك بعد تقديم كشف علامات المواد الأصلي ومصدقة الشامل (مصدقين من وزارة التعليم العالي)، وفي حال التجسير في تخصص غير مناظر (حسب قوائم وزارة التعليم العالي) يتم معادلة متطلبات الجامعة الإجبارية والاختيارية والحرّة فقط.
للأعلى
مدة الدراسة والعبء الدراسي
مدة الدراسة للحصول على درجة البكالوريوس بعبء عادي للطالب هي ثمانية فصول أو أربع سنوات دراسية
لا يجوز للطالب أن يحصل على درجة البكالوريوس في مدة تقل عن ثلاث سنوات دراسية، والسنة الدراسية تعني فصلين دراسيين عاديين، وقد يضاف إليهما فصل صيفي(1/9)
لا يجوز أن تزيد المدة التي يقضيها الطالب مسجلاً للدارسة للحصول على درجة البكالوريوس على سبع سنوات للفترة الصباحية وعشر سنوات للفترة المسائية
الحد الأدنى للتسجيل في كل فصل دراسي هو (12) ساعة معتمدة للفترة الصباحية و(3) ساعات معتمدة للفترة المسائية، وأما الحد الأعلى فهو (18) ساعة معتمدة، أما الفصل الصيفي فالحد الأعلى للتسجيل فيه هو (9) ساعات معتمدة
للأعلى
النسب المئوية للمعدلين الفصلي والتراكمي
الحد الأدنى لعلامة النجاح في المادة (50%) وللمعدل التراكمي (60%).
تُخصص النسب المئوية للمعدل الفصلي والتراكمي في المواد والتقديرات المبينة إزاء كل منها حسب الآتي:
ممتاز ... 84% - 100%
جيد جداً ... 76% - 83.9%
جيد ... 68% - 75.9%
مقبول ... 60% - 67.9%
ضعيف ... 50% - 59.9%
راسب ... أقل من 50%
للأعلى
تقديم الطلبات للالتحاق في الجامعة
يبدأ تقديم الطلبات للالتحاق في الجامعة حسب الآتي:
أولاً: الفصل الأول
من بداية شهر آب (شهر 8) وحتى نهاية شهر أيلول (شهر 9) حيث يبدأ الفصل الأول
ثانياً: الفصل الثاني
من بداية شهر كانون الثاني (شهر 1) وحتى منتصف شهر شباط (شهر 2) حيث يبدأ الفصل الثاني
ثالثاً: الفصل الصيفي
من بداية شهر حزيران (شهر 6) وحتى بداية شهر تموز (شهر 7) حيث يبدأ الفصل الصيفي
للأعلى
إجراءات القبول والتسجيل
على الطلبة المستجدين اتباع الخطوات الموضحة أدناه عند الرغبة في الالتحاق بالجامعة:
1. تعبئة نموذج الالتحاق بالجامعة بشكل دقيق
2. إرفاق الوثائق الثبوتية الآتية:
? كشف علامات الثانوية العامة الأردني الأصلي أو ما يعادله إذا كان صادراً من خارج الأردن مصدقاً حسب الأصول
? كشف علامات الجامعة المنتقل منها مصدقاً حسب الأصول، أو كشف علامات الكلية ومصدقة الشامل الأصلية (مصدقة من التعليم العالي) للمجسرين
? شهادة حسن سيرة وسلوك للطلبة المنتقلين من جامعات أخرى
? صورة عن شهادة الميلاد(1/10)
? صورة عن جواز السفر أو دفتر العائلة أو هوية الأحوال المدنية
? صورتين شخصيتين
3. ومن ثم يقوم الطالب بتعبئة نموذج تسجيل المواد بشكل دقيق حسب الخطة الاسترشادية ويوقع المرشد عليه
4. وبعد دفع الرسوم المالية المستحقة بالدائرة المالية يقوم الطالب بتثبيت تسجيله في دائرة القبول والتسجيل حاسوبياً، ويحصل على جدوله الدراسي
للأعلى
تأشيرة الدخول والإقامة
تعمل الجامعة على تسهيل دخول الطلبة غير الأردنيين إلى المملكة من خلال دائرة العلاقات الثقافية والعامة في الجامعة فهي تقوم باستصدار تأشيرة الدخول إلى المملكة، ومن ثم الحصول على إقامة سنوية لكل من الطلبة وأعضاء الهيئة التدريسية من غير الأردنيين، لذا فإنه ينبغي على المعنيين مراجعة الدائرة خلال فترة أقصاها أسبوع من تاريخ التحاقهم بالجامعة لإتمام إجراءات المخاطبات الرسمية اللازمة مع الجهات الحكومية المختصة لأغراض الحصول على الإقامة، وعليه فيطلب من المعنيين تزويد الدائرة بالآتي:
