- القرآن الكريم هيمنته وخاتميته وعالميته وخلوده -
( أ. د. أحمد علي الإمام (1)
مقدمة :-
الحمد لله أنزل القرآن، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه، وتكفل بحفظه أبد الدهر، وصانه من التغيير والتبديل الذي اعترى ما سبقه من الكتب، وسلَّمه من التناقض والاختلاف الوارد على عمل البشر. وأفضل الصلاة وأتم السلام على من بعثه الله تعالى بالقرآن، هداية لبني الإنسان، (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) (2) .
فهذا بحث عن هيمنة القرآن الكريم على ما سبقه من الكتب، وتصديقه لها، وائتمانه ورقابته، عليها يشهد بالصحة لأصولها من حيث أنها من عند الله تعالى، ويبين ما وقع فيها من التبديل وما طرأ عليها من التحريف على مر العصور والأزمان ...
وهو الكتاب المعجز للعالمين أن يأتوا بمثله، المهيمن على النفوس المؤمنة به، المؤمِّن للإنسانية من الخوف، المتضمن من الشرائع ما سما بخصائصه على سائر الشرائع والقوانين، فكان بذلك مهيمناً عليها، وكانت النبوة التي جاءت به خاتمة النبوات. فكانت هذه الخاتمة مقتضية للخلود وللديمومة والصلاحية لكل زمان ومكان.
ذلك أن خاتمية الرسالة وختام النبوات يقتضي ديمومة القيم القرآنية بما فيها من توجيهات إلاهية، فكانت الديمومة للقرآن لتبقى هذه القيم، وكان ختام النبوات جميعاً، يستدعي ألاّ يقتصر هذه القيم والموجهات على أمة من الأمم دون غيرها : { لِأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } (النساء:165) .
__________
(1) ( - ) أ.د. أحمد علي الإمام مستشار رئيس الجمهورية لشئون التأصيل ورئيس مجلس الجامعة .
(2) مسند الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار، برقم 24629..(1/1)
وكانت عالمية هذه الرسالة معروفة منذ الفترة المكية { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان :1). حيث كان خطابه { يَاأَيُّهَا النَّاسُ } آياته وأحكامه وتوجيهاته موجهه لجميع الناس { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } (النساء: 58).
وكانت أمة الإسلام بما تمتلك من هذه الخصائص القرآنية، أهلاً لأن تكون الشاهدة على ما سواها من الأمم. فالقرآن يضم بين دفتي المصحف من المعايير والحكم ما يصلح حكماً وموجهاً لجميع الإنسانية.. وقد تكفل الله بحفظ هذه القيم وهذه المعايير من خلال حفظ الكتاب الذي يشتمل عليها، ومن خلال عزمات البشر الذين يعيشونها ويتمثلونها.. فحفظه الصحابة، وتواتر نقله في الأمصار، واعتنى المسلمون به على مر الإعصار، وهي عناية تليق بهذا الكتاب العظيم، مشافهةً وكتابةً ورسماً وتدويناً، وحفظاً في الصدور قبل السطور { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } (العنكبوت:49).(1/2)
وإقامة لشعائره، وتطبيقاً لشرائعه في ميادين الحياة العامة والخاصة، مما جعل لهذا القرآن أثره في تاريخ البشرية عموماً والمسلمين خصوصاً .. كما أريد لهذا القرآن أن يهيمن بكماله وجلاله وجماله على كل كتاب، وأن يظهر على الدين كله، وأن تسود حضارة الإسلام، ذات البعد الروحي والمادي، على سائر الحضارات قديمها وحديثها. وأمة القرآن جديرة بأن ترفع ذكرها الذي به تسترد هيبتها، وأن تعود إلى أصالتها، فتوثق صلتها بكتابها المهيمن العالمي الخالد، لتكون بالتزامها به، مهيمنة عالمياً، خالدة قيمياً. وأن تستعيد التاريخ الإنساني المشرق كما كان مجد أسلافها حملة هذا الكتاب من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم وتابع تابعيهم، حيث لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ومع ما جرى تفصيله بحسب المقام في هذا البحث عن الهيمنة القرآنية، فما يزال في هذا المجال سعة، وعسى أن يتيسر لنا لاحقاً بفضل الله تعالى، أن نستوعب الحديث أو نقاربه بالإضافة والمراجعة والتعديل، ثم نفصل بعد في الخاتمية والخلود، والعالمية والصلاحية الأبدية.
والله يتولانا وهو يهدى سواء السبيل .
مصطلح هيمنة القرآن على الكتب:
تفيدنا الدراسة المعجمية لمدلول كلمة ( هيمن ) : أنها آمن غيره من الخوف قال ابن منظور : وأصله (أأْمن ) فهو مؤأمن ، بهمزتين قلبت الثانية ياء كراهة اجتماعهما، فصار مؤيمن وهو مفيعل من الأمانة، ثم صيرت الأولى هاء كما قالوا :هراق وأراق.
وقال بعضهم: مهيمن بمعنى مؤمن أي الأمانة، والهاء بدل من الهمزة كما قالوا: هرقت وأرقت.
وفى معنى المهيمن قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة :48)، والكتاب في الموضع الأول الذي أنزله الله مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، ومهيمناً عليه.
ويتضمن قوله ( ومهيمناً عليه ) عدة معانٍ:(1/3)
1. المؤمَّن الذي آمن غيره من الخوف.
2. المؤتمن لأن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتب.
3. الرقيب على كل شيء، يقال هيمن يهيمن هيمنةً، إذا كان رقيباً على الشيء.
والقرآن بهذا المعني رقيبٌ على سائر الكتب، لأنه يشهد لها بالصحة والدقة في أصلها ..
والمراد حفظ أصول هذه الكتب المنزلة، والرقابة على ما وقع فيها من تبديلٍ أو تحريف .
4. الأمين الذي لا يضيع لأحدٍ عنده حق، كما هو أمين على كل كتاب قبله.
5. القائم على الكتب، القيِّم والقائم بأمور الخلق، ومنه القيام على الشيء، وفي حديث عكرمة: ( كان عليٌّ أعلم بالمهيمنات ) أي القضايا ذات الهيمنة، أي ذات الأهمية الحاكمة وهو القيام على الشيء يجعل الفعل لها وهو لأربابها القوامين بالأمور. وقال الأنباري: المهيمن القائم على خلقه برزقه.
وأنشد :
ألا إنَّ خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر
6. الشاهد على صدق أصول الكتب وإيمان المؤمنين وكفر الكافرين بها، وهو الشاهد الذي لا يغيب عنه شيء.
7. الحافظ، حيث حفظ القرآن أصول الكتب في كونه الرسالة الإسلامية الخاتمة، التي اكتمل بها الدين وتمت نعمة التوحيد، من حيث ما تضمنته من دعوة التوحيد وأصول الدين.
8. المصدِّق بمعني أنه صدَّق أنها أنزلت من عند الله في أصولها.
9. الحاكم على ما قبله من الكتب.
ومما يناسب ذكره في هذا المقام، أن لفظ المهيمن ورد في القرآن كاسم من أسماء الله في ختام سورة الحشر { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُُ } (الحشر :23) بمعنى القائم على تدبير أمر خلقه بأعمالهم وآجالهم وأرزاقهم .(1/4)
وفى بيان تأويل هذه الآية : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة :48). يقول الطبري: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك مصدقاً للكتب قبله وشهيداً عليها أنها حق من عند الله، أميناً عليها حافظاً لها .. وأصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب. يقال: رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده، قد هيمن فلان عليه، فهو يهيمن عليه وهو عليه مهيمن (1) بقوله ومهيمناً: أي شاهداً حفيظاً مصدقاً، وأميناً رقيباً عليه.
وعلى هذا فهيمنة القرآن على الكتب تعنى أنه جاء بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتب، وحافظاً لها، وشاهداً وأميناً عليها { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
(البقرة :143)
وتتجلى هيمنة القرآن، على الكتب السابقة بعد تأملنا في النصوص القرآنية على النحو التالي :
أ/ مفهوم هيمنته على الكتب السابقة :
فالقرآن مهيمن على الكتب السابقة بأن صدق نزولها من عند الله، وحفظ الأصول التي جاءت بها دعوة الأنبياء الذين نزلت عليهم، وهى دعوة التوحيد، وشهد على من آمن بها حين نزولها بأنهم ممن استجابوا لأمر الله، وعلى من كذب بأنهم ممن عصوه واستحقوا غضبه، وهو لا يزال قائماً بهذا الحفظ والتصديق والشهادة، أميناً قيِّما أخبر عنها وعن أهلها، رقيباً على أن يُدعَّىَ عليها غير ما قال عنها، مؤتمن في ذلك كله .
وهذا معنى تصديقه لما سبقه من الكتب وهيمنته عليها، قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } (المائدة :48).
__________
(1) تفسير الطبري 6/172 (3) وانظر البقاعى : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 6/180..(1/5)
يقول حسان بن ثابت في مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيان هيمنة القرآن على الكتاب :
إنَّ الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
والقرآن الكريم مع كونه مهيمناً على الكتب السابقة، فهو يصدِّقها ويكملها، ويكشف مواطن التحريف والتأويل فيها، ويفِّصل ما جاء بها، قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (يونس :37). وقال سبحانه: { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (البقرة :97).
ولذلك يعود التشابه بينه وبين ما سبقه من الكتاب في الأصول الصحاح، ومقاصد التنزيل الحكيم كالدعوة إلى الخير والهداية للناس، مع تميزه وتفرده واحتفاظه بسماته الخاصة .. فالتوراة والإنجيل أنزلهما رب العزة هدى للناس وكذلك أنزل القرآن، مع تصديقه لهما، وتكميله وتصحيحه لما فيهما كما قال تعالى: { الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } (آل عمران :1-4) . كما أن هيمنة القرآن على الكتب تعنى فيما تعنى أن القرآن يملك خاصية المراجعة والرقابة لما أصاب الكتب السابقة من التحريف والتبديل، أو الإخفاء والإلغاء. فالقرآن بهذا يصِّوب التاريخ ويقوِّم الحاضر ويوجِّه المستقبل.
