المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .
أما بعد . فقد وجدت هذا الموضوع: ( الضابط اللغوي في التفسير العلمي للقرآن الكريم ) غاية في الأهمية وهو يعد من الموضوعات البكر التي لم يسبق أن عرض لها أحد في حدود علمي ، وتكمن أهميته في أنه يخدم القرآن الكريم خدمة مناسبة للأجيال المعاصرة ويضفي على اللغة الجدة والحيوية مما لم يتوافر لها في موضوع آخر ، إضافة إلى ضبط تفسير كتاب الله سبحانه وتعالى وإظهار الإعجاز العلمي في القرآن الكريم وهو أحد الوجوه الإعجازية في هذا العصر ، ومعرفة دقة استعمال الألفاظ في القرآن الكريم في تفسير الظواهر العلمية ، وعدم تحميل النص لتفاسير علمية غير مرادة بها .
وقد بدأت دراستي في هذا الموضوع بجمع كتب التفسير العلمي والإعجاز العلمي إضافة إلى كتب علمية مساعدة في توضيح الظواهر الطبيعية بشكل مفصل ودقيق يتناسب مع دقة ألفاظ القرآن الكريم التي تحتاج لفهمها أيضا الرجوع إلى كتب اللغة وكتب التفاسير سواء التي تنقل إلينا ما أثر عن تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين مثل تفسير الطبري ، وابن كثير وغيرهما أو ما صنف من التفاسير بالدراية التي تعتمد على اللغة بشكل واضح في تفسير الآيات ومنها تفسير الكشاف، وتفسير الرازي ، والبحر المحيط ، ومن التفاسير الحديثة تفسير الآلوسي، وفي ظلال القرآن لسيد قطب ، والتحرير والتنوير لابن عاشور، وغيرها من التفاسير ، فضلاً عن كتب علوم القرآن والقراءات وغيرها من الكتب .
واقتضت الدراسة أن يكون البحث في بابين في كل باب أربعة فصول وقد سبق البابين تمهيد وتلتهما خاتمة .(1/1)
أما التمهيد فقد تحدثت فيه عن معنى التفسير لغة واصطلاحا وكذلك معنى التأويل لغة واصطلاحا ، والفرق بين التفسير والتأويل ، وتعريف التفسير العلمي ، ومعنى الإعجاز العلمي ، والفرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي ، وكذلك تحدثت عن بداية التفسير العلمي ومراحله التالية .
أما الباب الأول فقد تحدثت في الفصل الأول فيه عن ضوابط التفسير العلمي ، والضوابط اللغوية في التفسير العلمي ، واستشهدت بعدة ضوابط لغوية في التفسير العلمي؛ وذلك بحسب المستويات اللغوية المعروفة . وهي الضوابط اللغوية ، والنحوية ، والصرفية ، والصوتية ، والدلالية ، والبلاغية والأسلوبية .
أما الفصل الثاني فقد خصصته للآيات الكونية بعد مقدمة موضوعية تشمل تعريف الكون لغة واصطلاحاً ، وذكر أهم النظريات العلمية في نشوء الكون ، وكيف بدأ الكون، وما سعته ،وكم عمره، وبعد ذلك ذكر الآيات الكونية وقد ترسمت منهجاً في تفسيرها وضبطها بالضوابط اللغوية يشمل بقية الفصول اللاحقة . وهو البدء بذكر الآية ثم ذكر المعاني الغامضة أو التي يدور عليها الموضوع بالاعتماد على المعجمات اللغوية ومنها العين ، ومقاييس اللغة ، والصحاح ، ولسان العرب، والقاموس المحيط ، وغيرها وبعد ذلك ، ذكرت أقوال المفسرين في تفسير الآية ثم النظرة العلمية وأثرها في التفسير العلمي وأخيراً ذكرت الضوابط اللغوية في التفسير العلمي لمعرفة مدى صحة التفسير العلمي وهل هو مطابق للضوابط اللغوية . ثم الحكم عليه .
على أني اضطررت إلى مخالفة هذا المنهج في بعض ثنايا الأطروحة حسب ما يقتضيه البحث.(1/2)
أما الفصل الثالث : فقد تناولت فيه موضوع ( المجموعات الشمسية ) ولا يختلف المنهج كثيرا عن سابقه فقد عرفت فيه الشمس والقمر والنجوم والكواكب لغة واصطلاحا ، والفرق بين النجوم والكواكب،واستشهدت بالآيات الدالة على ذلك،كما ذكرت الآيات التي تتحدث عن بروج السماء، والفرق بين النور والسراج ، والفرق بين الضياء والنور والاستشهاد بالآيات الكريمة ، وبعد ذلك ذكرت الآيات التي تخص موضوع الشمس على نفس المنهج الذي سرت عليه في الآيات الكونية ، ثم الآيات التي تخص القمر وبعدها آيات النجوم والكواكب .
أما الفصل الرابع فكان موضوعه كوكب الأرض ، وقد أفردت هذا الكوكب عن سائر المجموعة الشمسية لأهميته . وانه مركز الكشف عن هذه الأكوان فمن هذه النقطة الباهتة ينظر الإنسان إلى الكون ويكشف ما فيه من خفايا ومشاهد كونية لا حصر لها جعلها الله عبرة ، ومجالاً للتفكر والوصول إلى معرفة الخالق المبدع .
إضافة إلى كثرة الآيات التي تتحدث عن كوكب الأرض .
أما الباب الثاني : فقد خصصته للظواهر الأرضية:
فكان موضوع الفصل الأول مخصص للجبال فبعد تعريف الجبال لغة وفي اصطلاح العلماء ذكرت آيات الجبال سواء الآيات التي صرحت بلفظ الجبال أو ذكرت أوصافها .
أما الفصل الثاني : فكان مخصصاً لآيات البحار والأنهار العذبة ، والحواجز بينهما ، وظلمات البحار ، وتسجيرها .
وأما الفصل الثالث : فقد تناولت فيه : الظواهر السماوية للأرض وقد قسمته على ثلاثة مباحث :
تحدثت في المبحث الأول عن الرياح لغة واصطلاحا ، والفرق بين الريح
والرياح في القرآن الكريم ، وأنواع الرياح، ثم التفسير العلمي لآيات الرياح والضوابط اللغوية فيها .
أما المبحث الثاني: فقد تناولت فيه آيات السحاب والرعد والبرق ونزول المطر.
وأما المبحث الثالث : فقد ذكرت فيه آيات الليل والنهار، والشروق والغروب .(1/3)
وفي الفصل الرابع تحدثت في البداية عن الحياة ، وأصل الحياة وقد قسمته على ثلاثة مباحث: المبحث الأول يخص الآيات القرآنية المتعلقة بالنبات وأما المبحث الثاني فقد تحدثت فيه عن حياة بعض الحيوانات وأنظمتها الخاصة بها من خلال الآيات القرآنية المعجزة . وأما المبحث الثالث فقد خصصته في خلق الإنسان منذ نشأته إلى أن يصبح إنساناً بالغاً ؛وذلك من خلال الآيات القرآنية المتعلقة بمراحل خلق الإنسان .
وفي الختام أسأل الله سبحانه أن يعصمني من الزلل ويكرمني بنعمة الإخلاص ويهديني سواء السبيل.
الباحثة(1/4)
بعد شكر الله تعالى
لا يسعني إلا أن أتقدم بخالص الشكر والتقدير واعترافي بالجميل الذي أفاضه عليّ الأستاذ الفاضل الدكتور أنيس مالك الراوي لتفضله بقبول الأشراف على هذه الدراسة وتزويدي بالكتب الإعجازية والعلمية القيمة ،وتوجيهاته السديدة ولما منحني من وقته وعلمه فجزاه الله عني خير جزاء .
كما أتقدم بالشكر الجزيل إلى الدكتور الفاضل علي جميل السامرائي لتفضله بقبول الإشراف على هذه الدراسة ولما بذل من جهد وتقديمه النصح والإرشاد وتزويدي بالكتب وأتقدم بالشكر الجزيل إلى الأستاذ الفاضل الدكتور رشيد العبيدي على ملاحظاته القيمة،وما أفاضه عليّ من علم.
ولا أنسى أن أقدم شكري إلى قسم اللغة العربية وقسم علوم القرآن في كلية التربية للبنات على ما بذلوا من جهد لإتمام هذه الأطروحة.وأخيراً أقدم شكري وتقديري إلى كل من مد لي يد العون لإتمام هذا البحث ـ جزى الله الجميع خير جزاء ـ(1/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ )
صدق الله العظيم(1/1)
-إلى الداعية الأعظم (محمد صلى الله عليه وسلم)
قال تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )، وأصحابه الكرام نجوم الهدى –رضوان
الله عليهم أجمعين-
-إلى من أرشداني إلى طريق الهدى والديّ الكريمين (وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا).
-إلى كل الدعاة المؤمنين الخيرين في العالم .
قال تعالى : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة).
أهدي هذا الجهد المتواضع(1/1)
الفصل الثالث
الشمس والقمر والنجوم والكواكب:
الشمس لغة:
قال ابن فارس (1) : (الشين والميم والسين أصلٌ يدلُ على تلوُّن وقلة استقرار. فالشمس معروفة، وسَّميت بذلك لأنها غير مستقرة، وهي أبداً متحركة).
وفي الصحاح (2) : جمع (الشمس شُمُوس) كأنهم جعلوا كل ناحية منها شَمْساً، كما قالوا للَمفْرِق مَفارق. وتصغيرها (شُمَيْسِة).
أما في الاصطلاح العلمي:
فالشَمس: هي أقرب نجم إلى الأرض، تبعد عنا مسافة 150 مليون كيلو متر وهذه المسافة تسمى (بالوحدة الفلكية). (3) وتعد محور المجموعة الشمسية إذ تشكل أهمية عظيمة في حياتنا اليومية فهي مصدر الطاقة الحرارية الضرورية لاستمرار حياة الإنسان على الأرض، والشمس نجم كسائر النجوم التي تتشكل منها مجرتنا ، وهي من النجوم المتوسطة من حيث الحجم والوزن والضوء والحرارة والطاقة حيث تقدر درجة حرارة سطح الشمس بنحو (6000 درجة مئوية) أما في باطنها فتقدر بأكثر من (20 مليون درجة مئوية) وتتولد حرارتها نتيجة للاندماجات النووية التي تحدث فيها باستمرار، وتنبعث من الشمس إشعاعات قوية لا يصل إلى أرضنا منها إلا ما يعادل جزءاً واحداً من ألفي مليون جزء، لحكمة بالغة ليحظى كوكب الأرض بالحياة دون غيره من الكواكب. (4)
وتدور الشمس حول محورها كما تدور الأرض حول محورها، وتكمل الشمس دورتها في 26 يوماً. ورغم أن الشمس تدور حول نفسها، فأنها ليست ثابتة في مكان واحد فهي تدور حول مركز المجرة (مجرة درب التبانة) بسرعة اثني عشر ميلاً ونصف ميل في الثانية الواحدة. (5)
__________
(1) مقاييس اللغة (شمس) 3/212.
(2) الصحاح (شمس) 3/940.
(3) شهادة الكون 92.
(4) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن / محمد سيد أرناؤوط 173-175.
(5) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 74 والإعجاز العلمي في القرآن 175، الكون الذي تعيش فيه 18-19 ، الكون بين العلم والدين 66 والله والعلم الحديث28. والأرض في القرآن 38.(1/1)
قد ورد لفظ الشمس في القرآن الكريم ثلاثاً وثلاثين مرة. (1)
أما القمر لغة:
قال ابن فارس (2) : القاف والميم والراء أصل صحيح يدلُ على بياضٍ في شيء، ثم يتفرّع منه، من ذلك القَمَر: قَمَر السَّماء، سمَّي قمراً لبياضه.
وذكر صاحب الصحاح (3) أن (القمر) بَعْدَ ثَلاث إلى آخر الشهر سُمّي قَمَراً لبياضه. والقمر أيضاً تَحيرُ البصَر من الثَّلْج ... ولَيْلَة (قَمْراءُ) أي مُضِيئة و (أقمرت) ليلتنا أي أضَاءتْ. وأَقْمَرْنَا طلع علينا القَمَرْ.
أما الوصف العلمي له: هو جرم صغير غير ملتهب، كروي الشكل سيار تابع للأرض (4) يبلغ قطره حوالي 3426كم وهو أصغر من الأرض بـ 45 مرة يدور حول الأرض في مدار بيضوي تبلغ مدة دورته حوالي 29.5 يوماً وللقمر وجهان وجه مظلم تبلغ درجة حرارته 150مْ تحت الصفر ووجه مضاء تكون حرارته 100مْ وتبلغ جاذبيته سطح القمر 1/6 جاذبية سطح الأرض. (5) والقمر خالٍ من الغلاف الجوي ولا تظهر فيه آثار الحياة. (6) وللأرض قمر واحد ... ولبعض الكواكب أقمار كثيرة، كقمر الأرض حول كوكبها دوارة. (7)
__________
(1) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن 173.
(2) مقاييس اللغة (قمر) 5/25.
(3) الصحاح (قمر) 2/798.
(4) ينظر القرآن ينبوع العلم والرفان 77، والكون في القرآن 242.
(5) خلق الكون بين العلم والقرآن 98 ، وينظر الإعجاز العلمي في القرآن ، رعد طاهر العمري 36، الله والعلم الحديث 27.
(6) ينظر الله والعلم الحديث 27، السماء وأهل السماء 60، الإعجاز العلمي في القرآن/ سيد أرناؤوط 206، شهادة الكون 70.
(7) مع الله في السماء 129.(1/2)
وقد ذكر القمر في القرآن 27 مرة ومعظمها جاءت اللفظة مقترنة بلفظة الشمس وذلك لأنهما الجرمان الرئيسان الذين نشاهدهما بوضوح من الأرض ولتأثيرهما المباشر في حياتنا فالشمس لمعاشنا نهاراً والقمر لإضاءة سبلنا ليلاً ولاحتساب الشهور والأعوام. (1)
أما النجم لغة:
فقد ذكر الخليل أن (النَّجْمُ : اسم يقع على الثُّريا، وكُلَّ مَنْزِلٍ من مَنازِلِ القَمَر سُمَّي نَجْماً. وكل كَوْكَبٍ من أعلام الكَواكِبِ يُسمَّى نَجْماً، والنًّجُومُ تَجْمَعُ الكواكِب كُلَّها ... وأنْجَمعتِ السَّماءُ بَدَتْ نُجُومُها). (2)
وقال ابن فارس: (النون والجيم والميم أصلٌ صحيح يدلُّ على طلوع وظهور. ونَجَمَ النَّجمُ: طَلَعَ . ونجم السن والقرنُ: طلعا. والنجم الثريا، أسم لها. وإذا قالوا طلع النجم، فإنهم يريدونها. وليس لهذا الحديث نجم، أي أصل ومَطْلَع. والنجم من النبات ما لم يكن له ساق، من نجم إذا طلع..). (3)
وقال صاحب الصحاح (والنجمُ): الكوكب. والنجم الثريا وهو اسم لها فإذا قالوا طلع النجم يريدون الثريا وإن خرجت منه الألف واللام تَنَكّر). (4)
__________
(1) خلق الكون بين العلم والقرآن 98 والإعجاز العلمي في القرآن الكريم / رعد طاهر 36.
(2) العين (نجم) 6/154-155.
(3) مقاييس اللغة (نجم) 5/396-397.
(4) الصحاح (نجم) 5/2039.(1/3)
وذكر ابن منظور أن أهل اللغة قالوا (النجم) بمعنى النجوم، والنجوم تجمع الكواكب كلها كما أشار إلى قول ابن سيده فهو يقول: (والنجم الكوكب وقد خص الثريا فصار لها علماً، وكذلك أشار إلى قول سيبويه في ترجمة هذا الباب بقوله (هذا الباب يكون فيه الشيء غالباً عليه اسم، ويكون لكل من كان من أُمته أو كان عُلى صفته من الأسماء التي تدخلها الألف واللام، وتكون نكرته الجامعة لما ذكرت من المعاني . وذكر ابن منظور أيضاً أن النجم في الأصل : اسم لكل واحد من كواكب السماء وهو بالثريا أخص فإذا أطلق إنما يراد به هي والنجم والمتنجم: الذي ينظر في النجوم يحسب مواقيتها وسيرها.
وفي كتب غريب القرآن ذكر الراغب: (أصل النجم الكوكب الطالع وجمعه نجوم، ونَجَم طَلَّعَ. نجوما ونجماً فصار اسماً ومرة مصدراً، فالنجوم مرة اسماً كالقلوب والجيوب، ومرة مصدراً كالطلوع والغروب). (1)
النجوم في اصطلاح العلماء:
النجوم: أجرام سماوية بمثابة كتل غازية، وتتشكل في داخلها أفران طاقة نووية هيدروجينية، ومن ثم فهي مولدة للطاقة ومشعة لها خارجاً، لنراها بذلك من خلال لمعانها، وهي عموماً مختلفة الأبعاد عنا وعن بعضها، ومتباينة الأحجام والكتل، ذات ألوان متعددة وتتحرك بسرعات متباينة حول نفسها وحول مركز المجرة التي تنتمي إليها، رغم ما تبديه من ثبات نسبي في مواقعها السماوية. (2)
وعناصر هذه النجوم من عناصر الأرض يدل على هذا أطيافها والحساب ... وأكثر عناصر النجوم غاز الهيدروجين، ويأتي بعده غاز الهليوم وما تبقى من العناصر وغيرها لا يبلغ إلا واحدا أو اثنين أو نحو ذلك في المئة كتلة أي وزناً. (3) والنجم يمر بمرحلة الشباب والشيخوخة والهرم ثم يموت. (4)
أما الكواكب لغة:
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (نجم) 739.
(2) الكون والحياة 111 ، وينظر القرآن إعجاز يتعاظم 129 ، شهادة الكون.
(3) مع الله في السماء 177.
(4) ينظر الكون العجيب 122.(1/4)
قال الخليل (1) : الكوكب: النّجم. ويُسَمَّى الثور كوكباً، يشّبه بكوكب السّماء والبياض في السّماء يُسْمّى كَوْكَبا.
وذكر ابن فارس: معنى كوكب في باب كب والذي يدل هذا الباب عنده على (أصل صحيح يدلُّ على جمع وتجمع، ولا يشذ منه شيء ... والكوكب يسمى كوكباً من هذا القياس ... فأما قولهم لنور الروضة كوكب، فذاك على التشبيه من باب الضياء ... وكذلك قولهم بريق الكتيبة: كوكب). (2)
وذكر ابن منظور (3) : أنه جاء في التهذيب: ذكر الليث، الكوكب في باب الرباعي، وذهب أن الواو أصلية، قال: وهو عند حذاق النحويين من هذا الباب صُدَّر بكاف زائدة والأصل وكب أو كَوَب. كما أشار ابن منظور إلى قول ابن سيده فهو يقول الكوكب والكوكبة: النجم، كما قالوا عجوز وعجوزة ... وذكر ابن منظور أيضاً قول الأزهري حيث قال سمعت غير واحد للزهرة، من بين النجوم: الكوكبة، يؤنثها، وسائر الكواكب تذكر.
أما في كتب الغريب فقد ذكر الأصبهاني: الكوكب: النجم البادي، ولا يقال للنجم كوكباً إلا إذا بدا. (4)
__________
(1) العين (كوكب) 5/433.
(2) مقاييس اللغة (كب) 5/124-125.
(3) لسان العرب (كوكب) 1/720-721.
(4) المفردات في غريب القرآن 635.(1/5)
أما في الاصطلاح العلمي:فإن الكواكب: أجسام معظمها صلبة، قاتمة عموماً، غير مشعة، ولكنها تطلق من سطحها إشعاعاً هو الإشعاع الشمسي الساقط عليها التي تمتص بعضه وتعكس البعض الآخر الذي يتيح لنا رؤية الكوكب من سطح الأرض (1) ، والكواكب جميعها (2) في حالة حركة دائبة مستمرة حول الشمس وتخضع في حركتها هذه لقوانين (كبلر) (3) ؛ قانون المدارات الأهليجية الذي بين أن لكل كوكب مدارا أهليجيا في حركته حول الشمس، وقانون المساحات المتساوية الذي أوضح أن الخط الواصل بين الشمس وأي كوكب يمسح مساحات متساوية في أزمنة متساوية والقانون التوافقي الذي كشف عن العلاقة بين دورة الكوكب حول الشمس وبعده عنها. ووجه دوران الكوكب في مداراتها حول الشمس واحدة وهي من الغرب إلى الشرق، كما أن الكواكب تدور حول نفسها بنفس وجهة دورانها حول الشمس باستثناء كوكبي الزهرة وأروناس وبصورة عامة فإن الكواكب الأقرب إلى الشمس أسرع في حركتها المدارية من الكواكب الأبعد. (4)
الفرق بين النجوم والكواكب:
__________
(1) الكون والحياة 160 والتفسير العلمي للآيات الكونية 151 ، مع الله في السماء 31.
(2) الكواكب هي على حسب ترتيب بعدها عن الشمس ما يلي: عطارد – الزهرة – الأرض – المريخ – المشتري – زحل – أوروناس – نبتون – بلوتو. الإعجاز العلمي في القرآن الكريم سيد أرناؤوط 203.
(3) جوهانس كبلر؛ عالم فلك الماني ولد عام /157 وتوفي عام 1630 ، وضع في السنوات 1618-1620 قوانينه الحركية الثلاثة. الكون والحياة 161.
(4) ينظر الكون والحياة 161 – مع الله في السماء 121-122.(1/6)
يبدو مما قاله أصحاب المعجمات أن العرب لا يفرقون بين النجم والكوكب من حيث التكوين (وأطلقوا لفظ النجوم على بعض معين منها كما أطلقوا لفظ الكوكب على البعض الآخر، فسموا كلاً من الثريا والشعرى نجماً). (1) ومنهم من رأى أن بينهما خصوصاً وعموماً فقد بين أبو هلال العسكري الفرق الدلالي بين (النجوم) و (الكواكب) بقوله: (أن الكواكب اسم للكبير من النجوم، وكوكب الشيء معظمه، والنجم عام في صغيرها وكبيرها.. يُقال منه كوكب من ذهب أو فضة لأنه ثابت لا يزول والنجم الذي يطلع منها ويغْرب). (2) وهذا مخالف للعلم الحديث لأن النجوم أكبر من الكواكب أما القرآن الكريم فقد فرقّ في آيات النجوم والكواكب فهو يصف كلاً منهما وصفاً علمياً دقيقاً لا لبس فيه. فأوضح بذلك ما كان مبهماً في عرف اللغة التي لم يتوافر لأهلها العلم الكافي الذي يميزون به بينهما. (3) ويمكن معرفة ذلك من خلال جمع الآيات المتعلقة (بالنجوم) و (الكواكب) كي نصل إلى الوصف الدقيق الذي يعنيه القرآن الكريم بهذين اللفظين ودلالة كل منهما دون خلط من خلال الإشارات الواضحة القوية الدالة عليهما والقرائن الدلالية اللفظية والعقلية الموجودة في تلك الآيات.
__________
(1) ظواهر جغرافية 195.
(2) الفروق في اللغة /48.
(3) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 152-153.(1/7)
ومن هذه الآيات: قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ). (1) فالمقصود هنا فعلاً سقوط ضوء على جسم يعكسه (الزجاج) ويعطيه بريق الدر، مثل الكوكب الذي تضيئه الشمس. أي أن نار الفتيلة هنا يسقط ضؤها على الزجاج فينعكس أنارته في المكان، وكما تلاحظ فإن ما تقوم به النار يشبه عمل الشمس، وما يقوم به الزجاج يشبه عمل الكوكب..! (2) ويمكن أيضاً التوصل إلى معرفة الفرق بين الكواكب والنجوم من خلال التعبير القرآني كما في قوله تعالى : ( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) (3) ، وقوله ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ). (4) كما هو حال النجم ولعل هذا التحوط جاء مراعاة إلى أن الاهتداء ببضعة كواكب ليس كالاهتداء بآلاف النجوم البادية للعيان في السماء. (5)
__________
(1) النور /35.
(2) ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 181 ، والقران إعجاز يتعاظم 131.
(3) النحل / 16.
(4) الأنعام /97.
(5) ملامح كونية في القرآن 87، تيسير الرحيم الرحمن 177-178.(1/8)
ويقول الأستاذ الدكتور أنيس الراوي: الاهتداء بالنجوم لأن النجوم ثابتة في السماء كونها بعيدة جداً فتصبح شواخص للدلالة بها. أما الكواكب فهي سيارة وسريعة الاختفاء وتغير مواقعها باستمرار فلا يمكن أن نعدها شواخص دالة. أما النجوم فهي بعيدة جداً وكلما يبعد الجرم يكون أشبه بالواقف ومن دقة التعبير القرآني أيضاً في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). (1) فعندما ذكر الله تعالى كلمة الشمس (وهي نجم من النجوم) أتى بعدها بلفظة (أكبر) للدلالة على أنها أكبر مما سبقها (الكوكب والقمر) غير أن الله تعالى لم يأتِ بهذه اللفظة بعد القمر الذي ورد ذكره بعد الكواكب (في سياق الآية الكريمة) حيث أن القمر أصغر من الكوكب غالباً فقال الله تعالى عندما ذكر القمر: (فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي) ولكن الله عندما ذكر الشمس قال (فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر)، فأنظر إلى كلمة أكبر كيف وردت بعد الشمس ولم ترد بعد القمر. (2)
__________
(1) الأنعام /75-79.
(2) تيسير الرحيم الرحمن 179..(1/9)
وكذلك يمكن معرفة الفرق بين (النجوم) و (الكواكب) من خلال الوصف الدقيق الذي سيحدث (للشمس) و (النجوم) و (الكواكب) من مشاهد في يوم القيامة ففي سورة التكوير يقول الله تعالى:( إِذا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ) (1) وفي سورة المرسلات يقول: ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ * فَإِذا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (2) أما في سورة الانفطار فيقول سبحانه : (وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) (3) وكدرت الشيء معناه لفقته على جهة الاستدارة، ويقال طعنه فكوره إذا ألقاه مجتمعا، فالتكوير يشمل إلقاء الشيء ثم اجتماعه على نفسه والالتفاف على جهة الاستدارة. (4) والكدرة نقيض الصفاء (5) والكدرة من الألوان: جانحا نحو السواد والغبرة وقال بعضهم الكُدرة في اللون خاصة (6) ويقال كَدر الماء وكدُر. (7) وأنكدر الشيء: أصل معناه الانصباب ، يقال: انكدر عليهم القوم إذا جاءوا إرسالاً فانصبوا عليهم، فالانكدار معناه تفرق الشيء ثم تساقطه منصباً أو مجتمعاً على بعضه. (8) (وانطماس الشيء): معناه إزالة أثره ومعالمه، ويستعمل لذهاب الضوء فيقال نجم طامس أي ذاهب الضوء فالطمس يشمل تغير معالم الشيء مع ذهاب ضيائه. (9)
__________
(1) التكوير /1-2.
(2) المرسلات / 7-8.
(3) الانفطار /2.
(4) ينظر مقاييس اللغة (كور) 5/146 ، والصحاح 2/809-810 ، لسان العرب (كور) 5/155-156 ، والتفسير العلمي للآيات الكونية 153.
(5) ينظر العين (كدر) 5/325 مقاييس اللغة (كدر) 5/164 ، اللسان (كدر) 5/134 القاموس المحيط (كدر) 1/602-603 ، الصحاح (كدر) 2/803-804.
(6) اللسان (كدر) 5/134-135.
(7) مقاييس اللغة (كدر) 5/164 ، اللسان (كدر) 5/134-135.
(8) ينظر اللسان (كدر) 5/134-135 ، القاموس المحيط (كدر) 1/602-603 ، وينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 153.
(9) ينظر مقاييس اللغة (طمس) 3/424 والصحاح 3/944 اللسان (طمس) 6/126..(1/10)
أما نثر معناه رمي الشيء بيدك متفرَّقاً. (1)
ومن هذه المعاني يتضح الاختلاف في وصف حال النجوم والكواكب عندما تقوم الساعة يوم القيامة أنهما ولا شك مختلفان في التركيب، إذا إن النجوم يذهب ضياؤها وهذه صفات الكتل الغازية النارية المضيئة فمعنى انكدر انطفأ وأظلم أما الكواكب فلا نار فيه فهو يتبعثر ويتمزق وخلاصة القول تدل هذه الأوصاف على ما يأتي:
1- ان تكوين النجوم مختلف عن تكوين الكواكب على وجه التحقيق.
2- وان النجوم أجرام نارية ملتهبة مضيئة، وان الكواكب أجرام جامدة مظلمة بذاتها. (2)
كما أن أسلوب القرآن في القسم يوضح الفرق بين النجوم والكواكب فنلاحظ أن القرآن قد أقسم بالنجوم في عدة مواضع منها ( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ). (3) وقوله تعالى: ( وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النجم الثاقب). (4) وقوله ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (5) ، ولم نلاحظ مثل هذا القسم بحق الكواكب فقد يكون هذا تعظيماً للنجوم لعظيم صنعها وبداعة خلقها حيث إن الله تعالى لا يقسم إلا بعظيم فالقسم به يدل على عظمة المقسم به. (6)
بروج السماء:
ومن الآيات التي تتحدث عن بروج السماء قوله تعالى: ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ). (7)
البروج لغة:
__________
(1) ينظر العين (نثر) 8/219 ، القاموس المحيط (نثر) 1/616 ، المفردات في غريب القرآن (نثر) 734.
(2) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 153-154 ، تيسير الرحيم الرحمن 178 ، القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 182.
(3) النجم /1.
(4) الطارق /1-3.
(5) الواقعة /75-76.
(6) ينظر تيسير الرحيم الرحمن (الهامش) 177.
(7) الفرقان /61.(1/11)
ذكر الخليل (1) : البُرْجُ واحدٌ من بُرُوج الفَلَك، وهو أثنا عَشَر بُرْجاً، وبُرْجُ سُورِ المدينة والحِصْنِ: بُيُوت تُبْنى على السور، وتُسَمَّى البُيُوت تبنى على أركان القصرِ بُرْجَاً. وقال ابن فارس (2) : الباء والراء والجيم أصلان: أحدهما البروز والظهور والآخر الوَزَرُ و الملجأ. فمن الأول البَرجُ وهو سعة العين وشدة سواد سوادها وشدة بياض بياضها ومنه التَّبرج، وهو إظهار المرأة محاسنها والأصل الثاني البُرْجُ واحد بروج السماء وأصل البروج الحصون والقصور.
وذكر صاحب اللسان (3) : أن كل ظاهر مرتفع فقد بَرَجَ، وإنما قيل للبروج برُوج لظهورها وارتفاعها والجمع أبراج وبروج وأشار أيضاً إلى قول الفراء فقد ذكر أنهم اختلفوا في البروج فقالوا: هي النجوم، وقالوا هي البروج المعروفة، أثنا عشر برجاً. وذكر قول الزجاج في معنى البروج في قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (الحجر:16) قال البروج الكواكب العظام.
وقال الراغب (4) : معنى البروج: القصور الواحد برج وبه سمي بروج النجوم لمنازلها المختصة بها.
أما السراج لغة:
قال ابن فارس (5) : السين والراء والجيم أصلٌ واحد يدل على الحسن والزينة والجمال. من ذلك السَّراج، سَّمي لضيائه وحسنه.
وفي الصحاح (6) : السراج معروف. و (المَسْرَجة) بوزن المَتربة التي فيها الفتيلة والدهن.
__________
(1) العين (برج) 6/114-115.
(2) مقاييس اللغة (برج) 1/238
(3) ينظر لسان العرب (برج) 2/211-212.
(4) المفردات في غريب القرآن (برج) 54.
(5) مقاييس اللغة (برج) 3/156.
(6) الصحاح (سرج) 1/322.(1/12)
وجاء في اللسان (1) : السَّراجُ المصباح الزاهر الذي يُسْرَجُ بالليل والجمع سَرَجٌ ... والشمس سِراجُ النهار.وذكر الراغب أنه السراج الزاهر بفتيلة ودهن ويعبر عن كل مضيء قال وجعل سراجاً – سراجاً وهاجاً يعني الشمس. (2) أما النور فهو الضوء أيا كان، وقيل هو شعاعه أيا كان والجمع أنوار ونيران. (3)
أقوال المفسرين في البروج:
قول مجاهد وسعيد بن جبير: البروج الكواكب العظام، وقيل: هي قصور في السماء للحرس ويروى هذا عن علي وابن عباس ومحمد بن كعب وغيرهم ويرى ابن كثير أن القول الأول أظهر. (4)
وذكر الزمخشري وأبو حيان أن المراد بالبروج عند العرب هي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل والثور..الخ سميت بذلك لتشبهها بما شبهت به ... وقيل القصور من الجنة. (5) أما الرازي فيقول (6) هي منازل السيارات المشهورة.. وأنها سميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها وأما ابن عاشور فيقول منازل الشمس. (7)
العلم ومدلول (البروج):
__________
(1) اللسان (سرج) 2/297.
(2) المفردات في غريب القرآن (سرج).
(3) ينظر لسان العرب (نور) 5/240 القاموس المحيط (نور) 1/628.
(4) ينظر جامع البيان 19/29 ، تفسير القرآن العظيم 3/325.
(5) ينظر الكشاف 3/820-821 البحر المحيط 8/124.
(6) التفسير الكبير 24/29.
(7) التحرير والتنوير 19/64.(1/13)
ذكر عبد العليم خضر أن العلم الجغرافي يوسع من مدلول الآيات القرآنية المفسرة ويلتقي مع بعض التفسيرات التي ذكرها المفسرون القدماء فقد رأينا أن العلم أكد حركة أعضاء الأسرة الشمسية في مدارات غاية في النظام والجمال وكل كوكب يحافظ على سلوك منازل هذه المدارات دون صِدام مع غيره أما التفسير الذي يعد البروج كواكب عظاما فالعلم لم يرفض ذلك بل خدم المفهوم القرآني في هذه النقطة ووسع مدلول الآية.. فالكواكب العظام عند العلم هي المشتري وزحل وأورنوس ونبتون ... والقرآن لم يفضل كواكب المجموعة الشمسية وإنما أعطاها حقائق مطلقة عنها وترك العقل البشري فرصة الاجتهاد والنظر فالقرآن ليس كتاباً جغرافياً أو هندسة أو فلكاً ... الخ إنما هو كتاب هداية. (1)
وفي قول الدكتور عبد العليم أن البروج تأتي بمعنى الكواكب العظام كما فسر المفسرون مثل المشتري وزحل وغيرهما نظراً لأن ما يقصده المفسرون القدماء بالكواكب قد يأتي بمعنى النجوم فقد لاحظنا في البحث السابق أن أغلب أصحاب المعاجم وأصحاب التفاسير لا يفرقون بين الكواكب والنجوم من حيث التكوين والقرآن هو الذي خصصهما فقد يقصدون بالكواكب العظام أيضاً النجوم.
ويقول حنفي أحمد أن البروج الأجزاء الحصينة المرتفعة في البناء على كل ما عداها وقد صارت بذلك ظاهرة على ما حولها بمثابة أركان متينة في البناء تحفظ عليه تماسكه. كما أن المعلوم مما بينه تعالى أن وحدات بناء السماء هي النجوم والكواكب لذلك كان معنى قوله (جَعَل في السماء بروجا) على حسب أصل معنى البروج مرجحاً لمعنى أنه تعالى ركز بناء السماء في مواقع كثيرة منها يجعل مجاميع من الأجرام فيها. أو بعبارة أخرى يرجح أن بروج السماء إن هي إلا مجاميع مختلفة من أجرام السماء في كل منها عدد معين من الأجرام كما هو مشاهد في النجوم ليلاً.
__________
(1) ينظر ظواهر جغرافية 156.(1/14)
ومما يؤدي هذا الظن أو الترجيح قوله تعالى بعد ذلك: (وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً). أي وجعل في بروج السماء الشمس والقمر إذ المعلوم من المشاهدة أن الشمس والقمر يلازمان الأرض، وهذا يفيد أنه تعالى جعل من بين بروج السماء مجموعة الشمس والقمر والأرض (وما قد يوجد من أجرام أخرى مثلها). (1)
ويرى حنفي أحمد أن الضمير في قوله (فيها) يعود على البروج وليس على السماء والظاهر عند أبي حيان (2) أنه عائد على السماء وأنه قيل على البروج فيكون المعنى في جملتها (سراجا).
ويرى محمد عفيفي مدلولاً آخر في قوله تعالى (بروجاً) مأخوذاً من فعل (التبرج) وهو إبداء الزينة وذكر قوله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) (3) ويرى أنه مقصود أيضاً في الآية التي نتناولها. (4)
السراج والنور:
في كثير من الآيات يصف الله تعالى الشمس بالسراج والقمر بالنور كما في هذه الآية وقوله تعالى :( وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ). (5) ووصف الشمس بأنها ( سِرَاجاً وَهَّاجاً ).
وقد ذكر المفسرون أن قوله تعالى: (سراجاً) معناه: الشمس (6) ، فهي منيرة كالسراج والكلام جار على التشبيه البليغ لأن حقيقة السراج: المصباح الزاهر بالضياء والمقصود: أنه جعل الشمس مزيلة للظلمة كالسراج. (7) وهذا موافق لما جاء في العلم لأنها ذاتية الإضاءة. (8)
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 41.
(2) البحر المحيط 8/124.
(3) الحجر /16.
(4) ينظر القرآن تفسير الكون والحياة 217-220.
(5) نوح /16.
(6) ينظر الكشاف 3/821 ، البحر المحيط 8/124 ، تفسير القرآن العظيم 3/325 في ظلال القرآن 5/2576.
(7) ينظر تفسير القرآن العظيم 3/325 ، التحرير والتنوير 19/64.
(8) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 149 ظواهر جغرافية 201.(1/15)
وفي الآية التي نتناولها عدة قراءات (1) فقد قرأ الجمهور (سراجاً) على الإفراد وهي الشمس وفي قراءة ثانية(وجعل فيها سُرُجاً وقمراً منيراً) بجمع السراج ،وهي عند الزمخشري (2) الشمس والكواكب الكبيرة وفي قراءة ثالثة (وجعل فيها سُرُجا – وقُمُراً – أو قُمْرا – منيراً) بجمع سراج وقمر على قُمُر أو قُمْر بضم القاف مع ضم الميم أو سكونها بمعنى الأقمار وفسرها الرازي (3) بمعنى الليالي القمراء المضيئة بالقمر. وإلى مثل هذا ذهب الزمخشري (4) وأبو حيان. (5)
__________
(1) ينظر النشر في القراءات العشر 2/334.
(2) الكشاف 3/821 إتحاف فضلاء البشر 330.
(3) التفسير الكبير 24/92.
(4) الكشاف 3/821.
(5) البحر المحيط 8/124.(1/16)
وقد ذكر حنفي أحمد أن القراءة الأولى والثانية تتفقان مع ما تدركه العين المجردة، وأما الثالثة فمن الأنباء الغيبية التي تثبت إعجاز القرآن، حيث دلت على وجود أقمار متعددة في السماء، ثم بين البحث العلمي الدقيق صدقه بعد ذلك بقرون عدة (1) وكما تدل قراءة مَن قرأ (سُرُج) بالجمع على شموس أخرى في الكون وهي النجوم. ولا بد من القول أن التفسير العلمي الحديث جعلنا نتأكد من أن بعض المجاز في القرآن حقيقة، وذلك في مواءمة المفردة لكل عصر، فالدلالة تستمر وتتسع لمفاهيم كل عصر، ويتلقَّف هذه المفردة كل حسب فهمه وقدراته العقلية ونوع ثقافته، وذلك من غير إقحام أو تقوُّل، لأن مُرونة الكلمة القرآنية ليست عَشْوائية. فالاختزان يكون في إفهام هذا وذاك من البشر، وهذا مما يجعل في العقل مُرونة، ويفتح باب التفكير. (2) فالكلمتان (سراجا، مُنيراً) تحملان في طياتهما كل المعاني المتغيرة مع تغير الزمن وتقدم العلوم وتَبدل أفهام الناس، وقد قال البوطي: (فالعامي من العرب يفهم منهما أن كُلاَّ من الشمس والقمر يَبعْثَان بالضياء إلى الأرض، وإنما غاير في التعبير عنه بالنسبة لكل منهما تنويعاً للفظ، وهو معنى صحيح تدل عليه الآية، والمتأمل من علماء العربية يدرك ما وراء ذلك أن الآية تدل على أن الشمس تجمع إلى النور الحرارة، فلذلك سَماها (سراجاً)، والقمر يبعث بضياء لا حرارة فيه، وهو أيضاً معنى صحيح تدل عليه الآية دلالة لغوية واضحة، أما الباحث المتخصص في شؤون الفلك، فيفهم من الآية إثبات أن القمر جرمٌ مظلم، وإنما يضيء بما ينعكس عليه من ضياء الشمس التي شبهها بالسراج. (3)
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 147.
(2) جماليات المفردة القرآنية 280.
(3) من روائع القرآن 144 وينظر مناهل العرفان للزرقاني 2/252 جماليات المفردة القرآنية281.(1/17)
ومن تشبيهه الواضح بالسراج استنبطنا أنه تعالى خلق الشمس لهباً متقداً مضيئاً أي كتلة غازية متقدة ومضيئة (أن اللهب المضيء عبارة عن مواد في حالة غازية وفي درجة حرارة عالية بحيث ينبعث الضياء. (1)
أما الفرق بين الضياء والنور: ففي قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً ). (2)
عرفنا معنى النور لغة أما الضياء لغة:
قال الخليل (3) : الضياء ما أضاء لك، يقال أضاءَ البَرْقُ لنا والسراجُ.
وجاء في اللسان (4) : الضَّوء والضُوء، بالضم: الضياء، وجمعه أَضواءٌ، وقال الزجاج وقد يكون الضياء جمعاً.وذكر الراغب أن الضوء ما انتشر من الأجسام النيرة ويقال ضاءت النار وأضاءت غَيرها (5) وقد فرق بين الضوء والنور في قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً ) بقوله (وتخصيص الشمس بالضوء والقمر بالنور من حيث إن الضوء أخص من النور). (6)
وقد فصل ذلك أصحاب كتب علوم القرآن فقد ذكر الزركشي فهو يقول (جعل الشمس ضياء والقمر نوراً والحكماء يقولون إن نور القمر مستمد من ضوء الشمس). (7)
__________
(1) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 38.
(2) يونس /10.
(3) العين (ضوا) 7/74.
(4) اللسان (ضوء) 1/112.
(5) مفردات الراغب (ضوء) 445.
(6) مفردات الراغب (نور) 775.
(7) البرهان 3/259.(1/18)
ويتضح ذلك أكثر في قوله تعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ ). (1) فقد وجه الزركشي ذلك بقوله أنه تعالى قال ذهب الله بنورهم ولم يقل بضوئهم لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير وإنما يقال الضوء على النور الكثير ... ففي الضوء دلالة على الزيادة فهو أخص من النور وعدمه لا يوجب عدم النور لاستلزام عدم العام عدم الخاص فهو أبلغ من الأول والغرض إزالة النور عنهم. (2) وإلى مثل هذا ذهب السيوطي (3) وبهذا فسر ضوء الشمس ونور القمر.
واختلف المفسرون في الفرق بين النور والضياء فالقرطبي يقول (الضياء ما يضيء الأشياء والنور ما يبين فيخفى لأنه من النار من أصل واحد والضياء جمع ضوء). (4)
وقال أبو حيان لما كانت الشمس أعظم جرما حضت بالضياء لأنه أعظم وهو الذي له سطوع ولمعان، وهم أعظم من النور ... فخص الأعظم بالأعظم. (5) وذكر الشوكاني (6) أنه قيل أقوى من النور. وقيل الضوء ما كان بالذات، والنور ما كان بالعرض.
وهو قول أبي السعود (7) وابن عاشور (8) ويرى الأخير أنه عبر بالضياء لأن معناه النور الساطع القوي. وهو اسم مشتق من الضوء وهو النور الذي يوضح الأشياء فالضياء أقوى من الضوء. وقد أثبت العلم الحديث بكل دقة الفرق بينهما كما ذكرنا ذلك في تعريف الشمس والقمر.
وفي قوله تعالى أيضاً: ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً*وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً). (9)
__________
(1) البقرة /6.
(2) البرهان 3/402.
(3) الإتقان 2/210.
(4) الجامع لأحكام القرآن 8/305.
(5) البحر المحيط 6/14.
(6) فتح القدير 2/425.
(7) إرشاد العقل السليم 4/120.
(8) التحرير والتنوير 11/94 و 29/204.
(9) نوح /15-16.(1/19)
ذكر الزمخشري (1) أن قوله (فيهن) في السماوات، وهو السماء الدنيا لأن بين السماوات ملابسة من حيث أنها طباق وقال الأمام الرازي القمر في السماء الدنيا وفي السماوات بأسرها، وهكذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في كل أنحائها، بل ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق فكذا هنا. (2) وقال أبو حيان: والقمر في السماء الدنيا، وصح كون السموات ظرفاً للقمر لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأ المظروف، تقول زيد في المدينة وهو في جزء منها. (3)
أما التفسير العلمي لهذه الآية فقد ذكر أبو الوفا الأميري أن (أل هنا في القمر). وفي لفظ الشمس للجنس لا للعهد كما في قوله تعالى :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (4) لذلك كانت هنا إشارة إلى أن كل شمس في مجموعتنا الشمسية بالنسبة إليهم كالسراج لتوابعها وسياراتها، وأن الأقمار لبعض السيارات منورة لها وتابعة لها، وإن الجميع داخل تحت دائرة الفضاء الكوني لقوله (فيهن) حيث أتى بـ(في) الظرفية. وأن السماوات تعلو هذه الكواكب من شمس وقمر وهي كالسقف فوقهم فإذا وصل الإنسان القمر بمخترعاته أو غيره من الكواكب فهو لم يدخل عتبة السماء الأولى). (5)
__________
(1) الكشاف 4/1289.
(2) التفسير الكبير 30/124.
(3) البحر المحيط 10/284.
(4) التين / 4.
(5) الإشارات العلمية في القرآن الكريم / أبو الوفا /14.(1/20)
أما الغمراوي فهو يجيز أن تكون (ال) في القمر للجنس فهو يرى أن للحقيقة الكونية، يخاف على الناس منها الفتنة لو صورحوا بها ففي قوله :(وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) بعد قوله (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات يدل في ظاهره على أن في السماوات أقماراً غير قمرنا، ولا يحتاج في فهم هذه الآية الكريمة إلا إلى اعتبار (ال) في (القمر) للجنس، واحتمال ذلك موجود يدل عليه أو يشير إليه ضمير الجمع في (فيهن). وليس هذا بعيد فالكلام كلام الله، ولعله سبحانه يُلفت عباده بهذه القرينة إلى آية من آياته في الخلق بلفطة تحمل وجهين: وجهاً معهوداً يدل على قمر الأرض حين تكون (أل) للعهد، ووجهاً غير معهود ولا معروف ينبئ بحقيقة كونية مجهولة، لو أن المفسرين انتبهوا إليه حين تكون (أل) للجنس لسبقوا العلم إلى تلك الحقيقة ، ولو على سبيل الجواز. (1)
وكلام الغمراوي يجمع بين التفسير القديم وهو ما تحتمله الآية و التفسير العلمي الحديث وهذا من إعجاز القرآن الكريم وبلاغته. ومن الآيات التي تدل أيضاً على تعدد الشموس والأقمار قوله تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون). (2)
يقول الدكتور منصور حسب النبي (أن ضمير الجمع في لفظ خلقهن) أتى بدلاً من ضمير المثنى المناسب هنا لغوياً وهذا يشير بالتأكيد إلى تعدد الشموس والأقمار في الكون. (3)
أما سيد قطب فيرى أن سبب إعادة الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً : (خلقهن) باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم، ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان. (4)
الشمس تجري:
__________
(1) الإسلام في عصر العلم 249-250.
(2) فصلت /37.
(3) موسوعة ما فرطنا في الكتاب من شيء 50.
(4) في ظلال القرآن 5/3124.(1/21)
قال تعالى: ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ). (1)
الجري في اللغة:
قال ابن فارس (2) : الجيم والراء والياء يدل على أصلٌ واحدُ، وهو انسياحُ الشيء. يقال جَرى الماء يجري جَرية وجرياً. فأما السفينة فهي جارية، وكذلك الشمس.
وفي الصحاح (3) : جرى الماء وغيره من باب رَمى ... وما أشدُّ جِرية هذا الماء بالكسر.
ويسمى الثعالبي (4) : مشي الفرس جرياً عند تقسيمه لمشي الإنسان والحيوان وتفريقه بين المشي والعدو.
أما الراغب (5) : فيقول أن الجري المر السريع وأصله كمر الماء.
أما المستقر في اللغة:
قال الخليل (6) : القرار المُستَقُّر في الأرض وفلان قار أي ساكن وفي الصحاح (7) والقرار في المكان الاستقرار وقاره مُقارّه، أي قرّ معه وسكَن وأقره في مكانه (فأستقر).
أقوال المفسرين في تفسير الآية:
اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على عدة أقوال:
__________
(1) يس /38.
(2) مقاييس اللغة (جرى) 1/448.
(3) الصحاح (جري) 6/2300.
(4) فقه اللغة وسر العربية 283، 289.
(5) المفردات في غريب القرآن (جرى) 129.
(6) العين (قر) 5/21.
(7) الصحاح (قرر) 2/788-789.(1/22)
قيل معنى (لمستقر لها) لحد لها مؤقت مقدر تنتهي إليه في فلكها في آخر السنة، شبهه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره وقال الحسن إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعاً في كل يوم مطلعاً ثم لا تزال إلى الحول فهي تجري في تلك المنازل وهو مستقرها. (1) وقيل لمنتهى لها من المشارق والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقاً مشرقاً ومغرباً مغرباً حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه . قال ابن قتيبة ومستقرها أقصى منازلها في الغروب وذلك لأنها لا تزال تتقدم إلى أقصى مغاربها ثم ترجع. (2)
وقيل لحد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا وهو المغرب وقيل نهاية ارتفاعها في الصيف وانخفاضها في الشتاء (3) وقيل الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة. (4)
الشاهد العلمي في ذلك:
__________
(1) ينظر الكشاف 1/997 والبحر المحيط 7/336 إرشاد العقل السليم 7/167 ، فتح القدير 4/369، روح المعاني 22/11-12.
(2) ينظر تفسير غريب القرآن 356 جامع البيان 23/6 الكشاف 3/997 زاد المسير 7/17 الجامع لأحكام القرآن 15/27 البحر المحيط 9/66-67 فتح القدير 4/369.
(3) ينظر التفسير الكبير 26/276 ، الكشاف 3/997 ، البحر المحيط 9/66-67 فتح القدير 4/369.
(4) ينظر تفسير الواحدي 2/900، الكشاف 3/997 ،زاد المسير 7/17، البحر المحيط 9/66-67، إرشاد العقل السليم 7/168 ،فتح القدير 4/369 ،روح المعاني 22/12.(1/23)
تقوم الشمس بأربع حركات في وقت واحد فهي تدور حول محورها بسرعة اثنتي عشر ميلاً في الثانية، وتنطلق مع كواكبها نحو نقطة بين الجاثي واللورا بسرعة 12 ميلا في الثانية، وتشارك في دوران المجرة حول نفسها بسرعة 120 ميلاً في الثانية، ثم هي أخيراً تجري ضمن انطلاق موكب المجرة في الفضاء بسرعة 6000-40000 ميل في الثانية. (1)
الضابط اللغوي:
__________
(1) ينظر الكون الأحدب 24 ،القرآن إعجاز يتعاظم 125، القرآن يفك لغز الأرض 14-15، الإسلام يتحدى 57، نماذج من الإعجاز العلمي 41 ،أعماق الكون 55-56، تأملات في الدين والعلم 40-41 ملامح كونية 60-61 ، مع الله في السماء 193 ،الكون والإعجاز العلمي 116.(1/24)
اختلف المفسرون في قوله (تجري) فمنهم من حملة على جريان الشمس الظاهري وهو الذي على مرأى عيوننا ومنهم من حمله على الجريان الحقيقي للشمس كما فسره بعض المفسرين وكذلك من فسر الآية تفسيراً علمياً لجريان الشمس الذاتي كما بينا عند ذكر حركات الشمس الأربع فمن فسر جريان الشمس على جريانها الظاهري حمل اللفظ (تجري) على المجاز لأنه كما هو معلوم أن الأرض هي التي تدور حول الشمس أما من فسر جريان الشمس على ما تقوم به الشمس من هذه الحركات سواء خصص إحداها أو لم يخصص فقد حمل اللفظ على حقيقته وهو جري الشمس جرياً ذاتياً هي التي تقوم بذلك كما يدل اللفظ حرفياً واختلف أهل اللغة والتفسير في جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والذي يبدو جواز ذلك فقد جوز الزركشي (1) في البرهان وابن عاشور (2) الجمع بينهما وذكر الأخير أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعد مرادةً بها ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره و القرآن ينبغي أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة مهما كانت درجته في البلاغة. (3) وفي قوله (تجري) أيضاً يخاطب القرآن الإنسان مهما كان مستواه العلمي من البسيط إلى العالم بحيث يكون بمقدوره الفهم والاعتبار. (4) وليس القرآن كتاباً كونياً للعلماء فحسب.
__________
(1) ينظر مثلاً البرهان 3/338 و 4/144.
(2) ينظر التحرير والتنوير 1/95.
(3) ينظر التحرير والتنوير 1/93-99.
(4) ملامح كونية 70.(1/25)
فـ (جري) الشمس حقيقة في الفضاء ... يتفق خبره إذا ذكر في القرآن مع ما علم سبحانه أن ستبدو به الشمس لعباده لما قدر للأرض من حركة يومية حول محورها، وحركة سنوية حول الشمس ليكون التطابق بين (الخبر) و (الجري) الظاهري فيه عبرة وهدى للناس أثناء الحقبة المتطاولة التي علم الله سبحانه أن سوف تمر قبل أن يستطيع أولوا العلم الكشف عن جري الشمس الحقيقي، حتى إذا كشفوه، وحققوا صدق الخبر الكوني القرآني حرفياً ... كان ذلك معجزة علمية كبرى في القرآن. (1) إضافة إلى إعجازه البلاغي في الأسلوب لمراعاته لمقتضى الحال في كل مرحلة من المراحل التي مر بها. وقد ذكر شاكر عبد الجبار أنه عبر بقوله (تجري) لكي يحيط بكل حركات الشمس الأربع ومنها الدوران حول المحور فهو ليس جرياً ولكن كعادة العرب في تغليب أكبر علامات الأشياء عند إطلاق التسمية والنعت. (2)
__________
(1) التفسير الواضح 23/5 ، وينظر الإسلام في عصر العلم 232.
(2) القرآن إعجاز يتعاظم 125.(1/26)
ومنهم (1) من فسر (الجري) بالمر السريع على قول الراغب وذكر أن الجري يدل على السرعة في السير والحركة فهو أدل على السرعة من المشي أو السير وبهذا فهو يدل على الحركات الحقيقية السريعة وليس على الحركة الظاهرية للشمس. ولكن بعد مراجعتي للمعجمات لم أجد من يحدد (الجري) بالسرعة دون الجري البطيء سوى الراغب كما ذكرت و لاحظت أن الثعالبي في كتابه فقه اللغة يسمي مشي الفرس جرياً عند تقسيمه لمشي الإنسان والحيوان فهو يقول: (الرجل يسعى. المرأة تمشي الفرس يجري. البعير يسير..) (2) كما وضع عنواناً في فصل من فصول كتابه ما نصه: (فصل في تفصيل ضروب جري الفرس وعدوه) (3) وهذا العنوان يدل على أن الجري عنده ليس الجري الشديد السرعة لأنه عطف عليه بقوله (وعدوه) فلو كان الجري المراد منه الجري السريع لما عطف بهذا مما يدل على أن الجري يشمل السريع منه والبطيء كما أن تسمية العرب الشمس (جارية) كما ورد في عدة معاجم (4) وهم لا يعلمون غير الحركة الظاهرية لها يدل على صحة إطلاق هذا اللفظ على هذه الحركة الظاهرية المعلومة سرعتها فلو كان غير ذلك لما سمّوها بهذا الاسم. إذن الجري يشمل الجري السريع كما ذكر الجوهري في صحاحه بقوله (جرى الماء ... وما أشد جريه) فقد وصفه بالشديد دلالة على سرعته وكذلك البطيء كما ذكرنا فلا دلالة في لفظ (جري) كما فسر قسمٌ منهم على حركات الشمس الأربع السريعة الحقيقية دون الحركة الظاهرة لها.
__________
(1) عبد العليم حضر في كتابه ظواهر جغرافية 138 ومنصور حسب النبي في كتابه الكون والإعجاز العلمي للقرآن 115-116 شاكر عبد الجبار في كتابه القرآن يفك لغز الأرض 15.
(2) فقه اللغة 283.
(3) المصدر نفسه 289.
(4) ينظر العين (جرا) 6/174 معاييس اللغة (جرى) 1/448 ، القاموس المحيط (جرو) 1/1639، لسان العرب (جرا) 14/141.(1/27)
أما عدم تسميته جري الشمس (مشياً) لأن الجري يدل على انسياح الشيء كما ذكر ابن فارس فهو أدق في الوصف وكما جرت عادة تسمية العرب للأشياء فقد أطلق الجري على الماء وعلى السفينة وعلى الشمس وغيرها. وأما من ناحية دلالة الفعل الزمنية (تجري) فقد جاءت بصيغة المضارع وهذه الصيغة تدل على الاستمرارية وهي مطابقة لحركات الشمس المستمرة إلى الحين دون توقف والى أجل يعلمه الله.
وفي قوله (لمستقر لها) نجد أن اللام في العربية لها عدة معانٍ منها أن تأتي بمعنى (إلى) مثل قولك (ذهبت للمنزل) أي إلى المنزل، أو لانتهاء الغاية مثل قوله تعالى :(كل يجري لأجل مسمى) (1) فإذا عددنا اللام في قولنا (لمستقر) أو لانتهاء الغاية، يكون معنى الآية الكريمة أن الشمس تجري نحو مكان معين سوف تستقر عنده في النهاية. (2) وهذا على من فسر الآية أن الشمس تجري مع أسرتها في الفضاء نحو برج النسر الواقع على هدف خاص (3) وقد فسر قسمٌ من المفسرين القدماء كما بينا مستقر الشمس في يوم القيامة.
وتأتي اللام أيضاً بمعنى في كما فسر بعضهم (4) بهذا المعنى عدداً من الآيات كما في قوله تعالى :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) (5) أي في يوم القيامة. (6)
__________
(1) سورة فاطر /13 وينظر أوضح المسالك إلى النية ابن مالك / بن هشام الأنصاري 3/32 وينظر شرح بن عقيل 3/18 التبيان في إعراب القرآن 2/9.
(2) ينظر القرآن والعلم/ محمد جمال الدين الفندي 35-36 ، وينظر الأرض في القرآن الكريم والعلم الحديث 42.
(3) ينظر القرآن والعلم / محمد جمال الدين الفندي 36، الكون والأعجاز العلمي للقرآن 115.
(4) ينظر زاد المسير 1/368 ،7/148 والتبيان في إعراب القرآن 1/125، 2/256 تفسير الجلالين 232، فتح القدير 5/440 روح المعاني 17/55.
(5) الأنبياء /47.
(6) روح المعاني 17/55.(1/28)
فإذا عددنا اللام في كلمة (لمستقر) بمعنى (في) يكون معنى الآية أن الشمس تدور في مستقرٍ لها، أي في مكان مستقر لها وهذا ما بينه العلم الحديث فهي تدور حول نفسها في ستة وعشرين يوماً. (1)
وقد قرئ (2) : تجري إلى مستقر لها وقرئ (3) (لا مستقرٍ لها) فلا تنفي الجنس وبناء مستقر على الفتح فيقتضي انتفاء كل مستقر وذلك في الدنيا التي هي تجري دائماً فيها لا تستقر. (4) وقرأ (5) أبن أبي عبلة (لا مستقر) بلا التي بمعنى ليس ومستقر اسمها ولها خبرها. وهذا معلوم كما جاء في العلم أن الشمس تدور بدون توقف حول محورها وحركتها السنوية وحول المجرة. وكما قال تعالى : ( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ) (6)
وقد ذكر الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي أن الشيء الطريف في القراءتين (لا مستقر لها) و (لمستقر لها) أن العلم يوفقهما فيرى أن الشمس تدور حول نفسها في 25 يوماً تقريباً وذلك يعني أن ليس لها مستقر في هذه الدنيا فهي دائماً في حركة مستمرة في الفضاء، إلى أن تنتهي الحياة عن العمل ولا تعارض بين معنى القراءتين فالقراءة (لمستقر) تصلح ليوم القيامة، والقراءة (لا مستقر لها) تصلح لهذه الدنيا، لأنه لا يخفى أن جملة (لا مستقر لها) حالية، على القاعدة المعروفة (الجمل بعد المعارف أحوال)، أما على قراءة (لمستقر لها) فهي جار ومجرور متعلق بتجري، أي ليس جملة، وإنما هي شبه جملة ليس لها محل من الإعراب. وهذا الذي جعلني أرجح القائل أن (المستقر) هو يوم القيامة عندما تتوقف عن العمل. (7)
__________
(1) ينظر القرآن والعلم / محمد جمال الدين الفندي 35.
(2) الكشاف 3/997 البحر المحيط 9/67.
(3) ينظر المحتسب لأبن جني 2/212.
(4) ينظر البحر المحيط 9/67 فتح القدير 4/369.
(5) ينظر الكشاف 3/997 ،البحر المحيط 7/336 ،المحتسب 2/212.
(6) إبراهيم /33.
(7) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 1/104-105.(1/29)
وتنكير قوله (مستقر) يشير إلى عِظَم شأنه وهول أثاره، وهذا التنكير قد سمح لأكثر المفسرين أيضاً أن يذهبوا في معنى المستقر إلى ما يتفق مع جري الشمس الظاهري من المشرق إلى المغرب، وترددها في ذلك بين أقصى موقعين تبلغهما في الشتاء مرة وفي الصيف مرة أخرى لا تتعداها، فعَدّوا كل موقع من هذين مستقراً لها، في الشتاء تارة وفي الصيف تارة، وليس هذا بالاستقرار إلا على وجه مجازي. (1)
وفي قوله تعالى (ذلك تقدير العزيز العليم) نجد الإشارة بقوله (ذلك) إلى جري الشمس أي ذلك الجري تقدير العزيز الغالب القاهر العليم أي المحيط بعلمه بكل شيء ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله. (2)
منازل القمر:
قال تعالى: ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (3)
النزول في اللغة: (الحلول، وقد نَزَلهم و نَزَلَ عليهم ونَزَل بهم مَنْزِلاً.. والمنزِل والمَنْزِلة: موضع النزول). (4)
أما العرجون في اللغة:
قال الخليل: (العرجون: أصلُ العِذْق ، وهو أصفُر عريضٌ يُشبِهُ الهلال إذا انْمَحَقَ). (5)
وفي الصحاح: العرجون أصل العذِق الذي يَعْوَجّ ويُقْطَع منه الشَّمَاريخ فيبقى على النخل يابساً. (6)
__________
(1) ينظر نماذج من الإعجاز العلمي 42، الكون والإعجاز العلمي للقرآن 115.
(2) ينظر الكشاف 3/997 ، البحر المحيط 9/67 ، فتح القدير 4/369.
(3) يس /39.
(4) لسان العرب (نزل) 11/656-660 ، وينظر القاموس المحيط (نزل) 1/1372.
(5) العين (عرجن) 2/320.
(6) الصحاح (عرجن) 6/2164 ، وينظر لسان العرب (عرجن) 13/284، القاموس المحيط (عرجون) 1/1568 .(1/30)
تفسير المفسرين لهذه الآية: ذكر الزمخشري أنه لابد في (قدرناه منازل) من تقدير مضاف، لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل. والمعنى: قدرنا مسيرة منازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه (1) وذكر ذلك أيضاً أبو حيان (2) وابن كثير (3) والبيضاوي (4) وابن عاشور (5)
وقيل قدرنا نوره منازل فزيد مقدار النور كل يوم حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. (6)
النظرة العلمية:
دلت الدراسات الفلكية على أن القمر يدور حول نفسه، وفي نفس الوقت يطوف حول الأرض مرة واحدة في كل شهر (7) وقد انتهت بحوث الفلكيين إلى أن القمر أول الشهر يكون (المحاق) لانمحاق نوره أي اختفائه ثم يكون بعد سبعة أيام في التربيع الأول، ثم يكون بدراً في وسط الشهر، ثم يكون في التربيع الثاني بعد الأسبوع الثالث، ثم يكون في المحاق آخر الشهر وهكذا دواليك. (8) كما وجد علماء الفلك بعد أن راقبوا بدقة التغير في شكل القمر وحجمه أن هذا التغير منتظم وثابت ودقيق وتمكنوا من تحديد زمن ولادة الهلال بدقة متناهية.
الضابط اللغوي في الآية:
__________
(1) الكشاف 3/997.
(2) البحر المحيط 9/67.
(3) تفسير القرآن العظيم 3/573.
(4) أنوار التنزيل 4/434.
(5) التحرير والتنوير 11/95.
(6) ينظر البحر المحيط 9/67 وتفسير القرآن العظيم 3/573 والتحرير والتنوير 11/95.
(7) القرآن وإعجازه العلمي 77.
(8) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن 23، القرآن وإعجازه العلمي 77، الإعجاز العلمي في الإسلام 206-207دورتا الشمس والقمر وتعيين أوائل الشهور العربية باستعمال الحساب 13.(1/31)
بين الله تعالى في هذه الآية أنه جعل القمر في فلكه يظهر من الأرض بأوجه من الضياء ثم تزيد ثم تنقص تدريجياً وبانتظام في كل دورة كما هو مشاهد، فأشار بهذا الظهور المنتظم والمتكرر كل شهر إشارة قوية إلى أن فلك القمر الذي يسبح فيه لا بد أن يكون ثابتاً بالنسبة للأرض وأن يكون هو والأرض متلازمين لكي يستمر انتظام ظهور أوجهه. (1)
وقد أشار أغلب المفسرين (2) أن وجه الشبه بين – القمر حين يكون في آخر منازله- والعرجون القديم من ثلاثة أوجه وهي الدقة والتقوس والاصفرار.
أما من (3) فسر الآية تفسيراً علمياً فيرى أن تعبير القرآن بالعرجون القديم الذي لا خضرة ولا ماء ولا حياة تشبيه علمي لحالة القمر الواقعية فلا خضرة فيه ولا ماء ولا حياة، وقد تحقق ذلك فعلاً بعد أن تمكن الإنسان أخيراً من النزول على سطح القمر والسير فوقه ومشاهدة معالمه المقفرة.
والذي يبدو أن تشبيه القدماء أصح من التشبيه العلمي الحديث وذلك بقرينة قوله تعالى (عاد) لأن (عاد) بمعنى رجع كما جاء في الصحاح (4) ولم يكن القمر مقفراً ثم دبت فيه الحياة ثم عاد كما كان مقفراً لا ماء فيه ولا حياة ولا خضرة ولم يكتشف فيه لحد الآن أي أثر للحياة لذا كان وجه الشبه هنا في الشكل لا في الحال.
الشمس لا تدرك القمر:
وفي قوله تعالى: ( لا الشَّمْسُ يَنْ بَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ). (5)
البغي في اللغة:
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 293.
(2) ينظر مثلاً الكشاف 3/98 ، الجامع لأحكام القرآن 15/30 البحر المحيط 9/68.
(3) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 77، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم د. محمد كمال عبد الصمد 206- 207.
(4) الصحاح (عود) 2/513.
(5) يس/ 40.(1/32)
قال ابن فارس (1) : (تقول: ما ينبغي لك أن تفعل كذا، وهذا من أفعال المطاوعة، تقول بَغَيْتُ فانبغى كما تقول كسرته فانكسر) وإلى ذلك ذهب أيضاً صاحب الصحاح (2) وابن منظور (3)
وذكر أيضاً ابن منظور (4) عن ابن الاعرابي: وما ينبغي له وما يَصْلحُ له ... وما ينبغي لك أن تفعل أي لا نَوْلك ... وذكر ابن منظور أيضاً أن معنى (انبغى الشيء: تيسر وتسْهل وذهب إلى هذا أيضاً صاحب القاموس المحيط. (5)
أما الراغب فقد ذكر (أن قولهم ينبغي مطاوع بَغَى، فإذا قيل ينبغي أن يكون كذا فيقال على وجهين: أحدهما ما يكون مسخراً للفعل نحو: النار ينبغي أن تحرق الثوب. والثاني على معنى الاستئهال نحو: فلان ينبغي أن يُعْطِي لكرمه). (6)
أما الدرك لغة:
فقال الخليل (7) : (الدَّرَكُ إدْراكُ الحاجةِ والطَّلبْة ... والَّدرَكُ اللَّحْقُ في التَّبِعة). وقال ابن فارس: (الدال والراء والكاف أصل واحد، وهو لُحوق الشَّيء بالشيء ووصَوله إليه. يقال أدركتُ الشيء أدرِكُه إدراكا. ويقال فرس دَرَك الطريدة، إذا كانت لا تفوتهُ طريدة). (8)
وجاء في الصحاح (9) : يقال مشيتَ حتى أدركتَهَ وعشتَ حتى أدركْتُ زمانه. و (أدركتُه) ببصَرَي أي رأيتهُ. ومثل هذه المعاني ذكرها ابن منظور. (10)
أقوال المفسرين في هذه الآية:
اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية إلى أقوال كثيرة ذكر ابن الجوزي منها ثلاثة أقوال:
__________
(1) مقاييس اللغة (بغي) 1/271.
(2) الصحاح (بغى) 6/2281-2282.
(3) لسان العرب (بغل) 14/75-79.
(4) ينظر المصدر نفسه (بغا) 14/75-79.
(5) القاموس المحيط (بغي) 4/304.
(6) المفردات في غريب القرآن (بغى) 72-73.
(7) العين (درك) 5/327-328.
(8) مقاييس اللغة (درك) 2/268.
(9) الصحاح (درك) 4/1582.
(10) لسان العرب (درك) 10/419-423.(1/33)
أحدهما: أنه إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر فلا يشتركان في المنازل قاله ابن عباس. (1)
الثاني: لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر ولا ينبغي لها ذلك قاله مجاهد. (2)
الثالث: لا يجتمع ضوء أحدهما مع الآخر فإذا جاء سلطان أحدهما ذهب سلطان الآخر قاله قتادة فيكون وجه الحكمة أنه لو أتصل الضوء لم يعرف الليل. (3) وذكر البيضاوي أن قوله تعالى :(لا الشمس ينبغي أن تدرك القمر) أي: لا يصح لها ويتسهل أن تدرك القمر في سرعة سيره، فإن هذا يخل بتكوين النبات وتعايش الحيوان أو في آثاره ومناطقه ومكانه بالنزول إلى محله أو سلطانه فتطمس نوره، لأن الشمس مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. (4) وقد ذكر ذلك. أيضاً أبو السعود (5) والآلوسي. (6) وذكر البغوي (7) أنه قيل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي :تجتمع معه في فلك واحد وهذا المعنى مقارب لقول ابن عاشور فالمعنى عنده نفي أن تصطدم الشمس بالقمر، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المساحة لا من الاقتراب. (8)
النظرة العلمية لهذه الآية:
ذكر العلماء أنه لا يمكن أن تدرك الشمس القمر ولا يمكن أن يتلاقيا لأن كلاً منهما يجري في مدار موازٍ للآخر فيستحيل أن يتقابلا لأن الخطين المتوازيين لا يلتقيان أبداً. (9)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر زاد المسير 7/20 ، البحر المحيط 9/68.
(2) ينظر جامع البيان 23/7 ، زاد المسير 7/20 الدر المنثور 7/58.
(3) ينظر جامع البيان 23/7، زاد المسير 7/20 الجامع لأحكام القرآن 15/32، الدر المنثور 7/58، روح المعاني 23/20.
(4) ينظر أنوار التنزيل 4/434.
(5) إرشاد العقل السليم 7/168.
(6) روح المعاني 23/21-22.
(7) تفسير البغوي 4/13.
(8) التحرير والتنوير 23/24.
(9) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 78 ومعجزة القرآن 88.(1/34)
يبدو من تفسير قسم من المفسرين أنهم قدروا أو أولوا قوله تعالى (الشمس) و (القمر) في هذه الآية بضوئها أو سلطانهما أو مسيرهما ... إلى غير ذلك وأشار القسمُ الآخر منهم وأكثر من فسر هذه الآية تفسيراً علمياً إلى ذات الشمس والقمر وليس إلى صفةٍ من صفاتهما وهذا يعني أن تأويل القدامى في كثير من الأحيان لا يتعارض مع التفسير العلمي الحديث وإن كان عدم التأويل أولى من التأويل والأخذ بظاهرة الآية الذي يوافق التفسير العلمي.
ومن دقة التعبير القرآني عن عدم تمكن أدراك الشمس القمر وكونها مسخرة لا يستهل لها إلا ما أريد بها أنه صاغ هذه الآية بصيغة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقويّ حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل: لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر. (1)
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقرراً في ذهن السامع أقوى مما لو قيل: الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر، فكان في قوله (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) خصوصيتان. (2)
وقد ذكر الآلوسي (3) أن تقديم الشمس على الفعل يفيد التخصيص فالشمس لا تقدر على إدراك القمر بل غيرهما يقدر وهو الله تعالى وهذا مشعر بكونها مسخرة لا يستهل إلا ما أريد بها. كما أشار الآلوسي أيضاًإلى أنه قوله (ينبغي) اختيار غير واحد أنه بمعنى التسخير كما في قوله النار ينبغي أن تحرق الثوب (4) وذكر ابن عاشور أن الفعل هنا جاء بصيغة المطاوعة فينبغي هو مطاوع بغى وهذا يعني نفي انبغاء ذلك، أي نفي تأتيه، فانبغى يفيد أن الشيء طُلب فحصل للذي طلبه، يقال: بغاه فانبغي له، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوباً، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. (5)
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير 23/24.
(2) المصدر نفسه 23/24.
(3) روح المعاني 23/21.
(4) ينظر المصر نفسه 23/20.
(5) ينظر التحرير والتنوير 23/24.(1/35)
أما قوله تعالى (تُدِرك) فمن فسر الآية تفسيراً علمياً فقد أخذه على معنى اللحوق الحقيقي للقمر فعدم الإدراك هو عدم الاصطدام بينهما، خلافاً لما يبدو من قرب منازلهما.
أما قوله تعالى: ( وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار )فسوف نتناول الليل في مبحث خاص.
وفي قوله تعالى: ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )
ذكر ذلك في سورة الأنبياء يقول سبحانه: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (1) وفي سورة يس :( لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ). (2)
الفلك في اللغة:
قال ابن فارس (3) : الفاء واللام والكاف أصل يدل على استدارة في شيء. من ذلك فَلُكة المغِزل بفتح الفاء، سميت لاستدارتها.. ومن هذا القياس فَلَك السماء.
وفي اللسان: الفلك: مدار النجوم: والجمع أفلاك، والفَلَك واحد أفلاك النجوم أما في كتب الغريب فقد ذكر الراغب (والفلك مجرى الكواكب وتسميته بذلك لكونه كالفُلك).
أقوال المفسرين في ذلك:
عن ابن عباس (4) رضي الله عنهما: (كل في فلك) قال: يدورون في أبواب السماء ما تدور الفلكة في المغزل وعنه أيضاً يسبحون دوراناً.وقال الضحاك (يسسبحون) الجري والسرعة قال القرطبي (5) يجري ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء وإلى مثل هذا ذهب البيضاوي. وقد اختلف المفسرون في عودة الضمير في (يسبحون) كما سنذكر ذلك في الضوابط.
الشاهد العلمي:
__________
(1) الأنبياء /33.
(2) يس /40.
(3) مقاييس اللغة (فلك) 4/452.
(4) ينظر جامع البيان 17/23، تفسير القران العظيم 3/179، الدر المنثور 5/627.
(5) الجامع لأحكام القران 11/286 البيضاوي 4/92.(1/36)
اثبت العلم الحديث أن الكواكب تدور حول نفسها وحول شمسها وان الشمس مع مجموعتها من كواكب وكويكبات وأقمار ومذنبات تطوف هي الأخرى حول مركز المجرة (مجرة درب التبانة) ولقد أثبت العلم الحديث أيضاً أن في مركز مجرتنا ثقباً أسود (1) شديد الجاذبية مما جعل كل النجوم بأعدادها الرهيبة تدور حوله. (2)
وكل هذه النجوم والكواكب والكويكبات تجري في أفلاكها لا يصدم بعضها بعضاً ولا ينحرف أحد عن طريقه أو مساره في الفضاء وان الفضاء بين النجوم ليس فارغاً بل هو ممتلئ بمادة على هيئة غازات يختلف تركيزها أو كثافتها من مكان إلى أخر في الكون وهي تؤلف ما يسمى المادة الكونية. (3)
الضابط اللغوي في التفسير:
__________
(1) نجوم ميتة انكمشت على نفسها وانقبضت بفعل الجاذبية ... والثقب لا يكتفي بضغط مادته في جوفه بل يبتلع أي جرم يقترب منه ، ينظر الكون والإعجاز العلمي 269.
(2) ينظر إشارات علمية في القران الكريم/ محمد وفا الأميري 12، الإشارات العلمية في القران الكريم د. كارم السيد غنيم 229-230 ، مع الله في السماء 90،146 قصة الإيمان 306-307.
(3) طريق إلى الله 20، شهادة الكون 10.(1/37)
(كل) التنوين فيه عوض من المضاف إليه (1) أي كل واحد منهما أو منها ويعود إلى الليل والنهار والشمس والقمر، و(يسبحون) خبر كل على المعنى، وقيل يسبحون على هذا الوجه حال، والخبر في فلك؛ وقيل التقدير: كلها والخبر يسبحون. (2) واختلف المفسرون في عودة الضمير في (يسبحون) فمنهم من يرى أن الضمير للشمس والقمر وإنما جمع باعتبار المطالع (3) ومنهم (4) من يرى أنه يعود إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم مذكورة كأنها موجودة لعود هذا الضمير عليها ويتضح من قول الرازي أن كل عام يشمل جميع الأجرام السماوية.
أما ابن عاشور فيرى (5) أن الضمير عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر.
وذهب الغمراوي (6) أيضاً إلى أن ضمير الجمع في الفعل (يسبحون) يدل على وجود شموسٍ وأقمارٍ في السماء غير الشمس المعهودة أو القمر الذي نعرفه.
__________
(1) ينظر الكشاف 3/998 ،التبيان في إعراب القران 131 ، إرشاد العقل السليم 6/66.
(2) التبيان في إعراب القران 133.
(3) ينظر الكشاف 3/998، أنوار التنزيل 2/870-871 ،مشكل إعراب القران 2/479 ، إرشاد العقل السليم 6/66.
(4) ينظر التفسير الكبير26/65-66 ، محاسن التأويل 1/335 ، صفوة التفاسير 2/261.
(5) التحرير والتنوير 17/60.
(6) الإسلام في عصر العلم 325-326.(1/38)
وهذا يعني أن القرآن خاطب الناس بأسلوب يتفق مع ما وصلت إليه العلوم آنذاك لكي لا يثير مشكلة في تصديقهم للقرآن ويتفق مع ما وصلت إليه العلوم الحديثة من وجود شموس وأقمار من خلال القرائن والإشارات الدلالية كما في الضمير هنا وهذا من بلاغة القرآن الكريم ومن بلاغة القرآن الكريم أيضاً أنه عبر عن الأرض وهي إحدى كواكب المجموعة الشمسية المهمة لوجود الحياة فيها في هاتين الآيتين بالليل والنهار لذا يرى حنفي (1) أحمد أن الليل والنهار المقصود هنا على الأرض وحدها فـ (كل) معناه في ظاهر الآية وكل من الشمس والقمر والليل والنهار يسبح في فلك خاص به ،وحيث إن الليل والنهار لا يعقل فيهما السبح على اعتبار المعنى الزمني فيكونان قد استعملا مجازاً وقصد بهما لازمان من لوازمهما يصح فيهما السبح. والقرينة على هذا القصد قوله :(وكل في فلك يسبحون) وذهب إلى ذلك أيضاً الدكتور عبد العزيز الخياط (2) فهو يرى أنه لا يجوز نسبة السباحة إلى الليل والنهار لأنهما أوصاف للظلام والضياء ولا يتمتعان إلا بوجود الأشياء المادية وهي الأرض والشمس والقمر.
وقد ذكر أكثر المفسرين (3) أنه جيء بالضمير الواو والنون في (يسبحون) ولم يقل يسبحن ولا تسبح وذكره كضمير من يعقل لأنه وصفها بالسباحة وهي صفات من يعقل فأجري عليها أيضاً ضمير العقلاء فيكون ذلك ترشيحاً للاستعارة وذكر القرطبي (4) أن هذا مذهب سيبويه لجعلهن في الطاعة بمنزلة من يعقل لذا أخبر عنهن بالواو والنون.
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 293-294.
(2) بحوث المؤتمر الأول للإعجاز 1990 ، عنوان البحث/ الإسلام والعلم وإعجاز القران في الإشارات العلمية ص379-380.
(3) الكشاف 3/998 ، التفسير الكبير 26/278 ،الجامع لأحكام القرآن 11/286 ،أنوار التنزيل2/ 870 -871، إرشاد العقل السليم 6/66 مشكل إعراب القرآن 2/479، التحرير والتنوير 17/60.
(4) الجامع لأحكام القرآن 11/286.(1/39)
وأشار القاسمي (1) أيضاً إلى دقة استعمال القرآن للألفاظ ففي قوله يسبحون إشارة إلى مادة العالم الأصلية - الأثير – التي تسبح فيها الكواكب كما تسبح الأسماك في الماء. فليست الأفلاك أجساماً صلبةً تدور بالكواكب كما كانوا يزعمون وكما أشار الغمراوي (2) أنه المراد بالسبح هنا حقيقته لا مجازه فالإشارة اللغوية دقيقة فالفعل (يسبح) يستلزم الحركة الذاتية، إذ لا سباحة ولا سبح بدونها.
ومن بدائع الإعجاز في هذه الآية أيضاً قوله تعالى :(كلّ في فلك) فيه محسن بديعي فقد ذكرها الزركشي بقوله (3) حيث تحدث عن الكلمات التي تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها وهذا النوع سماه السكاكي (4) (المقلوب المستوي) وجعله من أصناف نوع سماه القلب وسماه الحريري في المقامات (ما لا يستحيل بالانعكاس) وقد جاءت مع ذلك من غير تنافر في حروفها ولا غرابة وليس كما جاءت أغلب الأمثلة التي ذكرها الحريري – نثراً ونظماً – فيها تكلف وتنافر وغرابة، وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك، وكلما زادت طولاً زادت ثقلا. (5) وفي هذه الصياغة حركة تذبذبية مستديمة هي حركة الأجسام في الفلك مما يعني أن الفلك مدور وهذه الإشارة ضمنية وذوقية ودقيقة وقد خلق الله كل شيء بدقة متناهية. (6) وهو القائل: ( اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ). (7)
__________
(1) محاسن التأويل 1/335.
(2) الإسلام في عصر العلم 329.
(3) البرهان في علوم القرآن 3/293.
(4) ينظر مفتاح العلوم للسكاكي 876.
(5) التحرير والتنوير 17/60.
(6) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / رعد طاهر رشيد 37.
(7) شورى /17.(1/40)
وهناك آيات أخرى تحدثت عن جريان الشمس والقمر وغيرها من الكواكب والنجوم وقد جاءت بصيغ متشابهة على اختلاف في بعضٍ من حروفها مما يؤدي إلى اختلاف في معانيها تبعاً لهذا الاختلاف ليشير إلى دقة التعبير القرآني وأثر السياق في هذا التغيير كما جاء في قوله تعالى: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّى ). (1) وقوله :( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى ). (2)
فالأَجَل في اللغة: غاية الوقت في الموت.؟ وحلول الدَّين، وحدة الشيء والجمع آجال. (3)
أقوال المفسرين في هذه الآيات:
لم يفرق أغلب المفسرين بين هذين التعبيرين من الناحية اللغوية أما المعنى العام لهذه الآيات فقد اختلف العلماء في تفسيرها على قولين:
الأول: كل يجري أي يجريان على ما يريد الله عز وجل لأجل مسمى، أي :إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا وقيام الساعة. (4)
الثاني: لمدة معينة يتم فيها دورانه في فلكه فمدة جريان الشمس سنة القمر شهر قال ابن عباس أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما ينتهيان إليها ولا يجاوزانها. (5) وذكر ابن كثير أن كلا المعنيين صحيح. (6)
وقد تحدثنا سابقاً عن حركات الشمس والقمر وعرفنا أن للشمس حركات متعددة وكذلك القمر وغيرهما من الكواكب والنجوم.
أما الضابط اللغوي لهذه الآيات:
__________
(1) الرعد /2 ، فاطر/13، الزمر/5.
(2) لقمان /29.
(3) ينظر العين (أجل) 6/78 ،اللسان (أجل) 11/11-13 ،القاموس المحيط (أجل) 1/1214.
(4) ينظر جامع البيان 13/95 ،تفسير البغوي 3/6 ،الجامع لأحكام القرآن 9/279 ،تفسير القرآن العظيم 3/453 ،إرشاد العقل السليم 7/76 ،روح المعاني 13/89.
(5) تفسير البغوي 3/6 ،تفسير القرآن العظيم 3/453 ،إرشاد العقل السليم 7/76 ،روح المعاني 13/89.
(6) تفسير القرآن العظيم 3/453.(1/41)
فقد جاء في آية الرعد باللام (لأجل) وجاء في آية لقمان بـ (إلى) (إلى أجل) والفرق بينهما ؛ما ورد باللام يفيد التعليل بمعنى كل يجري لبلوغ الأجل أي كل يجري لهذه الغاية كما تقول: كلهم يجري لوصول الهدف وبلوغه. أما ما جاء بـ (إلى) فهو يفيد الانتهاء. (1) وجاء في درة التنزيل: (للسائل أن يسأل من اختصاص ما في سورة لقمان بقوله : (كل يجري إلى أجل مسمى) وما سواه إنما هو : (يجري لأجل مسمى). الجواب أن يقال: إن معنى قوله (يجري لأجل مسمى) يجري لبلوغ أجل مسمى وقوله: (يجري إلى أجل) معناه لا يزال جارياً حتى ينتهي إلى أخر وقت جريه المسمى له. وإنما خص مات في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على جريها لبلوغ الأجل المسمى لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة فقلبها ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ). (2) وبعدها: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ). (3) فكان المعنى كل يجري إلى ذلك الوقت وهو الوقت الذي تكور فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق وهو قوله : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ . خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ). (4)
__________
(1) التعبير القرآني /188.
(2) لقمان /28.
(3) لقمان /33.
(4) الزمر /5-6..(1/42)
فالآيات التي تكتنفها في ذكر خلق السماوات والأرض وأبتدأ جري الكواكب وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر إذ يقول ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ) إلى قوله (لعلكم تشكرون.يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ). (1) فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها – واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل لأجلها. (2) أما الآلوسي (3) فقد أشار إلى أن اللام تجيء بمعنى إلى وقد ذكرنا هذا المعنى للام في الآيات السابقة وقد جوز هذا المعنى للام ابن مالك (4) وابن هشام. (5)
مواقع النجوم:
قال تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ) (6)
المواقع في اللغة:
قال الخليل (7) : المَوْقِعُ: موضِعٌ لكل واقعِ وجمعُه. مَواقِعُ.
وقال ابن فارس (8) : الواو والقاف والعين أصلٌ واحد يرجع إليه فروعه يدل على سُقوط شيء. ومَواقع الغيث مَسَاقطه. وفي الصحاح (9) : يقال (وقع الشيء (مَوْقَعَه).
وجاء في اللسان (10) : وقع على الشيء ومنه يَقَعُ وَقْعاً وُوقُوعاً: سقط ومواقع الغيث مَساقَطه والمَوْقِع والمِوقعة: موضع الوقوع .. تقول إن هذا الشيء ليقع في قلبي موقعاً.
أقوال المفسرين لهذه الآية:
__________
(1) فاطر /12-14.
(2) درة التنزيل 374-375 وينظر التعبير القرآني 188.
(3) روح المعاني 13/89.
(4) شرح ابن عقيل 3/18.
(5) معنى اللبيب عن كتب الأعاريب 1/280.
(6) الواقعة /75-76.
(7) العين (وقع) 2/178.
(8) مقاييس اللغة (وقع) 6/134.
(9) الصحاح (وقع) 3/1301.
(10) اللسان (وقع) 8/402-404.(1/43)
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى :(مواقع النجوم) إلى عدة أقوال فمنهم من قال (مواقع النجوم) مساقطها ومغاربها وهو قول قتادة وغيره (1) وقال عطاء بن أبي رباح منازلها وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول. (2) وقال الحسن انكدارها وانتشارها يوم القيامة وقال الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا أمطروا قالوا أمطرنا بنوء كذا فيكون قوله تعالى (فلا أقسم) مستعملاً على حقيقة نفي القسم. وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوماً أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ جملة ليلة القدر من السماء إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقاً بعد ذلك. (3) وذكر ابن عاشور أن المواقع هي: أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء كذلك بروجها ومنازلها. (4)
التفسير العلمي مع شواهده العلمية:
هناك شواهد علمية كثيرة يمكن ربطها وتفسير قوله تعالى :(مواقع النجوم) تفسيراً حديثاً يتوافق ما وصل إليه العلم:
__________
(1) ينظر الكشاف 4/1217 ،الجامع لأحكام القرآن 17/223 ،الدر المنثور 8/25 ،فتح القدير 5/160 التحرير والتنوير 27/330.
(2) وينظر لأحكام القرآن 17/223 ،ابن كثير 4/299 ،روح المعاني 27/153.
(3) ينظر جامع لأحكام البيان 27/117 ،الجامع لأحكام القرآن 17/223 ،ابن كثير 4/299 فتح القدير 5/160.
(4) التحرير والتنوير 27/331.(1/44)
1- مواقع النجوم المنحرفة: وتكون هذه المواقع نتيجة انحراف وانكسار الضوء وهذه الظاهرة لا ترينا النجوم في مواقعها الحقيقية بل نشاهدها فوق موقعها الحقيقي، فكلما كانت النجوم قريبة الأفق كان الفرق بين موقعها الحقيقي والوهمي كثيراً، أو بتعبير آخر كلما كانت زاوية الانكسار أكبر كان الفرق بين موقعها الوهمي والحقيقي أكثر وبالعكس. والسبب في هذه الظاهرة أن الضوء إذا مر في وسط يختلف في الكثافة اختلفت سرعته فينحرف عن استقامته، لما كان الهواء يختلف في الكثافة اختلفت سرعة الضوء فيه فينحرف عن استقامته بين النجم والراصد. ولمعرفة الموقع الحقيقي للنجم لا بد من معرفة مقدار زاوية انحراف الضوء في كل درجة من ميلها. (1)
وكذلك فإن الضوء الصادر عن أي نجم عندما يصل إلينا (أي إلى الأرض) فأنه سوف يتأثر بالجاذبية القوية فينحرف عن مساره المستقيم ويتعرج قليلاً بمسار منحني فلو وصل إلى الأرض فإن المشاهد لصورة ذلك النجم سوف يشاهدها على امتداد مجال البصر وليس في موقع النجم الأصلي فإننا بذلك نرى موقعاً ظاهرياً للنجم وليس موقعه الحقيقي. (2)
ولم يكن أمام الباحثين للتحقق من صحة هذه النظريات إلا استخدام ظاهرة الكسوف الكلي للشمس واستنباط تأثير كتلة الشمس القوية وجاذبيتها العظيمة على مواقع النجوم التي تظهر بالقرب من الشمس أثناء الكسوف الكلي وتحول النهار إلى ليل وبالفعل تم تصوير هذه النجوم نهاراً أثناء الكسوف الكلي الذي حدث سنة 1919 وتمت موازنتها بصور نفس المجموعة النجمية وذلك في أثناء ظهورها ليلاً أي قبل حدوث الكسوف بعدة أشهر.(الشكل الذي يوضح تغيير مواقع النجوم قبل وبعد الكسوف). (3)
__________
(1) ينظر بصائر جغرافية معرفة وعقيدة 310 ، تيسير الرحيم الرحمن 153.
(2) تيسير الرحيم الرحمن 150.
(3) مقال قراءة علمية لظاهرة الكسوف / مجلة الإعجاز العلمي – العدد السادس/ محرم 1421 هجرية مايو 2000م ، ينظر الرحيم الرحمان 150-152.(1/45)
2-مواقع النجوم الخالية: كما لاحظ علماء الفلك أيضاً أن النجوم تبعد عن الأرض بعضها عن بعض بأبعاد سحيقة لا تقاس بالأميال أو بالكيلو مترات وإنما تقاس بالسنين الضوئية والسنة الضوئية = (ستة بلايين مليون ميل) (1) فمثلاً نجم منكب الجوزاء يبعد عن الأرض 300 سنة ضوئية فلو حدث انفجار في هذا النجم الآن فأننا لا نراه إلا بعد 300 سنة ربما أن النجوم تتباعد عن بعضها بسرعة هائلة جداً لذا فإنه لن يكون في نفس الموقع الذي حدث فيه الانفجار أثناء رؤيته بعد 300 سنة ضوئية لذا فأن الذي نراه ويراه الباحثون هو موقع النجوم وليس النجوم نفسها. (2)
ومن النجوم أيضاً ما تولد وتظهر إلى الوجود حديثاً، ولكنها تبقى غير مرئية حتى مرور مدة يصل الضوء منها إلينا ربما يستغرق مئات السنين الضوئية أو ألوفها، وفي هذه المدة لا ترى النجمة الوليدة مع وجودها في الكون، ولكن عند وصول ضوئها إلينا ورؤيتها من قبلنا لا نراها في موقعها بل نراها في موقع أخر، وذلك لأن هذه المدة العظيمة من السنين الضوئية يكون النجم قد قطع في سرعته الخارقة ملايين الأميال وانتقل إلى موقع آخر. (3)
ومن النجوم ما تندثر وتزول من عالم الوجود ولا يبقى منها إلا ضوء تبقى مرئية حتى مرور مدة من الزمن، وهذه المدة تعادل بعدها عنا مقدراً بالسنين الضوئية. (4)
وقوله (مواقع النجوم) معناها الأول المتبادر هي موضعها في الفضاء أي مواضع بعضها بالنسبة لبعض فالآية تشير إلى الناحية الكمية لقوانين الجاذبية العامة، ولها ركنان:
1- حاصل ضرب كتلتي الجسمين المتجاذبين إذ تتناسب معه طردياً.
2- المسافة بينهما إذ تتناسب مع مربعها عكسياً.
__________
(1) كتاب التوحيد 234.
(2) ينظر الكون الأحدب 195 ، أعماق الكون 218-220.
(3) ينظر بصائر جغرافية 314 ، مع الله في السماء 184-186.
(4) بصائر جغرافية 313.(1/46)
فالركن الأول يزيد في قوة التجاذب بين الجسمين، والثاني يُنقص ويضعف منها. وواضح أن أثر المسافة في الأبعاد الفلكية أكبر وأعظم من أثر الكتلتين، وإن ضربت إحداهما في الأخرى، وقد دلت الآية على الركنين معاً، وعلى هذا فالفرق بينهما، فمواقع النجوم هي مواضعها في الفضاء أي مواضع بعضها بالنسبة لبعض، وهذا تحديد للمسافات التي يقسم الله بها، أما الكتلة فيدل عليها ذكر النجوم وكفى. (1)
وكل نجم في موقعه المتباعد عن موقع أزواجه قد وضع هناك بحكمة وتقدير، وهو منسق في آثاره وتأثراته مع سائر النجوم والكواكب، لتوازن هذه الخلائق كلها في هذا الفضاء الهائل. (2) ثم أن هناك مدلولاً علمياً آخر عن مواقع النجوم وهي أن موقع الشمس موقع بالغ الدقة في وضعه لكي تستقيم معه الحياة على كوكبنا الأرضي، لأنها لو تقدمت عن موضعها الحالي لاحترقت الأرض من شدة حرارتها ولو تأخرت عن موضعها لبردت الأرض وتجمدت فيها البحار والمحيطات وتصير غير صالحة لحياة البشر عليها. (3)
كما أن الجاذبية العالية هي التي تجعل الكواكب تدور حولها وتمنعها من الانفلات والخروج عن مواقعها ومداراتها ... فالنجوم هي مركز وحدة تكوين الكون وقد جعلها الله مسؤولة عن هذا التوازن الكوني الدقيق الذي يشمل ليس المجموعة النجمية وحدها بل المجموعات النجمية ككل والتي تتكون منها المجرات السابحة في السماوات ومن هذا يظهر لنا الأهمية العظمى لمواقع النجوم باعتبارها مركز وحدات السماوات. (4)
__________
(1) ينظر الإسلام في عصر العلم 318-319 ، نماذج من الإعجاز العلمي 57-58.
(2) ينظر هندسة النظام الكوني 77 ، في ظلال القرآن 6/3470.
(3) القرآن وإعجازه العلمي 62.
(4) ينظر نظرة علمية للكتب السماوية /63-64.(1/47)
وفي هذه الآية أيضاً إشارة إلى أن كل نجم في السماء له موقع في الفلك وخط سير خاص به لا يتعدى عليه أي نجم آخر. ولو أن أي نجم انحاز عن خط سيره ولو بمقدار درجة صغيرة لتصادمت النجوم في الفضاء ولهلك العالم. (1)
ولو أخذنا قوله (مواقع) بمعنى مساقط من وقع أي سقط فيكون معنى مواقع اسم مكان سقوط النجوم فهذا يدل على وجود الثقوب السوداء (2) التي تبتلع النجوم العملاقة ولا تبقي لها أي أثر، من المناسب جداً تسميتها بالآبار التي لا قعر لها. فهذه الثقوب لا يمكن رؤيتها لا بالعين ولا بأعظم التلسكوبات البصرية أو حتى بأعظم التلسكوبات الراديوية. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الأميري 17.
(2) الثقوب السوداء: نجوم ميتة انكمشت على نفسها وانقبضت بفعل الجاذبية فانهارت مادتها وتراكمت تراكماً شديداً، الكون والإعجاز العلمي للقرآن 269، مما يجعل جاذبية كل منها تزداد زيادة هائلة لدرجة أن الثقب لا يكتفي بضغط مادته في جوفه بل أنه يستطيع أن يبتلع أي جرم يقترب منه بل يستطيع أن يجذب جسيمات الضوء فلا تستطيع منه فكاكاً لأن سرعة الهروب منه أكبر من سرعة الضوء ولهذا يبدو الثقب في السماء جرماً أسود لا يمكن رصده لأنه لا يسمح للضوء المرئي وغير المرئي أن يفلت منه.
(3) ينظر أسرار النجوم 59-63.(1/48)
قال تعالى :(فلا أقسم) وأقسم فعل مضارع مسبوق بلا النافية وقد جاء هذا الأسلوب في القسم في ثمانية مواضع وكلها مكية وفيها يقسم الله سبحانه بنفسه وبمخلوقاته. (1) وفي هذه الآية أقسم الله تعالى بمواقع النجوم وهي كما لاحظنا عظمة هذا القسم فيما كشفت لنا من حقائق جزئية لأن العلم الحقيقي لها عند الله تعالى وقد قال الله تعالى بعظمة هذا القسم بقوله (وإنه قسم لو تعلمون عظيم) فلم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم إلا القليل الذي يدركونه بعيونهم المجردة فأما نحن اليوم فندرك من عظمة هذا القسم المتعلقة بالقسم به، نصيباً أكبر بكثير مما كانوا يعلمون، وإن كنا نحن أيضاً لا نعلم إلا القليل عن عظمة مواقع النجوم). (2)
فالقسم أفصل المؤكدات في هذه السبيل، وقد كثر في الآيات المكية لأن مقتضى الحال كان يتطلب هذا اللون من الأسلوب البليغ. (3)
__________
(1) ينظر السور المكية دراسة بلاغية أسلوبية 317.
(2) التفسير الواضح 27/147 وينظر هندسة النظام الكوني 76.
(3) التعبير الفني في القرآن الكريم 257.(1/49)
وقد أختلف المفسرون في (لا) في قوله تعالى (فلا أقسم) إلى عدة أقوال منها: قال أكثر المفسرين أن (لا) مزيدة للتوكيد وهو قول ابن هشام (1) في باب (لا) زائدة في الكلام لمجرد تقويته وتأكيده، وتقدير الكلام (أقسم بمواقع النجوم)، ويكون جوابه (إنه لقرآن كريم) (2) رداً على من قال إن القرآن شعر أو سحر أو أساطير الأولين، أو قول كاهن. (3) وقال آخرون: ليست (لا) زائدة لا معنى لها، بل يؤتى في أول القسم إذا مقسماً به على منفي، فيكون تقدير الكلام: لا أقسم بمواقع النجوم ليس الأمر كما زعمتم أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم. وقال الفراء: هي نفي والمعنى ليس الأمر كما تقولون ثم أستأنف أقسم وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد نفي اليمين بل يريد نفي كلام تقدم وترد الدكتورة عائشة عبد الرحمن على من قال (لا) في آيات القسم رداً على كلام سبق، لأن هذا يقتضي القراءة على وجوب الفصل: لا ، أقسم ... لكمال الانقطاع. وكل القراءات على الوصل. (4)
وقال الإمام محمد عبده. (فلا أقسم: عبارة من عبارات العرب في القسم يراد بها تأكيد الخبر كأنه في ثبوته وظهوره، لا يحتاج إلى قسم. ويقال أنه يؤتى بها في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به، والمعنى في كل حال على القسم). (5)
__________
(1) معني اللبيب 1/329.
(2) الواقعة /77.
(3) ينظر الكشاف 4/1217 ، الجامع لأحكام القرآن 17/223 ،تفسير القرآن العظيم 4/298 محاسن 16/19.
(4) من أسرار العربية في البيان القرآني 61.
(5) تفسير جزء عم 29.(1/50)
أما قوله تعالى: (مواقع النجوم) فالمواقع لها دلالات معجمية يمكن حملها على معنى المواضع كما فسرها عدد من المفسرين وما يهمنا هنا أقوال من فسرها تفسيراً علمياً فقد ذكر ابن عاشور أنه يطلق الوقوع على الحلول في المكان ... فالمواقع هي: إفلات النجوم المضبوطة السير في أفق السماء، كذلك بروجها ومنازلها (1) ومن هنا يحتمل أن يكون (مواقع) اسم مكان (النجوم) وهو ما فسر به أهل التفسير العلمي من مواقع النجوم المنحرفة أو الخالية أو مواضع سيرها أو مواضعها نسبة بعضها إلى بعض.
كما فسر معنى قوله تعالى (مواقع) بمعنى مساقط النجوم كما في قوله تعالى (والنجم إذا هوى) كما فسره بعضهم بانكدارها وانثارها في يوم القيامة فيكون قوله (مواقع) في هذه الحال كما قيل اسم زمان. (2)
وقد يأتي أيضاً بمعنى سقوطها على أن مواقع اسم مكان أي مجال وقوعها كما فسره بعضهم بمواضع غروبها (3) وفي التفسير العلمي الحديث يمكن أن يكون مواضع وقوع تلك النجوم كما اكتشف حديثاً من مواقع التي هي الثقوب السوداء في السماء فتكون هذه المواقع مقبرة للنجوم وأماكن هاوية لكل من يقترب منها كما يجوز أيضاً أن يكون مواقع لمصدر ميمي للوقوع. (4)
__________
(1) التحرير والتنوير 27/331.
(2) روح المعاني 27/152.
(3) التحرير والتنوير 27/130.
(4) ينظر روح المعاني 27/152 والتحرير والتنوير 27/131.(1/51)
وأخيراً يمكن القول أن قوله (مواقع) من المفردات التي تتسم بالاختزان وهو معروف لدى العرب فقد اشتهروا بالبلاغة وإخراج الكلام مخرج الإشارة والوحي والحذف وبقلة الألفاظ للمعاني الكثيرة وهذا ما يتميز به أسلوب القرآن الكريم المعجز عن النصوص الأدبية فهو يخلو من حواشي الكلام. (1) فقوله (مواقع) احتملت في معانيه المختلفة دلالات تفسيرية متعددة إضافة إلى صيغة الكلمة الدالة على معاني صرفية مختلفة فهذه الصيغة يمكن أن تكون اسم زمان ومكان ومصدراً ميمياً ومجيئها بصيغة الجمع معاً فيدل على تعدد تلك المواقع ومن قرأها بالمفرد فإنه أراد اسم جنس الموقع يؤدي الواحد فيه عن الجمع (2) كل ذلك ساعد على أن تحمل الآية في طياتها دقائق تفسيرية وفلكية وغيرهما كل يفهمها حسب ثقافته وزمانه وهنا تتجلى فيه الاختزان في عدم انغلاق المعنى على نفسه وهذا من مزايا إعجاز القرآن الكريم.
معنى الخنس و الجوار الكنس:
قال تعالى : ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (3) .
الخنس: لغة
قال الخليل (4) : والخُنُوس : الانقباض و الاستخفاء . و الشيطان يوسوس في القلب فإذا ذكر الله خنس، أي انقبض. والخُنَّسُ: الكواكبُ الخَمْسَةُ التي تَجْري وتَخْنُس في مَجْراها حتّى يَخْتفي ضوء الشمس، وخنُوسُها: أختفاؤها بالنهار.
وقال ابن فارس (5) : الخاء و النون و السين أصلٌ واحد يدلُّ على استخفاءٍ وتستر. قالوا: الخَنْس : الذهاب في خِفْية ... و الخُنَّس : النجوم تخنس في المغيب. وقال قوم: سُمّيت بذلك لأنها تخفي نهاراً وتطلع ليلا... والبقرُ كلها خُنْسّ.
__________
(1) ينظر الحيوان / الجاحظ 1/94.
(2) التيسير للداني 107 حجة القراءات 697 النشر في القراءات العشر 2/383
(3) التكوير / 15-16.
(4) العين (خنس) 4/199.
(5) مقاييس اللغة (خنس) 2/223.(1/52)
وجاء في الصحاح (1) خَنَس عنه يخنس بالضم، أي: تأخر، وأخنسه غيرُه، إذا خلفه ومضى عنه.
وفي اللسان (2) : الخنس أنها النجوم وخنوسها أنها تغيب ،وتكنس وتكنس وتغيب أيضاً كما يدخل الظبي في كناسه.. والخنُسَّ جمع خانس.
أما الكنس لغة :
قال الخليل (3) : الكَنْسُ: كَسْحُ القُمام على وَجْه الأرَضْ ... والكِناس مَولِجٌ للوحش [من البقر] ... وقوله جل ذكره الجوار الكنس النَّجوم التي تستمّر في مَجاريها، وتكِنس في مَخاويها ، أي: مغايبها ومساقطها...
وفي الصحاح (4) : كنس : الكانس : الظبيُ يدخل في كِنَاسِهِ وهو موضعه في الشجر يكن فيه ويستتر ... والكُنَّسُ: الكواكب قال أبو عبيدة: لأنها تكنس في المغيب أي تستتر، ويقال هي الخنس السيارة.
وجاء في القاموس المحيط (5) :كَنَسَ الظَّبْيُ يَكْنِس : دَخَلَ كِناسِه، ..، وهو مُسْتَتَرُهُ في الشجرِ لأنه يَكْنِسُ الرمْلَ حتى يصل إلى الثرى جمع : كُنُس وكنُسّ كرُكع و الجواري الكُنَّس : هي الخمس لأنها تكنس في المغيب، كالظباء في الكُنُس، أو هي كل النجوم، لأنها تبدو ليلاً وتختفي نهاراً.
أقوال المفسرين:
... ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) خمسة أقوال :
أولها: أنها الكواكب السيارة التي تخنس ،أي: ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي (6) قاله مقاتل وابن قتيبة وغيرهما.
__________
(1) الصحاح (خنس9 3/925.
(2) اللسان (خنس).
(3) العين (كنس) 5/312.
(4) الصحاح (كنس) 3/971-972.
(5) القاموس المحيط (كنس) 2/247.
(6) جامع البيان 20/74 ،زاد المسير 9/41 الكشاف 4/1333-1334 ،البحر المحيط 10/417-418 تفسير القرآن العظيم 4/479-480 في ظلال القرآن 6/3841، التحرير و التنوير 30/152-153.(1/53)
ثانيها: أنها النجوم على الإطلاق تخنس بالنهار وتكنس بالليل وقيل كنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس. قال أبو عبيدة وعن ابن عباس ومجاهد وعلي بن أبى طالب وغيرهم (1) .
ثالثها: أنها بقر الوحش قاله أبن مسعود وعن ابن عباس أيضاً (2) .
رابعها: الظباء عن ابن عباس والضحاك وغيرهما.
خامسها: الملائكة حكاه الماوردي (3) .
التفسير العلمي:
... هناك عدة وجوه يمكن أن تفسر فيها الآية تفسيراً علمياً منها أن المقصود بالخنس هو السيارات الدائرة في أفلاكها كلما أشرقت عادت فغربت وكلما غربت عادت فأشرقت، وكلما اقتربت من الشمس في دورة أسرعت حتى تبتعد عنها، وكلما ابتعدت عادت حتى تقترب، وكلما مر أحدها بنقطة في مساره أو فلكه، رجع إليها مرة أخرى، أي بعد أن يتم سنته التي يختلف طولها باختلاف بعد كل مسار عن الشمس. ثم هي كما وصفها الله (الكنس) ، وقد اكتسبت هذه الكلمة القرآنية معنى جديداً من قانون كبْلَرْ الثاني؛ لأن خط ما بين كل من السيارات وبين الشمس يكنس، أو بمسح من القطع الناقص، الذي يمثل مداره مساحات متساوية في الأزمان المتساوية. فمهما غيرت الزمن اعتبارياً بالزيادة أو النقص، فإن المسافة المكنوسة تزيد تبعاً لذلك أو تنقص (4) .
__________
(1) جامع البيان 20/74 زاد المسير 9/41 النسفي 3/657 تفسير القرآن العظيم 4/479-480.
(2) جامع البيان 20/74 زاد المسير 9/41 البحر المحيط 10/418.
(3) المصادر نفسها.
(4) ينظر الإسلام في عصر العلم 332-333، نماذج من الإعجاز العلمي للقرآن 59-60 ولكون و الإعجاز العلمي للقرآن 125.(1/54)
... أو قد يشير قوله (الكنس) على معنى المزيل لما حوله من أتربة وغازات كونية وهذه صفة لجميع الأجرام السماوية؛ لأن المجرة كانت من غاز وغبار، ومن هذين تكونت بتكثف النجوم، وبقيت لها بقية، ومن هذه البقية كانت السدم، ولا يزال من هذه البقية منتشراً في هذه المجرة الواسعة المقدار من غاز وغبار يساوي ما تكونت منه النجوم، ولا تزال النجوم تجر منه بالجاذبية إليها، فهي تكنس السماء منه كنساً، ولكن الكناسين على الرغم من أعدادهم الهائلة قليلون بالنسبة لما يراد كنسه من مساحات أكبر وأشد اتساعاً (1) .
... فضلا عما تطرحه المذنبات (2) من الغبار في مجموعتنا الشمسية بنسب ثابتة فعندما تقترب نواة المذنب من الشمس أثناء دورانها حولها فإن جزءا من كتلتها يتبخر صانعاً ذيلاً طويلاً من الدخان ويبلغ طوله مئات الملايين من الأميال وقد ينقسم الذيل إلى ذيل غازي وذيل من الغبار المحتوي على عناصر من الحديد و النحاس و النيكل و الصوديوم التي ينعكس عليها ضوء الشمس فتصبح مرئية في السماء، ومعنى هذا تساوي تقريباً الكمية التي تزول من فضاء المجموعة بواسطة ضغط ضوء الشمس أو بالانجذاب نحو الشمس لتعيد إفراز الطاقة الشمسية أو بالانجذاب نحو الكواكب التي تميل إلى الإمساك بالجسيمات من جميع الأحجام (3) .
__________
(1) ينظر مع الله في السماء 191 والقرآن يفك لغز الأرض 34 و الكون و الإعجاز العلمي للقرآن 125.
(2) المذنبات : أجرام سماوية تدور في أفلاك بيضوية حول الشمس ويتكون المذنب من نواة أو رأس صلبة تتجمع فيها مواد من غازات الميثان و الامونيوم وثاني أكسيد الكربون وجسيمات حجرية دقيقة. ينظر الكون و الإعجاز العلمي للقرآن 140.
(3) الكون و الإعجاز العلمي للقرآن 140 –141.(1/55)
... كما تشير الآية إلى قصة النجوم، صغيرها وكبيرها، وما يحدث لها عندما تحرق وقودها وتتقدم في السن، فيتحول بعضها إلى أقزام بيضاء ويتحول بعضها الآخر إلى نجوم نيوترونية (1) ، أما العمالقة منها فيخفت ضوؤها ويضمحل بمرور الزمن حتى تتحول إلى ثقوب سوداء تختفي تماماً عن عين الناظرين (2) .
... فقد أشار إلى مثل هذه الأجرام عالية الكثافة أي عالية الجاذبية التي كانت ساطعة ثم انكدرت والتي تبتلع كل ما حولها وكأنها مكنسة وهي تجري في السماء (3) .
__________
(1) النجوم النيترونية: أقزام غير مرئية ولكنها تبعث بنبضات راديوية مدتها كسر من الثانية مما يدل على دورانها بسرعة جنونية خيالية وقد تصل إلى دورة واحدة كل كسر من ألف من الثانية وهذا أمر طبيعي ينتج من انكماش الشديد النجم يؤدي إلى إسراع الدوران لحفظ كمية التحرك كما أن قوى الجذب الهائلة التي تقرب النجم المنكمش في أثناء الوفاة تؤدي إلى التحام البروتونات بالالكترونات في ذرات النجم تحولها إلى نيوترونات. ولهذا سمي بالنجم النيتروني/الكون وإعجازه العلمي 271.
(2) تأملات في العلم و الدين 69.
(3) المصدر نفسه 70.(1/56)
... وقد يشير القرآن الكريم بهذه الآية إلى النجوم المتغيرة القيفاوية (1) والكاسفة التي تمتاز بجمالها في اختفائها وظهورها وتواريها وسفورها نتيجة خفوتها ولمعانها مما يعطي صفة النجوم الخنس والكنس (2) .
__________
(1) النجوم القيفاوية (المتغيرات القيفاوية) سميت بذلك تبعاً لنجوم المكتشفة من هذا النوع وهو النجم القيفاوي في كوكبه قيفاوس وهي من المتغيرات المنتظمة القصيرة الدور. وهي نجوم نبضية تلمع تارة وتخبو تارة أخرى في إيقاع تتابع دوري، وذلك نتيجة لتمدد النجم وتقلصه، والمدة الفاصلة بين حدوث لمعانين أعظمين تدعى بدورة الضوء التي تتراوح بين يوم واحد وعدة أسابيع. ومثل هذه النجوم نذكر أيضا، متغيرات الشلياق التي لا تتجاوز دورتها ساعات معدودة. / ينظر الكون و الحياة 132-133.
(2) الكون و الإعجاز العلمي للقرآن 266.(1/57)
... ومثل هذه النجوم ما يسمى بالمستعرات (النوفا Nova) أو المستعرات العظمى "Super Nova" عندما يكون النجم كبيراً – هو انفجار نجم في الفضاء وتشققت مواده فيه. وهذه المواد التي تنشر في الفضاء – هي في الحقيقة بذور لنجوم جديدة ويصل اللمعان الناتج من هذا الانفجار إلى مئة ألف مرة أو أكثر بقدر لمعان النجم الأصلي ويدعى مثل هذا النجم بالنجم الجديد (نوفا) وقبل أن يتحول النجم المتفجر إلى نجم جديد، يكون قزماً أبيض بقطر لا يكبر قطر كوكب المشتري كثيراً. ويتم التحول في بضع ساعات، ويفقد النجم في أثناء ذلك غلافه الخارجي مندفعاً بعيداً بسرعات كبيرة. وبوجه عام فإن لمعان النجم الجديد يصل إلى أعظمه في يوم واحد، ويستمر بلمعانه هذا عدة أسابيع ليعود بعدها خلال قرابة السنة إلى لمعانه الطبيعي. والنجم الجديد الذي عاد لمعانه الطبيعي فقد جزءاً صغيراً من كتلته خلال فترة الانفجار الذي قد يحدث أكثر من مرة. و النجم الجديد يكون معرضاً للانفجار وتشكل نجما جديدا (1) . أما في (السوبر نوفا) فبدلاً من أن يفقد الانفجار الغلاف الخارجي للنجم فقط، فإنه يصيب النجم بكامله. وقد أثبتت الأبحاث التي أجريت في مراكز بحوث الفضاء أن هذه المقذوفات تشكل بعد ذلك سحب الغاز و الغبار للسدم، مما يظهر أن مصدر الحصول على العناصر الكمياوية المكونة للنجوم هي المستعرات (أي بقايا النجوم الميتة) وتعرف هاتان (النوفا) و(السوبر نوفا) بالمتغيرات غير المنتظمة (2) .
الضابط اللغوي لهذه الآية:
__________
(1) الكون و الحياة 131-132.
(2) ينظر أسرار النجوم 43-46 و الكون و الحياة 131 – 132.(1/58)
... بدأت الآية الكريم بالقسم (فلا اقسم) وقد تحدثنا في الآية السابقة عن هذه الصيغة في القسم وقد أقسم الله تعالى بالنجوم لعظمتها وهي من المدركات الحسية تمثل نظام الكون ومداراته المنظمة من غير تصادم فيما بينها وهكذا .ومن احتجاج الخالق على البشر في بديع صنعه وقدرته لكي ينتقل المخاطب بعد ذلك إلى الغيبيات التي لا تدرك بالحس، والاستدارج بالخصم إلى الاعتراف بما يجيء بعده وهو قوله تعالى :(إنه لقول رسول كريم)فهو جواب القسم.
... أما قوله تعالى: (الخنس و الكنس) فنلاحظ اختزان هاتين الكلمتين وما تحمله من دلالات ومعانٍ كثيرة لا يمكن حصرها فما عرفنا منه بعض الصفات التي أشار إليها علماء التفسير والتفسير العلمي فمعنى الخنس تحمل معاني مختلفة وهي الانقباض والاستخفاء والتأخر فيمكن حمل معنى خنس على الانقباض كما فسر به على حقيقة الانقباض و الانكماش الذي يحدث في النجوم عند موتها وتحولها إلى أقزام بيض أو على الاستخفاء وهو ما يحدث للنجوم عندما تتحول إلى نجوم نيوترونية غير مرئية أو ثقوب سوداء تختفي تماماً عن عين الناظرين فهي موجودة حقاً لكن لا نراها فالاستخفاء هنا جاء على الحقيقة وليس على المجاز.(1/59)
... ومنهم من حملها على الخفاء الظاهري عن أعين الناس كما فسرها أكثر المفسرين القدماء فهي تخنس أي تختفي أو استعارة عند ابن عاشور (1) فيكون المراد بالخنس هو من بديع التشبيه ، لأن الخنوس اختفاء الوحوش عن أنظار الصيادين وكذلك الكواكب و النجوم .أما (الجوار) فهي صفة للخنس (2) وقد تحدثنا عن الجري في آيات سابقة وعلمنا أن كل النجوم و الكواكب وغيرها جارية في الفضاء قال تعالى :(وكل في فلك يسبحون) (3) ، وقد ذكر الزركشي (4) أن في قوله تعالى :(الجوار الكنس) حذفت الياء تنبيهاً على أنها تجري من محل اتصافها بالخناس إلى محل اتصافها بالكناس وذلك يفهم لأنه أتصف بالخناس عن حركة تقدمت كالنجوم الجارية تحت معنى الكلمة.
... وفي قوله تعالى (كنس) أيضاً دلالات معجمية مختلفة يمكن حمل الآية على معانيها المختلفة سواء كان المعنى الكنس وكسح القُمام وحمل المعنى على الحقيقة كما فُسر ذلك بالنجوم و الكواكب التي تزيل الأتربة و الغازات الكونية من المجرة وهي بقية السدم التي تكونت منها النجوم. أو حمل قوله (كنس) على الستر وحقيقة الاستخفاء كما فسرها أكثر المفسرين على استخفائها في مغايبها أو من فسرها على اختفائها عن عين الراصدين وتحولها إلى نجوم نيوترونية غير مرئية وثقوب سوداء. ويكون معنى قوله تعالى (كنس) مجازاً إذا قصد منه تشبيه خفاء النجوم عند غروبها بخفاء الظبي أو البقرة الوحشية بكناسها. كما أشار ابن عاشور (5) .
__________
(1) التحرير و التنوير 30/152-153.
(2) التبيان في إعراب القرآن 2/282.
(3) يس / 40.
(4) البرهان في علوم القرآن 1/407.
(5) التحرير و التنوير 30/152-153.(1/60)
... ويرى سيد قطب (1) أن هناك إيحاء شعوريا بالجمال في حركتها وعنده هي الكواكب التي تخنس ،أي: ترجع في دورتها وتجري وتختفي. و التعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء. وهي تجري وتختفي في كناسها وترجع من ناحية أخرى. فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب.
... فالآية على قلة ألفاظها دلت على معانٍ علمية وأدبية كثيرة يعجز الإنسان عن حصر هذه المعاني ودلالاتها وإيحائها وهذا من إعجاز القرآن الكريم. غير أنه لا يجوز حمل معانٍ جديدة لم تكن معروفة للفظ في ذلك الحين فدلالة (كنس) لا تدل على حساب المسحات ،وهي المساحة الممسوحة فلا يوجد هذا المعنى في معجمات اللغة ولا يجوز أن نقول أن الكلمة اكتسبت معنى جديداً من قانون كبلْر لأنه لا يجوز تفسير القرآن الكريم بدلالات حديثة لم تكن معروفة في ذلك الوقت ولا عبرة بالمصطلحات التي لم يفهما العرب بتلك المعاني في ذلك الحين.
النجم الثاقب:
قال تعالى : (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (2) .
الطارق في اللغة:
قال الخليل (3) : طَرَقْتُ مَنْزلاً أي جئتهُ ليلاً .. والسماء والطَّارقُ كَوْكبُ الصَّبْح. وقال ابن فارس : (قالوا: ورجلٌ طُرقةٌ؛ إذا كان يسري حتى يطُرق أهله ليلاً. وذُكر أنَّ ذلك يقال بالنهار أيضاً، والأصل الليل، والدليل على أن الأصل الليل تسميتهم النجم طارقاً، لأنه يطلع ليلاً. قالوا: وكلُّ مَن أتى ليلاً فقد طرق قالت : * نحن بنات طارق (4) * وهو قول امرأة. تريد : إن أباها نجم في شرفة وعلوه (5) ) (6) .
__________
(1) في ظلال القرآن 30/3841.
(2) الطارق / 1-3.
(3) العين (طرق) 5/98..
(4) الرجز لهند بنت بياضة بن رياح بن طارق الأيادي كما في اللسان/ طرق.
(5) اللسان / طرق 10/217-219. ومقايس اللغة (الهامش)3/450.
(6) مقاييس اللغة (طرق) 3/449-450.(1/61)
وجاء في للسان (1) : قال خالد بن جنبة: مُطرقٌ من الطَّرق وهو سرعة المشي ... وكل آت بالليل طارق ،وقيل: أصل الطُروق من الطرق وهو الدق ،وسمي الآتي بالليل طارقاً لحاجته إلى دق الباب ... والسماء و الطارق هو نجم الذي يقال له كوكب الصبح ... طرق القوم يطرقهم طَرْقاً وطروقاً هاجمهم ليلاً، فهو طارق .. والطارق النجم، وقيل كل نجم طارق لأن طلوعه بالليل. وكل ما أتى ليلاً فهو طارق. وقيل الطرق الفخ. وأطرق الرجل الصيد إذا نصب حباله.