1. جواز السفر وصورة عن صفحات البيانات فيه
2. صورتين شخصيتين
3. شهادة إثبات طالب مصدقة
4. شهادة خلو أمراض من مركز صحي حكومي
للأعلى
إرشادات عامة
أخي الطالب أختي الطالبة
هذه الإرشادات العامة تهمك لذا نرجو الالتزام بها
1. احرص على الحصول على نسخة من دليل الطالب وقراءته قراءة متأنية حتى تستطيع التعرف إلى أنظمة الجامعة وتعليماتها
2. عند تقديم أية بيانات شخصية للجامعة، احرص على إعطاء معلومات صحيحة ودقيقة حسب وثائقك الرسمية
3. عمادة شؤون الطلبة وجدت لمساعدتك وخدمتك فلا تتردد بالرجوع إليها عند مواجهتك لأية مشكلة
4. حافظ على هويتك الجامعية من التلف، وبادر إلى تجديدها في بداية كل فصل دراسي
5. اهتمامك بصحتك النفسية والجسمية وعلاقاتك يتطلب مراجعة المراكز المتخصصة في الجامعة
6. النشاطات اللامنهجية جزء مكمل لشخصية الطالب الجامعي فاحرص على ممارسة هذه الأنشطة وحضورها(1/11)
7. تعليمات منح درجة البكالوريوس والخطط الجامعية الصادرة عن الجامعة هي العقد بينك وبين الجامعة فاحرص على قراءتها بتمعن وعُد لقراءتها بين الحين والآخر، واستعن بالجداول الاسترشادية المرافقة للخطط الدراسية
8. المرشد الأكاديمي وجد لمساعدتك في اختيار المواد الدراسية حسب خطتك فلا تتردد في طلب مشورته ومساعدته كلما لزم الأمر
9. الإعلان هو وسيلة الاتصال المباشر بين المسؤولين والطلاب، فاحرص على متابعة لوحات الإعلانات المنتشرة في الجامعة بشكل دائم
10. موظفو الجامعة وجدوا لخدمتك وعند اختيارك الوقت المناسب للمراجعة، وتعاملك مع الموظف بلطف واحترام، فإنه يسهل عليك حل المصاعب التي تواجهك
فيما يلي بعض الخصومات والمنح والإعفاءات من رسوم الساعات المعتمدة التي يمكن أن يستفيد منها الطلبة المستجدين:
1. خمسة عشرة منحة كاملة لطلبة أبناء الجاليات و الدول الإسلامية
2. خصم مقداره 25% للفئات التالية
? الأول على تخصصه استناداً إلى معدله الفصلي
? الأخوة الدارسين في الجامعة
? الموفدين في بعثات حكومية أو مؤسسات أخرى
? عشرة من الطلاب المتفوقين رياضياً
? خمسة من المستجدين الحاصلين على شهادات ثانوية غير أردنية ممن يرشحهم السفراء الأردنيون في الدول الأخرى
? طلبة الدراسات المسائية
? عشرة من المستجدين المرشحين للدراسة في تخصصي التحاليل والفيزياء الطبية من قبل إحدى وزارات الدولة
3. خصم مقداره 30% و 20% للحاصلين على معدل في الثانوية العامة فوق 90% وفوق 80% على التوالي شريطة أن لا يقل المعدل التراكمي لاحقاً في الجامعة عن 70%
4. خصم مقداره 15% لأعلى أربعة طلاب مستجدين في كل محافظة في تخصصات الشريعة واللغة العربية والتاريخ والتربية شريطة أن لا يقل معدلهم عن 70% في الثانوية العامة وفي المعدل التراكمي لاحقاً في الجامعة
5. خصم مقداره 50% لحفظة القرآن الكريم كاملاً
6. خصم 10% للفئات التالية:(1/12)
? لأبناء المساهمين بأكثر من 10 آلاف سهم
? للطلبة الحاصلين على ثانوية عامة من مدارس محافظتي الزرقاء والمفرق
مادة الثقافة الإسلامية ( 101 ISLS )
2 صفحات
أهداف المادة :
تهدف إلى ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة وفق الأسس العلمية القرآن والسنة تعرف الطالبة تعريفا عاما بمادة الثقافة الإسلامية وتعريفها الفرق بينها وبين العلم والحضارة والمدنية وما هي مصادرها وخصائصها
المراجع الأساسية للمادة .