وهيمنته عليها بهذا المعنى تتضمن :
1.الاسترجاع :-(1/6)
وهو استرجاعه ذكر بعض الأحداث الكبرى التي وردت في الكتب السابقة، حيث أعاد روايتها، محققة مُحكمة، وذلك بما فيها من عبرة وموعظة، حينما وردت، ويدخل في الاسترجاع القصص القرآني الذي اشتمل على جملة من قصص الأنبياء والمرسلين، وأممهم، إيناساً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتطييباً لخاطره وتثبيتاً لقلبه، وبياناً وهدى لأمته، واعتباراً بما لحق بالدعاة من ابتلاءات ووقاية مما حاق بالمكذبين من سوء العواقب { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (هود:120). وقد أخذ القرآن الكريم من قصص الأنبياء عليهم السلام قطاعات جوهرية لأثبات حجيته في التوحيد وفي مصير المؤمنين والمكذبين وفي الدلالة على صدق النبوة والرسالة الخاتمة.(1/7)
هذا، كما اشتمل القصص القرآني على بيان شواهد طيبة على نتائج الالتزام بتطبيق الأحكام الشرعية في الأمم السابقة، مما يدعم صلاحيه هذه الأحكام وهو المتفق عليه في شتى الشرائع السماوية من هذه الأحكام، ومن ذلك ما قصه القرآن من قصص بنى إسرائيل، مبيناً عقوبة القصاص في التوراة وتصديق الإنجيل لها، كما في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } (المائدة:44-46).(1/8)
فقد جاء القرآن مبيناً أن شريعة القصاص توفر الأمن للحياة { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُوْلِي الْأَلْبَابِ } (البقرة:179)، وهى شريعة باقية وهو بذلك يوثق مثل هذه الأحكام من حيث هي معتمدة مستوعبة في الإنجيل إذ جاء الإنجيل مصدقاً لما بين يديه من التوراة، ويزيدها وثاقة، بأن القرآن مصدق لما جاء في التوراة والأنجيل، بيدا أن له هيمنة عليهما يبقِي ما يبقِي ، وينسخ ما ينسخ، وما يثبت أنه نسخ من أحكامها فهو منسوخ إذ له الهيمنة الكاملة (1) .
2.الاستيعاب:-
إنَّ ما أخبر به القرآن عن الأمم الماضية والرسل كان أوسع دلالة وأكثر استيعابا وتوثيقاً ، فضلاً عن تنزيهه لله تعالى ورسله الكرام عن تصورات المغضوب عليهم والضالين ، ومن ذلك أن القرآن ذكر إبراهيم ودعوته إلى عبادة الله وتسفيهه عبادة الأوثان منذ عمر الفتوة { قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } (الأنبياء:60) هذا بينما لا يرد له ذكر في الكتب السابقة كالتوراة إلا بعد بلوغه سن الخامسة والسبعين على أنَّ ما جاء في القران الكريم مع وثاقته أهم من تفصيلات كثيرة وردت في الكتب السابقة عبرة وعظة من ورائها .. ذلك بأن القران الكريم يأخذ من حياة الأنبياء والرسل ما يمثل القيم العليا التي يدعو لها.
ثم إن ما ورد في القرآن من (شرع من قبلنا) لا يخرج عن كونه مما أمرنا به بالأصالة بحكم تصديق القرآن لتلك الكتب، من قبيل تأكيد لمشروعيتها الموروثة، وتيسيراً ولكن تلك الأحكام قد ذكرت كما في قوله تعالى في مشروعية الصيام { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } (البقرة :183).
__________
(1) 5 / انظر: أبو زهرة: المعجزة الكبرى القرآن، دار الفكر العربي القاهرة 19977م، ص (196) وما بعدها ..(1/9)
ومثل هذا الحديث عن (شرع من قبلنا) داخل في الاستيعاب حيث استوعب القرآن ما في الكتب السابقة من الحق على منهاجه وطريقته ومقدرته الفائقة على استيعاب الخير والعمل على أن يتجاوز بالبشرية ليبني لها مستقبلها، فأنبياء الله ورسله كلهم إخوة، وجاء كل واحد ليكمل رسالة سابقة حتى بعث الله النبي الخاتم برسالته الشاملة، المتضمنة كل الشرائع والأحكام في صورتها النهائية، مهيمنة على ما سبق قال تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } (الشورى :13-14) .
3. التجاوز:-(1/10)
أما التجاوز فيتناول الحديث عن النسخ وتجاوز الخصوصيات الزمانية والمكانية والقومية والعرقية .. ومع ما جاء في القرآن من أصول سبقت في الكتب الأولى، فقد تجاوز كثيراً منها بعد أن تغير الحال، وتحقق النضج البشرى وتهيأ لاستقبال الرسالة الخاتمة، وجاء بما هو خير منها، وأكمل وأتم وأيسر، فأحل الطيبات وحرم الخبائث، ووضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة تخفيفاً وتيسيراً قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } (الأعراف :157).
وفوق هذا كله رفع المؤاخذة بالخطأ والنسيان والإكراه، وجعل التكليف فيما يطاق ويستطاع، وازداد عفواً ومغفرةً ورحمةً، مخبراً عن ذلك كله في قوله تعالى { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (البقرة :286).(1/11)
ويظل القرآن كله يؤكد بعضه بعضاً في هيمنته على الكتب السابقة والحكم عليها فلا صدق لما خالف القرآن من أخبار الكتب السابقة بل إن من وجوه هيمنة القرآن كونه ناسخاً لتلك الكتب، وشاهداً للحكم عليها. [(ولعل الإمام الرازي كان يستحضر هذه المعاني كلها وهو يعقب في تفسيره الكبير على الآية الخاتمة لسورة المائدة حيث يقول : ( في هذه الخاتمة الشريفة أسرار كثيرة ... أن السورة اشتملت على أنواع كثيرة من العلوم، فمنها بيان الشرائع والأحكام والتكاليف، ومنها المناظرة مع اليهود في إنكارهم شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومنها المناظرة مع النصارى في قولهم بالتثليث، فختم السورة بهذه النقطة الوافية بإثبات كل هذه المطالب فإنه تعالى قال : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } (المائدة : 120).(1/12)
ومعناه أنَّ كل ما سوى الحق سبحانه فإنه ممكن لذاته موجود بإيجاده تعالى ... وإذا كان الأمر كذلك كان مالكاً لجميع الممكنات والكائنات ، موجداً لجميع الأرواح والأجساد ، وإذا ثبت هذا لزم منه ثبوت كل المطالب المذكورة في هذه السورة، وأما حسن التكليف كيف شاء وأراد فذاك ثابت لأنه سبحانه لما كان مالكاً للكل كان له أن يتصرف في الكل بالأمر والنهى والثواب والعقاب كيف شاء وأراد فصح القول بالتكليف على أي وجه أراده الحق سبحانه وتعالى. وأما الرد على اليهود فلأنه سبحانه لما كان مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع شرع محمد عليهما الصلاة والسلام، وأما الرد على النصارى فلأن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله لأنه بيَّن أن الموجد إما أن يكون هو الله أو غيره، وعيسى ومريم لا شك أنهما داخلان في هذا القسم، فإذا دللنا أن كل ما سوى الله ممكن لذاته موجود بإيجاد الله كائن بتكوين الله كان عيسى و مريم عليهما السلام كذلك. ولا معنى للعبودية إلا ذلك فثبت كونهما عبدين مخلوقين فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية التي جعلها الله خاتمة لهذه السورة، برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت السورة عليها والله أعلم بأسرار كلامه. وحيث كان القرآن مهيمناً على الكتب السماوية فإن هيمنته على ماسواها من باب أولى وذلك في كل ما يتصل بالشعائر والشرائع والأحكام والآداب والعلوم وحسب القران أن الله تعالى أنزله وهو حافظه { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء: 82) ، و إذا تقرر هيمنة القرآن على ما سبق من الكتب فإن ذلك يقتضي بالضرورة على كل مكتوب ومقروء من كتب ومؤلفات استقل بها أفراد أو جماعات أو كانت نتاج حضارات ودول على اختلاف الأعصار والأمصار، ومعياريته لها.
ب- تحريف الكتب السابقة :(1/13)
حيث أن ما بأيدي اليهود والنصارى مدخول مليء بعمل البشر وأهوائهم، مما لا يناسب مقام ذي الجلال والإكرام ومقام رسله عنده، الأمر الذي لم يكن خافياً على الدراسات المقارنة لغير المسلمين من أهل تلك الملل، التي تثبتت ذلك، مما يؤكد هيمنة القرآن على هذه الكتب.
يقول صاحب كتاب : (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى)، في تقرير هذه المسألة : (ما بأيدي اليهود والنصارى، باطلة أضعاف حقه، وحقه منسوخ) (1) ، وقد جاء القرآن الكريم يقص على بنى إسرائيل الذين عاصروا نزول القرآن الكريم، ويبين لهم ما اختلفوا فيه اختلافاً شديداً، حتى صار يلعن بعضهم بعضاً، فنزل القرآن يبين لهم ويهديهم إلى الحق الذي لو أخذوا به لما اختلفوا، ومن ذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل.
التحريف هنا لفظي ومعنوي وهو مقتضى الإطلاق ومن أدلته { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران:78).. { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } (البقرة: 79).
وكفى بشهادة القرآن دليلاً على ما أحدثه أهل الكتاب في كتبهم من تحريف، يقول الله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (البقرة :75).
__________
(1) 14 ابن قيم الجوزية، ص 168 .(1/14)
وهذا موضع آخر ينص فيه القرآن على تحريف اليهود خاصة للكلم عن مواضعه في التوراة: { الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } (النساء :46). والقرآن يشهد على فريق من أهل الكتاب أنهم في سبيل تحريف الكلم يلوون ألسنتهم، أي يقلبونها بالتحريف والزيادة، يقول الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } (آل عمران :78).
وقد تبع اليهود النصارى نسيان ما ذكروا به، مع تزوير مواضع من الكتاب وإخفائها.
{ وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [المائدة : 14].
وهذا خطاب لأهل الكتاب من اليهود والنصارى معاً، أن يتبعوا الحق الذي جاء به القرآن الخاتم المهيمن، والذي يوافق ما لم يصبه التحريف من كتبهم: { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } (المائدة :68) ، لأن الذي يؤمن بما جاء به القرآن، يعتبر مؤمناً باليهودية الحقة، ومؤمناً بالنصرانية الصحيحة، وقد اعتبر الكثير من العلماء أن القرآن الكريم أقدم وثيقة علمية وصلت بطريق التواتر، لذلك فهي من الموثوقية البحتة تعتبر مصدراً للنصرانية واليهودية كما نزلت.(1/15)
والقرآن ينعى على أهل الكتاب، ويحذر من الانشغال بظاهر الحياة الدنيا عن ذكر الله تعالى، كما فعل اليهود والنصارى، الذين قعدوا عن القيام بواجبهم حتى تركوا كتابهم، يقول الله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } (الحديد :16).
قال ابن كثير: (فذم الله أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن كتاب الله المنزل عليهم، وإقبالهم على الدنيا وجمعها، واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع
كتاب الله) (1) .
وأما ما أسقطوا من كتبهم من الأحكام ومن القصص، فإن القران يشير إلى ذلك أيضاً كما في قوله تعالى { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } (النمل :76-79).
ج/ ختم الرسالة :-
قضى الله جل وعلا أن تكون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي خاتمة الرسالات السماوية، واللبنة الأخيرة في البناء النبوي التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعاً كما انتهت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كمالات الأنبياء لذلك لابد أن تكون مهيمنة عليها فهي المكملة والمتممة لها والباقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين، والقرآن هو آخر الكتب السماوية والمهيمن على ما سبق منها.