أما الثاقب في اللغة : قال الخليل (2) : الثَّقْبُ اسمٌ لما نَفَذَ .. والثّقُوبُ مصدرُ النّارِ، والكوكَبِ ونحوه التَّلأَلُؤِ.. وحَسَبٌ ثاقِبٌ مشهُورُ مرتفِعٌ. وقال ابن فارس (3) : الثاء و القاف والباء كلمة واحدة، وهو أن ينفُذُ الشيء. يقال ثقبت الشيء أثقبه ثقباً. والثَّاقب في قوله تعالى : (النجم الثاقب). قالوا هو نجم ينفُذ السَّموات كلها نوره. ويقال ثقبت النار إذا ذكيتها، وذلك الشيء ثُقبه وذكوَه. وإنما قيل ذلك لأن ضوءها ينفذ.
وفي الصحاح (4) : ثَقبت النارُ أنفذت وبابه دخل و (ثَقَابه) أيضاً بالفتح و (أثْقَبَهَا) أوقْدَها و (ثقبها تثقيباً) أذْكاها وشهابٌ (ثاقب) أي مضيء.
... وفي اللسان (5) :وثقب الكوكب ثقوباً أضاء .. والثاقب أيضاً الذي ارتفع على النجوم و العرب تقول للطائر إذا لحق ببطن السماء: فقد ثقب. وجاء في التبيان في تفسير غريب القرآن (6) أن الثاقب المضيء بلغة قريش.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
__________
(1) لسان العرب (طرق) 10/217-219.
(2) العين (ثقب) 5/139.
(3) مقاييس اللغة (ثقب) 1/382.
(4) الصحاح (ثقب) 1/94.
(5) لسان العرب (ثقب) 1/240.
(6) التبيان في تفسير غريب القرآن 458.(1/62)
ذكر أكثر المفسرين (1) :أن معنى الطارق الذي يطرق ليلاً. وقيل: الكوكب البادي بالليل ،وهو في الأصل لسالك الطريق واختص عرفاً بالآتي ليلاً ثم استعمل للبادي فيه (2) وقيل لأنه يطرق الجني أي يصكه من طرق الباب (3) .
... أما وصف هذا النجم بالثاقب فقد ذكر المفسرون عدة وجوه :
الأول: أنه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه (4) .
الثاني: أنه يطلع من المشرق نافذاً في الهواء كالشيء الذي يثقب الشيء (5)
الثالث: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها وقيل هو مضيء و حرق للشيطان (6) .
الرابع: المرتفع العالي: قال الفراء: (النجم الثاقب هو النجم المرتفع على النجوم والعرب تقول للطائر إذا حلق ببطن السماء ارتفاعاً قد ثقب) (7) .
__________
(1) جامع البيان 30/141 ،الجامع لأحكام القرآن 20/2 ،البحر المحيط 8/454 ،إرشاد العقل السليم 9/140.
(2) أنوار التنزيل 2/1146 ،محاسن التأويل 17/117.
(3) تفسير النسفي 3/676 ،البحر المحيط 10/450.
(4) الجامع لأحكام القرآن 20/1 ،البحر المحيط 10/449 ،تفسير القرآن العظيم 4/498 ،أنوار التنزيل 2/1146.
(5) التفسير الكبير 31/115.
(6) البحر المحيط 10/449 ،تفسير القرآن العظيم 4/498.
(7) معاني القرآن للفراء 3/254 ،البحر المحيط 10/450.(1/63)
... وذكر المفسرون في المراد من النجم الثاقب أقوال كثيرة فمنهم من قال هو زحل لأنه يثقب بنورة بسمك سبع سماوات. ومنهم من قال إنه الثريا لأن العرب تسمي الثريا بالنجم. وقيل إنه الشهب التي يرجم بها الشياطين لقوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (1) . وقيل هو الجدي وقيل أيضاً إنه كوكب الصبح ومنهم من لم يحدد ذلك فقال إن المراد بالثاقب اسم جنس أريد به العموم لا نجم معين ومن عينه بأنه الثريا أو زحل فإن أراد التمثيل فصحيح وإن أراد التخصيص فلا دليل عليه (2) .
التفسير العلمي لهذه الآيات:
... لعل أوضح تفسير رأيته هو تفسير الدكتور منصور حسب النبي مستعيناً باللغة وذلك بقوله: ( والطارق بمعنى سالك الطريق مما يوحي بالحركة ليلاً أو نهاراً ولو أن بعض اللغويين ينحاز إلى الطارق ليلاً حيث نسمع أي حركة بسهولة ولكن لا داعي لهذا التخصيص بالنسبة للنجم فهو متحرك بصفة دائمة. وأما النجم الثاقب فقد فهمه المفسرون على أنه النجم الذي يثقب الظلام بضوئه ولكنه قد يكون الثقب الأسود بدليل أنه يثقب الفضاء الكوني أثناء جريانه لأنه يكنس الفضاء ويجذب إليه كل ما يصادفه فيخلف نفقاً خالياً من المادة و الطاقة وكأنه يثقب الفضاء فعلاً. كما أن الثقب الأسود خطير للغاية وكأنه طارق الهم والغم لأنه يلتهم كل ما يصادفه. وقد يعزز تصوري هذه الآية التي تلي الآيات السابقة مباشرة بقوله :( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (3) . وما يشير ضمن المعاني الواردة في كتب التفسير إلى أن الحق سبحانه وتعالى يشملنا بالعناية الإلهية فلا تقع أرضنا في مصيدة الثقب الأسود) (4) .
__________
(1) الصافات / 10.
(2) ينظر جامع البيان 30/141-142 ،الجامع لأحكام القرآن 20/1-3 ،البحر المحيط 10/450 أنوار التنزيل 2/1146 ،إرشاد العقل السليم 9/140 ،التبيان في أقسام القرآن 76 ،روح المعاني 30/95.
(3) الطارق / 4.
(4) الكون والإعجاز العلمي للقرآن 269.(1/64)
... وحقاً كما أن هذه النجوم ثاقبة لهذا الفضاء، وهذا السبب في رؤيتها بالمناظير سوداء اللون. كما أن هناك نجوم النيوترونية التي تستطيع أن تثقب الأرض وتخترقها خلال ثوان. يمتلئ الكون منها حتى أننا نسبح في كون من النيوترون وهي تستطيع أن تخترق 18 مليون سنة ضوئية حاجزا من الرصاص كما أثبت حديثاً (1) .
... وقد صور أحد العلماء الكثافة العالية لنجوم النيوترون ، فقال إنه إذا سقطت قطعة صغيرة من أحد هذه النجوم لا يزيد حجمها على حجم ملعقة شاي، على سطح الأرض، فإن هذه القطعة الصغيرة فائقة الكثافة ستمزق سطح الأرض وتمر أي تلج في جوفها كما تمر السكين في قطعة من الزبد، لتنفذ من سطح الأرض من الجهة الأخرى (2) .
... ومن المحدثين من فسر قوله تعالى :(الثاقب) بالشهب المحترقة كما فسر القدماء ذلك (3) .
الضابط اللغوي للتفسير العلمي:
... أقسم الله تعالى بالسماء و الطارق وقد تحدثت في الآيات السابقة عن دلالة القسم على عظمة المقسم به فقد أقسم بالسماء في آيات عديدة وهذا يفيد توجيه ولفت لأنظار الناس إلى عالم السماء وما فيه ، وأقسم أيضا بالطارق (ولكنا لم نعرف الطارق، فأراد تبارك وتعالى أن يبينه فقال : وما أدراك ؟ ما الطارق ؟ وهذا أسلوب تفخيم للطارق، كأنه لفرط فخامته لا يحيط به وصف إلا ما سيذكره الله عنه) (4) .
__________
(1) ينظر المنظار الهندسي للقرآن الكريم 794.
(2) ينظر تأملات في الدين و العلم 65.
(3) ينظر هندسة النظام الكوني 92 الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الاميري 32.
(4) ظواهر جغرافية 180.(1/65)
... إضافة إلى ذلك ما تحمله كلمة الطارق في طياتها من دلائل معجمية ونفسية كثيرة حسية ومعنوية فالطارق في اللغة كما ذُكر هو الأتي ليلاً وقد أخذت من الطرق لأنه يطرق الباب وسمي بعد ذلك لكل من يبدو ويظهر ليلاً. كما تدل كلمة الطارق بصيغتها التي جاءت على اسم الفاعل (1) على الحركة والطروق ليلاً وقد علمنا في الآيات السابقة أن النجوم و جميع الأفلاك السماوية تجري قال تعالى :( كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ) (2) ومنهم من حصر معنى الطارق بالليل دون النهار وهذا أيضا لا يخالف التفسير العلمي لأن المعلوم عند علماء الفلك أن النهار محصور في الطبقة الهوائية من الغلاف الجوي وأن باقي السماء عبارة عن ظلام دامس ودائم. كما أنه لا داعي لتخصيص معنى الطارق بنجم من النجوم فليس هناك دلالة واضحة على تخصيصه كما ذكر بعض المفسرين وقد ذكر أبو حيان (3) أن الطارق هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق.
... وقيل أن الطرق هو سرعة المشي كما جاء في اللسان وقد أثبت العلم الحديث أن النجوم تسير بسرعات هائلة فهذا الوصف ينطبق على جميع النجوم وإن كنا لا نراها ظاهرياً تسير وليس العبرة بالنظر فالحقيقة ما أثبته العلماء من سير تلك النجوم وبسرعات هائلة.
... أما الدلالات النفسية التي تحملها هذه الكلمة (الطارق). فأصل معناه الضرب بوقعٍ وشدة يسمع لها صوت (4) وكما ذكر سيد قطب أنها تمثل طرقات متوالية على الحس طرقات عنيفة قوية عالية. تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد .. خفي إيقاعها حدة يشارك فيها نوع المشاهد ، ونوع الإيقاع الموسيقي، وجرس الألفاظ وإيحاء المعاني (5) . فصوت القاف الشديد الذي يوحي إلى تلك الشدة و القوة وتكرار الكلمة. ...
__________
(1) ينظر إرشاد العقل السليم 9/40.
(2) الرعد /2.
(3) البحر المحيط 10/450.
(4) محاسن التأويل 17/17.
(5) ينظر في ظلال القرآن 30/ 3877.(1/66)
... أما ما فسره المحدثون بالثقب الأسود وما عرفوا من هول هذا النجم يوافق هذا المعنى النفسي الخطير فهو خطير للغاية وكأنه طارق الهم و الغم و كما يوافق المعاني التي ذكرها المعجميون في أنه يأتي بمعنى فخٌ وطارقٌ يهاجم ليلاً في الظلام الدامس في الفضاء الكوني فيلتهم كل ما يصادفه فلا يستطيع منه فكاكاً.
أما قوله تعالى : (النجم الثاقب) فقد فسر بعض القدماء قوله (الثاقب) بالنجم الساطع الذي يثقب الظلام بضيائه وقد ذكرنا في المعاني المعجمية استعمال العرب هذا المعنى بمعنى الإضاءة و الاتقاد وذكرنا الثاقب بلغة قريش المضيء والقرآن أنزل على لغة قريش فهذا لا يخالف المعنى الآخر الذي تحمله كلمة (ثاقب) بمعنى النفاذ والذي فسر به القدماء و المحدثون به كما ذكرنا من تفسير القدماء من ثقب الجني واحتراقه أو كما ذكرنا من تفسير هذه النجوم بالنجوم النيوترونية الشديدة. وقد فسره أيضاً الدكتور منصور محمد حسب النبي بأنه يثقب الفضاء الكوني في أثناء جريانه لأنه يكنس الفضاء ويجذب إليه كل ما يصادفه فيخلق نفقاً خالياً من المادة و الطاقة وكأنه يثقب الفضاء فعلاً.(1/67)
... ولعل هذا المعنى الذي ذكره الدكتور حسب النبي من جعل هذا النجم (ثاقباً) يمكن أيضاً حملهُ على معنى آخر فصيغة الفاعل يمكن أن تأتي بمعنى مفعول (1) كما جاء في قوله تعالى :( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) (2) والمقصود مرضية (3) أو المعنى الذي جاء في نفس هذه الآية التي نتناولها وهو قوله:( خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ) (4) فقد فسره المفسرون (5) أنه بمعنى مدفوق فيكون معنى ثاقب هنا مثقوباً و معلوم أن الثقب الأسود ثقب شديد الجاذبية فجاء بصيغة الفاعل بخلاف صيغة معناه ليدل على شدة هذا الثقب وهذه من الصيغ البلاغية المستعملة في القرآن الكريم. وما استعملته العرب فقد ذكر الفراء (6) أن أهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم أن يفعلوا المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب نعت، كقول العرب سرٌ كاتم وهم ناصب وليل نائم. كما أشار إلى أن دافق بمعنى مدفوق وأعان على ذلك أنها وافقت رؤوس الآيات والذي يبدو أن ثاقب أنسب من قوله مثقوب في هذه الآية. لما تدل هذه الصيغة على معنى المبالغة (7) .
... وأخيراً يمكن القول أن كل هذا الذي ذكره القدماء و المحدثون تمكنت ألفاظ الآية بدلالاتها المختلفة المعجمية و الصرفية و النفسية أن تحتمله بأسلوب لغوي بديع يعجز الإنس و الجن عن الإتيان بمثله ليخاطب به أمة الثقلين ويحاججهم به.
النجوم و الكواكب زينة السماء:
__________
(1) ينظر الشافية 1/42 وينظر البرهان في علوم القرآن 2/285.
(2) الحاقة /21.
(3) ينظر جامع البيان 29/61 ،محاسن التأويل 16/276.
(4) الطارق / 6.
(5) جامع البيان 20/142 ،فتح القدير 5/419 ،البرهان 2/285.
(6) معاني القرآن للفراء 3/255 ،لسان العرب (دفق) 10/99.
(7) محاسن التأويل 17/117.(1/68)
... زين الله تعالى السماء الدنيا بزينة الكواكب وبالنجوم وقد ذكر عز وجل ذلك في آيات كما في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) (1) وقوله تعالى:( وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ) (2) .وقوله :( وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ ) (3) وقوله: ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ) (4) .
... فالزينة لغة: من الزين تقيض الشين . زانه الحسن يزينه زيناً والزينة اسم جامع لكل ما يتزين به (5) قال ابن فارس (6) الزاء والباء والنون أصل صحيح يدلُ على حسن الشيء وتحسينه.. يقال: زينت الشيء تزييناً وأزْيَنتِ الأرض وازّينت وازدانت إذا حَسنها عُشبها.
... وقد تحدثنا سابقاً عن البروج في السماء أما قوله تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح).
... فالمصابيح لغة : قال الخليل (7) المِصباحُ : السِراج بالمِسترجة، والمِصباحُ نَفْسُ السراج وهو قُرْطُه الذي تَراه في القِنديل. وقال الجوهري (8) : والمصباح السراج وقد (استصبح) به إذا أَسْرَجه. ومثل ذلك قال ابن منظور (9) ، والفيروز آبادي (10) .
__________
(1) الحجر / 16.
(2) فصلت /12.
(3) الملك / 5.
(4) الصافات / 60.
(5) ينظر العين (زين)7/378، لسان العرب (زين) 13/201 – 202.
(6) مقاييس اللغة (زين) 3/41.
(7) العين (صح) 3/126.
(8) الصحاح (صبح) 1 /380.
(9) لسان العرب (صبح) 2 /506.
(10) القاموس المحيط (صبح) 1/ 233.(1/69)
... أما المراد في هذه الآية من المصابيح فقد ذكر المفسرون أنها النجوم التي تضيء نواحي السماء على طريقة التمثيل فهو تشبيه بليغ. وعدم تعريف مصابيح باللام وتنكيرها هو تفخيم لشأنها وتعظيم لأمرها وأنها قد بلغت من الإضاءة والجمال حداً دونه مصابيح الناس وسروجهم المعهودة (1) . وقد بينا سابقاً أن النجوم عبارة عن أجسام ملتهبة فهي ذاتية الإضاءة وفي هذه الآية وغيرها ذكر أن الزينة في السماء الدنيا و الدنيا: أصله وصف هو مؤنث الأدنى ، أي :القربى. والمراد : قربها من الأرض، أي السماء الأولى من السماوات السبع (2) وقال أبو حيان (3) السماء الدنيا التي نشاهدها والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة، (بمصابيح)، أي :بنجوم مضيئة كالمصابيح، ومصابيح مطلق الأعلام فلا يدل على أن غير السماء الدنيا ليست فيها مصابيح.
... أما قوله تعالى ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (4) .
... فعرفنا من تعريف الكواكب سابقاً أنها أجسام غير ذاتية الإضاءة وقد اختلف المفسرون في تفسيرها كما ذكر لنا القراء عدة قراءات: فقد قرأ الجمهور (5) (زينةِ الكواكبِ) بإضافة (زينة) إلى الكواكب. وقرأ حمزة (6) (بزينةٍ الكواكب) بتنوين (زينةٍ) وجر (الكواكبِ) على أن الكواكب بدل من (زينةٍ) وقرأه (7) أبو بكر عن عاصم يتنوين (زينةٍ) ونصب (الكواكبَ) على الاختصاص بتقدير : أعني (8) .
__________
(1) ينظر البحر المحيط 10/223 ،التفسير الكبير 30/59 ،التحرير و التنوير 29/20 تفسير الواحدي /29.
(2) أنوار التنزيل 2/1080 التحرير و التنوير 23 / 88.
(3) ينظر البحر المحيط 10/223.
(4) الصافات /6.
(5) الحجة لابن خالويه 300 النشر في القراءات العشر 2/356.
(6) الحجة لابن خالويه 300 حجة القراءات 604.
(7) النشر في القراءات العشر 2/356.
(8) ينظر التحرير و التنوير 23 / 89.(1/70)
... وقال الطبري (وأما القراءة فأعجبها إلي بإضافة الزينة إلى الكواكب وخفض الكواكب لصحة معنى ذلك في التأويل والعربية وأنها قراءة أكثر قراء الأمصار) (1) .
... وقد ذكر المفسرون عدة تأويلات لهذه الآية على حسب اختلاف القراءات ولا مجال هنا لذكرها لأن التفسير العلمي يوافق قراءة الجمهور وأقرب تفسير إليها هو تفسير ابن عباس فقد فسر أن قوله تعالى : ( بزينة الكواكب) بضوء الكواكب (2) .
... كما ذكر القرطبي (3) أن قراءة الباقين بزينة الكواكب على الإضافة و المعنى زينا السماء الدنيا بتزين الكواكب أي لحسن الكواكب.
... أما التفسير العلمي لهذه الآية قال : الدكتور فاروق الشيخ : ( وبما أن الآية تقول :(بزينة الكواكب) ولم تقل بالكواكب فيستدل من ذلك إن ضوء الكواكب الذي هو زينتها ليس من ذاتها وليس جزءاً منها بل هو عارض عليها أي هو ضوء مكتسب ومعكوس منها) (4) .
... إذن فالكواكب هنا تختلف عن هذه المصابيح لأن الأولى ليست منيرة بذاتها على حين أن الثانية تشير إلى الشموس، أي :النجوم التي تتوهج ذاتياً (5) . وهذا من دقة التعبير في القرآن الكريم وإعجازه العلمي.
__________
(1) جامع البيان 23/35.
(2) ينظر البحر المحيط 9 / 91.
(3) الجامع لأحكام القرآن 15/65.
(4) نظرة علمية للكتب السماوية 62.
(5) ينظر الكون و الإعجاز العلمي للقرآن 126.(1/71)
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي
استمارة مستخلصات أطاريح الدراسات العليا للجامعات العراقية
رقم الاستمارة ... 246
الجامعة ... الكلية ... القسم ... الفرع
الموصل ... الآداب ... اللغة العربية
عنوان الرسالة ... تاريخ تسجيل الرسالة ... طبيعة البحث ... الجهة المستفيدة
الجملة التفسيرية في القرآن الكريم ... 7/1/2003 ... أكاديمي ... للتطبيق فقط
ـ دراسة نحوية دلالية ـ
أسم الطالب ... العمر ... الجنس ... جهة الانتساب ... تاريخ القبول ... قناة القبول
كريم ذنون داود سليمان الحريثي ... 31 ... ذكر ... كلية التربية-جامعة الموصل ... 4/11/2001 ... مباشر
أسم المشرف ... الدرجة العلمية ... العمر ... الجنس ... جهة الانتساب
د. طلال يحيى ابراهيم الطوبجي ... أستاذ مساعد ... 45 ... ذكر ... كلية الآداب/جامعة الموصل
الجهة المانحة للشهادة :جامعة الموصل-العراق
تاريخ الحصول على الشهادة :1996
تاريخ آخر ترقية علمية :1998
تاريخ صدور الأمر الجامعي ... الشهادة ... الاختصاص العام ... الاختصاص الدقيق
ماجستير ... اللغة العربية ... النحو واللغة
الكلمات المفتاحية : الجملة التفسيرية ، القرآن الكريم(1/1)
إقرار المشرف
أشهد أن هذه الأطروحة الموسومة بـ " الجملة التفسيرية في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية دلالية ـ " جرى تحت اشرافي في جامعة الموصل ، وهي جزء من متطلبات درجة الدكتوراه فلسفة في اللغة العربية .
التوقيع :
الأسم : أ . م . د . طلال يحيى ابراهيم الطوبجي
التاريخ : / / 2005 م
إقرار رئيس لجنة الدراسات العليا
بناء على التوصية التي قدمها المشرف ، أرشح هذه الأطروحة للمناقشة .
التوقيع :
الأسم : أ . د . عبد الوهاب محمد علي العدواني
التاريخ : / / 2005 م
إقرار رئيس قسم اللغة العربية
بناءاً على التوصيتين اللتين قدمها المشرف ، ورئيس لجنة الدراسات العليا ، أرشح هذه الأطروحة للمناقشة .
التوقيع :
رئيس القسم : أ . م . د . عبد الله فتحي الظاهر
التاريخ : / / 2005 م
إقرار لجنة المناقشة
نشهد بأننا أعضاء لجنة المناقشة قد أطلعنا على هذه الرسالة الموسومة بـ
" الجملة التفسيرية في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية دلالية ـ " ، وناقشنا الطالب في محتوياتها وفيما له علاقة بها بتاريخ / / 2005 م ونعتقد بأنها جديرة بالقبول لنيل شهادة الدكتوراه فلسفة في اختصاص آداب اللغة العربية .
أ.م.د.محمد صابر مصطفى الدكتور طلال يحيى ابراهيم الطوبجي
عضوا عضواً ومشرفاً
قرار مجلس الكلية
اجتمع مجلس كلية الآداب بجلسته المنعقدة بتاريخ / 7 / 2004 م
وقرر منحه شهادة الدكتوراه فلسفة في اختصاص اللغة العربية .
مقرر مجلس الكلية رئيس مجلس الكلية
معاون عميد الكلية للإدارية والطلبة عميد كلية الآداب
الدكتور زهير علي أحمد النحاس الدكتور محمد باسل قاسم العزاوي(1/1)
التمهيد
معنى التفسير لغة :
التفسير: البيان. فسر الشيء يفسِرُه ، بالكسر ، ويفسره بالضم ، فسرا وفَسَّره ، أبانه والتفسير مثله ابن الاعرابي التفسير والتأويل والمعنى واحد قوله عز وجل : ( وأحسن تفسيرا ) ، الفسر كشف المغطى ، والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ، والتأويل رد أحد المجتهدين إلى ما يطابق الظاهر (1) .
واصطلاحا : اختلف العلماء في التفسير ، فتعددت التعريفات وتباينت الألفاظ وتقاربت المعاني ، ومن أشهر هذه التعاريف ما يأتي:
1-هو علم يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القران الكريم ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك (2) .
قولنا علم : جنس يشمل سائر العلوم من تفسير وحديث وطب وفلك وهندسة وغيرها من العلوم وقولنا يبحث عن كيفية النطق بألفاظ القرآن الكريم فهذا علم القراءات .وقولنا ومدلولاتها: أي ألفاظ يعني معرفة معاني الألفاظ علم الصرف والنحو والبلاغة . وقولنا التي تحمل عليها حالة التركيب فهذا يحتوي على ما دلالته عليه حقيقية وما دلالته عليه بالمجاز . وقولنا تتمات لذلك : يشمل الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول (3) .
2- وعرفوه بأنه علم يبحث فيه أحوال القرآن المجيد من حيث دلالتها على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية (4) .
أما التأويل لغة : فمأخوذ من الأول وهو الرجوع ، فنقول آل إليه أولا ومآلا رجع إليه ، وآل عنه.(5)
__________
(1) لسان العرب (فسر) 5/55، قاموس المحيط (فسر) 2/110.
(2) الإتقان في علوم القرآن 2/174.
(3) ينظر دراسات في التفسير ورجاله 14.
(4) منهج القرآن 2/ 6 ، دراسات في التفسير ورجاله 14.
(5) ينظر لسان العرب (أول) 11/32.(1/1)
ومعنى التأويل اصطلاحا: قال البغوي والكواشي( التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحمل عليه الآية غير مخالف للكتاب والسنة عن طريق الاستنباط. (1) وعرفه بعض المتأخرين : بأنه صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به. (2)
الفرق بين التفسير والتأويل :
اختلف المفسرون القدماء فيما تحمله هاتان اللفظتان من معان وفي ذلك مذهبان :-
أولهما :- أنهما بمعنى واحد ، وهو قول أبي عبيدة وثعلب وطائفة (3) ، وذكر الرزكشي أن التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال. (4)
ثانيهما :- أن بينهما فرقا :-
1 – قال الراغب : التفسير أعم من التأويل وأكثر استعماله في الألفاظ وأكثر استعمال التأويل في المعاني ،كتأويل الرؤيا ، وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية . أما التفسير فيستعمل في غير ذلك والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ. (5)
2- قال الماتردي : ( التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا والشهادة على أنه عني باللفظ هذا فأن قام دليل مقطوع به فصحيح و إلا فالتفسير بالرأي وهو المنهي عنه والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله. (6)
3- التفسير هو بيان معنى اللفظ القريب أو الخفي .والتأويل هو صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله أوجبه برهان قطعي من القطعيات أو ظني من الظنيات وقيل هو التصرف في اللفظ بما يكشف عن مقصودة. (7)
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 2/173.
(2) مجموعة فتاوى شيخ الإسلام احمد بن تيمية 13/288.
(3) ينظر مفتاح السعادة : 2/573 ، البرهان في علوم القرآن 2/49.
(4) البرهان في علوم القرآن 2/149.
(5) مفردات الراغب 586.
(6) الإتقان 2/173.
(7) تهذيب الأسماء واللغات 1/15 وينظر التفسير العلمي للقرآن 8.(1/2)
4- التفسير هو بيان المعاني التي يستفاد من وضع العبارة . والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة فالنسبة بينهما التباين وهذا هو المشهور عند المتأخرين. (1)
5- وقيل التفسير ما كان متعلقا بالرواية أما التأويل فما كان متعلقا بالدراية. (2)
وبالنظر إلى هذه الأقوال والذي أطمئن إليه : أن هناك تباينا وتمايزا بين التفسير والتأويل ، وذلك أن التفسير كما في التعريف معناه الكشف ،والكشف عن مراد الله تعالى لا نستطيع أن نتوصل إليه جازمين عن طريق العقل ولكن ذلك يتم عن طريق الرواية عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، أو عن طريق أحد الصحابة الذين شاهدوا النزول وعاينوه وعرفوا الأسباب واستمعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يبين معاني القرآن العظيم (3) .
أما التأويل فإنه لما كان عبارة عن ترجيح أحد المعاني المحتملة ، فهذا يدرك بالعقل ، وذلك بواسطة معرفة اللغة العربية ومستلزماتها ومعانيها ، من الحقيقة والمجاز ، كما يشترط لها معرفة أساليب اللغة كي يستطيع التوصل إلى استنباط المعاني بمساعدتها بالحس المرهف والذوق السليم (4) .
وبعد أن بينا معنى التفسير والتأويل والفرق بينهما نبين أيضا معنى الضابط اللغوي لغة واصطلاحا .فالضّبط : هو في اللغة عبارة عن الحزم . يقال : ملك ضابط لمملكته أي حازم ومحافظ عليها (5) .
وفي الاصطلاح :سماع الكلام كما يحق سماعه ، ثم فهم معناه الذي أريد به ثم حفظه ببذل مجهوده والثبات عليه إلى حين وكمال الوقوف على معانيه الشرعية (6) .
__________
(1) ينظر التفسير والمفسرون 1/21.
(2) دراسات في التفسير ورجاله 19.
(3) دراسات في التفسير ورجاله 19.
(4) المصدر نفسه 19 .
(5) الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية 3 / 148 .
(6) المصدر نفسه 3 / 148 .(1/3)
ومن المعلوم عند المحققين من علماء الإسلام أن القرآن الكريم قد ضبطت أصول تفسيره ضبطا محكما (1) ومن أهم الضوابط في تفسير كتاب الله _سبحانه وتعالى _ التعمق في علوم اللغة العربية ومفاهيمها وأساليبها (2) .
تعريف التفسير العلمي :
التفسير العلمي : يراد به التوفيق بين معنى الآية أو الحديث وما تم كشفه من العلوم الكونية سواء أكان الكشف قطعيا أو ظنيا راجحا (3) .
وهناك فرق بين التفسير العلمي والإعجاز العلمي، فمعنى الإعجاز والمعجزة لغة من أعجز الشيء وفلانا أوجده عاجزا وصيره عاجزا . والتعجيز التثبيط ومعجزة النبي ما أعجز به الخصم عند التحدي والهاء للمبالغة (4) والمعجزة اسم يعم كل خارق للعادة في اللغة. وعرف الأئمة المتقدمون كالإمام أحمد بن حنبل_ رضي الله عنه _وغيره المعجزة بهذا ويسمونها الآيات (5) .
فيكون تعريف المعجزة : أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة يجريه الله على يد نبي لإثبات صدق رسالته (6) .
وتعريف الإعجاز العلمي : هو أخبار القرآن الكريم ،أو السنة النبوية،بحقيقة أثبتها العلم التجريبي أخيرا وثبت عدم إمكانية إدراكها بالوسائل البشرية ، في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم (7) .
__________
(1) علوم القرآن والتفسير 75 .
(2) الضابط اللغوي في التفسير / د. محسن عبد الحميد بحث منشور في مجلة كلية الدراسات الإسلامية ع 139406 – 1974 ص 20 .
(3) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن / رعد طاهر رشيد العمري 3 .
(4) القاموس المحيط ( عجز ) 2 / 181 .
(5) كتاب مجموعة الرسائل والمسائل ابن تيمية ج 15 ، موضوع قاعدة جليلة في المعجزات وينظر تيسير الرحيم الرحمن 10 .
(6) مجلة الإعجاز العلمي / هيئة الإعجاز العلمي - رابطة العالم الإسلامي – مكة المكرمة 140 يوليو 1995 م مقال الدكتور عبد المجيد الزنداني بعنوان الإعجاز العلمي تأصيلاً وفهماً ص 13 .
(7) المصدر نفسه ص 13 .(1/4)
فالتفسير العلمي للآيات الكونية لابد من الحرص على توظيف الحقائق العلمية الثابتة كلما توفرت، ولكن لما كانت العلوم الكونية لم تصل بعد إلى الجواب النهائي في كل قضية عن قضايا الكون ومكوناته وظواهره فلا نرى حرجا من توظيف أفضل النظريات المتاحة ، وذلك لأن التفسير يبقى جهدا بشريا لمحاولة فهم دلالة الآية القرآنية لمن أصاب فيه أجران ولمن أخطأ أجر واحد (1) .
أما الإعجاز العلمي في القرآن الكريم فلا يجوز أن يوظف فيه ألا القطعي الثابت من الحقائق العلمية، وذلك لأن الإعجاز العلمي هو موقف تحد ، والمتحدى لابد وأن يكون واقفا على أرضية صلبة، وذلك لأننا نقصد بالإعجاز العلمي للقرآن الكريم هو سبق هذا الكتاب الخالد، بالإشارة إلى عدد من حقائق الكون وظواهره لم تكن معروفة لأحد من البشر في زمن تنزله (2) .
... ولما كانت أبحاث ( الإعجاز العلمي ) متعلقة بالتفسير العلمي للآيات الكونية ومتصلة بشرح الأحاديث في هذه المجالات ، فهي فرع من فروع التفسير وتقوم على مصادره .. ولما كانت قائمة على إظهار التوافق بين نصوص الوحي وبين الكشف العلمي والتجريبي عن حقائق الكون وأسراره فهي تقوم كذلك على مصادر العلوم التجريبية إلى جانب العلم المتعلق بتاريخها . كما تتصل أيضا بعلم أصول الدين. (3)
__________
(1) ينظر المفهوم العلمي للجبال 10 .
(2) المصدر نفسه 10 .
(3) المعجزة العلمية للقرآن والسنة / عبد المجيد الزنداني. بحوث مؤتمر بحوث العالمي الأول للإعجاز العلمي في القرآن والسنة. إسلام أباد/ باكستان ، 1408هـ / 1987م ينظر الاشارات العلمية للقران الكريم/ د. كارم السيد عتيم 50.(1/5)
وإذا كان محل التفسير والإعجاز واحداً وهو آيات الإشارات العلمية القرآنية ، فإن هذا يبرر دراستها ضمن باب واحد .وإذا كان أحدهما ( وهو التفسير ) أعم وأشمل فهو يوضح ويبين المعاني والحقائق في جميع هذه الآيات ، سواء كانت موجودة قبل نزوله أو عند نزوله ، أو التي اكتشفت بعد نزوله ، بينما يقتصر الإعجاز على تلك التي اكتشفت بعد النزول .. فإنه أصبح من الضروري عند دراسة تفسير الإشارات العلمية القرآنية تخصيص جزء ( فصل ) مستقل لبيان الإعجاز العلمي في هذه الإشارات. (1)
بداية التفسير العلمي :
التفسير العلمي ليس بدعة ابتدعها أصحابه في هذا العصر ( بل نجد بين قدامى المفسرين من ينتهجه مطبقين ما في عصرهم ما يقابل العلم في عصرنا كالزمخشري وفخر الدين الرازي فالزمخشري مثلاً في تفسير قوله تعالى ( فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ) (2) يقول : (( الخنس الرواجع ، بينما ترى النجم في آخر البرج إذ كر راجعا إلى أوله، و( الجواري ) السيارة ، و(الكنس) الغيب من كنس الوحش إذا دخل كناسه،وقيل هي الدراري الخمسة: برهام، وزحل ،وعطارد، والزهرة ،والمشتري ، تجري مع الشمس ،فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاوْها تحت ضوء الشمس ،وقيل هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغييب عن العيون ،وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها). (3)
وقول الزمخشري (قيل..وقيل ) يدل على أن تفسير الآية بعلم ذلك العصر أقدم من عصر الزمخشري. (4)
__________
(1) ينظر المصدر نفسه 50.
(2) التكوير 15-16.
(3) الكشاف 4/1333-1334.
(4) ينظر الإسلام في عصر العلم 260.(1/6)
أما الفخر الرازي فتفسيره مليء بالتفسير العلمي في عصره،مثل قوله في تفسير {اْلذّي قٌدُرَ فَهِدى} (1) إن قوله ( قدر) يتناول المخلوقات في ذواتها وصفاتها كل واحد على حسبه . فقدر السماوات والكواكب والعناصر والمعادن والنبات والحيوان والإنسان بمقدار مخصوص من الجثة ( الكتلة في اصطلاحنا) والعظم( الحجم في اصطلاحنا) .. فهذا نهج قدامى المفسرين لما صار إليهم علم قدماء اليونان وتصرفوا فيه.
أما في العصر الحديث فقد ظهرت النزعة العلمية بقوة واضحة وأزداد نشاط العلماء المسلمين ( وغير المسلمين أحيانا ) في بيان أوجه الإعجاز العلمي في القرآن الكريم , نظراً لأن لغة الزمن الحديث والمعاصر هي لغة العلوم والمخترعات والمكتشفات حيث أضحى الإلحاد اليوم هو الإلحاد العلمي الذي يبحث عن النظريات العلمية بدائل لفكرة الخلق وقدرة خالق حكيم يهيمن على الكون ... (2) .
... وكان من الرجال الذين ضمنوا تفاسيرهم إشارات قصيرة أحياناً، ومفصلة أحياناً أخرى في الإعجاز العلمي للقرآن : الإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا في تفسيرهما المعروف بـ(المنار ) ، والدكتور محمد محمود حجازي ( في التفسير الواضح ) ، وسيد قطب ( في ظلال القرآن ) ، وطنطاوي جوهري ( في الجواهر ). (3)
أما في القرن الذي نعيشه الآن فبرز نفر في هذا المجال من المفسرين أو مؤلفي كتب التفسير منهم على سبيل المثال لا الحصر : محمد متولي الشعراوي ( صاحب الخواطر ) ، سعيد حوى (صاحب الأساس ) ، أبو الأعلى المودودي ( صاحب تفهيم القرآن ) ، أبو العزائم ( صاحب أسرار القرآن ). (4)
__________
(1) الأعلى /3.
(2) الإشارات العلمية في القرآن الكريم / د. كارم السيد عنيم 40.
(3) المصدر نفسه 40.
(4) المصدر نفسه 40.(1/7)
... إلا أن غيورين ممن ليسوا من طائفة المفسرين كتبوا فأبدع بعضهم واخفق آخرون في بيان القصد وبلوغ المرام من سعيهم في سبيل بيان أوجه الإعجاز العلمي في الآيات القرآنية الكونية سواء كانت مجهوداتهم في كتب ألفوها أو مقالات كتبوها أو بحوث أعدوها. (1)
... وفي دراستنا هذه سنوضح ضوابط التفسير العلمية التي يجب أن يتبعها الباحث حين يفسر الآيات تفسيراً علمياً أو يبين الإعجاز العلمي للآيات وبخاصة الضوابط اللغوية في التفسير العلمي .
__________
(1) المصدر نفسه 41.(1/8)
(التمهيد
في المفهوم تأصيل وتأسيس
أولاً : الجملة التفسيرية لغةً واصطلاحاً
ثانياً : الجملة التفسيرية في التراث النحوي
ثالثاً : ربط الجملة التفسيرية
رابعاً : الجملة التفسيرية ومحلها الإعرابي
خامساً : المصطلح بين الدلالة الشكلية والوظيفية
أولاً : الجملة التفسيرية لغةً واصطلاحاً :
لابدَّ قبل الشروع في دراسة موضوعنا من بيان مفهوم الجملة التفسيرية في اللغة والإصطلاح ، وذلك ببيان مرتكزي البحث وقوامه ، من خلال التعريف بكل من الجملة والتفسير ، كنافذة نلقي الضوء من خلالها على المفهوم .
الجملة : الجيم والميم واللام : أصلان ، أحدهما : حُسن ، وهو ضدّ القبح ، يقال : جَمُلَ الرجل بالضمّ جَمالاً ، فهو جميل ، والمرأة جميلة وجملاء .
والأصل الآخر : تجمّع وعِظَمُ الخلق ، يقال : أجملت الشيء إذا حصلته (1) ، وأَجملَ الشيء : جمعه عن تفرقة (2) ، والجُملة : جماعة كلّ شيء بكماله ، وقيل لكل جماعة غير منفصلة جملة (3) ، قال - سبحانه وتعالى - : { لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً }
[ الفرقان : 32 ] أي : دفعةً واحدةً .
ولعل الجملة في اصطلاح النحاة أُشتقت من جملة الحبل (4) ؛ لأنها مفردات جُمعت مع بعضها في ضوء علاقات الإسناد والتركيب والتكميل ، فأشبهت حبل السفينة في تجمعه جملة واحدة ، أو قد أتت من إطلاقهم على كل جماعة غير منفصلة جملة ؛ لأن الجملة النحوية جماعة من الألفاظ صيغت في ضوء قواعد الإسناد والإفادة ، فتماثلتا في أصل الدلالة .
__________
(1) ينظر : مقاييس اللغة 1 / 481 ، والصحاح 4 / 1661 مادة ( جمل ) .
(2) ينظر : لسان العرب 13 / 135 مادة ( جمل ) .
(3) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 98 .
(4) ينظر : تهذيب اللغة 11 / 108 مادة ( جمل ) .(1/1)
حتى إذا انتقلنا إلى الدلالة الاصطلاحية للجملة فإننا سنقف على تباين شديد فيها ؛ مما حدا ببعض الدارسين إلى القول بأنّ ذلك أمر مستحيل (1) ، أو مشكلة مستعصية (2) ، وما ذاك إلاّ لشدة الخلاف في التحديد الإصطلاحي .
فقد اختلف النحاة العرب في العلاقة الدلالية بين مصطلحي الجملة والكلام ، إذ ذهب عددٌ منهم إلى أن دلالة المصطلحين واحدة ، فهما على هذا مترادفان ، ويمثل هذا الرأي من القدماء المبرّد (3) ( ت 285 هـ ) وإنْ لم يصرّح بذلك ، لكنه استعمل هذين المصطلحين على حدٍّ سواء من دون تفريق . وتابعه في ذلك الكثير من القدماء ، منهم : ابن السراح (4) ( ت 316 هـ ) ، وأبو علي الفارسي (5) ( ت 377 هـ ) ،
وعبد القاهر الجرجاني (6) ( ت 471هـ ) ، وابن فضّال المجاشعي (7) ( ت 479هـ )، والزمخشري (8) ( ت 538 هـ ) ، وأبو البقاء العكبري (9) ( ت 616 هـ ) ، وهو اختيار ابن الخباز (10) ( ت 639 هـ ) ، وناظر الجيش (11)
__________
(1) مفهوم الجملة في اللسانيات والنحو العربي : الدكتور خير الدين الحلواني، مجلة المناهل ، العدد ( 26 )
لسنة 1983 / 196 .
(2) اللغة وعلم النفس / 126 ، وينظر : الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ،
أطروحة دكتوراه قدمها طلال يحيى إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل 1996 / 7 ـ 8 .
(3) ينظر : المقتضب 1 / 8 ، 10 ، 2 / 68 ـ 69 ، 4 / 108 .
(4) الأصول 1 / 58 ، 64 .
(5) المسائل العسكريات / 83 .
(6) ينظر : الجمل / 40 ، والمقتصد في شرح الإيضاح 1 / 68 .
(7) شرح عيون الإعراب / 43 .
(8) المفصل / 6 .
(9) مسائل خلافية في النحو العربي / 31 .
(10) الغرّة المخفية في شرح الدرة الألفية 1 / 67 .
(11) حاشية ابن الحاج على النهجة المرضية : أطروحة دكتوراه قدمها محمد صابر مصطفى إلى كلية
الآداب ـ جامعة الموصل 1994 / 62 .(1/2)
( ت 778 هـ ) ، والكافيجي (1) ( ت 879 هـ ) ، وأخيراً عباس حسن (2) من المحدثين .
في حين رأى آخرون فرقاً بين المصطلحين ، وقد انقسم هؤلاء على قسمين ، قسم رأى أن الجملة أعمُّ من الكلام ، ويمثل هذا الإتجاه رضي الدين الاستراباذي (3)
( ت 688 هـ ) ، الذي يعدُّ بحق فاتح باب الخلاف لمن أتى بعده في التفرقة بين المصطلحين ، وقد تابعه في ذلك ابن هشام الأنصاري (4) ( ت 761 هـ ) وأغلب شرّاح كتابيه : الإعراب عن قواعد الإعراب (5) ، ومغني اللبيب (6) ، وتابعهم
كذلك الشريف الجرجاني (7) ( ت 816 هـ ) ، والسيوطي (8) ( ت 911 هـ ) ، والفاكهي (9) ( ت 972 هـ ) ، وأبو البقاء الكفوي (10) ( ت 1094 هـ ) ، والتهانوي (11)
( ت 1119 هـ ) ، وابن الحاج (12) ( ت 1189 هـ ) .
وأما القسم الآخر فكان يرى أنَّ الكلام أعمُّ من الجملة ، ويمثل هذا الرأي ابن جني (13) ( ت 392 هـ ) ، وابن يعيش (14) ( ت 643 هـ ) ، وأكثر الأصوليين (15) ، وتابعهم في ذلك من المحدثين الدكتور خليل عمايرة (16) .
__________
(1) همع الهوامع 1 / 13 .
(2) النحو الوافي 1 / 6 .
(3) شرح الرضي على الكافية 1 / 20 .
(4) الإعراب عن قواعد الإعراب / 35 ، ومغني اللبيب 2 / 419 .
(5) ينظر : موصل الطلاب شرح مقدمة الاعراب / 8 ، وحاشية الشنواني 1 / 47 .
(6) المنصف من الكلام 2 / 116 .
(7) التعريفات / 48 .
(8) همع الهوامع 1 / 12 .
(9) شرح الحدود النحوية / 33 ـ 34 .
(10) الكليات 2 / 153 .
(11) كشاف اصطلاحات الفنون 1 / 235 .
(12) حاشية ابن الحاج على النهجة المرضية ( أطروحة دكتوراه ) / 63 .
(13) الخصائص 1 / 27 .
(14) شرح المفصل 1 / 21 .
(15) ينظر : البحث النحوي عند الأصوليين / 243 .
(16) في نحو اللغة وتراكيبها : ص 77 ـ 78 .(1/3)
ولسنا هنا في صدد التفصيل في الخلاف ، إلاّ أن البحث اطمأن إلى تعريفين للجملة ، أولهما : أنها الصورة اللفظية الصغرى للكلام المفيد في أية لغة من اللغات ، فهي الوسيلة التي تنقل ما جال في ذهن المتكلم إلى ذهن السامع أو المتلقي (1) .
والتعريف الآخر: أنها " المركب المتضمن علاقة إسنادية واحدة أو أكثر ، مشروطاً فيها الإفادة المعنوية " (2) .
التفسير : الفاء والسين والراء : أصل واحد يدل على بيان الشيء وإيضاحه (3) ، والفعل منه من باب ( ضَرَبَ وَنَصَرَ ) (4) ، قال الخليل ( ت 175هـ ) : " التفسير هو بيان وتفصيل للكتاب " (5) ،والتفسير على وزن ( تَفْعِيل ) هو في المبالغة من الفسر (6) ، وفي اشتقاقه قولان :
الأول : إنه مأخوذ من ( التفسُرة ) ، وهي اسم لماء الإنسان الذي ينظر فيه الأطباء ،
ويستدلون بلونه على صحة البدن (7) ، قال الزمخشري : " كل ما ترجم عن
حال شيءٍ فهو تفسرته " (8) .
والآخر : قيل فيه :إنه مقلوب ( سفر ) ، إذ يقال : أسفر الصبح إذا أضاء (9) .
__________
(1) ينظر : في النحو العربي نقد وتوجيه / 31 .
(2) الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ ( أطروحة دكتوراه) /13 .
(3) ينظر : مقاييس اللغة 4 / 504 مادة ( فسر ) .
(4) القاموس المحيط 2 / 110 مادة ( فسر ) .
(5) العين 7 / 247 ـ 248 مادة ( فسر ) .
(6) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 480 .
(7) ينظر : العين 7 / 248 ، ومقاييس اللغة 4 / 504 ، ولسان العرب 5 / 55 ، والقاموس المحيط
2 / 110 ، مادة ( فسر ) .
(8) أساس البلاغة / 714 .
(9) ينظر : كشاف اصطلاحات الفنون 2 / 1115 .(1/4)
ويتضح لنا من هذا أنَّ التفسير هو عملية القصد منها الإضافة إلى النص الأول من جهة ، ثم إعطاء هذا النص معنىً أكثر وضوحاً من جهة أخرى ، وعليه فهو يشمل جميع النصوص التي تحتاج إلى توضيح (1) .
ولعل مفهوم الجملة التفسيرية يلتقي المفهوم السابق في جانب ويخالفه في جانب ، أما وجه الإلتقاء فهو أن الجملة المفسِّرة تزيل ما في الجملة المفسَّرة من غموض ، وما يكتنفها من إشكال ،وتعيّن المعنى المراد ،فوظيفتها إذاً جزء من وظيفة التفسير الكبرى ، ولكنها اختصت بميزة عنه ، ذلك أن الجملة التفسيرية تكون من إنشاء المرسل نفسه ، يضمِّنها كلامه حين يشعر أن المتلقي بحاجة إلى إيضاح لاستدامة عملية التواصل .
وقبل أن نقدم وجهة نظرنا في بيان التعريف المقترح للجملة التفسيرية نعرض هنا أولاً ما قدّمه القدماء والمحدثون من تعريفات لها . فأقدم تعريف وقف عليه الباحث هو لابن مالك ( ت 672 هـ ) إذ قال : هي الجملة " الكاشفة لحقيقة ما تليه ، ممّا يفتقر إلى ذلك " (2) . ووافقه في هذا التعريف أبو حيان الأندلسي (3) ( ت 745 هـ ) ، والمرادي (4) ( ت 749 هـ ) .
ولم يخرج ابن هشام الأنصاري عمّا رسمه ابن مالك سوى أنه أضاف قيداً إلى الحدّ ، فقال في كتابه الإعراب عن قواعد الإعراب (5) : " هي الكاشفة لحقيقة ما تليه ، وليست عمدة " .
في حين قدّم القيد أولاً في كتابه المغني فقال (6) : "هي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه " .
__________
(1) نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن / 7 ، نقلاً عن : مناهج المفسرين / 8 .
(2) تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد / 113 .
(3) ارتشاف الضرب 2 / 274 .
(4) الجمل التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها ، تحقيق : طه محسن ، مجلة آداب الرافدين ،
العدد ( 7 ) لسنة 1976 / 414 .
(5) : 46 .
(6) : 2 / 399 .(1/5)
ولم يخرج المحدثون بتعريف يباين ما ذهب إليه السلف ، فقد حدّها الدكتور عبدة الراجحي بأنها : " الجملة التي تفسِّر ما يسبقها وتكشف عن حقيقته " (1) .
في حين ذهب الدكتور علي أبو المكارم إلى أنها : " الجملة التي تكشف غموض جملة أخرى سابقة لها " (2) .
إلاّ أن التعريف الذي قدّمه : ( عبد الوهاب بكير ، وعبد القادر المهيري ، والتهامي نقرة ، وعبد الله بن عليه ) يكاد يكون أدقّ تعريف لدى المحدثين ، إذ عرّفوها بأنها :
" الجملة التي توضّح معنىً مبهماً ، او تفصّل معنىً مجملاً ورد قبلها " (3) .
والذي نراه أن الجملة التفسيرية هي : المركب الإسنادي المتّسم بالإفادة المعنوية مشروطاً فيها الإيضاح لمبهم في جملة سابقة ، سواءٌ أكان الإبهام ناتجاً عن استغلاق دلالة مفردة ما ، أم عن إبهام دلالة الجملة مجتمعةً .
وعلى هذا تكون الجملة المفسِّرة هي المرادف المعنوي لما تُفسّره ، إذ أنها تقتضي التعبير عن مدلولٍ ما بصياغة تعبيرية جديدة ، فيتعاور بذلك دالاّن على مدلول واحد ؛ بقصد كشف المعنى وإيضاحه (4) .
ثانياً : الجملة التفسيرية في التراث النحوي :
إنَّ مفهوم التفسير كان قائماً في أذهان النحاة مصطلحاً ودلالةً ، منذ وقت مبكر من نشوء الدراسة النحوية ، إذ أشاروا إليه مثلاً عند كلامهم على الحروف ، وكذلك في باب الإشتغال ، ومن أقدمهم سيبويه (5) ( ت 180 هـ ) ، والمبرد (6)
__________
(1) التطبيق النحوي / 356 .
(2) المدخل إلى دراسة النحو العربي 2 / 193 .
(3) النحو العربي من خلال النصوص ( نحو الجمل ) / 208 ، نقلاً عن : الشرط في القرآن على نهج
اللسانيات الوصفية / 159 .
(4) ينظر : الشرط في القرآن على نهج اللسانيات الوصفية / 159 .
(5) ينظر : الكتاب 1 / 81 ، 3 / 162 .
(6) ينظر : المقتضب 1 / 49 ، 2 / 76 .(1/6)
( ت 285 هـ ) ، وابن السراج (1) ( ت 316هـ ) ، والزجاجي (2) ( ت 337 هـ ) ، والزمخشري (3) ( ت 538 هـ ) ، فقد قال سيبويه مثلاً : " هذا باب ما تكون فيه( أنْ ) بمنزلة ( أَيْ ) ، وذلك قوله - عز وجل - { وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا }
زعم الخليل أنه بمنزلة : أي " (4) . وقال في باب الإشتغال : " فإن شئت قلت : زيداً ضربته ، وإنّما نَصَبَهُ على إضمار فعل هذا يفسِّره كأنك قلت : ضربتُ زيداً ضربته ، إلاّ أنهم لا يظهرون هذا الفعل هنا للإستغناء بتفسيره " (5) .
__________
(1) ينظر : الأصول 1 / 237 ، 282 .
(2) ينظر : الجمل / 39 ـ 40 ، 305 .
(3) ينظر : المفصل / 49 ، 313 .
(4) الكتاب 3 / 162 . الآية في النص هي من سورة [ ص : 6 ] .
(5) م . ن 1 / 81 .(1/7)
وبالمثل لم تخلُ المصنفات المتعلقة ببيان معاني القرآن الكريم وإعرابه من تناول سديد للموضوع ، ومن أبرز أصحاب هذه المصنفات : الفرّاء (1) ( ت 207 هـ ) ، والزجاج (2) ( ت 310 هـ ) ، والنحاس (3) ( ت 338 هـ ) ، والباقولي (4) ( ت 543هـ )،وابن الأنباري (5) ( ت 577هـ )، وأبو البقاء العكبري (6) ( ت 616هـ) ، فمثلاً نجد الفرّاء يقول : " فأما الذي يأتي بمعنى القول فتظهر فيه ( أَنْ ) مفتوحة ، فقول الله ـ تبارك وتعالى ـ : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } جاءت ( أنْ ) مفتوحة ؛ لأنَّ الرسالة قول ، وكذلك كل ما كان في القرآن ، وهو كثير " (7) .
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى ما قدّمه أصحاب المصنفات المتخصصة بحروف المعاني في هذا المجال ، ومن أبرزهم الزجاجي (8) ، والرماني (9) ( ت 384 هـ ) ، والمالقي (10)
( ت 702 هـ ) ، والمرادي (11) ( ت 749 هـ ) ، وابن هشام الأنصاري (12) ، فقد أشاروا جميعاً إلى الموضوع عند حديثهم عن ( أَنْ و أَيْ ) المفسِّرتين .
ثالثاً : ربط الجملة التفسيرية :
__________
(1) ينظر : معاني القرآن 1 / 81 ، 472 .
(2) ينظر : معاني القرآن وإعرابه 2 / 223 .
(3) ينظر : معاني القرآن ، للنحاس 3 / 38 ، نقلاً عن ( قرص مكتبة التفسير وعلوم القرآن ) .
(4) ينظر : إعراب القرآن 3 / 795 ـ 798 .
(5) ينظر : البيان في غريب إعراب القرآن 1 / 349 ، 362 ، 2 / 7 ، 55 .
(6) ينظر : التبيان في إعراب القرآن 1 / 113 ، 171 ، 267 .
(7) معاني القرآن 1 / 81 .
(8) ينظر : حروف المعاني والصفات / 58 .
(9) ينظر : معاني الحروف / 73 ، 80 .
(10) ينظر : رصف المباني في شرح حروف المعاني / 116 ، 135 .
(11) ينظر : الجنى الداني / 220 ـ 221 ، 234 .
(12) ينظر : مغني اللبيب 1 / 78 ، 139 .(1/8)
تقسّم الجملة التفسيرية من حيث ارتباطها بالجملة المفسَّرة إلى قسمين : جملة مسبوقة بأداة تفسير ، وأخرى مجردة منها (1) ، وسنتحدث عن القسمين فيما يأتي :
(1) الجملة التفسيرية المسبوقة بأداة تفسير :
ترتبط الجملة التفسيرية في هذا النمط بنيوياً بما قبلها بأحد حروف التفسير، أو ما يُعرف بحروف العبارة (2) . وعدد الحروف التي أجمع عليها النحاة اثنان، هما : ( أَنْ ) و ( أَيْ ) ، في حين ذهب بعضهم إلى عدِّ ( إذا ) (3) و ( أَنَّ ) (4) المفتوحة الهمزة المشددة النون منها ، وسيأتي بيان هذا لاحقاً .
أ ـ ( أَنْ ) :
وهي من أشهر حروف التفسير وأوسعها تداولاً (5) ، وعليها اقتصر الإستعمال القرآني في جمله المفسِّرة ذوات الأداة (6) . ولمجئ هذه الأداة للتفسير شروط فصّلها النحاة ، ولا سيما الفرّاء (7) ، والمبرّد (8) ، وابن السراج (9) ، وابن يعيش (10) ، وطائفة من المتأخرين (11) ، ويمكن إجمالها بما يأتي :
__________
(1) ينظر : مغني اللبيب 2 / 400 .
(2) ينظر : الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ (أطروحة دكتوراه)
/ 124 .
(3) ينظر : أسرار النحو / 298 .
(4) ينظر : التحرير والتنوير 9 / 275 .
(5) ينظر : حروف المعاني والصفات / 58 ، ومعاني الحروف / 73 .
(6) ينظر : النحو القرآني / 516 .
(7) ينظر : معاني القرآن 1 / 80 ـ 81 .
(8) ينظر : المقتضب 1 / 48 ، 2 / 361 ـ 362 .
(9) ينظر : الأصول 1 / 237 ، 2 / 208 .
(10) ينظر : شرح المفصل 8 / 139 ـ 142.
(11) ينظر : الجنى الداني / 239 ، ومغني اللبيب 1 / 29 ، وهمع الهوامع 2 / 18 .(1/9)
1 ـ أن تتقدمها جملة تامة المعنى ، ثمَّ تُردف بعدها الجملة التفسيرية المصدّرة بـ ( أنْ ) ، أي إِنَّ الجملة بعد ( أنْ ) تستقل بنفسها عمّا قبلها ، فلا ترتبط بها بعلاقة عمل ، ولذلك منع سيبويه وكثير من النحاة أن تكون ( أنْ ) تفسيرية في قوله - سبحانه وتعالى - :
{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ؛ لأن ( أنْ ) إنّما تجيء بعد كلام مستغنٍ ، ولا تكون في موضع المبنيّ على المبتدأ (1) ، أي : إنّ الكلام لا يفسَّر إلاّ بعد تمامه (2) ، وعلى هذا لا يجوز أن يتصل بحرف التفسير شيء من صلة الفعل ، كحرف الجرّ مثلاً ؛ لأنه لو اتصل به لصار من جملته ، ولم يكن تفسيراً له (3) .
وقد نقل الشّمني (4) ( ت 872 هـ ) بأن ابن الصائغ ( ت 776 هـ ) حكى عن بعضهم جواز أن تكون ( أنْ ) في الآية تفسيرية ،لأنه لم يَرَ شرط تقدم الجملة عليها ، ولكن يبقى هذا الرأي بحاجة إلى سند ، لأنه " لم يُسَمَّ هذا القائل فتعرف طبقته في العلم " (5) .
2 ـ أن تتضمن الجملة السابقة لـ ( أنْ ) التفسيرية فعلاً فيه معنى القول من دون حروفه (6) ؛لأنه لو صُرّح بفعل القول لخلصت الجملة التي بعده للحكاية (7) .
وقد شُهر عن ابن عصفور ( ت 669 هـ ) تجويزه وقوع ( أنْ ) مفسِّرة بعد القول الصريح ،إذ قال عند كلامه على هذه الأداة : " ولا تقع إلاّ بعد القول وما في معناه " (8) .
__________
(1) ينظر : الكتاب 3 / 163 .
(2) ينظر : المقتضب 1 / 49 .
(3) ينظر : الكتاب : 3/162 ، وإعراب القرآن لجامع العلوم الباقولي3/797، وشرح المفصل 8 /142 .
(4) ينظر : المنصف من الكلام 1 / 68 .
(5) م . ن .
(6) ينظر : معاني القرآن للفرّاء 1 / 80 ـ 81 ، وإعراب القرآن لجامع العلوم الباقولي 3 / 796 .
(7) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 ، وهمع الهوامع 2 / 18 .
(8) شرح جمل الزجاجي 2 / 483 .(1/10)
وعند وقوفنا على مصادر النحو القديمة وجدنا أن ابن عصفور قد سُبق بهذا الرأي ، إذ ذهب الخليل بن أحمد الفراهيدي (1) ( ت 175 هـ ) إلى جواز عّدِّ ( أنْ ) مفسِّرة في قوله - سبحانه وتعالى - : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } [ المائدة : 117 ] ، وقد ذهب إلى مثل هذا الزجاج (2) أيضاً ، وكذلك نقل الشيخ خالد الأزهري عن سليم الرازي (3) ( ت 447 هـ ) الرأي نفسه .
ولكن يُلحظ على توجيههم جميعاً أنهم لم يُبينوا ما فسّرته ( أنْ ) في الآية ، أهو فعل القول أم ما أُمرَ به ؟ وإن بدا لنا أن مقصودهم هو الأول . وربّما كان الزمخشري أكثر تحديداً في هذه المسألة ، إذ قال : " أنْ في قوله : ( أنِ اعبدوا الله ) إن جعلتها مفسِّرة ، لم يكن لها بُدٌّ من مفسَّر ، والمفسَّر إما فعل القول وإما فعل الأمر ، وكلاهما لا وجه له ؛ أما فعل القول : فيحكى بعده الكلام من غير أن يتوسط بينهما حرف التفسير ، ... وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير ( الله ) ، فلو فسَّرته بـ ( اعبدوا الله ربي وربكم ) لم يستقمْ ؛لأن الله لا يقول : اعبدو الله ربي وربكم ... فإن قلت : كيف تصنع ؟ قلت : يُحمل فعل القول على معناه ؛ لأن معنى ما قلت لهم إلاّ ما أمرتني به : ما أمرتهم إلاّ بما أمرتني به ؛ حتى يستقيم تفسيره بـ : أنِ اعبدوا الله ربّي وربّكم " (4) .
وقد استحسن ابن هشام هذا التوجيه في المغني (5) ، في حين ذكر الدماميني
__________
(1) ينظر : الكتاب 3 / 162 .
(2) ينظر : معاني القرآن وإعرابه 2 / 223 .
(3) ينظر : موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب / 90 ، وسليم الرازي هو أبو الفتح سليم بن أيوب
ابن سليم الرازي ، فقيه شافعي ، وأديب ، عرف بالفضل والعبادة وحسن الخط ، توفي سنة
( 447 هـ ) . ينظر : وفيات الأعيان 2 / 397 .
(4) الكشاف 1 /656 ـ 657 .
(5) ينظر : مغني اللبيب 1 / 32 .(1/11)
( ت 827 هـ ) مؤكداً هذا الشرط : بأنه لا يوجد في كلام العرب ( أنْ ) مفسِّرة بعد جملة فيها فعل القول ، إذ قال : " ولا يقال : قلتُ له أنِ افعل ؛ لعدم وجوده في كلامهم ، وبتقدير وجوده لا تتعين ( أنْ ) فيه للتفسير ؛ لجواز أن تكون زائدة " (1) ، ثم قال بعد ذلك : " ولم أقف على العلة المقتضية لإشتراط عدم القول الصريح " (2) .
والذي يبدو للباحث أن ما ذكره الزمخشري من عدم جواز كون ( أنْ ) مفسِّرة للأمر في الآية فيه نظر ؛ إذ أنه يرى أَنَّ ما بعد ( أنْ ) هو من كلام الله تعالى ، لذلك لا يصحُّ الحمل على التفسير ، لأن الله - عز وجل - في علاه لا يقول : اعبدو الله ربّي وربّكم ؛ وهذا صحيح ، ولكن بدا لنا ـ والله أعلم ـ أنّ ما بعد ( أَنْ ) هو من كلام نبي الله عيسى
- عليه السلام - ، يفسِّر فيه طبيعة الأمر الإلهي ، فالجملة تفسير لمضمون الأمر ، وليست هي نقل حرفي للأمر حتى يحدث هذا اللبس .
3 ـ أن يأتي بعد ( أَنْ ) جملة لا مفرد ، إذ لا يجوز: اشتريت عسجداً أنْ ذهباً ، بل يجب الأتيان هنا بـ ( أَيْ ) بدلاً منها ، أو ترك حرف التفسير (3) .
وتتنوع الجملة بعد ( أنْ ) ، فتكون فعلية،أو اسمية ، أو ندائية ، وسيأتي بيان ذلك فيما يستقبل من البحث إن شاء الله .
4 ـ أن لا يتقدم معمول ما بعدها على الجملة المفسَّرة (4) .
__________
(1) تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب 1 / 69 .
(2) م . ن .
(3) ينظر : مغني اللبيب 1 / 30 ، وشرح التصريح على التوضيح 2 / 232 .
(4) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 .(1/12)
5 ـ أن لا تسبق ( أنْ ) المفسِّرة بحرف الواو ، وهو شرط نبّه عليه الفرّاء (1) أولاً ، ثمَّ نصَّ عليه العكبري (2) وجعله أحد الشروط في كونها أداة تفسير ، وتنبغي الإشارة هنا إلى ما عُدَّ ضمن المسائل الخلافية بين المدرستين، وهي مسألة تتعلق بطبيعة ( أن ) المفسِّرة ، إذ ذهب جمهور البصريين إلى القول بوقوعها في الكلام (3) ، في حين ذهب الكوفيون إلى إنكار ذلك ، وخرّجوها على المصدرية (4) ، أو الزيادة (5) ، وقد وافقهم في ذلك ابن هشام الأنصاري إذ قال : " وعن الكوفيين إنكار أنِ التفسيرية ألبتة ، وهو عندي متجه ؛ لأنه إذا قيل : كتبت إليه أنْ قم ، لم يكن ( قم ) نفس ( كتبت ) ، كما كان الذهب نفس العسجد في قولك : هذا عسجد أي : ذهب " (6) .
وقد ناقش ابن هشام في رأيه هذا غير واحد من شارحي كتابه ، ومنهم الدماميني ( ت 827 هـ ) إذ قال : " وهذا الكلام عن المصنف رحمه الله تعالى مبنيّ على أَنَّ
( قم ) في المثال المذكور تفسير لـ ( كتبت ) نفسه ، فأبطله ، وليس الأمر كما فهمه ، إنّما التفسير في ذلك للمتعلق بـ ( كتبت ) ، وهو الشيء المكتوب ، و ( قم ) هو نفس ذلك الشيء " (7) .
وأما الكوفيون فقد ردَّ قولهم بمصدريتها أو زيادتها أبو حيان الأندلسي ، إذ قال :
" وليس ذلك بصحيح ؛ لأنها غير مفتقرة إلى ما قبلها ، ولا يصحُّ أن تكون المصدرية إلاّ بتأويلات بعيدة " (8) .
__________
(1) ينظر : معاني القرآن 2 / 69 .
(2) ينظر : التبيان 1 / 442 .
(3) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 ، ومغني اللبيب 1 / 31 .
(4) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 ، والجنى الداني / 239 ، وهمع الهوامع 2 / 18 .
(5) ينظر : البحر المحيط 1 / 637 .
(6) مغني اللبيب 1 / 229 .
(7) تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب 1 / 67 ، وينظر : المنصف من الكلام 1 / 67 .
(8) همع الهوامع 2 / 18 ، ولم أقف على هذا الرأي في ارتشاف الضرب .(1/13)
وما ذهب إليه أبو حيان صحيح ، فثمّة فرق واضح بين أن المصدرية والتفسيرية نجمله بما يأتي : إِنَّ ( أنْ ) التفسيرية تختلف عن المصدرية في أن مدخولها لا يقتصر على الفعل حسب ، بل تدخل على الجملتين الأسمية والندائية ، كما أنها يُشترط فيها أن تسبق بفعل فيه معنى القول من دون حروفه . في حين اختصت المصدرية بجواز وقوعها في بداية الجملة الإبتدائية أو المستأنفة ، كما في قوله - سبحانه وتعالى - : { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ } [ البقرة : 184 ] ، كما أنه يجوز الفصل بينها وبين معمولها بـ ( لا ) النافية .
ولابد من الإشارة هنا إلى أن ما نُقِلَ عن الكوفيين فيما يتعلق بهذه المسألة فيه نظر، إذ لم نقف على نص يُعزى إلى زعماء المذهب في إنكار ( أنْ ) التفسيرية ، بل إنَّ الفراء وهو من زعمائهم قال بوقوعها في كتاب الله - عز وجل - ، وحمل على ذلك غير آية (1) ، ويبدو إنْ صحّ كون هذا الرأي كوفياً ـ أنه يعود إلى متأخريّ الكوفيين ، لا إلى المتقدمين من أعلام هذا المذهب .
( ب ) أَيْ :
هي حرف التفسير الثاني الذي استعملته العرب في كلامها (2) ، وتكون تفسيراً لصريح القول ، نحو : ( قال زَيْدٌ قَوْلاً ، أي : اضرب عمراً ) ، ولمضمَّنه نحو :
( كتبت إليه أي : قم ) ، ولغيرهما نحو : ( رأيت رجلاً أي تميمياً ) (3) .
وواضح ممّا سبق أنها تفسّر المفرد والجملة ، ولا تختص بأحدهما ، ومن تفسيرها للجملة قول الشاعر (4) :
وتَرميني بالطّرفِ أي أنتَ مذنبٌ وتقلينني لكنَّ إِياكِ لا أَقلي
__________
(1) ينظر : معاني القرآن 1 / 80 ـ 81 ، 470 ـ 471 ، 2 / 41 .
(2) ينظر : معاني الحروف / 80 ، والجنى الداني / 234 .
(3) ينظر ارتشاف الضرب 2 / 424 .
(4) ينظر : معاني القرآن للفرّاء 2 / 144 ، وشرح الرضي على الكافية 4 / 438 ، والجنى الداني /
234 ، والبيت مجهول القائل .(1/14)
ويشترط هنا أن تكون كل جملة مستغنية بنفسها عن الأخرى (1) .
وإذا وردت هذه الأداة بين مترادفين ، فالثاني منهما يكون أشهر من الأول ، كقولنا : ( هذا غضنفر أي : أسد ) (2) . وقد اختلف في إعراب ما بعدها في هذه الحالة، فذهب الكوفيون (3) ، والسكاكي (4) ( ت 626 هـ ) وصاحب المستوفى (5) ، إلى أنها حرف عطف ، وما بعدها منسوق على ما قبلها ، في حين ذهب ابن هشام إلى أن ما بعدها عطف بيان أو بدل ، وردَّ على الكوفيين إعرابهم بأنه لم يَرَ عاطفاً يصلح للسقوط دائماً ، ولا عاطفاً ملازماً لعطف الشيء على مرادفه (6) .
وذهب قوم إلى أنَّ ( أي ) اسم من أسماء الأفعال معناه : ( عُوا ، أو : افهموا ) فهي مشابهة لـ ( صه ، ومه ) (7) . وقد ردَّ ابن يعيش على من تبنى هذا الرأي فقال :
__________
(1) ينظر : إعراب الجمل وأشباه الجمل / 77 .
(2) ينظر : مغني اللبيب 1 / 76 .
(3) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 ، ومغني اللبيب 1 / 76 .
(4) ينظر : مفتاح العلوم / 272 .
(5) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 424 ، والجنى الداني : ص 234 ، وصاحب المستوفى هو أبو سعد
كمال الدين علي بن مسعود بن محمود الفرّخان ، وقيل : الفرغاني ، صاحب المستوفى ، وقد أكثر
أبو حيان من النقل عنه . ينظر : بغية الوعاة 2 / 206 ، وكشف الظنون 2 / 1675 . وقد حقق هذا
الكتاب : حسن عبد الكريم الشرع ، ونال به درجة الدكتوراه من جامعة بغداد عام 1978 م .
(6) ينظر : مغني اللبيب 1 / 76 .
(7) ينظر : الجنى الداني / 250 .(1/15)
" وليس الأمر على ما ظنَّ هؤلاء ؛ لأنَّ ( صه ومه ) يدلان على معنى في أنفسهما إذا اُفردا ، وهو: اسكت واكفف ، وليس كذلك ( أي ) ؛ لأنها لا يفهم لها معنى حتى تضاف إلى ما بعدها " (1) . في حين رأى الدكتور فخر الدين قباوة من المحدثين أنها قد تحلّ محل كلمة ( تفسير ) أو ( معنى ) (2) . وليس مقصوده أنهما يحلاّن محلّ الأداة في الكلام ، ولكن تُفَسَّرُ الأداة بهذين الفعلين ، كما تُفَسَّر ( يا ) بـ ( أدعو ) ، وكذلك بقية حروف المعاني .
ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم لم يستعمل هذه الأداة في جمله المفسِّرة بل اقتصر على ( أنْ ) ؛ ولعل السبب فيما يبدو للباحث أَنَّ الأداة ( أيْ ) غالباً ما تأتي بعد كلمة مبهمة ، أو يظنُّ المُرسِل أن المتلقي قد تخفى عليه دلالة اللفظة لبعدها عن معجمه اللغوي ، في حين كان الأسلوب القرآني قائماً على ما ألفه العرب من أساليب الخطاب ، ومن المفردات التي لا تخفى دلالتها على العرب (3) ، وحتى الألفاظ الشرعية التي حصل فيها تطور دلالي بين لغة العرب المألوفة قبل الإسلام وما جاء به القرآن الكريم ، فإنها كانت قد اُلفت عند المخاطبين من خلال التفسير العملي والقولي الذي قدمته السُّنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتمُّ التسليم .
( جـ ) : إذا :
لم يذكر جمهور النحاة الأداة ( إذا ) ضمن أدوات التفسير ؛ لأنها ظرفية (4) ،
__________
(1) شرح المفصل 8 / 140 .
(2) إعراب الجمل وأشباه الجمل / 78 .
(3) ينظر : مجاز القرآن 1 / 16 .
(4) ينظر مثلاً : مغني اللبيب 1 / 158 .(1/16)
فين حين ذهب ابن كمال باشا ( ت 940 هـ ) إلى أنها تؤدي وظيفة التفسير ، إذ قال : " واعلم أنهم يفسرون بـ ( إذا ) ، كما يفسرون بهذين الحرفين [ يعني : أَنْ و أَيْ ] نحو : عسعس الليل إذا أظلم ، فيكون ( أظلم ) تفسيراً لـ ( عسعس ) بـ ( إذا ) " (1) . وبالمثل ذهب الشيخ مصطفى الغلاييني من المحدثين إلى أنّها إذا تضمنت معنى ( أيْ ) التفسيرية كانت حرف تفسير (2) .
وقد اعتُرض على هذا التوجيه بدعوى أَنَّ ( إذا ) ظرف ، وأنها لو كانت تفسيرية لكانت حرفاً لا ظرفاً (3) . والذي يبدو للباحث أن هذه الحجة لا تنهض دليلاً يُحتج به ، ولا سيما أَنَّ حصرها بالظرفية ليس مطلقاً، إذ ذهب الكوفيون (4) ، والأخفش الأوسط (5)
( ت 215 هـ ) إلى أنها حرف ، وقد وافقهما في ذلك ابن مالك (6) ، وابن هشام (7) ، وعليه فيجوز أن تكون ( إذا ) مفسِّرة في طائفة من السياقات كما أشار إلى ذلك ابن كمال باشا والغلاييني .
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أننا لم نعثر على قول يشير إلى ورود هذه الأداة مفسِّرة في القرآن الكريم ،على الرغم من كثرة البحث في الكتب المتعلقة بإعراب القرآن الكريم .
( د ) : أَنَّ :
__________
(1) أسرار النحو / 298 .
(2) ينظر : جامع الدروس العربية 3 / 241 .
(3) ينظر : إعراب الجمل وأشباه الجمل / 81 ، والجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن
الكريم ـ دراسة نحوية ـ ( اطروحة دكتوراه ) / 130 .
(4) ينظر : الجنى الداني / 364 ، ورصف المباني / 61 ـ 62 .
(5) ينظر : مغني اللبيب 1 / 87 .
(6) ارتشاف الضرب 2 / 240 ، ومغني اللبيب 1 / 87 .
(7) مغني اللبيب 1 / 87 .(1/17)
لم يعدَّ جمهور النحاة ( أَنْ ) المفتوحة الهمزة المشددة النون من أحرف التفسير ؛ لأنها حرف مصدري (1) . ولعل أقدم إشارة إلى أدائها وظيفة التفسير كانت عند الفرّاء ، إذ قال عند كلامه على ( أَنًّ ) بسكون النون : " ومثله في الكلام : قد قلت لك كلاماً حسناً : أَنَّ أباك شريف ، وأَنّك عاقل ، فتحت ( أَنَّ ) لأنها فسَّرت الكلام ، والكلام منصوب ، ولو أردت تكرير القول عليها كسرتها " (2) . حتى إذا انتقلنا إلى كتب المحدثين وجدنا الشيخ الطاهر ابن عاشور ( ت1972م ) يقول بوقوعها تفسيرية أيضاً ، ويجعل لها من الشروط ما لـ ( أَنْ ) المفسِّرة ، إذ يقول : وأرى أن الحرف ( أَنَّ ) المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد ما فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد ... ووقوع ( أَنَّ ) موقع التفسير كثير في الكلام وفي القرآن ، ومنه قوله - سبحانه وتعالى - : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } (3) [ المائدة : 49 ] .
وبالمثل جعل قوله - سبحانه وتعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] من هذا القبيل أيضاً ، فقال : " ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } في كون ( أَنَّ ) تفسيرية ، دون كونها مجرورة بحرف جرّ محذوف " (4) .
__________
(1) الجنى الداني / 402 .
(2) معاني القرآن 1 / 472 .
(3) التحرير والتنوير 9 / 275 ، وينظر : الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة
نحوية ـ ( اطروحة دكتوراه ) / 131 .
(4) التحرير والتنوير 9 / 281 .(1/18)
وإلى مثل هذا التوجيه مال الباحث علي حيدر عند توجيهه قوله - سبحانه وتعالى - : { فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 39 ] ، إذ جعل ( أَنَّ ) أداة تفسير ، وجملة ( الله يبشرك ) تفسيرية لا محل لها من الإعراب (1) .
( 2 ) الجملة التفسيرية المجردة من الأداة :
يمثل هذا النوع القسم الثاني من الجمل المفسِّرة ، ويرتبط بما قبله ضمنياً ، أي إن المركب الإسنادي الأسمي أو الفعلي الذي يقوم بوظيفة التفسير يكون خالياً من الأداة التي تربطه بالجملة المفسَّرة ، ويُعتمد في تحديد هذا النوع من الجمل على المعنى (2) ، وقد يحتمل هذا النوع من الجمل وجها ًآخر من الإعراب .
ويختلف هذا النوع عن النوع الأول المرتبط بأداة من حيث إنَّ هذا النوع من الجمل ليس له من الشروط والمحددات التي يمتلكها الأول ، مما جعله محل خلاف بين النحاة ، وما ذاك إلاّ نتيجة التشابه الظاهري لهذا الضرب مع غيره من الجمل إلى درجة التداخل ، مما جعلهم يختلفون في توجيه الجملة الواحدة ، فالجملة التي تحكم لها طائفة من النحاة بالتفسير،تحكم لها طائف أخرى بالبدلية أو الحالية أو المفعولية أو الإستئناف ، مما يدل على افتقار النحاة لمعيار معين يحتكمون إليه في البتّ بمواقع هذا الضرب من الجمل وإعرابه (3) .
__________
(1) ينظر : إعراب سورة آل عمران / 73 .
(2) ينظر : الجملة النحوية نشأةً وتطوراً وإعراباً / 116 .
(3) ينظر : الجمل الاتي لامحل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ ( أطروحة دكتوراه )
/ 137 .(1/19)
والذي يبدو للباحث أن الحكم على الجملة بالتفسير في هذا الضرب يعتمد على ما تقوم به الجملة من دور وظيفي في التركيب ، فإنْ أَدّت وظيفة بيانية ايضاحية حُكم لها بذلك من دون الاحتكام إلى الموقعية الإعرابية التي تعدُّ مسألة شكلية لا يصحُّ اعتمادها معياراً في الفصل .
ومن هذا الأساس سينطلق الباحث في بحثه فيما يستقبل من فصول الأطروحة إن شاء الله .
رابعاً : الجملة التفسيرية ومحلها الإعرابي :
ذهب جمهور النحاة إلى أن الجملة التفسيرية لا محل لها من الإعراب ، في حين رأى أبو علي الشلوبين ( ت 645هـ ) أنها بحسب ما تفسِّره،فإن كان له محل إعرابي كان لها ذلك ، وإلاّ فلا (1) . وقد استدل على ما ذهب إليه بقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] إذ التقدير : إنّا خلقنا كل شيء خلقناه ، فخلقناه مفسِّرة للفعل ( خلقنا ) المقدّر ، الذي هو في محل رفع بوصفه خبراً لـ ( إنَّ ) ، فكذلك حكم الجملة المفسِّرة . واستدل أيضاً بقول الشاعر (2) :
فَمَنْ نَحْنُ نُوْمِنْهُ يَبتْ وهو آمِنٌ وَمَنْ لا نُجرْهُ يُمْسِ مِنّا مُفَزَّعا
إذ ظهر الجزم في الجملة المفسِّرة ( نؤمنْه ) لأنها تابعة لحكم المفسَر المحذوف . وكذلك استدل بالتوجيه النحوي لقولنا : ( زيداً ضربته ) إذ التقدير: ضربت زيداً ضربته ، وبما أن الجملة المقدّرة لا محل لها من الإعراب ؛لأنها جملة ابتدائية ،فكذلك حكم الجملة التي فسَّرتها (3) .
__________
(1) ينظر : ارتشاف الضرب 2 / 375 ، والإعراب عن قواعد الإعراب / 46 ـ 47 .
(2) عزاه الأعلم الشنتمري لـ ( هشام المرّي ) ، ينظر : تحصيل عين الذهب / 423 ، والإنصاف
2 / 619 .
(3) ينظر : الإعراب عن قواعد الإعراب / 46 ـ 47 ، ومغني اللبيب 2 / 413 ، وحاشية الدسوقي
2 / 59 ، وحاشية الأمير 2 / 58 .(1/20)
وقد اعترض ابن هشام على الشلوبين فيما ذهب إليه ، لأن جملة الإشتغال لا تعدُّ مفسِّرة في الإصطلاح ، وإنْ حصل فيها تفسير (1) .
من هنا يتبين لنا اختلاف المدخلين اللذين أُقيمت الجملة التفسيرية عليهما لدى الشلوبين وابن هشام ، ذلك أن الجملة التفسيرية في نظر الشلوبين جملتان (2) : جملة تفسيرية ذات محل إعرابي تكون مع ما تفسّره مركباً بيانياً ، وجملة تفسيرية لا محل لها من الإعراب .
إن ما يلاحظ على رأي الشلوبين هو اعتماده مقياساً صناعياً اعرابياً ، غلّب فيه علاقة العنصر بما يتعلق به على خصائص العنصر ذاته فمكّنه ذلك من إفراز الجملة التفسيرية التي لا محل لها من الجملة المفسِّرة التي لها محل (3) .
ولم يكن الشلوبين بدعاً في رأيه هذا ، إذ سبقه الزمخشري إلى مثل ذلك عندما توقف على كلمة ( سورة ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] إذ قال : " وقُرئ بالنصب على : زيداً ضربته ، ولا محل لـ ( أنزلناها ) ؛ لأنها مفسِّرة للمضمر فكانت في حكمه " (4) .فكأن الشلوبين قد أفاد في رأيه من الزمخشري (5) . وقد لقي هذا التوجيه قبولاً لدى طائفة من المتأخرين أيضاً ، فنجد السيوطي
( ت 911 هـ ) مثلاً يقول : " وهذا الذي قاله الشلوبين هوة المختار عندي " (6) .
__________
(1) ينظر : مغني اللبيب 2 / 403 .
(2) ينظر : أصول تحليل الخطاب 1 / 352 .
(3) ينظر : أصول تحليل الخطاب 1 / 352 .
(4) الكشاف 3 / 46 ، وقراءة النصب هي لعيسى بن عمر الثقفي ، ينظر : مختصر في شواذ القراءات /
100 .
(5) ينظر : الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ ( أطروحة دكتوراه )
/ 144 .
(6) همع الهوامع 1 / 148 .(1/21)
وخلاصة القول : إنّ ما ذهب إليه أغلب النحاة ومنهم ابن هشام يقتضي بالضرورة إخراج جمل لها وظيفة تفسيرية من حيّز الجمل المفسِّرة ، بالرغم من أنها تؤدي الوظيفة ذاتها ، بدعوى أن لها محلاً إعرابياً ، فهم بذلك يربطون بين الإعراب المحلي ووظيفة التفسير ، وذلك حينما اشترطوا كون الجملة المفسِّرة لا محل لها من الإعراب ، والحق أّنِّ التفسير وظيفة نحوية ، ولا علاقة جوهرية له بالإعراب المحليّ .
إنَّ الموازنة بين ما أقره جمهور النحاة ، وما ذهب إليه الشلوبين تكشف لنا أن الأخير قد وسّع مفهوم الجملة التفسيرية ليشمل جميع الجمل التي تؤدي هذه الوظيفة بغض النظر عن موقعها الإعرابي ، وهذا ما ينطبق تماماً مع المنهج الوصفي في دراسة اللغة . وبذلك يكون الشلوبين قد خرج على المنهج الشكلي الذي يربط بين الوظيفة والموقعية ، لينظر إلى الجانب الوظيفي للمصطلح .
خامساً : المصطلح بين الدلالة الشكلية والوظيفية :
لعل من المفيد أن نناقش هنا إحدى المشكلات التي تتعلق بوضع المصطلحات والتي لها صلة بموضوع بحثنا ، وهي مشكلة المنهج المتبع في وضع المصطلح ، أهو منهج شكلي يلتمس أدنى علاقة سطحية لإختيار المصطلح ، أم منهج وظيفي يربط المصطلح بوظيفته المنوطة به ؟
فإذا نظرنا في طائفة من المصطلحات النحوية المتداولة في الدرس النحوي ألفينا عدداً منها قد روعي فيه الجانب الشكلي حسب ، من دون أن يحظى بقدر وافر من مراعاة الجانب الوظيفي (1) .
__________
(1) ينظر : العربية الفصحى ( مقدّمة المعرّب ) : ص 17 .(1/22)
فإذا نظرنا مثلاً في مصطلحي ( الفعل الماضي ، والفعل المضارع ) وجدنا الأول منهما معبراً بدقة عن وصف الأفعال المنضوية تحته، فهو بذلك مصطلح وظيفي، أما الثاني وهو المضارع فهو مصطلح غير دقيق وظيفياً ؛ لأنه مصطلح شكلي غير مرتبط بمدلوله وظيفياً في التعبير عن الزمن الحاضر ، ذلك أن الفعل سُمي به لمضارعته اسم الفاعل في الحركات والسكنات . ومن هنا اقترح بعض الدارسين أن يُطلق مصطلحا ( التام وغير التام ) للتعبير عن المضي والحضور (1) . على أننا لا نُحبذ تغيير المصطلحات التي استقرت في مصنفات الدارسين وأذهانهم ؛ لأنَّ تقبّل ذلك من الصعوبة بمكان .
وبالمثل لو نظرنا في مصطلح ( الأحرف المشبهة بالفعل ) الذي تكلّف النحاة عدّة مُسوّغات شكلية لإطلاقه على ( إنَّ وأخواتها ) (2) ، لوجدناه مصطلحاً غير وظيفي . ومن هنا دعا أكثر من باحث إلى استعمال مصطلح ( النواسخ ) بدلاُ منه (3) .
وأما مصطلح الجملة التفسيرية ـ قيد الدرس ـ فهو مصطلح وظيفي ، إذ هو منبثق من الوظيفة الإيضاحية البيانية التي يُؤديها هذا النوع من الجمل ، فثمّة مناسبة تامة بين دلالة المصطلح اللفظية وبين وظيفته النحوية في الكشف والإظهار .
ولكن يُواجه هذا المصطلح بإشكالية تتمثل في تضييق مفهومه من لدن أغلب النحاة ،وذلك بقصره على الجمل التي لا محل لها من الإعراب ـ كما بيّنا ذلك سابقاً ـ مما أدى إلى إخراج أنماط أخرى من الجمل تؤدي الوظيفة نفسها التي تؤديها الجمل السابقة من حيث البيان والإيضاح .
__________
(1) م . ن / 21 .
(2) ينظر مثلاً : أسرار العربية / 148 .
(3) ينظر : النواسخ في كتاب سيبويه /21، ودلالة الأنماط التركيبية لجملة الأحرف الناسخة في القرآن
الكريم ، أطروحة دكتوراه قدمها فراس عبد العزيز إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل 2003/ 7 .(1/23)
والصحيح أن الجملة التفسيرية هي التي تقوم بوظيفة البيان والتفسير من دون النظر إلى الموقع الإعرابي ، وبهذا يكون المصطلح مؤدياً لوظيفته من دون النظر إلى الإعتبارات الشكلية .(1/24)
الفصل الأول
الجملة التفسيرية التي لا محل
لها من الإعراب
والمصدرة بأداة تفسير
المبحث الأول : الجملة التفسرية الفعلية الماضية
والمضارعة
المبحث الثاني : الجملة التفسيرية الفعلية الأمرية
المبحث الثالث : الجملة التفسيرية الاسمية والندائية
الفصل الأول
الجملة التفسيرية التي لا محل لها من الإعراب
والمصدرة بأداة تفسير
تنوعت الجملة التفسرية التي بعد ( أَنْ ) المفسّرة من حيث تركيبها ، فكانت فعلية واسمية وندائية ، والملاحظ أن الجمل الفعلية كانت أكثر بكثير من قسيمتيها الاسمية والندائية في الاستعمال القرآني ، وقد قسّمنا هذا الفصل على مباحث ثلاثة هي :
المبحث الأول : الجملة التفسيرية الفعلية الماضية والمضارعة .
المبحث الثاني : الجملة التفسيرية الفعلية الأمرية .
المبحث الثالث : الجملة التفسيرية الاسمية والندائية .
وفيما يأتي بيان لكل مبحث مما سبق :
المبحث الأول
الجملة التفسيرية الفعلية الماضية والمضارعة
إن الجملة الفعلية هي الأوسع انتشاراً ـ كما أسلفنا ـ في الاستعمال القرآني ، إذ تشكلت الجملة فيه بحسب البنية الصرفية للفعل في العربية،فكانت على ثلاثة أقسام هي : المصدرة بفعلٍ ماضٍ ، أو مضارع ، أو أمر ، وسيتم تناول الجملة المصدرة بفعل ماضٍ أو مضارع فيما يأتي :
1 ـ الجملة التفسيرية الفعلية الماضية :
وهي الجملة المصدرة بفعلٍ ماضٍ ، وللماضي دلالات زمنية تختلف باختلاف السياقات التي يرد فيها ، فهو يدل على الماضي المطلق (1)
__________
(1) ينظر: معاني الماضي في القرآن الكريم ، للأستاذ حامد عبد القادر ، مجلة مجمع اللغة العربية ،
القاهرة ، ج 10 ، لسنة 1958 / 67 .(1/1)
باعتبار الوضع والأصالة (1) ، وينصرف إلى أزمنة أخرى باختلاف السياقات التي يرد فيها والقرائن التي ترافقه كان يدل على الحاضر أو الاستقبال أو الزمن العام (2) ويعرف الأخير أيضاً بالمضي الاستمراري أو التعودي (3) .
وقد ورد هذا النمط في موضعين في القرآن الكريم كما مبين في الجدول ذي الرقم ( 1 ) فيما يأتي :
الجدول ( 1 )
الجملة التفسيرية المصدرة بفعلٍ ماضٍ
ت ... الآية ... رقمها ... السورة ... مكان نزولها
1 ... { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ ... 44 ... الأعراف ... مكية
قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ
مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ }
2 ... { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ ... 8 ... النمل ... مكية
وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وسنقف عند الموضعين فيما يأتي :
الموضع الأول :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] .
__________
(1) ينظر : الزمن في القرآن الكريم / 82 ، والزمن في النحو العربي / 114 .
(2) ينظر : الزمن في القرآن الكريم / 82 .
(3) ينظر : الزمن في النحو العربي / 117 ، ومعاني الماضي في القرآن الكريم / 71 .(1/2)
إذ تتحدث الآية الكريمة عن مشهد من مشاهد يوم القيامة ، وما آل إليه مصير أهل الجنة وأهل النار ، نتيجة لما قدّموا في حياتهم الدنيا من إيمان أو كفر ، ومن خير أو شر (1) ، بشكل محاورة تكشف عن مصير كل فريق . ويلحظ أن الجملة المفسِّرة { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } قد صُدّرت بأداة التفسير( أَنْ ) وقد نصَّ على وظيفة الأداة هذه الأخفش الأوسط (2) ( ت 215 هـ ) ، وتابعه في ذلك من المحدثين ابن عاشور (3) ، في حين جوّز الزمخشري (4) ، والعكبري (5) ، وأبو حيان (6) ، كونها تفسيرية ، واحتملوا كونها مخففة من الثقيلة .
والذي يبدو للباحث أن السياق يرشح كونها تفسيرية ، إذ صُدّرت الآية بلفظ النداء الذي يحتاج إلى تفسير وبيان ،فضلاً عن توافر شروط ( أَنْ ) التفسيرية في هذه الأداة ، فهي مسبوقة بجملة محتوية على فعل فيه معنى القول من دون حروفه ، وهو الفعل
( نادى ) . هذا فضلاً عن أَنَّ ( أَنْ ) المخففة تسبق في العادة بفعل يدل على اليقين ، وهو غير موجود في الآية ، كما أن عدّها مخففة يتطلب تقدير محذوف وهو اسمها ، والأخذ بظاهر النص ـ كما هو معلوم ـ أولى من التقدير ، ما وجد إلى ذلك سبيلاً .
وقد أفادت الجملة الخبرية التفسيرية { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا } لازم المعنى وهو اغتباط أهل الجنة بفوزهم ، وتنغيص اعدائهم باعلامهم برفاهية حالهم ، وعليه فالمعنى الكنائي هو المقصود الأساس في الخطاب ، إذ ليس المقصود بأن يعلم أهل النار بما حصل لأهل الجنة ، ولكن القصد ما يلزم عن ذلك (7) .
__________
(1) ينظر : جامع البيان 8 / 220 ـ 221 ، والتفسير الكبير 14 / 69 .
(2) معاني القرآن 2 / 299 .
(3) التحرير والتنوير 8 / 136 .
(4) الكشاف 2 / 80 .
(5) التبيان 1 / 570 .
(6) البحر المحيط 5 / 56 .
(7) ينظر : التحرير والتنوير 8 / 136 .(1/3)
وقد صُدّرت جملة التفسير الماضية بالأداة ( قد ) بقصد تقوية المعنى وتوكيده (1) .
وقد عطفت جملة { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا } بالفاء على الجملة التفسيرية ، فهي لا محل لها من الإعراب أيضاً (2) ، وبهذا تكون الجملة التفسيرية قد امتدت بالعطف لتغطي مجمل دلالة النداء .
وقد ذكر في علّة ذكر مفعول الفعل ( وعد ) في الجملة الأولى وحذفه في الثانية عدة أوجه ، فقيل : للتخفيف (3) ، وقيل ذكر في الجملة الأولى لاستبشار أهل الجنة بحصول موعودهم (4) ، وقيل حذف المفعول في الثانية لإسقاط الكافر عن رتبة التشريف بالخطاب عن الوعد (5) .
وأمّا الموضع الثاني :
للجملة المفسرة الماضية فهو قوله - سبحانه وتعالى - : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ النمل : 8 ] . فقد وردت هذه الآية في سياق بيان الخطاب الإلهي الذي تلقاه سيدنا موسى - عليه السلام - في أثناء عودته بأهله من مَدْين إلى مصر (6) ، وقد صُدّرت الجملة المفسِّرة بالفعل الماضي المبني للمجهول ، لأن فاعل البركة معلوم ضرورة ، وقد سُبق الفعل بـ ( أَنْ ) " المفسِّرة ،لأن النداء فيه معنى القول ، والمعنى : قيل له : بورك " (7) .
__________
(1) ينظر : شرح الرضي على الكافية 4 / 444 .
(2) ينظر : الجدول 8 / 417 .
(3) ينظر : الكشاف 2 / 106 ، والتبيان 1 / 570 .
(4) ينظر : البحر المحيط 5 / 55 .
(5) ينظر : ارشاد العقل السليم 2 / 167 .
(6) ينظر : جامع البيان 19 / 152 .
(7) التفسير الكبير 24 / 182 ، وينظر : الكشاف 3 / 137 ، والتحرير والتنوير 19 / 226 .(1/4)
ومن الجدير بالذكر أنه قد عبّر عن المباركة بصيغة الماضي المبني للمجهول في قوله ( بورك ) مع أن السياق هو سياق الحال إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن زمن النداء الذي تلقاه سيدنا موسى - عليه السلام - هو نفس زمن مجيئه إلى الشجرة ، ولعل السبب في ذلك هو الإشارة إلى أن المباركة بما تضمنته من معانٍ أمر حاصل ومتحقق لا محالة (1) ، وعليه فالزمن النحوي لصيغة ( بورك ) هو الحضور بدليل السياق العام للآية .
واختلف في المراد من قوله - سبحانه وتعالى - : { بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } ، فقيل : إن ( بورك ) بمعنى ( تبارك ) ، و ( النار ) بمعنى ( النور ) ، والمعنى : تبارك من في النور ، وذلك هو الله - سبحانه وتعالى - (2) ، وقيل : مكان النار ومن حولها (3) ، وقيل : المراد الشجرة التي تتقد فيها النار (4) ، وقيل : المراد بـ ( من في النار ) هو موسى - عليه السلام - ، ( ومن حولها ) هم الملائكة ، وقد نعت الرازي هذا التوجيه بالقرب ، فقال : " وهذا أقرب ؛ لأن القريب من الشيء قد يقال : إنه فيه " (5) وهو ما يرجحه الباحث أيضاً .
ومما تجدر الإشارة إليه أنّ أبا حيان الأندلسي سعى إلى تأويل التوجيه الأول ؛ لما في ظاهره من الإيهام بنسبة البارئ - سبحانه وتعالى - علواً كبيراً إلى الجهة والمكان ، فقام بتقدير محذوف هو " بروك مَنْ قدرته وسلطانه في النار " (6) .
__________
(1) ينظر : الزمن في النحو العربي / 114 .
(2) ينظر : جامع البيان 19 / 153 ، والتفسير الكبير 24 / 182 .
(3) ينظر : الكشاف 3 / 137 .
(4) ينظر : البحر المحيط 8 / 212 .
(5) التفسير الكبير 24 / 182 .
(6) البحر المحيط 8 / 212 .(1/5)
ومما تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ جملة ( نودي ... ) لا محل لها من الإعراب لأنها جواب الشرط غير الجازم لـ ( لمّا ) (1) ، وأن جملة { بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } هي تفسير لجملة جواب الشرط السابق ، وأن الجملة التفسيرية هذه قد امتدت بالعطف لتشمل قوله - سبحانه وتعالى - : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ } [ النمل : 10 ] إذ أن جملة ( ألق عصاك ) معطوفة على جملة
{ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } ؛ " لأن المعنى نودي أن بورك من في النار وأن ألقِ عصاك ، كلاهما تفسير لنودي " (2) .
2 ـ الجملة التفسيرية الفعلية المضارعة :
وهي الجملة التفسيرية التي تتصدرها أداة التفسير متلوة بفعل مضارع حسب بنيته الصرفية ، وصيغته على وزن ( يفعل ) وقد أشار النحاة إلى أن هذه الصيغة " لا يعرف وقتها ما كان منه للحال وما يكون في الإستقبال " (3) ، وبعبارة أخرى : إن الدلالة الزمنية فيها لاتستفاد من نفس الصيغة بل من خلال السياق بما يحمله من قرائن وأدوات ترشحها للدلالة على أحد الأزمنة ، وقد تلخصت أراء النحاة في ذلك بما يأتي :
ـ تترجح دلالتها على الحال إذا تجردت من الأدوات (4) .
ـ تتعين دلالتها على الحال إذا اقترنت بكلمة ( الآن ) وما في معناها (5) .
ـ تنصرف دلالتها إلى الماضي أو الاستقبال إذا سبقتها أو لحقتها إحدى الأدوات (6) ،
__________
(1) الجدول 19 / 141 .
(2) التفسير الكبير 24 / 183 .
(3) المقتضب 4 / 81 .
(4) ينظر : الأصول ، لابن السراج 1 / 4 ، والتسهيل / 5 ، والزمن في النحو العربي / 186 .
(5) ينظر : الزمن في النحو العربي / 201 ، والزمن في القرآن الكريم / 102 .
(6) ينظر : الصاحبي ، لابن فارس / 164 ـ 165 ، ورصف المباني / 280 ـ 281 ، والجنى الداني /
267 ـ 268 .(1/6)
قال ابن مالك : " والأمر مستقبل أبداً والمضارع صالح له وللحال ولو نفي بـ (لا)
خلافاً لمن خصها بالمستقبل ويترجح الحال مع التجريد ويتعين عند الأكثر بمصاحبة
( الآن ) وما في معناه وبـ ( لام ) الإبتداء أو نفيه بـ ( ليس ) و( ما ) و ( أن ) ،
ويتخلص للاستقبال بظرف مستقبل وبإسناد إلى متوقع وبإقتضائه طلباً أو وعداً
وبمصاحبة ناصب أو أداة ترج أو اشفاق أو مجازاة أو ( لو ) المصدرية أو نون
توكيد أو حرف تنفيس ... وينصرف إلى المضي بـ ( لم ) و ( لما ) الجازمة و
( لو ) الشرطية غالباً و ( إذ ) و ( ربما ) و ( قد ) في بعض المواضع " (1) .
ومن الجدير بالذكر أن هذا النمط من الجمل قد سبق في جميع مواضعه الواردة في القرآن الكريم بأداة النهي الجازمة ( لا ) التي صرفت دلالته من الحاضر إلى ما يستقبل من الزمن .
ومما ينبغي ملاحظته أن أداة التفسير فيها قد تدغم بأداة النهي مما جعل أصحاب معاني الحروف ينبهون على ذلك خشية التباسها بـ ( ألا ) غير المركبة (2) . وهذا النمط كان أوسع استعمالاً من النمط السابق المصُدّر بالفعل الماضي بعد أداة التفسير ، وكانت أغلب المواضع واقعة في القسم المكي من القرآن الكريم .
والجدول ذو الرقم ( 2 ) يوضح مواضع الجملة التفسيرية المضارعة في القرآن الكريم .
الجدول ( 2 )
الجملة التفسيرية المصدرة بفعل مضارع
ت ... الآية ... رقمها ... السورة ... مكان نزولها
__________
(1) تسهيل الفوائد / 4 ـ 5 .
(2) الجنى الداني / 221 ، ومغني اللبيب 1 / 74 .(1/7)
1 ... { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ... 151 ـ 153 ... الأنعام ... مكيّة
2 ... { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } ... 169 ... الأعراف ... مكية
3 ... { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعُمْ مَّتَاعاً حَسَنَاُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُوْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَغِنْ تَوَلَّواْ فَغِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبيرٍ } ... 1 ـ 3 ... هود ... مكيّة
4 ... { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } ... 25 ـ 26 ... هود ... مكيّة(1/8)
5 ... { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا } ... 2 ... الإسراء ... مكيّة
6 ... { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ... 23 ... الإسراء ... مكيّة
7 ... { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } ... 24 ... مريم ... مكيّة
8 ... { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } ... 26 ... الحج ... مدنية
9 ... { قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ... 29 ـ 31 ... النمل ... مكيّة
10 ... { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - وَأَنِ اعْبُدُوني هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } ... 60 ـ 61 ... يس ... مكيّة
11 ... { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ - إِذْ جَاءَتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } ... 13 ـ 14 ... فصلت ... مكيّة
12 ... { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } ... 30 ... فصلت ... مكيّة
13 ... { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ - أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } ... 17 ـ 19 ... الدخان ... مكيّة(1/9)
14 ... { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ... 21 ... الأحقاف ... مكيّة
15 ... { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ - ... 7 ـ 8 ... الرحمن ... مدنيّة
أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ }
16 ... { فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ - أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } ... 23 ـ 24 ... القلم ... مكيّة
وسننتخب أربعة مواضع للدراسة ، وهي :
الموضع الأول :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
[ الأنعام : 151 ـ 153 ] .(1/10)
إذ وردت هذه الآيات في بيان ما حرّمه الله - جل جلاله - وهي تمثل ردّاً على الكفار الذين يحلون ويحرمون بحسب أهوائهم (1) ، وفيها تنبيه على أن التحريم والتحليل لا يكون إلاّ بوحي من الله (2) ، وقد تضمنت تسعة أنواع من التكاليف : خمسة منها ظاهرة جلية لا حاجة فيها إلى الاجتهاد (3) وهي الإشراك بالله ، وبر الوالدين ، وقتل الأولاد ، واجتناب الفواحش وقتل النفس ، وأربعة تمثل أموراً تحتاج إلى التفكر والتأمل والاجتهاد (4) ، تمثلت بأكل مال اليتيم والإيفاء بالكيل والميزان والعدل في القول والوفاء بعهد الله ، وقد رويت عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - أقول في فضائل هذه الآيات وأهميتها ، فعن أبن مسعود - رضي الله عنه - قال : " من سرَّه أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - فليقرأ هؤلاء الآيات { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } " (5) ،وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أقوال: " هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة " (6) .
و ( أَنْ ) في قوله { أَنَّ لا تُشْرِكُوا } مفسرة لفعل التلاوة لأن التلاوة بمعنى القول ، وقد قال بذلك الزمخشري (7) ، والرازي (8) ( ت 604 هـ ) ، والنسفي (9)
__________
(1) ينظر : جامع البيان 8 / 98 ، والتفسير الكبير 13 / 189 .
(2) ينظر : جامع البيان 8 / 98 .
(3) ينظر : التفسير الكبير 13 / 192 .
(4) م . ن .
(5) الدر المنثور 3 / 381 .
(6) البحر المحيط 4 / 685 .
(7) الكشاف 2 / 61 .
(8) التفسير الكبير 13 / 190 .
(9) مدارك التنزيل 1 / 515 .(1/11)
( ت 710 هـ ) ، والنيسابوري (1) ( ت 728 هـ ) ، وأبو حيان (2) ، والبيضاوي (3) ، وأبو السعود (4) ، والشوكاني (5) .
ومما تجدر الاشارة إليه أن ( لا ) الناهية الداخلة على صيغة المضارع في قوله
( لا تشركوا ) قد أثرت فيها من جانبين : تمثل ( الأول ) بالجزم الذي أحدثته في شكل الصيغة ، وتمثل ( الثاني ) في الدلالة الزمنية للصيغة إذ صرفت دلالتها من الحال إلى زمن الاستقبال ، قال المالقي : " و ( لا ) هذه تخلص الفعل المضارع للإستقبال لأنها نقيضة لـ ( تفعل ) المخلصة للحال " (6) .
ويلحظ أن ما بعد { أَنَّ لا تُشْرِكُوا } جمل معطوفة عليها تضمنت نواهي هي
__________
(1) تفسير غرائب القرآن 3 / 187 .
(2) البحر المحيط 4 / 685 .
(3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 2 / 464 .
(4) ارشاد العقل السليم 2 / 458 .
(5) فتح القدير 2/ 247 .
(6) رصف المباني / 268 .(1/12)
( لا تقتلوا ، لا تقربوا ، ... الخ ) وأوامر هي ( وبالوالدين إحساناً ، أي : احسنوا ، وأوفوا ، وأعدلوا ... الخ ) وفي هذا العطف اشكال من حيث الدلالة إذ يقتضي أن تكون هذه الأوامر مفسرة أيضاً لفعل التلاوة وهو متعلق { بمَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } وعليه يكون الإحسان إلى الوالدين والإيفاء بالكيل والوفاء بعهد الله من جملة المحرم (1) ، ولذا فقد وُجّه هذا الإشكال بتوجيهين : أحدهما للزمخشري إذ قال : " لمّا وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، عُلِمَ أن التحريم راجع إلى اضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله " (2) ، وقد وافقه في ذلك البيضاوي (3) ،وأبو السعود إذ قال الأخير مؤيداً : " وليس من ضرورة كون المعطوف عليه تفسيراً لتلاوة المحرمات بحسب منطوقه ، كون المعطوفات أيضاً كذلك ، حتى يمتنع انتظام الأوامر في سلك العطف عليه ، بل يكفي في ذلك كونها تفسيراً لها باعتبار لوازمها التي هي النواهي المتعلقة بأضداد ما تعلقت هي به فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده ، بل هو عينه عند البعض ، كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها فإن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد ( أن ) المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور لا يكون محرماً دليل واضح على أن التحريم راجع إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل : أتل ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أخرج مُخرج الأمر بالإحسان إليهما بين النهيين المكتنفين له للمبالغة في إيجاب مراعاة حقوقهما ، ولذلك عقّب به النهي عن الاشراك الذي هو اعظم المحرمات وأكبر الكبائر " (4) .
__________
(1) ينظر : الكشاف 2 / 61 ، والبحر المحيط 4 / 685 .
(2) الكشاف 2 / 61 .
(3) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 2 / 465 .
(4) ارشاد العقل السليم 2 / 458 ـ 459 .(1/13)
وأمّا التوجيه الآخر فهو لأبي حيّان إذ قال إن : " الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت ( أن ) التفسيرية ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون ( أَنْ ) مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دلّ عليه حذفه ،والتقدير ( وما أمركم به ) فحذف ( وما أمركم به ) لدلالة ( ما حرم ) عليه ؛ لأن معنى ما حرّم ربكم عليكم : ما نهاكم ربكم عنه ، فالمعنى : قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وإذا كان التقدير هذا ، صح أن تكون ( أن ) تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم ، وفعل الأمر المحذوف ، ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلاً واكرم عالماً ، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر ، كما قال امرؤ القيس :
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم يقولون لا تهلك أسىً وتحمل " (1)
وقد وافقه في ذلك ابن كثير (2) ( ت 774 هـ ) واستحسن هذا التخريج الآلوسي (3) .
__________
(1) البحر المحيط 4 / 685 ـ 686 ، وينظر : ديوان امرئ القيس / 9 .
(2) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 3 / 120 .
(3) روح المعاني 8 / 59 .(1/14)
ويلحظ أن الآية الأولى ختمت بقوله - سبحانه وتعالى - : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } والآية الثانية بقوله - سبحانه وتعالى - : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } والآية الثالثة بقوله - سبحانه وتعالى - : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ، ولعل السبب في ذلك أن التكاليف المذكورة في الآية الأولى أمور ظاهرة جلية يدرك العقل ابتداءً قبحها ، ولذلك اتبعت بترجي التعقل ، لأن السلامة منها لا تكون مع وضوح أمرها إلاّ بتوفيق الله تعالى (1) ، في حين أن التكاليف الأخرى خفية وغامضة لابد فيها من الاجتهاد والفكر حتى يقف المرء على موضع الاعتدال فيها (2) ، إذ هي مما تؤثر فيه الشهوات والأهواء وذلك مما يُعْمي وَيُصِمْ ، ولذا أُتبع برجاء التذكر لأن من تذكر أبصر فعقل فامتنع (3) ، ولمّا كانت هذه التكاليف مما اتفقت عليه الشرائع ولم تنسخ في ملة من الملل وأن من أخذ بها كان سالكاً الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت عَقّب بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } إذ أن الأمر فيه عام لكافة الخلق .
ثم قال - سبحانه وتعالى - : { وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } واتبعه بقوله : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وقد ترتب حاصلاً من مضمن الآيات الثلاث أنه من عقل وتذكر إتقى والمتقون هم المفلحون (4) .
الموضع الثاني :
__________
(1) ينظر : درة التنزيل / 137 ـ 138 ، والتفسير الكبير 13 /193 ، وملاك التأويل 1 /480 ـ 481 .
(2) ينظر : التفسير الكبير 13 / 193 .
(3) ينظر : ملاك التأويل 1 / 480 .
(4) ينظر : التفسير الكبير 14 / 4 ، وملاك التأويل 1 / 481 .(1/15)
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ - أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [ هود : 1 ـ 3 ] .
فقد وردت هذه الآيات في افتتاح سورة قرآنية وهي تشير إلى تعظيم النص القرآني وتمجيده وفيها إيماء إلى التحدي بالمعارضة بما أشارت إليه الحروف المقطعة المفتتحة بها السورة (1) .
واختلف في ( أَنْ ) في قوله ( ألاّ تعبدوا ) إذ ذهب الفرّاء إلى أنها مصدرية ومحلها النصب بنزع الخافض (2) ، وذهب الزمخشري إلى أنها تفسيرية لما في
التفصيل من معنى القول (3) ، وقد اختار هذا الرأي الرازي (4) ، ومحمد بن أحمد
الكلبي (5) ( ت 741 هـ ) ، وأبو حيان (6) ، ومن المحدثين ابن عاشور (7) .
في حين أجاز العكبري وجهاً ثالثاُ هو أن تكون مخففة من الثقيلة (8) .
والذي يميل إليه البحث ويطمئن إليه هو الوجه الثاني القاضي بالتفسير وذلك لوقوعها بعد جملة تامة متضمنة القول معنىً، ولأنه قد عطف عليها أمر هو قوله - سبحانه وتعالى - :
{ أَنِ اسْتَغْفِرُوا } وهو ما يمنع حملها على المصدرية،لأن الأمر لا يكون صلة لها ، كما ان عدها تفسيرية وجه لا يحوج إلى إضمار والإضمار خلاف الأولى (9) .
__________
(1) ينظر : التحرير والتنوير 11 / 312 .
(2) معاني القرآن 2 / 3 .
(3) الكشاف 2 / 258 .
(4) التفسير الكبير 17 / 144 .
(5) التسهيل لعلوم التنزيل 2 / 188 .
(6) البحر المحيط 6 / 120 .
(7) التحرير والتنوير 11 / 315 .
(8) التبيان 2 / 688 .
(9) ينظر : التفسير الكبير 17 / 144 ، والبحر المحيط 6 / 15 ، وحاشية الجمل 2 / 379 .(1/16)
واختلف في مضمون قوله - سبحانه وتعالى - : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } إذ روى الطبري أنها : " احكمت بالأمر والنهي وفصّلت بالثواب والعقاب " (1) ، وقال الرازي إنها " نظمت نظماً رصيفاً محكماً لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم المرصف " (2) ، وذكر ابن عاشور أن التفصيل في الآية هو التوضيح والبيان ، وهو مشتق من الفصل بمعنى التفريق بين الشيء وغيره بما يميزه فصار كنايةً مشهورة عن البيان لما فيه من فصل المعاني (3) .
ويلحظ التقابل الدلالي في قوله - سبحانه وتعالى - : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } مع قوله - سبحانه وتعالى - : { حَكِيمٍ خَبِيرٍ } إذ جاءت هاتان الصفتان متناسبتين تماماً مع الفعلين السابقين لهما ، فالحكيم هو من أحكم الآيات بحكمته ، والخبير هو من فصّلها على أكمل وجه بدقائق معرفته (4) .
ويلحظ أيضاً أنَّ حرف العطف ( ثم ) في قوله ( ثم فصلت ) لم يفد التراخي الزمني بل التراخي الحالي ، وهذا يعني أنها جاءت لترتيب الأخبار لا لترتيب الأحداث زمنياً (5) وهذا ما يدل على أن الإحكام والتفصيل قد حدثا في زمن واحد لا في أزمان مختلفة ،
__________
(1) جامع البيان 11 / 206 .
(2) التفسير الكبير 17 / 142.
(3) ينظر : التحرير والتنوير 11 / 315 .
(4) ينظر : التحرير وزالتنوير 11 / 315 .
(5) ينظر : التفسير الكبير 17 / 143 .(1/17)
وذهب ابن عاشور إلى أنها أفادت التراخي في الرتبة (1) إذ قدّم الإحكام لأهميته ، وجاء قوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } اعتراضاً واقعاً بين متعاطفين أفاد التحذير من مخالفة النهي ،والتحريض على إمتثاله (2) ، وجاءت جملة ( وأن استغفروا ) معطوفة على جملة ( لا تعبدوا ) وهي تفسير ثانٍ يرجع إلى ما في الجملة الأولى من لفظ التفصيل وهي تمثل ابتداء التفصيل لأنه بيان وإرشاد لوسائل نبذ عبادة ما عدا الله (3) .
ويلحظ أن ( ثم ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { اسْتَغْفِرُوا اللَّهِ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } تفيد الترتيب، قال ابن عطية : " و( ثم ) مرتبة لأنّ الكافر أول ما ينيب فأنّه في طلب مغفرة ربه فإذا تاب وتجرد من الكفر تمَّ إيمانه " (4) .
وقال الزمخشري " فإن قلت : ما معنى ( ثم ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } قلت : معناه استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة أو استغفروا والإستغفار توبة، ثم أخلصوا التوبة واستقيموا عليها " (5) .
وقد تقدم في السياق أمران بينهما تراخٍ هما الإستغفار والتوبة ، ورُتِبَ عليهما جوابان بينهما تراخٍ أيضاً إذ ترتب على الإستغفار التمتع في الدنيا وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة ،وقد ناسب كل جواب لما وقع جواباً له لأن الإستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله ، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا ، والتوبة هي المنجية من النار وهي التي تُدْخِل الجنة فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة (6) .
الموضع الثالث :
__________
(1) ينظر : التحرير والتنوير 11 / 315 .
(2) م . ن 11 / 316 .
(3) م . ن 11 / 317 .
(4) المحرر الوجيز / 930 .
(5) الكشاف 2 / 258 .
(6) ينظر : البحر المحيط 6 / 121 .(1/18)
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا - فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا }
[ مريم : 23 ـ 24 ] .
عرضت هاتان الآيتان قصة السيدة مريم العذراء وإنجابها وليداً من غير أب هو السيد المسيح - عليه السلام - ، وقد شاءت الحكمة الإلهية هذا الأمر لتكون آثار تلك المعجزة ماثلة أمام الأذهان لتدلل في كل زمان على بديع صنع الخالق (1) .
و ( أنْ ) في قوله ( ألاّ تحزني ) تفسيرية لما في النداء من معنى القول ، وقد اختار هذا الرأي القرطبي (2) ( ت 671 هـ ) ، للنسفي (3) ( ت 710 هـ ) ، وأبو حيان (4) ، والبروسوي (5) ( ت 1375 هـ ) ، والشنقيطي (6) ( ت 393 هـ ) ، وابن عاشور (7) .
__________
(1) ينظر : صفوة التفاسير 2 / 182 .
(2) الجامع لأحكام القرآن 11 / 64 .
(3) مدارك التنزيل 2 / 324 .
(4) البحر المحيط 7 / 253 .
(5) تنوير الأذهان 2 / 411 .
(6) أضواء البيان 4 / 246 .
(7) التحرير والتنوير 16 / 86 .(1/19)
في حين ذهب العكبري (1) ، والبيضاوي (2) ، وأبو السعود (3) ، والشوكاني (4) ، والآلوسي (5) ،إلى أنها قد تحتمل المصدرية أيضاً. والفاء في قوله ( فأجاءها المخاض ) للتعقيب العرفي:أي جاء المخاض بعد تمام مدة الحمل (6) ،وفيه مجاز إذ الأصل جاءها ، ثم عدي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى ( الألجاء ) (7) ،أي : الجأها المخاض إلى جذع النخلة ، قال الفرّاء : " فأجاءها ... من جئت كما تقول : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، فلمّا ألقيت الباء جعلت في الفعل ألفاً " (8) .
ويلحظ أن جملة ( قالت ... ) استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس ، وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها ، وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلاء والإختبار (9) .
واختلف في المنادي الذي ناداها في قوله - سبحانه وتعالى - : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } المعبر عنه في إحدى القراءتين (10)
__________
(1) التبيان 2 / 871 .
(2) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 4 / 11 .
(3) ارشاد العقل السليم 4 / 237 .
(4) فتح القدير 3 / 453 ـ 454 .
(5) روح المعاني 16 / 83 .
(6) ينظر : التحرير والتنوير 16 / 85 .
(7) ينظر : مجاز القرآن 2 / 3 ، والتبيان 2 / 870 .
(8) معاني القرآن 2 / 164 .
(9) ينظر : التحرير والتنوير 16 / 85 .
(10) ينظر : معاني القرآن للفراء 2 / 165 ، والسبعة فقي القراءات / 408 ـ 409 ، واعراب القرآن
للنحاس 2 / 309 ، إذ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكسر : ( مَنْ )
بفتح الميم . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم ( مِنْ ) بكسر الميم .(1/20)
بالضمير المستتر وفي الثانية بالأسم الموصول بناءً على عد ( من ) حرف جر في الأولى واسماً موصولاً في الثانية (1) . إذ ذهب ابن عباس وعمر ابن ميمون الأودي والضحاك وقتادة والسدي إلى أنَّ المنادي هو جبريل - عليه السلام - وأصحاب هذا القول يرون أنّ سيدنا عيسى - عليه السلام - لم يتكلم قط حتى أتت مريم - عليه السلام - به قومها (2) ، وذهب أُبَيْ ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير إلى أنَّ المنادي هو سيدنا عيسى - عليه السلام - (3) ، وممن اختار هذا الرأي من المفسرين الطبري (4) ، وأبو حيان (5) ، والشنقيطي ، إذ قال الأخير : " أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى وتدل على ذلك قرينتان ، الأولى : أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلاّ بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ، لأن الله قال : ( فحملته ) يعني عيسى ( فانتبذت به ) أيّ بعيسى،ثم قال بعده ( فناداها ) فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى ، والقرينة الثانية : أنها لمّا جاءت به قومها تحمله وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه ، كما قال - سبحانه وتعالى - عنها : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّم ُمَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } [ مريم : 29 ] وإشارتها إليه ليكلموه قرينةً على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته " (6) .
الموضع الرابع :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ - أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [ القلم : 23 ـ 24 ] .
__________
(1) ينظر : أضواء البيان 4 / 245 .
(2) ينظر : جامع البيان 16 / 80 ـ 81 .
(3) م . ن .
(4) م . ن : 16 / 82 .
(5) البحر المحيط 7 / 253 .
(6) أضواء البيان 4 / 246 .(1/21)
عرضت هاتان الآيتان جانباً من قصة نفرٍ ورثوا عن أبيهم جنة كان يطعم منها المساكين والفقراء بعد أن يدّخر قوته ، فلمّا وافاه الأجل أقسم أولاده فيما بينهم حرمان المساكين من خيرها طمعاً منهم ، فغدوا إليها مبكرين لصرم ثمارها ، وعند وصولهم وجدوها محروقة ومدمرة ، فعلموا أن الله - سبحانه وتعالى - قد عجّل لهم العقوبة بحرمانهم من ثمرها نتيجة لسوء نيتهم (1) .
و ( أن ) في قوله ( أن لا يدخلنها ) مفسرة لما في التخافت من معنى القول ، وقد قال بهذا الرأي الفرّاء (2) ، والزمخشري (3) ، والرازي (4) ، والنسفي (5) ، ومحمد بن أحمد الكلبي (6) ، وابن كثير (7) ، والبيضاوي (8) ، وأبو السعود (9) ، والشوكاني (10) ، ومن المحدثين ابن عاشور (11) ، ومحمود الصافي (12) ( ت 1406 هـ ) ، في حين ذهب
أبو حيان (13) ، والآلوسي (14) إلى أنها تحتمل أن تكون مصدرية أيضاً .