1. كتاب ( الثقافة الإسلامية ( المستوى الأول ) تأليف( د. على عمر بادحدح – د. محمد أحمد باجابر)
مراجعة : د. هاني أحمد عبد الشكور –د. محمد عبد الله حلواني – د. عادل عبد القادر قوته
موضوعات المنهج المقرر.
القسم الاول : التعريف بالثقافة الاسلامية
الوحدة الاولى : مفهوم الثقافة الاسلامية
1) المعنى اللغوي للثقافة 2) مفهوم الثقافة الاسلامية
3) المعنى الاصطلاحي للثقافة 4) الثقافة والمصطلحات المقارنة
الوحدة الثانية : مصادر الثقافة الاسلامية :
القرآن الكريم ، السنة النبوية ، الفقة الاسلامي ، التاريخ الاسلامي اللغة العربية وآدابها
الوحدة الثالثة : خصائص الثقافة الاسلامية
الربانية ، الشمولية ، الواقعية ، الايجابية
الوحدة الرابعة : أهمية الثقافة الاسلامية
التميز في الهوية والمقومات ، العمق والارتباط التاريخي
الاعتزاز والانتماء الحضاري ، القدرة على التفاعل الواقعي
الوحدة الخامسة : علاقة الثقافة الاسلامية بالثقافات الاخرى
صور من ضعف فعلية الثقافة الاسلامية ، صور من هيمنة الثقافة الغربية
الموقف من الثقافات الاخرى : موقف الرفض والمقاطعة / موقف القبول والذوبان
موقف التوفيق والتلفيق موقف التميز والاستفادة
القسم الثاني : العقيدة الاسلامية
الوحدة الاولى : مفهوم العقيدة الاسلامية
تعريف العقيدة لغة / تعريف العقيدة أصطلاحاً / حقيقة العقيدة ومفهومها ومرادفاتها(1/13)
أركان الايمان : الايمان باللة ، الايمان بالملائكة ، الايمان بالرسل ، الايمان باليوم الآخر ، الايمان بالقدر خيرة وشرة
الوحدة الثانية : خصائص العقيدة الاسلامية
عقيدة ثابتة / عقيدة فطرية / عقيدة مبرهنة / عقيدة واضحة
الوحدة الثالثة : أهمية العقيدة وآثارها على الفردوالمجتمع
الآثار على الفرد : هداية العقل / سكينة النفس / استقامة السلوك / تقوية الامل وأستمرار العمل / الثبات في الشدائد / تعميق المسؤلية الفردية / الفوز في الاخرة
الآثار على المجتمع : تحقيق الاخوة الايمانية والتعارف الانساني / الأنضباط السلوكي الامني / التكافل والتعاون الاجتماعي / العدالة في الحكم والقضاء
الوحدة الرابعة : مسائل في العقيدة الاسلامية
العلاقة بين العقيدة والشريعة / حرية الاعتقاد في الاسلام / البدعة وخطرها على العقيدة / الكبائر وصلتها بالعقيدة / تحكيم الشريعة / الاستهزاء بالدين / الولاء والبراء / الغلو في الدين / بين العقل والنقل / الانسان بين التسيير والتخيير
القسم الثالث : العبادة في الاسلام
الوحدة الاولى : مفهوم العبادة
تعريف العبادة لغة / تعريف العبادة اصطلاحاً / أركان العبادة / أسماء العبادة / مفهوم العبادة الشامل / آثار الشمول في مفهوم العبادة