__________
(1) 15 / ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج1، المقدمة.(1/16)
وفى صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (مثلى ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داره فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويتعجبون منها ويقولون : لولا موضع هذه اللبنة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء)(6 (1) .
وروى البخاري ومسلم في صحيحهما، عن جبير بن مطعم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد)(17)..
ونقل القرطبي عن ابن عطية: في معنى خاتِم وخَاتم أن : هذه الألفاظ عند جماعة علماء الأمة، خلفاً وسلفاً، متلقاة على العموم التام، مقتضية نصاً انه لا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - (2) .
د/ لوازم ختم النبوة:-
لذلك كان من لوازم الخاتمية وتوقف النبوات، التصويب والاستمرار القيم، وحفظها في الكتاب والسنة صحيحة من كل تحريف أو تبديل، ليصبح التكليف صحيحاً عقلاً وشرعاً، ويترتب عليه الثواب والعقاب.
وختم النبوة يعنى : أن القرآن هو آخر رسالة إلى الناس، فلا كتاب بعد القرآن. ولو علم الله تعالى أنَّ الناس يحتاجون إلى رسالة أخرى من بعد ذلك، لما كان القرآن الكريم هو الرسالة الخاتمة، فإن رحمته بالبشر لا تتركهم بغير دليل وهداية : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء :107).
__________
(1) 26/ السيوطي ، قطف الأزهار ج 1 ص 75/76 عن تفسير الكبير الرازى
17 / أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: خاتم النبيين، رقم 3535 أخرجه مسلم في الفضائل، باب: ذكر كونه – - صلى الله عليه وسلم - – خاتم النبيين رقم 2286، وأخرجه احمد في مسنده 2/398، 313.
(2) 18 / البخاري 6/253. ومسلم، كتاب الفضائل، باب : أسماؤه: ج 15 ص 104.بشرح النووي، مؤسسة مناهل العرفان، بيروت.
12/ الجامع لأحكام القران (14/196).(1/17)
ونتيجة لختم النبوة، يلزم أن تكون الرسالة خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، أي صالحة لكل زمان ومكان، وأن تكون لجميع البشر، تحقيقاً للعالمية. وأن تكون ميسرة للقراءة والعمل: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر :17). و أحكامها قائمة على التيسير لا التعسير: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } (البقرة:185) ، حيث لا حرج ولا مشقة : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (الحج: 78)، والتكليف على الوسع : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة :286).. كما جاءت هذه الرسالة لترفع عنا الإصر والأغلال التي كانت على من سبقنا : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } (الأعراف :157) ، وقد ظل نداء المسلمين على الدوام، دعاء يتلى آناء الليل وأطراف النهار : { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ } (البقرة :286).. وليس ثمة حاجة لشيء من الرسالات السابقة تحقيقاً لمعنى الهيمنة، لأن الحفظ والخلود من لوازم الخاتمية.(1/18)
(والرسالة الخاتمة جاءت تعرض الإسلام في صورته النهائية الأخيرة، ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي الموجهة لمسار الكون، وهى للناس جميعاً، ولتهيمن على كل ما كان قبلها، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله لحياة البشرية وفق تعاليم القرآن : { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء :9)، وستظل هذه الرسالة ترفد الكون كله بهذه الهداية لتدور حياة البشرية حول محورها، استمداداً للتصور الإعتقادى والنظام الاجتماعي وآداب السلوك الفردي والجماعي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لأنها الحق الباقي : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } (النساء :105).. يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهى الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع وفرض القوانين. ويتمثل الحق في محتوياته وفى كل ما يعرض له من شؤون العقيدة والشريعة، وفى كل ما يقص من خبر وما يحمله من توجيه ) (1) .
هـ_ الرسول والرسالة في الكتب السابقة :
لقد قص القرآن الكريم بشارة الكتب السابقة بالنبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم - وبرسالته الخاتمة، وما تضمنته هذه الرسالة من بيان هيمنة القرآن عليها : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } (الصف :6).. ومع ما أصاب كتب السابقين من تحريف وتبديل، إلا أن الإشارات الباقية فيها تؤكد البشارة بخاتم النبيين بصفاته - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) 13 / سيد قطب في ظلال القران، (2/902 901)(1/19)
بل إن أحبار اليهود والنصارى يعرفون مما بين أيديهم، صدق رسول الله الخاتم - صلى الله عليه وسلم - ، ويجدون العلامات الدالة عليه في كتبهم : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (الفتح :29).. وقد أفلح منهم من عرف الحق واتبع الهدى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.. } (الأعراف :156)، ثم خسر من لم يؤمن، قال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام :21) .
ولذلك فالقرآن هو الحق والحكم ومصدر التلقي المهيمن الذي يحتكم ويلجأ إليه سواء بما عرض من أحكام أو تاريخ البشرية أو القصص لأنه الذي يتضمن المعايير والأصول الصحيحة التي تبين الحق وتصوب ما اختلف فيه .
فلا مجال بعد هذا لاعتماد كتب أهل الكتاب ولا الأخذ منها وسيقضي الله تعالى بين بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه، فيظهر ما حرفوه في الدنيا ويجازى في الآخرة كل واحد من المحق والمبطل.(1/20)
لذلك ومهما تعددت النصوص والمصادر، تبقى الهيمنة للقرآن بما تحقق له من الحفظ، فهو مصدر المعرفة الذي يرجع إليه والذي نحاكم إليه شرائعنا ، وخواطرنا واجتهاداتنا، ومؤلفاتنا، وكتبنا ، ومن ثم فلا بد لكل اختلاف أن يرد إلى هذا الكتاب المعيار ليفصل فيه سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي الناشئ، أو بين أصحاب الديانات السماوية أو حتى بين المسلمين أنفسهم.
هـ – هيمنته على مصادر المعرفة وانسجامه مع حقائق العلم :
مصادر المعرفة في الرؤية القرآنية تتجاوز ما يعرفه الماديون من ظاهر الحياة الدنيا فمصادر المعرفة التي لا يعرف العالم المادي غيرها وعليها قامت حضارته وكما يعبر عنها تعريف اليونسكو: (كل معلوم بالحس والتجربة) أسقطت من معرفتها الوحي وعالم الغيب وعليه فإن مصادر المعرفة عند الماديين لا تتجاوز الحس والتجربة أما في المفهوم القرانى فلا إنكار للحس ولا التجربة ولا الخبرة ولا المشاهدة بل إن القران ارتكز إليها ونص على ذلك كله: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ( النحل: 78 ).(1/21)
{ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } (ق 6-7) { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } (الغاشية 17 –20) { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (الأنعام:11) { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } (فصلت: 53).
وفوق ذلك كله فإن الوحي بما يمتلك من صفة الهيمنة يعتبر مصدر المصادر للمعارف ، والعلوم وسبحان الله منزل الوحي وحافظه وعاصمه قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (الأنعام: 115)، { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } (الشعراء: 197).
وتبارك الله رب العالمين خلق الخلائق كلها يعلمها علم الخلاق العليم { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } (الملك:14). وحسبنا أن نقول : إنه على الرغم من تقدم العلوم والمعارف لم يستطع العلم أن يسجل مناقضة واحدة للنص القرآني بل جاء العلم تأكيداً لما جاء به القرآن وانسجامه معه دليل أسبقية القرآن للعقل البشرى المحدود وأنه لا تناقض بين العقل والوحي ولا ثنائية بينهما وحقاً : { أفلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء:82).(1/22)
مما جعل القرآن مصدراً لاستمرار المعرفة وتصويب النظريات بحيث يكون القرآن هو المرجع لتأصيل العلوم وتحديد وجهتها وبيان هدفها.
وقد خلص موريس بوكاى بعد دراسة مقارنة للتوراة والإنجيل والقرآن، مع ما توصل إليه العلم من حقائق، إلي تناقض في التوراة والإنجيل مع هذه الحقائق، وانسجام القران معها مما دفعه إلى إثبات شهادته تلك في كتابه: (القرآن والعلم) .
و- هيمنته على الحضارات والديانات:
لما كان القرآن هو النص السماوي الوحيد الذي وصل بطريقه علمية صحيحة، وكان من خصائصه الديمومة والخاتمية لذلك اكتسب صفة الهيمنة على النصوص الدينية السابقة، وكل الإنتاج الثقافي الذي نشأ في ظلها أو معارضاً لها، كما هيمن على الحضارات جميعاً وعلى ما سبق من الديانات، وعلى تقاليد العرب الجاهلية، وعلى التراث الكتابي والعرفي الفارسي والروماني واليوناني، وعلى ما يأتي من مذاهب وأفكار معاصرة مادية وإلحادية شرقية كانت أم غربية، فهي وإن خدع بريقها بعض الأبصار فذلك إلى حين، لأن التأثير النفسي والمحاكمة العقلية على القرآن وهيمنته على القيم الروحية والنفسية والفكرية في المسلمين يحول دون استقرارها ورسوخها في النفوس وتأثيرها عليه لما يتضمنه من انسجام مع الفطرة الإنسانية ومخاطبته لها { فطرت الله التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } (الروم:30) . ويشهد لهذا واقع دخول العديد من أبناء الغرب في دين الله بعد أن لامست كلمات القرآن قلوبهم فأثمرت إيماناً بالله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } (الرعد: 17).(1/23)
وهذا من أعظم معاني الهيمنة التي يسعى المصلحون المجتهدون لتحقيقها في حياتنا المعاصرة، وسيظل القرآن بذلك كتاب الحاضر والمستقبل لا يأتيه الباطل من بين يديه مما سبقه من الكتب والفلسفات – ولا من خلفه مما يمكن أن يكون من المعارف والعلوم والفلسفات ومثلما كان منذ نزوله مصدقاً لما بين يديه يهدى إلى الحق والى الصراط المستقيم فسيبقى بإطلاقيته هادياً يهدى الناس كلهم لأن الله تعالى أنزله هكذا { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } (لبقرة: 185)، { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } (إبراهيم:1) ويمحو عن الناس آثار الضلال بهدايته وأنماط السلوك المادي المنحرف فمهما استفدنا من حكمة الغير واهتدينا بالشواهد فالقرآن يعود ويبقى حكماً { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } (الأنعام: 115)، صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام، فهذا القرآن يهدى للتي هي أقوم في العقائد والشرائع والشعائر ويوجه الحياة الإنسانية عموماً { هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء:9) . فنظرته هي الأقوم وهدايته هي الأكمل والأحسن في كل شيء، وهو بهذه القوامة مهيمن عليها جميعاً.
وهيمنته هيمنة معنوية في المقام الأول ومن شواهدها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين في المسجد الأقصى كما ورد في قصة الإسراء والمعراج حيث جمع الله له المرسلين في بيت المقدس وأمره ربه أن يسألهم فلم يشك ولم يسأل كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا } (الزخرف:45) (1) ودلالة ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين جاء بكلمة الله الأخيرة.