والذي يبدو للباحث أن التفسير أرجح لأنها فسّرت فحوى ومضمومه التخافت الذي هو عبارة عن التساور والتشارر فيما بينهم بعدم السماح للمساكين في الدخول إلى جنتهم قال ابن فارس : " الخاء والفاء والتاء أصل واحد وهو أسرار وكتمان . فالخفت :
أسرار النطق ... قال الشاعر :
أُخاطِبْ جَهْراً إذْ لًهُنَّ تَخافُتٌ وَشَتَّانَ بَيْنَ الجَهْرِ والمنَطْقِ الخًفْتِ " (15)
__________
(1) ينظر : الدر المنثور 8 / 250 ـ 251 .
(2) معاني القرآن 3 / 175 ـ 176 .
(3) الكشاف 4 / 144 .
(4) التفسير الكبير 30 / 79 .
(5) مدارك التنزيل 3 / 569 .
(6) التسهيل لعلوم التنزيل 4 / 259 .
(7) تفسير ابن كثير 4 / 407 .
(8) أنوار التنزيل 5 / 372 .
(9) ارشاد العقل السليم 6 / 287 .
(10) فتح القدير 5 / 361 .
(11) التحرير والتنوير 29 / 83 .
(12) الجدول 29 / 41 .
(13) البحر المحيط 10 / 242 .
(14) روح المعاني 29 / 31 .
(15) معجم مقاييس اللغة 2 / 202 ـ 203 مادة ( خفت ) .(1/22)
ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود - رضي الله عنه - { لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } بدون
( أن ) (1) ، ولو كانت مصدرية لما جاز حذفها من السياق،كما أنَّ حملها على المصدرية وجه يحوج إلى تقدير محذوف هو حرف الجر والتقدير خلاف الأولى .
ويلحظ أن قوله ( وهم يتخافتون ) جملة حالية بيّنت حالهم في انطلاقهم لا حال الإنطلاق (2) .
ومن الجدير بالإشارة إليه أن صيغة المضارع المسبوقة بـ ( لا ) الناهية في قوله ( لا يدخلنها ) قد دلّت على زمن المستقبل القريب من زمن الحاضر (3) بقرينة لفظية تضمنها السياق هي قوله ( اليوم ) وقد أكد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه من عدم تمكين الفقراء من دخول الجنة (4) ، واسند فعل النهي إلى المسكين والمخاطب غيره قصد المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول (5) . وجملة
( أن لا يدخلنها ) جملة مفسرة محلها الرفع لأنها فسرت جملة واقعة خبراً هي جملة
( يتخافتون ) وهو ما يدعم بدوره ما ذهب إليه غير واحد من العلماء من أنّ الجملة المفسرة بحسب ما تفسره .
المبحث الثاني
الجملة التفسيرية الفعلية الأمرية
__________
(1) معاني القرآن ، للفرّاء 3 / 175 ، واعراب القرآن للنحاس 3 / 487 ، والكشاف 4 / 144 ، وينظر :
قراءة عبد الله بن مسعود ( رسالة ماجستير ) ، عبد الله حسن / 304 .
(2) ينظر : الجدول 29 / 41 .
(3) ينظر : رصف المباني / 268 ، ومعاني المضارع في القرآن الكريم ، للأستاذ حامد عبد القادر ، مجلة
مجمع اللغة العربية ، ج 13 ، لسنة 1961 ، القاهرة / 151 .
(4) ينظر : التحرير والتنوير 29 / 83 .
(5) ينظر : ارشاد العقل السليم 6 / 287 .(1/23)
وهي الجملة المتصدرة بفعل أمر وصيغتها ( إفعل ) وهي لا تختلف من حيث الدلالة الزمنية عن الصيغ الأخرى ، إذ شأنها شأن قسيمتيها ( فَعَلَ ، ويَفْعَل ) من حيث دلالتهما على أزمنة نسبية وأحداث اعتبارية (1) ، وسنرى من خلال طائفة من النماذج القرآنية انّ هذه الصيغة تختلف دلالتها الزمنية باختلاف السياقات التي ترد فيها والقرائن التي ترافقها ، فهي قد تدل على الماضي أو الحاضر أو المستقبل أو الزمن العام ، وقد ورد هذا النمط في واحدٍ وأربعين موضعاً في القرآن الكريم ، وكانت أغلب مواضعه واقعة في القسم المكي أيضاً ، كما مبين في الجدول ذي الرقم ( 3 ) .
الجدول ( 3 )
الجملة التفسيرية الفعلية الأمرية
ت ... الآية ... رقمها ... السورة ... مكان نزولها
1 ... { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } ... 125 ... البقرة ... مدنية
2 ... { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } ... 193 ... آل عمران ... مدنية
3 ... { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ } ... 66 ... النساء ... مدنية
4 ... { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } ... 131 ... النساء ... مدنية
__________
(1) ينظر : الزمن في القرآن الكريم / 78 ، وقواعد النحو العربي / 73 ـ 74 .(1/24)
5 ... { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ - وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } ... 48 ـ 49 ... المائدة ... مدنية
6 ... { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } ... 111 ... المائدة ... مدنية
7 ... { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } ... 117 ... المائدة ... مدنية
8 ... { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ... 50 ... الأعراف ... مكية
9 ... { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ... 117 ... الأعراف ... مكية(1/25)
10 ... { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ... 160 ... الأعراف ... مكية
11 ... { وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } ... 86 ... التوبة ... مدنية
12 ... { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } ... 2 ... يونس ... مكية
13 ... { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ... 87 ... يونس ... مكية
14 ... { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ... 104 ـ 105 ... يونس ... مكية
15 ... { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } ... 5 ... ابراهيم ... مكية
16 ... { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِي } ... 2 ... النحل ... مكية(1/26)
17 ... { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ... 36 ... النحل ... مكية
18 ... { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ... 68 ... النحل ... مكية
19 ... { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ... 123 ... النحل ... مكية
20 ... { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } ... 11 ... مريم ... مكية
21 ... { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى - إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى - أَنِاقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ... 38 ـ 39 ... طه ... مكية
22 ... { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى } ... 77 ... طه ... مكية
23 ... { فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ } ... 27 ... المؤمنون ... مكية
24 ... { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ } ... 32 ... المؤمنون ... مكية(1/27)
25 ... { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ... 10 ... الشعراء ... مكية
26 ... { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ... 16 ـ 17 ... الشعراء ... مكية
27 ... { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ } ... 52 ... الشعراء ... مكية
28 ... { فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } ... 63 ... الشعراء ... مكية
29 ... { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } ... 45 ... النمل ... مكية
30 ... { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنِ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ } ... 7 ... القصص ... مكية
31 ... { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَأَنِ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ } ... 30 ـ 31 ... القصص ... مكية
32 ... { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } ... 12 ... لقمان ... مكية
33 ... { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } ... 14 ... لقمان ... مكية(1/28)
34 ... { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ... 11 ... سبأ ... مكية
35 ... { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ - وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } ... 60 ـ 61 ... يس ... مكية
36 ... { وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ... 6 ... ص ... مكية
37 ... { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } ... 13 ... الشورى ... مكية
38 ... { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ - أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين } ... 17 ـ 18 ... الدخان ... مكية
39 ... { فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ - أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ } ... 21 ـ 22 ... القلم ... مكية
40 ... { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي } ... 1 ـ 3 ... نوح ... مكية
وسنقف عند خمسة مواضع للدراسة والتحليل :
الموضع الأول :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } [ البقرة : 125 ] .(1/29)
إذ عرضت هذه الآية أحد التكاليف الإلهية التي كلّف بها سيدنا ابراهيم وولده اسماعيل ( عليهما السلام ) وتمثل بتطهير البيت الحرام مما لا يليق به من أوثان وأنجاس (1) وغيرهما ، مما يدخل حكما تحت دلالة التطهير بما تحمله هذه اللفظة من مدلول حسي ومعنوي .
و ( أنْ ) في قوله ( أن طهرا ) تفسيرية ، لأن العهد أصله الوعد المؤكد ، فلّما عدي بـ ( إلى ) اصبح بمعنى الوصية وهي بمعنى القول (2) ، وقد قال بهذا الرأي أبو حيان (3) ، وابن كثير (4) ، والبيضاوي (5) ، ومن المحدثين ابن عاشور (6) ، ومحمود الصافي (7) . في حين ذهب الزمخشري (8) ، والقرطبي (9) ، والنسفي (10) ، وابو السعود (11) ، والشوكاني (12) ، والآلوسي (13) إلى أنها تحتمل أن تكون تفسيرية لما ذكرنا وتحتمل أن تكون مصدرية .
والذي يرجحه الباحث في هذا النمط وماشاكله أن تعد تفسيرية لامصدرية بناءً على ما ذهب إليه ابو حيان من أن ( أَن) المصدرية لا توصل بفعل الأمر وأنّ كل ما سمع من ذلك فـ ( أَن ) فيه مفسرة ، وقد احتج لذلك بدليلين : الأول : إذا أنهما قدرا بالمصدر فات معنى الأمر لأن المصدر مجرد عن الزمان . والثاني : أنهما لم يقعا في الكلام فاعلاً أو مفعولاً إذ لا يصح ( أعجبني أن قم ، ولا كرهت أن قم ) كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع (14) .
__________
(1) ينظر الكشاف 1 / 301 ، والبحر المحيط 1 / 611 .
(2) ينظر : التحرير والتنوير 1 / 711 .
(3) البحر المحيط 1 / 610 .
(4) تفسير ابن كثير 1 / 173 .
(5) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 1 / 399 .
(6) التحرير والتنوير 1 / 711 .
(7) الجدول 1 / 258 .
(8) الكشاف 1 / 310 .
(9) الجامع لأحكام القرآن 2 / 78 .
(10) مدارك التنزيل 1 / 87 .
(11) ارشاد العقل السليم 1 / 195 .
(12) فتح القدير 1 / 272 .
(13) روح المعاني 1 / 380 .
(14) ينظر : البحر المحيط 1 / 610 ، ومغني اللبيب 1 / 29 .(1/30)
واختلف في معنى قوله ( طهرا ) إذ فسّره السدي بالبناء والتأسيس على طهارة (1) ، وفسّره مجاهد ومقاتل بإزالة الأوثان ، وذكرا أن البيت الحرام كان عامراً على عهد سيدنا نوح - عليه السلام - وكانت فيه أصنام على أشكال صالحيهم عبدوها من دون الله فأمر الله - سبحانه وتعالى - نبيه ابراهيم وابنه ( عليهما السلام ) بتطهيره منها (2) .
والذي يبدو للباحث أن علة إطلاق دلالة التطهير في الآية وعدم حصره بمدلول معين هو التوسع في معناه ليشمل المعنيين السابقين ومعانٍ أخرى أشار اليها الزمخشري (3) ، وابن عاشور (4) ، تمثلت بطواف الجنب والحائض والأعمال الأخرى المنافية للمروءة ، ومما ينبغي التنبيه عليه أن صيغة الأمر المتمثلة بقوله ( طهرا ) تختلف دلالتها الزمنية بناءً على اختلاف المفسرين في معنى التطهير ، فهي تدل على المستقبل القريب (5) إذا ما حمل معنى التطهير على البناء والتأسيس ، وتدل على الحدث المستمر (6) ، إذا ما حمل التطهير على معنى إزالة الأوثان والأنجاس والقاذورات من البيت الحرام .
__________
(1) ينظر : جامع البيان 1 / 622 ، والجامع لأحكام القرآن 2 / 78 .
(2) ينظر : البحر المحيط 1 / 611 .
(3) الكشاف 1 / 310 .
(4) التحرير والتنوير 1 / 712 .
(5) ينظر : الزمن في القرآن الكريم / 130 .
(6) م . ن / 132 .(1/31)
ويلحظ مجيء الطائف والعاكف بصيغة جمع السلامة والراكع والساجد بصيغة جمع التكسير ، وما ذاك إلاّ ضرب من التفنن في الكلام وبعدٌ عن تكرير الصيغ (1) ، كما أن جمع السلامة أقرب إلى لفظ الفعل من جمع التكسير (2) ، فهو بمنزلة يطوفون أي : يجددون الطواف ، ولعل في ذلك اشعاراً بعلة تطهير البيت الحرام (3) ، إذ أن الطواف والعكوف متعلقان بالبيت الحرام أداءاً بخلاف الركوع والسجود ، إذ لا يلزم ادائهما بالبيت الحرام ، ولذا لم يجمعا جمع سلامة .
الموضع الثاني :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ } [الأعراف :160].
فقد عرضت هذه الآية جانباً من حال بني اسرائيل في تيههم (4) ، وبيّنت إحدى معجزات سيدنا موسى - عليه السلام - تمثلت بخروج الماء من الحجر إثر ضربه له (5) .
و ( أن ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنِاضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ } مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول ، قال ابن فارس : " الوحي : الكتاب والرسالة وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى عَلِمه فهو وحي " (6) ، وقد قال بذلك العكبري (7) ، وأبو السعود (8) ، والشوكاني (9) ، والآلوسي (10) ، والقنوجي (11) ( ت 1307 هـ ) ، ومن المحدثين محمود الصافي (12) .
__________
(1) ينظر : التحرير والتنوير 1 / 712 .
(2) ينظر : معاني الأبنية / 144 .
(3) ينظر : التحرير والتنوير 1 / 712 .
(4) ينظر : نظم الدرر 8 / 133 .
(5) م . ن .
(6) مقاييس اللغة 6 / 93 ( مادة وحى ) .
(7) التبيان 1 / 599 .
(8) ارشاد العقل السليم 3 / 41 .
(9) فتح القدير 2 / 364 .
(10) روح المعاني 9 / 88 .
(11) فتح البيان 5 / 56 .
(12) الجدول 9 / 102 .(1/32)
ويلحظ أن اللام في قوله ( الحجر ) إما للعهد فتكون الإشارة هنا إلى حجر معلوم (1) ، وإما للجنس أي : اضرب الشيء الذي يقال له الحجر (2) .
والذي يراه الباحث أن حملها على الوجه الثاني أرجح فهو أظهر في الحجة على قومه وأبين في القدرة الإلهية (3) ، والفاء في قوله ( فانبجست ) عاطفة متعلقة بمحذوف تقديره ( ضرب فانبجست ) وقد حذف المعطوف عليه تعويلاً على كمال ظهوره وإيذاناً بغاية مسارعة سيدنا موسى - عليه السلام - إلى الامتثال لأمر الله (4) ، وكأنَّ الإيحاء والضرب أمر واحد (5) ، وفيه إشعار بعدم تأثير الضرب حقيقة وتنبيه على كمال سرعة الإنبجاس كأنه حصل إثر الأمر قبل تحقق الضرب من سيدنا موسى - عليه السلام - (6) .
__________
(1) ينظر : التفسير الكبير 3 / 89 .
(2) م . ن .
(3) ينظر : فتح القدير 1 / 200 .
(4) ينظر : ارشاد العقل السليم 3 / 41 .
(5) ينظر : روح المعاني 9 / 88 .
(6) ينظر : ارشاد العقل السليم 3 / 41 .(1/33)
واختلف في معنى ( الانبجاس ) (1) ، إذ ذهب الطبري (2) ، والزمخشري (3) ، والنسفي (4) ، وأبو السعود (5) ، والشوكاني (6) إلى أن معناه الإنفجار ، وعليه لا يكون هنالك فرق بين هذا النص وبين قوله - سبحانه وتعالى - في سورة البقرة : { فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } [ البقرة : 60 ] من حيث المعنى ، في حين ذهب أبو عمرو بن العلاء (7) ( ت 154هـ ) ، وابن عطية (8) ( ت 546هـ ) ، والقرطبي (9) ، والغرناطي (10) ،وابن كثير (11) إلى أن الانبجاس هو أول الإنفجار وهو أخف منه، وعليه يكون هنالك فرق بين دلالة النصين ، قال الغرناطي : " وإذا تقرر هذا فأقول إِن الواقع في الأعراف طلب بني اسرائيل من موسى - عليه السلام - السقيا ، قال - سبحانه وتعالى - :
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } [ الآية : 160 ] والوارد في البقرة طلب موسى - عليه السلام - من ربه قال - سبحانه وتعالى - : { وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } [ الآية : 60 ] فطلبهم ابتداء فناسبه الإبتداء ، وطلب موسى - عليه السلام - غايةلطلبهم لأنه واقع بعده ومرتب عليه ، فناسب الإبتداءَ والغايةَ ، فقيل جواباً لطلبهم ( فانبجست ) وقيل اجابة لطلبه
( فانفجرت ) " (12) .
الموضع الثالث :
__________
(1) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 37 ، وكشف المعاني في متشابه المثاني / 61، والتعاريف .
(2) جامع البيان 9 / 108 .
(3) الكشاف 2 / 124 .
(4) مدارك التنزيل 1 / 582 .
(5) ارشاد العقل السليم 3 / 41 .
(6) فتح القدير 2 / 364 .
(7) ينظر : البحر المحيط 5 / 200 .
(8) المحرر الوجيز / 753 .
(9) الجامع لأحكام القرآن 1 / 285 .
(10) ملاك التأويل 1 / 211 .
(11) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير 1 / 175 .
(12) ملاك التأويل 1 / 211 ـ 212 ، وينظر : معترك الأقران 3 / 8 .(1/34)
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ٍ - وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ـ 123 ] .
وردت هذه الآيات في بيان فضائل سيدنا إبراهيم - عليه السلام - ، وإن أعظم هذه الفضائل اتباع سيد الكائنات - صلى الله عليه وسلم - لملته (1) .
و ( أنْ ) في قوله ( أنِ اتبع ) تفسيرية لما في الإيحاء من معنى القول ، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيان (2) ، والآلوسي (3) ، ومن المحدثين ابن عاشور (4) ، ومحمود الصافي (5) .
ويلحظ أن ( ثم ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } تفيد الترتيب الرتبي المشير إلى أن مضمون الجملة المعطوفة متباعد في رتبة الرفعة عن مضمون ما قبلها وفي ذلك من التنويه الجليل ما فيه بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبشريعة الإسلام وبسيدنا ابراهيم - عليه السلام - (6) .
__________
(1) ينظر : التفسير الكبير 20 / 124 .
(2) البحر المحيط 6 / 610 .
(3) روح المعاني 14 / 252 .
(4) التحرير والتنوير 14 / 318 .
(5) الجدول 14 / 412 .
(6) ينظر : التحرير والتنوير 14 / 318 .(1/35)
واختلف في ماهية الاتباع في قوله - سبحانه وتعالى - : { اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } إذ من المعلوم أن الملة اسم لِما شَرَّعَهُ الله - سبحانه وتعالى - لعباده على لسان الأنبياء( عليهم السلام ) ، مشتق من قولهم أمللت الكتاب إذا امليته (1) ، قال أبو السعود : " إنَّ الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ، ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى ديناً " (2) ، وذهب الراغب إلى أن الفرق بينهما هو أن الملة لا تضاف إلاّ إلى النبي ، ولا تكاد توجد مضافة إلى الله - سبحانه وتعالى - ، ولا إلى آحاد الأمة ، ولا تستعمل إلاّ في حَمَلَة الشرائع دون آحادها ، إذ لا يقال ملة الله ولا يقال ملة زيد ، بل يقال دين الله ودين زيد (3) ، فعن
قتادة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإتباع ملّة ابراهيم - عليه السلام - إلاّ ما أمر بتركه (4) ، وذهب عمرو بن العاص إلى أن المراد بالإتباع هنا هو اتباعٌ في مناسك الحج (5) ، وذكر القرطبي أن الصحيح هو الاتباع في عقائد الشرع دون الفروع العملية (6) ، لقوله - سبحانه وتعالى - : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] .
__________
(1) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 471 ـ 472 .
(2) ارشاد العقل السليم 4 / 102 .
(3) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 472 .
(4) ينظر : البحر المحيط 6 / 610 .
(5) م . ن .
(6) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 10 / 130 .(1/36)
وذهب آخرون إلى أنه اتباع في التبري من الأوثان (1) ، وقال قوم كان على شريعة ابراهيم وليس له شرعٌ ينفرد به ، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرع ابراهيم - عليه السلام - (2) ، وقد وصف الرازي هذا القول بالضعف (3) ، لأن الله - سبحانه وتعالى - وصف إبراهيم بأنه ما كان من المشركين ، فلمّا قال لنبيه اتبع ملة ابراهيم علم أن المراد هو ذلك الوصف ، فإن قيل إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناءً على الدلائل القطعية ، وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له فيمتنع حمل قوله ( أن اتبع ) على هذا المعنى ووجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها قلنا يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى على ما هو مألوف في القرآن (4) ، وقد عقّب أبو حيان على هذا الكلام بقوله : " ولا يحتاج إلى هذا لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لايمتنع أن يوحى لتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده ، ألا ترى إلى قوله - سبحانه وتعالى - : { قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [ الأنبياء : 108 ] فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط " (5) .
__________
(1) ينظر : جامع البيان 14 / 229 .
(2) ينظر : التفسير الكبير 20 / 109 .
(3) م . ن .
(4) م . ن .
(5) البحر المحيط 6 / 611 .(1/37)
ومما ينبغي ايضاحه أن صيغة الأمر في قوله - سبحانه وتعالى - : { اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } قد دلّت على مواصلة الحدث واستمراره (1) ، فقوله ( اتبع ) أمر من الله - سبحانه وتعالى - يقتضي من النبي - صلى الله عليه وسلم - استمراره في متابعة سيدنا ابراهيم - عليه السلام - فيما صحَّ عنه من اعتقاد وتشريع في جميع الأزمنة وليس القصد من هذا الأمر المتابعة في زمن من دون آخر .
ويلحظ أن ( حنيفاً ) حال من ابراهيم - عليه السلام - (2) ، ومنع من ذلك مكي لأن ( ابراهيم ) مضاف إليه (3) ، وقد ردّ أبو حيان على ذلك بقوله : " أمّا ما حكي عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه ، فليس على اطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب جاءت الحال منه نحو ( يعجبني قيام زيد مسرعاً ) و ( شِربُ السويق ملتوتاً ) وقال بعض النحاة : ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله - سبحانه وتعالى - : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا } [ الأعراف : 43 ] أو كالجزء منه كقوله - سبحانه وتعالى - : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } " (4) ، وذهب ابن عاشور إلى أنه يجوز أن يكون حالاً من ضمير ( إليك ) أو من ضمير ( اتبع ) أي : كن يا محمد حنيفاً كما كان إبراهيم حنيفاً (5) .
الموضع الرابع :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنِ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }
[ القصص : 7 ] .
__________
(1) ينظر : الزمن في القرآن الكريم / 132 .
(2) ينظر : البحر المحيط 6 / 611 .
(3) ينظر : مشكل اعراب القرآن 1 / 426 .
(4) البحر المحيط 6 / 611 .
(5) ينظر : التحرير والتنوير 14 / 318 .(1/38)
فقد عرضت هذه الآية جانباً من قصة سيدنا موسى - عليه السلام - ، والعناية الإلهية التي احتضنته وحفظته من فرعون وبطشه عند ولادته (1) .
و ( أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنِ أَرْضِعِيهِ } تفسير لفعل الإيحاء لما فيه من معنى القول ، وقد قال بذلك العكبري (2) ، والنسفي (3) ، وأبو حيان (4) ، والشوكاني (5) ،
ومن المحدثين ابن عاشور (6) ، ومحمود الصافي (7) .
واختلف في ماهية هذا الإيحاء إذ ذهب ابن عباس وقتادة إلى أنه الهام وقذف في القلب ، وقال قوم كان قولاً في منامها ، وذهب آخرون إلى أنه ملك أرسله الله إليها ليعلمها بذلك كما هو شأن مريم ( عليهما السلام ) فعلى هذا هو وحي اعلام لا وحي الهام (8) ، وقد رجّح ذلك أبو حيان قائلاً : " وهذا هو الظاهر لقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } " (9) ، واختلف في زمن هذا الإيحاء إذ ذهب قوم منهم القرطبي (10) ، وأبو حيان (11) ، والآلوسي (12) ، إلى أنه حصل بعد الولادة وعليه ثمة جملة محذوفة تقديرها : ( وضعت موسى أمه زمن الذبح وخافت عليه ) (13) ، في حين ذهب آخرون إلى أنه حصل قبل الولادة (14) .
__________
(1) ينظر : بحر العلوم ، للسمرقندي 2 / 508 ـ 509 .
(2) التبيان 2 / 1016 .
(3) مدارك التنزيل 2 / 633 .
(4) البحر المحيط 8 / 287 .
(5) فتح القدير 4 / 210 .
(6) التحرير والتنوير 20 / 73 .
(7) الجدول 20 / 224 .
(8) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 13 / 166 .
(9) البحر المحيط 8 / 287 .
(10) الجامع لأحكام القرآن 13 / 166 .
(11) البحر المحيط 8 / 287 .
(12) روح المعاني 20 / 45 .
(13) ينظر : البحر المحيط 8 / 287 .
(14) ينظر الجامع لأحكام القرآن 13 / 166 .(1/39)
ويلحظ من السياق أن أم موسى قد أصابها الخوف من هذا الحدث مرتين والحزن مرة واحدة ، وقد كان سبب الخوفين مختلفاً إذ نشأ الأول نتيجة قتل فرعون لأبناء بني اسرائيل ، فخشيت أن تصل إلى ابنها يده ، في حين كان سبب الخوف الثاني إلقاءه في اليم إذ خافت عليه الغرق والضياع الذي قد يصيبه ، وحزنت لفراقه جراء ذلك (1) .
ولعل من الضروري هنا الإشارة إلى الفرق بين الخوف والحزن ، فالخوف غم يلحق الإنسان لأمر متوقع ، والحزن غم يلحقه لأمر واقع (2) ، وقد نهاها - سبحانه وتعالى - عن كليهما وازالهما عن قبلها بقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } إذ ألمح هذا القول إلى نجاته وسلامته من القتل وتضمن البشارة لأمه بأنه سيكون له شأن عظيم (3) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الآية تعد من دقائق الإعجاز القرآني إذ تضمنت أمرين هما : ( ارضعيه والقيه ) ونهيين هما ( لاتخافي ولا تحزني ) وخبرين هما
( أوحينا إلى أم موسى ) و( إذا خفت عليه ) وبشارتين هما : ( إنّا رادوه إليك ) و
( جاعلوه من المرسلين ) (4) .
الموضع الخامس :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ نوح : 1 ] .
__________
(1) ينظر : معالم التنزيل ، للبغوي / 973 .
(2) ينظر : المفردات في غريب القرآن / 115 ـ 116 ، والتعريفات / 52 ، 60 .
(3) ينظر : فتح البيان 10 / 91 .
(4) ينظر : البحر المحيط 8 / 287 ، وروح المعاني 20 / 45 .(1/40)
إذ وردت هذه الآية في بيان قصة إرسال سيدنا نوح - عليه السلام - ، إذ روى ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله : (( أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض )) (1) فلذلك لمّا كفروا أغرق الله من على الأرض جميعاً (2) ، وقد استشكل هذا الإعمام الآلوسي ،ورأى أنه أرسل إلى سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا إلى أهل الأرض كافة لإختصاص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعموم البعثة من بين سائر المرسلين ( عليهما السلام ) (3) .
و (أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } مفسرة لِما في الإرسال من معنى القول ، إذ كشفت هذه الجملة عن فحوى الإرسال ها هنا وهو الانذار ، وقد
قال بذلك الزجاج (4) ، والزمخشري (5) ، وابن الأنباري (6) ، والرازي (7) ، والعكبري (8) ، والقرطبي (9) ، والنسفي (10) ، وأبو حيان (11) ،والبيضاوي (12) ، والشوكاني (13) ،
والآلوسي (14) ، ومن المحدثين ابن عاشور (15) ، ومحمود الصافي (16) .
ويؤيد هذا االرأي قراءة ابن مسعود للآية ( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ
( أَنذِرْ ) بدون ( أنْ ) ) (17) .
__________
(1) صحيح البخاري 3 / 97 .
(2) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 18 / 193 .
(3) ينظر: روح المعاني 29 / 68 .
(4) معاني القرآن وإعرابه 5 / 227 .
(5) الكشاف 4 / 161 .
(6) البيان في غريب اعراب القرآن 2 / 464 .
(7) التفسير الكبير 30 / 119 .
(8) التبيان 2 / 1242 .
(9) الجامع لأحكام القرآن 18 / 193 .
(10) مدارك التنزيل 3 / 590 .
(11) البحر المحيط 10 / 280 .
(12) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 5 / 392 .
(13) فتح القدير 5 / 393 .
(14) روح المعاني 29 / 68 .
(15) التحرير والتنوير 29 / 186 .
(16) الجدول 29 / 93 .
(17) معاني القرآن ، للفراء 3 / 187 ، وجامع البيان 29 / 90 ـ 91 ، وينظر : قراءة عبد الله ابن
مسعود ( رسالة ماجستير ، لعبد الله حسن ) / 225 .(1/41)
ويلحظ أن في اسناد الفعل ( أرسل ) إلى ضمير العظمة ( نا ) مع تأكيد الجملة بـ ( إنّ ) مالا يخفى من الإهتمام والعناية بأمر ارسال سيدنا نوح - عليه السلام - إلى قومه بهذا الانذار (1) ، وربما كانت الغاية من الانذار هي إقامة الحجة عليهم لئلا يبقى لهم عذر يعتذرون به إذا ما حلَّ بهم العذاب (2) ، كما في قوله - سبحانه وتعالى - : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [ النساء : 165 ] .
وقد اختلف في حقيقة العذاب وزمانه في قوله - سبحانه وتعالى - : { عَذَابٌ أَلِيمٌ } إذ ذهب ابن عباس إلى أنه عذاب النار في الآخرة (3) ، في حين رأى الطبري أنه ما حلَّ بهم
من الطوفان (4) ، وقيل هو العذاب على الجملة من دون تخصيص (5) .
المبحث الثالث
الجملة التفسيرية الاسمية والندائية
قد حوى هذا المبحث الجملة التفسيرية الاسمية والندائية ، وفيما يأتي بيان لكل منهما :
1 ـ الجملة التفسيرية الاسمية :
وردت الجملة الأسمية تفسيرية في القرآن الكريم بشكل قليل لا يتجاوز الأربعة مواضع جميعها من القسم المكي ، كما مبين في الجدول ذي الرقم ( 4 )
الجدول ( 4 )
الجملة التفسيرية الاسمية
ت ... الآية ... رقمها ... السورة ... مكان نزولها
1 ... { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونْ } ... 43 ... الأعراف ... مكية
2 ... { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ... 44 ... الأعراف ... مكية
3 ... { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } ... 46 ... الأعراف ... مكية
__________
(1) ينظر : روح المعاني 29 / 68 .
(2) ينظر : أضواء البيان 8 / 523 .
(3) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 18 / 193 .
(4) ينظر : جامع البيان 29 / 108 .
(5) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 18 / 193 .(1/42)
4 ... { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ ... 87 ... الأنبياء ... مكية
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ
إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }
ولمّا كان الأصل في الجملة الاسمية هو اثبات المعنى للشيء من غير أن يقتضي ذلك تجدده شيئاً بعد شي (1) ، أصبحت هي المعول الأساس في التعبير عن الحقائق الثابتة التي تقتضي بدورها اتصاف المسند إليه بالمسند اتصافاً ثابتاً ، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الموضعين الآتيين :
الموضع الأول :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونْ }
[ الأعراف : 43 ] .
إذ عرضت هذه الآية جانباً من حال المؤمنين في إقبالهم إلى الجنة التي وعدهم إياها خالقهم - سبحانه وتعالى - في الحياة الدنيا .
__________
(1) ينظر : دلائل الإعجاز / 133 ، والدلالة الزمنية في الجملة العربية / 35 .(1/43)
و ( أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ } مفسرة لما في النداء من معنى القول وقد قال بذلك الزجاج (1) ، والنحاس (2) ، والزمخشري (3) ، والرازي (4) ، والعكبري (5) ، والقرطبي (6) ، والنسفي (7) ، وأبو حيان (8) ، والبيضاوي (9) ، وأبو السعود (10) ، والآلوسي (11) ، ومن المحدثين ابن عاشور (12) ، ومحمود الصافي (13) ، كما نصَّ هؤلاء عدا ابن عاشور على أنها تحتمل أيضاً أن تكون مخففة من الثقيلة .
والذي يميل إليه الباحث ويختاره هو عدّها مفسرة لا مخففة من الثقيلة ، وذلك من وجهين ، أحدهما : أن جميع الشروط التي تنص على تفسيريتها متوافرة في السياق كوقوعها بعد جملة متضمنة معنى القول تمثلت بقوله ( نودوا ) ، وصحة وضع ( أي ) المفسرة محلها في النص .
والوجه الآخر : إنّ حملها على المخففة يضطرنا إلى تقدير محذوفين ، أولهما ـ حرف الجر الداخل على (ان) إذ تقدير الكلام على هذا الوجه ( وَنُودُوا بأَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ ) (14) ، والآخر ـ اسمها وهو ضمير شأن محذوف (15) ، والتقدير كما هو معلوم خلاف الأولى .
__________
(1) معاني القرآن واعرابه 2 / 340 .
(2) اعراب القرآن ، للنحاس 1 / 612 .
(3) الكشاف 2 / 76 .
(4) التفسير الكبير 14 / 67 .
(5) التبيان 1 / 569 .
(6) الجامع لأحكام القرآن 7 / 134 .
(7) مدارك التنزيل 1 / 538 .
(8) البحر المحيط 5 / 54 .
(9) أنوار التنزيل وأسرار التأويل 3 / 22 .
(10) ارشاد العقل السليم 2 / 494 .
(11) روح المعاني 8 / 121 .
(12) التحرير والتنوير 8 / 134 .
(13) الجدول 8 / 415 .
(14) ينظر : التبيان 1 / 569 .
(15) ينظر : اعراب القرآن للنحاس 1 / 612 ، والتبيان 1 / 569 .(1/44)
ويلحظ أن النداء في قوله ( ونودوا ) هو من لدن الله - سبحانه وتعالى - وقد بني الفعل للمجهول لظهور المقصود منه (1) ، وقيل من الملائكة (2) ، والأول أرجح لِما فيه من إعلاء لقدر الجمع المنادى ولِما فيه من أسْرٍ لقلوبهم (3) .
__________
(1) ينظر : التحرير والتنوير 8 / 134 .
(2) ينظر : التفسير الكبير 14 / 67 .
(3) ينظر : البحر المحيط 5 / 54 .(1/45)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الجملة الأسمية الكبرى المبدوءة بأسم الإشارة ( تلكم ) قد أخبرتنا عن حقيقة ثابتة مفادها دخول المؤمنين إلى الجنة نتيجة رحمة الله بهم ، وكذلك لما قدّموه من أعمال صالحة ، ولم نلمح فيها مظاهر التجدد والحدوث لأنها عبّرت عن حقيقة غير قابلة للتغير ، وقد أشير إلى الجنة بـ ( تلكم ) الذي حقه أن يستعمل في المشار إليه البعيد مع أن الجنة حاضرة بين أيديهم بقصد رفعة شأنها وتعظيم المنة بها (1) ، أو لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد (2) ، أو للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا (3) ، والميراث المشار إليه في قوله ( اورثتموها ) مجاز عن الاعطاء ، أي : اعطيتموها بما كنتم تعملون في الدنيا من الأعمال الصالحة (4) ، والباء في قوله ( بما ) للسبب المجازي إذ أن الأعمال إمارة من الله ودليل على قوة الرجاء (5) ، وأن دخول الجنة إنما هو برحمة الله والقسم فيها على قدر الأعمال (6) ، وليس الأمر كما زعم الزمخشري بأن دخول الجنة سببه العمل الصالح لا التفضل من الله - سبحانه وتعالى - (7) ، إذ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( لن يُدخل أحداً منكم عمله الجنة ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل )) (8) .
وقد يظن ظان أن هنالك تناقضاً بين الآية التي نحن بصددها وبين الحديث الشريف السابق من حيث المضمون ، وقد أجاب الرازي عن ذلك بقوله : " أن العمل
__________
(1) ينظر : التحرير والتنوير 8 / 134 .
(2) ينظر : ارشاد العقل السليم 2 / 494 .
(3) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 7 / 134 .
(4) ينظر : البحر المحيط 5 / 55 .
(5) ينظر : البحر المحيط 5 / 55 .
(6) م . ن .
(7) ينظر : الكشاف 2 / 80 .
(8) صحيح مسلم 4 / 2169 ( باب لن يدخل أحد الجنة ) ، ومجمع الزوائد 10 / 357 .(1/46)
لا يوجب دخول الجنة لذاته ، وإنما يوجبه لأجل أن الله تعالى بفضله جعله علامة عليه ومعرفة له ، وأيضاً لما كان الموَفّي للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة في الحقيقة ليس إلاّ بفضل الله تعالى " (1) .
الموضع الثاني :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 87] .
إذ وردت هذه الآية في سياق بيان بعثة سيدنا يونس - عليه السلام - إلى أهل نينوى ، وذنون لَقَبٌ لُقّبَ به لابتلاع النون اياه ، والنون هو الحوت (2) . واختلف فيما أدى بسيدنا يونس - عليه السلام - إلى المغاضبة المشار إليها بقوله - سبحانه وتعالى - : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } ، فذهب الشعبي ، وسعيد ابن جبير ، والطبري (3) ، والنحاس (4) ، والقرطبي (5) ، إلى أنه غضب بسبب كفر أهل نينوى بعد أن دعاهم مراراً للإيمان ،فغضبه من أجل ربه والمؤمن يغضب إذا ما عُصِىِ ربُه ، في حين ذهب ابن مسعود وآخرون إلى أنه غضب بسبب رفع الله - سبحانه وتعالى - العذاب عنهم لمّا توعدهم به في وقت أوحى الله - جل جلاله - له به (6) ، وذهب الحسن إلى أن سبب المغاضبة هو أنّ الله - سبحانه وتعالى - لمّا أمره بالمسير إلى قومه سأل أن يُنظر ليتأهب فأعجله الله حتى سأل أن يأخذ نعلاً ليلبسها فلم يُنظر فخرج مغاضباً جراء ذلك (7) ، وهذا بعيد ، والله أعلم .
__________
(1) التفسير الكبير 14 / 68 .
(2) ينظر : الجامع لأحكام القرآن 11 / 217 .
(3) جامع البيان 17 / 91 ، والجامع لأحكام القرآن 11 / 218 .
(4) اعراب القرآن ، للنحاس 2 / 379 .
(5) الجامع لأحكام القرآن 11 / 218 .
(6) الجامع لأحكام القرآن 11 / 218 .
(7) ينظر : جامع البيان 17 / 92 .(1/47)
والذي نطمئن إليه هو الرأي الأول إذ من المعلوم أن الأنبياء والمرسلين أحسن الناس خُلُقاً وأوسعهم تحملاً وما ذكر في الروايتين الأخريين ينافي ما جبلوا عليه من سماحة وسعة صدر .
واختلف أيضاً في معنى { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَعَلَيْهِ } ، إذ ذهب سعيد بن جبير وكثير من العلماء إلى أنه ظنَّ أن لن نضيّق عليه فهو مشتق من ( قدر ) بمعنى ضَيَّقَ ، قال - سبحانه وتعالى - : { اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } [ الرعد : 26 ] أي : ويضيق الرزق على من يشاء (1) ، وذهب قتادة ، ومجاهد (2) ، والفرّاء (3) ، إلى أنه ظنَّ أن لن نقضي عليه بالعقوبة فهو مشتق من القدر والقضاء ، والأول أقرب ، والله أعلم .
ويلحظ مجيء الظلمة بصيغة الجمع ، وقد اختلف العلماء في المراد من ذلك ، إذ ذهب ابن عباس وقتادة إلى أن الجمع هنا قد دلَّ على ظلمات مختلفة هي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت (4) ، في حين ذهبت طائفة أخرى إلى أن الجمع قد دلّ على ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت الذي التقم الحوت الأول (5) ، وذهب القرطبي
إلى أنه يصح أن يعبر بالظلمات عن جوف الحوت الأول فقط ، لأن في كل جهاته ظلمة وعليه فجمعها سائغ (6) .
__________
(1) م . ن 17 / 93 .
(2) م . ن .
(3) ينظر : معاني القرآن ، للفراء 2 / 209 .
(4) ينظر : جامع البيان 17 / 95 .
(5) م . ن .
(6) ينظر : الجامع لاحكام القرآن 11 / 220 .(1/48)
و( أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ } مفسرة لِما في النداء من معنى القول ، وقد قال بذلك الزمخشري (1) ، والرازي (2) ، والنسفي (3) ، والنيسابوري (4) ، ومحمد بن أحمد الكلبي (5) ، وأبو حيان (6) ، وأبو السعود (7) ، والآلوسي (8) ، فجملة
{ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } هي عين النداء الذي أطلقه في ظلمات البحر ، وهي مفسرة لماهيته ، وقد تضمنت قصراً حقيقياً (9) ، حصر من خلاله سيدنا يونس - عليه السلام - الألوهية في ذات الحق جلّت قدرته (10) المشار إليها بضمير الخطاب
( أنت ) من خلال النفي والإستثناء ، ثم نزه خالقه عن سمات النقض كافة ، ومنها الظن المذكور على أي وجه كان بقوله ( سبحانك ) ثم أقر بما بعد ذلك (11) خضوعاً وإنابةً لمولاه .
2 ـ الجملة التفسيرية الندائية :
وردت الجملة التفسيرية مصدرة بأداة نداء في القرآن الكريم في موضعين فقط ، وكلاهما من القسم المكي ، كما مبين في الجدول ذي الرقم ( 5 ) فيما يأتي :
الجدول ( 5 )
الجملة التفسيرية الندائية
ت ... الآية ... رقمها ... السورة ... مكان نزولها
1 ... { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ... 30 ... القصص ... مكية
__________
(1) الكشاف 2 / 582 .
(2) التفسير الكبير 22 / 187 .
(3) مدارك التنزيل 2 / 416 .
(4) تفسير غرائب القرآن 5 / 47 .
(5) التسهيل لعلوم التنزيل 3 / 60 .
(6) البحر المحيط 7 / 461 .
(7) ارشاد العقل السليم 4 / 354 .
(8) روح المعاني 17 / 84 .
(9) ينظر : الإيضاح في علوم البلاغة 1 / 213 ، وجواهر البلاغة / 183 .
(10) ينظر : البحر المحيط 7 / 461 .
(11) م . ن .(1/49)
2 ... { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ... 103ـ105 ... الصافات ... مكية
وسنقف عند كل منهما بالدراسة والتحليل :
الموضع الأول :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ القصص : 30 ] .
تُحدثنا فيما سبق في فقرة الجملة التفسيرية الماضية عن المناسبة التي وردت فيها هذه الآية .
ويلحظ أَنَّ ( أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ } مفسرة لِما في النداء من معنى القول ، وقد قال بذلك العكبري (1) ، والنسفي (2) ، وأبو حيان (3) ، وابن كثير (4) ، والبيضاوي (5) ، والسيوطي (6) ( ت 911 هـ ) ، وأبو السعود (7) ، والشوكاني (8) ، والآلوسي (9) ، ومن المحدثين محمود الصافي (10) . ونص بعض هؤلاء على أنها قد تحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف . والرأي الأول أرجح لأنها كما ذكر أبو حيان لو كانت مصدرية لتقدَّرَ قوله ( إني ) بالمفرد والمفرد لا يكون خبراً لضمير الشأن (11) .
__________
(1) التبيان 2 / 1020 .
(2) مدارك التنزيل 2 / 646 .
(3) البحر المحيط 8 / 302 .
(4) تفسير ابن كثير 3 / 389 .
(5) أنوار التنزيل 4 / 291 .
(6) تفسير الجلالين / 515 .
(7) ارشاد العقل السليم 5 / 122 .
(8) فتح القدير 4 / 224 .
(9) روح المعاني 20 / 73 .
(10) الجدول 20 / 252 .
(11) ينظر : البحر المحيط 8 / 302 .(1/50)
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن التفسير لا يتحقق بجملة النداء وحدها ، إذ أن النداء : " ليس مقصوداً بالذات بل هو لتنبيه المخاطب ليصغي إلى ما يجيء بعده من الكلام المنادى له " (1) ، وعليه فالجملة التفسيرية هنا مكونة من جملتي النداء وجوابه أي من قوله - سبحانه وتعالى - : { يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (2) .
واختلف في معاد الضمير في قوله ( فلما أتاها ) إذ ذهب القرطبي إلى أنه عائد على الشجرة (3) ، في حين ذهب الشوكاني إلى أنه عائد على النار (4) . والذي يبدو لنا أن ما ذهب إليه الشوكاني أولى ، وذلك لعدم تقدم ذكر الشجرة في السياق .
ويلحظ أن ( من ) الأولى والثانية في الآية هي لإبتداء الغاية والمعنى : أتاه النداء من شاطيء الوادي من قبل الشجرة (5) ، وقوله ( من الشجرة ) بدل من قوله ( من شاطيء الوادي ) بدل اشتمال لأن الشجرة كانت ثابتة على الشاطيء (6) . وفي قوله
__________
(1) أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين / 218 .
(2) ينظر : الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ (أطروحة دكتوراه)
/ 136 .
(3) الجامع لأحكام القرآن 1 / 186 .
(4) فتح القدير 4 / 224 .
(5) ينظر : الكشاف 3 / 175 ، والبحر المحيط 8 / 301 .
(6) ينظر : الكشاف 3 / 175 .(1/51)
( الأيمن ) احتمالان : أحدهما : أنه وصف للشاطيء على معنى اليمن والبركة (1) ، والآخر : إنه وصف للشاطيء ويريد به الجهة اليمنى (2) ، باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب في جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع الجغرافي وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار ويريدون هذا المعنى ، ولذا سموا اليَمَنَ يمناً لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة ، وسموا الشام شاماً لأنه على شام المستقبل لبابها ، أي على شماله (3) .
ويلحظ أن البقعة في الآية قد نعتت بالبركة ، ولعل ذلك لما خُصَّتْ به من آيات الله وأنواره وتكليمه لموسى - عليه السلام - ، أو لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة ، والأول أرجح (4) . كما أنه قد عدل عن التنكير إلى التعريف في قوله ( الشجرة ) للأشارة إلى أنها شجرة مقصودة ، فالتعريف فيها تعريف جنس لا تعريف عهد لأنه لم يجر ذكر الشجرة فيما تقدم (5) .
__________
(1) ينظر : البحر المحيط 8 / 301 .
(2) م . ن .
(3) ينظر : التحرير والتنوير 20 / 112 ـ 113 .
(4) ينظر : البحر المحيط 8 / 301 .
(5) ينظر : التحرير والتنوير 20 / 113 .(1/52)
ولعل من المفيد الإشارة هنا إلى أن مضمون هذه الآية قد ورد في القرآن الكريم ثلاث مرات وبأساليب متنوعة ذكر في كل أسلوب منها حدث لم يذكر في الآخرين ، فقد قال - سبحانه وتعالى - في سورة طه : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى - إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [ طه : 10 ـ 12 ] ، وقال - سبحانه وتعالى - في سورة النمل : { فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] ، وقال - سبحانه وتعالى - في سورة القصص : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ القصص: 30] ، وقد أجاب الرازي عمّا يوحيه ذلك من وجود اختلاف في النص القرآني بقوله : " ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل، إلاّ أنه حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء " (1) .
الموضع الثاني :
ويتمثل بقوله - سبحانه وتعالى - : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ - وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [ الصافات : 103 ـ 105 ] ، إذ وردت هذه الآية في بيان قصة الذبيح سيدنا اسماعيل - عليه السلام - .
__________
(1) التفسير الكبير 24 / 210 .(1/53)
ويلحظ أنَّ ( أنْ ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ } مفسرة لِما في النداء من معنى القول ، وقد قال بذلك النسفي (1) ، وأبو حيان (2) ، وابن كثير (3) ، والشوكاني (4) ، والآلوسي (5) . واختلف في جواب ( لَمّا ) في قوله - سبحانه وتعالى - : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } إذ ذهب الفراء إلى أن الجواب هو ( ناديناه ) ، والواو زائدة (6) ، في حين ذهب الزجاج (7) ، والزمخشري (8) إلى أن الجواب محذوف تقديره : " فلمّا أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا ابراهيم قد صدقت الرؤيا كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما وحمدهما لله وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله " (9) . وقد وافقهما في ذلك أبو حيان (10) .
ومعنى ( أسلما ) أي انقادا لأمر الله (11) ،وقد حذف المتعلق لظهوره من السياق (12) ، وقد قرأ ابن مسعود (13) ، وابن عباس وعلي (14) - رضي الله عنهم - ( فلمّا سلّما )أي فوضا أمرهما إلى الله ، وعن قتادة : أسلم أحدهما نفسه لله - عز وجل - وأسلم الآخر ابنه (15) ، وأن معنى
__________
(1) مدارك التنزيل 3 / 170 .
(2) البحر المحيط 9 / 118 .
(3) تفسير ابن كثير 4 / 17 .
(4) فتح القدير 4 / 533 .
(5) روح المعاني 23 / 130 .
(6) ينظر : معاني القرآن ، للفراء 2 / 390 .
(7) ينظر : معاني القرآن واعرابه 4 / 311 .الكشاف 3 / 348 .
(8) الكشاف 3 / 348 .
(9) م . ن .
(10) البحر المحيط 9 / 117 .
(11) ينظر : الكشاف 3 / 348 .
(12) ينظر : التحرير والتنوير 23 / 152 .
(13) ينظر : معاني القرآن ، للفراء 3/390 ، والجامع لأحكام القرآن 16/69، ومعجم القراءات 5/243.
(14) ينظر : البحر المحيط 9 / 117 ، والجامع لأحكام القرآن 16 / 69 ، ومعجم القراءات 5 / 243 .
(15) ينظر : جامع البيان 23 / 94 ، والكشاف 3 / 348 .(1/54)
( وتله للجبين ) أي صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض (1) ، إذ أن اللام في قوله ( للجبين ) بمعنى ( على ) (2) كقوله - سبحانه وتعالى - : { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا }
[ الإسراء : 107 ] ، والجبين هو أحد جانبي الجبهة إذ للجبهة جبينان وليس الجبين هو الجبهة كما قد يتوهم ، وقد نبّه ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) على ذلك في أدب الكاتب (3) .
ويحتمل قوله - سبحانه وتعالى - : { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } معنيين ، أحدهما : أنه عزم على تحقيق ما رآه في المنام حتى أنه اضجع ولده على هيئة الذبيح وأمّر السكينة على حلقه إلاّ أن الله - سبحانه وتعالى - منع الشفرة أن تمضي فيه فصرف الله - جل جلاله - بذلك الكرب عنهما بفضله ومنّه . والمعنى الآخر : إنه آمن بقلبه أن ما رآه حقاً لا شكّ فيه فكان ذلك الإيمان تصديقه للرؤيا ثم عزم بعد ذلك على تحقيق ما قد رآه (4) .
ويلحظ أن جملة { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } تعليل لجملة ( وناديناه ) ، لأن نداء الله إياه فيه إعلاء لشأنه فكان ذلك من جملة الجزاء على إحسانه (5) ، والإشارة في قوله ( كذلك ) هي إلى المصدر المأخوذ من فعل ( صَدّقت ) وهو هنا ( التصديق ) وتقدير الكلام : إنا نجزي المحسنين جزاءاً عظيماً مثل عظمة ذلك التصديق (6) .
__________
(1) ينظر : البحر المحيط 9 / 117 .
(2) ينظر : التحرير والتنوير 23 / 153 .
(3) أدب الكاتب / 31 .
(4) ينظر : البحر المحيط 9 / 118 .
(5) ينظر : التحرير والتنوير 2 / 154 .
(6) م . ن .(1/55)
الرياح
الريح في اللغة:
قال الخليل (1) : الريح ياؤها واو صُيرت ياء لانكسار ما قبلها وتصغيرها رُويحة، وجمعها رياح وأرواح وفي الصحاح (2) : وريح واحدة الرياح والأرياح وقد تجمع على أرواح. وفي اللسان (3) : الرّيح نَسيم الهواء، وكذلك نسيم كل شيء، وهي مؤنثة.
وفي الحديث (4) : كان يقول إذا هاجت الريح: اللهم أجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً، والعرب تقول: لا تَلقح السحاب إلا من رياح مختلفة، يريد: اجَعْلها لقاحاً للسحاب ولا تجعلها عذابا، يحقق ذلك مجيء، الجمع في آيات الرَّحمة والواحد في العذاب: كالرَّيح العَقيم وِريحاً صرْصَراً.
وقال الراغب (5) في مفرداته: والريح معروف وهي فيما قيل للهواء المتحرك.
أما في الاصطلاح العلمي فالرياح: هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو، والهواء يتركب من غازات أهمها النيتروجين بنسبة 78% والأوكسجين بنسبة 21% وغازات أخرى نادرة نسبتها 1% فقط. مع مقادير إضافية من بخار الماء قد تصل إلى 4% من الأجواء الحارة والرطبة. (6)
__________
(1) العين (روح) 3/292.
(2) الصحاح (روح) 1/367.
(3) لسان العرب (روح) 2/455.
(4) مسند أبي يعلى رقم الحديث (2456) 4/341.
(5) المفردات في غريب القرآن (روح) 300.
(6) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن 193 وينظر الله والكون 226.(1/1)
وسرعة الرياح تختلف من حين لآخر فإذا كانت سرعة الرياح معتدلة سميت نسيماً وإذا زادت قليلاً سميت عاصفة وإذا زادت أكثر سميت قاصفة وإذا اشتدت سميت إعصارا. وهذه الأقسام الأربعة ورد ذكرها في القرآن الكريم في آيات عدة، منها قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ). (1) وقال تعالى: ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ). (2)
من هذا التقسيم لأنواع الرياح هو التقسيم عينه الذي جاء به العلم الحديث فالرياح الطيبة في الآية الكريمة هي النسيم والنسيم من الأنواع المفيدة للإنسان أما العاصف فهي من الأنواع الخطرة والتي تحدث الأضرار والعلم يؤكد أن العواصف تحدث عند اصطدام كتلة من الهواء الحار بكتلة من الهواء البارد. والقاصف هي الريح التي تكسر كل شيء مرتفع عن الأرض من أشجار وغيرها. أما الاعصار فهي الريح الشديدة التي تهب من الأرض إلى السماء كالعمود وتسمى زوبعة وهي تهب في المناطق الحارة اليابسة. (3)
__________
(1) يونس /22.
(2) الإسراء /69.
(3) ينظر التفسير العلمي للقرآن الكريم 193 الأرض في القرآن الكريم والعلم الحديث 112-113.(1/2)
وهناك تقسيم آخر للرياح هو الرياح النادية وهذه تحمل عناصر التلقيح أو تسوق السحب من مكان إلى آخر. والرياح الساخنة وتحمل الرمال الجافة وهي تميل إلى الصفرة، ونوع آخر من الرياح يوجد في الطبقات العليا من الجو ويكون سبباً في تراكم السحب وتداخلها وتبريدها واصطدامها يخرج الودق منها. (1)
وهناك ريح حاصب والمراد منها الرياح الشديدة التي تثير الرمال والحصى كلما اشتدت أو زادت سرعتها فتكون عواصف الرمال والأعاصير. (2)
قال تعالى: (إنا أرسلنا عليكم حاصباً). (3)
الريح والرياح في القرآن الكريم:
الغالب في القرآن الكريم مجيء الرياح في مقام الخير والنعمة والرحمة ومن هذه الآيات قوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه ). (4)
( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ). (5)
( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ). (6)
( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ ). (7)
ويذكر الريح مفردة مع العذاب كقوله: ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ). (8) ( أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً) ). (9)
__________
(1) ينظر بصائر جغرافية 140.
(2) ينظر القرآن والعلم 121 وينظر الأرض في القرآن الكريم 113.
(3) القمر /34.
(4) الأعراف /57.
(5) الحجر / 22.
(6) الروم / 46.
(7) فاطر /9.
(8) آل عمران /117.
(9) الإسراء /69.(1/3)
( وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ). (1)
( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ). (2)
قال الرازي: (وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له). (3)
وقد علل ابن عاشور ذلك بقوله: (وجمع الرياح لما شاع في استعمالهم من اطلاقها (بصيغة الجمع) على ريح بشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير سحاباً هي رياح مختلفة في هبوبها بين جنوب وشمال وصبا ودبور، بخلاف اسم الريح المفردة فإنه غلب في الاستعمال إطلاقه على ريح القوة والشدة لأنها لا تتصل وردة من صوب واحد فلا تزال تشتد وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم – كان إذا هبت الريح قال: (اللهم اجعلها رياحاً لا ريحاً). (4) (5)
وقد اطردت هذه القاعدة إلا في مواضع يسيرة لحكمة فمنها قوله سبحانه وتعالى في سورة يونس: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ... ). (6)
فذكر ريح الرحمة بلفظ الأفراد لوجهين:
أحدهما لفظي: وهو المقابلة فإنه ذكر ما يقابلها ريح العذاب وهي لا تكون إلا مفردة ورب شيء يجوز في المقابلة ولا يجوز استقلالاً نحو (ومكروا ومَكَر الله). (7)
__________
(1) الذاريات /41.
(2) الحاقة /6.
(3) التفسير الكبير 4/169.
(4) مسند أبي يعلى رقم الحديث (2456) 4/341.
(5) التحرير والتنوير 21/121.
(6) يونس /22.
(7) آل عمران /54.(1/4)
الثاني معنوي: وهو إتمام الرحمة هناك إنما يحصل بوحدة الريح لاختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد فإن اختلفت عليها الرياح وتصادمت كان سبب الهلاك والغرق فالمقلوب هناك ريح واحدة ولهذا أكد هذا المعنى فوصفها بالطيب دفعا لتوهم أن تكون عاصفة بل هي ريح يفرح بطيبها ومنها قوله تعالى ( إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (1) وهذا أورده ابن المنير في كتابه عن الزمخشري قال الريح رحمة ونعمة وسكونها شدة على أصحاب السفن. (2)
ومن الجدير بالذكر هنا انه كانت انعدام الريح أشد ما يخشاه البحارة القدامى فهناك مناطق تسكن فيها الريح لأسابيع عدة فقد أخطأ بعض البحارة التقدير والتوفيق إذ دخلوا منطقة السكون التي تحرس البحر الأطلنطي للسفن القادمة من الجنوب فكان على السفينة البقاء عدة أسابيع في هذا الجزء القريب من خط الاستواء وهو الحصة المألوفة لكل سفينة شراعية وكذلك الأمر في بحر سراجوسا وكان البحارة القدماء ينحرفون عن هذه المناطق التي تجعلهم يعتقدون أن سفينتهم لن تعود للموانئ التي خلفوها. (3)
لذا كان سكون الريح أو اضطراب الرياح من عدة جهات يعد شدة على البحارة فحالهم يختلف عمن كان في البحر وقد عبر القرآن الكريم بلفظ يناسب حالهم حين أفرد لفظ (الريح) وهذا من دقة ألفاظ القرآن الكريم وبلاغته في تعبيره المناسب كل حسب حاله.
__________
(1) الشورى /33.
(2) ينظر البرهان في علوم القرآن 4/9-11.
(3) ينظر روعة الكون في ضوء الكشوف الحديثة 119-130.(1/5)
ولا يختلف الأمر كذلك مع سليمان ففي قوله تعالى: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) (1) وقال تعالى: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ). (2) وقوله تعالى: ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ). (3)
وإذا رجعنا إلى أقوال المفسرين (4) في الآية الأولى نجدهم يقولون معنى ذلك سخرنا لسليمان الريح عاصفة سريعة تسير بإرادته إلى أرض الشام المباركة وهذه الريح تجري مسخرة لسليمان تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات معدودة. وفي الآية الثانية تحدد تلك المسافات في سيرها (ولسليمان) أي وسخرنا له (الريح غدوها شهر ورواحها شهر) أي سيرها من الصباح إلى الظهر مسيرة شهر للسائر المجد، ومن الظهر إلى الغروب مسيرة شهر فتقطع به مسيرة شهرين في نهار واحد.
يقول منصور حسب النبي: وإذا تدبرنا هاتين الآيتين نستطيع أن نحسب سرعة ريح سليمان التي وصفها القرآن بأنها من نوع العاصفة في الآية الأولى ثم وصف سرعتها كمياً (كما اعتقد والله أعلم) في الآية الثانية.
نحن نعلم أن القرآن نزل بلغة العرب الذين كانوا – وقت التنزيل – ما زالوا يقسمون النهار إلى ما يقابل 12 ساعة من ساعاتنا حالياً وسموها على الترتيب من الشروق إلى الغروب كما يأتي:
الشروق – البكور – الغدو – الضحى – الهاجرة – الظهيرة – الرواح – العصر – القصر – الأصيل – العشي – الغروب.
كما قسموا ساعات الليل إلى 12 ساعة سمّوها على الترتيب حتى الصباح كما يأتي:
الجهمة – الشفق – الغسق – العتمة – السدفة – الزلة – الزلفة – البهرة – الفجر – الصبح – الصباح.
__________
(1) الأنبياء /81.
(2) سبأ /12.
(3) ص/ 36.
(4) ينظر تفسير القرآن العظيم 3/188 محاسن التأويل 14/11 في ظلال القرآن 5/2898 صفوة التفاسير 2/270 و 547-548.(1/6)
وباستعراض من هذه الساعات العربية اليومية نجد أن كلا من الغدو والرواح يمثل ساعة من ساعات النهار. وبالرجوع إلى الوصف القرآني لسرعة ريح سليمان في الآية الثانية نستطيع أن نفهم النص في سورة سبأ كما يلي: أن غدوها، أي ساعتها عند الذهاب تعادل مسيرة شهر، أي تعادل ثلاثين غدوا من غدونا نحن المخاطبين بالقرآن. وأن رواحها، أي ساعتها عند الإياب تعادل مسيرة شهر أي تعادل ثلاثين رواحا من رواحنا. وإذا اعتبرنا القياس بالسير على الأقدام في غدونا ورواحنا وأن الإنسان يسير سيراً عادياً بمعدل 6 كيلومتر في الساعة فإن مسيرة الرياح في ساعة (غدو أو رواحا) تعادل مسيرتنا (غدوا أو رواحا) شهراً كاملاً، أي تعادل مسيرتنا على الأقدام لمدة 30 ساعة بمعدل ساعة كل يوم من أيام الشهر والله أعلم.
إذن ريح سليمان تقطع كل ساعة مسافة قدرها 30×6=180كم إذن سرعة ريح سليمان =180/ كم وهي فعلاً سرعة العاصفة الشديدة كما وصفها القرآن الكريم بأنها عاصفة. (1)
__________
(1) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 346-347.(1/7)
ومن هذا نستنتج أن الريح التي كانت مسخرة لسليمان هي ريح واحدة ولم تكن رياح وكانت هذه الريح مسخرة للخير لأنها لنبي الله سليمان ومما يدل على أنها واحدة أنها وصفت بالعاصفة وهي الشديدة والسريعة التي تأتي من اتجاه واحد وكما يدل ذلك أنها موجهة من قبل سليمان إلى مواقع محددة تجري بأمره إلى الأرض المباركة. ومن هنا نجد استعمال القرآن الكريم الرياح للخير والريح للعذاب هو الغالب لا المطرد أما وصفها في الآية الثالثة بالرخاء فقد ذكر الزمخشري (1) : فإن قلت: وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاوة أخرى، فما التوفيق بينهما ؟ قلت: كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم. فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة على ما قال (غدوها شهرٌ ورواحها شهر) فكان جمعها بين الأمرين أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم، آية إلى آية، ومعجزة إلى معجزة.
تصريف الرياح وعلاقته بالسحاب:
قال تعالى: ( ... وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). (2)
التصريف لغة: التحويل والتغيير والتقليب. فتصريف الرياح تحويلها من وجه إلى وجه ومن حال إلى حال، قال الليث: تصريف الرياح صرفها من جهة إلى جهة وكذلك تصريف السيول والخيول والأمور والآيات وقال غيره: تصريف الرياح جعلها جنوبا وشمالاً وصباً ودبوراً فجعلها ضروباً في أجناسها. وصرفته في الأمر تصريفاً قلبته فتقلب. وصروف الزمن حوادثه المنقلبة من حال. وصَّرف الشيء: أعمله من غير وجه كأنه يصرفه عن وجه إلى وجه. (3)
أما التسخير لغة:
__________
(1) الكشاف 2/738 محاسن التأويل 11/280.
(2) البقرة / 164.
(3) ينظر لسان العرب (صرف) 9/189-190 تاج العروس (صرف) 6/163.(1/8)
فقال ابن فارس (1) : السين والخاء والراء أصلٌ مطرد مستقيم يدلُ على الاحتقار والاستذلال من ذلك قولنا سَخَّر الله عز وجل الشيء، وذلك إذا ذلله لأمره وإرادته. قال الله جل ثناؤه: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض ) (2) يقال رجل سُخْرةُ: يسخر في العمل. وفي الصحاح (3) : وسَخَّره تسخيرا كلفه عملاً بلا أُجرة وكذا تَسَخَّره. والتسخير أيضاً التذليل.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
قوله تعالى: (وتصريف الرياح)، أي: تقليبها في مهابها: قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها: حارةً وباردةً وعاصفةً ولينة، فتارة مبشرة بين يدي السحاب، وطوراً تسوقه وأوانةً تجمعه، ووقتاً تفرقه، وحيناً تصرفه. وقيل تارة بالرحمة وتارة بالعذاب (والسحاب المسخر) سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث يشاء عن قتادة وتصريف الرياح المسخر قال والله ربنا على ذلك إذا شاء جعلها عذاباً وريحاً عقيماً لا تلقح إنما هي عذاب على من أرسلت إليه وقيل (والسحاب المسخر) تسخيره: بعثه من مكان إلى مكان وقيل تسخيره ثبوته بين السماء والأرض قال القاسمي: (والسحاب المسخر بين السماء والأرض أي: فلا يهوى إلى جهة السفل مع ثقله بحمله بحار الماء – كما تهوى بقية الأجرام العالية – حيث لم يكن لها ممسك محسوس، ولا يعلو، ولا ينقشع؛ مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة. فالكثيف يقتضي النزول، واللطيف يقتضي العلو، والمتوسط يقتضي الانقشاع. (4)
النظرة العلمية في التفسير:
__________
(1) مقاييس اللغة / سخر 3/144.
(2) الجانية /13.
(3) الصحاح (سخر) 2/680.
(4) ينظر جامع البيان 2/64 الكشاف 1/96 الجامع لأحكام القرآن 2/197 البحر المحيط 2/81 أنوار التنزيل 1/103 إرشاد العقل السليم 1/184 روح المعاني 2/32-33 محاسن التأويل 3/16.(1/9)
يقول الدكتور احمد عبد الله مكي علم الأرصاد: يدرس علم الأرصاد الآن ومنذُ أكثر من قرن حركة الرياح ودورانها وأنواعها وتفرقها على الأرض وفي طبقات الجو العليا بواسطة البالونات والراديوسند والرادارات والأقمار الصناعية، فوجد أن هناك نظاماً عاماً للرياح وهذا ما يسمى بالدورة العامة للرياح ، ويرتبط بحركة الأرض حول الشمس مكونة الفصول وحول نفسها مكونة الليل والنهار، وهناك علاقة بين الرياح والسحاب فكل منهما مرتبط بالآخر، حيث أن كل البرامج والنماذج الحاسوبية لتقدير سرعة الرياح في طبقات الجو العليا بواسطة الأقمار الصناعية تعتمد في حساباتها على حركة السحاب وهذا ما يعبر عنه اللفظ القرآني (وتصريف الرياح) لقد توفرت معلومات هائلة بعد هذه الخبرة المتراكمة والأبحاث المنجزة للمنشغلين في هذا الحقل إذ تم فهم أمور عديدة منها توزيع الضغط الجوي والرياح والحرارة والرطوبة بعد دخول تقنيات حديثة بما أعطى مقاييس عديدة لفهم الرياح منها الشامل والمحلي والمستوى الدقيق. (1)
__________
(1) ينظر مجلة الإعجاز : العلمي العدد الخامس 10-16 يتصرف 2000م وينظر المنظار الهندسي 325-326.(1/10)
وإن كانت السحب هي التي تحمل الأرزاق في باطنها حيث الماء العذب الطهور والذي يحيي به الله الأرض بعد موتها فإن الذي يقوم بتوزيع هذه الأرزاق على مستحقيها هي الرياح التي سخرها الله تعالى، وصرفها بين يدي رحمته ليكون توزيعها بالعدل المطلق، فقد استأثر الله تعالى بتوجيه السحاب إلى حيث تحتاجه جميع الخلائق من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان إلى عالم النبات إلى عالم البحار، وذلك في أماكن شتى من بقاع الأرض، فهذا التوجيه للسحب يتم بتقدير إلهي وتدبير رباني، ولا يمكن أن تدركه الرياح غير العاقلة فالله ذو الجلال والإكرام يسوق السحاب إلى حيث يشاء أن ينزل الماء وسيظل إرسال الرياح وتوجيه السحاب مظهرين عظيمين من القدرة الإلهية يتحديان الإنسان حيث اجتهد علم الأرصاد الجومائية، فقد فشلت الأقمار الاصطناعية الخاصة بالأرصاد الجوية في التنبؤ بالزمان والمكان التي تسقط فيه الأمطار يقيناً، لأن العلم اختص به الله تعالى لذاته دون أن يصل هذا العلم الكامل إلى أحد من البشر. (1)
ويقول الدكتور محمد مختار عرفات (2) : من دراسة الطبقة الأولى (تروبوسفير) - وتضم 80% من كتلة الجو - التي تعيش في مجال هذه الطبقة الكائنات الحية وتحوي معظم الفعاليات الجوية من رطوبة وسحب ورياح وأمطار وضغوط وتيارات هوائية – تبين أن أنواع السحاب تقع في الجزء 1/100 السفلي فقط من الغلاف الهوائي. وهذا يفسر لنا سِرَّ التعبير القرآني في أن السحاب يقع بين السماء والأرض.
الضابط اللغوي في التفسير:
__________
(1) ينظر المنظار الهندسي 329.
(2) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 98-99.(1/11)
وتصريف الرياح عطف على ما أنزل أي تقليبها وهو مصدر مضاف إلى المفعول، يعني تعالى: بقوله وتصريف الرياح وفي تصريفه للرياح فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول كما قيل يعجبني إكرام أخيك أي إكرامك أخاك وتصريف الله إياها أن يرسلها مرة لواقح ومرة يجعلها عقيماً وصرفها من حال إلى حال. (1) وهذا ما يشهد به عجز العلماء وفشلهم في التنبؤ في الزمان والمكان التي تسقط فيه الأمطار يقيناً، لأن علمه بيد الله تعالى وبيده توزيع الأرزاق.
ويجوز أن يكون أضيف إلى الفاعل، ويكون المفعول محذوفاً، والتقدير: وتصريف الرياح السحاب، لأن الرياح تسوق السحاب وتصرفه. (2) وهذا ما أشار إليه علم الأرصاد من أن هناك علاقة بين الرياح والسحاب وقد فصلت آيات أخرى هذه العلاقة بشكل دقيق وأشارت إلى تأثير الرياح على السحب حيث تقوم الرياح بنقل السحاب الممطر من مكان التجمع إلى مكان الأرزاق في وقت معلوم. (3) ويقرأ الرياح بالجمع لاختلاف أنواع الريح، وبالإفراد على الجنس أو على إقامة المفرد مقام الجمع. (4)
قال القرطبي: (فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتباراً للأغلب في القرآن). (5)
__________
(1) إرشاد العقل السليم 1/184.
(2) التبيان في إعراب القرآن 1/72.
(3) ينظر المنظار الهندسي 329.
(4) التبيان في إعراب القرآن 1/72.
(5) الجامع لأحكام القرآن 2/197.(1/12)
وقوله تعالى: (والسحاب المسخر) تسخيره: بعثه الله من مكان إلى مكان ... وقيل تسخيره ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه. ووصف السحاب هنا بالمسخر، وهو مفرد لأنه اسم جنس، وفيه لغتان التذكير كهذا والتأنيث على معنى تأنيث الجمع فتارة يوصف ما يوصف به الواحدة المؤنثة، وتارة يوصف بما يوصف الجمع (1) كقوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً ). (2) وقيل تسخير الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى وقيل سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى. (3)
و (بين السماء والأرض) انتصاب بين على الظروف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستتر في المسخر. (4)
وهذا ما توصل إليه العلم الحديث من وجود معظم هذه الفعاليات الجوية من رطوبة وسحب ورياح وأمطار وضغوط وتيارات هوائية في الطبقة الأولى الكائنة بين السماء والأرض فهذه الطبقة ملتصقة بالأرض وفي أعلى هذه الطبقة نجد طبقة جوية رقيقة تفصلها عن الطبقة الرئيسة الأخرى التي فوقها، وتدعى هذه الطبقة التروبوبوز أما الطبقة الثانية التي تأتي بعدها تدعى ستراتوسفير وتحوي 19% من كتلة الجو ويصل ارتفاعها إلى 85كم، وهي خالية من البخار والغبار الأرضي. (5)
الرياح مبشرات:
قال تعالى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). (6)
معنى الإرسال لغة : جاء في لسان العرب :أرسل الشيء أطلقه وأمهله. (7)
__________
(1) البحر المحيط 2/82.
(2) الأعراف /57.
(3) ينظر الكشاف 1/96، أنوار التنزيل 1/103 ، إرشاد العقل السليم 1/184 ، روح المعاني 2/32.
(4) البحر المحيط 2/82.
(5) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 100-101.
(6) الروم / 46.
(7) لسان العرب 11/285.(1/13)
أما معنى التبشير لغة:
قال ابن فارس: (ويقال بَشَّرتُ فُلاناً أُبَشرُهُ تبشيراً، وذلك يكون بالخير، وربما حُمل عليه غيره من الشّرّ ، وأظن ذلك جنساً من التبكيت. فأما إذا أُطلق الكلامُ إطلاقاً فالبشارة بالخير والنذارةُ بغيره، يقال أبْشَرَتِ الأرض إذا أخرجت نباتها ... وتباشير الصبح أوائله؛ وكذلك أوائلُ كلَّ شيءٍ ... والمبشرات الرّياح التي تبشر بالغيث). (1)
وفي الصحاح (2) : وبَشَره من البشرى .. وأبشْره أيضاً وبَشْرّه تبشيرا والاسم البشارة بكسر الباء وضمها ويقال بَشَره بكذا التخفيف فأبشَر إبشاراً أي سُرّ وتقول أَبْشِر بخير بقطع الألف. ومنه قوله تعالى ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّة ) (3) ... والبشارة المطلقة لا تكون إلا بالخير وإنما تكون بالشر إذا كانت مقيدة به كقوله تعالى ( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (4) وتباشر القوم بَشرَ بعضهم بعضا والتباشير البشرى وتباشير الصبح أوائله وكذا أوائل كل شيء ولا فعل له. والبشير المبّشُر والمبشرات الرياح التي تبشر بالغيث.
وفي اللسان (5) : البشر: الطَّلاقةُ: وقد بَشَرَه بالأَمر يَبْشُرُه بالضم بَشْراً وبُشُوراً ... يقال بشرته فأبشرَ واسْتَبْشَرَ وتَبَشّرَ وبَشِرَ فَرِحَ ... والمبَشَّراتُ: الرياح التي تَهُبُ بالسحاب تُبشَّر بالغيث ... وتباشر كل شيء أوائله كتباشير الصباح والنور لا واحد له.
أقوال المفسرين في هذه الآية: ...
__________
(1) مقاييس اللغة (بشر) 1/252.
(2) الصحاح (بشر) 2/590.
(3) فصلت /30.
(4) أل عمران /21.
(5) لسان العرب (بشر) 4/61-63.(1/14)
قوله: (يرسل الرياح مبشرات) أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه (1) وقال الرازي (2) مبشرات قبل المطر ويمكن أن يقال بصلاح الأهوية والأحوال، فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد ثم قال وليذيقكم من رحمته عطف على ما ذكرنا أي ليبشركم بصلاح الهواء وصحة الأبدان (وليذيقكم من رحمته) بالمطر.
وفي الظلال (3) : (ومن آياته يرسل الرياح مبشرات) .. تبشر بالخير. وهم يعرفون الريح الممطرة بالخبرة والتجربة فيستبشرون بها (وليذيقكم من رحمته) بآثار هذه البشرى بالخصب والنماء. (ولتجري الفلك بآمره) سواء بدفع الرياح لها، أو بتكوين الأنهار من الأمطار فتجري السفن فيها.
التفسير العلمي لهذه الآية:
الرياح هي علامات المطر تبدأ بتبخير الماء من البحار والمحيطات بفضل حرارة الشمس التي تختلف سعتها من مكان إلى آخر فيتولد الفرق في الضغط الجوي وبهذا تهب الرياح وتحمل معها بخار الماء ونيونات وأيونات التكثيف إلى الطبقات الجوية العليا الباردة فيتكون السحاب الذي يجود بماء المطر تحت ظروف معينة. (4)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي لهذه الآية:
__________
(1) ينظر جامع البيان 21/52-53 زاد المسير 6/307 الجامع لأحكام القرآن 7/229 فتح القدير 4/229.
(2) التفسير الكبير 25/115.
(3) في ظلال القرآن 5/2774.
(4) الكون والإعجاز العلمي للقرآن 190.(1/15)
العطف في قوله تعالى (ومن آياته ... ) عود إلى تعداد الآيات الدالة على تفرده بالإلهية فهو عطف على جملة ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ) (1) وما تخلل بينهما من أفانين الاستدلال على الوحدانية والبعث ... والإرسال مستعار لتقدير الوصول، أي يقدر تكوين الرياح ونظامها الذي يوجهها إلى بلد محتاج إلى المطر. والمبشرات المؤذنة بالخير وهو المطر. وأصل البشارة الخبر السار شبهت الرياح برسل موجهة بالأخبار السارة ... وذلك أن الرياح تسوق سحاب المطر حيث يمطر. وقرأ الجمهور (2) في هذه الآية (الرياح) وقرأ (3) الأعمش (الريح) بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله مبشرات واللام في قوله وليذيقكم من رحمته متعلقة بيرسل أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته يعني بالغيث والخصب وقيل متعلق بمحذوف أي وليذيقكم إرسالها وقيل الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك فتتعلق اللام بيرسل. (4)
وقد أثبت العلم الحديث كما رأينا في التفسير العلمي أن الرياح مبشرات بنزول المطر الذي يأتي بالخصب والنماء فهو مبشر بالخير كما ذكرت المعجمات أنه مختص بالأخبار المسرة ما لم يكن هناك تقييد ويأتي أيضاً قوله تعالى (مبشرات) من التباشير الأولى لظهور المطر فالرياح من العمليات الأولى في تكوين السحاب ونزول الغيث الذي يأتي بالخير. كما أن الرياح مبشرات بأمور أخرى كما ذكر الرازي. وسيد قطب.
ومن هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ .. ). (5)
__________
(1) الروم /25.
(2) ينظر حجة القراءات 560 ، النشر في القراءات العشر 2/223.
(3) المصادر نفسها.
(4) ينظر فتح القدير 4/229 التحرير والتنوير 21/118.
(5) الأعراف /75.(1/16)
معنى قوله (أقلت) لغة:
جاء في اللسان (1) : يقال: أقل الشيء يَقُله واستقلَّه يستقله إذا رفعه وحمله. وأقلَّ الجَرة: أطاق حملها. وأقل الشيء واستقله ورفعه ... واستقل الطائر في طيرانه: نَهض للطيران وارتفع في الهواء. واستقل النبات: أنافَّ واستقل القوم: ذهبوا واحتملوا سارين وارتحلوا: قال عز وجل: (حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً) أي حَمَلت، واستقلت السماء ارتفعت وفي الحديث: حتى تقالت الشمس أي استقلت في السماء وارتفعت وتعالت ... ابن الإعرابي: قلَّ إذا رفَع، وقل إذا علا.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
الإرسال في الريح هو بمعنى الإجراء والإطلاق وقرئ نشراً أي تنشر السحاب وأما بُشُراً بضم الباء والشين فجمع بشير كنذير ونذرُ وأقلت معناه رفعته من الأرض واستقلت به والمعنى حتى إذا حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله سقناه أي السحاب لبلد ميت أي مجدب ليس فيه نبات. (2)
قال ابن الجوزي (3) : حتى إذا أقلت سحاباً أي حملت قال ابن الأنباري شبه ما تحمله الريح من ماء وغيره بالولد التي تشتمل عليه الناقة ومثل هذا القول قال الشوكاني. (4)
التفسير العلمي لهذه الآية:
__________
(1) اللسان (قلل) 11/565-566.
(2) ينظر جواهر الحسان 2/25 التبيان في تفسير غريب القران 1/402 الجامع لأحكام القرآن 7/229 فتح القدير 2/214.
(3) ينظر زاد المسير 4/394.
(4) فتح القدير 3/127.(1/17)
لقد تبين أن هناك رياحاً مركبة أفقية وهي تقوم بعملية سوق السحاب ومركبة رأسية وهي مسؤولة عن عملية الرفع للسحب وحملها وهو المعنى في قوله تعالى (أقلت سحاباً) وتخبرنا الآية أن تلك الرياح هي مؤشرات مرحب بها عند اقتراب المطر (رحمته) حينما تكون القوة الصاعدة الحملية للرياح متوازنة مع قوة وزن السحاب المتجهة إلى أسفل، (أقلت سحاباً ثقالاً) والنتيجة هي أن القوة الأفقية تصبح مؤثرة لتحريك السحاب جانباً (سقناه لبلد ميت). (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي للآية:
أطلق الإرسال على الانتقال على وجه الاستعارة، فإرسال الرياح هبوبها من مكان الذي تهب فيه ووصولها، وحَسَّن هذه الاستعارة أن الريح مسخرة إلى المكان الذي يريد الله هبوبها فيه فشُبهت بالعاقل المرسل إلى جهة ما ... وقرأ الجمهور الرياح (2) بصيغة الجمع – وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف الريّحَ بصيغة المفرد باعتبار الجنس، فهو مساو لقراءة الجمع. (3)
وفي التفسير العلمي نجد أن هناك عدة رياح وليست رياح واحدة منها الرياح الرأسية التي تحمل وتقل السحاب ومنها رياح أفقية التي تسوق السحاب.
__________
(1) تيسير الرحيم الرحمن في الإعجاز العلمي للقرآن 198-199.
(2) القراءات السبعة لأبن مجاهد 238، وينظر النشر في القراءات العشر 2/269.
(3) ينظر التحرير والتنوير 8/178-179.(1/18)
وقوله تعالى (نُشْرا) يقرأ بالنون والشين مضمومتين وهو جمع. وفي واحده وجهان: أحدهما نشور مثل صبور وصبر، فعلى هذا يجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل، أي: نشر الأرض، ويجوز أن يكون بمعنى مفعول كركوب بمعنى مركوب أي منشورة بعد طي، أو منتشرة: أي محياة من قولك: أنشر الله الميت فهو منشر ويجوز أن يكون جمع ناشر مثل نازل ونزل، ويقرأ بضم النون وإسكان الشين على تخفيف المضموم، ويقرأ (نَشْرا) بفتح النون وإسكان الشين، وهو مصدر نشر بعد طي، أو من قولك: أنشر الله الميت فنشر: ونصبه على الحال أي ناشرة أو ذات نشر، كما تقول جاء ركضاً: أي راكضاً، ويقرأ بُشْرا بالباء وضمتين وهو جمع بشير مثل قليب وقلب، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف، ومثله في المعنى (أرسل الرياح مبشرات) ويقرأ بشرى مثل حبلى أي ذات بشارة، ويقرأ (بَشْرا) بفتح الباء وسكون الشين وهو مصدر بشرته إذا بشرته. (1)
يقول ابن عاشور (2) : (فحصل من مجموع هذه القراءات أن الرياح تنشر السحاب وأنها تأتي من جهات مختلفة تتعاقب فيكون ذلك سبب امتلاء الأسحبة بالماء وأنها تحيي الأرض بعد موتها، وأنها تبشر الناس بهبوبها، فيدخل عليهم بها سرور.وحتى ابتدائية وهي غاية لمضمون قوله (نشرا بين يدي رحمته)، الذي هو في معنى متقدمة، رحمتَه ، أي تتقدمها مدة وتنشر أسحبتها حتى إذا أقلت سحاباً أنزلنا به الماء، فإنزال الماء هو غاية تقدم الرياح وسوقها المطر، وكانت الغاية مجزأة أجزاء فأولها مضمون قوله (أقلت أي الرياحُ السحابَ)، ثم قوله (ثقالاً)، ثم مضمون (سقناه) أي إلى البلد الذي أراد غيثه، ثم أن ينزل منه الماء. وكل ذلك غاية لتقدّم الرياح، لأن المفرع عن الغاية هو غاية. (3)
__________
(1) التبيان في إعراب القران 1/276-277.
(2) التحرير والتنوير 8/180.
(3) ينظر التحرير والتنوير 8/181.(1/19)
أما قوله (أقلت سحاباً) فقد ذكر صاحب اللسان أنه يقال أنه أقل الشيء يقله إذا رفعه وحمله وأقل الجرة: أطاق حملها وهذا المعنى موافق لأقوال المفسرين من أنها بمعنى حملت الرياح سحاباً ثقالاً بالماء الذي صارت تحمله يقال أقل فلان الشيء واستقل به إذا طاقه وحمله وهذا موافق لما جاء به العلم الحديث من رفع الرياح السحب كما تفعل الرياح الرأسية.
أما الضمير في سقناه فعائد إلى السحاب قال الشهاب: السحاب: أسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة. وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع. وأهل اللغة تسميه جمعاً، فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره. (1)
قال الثعالبي: والعرب تصف السحاب بالثقل والريح تسوق السحاب من ورائه فهو سوق حقيقة. (2) وهذا ما جاء به العلم الحديث من أن الرياح الأفقية هي التي تسوق السحاب.
كما شبه المفسرون ما تحمله الريح من الماء وغيره بالولد التي تشتمل عليه الناقة وسوف نتناول هذا التشبيه في قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح). (3) لبيان دقة هذا التشبيه.
وقوله تعالى (فأنزلنا به الماء) الضمير في به للبلد (فأخرجنا به من كل الثمرات) أي المختلفة الأنواع، مع أن ماءها واحد. وقيل الضمير في به للماء أو للبلد (كذلك) أي مثل ذلك الإخراج (نخرج) الموتى أي نحييهم بعد صيرورتهم رميماً يوم القيامة. (4)
الرياح تثير السحاب:
قال تعالى: ( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ). (5)
معنى الإثارة لغة:
قال الجوهري (6) : ثار الغبار يثور ثورا وثورانا، أي: سطع وأثاره غيره وثارت بفلان الحصبة.
__________
(1) ينظر جواهر الحسان 2/25، محاسن التأويل 7/154.
(2) جواهر الحسان 2/25.
(3) الحجر / 22.
(4) محاسن التأويل 7/154.
(5) فاطر / 9.
(6) الصحاح (ثور) 2/606.(1/20)
وفي اللسان (1) : ثارَ الشيءُ ثَوْراً وثُوراً وثَوَرانا وثور هاج ... وثار الدخان والغُبار وغيرهما يِثور ثوراً وثوراناً: ظهر وسطع وأثاره هو ... وكل ما استخرجته أو هجمته، فقد أثرته إثارة وإثاراً.
وفي القاموس المحيط (2) : الثَّورُ: الهيجان، والوثب، والسطوع، ونهوض القطا والجَراد ... وحُمْرَةُ الشَّفَق الثائرة فيه.
وقال الراغب في مفرداته: ثار الغبار والسحاب ونحوهما يثور ثوراً وثوراناً انتشر ساطعا وقد أثرته، قال تعالى (فتثير سحابا).
أقوال المفسرين في أثارة السحب وسوقها:
قوله تعالى: فتثير سحاباً أي تزعجه من مكانه من حيث هو وقال أبو عبيدة تجمعه وتجيء به (فسقناه إلى بلد ميت) قال أبو عبيدة سبيله فتسوقه لأنه قال (فتثير سحاباً) وسقناه بمعنى نسوقه والعرب تضع (فعلنا) في موضوع (نفعل). (3)
التفسير العلمي:
السحاب هو بخار كان قبل كامناً في الهواء غير المشبع أو في الهواء فوق المشبع خالي من الأيونات أو الغبار، ثم ظهر بالتكاثف لما انقلبت حالة الهواء من حيث التشبع أو من حيث نسبة الأيونات فيه وهذا الانقلاب لا يكون إلا بفعل الرياح سواء أكان ذلك يحملها البخار إلى المناطق الباردة العلوية، أو بحملها الغبار والأيونات في تلك المناطق، ومن هنا يتضح لنا أن المراد بإثارة الرياح للسحاب هو أثر الرياح في تكوين السحاب لا في نقله. (4)
__________
(1) لسان العرب (ثور) 4/108-109.
(2) القاموس المحيط (ثور) 1/383.
(3) ينظر زاد المسر 6/476، فتح القدير 4/340 ،صفوة التفاسير 2/567.
(4) ينظر الإسلام في عصر العلم 349.(1/21)
يقول حنفي احمد: والإثارة بمعنى التحريك والإظهار ليس المقصود بها أن السحاب يكون موجوداً بمكان لا يرى منه، ثم تحركه الرياح ومن هذا المكان إلى مكان آخر بحيث يظهر للأنظار، إذ لو كان هذا المقصود هو المقصود لأصبح معنى قوله (فتثير سحاباً فسقناه) فتحرك سحاباً فحركنا المتحرك وهو ما لا معنى له. فالمقصود إذاً من إثارة الرياح للسحاب ليس نقل السحاب من مكان إلى آخر بل المقصود منه تحريك وتهييج الأصل الذي يكون منه السحاب والموجود في الهواء بحالة يتعذر معها رؤيته، ثم إظهار هذا الأصل بحالة وصورة يمكن معها كشفه بالنظر. والمعلوم من المشاهدة العادية بينها ثم انعكاسه منها، فيكون إذن قبل إظهاره عبارة عن ماء موجود في الهواء كالغاز أجزاؤه دقيقة كالهواء لا ترى لأنها لا تعكس الضوء. أو بعبارة أخرى يدل قوله (فتثير سحاباً) على أن الهواء فيه ماء بصورة أجزاء غازية، منتشرة فيه بحيث لا ترى، و(تسمى في هذه الحالة ببخار الماء الغازي) فإذا ما تكاثف هذا البخار الغازي ظهر بصورة سحاب تراه العين. (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
في قوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح) إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار دون أن يقول هو الذي أرسل الرياح لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرده بالإلهية ثنّي هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال (المطر) فهذا عطف على قوله (فاطر السماوات والأرض). (2)
__________
(1) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 361-362.
(2) ينظر التحرير والتنوير 22/267.(1/22)
وقد جيء في قوله تعالى (أرسل) بالفعل الماضي بخلاف قوله في سورة الروم (الله الذي يرسل الرياح) (1) لأن القصد هنا الاستدلال بما هو واقع إظهاره لإمكان نظيره وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإحياء وتقرر وقوعه لذا جيء في المضي. وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه. (2)
قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: أي أرَسل بفعل الماضي لما اسند إلى الله وما يفعل تعالى: كان، لا يبغي زماناً ومكاناً ولا جزء زمان فلم يأت بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه، ولأنه فرغ من كل شيء، فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة. (3)
وقرأ الجمهور (الرياح) بصيغة الجمع. وقرأ حمزة والكسائي (الريح) بالإفراد والمعرف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع. (4) والله الذي أرسل الرياح مبتدأ وخبر (5) وصيغة المضارع وفي قوله تعالى (فتثير سحاباً) لحكاية الحال الماضية استحضاراً لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال قدرته وحكمته ولأن المراد بيان إحداثها لتلك الخاصية ولذلك اسند إليها أو للدلالة على استمرار الإثارة. (6)
__________
(1) الروم /48.
(2) ينظر التحرير والتنوير 22/268.
(3) ينظر التفسير الكبير 26/7 والبحر المحيط 9/16-17.
(4) ينظر حجة القراءات 592، النشر في القراءات العشر 2/223، وينظر إرشاد العقل السليم 7/145 التحرير والتنوير 22/269.
(5) إرشاد العقل السليم7 /145.
(6) ينظر الكشاف 1/981 ،الجامع لأحكام القرآن 14/327، إرشاد العقل السليم 7/145.(1/23)
وقد أشارت المعاجم اللغوية إلى معنى الإثارة الدالة على السطوع والظهور والهيجان والنهوض فهي دالة على الحركة والظهور الموافقة لما جاء به العلم الحديث من أثر الرياح في ظهور السحب وتكوينها وحركتها في السماء، وليس كما قال بعض المفسرين (فتثير سحابا) أي تزعجه من مكانه من حيث هو بل كما قال أبو عبيدة تجمعه وتجيء به فالرياح هي التي تساهم في تكوين السحب ومن البخار التي تحمله والغبار والأنوية.
أما قوله تعالى (فسقناه) فهو التفات (1) من الغيبة إلى المتكلم وقد عدل من لفظ الغيبة إلى التكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل عليه وأفخم وفيه معنى آخر وهو أن الأقوال المذكورة في هذه الآية ما أخبر به سبحانه سببه وهو سوق السحاب فإنه يسوق السحاب فتسوقه الملائكة بأمره وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله وسائر الأسباب التي تقتضيها حكمه وعلمه وعادته سبحانه في كل هذه الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم الدالة على أن له جنداً وخلفاً قد سخرهم في ذلك كقوله تعالى (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه). (2) أي إذا قرأه رسولنا جبريل. (3)
قال أبو السعود: وإيراد الفعلين (فسقناه أحيينا) على صيغة الماضي للدلالة على التحقيق وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن اختصاصهما به تعالى لما فيه من مزيد الصنع والتكميل والمماثلة بين أحياء الأرض وبين البعث الذي يشبه به قوله تعالى كذلك النشور. (4)
الرياح لواقح:
__________
(1) الالتفات في اللغة الصرف والعدول ، يقال: التفت التفاتاً والتفت إليه صرف وجهه إليه/ لسان العرب/ لفت وفي الاصطلاح، الانتقال في الكلام من الغيبة إلى الخطاب أو التكلم أو العكس/ معجم المصطلحات البلاغية وتطورها 294.
(2) القيامة /18.
(3) ينظر البرهان في علوم القرآن 3/319 الإتقان 2/231.
(4) ينظر إرشاد العقل السليم 7/145.(1/24)
قال تعالى: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ). (1)
اللقاح في اللغة:
قال الخليل (2) : اللقاح اسم ماءِ الفحل، واللقَّاحُ: مصدر لقِحَت الناقةُ تَلْقَح لُقاحاً، وذلك إذا استبان لَقاحُها يعني حَمْلهَا، فهي لاقح.. واللواقح من الريح: التي تحملِ النَّدى ثم تُمجَّه، في السَّحاب وفي كل شيءَ، فإذا اجتمع في السَّحاب صار مَطراً.
وقال ابن فارس (3) : والناقة لاقحٌ ولقوح. واللَّقِحْة: الناقة تُحلَب، والجمع لقاحُ ولَقَح. والمَلاَقح: الإناث في بطونها أولادُها.
وفي الصحاح (4) : القحَ الفحلُ الناقةَ والريحُ السحابَ. ورياحٌ لواقحٌ. ولا تقل مَلاقح. وهو من النوادر. وقيل الأصل فيه ملْقِحة ولكنَّها لا تُلْقِح إلا وهي في نفسها (لاقح) كأن الرياح لقحت بخير فإذا أنشأت السحاب وفيها خير وصل ذلك إليه. وتلقيح النخل معروف.
__________
(1) الحجر / 22.
(2) العين (لقح) 3/47.
(3) مقاييس اللغة (لقح) 5/262.
(4) الصحاح (لقح) 1/401.(1/25)
وفي اللسان (1) : قال الأزهري (وأرسلنا الرياح لواقح، فهو بين، ولكن إنما يقال: إنما الريح مُلْقحة تلقح الشجر، فقيل كيف لواقح، ففي ذلك معنيان: أحدهما أن الريح هي التي تَلْقَحُ بمرورها على التراب والماء فيكون لقاح فيقال: ريح لاقح كما يقال ناقة لاقح ويشهد على ذلك أنه وصف ريح العذاب بالعقيم فجعلها عقيماً إذا لم تُلْقِح، والوجه الآخر وصفها باللَّقح وإن كانت تُلْقح كما قيل ليل نائم والنوم فيه، وسر كاتم وكما قيل المبروز والمحتوم فجعله مبروزا ولم يقل مُبْرزا فجار مفعول لمُفعَل، إذا لم يزد البناء على الفعل كما قال (ماء دافق) (2) ، وقال ابن السكيت: لواقح حوامل، واحدتها لاقح، وقال أبو الهيثم: ريح لاقح أي ذات لقاح كما درهم وازن أي ذو وزن، ورجل سائف ونابل، ولا يقال رَمَحَ ولا ساف ولا نُبَل، يُراد ذو سيف وذو رُمْح وذو نبلِ.
وقيل الناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن وناقة لاقح إذا كانت حاملا ونوق لواقح واللَّقاح ذوات الألبان الواحد لقوح. (3)
أقوال المفسرين في قوله لواقح:
__________
(1) لسان العرب (لقح) 2/582.
(2) الطارق / 6.
(3) النهاية في غريب الحديث 4/362.(1/26)
عن الحسن (وأرسلنا الرياح لواقح) لواقح للشجر وللسحاب تمر به حتى يمطر وعن قتادة لواقح قال تلقيح الماء في السحاب عن ابن عباس لواقح تلقح الشجر وتمري السحاب وعن الضحاك لواقح: الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتليء ماء وعن ابن مسعود قال يرسل الله الرياح فتحمل السحاب فتدر كما تدر اللقحة ثم تمطر. ويقال لواقح جمع لاقح لأنها تحمل السحاب وتقلبه وتصرفه ثم تحمله فينزل ومما يوضح هذا قوله (يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً). (1) أي حملت. وقال النخعي تلقح السحاب ولا تلقح الشجر. (2) أما قوله (وما أنتم بخازنين) نفي عنهم ما أثبته لجنابه بقوله ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ ) (3) كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل وما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها ليجعل سقيا لكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور. (4)
التفسير العلمي لهذه الآية:
__________
(1) ينظر جامع البيان 14/19-20 ،زاد المسير 4/393-394 ،الجامع لأحكام القرآن 10/15 ،التبيان في تفسير غريب القرآن 1/255 ،تفسير القرآن العظيم 2/550 ،أنوار التنزيل 1/530 إرشاد العقل السليم 5/72 ،فتح القدير 3/127.
(2) الأعراف /57.
(3) الأعراف / 57.
(4) إرشاد العقل السليم 5/72، فتح القدير 3/127.(1/27)
لقد اكتشف العلماء حديثاً أن الرياح فضلاً عن حملها لبخار الماء فإنها تحمل معها أنوية التكثيف على اختلاف أنواعها من جسيمات صغيرة تنتشر في الهواء بكميات وفيرة أشبه ما تكون بالذرات أو طعام المواد الذي نراه يسبح في حزمة من أشعة الشمس قوامه جسيمات من التربة ... وأتربة المصانع والدخان وحبوب اللقاح ... وكل هذه الجسيمات صغيرة غالباً لا يمكن رؤيتها بالعين المجردة ... وهذه الجسيمات تعمل على تماسك أو تجمع جزيئات الماء العالقة في الهواء مع بعضها البعض لتكون قطر الماء أو بلورات ثلج، ولهذا تدعى نوى التكاتف وبهذا فإن قوله تعالى (وأرسلنا الرياح لواقح) يشير إلى فضل الله على عباده يجعل الرياح بهذه الوظيفة. (1)
ويقول الدكتور محمد مختار عرفات: ومن معطيات العلوم الحديثة التي تقر دور الرياح في تلقيح أنواع السحب بنويات التكاثف وبحوادث التفريغ الكهربي بين الشحنات السالبة والموجبة في السحب لتهيئة ظروف التهطال، وقد تقرر دور الرياح أيضاً في حمل الطلع (وهي الأبواغ المولَّدة للنطاق) من الأجهزة المذكَّرة إلى الأجهزة المؤنثة للنبات لتلقيحها. (2)
__________
(1) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 357-359 ،وينظر الإسلام في عصر العلم 351 ،التفسير العلمي للآيات الكونية 358-362 ، إشارات علمية/ كارم السيد 153 ،القرآن الكريم حجة للإنسان أم عليه 71 نظرة علمية للكتب السماوية ،118 القرآن إعجاز يتعاظم 136 ،تيسير الرحيم الرحمن 192.
(2) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 108(1/28)
أما قوله تعالى: (فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) فهو إشارة واضحة إلى دور ماء المطر في الطبيعة التي يتبخر الماء فيها بحرارة الشمس من سطح الأرض ويتكاثف ليهطل في صورة مطر أو ثلج يملأ الأنهار ثم يعود إلى المحيطات ليتبخر ويعيد القصة من جديد ولهذا يذكر القرآن أن هذا الماء النازل من السماء لن يستطيعوا حفظه أو تخزينه إلا إذا شاءت إرادة الله أن يعود بعضه في باطن الأرض ويتخلل طبقاتها (1) كما في قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض). (2) وقوله (وأنزل من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون). (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي: قرأ الجمهور (الرياح) على الجمع، وهو ملائم لما بعده وهو قوله لواقح لفظاً ومعنى؛ ويقرأ على لفظ الواحد وهو جنس (4) وينبغي أن يكون معنى ذلك أن الريح وإن كان لفظها واحداً فمعناه الجمع لأنه يقال جاءت الريح من كل وجه وهبت من كل مكان فقيل لواقح لذلك فيكون معنى جمعهم نعتها وهي في اللفظ واحدة معنى قولهم أرض سباسب (5) وثوب أخلاق ... وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتسع. (6)
__________
(1) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 359.
(2) الزمر/ 21.
(3) المؤمنون /18.
(4) ينظر التبيان في إعراب القرآن 2/73.
(5) السباسب و البسابس القفار وأصلها سَبْب وببس. ينظر لسان العرب (سبسب) 1/460.
(6) ينظر جامع البيان 14/19 الجامع لأحكام القرآن 10/15.(1/29)
أن الرياح التي تأتي بالخير تكون عدة رياح وليست ريحا واحدة وهذا ينطبق على قوله تعالى رياح لواقح لأن هناك عدة رياح فالرياح الصاعدة هي التي تحمل معها بخار الماء وأيونات التكثيف إلى الطبقات الجوية العليا الباردة كما في قوله تعالى حتى إذا أقلت سحاباً أي حملت وهناك ريح أفقية تسوق السحاب وتجمعه (وتعمل على شحن الغيوم بشحنات كهربائية بعضها موجب وبعضها سالب نتيجة الاحتكاك الذي يحصل بفعل حركة الهواء والذي يعمل عمل الحث الكهربائي ولأن الشحنات المختلفة تتجاذب مع بعضها فإن ذرات بخار الماء المختلفة الشحنات تتجاذب وتتحد لتكون قطرات المطر). (1)
أما قوله تعالى (لواقح) ففيه ثلاثة أوجه أحدهما أصلها ملاقح لأنه يقال ألقح الريح السحاب (2) و إلى هذا ذهب أبو عبيدة (3) فهو يقول: أن لواقح بمعنى ملاقح فسقطت الميم منه: قال الشاعر:
ليبك يزيد بائس لضراعة ... وأشعت من قد طوحته الطوائح. (4)
أراد المطاوح محذوف الميم فمعنى الآية عنده وأرسلنا الرياح ملقحة فيكون هاهنا فاعل بمعنى مفعل كما أتى فاعل بمعنى مفعول كقوله (ماء دافق) (5) أي مدفوق (وعيشة راضية) (6) أي مرضية قال ابن قتيبة (7) يريد أبو عبيدة أنها تلقح الشجر وتلقح السحاب ولست أدري ما اضطره إلى هذا التفسير بهذا الاستكراه وهو يجد العرب تسمي الرياح لواقح والريح لقحاً.
__________
(1) ينظر نظرة علمية للكتب السماوية 119.
(2) ينظر التبيان في إعراب القرآن 2/73.
(3) ينظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 348.
(4) قال لبيد بن ربيعة (لبيك يزيد طارح كخصومةٍ متخبط بما تطيح الطوائح) شرح ديوان عامر بن لبيد 326.
(5) الطارق /6 ، وينظر زاد المسير 4/393.
(6) الحاقة /21.
(7) تفسير غريب القرآن 236-237.(1/30)
قال ابن الانباري شبه ما تحمله الريح من ماء وغيره بالولد التي تشتمل عليه الناقة وكذلك يقولون حرب لاقح من الشر فعلى قول أبي عبيدة يكون معنى لواقح أنها ملقحة لغيرها وعلى قول ابن قتيبة أنها لاقحة لنفسها وأكثر الأحاديث تدل على القول الأول كما ذكر عن ابن مسعود وغيره. (1)
ويقول الرازي (2) أن الريح في نفسها لاقح بطريقتين الأول أن الريح حامل للسحاب كما في قوله تعالى (أقلت سحاباً) أي حملت فعلى هذا تكون الريح لاقحة بمعنى حاملة تحمل السحاب والماء والطريق الثاني: قال الزجاج: يجوز أن يقال للريح لقحت إذا أتت بالخير، كما قيل لها عقيم إذا لم تأت بالخير وهكذا تقول العرب قد لقحت الحرب وقد ولدت ولداً أنكد يشبهون ما تشمل عليه من ضروب الشر بما تحمله الناقة هاهنا.
وقد فسر أهل التفسير العلمي بهذه المعاني فالرياح حاملة للسحاب والماء وكذلك ملقحة للسحاب وللشجر كما أثبت العلم الحديث.
__________
(1) ينظر زاد المسير 4/394.
(2) التفسير الكبير 19/140.(1/31)
غير أن الغمراوي لا يرى في قوله تعالى: (وأرسلنا الرياح لواقح) أنها تأتي بمعنى لواقح للزرع والشجر فهو يقول: (وأرسلنا الرياح لواقح، فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) مفتاح هذه الآية هو ترتيب إنزال الماء لسقيا الناس على إرسال الرياح (لواقح). والناس يحملون وصف الرياح لواقح على أنها لواقح للزرع والشجر، وهذا منهم إغفال للنصف الثاني؛ إذ لو كان ما ذهبوا إليه هو المراد لترتب عليه إزكاء الزرع وإخراج الثمر، لا إنزال الماء. وأما وقد رتب الله على إرسال الرياح لواقح إنزال الماء من السماء، فقد تحتم أن يكون للواقح معنى آخر غير معنى تلقيح الزرع، ويكون ذلك شبيها بلقاح الأحياء من زرع وحيوان، كما يكون بينه وبين نزول الماء صلة ما بين العلة والمعلول، أو السبب والمسبب. (1) فالتلقيح هنا بين قطيرات وقطيرات، أو سحاب وسحاب، لا بين زهر وزهر. (2) والذي يبدو أن هناك علاقة قوية بين قوله لواقح بمعنى أنها تلقح الشجر والزروع وبين إنزال الماء وقد أشار الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي إلى هذه العلاقة بقوله: (أرى أن هناك علاقة قوية، وارتباطاً وثيقاً، وحكمة عظيمة: فتلقيح الأشجار والزروع عن طريق الرياح لا فائدة منه ترجى، ما لم يكن هناك ماء يسقي الأشجار والزروع الذي هو سبب نموها، فنموها إذن وازدهارها متوقف على وجود الماء، والماء مصدره المطر فعلى ذلك يستلزم من تلقيح الرياح للأشجار، والزروع وجود نمو لها، ووجود النمو يستلزم وجود ماء، فبدون ماء لا يوجد نمو، وبالتالي لا فائدة من التلقيح. ومن ذلك يتضح أن هناك مناسبة بينه وعلاقة قوية بين وجود التلقيح ووجود الماء النازل من السماء. (3)
__________
(1) الإسلام في عصر العلم 351.
(2) المصدر نفسه 352.
(3) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 76-77..(1/32)
ومن هذا يتبين لنا أن سياق الآية يحتمل المعنيين العلميين بل جميع المعاني التي ذكرها المفسرون وأهل التفسير العلمي واختلاف التفسير بينهم هو اختلاف في التفاصيل وقد جاء التفسير كل حسب علمه بتلك الظاهرة الطبيعية ولا يوجد تناقض بين ما قاله المفسرون وأهل التفسير العلمي فقد أشار المفسرون إلى هذه المعاني (وأن ما روي في هذا الشأن عن الصحابة ليس هو من كلامهم قطعا، وإنما هو قول سيد البشر (الذي لا ينطق عن الهوى) وإن لم يسندوه إليه، لأنه من علم الغيب فيكون في حكم المرفوع لا في حكم الموقوف، لأن القرينة تصرفه عن ذلك). (1) أما الفاء في قوله تعالى (فأنزلنا) منهم (2) من قال أنها تفيد التعقيب لتتابع الحوادث فالتلقيح أولاً ثم نزول المطر ومنهم (3) من قال أنها فاء السببية أي نجم عن هذا التلقيح نزول المطر وهذا ما أشار إليه العلم الحديث فكلا هذين التوجيهين في الفاء يتحمله النص القرآني والعلم الحديث.
__________
(1) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 79.
(2) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 357 ، وينظر نظرة علمية للكتب السماوية 118.
(3) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم / كارم السيد 153 الله والكون / محمد جمال الدين الفندي.(1/33)
أما النواحي البلاغية في تفسير هذه الآية فقد ذكر لنا المفسرون وأهل التفسير العلمي عدة تشبيهات ،ويختلف التشبيه بحسب حمل معنى قوله تعالى (لواقح) فمن حملها على معنى حامل فهو كما يقال ناقة لاقح أي حامل (ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه). (1) ومن حمل قوله تعالى (لواقح) جمع لاقح كما يقال لقحت الناقة وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء فحملت، وهو يناظر ما يحدث عند تلقيح الرياح للسماء بإمداده بالماء، وكأن الرياح جارية مجرى الفحل للسحاب لأنها تمده بالماء ونوى التكاثف اللازم لتكثف هذا الماء على شكل قطرات أو ثلج. (2) وهذا التشبيه قد ذكره القرطبي (3) بقوله :فالرياح كالفحل للسحاب.وهناك نوع آخر من التلقيح(وهو ما تحمله معنى الرياح من حبوب اللقاح من زهرة إلى أخرى فيكون التلقيح من نوع ثالث..تلقيح بالمعنى الحرفي للآية ) (4) وبهذا يمكن حمل المعنى في هذه الآية على الحقيقة والمجاز في آن واحد وهذا ما سماه الزركشي بالتضمين كما ذكرنا سابقاً.(فنحن أمام كلمة صادقة مجازاً وحرفياً وعلى أي صورة قلبتها تصدق معك وهي بعد هذا كلمة جديدة وغريبة وصفة مبتكرة توصف بها الرياح) (5) وهذا من بلاغة القرآن الكريم وإعجازه اللغوي والعلمي في آن واحد.
__________
(1) روح المعاني 14/30.
(2) المعارف الكونية بين العلم والين 358.
(3) ( ينظر الجامع لأحكام القرآن 10 /15.
(4) ينظر المنظار الهندسي 119.
(5) المنظار الهندسي 119.(1/34)
وفي قوله تعالى (فأسقيناكموه) أي أسقيناكم أنتم ومواشيكم، وزروعكم وأشجاركم من هذا الماء، فكلمة (أسقيناكموه) أبلغ من سقيناكموه، لأن سقيناكموه تعني نسقيكم أنتم وحدكم دون مواشيكم وزوعكم، وهذا ما لا يريده القرآن: تقول: (أسقيته نهراً)، فالإنسان هنا لا يشرب نهراً وإنما السقيا له ولمواشيه، ولزروعه (1) ، فقد جاء في مختار الصحاح: (سقاه لشفته، وأسقاه لماشيته وأرضه) (2) .
أما قوله تعالى :(وما أنتم بخازنين) فهو إشارة واضحة إلى دورة المياه في الطبيعة فلم يكن القدماء يعرفون الدورة المائية بشكل مفصل لذا جاء قوله تعالى (وما أنتم بخازنين) يشير إلى تلك الدورة المائية التي تحفظ المياه داخل الغلاف الجوي ثم تعيده إلى الأرض وأيضاً حفظه في الآبار والعيون والأنهار وغير ذلك وقد تمكنت هذه الإشارة على حمل هذه المعاني.
__________
(1) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 77.
(2) مختار الصحاح (سقى)305.(1/35)
الفصل الأول
ضوابط التفسير العلمي :
ذكر الكثيرون من المفسرين ، وأهل التفسير العلمي خاصة ضوابط للتفسير العلمي وبعد الجمع وجدتهم قد اتفقوا على بعض هذه الضوابط واختلفوا في بعضها ومن هذه الضوابط :
1-يجب على المفسر أن لا يخالف القواعد اللغوية الواضحة المقررة في التفاسير (1) ..وذكر أهل التفسير العلمي عدداً من هذه الضوابط اللغوية التي وضعوها تحت عنوان ( ضوابط التفسير العلمي ) ولكثرتها سنذكر هذه الضوابط اللغوية لاحقا .
2- الاستعانة بالتفاسير السابقة مع استبعاد ما لا يتأتى قبوله عقلا (2) .
3-أن يبتعد عن الاحتمالات والنظريات العلمية التي تخضع للتغييرات لئلا لا يترتب على هذا التفسير العلمي للآية نتائج سيئة، لأن نصوص القرآن صحيحة ثابتة وبعيدة عن التغيرات والتقلبات التي تطرأ على النظريات العلمية, لذا يجب اعتماد معلومات المعرفية التي وصلت إلى حد الحقائق العلمية الثابتة (3) .
أما بالنسبة إلى النظريات العلمية الراجحة فلا بأس من استخدامها والاستئناس بها لإلقاء الأضواء العلمية على الآية الكريمة لتقريب فهم الناس لها, ولكن إن ظهر خطأ أو تقصير في هذه النظرية فإن الخطأ يجب أن ينسب إلى النظرية لا إلى الآية الكريمة وحاشا لآيات الله من شيء كهذا فالقرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم عليم. (4) 4-استحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية .
__________
(1) ينظر التفسير العقلي حجيته وضوابطه 210 ، الإسلام في عصر العلم 223 ارتياد الفضاء 9 تيسير الرحيم الرحمن 30 التفسير العلمي للقران الكريم 160
(2) ينظر الإشارات العلمية في القران الكريم / د. كارم السيد غنيم 284 ارتياد الفضاء 10 .
(3) ينظر تيسير الرحيم الرحمن 30 التفسير العقلي حجيته وضوابطه 210 – 211 التفسير العلمي للقران الكريم 160
(4) تيسير الرحيم الرحمن 30-31.(1/1)
إن حقائق القرآن قطعية الثبوت، فإذا حصل تعارض بين حقيقية قرآنية وما يعتقد انه حقيقة علمية فينبغي التريث، يجب تمحيص هذه الحقيقة العلمية ، التي غالباً ما يثبت أنها ليست حقيقة ، بل هي نظرية حتى وان تعددت البحوث التي تؤيدها ، فعلم الإنسان خاضع للتغيير والتطور ، أما علم الله فكلي شامل قطعي محيط لا يعتريه أي تغيير أو تحوير (1) يقول الدكتور محمد مختار عرفات : لا يمكن أن يقع خلاف أو تناقض مطلقاً بين المعرفة المأخوذة عن القرآن وبين العلم الصحيح الذي يدل عليه العقل السليم، وان حصل فهو اختلاف ظاهري ناشئ حتماً عن أحد أمرين: إما عن جهل لغوي باللغة العربية أو عن جهل علمي (2) .
5-استخدام القرآن للحكم على صحة النظرية أو بطلان نظرية لم تتحول بعد إلى حقيقة فالحقائق القرآنية هي المعيارية التي يجب أن يحتكم إليها العلم (3) .
6-أن يكون المفسر محيطا بقدر من علوم القرآن كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ والقراءات ،وكذلك أصول الدين (4) .
أما الضوابط اللغوية التي ذكرها المفسرون العلميون في التفسير العلمي فهي كثيرة وهي كل القواعد اللغوية التي يجب على أي مفسر اتباعها وليس شرطاً أن يكون مفسراً علمياً وما ذكره المفسرون وأهل التفسير العلمي هي بعض هذه الضوابط اللغوية لأهميتها وهي كما يأتي:
__________
(1) ينظر الإشارات العلمية في التفسير القرآن الكريم 283 . مجلة الإعجاز العلمي العدد 10 ... ص 14 .
(2) ينظر الإعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 15 – 16 .
(3) ينظر مجلة الإعجاز العلمي ع (1) . ص 14 ، ارتياد الفضاء 10 .
(4) الإشارات العلمية في القرآن الكريم / د . كارم السيد 284 .(1/2)
1 – لا يمكن فهم القرآن إلا من جهة لسان العرب ... والاعتماد على المخصصات :-القيود الواردةعن القرآن والنبي (صلى الله عليه وسلم ) والصحابة والتابعيين ( رضي الله عنهم )حتى يستقيم المعنى فإن التفسير باللغة دون الرجوع إلى المأثور يوقع في زلل كبير( أي ترجيح الشرعي على اللغوي) ... ولا يجوز تفسيره بغير المعهود من معانيه لأن معانيه أجل المعاني وأعظمها وأفصحها.. ويحمل القرآن الكريم على المعنى الأغلب والأشهر والأفصح دون الشاذ الضعيف ، أو نادر الاستعمال .. وكل معنى مستنبط من القرآن الكريم غير جارٍ على اللسان العربي فليس في علوم القرآن في شيء .. ولا يجوز حمل ألفاظ القرآن على اصطلاح حادث لذا يجب أن تُحمل المعاني اللغوية في القرآن الكريم على ما هو معهود في عصر النبوة ولا يحمل على التطور الدلالي الذي حدث بعد ذلك ،ويحترز عن ذلك أن قسماً من الألفاظ في القرآن الكريم لها دلالتها الخاصة بعد أن كان لها دلالتها العامة قبل الإسلام فقد نقلت إلى معان شرعية لها صلة بالمعنى اللغوي ، مثل الصلاة ، والصيام ، والمسلم ,والمنافق (1) .
2-مراعاة تعدد اللفظ الواحد:فمن أهم سمات اللغة العربية، وهي لغة القرآن – ثراؤها في الألفاظ والمترادفات وفنون البيان والبديع والبلاغة ، ومن خصائصها تعدد مدلولات اللفظ وكثرة معانيه ، فإذا أخذ أحد الأسلاف من العلماء بمعنى معين فلا يضر أحد المحدثين أن يأخذ بمعنى آخر ، يقصد به تعميق مفهوم اللفظ وبالتالي الآية التي ذكر بها ، وهذا لا يعني إطلاقاً الغض من قدر الأقدمين ، بل كل حسب ثقافته والمعطيات العلمية التي توافرت لجيله وكانت في عصره، واللفظ واحد باقٍ (2) . ويمكن معرفة تعدد المعاني لتلك الألفاظ بالرجوع إلى المعجمات اللغوية .
__________
(1) ينظر الانحراف في التفسير المعاصر 59 .
(2) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم /د. كارم السيد 288 .(1/3)
وكذلك ينبغي أن نفهم كل عبارة قرآنية تفيد في صحيح العربية أكثر من معنى ولا يمنع منه مانع ، وهذا من خصائص كلام الله الذي لو شاء لأنزل العبارة القرآنية نصا في معنى واحد إن كان وحده هو المراد وتلك خاصية في كلام الله إذا روعيت في فهمه وتفسيره جلت من إعجاز القرآن الكريم هنا وجهاً جديدا ، وذهبت بكثير من الخلافات بين أهل التفسير (1)
3- أن يراعى المعنى الدلالي للفظ القرآني باستعراض هذه اللفظة في مواضعها في القرآن كله (2) .
4- ينبغي على العالم المفسر أن لا يتعسف في تحميل الآيات العلمية ما لا يمكن أن يتحملها إذا إن العقل المحايد يستطيع بسهولة أن يكشف التعسف في التأويل لإبراز الإعجاز العلمي وحينئذ تكون النتيجة سيئة على حساب القرآن الكريم وهو بريء منها (3) .
5- لا بد من جمع جميع الآيات الواردة في الموضوع المبحوث عنه حتى نستطيع أن نتوصل إلى الحقيقة الثابتة (4) .
6- استنباط القضايا إما من صريح النص أو من إشارات قوية واضحة (5) .
7- الاستعانة بتفسير القرآن بالقرآن كلما تيسر (6) .
8- الإلمام بالوحدة الكلية للقرآن .. فالذي يقرأ القرآن في إطار وحدته الكلية غير الذي يقرؤه قراءة انتقائية ، تنسلخ الآيات عن سياقها الكلي ... لذا يجب الاسترشاد بدلالة السياق وأسباب النزول وغيرها (7) .
__________
(1) المصدر نفسه 269 .
(2) الإشارات علمية في القرآن الكريم / د. كارم السيد غنيم 99 – 100 .
(3) ينظر مباحث في علوم أصول التفسير 145 ، وينظر تفسير الرحيم الرحمن 31 . الإشارات العلمية في القرآن الكريم د. / كارم السيد 276 .
(4) التفسير العقلي حجيته وضوابطه 210 – 211 التفسير العلمي للقران الكريم 160 .
(5) دراسات في أصول تفسير القران 136 .
(6) ارتياد الفضاء 10 .
(7) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم 290 وينظر المنظار الهندسي للقرآن الكريم 67 .(1/4)
9- لا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن الكريم ونتجه إلى التأويل ، إلا أن يكون الظاهر يقبل التأويل، وتكون حقائق العلم الثابتة تقتضي الأخذ بالتأويل الذي يتحمله القرآن الكريم من غير تعسف ولا الخروج بالألفاظ إلى غير معانيها (1) .
10- وقد اختلف المفسرون في مسألة هل يجوز حمل المعنى على الحقيقة والمجاز في آن واحد فقسم من المفسرين لم يجز ذلك وقال : لا نعدل عن الحقيقية إلى المجاز إلا إذا قامت القرائن تمنع من حقيقة اللفظ ، وتحمل على مجازه (2) وجوز القسم الآخر حمل المعنى على الحقيقة والمجاز في آن واحد وقال إن الكلمة اللغوية في القرآن لها دلالات حقيقة ومجازية،إذا كانت هناك حقيقة علمية تؤيد إحدى هذه الدلالات فلا بأس،ولكن ينبغي ألا نرفض الدلالات الأخرى (3) .
__________
(1) المصدر نفسه 276 – 277 .
(2) ينظر التفسير العلمي للقرآن الكريم 160 ، الإسلام في عصر العلم 223 .
(3) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم / د . كارم السيد 290 .(1/5)
وقد أشار بعض القدماء إلى جواز ذلك مثل الزركشي في البرهان (1) كذلك جوز ابن عاشور حمل المعنى على الحقيقة والمجاز واستشهد بعدد من الآيات وذكر أن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) قد فسر معناها على الحقيقة والمجاز ومن الأمثلة التي ساقها ابن عاشور قو له تعالى: { إن تَستَغفِر لَهٌم سَبعِينَ مَرّةً فَلَنَ يغفرَ الله لَهٌم } (2) فقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعمر بن الخطاب لما قال له لا تصلي على عبد الله ابن أبي سلول فإنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين ، فقال النبي (خيرني ربي وسأزيد على السبعين ) فحمل قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم على التخيير مع أن ظاهره انه مستعمل على التسوية ، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينة السياق لما كان الأمر واسم العدد صالحين لحملها عليهما فكان الحمل تأويلاً ناشئا عن الاحتياط (3) وقد ساق ابن عاشور أمثلة أخرى لم نذكرها اختصاراً تدل على جواز حمل المعنى على الحقيقة والمجاز معا وقد وضع عنوان يدل على هذا في المقدمة التاسعة وهي إن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها (4) .