عناصر العبادة : التعق القلبي / التدبر العقلي / الخضوع الالجسدي
الوحدة الثانية : دوافع العبادة
دافع الشعور الفطري / دافع الرهبة والرغبة / دافع المحبة والتعظيم / دافع الشكر والعرفان / دافع الحاجة والافتقار / دافع العادة والتقليد
الوحدة الثالثة : حكم العبادة وشروطها وخصائصها
حكم العبادة ، شروط العبادة : الاخلاص لله / المتابعة والموافقة للشرع
خصائص العبادة : الربانية والتوقيف / التنويع والتوازن / العموم والشمول / الاستمرار والدوام / القصد والنية / المباشرة وعدم الوسطاء / اليسر ورفع الحرج
الوحدة الرابعة : العبادة حكمها ومقصدها
الصلاة - حكمها ومقاصدها(1/14)
الزكاة – حكمها ومقاصدها
الصوم – حكمة ومقاصدة
الحج – حكمة ومقاصدة
الجهاد - معناة وموجبة وارتباطة بالامام ومشروعيتة وحكمة
التوكل - الخشية – التوبة – الذكر – الدعاء
الوحدة الخامسة : مفاهيم وممارسات خاطئة في العبادة
حصر مفهوم العبادة في الشعائر التعبدية
الطاعة والتعليق بغير الله ( العبادة والطاعة )
تفريغ العبادة من جوهرها ( العبادة والعادة )
البدع في العبادات
أنشئت كلية الشريعة والدراسات الإسلامية عام 1417 هـ - 1997 م ، مع الكليات الأخرى في جامعة الشارقة .
رسالة الكلية :
تتجلى رسالة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في ما يلي:
1- بناء جيل يعتز بدينه وحضارته وانتمائه لأمته .
2- تكوين الشخصية المسلمة التي تجمع بين الأصالة و المعاصرة في مجال الشريعة والدراسات الإسلامية.
3- تهيئة خريجيها ليؤدوا دوراً مهماً في خدمة مجتمع الإمارات والمجتمع العربي والإسلامي بصفة عامة.
4- الإسهام في رفع الوعي الديني والإسلامي.
أهداف الكلية :
1- تكوين الشخصية الإسلامية المتميزة في فهم الإسلام فهما عميقاً مستوعباً لمقاصد الشريعة الإسلامية.
2- إعداد متخصصين متميزين في علوم الشريعة في الفقه والأصول مع الاطلاع على ثقافة العصر و معطياته الحضارية والتفاعل مع تلك المعطيات.
3- تقديم كفاءات علمية تلبي حاجات المجتمع الإسلامي المعاصر في الداخل والخارج في ميادين التدريس والتشريع والقضاء وتحقيق التراث العلمي .
4- إعداد نخبة من الطلاب الموهوبين من ذوي الكفاءات العالية لمواصلة دراساتهم العليا في حقول الشريعة وفي التفسير والحديث وفي الفقه والأصول فيثروا البحث العلمي ويسدوا النقص في هيئة التدريس في القسم والأقسام المماثلة بالجامعات الأخرى.
...........................................................................................................