__________
(1) 16 / انظر الطبرى، 25/78 والقرطبى، 16/94 – 95.(1/24)
ومن ذلك أن المعجزات السابقة التي مضت في الأمم السالفة كانت معجزات مادية قاهرة لتلكم الأمم، ولكن المعجزة الخاتمة كانت معنوية مجردة عن حدود الزمان والمكان جاءت لتمتد ولتهيمن على الأفكار بالطوع والاختيار، وظهر بذلك حقاً أن القرآن العظيم هو كلمة الله الأخيرة في الكلام المقروء وقراءة الكون بالنظر والاعتبار والتدبر كما دعا القرآن. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكراً بالقران من غير أن تكون له سيطرة على أحد { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (الغاشية:21،22).
وأصل (مُسَيْطِرٍ) في اللغة من السطر، لأن سطر و(المسيطر) المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله ويكتب علمه وأصله (1) .
وهكذا فإن الهيمنة لا تعني سلب الإرادة ولا التسلط ولا الإكراه قال تعالى : { لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ } (البقرة:256). وليس لأحد من نبي أو أتباعه أن يكرهوا أحداً على الدخول في الدين { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } (يونس:99) وإنما الهيمنة في تأمين الحرية الفكرية والاعتقادية لأنها السبيل الوحيد للوصول إلى الحق، وهو ما جاء به القرآن.
__________
(1) 17 / انظر لسان العرب ، مادة (سطر) (4/364)وتاج العروس للزبيدى، مادة (سطر) (12/26) ومجمع البحرين لفخر الدين الطربجى، مادة (سطر)(3،330) .(1/25)
فقد عمل الإسلام على تأمين الناس في حريتهم الفكرية والاعتقادية، كما ضمن تأمين الناس في أنفسهم ممتناً عليهم بنعمه ليعبدوه : { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (قريش :3-4) ..والأصل في دعوة الإسلام، أنها دعوة طوع واختيار، وسماحة ويسر : { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } (الكهف :29)، ولم تقم مشروعية الجهاد إلا حين بادر الخصوم بالمحاربة : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } ( الحج : 39، 40).
وكانت مشروعية الجهاد أيضاً لتأمين العبادة ودورها ، وحماية غير المسلمين إلى جانب المسلمين، كما تحدثت آيات مشروعية الجهاد : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً } (الحج : 40).
واستمرارية الدعوة والمجاهدة بالقرآن ، ومضيه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، خير دليل على هيمنة الكتاب الذي أمر به ، قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " (1) .
ولعل في بقاء هذه الطائفة المنصورة القائمة على الحق ، مصدر استمرارية التطبيق للقرآن ، ذلك أن وجود النماذج القرآنية التطبيقية الدالة على الديمومة ، والقدرة على إنتاج هذه النماذج في كل زمان ومكان ، يعد حفظاً موثوقياً كلياً وعلمياً ، بعدما حفظ حفظاً توثيقياً كتابياً ولفظياً صوتياً.
ز – هيمنته على مصادر التشريع :
__________
(1) 18 أخرجه البخاري ، المناقب ، باب : سؤال المشتركين ، 6/632 (3641).(1/26)
وكما أن القرآن أنزل مهيمناً على النص الديني الذي سبقه ، وكل الإنتاج الثقافي الناشئ في إطاره ، أو المناقض له، فإنه هو الأصل المهيمن على مصادر التشريع لاستنباط الأحكام ، وما سواه يأخذ مشروعيته وصوابه منه .. والسنة النبوية لها الهيمنة بطبيعة بيانها وتطبيقها العملي للقرآن ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخلق بأخلاق القرآن : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } (القلم :4) ، وقد أخبرت عنه السيدة عائشة رضي الله عنها أنه "كان خلقه القرآن".. وإجماع الأمة أو مجتهديها ، لا يخرج عن الارتكاز والاستناد إلى فقه القرآن ، أو هيمنة القرآن عليه .. أما القياس فمعلوم أنه لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الكتاب والسنة (1) .
__________
(1) واقدم نص ذكر فيه القياس مصدراً من مصادر التشريع ما جاء في رسالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابي موسى الاشعري عندما كان والياً على البصرة فمن بنود تلك الرسالة قول عمر " الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك ، مما لم يبلغك في الكتاب والسنة ، واعرف الأمثال والأشباه ، وقس الأمور عند ذلك ... "
نعمان بن محمد بن العراق ص 128 _ تحقيق د/ محمد حميد الله ط 1393هـ(1/27)
وقد أبعد النجعة من ظن أن المدونات الفقهية من تراثنا ، تغني عن النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه ، في كل عصر ، بإعمال مجتهديه آراءهم واجتهاداتهم ، مع الاستفادة من تراثنا ، دون اعتقاد العصمة له .ومع مكانة السنة النبوية في التشريع الإسلامي بجانب القرآن، حيث أمرنا القرآن في مواضع كثيرة منه بمتابعة الهدي النبوي: { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } (الحشر :7) ، { مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } (النساء :80) فليس من الفقه أن يستدل بعض أهل الحديث بالسنة وحدها مع وجود النص الإمام من القرآن كاستدلال بعضهم على وجوب استقبال القبلة في الصلاة ، بإيراده في المسألة حديثاً والغفلة عن إيراد قوله تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } (البقرة :144)
ح-هيمنة المؤمنين به على سائر الأمم :-(1/28)
الأمة المسلمة هي أمة الوسط ، التي ناط الله بها الشهادة على الناس ،قال تعالي { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة 143) ، والشهادة هنا تعني الهيمنة بكل معانيها ، لذلك فمن وجوه الهيمنة للقرآن أن يؤدي المؤمنون وظيفة إمامة الإنسانية ، وهدايتها ، وتصويب مسيرتها وأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } (التوبة: 71). مع قيام المؤمنين بواجب إعداد العدة وامتلاك القوة بصورها العديدة والمادية والروحية المأمور بإعدادها في القران { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } (الأنفال: 60) ، والجهاد في الله حق جهاده { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } (الحج: 78).
عالمية رسالة القرآن :
فالعالمية إحدى مقتضيات الخاتمية ، والهيمنة من لوازمها فمجيء الرسالة خاتمة للرسالات يقتضي الهيمنة على غيرها من الرسالات ، وهذا يلزم منه عدم حصرها في أمة دون أخرى. والقرآن ينص في خطابه على ذلك ، موجهاً نداءه للناس جميعاً وللعالمين، وتتجلى عالمية القرآن أكثر ما تتجلى في المظاهر التالية :
أ/ عموم الرسالة :(1/29)
ولا شك في عالمية الرسالة ، فقد جاء الإعلان بذلك مع بدء الوحي منذ الفترة المكية ، وفى كثير من السور كما في سورة الأنعام المكية يقول تعالى { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ } (الأنعام: 19). وفى سورة الأعراف المكية أيضاً نقرأ قوله تعالى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (الأعراف: 158) . علاوة عن صيغة الخطاب المتكرر بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } .
وفى تأويل هذه الآية يقول ابن جرير الطبري : ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قل يا محمد للناس كلهم : إني رسول الله إليكم جميعاً لا إلى بعضكم دون بعض ، كما كان من قبلي من الرسل مرسلاً إلى بعض الناس دون بعض ، كذلك فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض ولكنها إليكم جميعكم.
وفى الجامع لأحكام القران للقرطبي : ( ذكر أن موسى بشر به وأن عيسى بشر به ثم أمره أن يقول إني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم جميعاً ) (1) .
روي جابر بن عبد الله رضي الله عنه : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) (2) .
__________
(1) الجامع لأحكام القران للقرطبي ( 7/302 )
(2) 20/ رواة البخاري فى التيمم ، رقم 335 وفى كتاب الصلاة ، باب : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً .رقم 438.(1/30)
ونقرأ في صدر الفرقان وهى سورة مكية النزول : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } (الفرقان: 1). وفى بيان اشتمال هذه الآية على عموم الرسالة الخاتمة يقول الطبري : "فقوله { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} يقول : تبارك الذي نزل الفصل بين الحق والباطل فصلاً بعد فصل وسورة بعد سورة ، على عبده محمد، ليكون محمد لجميع الإنس والجن ، الذين بعثه الله إليهم داعية إليه، نذيراً يعني منذراً ينذرهم عقابه ، ويخوفهم عذابه ، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة".
فرسالته - صلى الله عليه وسلم - ليست لفئة من الناس دون غيرها وإنما هي للناس جميعاً : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (سبأ: 28).
وفى تأويل هذه الآية يقول الطبري: "وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين من قومك خاصة ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين ، العرب منهم والعجم والأحمر والأسود) (1) .
ويقول القرطبي (2) في بيان قوله تعالى :0 (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}وما أرسلناك الا للناس كافة أي عامة ثم ينقل عن الزجاج وما أرسلناك إلاَّ جامعاً للناس بالإنذار والإبلاغ وأن الكافة يعني الجامع ، وقيل معناه: كافة للناس تكفهم عما هم فيه من الكفر وتدعوهم إلى الإسلام .
__________
(1) 21 / تفسر الطبرى، 22/66.
(2) 22 / تفسيرالقرطبى ( 14/ 300 )(1/31)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل بالقرآن رحمة للعالمين : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء 107)، وقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا المعنى ، فكانوا رسل دعوة وحملة هداية للإنسانية كلها فجسدوا ذلك في حياتهم ودعوتهم وفتوحهم، فهذا أحدهم وهو ربعي بن عامر حين قال لرستم ملك الفرس: "إِن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلي عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام" (1) .
وفي معنى قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} يقول الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أرسلناك يا محمد الا رحمةً لمن أرسلناك إليه من خلقي . ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بهذا ، مؤمنهم وكافرهم ، أم أريد بها أهل الإيمان خاصة ؟
يقول : وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي روي عن ابن عباس أن الله أرسل نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة لجميع العالم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به والعمل بما جاء من الله الجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء، الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رسلها من قبل (2) .
أ – دعوته العالمية بالتى هى أحسن:
__________
(1) 23 /الطبرى تاريخ الأمم والملوك، ابن كثير البداية والنهاية، دار الكتب العلمية، بيروت، 7/40.
(2) 24 /جامع البيان عن تأويل آى القرآن الطبرى، 17/83.(1/32)
ولقد تقدم أن أصل الدعوة إلى الإسلام هو الطوع والاختيار وليس الاكراه والاجبار: وهى حقيقة مقررة منذ الفترة المكية لقوله تعالى: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [يونس:99] ولقوله تعالى: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود:118-119] وأما في الفترة المدنية بعد الهجرة فقد زاد هذا الأمر توكيداً قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة:156].