... والجانب المهم هنا في دراستنا هو الضابط اللغوي لذا فبعد الأخذ بالضوابط العلمية التي ذكرناها سابقاً يمكن تطبيق الضوابط اللغوية – على بعض النماذج في التفسير العلمي لبيان أثر كل ضابط من هذه الضوابط على التفسير بعد تقسيم هذه الضوابط اللغوية بحسب المستويات اللغوية المعروفة وهي اللغوية والنحوية والصرفية والدلالية والبلاغية والإسلوبية, وكذلك بيان أثر القراءات القرآنية في التفسير العلمي .
أولاً : الضوابط اللغوية :
من الجوانب اللغوية
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن .
(2) التوبة / 80 .
(3) ينظر التحرير والتنوير 1 / 95 .
(4) المصدر نفسه 1 / 93 – 100 .(1/6)
1- المشترك : عرف السيوطي المشترك ( أنه اللفظ الدال على معنيين مختلفين فأكثر ، دلاله على السواء عند أهل اللغة ) (1) .
واختلف العلماء في حالة ورود لفظ المشترك ولا توجد قرينة ترجح أحد معانيه وفيما يأتي آراء العلماء وترجيح أحدها :
1- ذهب الجمهور إلى جواز استعمال المشترك في جميع معانيه واستدلوا بوقوعه في النصوص القرآنية ومنها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) (2) فالصلاة في النص الشريف (لفظ مشترك بين المغفرة والاستغفار وقد استعملت فيها دفعة واحدة ومعلوم أن الصادر من الله المغفرة ومن الملائكة الاستغفار ) (3) .
2- وذهبت الحنفية إلى القول بعدم جواز استعمال المشترك في جميع معانيه،ذلك لأن كل معنى له وضع غير الوضع الآخر والحالة هذه لا يمكن إرادة جميع المعاني لمخالفة الأصل (4) .
3- وذهب آخرون إلى جواز استعمال المشترك في كل معانيه في النفي دون الإثبات (5) .
فالراجح منها ( أن المشترك إذا دل على أحد معانيه بقرينة تبينه حملناه عليه ، وإذا لم يكن هناك مبين ولم يكن هناك مانع من حمله على جميع معانيه حملناه إذ كلما استطعنا أن نحمل كلام الله على معانٍ أكثر وأوسع في هذه الحدود كان أفضل حتى تعم الفائدة لجميع الناس) (6)
موقف التفسير العلمي من المشترك :
قال تعالى ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) (7) .
__________
(1) المزهر 1 / 349 .
(2) الأحزاب / 56 .
(3) التفسير العقلي حجيته وضوابطه 313 .
(4) المصدر نفسه 314 .
(5) المصدر نفسه 314 .
(6) دراسات في أصول التفسير 56 .
(7) الروم /1-4 .(1/7)
أدنى في اللغة : جاء في اللسان (1) : دنا الشيء من الشيء دنواً ودَناة : قَرٌبَ .. ابن الاعرابي: والدّنا ما قَرٌب من خير أو شر . ويقال : دَنا وأدنا ودنى إذا قَرَبَ والأدنى : السّفل ، أبو زيد أمثالهم كلّ دَنِي دٌونه .
أقوال المفسرين :
... نزلت هذه الآية حين غلب الفرس الروم وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على الفرس لأنهم أهل الكتاب وقوله تعالى: ( غلبت الروم في أدنى الأرض ) قيل أدنى الأرض أقرب أراضي الروم إلى فارس وقيل أقرب أرضهم من أرض العرب ( وهم من بعد غلبهم سيغلبون ) أي وهم من بعد انهزامهم وغلبة فارس لهم سيغلبون الفرس وينتصرون عليهم ( في بضع سنين ) البضع : ما بين الثلاث والتسع ، وقد غلبت الروم فارس وهزمتهم وقيل ذلك في السنة السابعة من الحرب. (2)
التفسير العلمي :
تبين الآن من الناحية العلمية والتضاريس الجغرافية أن أخفض منطقة على وجه الأرض قرب بيت المقدس (حيث أن أخفض منطقة في العالم هي بجانب البحر الميت ويبلغ انخفاضها بحدود 395 مترأ تحت مستوى سطح البحر ) (3) وكذلك هي أقرب منطقة إلى أرض العرب .
الضابط اللغوي في التفسير :
... لفظ أدنى لفظ مشترك جاء في اللغة بمعنى أقرب وهذا ما فسر به المفسرون القدماء – رضوان الله عليهم – بهذا المعنى ويأتي أيضاً بمعنى الأسفل وقد فسر أهل التفسير العلمي بهذا المعنى ( والمعنى الثاني أيضاً مقصود وهكذا قد يحمل اللفظ القرآني معاني كثيرة ) (4) .
__________
(1) اللسان (دنا) 14/272.
(2) ينظر الجامع لأحكام القرآن 14/4 ، تفسير القرآن العظيم 3/423-425 ، تفسير الجلالين 534 ، محاسن التأويل 13/165.
(3) كتاب أنه الحق 57-69 وينظر تيسير الرحيم الرحمن 169.
(4) تيسير الرحيم الرحمن 169.(1/8)
... وكما بينا سابقاً يمكن للفظ المشترك أن يحمل على جميع معانيه ما لم تكن هناك قرينة تمنع أحد معانيه , وهذا من إعجاز القرآن الكريم بحيث يمكن أن يخاطب جميع العصور وبمختلف أوجه الإعجاز فأخبر اللفظ المشترك بمعناه الأول عن أمور غيبية وحدد ذلك المكان وأخبر في الوقت الحاضر عن هذه المنطقة هي أخفض نقطة على وجه الأرض وهذا الاكتشاف لم يعرف في ذلك الوقت .
2 -المذكر والمؤنث :
ومن مجالات اللغة أيضاً ( المذكر والمؤنث ) ويمكن التفريق بين المذكر والمؤنث أن المذكر لا يحتاج إلى علامة لفظية تزاد على صيغته لتدل على تذكيرها،وتذكير صاحبها، لأن الذي يدل على تذكيرها هي الشهرة و شيوع الاستعمال ، ولا سيما استعمال الوارد في أكثر الأساليب المأثورة عن العرب.أما المؤنث فهو يحتاج إلى علامة لفظية ظاهرة أو مقدرة ( أي : ملحوظة )تزاد على صيغته، لتدل على تأنيثها وتأنيث صاحبيها (1) .
وهناك ألفاظ تذكر تؤنث ومن هذه الألفاظ :
العنكبوت :
قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ) (2) قال الفراء العنكبوت أنثى وقد يذكرها بعض العرب وقال أيضاً التأنيث في العنكبوت أكثر قال المبرد (3) وفي كتاب مختصر المذكر والمؤنث للمفضل بن أبي سلمة قال العنكبوت يذكر ويؤنث (4) .
ولم يشر المفسرون القدماء إلى تأنيث العنكبوت بقوله (اتخذت ) بتاء التأنيث إلى أن هذا التأنيث حقيقي والذي يبدو من كلامهم أن التأنيث في هذه الآية (للجنس)كما هو معلوم عند أهل اللغة أن تأنيث العنكبوت أكثر من تذكيره .
__________
(1) ينظر النحو الوافي 4 / 585 .
(2) العنكبوت / 41 .
(3) لسان العرب ( عنكب ) 1 / 632 .
(4) مختصر المذكر والمؤنث .(1/9)
أما أهل التفسير العلمي فيرون أن التأنيث فيه تأنيث حقيقي فقد كشف مؤخرا أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر وهذه حقيقة لم تكن معلومة أيام نزول القرآن (1) .
وقد أنث القرآن الكريم هذا اللفظ ليوافق الحقيقة العلمية كما أن القرآن استعمل الأكثر شيوعاً في اللغة وهو التأنيث دون التذكير .
3- الترادف : الترادف في اللغة التتابع وإرداف النجوم تواليها والردف الذي يركب خلف الراكب (2) .وفي الاصطلاح : ( هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد ) (3) .
... وعلماء العربية عنوا بظاهرة الترادف فألفوا كتباً بأسماء مختلفة فكان سيبويه أول من أشار إليه قال : ( إعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظيين لاختلاف المعنيين واختلاف اللفظين والمعنى واحد فاختلاف اللفظيين لاختلاف المعنيين هو نحو : جلس وذهب ، واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو ذهب وانطلق ) (4) .
ولقد اختلف العلماء في ظاهرة الترادف فمنهم من أنكر وجود الترادف ومن هؤلاء ابن فارس (ت395 هـ ) وأبو هلال العسكري ( 395 هـ) ،صاحب كتاب الفروق اللغوية .
ومنهم من ذهب إلى وجوده في اللغة ومن هؤلاء سيبويه والأصمعي والمبرد( 285هـ ) (5) .
ومن مثبتي الترادف من وسع مفهومه،ولم يقيد حدوثه بأي قيد ، وفريق آخر كان يقيد حدوثه ويضع له شروطاً تحد من كثرة وقوعه (6) .
__________
(1) ينظر المنظار الهندسي 200 ، وينظر برنامج المعجزة ج1 ، والعلوم البيلوجية / قرص مدمج 1998 .
(2) مقاييس اللغة ( ردف ) 2 / 503 – 504 .
(3) التعريفات 49 ،وينظر أبحاث ونصوص 234 .
(4) الكتاب لسيبويه 1/24
(5) المزهر 1 / 399 – 400 .
(6) ينظر في اللهجات العربية 175 . وينظر علم الدلالة 218 .(1/10)
وإذا انتقلنا إلى المحدثين نجدهم كذلك مختلفين كما اختلف القدماء .. فقد عرضوا الترادف بشكل أكثر عمقا وأوسع دراسة ، ومادتهم الأولية هي تلك المصنفات التي وضعها القدماء في ألفاظ الترادف ، وطبيعي أن تكون دراستهم أدق وأشمل بسبب تطور أساليب البحوث اللغوية وانكشاف كثيرُ من الحقائق التي كانت خافية على أولئك الأوائل ونمو علم الدلالة والأصوات واللهجات ,فكان صدى ذلك أنهم اشترطوا في المترادف اتفاق في الكلمتين اتفاقاً تاماً،والاتحاد في البيئة اللغوية والاتحاد في العصر وألا يكون أحد الصوتين نتيجة تطور صوتي للفظ آخر ) (1) .ومن هذه الألفاظ دحى وطحا :
قال تعالى : ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) (2) وقال تعالى : ( وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) (3) ذكر الخليل (4) عدة معانٍ للدحو ومنها البسط وذكر أيضاً أن الطحو شبه الدحو ،وهو البسط (5) وكذلك من المعاني والاستعمالات التي ذكرها أهل المعاجم في طحا مجيء الطاحي بمعنى المرتفع كما جاء في يمين بعض العرب : ( لا والقمر الطاحي ) أي المرتفع.كما جاء في اللسان (6) .ومعلوم عند أهل العلم أن الأرض مرفوعة بغير عمد وإذا عدت الكواكب سماوات كما فسرها محمد عبده (7) وقد شاهدها رواد الفضاء تسبح في الفضاء فهذا معنى آخر يضيفه معنى طحا في هذه الآية ولم يأت هذا المعنى في قوله دحا .ومن هذا يتبين لنا على الرغم وجود ترادف بين اللفظيين (دحا) و (طحا) لكن هذا الترادف ليس تاماً فكل منهما يدل على معانٍ قد لا تكون في الآخر على الرغم من قول عامة المفسرين أن دحا مثل طحا. (8) 0)
__________
(1) ينظر البحث اللغوي عند الهنود / 133 .
(2) النازعات / 30 .
(3) الشمس / 6 .
(4) العين (دحا)3/ 280.
(5) العين (طحو) 3/277.
(6) اللسان (طحو) 15/4-5 .
(7) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم /محمد سيد أرناؤوط 193.
(8) ينظر جامع البيان 30/209،الجامع لأحكام القرآن20/74 ،فتح القدير 5/449.(1/11)
ثانياً : الضوابط النحوية :
ومن الضوابط اللغوية معرفة النحو . وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وصحابته الكرام - رضوان الله عليهم- وتابعيهم تفضيل إعراب القرآن على تعليمه ، وذم اللحن وكراهيته مما أوجب به على قراء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلمه من ذلك ما رواه أبو هريرة عنه ( صلى الله عليه وسلم ) (أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ) وما روي عن ابن مسعود قال ( جودوا القرآن بأحسن الأصوات وأعربوه فإنه عربي،والله يحب أن يعرب به ) وروي عن ابن عمر قال : ( أعربوا القرآن) (1)
ولو رجعنا إلى عصر الصحابة لوجدنا أن سبب أمر علي (رضي الله عنه ) أبا الأسود الدؤلي بوضع أسس علم للنحو كان خطأ الناس في إعراب القرآن وبناءهم المعاني الفاسدة عليه. (2)
فعلى المفسر إذن أن يعرف ما يريد أن يعربه مفردا كان أو مركباً قبل الإعراب ، لأنه يتبع المعنى . كما أن التعسف في الإعراب يوقع المفسر في أخطاء كبيرة ، وعليه أن يتجنب الأعاريب التي هي خلاف الظاهر ، والمنافية لنظم الكلام (3) .
ومن الأمثلة على الَضوابط النحوية في التفسير العلمي :
الحذف والتقدير النحوي فيه:
... ويرى النحاة أن الأصل في الكلام الذكر ولا يحذف منه شيء إلا بدليل (4) سواء كان هذا الدليل معنويا أي يقتضيه المعنى أم صناعياً أي تقتضيه الصناعة النحوية ، وسواء تدل عليه قرينة لفظية أم تدل عليه قرينة المقام (5)
__________
(1) ينظر الجامع لأحكام القرآن 1/23
(2) المصدر نفسه 1/ 24 .
(3) ينظر الضابط اللغوي في التفسير / عن الدكتور محسن عبد الحميد المنشور في مجلة كلية الدراسات الإسلامية العدد السادس 256 – 260 .
(4) ينظر الخصائص 2 / 360 .
(5) الجملة العربية تأليفها وأقسامها 82 .(1/12)
إن الحذف كثير في اللغة العربية وقد توسعت فيه توسعا كبيرا،وقد جرى الحذف فيها في كل نوع من أنواع الكلم ومن ذلك حروف المعاني نحو: (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ) (1) أي لا تفتأ ، ونحو: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيق ) (2) أي يا يوسف (3) ومن الأمثلة العلمية في ذلك قوله تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (4) أي لئلا تميد بكم ولا تتحرك (5) وقد أشار العلم الحديث إلى أن أثقال هذه الجبال تحفظ توازن الأرض فلا تتزعزع ولا تضطرب (6) والضابط النحوي لقوله تعالى: ( أن تميد بكم )( أن) في محل نصب مفعول لأجله (7) ولما كان المقام مقام امتنان علم المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه فالكلام جارٍ على حذف تقتضيه القرينة ، ومثله كثير في القرآن الكريم وكلام العرب، قال عمرو بن كلثوم:
فعجلنا القرى أن تشتمونا (8)
أراد أن لا تشمتونا . فالعلة هي انتفاء الشتم لا وقوعه . ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النفي بعد أن والتقدير لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا ... ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و(أن )تقديره : كراهية أن تميد بكم. (9)
ومن الضوابط النحوية أيضاً :
التقديم والتأخير:
__________
(1) يوسف / 85 .
(2) يوسف / 46 .
(3) ينظر الجملة العربية تأليفها وأقسامها 82 .
(4) النحل / 15 .
(5) ينظر جامع البيان 14 / 19 ،تفسير البغوي 2 / 64 زاد الميسر 3 / 435 الجامع لأحكام القرآن 11 / 285 .
(6) ينظر مع الله في السماء 82 ، القرآن يفك لغز الأرض 43 .
(7) مشكل إعراب القرآن 1/ 417 .
(8) شرح المعلقات السبع للزوزني 106 .
(9) ينظر التحرير والتنوير 14 / 121 .(1/13)
جعل النحاة الكلام رتباً بعضها أسبق من بعض فإن جئت بالكلام على الأصل لم يكن من باب التقديم والتأخير وإن وضعت الكلمة في غير مرتبتها دخلت في باب التقديم والتأخير، فإن قولك(كسا محمد سالما قميصا) مثلا ليس فيه تقديم وتأخير فقد جئت بالفعل ثم الفاعل ثم المفعول الأول ثم المفعول الثاني .ولو غيرت أية كلمة عن موضعها دخلت في باب التقديم والتأخير الذي يدل على أن ما قدمته أهم مما أخرته . فلو قلت مثلا ( كسا محمد قميصا سالما ) كنت قدمت المفعول الثاني على المفعول الأول وكان ذكر القميص أهم من ذكر سالم (1) ... وقد ذكر سيبويه أن العرب ( كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أعنى وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم ) (2) .
ومن الضوابط النحوية في التفسير العلمي على ذلك قوله تعالى: ( وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (3) فقد قدم الجار والمجرور على عامله وهذه الآية تشير إلى حقيقة لم يعرفها القدماء وهو أن جميع الثمرات تكون من زوجين اثنين، لذا كان تقديم الجار والمجرور الذي يشمل جميع الثمرات وليس بعضها أهم في هذا المقام من تقديم عامله وهو قوله ( جعل ) .
وللتقديم والتأخير أغراض أخرى متباينة فقد يأتي أيضاً للتشريف أو للكثرة أو للتخصيص والتعظيم وقد تأتي على أساس الرتبة أو على أساس السبق وغيرها من الأغراض (4) .
ثالثاً : الضوابط الصرفية :
__________
(1) ينظر الجملة العربية تأليفها وأقسامها 35 .
(2) الكتاب لسيبويه 1 / 15 .
(3) الرعد / 141.
(4) ينظر أسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن الكريم 79 – 99 وهناك تفصيل القول في أسبابه و أسراره .(1/14)
وكعلم النحو الصرف ، فهو مهم جداً وفائدته حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن معنى واحد فالتصريف نظر في ذات الكلمة ، والنحو نظر عوارضها (1) قال ابن فارس : من فاته فاته المعظم ، لأنا نقول ( وجد )كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت ، فقلنا في المال (( وجود )) وفي الضالة (( وجدانا )) وفي الغضب ((موجدة)) وفي الحزن ((وجدا)) وقال تعالى :{وأمَا القاسِطٌونَ فَكَانٌوا لِجَهَنَم حَطَباً } (2) وقال تعالى :( واقسّطوا إنّ الله يَحبٌ ا لمُقسِّطين ) (3) فأنظر كيف تحول المعنى بالتصريف الجور إلى العدل (4) .
وما يتعلق بالتصريف أيضا:
معاني الأوزان :معاني الأوزان كثيرة جدا في العربية،وقد أثبت الصرفيون منها في كتبهم ما كان كثير الأمثلة واغفلوا معاني كثيرة تجدها منتشرة في كتب اللغة والمعجمات العربية (5) .
ومن هذه الأوزان تَفَّعَّلَ ومن معاني هذا الوزن: الدلالة على التكلف: كما في قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) (6) .
__________
(1) ينظر الضابط اللغوي في التفسير /بحث الدكتور محسن عبد الحميد / مجلة كلية الدراسات الإسلامية العدد السادس 260 .
(2) الجن / 15 .
(3) الحجرات / 9 .
(4) البرهان في علوم القرآن / 297 – 298 .
(5) ينظر المهذب في علم التصريف 89 .
(6) الأنعام / 125 .(1/15)
قرأ الجمهور (1) ( يصَّعَّد ) بتشديد الصاد وتشديد العين . على انه يتفعل من الصعود ، أي يتكلف الصعود وقد ذكر ذلك الرازي (2) وابن عاشور (3) ، ومن وجهة نظر العلوم الطبية فقد ثبت أن التصعد المستمر إلى طبقات أعلى في السماء يؤدي إلى حدوث اضطرابات عديدة في أجهزة مختلفة منها الجهاز التنفسي. فالصعود المستمر إلى طبقات الجو العليا يؤدي إلى ضيق حسي نتيجة تورم الشعب والرئتين الناتج عن تبخر الماء في أنسجة الجسم كلها بما في ذلك الجهاز التنفسي. ويسبب ذلك ضيقاً شديدا في حجم الرئتين فينقص حجم الهواء الذي يمكن تحويله إلى أن ينعدم تماماً (4) . وبهذا أشار وزن اللفظة( يتصَّعَّد) إلى ذلك التكلف في الصعود .
ومن هذا أيضاً صيغة ( مفَعَّل ) ومن معانيها الدلالة على الكثرة كما في قوله تعالى : (.. ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ..) (5) .
قال ابن زيد (6) :المخَلَّقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين وقد أشار الآلوسي إلىأن صيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة (7) .
وقد أشار العلم الحديث إلى أن جميع أجهزة الإنسان تتخلق في مرحلة المضغة (8) 0) .
ومن الضوابط الصرفية أيضاً العدول من صيغة إلى أخرى :
__________
(1) كتاب السبعة في القراءات 269 .
(2) ينظر التفسير الكبير 13 / 138 .
(3) ينظر التحرير والتنوير 8 / 59 .
(4) ينظر الإشارات علمية في القرآن الكريم د . كارم السيد 451 .
(5) الحج / 5 .
(6) ينظر صفوة التفاسير 2 / 281 .
(7) ينظر روح المعاني 17 / 116 .
(8) ينظر علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة 68 .(1/16)
العدول في الصيغ :وهو انتقاء اللفظ وإيثاره على غيره . وقد يمثل تخير اللفظ نوعا من العدول عن النظام اللغوي أو عن استعمال الشائع وهذا ما عرف في التراث اللغوي والبلاغي بالمجاز (1) . فمن ذلك قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) (2) .
وقد ذكر أكثر المفسرين أن قوله تعالى:( جعل لكم الأرض ذلولاً ) لينة غير مستصعبة ولا ممتنعة يسهل لكم المشي عليها وتستقرون عليها (3) ، وقد اكتشف أخيرا أن هذه الأرض كالدابة الذلول تتحرك عدة حركات في وقت واحد ورغم ذلك سطحها مستقر لنا وسقفها ( الغلاف الجوي) الذي تحتفظ به الجاذبية, إضافة إلى ميل محورها بمقدار معين الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة التي تترتب عليها دورة النبات وغيرها (4) كل ذلك عبر عنه قوله تعالى :بجعل الأرض( ذلولا )وهذه الصيغة (ذلول) بوزن فعول للمبالغة في الذل (5) . لذا لم يقل سبحانه وتعالى مذللة؛ لأنه لم يعبر عن حقيقة ذلك التذليل كما في صيغة (ذلول). وقد تدل الصيغة على عدة معان في آن واحد كما في قوله تعالى: {فَليَنظٌرِِ الإنسانُ مِمّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنّ مّاءِ دَافِقٍ } (6) .
__________
(1) ينظر الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم 141 .
(2) الملك / 15 .
(3) ينظر زاد المسير 8 / 321 الجامع لأحكام القرآن 18 / 214 إرشاد العقل السليم 9 / 7 فتح القدير 5 / 262 روح المعاني 29 / 14.
(4) ينظر في ظلال القرآن6 / 3637 – 3638 ، والكون في القرآن 110 ، ارتياد الفضاء 78 ، الكون والإعجاز العلمي 66 .
(5) ينظر البحر المحيط 10 / 225 ، روح المعاني 29 / 14 .
(6) الطارق / 5 – 6(1/17)
فقد اختلف المفسرون في قوله تعالى دافق ) على ثلاثة أقوال قيل ماء دافق بمعنى مدفوق كما قالوا سر كاتم بمعنى مكتوم وقيل بمعنى ذي اندفاق وقيل هو على المعنى ، لأن اندفق الماء بمعنى نزل (1) . والتفسير العلمي (2) موافق لهذه الأقوال الثلاثة فقولهم ماء دافق بمعنى مدفوق متوافق مع النظرة العلمية حيث الماء يقذف قذفاً فهو مقذوف..وأما قولهم بمعنى ذي دفق فالماء الذي يكون منه الولد يكون متدفقاً خلافاً عن باقي الإفرازات الأخرى التي ليس لها علاقة بتكوين الولد إذن فالماء الذي يتكون منه الجنين يكون ذي دفق .كما يرى البعض (3) ممن فسر الآية تفسيراً علمياً أن دافقا باقٍ على المعنى فهو اسم فاعل ولكن ليس على سبيل المجاز كما ذكر القدماء بل المراد منه حقيقة المعنى بعد أن توصل العلم الحديث إلى معرفة حقيقة هذا الماء الذي يحتوي على حيوانات منوية سابحة وهي شرط في الماء الذي يكون منه الولد فلا بد أن تكون حيوية متدفقة .
رابعاً : الجانب الصوتي ودلالته :
قد يكون لجرس الصوت دلالة على المعنى كما في وصف الجبال بالشامخات في قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ) (4) .
__________
(1) ينظر جامع البيان 30 / 143 ، التبيان في إعراب القرآن 2 /258 الجامع لأحكام القرآن 20 / 4 إرشاد العقل السليم 9/141 فتح القدير 9 / 141 روح المعاني 30 / 97 .
(2) ينظر علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة 32 – 33 وينظر إعجاز علم الحياة 78 – 94 ، إعجاز القرآن في خلق الإنسان 120 – 124 .
(3) ينظر علم الأجنة 32 – 33 .
(4) المرسلات / 27 .(1/18)
لقد أشار أهل التفسير العلمي (1) إلى العلاقة بين الرواسي كونها شامخات ونزول المطر إذ لابد أن تكون الجبال بالغة الارتفاع لتكوين المطر والذي نريد أن نوضحه هنا الدلالة الصوتية في قوله(شامخات ) فالمد الصاعد في الألفين الموجودين في قوله شامخات يعبر بمده عن ارتفاع الجبال وشموخها حيث مناطق تكاثف الغيوم وتراكم الثلوج .
خامسا : الضوابط الدلالية :
تعريف الدلالة لغة :
قال الجوهري : ( الدليل ما يستدل به . والدليلي الدليل . والدليل : الدال وقد دله على الطريق يدٌله دَلالة و دِلالة ودُلوله والفتح أعلى ) (2) .
أما تعريف الدلالة في الاصطلاح فقد عرف الشريف الجرجاني ( 816 هـ) وهو من الكلاميين بقوله (الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر والشيء الأول هو الدال ، والثاني هو المدلول وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارة النص ،و إشارة النص واقتضاء النص ) (3) .
أما المحدثون فهم لا يطلقون لفظ الدلالة إذا أرادوا به مصطلحا وإنما يضيفون إليه ( علم ) ويقولون مثلاً ( علم الدلالة) ويقابل في اللغة الإنكليزية مصطلح ( Semanties ) ويعني ( دراسة المعنى )أو( ذلك الفرع من علم اللغة يتناول نظرية المعنى) وهو علم قد أصبح مستقلاً بذاته (4) .
أما أنواع الدلالة فقد بينا سابقاً الدلالات النحوية والصرفية واللغوية والصوتية وهناك دلالات بلاغية سنتناولها في مجالها .
وهناك قرائن دلالية: والقرينة ما يصاحب اللفظة من دليل لأنه يقارنه أي يصاحبه ، ويسميها بعضهم أيضاً المصاحب وهي تسمية حديثة فيقولون يفهم المعنى المصاحبة ويسمونه بالإنكليزية (Collocation ) (5) .
ومن هذه القرائن:
__________
(1) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه49 .
(2) الصحاح ( دلل ) 4 / 1698 .
(3) التعريفات 61 .
(4) ينظر علم الدلالة 11 .
(5) ينظر المعاجم اللغوية في ضوء علم اللغة الحديثة 110 – 115 .(1/19)
القرينة اللفظية : وهي التي يلفظ بها عند التركيب (1) من هذه القرائن اللفظية قرينة السياق وهي قرينة لفظية يدل عليها مجرى الكلام ونسقه (2)
ومثال على ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً ) (3) .
فالمقصود بالبحرين هنا البحر الملح ، والنهر العذب بدلالة سياق الآية المتأخر في قوله: هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ، وهذا ما أشار إليه العلم الحديث من أن بين البحر المالح والنهر العذب برزخا ( وهو الحد الفاصل الناشئ عند التوتر السطحي بين البحرين ) (4)
التطور الدلالي :
التطور الدلالي ظاهرة شائعة في جميع اللغات يواجهها كل دارس لأطوار اللغة التاريخية (5) فاللغة ليست هامدة أو ساكنة بحال من الأحوال بل هي في تجدد وتطور ولاسيما في مفرداتها ودلالتها ، ولكنه تطور بطيء يحتاج إلى زمن طويل من عمر اللغة (6) .
وليست اللغة العربية بنجوة عن التطور فالألفاظ العربية كما يدل البحث التاريخي كانت عرضة للتبدل الذي اقتضاه الزمان وتقلب الأحوال والنظم الاجتماعية (7) .
__________
(1) جواهر البلاغة / 29 .
(2) ينظر الدلالة في البنية العربية بين السياق اللفظي والسياق الحالي أ . د . كاصد الزيدي ، مجلة آداب الرافدين ، جامعة الموصل ، العدد 26 لسنة 95 .
(3) الفرقان / 53 .
(4) الكون وإعجازه العلمي 177 .
(5) ينظر دلالة الألفاظ : 123 .
(6) ينظر دور الكلمة في اللغة 156 .
(7) التطور اللغوي التأريخي 47 .(1/20)
... وقد تطورت العديد من الكلمات في الوقت الحاضر، وكذلك هناك اصطلاحات حديثة لم تكن معهودة وقت نزول القرآن ،وقد ذكرنا سابقاً أنه لا يجوز حمل ألفاظ القرآن على الاصطلاح الحادث وكذلك لا يحمل على التطور الدلالي الذي حدث بعد ذلك بل يجب حمل معاني الألفاظ في القرآن الكريم على ما هو معهود في عصر النبوة وذلك بالرجوع إلى المعاجم القديمة لمعرفة معاني تلك الألفاظ في ذلك الوقت . ونجد بعض المفسرين العلميين قد حمل بعض ألفاظ القرآن الكريم على الاصطلاح الحادث الذي لم يكن معروفاً وقت نزول القرآن من ذلك في قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) (1) (2) .
... وقد جاء في اللغة أن معنى الأقطار (3) النواحي وفسر بعض المفسرين (4) الأقطار بقطر الدائرة وهو الخط المستقيم الذي يقسمها إلى نصفين ولا يجوز لنا أن نفسر القرآن بمصطلحات علم الهندسة ومفاهيمها إن لم تكن معروفة عند العرب بهذا المعنى .
كما فسر بعضهم الأقطار الدول وفسر قوله تعالى بـ ( أن الخالق سبحانه وتعالى شبه الكواكب والأقمار في السماوات بالأقطار وهذا تشبيه دقيق جداً وعلمي فلم يقل دول بمعنى أن الدول وحدات مستقل بعضهاعن بعض بينما الأقطار وحدات غير مستقلة عن بعضها تماماً وإنما لها قوانين وروابط تخضعها للمركز وهذا ما هو حاصل فعلا في المجموعات الكونية). (5)
ولم أجد أيضاً في المعاجم من يستعمل كلمة الأقطار بمعنى الدول كما هو معروف في وقتنا الحاضر فهذا المعنى طارئ على الكلمة ناتج عن التطور الدلالي للألفاظ العربية .
سادساً : الضوابط البلاغية :
__________
(2) الرحمن /33 .
(3) العين (قطر) 5/96.
(4) ينظر بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني 238-239.
(5) نظرة علمية للكتب السماوية 62-63.(1/21)
علم البلاغة علم عظيم النفع ضروري في إدراك إعجاز القرآن وفهم آياته فهماً سديداً.
وقد عرّف الخطيب القزويني ( ت 739 هـ) بلاغة الكلام هو مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ) ومقتضى الحال مختلف ومقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف ، ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم يباين مقام التأخير،ومقام الذكر يباين مقام الحذف ... وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي ، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام .
وتطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسيمه عبد القاهر النظم (1) وعلوم البلاغة ثلاثة :
1-علم البيان هو ما يحترز به عن التعقيد المعنوي .
2- علم المعاني هو ما يحترز به عن الخطأ .
3- علم البديع هو ما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته (2) .
وسأضرب مثالاً على كل علم من علوم البلاغة من الآيات المفسرة تفسيراً علمياً .
1- علم البيان ومنه التشبيه :قال تعالى : (وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً) (3) وهذا تشبيه بليغ كما يسميه علماء البيان لأن أداة التشبيه محذوفة بحيث جعل المشبه عين المشبه به توكيدا للشبه الشديد (4) وقد كشف العلم الحديث أن الجبال فعلاً كالأوتاد فكما أن الوتد يكون معظمه داخل الأرض فكذلك الجبال فكل نتوء فوق سطح الأرض له امتداد في داخلها يتراوح طوله بين 10 إلى 15 ضعف ارتفاعه فوق سطح البحر (5) إضافة إلى أمور أخرى سنذكرها في موضوع الجبال.
__________
(1) الإيضاح 9 ، التلخيص 33.
(2) البلاغة والتطبيق 79.
(3) نبأ / 7
(4) ينظر روح المعاني 30 / 6 التحرير والتنوير 30 / 15 .
(5) ينظر المفهوم العلمي للجبال 3 / 18 .(1/22)
2-علم المعاني : ومن هذا العلم : التعريف والتنكير : للتعريف والتنكير دور أساس في نظام اللغة العربية ، فهما كثيرا الدور فيه ، وصحة كثير من التراكيب النحوية رهن بهما أو بأحدهما ، والعلم بهما أو بأحدهما شرط في إدراك وظائف كثير من الكلمات في الجملة العربية ، وكثير من أحكام النحاة تنبني عليهما ، من ثم وجدنا النحاة معنيين بهذه الظاهرة يعقدون لها باباً خاصاً في كتبهم (1) .وقد أقر بعض نحاة العربية بتشعب هذه الظاهرة وتداخلها ، وصعوبة تحديد مجالها ، حتى أنهم لم يستطيعوا أن يضعوا لهذين المفهومين حدين سالمين من الاستدراك عليهما ، قال السيوطي : ( لما كان كثير من الأحكام الآتية تنبني على التعريف والتنكير وكانا كثيري الدور في أبواب العربية صدّر النحاة كتب النحو بذكرهما بعد الإعراب والبناء . وقد أكثر الناس في حدودهما ، وليس منها حد سالم . قال ابن مالك: من تعرض لحدهما عجز عن الوصول إليه دون استدراك عليه (2) قال : ( إذا كان كذلك فأحسن ما يتبين به المعرفة ذكر أقسامها ، ثم يقال : ما سوى ذلك نكرة (3) .وقد أعتمد النحاة منذ سيبويه على معيارين أساسين في الحكم على الكلمة بتنكير أو تعريف تحت كل منهما فروع ، أحدهما المعيار الدلالي ، والآخر المعيار الشكلي . لكن أحدهما ليس منفصلاً عندهم عن الآخر ، بل قد يجمع بينهما بعض النحاة في عبارة واحدة (4) .
__________
(1) التعريف والتنكير بين الدلالة والشكل 16 .
(2) ينظر همع الهوامع – شرح جمع الجوامع في علم العربية 1 / 54 .
(3) المصد نفسة ، وانظر ابن عقيل : المساعد على تسيهل الفوائد 1 / 77 .
(4) ينظر التعريف والتنكير 17 .(1/23)
من هذه المعارف المعرف بـ(ال )وهو شاهدنا هنا على الضابط النحوي في التفسير العلمي ففي قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) (1) ذكر الزمخشري (2) أن قوله: ( فيهن ) في السماوات ، وهو في السماء الدنيا لأن بين السماوات ملابسة من حيث أنها طباق وقال الإمام الرازي (3) القمر في السماء الدنيا وليس في السماوات بأسرها ، وهكذا يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في كل أنحائها ، بل ذاته في حيز من جملة أنحاء العراق فكذا هنا .أما التفسير العلمي لهذه الآية فقد ذكر أبو الوفا الأميري أن ( ال) هنا في القمر وفي لفظ الشمس للجنس لا للعهد كما في قوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (4) لذلك كانت هنا إشارة إلى أن كل شمس في مجموعتنا الشمسية إليهم كالسراج لتوابعها وسياراتها ، وأن الأقمار لبعض السيارات منورة لها وتابعة لها ، وأن الجميع داخل تحت دائرة الفضاء الكوني لقوله ( فيهن ) .والضابط اللغوي أن اللفظة تحمل وجهين وجهاً معهوداً يدل فيه على قمر الأرض حين تكون (ال) للعهد ، ووجهاً غير معهود ولا معروف ينبني بحقيقة كونية مجهولة ، لو أن المفسرين انتبهوا إليه حين تكون ( ال ) للجنس لسبقوا العلم إلى تلك الحقيقة ، ولو على سبيل الجواز (5) .ومن الشواهد على التنكير قوله تعالى : ( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ) (6) التنكير في قوله : ( ماءً فٌرَاَتاً ) يفيد العموم فهو يشمل كل ماء عذب في الأرض سواء أكان ماء نهر أو بئر أو مطر. (7)
__________
(1) نوح / 15 – 16 .
(2) الكشاف 4 / 1289 .
(3) التفسير الكبير 30 / 124 .
(4) التين / 4 .
(5) ينظر الإسلام في عصر العلم 249 – 250 .
(6) المرسلات / 27 .
(7) ينظر الإسلام في عصر العلم 303 . وينظر الكون والإعجاز العلمي 174 .(1/24)
3-علم البديع ، من ذلك: ما لا يستحيل بالانعكاس:
وهو كون اللفظ يقرأ طرداً – وعكساً نحو :كن كما أمكنك –وقوله تعالى: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (1) ومن الأمثلة العلمية على ذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ *لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (2) وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (3) .فمن بدائع الإعجاز في هاتين الآيتين قوله تعالى : ( وَكُلٌ فِي فلكٍ ) فيه محسن بديعي فقد ذكرها الزركشي (4) حين تحدث عن الكلمات التي تقرأ من أولها إلى آخرها ومن آخرها إلى أولها لا يختلف لفظها ولا معناها ويسمى هذا النوع ( المقلوب المستوي ) وجعله من أصناف نوع سماه القلب وسماه الحريري (5) 0) في المقامات ( ما لا يستحيل بالانعكاس ) وقد جاءت هذه الآية مع ذلك من غير تنافر في حروفها ولا غرابة وليس كما جاءت أغلب الأمثلة التي ذكرها الحريري –نثراً ونظماً – في تكلف وتنافر وغرابة وكذلك ما وضعه غيره على تفاوتها في ذلك ، وكلما زادت طولاً زادت ثقلاً وفي هذه الصياغة حركة تذبذبية مستديمة هي حركة الأجسام في الفلك مما يعني أن الفلك مدور وهذه الإشارة ضمنية وذوقية دقيقة وقد خلق الله كل شيء بدقة متناهية (6) وهو القائل : (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ). (7)
__________
(1) ينظر جواهر البلاغة 408 .
(2) يس / 38 – 40 .
(3) الأنبياء / 33 .
(4) البرهان في علوم القرآن 3 / 293 .
(5) ينظر التحرير والتنوير 17 / 61 – 62 .
(6) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن / رعد طاهر رشيد العمري 37 .
(7) الشورى / 17 .(1/25)
سابعاً : الضوابط الأسلوبية :
للإسلوب في اللغة عدة معانٍ،منها السطر من النخيل والطريق بين الأشجار، والوجه ، وطريقة المتكلم في كلامه (1) .
أما الأسلوب في الأدب فهو الطريقة التي يسلكها الإنسان في تأليف كلامه (2) .والذي تعنيه بـ ( أسلوب القرآن ) هو الطريقة التي انفرد بها تأليف كلامه واختيار ألفاظه (3) .
ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فقد حير أسلوب القرآن عقول بلغاء العرب وفطاحل اللغة وأثبت لهم أن القرآن الكريم كلام الله ، تأليفه العجيب ، وأسلوبه الغريب ، في المطالع ، والمقاطع ، والفواصل وكمال ربط الآيات ... فالقرآن ينتقل من قصة إلى أخرى ، ومن باب إلى باب، ويشتمل على أمر ونهي ، ووعد ووعيد , وترغيب وترهيب برباط حسن ... كما أدهشهم وأقنعهم سلاسة التركيب ، وسلامة الترتيب ، فلا هو بالشعر ، ولا هو بالنثر .. وليس من جنس خطب الخطباء ، أو شعر الشعراء ... ولا هو سحر ساحر (4) .
على أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم ، فمفرداته مفرداتهم ، وجمله جملهم ، وقواعد صوغه قواعدهم من حروف العرب تألفت كلماته ، من كلماتهم تألفت تراكيبه ، وعلى قواعدهم جاء تأليفه ، ومع هذا فقد أعجزهم بأسلوبه الفذّ ، ومذهبه الكلامي المعجز ، ولو دخل عليهم من غير الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يُتَلمَّس لهم عذر ، وأن يُسَلَّمَ لهم طعن أشبه طعن (5) .
ومن أساليب القرآن الكثيرة الالتفات :
__________
(1) لسان العرب ( سلب ) 1 / 473 .
(2) ينظر التعبير الفني في القرآن الكريم 183 .
(3) المصدر نفسه 183 .
(4) ينظر القرآن والعلم الحديث 14 .
(5) ينظر مناهل العرفان 2 / 200 .(1/26)
الالتفات : هو الانتقال من إحدى الصيغ الثلاث أي الحكاية والخطاب والغيبة إلى الأخرى منها (1) وهو ظاهرة أسلوبية واضحة جد الوضوح في القرآن الكريم فهو ( يلتفت ) في كثير من المواضع ، فينتقل مثلاً من لفظة الغيبة إلى لفظ المتكلم،فإذا أمعنا النظر ، وجدنا أنه يفعل ذلك إظهارا لعظمة الله في مخلوقاته ، وتفخيما لقدرته على أن تستجيب لمشيئته وتبياناً لخصوصيته أفعال معينه بذاته (2) .
ومن الأمثلة القرآنية العلمية على ذلك قوله تعالى: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) (3) .
قوله تعالى(فسقناه)هو التفات من الغيبة إلى المتكلم وقد عدل من لفظ الغيبة إلى المتكلم لأنه أدخل في الاختصاص وأدل علية وأفخم وفيه معنى آخر هو أن الأقوال المذكورة في الآية ما أخبر به سبحانه سببه, وهو سوق السحاب فإنه يسوق السحاب فتسوقه الملائكة بأمره وإحياء الأرض به بواسطة إنزاله وسائر الأسباب التي تقتضيها حكمه وعلمه سبحانه في كل الأفعال أن يخبر بها بنون التعظيم الدالة على أن له جندا وخلقاً قد سخرهم (4) .
وسقوط المطر في مكان معين هو في علم الله ( وليس من اللازم أن يتساقط البرد من السحابة بمجرد تكونه ، إذ ربما يكون التيار الصاعد دون نزوله في مكان معين ، حتى إذا ما ضعف التيار هوى البرد ) (5) .
القراءات القرآنية :
__________
(1) ينظر البيان في علم البيان 232 .
(2) ينظر الطبيعة في القرآن الكريم 469 .
(3) فاطر / 9 .
(4) ينظر البرهان في علوم القرآن 3 / 319 ، الإتقان 2 / 231 .
(5) تيسير الرحيم الرحمن 188 .(1/27)
القراءات جمع قراءة وهي في اللغة مصدر سماعي لقراءة (1) . وفي الاصطلاح مذهب يذهب إليه إمام من أئمة القرّاء مخالفاً به غيره في النطق بالقرآن الكريم مع اتفاق الطرق عنه (2) . والمعمول عليه في القرآن الكريم إنما هو التلقي والأخذ من ثقة عن ثقة ، وإمام عن إمام إلى النبي(صلى الله عليه وسلم ) (3) .
وقد ساعدت المصاحف التي أرسلت إلى الأمصار على حفظ قراءات القرآن الكريم وتثبيته. (4)
وقد وضع جهابذة علماء القراءات كابراً عن كابر شروطاً ثلاثة لقبول كل قراءة :
أولها : صحة السند بالقراءة إلى الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) متواترة من أول السند إلى آخره (5) .
ثانيها : لابد أن تكون القراءة الصحيحة موافقة لقواعد العربية ولو بوجه ، ويريدون بتلك القواعد علم النحو سواء أكان ذلك الوجه أفصح أم فصيحاً مجمعا عليه أم مختلفاً فيه اختلافاً لا يضر مثله إذا كانت القراءة مما شاع وذاع وتلقاها الأئمة بالإسناد الصحيح (6) .
ثالثها : موافقة القراءة رسم المصحف العثماني (7) .
أما ما صح نقله عن الآحاد ، وصح وجهه في العربية ، وخالف لفظه خط المصحف . فهذا يقبل ولا يقرأ به . لعلتين : إحداهما : أنه لم يؤخذ بإجماع ، إنما أخذ بأخبار الآحاد . ولا يثبت قرآن، يٌقرأ به ، بخبر الواحد . والعلة الثانية : أنه مخالف لما قد أجمع على مغيبه وصحته ، وما لم يقطع على صحته لا تجوز القراءة به ولا يكفر من جحده. ولبئس ما صنع ، إذا جحده (8) .
ثمرة اختلاف القراءات وتنوعها :
__________
(1) لسان العرب ( قرأ ) / 128 .
(2) مناهل العرفان 1 / 410 .
(3) ينظر علوم القرآن والتفسير / د. محسن عبد الحميد 27 .
(4) ينظر النشر في القراءات العشر 1 / 8 .
(5) ينظر حجة القراءات 11 .
(6) ينظر النشر في القراءات 1 / 149 .
(7) ينظر حجة القراءات 12 م .
(8) محاسن التأويل 1 / 307 .(1/28)
فائدة اختلاف القراءات وتنوعها إضافة إلى فائدة التسهيل والتخفيف على الأمة فمنها : ما في ذلك من نهاية البلاغة وكمال الإعجاز وغاية الاختصار وجمال الإيجاز ، لأن كل قراءة بمنزلة الآية ، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام الآيات ومنها : ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة ، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف ، بل كله يصدق بعضه بعضا،ويبين بعضه بعضا ، ويشهد بعضه البعض على نمط واحد وأسلوب واحد وما ذلك إلا آية بالغة وبرهان قاطع على صدق ما جاء به (صلى الله عليه وسلم) ومنها سهولة حفظه ، وتيسير نقله على هذه الأمة ؛ إذ هو على هذه الصيغة من البلاغة والوجازة. فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه ، وأدعى لقبوله من حفظه جملاً من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات ،ولاسيما ما كان خطه واحداً ، فإن ذلك أسهل حفظاً ، وأيسر لفظاً ومنها إعظام أجور هذه الأمة – من حيث أنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك ، استنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ ، واستخراج كمين أسراره ، وخفي إشاراته بقدر ما يبلغ غاية علمهم ، ويصل إليه نهاية فهمهم والأجر على قدر المشقة (1) .
وقد تناولت في دراستي هذه أوجه القراءات القرآنية وأثرها في التفسير العلمي، وقد بينت معنى كل وجه من هذه الأوجه في نظر المفسرين العلميين وإن كانت بعض القراءات مخالفة لخط المصحف كما في قراءة الآحاد, وذلك لبيان وجه هذه القراءة من الناحية العلمية والاستئناس بمعانيها وليس القصد صحة القراءة بها .
ومن الشواهد على القراءات القرآنية وأثرها في التفسير العلمي :
قوله تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (2) .
__________
(1) ينظر النشر في القراءات العشر ... . محاسن التأويل 1 / 313 .
(2) الصافات / 6 .(1/29)
ذكر القراء عدة قراءات لهذه الآية : فقد قرأ الجمهور (1) ( زينةِ الكواكب ) بإضافة ( زينة ) إلى الكواكب . وقرأ حمزة (2) ( بزينةٍ الكواكب ) بتنوين ( زينةٍ ) وجر ( الكواكب ) على أن الكواكب بدل من ( زينةٍ ) وقرأ (3) أبو بكر شعبة عن عاصم بتنوين ( زينةٍ ) وبنصب ( الكواكب ) على الاختصاص بتقدير : أعني (4)
وقال الطبري (وأما القراءة فأعجبها إلي بإضافة الزينة إلى الكواكب وخفض الكواكب لصحة معنى ذلك في التأويل والعربية وأنها قراءة أكثر قراء الأمصار ) (5)
والتفسير العلمي يوافق قراءة الجمهور وأقرب تفسير إليها تفسير ابن عباس فقد فسر قوله
تعالى ( بزينة الكواكب ) بضوء الكواكب (6) .
التفسير العلمي لهذه الآية : قال تعالى بزينة الكواكب ولم يقل بالكواكب فيستدل من ذلك أن ضوء الكواكب الذي هو زينتها ليس في ذاتها وليس منها بل هو عارض عنها أي ضوء مكتسب ومعكوس (7) .وهذا التفسير قد اعتمد على قراءة الجمهور على أن قراءة حمزة تدل على أن الزينة هي نفسها الكواكب فتكون نسبة الضوء إلى الكواكب لأنها هي التي تعكسه كما نقول نور القمر وأصل نوره مستمد من الشمس .
__________
(1) الحجة لابن خالويه300 والنشر 2 / 356 .
(2) النشر في القراءات العشر 2 / 356 .
(3) المصدر نفسه الورقة نفسها .
(4) ينظر التحرير والتنوير 23 / 89 .
(5) جامع البيان 23 / 25 .
(6) البحر المحيط 9 / 91 .
(7) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 126 .(1/30)
الكون
الكون لغة ، مصدر مأخوذ من الفعل الثلاثي المعتل الوسط هو ( كان يكون كوناً ) ويأتي مصدره أيضاً على التكوين والكونية (1) ... و (كَوّنه فَتَكَوَّن ) أي أَحْدَثه فَحَدَث ... و( الكون ) واحد (الأكوان) (2) . أما في اصطلاح أهل العلم فقد قال السيد الشريف الجرجاني في الكون عند أهل التحقيق: ((عبارة عن وجود العالم من حيث هو أنه حق ، وإن كان مرادفاً للوجود المطلق عند أهل النظر )) (3) . ...
__________
(1) تاج العروس 9 / 343 .
(2) مٌختار الصحاح ( كون ) 584 .
(3) التعريفات 126 .(1/1)
وله عند علماء الفلك تعريفات عدة منها :( أن الكون عبارة عن نظام يضم ألوف الملايين من المجرات وكل مجرة تحتوي على ألوف الملايين من النجوم ) (1) . ... ... ... ... ان مهمة القرآن الأساسية لم تكن بيان المشاكل الكونية والحقائق العلمية ، ولكن المهمة الأساسية كانت الهداية والإرشاد عن طريق رسول مؤيد بالمعجزات ومن أهم معجزات الرسول الأمين ( محمد صلى الله عليه وسلم ) هذا القرآن الكريم الذي أشار إلى حقائق علمية ثابتة (2) فالقرآن الكريم مليء بآيات العلم التي تدل على وجود الله سبحانه وتعالى ومنها الآيات الكونية . فالقرآن الكريم يحوي على أكثر من( 750 ) أية كونية فيها حقائق علمية موجزة غاية في الأصالة والموضوعية ويمكننا القول أن القرآن الكريم قد حث الإنسان على اصطناع منهج العلم الذي يتلخص في النظر إلى الكون بالقياس والاستقراء أو بهما معاً (3) 0من أجل الوصول إلى معرفة قوانينه العامة ، ثم مواصلة السير بعد ذلك إلى معرفة الله . ويمكننا أن نوضح ذلك بالرسم البياني الآتي (4) : ... ... ...
استدلال استقرائي استدلال قياسي
النظر إلى الكون معرفة الكون معرفة الله
(السماوات والأرض) وقوانينه العامة (صانع الكون)
__________
(1) قضية الخلق بين الماديين والمثاليين 79 .
(2) الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن 65 .
(3) المنهج العلمي لا يكتمل إلا باستخدام الاستقراء والقياس معاً ، إذ أنه بعد التوصل العالم من استقراء الجزيئات من عالم الطبيعة إلى قانون العام أو القانون العلمي ، يعود فيطبق هذا القانون على جزيئات جديدة مستخدماً القياس ، لا غنى له عن استخدام الاستدلالين الاستقرائي والقياسي معا ينظر الإنسان والكون 39 وينظر فصل المقال ص2
(4) الإنسان والكون 39 .(1/2)
وهذا المنهج العلمي حجة ودليل مادي على غير المؤمنين بالله تعالى لذا فليس معنى ذلك أننا نستدل على صحة القرآن بالعلم – بل أن القرآن هو المهيمن والمسيطر وهو الحق ، وما العلم إلا كاشف لقدرة الله في الكون فما جاء به القرآن نحن نؤمن به إيماناً غيبياً لا يرقى إليه شك ولا نريد عليه دليلا ً (1) وإن أي تصادم بين القرآن والعلم لا يمكن إلا أن تكون النظرية العلمية خاطئة ، أو يكون فهمنا للقرآن غير سيلم (2) .
القرآن ... والنظريات العلمية :
__________
(1) ينظر الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى 79 .
(2) المصدر نفسه : 79 .(1/3)
إن محاولة ربط القرآن بالنظريات العلمية أخطر ما نواجهه فقد يثبت بعد ذلك أنها غير صحيحة ... .. ومن هنا فإن آيات الكون الكبرى التي أنبأنا الله بها في القرآن الكريم والتي نعرف بعضها والبعض الآخرلانعرفه معرفة اليقين حتى الآن بل أن بعضها لم يكتشفها العقل البشري إلا في السنوات ا لأخيرة من هذا القرن.لذا فإن أسلوب القرآن الكريم في عرضه لهذه الآيات الكونية لا يعرضها بأساليب البشر باستعمال المقدمات والدلائل والمعادلات واستنباط النتائج وإنما يقدمها بالإشارة أو الرمز أو المجاز أو الاستعارة أو العبارات التي تومض في العقل بنور روحي باهر ، إنه سبحانه وتعالى ينزل آيات قد لا يدرك معناها أو يفهم حقائقها وأسرارها في وقتها كل المعاصرين لنزولها ؛لأن العلم بقوانين الكون كان محدود الآفاق وقتئذ ، ولكنه سبحانه يعلم أن المستقبل سوف يأتي بشرح لهذه الآيات في ضوء علوم عصورها (1) . ومصداق ذلك قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (2) . فالسين في كلمة (( سنريهم )) معناها المستقبل ... والمستقبل هنا لا ينتهي ... بل أن عطاءهٌ مستمر لهذا الجيل والجيل الذي بعد ... إلى يوم القيامة (3) ومعنى سنريهم ، أي سيرون رؤية عين ، ورؤية يقين ، ومعنى قوله تعالى ((حتى يتبين لهم أنه الحق )) هو أن الذين سيرون غير المؤمنين ، وإلا لو كانوا مؤمنين لعرفوا أنه الحق ، ولما احتاجوا إلى هذا الدليل المادي (4) .
نظريات في خلق الكون
أولاً :- العلم يؤكد وجود خالق للكون .
__________
(1) القرآن وإعجازه العلمي 54 .
(2) فصلت / 53 .
(3) معجزة القرآن 85 .
(4) الآيات الكونية 80 .(1/4)
إن الكون والنظام العجيب الذي اشتمل عليه ، وأسراره الدقيقة لا يمكن تفسيرها إلا بأنه قد خلقته قوة عظيمة أزلية وأن هذه القوة العظيمة جداً لا حدود لها وهي مستوى الكون كله (1) . لذا يمكن القول ( إن الصدفة معدومة في لغة العلم ، ومحال في هذا العالم الذي ترى فيه كل شيء خاضعاً لقوانين الموازنة وقوانين الحساب التي عينتها إرادة غيبية وحكمة بالغة (2) ..ولكي نفسر وجود الكون ونشأته فهناك ثلاثة احتمالات لذلك هي (3) :
(أ) الاحتمال الأول : أن الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم وبدون إله (كما يقول البعض) ... وإذا كان قانون الطاقة ينص على أن الطاقة لا تفنى ولا تخلق من عدم حيث تتحول الطاقة من صورة إلى أخرى ولابد لها من وجود ومن خلق لا تخلق من عدم أو من فراغ فلا بد لها من خالق لها وهو الإله الأعظم ... وبذلك لا يمكن أن يكون الكون قد نشأ من تلقاء نفسه من العدم،ولا بد من وجود خالق له الذي خلقه وخلق كل شيء بحكمة وبمقدار (4) .
(ب) الاحتمال الثاني : أن هذا الكون أبدي (أزلي ) وليس لنشأته بداية (5) ،ولكن قوانين الديناميكا الحرارية تثبت لنا أنه لا يمكن أن يكون وجود الكون أزليا ، فهذا القانون يقرر أن الحرارة تنتقل من الساخن إلى البارد ... من حرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى حتى يتعادل المستويان،فيتوقف التبادل الحراري،ولو كان الكون أبدياً أزلياً بدون ابتداء لكان التبادل الحراري قد توقف من تلك الآباد الطويلة المتاحة ،وبالتالي لتوقفت كل صورالحياة وانتهى كل شيء (6) .
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 149 .
(2) الله والعلم الحديث / 30 .
(3) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط .
(4) الإسلام يتحدى ( مدخل علمي للإيمان ) للكاتب / وحيد الدين خان .
(5) الإعجاز العلمي / محمد سيد أرناؤوط 139 .
(6) شهادة الكون / 120 .(1/5)
إن هذا القانون الثاني للديناميكا الحرارية هو الدليل القاطع من قاموس العلم على أن الكون له بدء وأنه مخلوق لابد له من خالق ذي إدارة وقدرة وحكمة غير متناهية ، إضافة إلى القيامة الصغرى التي نراها من حولنا في موت الحضارات ، وموت الأفراد ، وموت النجوم ، وموت الحيوان والنبات وتناهي الحقب والدهور . هي لمحة أخرى تدلنا على القيامة الكبرى التي لابد أن ينتهي إليها الكون (1) .
(ج ) الاحتمال الثالث : وجود خالق أزلي خلق الكون :
... وهو الحقيقة الناصعة التي توصلنا إليها من كلا الاحتمالين السابقين والنتيجة المؤكدة بوجود خالق أزلي خلق الكون كله بحكمة واقتدار ... ولقد وصل الإنسان منذ خلق الأزل إلى وجود الخالق ((الله سبحانه وتعالى)) بالنظر كما في قولهم : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على الميسر وليل داج ونهار ساج والسماء ذات أبراج أفلا تدل على الصانع الخبير (2) لهذا الواقع الصريح وأدراك القاهر ، وجريان الحوادث أبداً على القانون ، أضحى هذا المبدأ مسلماً به في كتب الفلسفة وسمي (مبدأ السببية) وهو أول مبادئ العقل المديرة للمعرفة (لأنه أساس الأحكام العقلية (3)
كيف بدأ الكون ، وما سعته وكم عمره :
إن نظرية الانفجار الكبير هي النظرية السائدة والمسلم بها لدى علماء الفلك الفزيائيين إلى درجة أنها تكاد تكون من قوتها العلمية قطعية .
__________
(1) المصدر نفسه / 120 .
(2) ينظر الإعجاز العلمي / محمد سيد أرناؤوط 150 .
(3) الوجود الحق 24 .(1/6)
إن أول من وضع هذه النظرية هو العالم الفلكي البلجيكي الجنسية أدور لومير ذلك في سنة 1927، ثم احتضنها فلكيون وفيزيائيون آخرون جاءوا من بعده وعملوا على تطويرها ، وكان على رأسهم الفيزيائي الأمريكي( جورج كامون ) وبذلك قضت هذه النظرية على أزلية الكون . إن هذه النظرية تقول :إن كوننا الحالي (الهائل اللامحدود) ولد قبل 20 مليار سنة على أكثر التقدير،وقد عرف ذلك من عملية الإشعاع فأنه خير وسيلة لإلقاء الأضواء على العهود الموغلة في القدم بحساب خاص معروف لدى علماء الفلك الفزيائيين (1) واقتضت حكمة الله في تقدير العلماء كما تقول النظرية العلمية أن يخلق الكون من بيضة كبيرة عملاقة تسمى (بيضة الكون ) قطرها بقدر حوالي 200 مليون ميل هذه البيضة كانت لا توجد فيها لا ذرات ولا أجزاء الذرات عبارة عن طاقة فانفجرت انفجاراً كونياً هائلاً سمي ( الانفجار الكوني الكبير فتناثرت المادة في كل أجزاء الكون ومنذ ذلك الوقت الكون يتوسع ويزداد ويتمدد إذن كل شيء في الكون قد جاء من بيضة صغيرة ووزن هذه البيضة هو وزن الكون ودرجة حرارتها درجة حرارة الكون بأجمعه وثقلها هو ثقل الكون كله ... إذن الكون جاء مرة واحدة وهو الآن في طريقه إلى التمدد هذا التمدد تتمدد فيه المجرات والكوازرات بسرع تصل تقريبياً إلى 80 % من سرعة الضوء وهي في طريقها إلى الزيادة ثم أن الجاذبية العالية تسحب هذه المجرات وتقلل من سرعة انطلاقها حتى يصل يوماً من الأيام إلى التعادل بين التمدد والجاذبية فيقف تمدد الكون ثم ينسحب الكون إلى الصفر قال تعالى:{يَومَ نَطويِ اْلسَماءَ كَطَيِ الِّسجلِ للِكٌتٌبِ كَمَا بَدَأنَا أوَلَ خَلٍق نٌعيِدٌهٌ وَعداً عَلَينا أنَا كٌنا فَاعِلين}َ (2)
__________
(1) ينظر شهادة الكون 120 .
(2) الأنبياء / 104 ..(1/7)
ومع ذلك فهذه النظريات كلها لاتصل إلى الصحة؛ لأن الله تعالى يقول: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (1) . لأن هذا من اختصاص الله (2) ، فبقدرتهِ ورحمته وحكمته أسبغ عليه نعمة الوجود بهذا النظام البديع العجيب ، وبهذه الدقة الرائعة .. فكيفية خلق المادة أو الطاقة من العدم لا نستطيع إدراكها ولا يمكن بطريق العلم أن نصل إلى كنهها (3) .
الآيات القرآنية التي تحدثت عن نشأة الكون :
قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (4) .
معنى الرتق والفتق في اللغة :
جاء في لسان العرب : ( الرَّتْقُ ضد الفتق ابن سيده :الرَّتْق إلحام الفتق واصلاحه ، رتقه يَرتٌقٌه يرْتقه رتْقاً فأرتتقا أي التأما .. والرتق المرتوق وفي التنزيل ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ) والراتق : الملتئم من السحاب ... والرَتق بالتحريك مصدر ... ) (5) .
__________
(1) الكهف / 5 .
(2) ينظر هذا خلق الله ( 1 ) أقراص سيدي أد . أنيس الراوي .
(3) شهادة الكون 124 .
(4) الأنبياء / 30 .
(5) لسان العرب ( رتق ) 2 / 132 .(1/8)
أما الفتق فقد قال الخليل (1) ( الفتق : انفتاق كل شيء متصل مستو فهو رتق فإذا انفَصَلَ فهو فَتقٌ . وتقول فَتَقْتٌه فانفَتَقَ ) وقال ابن فارس (2) ( الفاء والتاء والقاف أصل يدل على فتح في شيْ من ذلك فتقت الشيء فتقاً ) وذكر ابن منظور معاني أخرى عن الفتق فقد ذكر أن ( الفتق ضد الرتق فتقه فتقاً : شقه والفتق الخلة من الغيم والجمع فتوق ... والفتق انشقاق ووقوع الحرب بين الجماعة وتصديع الكلمة .. والفتق الخصب ، سمي بذلك لانشقاق الأرض بالنبات ... قال الفراء (كانتا رتقاً ففتقناهما ) قال فتقت السماء بالقطر والأرض بالنبات، وقال الزجاج ... فتق الله السماء فجعلها سبعاً وجعل الأرض سبع أرضين ) (3) .
أقوال المفسرين في تأويل هذه الآية: ذكر الرازي ( رحمهٌ الله ) :- إنهم فسروا قوله تعالى كانتا رتقاً ففتقناهما ) على وجوه مختلفة :
أحدها : إن السماوات والأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض.
الثاني: إن كلاً من السماوات والأرض كانتا شيئاً ملتحماً ومنفصلاً عن أخره ، ثم فتق الله تعالى السماء إلى سبع سموات والأرض إلى سبع أرضين ) (4) وذكر الشنقيطي وجوها أخرى منها:
الأول : أن السماوات السبع كانت رتقاً متلاصقة ببعض ففتقها الله وجعلها سبع سموات كل اثنين منهما بينهما فصل والأرضون كذلك كانتا رتقاً وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض .
الثاني :إن السماء كانت لا ينزل منها المطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها النبات ، ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات .
الثالث: إنهما ( كانتا رتقاً ) أي في ظلمة لا يرى من شدتها ففتقهما الله بنور .
__________
(1) العين ( فتق ) 5 / 130 .
(2) مقاييس اللغة ( فتق ) 4 / 471 .
(3) لسان العرب باب ( فتق ) 10 / 296 – 297 .
(4) التفسير الكبير 22 / 139 .(1/9)
الرابع: ( إن الرتق مراد به العدم ، والفتق يراد به الإيجاد ، أي: كانتا عدماً فأوجدهما ) (1) .
النظرة العلمية وأثرها في التفسير :
شهد العلم الحديث بعد أن صعد رواد الفضاء إلى الفضاء الخارجي وجاءوا بنماذج من الأجرام السماوية وكشفوا عن مادتها الأساسية حيث وجدوا أنها تطابق مادة الأرض، ومنها استدلوا على وحدة السماء والأرض (2) ويقول العلم أيضاً عن المادة الكونية الأدنى التي نشأ منها الكون أنه ( نشأ من غاز كوني مظلم ، شديد التخلخل وساخن إلى حدٍ ما ، ويملأ الفضاء الكوني ومكون من دقائق أنواع العناصر المواد المختلفة (3) ، أما عن شكل هذا الكون بهذه الصورة فقد ( أشارت أحدث نظرية علمية في مجال الفيزياء الكونية إلى أن مادة هذا الكون كله ( والذي يقدر امتداد محيطه الآن بمقدار 125 ألف مليون سنة ضوئية ) متجمعة معاً بحيث أن محيط هذه الكتلة الكونية ولم يزد على أربع سنوات ضوئية وكانت مادة هذا الكون من فوتونات والكترونات والنيترونات وغيرها . أما درجة الحرارة فكانت لانهائية ... وكذلك الكثافة لانهائية ... ) (4) .
__________
(1) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 563 .
(2) بحوث المؤتمر للإعجاز القرآني المنعقد ببغداد للمدة من 21 – 26 رمضان سنة 1410 هـ ، 16 – 20 نيسان 1990 / بحث د . عبد الستار حامد بعنوان ( القرآن والإعجاز العلمي ) ص 351 .
(3) التفسير العلمي للآيات الكونية / 223 .
(4) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد كريم أرناؤوط 179 .(1/10)
وهذه الحالة لم تستمر لأكثر من مئة جزء من الثانية الواحدة بعد ذلك انخفضت درجة الحرارة إلى مئة ألف مليون درجة مطلقة ... وعلى مدى ثلاث دقائق وست وأربعين ثانية فقط حدثت تغيرات رهيبة في الكتلة الكونية الواحدة أدت إلى ظهور أنوية عناصر أثقل ، وانخفاض أكبر في درجات الحرارة بحيث أصبحت ألف مليون درجة مطلقة ... وأخذت أجزاء هذا الكون تتمدد في الفضاء وتبتعد وتجتمع في شكل مجرات ونجوم وظواهر كونية مثيرة .. أي أن الأرض وباقي الأجزاء بناء على هذه النظرية ،كانت جميعاً كتلة واحدة متصلة ثم تسلطت عليها قوى كونية هائلة أدت إلى ظهور هذا الكون بصورته التي نعرفها الآن (1) ، (ولا يستطيع العلم أن يقول لنا : ماذا كان يوجد في الفضاء الكوني الشاسع الذي توجد به المجرات الآن ... وقد يستطيع العلم أن يقول برأي في الأزمنة السحيقة ... فقد تجمعت لديه الآن الأسباب ما يدفعه لاعتبار أن الكون قد تشكل من كتلة غازية أساسها غاز الهيدروجين مع بعض من غاز الهليوم بطيء الدورة ويقول العلم إن هذا السديم قد انفتق بعد رتق وتحول إلى أجزاء متعددة ذات أبعاد وكتل من الضخامة بحيث تتكون الواحدة منها – حسب تقدير علماء الجغرافية الكونية – من حوالي مثل الشمس مئة ألف مرة!!! .. وجدير بالذكر أن الكتلة الحالية الشمس = 300000 مرة مثل كتلة الأرض ... وكتلة الأرض = 1 صحيح وكتلة جسم ما = مقياساً لمقدار ما يحتويه من مادة ... ..) (2) .
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 179.
(2) هندسة النظام الكوني في القرآن الكريم 38-39.(1/11)
ويذكر علماء الجغرافية الكونية أن ثمة عمليات فتق أخرى قد تكررت منذٌ نشأة الكون، نجم عنها تكوين نجوم في شكل حشود لشمس المجرات .. وإن تلك العمليات في إطار تأثير كل من قوى التجاذب والضغوط والتأثيرات المغناطيسية والإشعاعات ... ويذكر العلماء أيضاً أن النجوم بعد الفتق صارت براقة بانكماشها وبتحويل قوى التجاذب فيها إلى طاقة حرارية..وأنها بعد ذلك تعرضت لتدخل من ردود الأفعال الحرارية النووية بالانفراج تكوين ذرات ثقيلة من الذرات الكونية الأولى الخفيفة التي كانت موجودة في السحابة السديمية الدخانية الأولى . وبهذا الشكل تحول إلى هليوم ثم إلى كربون ثم إلى أوكسجين ثم إلى الفلزات واللافلزات .. وهكذا هي حياة النجوم ... تنتهي كما ينتهي كل شيء في الكون.. ينتهي إلى الموت.. حيث يتفجر في آخر مرحلة من تطورها انفجاراً مروعاً إلى الداخل تتحول بعده بالفعل إلى جثث (1) .
التفسير العلمي وفق الضوابط اللغوية :
__________
(1) المصدر نفسه 39.(1/12)
... يشير القرآن إلى حقائق كونية كهذه الحقيقة التي يقررها هنا (( أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما )) ونحن نستيقن هذه الحقيقة لمجرد ورودها في القرآن . وإن كنا لا نعرف منه كيف كان فتق السماوات والأرض أو فتق السماوات عن الأرض . ونقبل النظريات التي لا تخالف هذه الحقيقة المجملة التي قررها القرآن . ولكننا لا نجري بالنص القرآني وراء أية نظرية فلكية،ولا نطلب تصديقاً للقرآن في نظريات البشر.. وهو حقيقة مستيقنة وقصارى ما يقال : إن النظرية الفلكية القائمة اليوم لا تعارض المفهوم الإجمالي لهذا النص القرآني السابق عليها بأجيال (1) . وقد وضع أبن عاشور في إحدى مقدمات تفسيره (2) قاعدة هي : (( أن المعاني التي تتحملها جٌمل القرآن ، تعتبر مرادةً بها .وقد ذكر ابن عاشور أمثلة كثيرة تدل على صحة الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون، أو ترجيح بعضها على بعض بشرط عدم الخروج عن مهيع الكلام العربي البليغ (3) ، وتجنباً للإطالة وعدم الخروج عن موضوع البحث فسوف أركز على المعاني والضوابط اللغوية التي تخص التفسير العلمي ، إلا إذا احتجت إلى إيضاح المعنى بالموازنة مع التفاسير الأخرى وتوضيح دلالة كل منها .ففي قوله تعالى : { أوَلَم يرَ الذينّ كٌفَروا } ذكر أكثر المفسرين (4) (5) أن الهمزة هنا للإنكار والواو للعطف على مقدر وقرأ الجمهور (6)
__________
(1) ينظر في ظلال القرآن 17/2376.
(2) التحرير والتنوير 1/93 ، المقدمة التاسعة.
(3) التحرير والتنوير 1 / 100 .
(5) إرشاد العقل السليم 6 / 14 فتح القدير 3 /405 ، روح المعاني 17 / 24.
(6) ينظر النشر في القراءات العشر 2 / 323 ..(1/13)
(( أولم )) بواو بعد الهمزة – وهي واو العطف فالجملة معطوفة عطف استدلال على خلق الثاني بالخلق الأول ومافية من عجائب ، وقرأ ابن كثير (1) (( ألم يرَ )) بدون واو عطف قال أبو شامة: ولم تثبت الواو في مصاحف أهل مكة والاستفهام على كلتا القراءتين إنكاري ،توجه الإنكار على إهمالهم للنظر وهو أيضاً ما أشار أليه حنفي أحمد أن الاستفهام انكاري ينعى عليهم فيه عنادهم في إنكار الحق بعد العلم به (2) ، أما قوله تعالى : ( يرَ ) فقد اختلف المفسرون في توجيهها فمنهم من قال إنها رؤية قلبية بمعنى ألم يتفكروا ، ويعلموا كما ذكر ذلك الطبري (3) والرازي (4) والقرطبي (5) والبيضاوي (6) والشوكاني (7) 0) والآلوسي (8) 1) وغيرهم ويقول الشعراوي أيضاً إن كل ( ألم تر ) يعني ألم تعلم ثم يعلل سبب مجيء ( تر ) مكان تعلم ، أن وسائل العلم عند البشر :الحواس أولاً ، وبعد الحواس تأتي المعقولات ،يعني الحواس تستقبل ، وبعد أن تختبر المحسوسات نكون منها المعلومات العقلية ... لذلك جاء الحق في مرتبة العلم وقال ( ألم ترَ ) فكأن العلم الذي يقول الله لك ، ويخبرك به وإن كان غيبياً ، يجب أن نستقبله من الله استقبالا أقوى من وسائل الإدراك لك وهو العين كأنك تشاهده ويستشهد الشعراوي بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) مع أن رسول الله ولد عام الفيل ولم يكن
__________
(1) التحرير والتنوير 17 / 53
(2) التفسير العلمي للآيات الكونية 223 .
(3) جامع البيان 17 / 18 .
(4) الرازي في كتابه أسرار التنزيل وأنوار التأويل 158 .
(5) الجامع لإحكام للقرآن 11 / 282 .
(6) أنوار التنزيل 2 / 665 .
(7) فتح القدير 3 / 405 .
(8) روح المعاني 17 / 24 .(1/14)
قد رأى القصة ، ولكنه أخبر (1) والشعراوي بهذا يستدل بقرينة لفظية من خارج السياق ويفسر القرآن بالقرآن ، ومن فسر هذه الآية تفسيراً علمياً ، ذكر شاكر عبد الجبار أنه ( لما كانت العلوم الكونية في العصر الحالي قد توصلت إلى نفس الحقيقة التي طرقتها الآية قبل أكثر من أربعة عشر قرناً فالكفار يفترض بناء على اعتقادهم على مقررات العلوم العصرية أنهم يؤمنون بذلك أيضاً ..أن هؤلاء رأوا عن علم وتحقق شيئاً يستدعي اليقين،فلو أنهم كانوا جادين في عتمادهم على مقررات العلوم العصرية وجدها بدل الغيب لآمنوا بكلام الله عز وجل بدون تردد وبلا تلكؤ بعد أن رأوا التعاضد الوثيق بينه وبين المقررات العصرية التي يعتبرونها هم أنفسهم شيئاً يعتمد عليه ... ) (2) وكذلك فسر هذه الرؤية بالعلم الدكتور عبد العزيز عزام (3) وغيرهم ، ومنهم من فسر الرؤية هنا بالرؤية البصرية وأكثر من فسرها بالرؤية البصرية هم المحدثون أصحاب التفسير العلمي فقد ذكر الدكتور فاروق الشيخ أن ( يرى ) فعل مضارع وهي نزلت قبل ( 14 )قرناً وكأني بكل الذين كفروا من الذين عاشوا تلك القرون الطويلة يقولون : لا إننا لم نرَ السماوات والأرض كانتا رتقاً ، فمن أين جئت بهذا الحديث يا محمد ؛ ولكن العلماء الفلكيون في النصف الثاني من القرن العشرين لا يستطيعون أن يقولوا كما قال الكفار من قبلهم بل أنهم مقتنعون تماماً بأن الذي جاءت به هذه الآية الكريمة هو الصواب بعد أن راقبوا الفضاء الخارجي بالمناظير العملاقة ولفترات طويلة مستمرة ولعل أوضح شيْ هو الذي جاء به المنظار العملاق (( هابل )) الذي صور وبشكل ملون كيف تكونت الكواكب والأجرام السماوية في الأفق البعيد (4) .
__________
(1) ينظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم 1 / 76 – 79 .
(2) القرآن يفك لغز الأرض 32 .
(3) في الإسلام والعلم والحياة 119 .
(4) نظرة علمية للكتب السماوية / الجزء الأول الإعجاز العلمي والطبي في القرآن المجيد / 57 ..(1/15)
كما أول طنطاوي جوهري (1) قوله تعالى :{ أولَمَ ير ألذين كٌفرَوا } بأنه كأنه يقول سيرى الذين كفروا فهو وإن ذكرها بلفظ الماضي فقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (2) والذي يبدو أن هناك فرقاً بين الأسلوبين فالأول أسلوب إنكاري يشمل جميع الذين كفروا في زماننا هذا ووقت نزول القرآن ( وأتى أمر الله ) أسلوب يختلف عن الأول وإن جاء بلفظ الماضي ويقصد به المستقبل ولم يلحظ في القرآن الكريم استعمال قوله تعالى ( أولم تر ) أو (ألم ير) وبقصد به المستقبل فقط دون الحال أو الماضي وكيف يمكن أن يستعمل القرآن أسلوباً إنكارياً وهو لم يرهم بعد آياته ويقيم الحجة عليهم وأنه خطاب صالح لكل زمان ومكان . وقد جوز ابن عطية (3) أن تكون الرؤية علمية وبصرية وجعلها علمية أولى وكذلك ابن عاشور (4) فقد ذكر أن الرؤية تحتمل أن تكون بصرية وأن تكون علمية . والاستفهام صالح لأنه يتوجه إلى كلتيهما ؛ لأن إهمال النظر في المشاهد الدالة على علم ما ينقذ علمه من التورط في العقائد الضالة حقيق بالإنكار ، وإنكار اعمال الفكر في دلالة الأشياء على لوازمها حتى لا يقع أحد في الضلال ، جدير أيضاً بالإنكار أو بالتقرير المشوب بإنكار ( الذين كفروا ) ذكر الدكتور عبد العزيز عزام 4 قول الأصفهاني أن الخطاب في الآية عام للناس كافة وخص بالذكر الذين كفروا لأنهم لم يؤمنوا بالغيب وفي العصر الحالي أظهر الله هذه الحقيقة على أيدي الفرنجة ولقد فهم الذين كفروا علومها وأصبحت عقائد للذين كفروا وللذين أمنوا (5)
__________
(1) الجواهر 10 / 207 .
(2) النحل / 1 .
(3) المحرر الوجيز 10 / 141 – 142 .
(4) التحرير والتنوير 17 / 53 .
(5) الجواهر 10 / 207 ..(1/16)
والذي يبدو أن الخطاب موجه إلى الذين كفروا كما صرح به القرآن ؛لأنه بدأ الخطاب بأسلوب إنكاري كما أشرنا سابقاً وبدلالة أنه ذكر في نهاية الآية قوله ( أفلا يؤمنون )فلو كان موجهاً للمؤمنين لما قال أفلا يؤمنون لأنه هم مؤمنون فلا يعاتبهم على عدم إيمانهم وإن كان في هذه الآية ما يزيد إيمانهم قال تعالى :{ نٌّورٌٌ عَلَى نٌورٍ يَهدِي الله لِنٌورِهِ مَنَ يَشَاءٌ } (1) وقال أيضاً : (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (2) ولم يؤمن الذين وصلوا بالعلم إلى معرفة هذه الحقيقة ولمسوها بأيديهم (3) إذن فالإنكار على الذين كفروا . كما ذكر أكثر المفسرين (4) وقد استعمل القرآن هنا في خطاب الكفار ضمير الغائب في قوله ( ألم يروا ) و( أفلا يؤمنون ) وهو أحد الأساليب التي يستخدمها القرآن في مخاطبة الكفار (5) .
__________
(1) النور / 35 .
(2) مريم / 76 .
(3) في الإسلام وعلم الحياة 119 .
(4) ينظر جامع البيان 17 / 18 ، الجامع لأحكام القرآن 11 / 22 أنوار التنزيل 2 / 665 في ظلال القرآن 17/ 2376 .
(5) ينظر اللغة والمجتمع رأي ومنهج ص 88 وبعدها ،لغة القرآن الكريم 409 .(1/17)
أما في قوله تعالى : ( إن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما) فقد جاءت السماوات بصيغة الجمع لذا أشار آهل التفسير العلمي إلى أنه المقصود بها السماوات السبع وليس سماء الدنيا التي ينزل منها السحاب كما فسر بعض المفسرين ومنهم ابن عباس (1) والسماء عند أهل العلم : ((السماء اسم لما علاك وارتفع فوق رأسك ... وهو لا يخالف المعنى المعجمي فقد ذكر صاحب مختار الصحاح أن السماء يذكر ويؤنث وجمعه اسمية وسماوات والسماء كل ما علاك فأظلك ومن هنا قيل لسقف البيت سماءوالسماء المطر ..) (2) وقوله (( أن السماوات والأرض كانتا رتقاً )) الرتق كما أشرنا إلى بعض معانيه هو إلحام الفتق وإصلاحه والتفسير العلمي لهذه الآية يذكر أن الغاز الكوني تجزأ كتلا عظمى بأقدار المجرات وتجمع كل منهما بعضه على بعض ثم تجزأت إلى كتل نجمية وجعل تكوينها محكماً خالياً من التفاوت وهكذا نجد العلم يقول بخلق النجوم من الغاز الأول بحادث تجمع أجزائها( رتق) ثم بحادث تجزئ أو التفريق (فتق) ويقول بخلق الأراضي والكواكب والنجوم ثم بخلق الأقمار من الكواكب. (3)
__________
(1) الدر المنثور 5 / 625 .
(2) مختار الصحاح ( سما ) 315 .
(3) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 234 وينظر وجوه من الإعجاز القرآني 150 .(1/18)
وذكر الآلوسي (1) أن في ( كانتا ) الضمير يعود للسماوات والأرض والمراد من السماوات طائفتاها ولذا ثني الضمير ولم يجمع ومثل ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (2) فيجوز في اللغة الإخبار عن الجماعتين بلفظ اثنين كما أشار الثعالبي (3) واستشهد بهذه الآية فلا تعارض بين التفسير العلمي واللغة(( كانتا رتقاً ففتقناهما )) أي فصلنا بعضها عن بعض فكانت الأرض ... وكانت السماء وكان من السماء سماوات وما فيهين من عوالم ... وكان منهما أيضاً أرضون أخر لا يعلم ما فيهن إلا الخالق الأعظم ، وكان من أرضنا ما نعرفه ، وما لا نعرفه من أسرار وآيات. (4)
وقد أورد الطبري (5) أيضاً ( أن السماوات والأرض كانتا رتقا ) السماوات جمع الإناث أن يقال في قليلة كن وفي كثيرة( كانت ) قبل ذلك كذلك لأنهما صنفان فالسماوات نوع الأول والأرض أخر ذلك نظير قول الأسود بن يعفر: (6)
إن المنايا والحتوف كليهما في كل يوم ترقبان سوادي
__________
(1) روح المعاني 17 / 24 .
(2) فاطر / 41 .
(3) فقه اللغة وسر العربية 502 – 503 .
(4) هندسة النظام الكوني 141 .
(5) جامع البيان 17 / 20 .
(6) ديوان الأسود بن يعفر 9 .(1/19)
وفي قوله: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ ) فسر أكثر المفسرين (1) ،: إن السماوات والأرض كانتا رتقاً بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء للمطر والأرض للنبات والشجر،واختيار هذا القول واحتجوا على ترجيحه على سائر الأقوال بقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ ) وهذه قرينة سياقية متأخرة تدل على أن معنى فتق السماء بالمطر ، أما دائرة المعارف الإسلامية فتقول ( إن الآية30 من سورة الأنبياء تجيء في مقدمة آيات أخرى كونية تشير إلى الجبال ( الرواسي ) وغلاف الأرض الجوي ( السقف المحفوظ ) والليل والنهار والشمس والقمر وكلها من آيات الخالق في الكون .. وتشير الآية إلى اتصال السماوات والأرض في الأصل ثم انفصالها بعد ذلك ، كما تقرر لزوم وجود الماء لنشوء الحياة وتطورها وهكذا أجملت الآية الكريمة نشوء عالمي الجماد والحياة .. ) (2) وهذا ما أشار إليه أيضا حنفي أحمد (3) والدكتور السيد الجميلي (4) وغيرهما ممن فسر هذه الآية تفسيراً علمياً ، والظاهر أن الآية تشمل جميع ما يتحقق فيه معاني الرتق والفتق إذ لا مانع من عدَّ معنى عام يجمعها جميعاً ،فتكون الآية قد اشتملت على عبرة تعم على كل الناس وعلى عبرة خاصة بأهل النظر والعلم فتكون من معجزات القرآن العلمية (5) . قال الزمخشري (6)
__________
(1) ينظر جامع البيان 17 / 19 – 20 ، الحكم لأحكام القرآن 11 /282 فتح القدير 3 / 405 .
(2) دائرة المعارف الإسلامية – الطبعة العربية – كتاب الشعب – 154 .
(3) التفسير العلمي للآيات الكونية 226 – وبعدها وينظر : هندسة النظام الكوني 144 .
(4) الإعجاز العلمي في القرآن 18 .
(5) التحرير والتنوير 17 / 56 .
(6) الكشاف 2 / 730 ..(1/20)
(وجعلنا ) لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو اثنين ، فإن تعدى إلى واحد ، فالمعنى : قد خلقنا من الماء كل حيوان ، كقوله : ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) وهذا ما أشارت إليه العلوم من ( أن الأجسام التي تمتاز بالنمو والتولد والحركة تشترك في الصفة المائية فهي تحتوي على كميات هائلة من الماء فمثلاً أصل التكوين الحيواني من بذرة ( نطفة ) (1) وهي من سائل مائي وغذاء هذه النطف سائل مائي ( هو دم الأم ) ( حتى تصير جنيناً فطفلاً ) وإن تعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد منه (2) وقد ذكر ابن عاشور أن تكوين جميع الحيوان لا تتكون إلا من الرطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة (3) .
السماء دخان :ومن الآيات التي تحدثت عن كيفية بدء الكون أيضاً قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (4) .فمعنى قوله وهي دخان إشارة إلى أن السماء مخلوقة من مادة تشبه مادة الدخان وقد جاء في اللسان : ( الدخان دخان النار المعروف وجمعه أدخنة ) (5) 0)، وذكر صاحب مفردات القرآن أن : ( الدخان كالعثان المستصحب للهيب) قال تعالى : ( ثمَ اسَتّوى إلى السَماءِ وَهي دخَان ) أي هي مثل الدخان: إشارة إلى انه لا تماسك لها (6) 1) .
__________
(1) ينظر في الإسلام والعلم والحياة 119 .
(2) التحرير والتنوير 17 / 56 .
(3) التحرير والتنوير 17 / 56 .
(4) فصلت / 11 .
(5) اللسان مادة ( دفق ) 13 / 149 .
(6) مفردات القرآن الكريم / دفق .(1/21)
أما أقوال المفسرين في ذلك : فاختلفوا في معنى الاستواء أهو المقصود به القصد والعمد إلى خلق السماء أم هو من صفات الله وليس كمثله شيء فمنهم من قال الاستواء معلوم والكيف مجهول كما ذكرت ذلك أم سلمة ومالك بن أنس (1) ومنهم من فسر الاستواء بمعنى العمد والقصد إلى خلق السماء كما ذكر ذلك أكثر المفسرين (2) .أما في تفسيرهم لقوله تعالى : وهي دخان فقد أشار ابن تيمية إلى انه قد يسمى البخار دخاناً ومنه قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان }وذكر أيضاً أن المفسرين فسروه بأنه بخار الماء كما جاءت الآثار أن الله خلق السماوات من بخار الماء وهو دخان فإن الدخان الهواء المختلط بشيء حار ثم قد لا يكون فيه ماء وهو الدخان الصرف وقد يكون فيه ماء فهو دخان وهو بخار كبخار القدور (3) وذكر السيوطي أنه ( أخرج أبو حاتم عن يحيى العوفي قال سمعت علياً ذات يوم يحلف والذي خلق السماء من دخان وماء ) (4) وذكر ابن عاشور أن قوله : ( وهي دخان ) تشبيه بليغ ، أي هي مثل الدخان ، وقد ورد في حديث الرسول: ( صلى الله علية وسلم ) أنه لم يكن في الوجود من الحوادث إلا العماء (5) والعماء :سحاب رقيق ، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خلق الله منه الموجودات (6) وقد جاء في اللسان عن العماء : ( قال أبو زيد : هو شبه الدخان يركب رؤس الجبال) (7) .
التفسير العلمي لهذه الآية:
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن 2 / 82 .
(2) منهم مثلاً الزمخشري في الكشاف 3 / 1085 وأبو حيان في البحر المحيط 9 / 291 وسيد قطب في الظلال 24 / 3114
(3) كتب ورسائل ابن تيمية 17 / 265 .
(4) الدر المنثور 1 / 110 .
(5) ينظر سنن الترمذي رقم الحديث 3109 ج5 / 288 .
(6) ينظر التحرير والتنوير 24 / 246 .
(7) لسان العرب (عماء ) 25 / 99 .(1/22)
وفي قوله : (ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) ذكر حنفي أحمد أن الله تعالى : ( يبين أن مادة السماء قبل تكوينها وتسويتها كانت مثل الدخان ، وأن تشبيه مادتها وتخصيصها باسم الدخان دون قوله مثلاً : هي هباء أو بخار أو هواء ـ والهباء دقائق صلبة والبخار دقائق سائلة والهواء دقائق غازية – يشير إ شارة قوية إلى أن مادة السماء الأولية قبل خلقها كان لها من الصفات المهمة ما يشبه الدخان العادي الذي يتصاعد من النيران ، أي أنها كانت مظلمة بذاتها ، مفككة الأجزاء، خفيفة ومنتشرة في الفضاء كما ينتشر السحاب ، ساخنة إلى حد ما إذ الدخان لا يصدر إلا عن أصل ناري ، وأنها مثل الدخان العادي حاوية لدقائق أنواع المادة الثلاثة من صلبة وسائلة وغازية ) (1) .
وذكر أبو ألوفا الأميري (2) في تفسير هذه الآية إشارة إلى الغازات التي تملأ الفضاء ، مثل الهيدروجين ، وغاز الكاربون ،والهليوم أكثرها انتشاراً في القديم قبل ظهور النبات على الأرض هو غاز الكاربون ،فنسبته أعلى نسبة في الدخان يتولد نتيجة الكربون وعندئذٍ نلمس هذه الإشارة القرآنية ونتذوقها .وتحدث الشعراوي عن الإعجاز في هذه الآية وذكر أن البرفسور ((يوشيدي كوازي )) مدير مرصد طوكيو قرأ هذا الكلام وقال إن العلم لم يستدل إلا منذ فترة بسيطة جداً على أن السماء كانت دخاناً وقد أصبح هذا شيئاً مشهوداً مرئياً الآن ،بعد إطلاق سفن الفضاء والأقمار الصناعية وعرض صور التقطت لنجم في السماء وهو يتكون ،وقد بدأ كتلة من الدخان في وسطها تكون الجزء المضيء من النجوم وحوله الدخان وتحيط بالدخان حافة حمراء دليل على ارتفاع درجة الحرارة (3) .
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 207 وينظر الإعجاز العلمي للقرآن الكريم الارناؤوط 170 .
(2) الإشارات العلمية في القرآن الكريم 32 .
(3) الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى 89 .(1/23)
وقال أيضاً : ( لقد كنا نعتقد منذ سنوات فقط أن السماء كانت ضباباً ولكننا عرفنا الآن بعد التقدم العلمي بأنها ليست ضباباً ولكنها دخان ؛لأن الضباب بارد والدخان حار وفيه حركة ، وهذا يدل على أن السماء كانت دخاناً ، وقال إنني متأثر جداً باكتشاف هذه الحقيقة في القرآن (1)
أما الضابط اللغوي في استعمال القرآن لفظ (الدخان) فقد أشرنا إليه أثناء تفسير المفسرين لهذه الآية وكذلك أراء العلماء في التفسير العلمي وبقي أن نوضح لماذا لم يرد لفظ (السديم) في القرآن بدل الدخان وهو ما استعمله أهل العلم في تفسير هذه الظاهرة ، وهذا ما أشار إليه الدكتور أحمد عبد السليم الكرداني فقد ذكر في كتابه نماذج من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم أنه لم يرد لفظ ( السديم ) في القرآن ولكنه أشار إلى السديم بأنه كتل هائلة من أجسام دقيقة حارة ، بعضها غاز وبعضها مضيء وبعضها معتم ، وكل ذلك دل عليه القرآن بكلمة ( دخان ) جمع فيه أهم صفات السديم وخصوصاً الحرارة ، ولم يستعمل لفظ السديم لأن معناه في القاموس (2) : ( الضباب الرقيق ) وقد ترجمت به كلمة Nebula في العلم ولو جاءت كلمة (( السديم )) بدل ( دخان ) في الآيات لما دلت إلا على المعنى اللغوي وهو الضباب الذي أكثره ماء ، وليس السديم الفلكي كذلك . هذا إلى أن لفظ السديم لا يدل على ما يدل عليه الدخان من حرارة هي أهم صفات السديم في الفلك فأنظر كيف جيء بلفظ دون الآخر ، وكلاهما عربي ، فكان في اللفظ المختار معجزة علمية ، ... ويعتقد هؤلاء العلماء أن القوة التي تحول بها السديم إلى ما عليه الكون اليوم هي قوة الجاذبية العامة في المادة السديمية (3)
__________
(1) المصدر نفسه 89 .
(2) جاء في القاموس المحيط (سدم) جاء فيه (السديم ،كأمير الكثير الذِكرْ والضباب الرقيق ، أو عام 4 / 128 .
(3) نماذج من الإعجاز العلمي(1/24)
توسع الكون : من الآيات التي أشارت إلى توسع الكون قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (1) .
أما معنى الوسع في اللغة : فيأتي على عدة معان : ذكر ابن فارس (2) أن هذه المعاني يجمعها معنى عام فـ ( الواو والسين والعين كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر . يقال وَسُعَ الشَّيء واتَّسَعَ ، والوٌسع الغنى ، والله واسعُ : أي غني،والوسع الجدة والطاقة ،وهو ينفق على قدرة سعته ، وأوسع الرجلُ ، كان ذا سعة . والفرس الذَّريع : وَساعٌ . وجاء في اللسان (3) ( ورجل مُوسع : هو المَلِيء ، وتَوَسَّعُوا في المجلس أي تَفَسَّحو .. وأوْسَعه الشيء:جعله يَسَعُه ... وفي الدعاء اللهم أوسعنا رحمتك أي اجعلها تسعنا ... وقد أوسع الرجل من كثر ماله وقال تعالى :{ على الموُسع قدره وعلى الُمْقِتِرِ قَدَرهُ} (4) .
أقوال المفسرين :
(والسماء بنيناها بأيدٍ )أي بقوة وقد فسر سائر المفسرين واللغويين (5) الأيدي في هذه الآية بالقوة. وذكر ابن الجوزي (6) أن المفسرين ذكروا في قوله تعالى : ( وإنا لموسعون ) خمسة أقوال :
أحدها : لموسعون الرزق بالمطر قاله الحسن.
والثاني : لموسعون السماء قاله ابن زيد .
والثالث: لقادرون قاله ابن قتيبة .
والرابع : لموسعون ما بين السماء والأرض قاله الزجاج .
والخامس: لذو سعة لا يضيق عما يريد حكاه الماوردي .
وقد أشار القرطبي (7) إلى هذه الأقوال أيضا وذكر أن المعنى مُتقارب وذكر أن قوله تعالى : ( والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون ) أي أغنياء قادرون فشمل جميع الأقوال .
النظرة العلمية لتوسع الكون :
__________
(1) الذاريات / 47 .
(2) مقاييس اللغة ( وسع ) 6 / 109 .
(3) اللسان ( وسع ) 8 / 392 .
(4) البقرة / 236 .
(5) ينظر جامع البيان 27 / 7 زاد المسير 8 / 40 أنوار التنزيل 2 / 1014 فتح القدير 5 / 91 .
(6) زاد الميسر 8 / 41 .
(7) الجامع لأحكام القرآن 17 / 41 .(1/25)
أثبت العلماء أخيراً أن الكون يتوسع وفي جميع الاتجاهات من خلال ملاحظتين أو ظاهرتين هما ظلمة السماء ليلاً وهذا يشرح من خلال عرض معضلة (( أوليبر )) والثانية هي (( الزحزحة الطيفية الحمراء )) (1) .
أ-من أولى المشاهد التي دلت على توسع الكون هي ملاحظة أوليبر حيث شاهد هذا الإنسان المبدع المتأمل ظلام السماء ليلاً فتساءل قائلا : لو كان الكون غير منتهٍ أزليا لكانت السماء مضيئة حتى في الليل ، وأعد لهذا الشرح أنموذجاً (رياضياً يقسم الكون فيه إلى شرائح كروية مثبتاً إن تأثير إضاءة كل شريحة ثابت بالنسبة لنا.
وبجمع تأثير هذه الشرائح كلها تكون الإضاءة الناتجة مالا نهاية ،ولكن الواقع يظهر أن السماوات مظلمة ليلاً فكيف يمكن تفسير هذا ؟إذن لا بد أن يكون الكون متناهياً .. أي له نهاية . أو يكون متوسعاً وبذلك نستطيع القول أن عدد الشرائح المفترضة محدود ومجموع تأثيرها أيضاً محدود . وأن توسع الكون لن يسمح لجميع الضوء أن يصل ألينا .فهناك ضوء صدر لكن لم يصل ألينا لحد الآن من بعض النجوم بسبب توسع الكون . فلذلك نحن نرى الأفق المنظور ولا نرى الجزء الخارجي من الكون الذي لم يصل ضوؤه إلينا لحد الآن (2) .
ب- الزحزحة الحمراء :
استنتج العلماء أخيراً من دراسة ظاهرة (( دوبلر)) ، ( الانحراف نحو الضوء الأحمر ) أن كل المجرات تبتعد عن بعضها بسرعات تتناسب مع أبعادها عنا وعن بعضها البعض .. وظهر أن المجرات البعيدة تبتعد عنا بأسرع مما تبتعد المجرات القريبة ... وقالوا ... إنه إذا تضاعف بعد مجرة ما فإن معدل ابتعادها يتضاعف أيضاً وبعبارة أدق ... يمكن صياغة ذلك في الآتي :
__________
(1) مجلة الإعجاز العلمي والتفكير ? جامعة بغداد – علوم الفلك - الموسم الثاني 2002 / 11 – 12 .
(2) مجلة الإعجاز العلمي والتفكير جامعة بغداد كلية الفلك / الموسم الثاني ص 12 .(1/26)
كل زيادة في المسافة تبلغ مليون بارسك (1) تقابلها زيادة في سرعة الابتعاد تبلغ نحو 100 ميل / الثانية .
مثال:
المجرة التي تبلغ بعدها 10 ملايين بارسك تبتعد عنا بسرعة تبلغ 1000 ميل / الثانية .
والمجرة التي تبلغ بعدها 100 مليون بارسك تبتعد عنا بسرعة 10000 ميل / الثانية .
والمجرة التي تبلغ بعدها 500 مليون بارسك تبتعد عنا بسرعة 50000 ميل / الثانية .
أسرع معدل للابتعاد حتى الآن أمكن قياسه 000 40 ميل في الثانية ... وعلى هذا الأساس حسب العلماء متى بدأت المجرات هذا التشتت الابتعادي في فضاء الكون الرهيب ، كما أضاف منظار بالومار ذو المئتي بوصة معلومة للراصدين من العلماء مؤداها أن المجرات كانت جمعيها مكدسة في منطقة معينة من الفضاء منذ حوالي 7 آلاف مليون سنة ... ) (2) .
__________
(1) البارسك وحدة قياس الأبعاد بين النجوم = 000 000 000 00 192 ميل ينظر الظاهرة الجغرافية 101 .
(2) ينظر الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن 101 – 102 ، وينظر هندسة النظام الكوني في القرآن الكريم 30 – 31 .(1/27)
ولقد كشف العلم أخيراً عن حقيقة مدهشة ... هي أننا إذا حللنا طيف نجم مضيء آخذ في الابتعاد ،وجدنا أن خطوط طيفه تنقل نحو طرف الناحية الحمراء من الطيف ... وقد تمكن العلماء بعمليات رياضية معقدة طويلة من أن يقرروا ابتعاد النجوم عن بعضها ... وسرعة الابتعاد استناداً إلى هذا الانتقال ... فإذا درسنا المجرات البعيدة يتبين لنا أمر يدهشنا كل الدهشة ، وهو أن هذه المجرات تبدو آخذة في الابتعاد عنا ، ومندفعه نحو الفضاء بسرعة هائلة قد تبلغ 14000 ميل في الثانية الواحدة .والمدهش حقاً أن المجرات – فضلا عما سبق –كلما ازدادت بعداً ازدادت سرعة اندفاعها (1) . وكان من المعلوم في علم الفيزياء أن طيف الضوء المتجه نحو المشاهد ينزاح نحو اللون البنفسجي أما إن كان يبتعد فأن الطيف ينزاح نحو اللون الأحمر (2) فجميع الأطياف المستلمة ومن جميع الاتجاهات حولنا من النجوم لها صفة معينة ، وهي أن جميع هذه الأطياف زاحفة نحو اللون الأحمر واعتماداً على ظاهرة دوبلر فقد فسرت هذه الظاهرة على أن جميع الأجرام التي حولنا من نجوم ومجرات تبتعد عنا وبجميع الاتجاهات وهذا يشبه بالوناً مطاطياً وعليه ... نقاط مرسومة فعند نفخ هذا البالون ستبتعد جميع هذه النقاط عن بعضها البعض وكل راصد على نقطة يرى جميع النقاط تبتعد عنه .وبهذا اصبح توسع الكون المستمر أمراً مسلماً به من معظم العلماء المختصين (3) .
التفسير العلمي للآية الكونية والضوابط اللغوية فيه:
__________
(1) ينظر هندسة النظام الكوني 31 .
(2) ينظر مجلة الإعجاز العلمي والتفكر 2002 ص 7 . المصدر نفسه .
(3) مجلة الإعجاز العلمي والتفكر جامعة بغداد علوم الفلك محرم 1423 – آذار 2002 ص 11 – 12 .(1/28)
ذكر ممن فسر الآية تفسيراً علمياً أن القوة أوضح ما ينبئ عنه بناء السماء الهائل المتماسك..سواء في ذلك أكانت كلمة السماء تعني مدارات النجوم والكواكب ... أم تعني مجموعة من المجموعات النجمية التي يطلق عليها اسم المجرة وتحتوي على مئات الملايين من النجوم أم تعني طبقة من طبقات هذا الفضاء الذي تتناثرت فيه النجوم والكواكب .. أم غير هذا من مدلولات كلمة السماء ؟ ) (1) .والسعة كذلك ظاهرة..فهذه النجوم ذات الأحجام الهائلة التي تعد بالمليارات لا تعدو أن تكون هباءات متناثرة في الفضاء الرهيب ... ولا شك أن توسع الكون ظاهرة كونية لم يتوصل إليها العلم إلا أخيراً ، وبالتحديد بعد سبق القرآن للإشارة إليها .. ولا يعالج العلم اليوم إلا النموذج الذي يتم به هذا التوسع (2) ألا تعني السماء بالتحديد الكون خارج الأرض ؟ و ( موسعون ) اسم فاعل لفعل ( أوسع ) ويعني عرض وجعل الشيء شاسعاً وأكثر رحابة (3) .
ويمكن الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال الضوابط اللغوية لهذه الآية فكلمة ( السماء ) جاءت بصيغة المفرد وكما أشرنا إلى أن السماء في العلم وكما فسرها محمد عبده هو كل ما علاك لذا فهي تشمل النجوم والكواكب والمجرات والطبقات لأن السماء إذا جاءت بصيغة المفرد دلت على معنى عام فكما ذكر الدكتور فاضل صالح السامرائي:( أن السماء في القرآن الكريم تستعمل على معنيين ، فهي إما أن تكون واحدة السماوات كقوله تعالى: { وَلَقَد زَيَنّا السَمَّاء اْلدٌّنيا بِمصَابيح } (4) .
__________
(1) هندسة النظام الكوني 32 .
(2) المصدر نفسه 32 .
(3) القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم دراسة في الكتب المقدسة 192 .
(4) الملك / 5 .(1/29)
وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها كالسحاب والمطر والجو وغيره.ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من ( السماوات ) لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علا وارتفع (1) .وقوله تعالى : ( بأيدٍ ) ذكر ابن عاشور (2) أن معنى الأيد : القوة . وأصله جمع يد ، ثم كثر إطلاقه حتى صار اسما للقوة والمعنى بنيناها بقدرة لا يقدر أحد مثلها .وتقديم ( السماء ) على عامله للاهتمام به ، ثم بسلوك طريقه الاشتغال زاده تقوية ليتعلق المفعول بفعله مرتين : مرة بنفسه ومره بضميره، فإن الاشتغال في قوة تكرر الجملة ، وزيد تأكيده بالتذييل بقوله : ( وإنا لموسعون ) . والواو اعتراضيه . و ( موسعون ) اسم فاعل من الفعل الرباعي المزيد ( أوسع ) . ويحتمل المعنى في قوله تعالى : ( لموسعون )( تعني أن السماء بنيت واسعة وهذه حقيقة لا خلاف عليها وقد تعني أيضاً بمعنى تتوسع.كما أثبت العلم الحديث أن الفضاء بين المجرات يمتد د باستمرار ... ) (3) ومع ذلك فأن بناء اسم الفاعل في هذه الجملة الاسمية يدل على الاستمرار في توسع هذا الكون إضافة إلى ذلك أن معنى التجدد يدل (( على ولادة نجوم وكواكب أخرى – كما اثبت ذلك في العلم الحديث )) (4) مما يدل على دقة استعمال القرآن الكريم لبناء اسم الفاعل.ويكون معنى (لموسعون) في هذه الحالة ليس المراد به الزمن الماضي ،وموسعون جاء بلفظ الماضي للدلالة على وقوع الفعل لا محالة .
__________
(1) التعبير القرآني 230 .
(2) التحرير والتنوير 27 / 16 .
(3) ينظر نظرة علمية للكتب السماوية 59 .
(4) ينظر هندسة النظام الكوني 34 .(1/30)
أما سياق الآية فيبدو أنه موافق للتفسير العلمي وكذلك التفاسير الأخرى وقد أشار المفسرون إلى سياق هذه الآية وما يحمله من قرائن دلالية متقدمة أو متأخرة التي تؤيد التفسير الذي يرونه ويحتجون بها . فمن فسر ( وإنا لموسعون ) أي لقادرون من الوسع َ بمعنى الطاقة فالجملة تذليل إثباتاً لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلاً عن السماء وفيه من التعريض الذي في قوله تعالى : ( وما مسنا من لغوب ) (1) .أما من فسر قوله تعالى لموسعون الرزق بالمطر كما جاء عن الحسن فكأنه أخذه عن المساق لامتنان بذلك على العباد لإظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى : ( والسماء بنيناها بأيدٍ ) إلى ما تقدم منه سبحانه : وفي السماء رزقكم على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى : إنا لموسعون مبالغة في المن ... أي لموسعوها بحيث أن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها حلقة في فلاة (2) .
ومن فسر لموسعون بالسعة المكانية ففيه تتميم أيضاً، لذا ( ابتدئ بخلق السماء لأن السماء أعظم مخلوق يشاهده الناس ، وعطف عليه خلق الأرض عطف الشيء على مخالفة في الجامع الخيالي . وعطف عليها خلق أجناس الحيوان ؛ لأنها قريبة للأنظار لا يكلف النظر فيها والتدبر في أحوالها ما يرهق الأذهان ) (3) . لذا نجد الخطاب القرآني يبدأ يذكرهم بما هو أعظم وهو خلق السماوات ثم يكمل الخطاب في التفكر في الأرض كما جاء في قوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (4)
__________
(1) روح المعاني 27 / 17 .
(2) المصدر نفسه 27 / 17 .
(3) التحرير والتنوير 27 / 15 .
(4) غافر / 57 .(1/31)
وفي قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (1) أيضاً قرائن سياقية متأخرة فمن فسر قوله لموسعون بالوسع أي القدرة أشار إلى أن المقصود بقوله تعالى زوجين ( إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والهدى والضلال والسماء والأرض ... وغيرها ) ومن فسر قوله لموسعون بالسعة المكانية فسر قوله الزوجين إشارة إلى الذكر والأنثى في كل الحيوانات ) (2) . وهي تتمة أيضاً بعد ذكر السماوات والأرض كما جاء في التفسير العلمي .
رفع السماء بغير عمد : قال تعالى: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (3) وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ) (4) وقوله تعالى : ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) (5) .
معنى العمد في اللغة :جاء في اللسان (6) عمد الحائط يعمده عمداً : أي دعمه والعمود الذي تحامل الثقل عليه من فوق كالسقف يعمد بالأساطين المنصوبة . وعمد الشيء عمداً ، أقامه .. وأعمد الشيء : جعل تحته عَمداً .
النظرة العلمية :
هناك نظرتان علميتان يمكن أن نفسر من خلالهما هذه الآية:
النظرة العلمية الأولى :
__________
(1) الذاريات / 49 .
(2) جواهر الحسان 4 / 211 .
(3) لقمان / 10 .
(4) الرعد / 2 .
(5) الحج / 65 .
(6) اللسان ( عمد ) 3 / 303 .(1/32)
من المعروف أن ابتعاد الأجرام السماوية على مسافات عظيمة ومتناسبة طردياً مع الكتل نفسها يشكل أساس دورانها .. فكلما تباعدت الأجرام وهنت قوة جذب كل منها للأخرى . وكلما تقاربت كان لكل منها تأثير على الأخرى، وتلك حالة القمر فهو، لقربه من الأرض ( ذلك بالطبع في سياق علم الفلك)، يؤثر بقانون الجاذبية على موقع الماء في البحار ومن هنا تجيء ظاهرة المد والجزر . إن التقارب الشديد بين جرمين سماويين يؤدي لا محالة إلى اصطدامهما , إن الخضوع للتوازن هو الشرط الأساسي لعدم وجود اضطرابات (1) لذا فإن( عدم سقوط القمر على الأرض إنما حصل بفعل سرعته التي تتجه في خط مستقيم تمس المدارالذي يدور فيه القمر حول الأرض ، فهذه القوة الناتجة عن السرعة تعادلت مع قوة الجاذبية ، فجعلت القمر يدور حول الأرض ) (2) . وهكذا يمسك الله تعالى القمر والشمس والكواكب السيارة والنجوم أن تقع على الأرض إلا بإذنه تعالى (3) .
أما النظرة العلمية الثانية :
... يتكون الغلاف الهوائي ( سقف الأرض ) من غازين هما الآوزت أو النتروجين 78 % والأوكسجين بنسبة 21% وذلك من حيث الحجم بالإضافة إلى 1 %غازات نادرة مثل النيون والكريتون والزينون والهليوم مع مقادير إضافية من بخار الماء قد تصل إلى 4% في الأجواء الحارة الرطبة .والأرض تمسك هذا السقف ( الغلاف الهوائي ) بقوة وبقبضة الجاذبية ولا تتركه يتسرب أو ينطلق إلى خضم الفضاء( فمن خصائص الهواء ميله الشديد للهرب والانطلاق إلى الفضاء الكوني ... وقوة إمساك الأرض للهواء إلى أسفل بفعل الجاذبية الأرضية .. فيظل الغلاف الهوائي أو سقف الأرض مرفوعاً من غير عمدٍ نراها (4) .
أقوال المفسرين في تفسير الآية:
__________
(1) القرآن الكريم والتوارة والانجيل 176 .
(2) القرآن الكريم والعلوم الحديثة 99 .
(3) المصدر نفسه 99 .
(4) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 193 .(1/33)
ذكر أكثر المفسرين (1) أن في قوله تعالى : ( بغير عمد ترونها ) قولين :
أحدهما : أنها مرفوعة بغير عمد ترونها قاله قتادة وأياس بن معاوية .
الثاني: لها عمد ولكنا لا نراها قاله ابن عباس .
التفسير العلمي لهذه الآية وضوابطه اللغوية :
__________
(1) ينظر الجامع لأحكام القرآن 9 / 279 إرشاد العقل السليم 5 / 3 الشعراوي في سورة الرعد قرص سيدي .
(2) النازعات /27 .(1/34)
كان ممن فسر هذه الآية ونال قبولاً واستحساناً من جماهير المختصين في العلوم الكونية والفلكيات الشيخ محمد عبده ولم يكن رأي الشيخ مجرد ظنون ،أو محض تخيلات ولكنها حقائق علمية وصل إليها محمد عبده بإطلاعه على المستحدثات العلمية وكان رأي الإمام عن الجاذبية العامة وأثرها في بناء السماء مما نبه الله عليه وأشار إليه في آيات التنزيل .وكان تفسيره العلمي هذا حين فسر قوله تعالى : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) 2 فقد فسرقوله بناها بأن الحق سبحانه وتعالى جعل كل كوكب من الكواكب من الكون بمثابة لبنة من بناء أسقف أو قبة أو جدران تحيط بك،ثم شد هذه الكواكب بعضها ببعض بتأثير الجاذبية الأرضية أو ما يماثلها من الجاذبيات الأخرى،كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما يتماسك به (1) وقد أوضح جل شأنه الفرق بين الجاذبية السماوية وبين الجاذبية الأرضية ،ولا يمكن أن يصل إلى لطائف الإشارات ،و دقائق المعاني إلا أرباب الفصاحة والبيان . والذي يتأمل قوله تعالى : ( خلق السموات والأرض بغير عمد ترونها ) وقوله ( رفع السموات بغير عمد ) ففي قوله تعالى (بغير عمد ترونها ) في خلق السماء ورفعها لطيفة علمية دقيقة إذ أنه لو قال ( بغير عمد ) فحسب ، كان نفياً مطلقاً للعمد ، مرئية وغير مرئية ، والنفي المطلق يخالف الواقع الذي علم الله أنه سيهدي إليه خلقه وعباده بعد حين ، فكان من الإعجاز الدقيق أن يقيد الله نفي العمد من الخلق والرفع بقوله ((ترونها)) والضمير المنصوب في (ترونها) يرجع أولاً إلى أقرب مذكور وهو ( عمد ) فيكون المعنى (بغير عمد مرئية ) أو ( بعمد غير مرئية ) أي من فطرتها وتكوينها ألا ترى للنظر،والفعل المضارع في اللغة يشمل الحال والاستقبال أو هو الحال المستمر؛لأن القرآن يخاطب به الناس في كل عصر ... (2)
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن / السيد الجميلي 106 .
(2) الإسلام في عصر العلم 317 ..(1/35)
وإذا أعيد إلى السماء كان المعنى أن السماء ترونها مخلوقة بغير عمد وتكون العمد ما يعهده الناس في أبنية الأرض . ونفيها بهذا المعنى عن السماء المرفوعة أيضاً أمر عجيب لا يقدر عليه إلا الله . وكلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني طبق اللغة وإن كان الأولى في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي .
وقد ذكر النحاس في كتابه معاني القرآن أن أبا جعفر قال ( والقولان يرجعان إلى معنى واحد لأن من قال أنها بعمد إنما يريد بالعمد قدرة الله جل وعز التي يمسك بها السموات والأرض) (1) .
أما الضابط النحوي في هذا التفسير فيختلف الإعراب حسب هذه الوجوه فيجوز أن تكون ( ترونها ) في موضع خفض على النعت لعمد ويكون المعنى أن ثم عمداً ولكن لا ترى ويجوز أن تكون(ترونها)لا موضع له من الإعراب وأنتم ترونها فلا يكون ثم عمد ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من السماوات والمعنى أنه ليس ثم عمد البتة (2) فالوجه الأول يمكن أن يفسر فيه العمد الجاذبية بين الكواكب. ويوافق أيضاً التفسير العلمي النظرة العلمية الثانية إذا فسرنا قوله تعالى في بداية الآية السماوات ( بطبقات الغلاف الجوي) كما فسر بعضهم (3) السماوات السبع بهذه الطبقات لكي يتناسب الجمع في السماوات مع الطبقات الجوية . كما توافق النظرة العلمية الثانية قوله تعالى : ( ويمسك السماء أن تقع على الأرض ) ومعنى السماء في هذه الآية معنى عام يشمل كل ماعلاك .
__________
(1) معاني القرآن للنحاس 5 / 281 .
(2) مشكل اعراب القرآن 1 / 396 .
(3) طبقات الجوهرية : تربو سفير ، السترا توسفير ، الاوز نوسفير، الاينوسفير ، ثرنوسفير ، الكيموسفير.(1/36)
وهناك آيات أخرى تحدثت عن الجاذبية أيضاً كما في قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (1) .ففي هذه الآية لم يقل سبحانه (السماء ) كما قال في الآية: {وَلَقَد زَيَنّا الَسَمَاءَ الدٌينَا بِمصَابَيح } (2)
فيبدو أن العليم الخبير سبحانه وتعالى عندما قال ( السموات ) أعطى الأبعاد التي يحتاجها الكلام واقعاً كما هي عليه ولاحقاً على قدرها تسفر عنه الكشوف الإنسانية ... ففرق أن يقال (( السماء )) فينصرف النظر إلى الرقعة التي تشاهدها العين المجردة بما تحتويه وبأن يقال(السماوات) وفيها ما فيها مما لا يحطه إلا الخلاق القدير (3)
وهذه القوة كما تشمل الوجود كله فإنها تحيط به إحاطة كاملة تامة كما أنها تشير إلى وجود قوة داخلية تدفعه إلى الخارج فإن الاتساع لأنه يتم بسرعة معينه مستمرة فهو يدل على وجود قوة خارجية تحيط به فتتحكم في سرعة هذا التمدد (4) وهذه القوة هي التي يمسك الله سبحانه وتعالى السموات والأرض في مواقعها التي قدرها الله لها ... أو أن هذا إن شئت هو ما أدركه الإنسان إلى الآن فالجاذبية إذن على قدر علم الإنسان إلى الآن (5) .
__________
(1) فاطر / 41 .
(2) الملك / 5 .
(3) ينظر ملامح كونية في القرآن 46 .
(4) الطريق إلى الله 33 .
(5) ينظر الظواهر الجغرافية (بتصرف) 144 .(1/37)
حقيقة العدد (7) في السماوات والأرضين : هناك آيات كثيرة وردت في القرآن عن عدد السموات فمن هذه الألفاظ التي وردت (السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ ) (1) أو ( سبع السموات ) (2) يصرح القرآن بالعدد ( سبعة) واختلف العلماء بالمراد من هذا العدد للحقيقة أم للمجاز وكذلك عدد الأرضين ويمكن أن نصل إلى الحقيقة من خلال عرض هذه الآيات ودراستها وأقوال المفسرين في ذلك فمن الآيات التي تحدثت عن عدد السموات والأرضين في قوله تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) فقد ذكر القرآن الكريم عدد السموات والأرض مقروناً بعدد سبعة في هذه الآية وعشرات من آياته إشارة إلى تعدد العوالم فلكياً ، واستعمل العدد سبعة أربعاً وعشرين مرة (3) ، وكثيراً ما يعني التعدد ، وفي القرآن يعود العدد سبعة على السموات بمعناها الصرف سبع مرات (4) كما عبر القرآن عن السموات بالطرائق حيث قال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) (5) ووصفها أيضاً بالطباق قال:(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً ) (6) وكذلك بالشداد كما في قوله تعالى : (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً). (7)
__________
(1) المؤمنون / 86 .
(2) الطلاق / 12 .
(3) الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة ص 163 . وينظر الكون في القرآن 54 .
(4) ينظر الكون في القرآن 54 .
(5) المؤمنون : 17 .
(6) الملك / 3 .
(7) نبأ / 12 .(1/38)
وإذا أردنا أن نعرف المراد بالسماوات السبع يجب علينا الرجوع إلى الآيات التي تناولت هذا الموضوع كي تتوضح الصورة لدينا ، وأن نفسر القرآن بالقرآن فقد نجد إشارة في أية من آيات السماوات والأرض لا توجد في أية أخرى وبهذا يكون تفسيرنا ناقصا واستنتاجنا خطأ أو مخالفاً لما هو موجود في آيات أخرى ولذا سأربط في أثناء التفسير بالآيات السماوية الأخرى بعد أن أوضح معنى الآية التي أفسرها . ففي قوله تعالى : (الله الذي خلق سبع سماوات) وآيات أخرى ورد فيها عدد السموات أختلف العلماء في تفسير سبع سموات على أقوال :
1-ذهب القرطبي (1) أنه لا خلاف في السموات أنها سبع بعضها فوق بعض دل على ذلك حديث الإسراء وغيره.
2-ذهب بعض العلماء إلى أن السماوات السبع المذكورة في القرآن هي الكواكب السيارات السبع وإنما خصت بالذكر لأنها أعظمها وأكثرها وأن القرآن لم يذكرها في موضع واحد علىسبيل الحصر فلا ينافي ذلك أنها أكثر من سبع (2) إلا أن الرأي لا يستقيم أمام البرهان العلمي لأن السيارات أكثر مما ذكر (3) .
3-وقال بعض علماء اللغة أن العرب تستعمل لفظ سبع وسبعين وسبعمائة للمبالغة فالعدد أذن غير مراد (4) إلا أن تأكيد الآية على سبع سماوات في سورة ( المؤمنون ) لا يدع مجالاً للشك والتأويل حيث يقول تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (5) وأن العدد سبعة قليل لا يستعمل للمبالغة كما يستعمل سبعين فدلالته على الحصر أولى ، حيث لا منافاة بين عدد السماوات وكثرة المجرات ، التي خلقها الله محتوية على ملايين النجوم والكواكب المستديرة كالشموس والقمر والكواكب وكلها تسبح في أفلاكها بحركات دائرية محيطة (6) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 18 / 174 .
(2) محاسن التأويل 2 / 91 .
(3) الكون في القرآن الكريم 56 .
(4) محاسن التأويل 2 / 92 – 93 .
(5) المؤمنون / 86 .
(6) الكون في القرآن / 56 .(1/39)
وهناك آيات أخرى أشارت إلى أن السماوات طباق كما في قوله تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقا) (1) أي طبقاً فوق طبق كما ذكر ذلك الطبري (2) والقرطبي (3) والبيضاوي (4) .
__________
(1) الملك /3 .
(2) جامع البيان 29 / 2 .
(3) الجامع لأحكام القرآن 18 /208 .
(4) أنوار التنزيل 2 / 1080 .(1/40)
أما النظرة العلمية لحقيقة السماوات والأرض فلا يمكن أن تتحقق على رغم من هول ما اكتشفنا من معلومات فلكية وكونية فإن هذه العبارة (السماوات) تبقى أكبر؛ لأن هذه المعلومات بالنسبة إلى عظمة الكون،ومساحته وأسراره ضئيلة جداً لا يعلمها إلا الخالق الأعظم فنحن نعلم بوجود السموات السبع كما أخبر بها القرآن الكريم ووضحتها السنة النبوية من أنها سماوات سبع منفصلة عن بعضها كما في حديث الإسراء ولكن يبقى الخطاب القرآني منهلاً رحباً على مرّالعصور لمن يريد أن يتفكر في خلق السماوات والأرض وما يحمله من دلالات ومعانٍ تسعى لإفهام جميع الطبقات من أدنى العوام إلى أخص الخواص و ينصرف الخطاب أيضاً إلى كل الاختصاصات مثل عالم اللغة والفلك والرياضيات وعلماء الأرض وغيرهم . فيختلف الخطاب بحسب أدراك وفهم المتلقي شرط ألا يخرج الخطاب عن معانيه اللغوية كما أشترط بعض المفسرين وكما ذكرت سابقاً . فمن الأمثلة التي ذكرها النورسي (1) على ذلك فهم الناس لقوله تعالى (سبع سموات ) فمنهم من يفهمها طبقات الهواء النسيمية ومنهم من يفهم منه الكرات النسيمية المحيطة بأرضنا هذه وأخواتها ذوي الحياة ... ومنهم من يفهم منه سبع السيارات السبع المرئية للجمهور ... ومنهم من يفهم منه سبع منظومات شموسية أولاها منظومة شمسنا هذه ... ومنهم من يفهم منه انقسام الأثير في التشكل إلى طبقات سبعة .. ومنهم من يرى جميع ما يُرى مما زُين بمصابيح الشموس والنجوم الثوابت سماء واحدة . هي السماء الدنيا وفوقها سموات أٌخر لا ترى .. ومنهم من لا يرى انحصار سبع سماوات في عالم الشهادة فقط بل يتصورها في طبقات الخلقة في العوالم الدنيوية والآخروية والغيبية.. فكل يستفيض بقدر استعداده من فيض القرآن ويأخذ حصته من مائدته فيشتمل علىكل هذه المفاهيم.