الخطة الدراسية لكلية الشريعة والدراسات الإسلامية(1/15)
لمكافحة الإرهاب والغلو والتطرف
مقررات السنة الأولى ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات
الفصل الأول ... العقيدة والتوحيد ... 3 ... 1 ... الفصل الثاني ... علوم القرآن وأصول التفسير ... 3
المدخل إلى دراسة الشريعة الإسلامية ... 3 ... 2 ... فقه العبادات ... 3
القرآن الكريم وأحكام التجويد ... 3 ... 3 ... أصول الدعوة في ضوء منهج الأنبياء ... 3
فقه السيرة النبوية الصحيحة ... 3 ... 4 ... الوسطية ... 3
النحو (1) ... 3 ... 5 ... النحو (2) ... 3
6 ... اللغة الإنجليزية ... 3 ... 6 ... مبادئ الحاسوب والإنترنت ... 3
إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18 ... إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18
مقررات السنة الثانية ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات
الفصل الأول ... أصول الفقه ... 3 ... 1 ... الفصل الثاني ... القواعد الفقهية ... 3
فقه السياسة الشرعية ... 3 ... 2 ... أصول السياسة الشرعية للمقيم في البلدان الغربية ... 3
التفسير التحليلي (آيات الوعيد) ... 3 ... 3 ... مصطلح الحديث ... 3
الغلو ... 3 ... 4 ... فقه الأطعمة والأيمان والنذور ... 3
فقه الأحوال الشخصية ... 3 ... 5 ... الصرف ... 3
6 ... النحو (3) ... 3 ... 6 ... البلاغة ( 1 ) علم البيان ... 3
إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18 ... إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18
مقررات السنة الثالثة ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات
الفصل الأول ... فقه الجهاد ... 3 ... 1 ... الفصل الثاني ... فقه المعاملات ... 3
أصول التكفير وضوابطه ... 2 ... 2 ... البدعة وضوابط التبديع ... 3
البلاغة ( 2 ) علم المعاني والبديع ... 3 ... 3 ... أحكام المعاهدين وأهل الذمة ... 3
الفرق الإسلامية ... 3 ... 4 ... فقه الأخلاق والسلوك ... 3
( الحديث )أحاديث الوعيد ... 3 ... 5 ... الإرهاب ... 3
6 ... تفسير آيات الأحكام ... 3 ... 6 ... أحاديث الأحكام ... 3
إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18 ... إجمالي عدد ساعات الفصل ... 18
مقررات السنة الرابعة ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات ... م ... الفصل ... اسم المادة ... عدد الساعات
الفصل الأول ... فقه المواريث ... 3 ... 1 ... الفصل الثاني ... فقه الحدود والجنايلت ... 3
أصول التربية ... 3 ... 2 ... طرق تدريس العلوم الإسلامية ... 3
فقه النوازل ... 3 ... 3 ... المذاهب المعاصرة ... 3(1/16)
التخريج ونقد المرويات ... 3 ... 4 ... علم نفس الإرهاب ... 3
الاقتصاد الإسلامي ... 3 ... الحزبية والجماعات الإسلامية ... 3
مناهج البحث العلمي ... 3 ... 5 ... بحث التخرج ... 3
إجمالي عدد ساعات الفصل ... 15 ... إجمالي عدد ساعات الفصل ... 15(1/17)
كتب للمؤلف
1- "الثبات عند الممات" لابن الجوزي (ت597هـ).
2- "أحكام العيد وآدابه في السنة المشرفة".
3- "رفع الجناح وخفض الجناح بأربعين حديثًا في النكاح" للقاري.
4- "كتابان في اللواط". "ذم اللواط، وما ورد في التشديد والنهي عنه" للهيثم الدوري. "تحريم اللواط" للآجري. (ت360هـ).
5- "ثلاثة كتب في الرؤى والأحلام".
6- "من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-" بالاشتراك.
7- "شرح مجلس البطاقة" للإمام الحافظ حمزة بن مُحمَّد الكناني.
8- "تنقيح الأحاديث الصحيحة من الألفاظ المدرجة والضعيفة" يصدر قريبًا.
9- "الأحكام الشرعية الصحيحة" الصغرى. لعبد الحق الإشبيلي.
10- "فتح الغفور بتضعيف حديث السفور".
11- "تهذيب الثبات عند الممات" لابن الجوزي.
12- "النهج الصالح في عرض الرجل وليته والمرأة نفسها على الرجل الصالح"
13- "منهج أهل السنة والجماعة في الرؤى والأحلام".
14- كيف تعبر رؤياك في ضوء القرآن والسنة" مع قاموس لأدق تفاسير الأحلام وأصحها.
15- "كشف الغمة عن أحوال الأمة".
16- "ما لابد منه في أمور الدين" للعلامة أبي بكر بن مُحمَّد عارف خوقير.
17- "الأخلاق الضائعة".
18- "تناقضات الألباني الواضحات" تلبيسات، وافتراءات.
19- "صلاة المحبين" لابن قيم الجوزية.
20- "افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية" للأمير الصنعاني.
21- الحكم بغير ما أنزل الله وأصول التكفير.
22- دراسة الاحكام الكبرى لعبد الحق الإشبيلي، وتعقبات ابن القطان عليه في الوهم والإيهام رسالة الماجستير، يصدر قريبًا إن شاء الله.
23- "فقه السياسة الشرعية في ضوء الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة".(1/1)