وقد نهجت الدعوة الاسلامية هذا المنهاج في البلاغ طوال الفترة المكية، بيد أن مشركى مكة قد أنكروا دعوة التوحيد،وأنكروا على المسلمين حريتهم في بلاغها،وذهبوا إلى إيذاء أصحابها والتضييق عليهم ومحاصرتهم ومقاطعتهم،بل إلى التآمر على حياة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - .. هذا بينما لم يكن هو يبتغى سوى أن يخلوا بينه وبين الناس يدعوهم إلى التوحيد ومكارم الأخلاق .
وقد اتجه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأَخرَة من الفترة المكية إلى أن يعرض نفسه على القبائل الأخرى لا يطلب سوى الحماية ليبلغ رسالة ربه،فاستجاب له الأوس والخزرج بيثرب، وعاهدوه على الحماية والنصرة ، فكانت الهجرة إلى المدينة إيذاناً بحرية الدعوة والدفاع عنها والتمكين لها .(1/33)
ثم إن مشركى مكة لم يدعوا الدعوة تمارس حقها في البلاغ والذيوع فلم يكتفوا بإخراج أصحابها من موطنهم بمكة وإنما تحالفوا مع اليهود والقبائل الأخرى المشركة لوأد الدعوة في مهدها الجديد بالمدينة،فلم يكن أمام المسلمين بد من القتال للدفاع عنها،حيث جاءهم الإذن الالهي بالقتال دفاعاً عن حرية الدعوة في وجه الظلم الذى تمادى في مصادرتها والتضييق عليها، وهو ليس دفاعاً عن الدعوة الإسلامية فحسب، وإنما هو دفاع عن حرية التدين لغير المسلمين، فضلاً عن حماية المجتمع من التحلل والتفكك بفشو الرذائل والمباذل.
والآيات الواردة في سورة الحج بمشروعيه القتال تبين دواعى الجهاد ودوافعه،وهى في عمومها تدور حول التمكين لحرية الدعوة،ولحرية العبادة، ولحرية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو ما يفوق كل ما يسمى حديثاً (بالحريات الدينية): { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج:39-41](1/34)
في هذا الاطار جاء الأمر بقتال الكفار والحض على جهادهم { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَة الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا } [النساء:75] { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ } [التوبة:12-13] وحيث ما أمكن للمسلمين أن يبلغوا دعوتهم ، ويأمنوا على أنفسهم فإن منهاج البعث الاسلامى يعود الى أصله في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بقوة الحجة { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } [النحل:125] وقد تطورت الوسائل الحديثة في الخطاب المباشر من خلال الملتقيات الفكرية والعلمية، والخطاب غير المباشر عن طريق النشر والاعلام الفضائى وشبكات المعلومات، وذلك مما يملك المسلمون الانتفاع به إلى أقصى الحدود في الدعوة والبلاغ أكثر ممن استخدموا الوسائل نفسها في الصد عن سبيل الله وتشويه صورة الاسلام.(1/35)
وأما ما ذهب إليه صاحب زاد المعاد (1) وصاحب الظلال (2) رحمهما الله تعالى ، من التدرج في مراحل الدعوة فلم يقصدوا به سوى المراحل التي واجهت بها الدعوة الواقع العملي تاريخياً، وذلك من ملابسات التمادي في التضييق بمكة أو التأليب على العدوان بالمدينة، حتى انتهى ذلك الواقع التاريخي إلى سيادة الدعوة ودولتها على الجزيرة العربية، فصار الناس منها إما مؤمن بها أو داخل في عهدها أو محارب لأهلها.. ولو كان المشركون وأهل الكتاب من اليهود قد خلُّوا بين المسلمين والناس ليمارسوا حرية البلاغ منذ البداية لما كانت بالمسلمين حاجه إلى اللجوء للقتال.. وتدل الملابسات التاريخية نفسها إلى أن المسلمين كانوا حريصين على الجنوح للسلم والتعاهد على المسالمة والموادعة ، متى ما سنحت الظروف وأتيحت الفرص.. ويقف صلح الحديبية شاهداً على هذا التوجه الأصيل.. وقد كسب المسلمين بالصلح أضعاف ما كسبوه بالحرب من حيث انتشار الدعوة والتمكين للدعاة.
وتدل صحيفة المدينة (3) التي عقدها المسلمون مع سكان المدينة على تعدد مللهم ونحلهم على هذه الروح التصالحية التصاهرية، ولولا خرق اليهود عهد تلك الصحيفة بتحالفهم مع مشركي قريش والقبائل الأخرى ضد دولة المدينة الناشئة فيما عرف بغزوة الأحزاب لكان يمكن أن يكون لملابسات التاريخ مجرى آخر..ويدل عهد المسلمين مع نصارى نجران،سواء في العهد النبوي أو العهد الراشدي على ما يوليه المسلمون من روح التصالح والتوادد مع أهل الكتاب وخاصة النصارى .
ب - عموم رحمته وعدالته في الحكم :
__________
(1) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد في هدى خير العباد 3/158-161.
(2) سيد قطب : في ظلال القرآن 3/1433.
(3) أنظر كتاب أنفاس طاهرة أ.د. أحمد على الامام ص 10-40.(1/36)
إِنّ إلحاق الرحمة بالناس، هي الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة الإسلامية قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء: 107) لذلك أمر الله سبحانه وتعالى من يتولى أمر الناس، أن يحكم فيهم شرع الله، وأن يعدل بينهم، دون نظر لاختلاف الملل أو النحل، أو الأجناس أو البلدان : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } ( النساء :58).
يقول الطبري في تأويل هذه الآية : "هو خطاب من الله إلى ولاة أمور المسلمين، بأداء الأمانة إلى من ولوا أمره، في فيئهم وحقوقهم، وما اؤتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في العطية، والقسمة بينهم في السوية" (1) .
وفى هذا من الدلالة على عالمية القرآن ما فيه، بل لقد حذر القرآن من أية دوافع قد تحول دون تحقيق العدالة مع أي من البشر : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } (المائدة :8).
ج- الشهادة على الأمم :
__________
(1) 27 / جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 5/92.(1/37)
فالأمة الإسلامية مهتدية بما جاء به القرآن الكريم، جديرة بأن تكون شاهدة على الأمم جميعاً : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة :143). فهي الأمة الوسط، التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن فيهم تصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم، فتتوصل في أمرها، وتقول هذا حق وهذا باطل؛ لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها .. وهى شهيدة على الناس، وفى مقام الحكم العدل بينهم .. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يشهد عليها، فيقر لها موازينها وقيمها ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة، وبهذا تتحد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها به (1) .
ومما تعنيه الشهادة، بيان الحق فيما اختلف فيه، وإدانة الباطل الذي دخل تلك الكتب، وما أصابها من تحريف وتغيير وتبديل، وكشف الزيف الذي افتراه الذين استحفظوا من بعد الرسل على الكتب السابقة. وإن الأمة المسلمة بما تمتلك وتجسد في حياتها من قيم الكتاب المحفوظ وما صح من الهدي النبوي، هي أمة معيارية، شاهدة على غيرها، منحها الله الريادة والقيادة، يقول تعالى : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } (الحج :78).
__________
(1) 28 / فى ظلال القرآن، 1/131 130.(1/38)
فالشهادة على الناس، والقيادة لهم وفق منهج الله في الكتاب والسنة، هي من أخص خصائص المعيارية. ذلك أن أمة الرسالة الخاتمة، يستحيل عليها عقلاً وواقعاً أن تتواطأ على الخطأ، لأنها تمتلك القيم المعيارية المعصومة، ويمثلها ويجسدها – باستمرار – ظهور الطائفة القائمة على الحق، لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك، الأمر الذي يقتضي عصمة عموم الأمة، التي يشير إليها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار» (1) .
وخدمة السيرة والسنة النبوية للقرآن، وتجسيدهما له في أرض الواقع واستمرار التمثل بهما حتى عصرنا، دلالة على معيارية القيم المعصومة في
الأمة (2) .
خلود القرآن :
فالخلود أحد مقتضيات الهيمنة، كالعالمية والخاتمية، إذ تقتضي الهيمنة حفظ هذا القرآن، ليصل للناس جميعاً، فيكون خالداً .. ومن مظاهر خلوده :
أ /حفظ الله له :
فقد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن أبد الدهر: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر: 9) .. والمعنى: إنا للقرآن حافظون من أن يزاد فيه ما ليس منه، أو ينتقص منه ما هو منه، من أحكامه وحدوده وفرائضه (3) .
وهذا حديث قدسي، يؤكد تكفل الله تعالى بحفظ القرآن، لا ينال منه شيء أبداً ( ... وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان ... ) (4) . ومعنى قوله : ( لا يغسله الماء ): أنه محفوظ في الصدور، لا يتطرق إليه الذهاب ، بل يبقى علي مرّ الأزمان .
__________
(1) 29 / أخرجه الحاكم وصححه، 1/115 .
(2) 30 / عمر عبيد حسنه، مقدمته على كتاب الأمة رقم (37).
(3) 31 / انظر : الطبري جامع البيان عن تأويل آي القرآن، 14/6.
(4) 32 / أخرجه مسلم في صحيحه .(1/39)
وأما قوله :(تقرأه نائماً ويقظان )، فمعناه : إنه يكون محفوظاً لك في حالتي النوم واليقظة. وقيل : تقرؤه في يسر وسهولة (1) .
وهذا الحفظ أكد موثوقية النص القرآني ، مكتوباً ومقروءاً ،سليماً من التغيير والتبديل ، منذ نزوله وحفظه بالاستظهار في الصدور ، والتدوين في الصحف ، وبقي المصحف كذلك لم يتغير فيه شئ غير تطور رسمه عبر العصور، وهو تطور محدود بحدود بيان الهيئة الداخلية من ضبط الحروف وإعجامها ، حيث ظلت الهيئة الخارجية للحروف على حالها الأول غالباً مثل كلمة ( الصلوة) لم تتغير في رسم المصحف الاّ في وضع ألف صغيرة فوقها يوضح نطقها هكذا ( الصلوة) . ولم يكن الاعتماد على مجرد رسم المصاحف، بل صحبها شيوخ قراء معتمدون أقروا بما فيها، وأورثوا تلاميذهم حفظ الصدور ، وقراءة المصحف ، وفقه العمل ، والحكمة ، التي طبقها الرسول - صلى الله عليه وسلم - . فقد حفظ القرآن بظهر الغيب رجال مؤمنون ونساء مؤمنات ، من لدن عصر الصحابة ومن تبعهم بإحسان ، وظل العدد يتنامى ويزيد على توالي القرون ورغم كل الظروف ، بما حقق تواتر نقله في الأجيال.
ويأتي دور الأجيال اللاحقة في فهم المعاني واستخراج الحكم واستخلاص الحلول والمعالجات لمشكلات الحياة المتجددة مع الإفادة الكاملة والتقدير لجهود السلف الصالح التي تشكل المرجعية الشرعية لفهم الكتاب وتنزيله على الواقع .