عدد الأرضيين وطبقاتها و أقوال المفسرين في ذلك :
__________
(1) ينظر إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز 287 – 288 .(1/41)
ذكر الزمخشري (1) في تفسيره أنه قيل:ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا قوله تعالى : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (2) .اختلف المفسرون في المماثلة وفي توجيه السبع على الأقوال الآتية :
1ـ جمهور المفسرين جعلوا المماثلة في عدد السبع وقالوا : إن الأرض سبع طبقات (3) فالمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف (4) ولأن الكيفية والصفة مختلفة بالمشاهدة ، فتعين العدد (5) . 2-وقال الضحاك : ومن الأرض مثلهن ) أي سبع من الأرضين ولكنها مطبقة بعضه على بعض (6) .
3ـ ومن العلماء من قال هي سبع أرضيين منبسطة تفرق بينها البحار وهذا المروي عن ابن عباس من رواية الكلبي عن أبي صالح (7) وتظللها سماء واحدة (8) .
4- وجاء في تفسير البغوي ( مثلهن ) في العدد (9) 0) .
النظرة العلمية لطبقات الأرض :
أثبتت الدراسات الجيو فيزيائية أن الأرض مكونة من :
1- الغلاف الهوائي .
2- الغلاف المائي .
3- القشرة الأرضية .
4- طبقة من السليكات الخفيفة والثقيلة .
5- طبقة من الاكاسيد والكبريتيدات .
6- سائل من الحديد والنيكل .
7- نواة الأرض المكونة أيضاً من الحديد والنيكل (10) .
الضوابط اللغوية في التفسير :
__________
(1) ينظر الكشاف 4 / 1261 .
(2) الطلاق / 12 .
(3) التحرير والتنوير 28 / 140 .
(4) روح المعاني 28 / 142 .
(5) محاسن التأويل 2 / 192 – 193 .
(6) الجامع لأحكام القرآن 18 / 174 .
(7) التحرير والتنوير 28 / 140 .
(8) ينظر تفسير المراغي 10 / 151 .
(9) تفسير البغوي 4 / 361 .
(10) قوانين الله وليست قوانين الطبيعة : 16 .(1/42)
في إفراد لفظ ( الأرض ) دون أن يؤتي به جميعاً ما أوتى بلفظ السماوات إيذانا بالاختلاف بين حاليهما (1) في هذه الآية وآيات أخرى كثيرة يدل على أن الأرض وحدة متماسكة لا يفصل بين طبقاتها شيء،وأن السماوات سبع سماوات طباقاً مفصولة بعضها عن بعض كل سماء مستقلة بذاتها (2) وهذا ما قاله الضحاك كما ذكرت سابقاً والسماوات السبع لا خلاف عند العلماء أنها طبقات كما قال تعالى : { الله الذَي خَلَقَ سَبعَ سَمَاواتٍ طِبَاقًا } (3) . وكما جاء في حديث الإسراء . أما الأرضون السبع فالنظرة العلمية موافقة لقول الجمهور من أنها سبع طبقات بعضها فوق بعض وتؤيد الآية أيضا من قال في تفسيره (ومن الأرض مثلهن) أنها سبع قطع على سطح الأرض لأن في هذه الآية لم يصف الله تعالى السماوات بالطباق وقيل في هذه الآية أيضاً أنها الوحيدة التي دلت على عدد الأرضين فيجوز أن يقال هذه الأرضين منبسطة كما فسر ذلك ابن عباس وجوز ذلك التفسير أيضاً ابن عاشور،وتكون (من) في هذه الحالة تبعيضية (4) والذي يبدو أن من في هذه الحالة يجوز أن تكون تبعيضية ويجوز أيضاً أن تكون بيانية ويذكر بعضهم : أنه قيل في السماوات طباقاً لأنها منفصلة ولم يقل الأرض طباقاً لأنها متصلة (5) ، وأيضاً من التفاسير العلمية في قوله تعالى: (( ومن الأرض مثلهن )).
__________
(1) تحرير والتنوير 28 / 340 .
(2) الكون في القرآن 58 .
(3) الملك / 3 .
(4) التحرير والتنوير 28 / 341 .
(5) الكون في القرآن 57 .(1/43)
ما ذكره حنفي أحمد (1) أن معنى الآية يفيد أنه تعالى خلق سبع سماوات من غير جنس الأرض وخلق أرضين متعددة منها الأرض التي يسكنها الناس وورود الأرض بصيغة المفرد ، ليكون لظاهرها معنى مناسب لعقول عامة الناس ، ويفهم أهل اللغة أنها سبع أرضيين مثل أرض الإنسان ويفهم أهل العلم بالكائنات أنها أجرام أرضية متعددة مثل أرض الإنسان،وبأن السبع السماوات غير أرضية الجنس ، وأن السماوات عبارة عن هذه وباقي الأرضين ،وهذا مثال من عديد الأمثلة التي تدل على أن ألفاظ القرآن لها معان ظاهرة تناسب عقول جميع الناس وأخرى غير ظاهرة لا يستجلبها إلا أهل النظر والبحث والتنقيب منهم .
وذكر أيضاً الدكتور محمد أحمد الغمراوي في تفسيره لهذه الآية أن (أل ) في الأرض هنا هي حتماً للجنس لا للعهد ، بدليل قوله ( مثلهن ) والسماوات السبع متعددة . وليس في ذلك شك ، فلا بد أن تكون الأرضون السبع متعددة أيضاً على النفس النحو والنمط ، لتحقق المثلية المنصوص عليها في الآية، لا أنهن سبع طبقات في أرضنا هذه ... وأكبر الظن أن المرقب المئتي بوصة الجديد سيكتشف الزمن عن بعض هذه الأرضين الست فتتجدد بذلك آيات أخرى من آيات إعجاز القرآن ) (2) .
وإذا كانت هذه التفاسير تتحمل تلك الوجوه اللغوية فإن علمنا بحقيقة السموات والأرض ما زالت ناقصة ؛لأن علمنا لا يحيط بالكون،حتى نقول على وجه التحقيق ،هذا ما يريده القرآن الكريم ،ومع ذلك فإن موضوع البحث هنا التحقق من أن التفاسير التي وصلت إلينا موافقة للضوابط اللغوية إضافة إلى ضوابط أخرى يمكن أن نوضحها على وجه الاختصار وتبقى حقيقة المراد في علم الله تعالى وما هذا إلا من اجتهاد المفسرين وقد يتوصل العلم إلى حقيقة ذلك مستقبلاً .
__________
(1) ينظر تفصيل هذا التفسير العلمي للآيات الكونية 122 – 128 .
(2) الإسلام في عصر العلم 128 .(1/44)
النفوذ من أقطار السماوات : وفي قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ ) (1) .
اختلف المفسرون في تفسيرها قديما وحديثا وكذلك في معاني مفرداتها لتعدد دلالاتها فمعنى النفاذ لغة: جاء في اللسان : ( النَّفاذ الجواز ، وفي المحكم : جوازُ الشيء والخلوصُ منه .تقول: نَفَذْت أي جُزت ، وقد نَفَذَ ينفُذُ نَفَاذاً ونُفُوذاً ... ونَفَذَ السَّهمُ الرَّميَّة ونَفَذَ فيها يَنْفذها نَفْذَاً ونَفَاذا :خالط جوفها ثم خرج طرفٌه من الشق الآخر وسائره فيه ) (2) .
أما القطر جاء في قاموس المحيط:((قطر بالضم الناحية ج : أقطار)) (3) وقال الخليل: (( وأقطار الجبل أعاليه )) (4) وقد ذكر ابن منظور حديث عائشة تصف أباها رضي الله عنهما قالت : (قد جمع حاشِيَتيْه وضَمَّ قُطْرَيْه ) – أي جمع جانبه عن الانتشار والتَّبدُّدِ والتَّفَرُّق ، والله اعلم ) (5) .
وأما السلطان فمن معانيه جاء في مختار الصحاح : ( السلاطة) القهر وقد سلطه الله عليهم ( تسليطاً فتسلط)عليهم . و( السلطان ) الوالي وهو فُعْلان يذكر ويؤنث والجمع ( السلاطين ) و( السلطان).أيضاً الحجة والبرهان ولا يُجمْعُ لأن مجراه مجرى المصدر ) (6) .
__________
(1) الرحمن / 33 – 35 .
(2) لسان العرب ( نفذ ) 3 / 514 .
(3) قاموس المحيط ( قطر ) 2 /119 .
(4) العين ( قطر ) 5 / 96 .
(5) لسان العرب ( قطر ) 5 / 106 – 107 .
(6) مختار الصحاح ( سلط ) 309 .(1/45)
وذكر ابن منظور قوله تعالى : ( فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) أي حيثما كنتم شاهَدْتُم حُجَّةَّ لله تعالى سُلطاناً يدل على أنه واحد ... والسَّلْطان والسُلُطان قدرة الملك ... والنون في السلطان زائدة لأن أصل بنائه سليط ) (1) . والشواظ في اللغة كما ذكر أغلب أهل المعاجم (2) : ( الشَّواظ ) بضم الشين وكسرها اللَّهَبُ الذي لا دخان له . واستشهد ابن منظور (3) بقول أمية بن خلف يهجو حسان بن ثابت رضي الله عنه :
يظل يشب كيرا بعد كير وينفخ دائماً لهب الشواظ
كما ذكر أن قوله تعالى :(يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس) وقال أيضاً أنه قيل الشواظ قطعة من النار ليس فيها نحاس ، وقيل: الشواظ لهب النار ولا يكون إلا من نار وشيء آخر يخلطه : وأشار إلى قول الشميل انه قال : يقال لدخان النار شواظ وشواظ ولحرها شواظ وشواظ وحر الشمس شواظ ،وأما النحاس فقد ذكر الخليل : ( النحاس . ضرب من الصفر الشديد الحمرة ، وقال النابغة :
كأن شواطهن بجانبيه نحاس الصفر تضربه القبور (4)
والنحاس الدخان الذي لا لهب فيه قال الشاعر ( الجعدي ) :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا. (5) (6)
وقد أورد ابن منظور (7) هذا البيت أيضاً وذكر أيضاً قول الأزهري أنه قال:وهو قول جميع المفسرين . كما أورد قول أبي حنيفة انه قال : النحاسُ الدخان الذي يعلو وتضعف حرارته ويخلص من اللهب . وكذلك أورد قول ابن بزرج حيث قال : يقولون النُحاس ، بالضم والصُّفر نفسه والنحَاس ، مكسور ، دخانه . وأشار ابن منظور أيضاً أن غيره يقول للدخان ( نُحاس ).
__________
(1) لسان العرب ( سلط ) 7 / 321 .
(2) ينظر مقاييس اللغة ( شوظ ) 3 / 228 ، مختار الصحاح ( شوظ ) 351 ، لسان العرب ( شوظ ) 7 / 446 .
(3) ينظر لسان العرب ( شوظ ) 7 / 446 .
(4) لم أجده في ديوان النابغة 81 .
(5) شعر النابغة الجعدي 81 .
(6) العين ( نحس ) 3 / 144 .
(7) ينظر لسان العرب ( نحس ) 6 / 227 .(1/46)
أقوال المفسرين في هذه الآية : في قوله تعالى:(يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) . اختلف المفسرون في تفسيرها على الأقوال الآتية :
1-ذهب أكثر المفسرين إلى أن معنى قوله تعالى : ( أن استطعتم أن تنفذوا ) إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتجوزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزا فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم قالوا وإنما هذا القول يقال لهم يوم القيامة ) (1) .
2- روي عن ابن عباس انه قال :إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي ببينة الله تعالى وعنه أيضاً أن معنى لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم (2) وذكر الآلوسي عن ابن عباس معناه إلا بحجة وبينة نصبها الله تعالى تتعرفون عليها بأفكاركم (3) .
... ومن أقوال أهل التفسير العلمي في تفسير هذه الآية: ذكر موريس بوكاي :
(أ) أن اللغة العربية قادرة على تمييز الظروف بشكل أكثر صراحة ووضوحاً عما هو الحال في اللغات الأخرى. فهناك حرف للتعبير عن الاحتمال وهو(إذا) وحرف آخر للتعبير عن الفرض الجائز وهو حرف(إن) وحرف آخر للتعبير عن الامتناع وهو لو . تقول الآية المعنية بفرض جائز معبر عنه بحرف (إن) القرآن إذن يتحدث عن إمكانية مادية لإنجاز ملموس . وهذا التمييز اللغوي ينحي بشكل حاسم التفسير الصوفي الصرف الذي أراد البعض خطأ إعطاءه لهذه الآية.
(ب) يخاطب الله الجن والإنس جوهرياً ، ليس في هذا التعبير استعارة رمزية .
__________
(1) جامع البيان 27 / 136 تفسير القرآن العظيم 4 / 275 روح المعاني 27 / 112 .
(2) ينظر جامع القرآن 17 / 175 .
(3) روح المعاني 27 / 112 .(1/47)
(ج) نفذ من ، كما يقول قاموس كازميرسكي ، تعنى عبر من جهة إلى جهة وخرج من الناحية الأخرى لجسم ما(ويقال ذلك عن السهم الذي خرج من الجهة المعاكسة مثلاً) .تشير هذه الآية إذن إلى ولوج عميق وخروج من جهة معاكسة للمناطق المعينة .
(د) السلطان الذي سيكون للبشر في تحقيق هذا المشروع يبدو سلطاناً نابعاً من الله القدير .
... وليس من شك في أن هذه الآية تشير إلى إمكانية البشر ذات يوم بأن يتحققوا ما نسميه في عصرنا، وربما بشكل غير مخصص،بغزو الفضاء،ويجب الملاحظة أن النص القرآني لا يتنبأ فقط بالنفاذ عبر مناطق السماوات وإنما يتحدث أيضاً عن النفاذ عبر مناطق الأرض ،أي استكشاف الأعماق) (1) .
... ويرى الدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر أن أقطار الأرض هي طبقات التربوسفير والسترانوسفير ،الأوزنوسفير،والأيونوسفير، الثرموسفير،والكيموسفير ... وهي طبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض ... وقد نجح الإنسان لغزو الفضاء حينما نزل على سطح القمر وأفلت من جاذبية الأرض ... الإنسان إذن استطاع النفاذ من أقطار الأرض .. وحلق فيما بين الأرض والقمر ... وهبط على القمر ... وبما أن القمر تابع للأرض ... فإننا نعتبر الإنسان بوصوله إليه ما زال مقيداً داخل أقطار الأرض ... أما أقطار السماوات فلم يسمح للإنسان بعد بالنفاذ إلى أقطارها (2) .
... أما المهندس رائف نجم فيقول في تفسيره لقوله تعالى:( أن أستطعم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) أن الله تعالى لم يقل أقطار السماء والأرض . والآية تعني أن المقصود بعدم الاستطاعة ، بل الاستحالة هو النفاذ من مجموعة السماوات والأرض وليس التحرك بداخلها (3) .
__________
(1) القرآن الكريم والتوراة والانجيل 193 - 194 .
(2) ينظر هندسة النظام الكوني في القرآن الكريم ( بتصرف ) 189 – 190 .
(3) الإعجاز العلمي في القرآن برهان النبوة 236 .(1/48)
... ومنهم (1) من يرى أن مجموعتنا الشمسية هي أول قطر من أقطار السماوات والأرض وهنالك أقطار ما وراء هذه الأقطار هذا وهناك تفسيرات أخرى لهذه الآيةيمكن أن نوضحها من خلال عرض الضوابط اللغوية لهذه الآية.
الضوابط اللغوية في التفسير : اختلف المفسرون في زمن الخطاب في قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس)فمنهم من يرى أن زمن الخطاب المراد منه ليس في الحياة الدنيا وإنما يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات أو تكون الأرض التي في الدنيا وذلك حين البعث . ومن هؤلاء أبو حيان فقد قال : والظاهر أن قوله( يا معشر) الآية من خطاب الله إياهم يوم القيامة يوم التناد . قيل يقال لهم ذلك ) (2) وقد استدل ابن عاشور (3) على ذلك من سياق الآية وذكر أن في هذه الآية قولاً محذوفاً يدل عليه سياق الكلام السابق واللاحق ، وليس خطاباً للإنس والجن في الحياة الدنيا والتقدير عنده :فنقول لكم كما في قوله تعالى(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ ) (4) ويرى الآلوسي أيضاً المقام في ذلك أنسب (5) ويعد صاحب الظلال هذه الآيات من مشاهد يوم القيامة حيث يقول ( ... وما يزال قوله تعالى (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ) (6) أعنف وأقوى وأرعب وأدهى .. ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر . مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة .وما يعقبه من مشاهد الحساب ، ومشاهد العذاب والثواب ) (7) فقول سيد قطب يدل على أن سياق الآية سياق آخروي.
__________
(1) ينظر إشارات العلمية في القرآن الكريم محمد ابو الوفا الأميري 27 – 30 .
(2) البحر المحيط 10 / 63 .
(3) التحرير والتنوير 27 / 258 .
(4) الأنعام / 128 .
(5) روح المعاني 27 / 112 .
(6) الرحمن / 31 .
(7) في ظلال القرآن 6 / 3456 .(1/49)
ومنهم من يرى عكس ذلك كما ذكر الدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر واحتج لذلك بقوله :(ولكن يوم القيامة لن يكون هناك شيء إلا الله كل شيء يومها هالك إلا وجهه الكريم ... والسماوات والأرض ستتحول إلى ذرات من غبار ودخان ... لا سماوات ولا أرض في ذلك اليوم الطويل ... هذا من جهة ومن جهة أخرى ... كيف يفلت مخلوق من قبضة الله ... والسماوات والأرض وما فيهن يوم القيامة مطويات بيمينه ؟ . أذن الآية تتحدث عن محاولة غزو أقطار السماوات في أيام الدنيا وليس في يوم القيامة ... ) (1) .وقد ذهب إلى هذا أكثر من (2) فسر هذه الآية تفسيراً علمياً . وهو غزو السماوات والأرض في أيام الدنيا .والذي يبدو أن الخطاب – وإن كان سياقه سياقاً أخروياً _فأنه يشمل أيضا حياة الدنيا ولا توجد دلالة تقصر الخطاب على يوم القيامة صحيح أن السياق بدأ يتحدث عن أهوال يوم القيامة وما فيه من تهديد ووعيد إلا أن التحدي يشمل أيضا زمن نزول الآية إلى يوم القيامة ولا توجد قرينة تمنع من ذلك وما ذكره ابن عاشور من تقدير (ويوم )لا يخلو من التكلف وعدم التقدير أولى من التقدير فالتعجيز إذن يشمل حياة الدنيا والآخرة وهذا ما يراه سيد طنطاوي حيث يقول في تفسيره لهذه الآية : ( يقول الله إذا عجزتم الآن عن أن تنفذوا من الأقطار فأنتم عن النفوذ والهرب يوم القيامة أعجز ... ) (3) . والحق أنهم في كلتا الحالتين عاجزون ولا خلاف عند الله تعالى ذلك سواء في الدنيا أو في الآخرة .
__________
(1) هندسة النظام الكوني 207 – 208 .
(2) منهم يوسف مروة في كتابه العلوم الطبيعية في القرآن / 168 – 174 ، موريس بوكاي في كتابه التوارة والانجيل والقرآن والعلم 193 – 195 .
(3) تفسير الجواهر 24 / 21 .(1/50)
أما ما ذكره الدكتور عبد الرحمن خضرعن أن يوم القيامة لن يكون هناك شيء إلا (الله ) وأنه لا سماوات ولا أرض في ذلك اليوم الطويل فالذي يبدو لمن فسر الأرض هي أرض الدنيا ذلك حين تقوم الساعة فهناك ارض موجودة وسماوات ولكن حالها سيختلف عما هي في أيامنا هذه فمشاهد القيامة معروفة وأحوالها كمافي قوله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (1) إلى نهاية الآية ... إذن هناك السماوات وارض وما ذكره الدكتور هي حينما تنتهي هذه المشاهد وتبدأ مرحلة جديدة وهي فناء الكائنات ولا يبقى سوى ذي الجلال والإكرام وفي هذه الحالة لا داعي أصلاً للتحدي بالنفاذ وإنما التحدي بالوجود من العدم ، وهذه المرحلة تأتي بعد مرحلة الانقلاب الكوني . وعلى من فسر ذلك بعد البعث والنشور فهناك أيضاً أرض وسماوات كما في قوله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (2) .إذن فالتحدي يمكن أيضاً أن يشمل المرحلتين في الدنيا حين تبدأ أهوال هذا الانقلاب الكوني وبعد النفخة الثانية يوم الحساب ولا توجد هناك دلالة على تحديد الخطاب .
__________
(1) التكوير 1 – 2 .
(2) إبراهيم / 48 .(1/51)
هذا من جهة ومن جهة أخرى دلالة (إن) في قوله تعالى:(إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) فقد ذكر موريس بوكاي أن (إن) حرف للتعبير عن الفرض الجائز فإذن القرآن يتحدث عن امكانية مادية لإنجاز ملموس، أما قوله تعالى : ( أقطار) فقد ذكرنا المعنى اللغوي له ولا يجوز في التفسير الخروج عن معناه اللغوي أو استعمال العرب المعنى المجازي له أما ما وصل إلينا من تفاسير تعتمد في تعريفها على المصطلحات العلمية الحديثة فلا يمكن قبولها فمن ذلك ماذكره الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم حينما وافق تفسيركلمة بها يوافق بديهيات العلم وذلك حين رد على تفسير المهندس رائف نجم إبراهيم فقال ( نلاحظ انه قد فسر كلمة الأقطار بما لا يتوافق مع اللغة ولا حتى مع بديهيات العلم .إذ كيف يكون قطر الأرض الكروية الشكل هو ما فوقها مما يحيط بها ، فإن تسمية ذلك بمحيط الأرض أنسب منها بكلمة الأقطار ، لكن هذا تنفيه بديهيات علم الهندسة التي تقرر أن قطر الدائرة هو خط المستقيم الذي يقسمها إلى نصفين ، ونصف القطر هو عبارة عن المسافة الممتدة بخط مستقيم من أي نقطة على السطح إلى مركز الدائرة ) (1) فلا يجوز لنا أن نفسر القرآن الكريم بمصطلحات علم الهندسة ومفاهيمها إن لم تكن معروفة عند العرب بهذا المعنى .ولم أجد أيضاً في المعاجم من يستعمل كلمة الأقطار بمعنى الدول كما فسر الدكتور فاروق الشيخ عبد الشيخ العبدلي حينما قال ( وإن الخالق سبحانه وتعالى شبه الكواكب والأقمار في السماوات بالأقطار وهذا تشبيه دقيق جداً وعلمي فلم يقل دول بمعنى أن الدول وحدات مستقلة عن بعضها بينما الأقطار هي وحدات غير مستقلة عن بعضها تماماً وإنما لها قوانين وروابط تخضعها للمركز وهذا ما هو حاصل فعلاً في المجموعات الكونية ... ) (2) .
__________
(1) بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني 238 – 239 .
(2) نظرة علمية للكتب السماوية 62 – 63 .(1/52)
فهذه الكلمة وإن كانت تستعمل في الوقت الحاضر بهذا المعنى ولكن المفسر عليه أن يراعى معاني الكلمة في زمن نزول القرآن وليس بعد أن طرأ عليها تطور دلالي يخرجها عن المعنى القديم أو يضيف إليها معنى غير مستعمل في ذلك الوقت وأيضاً لا يجوز الخروج عن مجازات العرب واستعمالاتهم إلى مجازات حديثة لم تعرفها العرب في ذلك الحين .والشيء الآخر في كلمة ( أقطار ) أنها جاءت بصيغة الجمع وكذلك السماوات فمن تحدث عن إمكانية النفاذ كما جاء في هذه الآية واحتج بالرحلة إلى القمر فيمكن القول انه لم ينجح في غزو الفضاء على من فسر أقطار الأرض هي الغلاف الجوي للأرض لأنهم تحداهم بأقطار السماوات والأرض ... وحتى الآن لم ينفذ الإنسان من أقطار السماوات (1) عدا الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى من فسر (2) أن مجموعتنا الشمسية هي أول قطر من أقطار السماوات فهذا يعني انه لحد الآن لم يخرج من قطر من أقطار السماوات والذي يبدو لي أن أقطار السماوات هي جوانب السماوات السبع فكما ذكر ابن عاشور حينما قال ( وذكر السماوات والأرض لتحقيق إحاطه الجهات كلها تحقيقاً للتعجيز ، أي فهذه السماوات والأرض أمامكم فإن استطعتم فأخرجوا من جهة منها فراراً من موقفكم هذا ، وذلك أن تعدد الأمكنة يسهل الهرب من إحدى جهاتها ) (3)
__________
(1) ينظر هندسة النظام الكوني 181 .
(2) ينظر الإشارات العلمية في القرآن 28 .
(3) التحرير والتنوير 27 / 259 .(1/53)
... أما معنى النفاذ في قوله تعالى : ( فأنفذوا ) فبعد أن ذكرنا معاني النفوذ وهي إما الخروج والانفلات أو نفوذ السهم من جهة والخروج من جهة أخرى وسائر السهم فيه فالانفلات من الجاذبية الأرضية وكذلك معنى النفوذ الخروج إلى السماوات والأرض يتحمله هذا اللفظ وبعضهم أيضاً فسر (1) النفوذ إلى الأرض هو اختراق الكرة الأرضية والوصول إلى نقطة مركزها واحتج بقوله تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً) (2) وفسر أيضاً كلمة النفاذ بالدخول إلى الشيء المانع بنفسه عن الدخول فيه والفرق بينها وبين كلمة الدخول في قوله تعالى : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً) (3) ، أن الدخول يتصور في الشيء المفتوح بابه الذي لا يمتنع بنفسه عند الدخول فيه.والمدنية غير ممتنعة بنفسها عن الدخول أي أحد فيها (4) .
وأما قوله تعالى : ( لا تنفذون إلا بسلطان ) اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء فمنهم (5) من حمله على أنه استثناء تعجيزي ولا يمكن تحقيقه وحملوا قوله ( بسلطان ) بمعنى القوة والقهر ولا قدرة لهم على ذلك وهذا ما ذهب إليه أكثر المفسرين القدماء .ومن فسر قوله تعالى : ( بسلطان ) بمعنى الحجة وهي من معاني السلطان التي ذكرها أهل اللغة في معاجمهم ذهبوا إلى إمكانية النفوذ ببينة وحجة نصبها الله فتعرجون عليها كما روي عن ابن عباس (6) .
__________
(1) ينظر بحوث مؤتمر الأول الإعجاز القرآني / د . عبد مجيد الجليل ، بغداد 1990 ص 139 .
(2) الإسراء / 37 .
(3) الأحزاب / 14 .
(4) بحوث المؤتمر الإعجاز القرآني / بغداد 1990 ص 139 .
(5) ينظر أنوار التنزيل 2 / 1035 ، تفسير القرآن العظيم / 4 / 275 تفسير الجلالين 710 .
(6) ينظر روح المعاني 27 / 112 .(1/54)
... ومنهم من أشار إلى دقة استخدام الألفاظ في القرآن الكريم حتى لا تتعارض هذه الآية مع آيات أخرى فقد أشار الدكتور عبد الجليل عبد الرحيم إلى ذلك بقوله : (( ولما كان أمر التحدي بالنفاذ من الأمور المستحيلة على قدرة البشر، علم أن أمر النفاذ منها لا يتم إلا بسلطان من الله له قدرة على قهر هذه النواميس وخرقها ، وهو تماماً في هذا المقام من التحدي كقوله سبحانه : ( من دون الله ) في تحدي الإنس والجن أن يأتوا سورة من مثل القرآن في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (1) ولولا هذه الكلمة التي استدرك بها امكانية النفاذ من أقطار السماوات ، لتعذر بدونها تصديق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في معراجه الذي تجاوز فيه السبع الطباق ،وكان السلطان الذي أعده الله له بعد الإسراء على البراق هو المعروف بالمعراج بالهيئة التي وصفته كتب السنة والسيرة .ولحصل الخلاف في كلام الله في الآيات التي تحدثت عن معراجه كذلك) (2) .ويرى بعضهم أيضاً أن الاستثناء هو قدر السماح المحدود الذي ما زال الإنسان يستخدمه في مجال قهر الجاذبية الأرضية باستخدام السلطان ... في إطلاق أطباق طائرة إلى الفضاء الكوني ... ثم العودة بسلام إلى الأم الأرض (3) .) فالسلطان الذي يمنح الإنسان تلك القوة وهو( العلم) وفق درجة من السماح الإلهي (4) .وفي قوله تعالى: (يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ) (5)
__________
(1) البقرة / 23 .
(2) بحوث المؤتمر الأول للإعجاز/ بحث د . عبد الجليل عبد الرحيم بعنوان الإعجاز العلمي للقرآن بين الظن والتحقيق / بغداد1990 ص 242 – 243 .
(3) ينظر هندسة النظام الكوني 189 – 190 ، 207 .
(4) ينظر المصدر نفسه 207 – 208 .
(5) الرحمن / 33 ..(1/55)
ذكرنا معنى الشواظ في اللغة أما في العلم الحديث فهي الشهب التي تتكون من أجسام صلبة تجري بسرعة تتراوح بين 20،30 كم / ث وتتكون من صخر والحديد المخلوط بالنيكل ومعظمها ليس أكبر من رأس الدبوس .. ولا تظهر الشهب إلا عندما تحترق بالاحتكاك في جو الأرض ، أما في الفضاء فتكون غير مرئية لأنها لا تحترق وتشكل خطراً على رواد الفضاء ، فالشهاب الذي وزنه جرام واحد فقط يسير بسرعة 25 / كم / ث يحمل طاقة أكبر من رصاصة بندقية ولقد هشمت الشهب أجهزة سفينة الفضاء اكسبولو الأمريكية حيث لا يتوافر الهواء الكافي لحرق الشهب فتنطلق هائمة في الفضاء (1) .
فالشهاب حقاً شواظ من نار قد يصادفنا عند ارتياد الفضاء ولذا يخبرنا الله سبحانه بتحذير موجه لمعشر الجن والإنس بأخطار الشهب ) (2) .
وهذا لا يخالف المعنى اللغوي الذي قال به القدماء، أما الضابط النحوي فقوله تعالى:( من نار ) صفة أو متعلق بالفعل و ( نحاس ) بالرفع عطفاً على الشواظ وهي قراءة الجمهور (3) وبالجر عطفا على النار ، والرفع أقوى في المعنى ؛ لأن النحاس الدخان وهو والشواظ من النار (4) .
__________
(1) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين / القسم الأول 194 .
(2) المصدر نفسه 194 .
(3) البحر المحيط 10 / 65 التبيان في إعراب القرآن 2 / 252 .
(4) التبيان في إعراب القرآن 2 / 252 .(1/56)
هذا من الناحية النحوية أما الدلالة الصوتية في قوله ( شواظ ) فالشين والظاء تصور لنا صوت النار مغتاظة غاضبة كما ذكر ذلك أحمد بدوي (1) ونبه على هذه الجمالية فهذان الصوتان من الأصوات الاحتكاكية ، يقول كمال بشر في تعريفها (تكون الأصوات الاحتكاكية بأن يضيق مجرى الهواء في خروجه احتكاكا مسموعاً ) (2) لذا يرى أحمد بدوي في الشين والظاء وكأن النار تلامس الأجساد من خلال الصوت ، وقديماً أشار فٌقَّهاء اللغة إلى مثل هذه المفردات كالزفير والخرير وصَرْ صَر (3) .
وهناك أيضاً آيات كثيرة تشير إلى الشهب كما في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (4) وقوله تعالى : ( فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) . (5)
فالشهاب لغة شعلة نار ساطعة ، والجمع شهب وشهبان وروى الأزهري عن ابن السكيت قال : الشهاب العود الذي فيه نار، وقال أبو الهيثم الشهاب أصل الخشبة أو عود فيه نار ساطعة ، ويقال للكواكب الذي ينقض على أثر الشيطان بالليل : شهاب (6) .
ولكي نفرق بين الشهب والنيازك وتسمية القرآن لهذه النيازك وتفريقه الدقيق بينهما نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى :
(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (7) 10)
__________
(1) من بلاغة القرآن / 69 ، جماليات المفردة القرآنية 288 .
(2) علم اللغة العام 8 / 1 وينظر جماليات المفردة القرآنية 229 .
(3) ينظر جماليات المفردة القرآنية 229 .
(4) الجن / 86 .
(5) الصافات / 10 .
(6) ينظر الصحاح ( شهب ) 1 / 159 ، لسان العرب ( شهب ) 1 / 508 .
(7) سبأ / 9 .(1/57)
قال الخليل : ( والكِسْفة :قِطْعةُ سَحابٍ ، أو قطن أو صوف فإذا كان واسعاً كبيراً فهو كسفٌ،ولو سقط من السماء جانب فهو كِسْفٌ) (1) ، وفي قاموس المحيط (الكِسفة بالكسر : القطعة من الشيء،جمع كِسف وكِسفٌ ) (2) .وذكر صاحب اللسان أن الزجاج قال :(قرئ كِسْفاً وكسفاً قرأ كسفَاً جعلها جمع كسيفة وهي القطعة ،ومن قرأ كِسْفاً جعله واحداً ) (3) .
أراء المفسرين في هذه الآية:
... قال ابن الجوزي : المعنى أنهم أينما كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم ، وأنا القادر عليهم ، أن شئت خسفت بهم الأرض ، وإن شئت أسقطت عليهم قطعة من السماء (4) .
... وذكر الشوكاني أن معنى قوله تعالى : (( إلى ما بين أيديهم )) حيث ما تصرفوا ، فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم ،ولا يقدرون أن ينفذوا من أقطارها ،لا يخرجوا من ملكوت الله فيهما .. أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهور تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد ( إن نشأ نخسف بهم الأرض ) كما فعلنا بقارون ( أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ) كما فعلنا بأصحاب الأيكة) (5) وإلى مثل هذا ذهب أيضاً الآلوسي (6) .
النظرة العلمية :
__________
(1) العين ( كسف ) 5 / 315 .
(2) قاموس المحيط ( كسف ) 3 / 190 .
(3) اللسان ( كسف ) 9 / 300 .
(4) زاد المسير 6 / 435 .
(5) فتح القدير 4 / 267 .
(6) روح المعاني 22 / 111 .(1/58)
... عبر العلماء عن هذه القطع السماوية التي تصل إلى الأرض بـ ( النيازك ) وهي قذائف خطيرة قادمة من الفضاء ، فقد يحدث في حالات نادرة أن يتمكن أحد الشهب من اختراق الغلاف الجوي بسبب كبر كتلته وصغر سرعته النسبية فلا يحترق إلا جزء بسيط باحتكاكه بالهواء ويصطدم الباقي من كتلته بسطح الأرض ويسمى في هذه الحالة بالنيزك ، فالنيزك شهاب يصل للأرض فعلاً ويتراوح وزنه من عدة جرامات إلى مئات بل آلاف الأطنان ،مثل النيزك الشهير الذي سقط على ولاية أريزونا الأمريكية فأحدث حفرة هائلة بالأرض يبلغ قطرها حوالي كيلو متر وعمقها 200 متر ، وقدر العلماء كتلته بنحو 200 ألف طن ، كما دمر نيزك كبير قرى بكاملها في جبال كينيا بأفريقيا وبلغت مساحة الأرض التي أحدثت فيها الأضرار حوالي 2000ميل مربع (1) .ولذا يرى العلماء أنه إذا زادت كتلة النيزك عن 5 ,4 من الكليو جرامات فإنه لن يتأثر كثيراً عند مروره في الغلاف الجوي للأرض ،تحدث مثل هذه النيازك الكبيرة صوتاً عالياً يشبه الفحيح عند مرورها في طبقات الجو وترتفع درجة حرارتها ارتفاعاً كبيراً نتيجة لاحتكاكها بغازات الغلاف الجوي ، وقد يتفجر بعضها بدوي هائل ويتفتت إلى قطع صغيرة تخترق الهواء في سرعات هائلة ، وتصبح مشابهة للرصاصات التي تنطلق بسرعة خيالية ، وهي تقطع فروع الأشجار وتخترق أسقف المنازل وأسقف السيارات ،وتمزق كل ما يقف في طريقها ، وتقتل كل ما يقف من الحيوان والإنسان (2)
__________
(1) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 198 وخلق الكون بين العلم والقرآن 98 .
(2) ينظر تأملات في العلم والدين 79 .(1/59)
... ويرى العلماء أيضاً أن (( حوالي 200 كويكب سيار معروف وتأخذهم مساراتهم بالقرب من كوكب الأرض ويطلق عليهم تسمية ( الكويكبات السيارة القريبة من كوكب الأرض )إن ظهورهم على نحو تفصيلي - مثل أبناء عمومتهم بالحزام الرئيس -يعني بشكل مباشر أنهم نتاج تاريخ تصادمي عنيف وكثير منهم عبارة عن قطع وبقايا عوالم صغيرة كانت كبيرة ذات يوم ... وعاجلاً أم أجلاً من المحتمل أن يصطدم 20 % منها بكوكب الأرض محدثاً نتائج تدميرية ) (1) .
الضابط اللغوي لهذه الآية :
... بعد مراجعة المعاني اللغوية لكلمة كسف نجد أن معناها قطعة من السحاب أو الصوف أو الثوب أو الأديم وقد خص القرآن الكريم هذا الكسف من السماء والسماء هو كل ما علاك فقد يكون المعنى ( الكسف ) قطعة من الغيم كما في قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً). (2)
ويدل على هذا المعنى سياق الآية ، أو قطع من الأحجار كما في الأحجار التي عذب الله بها أصحاب الأيكة و( كسفا ) يقرأ بفتح السين ،وهو جمع كِسْفه مثل قِربة وقرب وبسكونها . وفيه وجهان : أحدهما هو مخفف من المفتوحة ، أو مثل سدرة وسدر، والثاني هو واحد على فعل بمعنى مفعول، وانتصابه على الحال من السماء، ولم يؤنثه لأن تأنيث السماء غير حقيقي ، أو لأن السماء بمعنى السقف ). (3) وهذا موافق في حالة الجمع إذا كانت أحجارا كثيرة كما في قوله تعالى : ( وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ). (4) أما إذا كان مفردا فكما حدث في ولاية أريزونا الأمريكية أو ما يهددنا من سقوط أحد الكويكبات السيارة .
__________
(1) كوكب الأرض نقطة زرقاء باهتة رؤية لمستقبل الإنسان في الفضاء 252 .
(2) الروم /48.
(3) التبيان في إعراب القرآن 2/96.
(4) الحجر /74.(1/60)
... أما من الناحية الأسلوبية فالآية تدل على ( مشهد كوني عنيف ، منتزع في الوقت ذاته من مشاهداتهم أو من مدركاتهم المشهودة في كل حال .فخسف الأرض يقع ويشهده الناس . وترويه القصص والروايات أيضاً وسقوط قطع من السماء يقع كذلك ) (1) فالله تعالى يحاجهم بما يشاهدونه وليس غريباً عنهم وأنه قادر على أن يعذبهم به في أي وقت وأية لحظة فالأرض محاطة من جميع جوانبها بالمخاطر كما يشاهده العلماء ورواد الفضاء وكل هذا متعلق بمشيئة الله كما في قوله تعالى (( إن نشأ)) وإن تفيد إمكان الحدوث وعدمه فهو متعلق بإرادة الله وقد عبر بفعل ( نسقط ) المضارع الذي يدل على الحدوث والتجدد في أي وقت وآية لكل من يتفكر ويعتبر كما في قوله تعالى: (ِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) .
تسكير الأبصار :
قال تعالى:(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ*لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (2) .
الظل في اللغة :
قال الخليل : ( ظل فلان نهاره صائماً ، ولا تقول العرب ظل يظل إلا لكل عمل بالنهار ، كما لا يقولون بات إلا بالليل ... ) (3) .ومثل هذا قال ابن فارس وعلل ذلك بقوله (لأن الشيء يخص به النهار، وذلك أن الشيء يكون له ظل نهاراً ولا يقال ظل يفعل كذا ليلاً،لأن الليل نفسه ظل) (4) . وذكر ابن منظور (5) أيضاً أن سواد الليل يسمى ظلاً واستشهد بقول الشاعر : و كم هجعت وما اخلقت عنها وكم دلجت وظل الليل دانى .
أما العروج لغة :
__________
(1) في ظلال القرآن 5/2895-2896.
(2) الحجر / 14-15.
(3) العين (ظل) 8/148.
(4) مقاييس اللغة (ظل) 3/461.
(5) لسان العرب (ظل) 11/416.(1/61)
... فجاء في الصحاح (1) (( عرج في السلم ارتقى ... )) وفي اللسان (( عرج البناء تَعْريجِاً أي ميَّله فتعرج ... ... وانْعَرَج الشيء مال يَمْنَة ويَسْره وانَعَرج انعطف وعَرَّج النهرَ : أماله ... وعَرَج الشيءٌ ، فهو عريج : أي ارتفع وعلا ... تَعْرُج الملائكة تصعد ... والمعارج المصاعد والدرج ... وقيل معارج الملائكة وهي مصاعدها التي تصعد فيها وتعرج فيها ... ) (2) .
... وأما سكر لغة : فقال الخليل :( السُكُر نقيض الصَّحو ... ) (3) وفي الصحاح (.. والسكر : مصدر سكّرت النهر أسكره سكراً ،إذا سددته ،وسكرت الريح تسكر سكوراً : سكنت بعد الهبوب وليلة ساكرة ، أي ساكنة ) (4) .
... وذكر ابن منظور أن ( في التنزيل: (لقالوا إنما سُكَّرت أَبصارنا )أي: حُبِسَتْ عن النظر وحيَرتْ وقال أبو عمرو بن العلاء معناها غٌطَّيَتّْ وغشََّيتّْ وقرأها الحسن مخففة وفسرها سٌحِرَت .التهذيب قرئ سُكِرت وسُكَرّت بالتخفيف والتشديد ومعناها أُغشيت وسٌدت بالسَّحْر فيتخايل بأبصارنا ما ترى وقال مجاهد سٌكّرت أبصارنا أي سُدَّت قال أبو عبيد يذهب مجاهد إلى إن الأبصار غشيها ما منعها من النظر كما يمنع السَّكْرُ الماء من الجري ... وقال أبو عمرو بن العلاء سٌكّرت أبصارنا مأخوذ من السُكْرِ كأن العين لحقها ما يلحق شارب المُسْكِرِ إذا سَكِرَ.. ) (5) .
أقوال المفسرين في هذه الآية :
لا يختلف المفسرون (6) فيما قاله أهل اللغة من معنى ( سكر ) أو ( عرج) ولكن الاختلاف عندهم في العروج في السماء .
__________
(1) الصحاح (عرج) 1/328.
(2) اللسان (عرج) 1/321.
(3) العين (سكر) 5/209.
(4) الصحاح (سكر) 2/687.
(5) ... (1) لسان العرب ( سكر ) 4 / 374 .
(6) ينظر زاد الميسر 3 / 123 – 124 . أنوار التنزيل 1 / 529 الجامع لأحكام القرآن 10 / 8 .إرشاد العقل السليم 5 /70 روح المعاني 14 / 50 .(1/62)
... فالضحاك (1) يقول في قوله (ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون) يعني الملائكة يقول لو فتحت على المشركين بابا من السماء ونظروا إلى الملائكة تعرج بين السماء والأرض لقال المشركون نحن قوم مسحورون سحرنا وليس هذا بالحق ألا ترى أنهم قالوا قبل هذه الآية لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ) .
... وقال الزمخشري ( والمعنى أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم في العناد : أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسر لهم معراج يصعدون فيه إليها ، ورأوا في العيان ما رأوا : لقالوا: هو شيء نتخايله لا حقيقة له: ولقالوا قد سحرنا محمد بذلك . وقيل الضمير للملائكة) (2) والظاهر عند أبى حيان أن الضمير في ظلوا عائد على من عاد عليه في قوله عليهم (3) .
النظرة العلمية الأولى : لقد ثبت علمياً أن أسفار الفضاء لا يمكن أن تتم في خطوط مستقيمة ولكنها دائماً تسلك مسارات منحنية - طبقاً للنظرية النسبية العامة لأينشتاين (1919 ) – بل إن الكون نفسه ينحني كله بمادته وطاقته على شكل كروي مغلق ، ولقد تعرف العلماء على هذه المسارات المنحنية بعد أن توصل الإنسان لصنع المحرك الصاروخي النفاث مثل صاروخ ستارون العملاق ليفلت من قبضة جاذبية الأرض0 ليدور في الفضاء حول الأرض المهم هو الحركة الدورانية في الفضاء الكوني أو الحركة في مسارات كونية ،أي :العروج في السماء بالوصف القرآني (4) .
النظرة العلمية الثانية لهذه الآية :
__________
(1) جامع اللسان 14 / 10 وينظر إرشاد العقل السليم 5 / 70 .
(2) الكشاف 2 / 591 .
(3) البحر المحيط 5 / 448 .
(4) ارتياد الفضاء 42 .(1/63)
في 12 نيسان عام 1962 تناقلت وسائل الإعلام بإعجاب خبر إرسال أول إنسان إلى الفضاء ليدور حول الأرض الرائد (( غاغارين)) السوفيتي الهوية ، شيوعي العقيدة . وأول ما تفوه به عندما اصبح في مداره ورأى بديع السماوات والأرض ما ترجمته الحرفية :( ماذا أرى ؟ هل أنا في حلم أم سحرت عيناي ؟ ) .
... سبحان الله إنه يردد ما ذكره القرآن ، عما سيقوله الذين لا يؤمنون بالله لو فتح عليهم باباً من السماء (1) .
... وهذا تعبير قرآني علمي عن الدهشة التي تصاحب رواد الفضاء بعدم الإبصار في ظلام كوني الذي يحيط بجميع الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وأقمار ، والتي بدورها تسبح وسط هذا الظلام الشامل ، لم يألفه الإنسان في جو الأرض لأن السواد حالك في الفضاء رغم وجود الشمس ،والسر في عدم رؤية الشمس في الفضاء انعدام التبعثر أو التشتت الضوئي، ونظرا لتخلخل الجو وعدم احتوائه على الذرات الكافية لإحداث الانعكاس والتشتت لأشعة الشمس بالدرجة التي تجعلنا ندرك النور غير المباشر الذي نشعر به فقط في جو الأرض (2) .
الضابط اللغوي لهذه الآية :
__________
(1) العلم في ظلال القرآن والسنة 18 والإسلام وغزو الفضاء 9 .
(2) ينظر ارتياد الفضاء 32 .(1/64)
عبر القرآن الكريم بقوله ( لو ) عن فرض لن يتبعه إنجاز بالنسبة لمن تعنيهم هذه الآية ... ولكن التعبير أيضاً يشير إلى إمكانية فتح الطريق ( لأن امتناع الشرط وعدم وقوعه امتناع جوابه تبعا له ، إذ كان فعل الشرط هو السبب الوحيد في إيجاد جوابه وتحقيقه ... فإن كان للجواب سبب أخر فلا يحتم الامتناع بامتناع هذا الشرط لجواز إن يؤدي السبب الآخر إلى أيجاد الجواب وتحقيق معناه ... فقد يمتنع الجواب حيناً ، ولا يمتنع حيناً أخر ،على حسب ما تقتضي به القرائن والمناسبات .. لذا فمن خطأ التعبير الشائع على السنة المعٌربين وهو : ( أنها حرف امتناع لامتناع ) والصواب ما ردده سيبويه (1) من أنها: ( حرف يدل على ما كان سيقع لوقوع غيره ) أي : لما كان سيقع في الماضي ، لوقوع غيره في الماضي أيضاً. وهذه العبارة صحيحة ودقيقة ، ولا تحتاج إلى تأويل أو تقدير، أو زيادة) (2) أما في هذه الآية فكفار مكة لن يرتادوا الفضاء نظراً لعدم التقدم العلمي ولو توافر شرط ارتياد الفضاء بالقدر المسموح لهم وما يترتب على هذا الارتياد من مواجهة ظلام الفضاء الكوني لتحقق جواب الشرط ( لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) تحقيقاً أكيداً كما حدث فعلاً لرائد الفضاء الأول (يوري غاغارين)، فهذا مسموح به لغوياً ، وفي قوله ( لقالوا ) تأكيد لهذا لو زال المانع . وكما تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن في تفسيرها البياني لقوله تعالى : ( كَلآ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ *لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) إن هذا الأسلوب أقوى في تأكيد الجواب وعدم احتماله لأي شك متى زال المانع (3) لذا يقول منصور (4)
__________
(1) الكتاب لسيبوية 4 / 224 .
(2) النحو الوافي 4 / 492 – 493 .
(3) التفسير البياني 1/211.
(4) ارتياد الفضاء 34..(1/65)
حسب النبي أن التعبير القرآني بقوله سبحانه ( لو فتحنا عليهم بابا من السماء ) يشير إلى إمكانية فتح طريق آمن في السماء ، لأن الفضاء عدو لدود للإنسان ولولا المعارف العلمية الحديثة في علوم الفضاء والاحتياطات التي عرفها الإنسان ليتخذها لنجاح الرحلة ، وفوق كل هذا لولا العون الإلهي لتوفيرعوامل هذا النجاح لما تم ارتياد الفضاء المملوء بالإشعاعات القاتلة والمخاطر الفتاكة .
... أما السماء المقصودة في هذه الآية فهي واحدة السماوات كما ذكر الدكتور فاضل صالح السامرائي (1) ؛ لأن السماء تستعمل على معنيين ، فهي إما أن تكون واحدة السماوات كما ذكرنا في هذه الآية ، وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها ، كالسحاب والمطر والجو وغيرها (2) . وسياق الآية هو الذي يدل على المعنى الذي ذكرناه وذلك بقوله:(باباً من السماء) فكما هو معلوم أن السماوات لها أبواب كما جاء في حديث الإسراء والمعراج وإن اختلف المفسرون في هذه الباب المذكورة فمنهم (3) من قال إنها غير الأبواب المعهودة في حديث الإسراء والمعراج وأيضاً يدل على ذلك العلم الحديث فخروج رواد الفضاء لم يكن خارج مجموعتنا الشمسية لأن هذه الظاهرة تحدث بمجرد الارتفاع 200 كيلو متر فوق سطح الأرض .
__________
(1) ينظر التعبير القرآني 230 .
(2) ينظر إرشاد العقل السليم 5 / 70 .
(3) ينظر إرتياد الفضاء 34 .(1/66)
أما قوله تعالى:(فظلوا فيه يعرجون) فقد ذكرنا أن الفعل ظل للنهار ( وأمسى لليل) أي ظلوا في الصعود المنحنى( العروج ) نهاراً أي أن الله لو فتح لهم بابا من السماء وعرجوا فيه نهاراً فإنهم سوف يواجهون ظلاما دامساً رغم وجود الشمس في كبد السماء (1) ورغم وجود تلك الشواهد الكونية ، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها ثم هم بعد ذلك يكابرون ويقولون ( إنما سكرت أبصارنا ) وأتوا بصيغة الحصر للدلالة على أنهم قد بتوا القول في ذلك وكأنهم قالوا وليس ذلك إلا تسكيراً للأبصار (2) واختلف القراء في قراءة قوله سُكَرت فقرأ أهل المدينة والعراق سُكّرت بتشديد الكاف بمعنى غُشيت وغُطيت وهو مبنى للمفعول وهذا قول أبي عمرو بن العلاء (3) وقال أبو عبيدة سكّرت بالتشديد من السكر التي تمنع الماء الجارية (4) أما ابن خالويه فقد جعل هذا المعنى الأخير لمن قرأها بالتخفيف (5) والتشديد في ذلك للتعدية ،لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكي للتكثير والمبالغة وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعترضها الخلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران فيختل إدراكه ففي الكلام هنا استعارة وكذا على قراءة من قرأها بتخفيف الكاف مبنياً للمفعول لأن السكر المخفف أشتهر في معنى السد (6) والقراءة بالتخفيف هي قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد والحجة لمن خفف أنه أراد سحرت ووقفت كما تقول سكرت الماء في النهر إذا وقفه (7) وقرأ باقي السبعة بشدها مبنياً للمفعول .
__________
(1) البحر المحيط 6 / 470 التحرير والتنوير 14 / 26 ، في ظلال القرآن 4 / 2128 .
(2) ينظر الجامع البيان 14 / 10 ، التبيان في إعراب القرآن 2 / 72 .
(3) زاد الميسر 4 / 386 .
(4) زاد المسير 4/386.
(5) الحجة في القراءات السبع 1/206 النشر في القراءات العشر 2/301.
(6) روح المعاني 14/20.
(7) ينظر الحجة في القراءات السبع لابن خالويه 1/206 ، البحر المحيط 5/448.(1/67)
وقرأ الزهري بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنية للفاعل شبهوا رؤية أبصارهم بروية السكران لقلة تصوره ما يراه (1) وهذه المعاني كلها متقاربة وموافقة للنظرة العلمية فمن أراد معنى السد ومنع الإبصار وذلك لمنع وصول النور إلى عين الرائي عند العروج فوق الغلاف الجوي للكرة الأرضية كما بيناه فهو لا يرى وقت النهار سوى سواد حالك وقد انقطع نور النهار الذي في الغلاف الجوي وكأنما غشيت وسٌكرت عينه وأما من أراد معنى سحرت فهو يرى أشياء لم تكن مألوفة لديه وهو ظهور الشمس كقرص أصفر في كبد السماء والليل يغشاها من جميع جوانبها لذا تراهم ( قد تحيروا وتنقلوا من فرض إلى فرض فقالوا بل نحن قوم مسحورون ) (2) أو كما في قراءة الزهري فالعين تسكر ويلحقها ما يلحق الشَارب السكران كما ذكر ذلك أبو عمرو بن العلاء .وتشاهد صورا لم تعهدها من قبل .
وصف السماء بذات الحبك :
قال تعالى : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) (3) .
الحبك في اللغة :قال الخليل : ( والحبيكة : كل طريقة في الشعر وكل طريقة في الرمل تحبكه الرياح إذا جرت عليه والحبك جماعة الحبيك ، ويقال ذلك خلقة وجه السماء ) (4) .
وقال ابن فارس : ( الحاء والباء والكاف أصل منقاس مطّرِد ؛ وهو إحكام الشيء في امتداد واطراد. يقال بعير محبوك القوى،أي قوية .ومن الاحتباك الاحتباء ،وهو شد الإزار .. ويقال كساء المحبك، أي المخطَّط) (5) .
__________
(1) التحرير والتنوير 14/26.
(2) التحرير والتنوير 14 / 26 .
(3) الذاريات / 7 .
(4) العين ( حبك ) 3 / 66 .
(5) مقاييس اللغة ( حبك ) 10 / 408 .(1/68)
وجاء في اللسان :(( والتحْبيِك : التوثيق وقد حَبَّكْتُ العقدة أي وثقتها ، والحباكُ أن يجمع الخشب كالحظيرة .. وَحُبُك جَمع حباك والحبائك : الطرق ، واحدتها حَبيكَة ، يعني بها السموات لأن فيها طرق النجوم ، والمحبوك ما أجيد عمله ، والمَحبوك المحكم الخلق،من حبكت الثوب إذا أحكمت نسجه وقال شمر. وكل شيء أحكمته وأحسنت عمله ، فقد أحْتَبَكْتَه . وفرس مَحْبوك المَتْن والعجز : فيه استواء مع ارتفاع ... ) (1) .
أراء المفسرين في هذه الأية :
... ذكر المفسرون عدة أوجه لهذه الآية ففي قوله تعالى : ( ذات الحبك ) :
الأول : قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع : ذات الحبك : ذات الخلق الحسن المستوي ، قاله عكرمة قال : ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه يقال منه حٌبِك الثوبُ بالكسر حَبّكا أي أجاد نسجه قال ابن الاعرابي : كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد أحبكته (2) .
الثاني: ذات الزينة قال الحسن وسعيد بن جبير (3) .
الثالث: وعن الحسن أيضاً : ذات النجوم ؛ لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب المحبوك المتقن (4) .
__________
(1) لسان العرب ( حبك ) 10 / 408 .
(2) ينظر زاد المسير 8 / 29 ، والجامع لأحكام القرآن 17 / 31، وفتح القدير 5 / 83 .
(3) ينظر زاد المسير 8/29 والجامع لأحكام القرآن 17/31 والبحر المحيط 9/549 – 550 وفتح القدير 5 / 83 .
(4) ينظر الجامع لأحكام القرآن 17 / 31 .(1/69)
الرابع:قال الضحاك:ذات الطرائق يقال ما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك ونحوه وقال الفراء:الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء القائم إذا مرت الريح (1) وقد فصل البيضاوي معنى هذه الطرائق وهي عنده إما الطرائق المحسوسة التي هي مسير الكواكب أو المعقولة التي يسلكها النظار وتتوصل بها إلى المعارف أو النجوم فإن لها طرائق (2) وفسر شهاب الدين المصري ذات الحبك:أي الطرق التي تكون في السماء من آثار الغيم (3) .
الخامس: ذات الشدة قاله ابن زيد واستدل بقوله تعالى : (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً ) (4) والمحبوك شديد الخلق من الفرس وغيره (5) .
السادس: ذات الصفاقة قاله خصيف ومنه ثوب بين الصفاقة (6) 0) .
السابع : أن المراد بالطرائق : المجرة التي في السماء سميت بذلك لأنها كأثر المجر (7) وروي عن الحسن وسعيد بن جبير وقيل الحبك:طرائق المجرة التي تبدو ليلاً في قبة الجو (8) .
النظرة العلمية :
__________
(1) المصدر نفسه 17 / 31 .
(2) ينظر أنوار التنزيل 2 / 1010 .
(3) التبيان في تفسير غريب القرآن 1 / 390 .
(4) نبأ / 12 .
(5) ينظر الجامع لإحكام القرآن 17 / 31، والبحر المحيط 9 / 547 .
(6) المصدر نفسه 17 / 31 .
(7) المصدر نفسه 17/31.
(8) التحرير والتنوير 26/31.(1/70)
... أثبتت الدراسات الحديثة أن السماء بناء محكم ، تملؤه المادة ، والطاقة ، فالسماء محبوكة على سعتها ، ولا يمكن اختراق هذا النظام إلا عن طريق أبواب تفتح فيه (1) فكل طريق أبواب عدة ، لذا فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية معينة ومسار معين .كي تستطيع أن تنفذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي، وتصحيح المسار وثباته يتم تحت سيطرة الأدمغة الألكترونية ، وكذلك على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء لابد أن تدخل من فتحات وطرائق معينة في الغلاف الجوي، وإلا بقيت في الفضاء الخارجي أو احترقت (2) فيه .
(( وقد تم التعرف من خلال الأقمار الصناعية على وجود حزامين من النشاط الإشعاعي حول كوكبنا – الأرض -وحول قطبه المغناطيسي، يختلفان في الطول والسمك والمسافة من سطح الأرض ويمتدان إلى الشمال من خط الاستواء ،وأن الفضاء بين هذين الحزامين 3000 – 5000 كم الحزام الأول ، 15000 – 17000 كم الحزام الثاني ، وخارجهما غير ضار وهذه الأحزمة مسيطرة عليها بوساطة المجال المغناطيسي الأرضي، وهي خطرة للغاية يتحاشاها رواد الفضاء قدر الإمكان ، وتسمى أحزمة فان ألن )) (3) . ولقد اكتشف العلماء السوفيت احتمال وجود حزام ثالث على ارتفاع 000 , 34 ميل (51000كم ) ويمتد ضعف هذه المسافة (4) .
الضابط اللغوي في التفسير :
__________
(1) مجلة الاعجاز العلمي / تصدرها رابطة العالم الاسلامي – العدد السادس محرم 1421هـ (2000)م 8/13 وينظر تيسير الرحيم الرحمن في الاعجاز العلمي في القرآن 141-142.
(2) العلم في ظلال القرآن والسنة: مجلة تصدرها كلية الصيدلة – جامعة الموصل سنة 1421هـ – 2000م شركة مطبعة الجمهور /17.
(3) أطلس الكون /102.
(4) ينظر أعماق الكون 155.(1/71)
... سورة الذاريات من السور المكية وقد برز القسم مظهراً اسلوبياً في هذه السور وسبب تفشي القسم في السور المكية قياسا إلى السور المدنية هو طبيعة المجتمع المكي قبل الفتح الذي لم يكن يؤمن برسالة الإسلام بل كان مكذبا غير مصدق،فجاء القسم لتوكيد كلام الرسول((صلى الله عليه وسلم )) وصدق دعواه جرياً على عادتهم في استعمال القسم ومخاطبة لوجدانهم (1) وتعد هذه المشاهد في الوقت الحالي من المشاهد الكونية المحسوسة بعدما خرج رواد الفضاء وشاهدوا هذه الطرق أو بعدما وجدوا هذه السماء محبوكة البناء على سعتها تملؤها المادة والطاقة ثم ينقلهم النص في هذه الآية إلى ما هو غيبي عندما يحدثهم عن أهوال يوم القيامة ليستدل بما هو محسوس على ما هو غير محس ولا مشاهد وهذه من أساليب القرآن الكريم المعروفة كما في السور المكية وغالباً ما يستدل بها على البعث والنشور وقد أقسم الله تعالى بالسماء والسماء هنا هو كل ماعلاك ( ومناسبة هذا القسم للمقسم عليه في وصف السماء بأنها ذات الحبك ، أي طرائق لأن المقسم عليه : إن قولهم مختلف طرائق قِددا ولذلك وصف المقسم به ليكون إيماء إلى نوع جواب القسم ) (2) . وهذا ما أشار إليه البيضاوي بقوله : ( ... . ولعل النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلاف وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف غايتها ) (3) .
__________
(1) ينظر دراسات في القرآن والحديث 96، الإتقان في علوم القرآن 2/133 ، السور المكية دراسة اسلوبية بلاغية 316.
(2) التحرير والتنوير 26 / 340 .
(3) أنوار التنزيل 2 / 1010 .(1/72)
... وكل المعاني التي ذكرها العلماء لقوله ( حبك ) يحتملها النص القرآني والتفسير العلمي يوافق بعض هذه المعاني ( فالآية الكريمة تصرح بأن السماوات ذات طرق محكمة النسج وانظر إلى التصوير البديع فالنسيج محبوك بإتقان يكون متداخلاً ومتشابكاً ولكن بجمال وتنظيم فالدلالة أن السماوات ذات مسالك وطرق وأفلاك كما الحبك جمع حببكة أي المٌحْبَكَة المتقنة النسيج والحبيكة هي الطريق التي تخلفها الرياح الهادئة على الرمال أو المياه أوما تخلفه السيارات فيها من آثار الغبار الكوني والقسم بالسماء ذات الحبك إشارة إلى أنها ليست مجالاً حراً للسبح بل بطرق محددة مما يشير إلى دقة وصف القرآن الكريم . إذن الميسر ليس عبثياً فوضوياً بل هو سبح محدود ولغاية معينة (1) أو الطرق التي اكتشفها رواد الفضاء للإفلات من الجاذبية الأرضية وتحاشيهم قدر الإمكان الأحزمة الإشعاعية ( أحزمة فان ألن ) كل هذه المعاني تحملها لفظ ( حبك ) ، ( وهذا يقتضي أنهم جعلوا الحبك مصدراً أو اسم مصدر،ولعله من النادر . وإجراء هذا الوصف على السماء إدماج أدمج به الاستدلال على قدرة الله تعالىمع الامتنان بحسن المرأى ) (2) .
السماء ذات الرجع : ومن الآيات القسم أيضاً قوله تعالى : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) (3) .
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / وعد طاهر رشيد 38 .
(2) التحرير والتنوير 26 / 341 .
(3) الطارق / 11 – 12 .(1/73)
الرجع في اللغة :قال الخليل : ( والرجع : ترجيع الدَّابَة في يدها في السَّير .. ورَجْعُ الجواب : ردٌّه ورجْعُ من الرمي : ما يرده عليه : جواب الرسالة ... تقول ليس في هذا البيع مرجوع أي لا يرجع فيه ..،والارتجاع أن ترجع شيئاً منه بعد أن تعطي وارتجع الكلب في تقيئه ... وقوم يؤمنون بالرجعة إلى الدنيا قبل يوم القيامة ... ) (1) . وقال ابن فارس : ( الرجع الراء والجيم والعين أصلٌ كبيرٌ مطردٌ منقاس ، يدل على الرد وتكرار. وتقول رَجَعَ يرجع رجوعاً ... والترجيح في الصوت : ترديده ... فأما الرجْعُ فالغيث ، وهو المطر في قوله تعالى: (والسماء ذات الرجع )، وذلك أنها تغيث وتصب ثم ترجع فتغيث ، قال: وجاءت سِلتم لا رجع فيها ولا صدع فتحتلب الرعاءٌ (2) (3)
وفي الصحاح : رجع : رجع بنفسه رجوعاً ... والرجعة : الناقة تباع ويشترى بثمنها مثلها فالثانية راجعة ورجعية ، يقال باع فلان أبله ما رتجع منها رجعة صالحة بالكسر ، إذا صرف ثمنها في ما يعود عليه بالعائدة والصالحة ... والرجاع أيضاً : رُجوع الطير إلى قطاعها والرجع المطر: قال تعالى : ( والسماء ذات الرجع ) ويقال ذات النفع . والرجع الغدير ... والجمع الرُجعان الكسائي . أرجعت الإبل إذا هزلت ثم سمنت والمراجعة المعاودة ) (4) .
وذكر ابن منظور أن الرجع : المطر بعد المطر ، والنفع ونبات الربيع ، واسم وسمك الماء ، والغدير .. وعن الأزهري يقول للرعد رجْع (5) .
__________
(1) العين ( رجع ) 1 / 225 .
(2) السلتم ، كزبرج : الداهية والسنة الصعبة . مقاييس اللغة 2 / 491 .
(3) مقاييس اللغة ( رجع ) 2 / 490 – 491 .
(4) الصحاح ( رجع ) 3 / 1216 – 1217 .
(5) لسان العرب ( رجع ) 8 / 120 .(1/74)
أما الصدع في اللغة :فقال الخليل : ( صدع : الفتى في الأدغال . والرجل الشاب المستقيم القناة ... والصدع : شق في كل شيء له صلابة وصدعت الفلاة قطعت وسط جوزها . والنهر تَصْدعٌ في وسطه فتشقه شقاً ،والرجل : يصدع بالحق: يتكلم به جهاراً والصَدْع : نبات الأرض لأنه يصدع الأرض ، والأرض تصدع عنه ... صدعتهم فتصدعوا أي فرقتهم فتفرقوا . وإذا تغيب الرجل في الأرض : يقال تَصدعٌ به الأرض اشتقاقه من الصدع ، وهو الشق والفعل اللازم : انصدع انصداعاً ) (1) .وقال ابن فارس : ( الصاد والدال والعين أصل صحيح يدل على انفراج في الشيء ... والصدع النبات لأنه يصدع الأرض وكذا استعير منه الصداع وهو شبه الاشنقاق في الرأس من الوجع ) (2) .
... وجاء في الصحاح : ( وصدعت الشيء أظهرته وبينته .أبو زيد: صدعت إلى الشيء أصدع صدوعاً : ملت إليه؛ وما صدعك عن هذا الأمر ، أي ما صرفك ) (3) .
وفي اللسان : (الصَّدع : الشَّقُ في الشيء الصُّلب كالزجُّاجة والحائط وغيرهما ، وجمعه صُدُوع ... وقيل صَدّعه شقّهُ ولم يفترق وقوله عز وجل( يومئذٍ يَصَّدَّعُوَن ) قال الزجاج معناه يَتَفَرَّقون فيصيرون فَريقَين فريق في الجنة وفريق في السعير ... يجوز أن تكون صَدَعَ في معنى تَصَدع لغة ولا أعرفها ويجوز أن يكون على النسب أي ذات انْصِداعِ وتَصًّدُّعِ وصدع الفلاة والنهر يصدعها صدعاً وصدعها: شقهما وقطعهما ، ..تَصَدَّعتِ الأرض بالنبات تَشَّقَقت وانْصدَعَ الصبحٌ أنشَقَّ عنه الليل.. يقال صَدَعت الرداء صَدْعا إذا شققته،والاسم الصَّدع، بالكسر والصَّدع في الزجاجة ، بالفتح .. ابن السكيت الصَّدْع الفَصْلُ وقيل هو الشيء بين شيئين ) (4) .
__________
(1) العين ( صدع ) 1 / 291 – 292 .
(2) مقاييس اللغة ( صدع ) 3 / 337 – 338 .
(3) الصحاح ( صدع ) 3 / 1241 – 1242 .
(4) لسان العرب ( صدع ) 8 / 194 – 195 .(1/75)
... وفي قاموس المحيط : ( الصدع : الشق في شيءٍ صٌلّبٍ ،والفِرْقَةٌ من الشيء ، سٌمّيت بالَمصْدَر ... والناس عليهم صدْعٌ واحد أي مجتمعون بالعداوة ... وجَبلٌ صادع ذاهب في الأرض طولاً ، وكذلك سيلٌ ، ووادٍ . والصَدَع ، محركة في الأوعال والضباء وتسكن الدال أو الشيء بين شيئين من أي نوع كان ، بين الطويل والقصير ... ) (1)
أقوال المفسرين في هذه الآية :
أولاً : معاني الرجع :
1- قال ابن عباس : الرجع المطر : وهو قول الجمهور وعنه أيضاً : السحاب الذي فيه مطر وعنه ( السماء ذات الرجع ) تمطر ثم تمطر (2) وقيل في سبب تسمية المطر بالرجع لما أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض أو أرادوا بذلك التفاؤل ليرجع ولذلك سموه أوباً أو لأن الله تعالى يرجعه (3) .
2- ذات الرجع : نبات الربيع وقيل ذات النفع (4) .
3- وقال عبد الرحمن بن زيد : الشمس والقمر والنجوم يرجعن في السماء من ناحية وتغيب في أخرى (5) .
4- والرجع: قيل رجوعها (السماء) نفسها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك فيه وهذا مبنى على أن السماء والفلك شيء واحد وعَقَب الآلوسي على هذا القول بقوله:(قد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تبعهم) (6) .
5- وقيل ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد (7) .
ثانياً : معاني الصدع :
__________
(1) قاموس المحيط ( صدع ) 3 / 48 .
(2) ينظر جامع البيان 30 / 174 تفسير القرآن العظيم 4 / 499 . روح المعاني 30 / 99 .
(3) ينظر الكشاف 4 / 1346 ، البحر المحيط 10 / 452 – 453 إرشاد العقل السليم 9 / 142 .
(4) ينظر الجامع لأحكام القرآن 20 / 10 .
(5) المصدر نفسه 20 / 11 .
(6) ينظر روح المعاني 30 / 99 .
(7) جامع البيان 30 / 147 الجامع لأحكام القرآن 2 / 11 التفسير الكبير 31 / 122 البحر المحيط 10 / 453 .(1/76)
1- عن ابن عباس ( والأرض ذات الصدع ) : هو انصداعها عن النبات واخراج النبات في كل عام (1) .
2- وعن الحسن ( والأرض ذات الصدع ) : قال هذه تصدع عما تحتها (2) .
3- وعن مجاهد ( والأرض ذات الصدع ) : قال الصدع مثل المأزم غير الأودية وغير الجرف وعنه أيضاً ذات الطرق التي تصدعها المشاة (3)
4- ابن زيد صدعها للحرث:وقال الضحاك ذات الصدع النبات وقيل تشققها بالعيون،وقيل ذات الأموات لأنها يصدعها عنهم للنشور (4) .
النظرة العلمية لهذه الآية :
هناك عدة حقائق علمية لهذه الآية : في قوله ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ) .
1-تعيد الطبقة السفلى من الغلاف الجوي بخار الماء المتصاعد إليها بشكل مطر ، فالماء الذي يتبخر من البحار والمحيطات في الأرض ويتحول إلى بخار الماء يصعد في السماء ثم ترجعه السماء إلى الأرض في صورة مطر مرة أخرى وهكذا بصورة مستمرة ، وبهذا تستقر كمية المياه على الأرض ولا تزيد ولا تنقص بسبب استمرار هذه الدورة (5) .
2- إن الأمواج اللاسلكية والتلفازية ترتد هي الأخرى من السماء إذا أرسلت إليها بسبب انعكاسها على الطبقات العليا الأيونية ،لهذا نستطيع التقاط إذاعات لندن وباريس وجميع المحطات في العالم من الأرض بعد انعكاسها من السماء ونستمع إليها ونشاهدها ولولا ذلك لضاعت وتشتتت ولم نعثر عليها (6) .
__________
(1)
(2) ينظر جامع البيان 30 / 147 الكشاف 4 /1346 الجامع لأحكام القرآن 20/11 أنوار التنزيل 2/1146 ، روح المعاني 30 / 99 إرشاد العقل السليم 9 / 142
(2) جامع البيان 30 / 147 .
(3) ينظر جامع البيان 30/ 147،الجامع لأحكام القرآن 20/11
(4) ينظر جامع البيان 30 / 147 الجامع لأحكام القرآن ن 20 / 11 .
(5) ينظر جامع البيان 30 / 148 أنوار التنزيل 2 / 1146 الجامع لأحكام القرآن 20 / 11 .
(6) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 189، والقرآن وإعجازه العلمي 64، والإعجاز العلمي في القرآن / محمد سيد أرناؤوط 188 .(1/77)
3- السماء أشبه بمرآة عاكسة ترجع ما يبث إليها وهي أيضاً تعكس الأشعة الحرارية تحت الحمراء فترجها إلى الأرض لتدفئتها (1) .
4- وكما تعكس وترجع السماء ما ينقذف إليها من الأرض كذلك تمتص وتعكس وتشتت ما يقذف إليها من الكون والعالم الخارجي من إشعاعات وهي بذلك تحمي الأرض من قذائف الأشعة الكونية المميتة ومن الأشعة فوق البنفسجية القاتلة (2) .
5- الكون وما فيه من النجوم ومجرات وما بينهما من غيوم فكل شيء في الكون يرجع إلى ما بينها من غيوم ،فكل شيء في الكون يرجع إلى ما كان عليه ، فمن المتفق عليه أكثر العلماء أن الكون ليس أزلياً،لأنه سوف يموت كما بدأ (3) .
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم/ محمد سيد أرناؤوط /188 .
(2) الكون والإعجاز العلمي 89 .
(3) وجوه من الإعجاز القرآني 145 .(1/78)
... أما في قوله: (وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ) . فلقد اكتشف العلم الحديث بكل وسائله المتاحة بها فيها من التصوير الفضائي ان الأرض عبارة عن كرة ، مركزها ملتهب متفجر وسطحها مشكل من صفائح باردة نسبياً يمكن أن يتحرك بعضها على البعض الآخر في بعض الظروف وأن هناك شقاً بين هذه الصفائح يصل بين جوف الأرض الناري وبين قاع المحيط الأطلسي ويمتد امتداداً هائلاً من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه ويقع في منتصف المسافة بين شرقه الأوربي الأفريقي وبين غربه الأمريكي. وبهذا جعل الله للأرض صمام أمان وجعله في قاع المحيط بحيث يبرد ما يخرج منه على الفور فلا يزعج الناس بما يتفجر منه وهو ، صدع واحد في الكرة الأرضية كما يتفرع منه صدوع. (1) وهي شبكة هائلة من الصدوع في الأرض معظمهما في قاع البحار والمحيطات وإن لهذه الصدوع صمامات أمان تطلق منها كميات هائلة من الحرارة تنتج من تفاعلات (نووية ) تحت القشرة ولولا ذلك لانفجرت الأرض كقنبلة نووية هائلة (2) .
الضابط اللغوي في تفسير الآية :
__________
(1) المنظار الهندسي للقرآن الكريم 162 – 163 .
(2) تيسير الرحيم الرحمن في الإعجاز العلمي للقرآن 180 .(1/79)
يختلف معنى السماء بحسب التأويل العلمي للآية :فيحتمل اللفظ أن يكون معناه الغلاف الجوي ، كما في التفسير العلمي الأول والثاني والثالث والرابع ويحتمل أن يكون معنى السماء الكون وما فيه من نجوم ومجرات وما بينهما كما في التفسير العلمي الأخير لذا فإن ( السماء ) أنسب لفظ في هذه الآية . وكما ذكر الدكتور فاضل صالح السامرائي :(أن السماء في القرآن تستعمل على معنيين ،فهي إما أن تكون واحدة السماوات ... وإما أن تكون لكل ما علاك فتشمل السماوات وغيرها . ولا شك أن السماء بهذا المعنى الثاني أعم وأشمل من ( السماوات ) لأنها تشمل السماوات وغيرها مما علاك وارتفع (1) وقد جاءت هذه الآية لتعبر عن المعنيين وهذا من بلاغة القرآن الكريم وإيجازه وتحمل اللفظ أكثر من معنى في آن واحد حسب التأويل العلمي ليشمل معاني أكثر وبتعبير أدق مما لو استعمل لفظ دونه كما لو قال السماوات أو السماء الدنيا فيضيع أو يخل بمعنى من المعاني المرادة .ولم يكن إيجاز التعبير وتحمل اللفظ معاني عدة في لفظ السماوات فقط ففي قوله تعالى( الرجع) وقد عبر بالمصدر دون غيره أيضاً إيجازاً وبلاغة في التعبير فعند الرجوع إلى المعنى المعجمي لهذا اللفظ نجد معانٍ عدة ترجع إلى أصل واحد يدل على الرد والتكرار بل أصبح هذا اللفظ اسماً لعدد من المسميات منها تسمية المطر رجعاً ( لرد الهواء ما تناوله من ماء ،وسمي الغدير رجعاً إما لتسميته بالمطر الذي فيه وإما لتراجع أمواجه وتردده في مكانه (2) .
__________
(1) التعبير القرآني 230 .
(2) المفردات في غريب القرآن 276 .(1/80)
لذا فـ ( الرجع ) في هذه الآية يحتمل المعنيين إما أن يكون مصدراً كما أوله المفسرون القدماء والمحدثون من رجوع السماء أو رجوع الشمس والقمر والنجوم في السماء من ناحية وتغيب في أخرى وكل ما يرجع إلى الأرض في الأمواج اللاسلكية والتلفازية وغيرها مما ذكره العلماء المحدثون وإما أن يكون (الرجع) اسماً كما سمي به المطر تفاؤلاً ليرجع أو نبات الربيع وكل هذه المعاني يتحملها النص القرآني في هذه الآية ولا توجد قرينة تمنع معنى دون غيره مما ذكرناه وفي مقابل هذه الآية قوله تعالى :( والأرض ذات الصدع ) والصدع أيضاً يحمل معاني عدة كما في قوله الرجع فالمصدر يشمل كل المعاني التي ذكرها العلماء والمفسرون القدماء والمحدثون والاسم منه يحمل معنى النبات أو الرعد كما سماه العرب سابقاً وقد سمي بالمصدر كما ذكر الآلوسي (1) مجازاً أو الصدع الذي يتفرع منه الصدوع الأخرى بمعنى أنه عبر باسم لأن الصدع بمعنى الشق في شيء كما جاء في القاموس (2) ، وجاءت بصيغة المفرد لتدل على الجموع وهذه من عظمة البلاغة القرآنية وتصويرها الفني المعجز ) (3)
... ومن الناحية الأسلوبية يقول الدكتور حميد مجول النعيمي ان آية السماء ذات الرجع لها ميزات في اللغة والتفسير تبعدها عن الوضوح السهل إلى الغموض البليغ في العلم واللغة معاً ، لذلك توجب الاستمرار والحمد لله (4) .
... وبعد ذلك يأتي جواب القسم وهو صحة القرآن الكريم وأنه القول الفصل وما هو بالهزل بعد ذكر هذه الحقائق العلمية وقد بينت أسلوب القسم في الآية السابقة .
التصعد في السماء وضيق الصدر :
__________
(1) ينظر روح المعاني 30 / 100 .
(2) القاموس المحيط ( صدع ) 3 / 49 .
(3) المنظار الهندسي 163 .
(4) ينظر الكون وأسراره في آيات القرآن الكريم 326 .(1/81)
قال تعالى : ( فَمَن يُرِِدِ الله أَن يَهدِيَه ُيَشرَح صَدرَهُ لِلإسلام وَمَن يُرِدْ أن يُضلّهَ يَجَعل صَدرَهُ ضَيِقاً حَرَجَاً كَأنَّمَا يَّصَّعدُ في السَّماءِ ) (1) .الشرح لغة : الكشف ، وشرح الشيء يشرحهُ شرحاً : فتحه وبينه ، وشَرَحَ اللهُ صَدْرَه لقبول الخير يَشْرَحه شَرحاً فأنْشَرَحَ وَسَّعه لقبول الحق فاتَّسَعَ (2) .
أما قوله حرجاً لغة :
فقد ذكر الخليل : ( حرج : المأثم والحارج الآثم .. ورجل حَرِج وحَرَج كما تقول دَنِفَ ودَنَف ..في معنى الضَّيق الصدر ، قال الراجز :
لا حَرِج الصدر ولا عنيف .
.. وقد حرج صدره: أي ضاق لا ينشرح لخير ، ورجل متحرج كافٌ عن الإثم ... والحَرٌجَة من الشجر:الملتف قدر رمية حجر ، وجمعها حراج ... (3) .
... وقال ابن فارس:( حرج:الحاء والراء والجيم أصل واحد،وهو معظم الباب وإليه مرجع فروعه؛ وذلك تجمع الشيء وضيقه . فمنه حَرجَ جمع حرجه ، وهي مجتمع الشجر (4) .
... وفي الصحاح : ( حرج : مكان حَرَج وحَرِج ، أي ضيق وكثير الشجر ، لا تصل إليه الراعية..وقد حَرِج صدره يَحْرَجُ حَرَجاً .. والحَرَجُ الخشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى .. والتحريج التضييق ... ) (5) .
... وجاء في اللسان ( الحرج :قرئ حرجاً بفتح الراء وكسرها ، قال ابن الأثير: والَحَرجُ في الأصل الضيق ، وقيل أضْيَقُ الضَّيق ، ورجل حَرِج وحَرَجَ: ضيَّق الصدر وحرج صدره يحرجُ حرجاً : ضاق فلم ينشرح لخير ، وقال الزجاج : الحرج في اللغة أضيق الضيق ، ومعناه أنه ضيق جداً .. ) (6) .
__________
(1) الأنعام /125 .
(2) لسان العرب ( شرح ) 2 / 497 .
(3) العين ( حرج ) 3 /76 – 77 .
(4) مقاييس اللغة ( حرج ) 2 / 50 .
(5) الصحاح ( حرج ) 1 / 305 – 306 .
(6) لسان العرب ( حرج ) 2 / 233 .(1/82)
... أما صعد لغة :فقد ذكر الخليل : ( صعد : صعِدَ صعوداً أي ارتقى مكاناً مشرفاً وأصعد اصعاداً ، أي صار مستقبل حدور نهرٍ أو وادٍ أو أرضٍ أرفع من أخرى قال الشماخ :
لا يدركنك إفراعي وتصعيدي
الافراع ههنا : الانحدار ، والصعود طريق منخفض من أسفله إلى أعلاه ) (1) . وقال ابن فارس : ( صعد: الصاد والعين والدال أصل صحيح يدل على ارتفاع ومشقة. من ذلك الصعود خلاف الحدور ... يقال تَصَعَّدني الأمرُ ؛ إذا شقَّ عليك . قال عمر (( ما تَصعَّدتْني خطبةٌ النكاح ) (2) . (3)
... وفي اللسان (4) : ( أصعد في الوادي : انحدر فيه ، وأما صَعِد فهو ارتقى ... وتَصَعَّدَ النفس : صعٌب مخرجه وهو الصُعداء ، وقيل إلى فوق الممدود وقيل : هو النفس بتوجع.
أقوال المفسرين في هذه الآية :
... قال البيضاوي (5) معنى ( فمن يرد الله أن يهديه يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان يشرح صدره للإسلام فيتسع له وينفسح فيه مجاله وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيئة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه .. ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإيمان ، مثل هذا ذكر الزمخشري (6) وأبو حيان (7) والآلوسي. (8)
__________
(1) العين / ( صعد ) 1 / 289 .
(2) القول بتمامه ( ما تصعدنى شيء ما تصعدتني خطبة النكاح ) مقاييس اللغة 3 / 288 .
(3) مقاييس اللغة ( صعد ) 3 / 287 – 288 .
(4) لسان العرب ( صعد ) 3 / 253 .
(5) أنوار التنزيل 1 / 321 .
(6) الكشاف 2 / 344 .
(7) البحر المحيط 4 / 639 – 640 .
(8) روح المعاني 27 / 22 – 23 .(1/83)
... وعن ابن عباس (( رضي الله عنهما )) في قوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) يقول تعالى :يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به كذا قال أبو مالك وغير واحد وهو الظاهر عند ابن كثير (1) أما في قوله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء ) قال العوفي عن ابن عباس يجعل الإسلام ضيقاً والإسلام واسع وذلك حين يقول:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ). (2) 0) يقول ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وقال مجاهد ضيقاً حرجاً شاكاً ، وقال عطاء الخرساني أي ليس للخير فيه منفذاً وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقاً حرجاً لا يجد فيه مسلكاً وقال عطاء الخرساني كأنما يصعد في السماء كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء (3) 1) كأنما كلف بما لا يطيق (4) 2) .
... كما ذكر المفسرون لهذه الآية قراءات كثيرة يختلف معناها بحسب كل قراءة ولهجة نذكرها في الضوابط اللغوية (5) .
النظرة العلمية من خلال الشواهد العلمية المختلفة :
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 2 / 175 .
(2) الحج / 78 .
(3) تفسير القرآن العظيم 2 / 175 .
(4) ينظر تفسير القرآن العظيم 2 / 175 ، والآلوسي 27 / 23 .
(5) ينظر الجامع لأحكام القرآن 7 / 82 ، وفتح القدير 2 / 161 .(1/84)
... بعد ما تمكن رواد الفضاء من الصعود ، والخروج عن الغلاف الجوي للأرض ،لاحظوا أن أجسامهم تخف شيئاً فشيئا كلما صعدوا إلى أعلى حتى فقدت تماماً وزنها . وهذا الضغط الجوي( ضغط الهواء) يضغط دائماً وباستمرار بنسبة معينة لا تزيد ولا تنقص ، وقد خلق الله تعالى أجسام المخلوقات على وجه الأرض تتحمل هذا الضغط ... وبدونه لا يمكن العيش والاستقرار . ويبدأ تناقص هذا الضغط بعد ستة كيلو مترات تقريباً من سطح الأرض فينقص إلى نصف مقداره على سطحها (1) وهكذا كلما ارتفعنا إلى الأعلى . إضافة إلى ذلك لقد ثبت للعلماء في العصر الحديث تناقص الأوكسجين كلما أرتفع الأنسان في الجو ، وقاسوا درجة توتر الأوكسجين عند سطح البحر فوجدوها مئة ملمتر زئبق أما عند ارتفاع ثمانية آلاف متر فتبلغ خمسة وعشرين ملمتراً (2) .وتبدأ الأعراض الحادة لنقص الأوكسجين للإنسان عند ارتفاع عن سطح البحر بـ 12 ألف قدم حيث يشعر الإنسان بدوار وفتور وتعب ذهني وعضلي ، وأحياناً صداع ورغبة في القيء، وتتطور هذه الأعراض لتصل إلى حد التقلصات أو التشنجات فوق ارتفاع 18ألف قدم وتنتهي فوق 23الف قدم في شخص غير المتأقلم إلى غيبوبة . كما قد يصاب بعض الأشخاص عند الصعود المفاجئ إلى المرتفعات العالية بوذمة دماغية حادة تفقده القدرة على التوجه والتكيف أو بوذمة رئوية حادة تنتهي عمل الرئتين تماما تؤدي إلى موت محقق أن لم يسعف الإنسان بأقصى سرعة (3) ومن وجهة نظر العلوم الطبية فقد ثبت أن التصعد المستمر إلى طبقات أعلى يؤدي إلى حدوث اضطرابات عديدة في أجهزة مختلفة وما يهمنا هنا هو الجهاز التنفسي .
__________
(1) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 1 / 91 .
(2) ... (3) ينظر روح الدين الإسلامي 055، الطب محراب الإيمان2 /159 ،القرآن إعجاز يتعاظم 15 .
(3) مجلة الإعجاز العلمي – السعودية – العدد العاشر 1422 هـ ص 11 .(1/85)
فالصعود المستمر إلى طبقات الجو العليا يؤدي إلى ضيق حسي نتيجة تورم الشعب والرئتين الناتج عن تبخر الماء في أنسجة الجسم كلها ،بما في ذلك الجهاز التنفسي.ويسبب ذلك ضيقاً شديداً في حجم الرئتين ،فينقص حجم الهواء الذي يمكن تحويله إلى أن ينعدم تماماً (1) .
... وأخيراً يمكن القول أن هذه الحقائق لم تعرف وتكتشف إلا في خلال القرون الثلاثة الأخيرة،وكانت البداية حينما اكتشف العالم بليز باسكال عام 1648م أن ضغط الهواء يقل كلما ارتفعنا عن مستوى سطح الأرض ، وقد تجلت هذه الحقائق في القرن العشرين حينما ارتبطت أبحاث أعضاء الجسم وتأثيرات صعود الإنسان في طبقات الجو العليا من واقع تسلق الجبال الشاهقة وركوب الطائرات الشراعية والعمودية والنفاثة حيث أمكن ذلك بعد تقدم وسائل البحث والرصد (2) .
الضابط اللغوي :
... في قوله تعالى : ( يجعل صدره ضيقاً حرجاً ) ذكر أبو حيان أن نسبة الضيق إلى صدره مجاز عن ذات الشخص ولذلك قالوا فلان واسع الصدر إذا كان محتملاً ما يرد عليه من المشاق والتكاليف (3) ويرى ابن عاشور (4) أن( الصدر ) مراد به الباطن مجازاً في الفهم والعقل بعلاقة الحلول فمعنى( يشرح صدره) يجعل لنفسه وعقله استعداداً وقبولاً لتحصيل الإسلام .
__________
(1) ينظر الإشارات علمية في القرآن الكريم من النظرية والتطبيق د / كارم السيد عنيم 451 .
(2) ... مجلة الإعجاز العلمي / السعودية / بحث الدكتور عبد الجواد الصاوي – العدد العاشر – 1422 هـ ، ص 13
(3) البحر المحيط 4 / 640 .
(4) التحرير والتنوير 8 / 58 .(1/86)
... أما الحرج فقد ذكر الطبري بأنه أشد الضيق وهو الذي لا ينفذ من شدة ضيقه وقال وأصله من الحرج والحرج جمع حرجة وهي الشجرة الملتف بها الأشجار لا يدخل بينها شيء لشدة التفافها قال عمر ( رضي الله عنه ) كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير ) والحرج عند الطبري بفتح الراء وكسرها بمعنى واحد وهما لغتان مشهورتان (1) . وذكر القرطبي أنه قرئ ( حَرجَاً و حَرِجاً ) (2) وذكر أيضاً أن الزجاج قال : الحرج : أضيق الضيق فإذا قيل فلان حَرَج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره . فإذا قيل : حرِج فهو .فاعل قال النحاس : حرِج اسم فاعل ، وحَرَج مصدر وصف به ، كما يقال :رجلٌ عَدْلُ ورِضا (3) وذكر ابن عاشور أن الحَرِج – بكسر الراء – صفة مشبهة من باب فرح بمعنى ضاق ضيقاً شديداً –ويفتح الراء -على صيغة المصدر ، فهو من الوصف بالمصدر مبالغة ، وقال : واتباع الضيق بالحرج : لتأكيد معنى الضيق ، لأن في الحرج من معنى شدة الضيق ما ليس في الضيق (4) .وفي قوله: ( كأنما يصعد في السماء ) . أشار الطبري إلى اختلاف القراء في قراءة ذلك ، فقراءة عامة قرّاء أهل المدينة والعراق ( كأنما يَصَّعَّد ) بمعنى يتصعد فأدغموا التاء في الصاد ، فلذلك شدّدوا الصاد . قرأ ذلك بعض الكوفيين ( يَصّاعد) بمعنى يتصاعد، فأدغم التاء في الصاد وجعلها صاداً مشددة . وقرأ بعض قراء المكيين ( كأنما يصعد ) من صعد يصعد . وأشار الطبري إلى أن كل هذه القراءات متقاربة المعاني.
__________
(1) جامع البيان 8 / 28 .
(2) النشر في القراءات العشر 2 / 262 ، حجة القراءات لأبي زرعة 271 .
(3) الجامع لأحكام القرآن 7 / 83 .
(4) التحرير والتنوير 8 / 59 .(1/87)
وبأيها قرأ القارئ فهو مصيب غير أنه يختار القراءة في ذلك بقراءة من قرأ ( كأنما يصَّعَّد ) بتشديد الصاد بغير ألف ، بمعنى :يتصعد، لكثرة القراءة بها ، ولقول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ): ما يصعدني شيء ما تصعد في خطبة النكاح (1) . كما أشار إلى معاني هذه القراءات القرطبي (2) فقراءة ابن كثير بإسكان الصاد مخففاً ، من الصعود وهو طلوع.وشبه الله تعالى الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلَّف ما لا يطيق؛كما أن صعود السماء لا يطاق .وكذلك يصَّاعد وهي قراءة أبي بكر النخعي ؛ إلا أن فيه معنى فعل شيء بعد شيء ، وذلك أثقل على فاعله أما قراءة الباقين بالتشديد من غير ألف. معناه يتكلف ما لا يطيق شيئاً بعد شيء ؛ كقولك : يَتَجَّرع ويتفوق (3)
__________
(1) جامع البيان 8 / 31 .
(2) ينظر الجامع لأحكام القرآن 7 / 82 .
(3) يتفوق شرابه : شربه شيئاً بعد شيء ، الجامع لأحكام القرآن 7 / 82 .(1/88)
... وذكر الرازي أن ( في كيفية هذا التشبيه وجهان : الأول : كما أن الإنسان إذ كلف الصعود إلى السماء ثقل ذلك التكليف عليه ، وعظم وصعب عليه ، وقويت نظرته عنه ، فكذلك الكافر يثقل عليه وتعظم نفرته عنه . والثاني : أن يكون التقدير أن قلبه ينبو عن الإسلام ويتباعد عن قول الإيمان ، فشبه ذلك البعد ببعد من يصعد من الأرض إلى السماء ) (1) .4) والى هذا ذهب صاحب روح البيان أيضاً (2) ويقول المراغي أن الله تعالى ضرب مثلاً لضيق النفس المعنوي يجده من دعي إلى الحق وقد ألف الباطل وركن إليه ، بضيق التنفس الذي يجده من صعد بطائرة إلى الطبقات العليا من الجو حتى يشعر بأنه أشرف على الهلاك وهو لا محالة هالك إن لم يتدارك نفسه وينزل من هذا الجو إلى طبقات أسفل (3) وقد أشار صاحب الظلال إلى التصوير البديع في هذه الآية عن طريق التخييل الحسي وتجسيم حالة نفسية معنوية في حالة حسية من ضيق النفس وكربة الصدر والرهق المفني في التصعد في السماء ، وبناء اللفظ ذاته ( يصَّعَّد ) كما في قراءة حفص فيه هذا العسر والقبض والجهد، وجرسه يخيل هذا كله فيتناسق المشهد الشاخص مع حالة الواقعة مع التعبير اللفظي في إيقاع واحد (4) .
__________
(1) التفسير الكبير 13 / 183 .
(2) روح البيان 3 / 101 .
(3) تفسير المراغي 3 / 25 وينظر القرآن والعلم / 122 والأرض في القرآن الكريم 137 .
(4) ينظر في ظلال القرآن 3 / 1203 .(1/89)
... وموضع الضيق هو الصدر وإن سبب ذلك كما ذكر أهل العلم هو الارتفاع في طبقات الجو العليا ؛ لأن السماء هنا بمعنى الجو كما أشار الدكتور فاضل صالح السامرائي (1) فالمرتفع في الجو يضيق صدره لاختلال الضغط كما هو معلوم . ويرى السامرائي أن هذا إعجاز علمي فضلا عن الإعجاز اللغوي لأنه أخبر بهذه الحقيقة العلمية قبل اختراع المنطادات والطائرات بدهور .لذا فمن دقة التعبير القرآني في هذه الآية هي حينما يجعل الضيق محله الصدر : وفي ذلك إشارة إلى كل محتويات الصدر من القلب والأوعية الدموية وأعضاء التنفس والقفص الصدري المكون من الضلوع والعضلات وعضلة الحجاب والحاجز كل هذه تتعرض إلى اضطربات بسبب الضغط الجوي ونقصان الأوكسجين فلا يتسع القفص الصدري ولا تتمدد الرئتان أثناء الشهيق ولا يقل الضغط في مجاري التنفس عنه في الخارج وكل ذلك يعرقل دخول الهواء المحمل بالأوكسجين فيصاب الإنسان بضيق شديد بالغ . (2) كما ويختلف تأثير الصعود المفاجئ والحاد من الصعود البطيء المتدرج على أجهزه الجسم . ويفهم ذلك من عبارة النص الكريم ( كأنما يصعد ) أن الصعود المراد هو الصعود المتتابع يؤيده قول القرطبي (3) الذي يفيد أن يصعد من الصعود وهو الطلوع وأما يتصاعد ففيه معنى الصعود شيئاً بعد شيء وذلك أثقل على فاعله ، وكذلك يتصعد يتكلف ما لا يطيق شيئاً بعد شيء كقولك يتجرع ويتفوق .
__________
(1) التعبير القرآني 42 .
(2) ينظر مجلة الإعجاز العلمي / سعودية عدد العاشر ص 12 بحث الدكتور عبد الجواد الصاوي .
(3) الجامع لأحكام القرآن 7 / 83 .(1/90)
فيمكن القول بأن يصعد أو يصاعد أنه يفعل الصعود بعد صعود وهو أثقل عليه وأشد ، وذلك لأن الصعود المتدرج إلى أعلى درجة بعد درجة على التوالي أو التراخي يسبب للإنسان شدة الضيق عند كل درجة لأن ظهور أغراض نقص الأوكسجين في الصعود المباشر المتتالي لا يحدث إلا بعد ساعات من الصعود ، أما من الصعود المتراخي فلا يلبث الضيق أن تخف حدته بالمكث فترة من الزمن تنشط خلايا آليات التأقلم في الجسم في الموضع الجديد ، ثم يزداد الضيق بالارتفاع إلى درجة أعلى وهكذا إلى أن يصل ذروته . فالأول ضيق متدرج متزايد إلى أن يصل إلى نهايته وآليات التأقلم لديه لم تتمكن من العمل والثاني ضيق ثم زواله إلى أن يصل إلى ضيق لا يزول بل ضيق وانغلاق كامل حيث توقفت آليات التأقلم عنده عن العمل (1) والذي عبر عنه القرآن بدقة وهو الحرج كما قال الزجاج أضيق الضيق أو القرطبي أشد الضيق . كما ذكرت سابقاً لذا يرى الدكتور عبد الجواد الصاوي أن الحرج هي منطقة الانغلاق (2) .
__________
(1) ينظر مجلة الأعجاز العلمي / السعودية / العدد العاشر 13 بحث عبد الجواد الصاوي .
(2) مجلة الإعجاز العلمي / بحث الدكتورعبد الجواد الصاوي العدد العاشر ص 13 . السعودية .(1/91)
الفصل الرابع
الأرض:- كوكب الحياة :وهو أهم كواكب مجموعتنا الشمسية. ورغم صغر هذا الكوكب قياساً إلى ما في الكون من شموس وكواكب عظام إلا أنه مركز الكشف عن هذه الأكوان فمن هذه النقطة الباهتة ينظر الإنسان إلى الكون ويكشف ما فيه من خفايا ومشاهد كونية لا حصر لها جعلها الله عبرة ومجالا للتفكر في الخلق والوصول إلى معرفة الخالق المبدع قال تعالى : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ). (1)
وقد تحدثنا في الفصول السابقة عن تكوين الأرض فهي جزء من السديم الكوني الذي تكونت منه السماوات ففي كثير من الآيات جاء ذكر الأرض بعد ذكر السماوات وكان لا بد من تناولهما معاً في الشرح والتفسير وفي هذا الفصل سأتحدث عن هذا الكوكب لأهميته ولكثرة الآيات التي تحدثت عن مشاهده.
فالأرض لغة:
... قال أبن فارس (2) : الأرضُ : التي نحن عليها، وتجمع أرضين، ولم تجيءْ في كتاب الله مجموعةً.
وجاء في اللسان (3) : الأرض التي عليها الناس، أُنثى وهي اسم جنس، وكان حق الواحدة منها أن يقال أَرْضة ولكنهم لم يقولوا. وفي التنزيل: ( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (4) ... والجمع أراضٌ و أُرُوض وأَرَضون.
وقال الراغب: (الأرض الجرُم المقابل للسماء ... ، ويعبر بها عن أسفل الشيء) (5) .
أما الأرض في اصطلاح العلماء:
__________
(1) آل عمران / 191.
(2) مقاييس اللغة (أرض) 1/ 80
(3) لسان العرب (أرض) 1/ 111-112.
(4) آل عمران / 191.
(5) المفردات في غريب القرآن (أرض) 17.(1/1)
أثبتت الدراسات الحديثة وأظهرت صور الأقمار الفضائية أن الأرض: كروية الشكل تميل إلى التفلطح من الوسط. يبلغ محيطها الاستوائي 40054 كم ويبلغ قطرها الاستوائي 12756 كم، وتبلغ قيمة تفلطحها 44 كم وهي الفرق بين القطرين. أي أن الأرض تتفلطح ونحن في طريقنا إلى القطبين.
وتدور الأرض حول محورها مرة واحدة في اليوم الواحد فيتولد الليل والنهار. ويميل محورها الوهمي على مستوى مدارها حول الشمس 23.5ْ درجة فتختلف أطوال الليل والنهار على مدار السنة.
وتدور الأرض حول الشمس في فلك أهليجي، تتمركز الشمس في أحد طرفيه وتقطع الأرض في هذا المسار حوالي 2.5 مليون كم يومياً خلال نزهتها حول الشمس. ويكون هنا قد مرَّ عليك عام كامل. فالعام هو ما تقطعه الأرض حول الشمس 2.5 مليون كم.
وللأرض حركة ثالثة تتبع الشمس بسرعة 30 كم/ ثانية في ضمن المجرة نحو نجم (الجاثي) (مستقر الشمس) وهذه الحركة (حلزونية متقدمة)، ولها حركة رابعة ضمن مدار درب اللبانة في دوران المجرة حول نفسها. (1) وحركة خامسة مع انطلاق موكب المجرة في الفضاء فالمجرة بكل محتوياتها وهي تنطلق في الفضاء تتباعد عن المجرات الأخرى بسرعة بين 600-40000 ميل في الثانية. (2)
إضافة إلى ذلك فإن للأرض حركة أخرى فالأرض تتأرجح أو تترنح نتيجة تغيرات في سرعة دوران الأرض حول نفسها، إسراعاً أو إبطاء، تصيبه في غير انتظام وقد تصيبه بغتة، لأسباب أكثرها وأخطرها جذب القمر لمياه البحار والمحيطات وبتأرجح الأرض يتأرجح الزمان. (3)
وقد ذُكرت الأرض في القرآن الكريم 451 مرة. (4)
__________
(1) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 72-73 مع الله في السماء 68-80. ملامح كونية في القرآن 52 شهادة الكون 16-21 أعماق الكون 55.
(2) ينظر الكون الأحدب 24، ملامح كونية 52.
(3) مع الله في السماء 82 الأرض التي نعيش عليها 336-337 ملامح كونية 115-121.
(4) ينظر إعجاز القرآن في علوم الجغرافية 73.(1/2)
الآيات التي أشارت إلى شكل الأرض وحركتها:
قال تعالى : ( وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ) (1)
الدحو في اللغة:-
قال الخليل (2) : المِدحاةُ خشبة يرمي بها الصبي، فتمر على وجه الأرض، لا تأتي على شيء إلا اجتحفته. وقطرٌ داحِ يَدْحَى الحصى على وجه الأرض. والدَّحْوُ:البسط .والأداحي: سرب النعام، وموضعه الذي يبيض فيه ويفرخ.
وذكر أبن فارس (3) : الدال والحاء والواو أصلٌ واحد يدل على بَسْطٍ وتمهيد. يقال دحا الله الأرضَ يدحُوها دَحْواً، إذا بَسَطَها. ويقال دحا المطُر الحصى عن وجه الأرض. وهذا لأنّه إذا كان كذا فقد مهّد الأرض ... . ومن الباب أُدْحِي النَّعام: الموضع الذي يُفَرَّخ فيه، أُفْعولٌ مِن دحوت، لأنه يَدْحُوه برجله ثم يبيض فيه. وليس للنعامة عُشٌّ.
وجاء في اللسان (4) : والدَّحْوُ : البَسْطُ. يقال دَحَا يَدْحُو ويَدْحَى أي بَسَطَ ووسِع. والأُدْحي والأُدحية، والإدْحيَّة والأُدْحُوَّة: مبيض النعام في الرمل، ووزنه أفعول من ذلك، لأن النعامة تدحوه بِرِجْلها ... ومدحى النعام: موضع بيضها وأُدحيها: موضعها الذي تفرخ فيه. ... أبن الأعرابي. يقال يَدْحُو الحَجَر بيده أي يرمي به ويدفعه، قال : والداحي الذي يدحو الحجر بيده ... ويقال للاعب بالجوز: ابْعد المرمى وأدحه أي أرمه.
وفي القاموس المحيطُ (5) : والأُدْحية والأدْحُوة:مبيض النعام في الرمل. دَحَيْت الشيء أدْحاهُ دَحْياً: بَسَطْتُه، والإبل سُقْتها. والأُدْحيُّ، ويُكْسَرُ مَبِيضُ النعام، ومنزلٌ للقمر ... وتَدَحى: تَبَسّط ... دحا البطن عَظم، واسترسل إلى الأسفل.
قوال المفسرين في قوله دحاها:
اختلف المفسرون في معنى دحاها على أقوال:
__________
(1) النازعات / 30.
(2) العين (دحا) 3/280.
(3) مقاييس اللغة (دحو) 14/ 251-252.
(4) لسان العرب (دحو) 14/326.
(5) القاموس المحيط (دحا) 4/326.(1/3)
الأول: معنى دحاها بسطها ومهدها للسكنى وهو قول ابن عباس (1) .
الثاني : وقيل دحاها: حرثها وشقها قاله ابن زيد (2) .
الثالث: وقيل دحاها مهدها للأقوات قال الرازي لا يكون معنى قوله (دحاها) مجرد البسط، بل يكون المراد منه بسطها بسطاً مهيئاً لنبات الأقوات وهذا هو الذي بينه بقوله (أخرج منها ماءها ومرعاها). قال الزمخشري والبيضاوي وتجريد الجملة (أخرج) من العاطف حال لأنها بإضمار قد أو بيان للدحو. (3)
الرابع: وقيل دحاها سواها: وقد ذكر عددٌ من المفسرين في قوله تعالى (دحاها) ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل والآكام، فذلك قوله (والأرض بعد ذلك دحاها) وهو قول ابن عباس. (4)
وقد ذكر القرطبي (5) المعاني الثلاثة الأولى وقال عنها أن المعنى متقارب ولا يخفى أيضاً أن المعنى الرابع أيضاً مقارب للمعاني السابقة.
التفسير العلمي :
__________
(1) ينظر جامع البيان 30/45 الكشاف 4/ 1327 التفسير الكبير 31/44 الجامع لأحكام القرآن 15/246، 19/205 أنوار التنزيل 2/1131 إرشاد العقل السليم 9/102 روح المعاني 30/22.
(2) ينظر جامع البيان 30/45 الجامع لأحكام القرآن 19/205.
(3) ينظر جامع البيان 30/45 الكشاف 4/1327 التفسير الكبير 31/44 الجامع لأحكام القرآن 19/205 أنوار التنزيل 2/1131. إرشاد العقل السليم 9/102.
(4) ينظر الكشاف 4/1327 البحر المحيط 10/400 إرشاد للعقل السليم 9/102 روح المعاني 30/22.
(5) الجامع لأحكام القرآن 19/205.(1/4)
استنبط أهل التفسير العلمي من قوله تعالى (دحا) معنى آخر وهو التكوير والشكل المستدير الذي يطابق ما تؤكده الصور التي صورتها آلات التصوير أثناء رحلات الأقمار الصناعية في الفضاء مستدلين بما فهموه من المعاجم اللغوية فهم يقولون إن كلمة دحاها تؤدي معنى أنه جعلها كالدحية أي كالبيضة لأن الأدحوة معناها بيضة النعام أو مكان بيض النعام ويكون عادة مستدير الشكل، ولا شك أن هذا يطابق شكل الأرض الحقيقي. (1) وقال بعضهم: إن إثبات كروية الأرض في القرآن الكريم لا يرقى إليه شك ويكفي في ذلك فهم معنى الدوحة في الآية دحاها وهي البيضة، وإن شكل الأرض بيضوي فهي ككرة مفلطحة من قطبيها. (2)
__________
(1) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن (سيد الجميلي) 35، القرآن وأعجازه العلمي 84 في الإسلام والعلم والحياة 114-115، إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 74.
(2) وجوه من الإعجاز القرآني 132 وينظر التفسير العلمي للقرآن الكريم 187.(1/5)
ويرى العلماء أيضاً أن للدحو معنى آخر ذكرته كتب اللغة، وهو الدفع والرمي. وبهذا المعنى اللغوي يمكن أيضاً أن تعبر كلمة دحاها بمعنى دفعها في مدارها حول الشمس، وهذه حقيقة. أو أزاحها بنفس مفهوم الكلمة الإنكليزية Drift. ما ينطبق تماماً على حقيقة علمية أخرى تدعى إزاحة القارات Drifting contincnts التي نادى بها العلماء في عام 1915 حيث أعلن واجنر بأن القارات تتباعد بعضها عن بعض وأن انفصال القارات عن طريق إزاحتها بدأ بشكل كسور تؤيده مثلاً التعرجات المتشابهة على الجانبين المتقابلين من قارة أفريقيا وقارة أمريكيا الجنوبية. ولقد ساهمت كل العلوم في إثبات صحة إزاحة القارات فلقد ثبت أن قيعان المحيطات حديثة العهد جداً لا يتعدى عمرها على الأكثر 200 مليون سنة وأن نوعي الصخور المتماثلة في الشواطيء المتقابلة فضلاًعن تماثل الأسماك والنباتات مما دفع العلماء إلى القول بأن مختلف قارات العالم كانت متصلة بعضها ببعض منذ ثلاثمائة مليون سنة ثم حدث الانشقاق والانفصال بالإزاحة التدريجية. وبهذا فأن التعبير القرآني بلفظ الدحو قد أدى إلى معان كثيرة. (1)
__________
(1) ينظر الإسلام يتحدى ..، الكون والإعجاز العلمي للقرآن 318-319 المعارف الكونية بين العلم والدين 261-262.(1/6)
الضابط اللغوي في التفسير: من الملاحظ أن التفسير العلمي يستنبط أكثر تفسيراته العلمية من المعاجم اللغوية ويبني عليها تأويلاته العلمية لأن التفسير القديم لا يمكنه أن يوضح هذه المعاني العلمية الحديثة التي يمكن أن تتحملها اللفظة وكذلك التفسير القديم لا يمكنه أن يفسر بمعانٍ لم تصل إليه علومهم لذا يذكرون من معاني اللفظة ما يوافق علومهم التي وصلوا إليها دون المعاني الأخرى. وقد اعتمدوا في تفسير هذه الآية على ما قاله صاحب القاموس بقولهم: (ومعنى الدحية كما فسرها صاحب القاموس هي بيضة النعام وهي مستديرة الشكل) إلا أنهم تصرفوا في النقل عن القاموس المحيط وعن غيره (1) من المعاجم فعند مراجعتي للقاموس وغيره من المعاجم لم أجد من يقول أن الدحية هي بيض النعام وإنما قالوا (الإدحوة مبيض النعام في الرمل) ويكتفي صاحب القاموس بهذا ويفصل أصحاب المعاجم الأخرى هذا القول ويعللون هذه التسمية بقولهم (لأن النعامة تدْحوه برجلها ثم تبيض فيه) فالمبيض كما فسروه موضع بيضها وليس بيض النعام فهذا التصرف مخلٌ بالمعنى ولا يمكن الاعتماد عليه في التفسير ومما يؤكد هذا أيضاً قول الثعالبي في كتابه فقه اللغة حين قسم أماكن الطيور فقال: (والأُدحيُ) للنعام خاصةً ومحِضن الحمامة الذي تحضن فيه على بيضها). (2) ولم يذكر هذا المعنى حينما ذكر أسماء البيض للحيونات (3) ولا يعني هذا أن معنى الدحو مخالف لكروية الأرض إذ يمكن أن يكون الجسم الكروي مبسوطاً كما قال صاحب القاموس في دحو البطن إذا عظم واسترسل إلى أسفل).
__________
(1) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن (السيد الجميلي) 35. القرآن وإعجازه العلمي 84.
(2) فقه اللغة وسر العربية 436 ، 347.
(3) التفسير الكبير 31/ 44-45.(1/7)
وقد أشار الرازي أيضاً بقوله: (كانت الأرض أولاً كالكرة المجتمعة ثم أن الله تعالى مدها وبسطها) وليس معنى (دحاها مجرد البسط، بل المراد البسط المهيأ لنبات الأقوات يدل عليه قوله (أخرج منها ماءها ومرعاها) والجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي..) كما ذكر الشعراوي أن المد والبسط لا يتعارض مع كروية الأرض كما سأذكر هذا في آيات أخرى لاحقاً. وهذا يعني أن الدحو يمكن أن يعبر به عن الأجسام المسطحة والكروية ما دامت فيها توسع وانبساط إضافة إلى معان أخرى ذكرها أصحاب التفسير العلمي فمعنى دحا أيضاً (رمى من المقر) وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس، وأيضاً بمعنى أزاح كما ورد في اللغة كما في قولنا (دحا المطر الحصى عن الأرض) وهكذا استعمل القرآن الكريم هذا اللفظ ليشير إلى معانٍ كثيرة ويشير إلى روعة التعبير القرآني بالأسلوب الإلهي الحكيم للدلالة على ما يريد الإشارة إليه من أسرار الطبيعة، وبأسلوب يطابق الحقيقة الكونية التي يفهمها أولو العلم دون أن يصدم الناس فيما يعتقدون ويعلمون إضافة إلى معانٍ أخرى يخاطب بها كلٍ حسب علمه واختصاصه ليتجدد هذا الخطاب ويطابق ما وصلت إليه العلوم الحديثة من غير أن يخالف ما قاله ويتحمله التفسير القديم فلا يعني هذا أن تفسير السلف قد انقضى بل له دلائل أخرى تشير إلى معناه. فيرى الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي (1) أن تفسير قوله تعالى (دحاها) جعلها قابلة للحرث والشق يؤيده قوله تعالى مباشرة (أخرج منها ماءها ومرعاها) فهذه الآية بمثابة التفسير والبيان لدحاها وهذا ما أشار إليه بعض المفسرين (2)
__________
(1) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 38.
(2) بنظر الكشاف 4/ 1327، إرشاد العقل السليم 9/ 102..(1/8)
من أن تجريد الجملة عن العاطف إما لأنها بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تأتي بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً وإما لأنها حال من فاعله بإضمار قد عند الجمهور كقوله: ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) (1) أو بدونه عند الكوفيين (2) والأخفش. (3)
ويرى ابن عاشور (4) أن جملة (أخرج منها ماءها ومرعاها) بدل اشتمال من جملة (دحاها) لأن المقصد من دحوها بمقتضى ما يكمل تيسير الانتفاع بها. ولا يصح جعل جملة (أخرج منها ماءها إلى أخرها بياناً لجملة ودحاها) لاختلاف معنى الفعلين. وتفسير أبن عاشور هذا يمكن أن يحمل عليه المعاني الحديثة لقوله دحاها لأن (دحاها) معنى يختلف عن معنى الإخراج فهو معنى يشمل جميع ما ذكره العلماء أما الإخراج فهو جزء من هذا الدحو والدليل على هذا قول ابن عاشور: وفي قوله (والأرض بعد ذلك دحاها) إلى (ولأنعامكم) محسّن الجمع ثم التقسيم). (5)
وأما قولهم على من فسر معنى الدوحة في هذه الآية (دحاها) بالبيضة فلا يخفى من أن الفعل الثلاثي دوح يختلف عن الفعل الذي اشتقت منه وهو (دحو) وليس دوح ومن هنا يتبين لنا أن الآية تدل على معانٍ كثيرة بتعبير قرآني معجز من غير الحاجة إلى إدخال معانٍ أخرى لا يتحملها النص القرآني هنا قد يشير إليها نصٌ آخر بالإشارة الواضحة مثل كروية الأرض وغيرها من المعاني.
__________
(1) النساء / 90.
(2) الكوفيين.
(3) معاني القرآن للأخفش 1/244.
(4) التحرير والتنوير 30/ 87.
(5) المصدر نفسه 30/ 88.(1/9)
وشبيه معنى دحاها قوله تعالى: (طحاها) في قوله تعالى: ( وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ) (1) فقد ذكر الخليل (2) أن الطحو: شبه الدحو، وهو البسط وفيه لغتان طحا يطْحُو وطَحَى يَطْحَى. وطحا بك همك أي ذهب بك في مذهب بعيد وقال سألت أبا الدُّقيش عن المدومة الطّواحي فقال هن نسور تستدير حوالي القتلى.
وجاء في اللسان (3) أن الفراء قال: طحاها ودَحاها واحدٌ كما ذكر ابن منظور قول شمر في معنى الآية : (والأرض وما طحاها) ومَن دحاها فأبدل الطاء من الدال كما أشار إلى معانٍ أخرى للفعل طحا فقد ذكر أبو زيد أنه يقال للبيت العظيم: مظلة مطحوة ومطحية وطاحية وهو الضخم. وأورد عن ابن دريد والقوم طحا بعضهم بعضاً أي دفع. وذكر أيضاً قول بعض العرب في يمين له: لا والقمر الطاحي أي المرتفع. وفي معجم البلدان (طحا بالفتح والقصر الطحو والدحو ... وطحا كوره بمصر الشمالي الصعيد في غربي النيل..). (4)
أما أقوال المفسرين في قو له تعالى :(وما طحاها) فقد قال عامة المفسرين (5) مثل دحاها قال الحسن ومجاهد وغيرهما: طحاها ودحاها واحد أي بسطها من كل جانب والطحو البسط. وعن ابن عباس: طحاها: قسمها وقيل: خلقها والقول الأول هو أشهر الأقوال وعليه أكثر المفسرين وهو المعروف عند أهل اللغة كما ذكر أبن كثير. (6)
__________
(1) الشمس /6.
(2) العين (طحو) 3/ 277.
(3) لسان العرب (طحو) 15/ 4-5.
(4) معجم البلدان 4/22.
(5) ينظر جامع البيان 30/209 الجامع لأحكام القرآن 20/ 74 تفسير القرآن العظيم 4/516 إرشاد العقل السليم 9/136 فتح القدير 5/449. روح المعاني 30/142.
(6) ينظر جامع البيان 30/209 الجامع لأحكام القرآن 20/74 تفسير القرآن العظيم 4/ 516.(1/10)
أما من فسر هذه الآية تفسيراً علمياً فقد أشار منصور حسب النبي إلى معنى الطحو بقوله: (في قوله تعالى: (والأرض وما طحاها) رغم أن الطحو أيضاً أصله الذهاب بالشيء، أي قذفه من مقره ثم مده وبسطه، فيقال طحا الكرة أي رما بها. ولذا لا يجب علينا الآن قصر معنى الدحو والطحو على المد والبسط بل نأخذ في اعتبارنا أن الله تعالى جعل شكل الأرض كالبيضة بعد أن قذفها ورماها من مقرها (الشمس) وأنه سبحانه أزاحها في الفضاء إزاحة مستمرة لتجري لأجل مسمى، وكل هذا وارد في معاني الدحو والطحو..) (1)
الضابط اللغوي في هذا التفسير:
__________
(1) المعارف الكونية بين العلم والدين 262.(1/11)
أما الضابط اللغوي في هذا التفسير العلمي فقد تبين لنا من مراجعة المعاجم أن معنى دحا شبيه بمعنى طحا في كثير من المعاني ولكن أورد أهل المعاجم معاني واستعمالات أخرى لقوله طحا لم يذكروها في معنى دحا وقد أشار الخليل مثلاً إلى شبه الفعلين ومن المعلوم أن الشبيه لا يلزم أن يطابق المشبه به كل ما فيه ومن هنا يتبين لنا أنه يمكن أن نلاحظ بعض الاختلافات في استعمالات كلا الفعلين (دحا) و (طحا) في حين جعل بعضهم الفعلين بمعنى واحد كما ذكر الفراء وبعض المفسرين كما ذكرنا. ومن المعاني والاستعمالات التي ذكرها أهل المعاجم في طحا مجيء الطاحي بمعنى المرتفع كما جاء في يمين بعض العرب: (لا والقمر الطاحي) أي المرتفع. كما جاء في اللسان وغيره. [ومعلوم عند أهل العلم أن الأرض مرفوعة من غير عمد كما رفع الله السماوات وقد شاهدها رواد الفضاء وهي تسبح في الفضاء فهذا معنى آخر يضيفه معنى طحا في هذه الآية] وطحا جاء أيضاً بمعنى كوره كما ذكر صاحب معجم البلدان على لغة الصعيد في غربي النيل وهذا المعنى يشير إلى كروية الأرض لو حملنا المعنى عليه فضلا عن معنى البسط والمد التي يشير إليها كلا المعنيين اللتين بيناهما في الآية السابقة ،وأيضاً إلى معنى الرمي والدفع فهي محققة بهذا المعنى في كلا المعنيين وكما فسرها منصور حسب البني.(1/12)
ومن هنا يتبين أنه برغم وجود ترادف بين الفعلين (دحا) و (طحا) لكن هذا الترادف ليس تاماً فكل منهما يحتوي على معانٍ قد لا تكون في الآخر وإن كلا من الفعلين قد استعمل مرة واحدة في القرآن الكريم ومن دقة استعمالاته أن جعل كلاً منهما في موضع يدل عليه يتناسب مع سياق الآية وما قاله شمر في تفسير معنى الآية:(والأرض وما طحاها) ومَن دحاها فأبدل الطاء من الدال لم يذكر أهل القراءات من قرأها بهذا المعنى إن كانت دحا لغة وطحا أخرى كي يمكن أن نؤكد أن المعنيين مترادفان تامان ومن هنا فإن دقة استعمال القرآن للألفاظ وإعجازه اللغوي والعلمي في هذه الآية واضح وتشير إليها معاني هذين اللفظين ويفهمهما أهل اللغة بهذه المعاني لو علمت الحقائق الكونية التي توصل إليها أهل العلم الحديث وما هذه العلوم إلا جزءاً يسيراً من علم الله تعالى كي نفهم به جزءاً يسيراً من كلام الله المعجز الذي لا يعلم تأويله على الوجه الأكمل إلا الله سبحانه وتعالى.