__________
(1) 33 /انظر: صحيح مسلم بشرح النووي ، برقم (2865)، طبعة مؤسسة مناهل العرفان ،بيروت ، ومكتبة الغزالي ، دمشق، 17/ 198 .(1/40)
وقد شهد المنصفون من الباحثين حتى من غير المسلمين بسلامة النص القرآني من التحريف والتبديل ومن هؤلاء المستشرقون الألمان حيث جمعوا النسخ الخطية المتداولة للمصحف في شرق العالم الإسلامي وغربه، للوقوف على ما توهموا من اختلافات بين النسخ ، وقارنوا بين هذه النسخ على العصور والبلدان المختلفة ، فلم يجدوا اختلافاً أصلاً، مما يؤكد سلامة القرآن من التغيير والتحريف والتبديل ، وهو رد من داخل الدراسات الغربية على كل ما أثير من شبهات لا أساس لها من الصحة .. ولا غرابة في ذلك ، بعد ما شهد القرآن بان الله تولى حفظه أبد الدهر . وما أحسن ما أثر عن الجاحظ من كلمة بليغة عن سلامة القرآن من الزيادة أو النقصان، حيث يقول : "إنَّ قوماً يتشككون في أحرف من القرآن ويبحثون عن زيادة أدرجت فيه بغير إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة في الوقت الذي لو أن أحداً أراد أن يدخل حرفاً في شعر أبي الشمقمق لافتضح عند الرواة فضلاً عن كتاب الله عز وجل المنقول بالتواتر والأسانيد الصحيحة والمتلو في المحاريب أناء الليل وأطراف النهار؟)(34). كما تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة، من أي تحريف أو تبديل، سواء في ذلك تحريف الكلم عن مواضعه، أو تحريفه بالتأويل والخروج بالمعنى عن ما وضع له اللفظ : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (الحجر: 9 ). وقال : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } (القيامة : 17-19) وهذا التكفل بالحفظ الإلهي والحراسة لبيانه وقيمه عن طريق النبوة، يعتبر من أبرز سمات الرسالة الخاتمة وأخص خصائصها .
ب / ديمومة القرآن ووجوه إعجازه :
ومن وجوه ديمومة القرآن وإعجازه للعالمين عجز الجنُّ والإنس عن أن يأتوا بمثله منذ نزوله وعلى توالي العصور وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(1/41)
وقد أوجز العز بن عبد السلام رحمه الله، معاني الإعجاز فقال (1) :
الإعجاز:
(1) هو الإيجاز والبلاغة : { ولكم في القصاص حياة } (البقرة :179).
(2) أو البيان والفصاحة : للآية { فاصدع بما تؤمر } (الحجر :94). { فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً } (يوسف :80).
(3) وهو رصفه الذي أخرجه عن عاداتهم في النظم والنثر، والخطب والشعر والرجز، والسجع المزدوج، مع أن ألفاظه مستعملة في كلامهم.
(4) أو هو أن قارئه لا يمله.
(5) أو ازدياد حلاوته مع كثرة تلاوته، بخلاف غيره، فإنه يُمَلُّ إذا أكثر منه.
(6) أو هو لإخباره بما مضى، كقصة أهل الكهف، وذي القرنين، وموسى والخضر وجميع قصص الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
(7) أو هو إخباره عما يكون، كقوله : { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } (البقرة :24)، { ولن يتمنوه أبداً } (البقرة : 95). (2)
(8) واشتماله على العلوم التي لم تكن فيها آلتها،ولا تعرفها العرب، ولا يحيط بها أحد من الأمم (3) .
ومجمل ما ذكره العلماء من وجوه إعجاز القرآن الكريم، يتلخص في أربعة أوجه، هي : الإعجاز البياني، والتشريعي، والعلمي، والإخبار عن غيوب المستقبل. ويتصدر الإعجاز البياني وجوه إعجاز القرآن.
__________
(1) 35 / نبذ من مقاصد القرآن العزيز، تحقيق أيمن عبد الرازق الشواط، ط1، 1416 هـ –1995م، طبع مطبعة الشام، توزيع مكتبة الغزالي، ص 62-64.
وهذا الكتاب فصل ختم به العز كتابه المعروف (الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز) وهو مطبوع ط 1313 هـ، المكتبة العلمية، المدينة المنورة.
(3) 36 / الإشارة إلى الإيجاز فى بعض أنواع المجاز، الإمام الحافظ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام السلميت، 660هـ، طبعة دار البشائر الإسلامية، بيروت، 1408هـ- 1987م، ص215.(1/42)
والإعجاز البياني حقيق بهذا المقام من إمامة وجوه الإعجاز لأنه وحي يتلى بلسان عربي مبين ، أعجز العالمين أن يأتوا بمثله في بيانه ووجوه إعجازه كلها ونقرأ هنا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) (1) .
والقرآن الكريم مثلما كان المعجزة الكبرى للإيمان، فسيبقى كذلك أبد الدهر، يدعو إلى الإيمان، ويبشر بالمستقبل، بإعجازه البياني، والتشريعي، والعلمي، والغيبي. ولعل أول ما يلفت النظر من وجوه إعجاز القرآن العظيم، ذلك التناسق المحكم بين آي القرآن وسوره، مع تحقيق التكامل والوحدة الموضوعية، حتى أن القرآن كله في ترابطه واتحاد الموضوع، في حكم السورة الواحدة.
__________
(1) 37 / أخرجه البخاري في فضائل القرآن، برقم 4598.(1/43)
وقد أحسن ابن هشام في كتابه (مغني اللبيب)، حيث ذكر في سياق كلامه عن (لا) النافية، أن عدم وجود الخبر في الآية نفسها أو السورة، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، كما في قوله تعالى : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } (الحجر :6)، حيث جاء الجواب في قوله تعالى : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } (القلم :2) (1) . بل يذهب الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه (سراج المريدين)، إلى أن "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض، حتى يكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني علم عظيم ... " (2) . وأحسن الزركشي في وصفه لترابط الآيات وتعلق بعضها ببعض، فقال: ( بل عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة ) (3) .
ولقد اتفقت كلمة علماء العربية، من أئمة التفسير وعلوم القرآن وإعجازه البياني خاصة، على أن الإعجاز البياني للقرآن الكريم، يرجع إلى فصاحة ألفاظه ، وبلاغة أساليبه، وخفته على اللسان، وحسن وقعه في السمع، وأخذه بمجامع القلوب (4) .
__________
(1) 38 / جمال الدين بن هشام الأنصاري : مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، دار الكتب العربية، 1/ 200-201 .
(2) 39 / الزركشي : البرهان في علوم القرآن 2/36، البقاعي : نظم الدرر في تناسب اآيات والسور، 1/6 – 7.
(3) 40 / الزركشي : البرهان في علوم القرآن، 1/39.
(4) 41 / الباقلاني : إعجاز القرآن، تحقيق أحمد السيد صقر : ص 51.(1/44)
وتجدد أوجه إعجاز القرآني بيانياً، منذ نزوله وإعجازه العرب الذين عاصروا نزوله، فكانوا في أظهر مراحل لغتهم، ولم يستطيعوا أن يأتوا بقرآن مثله : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ } (الطور: 33-34) .. وجاء هذا المعنى مع التحدي في سورة الإسراء : { قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } (الإسراء :88). ولا بعشر سور مثله مفتريات: { أم يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (هود :13-14).
ولا بسورة من مثله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (يونس :38). وهي آية مكية كسابقتها.
فجاءت هذه الآيات المدنية في سورة البقرة، تأكيداً للإعجاز والتحدي : { وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } (البقرة :22-24).(1/45)
ولا يزال الإعجاز والتحدي قائمين إلى يومنا هذا، وإلي الأبد، حيث تؤكده الدراسات اللغوية الحديثة. وإن من وجوه إعجاز القرآن، وحدته البنائية، التي تساعد اللسانيات الحديثة على دراستها، كامتداد لما بحثه العلماء المتقدمون في إعجاز القرآن البياني .
ولقد تنزل السورة كالبقرة، نجوماً مفرقة على مدى طويل من الزمان، قد يستغرق سني حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة، لكنها لمن يتدبرها كأنها نزلت دفعةً واحدة وفي ذلك يقول صاحب كتاب ( النبأ العظيم ) : " ... إنها إن كانت بعد تنزيلها قد جمعت عن تفريق، فلقد كانت في تنزيلها مفرقة عن جمع، كمثل بنيان كان قائماً على قواعده، فلما أريد نقله بصورته إلى غير مكانه، قدرت أبعاده ورقمت لبناته، ثم فرق أنقاضاً فلم تلبث كل لبنة منه أن عرفت مكانها المرقوم، وإذ البنيان قد عاد مرصوصاً يشد بعضه بعضا كهيئته أول مرة (1) .
إنَّ نظم القرآن قد أخذ بألباب العرب البلغاء، وقد أدرك اللغويون القدامى عظمة لغة التنزيل، وأنها ليست كلغة العرب، أهل اللسان والفصاحة، وأن لها خصائص عالية اكتسبت بها الإعجاز : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } (فصلت :41-42) .. ولقد أقبلوا على التنزيل مستفيدين، معتبرين، مبينين أفانين شتى من وجوه القول، فكان ذلك مؤذناً أن القرآن قد أقام درس التربية على أنماطٍ جديدة، لم يهتد إليها العرب من قبل إن يتأدبوا بأدب القرآن .. لقد وجد الدارسون في لغة القرآن أنماطاً من وجوه القول وقفوا عليها، فقالوا فيها أقوالاً عدة، إذ هي وأمثالها كانت دافعاً لأهل العلم أن يضعوا أوائل الضوابط النحوية .
__________
(1) 42 / د. محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، نظرات حديثة في التفسير ص 155 .(1/46)
ثم إن لغة التنزيل العزيز قد نقلت العربية من كونها لغة أدب نتبينها في الشعر القديم، إلي لغة علم دقيق لها (مصطلحها الشريف) (1) .
وأحل العلماء الراسخون منزلتها وعرفوا مكانتها، وكونها أساساً لفهم القرآن، يقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ: "فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به ألاَّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وفي التسبيح والتشهد ، وغير ذلك ... " (2) .
يقول ابن تيمية رحمه الله : "وإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب" (3) .
وصاحب "الموافقات في أصول الشريعة الإسلامية"، يؤكد أنه لا سبيل لفهم القرآن والاستمداد منه إلا بمعرفة العربية، حيث يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : "إن هذه الشريعة المباركة عربية، فمن أراد فهمها فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى طلب فهمها في غير هذه الجهة".
أما العسقلاني رحمه الله فيذهب إلى وجوب معرفة اللغة العربية كفرضٍ من فروض الدين الذي لا يأتي الفقه فيه إلا بهذه المعرفة، وينشد في هذا المقام :
حفظ اللغات علينا فرض كفرض الصلاة
فليس يعرف دين إلا بحفظ اللغات
ولقد تحدث من بعد فأحسن الأستاذ مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى حيث بين أن القرآن يتناول إعجازه، إلى جانب نظمه وبيانه وتحقيقه لوحدة الأمة، جوانب ثلاثة :
[1] تاريخه ، فهو محفوظ بحفظ الله له أبد الدهر، لم يطرأ عليه ما أصاب الكتب السماوية الأخرى من تحريف وتبديل.
__________
(1) 43 / انظر د. إبراهيم السامرائي (في شرف العربية) ص 35.
(2) 44 / الرسالة للإمام الشافعي، الفقرة 167 ص 48 ط دار الفكر.
(3) 45 / اقتضاء الصراط المستقيم، 1/69.(1/47)
[2] أما أثره، فكان أعظم كتاب أحدث هذا الأثر الشامل بما لم يسبق لغيره.
[3] أما حقائقه، فهو الحق، وما أخبره به فكله حقائق : { وإنّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأتيهِ البَاطِلُ مِن بينِ يَديهِ ولا مِنْ خَلْفهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد } (فُصِّلت :40-42).
ثم تناول بالدراسة سر الإعجاز في نظم القرآن، وذكر أن الكلام بالطبع يتركب من ثلاثة:
[1] حروف، هي من الأصوات.
[2] وكلمات هي من الحروف.
[3] وجمل هي من الكلم.
وإنَّ سر الإعجاز في نظم القرآن، يتناول هذه كلها، بحيث خرجت من جملتها تلك الطريقة المعجزة التي قامت به.
يقول الرافعي : "فلما قرئ عليهم القرآن، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحاناً لغوية رائعة، كأنها لائتلافها وتناسبها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها، فلم يفتهم هذا المعنى، وأنه أمر لا قِبَلَ لهم به، وكان ذلك أبين في عجزهم".
ويتابع الرافعي حديثه عن الأثر الصوتي لنظم القرآن، فيقول عن الذي يستمع لصوت القرآن : "فإنه إنما يسمع ضرباً خالصاً من الموسيقى اللغوية، في انسجامه، واطراد نسقه، واتزانه على أجزاء النفس، مقطعاً ونبرة، كأنها توقعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة".
ثم يقول: "وليس يخفى أن مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأن هذا الانفعال بطبيعته إنما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه، مداً أو غنة، أو ليناً أو شدة، وبما يهيئ له من الحركات المختلفة، في اضطرابه وتتابعه على مقادير تتناسب ما في النفس من أصولها، ثم هو يجعل الصوت إلى الإيجاز والاجتماع، أو الإطناب والبسط، بمقدار ما يكسبه من الحدة والارتفاع والاهتزاز وبعد المدى ونحوهما، مما هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.(1/48)
فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن على طرق الأداء الصحيحة، لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها في هز الشعور واستثارته من أعماق النفس؛ وهو من هذه الجهة يغلب بنظمه على كل طبع عربي أو عجمي، حتى إن القاسية قلوبهم من أهل الزيغ والإلحاد، ومن لا يعرفون لله آية في الآفاق ولا في أنفسهم، لتلين قلوبهم وتهتز عند سماعه، لأن فيهم طبيعة إنسانية، ولأن تتابع الأصوات على نسب معينة بين مخارج الأحرف المختلفة، هو بلاغة اللغة الطبيعية التي خلقت في نفس الإنسان، فهو متى سمعها لم يصرفه عنها صارف فمن اختلاف العقل أو اختلاف اللسان؛ وعلى هذا وحده يؤول الأثر الوارد: (إنَّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)، لأنه يجنب هذا الكمال اللغوي ما يعد نقصاً منه، إذا لم أسباب الأداء في أصوات الحروف ومخارجها، وإنما التمام الجامع لهذه الأسباب صفاء الصوت، وتنوع طبقته، واستقامة وزنه على كل حرف.
و ما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن ، إلاَّ صور تامة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متفقة مع آياتها في قرار الصوت اتفاقاً عجيباً، يلائم نوع الصوت و الوجه الذي يساق عليه، بما ليس وراءه في العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو بالمد، وهو كذلك طبيعي في القرآن، فإن لم تنته بواحدة من هذه، كأن انتهت بسكون حرف من الحروف الأخرى، كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وعلى أن ذلك لا يكون أكثر ما أنت واجده إلا في الجمل القصار، ولا يكون إلا بحرف قوي يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما، مما هو ضروب أخرى من النظم الموسيقي.(1/49)
وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه، الذي يخاطب به كل نفس تفهمه، وكل نفس لا تفهمه، ثم لا يجد من النفوس على أي حال إلا الإقرار والاستجابة؛ ولو نزل القرآن بغيرها لكان ضرباً من الكلام البليغ الذي يطمع فيه أو في أكثره، ولما وجد فيه أثر يتعدى أهل هذه اللغة العربية" (1) .
وسيظل القرآن أبد الدهر يقرأ في السر والعلن، في المحاريب والمحافل، آناء الليل وأطراف النهار، لا يمل .. وقد أحسن ابن قتيبة وصف إعجاز القرآن في هذا المقام حيث يقول: "وقطع منه بمعجز التأليف أطماع الكائدين، وأبانه بعجيب النظم عن حيل المتكلفين، وجعله متلواً لا يمل على طول التلاوة، ومسموعاً لا تمجه الآذان، وغضاً لا يخلق على كثرة الرد، وعجيباً لا تنقضي عجائبه، ومفيداً لا تنقضي فوائده" (2) .
وعلى هذا السياق ذاته يمضي الرافعي فيقول : "ومما انفرد به القرآن وباين سائر الكلام، أنه لا يخلق على كثرة الرد وطول التكرار، ولا تمل منه الإعادة، وكلما أخذت فيه على وجهه الصحيح فلم تخل بأدائه، رأيته غضاً طرياً وجديداً مونقاً، وصادفت من نفسك نشاطاً مستأنفاً، وحساً موفوراً، وهذا أمر في أصله يستوفي العالم الذي يتذوق الحروف، ويستمر تركيبها، ويمعن في لذة نفسه من ذلك، والجاهل الذي يقرأ ولا يثبت معه من الكلام إلاَّ أصوات الحروف، وإلا ما يميزه من أجراسها، على مقدار ما يكون من صفاء حسه ورقة نفسه" (3) .
__________
(1) 47 / مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، ط6 سنة 1375هـ –1956م، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ص243_247.
(2) 48 / ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ط3، دار الكتب العلمية، بيروت،1981م، ص3.
(3) 49 / المصدر نفسه، ص :247.(1/50)
لم يقف الأستاذ/ سيد قطب في ظلال القرآن، عند حد بيان الإعجاز البياني للقرآن، بل نص على وجوه أخرى للإعجاز كثيرة، حيث يقول: "إنَّ إعجاز القرآن أبعد مدى من من إعجاز نظمه ومعانيه، وعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثله، هو عجز كذلك عن إبداع منهج كمنهجه يحيط بما يحيط به" (1) .
وفي تأثير القرآن على النفوس وسلطانه يقول سيد قطب :
"إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري، حتى ليبلغ أحياناً أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً" (2) .
ثم يسترسل في بيان الأداء القرآني، فيقول:
"إنَّ الأداء القرآني يمتاز بالتعبير عن قضايا ومدلولات ضخمة، في حين يستحيل على البشر أن يعبروا فيه عن مثل هذه الأغراض، وذلك بأوسع مدلول وأدق تعبير وأجمله وأحياه أيضاً، مع التناسق العجيب بين المدلول والعبارة، والإيقاع، والظلال، والجو ومع جمال التعبير ودقة الدلالة في آن واحد، بحيث لا يغني لفظ عن لفظ موصفه، بحيث لا يجور الجمال على الدقة، ولا الدقة على الجمال .. ويبلغ من ذلك مستوى لا يدرك إعجازه أحد، كما يدرك ذلك من يزاولون فن التعبير فعلاً، لأن هؤلاء هم الذين يدركون حدود الطاقة البشرية في هذا المجال، ومن ثم يتبينون بوضوح أن هذا المستوى فوق الطاقة البشرية قطعاً" (3) .
الإعجاز التشريعي:
ويستمر إعجازه تشريعياً، بسبقه الشرائع والتشريعات السابقة المستمدة من أصول كتابية أو من وضع الحضارات والدول. وقد استفادت كل النظم الحضارية على مدار التاريخ، حتى الحضارة الغربية المعاصرة، من التشريعات الإسلامية ومدونات الفقه الإسلامي.
__________
(1) 50 / سيد قطب: فى ظلال القرآن، 15/16.
(2) 51 / في ظلال القرآن، 3/1786.
(3) 52 / في ظلال القرآن، 1787.(1/51)
ولقد عد كثير من المتحدثين في إعجاز القرآن الكريم، علم الحلال والحرام، أو ما يصطلح اليوم على تسميته (بالإعجاز التشريعي)، عدوه وجهاً من وجوه إعجاز القرآن الكريم، وقد علل صاحب كتاب (المعجزة الكبرى) لذلك، فقال: "وذلك لأن ما اشتمل عليه القرآن من أحكام تتعلق بتنظيم المجتمع، وإقامة العلاقات بين آحاده على دعائم المودة والرحمة والعدالة، لم يسبق به في شريعة من الشرائع الأرضية، وإذا وزنا ما جاء في القرآن بما جاءت به قوانين اليونان والرومان، وما قام به الإصلاحيون للقوانين والنظم بما جاء في القرآن، وجدنا أن الموازنة فيها خروج عن التقدير المنطقي للأمور، مع أن قانون الرومان أنشأته الدولة الرومانية في تجارب ثلاثمائة سنة وألف، من وقت إنشاء مدينة روما، إلى ما بعد خمسمائة من الميلاد، ومع أنه قانون تعهده علماء قيل: إنهم ممتازون، منهم (سولون) الذي وضع قانون أثينا، ومنهم (ليكورغ) الذي وضع نظام أسبرطة.
فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعه القرآن، الذي ينطق بالحق عن الله سبحانه وتعالى ، من غير درس درسه، وكان في بلدٍ أمي ليس فيه معهد، ولا جامعة، ولا مكان للتدارس ، وأتى بنظام للعلاقات الاجتماعية والتنظيم الإنساني، لم يسبقه سابق ، ولم يلحق به لاحق (1) .
وتثبت الاكتشافات العلمية، أن القرآن لا يتناقض مع أي حقيقة علمية تم اكتشافها في أي عصر من العصور، بل لم يكتشف العلماء والباحثون بعض ما أشار إليه القرآن من حقائق علمية قبل أربعة عشر قرناً، إلا في هذا العصر، بحيث لا تخالف حقائق القرآن ومقرراته ما توصل إليه البحث العلمي من حقائق. والتفسير العلمي بضوابطه الشرعية، يعد من أقوى الوسائل اليوم لبيان إعجاز القرآن لأهل عصرنا هذا.