مد الأرض ودلالته على كروية الأرض:
قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارا ) (1)
وقال تعالى: (والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) (2) وقال: (والأرضَ مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون) (3) .
__________
(1) الرعد / 3.
(2) ق / 7.
(3) الحجر / 19.(1/13)
المد في اللغة كما جاء في اللسان (1) الجَذْبُ والمَطْلُ مَدَّهُ يَمْدَّه مَدَّاً ومدَّ به فامتدّ ... والتَّمددّ: كتمدد السَّقاء، وكذلك كل شيء فيه سعة المّدَّ ... وقال اللحياني: مَدَّا الأرض يَمُدّها مداً بسطها وسوَّاها ... وفي التنزيل ... (والأرض مددناها) ويقال مَدَدت الأرض مداً إذا زدت فيها ترابا أو سماداً من غيرها ليكون أعمر لها وأكثر ريعاً لزرعها ... قال ثعلب: كل شيء مده غيره، فهو بألف، ويقال مدَّ البحر وأمتدَّ الحبل، قال الليث: هكذا تقول العرب.
أقوال المفسرين في مد الأرض:
ذكر أكثر المفسرين (2) أن معنى المد في هذه الآيات البسط فقوله (هو الذي مد الأرض بسطها طولاً وعرضاً ووسعها قال الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها، وهذا المد الظاهر للبصر لا ينافي كرويتها في نفسها لتباعد أطرافها ... وقيل: كانت مجتمعة فدحاها من مكة تحت البيت وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها: أذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد.
__________
(1) لسان العرب (مدد) 3/ 396-397.
(2) ينظر جامع البيان 13/95 تفسير الواحدي 565 زاد المسير 4/302 التفسير الكبير 19/3 البحر المحيط 6/346 أنوار التنزيل 1/502 إرشاد العقل السليم 5/3 فتح القدير 30/64 روح المعاني 13/ 89-90 ، 26/ 176. محاسن التأويل 16/ 153.(1/14)
وقال الرازي: قوله (وهو الذي مد الأرض) إشارة إلى أن الله سبحانه هو الذي جعل الأرض فخصته بذلك المقدار المعين الحاصل له لا أزيد ولا أنقص والدليل عليه كون الأرض أزيد مقداراً مما هو الآن وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه فاختصاصه بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص وتقدير). (1) كما يرى أبو حيان (2) : في قوله مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيراً لا يرى منتهاه. وجاء في التسهيل: (ولا يتنافى لفظ البسط والمد مع التكوير، لأن كل قطعة ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض). (3) أما ابن عاشور (4) فيرى أن المعنى : خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من الحجر أو جبالاً شاهقة متلاصقة لما تيسرَّ للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى أخر في طلب الرزق وغيره. وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدها بل هو كقوله (الله الذي رفع السماوات) فهذه خلقه دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومِنة.
وقد استدل الشعراوي من قوله تعالى (مددناها) على كروية الأرض وتابعه أكثر من فسر هذه الآية تفسيراً علمياً كما أثبت أنه ليس هناك حقيقة قرآنية تتنافى مع حقيقة علمية وإنما يرجع ذلك إلى سوء الفهم في التفسير فهو يقول: (عندما اكتشفت كروية الأرض ... ثار علماء الدين واتهموا كل من يقول أن الأرض كروية بالكفر ... لأنه يخالف في رأيهم القرآن الكريم.
__________
(1) التفسير الكبير 19/3 وينظر أيضاً البحر المحيط 6/ 346.
(2) البحر المحيط 6/ 346.
(3) التسهيل في علوم التنزيل 2/130 وينظر صفوة التفاسير 2/74.
(4) ينظر التحرير والتنوير 13/ 82.(1/15)
نقول لهم لقد أسأتم تفسير حقيقة قرآنية ... الله سبحانه وتعالى قد أعطانا الدليل على أن الأرض كروية .. بل أعطانا أكثر من دليل على ذلك في القرآن ... بل أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه خلق الأرض على هيئة كرة ... لقد قال الله سبحانه وتعالى (والأرض مددناها) ... أي بسطناها ... ولكنه لم يقل سبحانه وتعالى أي أرض مبسوطة .. ومعنى ذلك انك أينما تنظر إلى الأرض تراها مبسوطة .. إذا كانت في خط الاستواء .. فالأرض أمامك مبسوطة .. فإذا انتقلت إلى القطب الجنوبي فالأرض أمامك مبسوطة .. وإذا كنت في القطب الشمالي فالأرض أمامك مبسوطة .. وإذا كنت في أوربا .. أو أمريكا .. أو آسيا .. أو أي قارة من قارات الأرض فالأرض أمامك مبسوطة .. الأرض مبسوطة أمام البشر جميعاً في كل موقع يتواجدون فيه .. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية .. فلو أن الأرض مسطحة .. أو مربعة أو مثلثة .. أو مسدسة في أي شكل من الأشكال لوصلنا فيها إلى حافة .. وحيث انه لا يمكن أن تصل في الأرض إلى حافة فالشكل الوحيد الذي تراه مبسوطاً أمامك ولا يمكن أن تصل فيه إلى حافة هو أن تكون الأرض كروية ... ) (1)
أثر اللغة في هذه التفاسير وضوابطها:
__________
(1) معجزة القرآن 87-88 وينظر المنتخب من تفسير القرآن الكريم 1/38/41. وينظر هندسة النظام الكوني163-165،تيسير الرحيم الرحمن 156،الإعجاز العلمي في القرآن /محمد سيد أرناؤوط 189 –190،الإشارات العلمية في القرآن الكريم /د. كارم السيد غنيم 286-287،الإشارات العلمية في القرآن الكريم /محمد وفا الأميري 42.(1/16)
الغرض الرئيس في هذه الآيات هو الاستدلال بخلقة الأرض وأحوالها وهذه من الدلائل المحسوسة التي تدل على عظمة الخالق، فبعدما ذكر من الشواهد العلوية أردفها بذكر الدلائل السفلية في جميع الآيات التي ذكرناها فالعطف في هذه الآيات على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات (وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك ليتوافقا ودلالته على كونه كذلك هو المقصود بالحكم). (1)
أما استعمال القرآن الكريم لفظ (المد) في هذه الآيات فكما رأينا لا يختلف الفسرون في تفسيرهم عما قال به المعجميون من معاني هذه اللفظة وإن أكثر المفسرين يفسرون لفظ المد بالبسط والسعة فإن ابن عاشور يشير أيضاً إلى تحمل اللفظ إضافة إلى ذلك صلاحها للزرع فهو يقول: (خلق الأرض ممدودة للسير والزرع) وقد أشارت المعاجم إلى ذلك أيضاً ففي اللسان (ويقال مددت الأرض مداً إذا زدت فيها تراباً أو سماداً) ويؤيد هذا المعنى أيضاً قوله تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ) (2) فالمهاد هو تمهيدها للسكنى والزرع كما سنتناول الآية لاحقاً.
__________
(1) روح المعاني 13/ 89.
(2) نبأ/6 ( ) المنتخب من تفسير القرآن الكريم 1/41.) .(1/17)
أما الشعراوي فقد استدل على كروية الأرض بدلالة اللزوم فمد الأرض يلزم أن يكون الشكل كرويا ولا يخفى أن استخدام هذا اللفظ يشير أيضاً إلى دقة التعبير في القرآن الكريم فقد(اختار اللفظ الوحيد المناسب للعصر الذي نزل فيه والعصور القادمة فكلمة مددناها تعطي المعنى للأثنين معا ... عندما نقول (والأرض مددناها) أي بسطناها ... لا تنشأ مشكلة لأن الأرض تظهر أمام الناس منبسطة في ذلك الوقت ... فإذا مر زمن وثبت أن الأرض كروية ... نجد هذا اللفظ هو المناسب تماماً الذي يصف لنا بدقة كروية الأرض). وكذلك نجد كلمة (مددناها) إضافة إلى أنها تعطي المعنى المزدوج للانبساط والتكوير بدليل استمرار المد على أي سطح كروي فإنه أيضاً لا يتعارض مع الدحو والطحو بمعنى المد والقذف والإزاحة والتكور وهذا من عجائب الإعجاز العلمي للقرآن. (1) 3) فضلا عن ذلك كله فإن أسلوب القرآن في آيات وصف الأرض هنا لا يخلو من دلائل نفسية وفنية فالآيات الكريمة هنا تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق متعددة وتعرض من مشاهد الكون:الأرض الممدودة ، ما فيها من رواسي ثابتة وانفساحها على مداه. لا يهم ما يكون شكلها الكلي في حقيقته. إنما هي مع هذا مبسوطة فسيحة ... ثم يرسم خط الرواسي الثوابت ... إلى غيرها فتتم الخطوط العريضة الأولى في المشهد الأرضي، متناسقة متقابلة. (2) وهذا من إعجاز نظمه. وطريقة عرضه للمشاهد الكونية وما يتلاءم مع الحس البشري.
أما مجيء المد بمعنى الزيادة الحقيقية في رقعة الأرض فسوف نتناولها في آيات الجبال إن شاء الله.
وصف الأرض بالفراش والمهاد والتسطح والبساط والقرار:
__________
(2) ينظر المشاهد في القرآن الكريم 123 ، في ظلال القرآن 4/2045.(1/18)
قال تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً ) (1) وقال تعالى: ( وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) (2) وقال تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) (3) وقال: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ) (4) وقال: ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً ) (5) وقال: ( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (6) وقال: ( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ) (7)
نجد هناك أوصافاً كثيرة للأرض تعبر عن معانٍ قد تكون متشابهة في بعض هذه الأوصاف من حيث مدلول الكلمة وفي الوقت نفسه تدل على معان أخرى مخصوصة لكل لفظ من هذه الألفاظ ويعضدها السياق في الإشارة إلى هذه المعاني العميقة وقد تكون غامضة على العامة لا يمكن فهمها إلا إذا بحثنا بعمق في مدلول كل لفظة من هذه الألفاظ بعد اطلاعنا على حقائق علمية عميقة ودقيقة في مجال الأرض وما حولها لكي يمكننا في النهاية الفهم الدقيق لكل لفظة من هذه الألفاظ التي وصفت الأرض وصفاً دقيقاً في هذه الآيات موافقاً لما وصل إليه العلم من هذه الحقائق العلمية.
وفيما يلي شرح لهذه الآيات:
1- فرش الأرض:
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (8) .
الفراش في اللغة:
قال الخليل (9) : الفَرْشُ: مصدرُ فَرَش يَفْرُشُ. فَرَشْتُ الفِراش: بَسَطْتُهُ ... والأرضُ: فرِاشُ الأنام ...
__________
(1) البقرة / 22.
(2) الذاريات / 48.
(3) الزخرف /10. طه 55.
(4) النبأ /6.
(5) نوح /19.
(6) الغاشية / 20.
(7) النمل / 61.
(8) البقرة / 21-22.
(9) العين (فرش) 6/255.(1/19)
وذكر ابن فارس (1) أن الفاء والراء والشين أصل صحيح يدلُّ على تمهيد الشَّيء وبَسْطه. يقال: فَرَشتُ الفِراش أفرشهُ. والفَرْشُ مصدرٌ. والفَرْشُ: المفروش أيضاً. وسائر كلم هذا الباب يرجعُ إلى هذا المعنى.
وجاء في الصحاح 3 الفراش واحدُ الفُرُش .. و(الفَرشُ) الشيء يَفْرُشه بالضم (فِراشاً) بالكسر بَسَطه. و(الفَرْشُ) بوزن الفَرش (المفروش) من متاع البيت ... قال الفراء: ولم أسمع له بجمع قال ويحتمل أن يكون مصدراً سمي به من قولهم: (فَرشها) الله فرشاً أي بَثهَّا بثاً: وافترش الشيء انبسط. وافترشه وطِئه ... و(تفريش الدار تبليطها).
وفي القاموس المحيط : (2) فرِشَ فرْشاً وفِراشاً: بَسَطَهُ. والفَرْشُ: المَفْرُشُ من متَاعِ البيت والزَّرْع إذا فُرِشَ، والفضاءُ الواسع، والمَوْضعُ يُكْثرُ فيه النَّباتُ.
أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية:
فسر المفسرون قوله تعالى (فراشاً) عدة تفسيرات فقالوا معناه المهاد والبساط والمنام والقرار ومنهم من حملها على تشبيه الأرض بالفراش فهي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها وأنه سبحانه جعل بعضها بارزاً عن الماء وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بحيث لا تؤلم الإنسان من شدة الصخور في المشي والنوم ولا تمنع من إنبات أنواع من النبات والأشجار ولا أن تكون غاية الرخاوة كالماء وسائر الأشياء التي يغوص الإنسان فيها. (3)
النظرة العلمية في التفسير:
__________
(1) مقاييس اللغة (فرش) 4/486.
(3)الصحاح(فرش)3/1014-1015.
(2) القاموس المحيط 2/282.
(3) ينظر جامع البيان 1/161 تفسيرالبغوي 1/55 أسرار التنزيل وأنوار التأويل 242 البحر المحيط 1/158-159 أنوار التنزيل 1/41 إرشاد العقل السليم 1/61 روح المعاني 1/187 محاسن التأويل 2/68 التحرير والتنوير 1/331.(1/20)
فرش الله تعالى الأرض وكساها بغشاء يغلفها وهذا الغلاف يحوي البحار والأنهار والجبال والغابات والمروج وعالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات، وكلما تعمقنا في جوف الأرض ثلاثين متراً ارتفعت الحرارة درجة حتى تصل إلى درجة حرارة تنصهر فيها الحجارة والمعادن، وتحاول أن تنسف القشرة التي تغلف سطح الأرض فتحدث الزلازل ، وأحياناً تمزقها فتنفجر البراكين المدمرة بما تقذفه من صخور ومعادن ذائبة مصهورة، وإذا كان قطر الكرة الأرضي يعادل 79.000 ميل فإن القشرة الأرضية لا تتجاوز بضعة أميال. (1)
فالفرش هو القشرة الأرضية، أي تلك الصدفة التي تصلبت والتي نستطيع الحياة عليها لأنها باردة صلبة، أما الطبقات التحتية للكرة فهي ساخنة جداً وسائلة وغير صالحة لأي نوع من أنواع الحياة. (2)
__________
(1) ينظر وجوه من الإعجاز القرآني 143-144، الله والعلم الحديث 140 التفسير العلمي للقرآن الكريم 187.
(2) ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل 206-207.(1/21)
هذا إذا نظرنا داخل أعماق الأرض أما إذا انطلقنا إلى الفضاء الخارجي وابتعدنا عن الجاذبية الأرضية فسوف نواجه مشكلة انعدام الوزن ومشاعر انعدام الوزن مضحكة وغريبة فليس هناك فوق ولا تحت حيث لا يشعر رائد الفضاء بوجود الكرسي تحته وإذا أراد أن يمشي فإن ضغط قدمه على أرض المركبة سيرفعه إلى سقفها، وإذا أراد أن يشرب الماء من كوب فلن ينزل الماء وإذا أراد النوم فإن حركة الشهيق والزفير كفيلة بأن ترفعه على السرير ليهيم في المركبة ناطحاً جدرانها وأجهزتها هذا لنحمد الله على سفينة الفضاء الإلهية التي نركبها. (1) فالجاذبية الأرضية تحدد قيمة الوزن على سطح الأرض يعتمد على كتلة ونصف قطر الكوكب الذي نعيش فوقه لهذا فإن الوزن يقل إلى 1/6 قيمته إذا ذهبنا إلى سطح القمر، ونشعر هناك بخفة الحركة بينما يتضاعف الوزن مرتين ونصف ونشعر كأننا كسيحون على سطح المشتري بينما كتلتنا ثابتة ما دمنا ساكنين أو متحركين بسرعات بطيئة. (2) ونحمد الله على جاذبية الأرض التي تحتفظ لنا أيضاً بالغلاف الجوي الذي يمدنا بهواء التنفس ويحمينا من الشهب والاشعاعات القادمة من الفضاء، بينما لا يستطيع القمر الاحتفاظ بغلاف جوي نظراً لضعف جاذبيته. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر إرتياد الفضاء 78.
(2) ينظر المصدر نفسه 80.
(3) ينظر ارتياد الفضاء 80.(1/22)
في قوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) ذهب أكثرُ المفسرين واللغويين (1) أن جعل هنا بمعنى صير أي تصيير الشيء على حالة دون حالة لتعديه إلى مفعوليين (فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنها نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأرض خلقت قبل السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذٍ). (2) وقد ذكر الراغب أن لفظ جعل لفظ عام في الأفعال كلها وهو أعم من فعل وصنع وسائر أخواتها. (3) وذهب البغوي (4) أن جعل هنا بمعنى خلق.
أما الألف واللام في الأرض فقد ذكر أبو حيان (5) أنه يجوز أن تكون للجنس الخاص فيكون المراد أرضاً مخصوصة، وهي كل ما تمهد واستوى وصلح أن يكون فراشاً. ويجوز أن تكون لاستغراق الجنس، ويكون المراد بالفراش مكان الاستقرار واللبث لكل حيوان. أما أهل التفسير العلمي فيبدو أنهم يرون أن الألف واللام المقصود بها( ال) العهدية فالمقصود بها كوكب الأرض وهو أيضاً ما يفهم من كلام ابن عباس، كما يختلف معنى( ال) هنا حسب المعاني التي يتحملها لفظ (فراش) فالفراش كما ذكرنا يحمل معانٍ عدة ذكرها المعجميون والمفسرون ما يهمنا منها ما يوافق النظرة العلمية فالفراش جاء هنا مصدراً يدل على معانٍ عدة تحمل المعاني التي ذكرها المعجميون والمفسرون من بسط الأرض والمفروش من متاع البيت والزرع، والفضاء الواسع، والموضع يكثر فيه النبات وهو ما أشار إليه التفسير العلمي من كساء الأرض بغلاف يغلفها وما يحويه وهو ما موجود في الطبقة السطحية التي تصلبت دون غيرها.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1/228 البحر المحيط 1/158 أنوار التنزيل 1/41 الإتقان 1/469 التعاريف 1/246.
(2) ما يدل عليه القرآن 1/16 وينظر روح المعاني 1/187.
(3) المفردات في غريب القرآن (جعل) 131، الإتقان /469.
(4) تفسير البغوي 1/55.
(5) البحر المحيط 1/158.(1/23)
ويأتي أيضا معنى الفراش بمعنى المنام كما ذكر بعض المفسرين وكما ذكرت سابقاً وهنا يمكن القول أن الله تعالى أراد أن يذكرنا بنعمه وكما أشار عددٌ من المفسرين إلى أن الفراش هنا تشبيه بليغ فهي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها ولكن الناس ينسون هذا الفراش الذي مهده الله لهم لطول ما ألفوه. (1) ومن هنا يمكن القول أن الله تعالى أراد أن يذكرنا بهذا الفراش خلافاً لما وجدوه في الفضاء الخارجي بسبب انعدام الجاذبية وعدم التمكن من القعود أو النوم بشكل مريح. وبشكل يتناسب مع طبيعة البشر وليس كما في القمر والمشتري وغيرهما من الكواكب إضافة إلى المعاني التي ذكرها المفسرون لهذا اللفظ. كما يشير سياق الآية إلى تشبيه آخر لهذه الأرض وذلك بقوله والسماء بناء فقد شبه السماء بالقبة المضروبة والخيمة المطنبة على هذه الأرض، ثم ما سواه عز وجل من شبه عقد النكاح بين المقلة والمظلة بإنزال الماء عليها والإخراج به من بطنها – أشباه النسل المنتج من الحيوان – من ألوان الثمار رزقاً لبني أدم، ليكون ذلك معتبراً ومتسلقاً إلى النظر الموصل إلى التوحيد والاعتراف. (2) فكل هذه المعاني دل عليها لفظ فراشاً دون غيره من الألفاظ. فقد يدل غيره على بعض هذه المعاني دون غيرها وعلى صورة دون غيرها إضافة إلى الجانب الصوتي لهذا اللفظ فالشين من الحروف التفشي والانتشار جرْسه يوحي بالمعنى المعجمي الذي يقول فرشها الله فرشاً ،أي :بثها بثاً. والذي بدوره يناسب هذا الانتشار على الأرض من زروع وحياة وغيرها. وقد قرأ يزيد الشامي فراشاً بساطاً، وطلحة مهاداً.
__________
(1) ينظر في ظلال القرآن 1/47.
(2) ينظر الكشاف 1/43.(1/24)
أما سبب تقديم الأرض على السماء في هذه الآية لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به. (1) وقد سماه الزركشي (2) هذا بالتنقل من الأقرب إلى الأبعد فقدم الأرض على السماء.
2- وصف الأرض بالمهد والمهاد:
قال تعالى: ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ) (3) وقال تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ) (4) وقال: ( وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ) (5) .
المهد والمهاد في اللغة:
قال الخليل (6) :المهدُ: الموضعُ يُهَيَّأُ لينامَ فيه الصَّبيُّ. والمِهاد اسمٌ أجمع من المهَْدِ ، كالأرضِ جَعَلها الله مَهاداَ للعباد، وجَمْعُ المِهاد: مُهُدٌ ، وثلاثة أمهِدة. ومَهَّدْتُ لنفسي خيراً، أي: هيّأتهُ ووطَّأتُهُ.
وذكر ابن فارس (7) أن الميم والهاء والدال كلمة تدلُ على توطئةٍ وتسهيل للشيء ومنه المهد – وتمهد توطأ والمِهاد الوِطاء من كل شيء.
وجاء في اللسان (8) المِهادُ: الفِراش. وقد مَهَدْتُ الفِراشَ مَهْداً: بَسَطتُه ووَطَّأته. يقال للفِراش مِهادٌ لِوثارَته .. وأَصل المَهْد التَوْثيرُ يقال: مَهَدْت لنًفْسي ومَهَّدت أَي جعلت لها مكاناً وطيئاً سهلاً.
أقوال المفسرين في معنى مهد ومهاد:
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير 1/333.
(2) البرهان في علوم القرآن 3/268.
(3) طه /53 ، الزخرف / 10.
(4) النبأ /6.
(5) الذاريات / 48.
(6) العين (مهد) 4/ 31-32.
(7) العين (مهد) 4/ 31-32.
(8) لسان العرب (مهد) 3/410.(1/25)
ذكر المفسرون عدة تفسيرات في قوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض مهدا) وقد اختلفت القراءات وتبعاً لذلك اختلفت التفسيرات لهذه الآية وسوف أذكر القراءات في الضابط اللغوي وأشهر المعاني التي ذكرها المفسرون في قوله تعالى : (الذي جعل لكم الأرض مهداً) : أي الذي مهد لكم الأرض مهداً فجعلها لكم وطاء توطئونها بأقدامكم وتمشون عليها بأرجلكم أوهي كالمهد للصبي تتمهدونها أو ذات مهد ومن قرأها مهاد فبمعنى فراشاً وقراراً تستقرون عليها. (1)
النظرة العلمية لهذه الآية:
لقد كشفت الملاحظات العلمية أن هناك موافقات دقيقة، وتناسقات ملحوظة بدقة في هذا الكون ... الأرض بهيأتها هذه ... وبعد الشمس عنها بمعدل مثالي ... بعد القمر عنها بمقدار موزون ... وحجم الشمس والقمر بالنسبة لحجمها، سرعة حركتها ... وميل محورها ... وتكوين سطحها ... خصائص الماء ... الهواء ... الجاذبية ... الكهرباء ... الطاقة ... آلاف من المقومات المترابطة تجعل من الأرض سكناً مثالياً للإنسان والحياة ... (2)
__________
(1) ينظر جامع البيان 25/52 الجامع لأحكام القرآن 11/209 تفسير القرآن العظيم 3/157 أنوار التنزيل 2/646 إرشاد العقل السليم 6/21، 8/40 روح المعاني 16/206.
(2) ينظر ظواهر جغرافية 129.(1/26)
ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أو تعسرت فمن هذه الموافقات مثلاً أنه جعل سبحانه وتعالى كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من محيطات وبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها، والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة، ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأوكسجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به، والأوكسجين الذي يفرزه النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها، ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان. (1) إضافة إلى ما ذكرنا سابقاً عن الجاذبية الأرضية. فكل شيء خلقه الله بمقدار معين موزون بدقة متناهية فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديرا ... وأحدث كل شيء إحداثاً روعي الدقة في التقدير والتسوية، وقدره تقديراً وهيأه لما يصلح له، وكل شيء عنده بمقدار.
هذا من جهة ومن جهة ثانية يرى الأستاذ الفاضل الدكتور أنيس الراوي (2) أن هناك وجه شبه بين نوع من حركات الأرض بالمهد المعروف للصبي وهي الحركة الترنحية للأرض فتشبه هذه الحركة حركة المهد الموضوع للصبي.
الضابط اللغوي في التفسير:
اختلف القراء في قوله مهدا في زيادة الألف ونقصها في سورة طه والزخرف ولم يختلفوا في سورة النبأ لموافقة رؤوس الآي.
__________
(1) ينظر القرآن يفك لغز الأرض 44-47 ، القرآن وإعجازه العلمي 64-65 ظواهر جغرافية 125-130.
(2) مقابلة مع الدكتور أنيس الراوي.(1/27)
فقد قرأ أهل الكوفة مهداً ذهبوا إلى المصدر فيكون تقدير الكلام الذي جعل لكم الأرض ممهودة مهداً فيكفي بقوله مهداً من ممهودة والعرب تضع المصادر في مواضع الموصوف فتقول رجل رضي أي مرضي ورجل صوم ويمكن أن يكون مهدا اسما يوصف به الأرض لأن الناس يتمهدونها ويسكنونها فهي كالمهد الذي يعرف فسميت به وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وقال قوم هما لغتان مثل الريش والرياش أو ذات مهد وهو مصدر سمي به المفعول وقرئ مهادا وهو أسم لما يمهد كالفراش أو جمع مهد أي جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم. وقرأ عامة قراء المدينة والبصرة مهاداً بكسر الميم من المهاد وإلحاق ألف فيه بعد الهاء وكذلك عملهم ذلك في كل القرآن (1) . ويرى الرازي (2) أن المهاد مصدر في قوله :(ألم نجعل الأرض مهادا) من وجوه :
الأول: أن يكون المراد الممهود، وهذا من باب تسميه المفعول بمصدر كما ذكرنا. والثاني أن تكون الأرض وصفت بهذا المصدر كما يقال زيد جود والثالث: أن يكون المراد ذات مهاد ويرى أبو عبيد (3) : المهاد اسم والمهد مصدر وقال بعضهم (4) : هو جمع مهد ككعب وكعاب والمشهور في جمعه مهود.
__________
(1) ينظر جامع البيان 16/174 التبيان في إعراب القرآن 2/122 كتاب السبعة في القراءات 1/418 الجامع لأحكام القرآن 11/209 أنوار التنزيل 2/646 الحجة في القراءات السبع 1/241 حجة القراءات 1/453 إرشاد العقل السليم 6/21، 8/40 روح المعاني 16/206.
(2) ينظر أسرار التنزيل 243.
(3) روح المعاني 16/206
(4) المصدر نفسه 16/206.(1/28)
والصواب في هاتين القراءتين عند الطبري (1) أن يقال إنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار مشهورتان فبأيهما قرأ القارئ فمصيب الصواب فيهما. أما علاقة هذه القراءات بالتفسير العلمي الحديث لو قرئت الآية بالمهد أو المهاد على أنها مصدر مهد فإنها سوف تدل على المبالغة وزيادة تلك الصفة سواء كان المقصود بالمصدر المفعول لأن العرب حينما تعدل من المفعول إلى المصدر إنما تريد الزيادة في تلك الصفة أو أن يكون المصدر باقياً على مصدريته غير منقول مبالغة في الوصف أو أنها ذات مهد كل هذه المعاني تطابق ما توصل إليه العلم الحديث كما وجدنا وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويتعمق ويتكّشّف عن آفاق وامديات كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم.
وهكذا نجد مدلولات كثيرة لحقيقة (وجعل لكم الأرض مهدا) وهذه المدلولات الحديثة تضاف إلى المدلولات التي كان يدركها المخاطبون بهذا القرآن أول مرة. (2)
وإن كان المقصود بالمهد اسماً توصف به الأرض لأن الناس يتمهدونها ويسكنون فيها كالمهد الذي يعرف فسميت به وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ لأسباب منهم من قال لأن الأرض تحتضن الناس كما يحتفظ المهد بالصبي فالأرض ممهدة لكل ما يحتاج إليه الناس للعيش وعلى التشبيه الذي ذكره الأستاذ الفاضل الدكتور أنيس الراوي يكون التشبيه أيضاً بحركة المهد وبهذا فالتشبيه هنا يدل في قوله مهداً على معنى أخر لم يدل عليه لفظ الفراش وهي حركة الأرض ولم يكن يعلم السابقون أن الأرض تتحرك لذا فقد يكون عدم تفسيرهم المهد بهذا المعنى لأنه لا يمكنهم التفسير بمعانٍ تخالف ما يعلمون في زمانهم من أن الأرض ساكنة مستقرة كما فسروا قوله تعالى (الله الذي جعل لكم الأرض قراراً) (3) والذي سنتناوله لاحقاً.
__________
(1) جامع البيان 16/174.
(2) ينظر في ظلال القرآن 5 /3178.
(3) غافر / 64.(1/29)
أما في قوله تعالى (والأرض فرشناها فنعم الماهدون) فقد ذكر حنفي أحمد (1) أن الفرش معناه نشر الشيء وبسطه، وتمهيده معناه جعل سطحه وسطا بين اللين والصلابة إضافة إلى هذه المعاني التي ذكرها حنفي أحمد هناك معانٍ أخرى ذكرناها لكل من اللفظتين (مهد) و (فرش) تدل على عدم ترادفهما ترادفاً تاماً وإنما كل منهما يعبر عن معاني دقيقة ومعجزة تدل على عظمة الخالق وإعجاز القرآن العلمي واللغوي. وقد جاءت هذه الآيات بأسلوبها الإنكاري كما في قوله تعالى (ألم نجعل الأرض مهاداً) لتقرير هذه المعاني والإنكار على المشركين عنادهم وبإسلوبها الخبري الذي أخبرنا عن هذه الحقائق العلمية العميقة لتؤكد صدق القرآن وأنه من عند الله عز وجل.
بسط الأرض: قال تعالى :( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً ) (2)
البسط في اللغة: قال الخليل (3) :البَسْطُ نقيض القَبْض. والبَسيطةُ من الأرض كالبساط من المتَاع، وجمعه بُسُط.
وأشار ابن فارس (4) إلى أن الباء والسين والطاء أصلٌ واحدٌ، وهو امتداد الشيء عِرَض أو غير عِرَض. فالبسط ما يُبسْط.
وجاء في الصحاح (5) : (بَسَط الشيءَّ بالسين والصاد نَشَره وبابه نصر ... والبَسطة السَّعَة. و(انبصط) الشيءَّ على الأرض .. و(البِساط) ما يُبْسَط. ومكان (بَسِيط) أي واسع).
__________
(1) ينظر التفسير العلمي للآيات الكونية 401.
(2) نوح /19.
(3) العين (بسط) 7/217 – 218.
(4) مقاييس اللغة (بسط) 1/247.
(5) الصحاح (بسط) 3/1116.(1/30)
وفي اللسان (1) : انبسَط الشيءُ على الأرض، والبَسِيط من الأرض: كالبساط من الثياب، والجمع بُسط والبساط: ما يبُسط. وأرض بساطٌ وبسيطةٌ: منبسطةٌ مستوية وقيل: البَسيطة الأرض اسم لها. أبو عبيد وغيره : البساطُ والبَسيطة الأرض العريضة الواسعة وتبسط في البلاد سار فيها طولاً وعرضاً. ويقال: مكان بساطٌ وبسيط .. وقال الفراء : أرض بَساطٌ وبِساط مستوية لا نَبَل فيها ... وهذا فِراشٌ يبسُطك إذا كان واسعاً، وهذا بساطٌ يبسُطك أي يسعك.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
في قوله تعالى (والله جعل لكم الأرض بساطا) ذهب بعض المفسرين (2) أن معناه بساطاً تستقرون عليها وتتمهدونها وتتقلبون عليها تقلبكم على بسُطكم في بيوتكم، وذهب أبو حيان (3) أن ظاهره يدل على أن الأرض ليست كروية أما الآلوسي (4) : فيقول أن معناه كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحاً.
وذهب البعض الأخر (5) أن معنى قوله تعالى (بساطاً) أي مبسوطة.
التفسير العلمي لهذه الآية:
هذا البساط الذي مد و فرش هو القشرة الأرضية، أي تلك الصدفة التي تصلبت والتي نسكن ونعيش فوقها، أما الطبقات التحتية للكرة فهي ساخنة جداً وسائلة (6) وقد بينا ذلك سابقاً.
الضابط اللغوي لهذه الآية:
__________
(1) لسان العرب (بسط) 7/259.
(2) ينظر جامع البيان 29/97 تفسير القرآن العظيم 4/427 أنوار التنزيل 2/1099، إرشاد العقل السليم 9/39.
(3) البحر المحيط 10/ 284.
(4) روح المعاني 29/76.
(5) ينظر الكشاف 2/1289 الجامع لأحكام القرآن 18/306 تفسير النسفي 3/594 تفسير الجلالين 769.
(6) هندسة النظام الكوني 123.(1/31)
في هذه الآية استدلال على عظمة الخالق وليشكروه على نعمه وهذا الاستدلال محسوس وملموس لأن كل إنسان يلمس هذا ولا يمكنه الفرار من هذه الحقيقة القريبة من مشاهداته وإدراكه تواجهه مواجهة كاملة فهذه الأرض مبسوطة أمام الناظر وممهدة (1) وكما يراها قوم نوح في ذلك الوقت ويشعرون بها فهذا الاحتجاج لا يخالف إدراكهم ومستوى علمهم كما لا يخالف هذا الاحتجاج ما توصلت العلوم من معرفة أن الأرض كروية لأن في هذه توجيه أنظار الناس إلى نعم الله وأنها كالبساط يتقلبون عليه كما يراها كل من عليها ما يليه مسطحاً مهما سار لعظم هذه الكرة وليس في هذه الآية دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كروية كما استدل بعظهم كما ذكرنا.
__________
(1) ينظر المشاهد 44 في ظلال القرآن 6 /3715.(1/32)
ومعنى جعل في هذه الآية بمعنى هو النقل من حال إلى حال والتصيير فيتعدى إلى مفعولين. (1) وتوسيط (لكم) بين جعل ومفعوليه مع أن حقه التأخير من الاهتمام ببيان كون المجعول من منافعكم والتشويق إلى المؤخر فأن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المتقدم ملوحا بكونه من المنافع تبقى مترقبة له. (2) أما قوله تعالى (بساطا) فنجد قسماً من المفسرين ذهبوا إلى أن معناه كالبساط والبساط ما يفرش للنوم عليه والجلوس فالإخبار عن الأرض بساط تشبيه بليغ، أي كالبساط ويرى ابن عاشور (3) أن وجه الشبه تناسب سطح الأرض في تعادل أجزائه بحيث لا يوجع أرجل الما شين ولا يُقِضَّ جنوب المضطجعين، وليس المراد أن الله جعل حجم الأرض كالبساط لأن حجم الأرض كُروي، وقد نبه على ذلك بالعلة الباعثة في قولهم ((لكم))، والعلة الغائبة في قوله(لتسلكوا منها سبلا) وحصل من مجموع العلتين الإشارة إلى جميع النعم التي تحصل للناس من تسوية سطح الأرض مثل الحرث والزرع وإلى نعمة خاصة وهي السير في الأرض، وخصت بالذكر لأنها أهم لاشتراك كل الناس في الاستفادة منها.
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن 4/130.
(2) إرشاد العقل السليم 29/97.
(3) ينظر التحرير والتنوير 29/205 .(1/33)
وفي الوقت الحاضر يضيف أهل التفسير العلمي معنىً أخر لهذا التشبيه البليغ لأن التشبيه البليغ يجعل المشبه كأنه المشبه به من شدة اتصافه به لذا يضيف المفسرون العلميون وجهاً أخر لهذا التشبيه وهو شكل البساط بالنسبة لما يفرش عليه، فهذه القشرة رقيقة جداً فسمكها يتراوح من عدة كيلو مترات إلى عدة عشرات من الكيلو مترات على أقصى تقدير، على حين يزيد نصف قطر الأرض بقليل على 6000كم، وذلك يعني أن متوسط قشرة الأرض لا يمثل واحداً من مئة من نصف قطر الأرض. (1) ولا يوجد خلاف بين هذا التشبيه وبين من جعل بساطاً بمعنى مبسوطة فالباسط هو الله تعالى في كل الأحوال.
تسطيح الأرض: قال تعالى: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ *). (2)
السطح في اللغة: قال الخليل (3) السَطْحُ البَسْطُ .. والسَطْحُ: ظَهْر البَيْت إذا كان مُستوياً. وذكر ابن فارس (4) أن السين والطاء والحاء أصلٌ يدلُ على بسط الشيء ومَدّه من ذلك السَّطْح المعروف. وَسطح كلَّ شيء: أعلاه الممتدُّ معه.
وفي الصحاح (5) : سطح كل شيء أعلاه. وسطح الله الأرض بسطها من باب قطع. وتسطيح القبر ضد تسنيمه.
وجاء في اللسان: السطح أعلى البيت يقال سطحت البيت جعلت له سطحاً وسطحت المكان جعلته في التسوية كسطح.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
__________
(1) ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 206.
(2) الغاشية / 17-20.
(3) العين (سطح) 3/129-130.
(4) مقاييس اللغة (سطح) 3/72.
(5) الصحاح (سطح) 1/375.(1/34)
ذهب أكثر المفسرين (1) من أن (سُطحت) في هذه الآية بمعنى بسطت ومدت حتى صارت مهاداً وقال الشوكاني( كيف سطحت )أي بسطت والسطح بسط الشيء يقال لظهر البيت إذا كان مستوياً سطح.
التفسير العلمي والضابط اللغوي فيه:
لا يختلف التفسير العلمي عما قاله أهل التفسير اللغوي وأصحاب المعاجم أن معنى ذلك أنها تبدو للواقف عليها مسطحة واسعة ويختلف عن معنى مد؛ إذ الممدودة تبدو للسائر عليها بأي اتجاه وكأنه لا حد لها، وهذا ما ينطبق على شكلها الشبيه بالكرة فتسطيح الأرض لا ينفي كرويتها. (2)
أما الأسلوب الإنكاري في هذه الآية في قوله تعالى :(أفلا ينظرون) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء تفريع التعليل على المعلل ؛لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال والاهتداء بما هو موجود من تلك الموجودات العظيمة الأحجام (3) ومن هذه الموجودات الإبل والسماء والأرض وكما هو معلوم أن هذه الآية مكية والآيات المكية في بداية الدعوة كان هدفها ترسيخ العقيدة والإيمان بالله وهذه الموجودات أول ما يراها البدوي فتمكنه على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء فوق رأسه، والجبل الذي تجاهه والأرض الذي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه. (4)
__________
(1) ينظر جامع البيان 30/165 زاد المسير 9/100 الجامع لأحكام القرآن 20/36 تفسير الشقي 3/684 تفسير القرآن العظيم 4/505 أنوار التنزيل 2/1150، فتح القدير 5/431 محاسن التأويل 17/136.
(2) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 74-75.
(3) ينظر التحرير والتنوير 30/ 3030-304
(4) ينظر تفسير القرآن العظيم 4/505.(1/35)
ولا يعني هذا أن هذه الآيات موجهة لتلك الفترة فقط وللبدوي حصراً فالمتأمل في هذه الآيات يجد هناك معاني عميقة ودقيقة لكل آية من هذه الآيات فالتسطيح يدل على الاستواء ويفهم معناه القريب البدوي والعالم على سواء ولكن العالم يضيف إليه معاني أخرى حسب نظرته الحديثة المنبثقة لديه على ما تجددت له من علوم كل حسب اختصاصه فعالم الجيولوجيا يعلم أن الكرة مسطحة من أعلاها دون أعماقها وهذا التسطيح لا يخالف كرويتها كما شاهدها رواد الفضاء وكل من البدوي والحضري وعلماء الأرض والفضاء نظرة تختلف عن الآخر ولكن يمكنه الاستدلال من تلك النظرة على صنعة الخالق ويحمل معنى التسطيح كل حسب المنظار الذي من خلاله يستطيع أن ينظر منه.
معنى قرار الأرض:
قال تعالى : ( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ). (1)
وقال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ). (2)
القرار في اللغة:
قال ابن فارس: (يقال قرَّ واستقر.. وقال قومٌ في الدعاء: أقر الله عينه، أي أعطاه حتى تقرعينه فلا تطمح إلى من هو فوقه. ويوم القَرَّ: يوم يستقر الناس بمنىً). (3)
وجاء في الصحاح (القرار المستقر من الأرض. ... والقَرارُ في المكان (الاستقرار) تقول فيه (قرِرْت) بالمكان بالكسر أقرُّ (قرارا) و (قَرَرْت) أيضاً بالفتح أقِرُ (قَرارا) و (قُرورا) ... و(قَرَّرَ الشيء جعله في قراره، وفلان ما (يَتَقارُّ) في مكانه أي ما يستقر). (4)
__________
(1) النمل /61.
(2) غافر /64.
(3) مقاييس اللغة (قر) 5/7-8.
(4) الصحاح (قرر) 2/788.(1/36)
وفي اللسان (1) : (الليث: أَقْرَرْتُ الشيء في مَقَرَّه ليَقِرّ. وفلان قارُّ: ساكنٌ، وما يَتَقارُّ في مكانه. وقوله تعالى (ولكم في الأرض مُسْتَقَرّ) أي قَرار وثبوت).
أقوال المفسرين في قوله تعالى (قرارا):
اختلف المفسرون في قوله تعالى (قرارا) إلى أقوال منهم من قال معناه الذي جعل لكم الأرض التي أنتم على ظهرها سكان قرارا تستقرون عليها وتسكنون فوقها. (2)
ومنهم من قال في تفسير الآيتين أي مستقراً لا تميد بأهلها (3) وقالوا : قرارا دحاها وسواها للاستقرار عليها. (4) وقالوا (5) : جعلها قراراً بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإنسان والدواب عليها وزاد على ذلك الآلوسي بقوله فالقرار بمعنى (مستقرا) لا بمعنى قارة غير مضطربة وقيل قراراً لا تتحرك (6) وقيل فراشاً (7) وقيل (مستقرا) في حياتكم وبعد الموت. (8)
__________
(1) لسان العرب (قرر) 5/ 84.
(2) جامع البيان 24/ 80.
(3) ينظر تفسير البغوي 3/425 زاد المسير 597 تفسير الجلالين 502.
(4) ينظر الكشاف 3/864 التفسير الكبير 24/177-178 تفسير النسفي 3/258 فتح القدير 4/146.
(5) ينظر أنوار التنزيل 2/773 إرشاد العقل السليم 6/294 روح المعاني 20/5.
(6) تفسير الواحدي 2/807.
(7) البغوي 3/425.
(8) الجامع لأحكام القرآن 15/328.(1/37)
وقد ذكر الرازي (1) أن كونها قرارا وذلك لوجوه الأول: أنه دحاها وسواها للاستقرار. الثاني: أنه تعالى جعلها متوسطة في الصلابة والرخاوة . الثالث: أنه تعالى جعلها كثيفة غبراء ليستقر عليها النور، ولو كانت لطيفة لم استقر النور عليها، ولو لم يستقر النور عليها لصارت من شدة بردها بحيث تموت الحيوانات. الرابع: انه سبحانه جعل الشمس بسبب ميل مدارها من منطقة مدار منطقة الكل بحيث تبعد تارة وتقرب أخرى من سمت الرأس ولولا ذلك لما خلقت الفصول ولما حصلت المنافع . الخامس: انه تعالى جعلها ساكنة.
__________
(1) ينظر التفسير الكبير 24/177-178، وأسرار التنزيل وأنوار التأويل 243-244.(1/38)
أما أبن عاشور (1) وسيد قطب فقد فسرا هذه الآية تفسيراً موافقاً لما وصل إليه العلم الحديث فقد ذكر الأول أن المعنى جعل الأرض ثابتة قارة غير مضطربة. وهذا تدبير عجيب ولا يدرك تمام هذا الصنع العجيب إلا عند العلم بأن هذه الأرض سابحة في الفضاء متحركة في كل لحظة وهي مع ذلك قارة فيما يبدوا لسكانها فهذا تدبير أعجب، وفيه مع ذلك رحمة ونعمة، ولولا ذلك لكان الناس متزلزلين مضطربين ولكانت أشغالهم معنتة لهم. وقال أيضاً في موضوع آخر عند تفسيره لسورة غافر أن المعنى يحتمل : أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كرة الهواء مضطربة متحركة ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك. ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قرار، أي قراراً لكم أي مستقراً لكم أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالا كالزئبق أو كالعَجَل فلا يزال الإنسان سائحاً فيها يطفو تارة ويسبح أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة: كما في بعض المناطق المسماة (شط الجريد) (2) فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يعثر عليها ... فكانت هذه الأرض دالة على عظيم قدرة الله. (3)
أما سيد قطب فقد اعتمد في تفسيره على ما ذكره أهل العلم وذكر دلائل علمية كثيرة نذكرها في التفسير العلمي.
التفسير العلمي لهاتين الآيتين:
__________
(1) التحرير والتنوير 20/13.
(2) (شط الجريد) الفاصل بين نقطة ونفزاوة من جنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت القوافل ساخت في الأرض ولا يعثر عليها ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهداة العارفين بمسالك السير في علامات منصوبة. التحرير والتنوير 24/190.
(3) ينظر التحرير والتنوير 24/ 189-190.(1/39)
ذهب البعض ممن فسر الآيتين تفسيراً علمياً أي أن قوله تعالى في جعل الأرض قراراً إشارة إلى الجاذبية الأرضية التي بها تستقر الأشياء على الأرض وبذلك أمكنت الحياة عليها. ولولاها لاستحالت الحياة. (1)
أما سيد قطب فقد ذكر أن هناك آلاف الموافقات في تصميم هذا الكون لو أختل واحد منها أدنى اختلال ما كانت الحياة في صورتها هذه التي نعرفها والأرض قرار صالح لحياة الإنسان بتلك الموافقات الكثيرة نذكر هنا لمحات خاطفة تشير إلى بعض نواحي الارتباط في تصميم هذا الكون وعلاقته بحياة الإنسان ... مجرد لمحات تسير مع اتجاه هذه الإشارة المجملة في كتاب الله ...
(لو كانت الأرض لا تدور حول نفسها في مواجهة الشمس ما تعاقب الليل والنهار..) لو دارت الأرض حول نفسها أسرع مما تدور لتناثرت المنازل، وتفككت الأرض وتناثرت هي الأخرى في الفضاء ...
لو دارت الأرض حول نفسها أبطأ مما تدور لهلك الناس من حرٍ وبرد. وسرعة دوران الأرض حول نفسها، هذه السرعة القائمة الكائنة اليوم، هي سرعة توافق ما على الأرض من حياة حيوانية نباتية بأوسع معانيها.
لولا دوران الأرض حول نفسها لفرغت البحار والمحيطات من مائها. (2)
فالأرض رغم حركاتها الهائلة في آن واحد وهي معلقة في الفضاء إلا أنها قد جعلت مستقرا جد صالح للحياة دون اضطراب وبلا اختلال ومن غير الإحساس بالخوف والذعر نتيجة ذلك الوضع المتحرك. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر قصة الإيمان 318 ، الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الأميري 38.
(2) ينظر في ظلال القرآن 5 / 3029-3094 وينظر مع الله في السماء 68-91.
(3) ينظر القرآن إعجاز يتعاظم 133 ، ملامح كونية في القرآن 52-59.(1/40)
الخطاب في هذه الآية عام المراد به العموم كما ذكر الزركشي (1) فالمخاطبون في العصر النبوي كانوا يرون الأرض مستقرا للحياة صالحاً على وجه الإجمال (2) .
وقد فسر القدامى هذين الآيتين بما يلائم ما وصلت إليه علومهم ومشاهداتهم الحسية التي لا تخفى على عامتهم. ثم يبقى النص بعد ذلك مفتوحاً للأجيال، وكلما أتسع علم البشر أدركوا شيئاً من معناه الضخم المتجدد على توالي الأجيال. وتلك معجزة القرآن في خطابه لجميع العقول، وعلى توالي الأزمان. (3)
ومع تحمل القرآن تلك المعاني فإنه لا يجوز حمل معاني القرآن التي لا توافق الحقيقة فلا يجوز مثلاً في هذه الآية حمل لفظ القرار على أن الكرة الأرضية مستقرة ساكنة فهذا الكلام من اجتهاد المفسرين .أما إذا حملنا لفظ الأرض بمعنى القارات فالأرض قارة لا تميد وليس المقصود هنا سكون الكرة الأرضية؛ لأن القرآن لا يقول إلا الحق (ومن أصدق من الله قيلا). (4)
أما القرار: فهو مصدر قَرّ، إذا ثبت وسكن ووصف الأرض به للمبالغة: أي ذات قرار وقد تمكن هذا المصدر من التعبير عن هذه المعاني العظيمة التي ذكرها العلماء في جميع العصور.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 2/ 217.
(2) ينظر في ظلال القرآن 5/ 2657.
(3) ينظر المصدر نفسه الورقة نفسها.
(4) النساء / 122.(1/41)
وأما أسلوب الخطاب في قوله (أم من جعل الأرض قرارا) قيل هو بدل من أمن خلق السماوات والأرض إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد وقال بعض الأجلة: الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه أخر وهذا هو قول أبي السعود (1) والشوكاني (2) والآلوسي (3) وهذا انتقال من الاستدلال المشوب بالامتنان إلى الاستدلال المجرد بدلائل وقدرته وعلمه بأن خلق المخلوقات العظيمة وبتدبيره لنظامها حتى لا يطغى بعضها على بعض فيختل نظام الجميع. (4)
أما من سورة غافر فنجد أن السياق المتقدم لهذه الآية وهو قوله: (كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ). (5) يشمل كل من جحد بآيات الله من مشركي العرب وغيرهم وصيغة المضارع لاستحضار الحالة وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم. وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات تصرف عن انكشاف الحقائق العلمية فتختلط عليها المعلومات ولا تميز بين الصحيح والفاسد. (6)
__________
(1) إرشاد العقل السليم 6/264.
(2) فتح القدير 4/146.
(3) روح المعاني 20/5.
(4) التحرير والتنوير 20/ 12-13.
(5) غافر / 63.
(6) التحرير والتنوير 20/ 12-13.(1/42)
وفي قوله تعالى (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالأنعام عليهم حتى يفتضح خلطهم في الإشراك به وكفران نعمه ... فأما إن جعلته اسم الجلالة في قوله (الله الذي جعل) ... الخ بدلا من (ربكم) في (وقال ربكم ادعوني). (1) فإن جملة (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا) تكون مستأنفة استأنافاً بدائياً. (2) والقرار في هذه الآية يحتمل أن يكون أنه جعلها قارة غير مائلة ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى ذات قرار كما ذكرنا سابقاً. (3)
أما من الناحية البلاغية فلا يخفى من وجود التشبيه البليغ بين الأرض والسماء من جهة وقرار الأرض وبناء العرب لقبابهم التي تضرب (4) فالسماء كالبناء الذي يحفظ البيت من الخارج لتكون الأرض صالحة للعيش فيها. فهذا التشبيه قرب لنا الصورة في خيالنا بما هو محسوس وملموس لا يخفى عنا.وأخيراً يمكن القول أن الآية عبرت بمفرداتها وأسلوبها وصورها عن معانٍ عميقة تتكشف لنا جيلاً بعد جيل لتدل على عظيم خلقه بكلام بليغ موجز يعجز الخلق على الإتيان بمثله لما تحمله الآية على إيجازها من دلائل لا يمكن حصرها. وتبقى الكثير من هذه المعاني في علم الله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
تذليل الأرض: قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ). (5)
الذل في اللغة:
__________
(1) غافر /60.
(2) ينظر التحرير والتنوير 20/189.
(3) المصدر نفسه.
(4) ينظر روح المعاني 24/83.
(5) الملك /15.(1/43)
قال ابن فارس (1) الذال واللام في التضعيف والمطابقة أصل واحد يدل على الخضوع، والاستكانة، واللين فالذل ضد العز. وهذه مقابلة في التضاد صحيحة، تدل على الحكمة التي خُصَّتْ بها العرب دون سائر الأمم، لأن العز من العزاز، وهي الأرض الصُّلبة الشديدة. والذل خلاف الصعوبة. وحكى عن بعضهم أنه قال: (بعضُ الذَّلَّ – بكسر الذال – أبْقى للأصْلِ والمال). يقال من هذا: دابّةٌ ذلولٌ، بينة الذُّلَّ.
وفي الصحاح (2) : الذُّل ضد العز ... والذَّل بالكسر اللين ضد الصُّعوبة يقال دابة (ذَلُول) بينة الذَّلَّ.
أما المناكب في اللغة:
فقال الخليل (3) : النَّكَبُ شِبْهُ مَيَلٍ، وإنّه لَمِنْكابٌ عن الحقّ، وقال عن الحق أنكب أي مائلٌ عنه والأَنْكبُ من الإبل كأنّما يمشي في شِقًّ واحد ... والمَنْكبِ كلّ ناحية من الجِبالِ أو الأرض. والنّكباء ريح تهب بين ريحين والمنكب مَجْمَعُ عَظْمِ العَضدُ والكتِف، وحبل العاتِق من الإنسان والطائر ونحوه.
وذكر ابن فارس (4) أن النون والكاف والباء أصلٌ صحيح يدل على مَيْل أو مَيَلٍ في الشَّيء ونكب عن الشيء ينكب ... والأنكب: الذي كأنه يمشي في شِقّ. والمكنب: مجتمع ما بين العَضدُ والكتف، وهما مَنكِبان، لأنَّهما في الجانبين. والنكبُ: داءٌ يأخذ الإبل في مناكبها فتَظلعُ منه.
وجاء في الصحاح (5) : نكب عن الطريق ينكب نكوبا أي عدل والمنكب من الأرض: الموضع المرتفع. والنكب داء يأخذ الإبل في مناكبها فتظلع منه وتمشي منحرفة: يقال نِكَبَ البعير بالكسر ينكب نكباء فهو أنكبُ.
__________
(1) مقاييس اللغة (ذل) 2/345.
(2) الصحاح (ذلل) 4/1701.
(3) العين (نكب) 5/385.
(4) مقاييس اللغة / نكب 5/ 474.
(5) الصحاح (نكب) 1/228.(1/44)
وفي اللسان (1) : شِبْهُ مَيل في المَشْي. مَناكِب الأرض: جبالهُا وقيل طُرُقها؛ وقيل جَوانُبها وفي التنزيل العزيز (فامشوا في مناكبها) قال الفراء: يريد جوانبها، وقال الزجاج: معناه في جبالها، وقيل في أطرافها والَمنْكَب من الأرض: الموضع المرتفع.
وقال الراغب (2) : ( ... والمنكب مجتمع ما بين العضد والكتف وجمعه مناكب ومنه استعير للأرض. قال: (فامشوا في مناكبها) واستعارة المنكب لها كاستعارة الظهر لها في قوله: (ما ترك على ظهرها من دابة). (3)
أقوال المفسرين في هذه الآية:
فسر أكثر المفسرين قوله تعالى (جعل لكم الأرض ذلولاً) لينه غير مستصعبة ولا ممتنعة يسهل لكم المشي عليها وتستقرون عليها. (4) وقيل أي ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها ولا تتكفأ متماثلة لما كانت منقادة لنا وقيل: أشار إلى التمكن من الزرع والغرس وشق العيون والأنهار. (5)
أما الرازي (6) فقد ذكر أن الذلول من كل شيء المنقاد المطيع لك، الذي يذل لك ومصدر الذل والانقياد واللين، ومنه يقال دابة ذلول وذكر أن في وصف الأرض بذلول وجوه وهي:
الأول: أنه تعالى لم يجعلها صخرة خشنة يمتنع المشي عليها كما يمتنع المشي على وجوه الصخور الخشنة.
والثاني: أنه جعلها لينة بحيث يمكن حفرها وبناء الأبنية منها كما يراد ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك.
والثالث: أنك تطرح عليها كل قبيح وهو يخرج لك كل طعام لذيذ.
__________
(1) لسان العرب (نكب) 1/770-772.
(2) المفردات في غريب القرآن (نكب) 769.
(3) فاطر / 45.
(4) ينظر تفسير الواحدي 2/1118 تفسير اللغوي 4/371 زاد المسير 8/321 الجامع لأحكام القرآن 18/214 التبيان في أقسام القرآن 1/187 أنوار التنزيل 2/1082 إرشاد العقل السليم 9/7 فتح القدير 5/262 روح المعاني 29/14.
(5) الجامع لأحكام القرآن 18/ 214.
(6) ينظر التفسير الكبير 30/60 وأسرار التنزيل وأنوار التأويل 246-247.(1/45)
الرابع: أنه تعالى سخرها لنا بأن امسكها في جو الهواء ولو كانت متحركة على استقامة أو على استدارة لم تكن منقادة لنا.
أما قوله تعالى (فامشوا في مناكبها)
فقد أشار الرازي (1) أن المفسرين ذكروا في (مناكب ) وجوهاً.
الأول : قال صاحب الكشاف (2) : المشي في مناكبها مثل لفرط التذلل لأن المنكبين وملتقاهما في الغارب أدق شيء من البعير وأبعده من إمكان المشي عليها فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي في منكبه فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة فظهر في قوله تعالى: فامشوا في (مناكبها) كناية عن كونها نهاية في الذلولية.
والثاني هو قول قتادة والضحاك وابن عباس أن مناكب الأرض جبالها وآكامها، وسميت الجبال مناكب لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضاً شاخصة، والمعنى أنّى سهلت عليكم المشي في مناكب الأرض وهي أبعد أجزائها عن التذليل فكيف الحال في سائر أجزائها. (3)
والثالث أن مناكبها هي الطرق والفجاج والجوانب والأطراف وهو قول الحسن ومجاهد. (4)
التفسير العلمي لهذه الآية:
أشار سيد قطب (5) وغيره ممن فسر الآية تفسيراً علمياً أن الله جعل الأرض ذلولاً بآلاف من هذه الموافقات الضرورية منها:
__________
(1) أسرار التنزيل وأنوار التأويل 247.
(2) ينظر الكشاف 4/ 1270 إرشاد العقل السليم 9/7.
(3) ينظر زاد للسير 8/321 ، الجامع لأحكام القرآن 18/214 الدر المنثور 8/237 فتح القدير 5/262.
(4) ينظر تفسير الواحدي 2/1118 تفسير البغوي 4/371 فتح القدير 5/262.
(5) ينظر في ظلال القرآن 6/3637-3638 وينظر الكون في القرآن 110 ارتياد الفضاء 78.(1/46)
إن هذه الدابة التي نركبها تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة، ثم تدور مع هذا حول الشمس بسرعة حوالي خمسة وستين ألف ميل في الساعة ثم تركض هي والشمس والمجموعة الشمسية كلها عشرين ألف ميل في الساعة، مبتعدة نحو برج الجبار في السماء ... ومع هذا الركض كله يبقى الإنسان على ظهرها آمناً مستريحاً مطمئناً معافى لا تتمزق أوصاله، ولا أشلاؤه، بل لا يرتج مخه ولا يدوخ، ولا يقع مرة عن ظهر الدابة الذلول!
وهذه الدابة الذلول التي تتحرك كل هذه الحركات الهائلة في وقت واحد، ثابتة على وضع واحد في أثناء الحركة يحدده ميل محورها بمقدار 23.5ْ لأن هذا الميل هو الذي تنشأ عنه الفصول الأربعة مع حركة الأرض حول الشمس، والذي لو اختل في أثناء الحركة لاختلفت الفصول التي تترتب عليها دورة النبات بل دورة الحياة كلها في هذه الحياة الدنيا.إضافة إلى الجاذبية والضغط الجوي وطبيعة تكوين سطح الأرض إلى غيرها من المسائل التي لا يمكن حصرها.
وقد أشار حسب النبي إلى أن الأرض سفينة فضاء إلهية تركبها كالدابة الذلول، سطحها مستقر لنا وسقفها الغلاف الجوي الذي تحتفظ به جاذبية الأرض. (1)
الضابط اللغوي في تفسير الآية:
في هذا التعبير يدرك منه كل فرد وكل جيل بقدر ما ينكشف له من علم هذه الأرض الذلول.
والأرض الذلول كانت تعني في أذهان المخاطبين القدماء، هذه الأرض المذللة للسير فيها بالقدم وعلى الدابة وبالفلك التي تمخر البحار. والمذللة للزرع والجني والحصاد. والمذللة للحياة فيها بما تحويه من هواء وماء وتربة تصلح للزرع والإنبات. (2)
__________
(1) ينظر الكون والإعجاز العلمي 66.
(2) ينظر في ظلال القرآن م6 29/ 3637-3638.(1/47)
فمدلولات النص مجملة يفصلها العلم – فيما اهتدى إليه حتى اليوم – تفصيلاً يمد في مساحة النص القرآني في الإدراك فهو يشير إلى هذه الحقائق العلمية التي ذكرناها ليعيها كل فرد وكل جيل بالقدر الذي يطيق وبالقدر الذي يبلغ إليه علمه وملاحظاته. (1)
ولا يقتصر هذا التوسع في مدلولات الآية فقط وإنما يشمل الصورة التي ترسمها الآية من خلال تشبيهاتها الدقيقة التي توحي بالمعاني العلمية التي لم تكن معروفة حينها.
فقوله تعالى (ذلولا) بوزن فعول للمبالغة في الذل. (2) وهو ما يستوي فيه المذكر والمؤنث وقد استعير للأرض في التذليل والانتفاع بها مع صلابة خلقتها تشبيهاً بالدابة المسوسة المرتاضة بعد صعوبة على طريقة مصرحة. (3)
فالأرض هذه التي نراها ثابتة مستقرة ساكنة هي دابة متحركة رامحة راكضة مهطعة وهي في الوقت ذاته ذلول لا تلقي براكبها عن ظهرها، ولا تتعثر في خطاها ولا تخضه وتهزه وترهقه كالدابة غير المذلول. (4)
أما قوله تعالى (فامشوا في مناكبها) أي مناحيها وجوانبها على التشبيه. (5) لأن أصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية الحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي ثم قال فإن قلت كيف تكون مكنية الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون (ذلولاً) استعارة حينئذ هي مدلول الضمير لا مصرح بها في النظم الكريم والمانع في الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه. (6)
وجمع المناكب تجريد للاستعارة لأن الذلول لها منكبان و الأرض ذات متسعات كثيرة. (7)
__________
(1) ينظر المصدر نفسه م6 29/ 3638.
(2) ينظر البحر المحيط 10/ 225 روح المعاني 29/ 14.
(3) ينظر التحرير والتنوير 29/32.
(4) ينظر في ظلال القرآن 6/ 3637.
(5) ينظر محاسن التأويل 16/ 244.
(6) ينظر روح المعاني 29/ 14-15.
(7) التحرير والتنوير 29/ 32.(1/48)
ولعل( مناكب) يوحي بمعانٍ أخرى وهو الميل كما جاء في اللسان شبه الميل وكما جاء في الصحاح: والنكب داء يأخذ الإبل في مناكبها فتظلع منه وتمشي منحرفة. وكما معلوم أنه يوجد ميل في محور الأرض بمقداره 23.5ْ ولولا هذا الميل لما نشأت الفصول الأربعة التي تترتب عليها دورة النبات وقد أشار الله تعالى في نهاية الآية (وكلوا من رزقه و إليه النشور).
الأرض كفات الاحياء والأموات: قال تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً ). (1)
الكفت في اللغة:قال الخليل (2) : الكًفْتُ: صرفُك الشّيء عن وَجْهه، نكْفِتُهُ فيَنَكْفِتُ، أي يَرْجع راجعاً. كَفَتَ يَكْفِتُ كِفاتاً وكَفاتاً . والكِفات من العَدْو والطَّيران كالحَيَدان في شدَّة. وكِفاتُ الأرض ظهرُها للأحياء وبَطْنُها للأموات ... والكفت: تقَليبُ الشَّيء ظهراً لبَطْن، وبطناً لظهْر. وكَفَّت إليك ولدَك، أي ضُمهَّم إليك .. وشدّ كفِيت أي سريع.
وذكر ابن فارس (3) أن الكاف والفاء والتاء أصلٌ صحيح، يدلُّ على جمَعٍ وضمّ. من ذلك قولهم: كفَتُ الشيءَ، إذا ضممتهَ إليك ... ويقال جِرَاب كَفيتٌ:أي لا يُضَيِّعُ شيئاً يُجعَلُ فيه ... والكَفْتُ:السَّوق الشديد؛لأنه يضم الإبل ضمَّا ويَسوقهُا، كما يقال يقَبضهُا. وسيرٌ كفيتٌ، أي سريع.
وفي الصحاح (4) : كَفَته ضَمّه إليه وبابه ضرب. وفي الحديث (أكْفتوا صبيانْكم بالليل فإن للشيطان خَطفةً) (5) والكِفات المَوْضع الذي يُكْفَت فيه شيء أي يضم ومنه قوله تعالى :(ألم نجعل الأرض كفاتا).
__________
(1) المرسلات / 25-26.
(2) العين (كفت) 5/340-341.
(3) مقاييس اللغة (كفت) 5/190-191.
(4) الصحاح (كفت) 1/263.
(5) ينظر صحيح البخاري رقم الحديث 3138 قال (واكفتوا صبيانكم ثم العشاء فإن للجن أنتشاراً وخطفة) 3/1205 وينظر مسند أحمد رقم الحديث 15206 3/ 0388 وينظر سن أبي داود رقم الحديث 3733 3/339(1/49)
وجاء في اللسان (1) : عن ابن سيدة ومنه قولهم للمنازل كِفاتُ الأحياء، وللمقابر كِفاتُ الأمواتِ.
وفي القاموس المحيط (2) : الكِفاتُ بالكسر: المَوْضِعُ يُكْفَتُ فيه الشيء، أي يُضَمُّ ويُجْمَعُ. و الأرض كِفاتٌ لنا.
وقال الراغب (3) : الكفت القبض والجمع، قال (ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وامواتاً) أي تجمع الناس أحيائهم وأمواتهم، وقيل تضم الأحياء التي هي الإنسان والحيوان والنبات والأموات التي هي الجمادات من الأرض والماء وغير ذلك.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
فسر أكثر المفسرين (4) قوله تعالى (كفاتاً) بالضم والجمع من كفت الشيء إذا ضم ومنهم (5) من فسر قوله تعالى كفاتاً بالوعاء تقول هذا كفت هذا وكفيته إذا كان وعاءه. وإنما المعنى ألم نجعل الأرض كفات أحيائكم وأمواتكم تكفت أحيائكم في المساكن والمنازل فتضمهم فيها وتجمعهم وأمواتكم في بطونها في القبور فيدفنون فيها وجائز إذ يكون عُني بقوله كفاتاً أحياءاً وأمواتاً تكفت أذاهم في حال حياتهم وجيفهم بعد مماتهم. وعن ابن عباس كفاتاً يقول كناً وعن الشعبي كفاتاً أحياء وأمواتاً قال بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم وقد ذكر الرازي (6) أن في معنى (كفاتاً) وجوه:
__________
(1) لسان العرب (كفت) 2-79.
(2) القاموس المحيط (كفت) 1/156.
(3) المفردات في غريب القرآن (كفت) 652.
(4) ينظر جامع البيان 29/236 الكشاف 4/1318 – 1319 التفسير الكبير 30/241 الجامع لأحكام القرآن 19/161 فتح القدير 5/358 روح المعاني 29/174 محاسن التأويل 17/21.
(5) ينظر جامع البيان 29/236 أنوار التنزيل 2/1122 البرهان في علوم القرآن 1/303.
(6) ينظر التفسير الكبير 30/241 وأسرار التنزيل وأنوار التأويل 248.(1/50)
الأول: أنها تكفت الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في بيوتهم والأموات يدفنون في قبورهم ولهذا المعنى كانوا يسمون الأرض أمّاً لأنها في ضمها الناس كالأمّ التي تضم ولدها وتكفله، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم.
والثاني: أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل من الأحياء من الأمور المستقدرة.
والثالث: أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج إليه الإنسان في حياته من مأكل ومشرب كل ذلك يخرج من الأرض، وأيضاً المساكن الجامعة للمصالح الدافعة للمضار منها.
الرابع: أن قوله أحياء وأمواتاً راجع إلى الأرض، فالحي ما أنبت والميت ما لم ينبت.
التفسير العلمي للآية:
يرى من (1) فسر الآية تفسيراً علمياً في قوله كفات إشارة لطيفة إلى جاذبية الأرض بلفظ معجز يفهمه عامة الناس بأنهم مكفتون في الأرض أي منضمون إليها ولا يستطيعون الإفلات منها ويفهمه المختصون بأن قوى الجاذبية هي التي تضم إلى الأرض وقال بعضهم (2) وهذا الضم والجذب هو الذي سماه العلماء بالحاذبية.
أما الدكتور محمد مختار عرفات فيقول إن الفعل (كَفَتَ) باللغة العربية يعني: الجمع والضم والسرعة بالعدو والطيران، مما يدل على ضم الأرض للأحياء والأموات وحركتها وسرعتها البالغة في حركاتها المتعددة. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
في قوله (كفاتاً) نجد أنه يحتمل عدة إعرابات أشار إليها المفسرون مما يجعل الآية تتحمل وجوهاً ومعاني كثيرة وما دام النص القرآني يتحمل عدة وجوه فلا مانع من حمله على تلك الوجوه ما لم تكن هناك قرينة تمنع من إرادة تلك المعاني.
__________
(1) ينظر تفسير الرحيم الرحمن في الإعجاز العلمي للقرآن 149.
(2) الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الأميري 42.
(3) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 76 .(1/51)
وقد أعرب قوله (كفاتا) مفعولاً ثانياً لنجعل بمعنى صير (1) و (كفاتاً) جمع كافت مثل صائم وصيام، قيل هو مصدر مثل كتاب وحساب، والتقدير: ذات كفت أي جمع. (2) وقيل هومصدر نعت به للمبالغة وقيل اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع. وهذه الأوجه توافق التفسير العلمي الحديث إذا عرفنا أن الكرة الأرضية هي التي تجذب هذه الأحياء والأموات بل يمكن وصف الأرض بالمصدر دلالة على المبالغة في كفت الأحياء والأموات فهي ذات كفات وهو ما وصل إليه العلم الحديث فالأرض جامعة فيها كل ما فيها من موجودات والمحافظة عليها بذلك الغلاف الجوي الذي يحيط بها من كل جانب ويمنع من الخروج والدخول إليه فهي كما قال أهل المعاجم حينما قالوا جراب كفيت أي لا يضيع شيئاً فالكفات الموضع الذي يكفت فيه شيء وكما فسر الراغب الكفت بالقبض والجمع وقد أحكمت الأرض قبضتها على كل ما فيها من الموجودات الحية وغير حية فلا يدخل فيها ولا يخرج إلا بإذنه تعالى.
كما دل هذا اللفظ على السرعة البالغة في حركاتها المتعددة ولم يفسر العلماء القدماء بهذا المعنى كما فسر به المحدثون لعدم معرفتهم بهذه الحركات السريعة والمتعددة فهذا اللفظ أعطى للآية مدلولات أوسع بقدر ما وصل إليه العلم الحديث.
أما قوله تعالى (أحياء وأمواتاً) فقد اختلف أهل العربية في الذي نصب أحياء وأمواتاً فقال بعض نحويي البصرة نصب على الحال وقال بعض نحويي الكوفة بل نصب ذلك بوقوع الكفات عليه كأنك قلت ألم نجعل الأرض كفات أحياء وأموات فإذا نونت نصبت كما يقرأ من يقرأ( أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة )وهذا القول الأخير أقرب إلى الصواب وأظهر عند الطبري (3) والآلوسي. (4)
__________
(1) مشكل إعراب القرآن 2/792.
(2) التبيان في إعراب القرآن 2/278.
(3) جامع البيان 29/ 238.
(4) روح المعاني 29/ 175.(1/52)
أما تنكير قوله أحياء وأمواتاً فهو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفتُ أحياء لا يعدون، وأمواتاً لا يحصرون. (1) وجوز بعضهم أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسو بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظراً إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه. (2) غير أن التفسير العلمي لا يحصر هذا التنكير بالإنس لأن الجاذبية تكفت جميع الموجودات الحية والميتة كما لا تحصر قوله تعالى أمواتاً بالحي الذي يموت بل هو كناية عما ينبت وما لا ينبت فالحي هو الذي ينبت والميت هو الذي لا ينبت كما ذكر الأخفش وأبو عبيدة والزركشي (3) ، ولم يحصر سياق الآية بأحياء الإنس وأمواتهم فلم يقل (الذي جعل لكم الأرض كفاتاً) بذكر (لكم) في خطاب الإنس كما وجدناه في بعض الآيات فاحتملت معاني أوسع مما لو ذكر الضمير وخصوصاً أن الجمادات لا تحس وتشعر كما في الأحياء ومما يؤكد أيضاً صحة إطلاق الميت على الجمادات نجد في بعض التفاسير (4) تفسير قوله تعالى (تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي) (5) لإخراج الأحياء من الجمادات لذا فقوله ميت هو كناية عن الجمادات فيخرج الزرع من الحب والحب من الزرع والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء.
أما إذا انتقلنا إلى أسلوب الآية فسوف نجد أسلوبها يحتج بما هو محس ومشاهد تتضح صورته أكثر وأدق بازدياد علمنا بتلك المشاهد المحسوسة لينتقل بنا إلى ما هو غيبي ونستدل بتلك الآيات على عظمة الخالق وقدرته وعلى ما سنلاقيه ما بعد الموت.
__________
(1) ينظر الكشاف 4/203 ،التفسير الكبير 30/241-242.
(2) روح المعاني 29/ 175.
(3) ينظر البرهان في علوم القرآن 1/303 وينظر الجامع لأحكام القرآن 19/161.
(4) ينظر تفسير القرآن الكريم 1/357.
(5) آل عمران /27.(1/53)
ومن الناحية الفنية وما يتعلق بهذه الآية يوضح لنا سياق السورة المتقدم مشهدا محسوسا لحفظ حياة الإنسان وهو في ذلك القرار المكيف الذي يحيط به من كل جانب وهو في تلك النشأة ومراحلها الدقيقة الموحية بالحكمة العليا التي تتولى كل شيء بقدره في إحكام مبارك جميل وذلك في قوله: ( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ *). (1)
ثم ينتقل إلى مرحلة تالية في الأرض التي تضم أبناءها إليها أحياء وأمواتا وقد جهزت لهم بالاستقرار (2) ، وكما قال الرازي كانوا يسمون الأرض أما لأنها ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله. (3) ولكن صورة هذا الضم والحفظ تزداد دقة واتساعاً بازدياد علمنا بعلوم الأرض فالأرض تحيط بالإنسان من جميع جوانبه بل هو في داخل ذلك الغلاف الجوي الذي تمسكه جاذبية الأرض كما كان محاطاً في مراحله الأولى بذلك القرار المكين (وجامعة له لما يحتاج إليه في حياته من مأكل ومشرب كل ذلك يخرج من الأرض الجامعة لمصالحه والدافعة للمضار). (4)
نقص الأرض من أطرافها:
قال تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ). (5)
وقال تعالى: ( بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ). (6)
الأطراف في اللغة:
قال الخليل (7) : أطراف الأرض نواحيها، الواحد طَرَف ومُنْتهَى كلَّ شيء طَرَفُه.
__________
(1) المرسلات / 20-23.
(2) ينظر في ظلال القرآن 6/3790.
(3) التفسير الكبير 30/772.
(4) ينظر المصدر نفسه 30/241.
(5) الرعد / 41.
(6) الأنبياء /44.
(7) العين (طرف) 7/ 414.(1/54)
وفي اللسان (1) : والطَرّف بالتحريك الناحية من النواحي والطائفة من الشيء جمع أطراف ... ابن سيده وطرف كل شيء منتهاه ... وطرف القوم رئيسهم والجمع كالجمع وقوله تعالى (أولم يروا أن نأتي الأرض ننقصها من أطرافها) قال معناه موت علمائها وقيل موت أهلها ونقص ثمارها الأزهري: أَطراف الأرض نواحيها، الواحد طرف ونقصها من أطرافها أي نواحيها ناحيةً ناحيةً، وعلى هذا فَسّر نقصها من أطرافها فتُوح الأَرضين ... وأَطرافُ الرجال: أَشرافهُم.
وفي المفردات للراغب (2) : طرف الشيء جانبه ويستعمل في الأجسام والأوقات وغيرهما.
أقوال المفسرين في الآيتين:
اختلف أهل التفسير في تفسير ذلك إلى أقوال: قال بعضهم أولم ير هؤلاء المشركون من أهل مكة الذين يسألون محمداً إنا (نأتي الأرض) فنفتحها له أرضا بعد أرض حوالي أرضهم أفلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها. وقال بعضهم: أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها: ذهاب فقهائها وخيار أهلها وعن مجاهد: موت الفقهاء والعلماء ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء.وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس قال أحدهما: لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك وقال الآخر لضاق عليك حش تتبرز فيه. وعن ابن عباس أنه نقص بركات الأرض وثمارها وأهلها وقيل ننقصها يجوز ولاتها وعن مجاهد نقصها من أطرافها قال الموت وأيضاً قيل أنها القرية تخرب حتى تبقى الأبيات في ناحيتها ويرى الطبري أن أولى الأقوال بالصواب هو القول الأول. (3)
النظرة العلمية:
هناك عدة نظرات لهاتين الآيتين:
__________
(1) لسان العرب (طرف) 9/ 216-218.
(2) مفردات في غريب القرآن (طرف) 451.
(3) ينظر جامع البيان 13/ 173 زاد المسير 4/339 الجامع لأحكام القرآن 9/333 تفسير القرآن العظيم 2/517 أنوار التنزيل 1/512 إرشاد العقل السليم 6/70 روح المعاني 13/ 173.(1/55)
الأولى: يقول علماء الفلك: أن الكرة الأرضية تفلطحت عند القطبين وانبعجت عند خط الاستواء بسبب سرعة دورانها حول نفسها، وأن جزيئات من الغازات والعناصر المحيطة بوسط الكرة الأرضية تنطلق بقوة الطرد المركزية إلى الخارج حول خط الاستواء مما يساعد على الانبعاج أي زيادة في شكلها عند خط الاستواء وتنقص في طرفي القطبين. (1)
الثانية: تأكد للعلماء الغربيين أن الأرض أخذت فعلاً تنقص من أطرافها المحاذية لمياه البحار والمحيطات، وقد استطاعوا أن يقيسوا ذلك في كل من اليونان وإيطاليا وبلجيكا ومصر والصين وهذا ناتج من ارتفاع مستوى سطح الماء في البحار والمحيطات وإن سبب هذا الارتفاع هو ذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي وبفعل زيادة درجة حرارة الكرة الأرضية والجو المحيط بها والناتج من زيادة غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات في الطبقات العليا من الجو المحيط بالكرة الأرضية.
__________
(1) ينظر الله والعلم الحديث 131 القرآن الكريم وإعجازه العلمي 80-81.(1/56)
وعزى العلماء ذلك إلى التلوث البيئي الذي حصل في جو الأرض بعد الثورة الصناعية والى الآن، وتأثيرات ذلك على طبقة الأوزون من جهة، والقضاء على مساحات كبيرة من الغابات والأشجار التي تلعب دوراً كبيراً في امتصاص هذا الغاز وتحويله إلى مادة غذائية للإنسان والحيوان وبمساعدة الشمس والماء والمادة الخضراء بفعل نظام متقن خلقه الله تعالى وشوهه البشر .. إن زيادة هذا الغاز يعني أنه يعمل كما تعمل الغرف الزجاجية التي تستخدم في الزراعة الحديثة مساحة لضوء الشمس بالدخول لإعطاء الحرارة والضوء الكافي للمحاصيل الصيفية في الشتاء، وكذلك خروج هذه الحرارة الزائدة عند الحاجة إلا أن وجود هذه الطبقة يعمل كالحاجز الذي يمنع الحرارة الزائدة من التسرب إلى الفضاء الخارجي فتنحسر هذه الحرارة مسببة ارتفاع درجة حرارة الأرض بشكل تراكمي، وهذا بدوره يسبب ذوبان الثلوج كما يسبب اضطراب مناخ الأرض وقلة الأمطار وازدياد التصحر وغير ذلك من النتائج البيئية الخطيرة، فيؤدي ذلك إلى ارتفاع منسوب مياه البحار والمحيطات فتنغمر الأراضي اليابسة القريبة منها، وهذا إعجاز قرآني بيئي. (1)
__________
(1) ينظر نظرة علمية للكتب السماوية 50-51، إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 114-115، المنظار الهندسي للقرآن الكريم 231-232.(1/57)
أما النظرة العلمية الثالثة وهي إزالة أجزاء من مرتفعات سطح اليابس: ويتم ذلك عن طريق المياه الجارية أو عن طريق الرياح أو عن طريق الجليد فمثلاً المياه الجارية تنحت في الصخور وقمم الجبال وتذيب أجزاء منها وتمر في الأنهار بلايين الأطنان سنوياً من قمم الجبال إلى البحار والمحيطات وقد وجد أن أنهار الولايات المتحدة الأمريكية تنقل فقط من المكسيك والمحيط الأطلسي (513.000,000 طن) من المواد الصخرية الذائبة وبحسبة بسيطة نستنتج أن المواد المنقولة تنقص ارتفاع الجبال (أطراف الأرض) (5000) قدم وترسبها في هوامش البحار لبناء جبال أخرى جديدة بنفس الارتفاع خلال 45 مليون سنة. (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
يرى بعض المفسرين أن الخطاب موجه إلى الكفار في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، كما فسر القدامى الأطراف حوالي مكة ويرى البعض الآخر أن هذه الآية تخاطب الإنسانية جمعاء (في كل زمان) لأن القضية العلمية التي تشير إليها الآية مخاطب بها الجميع، ولأن القضية الإيمانية التي تؤكدها الآية مخاطب بها الجميع أيضاً (2) ، ويقول سيد قطب في ظلاله: إن يد الله القوية بادية الآثار فيما حول الناس فهي تأتي الأمم القوية حيث تبطر وتكفر فتنقص من قوتها وتنقص من تراثها وتحصرها في رقعة من الأرض ضيقة بعد أن كانت ذات سلطان وامتداد كما يأتي الله أرض الإيمان فتزيدها شيئاً فشيئاً. (3)
__________
(1) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد السيد أرناؤوط 201.
(2) المصدر نفسه 201.
(3) ينظر في ظلال القرآن م4 13/2065.(1/58)
ومما يدلل على هذا أيضاً التعبير بالفعل المضارع (يروا، نأتي، يحكم، يرون، ننقصها) والأفعال المضارعة تعني كما هو معروف الاستمرار في الماضي والحاضر والمستقبل وهنا يفيد أن الإنقاص مستمر كما أشارت الآية. وهو ما يراه أهل التفسير العلمي أيضاً. (1)
أما قوله (أولم يروا) في سورة الرعد و (أفلا يرون) في سورة الأنبياء استفهام إنكاري، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً فهو اسلوب من أساليب اللغة العربية في الإنكار وإقامة الحجة على الخصوم.
أما الرؤية فقد ذكرنا سابقاً أيضاً أنه يجوز أن تكون بصرية والمراد هنا رؤية آثار النقص ويجوز أن تكون علمية، أي ألم يعلموا ما حل بأراضي الأمم السابقة من نقص. (2)
أما (ال) التعريف في الأرض فقد ذكر ابن عاشور أنه تعريف الجنس. أي نأتي أية أرض من أراضي الأمم وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازا، كما في قوله تعالى: (واسأل القرية) (3) بقرينة تعلق فعل النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها. (4)
وذكر ابن عاشور أيضاً أنه ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بالأرض أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد، وتكون الرؤية بصرية. (5)
أما أهل التفسير العلمي الحديث فالأرض التي يقصدونها هي الكرة الأرضية بأكملها فإذا كان المقصود من أطرافها قطبيها أو قمم الجبال تكون (ال) في، وهذه الحالة للعهد وأما إذا كان المقصود بالأرض القارات وأطرافها سواحلها فـ (ال) التعريف تكون للجنس.
__________
(1) ينظر نظرة علمية للكتب السماوية 52 المعارف الكونية بين العلم والدين 452.
(2) ينظر التحرير والتنوير 13/171.
(3) يوسف /82.
(4) ينظر التحرير والتنوير 13/171.
(5) المصدر نفسه الورقة نفسها.(1/59)
والأرض كما ذكرنا مجازاً عند القدماء أما على من فسر النقص نقصها من طرفي قطبيها أو غمر حافات القارات بالبحار والمحيطات أو قمم الجبال فيرى أن المراد باللفظ الأرض حقيقة الأرض وليس مجازا كما فسر به القدماء فالمفسرون القدامى لم يفسروا اللفظ على حقيقته لعدم تصورهم ذلك النقص كما ذكر بعضهم بقوله (لو كانت الأرض تنقص لم نجد مكاناً نجلس فيه). (1)
والحقيقة أنه يمكن حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز كما سماه الزركشي بالتضمين وقد ذكرنا ذلك سابقاً. وقد حمل المفسرون العلميون لفظ الأرض على المجاز أيضاً وذلك كما فسر القدماء بنقص بركات الأرض وثمارها والمتمثل حالياً بظاهرة ازدياد التصحر وغير ذلك من النتائج البيئية الخطيرة التي يرجع سببها إلى التلوث البيئي الذي قام به الغربيون بفعل مصانعهم دون أن يكترثوا بما سيصيب البيئة من مخاطر. كما أن لفظ الأطراف يمكن أن يحمل معنى الحافة كما نجد في عملية التصحر أو الطائفة من الشيء كما ذكر المعجميون ولا يحفى أثر الأمطار الحامضية بفعل المصانع على تلوث البيئة وموت النبات وكذلك المخاطر الصحية على الإنسان. فكل هذه المعاني يقع فيما على الأرض وليس على ذاتها .
__________
(1) ينظر جامع البيان 13/173.(1/60)
وقد عبر القرآن الكريم عن طرفي الأرض بالجمع بقوله (أطرافها) والواقع أن هذه اللفظة تقتضي فكرة عن شكل الأرض، فأي شكل هو؟ ... إن الأرض لا توحي صراحة بالشكل الخيطي في الفضاء أو بشكل مسطح أو مسدس أو مربع أو مثلث..الخ إذن أن أقل نتوء في مساحتها يوحي بداهة بفكرة الأبعاد الثلاثة، وبالتالي بشكل هندسي ممتد في الاتجاهات الثلاثة، ولكن جميع الأشكال الهندسية في الفضاء لا تتفق مع فكرة (الأطراف) فأقرب الأشكال إلى التصور- حين يأخذ في اعتبارنا اللفظ المكمل (إنقاص الأطراف)، وحين نساير معارف الهندسة الأرضية عن (دحو القطبين) فهذا التوافق الذي يخص شكل الأرض ودحو قطبيها، تلك الخاصة المساحية التي أثبتها العلم الحديث وقد ازداد وضوحاً حين أيدته الأفكار القرآنية الأخرى التي تتحدث عن الأرض .
وقد ذكرنا ذلك سابقاً. ويحتمل أن يكون النقص في ارتفاع الجبال التي هي أطراف الأرض العليا في جميع أنحائها. كما يمكن أن يعبر الجمع عن حوافي القارات الكثيرة.(1/61)
ويمكن القول أن كل هذه الوجوه التي ذكرها القدماء والمحدثون والعلماء الجيولوجيون والفلكيون قد احتملها النص القرآني وأعطى كل عصر حصة من هذه المعاني تساير زمانهم وما وصلت إليه علومهم وثقافتهم وما ذكره العلماء المحدثون ما هو إلا أحد المعاني التي كشفت عنها علومهم لتبين لنا عظمة القرآن الكريم (وقد فطن الصحابة السلف – رحمهم الله – إلى هذه الناحية فقد قال الإمام علي- رضي الله عنه- لعبد الله بن عباس حينما بعثه إلى الخوارج (ولا تخاصمهم بالقرآن، فإنه حمال ذو وجوه، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لم يجدوا عنها محيصاً) (1) وهذه الوجوه المحمول عليها معاني القرآن تعطي تجويزاً لتعدد الفهم والإحساس) (2) .
__________
(1) قال الرسول صلى الله عليه وسلم (القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه) ينظر سنن الدار القطني ، رقم الحديث (8) 4/144. وينظر الفردوس بأنور الخطاب: عن ابن عباس (القرآن ذو وجوه فاحملوه على احسن وجوهه) (4672) 3/228. وذكر ابن حيان قي صحيحه عنوان ذكر العلة التي من اجلها قال النبي صلى الله عليه وسلم وما جهلتهم منه فردوه إلى عالمه وقد أخرج حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله (ص) : (أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية ظهر وبطن) رقم الحديث 75 1/276.
(2) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / د. سيد الجميلي 26.(1/62)
الباب الثاني
الفصل الأول
الجبال في القرآن
الجبال لغة:
قال الخليل (1) : جبل: اسمٌ لكل وَتِدٍ من أوتاد الأرض إذ اعَظُمَ وطالَ من الأَعلامِ والأَطوارِ والشَّناخيبِ والأَنْضادِ. فإذا صَغُرَ فهو من الآكام والقِيرانِ.
وفي اللسان (2) : والجمع أَجْبُل وأَجْبَال وجِبال. وفي المصباح المنير (3) (قال بعضهم ولا يكون جبلاً إلا إذا كان مستطيلاً).
أما اصطلاحاً فقد جاء في الموسوعة البريطانية في تعريفها للجبال تحت مادة عمليات بناء الجبال حيث قالت: إن الجبل هو منطقة من الأرض مرتفعة نسبياً عما حولها. ثم تحدثت الموسوعة عن سلاسل الجبال وأنواعها المختلفة. وهكذا نجد أن الموسوعة قد اقتصرت في تعريفها للجبال على الشكل الخارجي فقط مغفلة تماما الجذر في هذا التعريف (4)
وبالمثل فإن دائرة المعارف الأمريكية (Emcyclopedia Americana) تعرف الجبل بأنه (جزء من سطح الأرض يرتفع على المستوى المحيطة به) وتضيف (وبصفة عامة يتضاءل ارتفاع الأطواف الجبلية على مراحل مارة بمرحلة التلال إلى المناطق المنخفضة التي تدعى السهول) (5)
والأغلب أن توجد هذه الجبال في مجموعات أو في صفوف إما في شكل حيد واحد مركب يعرف باسم الطوف الجبلي أو في سلسلة من الحيود المترابطة التي فيها المنظومة الجبلية وهي عدد من صفوف الجبال المترابطة من حيث الشكل والأصل. وتوجد بعض الجبال منعزلة، كما يختلف العلماء في تحديد ارتفاعه بأكثر من 310 متراً أو 620 متراً فوق مستوى سطح الأرض من حوله. (6)
__________
(1) العين (جبل) 6/136.
(2) لسان العرب (جبل) 11/96.
(3) المصباح المنير (جبل) 1/90.
(4) ينظر مجلة الإعجاز / مكة المكرمة / د. حسن باحفظ الله بعنوان (والجبال أوتادا) ع1ص48.
(5) ينظر المفهوم العلمي للجبال في القرآن الكريم/ زغلول النجار 28.
(6) المفهوم العلمي للجبال 26 ، 28.(1/1)
ووردت كلمة جبل بصيغة المفرد والجمع في القرآن الكريم 39 مرة، منها (6 مرات في صيغة المفرد و 33 مرة في صيغة الجمع) وجاءت الإشارة إليها بالتعبير (رواسي) في عشر آيات أخرى. (1)
وصف الجبال بالأوتاد:
قال تعالى: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ). (2)
الأوتاد لغة:
قال الخليل (3) : وتد: الوَتِدُ معروف، وجمعه أوتاد، وتقول: تِدْ يافلان وَتَْداً.
وفي اللسان (4) : الوِتَد بالكسر والوَتَد والود: ما رُزَّ في الحائط أو في الأرض من الخشب، والجمع أوتاد. وفي القاموس (5) (وأوْتادُ الأَرْضِ جِبِالُها).
أقوال المفسرين:
قال الطبريْ (6) : (والجبال أوتادا) والجبال للأرض أوتادا أن تميد بكم.
وقال الزمخشري (7) : والجبال أوتادا أي أرسيناها بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد. القرطبي (8) : (والجبال أوتادا) أي لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها.
أبو حيان (9) : (والجبال أوتادا) أي ثبتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد.
أبن كثير (10) : أي جعلها أوتاداً أرساها بها وثبتها وقررها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها. الشوكاني (11) : والأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتادا للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرسى الخيام بالأوتاد.
ومن هذا يتبين لنا أن أقوال المفسرين متقاربة.
النظرة العلمية في التفسير:
__________
(1) المصدر نفسه 31.
(2) نبأ / 6-7.
(3) العين (وتد) 8/55.
(4) لسان العرب (وتد) 3/444.
(5) القاموس المحيط (وتد) 1/343.
(6) جامع البيان 30/3.
(7) الكشاف 4/1321.
(8) الجامع لأحكام القرآن 19/171.
(9) البحر المحيط 10/ 384.
(10) تفسير القرآن العظيم 4/463.
(11) فتح القدير 5/ 364.(1/2)
لقد أكد العلم أن الجبال تعمل كمناطق جذب أو (مساكات) للقارات من الصخور السائلة التي توجد تحت القشرة الأرضية الصلبة ولولا جذور هذه الجبال المنغرسة في طبقات الجبال المسماة (السيما) لطفت القشرة إلى الخارج وانعدم توازن الأرض كما أن الجبال لها امتدادات عظيمة الشأن تحت (قارات) القشرة الأرضية ووجد أن سمك القشرة الأرضية تحت القارات 5 كيلو مترات، أما سمكها تحت الجبال فيصل إلى 35 كيلو متر وتتخذ فعلاً شكل الأوتاد. (1)
فكل نتوء فوق سطح الأرض له امتداد في داخلها يتراوح طوله بين 10 إلى 15 ضعف ارتفاعه فوق سطح البحر، فكلما كان الارتفاع فوق سطح الأرض كبيراً تضاعف الجزء الغائر في الأرض امتدادا إلى داخلها ليخترق الغلاف الصخري للأرض بالكامل، ويطفوا في نطاق الضعف الأرضي، وهو نطاق شبه منصهر، المادة فيه لدنة، عالية الكثافة، عالية اللزوجة، تطفو فيها الأوتاد كما تطفو جبال الجليد في مياه المحيطات، وتحكمها في ذلك قوانين الطفو، فكلما برت عوامل التعرية قمم الجبال، ارتفعت تلك الجبال إلى الأعلى حتى تخرج امتداداتها الداخلية من النطاق الضعف الأرضي بالكامل. (2)
فلولا جذور هذه الجبال لطفت القشرة فوق صخور الباطن اللينة (sima) ولانعدم توازنها وثباتها فوقها. ولولا انغراس الجبال في مواد السيما لتحركت الجبال والقارات من أماكنها نظراً لضآلة كثافتها ... وإذا طغت القارات وسبحت واضطربت الأرض تحت أقدامنا وحادت. (3)
__________
(1) ينظر الإعجاز العلمي للقران الكريم / محمد السيد أرناؤوط 189.
(2) المفهوم العلمي للجبال 18.
(3) المنظار الهندسي 221.(1/3)
وفي تشبيه الجبال بالأوتاد معلوم أن الأوتاد لا تنغرس وحدها في الأرض وإنما لا بد من قوة تعمل على تثبيتها في الأرض والجبال كذلك بواسطة قوة التثاقل بالضغط الرأسي. (1) فالأوتاد لا بد في إنشائها وتثبيتها من قوة ما، فالدق قوة من الأعلى إلى الأسفل لتثبيت الوتد في الأرض يناظره قوة التثاقل (الجاذبية) التي تؤدي إلى هبوط قشرة الأرض بتأثير ما عليها من رواسب تراكمت بمرور الزمن في أعماق القشرة وحتى الرداء. (2) كما أن الأوتاد تثبت الخيمة فوق رأس البدو والسياج بالاستعانة بالعماد المقام في مركزها بالمثل فالجبال كتلتها الهائلة قد زادت عن كتلة الأرض بالدرجة التي جعلتها تحتفظ بسماء الغلاف الجوي بالجاذبية الأرضية التي تعمل عمل العماد ولكنها غير مرئية، ويعتقد منصور حسب النبي أنه لولا وتدة الجبال لهرب الهواء الذي يمثل الخيمة الجوية التي نستظل تحتها من حرارة الشمس والشهب والإشعاعات الضارة. (3)
كما أن أثقال هذه الجبال تحفظ توازن الأرض فلا تتزعزع ولا تضطرب وقد أشار إلى ذلك العلم الحديث عندما قرر العلماء أن أي ثقل على سطح الأرض يؤثر على دورانها وله دور في تحقيق توازنه كالجبال والبحار والهواء، بل أن كل ما حدث تشهده الأرض فوق سطحها أو تحتها كانتقال مادة من محل إلى آخر يكون له تأثير على سرعة دورانها. (4) والجبال هنا هي الأوتاد التي تمنع قشرة الأرض من المَيَدَان أي الترنح والاهتزاز أثناء حركتها. (5)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) المصدر نفسه 221.
(2) الرداء :الطبقة الأرضية التي تلي قشرة الأرض .ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 312.
(3) المعارف الكونية بين العلم والدين 312.
(4) ينظر مع الله في السماء 82 و القرآن يفك لغز الأرض 43.
(5) المعارف الكونية بين العلم والدين 309.(1/4)
(والجبال أوتادا) عطف على (الأرض مهاد) فالواو عاطفة (الجبال) على (الأرض) وعاطفة (أوتاد) على (مهاد) وهذا من عطف على معمولي عامل واحد وهو وارد في الكلام الفصيح وجائز باتفاق النحويين لأن حرف العطف قائم مقام العامل. (1)
وفي قوله تعالى (والجبال أوتادا) تشبيه بليغ (2) وهذا التشبيه المحذوف منه أداة التشبيه يسميه علماء البيان من أجل ذلك التشبيه البليغ، لأنه يجعل المشبه عين المشبه به توكيدا للشبه الشديد بينهما ينبغي أن يكون في ذلك هادياً إلى أطراف المعنى من ناحيته، من ناحية الدلالة على القدرة وكما لها، ومن ناحية الهداية إلى الحكمة وجلالها. وأطراف المعنى إنما تتبين من تعدد أوجه الشبه بين الجبال والأوتاد، تعددا يدل على مجاوزته المألوف في كلام الناس إذا بالغوا في تشبيه. إن التشبيه البليغ هنا هو من قبل الله سبحانه، ثم هو تشبيه للأعلى بالأدنى، وللفخم الرائع بالضئيل الممتهن عند الناس، فليس هو شيء من تهويل الناس ومبالغتهم في تشبيهاتهم البليغة، ولكنه دليل إلى أمور في الجبال هي من آيات الله في الخلق، تناظرها أمور يعرفها الناس في الأوتاد على عظم الفرق بين الجانبين في النسبة والمقدار. (3)
__________
(1) التحرير والتنوير 30/ 14 .
(2) ينظر روح المعاني 30/6 التمرير والتنوير 30/15.
(3) الإسلام في عصر العلم 286.(1/5)
فكأن ذلك التشبيه العجيب مفتاح أو مصباح يستكشف به المجهول من أمر الجبال، عن طريق المعروف من نظائر لها في الأوتاد. والجبال فيما يتبادر إلى الذهن تشبه الأوتاد من ناحية البروز عن سطح الأرض، وناحية الرسوخ فيها، لكن التشابه والتناظر بينهما أشمل وأدق من هذا. (1) كما وجدنا في النظرة العلمية لهذه الآية من جوانب كثيرة. كما يختلف هذا التشبيه كل حسب زمانه وعلمه فالصورة التي يتخيلها العامي غير الصورة التي يراها العالم وعالم الجغرافية لا يراها كما يراها عالم الفلك فالألفاظ القرآنية قد وضعت وضعاً بحيث أن لكل كلام بل لكل كلمة بل لكل حرف بل حتى السكون أحياناً وجوهاً كثيرة جداً، تمنح كل مخاطب حظه ونصيبه من أبواب مختلفة، كما يشير إلى ذلك الحديث الشريف أن لكل أية ظهرٌ وبطن وحدٌ ومطلعٌ ، ولكل شجون وغصون وفنون. (2)
__________
(1) المصدر نفسه 286.
(2) (أنزل القرآن على سبعة أحرف) رواه احمد والترمذي عن أبي رضي الله عنه وأحمد عن حذيفة، وهو عند الطبراني من حديث ابن مسعود بزيادة ... وفي رواية أخرى عنده: لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل مطلع (باختصار عن كشف الخفاء 1/209). ولكل حد مطلع، أي:لكل حد مصعد يصعد إليه من معرفة علمه (لسان العرب) وينظر المعجزات القرآنية 58.(1/6)
وفي قوله تعالى (والجبال أوتادا) نجد لفظ هذه الآية تحمل وجوهاً للمخاطبين فالعامي حصته منها أنه يرى الجبال كالأوتاد المغروزة في الأرض كما هو ظاهر أمام عينيه، والشاعر حصته منها أنه يتخيل الأرض سهلاً منبسطاً وقبة السماء عبارة عن خيمة عظيمة ضربت على الأرض وزينت الخيمة بمصابيح وأن الجبال تتراءى وهي تملأ دائرة الأفق وتمس قممها أذيال السماء وكأنها أوتاد تلك الخيمة العظيمة، والبدوي يتصور سطح الأرض كالصحراء واسعة وكأن سلاسل الجبال سلسلة ممتدة لخيم بأنواع شتى والجغرافي يرى كرة الأرض عبارة عن سفينة تمخر عباب بحر المحيط الهوائي وأن الجبال أوتاد دقت على تلك السفينة للتثبيت والموازنة ..) (1) وهكذا . وإذا عدنا إلى التشبيهات العلمية على وجه الخصوص نجد لفظ الأرض يختلف معناه حسب التشبيه المراد تصويره فيمكن أن يراد بالأرض القارات فتكون أل التعريف في الأرض جنسية وأن هذه الجبال كالأوتاد تثبت هذه القارات كي لا تميد بأهلها ويمكن أن يراد بالأرض الكرة الأرضية السابحة في الفضاء فتكون أل التعريف هنا للعهد (فالعلم الحديث أثبت أن للأرض قشرة تمسك جوفها المشتعل وهذه القشرة لن تمسك شيئاً لولا ثباتها وتماسكها الذي لا يأتي إلا بالجبال التي تفعل فعل الأوتاد والمسامير، وتحافظ على توازن القشرة الأرضية التي هي بدورها ميزان دقيق وحساس مركب) (2) فكثير من الجبال تتكون من اصطدام قارتين أو انزلاق قاع المحيط تحت القارة وباستمرار تحرك قاع المحيط تحت القارة يكشط المزيد من الرسوبيات البحرية بالتدريج عن اللوح الهابط وتضاف إلى سلسلة الجبال المتكونة فوق طرف القارة. (3)
__________
(1) المعجزات القرآنية 59 ، إعجاز القرآن اللغوي في فكر النورسي 19.
(2) وجوه من الإعجاز القرآني / 155.
(3) ينظر المفهوم العلمي للجبال 65-71..(1/7)
فالمقصود من الأرض هنا جميع القارات فوق غلافها الصخري وقيعان المحيطات لأن تلك الألواح الصخرية تطفو في نطاق الضعف الأرضي وبدوران الأرض حول محورها تنزلق تلك الألواح عليه بسرعة فائقة يعين عليها اندفاع الصهارة الصخرية عبر صدوع الأرض ... وإن هذه الجبال تعمل على تثبيت الغلاف الصخري بقوة ... وتثبيت تلك الألواح الصخرية في مكانها بالاتجاه إلى الأسفل فتطفو في نطاق الضعف الأرضي ... ولتثبيت الكوكب ككل. (1)
كذلك أخذ بعض المفسرين العلميين في استنباط معاني وصور جديدة من ذلك التشبيه القديم بالخيمة وهو التصور العربي الأصيل لكي تكتمل الصورة عنده وتتوضح معالمها أكثر من الاقتصار على صورة الوتد دون معرفة الفائدة منه في هذه الصورة القديمة وهو حفظ هذه الأوتاد للغلاف الجوي الذي يشبه بالخيمة الحافظة كما ذكر منصور حسب النبي. وهنا يمكن القول أن كل هذه المعاني والصور التي ذكرناها تمكن النص القرآني بلفظين (والجبال أوتادا) من اختزانها وما زال النص مفتوحاً للأجيال اللاحقة يُستكشف منه إلى يوم القيامة وهذا من إعجاز البياني إضافة إلى إعجازه العلمي.
أما من الناحية الأسلوبية فقد بدأ هذا النسق نسقاً معنوياً جديداً نسق الجدل بدل التقرير – تغير النظام هكذا (ثم كلا سيعلمون ... ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا وخلقناكم أزواجا..) ليلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم وأنفسهم من تلك الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون والذي هو وهم به يوم يعلمون. (2)
إرساء الجبال:
قال تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (3)
معنى الرسو في اللغة:
__________
(1) ينظر المصدر نفسه 29- 30، 50.
(2) ينظر النبؤة والإعجاز في القرآن والسنة 71 وينظر في ظلال القرآن 6/3802.
(3) النازعات /32.(1/8)
قال الخليل (1) : رسا الجبلُ يرسو، إذا ثبت أصله في الأرض ورست السفينة انتهت إلى قرار الماء، فبقيت لا تسير. والمِرْساةُ : أَنْجرٌ يُشَدُّ بالحبِال فيُرْسَلُ في البحر فيمسِك بالسَّفينة ويرُسيها فلا تَسِيرُ.
وذكر أبن فارس (2) : أن الراء والسين والحرف المعتل أصل يدل على ثبات تقول رَسا الشيء يرسو، إذا ثبت. والله جل ثناؤه أرسى الجبالَ، أي أثبتها. وجبلٌ راسٍ: ثابتٌ.
وفي الصحاح (3) : الرواسي من الجبال الثوابت الرواسخ واحدتها (راسية).
وجاء في اللسان (4) : رَسَا الشَّيء يَرْسُو رُسُوّاً وأَرْسى: ثَبَتَ، وأَرْساه هو.
قال ابن بري: يقال أرْسَيْتُ الوَتِدَ في الأرض إذا ضَرَبْته فيها ... والجبال الرواسي والرَّاسيات: هي الثَّوابِتُ ... ابن الأعرابي: الرَّاسِيُّ الثابت في الخير والشر. والرُّسي: العمود الثابت في وسَط الخِباء.وفي مفردات الراغب (5) : يُقال رسا الشيء يرسو ثبت وأرساه غيره.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
ذكر أكثر المفسرين أن معنى أرساها أثبتها في الأرض.
قال الطبري (6) : وقوله (والجبال أرساها) يقول والجبال أثبتها فيها.
__________
(1) العين (رسا) 7/ 290.
(2) مقاييس اللغة / رسا 2/394.
(3) الصحاح (رسا) 6/2356.
(4) لسان العرب (رسا) 14/ 321-322.
(5) المفردات في القرآن الكريم (رسا) 285.
(6) جامع البيان 30/47.(1/9)
وقال الزمخشري (1) : وإرساء الجبال وإثباتها أوتادا لها حتى تستقر ويستقر عليها.وذكر ابن كثير (2) حديث عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق الجبال ... الخ). (3) والى هذا ذهب أيضاً أبو السعود (4) قال: أرساها أي أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها.
النظرة العلمية والتفسير العلمي لهذه الآية:
ذكر المفسرون العلميون أن معنى إرساء الجبال تثبيتها وقد مر ذلك سابقاً في قوله تعالى: (والجبال أوتادا)، (ولكن الفعل أرسى يستعمل أيضاً كما تعلم في إرساء السفن. وأوضحت القياسات الجيوفيزيائية حديثاً أن للجبال جذورا صلبة مغمورة في منصهر لزج من مادة الرداء تحت القشرة ... لذا فالجبال ترسو تماماً كما ترسو السفينة) (5)
__________
(1) الكشاف 4/1327.
(2) تفسير القرآن العظيم 4/470.
(3) حديث رقم 11805 في مسند أحمد بن حنبل. وفي جامع الترمذي حديث رقم 3291 جاء في مسند احمد (لما خلق الجبال جعلت تميد فخلق الجبال فعاد بها عليها فاستقرت) وفي صياغة الترمذي (فلما خلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت).
(4) إرشاد العقل السليم 9/102.
(5) المعارف الكونية بين العلم والدين 313.(1/10)
ويقول العالم الجيولوجي (أ. فيشر): أن البحث العلمي يدل على أن تحت القشرة الأرضية سائل مادته أثقل من مادتها. (1) فالجبال تطفوا فوق هذا السائل وتنطبق عليها قوانين الطفو لأرخميدس فكثافة ذلك المنصهر أعلى من كثافة صخور الجبل، كما نجد كثافة ماء البحر أعلى من متوسط كثافة السفينة (أي من خارج قسمة وزن السفينة على حجمها) وإلا لما طفت السفينة، فإلى هذا الحد من الدقة الشبه بين إرساء الجبال وإرساء السفن وصدق الله تعالى بقوله :(والجبال أرساها) وقوله سبحانه: ( وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ) (2) أي له السفن العملاقة الجارية الطافية في البحر كالجبال الرواسي أي تطفو أيضاً بل وتتحرك. (3)
وهناك إشارة أخرى بالنسبة للجبال الرسوبية التي ثبت علمياً نشئتها أولاً في البحار قريباً من الشواطئ والمصبات والأنهار التي تحمل الطمى والرمل وغيرها من الرواسب إلى البحار لترسب فيه طبقات بعضها فوق بعض، حتى إذا تراكمت وعظم سمكها عبر حقبة طويلة من الزمن، رفعها الله بقوى من تحتها ومن جانبيها لتصبح جبالاً شاطئية ذات طبقات رسوبية واضحة بعد رفعها، نتعرف عليها الآن بما نكتشفه من مواقع وحفريات بحرية مطمورة في صخورها مما يدل على نشأتها الأولى في البحار القديمة، وتطل علينا الآن كالسفن الراسية بقوله عز من قائل:(والجبال أرساها) لتشير إلى نوعي الجبال سواء كانت جبال نارية أو رسوبية. (4)
__________
(1) الإسلام في عصر العلم 293.
(2) الرحمن / 24.
(3) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 314، مفهوم العلمي للجبال 44، هندسة النظام الكوني 166-167.
(4) المعارف الكونية بين العلم والدين 314. وينظر هندسة النظام الكوني 166-167.(1/11)
وهناك جبال أخرى تتكون من رسوب الجبال النارية (فكلما جرفت عوامل التعرية قمم الجبال، ارتفعت تلك الجبال إلى الأعلى حتى تخرج امتداداتها الداخلية من نطاق الضعف الأرضي بالكامل، وحينئذ تتوقف الجبال عن الحركة). (1) والجبال الالتوائية ذات أصل رسوبي نشأت طبقاتها أول ما نشأت في البحر قريباً من شواطئ القارات مما كانت تحمله الأنهار من قمم الجبال الأولى النارية وسفوحها من طمى ورمال ومعادن (ومواد عضوية تحللت بعد طي الجبال وكونت البترول والغاز) ثم ترسبها على شكل طبقات بعضها فوق يعض ... حتى إذا تراكمت وعظم سمكها في الحقب الطوال خفض الله جذورها في الطبقة اللينة بقوى الثقل، وانحصرت بين الكتل القارية النارية القديمة الصلبة الزاحفة زحفاً جانبياً فالتوت التواءً وانطوت انطواءً وانضغطت انضغاطاً وبرزت بروزاً في شكل سلاسل جبلية عظمى حديثة التكوين وهذه الجبال راسية على شواطئ البحار. (2)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
الفعل أرسى معناه ثبت (بتشديد الباء) وعلى هذا المعنى أقتصر أهل التفسير. لكن الفعل يستعمل أيضاً في التعبير عن إرساء السفن مما يشير إلى أن الجبال استقرت ورست على الأرض كما رست السفينة واستقرت في مرساها بتوازن القوى المؤثرة عليها. (3) ومن هنا يمكن تحمل هذا اللفظ لتلك المعاني. وفي هذه الآية استعمل اللفظ على معنييه.
وتدل الآية أيضاً بالفعل (أرسى)، المسند إلى الضمير الجلالة إلى أنواع من الجبال فالناري الراسخ بجذوره في الطبقة اللينة والرسوبي والإلتوائي الراسيات على شواطئ البحار كما ترسوا السفينة عند الشاطئ. (4)
__________
(1) مفهوم العلمي للجبال 18.
(2) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 319-320.
(3) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 319-320.
(4) ينظر المعارف الكونية 314 الإسلام في عصر العلم 294 هندسة النظام الكوني 169.(1/12)
ويرى أبن عاشور (1) أن وصف الجبل بالرسو حقيقة كما في الأساس (2) ، قال السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم يذكر حبلهم:
رَسا أصله فوق الثرى وسابه إلى النجم فَرع لا يُنال طويل (3)
والذي يبدو من كلام ابن عاشور (4) حمل الرسو على المعنى الأول وهو الثبات على الرغم من أنه يشبه الجبال بالسفينة الراسية لأن عنده رسو السفينة هو ثباتها ولكن المعنى أيضاً يتحمل أن يكون الرسو بمعنى الواقف على سائل منصهر كما تقف السفينة على الماء وأيضاً على كثافة صخور الجبل أقل من كثافة السائل المنصهر التي تطفو عليه إضافة إلى قوى التوازن فكلما خف ثقل الجبل بعوامل التعرية رفع الجبل إلى الأعلى وكل هذا يدل تشبيه الجبل بالسفينة الراسية إضافة إلى تكون بعض الجبال قرب الشواطئ وهو المكان الذي تقف فيه السفن.
وقد أشار أبن عاشور (5) إلى أن من معنى إرسائها: أنها جعلت منحدرة ليتمكن الناس من الصعود فيها بسهولة كما يتمكن الراكب من ركوب السفينة ولو كانت في داخل البحر ما تمكن الراكب من ركوبها إلا بمشقة.
ويرى الطبري (6) أن في قوله تعالى (والجبال أرساها) ثبتها فيها وفي الكلام متروك استغنى بدلالة الكلام عليه من ذكره وهو فيها وذلك أن معنى الكلام (والجبال أرساها فيها).
__________
(1) التحرير والتنوير 30/88.
(2) أساس البلاغة 232.
(3) ديوانا عروة بن الورد والسموأل 63.
(4) التحرير والتنوير 30/88.
(5) التحرير والتنوير 30/88.
(6) جامع البيان 30/47.(1/13)
أما في التفسير العلمي الحديث فنجد أن تقدير هذا الحذف وهو فيها سوف يقصر المعنى على الثبات والرسوخ في الأرض وكما رأينا أن الفعل أرساها يدل على الرسو في المنصهر وغيرها من المعاني التي ذكرناها وهكذا نجد أن التعبير القرآني يشير على معان عدة تدل على دقة التعبير القرآني وأعجازه العلمي والبلاغي كما ذكر حنفي أحمد أنه من دقة التعبير القرآني اختلاف صيغة قوله تعالى :(والجبال أرساها) عن قوله (وأخرج منها ماءها ومرعاها) وهي الآية التي قبلها فلم يقل (وأرسا منها جبالها) كما قال في الآية التي قبلها لئلا يفهم منه أن الجبال الأولى المرساة بعد تمام الخلق كانت جميع الجبال المنشأة في سطح الأرض ومنها الجبال الحالية. ففي قوله أخرج منها ماءها ومرعاها قصد به أنه كوَّن من الأرض وأخرج إلى سطحها جميع الماء والمرعى اللازمين لسكانها والمختصين بها. أما الجبال التي أرساها عليها بعد تمام تجميد سطحها فلم تكن جميع الجبال التي أنشأها عليها بل كانت الجبال الأولى فحسب. (1)
ومن هنا يمكن القول أن القرآن عبر عن هذه المعاني التي ذكرنا وعن أنواع الجبال وغيرها من الأوصاف بلفظين وهو قوله تعالى: (والجبال أرساها) وهذا من إعجازه العلمي والبلاغي الذي تمكن بهذا اللفظ الموجز أن يختزن جميع هذه المعلومات التي لم تكتشف إلا بعد عصور من نزوله.
الجبال رواسي الأرض لئلا تميد:
__________
(1) التفسير العلمي للآيات الكونية 324-325.(1/14)
قال تعالى: ( وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ). (1) وقال تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) (2) وقال تعالى: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ). (3)
... ... ... ... ... ... ... ... ...
معنى الإلقاء في اللغة:
قال الخليل (4) : واللَّقى: ما أَلْقى الناس من خرقة ونحوِه.
وقال ابن فارس (5) : ألقيته: نبذته إلقاءً. والشَّيء الطريح لقنً.
وفي الصحاح (6) : وألقيتُه طرحتهُ تقول ألْقِه من يدك وألْق به من يدك.
وفي اللسان (7) : وألقى الشيء: طرحه .. واللقي كل شيء متروك كاللُّقطة. والألقية : ما ألقي.
أما الميد في اللغة:
ذكر الخليل (8) : أن المَيْد هو الذهاب والمَجيء والاضطراب. ومادَتِ المرأة: ماسِت وتبخترت كما يَميد الغُصْن.
وقال أبن فارس (9) : المَيْد: التحرك. وماد يميد. ومادت الأغصان تميد: تمايلت. قال أبو بكر: وأصابه مَيْد ، أي دوار عن ركوب البحر ... وذهب بعضُ المحققين أن أصل مَيْد الحركة.
__________
(1) النحل / 15.
(2) الأنبياء / 31.
(3) لقمان / 10.
(4) العين (لقي) 5/216.
(5) مقاييس اللغة (لقى) 5/260.
(6) الصحاح (لقي) 6/2484.
(7) لسان العرب (لقي) 15/256.
(8) العين (ميد) 8/89.
(9) مقاييس اللغة (ميد) 5/288.(1/15)
وجاء في اللسان (1) : ماد الشيء يمتد زاغ وزكا – وماد الشيء يَميدُ مَيْداً: تحرك وفي الحديث (2) : لما خلق الله الأرض جعلت تميد فأرساها بالجبال: وفي حديث أبن عباس فدحا الله الأرض فمادت. وفي حديث علي: فسكنت من الميدان برسو الجبال، وهو يفتح الياء، مصدر ماد يميد. وفي حديثه أيضاً يذم الدنيا: فهي الحَيُود المَيُود، فعول منه ... والميد ما يصيب من الحيرة من السكر والغثيان أو ركوب البحر ... وقال أبو العباس في قوله (أن تميد) فقال: تَحَرَّك بكم. وتزلزل ... . وفي حديث أم حرام: المائد في البحر له آجر الشهيد؛ هو الذي يدُار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج.
أقوال المفسرين في هذه الآيات:
ذكر أكثر المفسرين (3) أن معنى الرواسي الثوابت وقوله تعالى (أن تميد بكم) أي لئلا تميد بكم ولا تتحرك ليتم القرار عليها أو كراهية أن تميد بكم.
وقال الطبري (4) : وبنحو الذي قلناه في ذلك قال أهل التأويل فعن مجاهد أن تميد بكم أن تكفأ بكم.. وقال قتادة سمعت الحسن يقول: (ما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا ما هذه بمقرة على ظهرها أحد فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال).
وذكر أبو السعود (5) أن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة حقيقية بسيطة الطبع وكان حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحرك بأدنى سبب محرك فلما خلق تفاوتت حافاتها وتوجت الجبال.
__________
(1) لسان العرب (ميد) 3/411-412.
(2) ينظر سنن الترمذي رقم الحديث 3369 5/454 وينظر مسند احمد رقم الحديث (12275) 3/124.
(3) ينظر جامع البيان 14/89 تفسير البغوي 2/64 زاد المسير 4/435 الجامع لأحكام القرآن 11/285 أنوار التنزيل 1/543 إرشاد العقل السليم 5/103.
(4) جامع البيان 14/89.
(5) إرشاد العقل السليم 5/103.(1/16)
وأورد الآلوسي (1) قول ابن عباس حيث قال: إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها .
وقال الآلوسي في موضع آخر (ووجه كون الإلقاء مانعاً عن اضطراب الأرض بأنها كالسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم تكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها الأجرام الثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة.. ويجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها ولا يأبى ذلك الشعور بحركتها عند احتقان البحار فيها). (2)
النظرة العلمية في التفسير:
ذكرنا سابقاً تثبيت الأرض بالجبال بواسطة قوة التثاقل بالضغط الرأسي ولولا انغراس الجبال في مواد السيما لتحركت الجبال والقارات من أماكنها وطغت القارات وسبحت واضطربت الأرض تحت أقدامنا وأن أثقال هذه الجبال تحفظ توازن الأرض فلا تتزعزع ولا تضطرب وأن أي ثقل على سطح الأرض يؤثر في دورانها وله دور في تحقيق توازنه وأيضاً أي ثقل تشهده الأرض فوق سطحها أو تحته له تأثير على سرعة دورانها.
والتوازن كائن في اختلاف الكثافة، فالجبال على ارتفاعها يقابل في الطرف الآخر في أعماق المحيطات طبقات شديدة الكثافة وبالتالي لا بد من بروز هذه الجبال لتحفظ التوازن مع الطبقات الصخرية الكثيفة. (3)
فقشرة الأرض ميزان دقيق وحساس فكل مكان فيها متزن مع الآخر، والمعروف أن الميزان الدقيق فيه الكفتان تماماً ويظل هذا الاتزان قائماً ما دامت الأثقال التي على إحدى الكفتين تساوي التي على الكفة الأخرى. فإذا تغير الثقل على إحدى الكفتين اضطربت هذه الكفة وتأثرت المقابلة لها حتماً. (4)
__________
(1) روح المعاني 14/ 29.
(2) روح المعاني 14/114.
(3) كوكبنا نابض بالحياة 60.
(4) الله والكون /222.(1/17)
وهناك تحليل آخر قريب من هذا في مؤداه وهو أن الأرض في دورانها المستمر حول نفسها لها محور ثابت، ومعلوم أن الجسم المتماثل في الكتلة لا يضطرب إذا دار حول المحور، والأرض لا تضطرب ولا تميد في دورانها فلا بد طبقاً لذلك أن أي مستوى يقطع الأرض ماراً بمحور التماثل بأنه يقسم الجسم إلى قسمين متماثلين في الكتلة لكل جزء من أحد القسمين نظير القسم الأخر يساويه في الكتلة والوزن لا في الهيأة والحجم. (1)
وأيضاً تدور الأرض ومعها القمر الوحيد التابع لها حول مركز ثقليها المشترك (الموجود تحت القشرة الأرضية على بعد 1700كم من مركز الأرض) مرة كل شهر قمري، ولهذا فإن مركز ثقل يتأرجح في مدة شهر قمري بمقدار بسيط حول مستوى البروج، ولولا ثقل الجبال عليها لمادت وترنحت بسبب تحركاتها المختلفة. (2)
وهناك نوع من الجبال تدعى بالجبال البركانية هي أبسط أنواع الجبال المعروفة، وتكون عادة على شكل قمم معزولة، تكونت من تراكم الطفوح البركانية المتدفقة وفتات الصخور البركانية وغيرها من الصخور المقذوفة عبر فوهات البراكين، والتي ربما تراكمت بسرعة (في سنوات قليلة) أو ببطء (على مدى آلاف السنين). (3) فهذه الجبال البركانية تتكون من مقذوفات البراكين التي ترتفع من فوهتها ثم تسقط على جوانبها، وبهذا يلقيها الله إلقاءً. (4)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر الإسلام في عصر العلم /300 والأرض في القرآن الكريم 99.