__________
(1) 53 / محمد أبو زهرة : المعجزة الكبرى القرآن، ص 427-428 .(1/52)
وقد أشار صاحب كتاب "مدخل إلى القرآن الكريم" (1) ، إلى حقائق علمية في القرآن الكريم، فقال: "ولكن القرآن في دعوته إلى الإيمان والفضيلة، لا يسوق الدروس من التعاليم الدينية والأحداث الجارية وحدها، وإنما يستخدم في هذا الشأن الحقائق الكونية الدائمة، ويدعو عقولنا إلى تأمل قوانينها الثابتة، لا بغرض دراستها وفهمها في ذاتها فحسب وإنما لأنها تذكر بالخالق العظيم القدير. ونلاحظ أن هذه الحقائق التي يقدمها تتفق تماماً مع آخر ما توصل إليه العلم الحديث، مثل:
- المنبع الخفي، الذي يخرج منه العنصر الجنسي للإنسان: { فَلْيَنظُرْ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ } (الطارق: 6).
- والمراحل التي يمر بها الإنسان وهو في بطن أمه : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } (الحج :5).
- وعدد التجويفات المظلمة التي يتم الخلق بداخلها: { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } (الزمر: 6).
- والمنشأ المائي لجميع المخلوقات الحية: { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } (الأنبياء :30).
- وتكوين المطر : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (الروم : 48).
__________
(1) 54 / د. محمد عبد الله دراز : المدخل إلى القرآن الكريم، ص 175/176 وحواشيها.(1/53)
- ودائرية السماء والأرض: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } (الزمر :5).
- وكروية الأرض غير المكتملة عند الأقطاب: { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ } (الأنبياء :44).
- ومسيرة الشمس إلى نقطة معلومة: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (يس :38).
- وتعايش الحيوانات في جماعات تشبه المجتمعات الإنسانية: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } (الأنعام :38).
- ووصف حياة النحل بصفةٍ خاصة: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ(68)ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا } (النحل :68-69).
- وثنائية النباتات والمخلوقات الأخرى. وهي حقيقة علمية كان يجهلها عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ } (يس :36)" (1) .
ثم يضيف الشيخ : "ولكن الأمثلة السابقة هنا لا تتطلب تفسيراً أو تأويلاً، وإنما تتضمن تطابقاً عجيباً بين التوضيح القرآني ذاته وبين التوضيح العلمي، الذي ثبت بعد بحوثٍ طويلة خلال العصور والأجيال، التي انتهت إلى النتائج المقطوع بصحتها، بفضل إسهام رجال متخصصين، كل في فرعه المحدود.
__________
(1) 55 / د. محمد عبد الله دراز : المدخل إلى القرآن الكريم، ص 175-1766 وحواشيها.(1/54)
هل في هذا مجرد مصادفة ؟ هل يمكن في عصر الجاهلية أن يتعرض رجل مجرد من أية معدات فنية، ومعتمد على علمه الطبيعي الخاص، وعلى مشاهداته المحدودة (بالإضافة إلى ما اشتمل عليه كتابه من حلولٍ في الأخلاق والدين والاجتماع)، لعلوم التشريح، والأرصاد الجوية، والكونية، والنفسية للحيوان والإنسان، وفروع أخرى كثيرة، تتطلب إمكانيات فنية دقيقة، وتجارب جماعية متكاملة ، وأن يعطينا في كل موضوع حقائق عالمية خالدة ، من غير أن يترك في أي مجال أثراً ولو طفيفاً ينم عن عصره أوبيئته أو حتى خياله الشخصي ؟" (1) .
ومما استقر وثبت علمياً حول نشأة الكون المادى أن مجموعتنا الشمسية كانت كتلة واحدة في حالة من الارتقاق ثم تحولت إلى حالة من الانفتاق فبرزت من الشمس بناتها من الاجرام السيارة والعلم الحديث يتوصل إلى هذه الحقيقة التى هى بمثابة العقيدة في القرآن الكريم،بعد قرون طوال من البحث،وهى في كتاب الله عز وجل وعلا: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [ص:30]وكما أخبر القرآن الكريم عن نشأة كوننا المادى أنباء عن نهايته فقال { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء"103-104]ولا يزال علم فيزياء الكون حائراً حول مصير هذه الدورة من الكون والقرآن يأتيه بالنبأ اليقين ..
__________
(1) 56 / المصدر نفسه ص 177 من الحاشية (13) .(1/55)
ومن إعجاز القرآن العلمي أنه لم يأخذ بما كان سائدأ في عصر نزوله من ثقافة ومعارف في العلوم الطبيعية، وإنما تخطى القرآن المجيد ظروف ذلك الماضي وسبر غور المستقبل ووعد يكشف آيات الآفاق والنفوس في عصرها ولأهلها فقال: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت:53].
الديمومة والإعجاز بإخباره عن غيوب المستقبل :
ومن وجوه إعجاز القرآن: إخباره عن غيوبٍ كثيرة، ماضيةٌ وكائنة في المستقبل، فما أخبر به القرآن من أخبار الأمم الماضية، وكله يطابق الحق والواقع، دليل على أنه من عند الله : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء :82).
ومن ذلك إخباره بما مضى كقصة أهل الكهف، وذي القرنين، وموسى والعبد الصالح، كما في سورة الكهف. وهكذا قصص الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام.
ومن أين لأحدٍ من أنبياء الله ورسله، أن يحدث الناس عن قصة الخليقة منذ أبينا آدم عليه السلام، وما تناسل من ذريته، ومواقفهم من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، مع إحقاق الحق ودحض الباطل ... من أين لأحدٍ أن يأتي بذلك ما لم يكن مخبراً عن الله ذي الجلال والإكرام ؟
أما الإخبار عن غيوب مستقبلية، فقد تحقق بعضها كما أخبر، وينتظر بعضها تحقيقاً لا ريب فيه.
فمثال ما تحقق فعلاً قوله تعالى: { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } (الروم :1-6).(1/56)
ومن ذلك إخبار القرآن عما يكون، كما في قوله تعالى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } (البقرة :24).
وقد ثبت بتوالي القرون منذ نزول القرآن، عجز الناس عما تحداهم به، وهو عجز متصل مع التحير المستمر. أما ما ينتظر تحقيقه مما أخبر به القرآن، أو أعلمه الله تعالى نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام، فنسوق منه ما تيسر على سبيل البشرى بمستقبل الإسلام وعزة المسلمين.
الإعجاز التربوى للقرآن الكريم:
أما منهجه التربوى فيخبر عنه ربه وهو علام الغيوب المحيط بكل شئ علماً العالم بما يصلح عباده { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك:14] فيجعل مدار القرآن الكريم هو هداية الإنسان لما هو أقوم من العلم النافع والقول الراشد والعمل الصالح: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا } [الإسراء:9]..
وأما إعجاز هذا المنهج التربوي فهو أنه قد جمع بين تربية الفرد وتزكية المجتمع في سياق واحد، يدل على ذلك منهاج العبادة والمعاملة لإصلاح الفرد ونظام الأسرة والدولة لإصلاح المجتمع.. حتى نظامه العقابي (الحدود والقصاص) هو لمصلحة الفرد ومصلحة الجماعة في آن واحد،فالحدود جوابر وروادع-يجبر بها الفرد نقصه لصلاح دنياه وآخرته ، كما تردع بها نزعات الإجرام في سبيل تأمين حيات المجتمع.
ومنهاجه التربوي يتولى إصلاح الفرد،وهو في أسوأ حالاته التي يستجيب فيها لشهواته ونزواته، حيث تآمره نفسه بالسوء، فيتسامى به، بالتربية والتزكية حتى يبلغ به النفس القومية المستقيمة التي لا تأمر حاجتها إلا بالسبق في الخيرات (سابق بالخيرات) وتحاسبها بالتقصير.
البشرى بظهور الإسلام على ما سواه :(1/57)
فقد ورد في القرآن الكريم من النصوص ما يبشر بظهور هذا الدين على ما سواه، واستمرارية دور الرسالة حتى يظهر على الدين كله، وبعد ذلك إلى قيام الساعة وهذا لا يكون إلا بالخلود:
{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (الجمعة :2). { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } (التوبة :33). قال الطبري: "ليعلي الإسلام على الملل كلها ولو كره المشركون بالله ظهوره عليها" (1) . وقال أيضاً : "وليظهر دين الإسلام على كل دين، آي بالحجة والبراهين، فقد أظهره على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منها" (2) .. لا هيمنة دون استظهار لما هي عليه الأديان السابقة وظهوره عليها.
هذا ما نؤمن به يقيناً، ونوقن به جزماً، ولا يزال كتابنا المحفوظ يقرر هذه الحقيقة ويبسطها، وتؤيده سنة نبينا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - فتؤكدها. ومن آيات النصر وبشائر المستقبل في القرآن الكريم قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ } (الأنبياء :105) .. فثبت أن وراثة الأرض مستقبل ينتظر الصالحين من عباد الله، الذين التزموا دينه، وأقاموا شرعته. أما السنن، فقد جاءت تترى، تثبت هذه الحقيقة وتقررها، ومن ذلك:
__________
(1) 57 / جامع البيان عن تأويل آى القرآن، 10/82.
(2) 58 / الجامع لأحكام القرآن، 8/121.(1/58)
حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا) (1) . ومن ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام : (لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ) (2) .
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ" (3) . وفي هذا بشارة على أن رومية، وهى المسماة اليوم (روما) ستفتح كذلك، بمفهوم قوله (أولاً) (4) .
وكان لا بد من استمرار الجهاد ومضائه إلى يوم القيامة، لضمان حرية العقيدة والآمان وحماية الظهور، ولحفظ كلمة الإسلام عاليةً على ما سواه، وقد وعد الله المؤمنين بالعاقبة الحسنى وبالنصر المبين وأنه قريب من المؤمنين ، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الحق .
__________
(1) 59 / أخرجه مسلم، في الفتن وأشراط الساعة، 8/171، وأبو داؤود ، والترمذي ، وابن ماجة، وأحمد.
(2) 60 / مسند الإمام أحمد، مسند الشاميين، برقم 16344. وانظر: صحيح ابن حبان، 1631 – 1632 .
(3) 61 / أخرجه أحمد، 2/ 176 .والدرامي، 1/126 ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) 62 / وانظر لمزيد من دلائل بشائر مستقبل الإسلام، ص 59 –62 من كتابنا المستقبل للإسلام، كتاب الأمة (46).(1/59)
ومن ذلك ما قصَّه القرآن من قصص بنى إسرائيل، مبيناً فيه عقوبة القصاص في التوراة وتصديق الإنجيل لها، كما في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ* وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } (المائدة :44-46).(1/60)
وسبق قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ } (الشورى :13-14).
فأثمرت إيماناً بالله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } (الرعد: 17). وقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ( النساء :58).(1/61)