(2) المعارف الكونية بين العلم والدين 92.
(3) المفهوم العلمي للجبال 55.
(4) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 315-316.(1/18)
لقد جاء التعبير في هذه الآيات إما بالفعل (جعل) أو الفعل (ألقى) وبالفعلين جاء التعبير عن خلق الجبال. والدلالة في (جعل) عامة تشمل أنواع الجبال كلها. لكن الدلالة في ألقى أخص منها في جعل وقد لاحظنا ذلك في المعاجم اللغوية فهو يقيد معنى الطرح والنبذ وكل شيء متروك ملقى. وقد لاحظ ذلك أيضاً ابن عطية فيما ذكر أبو حيان عند تفسير آية النحل إذ نقل عنه قوله :((قال المتأولون (ألقى بمعنى خلق وجعل)، وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن (ألقى) تقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض ولكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا ما روي في القصص)). (1)
وقد أحسن في التنبيه إلى أن (ألقى) أخص من جعل، ولكنه لم يكن يعرف أن الجبال أنواع مختلفة النشأة وأن الفعل (ألقى) ينطبق تماماً على نشأة الجبال الرسوبية التي تلقيها الأنهار إلقاءً في البحار على مراحل زمنية حتى إذا تراكمت رفعها الله بأمره جبالاً شاطئية إضافة إلى ذلك يشير الفعل ألقى إلى الجبال البركانية التي تتكون من مقذوفات البراكين كما ذكرنا سابقاً. (2) وبهذا نجد الفعل يشير إلى أنواع من الجبال دون غيرها وقد أختار سبحانه الفعل (ألقى) لبيان تكوين هذه الأنواع بتعبير دقيق وكما أشار إليه العلم الحديث.
__________
(1) ينظر المحرر الوجيز 8/387.
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 294-295 وينظر المعارف الكونية 315-316.(1/19)
وقد عبر القرآن الكريم بالفعل (ألقى) في قوله تعالى :( وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ) (1) ، ومن هنا يدل على أن الفعل يعبر به عما يخرج ما في داخل الأرض إلى خارجها وهو ما ينطبق على إلقاء الجبال البركانية ما في داخل الأرض من مواد ومعادن منصهرة إلى خارجها. وكذلك يدل الإلقاء على طرح ونبذ الأشياء المتروكة وهو ما عبر به عن الصخور والمواد المتفتتة من قمم الجبال والطمى المنبوذة في الشواطئ والبحار والتي منها تكونت الجبال الرسوبية. وفي كلتا الحالتين يصور لنا القرآن كيفية تكون الجبال وثباتها على الأرض وهذا التصوير بدوره يختلف عما ذكره في قوله تعالى :( وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) (2) فلا يشترط هنا أن يكون تحت كل جبل جذراً يغوص في الطبقة اللينة كما قال البعض (3) فهذه (الجبال البركانية ليس لها جذور غائرة في داخل الغلاف الصخري للأرض) لأنها في الحقيقة صورة مغايرة للجبال التي تمتد بجذور عميقة من مادة الجبال الخفيفة نسبياً في داخل صخور ذات كثافة أعلى نسبياً، فالجبال البركانية تمثل جذور معاكسة (Anti-Roots) حيث تندفع بصخورها البركانية. (4)
كما لا تمثل قوله: (أرساها) بمعنى تشبيه إرساء السفينة على الشاطئ في قوله ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (5) (لتكون هذه الجبال من مواد أعلى كثافة من الصخور المحيطة بها) (6) فهي لا ترسوا كما ترسو السفينة التي هي أقل كثافة بالنسبة إلى الماء فتطوف عليها. إلا أنها تأتي لحفظ التوازن الأرض (كما هو الحال مثلاً في حواف أواسط المحيطات، لتعوض كثافة ماء المحيط. ويتم دفع هذه الجذور المعاكسة إلى الأعلى من نطاق الضعف الأرضي). (7)
__________
(1) الانشقاق / 4.
(2) نبأ / 7.
(3) ينظر كتاب الإيمان عبد المجيد الزنداني 88.
(4) المفهوم العلمي للجبال 57 (بتصرف)
(5) النازعات /32.
(6) المفهوم العلمي للجبال 56.
(7) المصدر نفسه 57.(1/20)
وهذا ما دل عليه الفعل ألقى وتعليل ذلك لئلا تميد الأرض وقد عبر عن الجبال بقوله رواسي وهي الثوابت التي ترسي الأرض وهو ما عبر به المفسرون القدماء وكما ذكر ابن عباس بقوله (فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميد). (1)
وكما ذكر الآلوسي (2) أنه جعل فيها رواسي أي جبالاً ثوابت من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء عليه الوصف بها عن ذلك وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث (راسية) أو صفة ما لا يعقل مذكر (راس).
وقد ذكرنا سابقاً أن الأرض يمكن أن تكون (ال) التعريف فيها بنسبة والمقصود بها أي أرض وكما هو واضح هنا في تفسير بعض المفسرين من تمايل القارات وميدانها وإثباتها بالجبال، ويمكن أن تكون ال التعريف فيها ال العهدية وهي الكرة الأرضية بأكملها ودور الجبال في توازن هذه الأرض في حركتها حول محورها وعدم ميدانها كما صورها الآلوسي بحركة السفينة والفعل ميد يشير إلى الحركة وقد أشار إلى ذلك منصور حسب النبي حيث قال :(معنى ماد يميد ميداً وميداناً أي تحرك وزاغ مما يشير إلى تحرك كوكب الأرض، فالميدان ظاهرة تحدث للشيء المتحرك وليس الساكن ونحن نعلم أن الأرض تدور حول نفسها وأن قشرتها تطفو فوق ردائها الساخن كما تطفو السفينة على الماء.
__________
(1) روح المعاني 14/29.
(2) ينظر المصدر نفسه 13/92.(1/21)
ونظراً لأن العزم الدوراني للأرض يؤدي إلى ميدان قشرتها وأنزلاقها على ما تحتها فإن الله قد ثبت هذه القشرة بغرس الجبال فيها). (1) من هنا نعلم دقة التعبير بالفعل (ميد) الذي كما قال الخليل هو الذهاب والمجيء والاضطراب. ولولا هذا التوازن الدقيق بين ثقل الجبال والبحار لاضطربت الأرض ومادت في حركتها كما أشار إلى ذلك الفعل (ميد). ولا يجوز قصر الفعل على الجسم المتحرك. كما ذكر منصور حسب النبي فهو للمتحرك والساكن على السواء فلم يقصر أهل المعاجم هذا الفعل على الجسم المتحرك.
وقوله تعالى :(أن تميد بكم) أن في موضع نصب مفعول من أجله (2) ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه فالكلام جارٍ على حذف تقتضيه القرينة، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب
قال عمرو بن كلثوم:
فجعلنا القِرى أن تشتمونا (3)
أراد أن لا تشتمونا. فالعلّة هي انتفاء الشتم لا وقوعه. ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النفي بعد (أنْ). والتقدير: لأن لا تميد بكم ولئلا تشتمونا، وهو الظاهر عند أبن عاشور. ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و (أن). تقدير: كراهية أن تميد بكم. (4)
العلاقة بين مد الأرض والجبال:
قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً ). (5)
وقال تعالى: ( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ). (6)
وقال تعالى: ( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ). (7)
__________
(1) المعارف الكونية بين العلم والدين 311-312.
(2) مشكل إعراب القرآن 1/417.
(3) شرح المعلقات السبع للزوزني 106.
(4) ينظر التحرير والتنوير 14/ 121.
(5) الرعد / 3.
(6) ق / 7.
(7) الحجر / 19.(1/22)
ذكرنا سابقاً معاني المد لغة فمن معانيه الجذب والمصل وكل شيء فيه سعة وكما ذكر المفسرين أن معنى المد في هذه الآيات البسط فقوله (هو الذي مد الأرض بسطها طولاً وعرضاً ووسعها). وقد جاء في التسهيل: (ولا ينافي لفظ البسط والمد مع التكوير، لأن كل قطعة ممدودة على حدتها، وإنما التكوير لجملة الأرض). (1)
وقد أشار المفسرون (2) إلى فائدة الجبال في حفظ الأرض من الحركة والميدان أما باحثوا العلم الحديث فقد فصلوا هذا وأشاروا بدقة إلى العلاقة بين مد الأرض وتكوين الجبال فقد ذكر الدكتور زغلول النجار حين تحدث عن الترسبات في الأحواض الأرضية أنه مع تراكم الرسوبيات فإنها تتعرض لكل من الطي والتصدع بصفة مستمرة، وتكون الصخور السطحية هشة، لذا فهي تتكسر قبل أن تتدفق، ولكنها إذا دفنت عميقاً تصبح لدنة، ويتغير شكلها وحجمها بالانثناء والطي والتدفق البطيء، أو بأي منها، وعندما تدفن الترسبات إلى أعماق كافية فإنها تنصهر، ويتسبب انصهارها في زيادة حجمها، وتؤدي الزيادة في الحجم إلى رفع الصخور فوقها، وإلى اندفاع تلك الزيادة على هيئة أعداد من المتداخلات النارية التي تؤدي دوراً في عمليات الطي وتكوين الجبال المطوية. (3)
__________
(1) التسهيل في علوم التنزيل 2/130 وينظر صفوة التفاسير 2/74.
(2) تفسير القرآن العظيم 2/566 في ظلال القرآن 4 /2133-2134 محاسن التأويل 15/153.
(3) المفهوم العلمي للجبال 60.(1/23)
أما الضابط اللغوي في هذه الآيات فقد ذكر الغمراوي (1) أنه يُشير إليه تقديم مد الأرض على إلقاء الرواسي في الآيات الثلاث. وقال أيضاً: صحيح أن الواو في اللغة لا تفيد الترتيب حتما كم تفيد الفاء وثم، لكن ترتيب الذكر عند العطف بالواو في كتاب الله خصوصاً إذا تكرر بذاته كما في الآيات الثلاث، لا بد أن تكون له حكمة، كما هو واضح مثلاً في مجيء المحارم حسب درجات القرابة في قوله (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت). (2)
وصف الجبال بالشامخات:
قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ) (3)
معنى شمخ في اللغة:
قال الخليل (4) : جبل شامخ: طويلٌ في السماء ويُجْمَعُ شَوامِخ، وقد شَمَخَ شُمُوخاً.
وذكر أبن فارس (5) أن الشين والميم والخاء أصل صحيح يدل على تعظيم وارتفاع يقال جبل شامخ، أي عالٍ.
وفي اللسان (6) : شَمَخَ الجبلُ يَشْمَخُ شُمَوخاً: علا وارتفع. والجبال الشَّوامخ: الشّواهق. وجبل شامِخٌ: طويلٌ في السماءِ.
أما قوله فرات لغة:
قال ابن فارس (7) : الفاء والراء والتاء كلمة واحدة، وهي الماء الفرات، وهو العذب. ويقال ماء فرات، ومياه فرات. وإلى مثل ذلك قال الجوهري (8) في صحاحه.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
ذكر أكثر المفسرين (9) أن معنى قول تعالى: رواسي شامخات جبال ثوابت طوال وعن أبن عباس قوله رواسي شامخات يقول جبالاً مشرقات.
أما قوله وأسقيناكم ماء فراتاً: ماء عذباً.
__________
(1) الإسلام في عصر العلم 295-296.
(2) النساء /23.
(3) المرسلات /27.
(4) العين (شمخ) 4/174.
(5) مقاييس اللغة (شمخ) 3/212.
(6) لسان العرب (شمخ) 3/30.
(7) مقاييس اللغة (فرت) 4/498.
(8) الصحاح (فرت) 1/259-260.
(9) ينظر جامع البيان 29/238 القرطبي 19/162 أنوار التنزيل 2/1122 تفسير القرآن العظيم 4/461.(1/24)
وقال سيد قطب (1) في ظلاله: (وجعلنا فيها رواسي شامخات) ثابتات سامقات، تتجمع على قممها السحب، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب.
النظرة العلمية في التفسير:
في هذه الآية الكريمة معجزة علمية تربط بين الجبال بالذات وبين الماء العذب وهذا يشير إلى ظاهرة الثلج الدائم الذي يكلل هامات الجبال التي تكون درجة الحرارة في قممها دائماً تحت الصفر إذا زاد ارتفاعها عن حد خاص يتوقف على موقعها من خط الاستواء، فتظهر مثلاً الثلوج الدائمة على ارتفاع نحو 1.2 كيلو متر على جبال النرويج، ونحو 2.7 كيلو متر على جبال الألب.. ويكون لتراكم الثلج الدائم فوق مثل هذه الجبال المرتفعة الفضل في تغذية الأنهار بالماء، نتيجة لذوبان بعض الثلج باستمرار لضغط الطبقات العليا من الثلج على السفلى منه، ولن تنفذ هذه الثلوج على قمم الجبال باستمرار ذوبان أطرافها الدنيا لأنها كماتسيل باستمرار تكثف بخار الماء الموجود دائماً في الجو المحيط بهذه القمم!ولولا هذه الظاهرة العجيبة لجفت الأنهار إذا انقضت فصول الأمطار عند منابعها. (2)
__________
(1) في ظلال القرآن 6 /3793.
(2) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 173-174 وينظر الإسلام في عصر العلم 304-305 وينظر الأرض في القران /100، وينظر من إشارات العلوم في القران / عبد العزيز سيد الأهل 87-91.(1/25)
وهناك نظرة أخرى وهي عمل الجبال كمكثفات هائلة نصبها الله لتكثيف السحاب من الجو إذا حملته إليها الرياح. فإذا اصطدمت الرياح بقمة الجبل فإنها تبرد إلى ما فوق التشبع نظراً لبرودة هذه القمم العالية للجبال، وأما إذا اصطدمت الرياح بالجبال دون أعاليها فإن هذه الرياح تغير مجراها حيث ترغمها الجبال على الصعود إلى المناطق العلوية حيث يتكاثف بخارها سحاباً ويتكاثف سحابها مطراً على أعلى تلك الجبال ومن هنا كانت الأنهار منابعها من الجبال العالية ونزول المطر العذب الذي كان أصله تبخر مياه البحار والمحيطات المالحة. (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
هناك علاقة قوية بين قوله تعالى (وجعلنا فيها رواسي شامخات) وعطف قوله تعالى (وأسقيناكم ماء فراتا) فيرى البعض (2) أن ذكر الجبال هنا وكونها شامخات إشارة إلى أن لها دخلاً كبيراً في تكوين المطر ونزوله ولكن تنكير قوله تعالى (ماء فراتا) يفيد العموم فهو يشمل كل ماء عذب في الأرض سواء أكان ماء نهر أو بئر أو مطر، بل أن الأمطار في النهاية مرد مياه الأنهار والعيون والعذب من الآبار (3) ووصف الماء بالفرات في هذه الآية لا يخلو من الإشارة إلى هذه الحقيقة الكبرى وهي دورة الماء العذب بين البحار المالحة والمحيطات وبين اليابسة فكل ماء عذب على الأرض أصله الماء الأجاج. (4)
__________
(1) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 193 ، العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 2/49 الإسلام في عصر العلم 304.
(2) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 49.
(3) الإسلام في عصر العلم 303 وينظر الكون والإعجاز العلمي 174.
(4) المصدر نفسه 303-304.(1/26)
وظاهرة نزول المطر وذوبان الثلوج التي ذكرناها لم تكن في كل الجبال فقد وصف القرآن الكريم هذه الجبال بالرواسي الشامخات دون غيرها من الجبال وقد عرفنا سابقاً معنى الرواسي من حيث الثبوت والرسوخ في الأرض إلا أن الجبال ليست كلها شوامخ بالغة الارتفاع، وإن كان تقدير الشموخ نسبياً عند الناس.. فالآية تتحدث عن ارتفاع الجبال وامتيازها عن بقية الجبال في الأرض عامة لا في أرض العرب خاصة. والضمير في (وأسقيناكم) ضمير خطاب للناس في عصر نزول القرآن أولاً ثم في كل عصر يأتي بعده. (1)
ومن هنا يتبين لنا سر نزول الآية مجملة ليفهما كل عصر على حسب علومه فالتفسير القديم جاء مجملاً كما رأينا من غير تفصيل في العلاقة بين وصف الجبال بالرواسي الشامخات وقوله (وأسقيناكم ماء فراتا). أما التفسير العلمي الحديث فقد تمكن من تفصيل هذه المعاني ومعرفة هذه الإشارات الموجزة التي لم يكن يعرفها القدماء في ذلك الزمان.
ولا يخفى في كل زمان الدلالة الصوتية في قوله (شامخات) فالمد الصاعد الذي يتمثل في الألفين الموجودة في قوله شامخات يعبر بمده إلى ارتفاع الجبال وشموخها فالتناسق قائم بين لفظه ومعناه ومعبر بشكل دقيق عن ضخامة هذه الجبال وامتيازها عن غيرها في طولها الصاعد إلى مناطق تكاثف الغيوم وتراكم الثلوج.
نصب الجبال: قال تعالى: ( أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ). (2)
معنى النصب لغة:
قال الخليل (3) : النُّصُبُ: العَلَمُ والنصُبُ جماعة النَّصيبة، وهي علامة تنصُب للقوم، أي علامة كانت لهم.
__________
(1) ينظر الإسلام في عصر العلم 303.
(2) الغاشية / 17-20.
(3) العين (نصب) 7/136.(1/27)
والنَّصيبٍةُ واحدةُ النَّصائب، وهي نَصائبُ الحَوض، وهي حِجارةٌ تُنْصَبُ حَواليَ الشفيرة فتُجْعَل له عَضائد. والنَّصبُ رَفْعُك شيئاً تَنْصبه قائماً مُنْتَصِباً.
وفي الصحاح (1) : النصب: مصدر نصبت الشيء، إذا أقمتُه، وصفيح مُنَصَّب أي نُصب بعضهُ على بعض ... والنصيب: حجارة تنصب حول الأرض، ويسد ما بينها من الخَصاص بالمَدَرَةَ المعجونة.
وجاء في اللسان (2) : والنصب: وضع الشيء ورفعه، نصبه ينصبه نصباً، ونصبته فانتصب.. والنُصِيبة والنُصُبُ: كلُّ ما نُصب، مجعل علماً ... والنَّصب والنُصُب: العلم المنصوب.. وكل شيء انتصب بشيء فقد نصبه وصفيح مُنَصَّب أي نُصبَ بعضه على بعض.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
قال الطبري (3) : وقوله (وإلى الجبال كيف نصبت) و إلى الجبال كيف أقيمت منتصبة لا تسقط فتنبسط في الأرض ولكنها جعلها بقدرته منتصبة جامدة لا تبرح من مكانها ولا تزول عن موضعها وقال الزمخشري (4) نصباً ثابتاً فهي راسخة لا تميل ولا تزول و إلى ذلك أيضاً ذهب البغوي (5) والرازي (6) والقرطبي (7) والنسفي (8) وابن كثير (9) وأبو السعود (10) والشوكاني (11) .
أما الآلوسي فيقول: (وإلى الجبال التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها كيف نصبت وضعت وضعاً ثابتاً يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها) (12) وقد ذكر منافع هذه الجبال أيضاً السيوطي. (13)
النظرة العلمية وأثرها في التفسير العلمي:
__________
(1) الصحاح (نصب) 1/224-225.
(2) لسان العرب (نصب) 1/758-759.
(3) جامع البيان 30/165.
(4) الكشاف 4/1351.
(5) تفسير البغوي 4/480.
(6) التفسير الكبير
(7) الجامع لأحكام القرآن 20/36.
(8) تفسير النسفي 3/684.
(9) تفسير القرآن العظيم 4/504
(10) إرشاد العقل السليم 9/148.
(11) فتح القدير 5/431.
(12) روح المعاني 30/117.
(13) الدر المنثور 8/494.(1/28)
تحدثنا سابقاً عن كيفية تكون الجبال الرسوبية والنارية والبركانية وقد أشار العلماء إلى سبب ارتفاع الجبال وأنها تكونت من حركات الأرض الباطنية التي لا يهدأ باطنها من الثوران. (1)
ويقول الدكتور زغلول النجار إن القرآن الكريم يحث الناس على التفكير في عدد من الظواهر في خلق الله سبحانه وتعالى، ككيفية تكون الجبال، وقد أدى هذا التأمل إلى بلورة نظرية التوازن التضاغطي (lsostacy) للقشرة الأرضية، أي تعرضها لضغوط متساوية من جميع الجهات التي تفسر كيف تنصب الجبال على سطح الأرض. (2)
كما يشير إلى أثر هذا الاتزان التضاغطي ودور قانون الطفو في تحديد ارتفاع منطقة ما على سطح الأرض، ويفسر ذلك انتصاب الجبال عالياً فوق سطح الأرض فالجبال تنصب مرتفعة، لأن لها جذوراً عميقة تطفو في مادة أكثر لزوجة وكثافة. (3)
وذكر النجار أيضاً أن الجبال تنشأ أساساً على طرف الألواح المتصادمة فعندما تتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض على نحو أفقي عبر سطح الأرض فإنها تتصادم من حين لأخر، فتؤدي إلى تكوين سلاسل الجبال العالية. (4)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
في قوله تعالى (أفلا ينظرون) استفهام إنكاري إنكارا عليهم إهمال النظر في حال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته والنظر: نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف (إلى) تنبيه إلى النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في (إلى) من معنى الانتهاء حتى كأن النظر انتهى عند المجرور بـ (إلى) انتهاء تمكن واستقرار. ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإهمال قُيد فعل (ينظرون) بالكيفيات المعدودة. (5)
__________
(1) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 125.
(2) المفهوم العلمي للجبال 40.
(3) المصدر نفسه 49-50 بتصرف.
(4) المصدر نفسه 95.
(5) ينظر التحرير والتنوير 30/304.(1/29)
(وكيف) منصوبة على الحال بالفعل الذي يليه. (1) فقوله (كيف نصبت) أي أقيمت منتصبة لا تبرح من مكانها. (2)
ولا تختلف هذه المعاني الإعرابية عما جاء به العلم الحديث في نشأة الجبال فهي تحتاج إلى تأمل وتدبر وعلم في النظر إلى هذه الجبال كما أشار إلى ذلك الحرف (إلى) بتعديه إلى شدة توجيه النظر.
وقد وجدنا في نصب الجبال طرائق عدة تمكن اللفظ من احتوائها فالنصب يأتي بمعنى الرفع كما هو معلوم في جميع الجبال وقد نصبت الجبال من ترسبات التي حملتها الأنهار والبحار على شكل طبقات بعضها فوق بعض كما جاء في المعاجم من تنصيب الصفائح بعضها فوق بعض مما يشير إلى دقة التعبير عن ذلك ومناسبة هذا الفعل وتمكنه في التعبير عن نشأة الجبال.
__________
(1) ينظر محاسن التأويل 17/136 ، وينظر التحرير والتنوير 30/302.
(2) المصدر نفسه 17/136.(1/30)
ومن فوائد الجبال أيضاً هي نُصُب أي أعلام في الأرض يستدل بها الناس في الطرقات بمنزلة الأدلة المنصوبة المرشدة إلى الطرق. (1) وقد أشار السيوطي والآلوسي إلى فوائد أخرى لهذه الجبال كما ذكرنا سابقاً.ومن ناحية سياق الآية نجد عجيبة أخرى، عجيبة ذكر الجبال مع السماء والأرض على السواء وإن جاء ذكرها بعد ذكر السماء وقبل ذكر الأرض لما بين رفعة السماء وارتفاع الجبال من تناسب، وما بين الجبال وبسط الأرض من تقابل. (2) ومن المشاهد النفسية والفنية التي توحي إلى القلب بمجرد النظر والتأمل الواعي للمشهد الكلي الذي يضم السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال (منصوبة) السنان لا راسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السنام .. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة، ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال. (3)
ألوان صخور الجبال:
قال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ). (4)
معنى جُدد في اللغة:
قال الخليل (5) : كساء مجدد: فيه خطوطٌ مختلفةٌ يقال له الجُدَّ.
__________
(1) ينظر الأرض في القرآن 102.
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 282.
(3) ينظر التصوير الفني في القرآن 103 ،في ظلال القرآن 6/3899.
(4) فاطر 27-28.
(5) العين (جد) 6/10.(1/31)
وفي الصحاح: (و(الجُدَّة) الطريقة والجمع (جُدَد). قال الله تعالى: (ومن الجِبًالِ جُدَدٌ بيض وحمرٌ) أي طرائق تخالف لون الجبل وجَدَّ الشيء يجدّ (جدّه) بالكسر الجيم فيهما جديداً وهو نقيض الخَلقَ وجَدَّ الشيء قطعه وبابه رَدَّ. وثوب مجدود (جديد) وهو في معنى مجدود يُراد به حين جَدَّه الحائك أي قطَعه.. وثيابٌ جُدُد بضمتين مثل سَرير وسُرُر. وتَجَدَدَ الشيء صار جديداً..). (1)
وجاء في اللسان (2) : (وجدّه كل شيء: طريقته. وجُدْتُه: علامته: عن ثعلب. والجدَّةُ: الطريقة في السماء والجبل .. قال الفراء: الجُدد الخِطط والطرق، تكون في الجبال خطط بيض وسود وحمر كالطرق، واحدتها جُدَّة ... قال الزجاج: كل طريقة جدة وجادة ... وجد الشيء يجده جداً: قطعه وجددت الشيء أجدُه بالضم جداً قطعته وحبل جديد. مقطوع).
أما قوله غرابيب سود:
فقال ابن فارس (3) : (والغربيب: الأسود، كأنه مشتقُّ من لون الغُراب).
وفي الصحاح (4) : وتقول: هذا أسود غربيب، أي شديد السواد، وإذا قلت (غَرَابيب سود) تجعل أسودَ بدل من الغرابيب، لأن تواكيد الألوان لا تقدَّم.
وفي القاموس المحيط (5) : والغِربيب: بالكسر: من أجْوَد العِنبِ، والشيْخُ يُسَوّدْ شَيبْهَ بالخِضابِ. وأَسْوَدُ غربيب: حالِكٌ.
أقوال المفسرين في الآية:
__________
(1) الصحاح (جدد) 2/ 453.
(2) لسان العرب (جدد) 3/108.
(3) مقاييس اللغة (غرب) 4/422.
(4) الصحاح (غرب) 1/192.
(5) قاموس المحيط (غرب) 1/110.(1/32)
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد وهو الماء الذي ينزله من السماء، يخرج به من الثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار، كما هو مشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها وقوله تبارك (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها) أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو مشاهد من بيض وحمر، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة، مختلفة الألوان أيضاً: قال ابن عباس- رضي الله عنهما-: الجدد الطرائق، وكذا قال أبو مالك والحسن وقتادة والسدي. قال عكرمة: الغرابيب الجبال الطوال السود، وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة. وقال ابن جرير: والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد قالوا: أسود غربيب وقوله ومن الناس والأنعام والدواب مختلف ألوانه كذلك أي كذلك الحيوانات من الأناسي والدواب. (1) وقد أختلف المفسرون في قراءة جدد كما سيأتي تفصيله في الضابط اللغوي لهذه الآية.
التفسير العلمي من خلال النظرة العلمية:
أشار الأستاذ الدكتور عبد الله عمر نصيف (2) إلى دور الماء في إعطاء الصخور ألوانها المختلفة وإضفاء الألوان المميزة للصخور التي يعرفها الإنسان لأول وهلة في الحقل والعينات اليدوية ... حتى أن هناك من الصخور تصنف طبقاً للونها.. وهي كما نرى تغطى أنواعاً عديدة نارية رسوبية متحولة. (3)
__________
(1) ينظر جامع البيان 22/131 الكشاف 3/985-986، الجامع لأحكام القرآن 14/342. تفسير القرآن العظيم 3/554 التحرير والتنوير 22/302-303.
(2) عبد عمر نصيف أمين عام رابطة العالم الإسلامي والأستاذ بكلية علوم الأرض جامعة الملك عبد العزيز بالمملكة العربية السعودية.
(3) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم – كارم السيد عتيم 518-521.(1/33)
وقال أيضاً :كتب الجيولوجيا تحدثنا عن أن لون الصخر هو نتاج ألوان المعادن المكونة له والنسيج الذي ينظمها والعوامل الجوية التي تعرضت لها.. كما أن لون المعدن هو نتاج التركيب الكيميائي والبيئة التي تكون فيها ... مؤكسدة أم غير ذلك .. وتفسر كتب علم المعادن أسباب تغير ألوان المعادن بظاهرة الامتصاص absortion حيث تمتص المعادن بعضاً من طاقات أو موجات الأشعة المرئية .. visible light فتكون صحبة جديدة من الطاقات أو الموجات ذات الألوان المعروفة من البنفسجي حتى الأحمر ... ورغم أننا نسلم بكثير من الأسباب الأخرى التي تنساق في هذا المجال فقد وددت بهذه المقالة أن ألفت الانتباه إلى عامل هام لا أقول (آخر) بل هو أساسي وهو الماء.. ويمكن تلخيص ذلك بالتأكيد على أن الماء هو أكثر السوائل ذات الكثافة المنخفضة انتشاراً وأكثرها مقدرة على الإذابة، وأكثر العوامل الكيميائية مقدرة على النقل، وأفضل العوامل المساعدة في تفاعلات المعادن السيليكانية في الصهير، وأفضلها أيضاً في المساعدة على تحويل الصخور من نارية ورسوبية إلى متحولة ... ولا شك أن الدور الذي يلعبه الماء في تنويع المعادن المتكونة ومن ثم ألوان الصخور الناتجة لهو دور كبير بالغ الأهمية. (1)
ويذكر الدكتور عبد الله عمر أمثلة كثيرة لا مجال هنا لذكرها وننتقل إلى :
__________
(1) ينظر الإشارات العلمية / كارم السيد عنيم 521-530 بتصرف واختصار.(1/34)
عمليات التحول (metamorphic processes): تعد من أهم العمليات التي تجري في القشرة الأرضية بما يصحبها من تغير في ظروف الضغط والحرارة وما ينتج عنها من تحول المعادن أو تغيير تركيبها الكيميائي وصفاتها الفيزيائية وتغير في المظهر الخارجي للصخر.. فمثلاً المياه التي دخلت المعادن التي ترسبت بواسطة العمليات الخارجية تهرب منها، فيتحول الأوبال إلى كوارتز، ويتحول الليمونيت إلى حيماتيد أو ماجنيتيت، ولا يوجد أدنى شك في أن الماء (ومعه ثاني أوكسيد الكربون) يلعب دوراً هاماً في عملية التبلور وفي عمليات التحول الكيمائي وإعادة توزيع المعادن وفي إعادة توزيع العناصر في داخل المعدن الواحد. ويدخل الماء في تركيب معظم المعادن المتحولة. (1)
وذكر منصور حسب النبي فيما يخص الجبال في هذه الآية لقد أثبت العلم أن تعدد ألوانها يرجع إلى تركيب صخورها، فمنها ما هو وحيد المعدن كالرخام ومتعدد المعادن كالجرانيت وتندرج الألوان كما في الآية ابتداء من اللون الفاتح للصخور الحامضية كالجراتيت، والجبال البيضاء من الطباشير والحجر الجيري، واللون الأحمر لاحتواء الصخور على أكاسيد الحديد، واللون الأسود للبازلت والجبال المحتوية على المنجينز والفحم. (2)
ويقول الأستاذ الدكتور أنيس الراوي أن الأسود ليس لوناً ويختلف عن باقي الألوان أنه يمتص كل أطياف الألوان و يرجع إلى العين أي طيف لذا تراه العين مظلماً بالعكس عن باقي ألوان الأطياف السبعة التي تمتص جميع الألوان إلا لونها تعكسه إلى العين فتراه ذلك اللون أما الأبيض فهو من مجموع الأطياف السبعة ويعكس جميع الألوان فنراه أبيض. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر الإشارات العلمية 528-529.
(2) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 302 وينظر الإعجاز العلمي في القرآن / السيد الجميلي 29.
(3) لقاء مع الدكتور أنيس الراوي(1/35)
ذكر المفسرون أن قوله تعالى: ( ألم تر) استفهام تقريري أما الخطاب في هذه الآية فقد أختلف المفسرون فيه فمنهم من قال إنه يعود إلى الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ كما ذكر الطبري (1) وابن عاشور (2) ويعلل الأخير ذلك ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن ويرى أبو حيان (3) الخطاب هنا للسامع وأيضاً ذكر الآلوسي (4) أن الخطاب عام. وعند الرجوع إلى سياق السورة نجد سياقها المتقدم يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم ويبدو لهذا السبب أرجع قسم من المفسرين الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهم من يرى (5) أن الآية سيقت للحث والتحريض على النظر في عجائب صنعه تعالى، وآثار قدرته ليؤدي ذلك إلى العلم بعظمة الله وجلاله، ويؤدي العلم إلى خشيته ولذلك ختمها بقوله (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فتدبر سر القرآن.
ومن هنا يتبين لنا أن النص القرآني يشمل جميع المخاطبين عامة والرسول خاصة وإن رأى بعضهم أن الخطاب خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا الخصوص مراد به العموم وهو كثير في القرآن الكريم.
وهذا ما جعل المفسرين العلميين يتدبرون الآيات لأن الخطاب موجه إليهم والعلماء قبل غيرهم لأنهم أكثر خشية من الله كما جاء في سياق الآية المتأخر.
__________
(1) جامع البيان 22/131.
(2) التحرير والتنوير 22/300.
(3) البحر المحيط 9/28.
(4) روح المعاني 22/189.
(5) صفوة التفاسير 2/574.(1/36)
أما الرؤية هنا فمنهم من يرى أن الرؤية قلبية (1) ومنهم من يراها بصرية. (2) والذي يبدو أنها تشمل الاثنين وكما قال أبو حيان: (وهذا الاستفهام تقريري ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جداً .. و(تر) من رؤية القلب لأن إسناد إنزاله تعالى لا يستدل عليه إلا بالعقل الموافق بالنقل وإن كان إنزال المطر مشاهد بالعين لكن رؤية القلب قد تكون مسندة لرؤية البصر ولغيرها). (3) وقد اعتمدت الرؤية العلمية على المشاهدات الطبيعية الدالة على عظمة الخالق ومن هذه الرؤية البصرية استدل العلماء على دلائل قدرته سبحانه وتعالى دون أن يقفوا على علومهم الطبيعية كما نجد بعض الدارسين الذين لم تتبصر قلوبهم فيفقهوا عظمة الخالق ودلائل آياته على ذلك.
__________
(1) ينظر البحر المحيط 9/28 روح المعاني 22/189.
(2) التحرير والتنوير 22/300.
(3) البحر المحيط 9/28.(1/37)
وقد ربط القرآن بين إنزال المطر مع تغير ألوان صخور الجبال يقول الآلوسي (1) في قوله تعالى (ومن الجبال جُدَدٌ بيض وحمر) هو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافاً مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر. وكما لاحظنا سابقاً في التفسير العلمي جعل الدكتور عبد الله عمر نصيف قوله تعالى (ومن الجبال جدد بيض وحمر) عطف على قوله تعالى (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً) فربط بين نزول المطر وألوان صخور الجبال وهو ما يتحمله النص القرآني ويمكن أن تكون الواو أيضاً استئنافية فتناسب حال المخاطبين في كل العصور وكل المستويات العلمية دون ربطها بنزول المطر وهذا من إعجاز القرآن البلاغي والعلمي فهو صالح لكل زمان ومكان ولا تنتهي عجائبه ويشمل خطابه جميع المخاطبين ويأخذ كل منه على حسب علمه وزمانه دون أن يجعل الجاهل يشك به لقصور علمه بالقرآن وبالعلوم الطبيعية وهذا من بلاغته فالبلاغة أن يخاطب الناس على قدر عقولهم وكما قال البلاغيون (لكل مقام مقال) ومن إعجاز القرآن تمكنه من مخاطبة جميع الناس باختلاف عصورهم.
وقوله (ومن الجبال) من تبعيضية على معنى: وبعض تراب الجبال، ففي الجبل الواحد توجد جدد مختلفة، وقد يكون بعض الجُدَد بعضها في بعض الجبال وبعض آخر في بعض أخر. (2)
__________
(1) روح المعاني22/189.
(2) ينظر التحرير والتنوير 22/302.(1/38)
وقد أختلف القراء (1) في قراءة قوله تعالى (جُدّد) فقد قرأ الجمهور بضم الجيم وفتح الدال جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه. وقرأ الزهري (جُدُدٌ) بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جده. وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى أثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة: لا مدخل لمعنى الجديدة لهذه الآية أما الآلوسي فيقول: ولعل من يقول يتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولاً فأولاً ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتحجر أيضاً وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر. (2)
وفيما يبدو أن هذه القراءة لا تخالف التفسير العلمي الحديث فكما علمنا أن الجبال في حالة حدوث وتجدد وهرم عندما تنمحي قممها فتتكون بعدها جبال أخرى ومن ثم تكون جدد أخرى فهي متجددة بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان.
__________
(1) ينظر التبيان في إعراب القرآن 2/200.
(2) روح المعاني 22/189.(1/39)
وفي كلتا القراءتين لا يخالف معنى ذلك أن هذه الجُدَد هي صخور ملونة لتلك الجبال وفيما يهمنا في التفسير العلمي هنا من ألوان الجبال ما يشير إليه تقديم ألوان بعضها وتأخير الأخرى فقدم اللون الفاتح الأبيض وبعدها الأحمر وبعدها قال تعالى مختلف ألوانها إلى أن تصل إلى غرابيب سود، حالكة شديدة السواد، فمختلف ألوانها فيما بينها مختلف في درجة اللون والتضليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه. وهناك جدد غرابيب سود، حالكة شديدة السواد واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد). (1) وهذا ما قاله أبو حيان فقد ذكر أن قوله مختلف ألوانها لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف فالأبيض لا يشبه الأبيض والأحمر لا يشبه الأحمر وإن اشتركا في القدر المشترك وهو يرى أن الظاهر عطف وغرابيب على حمر عطف ذي لون على ذي لون. وقد أشار إلى قول الزمخشري فهو يقول أنه معطوف على بيض أو على جدد وأيضاً الظاهر عند أبو حيان أنه لما ذكر الغرابيب وهو الشديد السواد لم يذكر مختلف ألوانه لأنه من حيث جعله شديد السواد وهو المبالغ في غاية السواد لم يكن له ألوان بل هذا اللون واحد بخلاف البيض والحمر فأنها مختلفة. (2)
ويقول الآلوسي (3) : ((وغرابيب) والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني.
__________
(1) في ظلال القرآن 5/2942 وينظر المنظار الهندسي 417.
(2) ينظر البحر المحيط 9/29.
(3) روح المعاني 22/190.(1/40)
ويقول أيضاً وظاهر كلام الزمخشري (1) أن (غرابيب) هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد. وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك (2) لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه، وقوله تعالى (سود) بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف ونظير ذلك قول النابغة الذبياني:
والمؤمن العائدات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند
وفيه التفسير بعد الابهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار. ويجوز أن يكون العطف على (جدد) على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته، وكأنه لما أعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر الاختلاف بالشدة والضعف.
وعلى قول الأستاذ الدكتور أنيس الراوي الذي ذكرناه يمكن جعل غرابيب سود - وهو اللون المظلم الذي لا يرجع لنا أي طيف من الألوان - عطف على جدد وهو مقابل البيض والحمر فأنها مختلفة الألوان.
حركة الجبال:
قال تعالى: ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ). (3)
أقوال المفسرين القدماء في الآية:
__________
(1) الكشاف 3/985.
(2) شرح ابن عقيل 2 /175.
(3) النمل /88.(1/41)
ذهب المفسرون القدماء (1) في تفسير هذه الآية إلى أن المقصود بحركة الجبال هنا هو في يوم القيامة. عن ابن عباس قوله :(وترى الجبال تحسبها جامدة) يقول قائمة وإنما قيل وهي تمر مر السحاب لأنها تجمع ثم تسير فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة وهي تسير سيراً حثيثاً. قال القتبي: وذلك أن الجبال تجمع وتسير في رؤية العين كالقائمة وهي تسير وكذلك كل شيء عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر لكثرته وبعد ما بين أطرافه وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير قال النابغة:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... ... وقوف لحاج والركاب تُهمِلج (2)
قال القشري وهذا يوم القيامة أي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت تسير سير السحاب والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء فقال تعالى :( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ). (3)
ومن المفسرين – القدماء والمحدثين – من يرى أنه تعالى يصف حالة من أحوال الجبال يوم القيامة فقد ذكر سبحانه أحوال الجبال بوجوه مختلفة، ولكن الجمع بينها أن تقول إن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله تعالى: (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) (4) وثاني أحوالها أن تصير كالعهن المنفوش (وهو الصوف المفتت) كما في قوله تعالى: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) (5) وثالث أحوالها أن تصير كالهباء وهو قوله تعالى (وبست الجبال بساً فكانت هباء منبثا) (6) ورابع أحوالها أن تنسف وتحملها الرياح كما في قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) (7)
__________
(1) ينظر جامع البيان 20/21، التفسير الكبير 24/189 الجامع لأحكام القرآن 13/242-243 أنوار التنزيل 2/777 تفسير القرآن العظيم 3/379، إرشاد العقل السليم 6/304.
(2) شعر النابغة الجعدي 187.
(3) نبأ / 20.
(4) الحاقة /14.
(5) القارعة / 5.
(6) الواقعة /5-6.
(7) النمل /88.(1/42)
وخامس أحوالها أن تصير سرابا أي لا كما في قوله تعالى: (فكانت سرابا) (1) وكل ذلك يوم القيامة. (2)
والمفسرون المحدثون قد اختلفوا فيما بينهم فمنهم (3) من يرى أن المقصود بحركة الجبال هو في يوم القيامة ومنهم (4) من يرجح أن يكون حركتها في الدنيا ويسوق أدلة على ذلك- كما سنذكرها- معتمداً أيضاً على العلوم الحديثة التي وصلت إليهم ولم يكن يعرفها القدماء.
تفسير الآية بحسب النظرة العلمية:
العلم في القرن العشرين يثبت من خلال سفن الفضاء أن رواد شاهدوا الجبال تتحرك مع الأرض وتمر مر السحاب .. ولو قيل عند نزول القرآن مباشرة أن الجبال تتحرك بنفس سرعة الأرض وهذا دليل دوران الأرض حول نفسها لكذب الناس هذه الحقيقة في زمن كان الإسلام جديداً على الناس ... والحقيقة أن هذه الآية معبرة عن أهمية سرعة جسم ما بالنسبة للإحساس به، وإدراك جرمه وهيئته إلى جانب الأبعاد المعروفة من طول وعرض وارتفاع وتأثير السرعة في إدراك الحركة والسكون ... ومعروف أن حركة الجبال تعود إلى حركة الأرض التي تبلغ سرعتها حداً يخيل للإنسان وهو فوقها أنها لا تتحرك.. (5)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) نبأ /20.
(2) فتح القدير 5/364 ، روح المعاني 7/21،34.
(3) فتح القديرة 5/364، روح المعاني 7/21،34 صفوة التفاسير 2/321 في ظلال القرآن 5/2668-2669.
(4) محاسن التأويل 13/90-91 التحرير والتنوير 20/48-51.
(5) هندسة النظام الكوني 65 وينظر الإسلام في عصر العلم 237-274 العلم والإيمان 51 التفسير العلمي 190 نظرة علمية 53.(1/43)
اختلف أهل العلم عن القدماء في التشبيه في هذه الآية فالقدماء يرون أن هذا التشبيه جارٍ في يوم القيامة حين تتفتت الجبال وتصبح هباء فتحملها الرياح وحسبانها ثابتة هنا هو لرائيها فلكثرتها يحسبها واقفة فوجه الشبه عندهم هو في نفش الجبال كما ذكر أبو السعود (1) وكثرتها حتى يخيل للرائي أنها واقفة كما ذكرنا.
أما أهل التفسير العلمي فيرون التشبيه هنا واقع في الحياة الدنيا فالجبال تتحرك مع الأرض وتمر مثل السحاب ولكننا لا نشعر بها لأننا على الأرض ووجه الشبه بين السحاب والجبال عندهم هو في حركة السحاب (لأن السحاب لا يملك ذاتية الحركة.. لا يتحرك بنفسه.. إنما تحركه الرياح .. فالسحاب بدون الريح يبقى في مكانه.. ولكن الرياح هي التي تدفعه .. ومن هنا فإن استخدام الله سبحانه وتعالى لكلمة (مر السحاب) يريد أن ينبئنا أن الجبال التي نحسبها جامدة تتحرك ولكنها لا تتحرك بنفسها بل هي تابعة لحركة أخرى تدفعها.. تماماً كما تدفع الرياح السحاب). (2) أي تتحرك بحركة الأرض ... وإلا فلماذا لم يقل ... وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تسير أو وهي تجري أو وهي تتحرك أو وهي تمر من مكان إلى آخر ... استبعد كل الألفاظ التي تعطي الجبال ذاتية الحركة ... أترى دقة التعبير ودقة التصوير لدوران الأرض في القرآن. (3)
__________
(1) إرشاد العقل السليم 6/304.
(2) ينظر معجزة القرآن 90-91 المنتخب من تفسير القرآن الكريم 1/43-44.
(3) المنتخب في تفسير القرآن 43-44 وينظر الإعجاز العلمي للقرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 189.(1/44)
يقول الدكتور منصور حسب النبي: (إرسال الرياح يتم بحركتها لتهب من مكان لآخر فساعد على تكوين وإظهار السحب بما تحمل من بخار الماء وندى والتكاثف من أتربة العالقة بالجو، ثم تمر بك السحاب محمولاً على الرياح كما في قوله تعالى (فسقناه) وبهذا فالسحاب متحرك راكب الرياح، وبالمثل فالجبال تجري لأنها تمتطي كوكب الأرض المنطلق في الفضاء أي بحركة غير ذاتية، ولهذا فالجبال تمر مر السحاب، فما أروع التشبيه وما أعمق الإشارة إلى حركة الأرض وهي تحمل معها الجبال، بينما كان الناس يحسون (حتى القرن الماضي) أن كليهما ساكن وجامد فهل أدركت الحكمة في الدلالة على جريان الأرض في الفضاء الكوني بأسلوب قرآني معجز لا يصدم العامة في إحساسهم بعدم حركة الأرض ولا ينافي في نفس الوقت الحقيقة الكونية التي وصل إليها العلم الحديث). (1)
أما وجه الشبه الآخر فهو (هذا التشبيه الرائع بين سرعة الجبال وسرعة السحاب إذ لو درست سرعة الرياح الكاملة للسحب في طبقات الجو وقورنت مع سرعة الأرض حول نفسها لوجد الباحث عظمة هذا الربط الرائع ... فالمعلوم أن سرعة الأرض بحركتها الدائرية حول الشمس هي تقريباً 100000كم/ ساعة وبحركتها الدورانية حول نفسها حوالي 1650كم/ ساعة وطبعاً فإن الجبال تتحرك ضمن الأرض التي تحتضنها .. وإذا قارنا هذه السرع مع سرعة الريح التي هي أصلاً جزء من الغلاف الجوي الأرضي فسرعتها إذا كانت ساكنة مساوية لسرعة الأرض 1650كم/ ساعة أما إذا كانت متحركة فتختلف باختلاف عوامل عديدة ... فتصل في حالات مختلفة إلى حوالي 300كم/ ساعة ومن هذا يتبين لنا دقة الربط بين حركة الجبال وتشبيهها بحركته السحب. (2)
__________
(1) المعارف الكونية بين العلم والدين 321-322.
(2) المنظار الهندسي 233.(1/45)
يقول الدكتور محمد مختار عرفات (1) : في هذه الآية دليل وإعجاز يدل على دوران لطيف تحسبها جامدة وهي تمر كالسحاب الغلاف الجوي الذي ثبت أنه يتبع الأرض في دورانها أنّى سارت.
ولكل من المفسرين القدماء وأهل التفسير العلمي أدلة على صحة تشبيهه فالسياق له تأثير هي تحديد المعنى فالآية التي قبلها هو قوله تعالى : ( وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ). (2)
والذي قاله جمهور المفسرين إن الآية حكت حادثاً يحصل يوم ينفخ في الصور فجعلوا قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة الخ ... وجعلوا الرؤية بصرية، ومر السحاب تشبيها بمر السحاب في السرعة، وجعلوا اختيار التشبيه بمرور السحاب مقصوراً منه إدماج تشبيه حال الجبال حيث ذلك المرور بحال السحاب من تخلخل الأجزاء وانتفاشها. (3)
وقال بعض المفسرين: هذا مما يكون عند النفحة الأولى وكذلك جميع الآيات التي ذكر فيها نسف الجبال ودكها وبسها. وكأنهم لم يجعلوا عطف (وترى الجبال) على (ينفخ في الصور) حتى يتسلط عليه عَمَل لفظ (يوم) بل جعلوه من عطف الجملة على الجملة، والواو لا تقتضي الترتيب المعطوف بها مع المعطوف عليه، فهو عطف عبرة على عبرة وأن كانت المذكورة أولاً حاصلة ثانياً. (4)
أما سياق الآية المتأخر فقد جعله كلا الفريقين (جمهور المفسرين وغيرهم) وهو قوله : (صنع الله ..الخ) مرادا به تهويل قدرة الله تعالى فكأنهم تأولوا الصنع بمعنى مطبق الفعل من غير التزام ما في مادة صنع من معنى الترتيب والإيجاد فإن الإتقان إجادة، والهدم لا يحتاج إلى إتقان.
__________
(1) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 76.
(2) النمل /87.
(3) التحرير والتنوير 20/47.
(4) المصدر نفسه 20/47.(1/46)
أما سيد قطب فيقول: (صنع الله الذي أتقن كل شيء) سبحانه يتجلى إتقان صنعته في كل شيء في هذا الوجود فلا فلتة ولا مصادفة، ولا ثغرة ولا نقص ولا تفاوت ولا نسيان. ويتدبر المتدبر كل آثار الصنعة المعجزة، فلا يعثر خلة واحدة متروكة بلا تدبير ولا حساب. في الصغير والكبير، والجليل والحقير. فكل شيء بتدبير وتقدير، يدير الرؤوس التي تتابعه وتتملاه (إنه خبير بما تفعلون) وهذا يوم الحساب عما تفعلون قدره الله الذي أتقن كل شيء. وجاء في موعده لا يستقدم ساعة ولا يستأخر ، ليؤدي دوره في سنة الخلق عن حكمة وتدبير، وليحقق التناسق بين العمل والجزاء في الحياتين المتصلتين المتكاملتين (صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون). (1)
ومن كلام سيد قطب يتبين لنا أن المقصود بالإتقان يشمل الحياة الدنيا والآخرة.
ويرى أبن عاشور (2) في قوله (صنع الله الذي أتقن كل شيء) وضع دقيق، ومعنى بالتأمل خليق، فوضعها أنها وقعت موقع الجملة المعترضة بين المجمل وبيانه من قوله (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) إلى قوله (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذٍ آمنون). (3)
بأن يكون مِن تخلل دليل على دقيق صنع الله تعالى في أثناء الإنذار والوعيد إدماجاً وجمعاً بين استدعاء للنظر، وبين الزواجر والنذر، كما صنع في جملة (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه). (4)
__________
(1) في ظلال القرآن 5/2669.
(2) التحرير والتنوير 20/48.
(3) النمل /89.
(4) النمل /86.(1/47)
أما من احتج للتفسير العلمي فقد ذكر ورود هذه الآية في سياق الكلام على يوم القيامة لورود آية (أولم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا) المذكورة قبلها في نفس هذا السياق، والمراد بها ذكر شيء من دلائل قدرة الله تعالى، المشاهدة آثارها في هذا العالم الآن من حركة الأرض وحدوث الليل والنهار، ليكون ذلك دليلاً على قدرته على البعث والنشور يوم القيامة ... ولذلك ختم هذه الآية بقوله (إنه خبير بما تفعلون) فذكر هذه الأشياء في هذا السياق، هو كذكر الدليل على المدلول، أو الحجة مع الدعوى. وهي سنة القرآن الكريم فإنك تجد الدلائل منبثة بين دعاويه دائماً، ولا يحتاج الإنسان لدليل آخر خارج عنها. وذلك شيء مشاهد في القرآن من أوله إلى آخره. (1)
ومن هذا الوجه يذكر ابن عاشور توجيها آخر في الواو فيقول: (أو هي معطوفة على جملة (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) وجملة (ويوم ينفخ في الصور) معترضة بينهما لمناسبة ما في الجملة المعطوفة عليها من الإيماء إلى تمثيل الحياة بعد الموت، ولكن هذا استدعاء لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في هذا الكون من دقائق الحكمة وبديع الصنعة وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزة من جانب العلمي يدركها أهل العلم). (2) واحتج بعض علماء الفلك بأنه لا يمكن أن يكون المراد بهذه الآية ما قاله القدامى لوجوه:
الأول:- أن قوله تعالى :(وترى الجبال تحسبها جامدة) لا يناسب والتخريب إذا أريد بها ما يحصل يوم القيامة وكذلك قوله :(صنع الله الذي أتقن كل شيء لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة على أن محمل هذه الآية على المستقبل، مع أنها صريحة في إرادة الحال، شيء لا موجب له. وهو خلاف الظاهر منها. (3)
ويمكن الرد عليه كما ذكرنا سابقاً قول سيد قطب من إرادة التهديد وشمول الإتقان في الدنيا والآخرة.
__________
(1) محاسن التأويل 13/90.
(2) التحرير والتنوير 20/48.
(3) محاسن التأويل 13/89.(1/48)
أما الوجه الثاني: أن سير الجبال للفناء يوم القيامة، يحصل عند خراب العالم وإهلاك جميع الخلائق وهذا شيء لا يراه أحد من البشر أو نفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) أي الملائكة. فما معنى قوله إذن (وترى الجبال تحسبها جامدة).؟ (1)
ويمكن أن يرد على ذلك أيضاً أنه يمكن أن يكون ذلك في بداية المشاهد الكونية يوم القيامة التي أخبرنا بها الله تعالى قبل فناء الإنسان إذا كان المقصود بالرؤيا في قوله تعالى (وترى) بصرية كما ذكر ابن عاشور فيما ذكره أو هي رؤيا علمية كما ذكر الشعراوي (2) من أن ترى وردت في الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ). (3) ولم يكن الرسول في ذلك الوقت موجوداً وكذلك في قوله تعالى في سورة الكهف ولم يكن الرسول موجوداً في ذلك الحين ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ ) (4) وكان السياق قبل ذلك قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ ) (5) مما يدل على إحضار السامع لتلك المشاهد وتأثيرها في النفس وكأنه يشاهد تلك المشاهد الآن.
ومما يؤكد ذلك أيضاً قوله تعالى: ( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ) (6) وهناك احتجاج أخر وهو في قوله تعالى (تحسبها) الواردة في الآية بمعنى ظن لا تتفق مع ثبوت كل شيء يوم القيامة الذي لا شيء فيه سوى اليقين الذي لا شك فيه ولا ظنون بأي حال من الأحوال وكل شيء أمامك يقين فأنت ترى الجنة وترى النار فالحسبان في الدنيا واليقين في الآخرة. (7)
__________
(1) المصدر نفسه 13/89.
(2) المنتخب من تفسير القرآن الكريم 76-77.
(3) الفيل /1.
(4) الكهف /17.
(5) الكهف /12.
(6) الكهف /18.
(7) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 82 وينظر معجزة القرآن 92.(1/49)
والذي يبدو أن الحسبان يكون لمن لا يعلم حال الجبال وإنما ما يرى من صورة الجبال أمام العين البشرية كما في قوله تعالى ( وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً ) (1) فالحسبان لا يكون في الحياة الدنيا فقط لذا فلا داعي لهذا التكلف في إبعاد التشبيه الذي قال به القدماء وأيدهم عليه قسم من المحدثين.
واختلفوا في قوله (ترى) هل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك يقول ابن عاشور في حال جعلنا الآية معطوفة على قوله (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) ولهذا الاعتبار غيّر أسلوب الاستدلال الذي في قوله تعالى (ألم يروا أنا جعلنا) فجعل هنا بطريق الخطاب (وترى الجبال). والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تعليما له لمعنى يدرك هو كنهه ولذلك خص الخطاب به ولم يعّمم كما عمّم قوله (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) في هذا الخطاب، وادخارا لعلماء أمته الذين يأتون في وقت ظهور هذه الحقيقة الدقيقة. (2) ونسب كذلك الرؤية للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً الطبري (3) والقاسمي (4) .
أما جمهور المفسرين فقد ذكر ابن عاشور أنهم جعلوه لغير معين. (5) وهذا ما يبدو أيضاً من كلام أغلب أهل التفسير العلمي.
__________
(1) الإنسان /19.
(2) ينظر التحرير والتنوير 20/49 وينظر محاسن التأويل 13/90.
(3) جامع البيان 20/21.
(4) محاسن التأويل 13/90.
(5) التحرير والتنوير 20/47.(1/50)
وأخيراً يمكن القول بعد إيراد هذه الأدلة اللغوية وغيرها أن كلا التشبيهين اللذين ذكرهما القدماء وأهل التفسير العلمي له أدلة قوية ولهذا السبب لم يتمكن أحد الباحثين (1) من ترجيح أحدهما على الأخر. أما الدكتور سيد الجميلي (2) فيقول لا تعارض بين القديم والحديث وهو الذي يبدو هنا في هذا البحث وهذا من أسلوب القرآن الكريم البليغ المعجز في مخاطبته لجميع العصور دون تكذيبه من أحد فهو صالح لكل زمان ومكان ولا تنتهي عجائبه.
__________
(1) الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي في كتابه العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 50.
(2) الإعجاز العلمي في القرآن / سيد الجميلي 73.(1/51)
البحار
البحر في اللغة:
قال الخليل (1) : البَحْر سُمَّيَ به لأسِتبحاره، وهو انبسِاطه وسَعتُه. ومثل قول الخليل قال ابن فارس. (2)
وجاء في الصحاح (3) : البَحرْ خلاف البَرْ قيل سمي به لعمقه واتساعه والجمع (أبحْرُ) و (بِحَار) و (بُحُور) وكل نهر عظيم بحرٌ.
وفي اللسان (4) : البَحرُ الماءُ الكثيرُ ملحاً كان أو عذباً وهو خلاف البَرَّ، سمي بذلك لعمقه واتساعه ... وماءٌ بحرٌ ملح، قل أو كثر قال نصيب:
قد عاد ماء البحرُ ملحاً فزادني إليَّ مرضي، أن أبحْر المشرب العذب. (5)
قال ابن بري: هذا القولُ هو قول الأَموي لأنه كان يجعل البحر بحرٌ من الماء ملح فقط ... أما غيره فقال: إِنما سمي البحر بحراً لسعته وانبساطه، ومنه قولهم إن فلاناً لبحرٌ أي واسع المعروف، قال فعلى هذا يكون البحرُ للملح والعذب؛ وشاهدُ العذب قول ابن مقبل:
ونَحْنُ مَنَعْنَا البَحْرَ أَنْ تَشْرَبوا بهِ وقَدْ كَانَ مِنكُم مَاؤُهُ بِمَكَانِ (6)
قال الأزهري: كل نهر لا ينقطع ماؤُه مثل دِجْلَة والنَّيل وما أشبههما من الأنهار العذبة الكبار، فهو بحَرٌ. وأَما البحر الكبير الذي هو مغيض هذه الأنهار فلا يكون إلا ملحاً أجاجاً، ولا يكون ماؤه إلا راكدا وأما هذه الأنهار العذبة فماؤها جارٍ، وسميت هذه الأنهار بحاراً لأنها مشقوقة في الأرض شقاً ... ويقال إنما سمي بحراً لأنه شق في الأرض شقاً وجعد ذلك الشق لمائه قراراً. والبحر في كلام العرب: الشق.
وذكر صاحب القاموس (7) : البحر: الماء الكثير أو الملح فقط.
آيات البحار
البحر الملح والعذب:
__________
(1) العين (بحر) 3/219.
(2) مقاييس اللغة (بحر) 1/201.
(3) الصحاح (بحر) 2/585.
(4) لسان العرب (بحر) 4/41-42.
(5) شعر نصيب بن رباح 16.
(6) ديوان ابن مقبل 346.
(7) القاموس المحيط (بحر) 2/367.(1/1)
قال تعالى: ( وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ). (1)
العذب في اللغة:
قال الخليل (2) : عَذُب الماءُ عُذوبةً فهو عَذْبٌ طيب، وأَعْذبتُه إعذاباً واستعذبته أي أسقيته وأشربته عَذباً. والى مثل هذا ذهب ابن فارس. (3)
وقال الراغب (4) : عذب: ماءٌ طيب بارد قال (هذا عذب فرات).
وفي النهاية في غريب الحديث (5) : العذب، وهو الطيب لا ملوحة فيه.
أما الفراتُ: كُغراب: الماء العذب جداً ونهر بالكوفة. فرت: ماء فرات أي عذب، والفروتة مصدر، ولو قيل ماء فرتٌ لكان صواباً. يقال ماءٌ فرات، ومياه فُرات. (6)
وأما السائغ في اللغة:
فقال ابن فارس (7) : السين والواو والغين أصل يدلُّ على سهولة الشيء واستمراره في الحلق خاصّة، ثم يحمل على ذلك. يقال ساغ الشرابُ في الحلق سَوغاً .
وفي اللسان (8) : ساغ الشراب في الحَلقْ يَسُوغُ سَوْغاً سَهُلَ مَدْخلهُ في الحلق ساغَ الطعامُ سوغاً نزل في الحلق وشرابٌ سائغ أسوغ عَذب.
والأجاج في اللغة: قال ابن منظور (9) : ماء أجاج أي ملح، وقيل مرٌّ وقيل شديد المرارة، وقيل الأجاجُ شديد الحرارة، وكذلك الجمع. قال عز وجل: (هذا ملح أجاج)، وهو شديد الملوحة والمرارة، مثل ماء البحر وقد أجَّ الماء يؤُج أُجوجاً وفي حديث علي رضي الله عنه: وعذبها أُجاجٌ بالضم: الماء الملح، الشديد الملوحة.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
__________
(1) فاطر /12.
(2) العين (عذب) 2/102.
(3) مقاييس اللغة (عذب) 4/259.
(4) المفردات في غريب القرآن 490.
(5) النهاية في غريب الحديث (عذب) 3/195.
(6) ينظر العين (فرت) 8/5115 مقاييس اللغة (فرت) 4/489 لسان العرب 2/65 الصحاح (فرت)/259_260.
(7) مقاييس اللغة (سوغ) 3/116.
(8) اللسان (سوغ) 8/435.
(9) اللسان (أجج) 2/207.(1/2)
قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشبه البحر العذب والملح الأُجاج ومن كل أي ومن كل واحد منهما تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية وسوف نتحدث عن الحلية في كلا البحرين في الآيات اللاحقة. (1)
الضابط اللغوي:
قال الزمخشري (2) أن الله تعالى قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وعلق بهما عن نعمته وعطائه.وقال الآلوسي (3) : والتشبيه هنا يحمل ثلاثة أوجه:
الأول: أنه استطراد في صفة البحرين وما فيهما من النعم والمنافع.
الثاني: أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك بالملح وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكفار خلو من النفع على طريقة قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن لمن الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون. (4)
والثالث: أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة (ومن كل ..الخ) حالية وعندي خير أوجه الثلاثة أوسطها.
__________
(1) ينظر جامع البيان 22/124 الكشاف 3/982 التفسير الكبير 26/10 الجامع لأحكام القرآن 14/334 أنوار التنزيل 2/859 إرشاد العقل السليم 7/147.
(2) الكشاف 3/303.
(3) روح المعاني 22/179.
(4) البقرة /74.(1/3)
ومن الملاحظ هنا أن بعضهم يجعل البحار للنهر الكبير والبحار المالحة فيكون البحرين هنا على تثنية البحر العذب و البحر الملح ومنهم من يرى أن (البحر) يطلق على البحر الملح دون العذب أما قوله تعالى (وما يستوي البحران) فيكون على التغليب فقد ذكر الراغب الأصفهاني (1) إنما سمي العذب بحراً لكونه مع الملح لما يقال للشمس والقمر قمران .
وقد فصلت هذه الآية معنى البحرين أما الحلية فقد جاءت مجملة دون تفصيل وهو كل ما يلبسه الإنسان من هذه الحلية ما يخرج منها من الأنهار أو البحار دون تمييز وقد ذكرت آيات أخرى أنواعاً من هذه الحلي. ذكرت هذه الآية هنا لإيضاح المعاني بالتفسير العلمي للآيات التالية.
مرج البحرين والبرزخ الذي بينهما:
قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً ). (2)
المرج في اللغة: قال الخليل (3) : المَرْجُ: أرضٌ واسعة فيها نبْتٌ كثيرٌ تَمْرَجُ فيها الدَّوابُّ وقوله تعالى: (مرَجَ البَحّرَين يَلتَقِيانِ). (4) أي لاقى بين البحر العَذْب والمِلح قد مرجا فالتقيا، ولا يختلط أحدهما بأخر ... وأمر مريج أي ملتبس قد مِرَج مرجاً.
وذكر ابن فارس (5) : أن الميم والراء والجيم أصل صحيح يدلُّ على مجيء وذهابٍ واضطراب ومرج الخاتم في الاصبع: قِلقَ. وقياس الباب كله منه ... والمرج: أصله أرضٌ ذات نباتٍ تمرج فيها الدواب ... وقوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) كأنه جلّ ثناؤه أرسلها فمرجا وقال :(هو الذي مرج البحرين).
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (بحر) 49.
(2) الفرقان /53.
(3) العين (حرج) 6/120.
(4) الرحمن /19.
(5) مقاييس اللغة (مرج) 5/315-316.(1/4)
وفي اللسان (1) : المَرْجُ الفضاء، وقيل المرج أرض ذات كلأ ترعى فيها الدوابُ ... والمرج الخلط ومرج الله البحرين العذب والملح: خلَطَها حتى التقيا ... وقيل خلاّهما.
أما البرزخ في اللغة:
فقال الخليل (2) : البرزخ: ما بينَ كلَّ شيَئْيَنِ. وقال ابن فارس (3) : (ومما فيه حرف زائد (البَرْزَخ) الحائل بين شيئين، كأن بينهما بَرَازاً أي مُتسعاً من الأرض، ثم صار كلُّ حائلٍ بَرْزَخاً. فالخاء زائدة.
وفي الصحاح (4) : البرزخ الحاجز بين الشيئين وهو أيضاً ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث فمن مات فقد دخل البرزخ.
وفي اللسان (5) : وقيل أي حاجز خفي ... والبرزخ والحاجز والمُهلة متقاربات في المعنى، وذلك تقول بينهما حاجزٌ أن يتَزاورَا، فتنوي بالحاجز المسافة البعيدة، وتنوي الأمر المانع مثل اليمين والعداوة فصار المانع في المسافة كالمانع من الحوادث فوَقَعَ عليها البَرْزَخُ.
وجاء في مفردات الراغب (6) : البرزخ الحاجز والحد بين الشيئين وقيل أصله بَرْزَهُ فَعُرب.
أما الحجِرُ لغة:
فقال الخليل (7) : الحِجرْ والحُجْر لغتان: وهو الحرام، وكان الرجل يَلقَى غيره في الأشهر الحُرُم فيقول: (حجراً محجورا) أي حرامٌ مُحَّرمٌ عليك في هذا الشْهر ما لا يبدؤه بشرًّ.
وذكر ابن فارس (8) : أن الحاء والجيم والراء أصل واحد مطَّرد، وهو المنع والإحاطة على الشيء ... والحِجْر: الحرام.
وفي الصحاح (9) : الحِجْر: الحرام بكسر وبفتح، والكسُر أفصح.
__________
(1) لسان العرب (مرج) 2/364-366.
(2) العين (برزخ) 4/338.
(3) مقاييس اللغة (برزخ) 1/333.
(4) الصحاح (برزخ) 1/419.
(5) لسان العرب (برزخ) 3/8.
(6) المفردات في غريب القرآن (برزخ) 56.
(7) العين (حجر) 3/74.
(8) مقاييس اللغة (حجر) 2/138-139.
(9) الصحاح (حجر) 2/623.(1/5)
وفي اللسان (1) : والحِجرْ المنع حَجَر عليه يحجُرُ حَجراً وحُجراً وحِجراً وحِجراناً مَنَعَ منه. وقال الراغب (2) : الحجر والتحجير أن يجعل حول المكان حجارة يقال حجرته حجراً.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
ذكر المفسرون عدة معاني لقوله تعالى: (مرج البحرين).
عن ابن عباس (هو الذي مرج البحرين) يعني أنه خلع أحدهما على الآخر وعن مجاهد (مرج البحرين) أرسلهما وأفاض أحدهما على الآخر وقال ابن عرفة (مرج البحرين خلطهما فهما يلتقيان يقال مرجته إذاً خلطته (3) ... ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاص: (إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه.. الخ). (4) وقال الطبري: (وإنما عني بذلك أنه من نعمته على خلقه وعظيم سلطانه يخلط ماء البحر العذب بماء البحر الملح الأجاج ثم يمنع الملح من تغيير العذب من عذوبته وإفساده إياه بقضائه وقدرته). (5) وقال القرطبي (6) والبيضاوي (7) (مرج البحرين) خلىّ وخلط وأرسل خلاهما وأرسلهما من مرجت الدابة إذا خلاها وأرسلها و (مرج البحرين) خلاهما وأرسلهما متجاورين متلاصقين لا يمتزجان.
أما قوله تعالى ( وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ) فلا تختلف أقوال المفسرين عن أقوال أهل المعاجم اللغوية وقد ذكرناها سابقاً.
وأما البرزخ فهو الحاجز والحائل بين شيئين وقد ذكر ابن الجوزي أن في هذا الحاجز قولين:
__________
(1) لسان العرب (حجر) 4/167.
(2) المفردات في غريب القرآن 156.
(3) ينظر جامع البيان 19/23 ، الجامع لأحكام القرآن 13/58 أنوار التنزيل 2/740 روح المعاني 19/33 في ظلال القرآن 6/114 التحرير والتنوير 19/54.
(4) ينظر السفن الكبرى رقم الحديث (10033) 6/59 مسند احمد (6987) 2/212.
(5) جامع البيان 9/24.
(6) الجامع لأحكام القرآن 13/58.
(7) أنوار التنزيل 2/740.(1/6)
أحدهما: أنه مانع من قدرة الله تعالى قاله الأكثرون (1) قال الزجاج: فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان، ولا يختلط أحدهما بالآخر. ونقل عن أبي سليمان الدمشقي قوله رأيت عند (عبادان) (2) من سواد البصرة الماء العذب ينحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر فيلتقيان، فلا يختلط أحدهما بآخر: يرى ماء البحر إلى الخضرة الشديدة وماء دجلة إلى الحمرة الخفيفة، فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذباً لا يخالطه شيء، والى جانبه ماء البحر في مكان واحد.
والثاني أن الحاجز: الأرض واليبس وهو قول الحسن، والأول أصح. (3)
وعن ابن عباس قال (جعل بينهما برزخاً) قال البرزخ الأرض بينهما وعنه أيضاً سلطاناً من قدرته وعن مجاهد (وجعل بينهما برزخا) محبساً وقال ابن زيد ستراً لا يلتقيان. (4)
أما قوله حجراً محجوراً يعني حجر أحدهما عن الآخر بأمره ،عن ابن عباس حجراً محجوراً حراماً محرماً أن يعذب هذا الملح بالعذب أو يملح هذا العذب بالملح. (5)
قال البيضاوي: (وحجراً محجوراً تناضراً بليغاً كأن كلاً منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ عنه). (6)
النظرة العلمية في التفسير:
__________
(1) ينظر جامع البيان 19/24-25 زاد المسير 6/91 الجامع لأحكام القرآن 13/58 معاني القرآن للنحاس 5/36 معاني القرآن وإعرابه 5/100 إرشاد العقل السليم 6/225 روح المعاني 19/33.
(2) مدينة عبادان تقع تحت البصرة قرب البحر الملح .معجم البلدان 4/74.
(3) ينظر زاد المسير 6/91.
(4) ينظر جامع البيان 19/24 الجامع لأحكام القرآن 13/58 ، 13/222.
(5) المصدر نفسها.
(6) أنوار التنزيل 2/740.(1/7)
توصل العلم الحديث، بعد الملاحظات والدراسات، إلى أن تدفق مياه الأنهار في البحار يتم عبر نقطة المصب. فتدخل مياه النهر البحر ... وعندما تقل سرعة تدفق ماء النهر في ماء البحر عن قيمة حرجة فإن جزءاً من ماء النهر (وهو الأقل كثافة) يطفو على سطح البحر، ويختلط الجزء الآخر بماء البحر في منطقة المصب.. ومن الملاحظ أن تيار الماء المتدفق من مصب النهر في البحر يزيح الصخور التي تعترض، ويقذف بها بعيداً عن منطقة المصب والاختلاط، وبذلك تكون منطقة المصب أو الاختلاط ذات خصائص مختلفة عن خصائص البحر أو النهر، سواء في لون الماء أو في نوعيات الكائنات الحية التي تنمو فيها ... والناظر في هذه المنطقة يرى وكأن برزخاً – وهو الحاجز أو المانع في اللغة – يحيط بها ويفصلها عما عداها من مناطق البحر أو النهر، فقاع البحر في هذه المنطقة تكسوه عادة رمال أو طمى بخلاف قاع البحر في المناطق القريبة الأخرى التي قد تكسوها الصخور أو الطحالب. (1)
ومن الجدير بالذكر هنا ظاهرة عدم اختلاط الماء العذب بالماء المالح عند التقاء الحادث بين مصبات الأنهار وشواطئ البحار لدرجة أن اختلاط المياه لا يتم أحياناً إلا في عرض البحر: ويظل نوعا الماء منفصلين لمسافات طويلة وكأن بينهما حداً فاصلاً. ويرجع هذا إلى ظاهرة تسمى قوة التوتر السطحي الناشئة من اختلاف التجاذب بين جزئيات الماء العذب والماء المالح لاختلاف كثافتهما فيبدو لنا بوضوح الحد الفاصل بينهما. (2)
__________
(1) المنظار الهندسي 590.
(2) الكون والإعجاز العلمي للقرآن 177. وينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 60-61، تيسير الرحيم الرحمن 119 ،إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 110 ،الظواهر الجغرافية بين العلم والدين 29-31 القرآن الكريم والتوراة والإنجيل 205 ،الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد السيد أرناؤوط 272.(1/8)
والمقصود بالبرزخ هو الحد الفاصل الناشئ عند التوتر السطحي بين البحرين العذب والمالح، وعن قوة الجاذبية التي تجعل الأنهار تصب في البحار وليس العكس، وعن الدورة الهيدرولوجية التي تبخر الماء من البحار لتعيده في الأنهار ويظل التوازن قائماً والحاجز موجوداً. (1)
وهناك إشارات قرآنية علمية أخرى سوف نتناولها في الضابط اللغوي.
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
الفعل (مرج) يعني خلط، وهو يعني الاختلاط بغير مزج عام، فإذا اختلط شخص وسط مجموعة من الناس، فهو اختلط معهم ولم يمتزج بهم. ومن هنا جاء التعبير عن المراعي والبساتين أحياناً بلفظ (مروج) أي الأماكن النباتية الخضراء التي ترعى فيها الدواب، وتختلط مع بعضها، ولكنها في آخر النهار تنفصل ويذهب كل مع صاحبه وفي قوله مرج معنى آخر سنذكره في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان).
أما قوله تعالى (البحرين) فقد ذكرنا سابقاً أن المراد بالبحرين هنا النهر العذب والبحر الملح بدلالة سياق الآية المتأخر وهو قوله تعالى هذا عذب فرات وهذا ملح (أجاج) فقد أوضح سياق الآية المراد من هذين البحرين فهو توضيح بعد إبهام فقد يكون البحرين المراد منهما البحرين الملحين على التثنية ويحتمل أيضاً أن يكون النهر العذب مع البحر الملح على من جعل البحر الذي ماؤه كثير للعذب أو الملح على السواء ومن يجعل البحر للملح فقط يجعل قوله تعالى (البحرين) على التغليب أي تغليب البحر على النهر كما في قولنا القمرين للشمس والقمر. وقد وضح سياق الآية المتأخر أن المراد منه هو مرج الماء العذب الفرات بالماء الملح الأجاج دون البحرين الملحين والتي أشارت إليه آية أخرى.
__________
(1) الكون والإعجاز العلمي 177.(1/9)
وأما الألف واللام في قوله تعالى (البحرين) فقد يكون المقصود منه بحار معينة فـ (الألف واللام) هنا للعهد كما فهم بعض المفسرين فقد ذكر ابن عاشور أنه أريد هنا ملتقى ماء نهري الفرات ودجلة مع ماء بحر خليج العجم (الخليج العربي) وقد يكون (المقصود مطلق البحر العذب والبحر الملح) (1) الألف واللام هنا جنسية وليست لبحرين مُعينين.
وأما قوله( برزخ ) فقد ذكر بعضهم أنه خفي ولم يشر إلى ذلك أكثر المفسرين وأهل المعاجم. وقد أشار بعضهم أنه يشاهد عياناً في مصب الأنهار. (2)
ويقول الدكتور أنيس الراوي أن هناك جبالاً في عمق البحار تفصل بين المحيطات وكذلك مياهها مفصولة من فوق الجبال بواسطة الشد السطحي للمياه مما يدل أنه ليس شرطاً أن يكون هذا البرزخ خفياً كما قال بعضهم.
وفي قوله تعالى (حجراً محجورا) أشار أصحاب المعاجم أنه بمعنى المنع وقد كان العرب يقولون (حجراً محجورا) أي حراماً محرماً وقد وجد أن هناك مانعاً يمنع الأسماك التي تعيش في العذب بأن تدخل في الماء المالح، لأن طبيعة كل منهما تختلف عن الآخر فلو لم يكن ذلك. (3) الحاجز لماتت الأسماك التي تدخل الماء العذب من الماء المالح وبالعكس.
يقول الأستاذ الدكتور أنيس الراوي: إذا خرج حيوان الماء العذب إلى الماء المالح ينقبض(Plasolysis) ويصبح جافاً أما إذا دخل حيوان الماء المالح العذب انفجر بعملية الامتلاء الحاد لخلاياه(turgidity) ليدخل الماء بشدة لموازنة الأملاح في جسم الكائن. (4)
__________
(1) المشاهد في القرآن الكريم 92.
(2) ينظر زاد المسير 6/91، المنظار الهندسي للقرآن الكريم 592.
(3) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 61.
(4) ينظر المنظار الهندسي 591.(1/10)
ولم يذكر قوله تعالى حجراً محجوراً في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) والتي تدل على البحرين الملحين كما سنبين لأنه يمكن دخول أسماك بحر في بحر آخر (1) وهذا يشير إلى دقة استعمال الألفاظ في القرآن الكريم وإعجازه العلمي واللغوي.
وقوله تعالى: (حجراً محجورا) (2) هو مصدر والتقدير حجرنا حجراً والفتح والكسر لغتان قرئ بهما. (3) والرازي (4) يقول: (حجراً محجورا) هي كلمة يقولها المتعوذ وهي واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول حجراً محجورا.
أما ابن عاشور فيقول: وحجراً مصدر منصوب على المفعولية به لأنه معطوف على مفعول (جعلنا). وليس هنا مستعملا في التعوذ كالذي في قوله تعالى: (ويقولون حجراً محجورا). و(محجورا) وصف لـ(حجرا) مشتق من مادته للدلالة على تمكن المشتق منه كما قالوا: ليل ألْيَل. ووقع في الكشاف تكلف بجعل (حجراً محجورا) هنا بمعنى التعوذ كالذي في قوله (ويقولون حجراً محجورا) ولا داعي إلى ذلك لأن ما ذكره من استعمال (حجراً محجورا) في التعوذ لا يقتضي أنه لا يستعمل إلا كذلك. (5)
معنى البحرين في سورة الرحمن:
قال تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ). (6)
اللؤلؤ في اللغة: قال ابن فارس (7) :وأما اللام والهمزة فيدلُ على صفاء وبريق من ذلك تلألأت اللؤلؤة، وسّميت لأنها تلألأ. والعرب تقول (لا أفعله مالألأت الفُر بأذنابها) أي ما حركتها ولمعت بها.
__________
(1) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أو عليه 61-62.
(2) الرحمن /19-22.
(3) التبيان في إعراب القرآن 162.
(4) التفسير الكبير 24/87.
(5) ينظر التحرير والتنوير 19/ 54-55.
(6) الرحمن / 19-22.
(7) مقاييس اللغة (لأ) 5/199.(1/11)
وفي مختار الصحاح (1) : (تلألأ) البَرْقُ لَمعَ. واللؤلوة) الدرة والجمع (اللُّؤْلؤ) و ( الَّلآلئُ).
أما المرجان لغة:
جاء في الصحاح (2) المرجان: صغار اللؤلؤ وفي اللسان (3) المرجان صغار اللؤلؤ، واللؤلؤ اسم جامع للحب الذي يخرج من الصدفة، والمرجان أَشد بياضاً ولذلك خص الياقوت والمرجان فشبه حور العين بهما قال أبو الهيثم: اختلفوا في المرجان فقال بعضهم هو البُسَّذُ، وهو جوهر أحمر يقال إن الجن تُلقيه في البحر.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
اختلف المفسرون في قوله تعالى :(مرج البحرين يلتقيان) منهم من قال التقاء البحر العذب بالبحر المالح ومنهم من قال بحر الروم وفارس فإنهما يلتقيان في بحر المحيط، وبينهما برزخ من الأرض، لا يتجاوزان حديهما وهو مروي عن قتادة والحسن وقيل أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض. عن مجاهد وسعيد وغيرهما إلى غيرها من الأقوال التي لا داعي لذكرها هنا. (4)
أما اللؤلؤ والمرجان فقد اختلفوا فيه أيضاً عن أبن عباس قال اللؤلؤ ما عظم منه والمرجان الصغار وبسند آخر عن أبن عباس: المرجان عظام اللؤلؤ وهو ما ذكر عن علي بن أبي طالب وعن مجاهد وأخرج عبد بن حميد ابن حرير عن مرة قال: المرجان جيد اللؤلؤ وعن عبد الله بن مسعود قال المرجان الخرز الأحمر إلى غيرها من الأقوال وهذا هو الصواب قال عطاء الخرساني وهو البسذ وقيل هو نوع من الجواهر أحمر اللون. (5)
__________
(1) مختار الصحاح / لألأ 587.
(2) الصحاح (مرج) 1/341.
(3) لسان العرب (مرجن) 13/406.
(4) ينظر جامع البيان 27/129 أنوار التنزيل 2/1033، فتح القدير 5/134، تفسير القرآن العظيم 4/273 محاسن التأويل 5/286.
(5) ينظر تفسير القرآن العظيم 4/273 ،أنوار التنزيل 2/1033 ،الدر المنثور 7/697، تفسير الصنعاني 3/163، جواهر الحسان 4/243 إرشاد العقل السليم 8/180 فتح القدير 5/134 محاسن التأويل 5/286 روح المعاني 27/106.(1/12)
وقد اختلفوا أيضاً في خروج اللؤلؤ والمرجان من البحرين وسنتناوله في الضابط اللغوي.
النظرة العلمية في تفسير الآية:
من البرازخ ما اكتشفته البعثة الألمانية في عام (1962م) في مياه باب المندب (1) حيث وجدت أن خصائص المياه فيه تختلف عن خصائص كل من البحرين الملتقين عنده، وفي عام (1982م) ذكرت بعثة هندسية علمية أمريكية إلى أن الحاجز في باب المندب يتحرك بالمد والجزر والرياح فهو مرج بين البحر الأحمر والمحيط الهندي ومع هذا لا يبغي ماء الأول على الماء الثاني. (2)
والتحليل العلمي لظاهرة البرازخ يرجع إلى أن مياه كل بحر تغاير مياه البحار الأخرى في صفاتها الكيميائية من حيث درجة الحرارة والكثافة والملوحة بل أنها تختلف حتى في الكائنات الموجودة فيها مما يمنع اختلاط المياه والكائنات مع بعضها عند التقاء البحرين، وإذا حدث وكان هناك مداً أو ريحاً عاصفة فإن يسيراً من مياه أحد البحرين يطفو على مياه البحر الأخر وعند التقاء هذه المياه تنتقل معها أحياؤها وبعد أن يزول سبب انتقالها تعود أدراجها إلى موقعها حاملة معها أحيائها. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي للآية:
__________
(1) باب المندب: مضيق مائي يربط بين البحر الأحمر من جهة الشمال والمحيط الهندي وخليج عدن والبحر العربي في الجنوب ويبلغ عرضه 26كم. ينظر الموسوعة العربية الميسرة: 1/259.
(2) ينظر دلائل الحق في عظمة الخالق، 65. حقائق القرآن والعلم الحديث 100-101 إعجازات قرآنية حديثة علمية ورقمية المنظار الهندسي 591-592.
(3) ينظر القرآن والطب 41.(1/13)
ذكرنا سابقاً أن (المرج) يأتي بمعنى الخلط وهو ما فسرنا به الآية السابقة من خلط مياه العذبة بالمياه المالحة دون امتزاجها وتأتي أيضاً بمعنى خلط مياه البحرين الملحين دون امتزاجهما كما ذكرنا في مياه باب المندب أما المعنى الثاني للمرج فيدل على مجيء وذهاب واضطراب كما ذكر ابن فارس في مادة مرج وهذا ما يطابق حال هذا الحاجز الذي ذكرناه في باب المندب حيث يلتقي البحر الأحمر بالمحيط الهندي (فوجدوا أن هناك خطاً واحداً يفصل بين الماءين). ولكن هذا الخط أو الحاجز غير ثابت فمرة يذهب إلى الشرق ومرة إلى الغرب حسب هبوب الرياح الموسمية وإذا حدث مد عاد الحاجز إلى وضعه الأول وإذا حدث جزر تحرك الحاجز ذهاباً وإياباً واضطرب) (1) فهذا الحاجز غير ثابت فهو مضطرب، كما في (مرج) الدالة على الذهاب والإياب والاضطراب. (2)
وفي قوله تعالى هنا (البحرين) جاءت على تثنية كلمة (بحر) وقد ذكرنا اختلاف أقوال المفسرين في هذه الآية فمنهم من يرى أن المقصود بهما البحرين العذب والملح ومنهم من يرى مرج الملح بالملح وقد خصص بعضهم ذلك ببحر الروم وبحر فارس كما ذكرنا والذي يبدو أنها تحتمل أيضاً أن تكون (أل) في قوله (البحرين) ال الجنسية فهي منطبقة على جميع البحار ويبدوا أيضاً أن البحرين هنا المقصود بهما الملحان دون التقاء الملح بالعذب وذلك بدلالة السياق المتأخر للسورة وهو قوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) فهما موجودان في البحار المالحة على أن البعض (3) قال بوجود اللؤلؤ في المياه العذبة كما عثر على محارة (الأنيو) وكثير من أنهار أوربا وأمريكا الشمالية وكذا الحال مع المرجان وإن كان الغالب يستخرج من ماء المالح.
__________
(1) ينظر المنظار الهندسي 592.
(2) المصدر نفسه 591.
(3) تفسير المراغي 27/113.(1/14)
على أن البعض الآخر ينكر ذلك يقول الدكتور عبد الرحيم العبادي (1) : (وهذه الحقيقة – الحاجز بين البحرين قد ثبتت في البحار المالحة، لا البحار العذبة كما فهم بعض المفسرين حسبما بدا لهم، والدليل على ذلك قوله تعالى (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) فالمرجان حيوان بحري ولا يستخرج إلا من البحر، ولم يثبت أنه يعيش في الأنهار البتة.ومشاهدة اللؤلؤ والمرجان في البحار المالحة لا يخفى على أحد في الماضي والحاضر) وهذا يدل على أنهما بحران مالحان نظراً لطبيعة نوع الحيوان الذي يعيش فيه. (2)
وقد ذكر العكبري (3) أن قوله تعالى: (يخرج منهما) قالوا التقدير من أحدهما. ولا يخلو هذا الكلام من التكلف وعدم التقدير أولى من التقدير.
وقال ابن عاشور (4) : إن كان المراد بالبحرين: بحرين معروفين من البحار المالحة تكون (من) في قوله (منهما) ابتدائية لأن اللؤلؤ والمرجان يكونان في البحر الملح. وإن كان المراد بالبحرين: البحر الملح، والبحر العذب كانت (من) في قوله منهما للسببية كما في قوله تعالى (فمن نفسك) (5) ، أي يخرج اللؤلؤ والمرجان بسببهما، أي بسبب مجموعهما. أما اللؤلؤ فأجوده ما كان في مصب الفرات على خليج فارس، قال الرماني لما كان العذب كالقاح للماء الملح في إخراج اللؤلؤ، قيل: يخرج منهما كما يقال: يتخلق الولد من الذكر والأنثى.
__________
(1) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 57.
(2) ينظر المنظار الهندسي 591.
(3) التبيان في إعراب القرآن 251.
(4) التحرير والتنوير 27/249-250.
(5) النساء /79.(1/15)
وقال القاسمي (1) إنما قيل (منهما) مع أنه يخرج من أحدهما، وهو الملح، لأنه لامتزاجهما يكون خارجاً منهما حقيقة، أو أنه نسب لهما ما هو لأحدهما، كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم.. ومثله (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) وإنما أريد أحدى القريتين. وكما يقال: هو من أهل مصر وإنما هو من محلة منهما.
وذكر القاسمي أيضاً أن الشهاب قال: ولا يخفى أن هذا، وإن اشتهر، خلاف الظاهر فإما أن يكون ضمير منهما بحري فارس والروم، أو يقال معنى خروجه منهما ليس أن المتكون فيهما، بل أنهما يحصلان في جانب من البحار أنصبّت إليها المياه العذبة. (2)
والذي يبدو أن التفسير العلمي يطابق التأويل الأول لقول الشهاب على أن البحرين الملحين غير معينين كما ذكرنا فهذا الظاهر من الآية من غير اللجوء إلى التأويل والمشهور خروج اللؤلؤ والمرجان من البحر الملح دون العذب. وعلى هذا تكون الآية قد أضافت علوماً جديدة – وهي الحاجز بين البحرين المالحين – إضافة إلى علمنا بوجود حاجز بين البحرين الملح والعذب التي أشارت إليها الآية السابقة وهذا الأسلوب معروف في القرآن الكريم فقد يورد القرآن قصة (3) يذكر جانباً منها ويذكرها مرة أخرى مع ذكر جوانب أخرى تنساق مع سياق السورة التي وردت فيها هذه الجوانب ولم يكن قد ذكرها سابقاً ومن مجموع الآيات نحصل على كل مشاهد تلك القصة. وكذا في آيات البحار فقد أورد في آيات ظاهرة مرج البحرين العذب والملح وفي هذه الآية البحرين الملحين.
وفي قوله تعالى ( وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ) (4) ذكر الحاجز بين البحرين مجرداً كأنه تلخيص للبرزخ وليس هذا موضع بيان كما في سورة الفرقان وغيرها. (5)
ظلمات البحر:
__________
(1) محاسن التأويل 15/287.
(2) محاسن التأويل 15/287.
(3) كما في قصة موسى عليه السلام.
(4) النمل /61.
(5) الإسلام في عصر العلم 306.(1/16)
قال تعالى: ( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ). (1)
معنى لجج في اللغة:
قال الخليل (2) : وبَحْر لُجَّيُّ أي واسِعُ اللُّجَّةِ. والْتجَّ الظَّلامُ : اختَلَطَ، والأصوات اختَلطَتْ وارتفَعَتْ.
وذكر ابن فارس (3) أن اللام والجيم أصل صحيح يدلُّ على تردّد الشيء بعضه على بعض، وترديد الشيء ... ومن الباب لُجُّ البحر، وهو قاموسُه، وكذلك لُجَّته، لأنه يتردَّد بعضه على بعض يقال التجَّ البحر التجاجاً وفي الحديث (4) : (مَن ركِب البحر إذا التجَّ فقد بَرِئَتْ منه الذَّمّة). ... والتجاج الظلام: اختلاطه، وهو مشبه بالتجاج البحر. ويستعار هذا فيقال عين مُلتجَّة: أي شديدة السَّواد.
وفي الصحاح (5) : ولُجة الماء بالضم معظمُه، وكذلك اللج ومنه بحر لجي. ولَجَّجتِ السفينة (تلجيجاً) خاضت اللُّجة.
وقال ابن منظور (6) : ولجة البحر: حيث لا يدرك قَعْرُه ... ولُجَّ البحر: عُرْضه .. ولُجُ البحر الماء الكثير الذي لا يُرى طرفاه.. ولجة الماء بالضم معظمُه. وخص بعضهم به معظم البحر، وكذلك لجُة الظلام، وجمعه لُجُّ ولُجَجٌ ولِجاجٌ .. ولجُ الليل: شدة ظلمته وسواده، قال العجاج يصف الليل:
ومُحْدِرُ الأبصار أخْدَرِي لجُّ كأن نأيه مني (7)
__________
(1) النور /40.
(2) العين (لج) 6/19.
(3) مقاييس اللغة / لج 5/201-202.
(4) في مسند احمد (من ركب البحر إذا اربّح فقد برئت منه الذمة) (22387) 5/271.
(5) الصحاح (لج) 1/338.
(6) لسان العرب (لجج) 2/355.
(7) ديوان العجاج / رواية عبد الملك بن قريب الاصمعي 318.(1/17)
أي كأن عطف الليل معطوف مرة أخرى، فأشتد سواد ظلمته ... وبحر لُجاجٌ ولجي: واسعُ اللُّج ... ويقال: هذا لُجُّ البحر ولَجَّة البحر وقال بعضهم اللُجة الجماعة الكثيرة كلجة البحر ... والتج الظلام التبس واختلط.
أما الغشاوة لغة:
قال ابن فارس (1) : الغين والشين والحرف المعتل أصل صحيح يَدلُّ على تغطية شيء بشيء. يقال غَشَّيت الشيءَ أُغَشَّية. والغشاء: العطاء.
وفي الصحاح (2) : الغشاء الغطاء وجعل على بصره(غٌَشْوَةً) بفتح الغين وضمها وكسرها و(غِشَاوةً) بالكسر أي غطاءً. ومنه قوله تعالى: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون). (3)
أقوال المفسرين في هذه الآية:
ضرب الله مثلاً للكفار بالبحر اللجي وهو البعيد القعر الكثير الماء يغشاه بعلوه موج وهو ما ارتفع من الماء من فوقه موج متراكم بعضه على بعض من فوق الموج سحاب وهذه كلها ظلمات بعضها فوق بعض ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر واختلف المفسرون في قوله (لم يكد يراها)، فمنهم من قال لم يعرف من أين يراها ومنهم من قال يكون معناه إذا أخرج يده لم يرها فقوله لم يكد في دخوله في الكلام نظير دخول الظن فيما هو يقين كقوله: (وظنوا ما لهم من محيص) ونحو ذلك، ومنهم من قال قد رآها بعد بطء وجهد كما يقول القائل لآخر ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد إياس وشده وهذا القول الثالث هو أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب آكاد في كلامها اللغوي. (4)
__________
(1) مقاييس اللغة (غشى) 4/425.
(2) الصحاح (غشا) 6/2446.
(3) يس / 9.
(4) ينظر جامع البيان 18/150 تفسير الواحدي 2/766 الجامع لأحكام القران 12/283 أنوار التنزيل 2/723 روح المعاني 18 / 182.(1/18)
أما الرازي (1) فيفسر قوله تعالى (بحر لجي) يكون قعره مظلماً جداً بسبب غمورة الماء فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى، فالواقع في قعر هذا البحر اللجي في نهاية شدة الظلمة. وبهذا يختلف الرازي عن غيره من المفسرين من الذين يرون واقع هذا المشهد هو في وسط البحر المتلاطم لا في قعره وذلك مفهوم من كلامهم فالقرطبي (2) يقول: (وقيل: المعنى يغشاه موج من بعده موج فيكون المعنى الموج يتبع بعضه بعضاً حتى كأن بعضه فوق بعض وهو أخوف ما يكون إذا توالى موجة وتقارب ومن فوق هذا الموج سحاب وهو أعظم للخوف من وجهين أحدهما أنه غطى النجوم التي يهتدى بها الثاني الريح التي تنشأ مع السحاب والمطر الذي ينزل منه ظلمات بعضها فوق بعض).
النظرة العلمية في التفسير:
اثبت العلم الحديث فعلاً أن هناك موجاً يعلو أحدهما الآخر في عام 1900 أكتشف علماء البحار الاسكندنافيون إن هناك أمواجاً داخلية في المحيطات غير السطحية المعروفة، وقد صورت هذه الأمواج في عام 1973 بواسطة الأقمار الصناعية، وطول هذه الأمواج الداخلية يبلغ حوالي 10كم، وسمكها آلاف الأمتار، والمسافة بين الموجة السحيقة والأخرى المجاورة لها في الأعماق بلغ حوالي 3-4 كم وهذا النوع من الأمواج لا يوجد إلا في المحيطات (البحار المظلمة) حيث تبدأ الظلمة على عمق مئتي متر فقط وكلما زاد العمق زادت الظلمة حتى تكون الظلمة التامة على عمق 1000 متر حيث يستحيل وصول ضوء الشمس إلى تلك الأعماق بسبب تراكم طبقات المياه والموج الداخلي والخارجي الذي يسبب انكسار أشعة الشمس وتفرقها وامتصاصها وكذلك الغيوم الكثيفة التي تحجب ضوء الشمس. (3)
__________
(1) التفسير الكبير 24/8.
(2) الجامع لأحكام القران 12/283.
(3) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 65-66، المنظار الهندسي 593، تيسير الرحيم الرحمن 214-216.(1/19)
والآية تتحدث عن ظلمات متراكبة ومتتالية وليست ظلمة واحدة وقد اكتشف العلم الحديث شيئاً عجيباً لا يحدث إلا في البحار العميقة وهو أن طيف النور الأبيض لو أدخل إلى منشور التحليل الضوئي سيتحلل إلى سبعة ألوان من الأحمر إلى البنفسجي وهذا ما يدعى بألوان الطيف الشمسي وهي ظاهرة فيزيائية معروفة ولكن بعد إدخال هذه الحزمة من ألوان الطيف الشمسي إلى سطح مياه البحر العميق عمودياً وجد أن:
- على عمق 10 متر يختفي اللون الأحمر ويتحول إلى سواد.
- على عمق 30 متر يختفي اللون البرتقالي ويتحول إلى سواد.
- على عمق 50 متر يختفي اللون الأصفر ويتحول إلى سواد.
- على عمق 100 متر يختفي اللون الأخضر ويتحول إلى سواد.
- على عمق 200 متر يختفي اللون الأزرق ويتحول إلى سواد.
- على عمق 500 متر يختفي اللون البنفسجي ويتحول إلى سواد.
ثم يلاحظ بعدها أن اللون الأسود له حركة على عمق 500متر إلى 1000 متر فإذا تحرك أي جسم على هذا العمق لوحظ أن هناك حركة في اللون الأسود فهي إذن طبقات متراكبة وظلم متتالية، ثم تصف هذه الآية الكريمة هذا المستوى تحت سطح البحر اللجي(إذا اخرج يده لم يكد يراها) فهي حالة بين الرؤية وانعدامها وتتمثل بحركة اللون الأسود تحت هذا العمق. (1)
الضابط اللغوي في التفسير:
__________
(1) ينظر مجلة الإعجاز العلمي والتفكر ،الموسم الثاني 2002 ص 30 ، تيسير الرحيم الرحمن 215.(1/20)
من أسلوب القرآن الكريم أن يضرب الأمثال للناس لإيصال الفكرة أو الصورة بشكل أوضع وأوسع وأكثر إدراكاً إليهم وقد ضرب الله مثلاً في هذه الآية من مشاهد الطبيعة المألوفة لديهم والأقرب إليهم فهم يعرفونها ويتعاملون يومياً معها لذا جاء تشبيه حال الكفار يوم القيامة بحال تلك الظلمات الموجودة في الطبيعة وعلى طريقة تشبيه التركيب (وهذا التمثيل من قبيل تشبيه حالة معقولة بحالة محسوسة كما يقال شاهدت سواد الكفر في وجه فلان) (1) أو كما قال تعالى: (كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلما). (2) في تجسيد هذه الظلمة بشكل ملموس أقرب إلى التصور الإنساني وأكثر إدراكاً للمعاني المعقولة بسبب اشتراك الحواس في لمس هذه الظاهرة وتقريبها إلى العقل البشري.
(وهكذا ترى هذه الصورة الرائعة التي رسمها الخالق عز وجل كانت أكثر عمقاً في تصوير ضياع أعمال الكافرين وبطلانها، فيها اختلطت الظلمات الحسية بالظلمات المعنوية اختلاطاً وحشرت فيها حشراً، فهي مجموعة من الظلمات والأهوال التي تتجلى في البحر العميق الذي لا يدرك قعره والموج المتلاطم الذي يغشي ذلك البحر والسحاب القاتم الذي غشي الجميع). (3) إنها أروع لوحة من لوحات (الظلام) في مشاهد الطبيعة يمكن أن ترسمها ريشة أو آلة مصورة. ومع أن المشهد لم يكن معروضاً هنا لذاته، وإنما لتصوير حالة الظلام النفسي الذي يورثه الكفر للنفوس، فأنه أمدنا بلوحة طبيعية رائعة يتملأها الحس والخيال، ويعمل فيها (الفن) بحرية وانطلاق! (4)
__________
(1) التحرير والتنوير 18/255.
(2) يونس /27.
(3) المنتخب في تفسير القرآن الكريم 255.
(4) ينظر منهج الفن الإسلامي / محمد قطب 226.(1/21)
ولم تكن هذه الآية لتمثل صورة واحدة يشترك الجميع في تخيلها فهي تختلف في عمقها بحسب اختلاف ثقافة الناس وعلومهم لنجد فيها صوراً جديدة مغايرة عن الصورة الأولى التي رآها القدامى مستنبطة من العلوم الحديثة المكتشفة تسندها ألفاظ القرآن الكريم التي تتحمل تلك المعاني والصور المذهلة.
فهذه الصور الحديثة منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يلفها الضباب، ولا يمكن للمرء أن يتصورها إلا في النواحي كثيفة الضباب في الدنيا الجديدة أو في إيسلندا.. وفي الآية فضلاً عن الوصف الخارجي الذي يعرض له المجاز المذكور سطر خاص بل سطران: أولهما: الإشارة الشفافة إلى تراكم الأمواج. والثاني: هو الإشارة إلى الظلمات المتكاثفة في أعماق البحار، وهاتان العبارتان تستلزمان معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحر، وهي معرفة لم تتح للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية ... وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج وظاهرة امتصاص الضوء واختفائه على عمق معين في الماء، وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا المجاز إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قارية. (1)
ولكي نثبت صحة ودقة هذا التصوير الحديث يجب علينا عرضه على الضوابط اللغوية والتفسيرية والمقارنة بين المعاني القديمة والحديثة وكيفية تصرف اللفظ وتحمله لتلك المعاني ودور القراءات في تجسيد تلك الصور.
__________
(1) ينظر الظاهرة القرآنية / مالك بن نبي ترجمه عبد الصبور شاهين 356.(1/22)
فـ (أو) في قوله (أو كظلمات) جاءت في عطف التشبيهات أو تدل على تخيير السامع أن يشبه بما قبلها وبما بعدها. (1) قال الزجاج إن شئت مثل بالسراب وإن شئت مثل بالظلمات ف(أو) للإباحة وقيل للتنوع. فإن أعماله كانت حسنة فكالسراب وإن كانت قبيحة فكالظلمات أو للتقسيم باعتبار وقتين فإنها كالظلمات في الدنيا وكالسراب في الآخرة. (2) وقد حدد القرآن الكريم هذا البحر ووصفه باللجي قال النيسابوري (واللجي العميق الكثير منسوب إلى اللج وهو معظم الماء). (3) وقد أشارت بعض المعاجم إلى بعض دلالات اللج منها قولهم لجة الظلام ولجُ الليل: شدة ظلمته وسواده والتج الظلام اختلط والتبس وهذا المعنى مناسب لما وصل إليه العلم الحديث من اختلاط الظلمات والتباسها كما بينا سابقاً ظلمات الألوان في أعماق البحر العميق إضافة إلى المعاني الأخرى التي يتحملها وصف اللجي من تلاطم الأمواج وخير ما يوضح ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: قال (من ركب البحر إذا التج فقد برَئت منه الذمة) وفسرها ابن منظور أي تلاطمت أمواجه وأيضاً قيل ولج البحر عرضه والماء الكثير الذي لا يدرك طرفاه مما يحدد هذا الوصف وجود هذه الظلمات في البحار العظيمة والتي يعبر عنها حالياً بالمحيطات فلا توجد هذه الظلمات في الخليج العربي أو البحر الأحمر يقول الدكتور عبد العليم عبد الرحمن حضر (4) : والغريب حقاً أن محمداً عليه الصلاة والسلام قال بذلك رغم أن ما يحيط بالجزيرة العربية من الشرق وهو الخليج العربي وهو ليس بحراً لجياً والبحر الأحمر من الغرب وهو بحر داخلي قليل العمق وبحر العرب من الجنوب وهو الآخر ليس بحراً لجياً.
__________
(1) ينظر 2/723.
(2) معاني القرآن وإعرابه 4/48 الجامع لأحكام القرآن 12/283 أنوار التنزيل 2/723.
(3) ينظر النيسابوري 18/101 بهامش ابن حرير.
(4) ظواهر جغرافية 33.(1/23)
أما الظلمات فقد أشار المحدثون إلى الظلمات الألوان الموجودة في البحر العميق فالظلمات عندهم هو داخل هذه الأعماق وليس كما تصورها قسمٌ من المفسرين بالذي يركب البحر العميق والظلمات عندهم هي ظلمة السحاب وظلمة الليل في ذلك البحر وما يغشاه موج يركب بعضه بعضاً فقوله تعالى موج من فوقه موج (أن الموج لا ينكسر حتى يلحقه موج أخر من فوقه وذلك أبقى لظلمته). (1) أما العلم الحديث فيحمل معنى الآية كما اكتشف حديثاً (فإنه أثبت فعلاً أن هناك موجاً يعلو أحدهما الآخر: موج فوق البحر اللجي، والموج الثاني فوق البحر القريب وذلك أن البحر ينقسم إلى قسمين بحر سطحي وبحر عميق وبينهما فاصل، وعند هذا الخط الفاصل بينهما ينشأ موج وهذا الموج يغطي البحر العميق، وفوق هذا الموج البحر السطحي يغطيه موج آخر فوقه). (2) فلو تتبعنا هذه الظلمات في ذلك العمق في بحر لجي يغشاه موج وهو الموج الذي يغطي البحر العميق من فوقه موج الذي يغطي البحر السطحي من فوقه سحاب فإننا بهذا ننظر رأسياً من الأسفل إلى الأعلى مما يدل إلى دقة استخدام الألفاظ في تحديد مواقع تلك الظلمات (ظلمات الألوان).
ومن الجدير بالذكر أن الرازي قد حدد موقع وجود هذه الظلمات فهو يقول: (وأما تقرير المثل فهو البحر اللجي يكون قعره مظلماً جداً بسبب غمورة الماء فإذا ترادفت عليه الأمواج ازدادت الظلمة فإذا كان فوق الأمواج سحاب بلغت الظلمة النهاية القصوى). (3)
وقرأ الجمهور (4) (سحابٌ ظلماتٌ) بالتنوين فيهما وقرأ البزي عن ابن كثير (من فوقه سحابُ ظلماتٍ) قرأه قنبل عن ابن كثير برفع سحاب منوناً وبجرِّ ظلمات على البدل من قوله (أو كظلمات).
__________
(1) ينظر التحرير والتنوير 18/256.
(2) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 66.
(3) التفسير الكبير 24/9.
(4) ينظر النشر في القراءات العشر 2/332.(1/24)
والذي يبدو أن قراءة الجمهور موافقة لما جاء به العلم الحديث وقد جاءت ظلمات نكرة منونة ومعلوم أن النكرة تدل على معانٍ عدة وعلى التهويل والكثرة فالظلمات ناشئة من ظلمة الألوان وتزداد تلك الظلمات شدة إذا أضفنا إليها الظلمة الناتجة من الأمواج والسحاب كل ذلك تحملها قوله تعالى ظلمات (بعضها فوق بعض) عرفنا أنها موجودة بعضها فوق البعض الأخر رأسياً سواء كانت ظلمة الألوان التي هي ظلمات واحدة فوق الأخرى تبدأ من الأحمر إلى البنفسجي أو هي ظلمات السحاب والموج السطحي والعميق.
والظلمات في قوله تعالى (ظلمات بعضها فوق بعض) خبر لمبتدأ محذوف أي هي ظلمات وأجاز الحوفي أن تكون ظلمات مبتدأ خبره قوله تعالى بعضها فوق بعض وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات مثيرة أو عظيمة وهو تكلف عند الآلوسي – وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون بعضها بدلاً من ظلمات وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الإخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الإخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة. (1)
__________
(1) ينظر روح المعاني 18/182.(1/25)
أما قوله تعالى (إذا أخرج يده لم يكد يراها) فقد اختلف النحويون فيها إلى أقوال (1) غير أن التفسير العلمي يوافق من قال رآها بعد عسر ويأس (فهي حالة بين الرؤية وانعدامها وتتمثل بحركة اللون الأسود تحت هذا العمق) (2) ومن دقة وصف القرآن الكريم عبر بالفعل كاد ولم يقل لم يرها لأنه يرى ذلك السواد المتحرك ولم يثبت رؤيتها لأنه السواد المتمثل بالظلمة يحول بين رويته إياها فهو لا يراها ولكن يرى سواداً مظلماً. وأشهر الأقوال لكاد أنه رآها بعد يأس وشدة فهو أظهر معاني الكلمة من جهة ما تستعمل العرب كاد في كلامها كما ذكرنا سابقاً.
(وجملة "من لم يجعل الله له نورا فما له من نور") تذليل للتمثيل: أي هم باءوا بالخيبة فيما ابتغوا مما عملوا وقد حفهم الضلال الشديد فيما عملوا حتى عدموا فائدته لأن الله لم يجعد في قلوبهم الهدى حين لم يوفقهم إلى الإيمان). (3)
تسجير البحار:قال تعالى: ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ). (4)
التسجير في اللغة:
قال الخليل (5) : سجر: سَجَرْتُ التَنُّورَ أَسْجُرُه سَجْراً، والسَّجُورُ اسمٌ للحَطَبِ. والسُّجُورُ : امتلاءُ البَحْر والعين، وكَثْرْةُ مائهِ. والبَحرْ المسجُور: المُفْعَمُ المَلآنُ.
قال أبو ذؤيب (6) : جَونُّ يَمِرون ندى سَجُورٍ مُنعَمِ.
والساجرُ: السَّيْل يَمرُّ بشيء فيملؤْه وتقول سَجَرَ السَّيْل الآبار.
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن 4/136.
(2) مجلة الإعجاز العلمي / جامعة بغداد / كلية الفلك الموسم الثاني 2002 ص30.
(3) التحرير والتنوير 18/257.
(4) الطور /6.
(5) العين (سجر) 6/50-51.
(6) لم أجده في ديوان الهذليين .(1/26)
ويقول ابن فارس (1) : السين والجيم والراء أصول ثلاثة: الملء، والمخالطة، والإيقاد. فأما الملء، فمنه البحر المسجور، أي المملوء ... وأما المخالطة فالسّجير: الصاحب والخليط، وهو خلاف السّجير. ومنه عين سجراء، إذا خالط بياضها حمرة ... وأما الإيقاد فقولهم: سجرت التنور، إذا أو قدته.
وفي اللسان (2) : سَجَرَ يَسْجُر وانْسَجَرَ امتلأ وكان علي بن أبي طالب عليه السلام يقول المسجورُ بالماء أي المملوء قال المسجور في كلام العرب المملوء وقد سَكَرْتُ الإناء وَسَجرْته إذا ملأْته .. أبو عبيد المسجور الساكن والممتلئ معاً.
وفي قاموس المحيط (3) : سَجَرَ التنور: أحماهُ والنَّهْرَ مَلأهُ، والماءَ في حَلْقِهِ: صَبَّهُ .. والمَسْجُورُ: المُوقَدُ والساكِنُ ضِدُّ، والبحرُ الذي ماؤهُ أكثرُ منه ... وتَسْجيرُ الماء تَفجيرهُ.أما في كتب علوم القرآن:فقد جاء في الإتقان (4) والبحر المسجور المحبوس وقيل الموقد وفي التبيان في تفسير غريب القرآن (5) : والبحر المسجور أي المملوء بلغة عامر بن صعصعة.
وفي التبيان في أقسام القرآن (6) : قال أبو زيد المسجور المملوء والمسجور الذي ليس فيه شيء جعله من الأضداد وروي عن ابن عباس أن المسجور المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
اختلف المفسرون (7) في قوله تعالى: (والبحر المسجور) على أقوال:
__________
(1) مقاييس اللغة (سجر) 3/134-135.
(2) لسان العرب (سجر) 4/345-347.
(3) القاموس المحيط (سجر) 1/518.
(4) الإتقان 1/331.
(5) التبيان في تفسير غريب القرآن 1/392.
(6) التبيان في أقسام القرآن 1/167.
(7) ينظر جامع البيان 27/18-20 زاد المسير 8/47 الجامع لأحكام القرآن 17/61-62 تفسير القرآن العظيم 4/476-477 أنوار التنزيل 2/1016 إرشاد العقل السليم 8/146 فتح القدير 5/94-95.(1/27)
قال مجاهد: معنى قوله تعالى والبحر المسجور الموقد وقد جاء في الخبر: أن البحر يسجر يوم القيامة فيكون ناراً وقال قتادة: المملوء وقال سعيد بن المسيب: قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم قال البحر: قال ما أراك إلا صادقاً وتلا: والبحر المسجور ( وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ) (1) مخففة. وعن ابن عباس المسجور الذي ذهب ماؤه وقيل المسجور المفجور دليله (وإذا البحار فجرت) (2) وهناك قول آخر قاله علي رضي الله عنه وعكرمة قال أبو مكين: سألت عكرمة عن البحر المسجور فقال: هو بحر دون العرش وقال الربيع بن أنس: المسجور المختلط العذب بالملح ... قيل وإليه يرجع معنى فجرت في أحد التأويلين أي فجر عذبها في مالحها.. وعن ابن عباس المسجور المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة .. قال أبو زيد المسجور المملوء والمسجور الذي ليس فيه شيء جعله من الأضداد وقيل المرسل.
النظرة العلمية في تفسير الآية:
يرى أصحاب التفسير العلمي أن البحر المسجور هو البحر المتقد ناراً فقد تبين علمياً عندما نزل علماء البحار إلى قيعان البحار والمحيطات وجدوا أن الحمم البركانية تندفع من صدوع الأرض بملايين الأطنان في درجات حرارة تتعدى الألف درجة مئوية وتلتقي النيران مع المياه في هذه القيعان بتوازن عجيب لا الماء يستطيع أن يطفئ هذه النيران ولا النيران تستطيع أن تبخر الماء. (3)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تركب البحر إلا حاجاً أو معتمراً أو غازياً فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً). رواه أبو داود. (4)
__________
(1) التكوير /6.
(2) الانفطار /3.
(3) ينظر مجلة الإعجاز العلمي العدد السادس (ندوة عن الإعجاز العلمي بالقاهرة بتاريخ 5/2/2000م وينظر تيسير الرحيم الرحمن 212.
(4) ينظر نيل الأوطار 5/13 تيسير الرحيم الرحمن 212.(1/28)
وقد جاء الدليل على إعجاز هذا القول من سيد الخلق أجمعين فقد اكتشفت حديثاً وجود شقوق وأخاديد تحت قاع المحيطات تخرج منها النيران إلى سطح البحر فتظهر منبعثة من بين أمواج الماء وتعترض هذه النار راكبي البحر فتحرقهم كما حدث قبل مئة عام تقريباً فقد ظهرت موجة بسبب الانفجارات النارية وطافت مساحات واسعة وأهلكت قرابة 65000 من الضحايا. (1)
إن بداية اكتشاف الأخاديد النارية للبحر الأحمر كانت موافقة، عند مرور غواصة ألمانية في البحر الأحمر حيث رأى البحارة حمم النار تخرج من قاع البحر، وبعد حين وباستخدام الأجهزة الدقيقة المقربة والمكبرة، وجدوا شقوقاً وأخاديد تبعث منها النار، وقد كتب عنها العالمان البحريان الروسي (اناتول سجا بفيتش) والأمريكي (وونا كلنت) وصور هذا الاكتشاف على أشرطة الفديو ومما كشفوا عنه ارتفاع مناطق النار كلما اتجهوا جنوبا نحو بحر العرب حتى وجدوا أن مدينة عدن تقع على منطقة بركانية ومهددة بالانفجار البركاني كأول منطقة ساحلية وبحرية. (2)
ويمكن أن نؤكد هذا المعنى بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن في آخر علامات قيام الساعة الكبرى (نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر). (3) وهاهو العلم يثبت حتمية انفجار البحار بالبراكين وبالذات عدن. (4)
__________
(1) محاضرة للشيخ عبد المجيد الزنداني حول الإعجاز العلمي مسجلة على شريط فديو وينظر تيسير الرحيم الرحمن 212 .
(2) كتيب العلم في ظلال القرآن والسنة/ كلية الصيدلة- جامعة الموصل 2000م ص22 وينظر تيسير الرحيم الرحمن 212.
(3) ينظر سنن أبي داود رقم الحديث (4311) 4/114.
(4) تيسير الرحيم الرحمن 213.(1/29)
وقد توصل العلماء أيضاً إلى أنه يقع في أعماق المحيطات آيدروجين طليق يتكون من ذرات ثقيلة، ومن الممكن تحطيم هذه الذرات بفعل ضغط كهربي من صاعقة أو حرارة هائلة تندلع بصورة مفاجئة من باطن الأرض الملتهب عبر شق يحدثه انكسار في صخور القاع النارية وإذا حدث هذا في ذرات الهيدروجين فإن خاصية الاشتعال السريع التي يتمتع بها ستحول المياه جميعاً في المحيطات وبعدها مياه الأنهار التي تتصل بها ناراً وجحيماً وتجف كلها في وقت قصير. (1)
ويقول الأستاذ الدكتور أنيس الراوي بأن النجوم مثل البشر تتوالد وتموت وشمسنا الحالية الأن في طريقها إلى الموت وتكبر في حجمها لتصبح عملاقاً أحمراً ويقترب سطحها من الأرض حتى يكون على بعد ثلاث كيلو مترات وحيث أن غلافها الخارجي سيكون بدرجة حرارة تقارب 3000مْ درجة مئوية فسوف تتفتق – عندما تكون الشمس على هذا البعد – جزيئات الماء إلى عناصرها الأولى وهي الهيدروجين الذي يشتعل والأوكسجين الذي يساعد على الاشتعال فترى البحار والمحيطات وهي مملوءة بالماء تشتعل وتسعر بالنيران وهكذا تحقق هذه النبوءة العلمية الفيزيائية لو أمد الله بعمر الأرض إلى ذلك الوقت إعجازا علمياً جديداً (2) للآية الكريمة (والبحر المسجور) والآية الكريمة (وإذا البحار سجرت).
وفي العصر الحديث أمكن للعلم أن يكتشف العناصر المشعة وأن يهتدى بها في تحطيم الذرة التي تنتج عنها طاقة مدمرة وتتحرر بها بعض النيترونات وهي كهارب متعادلة في الكهربية وهذه تنطلق بدورها كالقذائف لتحطم ذوات أخرى، وتلك بدورها تحطم غيرها بها أسماه العلماء (التفاعل المسلسل) وقد أمكن تجربة ذلك في عنصر اليورانيوم الذي سبب القنبلة الذرية.
__________
(1) ينظر ظواهر جغرافية 79 الكون في القرآن الكريم 78.
(2) ينظر محاضرة للدكتور أنيس الراوي في جامعة الزرقاء الأردن حول الإعجاز العلمي في القرآن مسجلة على شريط فديو ، وينظر تيسير الرحيم الرحمن 214.(1/30)
وهناك طاقة أخرى تنتج من عملية مضادة لانشطار الذرة هي اندماج ذرتين لتكوين ذرة أثقل كما يحدث في القنبلة الهيدروجينية ومثل هذه القنبلة ما يحدث في الشمس باستمرار وهو سبب ما فيها من نار ولهيب لا ينفدان. ومن المعروف المحقق أن الذرة تتكون من نواة بها كهارب موجبة اسمها بروتون وخارجها كهارب سالبة اسمها الكترون، وهي متساوية تماماً في العدد وتساويها في العدد والكهربا سبب وجودها وقد توجد بها كهارب متعادلة الكهربا اسمها نيوترون. وقد أذاعت الجهات العلمية في أواخر عام 1955 أن لجنة الطاقة الذرية قد أعلنت أن الدكتور أيرنست لورنس قد توصل إلى اكتشاف خطير هو وجود كهارب من جنس البروتين ولكنها سالبة، وأنها تكون طبقة حول الكرة الأرضية في طبقات الجو العليا. وأن وجود هذه الكهارب المغايرة للطبيعة أخطر ما يمكن أن يتصور العقل البشري وجوده. (1)
وعلى ذلك فلو تحطمت ذرة من ذرات عنصر مهم يدخل في تركيب كثير من المواد بدلاً من اليورانيوم خطأ أو قصدا فسينتج عن ذلك (التفاعل المسلسل)، ولما كان الماء يدخل في تركيب كافة المواد فلو حدث أن انقسم جزءا الماء إلى شقيهما وهما الآيدروجين والأوكسجين وتحطمت ذرة منها فماذا تكون النتيجة؟.. إلى الأيدروجين المشتعل والأوكسجين الطليق الذي يساعده على الاشتعال.. فإذا انطلقت ذرات الأوكسجين أصبح الأيدروجين غازاً مشتعلاً ملتهباً ... وأصبح بذلك في أقل من لمحة البصر مياه البحار والمحيطات والأنهار ناراً مشتعلة وقد قال القرآن بذلك في الآيتين (والبحر المسجور إن عَذَابَ ربك لواقع) (2) وفي سورة التكوير (وإذا البحار سجرت). (3) (4) .
الضابط اللغوي في التفسير العلمي للآية:
__________
(1) القرآن والعلم الحديث 143-144.
(2) الطور / 6-7.
(3) التكوير /6.
(4) ينظر القرآن والعلم الحديث 144.(1/31)
القسم من الظواهر الأسلوبية التي استخدمها القرآن الكريم فقد افتتح كثيراً من السور – وبخاصة القصار – بأقسام. فالقسم في مطالع السور استفتاح رائع ولو أن كلماته التي في مطالع السور صورت لبهر جلالها وجمالها، وحسب القارئ أو السامع أن يتخيلها .. وقد يتمثل القسم عدة صور كما هو في قوله تعالى (والطور وكتاب مسطور في رق منثور والبيت المعمور والسقف المرفوع والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع). (1)
فالله سبحانه وتعالى يقسم بهذه الخلائق العظيمة على أمر عظيم. بعد أن تهيأ للحس بهذه الإيقاعات لاستقبال ذلك الأمر العظيم. (2)
ومن بدء السورة إلى ختامها تتوالى آياتها كما لو كانت قذائف، وإيقاعاتها كما لو كانت صواعق ... وتبدأ السورة أيضاً بقسم من الله سبحانه بمقدساته في الأرض والسماء. بعضها مكشوف معلوم! وبعضها مغيب مجهول .. فالقسم على أمر رهيب يرج القلوب رجا ويرعب الحس رعبا. (3)
ومن الناحية النحوية قيل الواو في بداية السورة للقسم وما بعدها للعطف. (4)
وقال ابن عاشور الواوات في هذه الآية كلها واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر، ولذلك كثيراً ما يعيدون المقسم به نحو قول النابغة. (5)
والله والله لنعم الفتى
وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادوا صفات المقسم به. ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم، والمعطوف على القسم قسم. (6)
__________
(1) الطور / 1-7.
(2) في ظلال القرآن 6/3393.
(3) ينظر في ظلال القرآن 6/3393.
(4) التبيان في إعراب القرآن 2/245 وتفسير النسفي 3/424.
(5) لم أجده في ديوانه.
(6) ينظر التحرير والتنوير 27/40.(1/32)
ومن الناحية الدلالية لقوله تعالى :(المسجور) حمل بعض المفسرين هذا اللفظ بمعنى الممتليء وهذا ما هو مشاهد في الحياة الدنيا أما من حمل قوله تعالى (مسجور) بمعنى المتقد فأشار إلى أن هذا يكون في نهاية الدنيا حين تقوم الساعة وقد استدل على ذلك بقوله تعالى (وإذا البحار سجرت). (1) وكما هو معلوم أن (إذا) تفيد الاستقبال ووقوع الشيء لا محالة وهذه الآية أيضاً من الآيات التي يصف الله تعالى بها أهوال يوم القيامة.
أما أهل التفسير العلمي فلا يرون قوله تعالى: (والبحر المسجور) بمعنى المتقد مقتصراً على يوم القيامة فقط وإنما يشمل المعنى أيضاً الحياة الدنيا حينما رأى علماء البحار أن الحمم البركانية تندفع من صدوع الأرض بملايين الأطنان وتلتقي النيران مع المياه في هذه القيعان بتوازن عجيب لا يطغي أحدهما على الأخر.
وإذا تتبعنا الضابط اللغوي في سياق هذه الآية نجد أن القسم جاء في بداية الآية وهو قوله والطور قيل هو الجبل بالسريانية وغلب علماً على طور سيناء.
والكتاب المسطور قيل هو القرآن وقيل ألواح موسى أو ما يكتبه الحفظة في الرق المنشور وهو الجلد الذي يكتب فيه والبيت المعمور قيل الكعبة وقيل في السماء وقوله والسقف المرفوع يعني السماء كما في قوله تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً). (2) ثم قال والبحر المسجور قيل بحار الدنيا ومنهم من حملها على وجود بحار في السماء. (3) لذا فمنهم من حمل هذه الأقسام على ما هو مشاهد ومحسوس في هذه الحياة الدنيا من جبل والقران أو الألواح والكعبة والسماء المرفوعة.
وقد قال ابن الجوزي أقسم الله بهذه الأشياء للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على تعذيب المشركين. (4)
__________
(1) التكوير / 6.
(2) الأنبياء / 32.
(3) ينظر جامع البيان 27/18-20 الجامع لأحكام القرآن 17/61-62 الدر المنثور 7/639 إرشاد العقل السليم 8/146 فتح القدير 5/94.
(4) زاد المسير 8/47.(1/33)
ومن أساليب القرآن التي ذكرناها سابقاً قسم القرآن الكريم بما هو مشاهد محسوس واستدراج الخصم إلى الاعتراف بما يجحد به ليكون الاستدلال أعظم في النفس فهو يشرك الحواس في أدراك ذلك.
لذا يمكن حمل قوله تعالى (والبحر المسجور) بمعنى البحار المتقدة والمشاهدة المحسوسة في هذه الحياة الدنيا وقد جاء هذا المعنى ليخاطب به العلماء وليضيف مشهدا من مشاهد عظمة الله بأن جمع بين الضدين الماء والنار. إضافة إلى ما يحمل قوله تعالى (مسجور) من معنى الاختلاط كما في اختلاط الضدين وكما أشرنا سابقاً إلى اختلاط ماء البحار بماء العذب في البرزخ الفاصل بينهما دون امتزاجهما وقد ذكر الأستاذ الدكتور أنيس الراوي أيضاً بوجود أنهار في أعماق البحار المالحة وهذا يدل على أن قوله تعالى (مسجور) من المشترك اللفظي الذي يحمل معاني عدة أشار إليها العلماء القدماء والمحدثون.
(وإذا اعتمدت أسلوب القرآن ونظمه ومفرداته رأيت اللفظة تدل على ذلك كله.. فكل من المفسرين أخذ معنى من هذه المعاني). (1)
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن 169.(1/34)
كما أن اسم المفعول في قوله (مسجور) يمكن حمل دلالته الزمنية على الزمن الحالي ويمكن أن يدل أيضاً على المستقبل كما لو قلنا أنت منصور بأذن الله وتريد وقوع الفعل لا محالة بإذن الله وهذا من بلاغة القرآن الكريم فهو يحمل دلالة نفسية عظيمة فالبحر سوف يسجر يوماً من الأيام لا محالة وقد أشار إليه العلماء إلى إمكانية تسجير تلك البحار بما توصل إليه كل حسب اختصاصه فيرى الكونيون أن الشمس سوف تصبح عملاقاً أحمر يقترب من الأرض ويسجر فلك البحار ويرى الجيولوجيون غير ذلك كما أشرنا سابقاً كل ذلك يجعل قوله تعالى :(والبحر المسجور) قولاً رهيباً وتهديداً لما يأتي بعده جواباً لذلك القسم هو قوله تعالى :( إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (1) وبذلك يخوف الله عباده وقد قال تعالى: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ). (2)
__________
(1) الطور / 7 .
(2) فاطر / 28.(1/35)
المبحث الثاني
السحاب والرعد والبرق ونزول المطر:
السحاب في اللغة:
قال الخليل (1) : السحب جَرُّكَ الشَّيءَ كسَحْب المرأةِ ذَيْلهَا وكسَحْبِ الريحِ التُرابَ. وسُمي السَّحاب لانسحابه في الهواء.
وفي الصحاح (2) : السحابة الغيم، والجمع سحاب وسُحُب وسَحَائب ويقول ابن منظور (3) : السحابة الغيم السحابة التي يكون عنها المطر سُمَّيتْ بذلك لانسحابها في الهواءِ والجمع سَحائبُ وسُحُبٌ وخَليِقٌ أن يكون سُحُب جمع سَحابٍ الذي هو جمع سحابةٍ فيكون جمعَ الجمع.
أما الرعد لغة:
ذكر الخليل (4) : أن الرَّعدُ اسم مَلَكٍ يسوق السَّحاب، وتسبيحُه صوته الذي يسمع (من صوته اشتُقّ رَعَدَ يرعُدُ والارتعاد). (5)
وقال الجوهري (6) : الرعد: الصوت الذي يسمع من السحاب.
وفي اللسان (7) : الرعد الصوت الذي يسمع من السحاب. وأَرْعَد القوم وأَبَرقوا: أَصابهم رعد وبرق. ورعَدت السماء تَرْعُد رعْداً ورُعودا وأرْعَدت: صوّتت للإمطار ... وسحابة رعَّادة كثيرة البرق ... والبارق سحابٌ ذو برق.
وجاء في القاموس (8) : الرَّعْدُ صَوْتُ السَّحابِ، أو اسْمُ مَلَكٍ يَسوقُهُ كما يسوق الحادي الإبِلَ بحُدائهِ. وقد رعد كمنَعَ ونَصَر.
وأما البرق لغة:
فقال الخليل: البرق وميض السحاب، يقال برق السحابُ بَرْقاً وبريقاً ... والبارقة سحابٌ يبرق، وكل شيء يتلألأ فهو بارق. (9)
وفي الصحاح (10) : البرق: لمع وتكشف.. والبارق سحاب ذو بَرْق والسحابة بارقة.
__________
(1) العين (سحب) 3/151.
(2) الصحاح (سحب) 1/146.
(3) لسان العرب (سحب) 1/461.
(4) العين (رعد) 2/33.
(5) العين (رعد) 2/33.
(6) الصحاح (رعد) 2/474.
(7) اللسان (رعد) 3/179.
(8) القاموس المحيط (رعد) 1/295.
(9) العين (برق) 5/156، وينظر مقاييس اللغة (برق) 1/221-222.
(10) الصحاح (برق) 4/1448-1449.(1/1)
وجاء في القاموس (1) : وبَرَقَت السماءُ بُروقاً وبَرَقاناً: لَمَعَتْ أو جاءَتْ ببَرْقٍ.
أما السحاب في الاصطلاح العلمي:
عبارة عن ملايين الجزيئات الصغيرة من الماء، وبسبب صغر هذه الجزيئات يستطيع الهواء أن يحملها وتتمكن الرياح من نقلها وتحريكها من مكان إلى آخر. (2)
وأما البرق في الاصطلاح العلمي: فهو عبارة عن انبعاث شرارات عظمى نتيجة للتفريغ الكهربائي بين السحب المشحونة بالكهرباء وذلك عندما تقترب شحنتان من بعضهما البعض ويسبب البرق تسخيناً شديداً وفجائياً في مناطق الهواء التي ينبعث فيها فتتمدد تلك الطبقات فجأة وتولد سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الجو المحلي للأرض فيحدث الرعد.. (3)
فالرعد في الاصطلاح العلمي: هو جلجلة الرعد المعروفة أو هديره المألوف فإنما يعزى إلى ما يعتري سلسلة الأمواج الصوتية هذه من عدة انعكاسات من قواعد السحب والمرتفعات القريبة ونحوها. (4)
أنواع السحب: قسم علماء الإرصاد الجوية السحب إلى نوعين رئيسين، النوع الأول هو السحب البساطية وهي تلك السحب التي تتكون وتنتشر بالنمو الأفقي وتشبه في ذلك شكل البساط (5) وقد أشارت الآية 48 من سورة الروم إلى هذا النوع من السحب.
قال تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ). (6)
وقد ذكرنا سابقاً معنى الإرسال لغة وهو الإطلاق والإثارة هي الهيجان والظهور معاً والبسط هو الامتداد والانتشار والكشف جمع كسفة وهي القطعة.
__________
(1) القاموس المحيط (برق) 3/211.
(2) الإعجاز العلمي للقرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 264 ، وينظر القرآن والعلم 125.
(3) المصدر نفسه 271.
(4) نفسه 271.
(5) ينظر المنظار الهندسي 329.
(6) الروم /48.(1/2)
أما الودق لغة: فقال الخليل (1) : الوَدْقُ المطَرَ كُلُّهُ شديدُهُ وهّيَّنُه. وحَرْبُ ذاتُ وَدْقَتَيْنِ أي شديدةٌ تُشَبَّهُ بسَحابةٍ ذات مِطرتين شديدتين وسحابةٌ وادقةٌ وقَلماَّ يُقال: وَدَقَتْ تَدقُ. وقال الثعالبي (2) : إذا كان المطر مستمراً فهو الوَدْقُ.
وفي اللسان (3) : الوّدْقُ: المطر كله شديدهُ وهيّنهُ، وقد وَدَقَ يَدقُ وَدْقاً أَي مطر، قال عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ... ولا أرض أبقل ابقالها (4)
أقوال المفسرين:
عن الطبري (5) (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه) يقول فينشئ الرياح سحاباً وهي جمع سحابة فيبسطه في السماء كيف يشاء يقول فينشره الله ويجمعه في السماء كيف يشاء.
وقال ابن الجوزي (6) : فتثير سحاباً أي تزعجه فيبسطه الله في السماء كيف يشاء إن شاء بسطه مسيرة يوم أو يومين أو أقل أو أكثر. وذكر ابن كثير (7) أن قوله (فيبسطه في السماء كيف يشاء) أي يمده فيكثره وينميه، ويجعل من القليل كثيراً، وينشئ سحابة ترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق.
وقال غيرهم من المفسرين (8) : الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه متصلاً تارة في السماء في جوها كيف يشاء سائراً وواقفاً مطبقاً وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك.
__________
(1) العين (ودق) 5/198.
(2) فقه اللغة وسر العربية 412.
(3) اللسان (ودق) 10/373.
(4) البيت لعامر بن جوين الطائي، كما نسب في كتاب سيبويه 1/240.
(5) جامع البيان 21/53.
(6) ينظر زاد المسير 6/309.
(7) ينظر تفسير القرآن العظيم 3/437.
(8) ينظر أنوار التنزيل 2/814 ،إرشاد العقل السليم 7/64.(1/3)
أما قوله تعالى: (ويجعله كسفاً) قالوا قطعاً ومنهم من قال قطعاً متفرقة. وقوله (فترى الودق يخرج من خلاله يعني من بين السحاب فإذا أصاب به من يشاء من عباده) أي بلادهم وأراضيهم (إذا هم يستبشرون يفرحون لمجيء الخصب). (1)
النظرة العلمية في تفسير الآية:
تقول جغرافية المناخ أو الهواء لا ينقل السحاب من مكان إلى مكان فقط، وإنما يحركه ويهيج الأصل.. وأصل السحاب هو بخار الماء الموجود في الهواء على صورة لا يمكن للعين أن تراه فجزئية بخار الماء لا تزيد على 1/800000 من حجم حبة المطر.. وتقوم الرياح ببسطه بعد تجميعه وإظهاره في حالة وصورة يمكن معها كشفه بالنظر فقد أضحى سحاباً بساطياً ... إذن ... فالرياح تعمل على تحويل بخار الماء الغازي غير المرئي – بعد بسطه – إلى سحاب تكثيف فصار مرئياً بالعين المجردة.
والسحب الطبقية (أي البساطية تتكون عندما يتقابل تياران هوائيان متضادي الاتجاه ولهما درجة حرارة مختلفة، يتكثف بخار الماء ويتكون السحاب تكون غالباً على هيأة طبقة رقيقة يعلوها تيار الهواء الساخن. أما التيار البارد فيكون أسفلها (ويسير التياران في اتجاهين متضادين). (2)
والنص القرآني يشير إلى تكوين السحب البساطية، وكيف تكون (كسفاً) (3) أي طبقة رقيقة فوق طبقة رقيقة، أي كتلة أفقية تنمو دائماً أفقياً وليست رأسياً – كما هو الحال في السحب الركامية- التي سنتناولها لاحقاً.
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر جامع البيان 21/53 ،زاد المسير 6/309 ،أنوار التنزيل 2/814 ،تفسير القرآن العظيم 3/438 إرشاد العقل السليم 7/64 ،روح المعاني 21/52.
(2) الإشارات العلمية في القرآن الكريم 310.
(3) جاء في اللسان (الكسفة) كسرة الخبز فيمكن التعبير بالكسف عن القطعة الرقيقة كما جاء في اللسان مادة/ كسف.(1/4)
الله الذي يرسل الرياح استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سبق من أحوال الرياح في سورة الروم (من آياته يرسل الرياح مبشرات..) (1) استدلال على التفرد بالتصرف وتصوير الصنع الحكيم الدال على سعة العلم، أعقب بالاستدلال بإرسال الرياح توسلا إلى ذكر إحياء الأرض بعد موتها المستدل به على البعث، فقد أفادت صيغة الحصر بقوله (الله الذي يرسل الرياح) أنه هو المتصرف في هذا الشأن العجيب دون غيره. (2)
والتعبير بصيغة المضارع في: (يرسل، وتثير، ويبسطه، ويجعله) لاستحضار الصور العجيبة في تلك التصرفات حتى كأن السامع يشاهد تكوينها مع الدلالة على تجدد ذلك. وجمع الرياح لما شاع في استعمالها من اطلاقها بصيغة الجمع على ريح البشارة بالمطر لأن الرياح التي تثير السحاب هي الرياح المختلفة جهات هبوبها بين الجنوب والشمال وصبا ودبور (3) وقد جاء التفسير العلمي مطابقاً لذلك فالرياح التي تكون السحاب البساطي لا تكون رياح واحدة فريح تقل السحاب وترفعه وتياران هوائيان مختلفان في درجة الحرارة تكثف هذا السحاب على هيأة طبقة رقيقة فالتيار العالي ساخن والتيار السفلي بارد وعن طريق هذه الرياح يتكون السحاب البساطي وهكذا عبرت صيغة الجمع عن هذه الرياح.
أما قوله فيبسطه كيف يشاء أي فينشره الله ويجمعه في السماء (كيف) يشاء فوحد الهاء في قوله (فيبسطه) وأخرج مخرج كناية المذكر. (4) وقد دلت المعاجم على أن معنى البسط هو المد والنثر كما أشار إلى ذلك المفسرون وهو موافق لما جاء به العلم الحديث من تكوين السحب البساطية على شكل بساط رقيق. والفاء في قوله فيبسطه تدل على التعقيب. إذا ما رجعنا إلى أقوال المفسرين في كيفية نشوء السحاب وكذلك في التفسير العلمي.
__________
(1) الروم /46.
(2) ينظر روح المعاني 21/52 ،التحرير والتنوير 21/120.
(3) ينظر التحرير والتنوير 21/120-121.
(4) ينظر جامع البيان.(1/5)
أما قوله تعالى (كيف يشاء) فقد ذكر الزركشي أن بعضهم أثبت إلى كيف الشرط واستشهد بهذه الآية (فيبسطه في السماء كيف يشاء) وجوابه في ذلك محذوف لدلالة ما قبلها. (1) فالمشيئة مرتبطة بإرادة الله (فالجملة الإنشائية حال بالتأويل ويجعله كسفاً أي قطعاً تارة أخرى). (2)
أما قوله تعالى: (كِسفا) فقد قرأ الجمهور بكسر ففتح جمع كِسْف بكسر فسكون ويقال: كِسْفه بهاء التأنيث وهو القطعة وقرئ بسكون السين هذا المعنى على التخفيف، ويجوز أن يكون مصدراً: أي ذا كسف. (3) وقد ذكرنا سابقاً أن معنى كِسفاً يأتي بمعنى قطعاً كما ذكرت المعاجم ومن هذه المعاني أيضاً الكسفة كسرة الخبز فيدل على أن الكسف يحمل معنى الرقة أيضاً فالسحاب البساطي سحاب على شكل طبقات رقيقة فدل المعنى في هذه الآية على هذا أيضاً.
وفي قوله تعالى (فترى الودق يخرج من خلاله) الخطاب في (فترى الودق) خطاب لغير معين وهو كل من يتأتى منه سماع هذا وتتأتى منه رؤية الودق. والودق المطر وضمير (خلاله) للسحاب بحالتيه المذكورتين وهما حالتي البسط في السماء وحالة جعله كسفا فإن المطر ينزل من خلال السحاب المغلق والغمامات. (4) وقوله (خلاله) (الخَللَ بفتحتين وهي الفرجة بين الشيئين والجمع (خِلال) كجبل وجبال وقرئ بهما (5) في قوله تعالى (فترى الودق يخرج من خلاله وخَللَهِ وهي خرج في السحاب يخرج منها المطر) (6) وقد ذكرنا أن المطر ينتج عند اتحاد السحابة السالبة بالسحابة الموجبة فيتكون المطر ويخرج من خلال هذا السحاب.
__________
(1) ينظر البرهان في علوم القرآن 4/332.
(2) روح المعاني 21/52.
(3) ينظر التبيان في إعراب القرآن 2/487 ،حجة القراءات 560.
(4) التحرير والتنوير 21/122.
(5) المحتسب لابن حني 2/308 ، إعراب القرآن (للنحاس) 2/594.
(6) مختار الصحاح / خلل / 187.(1/6)
أما إذا رجعنا إلى الناحية الفنية في هذه الآية فمن التناسق لون نسميه التناسق الزمني، تكون فيه مدة عرض المشاهد متناسبة والعرض الذي سبق المشهد من أجله، والمعنى الذي يصوره، فمن المشاهد ما يعرض بطيئاً في تراخ وتؤدة، كأنه أعد لتتملأه العيون ببطء، كما هو في هذه الآية نجد الآية تصور منظر منذُ بداية تكوينه في السماء وكيف يتحول من حال إلى حال إلى حين الانتفاع به في الأرض وهذا النوع هو الذي يسميه أهل البلاغة بالإطناب. (1)
أما النوع الثاني من السحب فهي السحب الركامية: وهي أهم أنواع السحب وهي المعبر عنها باللغة العربية الركام. تنشأ هذه السحب بصعود تيارين هوائيين إلى أعلى، فإذا كانت محملة ببخار الماء فإن الضغط الواقع عليه هناك يقل فيتمدد الهواء وتنخفض درجة حرارته، ويتكثف بخار الماء في شكل قطرات دقيقة تتراكم كتل هذا السحاب بعضها فوق بعض رأسياً عبر 15-20كم، وهناك قد تكون درجة الحرارة 60-70 درجة مئوية تحت الصفر، ولذلك يتكون البرَدَ في أعالي السحب. (2)
وقد ورد في القرآن الكريم ذكر هذا النوع من السحب في قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ). (3)
معنى يزجي لغة:
__________
(1) ينظر المشاهد في القرآن الكريم 501 بتصرف.
(2) الإشارات العلمية في القرآن الكريم 310.
(3) النور / 43.(1/7)
ذكر الخليل (1) : أن التَّزجيةُ: دفعُ الشَّيء كما تُزَجّي البَقَرَةُ ولَدَها، أي تَسُوقُه والرَّيُح تُزجي السَّحابَ، أي تَسُوقُه سَوْقاً رقيقاً.. والمُزْجَى: القليل من قوله عز وجل (بضاعة مزجاة). (2) وزجا الخراجُ يَزْجُو زَجاءً إذا تَيَسَّرَت جبايتُه. وإلى مثل هذا القول ذهب ابن فارس (3) على أن قوله تعالى (بضاعة مزجاة) عنده بمعنى يسيره الاندفاع.
وفي اللسان (4) : زجا الشيء يَزْجو زَجْواً وزُجُواً تَيَسَرَّ واستقام ... يقال أَزْجَيْتُ الشيء إزجاءً أي دافَعْت بقليله ويقال أَزْجَيْتُ أَيامي زَجَّيْتُها أي دافَعْتها بقُوتٍ قليل.. يقال زجيت الشيء تزجيه إذا دفعته برفق والريح تزجي السحاب أي تسوقه سوقاً رقيقاً ... أزجيت الإبل سقتها ... ورجل مزجاة للمطية كثير الإزجاء لها يُزجيها ويرسلها ... وفي الحديث كان يتخلف في السير فيزجي الضعيف أي يسوقه ليلحقه بالرفاق.
وفي مفردات الراغب (5) : التزجية دفع الشيء لينساق كتزجية رديف البعير وتزجية الريح السحاب قال تعالى: (يزجي سحاباً) وقال (يزجي لكم الفلك) (6)
أما معنى قوله يؤلف لغة:
فقال الخليل: أَلِفْتُ الشيء ألفه. والأُلفة مصدرُ الائتِلاف. وإلْفك وأليفك: الذي تألفه وكل شيءٍ ضَمَمَْت بعضه إلى بعض ألَّفْته تأليفا. الأصمعي يقال ألِفْتَ الشيء آلَفُه إلفْاً وأنا آلِفٌ، وآلفْتُه وأنا مُؤلِفْ. (7)
وفي اللسان (8) : عن أبي زيد أَلَّفْتُ بينهم تأْليفاً إذا جًمًعْتَ بينهم بعد تَفَرّقُ وأَلَّفْتُ الشيء تأْليفاً إذا وصلْت بعضه ببعض، ومنه تأليف الكتب ... وأتلف الشيء: ألف بعضه بعضا وألفه جمع بعضه إلى بعض.
__________
(1) العين (زجو) 6/165.
(2) يوسف / 88.
(3) مقاييس اللغة (زجى) 3/48.
(4) اللسان (زجو) 12/262.
(5) المفردات في غريب القرآن (زجا) 310.
(6) الإسراء /66.
(7) ينظر العين (ألف) 8/336 مقاييس اللغة (ألف) 1/131.
(8) اللسان (ألف) 9/10.(1/8)
وجاء في مفردات الراغب (1) : الإلْف اجتماع مع التئام ... والمؤلف ما جمع من أجزاء مختلفة ورتب ترتيباً قدم فيه ما حقه أن يتقدم وأخر فيه ما حقه أن يؤخر.
أما الركام في اللغة:
قال الخليل (2) : الرّكْمُ جَمْعُكَ شيئاً فوق شيءٍ، حتّى تَجَعْلَهُ رُكاماً مَرْكوما كرُكام الرَّمل والسّحاب ونحوه من الشيء المُرتكم بَعْضّه على بَعْضٍ.
وفي الصحاح (3) : ركم الشيء يركمه، إذا جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع ... والركمة الطين المجموع والركام الرمل المتراكم كذلك السحاب المتراكم وما أشبه.
وفي اللسان (4) : عن ابن سيدة الرَّكْمُ إلقاء بعض الشيء على بعض وتَنْضيده رَكَمَه يَرْكُمُهُ رَكْماً ... وفي حديث الإسقاء: حتى رأيت رُكاما، الرُّكام: السحاب المتُراكمُ بعضه فوق بعض.
وفي مفردات (5) الراغب: يقال سحاب مركوم أي متراكم .. والرُكام يوصف به الرمل والجيش، ومرتكم الطريق جادته التي فيها ركعة أي أثر متراكم.
أما معنى سنا لغة:
فقال الخليل (6) : وسَناء ممدود والسَّنا المقصور: حد مُنْتَهىَ ضوء البدر والقمر. أما ابن فارس (7) فيقول: (وأما الذي يدل على الرفعة فالسناء ممدود، وكذلك إذا قصرته دلَّ على الرفعة، إلا أنه لشيء مخصوص، وهو الضَّوء. قال الله جل ثناؤُه: (يكاد سنا برقه يّذْهَبُ بالأبصْارِ).
__________
(1) المفردات في غريب القرآن (ألف) 24.
(2) العين(ركم) 5/369.
(3) الصحاح / ركم.
(4) اللسان (ركم) /.
(5) المفردات في غريب القرآن (ركم) 259.
(6) العين (سنو) 7/303.
(7) مقاييس اللغة ( سنى) 3/104.(1/9)
وجاء في اللسان (1) : سنت النار تَسْنوَ سَناءً، علا ضَوْؤها .. السَّنا مقصورٌ ضوء النارِ والبرْقِ وفي التهذيب السَّنا مقصورُ حدّ منْتَهى ضوْءِ البرْقِ وقد أسنا البرق إذا دَخلَ سَناهُ عليكَ بيتَك أو وقع على الأرض أو طار في السحاب قال أبو زيد سنا البرق ضوؤه من غير أن ترى البرق أو ترى مخرجه في موضعه.
أقوال المفسرين في هذه الآية:
__________
(1) لسان العرب (سنا) 14/403.(1/10)
ألم تر أن الله يزجي سحاباً يذكر الله أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة، وهو الإزجاء أي يسوقها برفق، أو لقدرته على سوقها وإيصالها (ثم يؤلف بينه) بضم بعضه إلى بعض فيجعل القطع المتفرقة قطعة واحدة (ثم يجعلها ركاما) أي متراكما بعضه فوق بعض (فترى الودق) المطر (يخرج من خلاله) وهي فرجة ومخارج القطر وفي قوله: (وينزل من السماء من جبالٍ فيها من برد) ذكر المفسرون فيها أقوالاً الأول: أن البرد ينزل من جبال في السماء فيها بردٍ أي أن هناك جبالاً من برد توجد في السماء الثاني: أن الله ينزل من السماء قدر الجبال، أو أمثال الجبال من برد إلى الأرض الثالث معنى من جبال من قطع عظام تشبه الجبال أما قوله تعالى (فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء) يحتمل أن يكون المراد (فيصيب به) أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد، فيكون قوله (فيصيب به من يشاء) رحمة لهم (ويصرفه عمن يشاء) أي يوفر عنهم الغيث، ويحتمل أن يكون المراد بقوله (فيصيب به) أي البرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم وإتلاف زروعهم، ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم. وقوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب الأبصار) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته. (1)
النظرة العلمية في التفسير:
__________
(1) ينظر جامع البيان 18/153-154 ، الجامع لأحكام القرآن 12/288-290 ، البحر المحيط 8/57-58 ، تفسير القرآن العظيم 3/298 أنوار التنزيل 2/724 إرشاد العقل السليم 6/184-185 فتح القدير 4/41 روح المعاني 18/192 محاسن التأويل 12/224.(1/11)
تقول الجغرافية عن السحب الركامية أن التصوير الجوي للسحب بالرادار أثبت أن هذا النوع من السحب يبدأ مراحل تكوينه بعدة خلايا بسيطة (نتف) ثم تدفع بالرياح فتختار كل أثنين أو أكثر منها مع بعضها فتشكل من ذلك خلية عملاقة كالجبل له قاعدة وارتفاع رأسي يصل إلى 45000 قدم حيث القمة التي تكون باردة فيتكون عندها البرد في شكل حبات صغيرة مؤلفة من ذرات بخار الماء ... ولا يمكن لأي نوع آخر من السحب أن ينتج البرد (1) وقد أشار علم الارصاد إلى بداية التكوين فقوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحابا) السحاب الركامي يبدأ بأن تسوق الرياح قطعا من السحب الصغيرة إلى مناطق التجميع Convergemce - Zome يؤدي سوق قطع السحاب لزيادة كمية بخار الماء في مسارها – وخاصة حول منطقة التجمع – وهذا السوق ضروري لتطور السحب الركامية في مناطق التجميع. (2)
__________
(1) ظواهر جغرافية 22.
(2) ينظر جملة الإعجاز العلمي مكة المكرمة عنوان البحث الإعجاز العلمي في وصف السحاب/ د. عبد المجيد الزنداني و د. محمد أيمن ع1 ص68-72.(1/12)
وقوله تعالى: (ثم يجعله ركاماً) إذا التحمت سحابتان أو أكثر فإن التيار الهواء الصاعد داخل السحابة يزداد بصفة عامة، ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء، من أسفل قاعدة السحابة، والذي يزيد بدوره من الطاقة الكامنة للتكثيف والتي تعمل على زيادة سرعة التيار الهوائي الصاعد دافعاً بمكونات السحابة إلى ارتفاعات أعلى، وتكون هذه التيارات أقوى ما يمكن في وسط السحابة، وتقل على الأطراف مما يؤدي إلى ركم هذه المكونات على جانبي السحابة، فتظهر كالنافورة أو البركان الثائر، الذي تتراكم حممه على الجوانب وقد أثبتت الشواهد أن التحام السحب cloud mergre يؤدي إلى زيادة كبيرة في الركم ومن ثَّم إلى زيادة سمك السحاب، كما أن تجمع قطع السحب يؤدي إلى زيادة ركمه ومن ثَّم يؤدي إلى زيادة سمكه التي تدل على قوة هذا السحاب من ناحية إمطاره ورعده وبرقه، بل نجد أن السحاب الذي نحن بصدده يسمى سحاباً ركامياً لأن عملية الركم في هذا النوع أساسية، وهي التي تفرقه عن باقي أنواع السحب. (1)
__________
(1) مجلة الإعجاز العلمي /بحث الدكتور عبد المجيد الزنداني والدكتور محمد أيمن بعنوان :وصف السحاب الركامي/مكة المكرمة ع1 68-71 يسير الرحيم الرحمن 191.(1/13)
ومن المعلوم أيضاً أن من السحب الركامية ما يسمى بالركامي الساخن (ذو سمك صغير نسبياً)، وأقل درجة حرارة داخل هذا السحاب أعلى من درجة التجمد. وهو بذلك السمك الصغير نسبياً أقرب شبها بالتلال لا بالجبال، وحرارته لا تسمح بتكون البرد وهذا النوع تتكون الأمطار فيه من قطرات الماء فقط، وليس به رعد وبرق وهناك سحاب ركامي يصل إلى ارتفاعات شاهقة، ويشتمل على قطرات ماء في القاعدة، وخليط من ماء شديد البرودة، وحبات برد في الوسط، أما القمة فتسودها بلورات الثلج، وهذا السحاب هو الذي تكون زخاته من ماء أو برد أو كليهما، ويحدث به برق ورعد وهو السحاب الركامي المزني الذي يكون في شكل الجبال. (1) ولهذا فهذا النوع هو الوحيد الذي يكون منه البرد. (2)
__________
(1) المصدر نفسه الصفحات نفسها.
(2) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم كارم السيد 313.(1/14)
وقوله (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) أي سنا البرق الناجم عن البرد أو عن تفريغ الشحنات الكهربائية التي يولدها البرد، وقصة ذلك أن البرد عندما يتميع وسط المزن الرامي بتصادمه مع نقط الماء فوق البرد الهابط من أعلى السحابة يتم شحنه بالكهربائية الموجبة، وعندما يتبخر أغلبه في حافة أو جوانب السحابة يتم شحنه بالكهربائية السالبة، وفي العواصف الشديدة تنشط عمليات البرد وسط المزن الركامي وتبخره في الحواف أو الجوانب وتكون بمثابة (الداينمو) أو المولد الكهربائي الذي يولد طاقات كبيرة قد يصحبها عشرات التفريغات الكهربائية في الدقيقة الواحدة. (1) وذلك لأن درجة حرارة شرارة البرق تصل إلى أكثر من 1000 درجة مئوية، فيسخن الهواء ويتمدد وتحدث الفرقعة المدوية وإذا نظر الإنسان في وجه البرق الشديد الضياء فإنه لابد أن يصاب بالعمى المؤقت (2) والعجيب أن هذا هو عين ما يعانيه الطيار من أخطار في حالات عواصف الرعد، وخصوصاً في المناطق الحارة الرطبة، حيث تبلغ ومضات البرق في الدقيقة الواحدة (40 ومضة) أو شرارة هائلة، فيصيبه فقد البصر ولا يقوى على الاستمرار في قيادة طائرته. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
ذكر أهل المعاجم والمفسرون أن معنى زجى والريح تزجي السحاب: تسوقه سوقاً رقيقاً وقد ذكر أبو السعود أنه غلب في سوق شيء يسير أو غير معتد به وهذا إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به. (4)
وقال أبو حيان (5) : (ومعنى يزجي: يسوق قليلا ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل).
__________
(1) الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد السيد ارناؤوط 268.
(2) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم/ كارم السيد313.
(3) ينظر القرآن والعلم 131 الأرض في القرآن الكريم 122.
(4) إرشاد العقل السليم 6/184.
(5) البحر المحيط 8/56.(1/15)
وهذا الذي ذكره المفسرون هو نفسه الذي قرره علماء الإرصاد في الخطوة الأولى من تكوين السحاب الركامي كما بينا سابقاً.
أما قوله تعالى (ثم يؤلف بينه) بين علماء اللغة أن التأليف هو الجمع ونضام الشيء إلى الشيء ووصله مع بعضه وإلفك وأليفك: الذي تألفه لذا قال الراغب الإلف اجتماع مع التئام والمؤلف ما جمع من أجزاء مختلفة ورتب ترتيباً كما ذكرنا وهذا المعنى أيضاً موافق لما توصل إليه العلم الحديث فالفعل يؤلف يشير إلى التجاذب الكهربائي بين السحب المختلفة الشحنة. (1)
يقول الغمراوي: (ومفتاح هذه الآية الكريمة هو قوله تعالى :(ثم يؤلف بينه) فقد كان الناس يمرون بهذه الآية الكريمة يرونها مجازاً من المجازات البلاغية، وهي حقيقة من أمهات الحقائق الكونية. وهذه الكلمات مفتاح الآية الكريمة ؛لأنها تدل بوضوح على الحقيقة الكهربية التي تقوم عليها تلك الظواهر الجوية كلها، فإن التأليف بين السحاب ما هو إلا إشارة واضحة بل وصف دقيق للتقريب بين السحاب المختلفة الكهربية حتى يتجاذب ويتعبأ في الجو تعبئة كتعبئة الجيوش تتفق مع ما يريد الله أن يخلقه من بين السحاب من برق أو صواعق ومن مطر أو من برد). (2)
__________
(1) الإشارات العلمية / كارم السيد 312.
(2) الإسلام في عصر العلم 352-353 ، وينظر نماذج من الإعجاز العلمي 78.(1/16)
ولكي تتم هذه الخطوة: وهي الانتقال من مرحلة الإزجاء لقطع السحب إلى مرحلة التأليف يحتاج الأمر إلى وقت، ولذلك نرى أن الحرف الذي استعمل في القرآن للدلالة على هذه العملية هو حرف العطف (ثم) الذي يدل على الترتيب مع التراخي في الزمن. (1) وقوله تعالى (ثم يجعله ركاما) فقد بينا معنى الركم عند اللغويين وما فسره المفسرون من معنى إلقاء الشيء بعضه فوق بعض وهو ما يوافق التفسير العلمي فـ (عامل ركم السحاب الذي يكون بالنمو الرأسي لنفس السحابة، هو العامل الرئيس في هذه المرحلة، وأن الانتقال إليه من المرحلة السابقة يحتاج كذلك إلى زمن، لذلك كان استعمال حرف العطف الدال على الترتيب مع التراخي في الزمن وهو حرف العطف ثم). (2)
ومن الملاحظ أيضاً أن من المعاني التي ذكرها الراغب للركم هو قوله (ومرتكم الطريق جادته التي فيها ركعة أي أثر متراكم وهذا المعنى موافق لما وصل إليه العلم الحديث في ركم مكونات السحابة على جانبيها فقد ذكرنا أنه إذا التحمت سحابتان أو أكثر فإن تيار الهواء الصاعد داخل السحابة يزداد بصفة عامة، ويؤدي ذلك إلى جلب مزيد من بخار الماء، من أسفل قاعدة السحابة، والذي يزيد بدوره من الطاقة الكامنة للتكثيف والتي تعمل على زيادة سرعة التيار الهوائي الصاعد دافعاً بمكونات السحابة إلى ارتفاعات أعلى، وتكون هذه التيارات أقوى ما يمكن في وسط السحابة، وتقل على الأطراف مما يؤدي إلى ركم هذه المكونات على جانبي السحابة، فتظهر كالنافورة أو البركان الثائر، والذي تتراكم حممه على الجوانب (3) وهذا موافق لما ذكره الراغب من معنى التراكم الموجود على جادة الطريق وليس في وسطه.
__________
(1) ينظر مجلة الإعجاز العلمي 73 .
(2) المصدر نفسه 73.
(3) ينظر تيسير الرحيم الرحمن 190-191.(1/17)
وقد أشرنا سابقاً إلى معنى قوله تعالى (فترى الودق يخرج من خلاله) أما قوله تعالى: (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) قال ابن الجوزي (1) مفعول الإنزال محذوف تقديره: وينزل من برد بردا فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه ومن الأولى، لابتداء الغاية؛ لأن ابتداء الإنزال من السماء، والثانية، للتبعيض؛لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال والثالثة لتبين الجنس؛ لأن جنس تلك الجبال جنس البرد.
وقال أبو السعود: (وينزل من السماء) من الغمام فإن كل ما علاك سماء (من جبال فيها) أي: من قطع عظام تشبه الحبال في العظم، كائنة فيها (من برد) مفعول ينزل على أن (من)، والأوليان لابتداء الغاية على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار، أي ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها بعض البرد، وقيل المفعول محذوف ومن برد بيان للجبال أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من برد جنس البرد بردا ويرى أبو السعود أن الأول أظهر لخلوه عن ارتكاب الحذف والتصريح ببعضه المنزل وقيل المفعول من مشبهه بالجبال في الكثرة وأيما كان فتقديم الجار والمجرور على المفعول لما غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل المراد بالسماء وفيها جبال من برد كما في الأرض جبالاً من حجر وليس في العقل ما ينافيه من قاطع والى مثل هذه الأقوال ذهب الطبري والقرطبي والبيضاوي والشوكاني وغيرهم من المفسرين. (2)
__________
(1) زاد المسير 6/52.
(2) ينظر إرشاد العقل السليم 6/184-185 ،وينظر جامع البيان 18/154، الجامع لأحكام القرآن 12/289 أنوار التنزيل ،2/724 فتح القدير 4/41.(1/18)
وهذا الذي فهمه هؤلاء المفسرون هو ما كشف عنه العلم، فلا بد أن يكون السحاب على شكل جبلي يسمح بتكوين الثلج في المناطق العليا منه ويسمح بتكوين الماء الشديد البرودة – الذي سيتحول إلى مزرعة للبرد عندما يشاء الله – في المنطقة الوسطى من السحابة، وأن البرد يتكون عندما تمكث نواة ثلجية لفترة زمنية كافية وتحتوي على ماء شديد البرودة (ماء درجة حرارته تحت الصفر حتى درجة –40 مْ). وتحت هذه الظروف المؤاتية فإن البرد ينمو بعدد اصطدامه مع قطرات الماء الشديد البرودة، والتي تتجمد بمجرد ملامسته. فلا بد أن يكون في تلك السحابة شيء من البرد(فيها من برد) ويكون المعنى – والله اعلم – وينزل من السماء برداً، من جبال فيها شيء من برد والجبال هي: السحب الركامية، التي تشبه الجبال وفيها شيء من برد) وهي تلك البذور الأولى للبرد. (1)
ويقول الدكتور عبد الله عبد الرحيم العبادي: العلم الحديث يرى أن سحب البرد دائماً ثقال جداً، فقد سجلت الأرصاد في بعض المناطق المعتدلة سحابة برد بلغ سمكها عشرة كيلو مترات، وأن منطقة البرد في سحابته محدودة. فمن ذلك يتبين أن هناك فرق بين المطرين: فخروج الودق من خلال السحاب الركام ماء لا برد معه، ويكون في ظروف لا يسمح بتكوين البرد، والركام سحابته ليست عظيمة، كعظم سحابة البرد التي شبهتها الآية الكريمة بالجبال ذلك التشبيه البليغ (وهو جعل المشبه هو عين المشبه به)، فإنها حقاً جبال في السماء. (2) وهناك شواهد على ذلك فقد نقل عن العالم الروسي:
__________
(1) مجلة الإعجاز مكة المكرمة /د .عبد المجيد الزنداني / عنوان البحث الإعجاز العلمي في وصف السحاب ع 1ص74.
(2) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 88.(1/19)
(ن. كو. كيكوف) (أن السحابة البردية تتميز بلون قاعدتها الرمادي، وانقسامها إلى رقاع وأن قمتها تبدو كالجبل له نتوءات كالتلال الصفراء غير المنتظمة – تعد كلمة (جبال) هنا حرفية – هذه الجبال تبدو إذا أشرف عليها من أعلى مغطاة بمئات من سحب متشعبة ككتل الصوف). (1)
وقوله تعالى: (فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء) فقد ذكر ابن كثير بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد رحمة بهم ويصرفه عن آخرين حكمة وابتلاء. ويحتمل المعنى: فيصيب بالبرد من يشاء نقمة لما فيه من نثر الثمار وإتلاف الزروع. ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم. (2)
وخلاصته أن الضمير إما للأقرب، على الثاني، أوله ولما قبله، على الأول. (3)
وقوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار).
__________
(1) المصدر نفسه 88.
(2) تفسير القرآن العظيم 3/298.
(3) محاسن التأويل 12/224.(1/20)
فقد ذكر أكثر المفسرين (1) أن الضمير في قوله تعالى (برقه) يرجع إلى السحاب أما أهل التفسير العلمي فيقولون إن هذا السر لا يعرفه إلا من تمكن من مراقبة مراحل تكوين البرد داخل السحاب وذلك لأن للبرد برقاً وأن البرد هو السبب في حصوله.. وأنه يكون أشد أنواع البرق ضوءاً وإن ذلك لا يعرفه إلا من درس الشحنات الكهربائية داخل السحاب واختلاف توزيعها ودور البرد في ذلك. ولشدة خفاء هذا الأمر فقد نسب المفسرون البرق إلى السحاب – وإن كان السحاب يشمل على البرد في كلام المفسرين – ولم نجد من نسب هذا البرق إلى البرد، مع أنه المعنى الظاهر لقوله تعالى (وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار). فالضمير في (برقه) يرجع إلى أقرب مذكور وهو البرد. (2) وسنا برقه ضوئه يذهب بالأبصار، وبذلك تشير الآية إلى أن البرد يولد البرق حيث يقوم البرد بتوزيع الشحنات الكهربائية في جسم السحابة أثناء صعوده وهبوطه ثم يقوم بتوصيل الشحنات الكهربية المختلفة فيحدث تفريغاً كهربياً هائلاً نسب الله البرق إلى البرد. (3)
ومن هذا يتبين لنا أنه يمكن إرجاع الضمير في قوله تعالى (برقة) على البرد وهو الأظهر لأنه الأقرب وهذا لا يعني تخطئة المفسرين القدامى لأن البرد هو جزء من جسم السحاب وأن القرآن الكريم يخاطب جميع الأزمان فإلى أن تصل علومهم إلى المعرفة الدقيقة في أسباب تكون البرد يمكن فهم النص القرآني وبكل إيجاز ودقة كما جاء به العلم الحديث وهذا من إعجاز القرآن الكريم في نظمه وعلومه.
__________
(1) ينظر جامع البيان 18/154 ،الجامع لأحكام القرآن 12/290، روح المعاني 18/191 ،التحرير والتنوير 18/262.
(2) مجلة الإعجاز العلمي، مكة المكرمة / عبد المجيد الزنداني (السحاب الركامي ع1 ص74-75 ، المعارف الكونية بين العلم والدين 366.
(3) المعارف الكونية بين العلم والدين 366-368.(1/21)
ولهذا استبعد المفسرون رجوع الضمير إلى البرق فقد قال الآلوسي (يكاد سنا برقه أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده للإيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء). (1)
واختلف اللغويون في الفعل كاد وكذلك المفسرون وفي قوله تعالى (يكاد سنا برقه يذهب الأبصار) فيرى أكثر المفسرين أنه بمعنى يقارب وقد روي عن ابن عباس قال كل ما في القرآن كاد فهو ما لا يكون واستشهد بقوله تعالى يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار قال ولم يذهبها. (2) وقال القرطبي (3) يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار وفي كلام العرب: كاد النعام يطيرا وكاد العروس يكون أميرا لقربهما من تلك الحال.
أما ما نقل عن ابن قتيبة أنه قال: (كاد بمعنى هم ولم يفعل وقد جاءت بمعنى الإثبات قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي كاد يبرق
أي لو تعرضت له لبرق أي دهش وتحير. (4)
ومن هنا يتبين دقة التعبير القرآني في استعمال الفعل كاد في قوله (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) فقد عبر تعبيراً دقيقاً عن العمى المؤقت الذي يصيب الرائي لسنا برقه فهو عمى يزول بعد مدة من الزمن ولهذا خير فعل يعبر عن هذا العمى المؤقت هو الفعل كاد يدل على دقة التعبير في القرآن الكريم.
__________
(1) روح المعاني 18/191.
(2) ينظر جواهر الحسان 4/331.
(3) الجامع لأحكام القرآن 1/222.
(4) ينظر زاد المسير 1/45.(1/22)
(وقرأ الجمهور (1) (يَذهَب) بفتح التحتية وفتح الهاء، فالباء للتعدية، أي يُذهب الأبصار. وقرأه أبو جعفر (2) وحده بضم التحتية وكسر الهاء فيكون الباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل (وامسحوا برؤوسكم). (3) .) (4)
أما الاختلاف في التعبير في قوله تعالى (يذهب بالأبصار) عن قوله تعالى في سورة البقرة (يخطف أبصارهم) (5) وذلك لاختلاف المقامين لأن في الخطف من معنى النكاية بهم والتسلط عليهم ما ليس في (يذهب) إذ هو مجرد الاستلاب. وهذا من بلاغة القرآن الكريم وإعجازه مع ما في هذا التخالف من تفنين الكلام الواحد على أفانين مختلفة حتى لا يكون الكلام معاداً وإن كان المعنى متحداً ولا تجد حق الإيجاز فائتاً في هذين الكلامين في حد التساوي في الحروف والنطق. (6)
إنزال الماء العذب:
قال تعالى: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ). (7)
معنى المزن لغة: قال الخليل (8) : المُزْنُ السَّحابُ ، والقطعة: مُزْنة وهو قول ابن فارس (9) أيضاً.
وفي الصحاح (10) : أبو زيد المُزْنةُ: السحابة البيضاء، والجمع مُزن. وهو قول الثعالبي أيضاً يقول: (فإذا كان أبْيَضْ فهو المُزْنُ). (11)
وجاء في اللسان (12) : المُزْنُ: السحاب عامةً وقيل: السحاب ذو الماء واحدته مُزْنَةٌ وقيل: المُزْنَةُ السحابة البيضاء والجمعُ مُزْنٌ، والبَرَدُ حَبُّ المُزْنِ.
__________
(1) ينظر المحتسب لابن جني 2/114 ، النثر في القراءات العشر 2/332.
(2) المصادر نفسها.
(3) المائدة /6.
(4) التحرير والتنوير 18/263.
(5) البقرة / 20.
(6) التحرير والتنوير 18/263.
(7) الواقعة / 68-70.
(8) العين (مزن) 7/376.
(9) مقاييس اللغة (مزن) 5/318.
(10) الصحاح (مزن) 6/2203.
(11) فقه اللغة وسر العربية 407.
(12) لسان العرب (مزن) 13/406.(1/23)
وفي قاموس المحيط (1) : المُزنُ بالضم السَّحابُ، أو أبْيْضهُ أو ذو الماءِ، والقِطْعةُ: مُزْنَةٌ.
أقوال المفسرين:
قوله تعالى: (أفرأيتم الماء الذي تشربون) أي العذب الصالح للشرب (أأنتم أنزلتموه من المزن) من السحاب واحده مزنة وقيل المزن السحاب الأبيض وماؤه أعذب (أم نحن المنزلون) له بقدرتنا (لو نشاء جعلناه اجاجا) ملحاً شديد الملوحة أو من الأجيج فإنه يحرق الفم أو مرا زعاقاً (فلولا تشكرون) أي فهلا تشكرون أمثال هذه النعم الضرورية. (2)
التفسير العلمي:
__________
(1) القاموس المحيط (مزن) 4/271.
(2) ينظر جامع البيان 27/200-201 ،الجامع لأحكام القرآن 17/221 ،البحر المحيط 10/89-90، تفسير القرآن العظيم 4/297 ،أنوار التنزيل 2/1042، إرشاد العقل السليم 8/198 ،فتح القدير، 5/158 روح المعاني 27/149، محاسن التأويل 16/17.(1/24)
يقول الغمراوي: إن الهواء أربعة أخماسه أزوت، والأزوت أيضاً لا يكاد يتحد في العادة بشيء ولا بالأوكسجين الذي يكاد يتحد بكل شيء، لكن الكمياويين وجدوا أنهم يستطيعون بالكهربائية أن يحولوا الأزوت غير الفعال إلى أزوت فعال يتحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية، كما وجدوا أنهم يستطيعون أن يحملوا الأزوت على الاتحاد بالأكسجين بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتحاد ينشأ بعض أكاسيد للأزوت قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتحد به وكون حمضين أزوتيين أحدهما حمض الأزوتيك، أو ماء النار كما كان يسميه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني. وقليل من حمض الآزوتيك في الماء كاف لإفساد طعمه، وهكذا يمكن معرفة الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماء أجاجا من غير خرق لأي سنة من سنن الله الكونية، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكون به المطر ، وكل الذي يلزم هو أن يعتدل أو يتكيف التفريغ الكهربائي ويتكرر في الهواء. وما يكون من أكاسيد الآزوتية يذوب في ماء السحاب، ويحوله حمضياً لا يسيغه الناس. وهذا هو موضع المن من الله على الناس، إنه يكيف التفريغ بالصورة التي ينزل بها المطر ولا يؤج بها الماء. إن شيئا من ذنيك الحمضين لا بد أن ينزل في ماء العواصف، وهذا ضروري للحياة لأنه يتحول في الأرض إلى الأزوتات الضرورية لحياة النبات. لكن الله برحمته وحكمته يقدر تكونه بحيث لا يتأذى به إنسان أو حيوان ... ولو شاء الله لكثره في ماء المطر فأفسده على الناس. (1)
__________
(1) ينظر الإسلام في عصر العلم 354-355 ، وينظر الكون والإعجاز العلمي 197 نماذج من الإعجاز العلمي للقرآن 80-82.(1/25)
وقيل المعنى لو شئنا لجعلنا الماء كله مجاً بحيث نجعل الملح يصعد مع البخار بطرائق أخرى (1) ، لأن كل ماء عذب في الأرض كان أجاجا في الأصل إذ هو آت من ماء البحار. إنك تعرف أن الأرض ربعها يابس وثلاثة أرباعها ماء، هذا الماء كله ماء مالح ومنه يقطر الله للإنسان والحيوان والنبات ما لا غنى لهم عنه من الماء العذب. (2) فأصل كل المياه العذبة من البحار والمحيطات تتبخر دائماً وباستمرار فيتكاثف فينزل مطراً بقدرة الله تعالى، ولولا وجود هذه المحيطات والبحار لخلت الأرض من المياه العذبة. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
قال أبو حيان في قوله تعالى: (الذي تشربون) هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذب. ألا ترى مقابله، وهو الأجاج (4) وقد وضح سياق الآية هذا الماء العذب الصالح للشرب بطريقة الاستفهام والرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلقة بالاستفهام. (5) وذكر الآلوسي في قوله تعالى (أفرأيتم الماء الذي تشربون) أنه خصص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشراب أهم المقاصد المنوطة به. وقال أيضاً أنه قيل المزن السحاب الأبيض وماؤه أعذب. (6)
__________
(1) ينظر آيات الله في الآفاق 116-117 وينظر المشاهد في القرآن الكريم 101.
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 355.
(3) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 53.
(4) البحر المحيط 10/89-90.
(5) أنوار التنزيل 2/1042.
(6) روح المعاني 27/149.(1/26)
ومن أقوال المفسرين واللغويين نستنتج أن الله وصف بقوله تعالى الماء بالعذب الشديد العذوبة حين وصفه بقوله (الذي تشربون) فقوله تشربون يدل على المخاطب الذي وجه إليه الاستفهام وهو الإنسان دون الحيوان والنبات وإن اشتركا في المنفعة بهذا الماء العذب فقد يستفيد الحيوان والنبات من المياه الأقل عذوبة من هذا كما أشار المعجميون إلى هذه المياه الذي لا تبلغ أن تكون أجاجا يشربه المال ولا يشربه الناس وهو المسمى بالمُخْضِم. (1) إضافة إلى ما قيل أن المزن السحاب الأبيض وماؤه أعذب فقد وصف ماء المزن (بالأعذب) وهو اسم تفضيل يدل على شدة عذوبته عن باقي المياه.
وفي قوله تعالى (لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا يشكرون) ففي قوله تعالى (جعلناه أجاجا) فيه دلالة على أن الماء الذي نزل من السماء كان أصله مالحا، والماء المالح كما هو معروف هي البحار (2) وهذا ما أشار إليه العلم الحديث من أن أصل مياه الأمطار هي البحار والمحيطات.
وقد اختلف التعبير في قوله تعالى (لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا يشكرون) عن الآية التي سبقتها وهو قوله تعالى (أفرأيتم ما تحرثون. أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون. لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون). (3) فقال في آية الزرع (لو نشاء لجعلناه حطاما) باللام في لجعلناه، وقال في آية الماء (لو نشاء جعلناه أجاجا) فلم يذكر اللام وقد ذكر أهل العربية والمفسرون عدة وجوه في الفرق بين التعبيرين.
وأشار الزركشي (4) إلى أربعة أوجه:
__________
(1) ينظر لسان العرب (خضم) 12/184 ، القاموس المحيط (خضم) 4/107.
(2) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 53.
(3) الواقعة / 65.
(4) ينظر البرهان في علوم القرآن 3/89.(1/27)
أحدهما: أن صيرورة الماء ملحا أسهل وأكثر من جعل الحرث حطاما إذ الماء العذب يمر بالأرض السبخة فيصير ملحا فالتوعيد به لا يحتاج إلى تأكيد وهذا كما أن الإنسان إذا توعد عبده بالضرب بعصا ونحوه لم يحتج إلى توكيد وإذا توعد بالقتل احتاج إلى تأكيد.
والثاني :إن جعل الحرث حطاما قلب للمادة وجعل الماء أجاجا قلب للكيفية فقط وهو أسهل وأيسر.
الثالث: أن (لو) لما كانت داخلة على الجملتين معلقة ثانيهما بالأولى تعليق الجزاء بالشرط أتى باللام علما على ذلك ثم حذف الثاني للعلم بها لأن الشيء إذا علم وشهر في موقعه وصار مألوفاً ومأنوساً به لم يبال بإسقاطه عن اللفظ استغناء بمعرفة السامع ويساوي لشهرته حذفه وإثباته مع ما في حذفه من خفة اللفظ ورشاقته لن تقدم ذكرها والمسافة قصيرة يعني عن ذكرها ثانياً. وقد أشار الزمخشري (1) وأبو السعود (2) إلى هذا الوجه أيضاً.
الرابع: أن اللام أدخلت في آية المطعوم للدلالة على أنه يقدم على أمر المشروب وأن الوعيد بفقده أشد وأصعب من قبل المشروب إنما يحتاج إليه تبعا للمطعوم ولهذا قدمت آية المطعوم على آية المشروب. وهذا الوجه هو الذي يراه أبو حيان. (3)
وقال الزركشي (4) في موضع آخر من كتابه البرهان أن قوله لو نشاء جعلناه أجاجا بغير اللام يفيد التعجيل أي جعلناه أجاجا لوقته.
__________
(1) الكشاف 4/1216 ، إرشاد العقل السليم 8/198.
(2) إرشاد العقل السليم 8/198.
(3) البحر المحيط 10/89-90.
(4) ينظر البرهان في علوم القرآن 4/338.(1/28)
وذكر ابن أثير في المثل السائر: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء أكثر من الماء العذب وكثيرا ما إذا أجريت المياه العذبة على الأرض المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد فلذا قرئ باللام لتقريره وتحقيق أمره. (1)
وقال الدكتور فاضل صالح السامرائي أن في هذا سراً لطيفاً وهو أنه ذكر عمل الإنسان في الحراثة والزرع وبذل الجهد فيها .. ومراقبته حتى إذا استوى زرعه على سوقه وقت الاستفادة منه أصبح حطاما كان ذلك أشق شيء عليه لأنه يرى عمله وكده وإنفاقه ذهب هباء وضاع سدى إلا ترى إلى قوله تعالى فيما بعد: (فظلتم تفكهون أنا لمغرمون) ... هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الماء الأجاج يمكن تحويله إلى ماء عذب بالتقطير أو بغير ذلك من وسائل التحلية فيكون صالحا للاستعمال والشرب كما ترى الآن في كثير من الأماكن، أما الحطام من الزرع فلا يمكن تحويله إلى حب أو فاكهة يأكل منها الإنسان والخسارة فيه أكبر. فأنظر الفرق بين الحالتين. (2)
ومن هذه الأقوال نجد أن منهم من جعل سبب حذف اللام في آية جعل الماء أجاجا هو السهولة واليسر في تحويله قياساً مع آية تحويل الزرع إلى حطام وهذه السهولة أيضاً في جعل الماء أجاجا قد أشار إليها العلم الحديث من غير خرق لأي سنة من سنن الله الكونية، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكون به المطر يمكن تحويله إلى حامض لا يسيغ الناس شربه لذا لا يحتاج في التفسير العلمي الحديث إلى ذكر اللام كما فسر السابقون.
__________
(1) ينظر المثل السائر لابن الأثير 2/52 ، وينظر روح المعاني 27/149.
(2) ينظر التعبير القرآني 119-120.(1/29)
كما أن قوله تعالى (أجاجاً) لا يحمل معنى الماء الملح الشديد الملوحة فقط فهو يحمل معاني أخرى ذكرها المعجميون كما ذكرنا سابقاً أنهم قالوا بمعنى الملح الشديد الملوحة وقيل هو المر الشديد المرارة لا يمكن شربه وقيل من الأجيج وهو تلهب النار وذكر الآلوسي (1) أنه قيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار فإما أن يراد ذلك أو الملح بقرينة المقام. ولعل عدم تحديد الماء هنا في هذه الآية بالماء الملح وليس كما في قوله تعالى (هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) يفيد أن معنى (أجاج) يشمل كل ما يلذع الفم كما فسر العلم الحديث تحويل الماء العذب إلى ماء حمضي يلذع اللسان ويحرقه لذا وصفه الله تعالى بالأجاج ليشمل جميع تلك المعاني من جعله مراً وملحاً أو محرقاً وليخاطب جميع الأزمان وجميع الاختصاصات ليتدبروا آيات الله ويشكروه على نعمه.
__________
(1) روح المعاني 27/149.(1/30)
المبحث الثالث
الليل والنهار والشروق والغروب
تكوير الليل والنهار:
قال تعالى: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ). (1)
التكوير في اللغة:
قال الخليل (2) : الكور: لَوْتُ العمامة على الرأس، وقد كورتها تكويرا.. يقال كورت هذا على هذا وذا على ذا مرة إن لويت.. والمكتار المؤتزر. قال الضرير المكتار المتعمم، وهو من كور العمامة ... والكور: الزيادة: (أعوذ بالله من الحَوْر بعد الكور) أي من النقصان بعد الزيادة ... وسميت كارة التي للقصار، لأنه يجمع ثيابة في ثوب واحد يكور بعضها من بعض.
وأشار إبن فارس (3) إلى أن الكاف والواو والراء أصل صحيح يدلُّ على دورٍ وتجمُّع من ذلك الكور: الدَّور. يقال كار يكور، إذا دار. وكور العمامة إذا دورها ... وقوله يكور الليل على النهار، أي يدير هذا على ذاك ويدير ذاك على هذا.
وفي اللسان (4) : قال النضر: كل دارة من العمامة كَوْر، وكل دَورٍ كَوْرٌ.
أقوال المفسرين:
ذكر المفسرون في قوله تعالى (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) عدة أقوال:
قال الضحاك: أي يلقي بعضه على بعض وروي عن ابن عباس في معنى الآية قال: ما نقص من الليل دخل في النهار وما نقص من النهار دخل في الليل والى مثل قول ابن عباس قال الثعالبي (5) يكور الليل على النهار يعيد من هذا على هذا ومنه كور العمامة التي يلوي بعضها على بعض فكان الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزء فيستره وكأن الآخر الذي يقصر يلج في الذي يطول ويستره.
__________
(1) الزمر / 5.
(2) العين (كور) 5/401.
(3) مقاييس اللغة (كور) 5/146.
(4) اللسان (كور) 5/155.
(5) تفسير جواهر الحسان 4/48.(1/1)
وعن ابن عباس أيضاً يقول يحمل الليل على النهار وعن قتادة: هو غشيان أحدهما على الآخر وقال أيضاً هو نقصان أحدهما من الآخر. وعن ابن زيد يكور النهار على الليل حين يذهب بالليل ويكور النهار عليه ويذهب بالنهار ويكور الليل عليه (1) وعن أبي السعود (2) : يغشي كل واحد منهما الآخر كأنه يلف لف اللباس على اللابس أو يغيبه كما يغيب الملفوف باللفامة أو يجعله كاراً عليه كروراً متتابعاً أكوار العمامة.
وقال الشوكاني (3) : قال الراغب تكوير الشيء إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما.
التفسير العلمي في الآية:
اعتمد التفسير العلمي في الآية على قوله تعالى (يكور) ففي هذه الكلمة إشارة واضحة وصريحة على كروية الأرض، وإن النهار يغطي نصف الكرة الأرضية في وقت ما ثم يغطي نصفها الآخر في وقت لاحق، وكذلك يفعل الليل، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا كانت الأرض تدور حول نفسها كل يوم. (4)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر جامع للبيان 23/192-193 ،الجامع لأحكام القرآن 15/224225 ،تفسير الصنعاني 3/،171 أنوار التنزيل 2/908 ، فتح القدير 4/450.
(2) إرشاد العقل السليم 7/242.
(3) فتح القدير 4/450.
(4) تأملات في الدين والعلم 39-40.(1/2)
ذكرت معاجم عدة معاني بلفظ (يكور) غالبيتها تدل على التدوير كما ذكر ابن فارس وإن فسر بعضهم التكور بالزيادة فهذا لا يخالف ما قاله المعجميون فتفسيرهم أيضاً صحيح لأن من معاني (الكوْر) الزيادة كما ذكرنا ولا يخالف أيضاً الحقائق العلمية المعروفة قديماً وحديثاً من أن طول الليل والنهار يختلف باختلاف الفصول فإذا طال النهار قصر الليل وبالعكس ومعلوم أن كل المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة وهذا من إعجاز القرآن الكريم فهو يشير إلى معاني عدة بلفظ موجز. إضافة إلى مخاطبة الناس على قدر عقولهم فهم يحملون اللفظ على ما يوافق علومهم وتتحمله عقولهم لذا جاء اللفظ يكور ليدل على كروية الأرض باللفظ الصريح الدال على أحد معانيه وهو التدوير.
قال محمد مختار عرفات: أوضح الأدلة على كروية الأرض، إذ لا يمكن أن يحدث التكوير في الآية الكريمة إلا إذا كانت الأرض كروية (نسبياً) ولقد كان إدراك هذه الحقيقة وتصورها صعباً على الناس قديماً، فكيف لا يسقط من يقف على النصف الجنوبي الأسفل من الكرة الأرضية، عند من لم يعرف وقتئذٍ أي شيء من قوانين حركة الأرض عند كبلر وقوانين الجاذبية عند نيوتن. (1)
__________
(1) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 75.(1/3)
يقول الشعراوي: ثم نتأمل قول الله تعالى (يكور الليل على النهار).. لماذا استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة يكور ... لماذا استخدم الله لفظ يكور ... ولم يقل يبسط الليل والنهار ... ما دامت الأرض منبسطة.. أو يغير الليل والنهار ... أو أي لفظ آخر. إنك لو جئت بشيء ولففته حول كرة ... فتقول أنك كورت هذا القماش مثلا ... أي جعلته يأخذ شكل الكرة الملفوف حولها ... وإذا أردت من إنسان أن يصنع لك شيئاً على شكل كرة ... فتقول له خذ هذا وكوره ... أي اصنعه على شكل كرة ... ومعنى قوله تعالى يكور الليل على النهار ... أي يجعلهما يحيطان بالكرة الأرضية.. ومن إعجاز القرآن أن الليل والنهار مكوران حول الكرة الأرضية في كل وقت ... ومن إعجاز القرآن أن الليل والنهار مكوران حول الكرة الأرضية في كل وقت ... أي لم يقل يكور الليل ثم يكور النهار ... ولكنه قال يكور الليل على النهار واستخدم كلمة (على) هنا تستحق وقفة لنتصور مدى انطباقها على كروية الأرض ... (يكور الليل على النهار) ومعناه أنهما موجودان في نفس الوقت حول الكرة الأرضية وهذا ما نبأ به القرآن منذ أربعة عشر قرنا ولم يصل إلى علم البشر إلا في الفترة الأخيرة. (1)
وهذا من إعجاز القرآن الكريم في دقة استخدامه للألفاظ وسبقه العلمي في وصف الظواهر الكونية من غير أي يكذبه الناس في وقت نزوله.
كما أن الفعل يكور المكرر مرتين في هذه الآية يدل بوضوح على كروية الأرض بكروية جوها الذي يتولد فيه الليل والنهار على التجدد على كل بقعة من بقاع الأرض. (2) إضافة إلى أن صيغة المضارع في قوله (يكور) للدلالة على التجدد أيضاً. (3)
__________
(1) المنتخب من تفسير القرآن الكريم 1/41 وينظر قصة الإيمان 321.
(2) ينظر الكون والإعجاز العلمي للقرآن 152 وينظر الإسلام في عصر العلم 236.
(3) ينظر روح المعاني 23/239.(1/4)
ومن الناحية البلاغية نجد البعض يرى في معنى التكوير في هذه الآية مجازا لما يفيد معناه اللف والطي كما يقول الزمخشري (1) في تفسيره غير أن الغمراوي يرى أن لف الليل على النهار بلف محوري حقيقي للأرض (التي هي محل الليل) ويلف النهار على الليل بلي حقيقي لأشعة ضوء الشمس في غلاف الأرض الهوائي الذي تملؤه الظلمة وهي تدور. (2)
والذي يبدو أن المقصود في الآية المعنى الحقيقي والمجازي على السواء إضافة إلى جمالية المعنى المجازي والصور التخيلية لهذا المشهد فأبن عاشور يرى في هذا تمثيلاً بديعاً قابلاً للتجزئة بأن تشبه الأرض بالرأس، ويشبه تعاود الليل والنهار عليها بلف طيات العمامة وأشار أيضاً أن العرب وجمهور البشر كانوا يجهلون كروية الأرض فأومأ القرآن ، إليه بوصف العَرضين اللذين يعتريان الأرض على التعاقب وهما النور والظلمة، أو الليل والنهار، إذ جعل تعاودهما تكوير لأن عَرَض الكرة يكون كرويا تبعاً لذاتها. (3)
__________
(1) الكشاف 3/1047.
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 236 ، نماذج من الإعجاز العلمي للقرآن 49.
(3) التحرير والتنوير 23/328-329.(1/5)
ويقول الدكتور محمد منصور حسب النبي: المعنى هنا أن الله يلف ظلمة الليل على مكان النهار فيصير ليلاً، ويلف سبحانه نور النهار على مكان الليل فيصير نهارا، ويؤيد هذا المعنى تكرار الفعل يكور تكرارا بليغاً، واستخدام المجاز المرسل لغوياً أي باستخدام لوازم الليل والنهار وهي على الترتيب الظلام والنور أو مكان الليل والنهار، وهذه المعاني المجازية بالإضافة للمعنى الأصلي الزمني لهما (كظرف زمان)، لأنه لا معنى هنا للف زمن على زمن، وبهذا فإن معنى الآية: لف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس وبالتالي يلف الليل على النهار ويلف النهار على الليل. وهذا إعجاز علمي بياني من القرآن الكريم يخاطب البشر بالإشارة أو بصريح العبارة، وبالتلميح أو التصريح، دون أن يصدم الناس في معتقداتهم عن سكون الأرض الظاهري حتى لا يكذبوا القرآن الذي يخبر عن ظواهر الكونية بأسلوب يستوعبه أولو العلم الذين يتكشف لهم على مر الزمان إثبات علمي واضح لصدق نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
ومن هذه الآيات أيضاً قوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ) (2)
معنى الانسلاخ لغة:
قال الخليل (3) : السلخ: كشط الإهاب عن (ذيه)، والإهاب نفسه. ومسلاخ الحية: قشرها الذي ينسلخ منها ... وسلخت الشهر خرجت منه.. وانسلخ النهارُ من الليل: خرج منه خروجا لا يبقى معه شيء من ضوئه.
وأشار ابن فارس (4) : إلى أن السين واللام والخاء أصل واحد، وهو إخراج الشيء عن جلده. ثم يحمل عليه. والأصل سلخت جلدة الشاةِ سلخاً ... ومن قياس الباب: سلخت الشَّهرَ، إذا صرت في آخر يومه. وهذا مجاز. وانسلخ الشهرُ، وانسلخَ النهارُ من الليل المقبل.
__________
(1) المعارف الكونية بين العلم والدين 168-169.
(2) يس / 37.
(3) العين (سلخ) 4/198.
(4) مقاييس اللغة (سلخ) 3/94.(1/6)
وجاء في اللسان (1) : سلَخَت المرأةُ عنها دِرْعَها نَزَعَتْه.
وفي القاموس (2) :سلخ كنصر ومنع:كشط ونزع والسلوخ:شاة سلخ جِلْدها والشَّهر مَضَى.
وفي مفردات الراغب (3) : السلخ نزع جلد الحيوان، يقال سلخه فانسلخ وعنه استعير سلختُ درعه نزعتها وسلخ الشهر وانسلخ ومنه قوله تعالى: ( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُم ). (4)
أقوال المفسرين في الآية:
قوله (وأية لهم) أي علامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب الهيته (الليل نسلخ) ننزع ونكشط (منه النهار). (فإذا هم مظلمون) داخلون في الظلمة ومعناه نذهب النهار ونجيء بالليل وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة. فتظلمون بمعنى دخلوا في الظلمة كما يقال مظهرون بمعنى الدخول في وقت الظهيرة وممسون ومصبحون. (5)
التفسير العلمي في الآية:
__________
(1) لسان العرب (سلخ) 3/25.
(2) القاموس المحيط (سلخ) 1/261.
(3) المفردات في غريب القرآن (سلخ) 348.
(4) التوبة /5.
(5) ينظر جامع البيان 23/5، تفسير البغوي 14/12، الكشاف 3/997، زاد المسير 7/17 ،التفسير الكبير 26/61-62 ، الجامع لأحكام القرآن 15/26، أنوار التنزيل 2/870 ،إرشاد العقل السليم 7/176 فتح القدير 4/369، روح المعاني 23/9-10.(1/7)
لقد كشف لنا العلم الحديث أن الليل يحيط بالكرة الأرضية من كل مكان وأن الجزء الذي يتكون فيه النهار هو الهواء الذي يحيط بالأرض ويمثل قشرة رقيقة – نسبياً – تشبه الجلد وإذا دارت الأرض سُلِخت حالة النهار الرقيقة التي كانت متكونة بسبب انعكاسات الأشعة القادمة من الشمس على الجزيئات الموجودة في الهواء فيحدث بهذا الدوران سلخ النهار من الليل. (1) لذا شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة من ظلمة كل من ليل الأرض وليل السماء بسلخ الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها، مما يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون وأن النهار ليس إلا ظاهرة نورانية عارضة رقيقة جدا لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم. (2)
فالظلام الكوني هو الأصل لأنه سائد ودائم حول الأجرام السماوية لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث النور بالتشتت. (3)
وقد رأى روّاد الفضاء الأمريكيون كيف ينسلخ النهار من الليل فعلا بدورانها حول نفسها أمام الشمس في حركتها اليومية وصوروا ذلك من مركباتهم الفضائية وخاصة من مسافات بعيدة عن الأرض بل صوروا ذلك المشهد العجيب وهم فوق سطح القمر والقرآن يصف بشكل كامل هذه الدورة التي لا تكف أبداً للنهار والليل. (4)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
(وآية لهم الليل) جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر وقوله نسلخ منه النهار جملة مبينة لكيفية كونه آية أي نزيلة ونكشفه عن مكانه المستعار من السلخ أو حالاً أو بدل اشتمال من (آية). (5)
__________
(1) كتاب توحيد الخالق / عبد المجيد الزنداني 117. وينظر نظرة علمية للكتب السماوية 68.
(2) ينظر تيسير الرحيم الرحمن 145-146.
(3) ينظر المعارف الكونية بين العلم والدين 270.
(4) هندسة النظام الكوني 58.
(5) ينظر إرشاد العقل السليم 7/176 ، التحرير والتنوير 23/18-19.(1/8)
والاستعارة هنا هو استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي فقوله (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار المستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد عن الشاة والمستعار له كشف الضوء عن مكانه الليل وهما حسيان والجامع ما يعقل من ترتيب أمر على أمر وحصوله كترتيب ظهور اللحم على الكشط وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل. (1)
أما أهل التفسير العلمي فيقولون إن في تشبيه تعالى إزالة ضوء النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية مقررة إلى أن ضوء النهار ينشأ من سطح الأرض ولا يمتد إلى باطنها كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، أو بعبارة أخرى أن ضوء النهار على الأرض الذي يكشفها الإبصار لا يصدر من باطنها بل يصدر من سطحها: فلا يكون إذاً ضوءاً ذاتياً بل ضوءاً مكتسباً ومعكوساً من سطحها أي هو ضوء الشمس المعكوس بعد سقوطه عليها ثم انعكاسه منها. (2) إضافة إلى ذلك فالتشبيه يشير إلى رقة تلك الطبقة حين شبهت بالجلد نسبة إلى اللحم.
وقد أشار العلماء أيضاً إلى أن الليل هو الأصل كما شاهدوا ذلك وقد ذكر ذلك قبلهم القدامى حينما قالوا الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة. (3) لذا ففي الآية رمز على أن الليل هو الأصل وهو الظلام والنور عارض. (4)
__________
(1) الإتقان في علوم القرآن 2/121 ، وينظر البرهان في علوم القرآن 3/441 ، وينظر الطراز / للعلوي 3/335
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 282.
(3) ينظر تفسير البغوي 4/12.
(4) ينظر إرشاد العقل السليم 7/176.(1/9)
يقول الدكتور محمد منصور حسب النبي والأصل في الكون هو الليل وليس النهار، والنهار جزء من محتويات الليل حتى ولو لم يظهر لنا الظلام فظلام الفضاء الكوني يحتوي على كل الإشعاعات المرئية ولكنها لا ترى لانعدام ما يشتتها كما عرفنا سابقاً وإذا وجدت ما يظهرها مثل جو الأرض الذي يكون القشرة المنيرة تنسلخ بدوران الأرض وتعود إلى أصلها وهو الليل الدائم في الفضاء. (1)
وقول حسب النبي أن النهار جزء من محتويات الليل قول يتحمله النص القرآني فمن في قوله تعالى نسلخ منه النهار قيل أنها ابتدائية وقيل تبعيضية (2) فعلى قول منصور حسب النبي تكون تبعيضية لأن النهار هو جزء من الليل أما إذا عدت من ابتدائية يقول الزركشي: (لأن انسلاخ الشيء عن الشيء أن يبدأ منه ويزول عنه حالاً فحالاً كذلك انفصال الليل عن النهار والانسلاخ أبلغ من الانفصال لما فيه من زيادة البيان. (3)
ويتعدى فِعل سلخ إلى الجسم الذي أزيل جلده الجر، والأكثر أنه من الابتدائية ويتعدى بحرف عن أيضاً لما في السلخ من معنى المباعدة بعد الاتصال. (4) وهذا معلوم الآن فضوء النهار ينسلخ من الأرض بعد مباعدته للشمس.
__________
(1) ارتياد الفضاء 41.
(2) ينظر روح المعاني 23/10.
(3) ينظر البرهان في علوم القرآن 3/436.
(4) ينظر التحرير والتنوير 23/17-18.(1/10)
وقيل معنى منه في هذا الموضع عنه كأنه قيل نسلخ عنه النهار فتأتي بالظلمة ونذهب بالنهار (1) وقال أبو عبيدة نخرج منه النهار ونميزه منه فتجيء الظلمة ،قال الماوردي وذلك أن ضوء النهار يتداخل في الهواء فيضيء فإذا أخرج منه أظلم. (2) وعبارة الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي أن المستعار له في الآية ظهور النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلده وذلك على ما قال العلامة الطيبي والفاضل اليميني مأخوذ من قول الزجاج معنى نسلخ منه النهار نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه فالظهور في عبارتهما بمعنى الخروج وهو يتعدى بمن فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن (3) ... وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلخت الإهاب عن الشاة وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الإهاب والشاة مسلوخة فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول. (4)
ولا يختلف التفسير العلمي مع ما ذكره العلماء في هذا التفسير. أما من الناحية الاسلوبية فالتعبير القرآني عن هذه الظاهرة تعبير فريد في تصويره. فهو يصور النهار متلبساً بالليل، ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون. وكلمة السلخ تصور للعين انحسار الضوء عن الكون قليلاً قليلاً. (5) والسلخ حركة يعرف الحس عنفها وشدتها، والجهد الذي تتطلبه لفصل ما ينسلخ مما ينسلخ منه ثم بعدها (فإذا هم مظلمون) هكذا في مفاجأة بـ( إذا) وفي حسم ظاهر! (6)
إضافة إلى ذلك فهو تعبير علمي دقيق يحمل إشارات قوية كما ذكرناها سابقاً وكما شاهده رواد الفضاء.
المشرق والمغرب:
__________
(1) ينظر جامع البيان 23/5 ، فتح القدير 4/369.
(2) زاد المسير 7/17.
(3) ينظر روح المعاني 23/10.
(4) المصدر نفسه 23/10.
(5) المشاهد 358.
(6) منهج الفن الإسلامي 221.(1/11)
قال تعالى: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ). (1) وقوله تعالى :( قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ). (2) وقال تعالى :( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ). (3) وقال تعالى :( رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ). (4) وقال تعالى :( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ). (5) وقال تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ). (6)
المشرق في اللغة:
قال الخليل: الشروق خلاف الغروب، والشروق كالطلوع وشَرَقَ يَشرُقُ شُروقاً، ويقال كل شيء طلع من قبل المَشْرِقِ وأما المستعمل فللشمس والقمر، ويجيء في الأشعار حتى الكواكب. (7)
وقال ابن فارس (8) شرقت الشمس إذا طلعت. وأشرقت إذا أضاءت. والشُروق: طلوعها. ويقولون: لا أفعل ذلك ما ذرَّ شارق، أي طَلَعَ، يراد بذلك طلوع الشمس ... والمشرقان: مشرقا الصيف والشتاء.
وفي الصحاح (9) : الشَّرق المَشْرِق وهو أيضاً الشمس يقال طلعَ الشَّرْقُ .. (المَشْرَُقَة) موضع القُعُود في الشمس بفتح الراء وضمها.
__________
(1) البقرة / 115.
(2) الشعراء / 28.
(3) المزمل /9.
(4) الرحمن / 17-18.
(5) الصافات /5.
(6) المعارج /40-41.
(7) العين (شرق) 5/38.
(8) مقاييس اللغة / شرق 3/264.
(9) الصحاح (شرق) 4/1500-1501.(1/12)
وجاء في اللسان (1) : وكل ما طلع من المشرق فقد شرق ويستعمل في الشمس والقمر والنجوم. وفي التهذيب والشمس تسمى شارقاً ... روى ثعلب عن ابن الأنباري قال: الشرق الضوء والشرق الشمس ... والمَشْرقة والمشرُقة الموضع الذي تشرق عليه الشمس ... والشَّرقة أي الشمس.
أما الغروب: فقال الخليل (2) : المغرب والغُرُوب: غيبْوبَة الشَّمْسِ.
وجاء في القاموس المحيط (3) : المَغْرِب، والذَّهابُ والتَّنَحّي.
أقوال المفسرين في هذه الآيات:
قيل قد قال في موضع برب المشارق والمغارب وقال في موضع رب المشرقين ورب المغربين وقال في موضع رب المشرق والمغرب فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات: قيل أما قوله في سورة الصافات رب المشرق والمغرب أراد جهة المشرق وجهة المغرب فقوله ( قلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ) يريد بهما ناحيتي الأرض أي له الأرض كلها لا يختص به مكان دون مكان. وقوله (رب المشرقين ورب المغربين) أراد مشرق الشتاء ومشرق الصيف وقيل أقصر مشرق في السنة وأطول مشرق في السنة وأقصر مغرب في السنة وأطول مغرب في السنة وقيل هما مشرق الشمس والقمر ومغربهما والوجه في ذلك الحكم إعادة ما سبق مع زيادة لأنه تعالى قال :( الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ) (4) دل على أن لهما مشرقين ومغربين.
__________
(1) لسان العرب (شرق) 10/174-175.
(2) العين (غرب) 4/410.
(3) قاموس المحيط (غرب) 4/109.
(4) الرحمن /5.(1/13)
وقوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ) قيل مشارق الشمس في الشتاء والصيف وهذه المشارق ستون وثلاث مئة مشرق والمغارب مثلها على عدد أيام السنة وقيل المنازل التي تجري فيها الشمس والقمر وقيل كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت. وقيل للشمس والقمر وسائر الكواكب ومغاربها مطلقاً. وإن قيل لم ترك في قوله تعالى: ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) ذكر المغارب فالجواب أن المشارق تدل على المغارب لأن الشروق قبل الغروب. (1)
التفسيرالعلمي لهذه الآية:
لبقاع الأرض شروق وغروب أمام الشمس، كما لبقية الكواكب والأقمار في مجموعتنا الشمسية، وهذا الشروق والغروب يدل على كروية هذه التوابع وعلى دورانها حول نفسها أمام الشمس، وأصبح هذا مألوفاً لسكان الأرض كل يوم، ولكن آيات القرآن الكريم فرقت وميزت بين ثلاث حالات:
1- حالة إفرادية للشروق والغروب ولكل ما بين الشروق والغروب من أمكنة وأزمنة تتكرر ما دامت السماوات والأرض.
2- حالت التثنية في قوله تعالى :(رب المشرقين ورب المغربين) فإذا كانت الأرض مسطحة يستحيل أن يكون لها مشرقان ومغربان، ولا يمكن تصور ذلك إلا إذا كانت الأرض كروية. (2)
__________
(1) ينظر جامع البيان 27/127، 23/35 تفسير البغوي 4/22-23 ، زاد المسير 7/45 التفسير الكبير 29/250 الجامع لأحكام القرآن 2/79، 15/275، 15/64 أنوار التنزيل 2/1032 التبيان في أقسام القرآن 1/121-122 تفسير الجلالين /767، روح المعاني 23/67، 29/65.
(2) ينظر العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 31 ، وينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 81.(1/14)
يقول محمد مختار عرفات: من حركة الأرض الظاهرية المحسوسة لسكان الأرض يوما بعد يوم خلال سنة كاملة نجد لكل يوم نقطة عند أفق الأرض تشرق منها الشمس، وأخرى تغرب منها، ونقطةً ثالثة عليا تصلها الشمس عند الظهيرة وتتحرك الشمس ظاهرياً بين نقطتي الشروق والغروب على شكل قوس مروراً بالنقطة العليا التي تصل إليها الشمس عند تمام الظهيرة في كبد السماء، وهذا القوس بنقاطه الأساسية الثلاث يتغير باستمرار خلال العام الكامل ومن ثم يكبر هذا القوس ويصغر أيضاً وينتج عن ذلك طول النهار أو قصره. ويبلغ هذا القوس أعلى ارتفاعه في 21 حزيران ويبلغ أقصى انخفاضه في 21 كانون الأول ولكن في يومين اثنين من كل سنة وهما 21 آذار و 23 أيلول يصل هذا القوس إلى ارتفاعه الأوسط وعند ذلك يتعادل طول النهار وطول الليل.. إذن نحن أمام يومين فيهما مشرقان ومغربان متميزان عن بقية أيام السنة. ومحدودان بفترة الانقلاب الصيفي والانقلاب الشتوي. وأيضاً نحن أمام يومين فيهما مشرقان ومغربان متميزان عن بقية أيام السنة ... في هذين اليومين تشرق الشمس وتغرب من نقطة المشرق والمغرب تماماً. (1)
3- حالة الجمع قال تعالى :(فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون) (2) وقوله :(وأورثنا القوم الذين كانو يسْتَضْعَفُون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها). (3) وقوله تعالى (إن إلهكم لواحد رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق). (4)
__________
(1) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 82-83.
(2) المعارج /40.
(3) الأعراف /137.
(4) الصافات /4-5.(1/15)
وهذا يدل على أن الشمس لا تشرق على الأرض كلها دفعة واحدة بل تختلف أوقات شروقها. واختلاف شروقها يدل على كروية الأرض ودورانها فحين سقوط أشعة الشمس عليها وهي تدور تقع الأشعة على أجزاء ودرجات واحدة تلو الأخرى. (1) وكذلك فإن لكل نجم مشرقاً، ولكل كوكب مشرق، فهي مشارق كثيرة في كل جانب من جوانب السماوات الفسيحة. (2)
وهناك رؤية علمية جديدة في هذه الآيات فقد ذكر الأستاذ رعد الخزرجي أن هناك مجموعات شمسية تتكون من شمس تدور حولها الكواكب وهناك مجموعات شمسية تتكون من نجمين (شمسين) تدور حولهما الكواكب وهناك ثلاثة نجوم (شموس) تدور حولها الكواكب.
فيكون للكواكب المجموعة الأولى مشرق ومغرب ويكون للكواكب المجموعة الثانية مشرقان ومغربان وللثالثة مشارق ومغارب. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي :
يقول الشعراوي لو أخذنا كل آية من هذه الآيات وقت نزول القرآن الكريم على حجم تفكير العقل البشري في ذلك الوقت ... نجد أن مفهوم المشرق هو جهة شروق الشمس ... ومفهوم المغرب هو جهة غروب الشمس ... فعندما يقول الله سبحانه وتعالى رب المشرق والمغرب فليس هناك تعارض بين العقل والآية في ذلك. (4)
__________
(1) القرآن والعلم 42 ، وينظر في ظلال القرآن 5/2983، الإشارات العلمية / محمد وفا الأميري 38.
(2) ينظر في ظلال القرآن 5/2983.
(3) آيات وحوار الكون /2 قرص سيدي للدكتور أنيس الراوي والأستاذ رعد الخزرجي.
(4) معجزة القرآن 23.(1/16)
فإذا جئنا إلى هذه الآيات اليوم لوجدنا يختلف ... رب المشرق والمغرب ... هذه قالوا عنها عمومية ... ولكن الله سبحانه وتعالى قرن كلمة المشرق بالمغرب لأنه لا يوجد مشرق بدون مغرب ... كروية الأرض تتحتم هذا ... ففي الوقت الذي تغرب فيه الشمس على جهة ... في نفس الوقت وفي نفس اللحظة تشرق على جهة أخرى.. إذن قول الله سبحانه وتعالى رب المشرق والمغرب ... معناها أن الشروق والغروب يتم في وقت واحد ... أي أن الشمس تغرب على بلد في نفس الوقت الذي تشرق فيه على بلد آخر. (1)
وهذا يشير إلى دقة استخدام القرآن للألفاظ وإعجازه العلمي وبلاغته في مخاطبته جميع الناس على اختلاف عقولهم وأزمانهم.
أما قوله تعالى (رب المشرقين ورب المغربين). (2) في هذه الآية المعجزة يتكرر ذكر الخالق بلفظ (رب مرتين) وقد ذكرنا في التفسير العلمي أننا أمام يومَين فيهما مشرقان ومغربان متميزان عن بقية أيام السنة. ومحددان بفترة الانقلاب الصيفي والانقلاب الشتوي وأيضاً نحن أمام يومين فيهما مشرقان ومغربان متميزان عن بقية أيام السنة ومحددان بفترة الاعتدالين الخريفي والربيعي. وفي هذين اليومين تشرق الشمس وتغرب من نقطة المشرق والمغرب تماماً. وهذا التميّز نستوحيه من الآية الكريمة التي ذُكر فيها اسم (رب) مرتين. (3)
وقد أشار القدامى إلى مشارق الصيف ومشارق الشتاء وكذلك إلى أقصر مشرق في السنة وأطول مشرق في السنة وأقصر مغرب في السنة وأطول مغرب في السنة. وهذا لا يتعارض مع ما قاله العلماء اليوم ولكن لكل زمن حصته من العلم يختلف معه تفسيرهم للآيات.
__________
(1) معجزة القرآن 23-24.
(2) الرحمن /17.
(3) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 83.(1/17)
والآية أيضاً تشير كما ذكرنا سابقاً إلى كروية الأرض ودورانها ويستدل على ذلك بالدلالة العقلية إذ لا يمكن تصور أن يكون للأرض مشرقان ومغربان إلا إذا كانت كروية الشكل فلو كانت الأرض مسطحة كان لها مشرق واحد ومغرب هذا ما ذكره أهل التفسير العلمي. (1)
والذي يبدو أن تفسيرهم اللغوي هذا يوافق ما توصل إليه العلم الحديث ويخالف القدماء ولكن ألفاظ الآية توافق ما وصل إليه القدماء والمحدثون في تفسيرهم فالتصور القديم يرى أن الأرض مسطحة والناظر إلى مكان شروق الشمس يختلف باختلاف الفصول وما قاله أهل التفسير العلمي (لا يمكن تصور أن يكون للأرض مشرقان ومغربان إلا إذا كانت الأرض كروية) يخالف تصور القدماء فمع تصورهم أن الأرض مسطحة قالوا بوجود مشرقين ومغربين باعتبار اختلاف مكان طلوع الشمس أما بالنسبة إلى التفسير الحديث فيمكن أن يعد التثنية و الجمع في الشروق والغروب رمز يفهمه أهل الاختصاص على كروية الأرض ودورانها ففي الآية إشارة لطيفة على ذلك دون أن يصدم الناس وقت نزول القرآن الكريم.
أما قوله جمع المشارق والمغارب نجد أنه بعد تقدم علم الفلك لا يوجد مشرق واحد.. ومغرب واحد لأي دولة ... وإنما هي مشارق ومغارب. (2) وكذلك الشمس حين تشرق في مكان في نفس اللحظة تغيب في مكانٍ آخر لذا قال (رب المشارق والمغارب) ولم يقل رب المشارق ورب المغارب. وكذلك يمكن أن تكون المشارق والمغارب جمع باعتبار تعدد الجهات، لأن الجهة أمر نسبي تتعدد الأمكنة المفروضة، والمراد بهما إحاطة الأمكنة (3) كما في قوله تعالى (وأورثنا القوم الذين كانوا يُستضعفون مشارق ومغاربها التي باركنا فيها). (4)
__________
(1) العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه 31.
(2) معجزة القرآن 24.
(3) التحرير والتنوير 9/77.
(4) الأعراف / 137.(1/18)
أما الرؤية الجديدة التي أشار إليها الأستاذ رعد الخزرجي فنلاحظ أن المشرق هو اسم لمكان شروق الشمس (1) كما فسر بعضهم هذا الشروق بالشروق مطلقاً شروق الشمس والقمر والنجوم وعلى هذا لا يكون الشروق مقصوراً على شمسنا كما أشرنا سابقاً وأن بعضهم فسرها جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت.
وبهذا يمكن أن يحمل قوله تعالى :(رب المشرق والمغرب) جميع مواضع الشروق فهناك مجموعات شمسية أخرى غير مجموعتنا الشمسية تشرق على كواكبها وكذلك هناك موضعان للشروق على الكواكب التي تدور حول نجمين شمسيين) وكذلك في حالة الجمع.
ويجوز أن يراد بالمشرق والمغرب المصدر الميمي، أي ربّ الشروق والغروب، فيكون المراد بالربَّ الخالق، أي مكوَّن الشروق والغروب. (2)
وإذا رجعنا إلى المعجمات نجد هناك من يسمى الشمس بالشَّرق ، المشرق كما ذكر صاحب الصحاح يقال طلع الشرقُ وكذلك الشَّرقة وشارق وبهذا يمكن حمل المصدر الميمي في قوله مشرق ومشرقين ومشارق المقصود به الشمس سميت بالمصدر. ولم يحمل هذا المعنى على الشمس لأنهم لا يعلمون بوجود شموس غير شمسنا.
وقد أشار القرآن في موضع إلى المشارق دون المغارب في قوله تعالى : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ) (3) فيبدو أن المشارق هنا تحمل معنى الشموس بدليل سياق هذه السورة فبعد ذكر السماوات والأرض والمشارق قال: ( إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (4) فذكر الكواكب يتناسب مع ذكر الشموس فهذا المعنى أوضح مما قاله القدامى كما ذكرنا سابقاً أن المشارق تدل على المغارب لأن الشروق قبل الغروب فقد ذكر الشروق مع الغروب في آيات كثيرة ولم يقتصر على ذكر الشروق إلا في هذه الآية.
__________
(1) التحرير والتنوير 23/86 ، 19/120.
(2) التحرير والتنوير 19/120.
(3) الصافات /5.
(4) الصافات / 6(1/19)
نشوء الحياة
أصل الحياة:
أن مسألة الحياة على الأرض هي مسألة مركبات عضوية عملاقة معتمدة بذلك بشكل أساسي على مركبات الكربون التي تشغل فيها ذرة الكربون مركز الجزيء العضوي وهذه الذرة كأنها تحمل الحياة في طياتها وفي مركباته العضوية التي لا تحصى رغم أنه عنصر كيميائي جامد لا حياة فيه. (1)
إن العالم الصادق لا يستطيع أن ينكر بأن نشأة الحياة على الأرض كانت بطريقة هي أقرب ما تكون بمعجزة خارقة إلى كونها حقيقة طبيعية مألوفة. فلكي تنشأ الحياة حدث تقاطع واجتماع بلايين الفرص وبظروف مستحيلة وبشروط حرجة حدية وتوازنات نادرة وخاطفة وبعضها لم يتجاوز زمن حدوثه جزءاً من مليار جزء من الثانية الواحدة ووقعت بأعداد لا حصر لها. وكان حصيلتها الحياة وآثارها كما نراها اليوم. (2)
إن ما حدث لا يمكن أن يتصوره عقل أو دماغ!! وإن الزمن الطويل الذي لزم لحدوثه هو أكبر من عمر الأرض ذاتها، مما جعل كثيرٌ من العلماء يعتقدون بأن الحياة نشأت في أماكن أخرى من الكون، ثم أرسلت تلك الحياة بذورها لنسافر عبر الكون إلى أرضنا لتثمر فيها. وهكذا كان للحياة جولة واحدة غير متكررة في عمر هذا الكون. (3)
__________
(1) الكون والحياة 231.
(2) المصدر نفسه 231.
(3) المصدر نفسه الصفحة نفسها.(1/1)
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في آيات متعددة كما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح وأجاب القرآن الكريم بأنها من أمر الله الذي استأثره في علم الغيب عنده وذلك في قوله تعالى: ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ). (1) فمهما تقدمت علومهم ومعرفتهم بأبسط مكونات الحياة لا يمكنهم معرفة بداية خلق الحياة وقد تحداهم الخالق البارئ أن يخلقوا ذباباً في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ). (2) وقد باءت كل تجاربهم بالفشل حتى في خلق المادة الحية (3) التي يعدونها هي أصل الحياة.
قال عبد المجيد الزنداني (4) : بعد أن حضر العلماء تلك صناعياً كما هي موجودة في الطبيعة تفاجئوا عندما صبوا الماء على المادة الصناعية لم يجدوا أثر الحياة فيها على العكس من نظيرتها التي دبت فيها الحياة.
يقول الدكتور هاني رزق: تدل الدراسات الحديثة في قاع المحيط أول خلية بكترية من بدائية النوى، ولكن سيرورة بناء حياة ذات التقانة الرفيعة أو التقانة العليا لم تنشأ دفعة واحدة، وفقاً لمخطط جديد كليا، بل أفادت من وجود سيرورة لبناء (حياة) ذات تقانة خفيضة أو تقانة دنيا أو بحياة بلورات الصلصال. (5)
ومعلوم أن نظرية النشوء والتطور قد ثبت أخيراً خطؤها. يقول الدكتور زغلول النجار: إن لكل نوع من أنواع الكائنات الحية يحتفظ بشريط جيني يختلف من نوع عن طريقة تنقل الصفات إلى الأجيال المتوارثة فلا يمكن مثلاً أن يكون أصل الإنسان قرداً.
__________
(1) الإسراء / 85.
(2) الحج / 73.
(3) المادة الحية هي جملة معقدة التركيب من جزيئات عضوية أساسية هي الحموض الأمينية ومواد لا عضوية هي أملاح معدنية.
(4) الزنداني . قرص سيدي.
(5) الإيمان والتقدم العلمي 55 .(1/2)
وقد تخبط العلماء في معرفة أصل الحياة ويبقى سر الحياة في علم الغيب مهما تقدمت العلوم وجاءنا العلماء بنظريات جديدة لا يمكن الأخذ بها إلا إذا كانت موافقة لما ذكره القرآن فالعلوم متغيرة وعلوم القرآن ثابتة لإنها من عند خالق الكون، ونحن المسلمون مسلمون بما يقول به القرآن لأنه الحق من عند الله وهو المعيار لصحة تلك النظريات وعدم صحتها لا العكس والعلم الصحيح هو الموافق لما جاء به القرآن ولو تأخر العلم البشري في إثبات ذلك.
أثر الماء في وجود الحياة:
قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (1) .
أشرنا سابقاً إلى قول الزمخشري (2) فهو يقول (وجعلنا لا يخلو أن يتعدى إلى واحد أو أثنين، فإن تعدى إلى واحد، فالمعنى خلقنا من الماء كل حيوان، كقوله: ( وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ ) (3) وأن يتعدى إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل شيء حياً بسبب من ماء لا بد منه.
وقد أشار ابن عاشور إلى ذلك حيث قال :(إن تكوين جميع الحيوان لا يتكون إلا من رطوبة ولا يعيش إلا ملابساً لها فإذا انعدمت منه الرطوبة فقد الحياة). (4)
وهذا ما أكده العلم الحديث فالماء هو أعجب المركبات الكونية، ويعد بحق حامل الروح في الكائنات الحية، ويكمن في جزيئاته سر الحياة وديمومتها ... وهو وسيلة تتشبث به المادة الحياة بالحياة. إذ لا يمكن لكائن حي مهما كان نوعه أو فصيلته العيش بدون الماء لكن يمكن لبعضها (5) أن يحيا بدون الهواء). (6)
المبحث الأول
النبات
زوجية النبات:
__________
(1) الأنبياء / 30
(2) الكشاف 3/113.
(3) النور /45.
(4) التحرير والتنوير 17/56.
(5) كما في عصيات الكزاز مثلاً.
(6) الكون والحياة 233.(1/3)
قال تعالى: ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ). (1)
وقال تعالى: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ). (2)
الزوج في اللغة:
قال الخليل (3) : يقال لُفلانٍ زَوْجان من الحمام: أي ذكر وأنثى قال سبحانه (.. فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ..). (4) زوج من الثياب أي لون منها، قال عز وجل: ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ). (5) ويجمع الزوج أزواجا.
وعن ابن فارس (6) : (الزاء والواو والجيم أصل يدلُّ على مقارنة شيء لشيء. من ذلك الزوج زوج المرأة. والمرأة زوج بعلها، وهو فصيح. قال الله جل ثناؤه: ( اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) (7) .. فأما قوله جلّ وعز في ذكر النبات: ( مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ )، فيقال أراد به اللون، كأنه قال: من كل لون بهيج. وهذا لا يبعد أن يكون من الذي ذكرناه ؛ لأنه يزوَّج غيرهَ مما يقاربه. وكذلك قولهم للنمط الذي يطرح على الهودج زوج، لأنه زوج لما يلقى عليه.
__________
(1) الرعد/ 141.
(2) لقمان /10-11.
(3) العين (زوج) 6/166.
(4) المؤمنون /27.
(5) ق/7.
(6) مقاييس اللغة / زوج 3/35.
(7) البقرة /35.(1/4)
وفي اللسان (1) : الزوج خلاف الفرد. يقال زوج أو فرد. كما يقال خسا وزكا أو شفع أو وتر.. ابن سيده الزوج الفرد الذي له قرين الزوج اثنان وعنده زوجا فحل زوجا حمام يعني ذكرين أو أنثين. وقيل يعني ذكر أو أنثى ولا يقال زوج حمام لأن الزوج هنا هو الفرد وقد أولعت به العامة قال أبو بكر العامة تخطئ فتظن أن الزوج اثنان وليس ذلك من مذاهب العرب إذ كانوا لا يتكلمون بالزوج موحدا في مثل قولهم زوج حمام ولكن يثنونه فيقولون عندي زوجان من الحمام يعنون ذكراً وأنثى وعندي زوجان من الخفاف يعنون اليمين والشمال ويوقعون الزوجين على الاثنين المختلفين نحو الأسود والأبيض، والحلو والحامض قال ابن سيده ويدل على أن الزوجين في كلام العرب اثنان قول الله عز وجل :( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ) (2) فكل واحد منهما كما ترى زوج ذكرا كان أو أنثى.. وكان الحسن يقول ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْن ). (3) قال السماء زوج و الأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والليل زوج والنهار زوج ... وقوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ). (4) أراد ثمانية أفراد ... والأصل في الزوج الصنف والنوع من كل شيء وكل شيئين مقترنين شكلين كانا أو نقيضين فهما زوجان، وكل واحد منهما زوج ... وقوله تعالى :( وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ) (5) قال معناه ألوان وأنواع من العذاب ووصفه بالأزواج وأنه عني به الأنواع من العذاب والأصناف منه.
أقوال المفسرين في سورة الرعد:
__________
(1) لسان العرب (زوج) 2/291.
(2) النجم /45.
(3) الداريات / 49.
(4) الأنعام /143.
(5) ص/ 58.(1/5)
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) فمنهم من قال جعل فيها من كل أنواع الثمرات صنفين أثنين كالحلو والحامض والأسود والأبيض والصغير والكبير والحار والبارد وما أشبه ذلك (1) وقال الزمخشري (2) جعل فيها زوجين أثنين خلق فيها جميع الثمرات زوجين زوجين حين مدها، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت وإلى هذا أيضاً ذهب الرازي. (3)
وذكر أبو حيان أنه يقال إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء (4) وهو قول السيوطي (5) حيث قال:(جعل فيها زوجين اثنين) ذكرا وأنثى من كل صنف. ونقل الشوكاني (6) عن مجاهد ذلك أيضاً، وقال ابن عطية: وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجودة فيها نوعان فإن أتفق أن يوجد من نوعين فغير ضار في معنى الآية. (7)
النظرة العلمية في التفسير:
ثبت للعلماء أن معظم الأحياء وبضمنها النبات تتألف من ذكر وأنثى حتى النباتات التي كان مضنوناً أن ليس لها من جنسها ذكور تبين أنها تحمل في ذاتها الزوج الآخر، فتضم أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث مجتمعة في زهرة أو متفرقة في العود، ولا توجد الثمرة إلا بعد عملية التقاء وتلقيح بين زوج النبات، كما هو الشأن في الحيوان والإنسان سواء. (8)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
يقول ابن عاشور: قوله ومن كل الثمرات عطف على (أنهارا) فهو معمول (لجعل فيها رواسي) ودخول من على (كل) جرى الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله (وبث فيها من كل دابة). (9)
__________
(1) ينظر الجواهر الحسان 2/264 الكشاف 2/561 البحر المحيط 6/347 إرشاد العقل السليم 5/4.
(2) الكشاف 2/561.
(3) التفسير الكبير 19/5.
(4) البحر المحيط 6/347 الفراء 2/58.
(5) الدار المنثور 4/602.
(6) فتح القدير 3/66.
(7) ينظر البحر المحيط 6/347 المحرر الوجيز 8/115.
(8) ينظر من ظلال القرآن 5/2787، المنهج العلمي للاعتقاد 142، القرآن وإعجازه العلمي 129.
(9) البقرة / 164.(1/6)
و(من) هذه تحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزيئات الماهية لأن منها جزيئات انقضت ومنها جزيئات ستوجد. والمراد بـ (الثمرات) هي وأشجارها. وإنما ذكرت "الثمرات" لأنها موقع منه مع العبرة كقوله: ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَات) فينبغي الوقف على ومن كل الثمرات) وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض. وهذا أحسن تفسيراً وبعضده نظيره في قوله تعالى (يُنبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون). (1)
__________
(1) النحل /11.(1/7)
وقيل إن قوله :(من كل الثمرات) ابتداء كلام وتتعلق "من كل الثمرات" بـ (جعل فيها زوجين أثنين) وبهذا فسر أكثر المفسرين. ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير. لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا. وأيضاً فيه فوات المنة بخلق الحيوان وتناسله مع أن معظم نفعهم ومعاشهم. ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى ( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ) (1) المعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ) (2) والظاهر أن الجملة (جعل فيها زوجين) مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق ذكرا وأنثى أحدهما زوج مع الأخر. وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما في قوله تعالى ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ) (3) في سورة البقرة ... وأما قوله تعالى: ( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق والقرينة له قوله (وأنبتنا) مع عدم التنبيه. كذلك في قوله تعالى ( فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ). (4) وتنكير الزوجين للتنويع، أي جعل من كل نوع ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما في قوله تعالى: ( ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْن ). (5) والوصف بقوله اثنين للتأكيد تحقيقاً للامتنان. (6)
__________
(1) النبأ / 6-8.
(2) القيامة / 39.
(3) البقرة /35.
(4) طه/ 53.
(5) الأنعام /143.
(6) ينظر التحرير والتنوير 13/83-84..(1/8)
وذهب أبو السعود إلى أن قوله اثنين تأكيد أكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين بين صنفين إما اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض ... وما أشبه ذلك. (1)
وإذا عدنا إلى كلام ابن عاشور نجده يستبعد ما ذكره أكثر المفسرين من أن قوله (من كل الثمرات) ابتداء كلام وتعلق (من كل الثمرات) بـ (جعل فيها زوجين اثنين) لأنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على هذا التقدير لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا.
والذي يبدو أنه قدم الجار المجرور في هذه الآية ليشير إلى حقيقة لم يعرفها الأقدمون وهو أن جميع الثمرات تتكون من زوجين اثنين وهذا لم يكن معلوماً لدى القدماء وليس هذا الأمر ظاهراً كما في الحيونات فهم يعرفون أن الحيوانات تتكاثر من ذكر وأنثى لذا كان لابد من تقديم الجار والمجرور والاهتمام بالمتقدم الذي لم يكن معلوما لديهم ليخبرهم بهذه الحقيقة العلمية فهذه خصوصية الثمرات عن غيرها لخفاء هذه الحقيقة. وهذا ما جعل المفسرين يحيدون عن ذلك لعدم معرفتهم بهذه الحقيقة. وقد استبعد ابن عاشور ذلك أيضاً بقوله (والظاهر) أن جملة (جعل فيها زوجين) مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق ذكرا وأنثى من الحيوان) ولا يخلو كلام ابن عاشور من التكلف ففي ظاهر الآية أن الزوجين هنا للثمرات وليس للحيوانات أما قوله إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق الصنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعد، القرينة له وأنبتنا مع عدم التثنية.
__________
(1) ينظر إرشاد العقل السليم 5/4.(1/9)
يمكن الرد على هذا أنه لا يحتاج إلى عد الزوجين هنا مجازاً بعد معرفتنا بالحقيقة العلمية في تكوين الثمر من ذكر وأنثى لا يختلف ذلك عما هو معروف من تكاثر الحيوانات فالزوج هنا مقصود به الذكر والأنثى ولعل اختيار هذا اللفظ في القرآن الكريم لإفادته أيضاً معنى النوع والصنف كما أشار إلى ذلك المعنى أهل المعاجم والمفسرون مما جعل المفسرين يفسرون الزوجية بهذا المعنى وهذا من بلاغة القرآن الكريم لأنه يكلم الناس على قدر عقولهم وعلومهم فالآية تتحمل هذا المعنى أيضاً وكان هذا أبلغ لدى نزول القرآن فمن تعريفات البلاغة ( أنه لكل مقام مقال) ولعل التفسير العلمي الحديث لهذه الآية الآن أبلغ مما فسر به الأقدمون بعد معرفة هذه الحقيقة العلمية وكما ذكرنا سابقاً قوله (صلى الله عليه وسلم) (القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه) (1) فالأحسن والأبلغ في الوقت الحاضر ما وصل إليه العلماء من الزوجية الحقيقية للنبات وليس مجازا كما ذكر ابن عاشور.
على أن هذا المعنى العلمي لم يغفله بعض القدماء من المفسرين فقد توصل إلى هذا المعنى بما فهموه من ألفاظ هذه الآية كما وجدنا ذلك في تفسير مجاهد والفراء والسيوطي وهذا يدل على الفهم الدقيق للغتهم وأنهم سبقوا عصورهم في المعرفة بفضل هذا الكتاب المعجز الذي أخبرهم بهذه الحقيقة العلمية منذ قرون.
وقد أكد سبحانه وتعالى هذه الزوجية بالاثنين لئلا يفهم من الزوجية بأكثر من هذا العدد وهذه هي سنة الله في خلقه. أما قوله العامة من تسمية الزوج بالاثنين فقد أشار المعجميون إلى بطلان ذلك وكذلك من استقراء الآيات القرآن الكريم يتبين لنا أنه قد استعمل الزوجين للإثنين والزوج للفرد الواحد من هذين الزوجين. على أن يكون له قرين على شاكلته أو بالخلاف والضد كما في زوجية الليل والنهار، والسماء والأرض، والظلمة والنور.
__________
(1) ينظر سنن الدار قطني، رقم الحديث (8)، 4/144.(1/10)
أما قوله بعد ذلك ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ). (1) خص بالمتفكرين لأن ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكير. (2) قال الرازي: (كأنه تعالى يقول مجال الفكر باق بعد ولا بد بعد هذا المقام من التفكير والتأمل ليتم الاستدلال). (3)
وقد جيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكر شديد ومكرر. (4)
وهذا ما أشار إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله عن القرآن (لا تنقضي عجائبه) (5) فالتفكير مطلوب في هذه الآيات إلى يوم الدين.
جعل المرعى غثاء:
قال تعالى: ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى ). (6)
الغثاء في اللغة:
قال الخليل (7) : الغُثاءُ: ما جاء به السَّيْلُ من نباتٍ قد يَبسَ.
وعن ابن فارس:(الغين والثاء والحرف المعتل كلمةٌ تدل على ارتفاع شيء دَنِيَّ فوق شيء من ذلك الغُثاء: غُثاء السيل. يقال غثى الوادي (8) يغثو، وأغثى يُغثِي أيضا ... ويقال لسَفلة الناس: الغثاء، تشبيها بالذي ذكرناه ومن الباب: غثَث نفسي تغثي، كأنها جاشت بشيء مؤذٍ). (9)
__________
(1) الرعد /3.
(2) البحر المحيط 6/348.
(3) التفسير الكبير 19/5.
(4) التحرير والتنوير 13/85.
(5) مصنف عبد الرزاق، رقم الحديث (6017) 3/375.
(6) الأعلى / 1-4.
(7) العين (غثى) 8/440.
(8) الفعل واوي يائي، ينظر مقاييس اللغة (غثا) 4/413.
(9) مقاييس اللغة (غثى) 4/412-413.(1/11)
وفي اللسان: الغثاء، بالضم والمد: ما يحمله السيل من القَمَشِ وكذلك الغُثاء، بالتشديد، وهو أيضاً الزبَّد والقذرَ ... الزجاج قال: الغُثاء الهالك البالي، والجمع الأغثاء، وفي حديث القيامة: كما تنبت الحبة في غُثاء السيل، قال الغُثاء بالمد والضم، ما يجيء فوق السيل مما يحمله من الزَّبد والوسخ وغيره.. غثى الوادي فهو غاث إذا كثُر غِثاؤه، وهو ما علا الماء.
وذكر ابن بري في ترجمة غثى: يقال للضبع غَثواء لكثرة شعرها، قال يقال غثواء، بالعين المعجمة قال الشاعر:
لا تستوي ضبع غَثْواء حَيالةٌ
... ... ... ... وعلجمٌ تيوس لأدم فِنعْال (1)
أما قوله أحوى لغة:
قال الجوهري (2) : (بعير أحوى إذا خالط خُضرته سوادٌ وصفرةٌ.
وفي اللسان (3) : الحوة: سواد إلى خضرة، وقيل حُمرْةٌ تضرب إلى سواد وحميم أحوى، يضرب إلى السواد من شدة خضرته، وهو أنعم ما يكون من النبات. قال ابن الاعرابي: هو مما يبالغون به. الفراء في قوله :(الذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى) قال صار النبت يبسا فهو غثاء. والأحوى قد اسود من القدِم والعَتْقِ، وقد يكون معناه أيضاً أخرج مرعى أحوى أي أخضر فجعله غثاء بعد خضرته، عما قال مدهامتان. النضر. الأحوى من الخيل هو الأحمر السراة في الحديث: خير الخيل الحُو، جمع أحوى وهو الكُميت الذي يعلوه سواد.
وفي القاموس المحيط (4) : الحُوة: بالضم: سواد إلى خضرة أو حمرة إلى السَّواد ... واحْواوت الأرض ، واحْورَّت: اخضرت. وشفة حَوّاء حمراء إلى سواد. والأحوى، الأسود، والنبات الضارب إلى السواد لشدة خضرته.
أقوال المفسرين:
__________
(1) ينظر لسان العرب (غثى) 15/116.
(2) الصحاح (حوا) 6/2322.
(3) لسان العرب (حوا) 14/206.
(4) قاموسي المحيط (حوا) 4/321.(1/12)
قوله تعالى: (الذي أخرج المرعى) ما تخرجه الأرض من نبات ومن الثمار والزروع والحشيش، وقال ابن عباس: المرعى الكلأ الأخضر، وعن قتادة قوله والذي أخرج المرعى ينبت كما رأيتم بين أصفر وأحمر وأبيض. وقوله (غثاء أحوى) قال أبن عباس: هشيما متغيرا، وعن مجاهد غثاء السيل أحوى أسود ،وعن قتادة غثاء أحوى قال يعود يبساً بعد خضرة (1) . وقال الصنعاني (2) غثاء الشيء البالي وأحوى قال أصفر وأخضر وأبيض ثم يبس يكون يابساً بعد خضرة وعن أبن زيد (3) : أخرج المرعى أخضر ثم لما يبس اسود من احتراقه فصار غثاء تذهب به الريح والسيول وهو مثل ضربه الله للكافر لذهاب الدنيا بعد نضارتها. وقال أبو حيان (4) فجعله غثاء أحوى: أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار أسود وتعفن فصار أحوى. وقيل أحوى حال من المرعى أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري فجعله غثاء بعد ذلك. (5)
التفسير العلمي لهذه الآية:
__________
(1) ينظر جامع البيان 30/152-153، التفسير الكبير 31/127.
(2) تفسير الصنعاني 3/367.
(3) الجامع لأحكام القرآن 20/18.
(4) البحر المحيط 10/456.
(5) ينظر جامع البيان 30/152، أنوار التنزيل 2/1148 ، إرشاد العقل السليم 9/144.(1/13)
الغثاء هو اليابس الصلب والأحوى هو اللون الأخضر المائل إلى السواد. وقد فصلت هذه الآيات حقبة من التاريخ الجيولوجي قبل خلق الإنسان وقد أوضح العلم دقة ما جاء به القرآن ... يقول العالم جير ترود هارتمان أن النباتات كانت أسبق ما ظهر من صور الحياة على الأرض اليابسة دون أن يزرعها الإنسان بل دون أن يكون لكائن دخل فيها وتنوعت صور الحياة النباتية ودام ذلك ملايين السنين وتوالت القرون وازدادت كثافة هذه النباتات وكانت العواصف الرهيبة تهب على العالم فعصفت بالأشجار واقتلعت النباتات على سطح الأرض وازداد سمك ما يعلوها من الطين وازداد ثقل الطبقات عليها فأحالها كتلة صلبة وازداد لونها قتاما حتى أصبحت أشبه بمادة صخرية سوداء حتى اكتشفها الإنسان واستعملها وقودا سماه فحما أليس ذلك ما يقول به القرآن إذ أن الله هو الذي أخرج المرعى ثم جعله غثاء أحوى. (1)
ويقول منصور حسب النبي الفحم الجيري أصله الشجر الذي ابتلعته الأرض أثناء الثورات الجيولوجية في العصور القديمة فتفحم في جوفها بالضغط والحرارة. كما أن زيت البترول أصله عضوي والمواد العضوية أصلها الأول نباتي، حتى الحيواني، لأن أكله اللحوم من الحيوانات إنما تعيش على أكله النبات فمعنى الآية جعل النباتات وبقايا الحيوانات فحما أو سائلا يابسا سودا (غثاء أحوى) كما في زيت البترول الخام. (2)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر القرآن والعلم الحديث 75-78 القرآن والعلم / احمد محمود سليمان 66-67 المشاهد في القرآن الكريم 109-110.
(2) ينظر ارتياد الفضاء 49.(1/14)
قوله تعالى: (والذي أخرج المرعى) صفة أخرى للرب. (1) وقوله تعالى (فجعله غثاء أحوى) الهاء وغثاء مفعولان لجعل لأنه بمعنى صير وأحوى نعت للغثاء بمعنى أسود وقيل أحوى حال من المرعى وأحوى بمعنى أخضر (2) وهو اختيار الفراء وأبي عبيدة، وهو أن يكون الأحوى هو الأسود لشدة خضرته، كما قيل مدهامتان أي سوداوان لشدة خضرتهما، والتقدير الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء، كقوله ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً ) (3) أي أنزل فيها ولم يجعل له عوجا. (4) وقيل أن سبب تأخير قوله (أحوى) لرعاية الفاصلة. (5)
أما ابن جرير فيقول: كان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى أي أخضر إلى سواد فجعله غثاءً بعد ذلك . وهذا القول وإن كان غير مدفوع، أن يكون ما اشتدت خضرته من النبات، قد تسميه العرب أسود، غير صواب عندي بخلاف أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلا بتقديمه عن موضعه أو تأخيره. فأما وله في موضعه وجه صحيح، فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير. (6)
__________
(1) فتح القدير 5/813.
(2) مشكل إعراب القرآن 2/813.
(3) الكهف / 1-2.
(4) التفسير الكبير 31/127-128.
(5) ينظر البحر المحيط 10/456 الإتقان في علوم القرآن 2/34 البرهان في علوم القرآن 1/303، 3/280.
(6) جامع البيان 30/153 ، وينظر محاسن التأويل 17/126.(1/15)
أما موقف التفسير العلمي من هذه الاعرابات فهو يتحمل الوجهين فعلى الوجه الأول وهو عد (أحوى) نعت للغثاء يفسره قولهم أنه حينما افتعلت النباتات على سطح الأرض وازداد سمك ما يعلوها من طين وازداد ثقل الطبقات عليها فأحالتها كتلة صلبة وازداد لونها قتاما حتى أصبحت أشبه بمادة صخرية سوداء. فأحوى هنا صفة للغثاء وأحوى هو الأخضر أو الأحمر المائل إلى السواد كما أشار إليه المعجميون وهذا يدل على دقة الوصف القرآني فهو يزداد قتاماً كلما زاد الثقل والضغط فقولهم يزداد قتاما يعني يتحول إلى اللون الأسود وليس أسود.
أما الوجه الثاني وهو جعل قوله أحوى حال من المرعى فهذا أيضاً يشير إلى ناحية أخرى وهو ظهور النبات على اليابسة الذي دام ذلك ملايين السنين وتوالت القرون حتى ازدادت كثافة هذه النباتات. ومعلوم أن زيادة هذه الكثافة تجعله يضرب لونه إلى السواد من شدة خضرته فهذا ابن منظور يقول في اللسان: وحميم أحوى يضرب إلى السواد من شدة خضرته، وهو أنعم ما يكون من النبات قال ابن الاعرابي: هو مما يبالغون به.
فجعله بعد ذلك غثاء ولعل قوله تعالى أحوى في هذا الموقع جعله يحتمل المعنيين يشير إلى هاتين الناحيتين العلميتين فيتضمن قوله أحوى الاعرابين وهذا من الإعجاز البلاغي والعلمي للقرآن الكريم إضافة إلى مراعاة الجوانب الصوتية المتمثلة هنا برعاية الفاصلة فالتقديم والتأخير في القرآن الكريم لا يفيد النواحي الصوتية دون المعنى الذي سيكون عليه فالفواصل تكون تبعا للمعنى وليس العكس.
أما الفاء في قوله تعالى (فجعله) فقد ذكر الزركشي أنه بين الإخراج والغثاء وسائط وجعل منه ابن مالك قوله تعالى (ألم تر إن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) (1) وتؤولت على أن (تصبح) معطوف على محذوف تقديره أنبتنا به فطال النبت فتصبح.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 4/295.(1/16)
وعلى هذا التفسير يمكن القول إن تحول النبات إلى الفحم الجيري يحتاج إلى مراحل جيولوجية حتى يتحول إلى فحم جيري أو إلى بترول كما أشار الدكتور منصور حسب النبي إلى أن أصله من مواد عضوية وأصلها الأول نباتي.
وقد يكون المعنى للتعقيب الحقيقي (1) وذلك لأن النبات سيتحول بعد حياته إلى غثاء أحوى فلون النبات يتغير حالما يموت وإن بقى تحت الأرض ملايين السنين فهو يزداد لونه قتامة بعد تصييره (جعله) أحوى منذ بداية مماته وإن تغير من حاله إلى حالة كما هو الحال في البترول أو ازدياد صلابته كما في الفحم الجيري وهناك معنى أخر تشير إليه الآية وهي أن حياة النبات هنا توحي من طرف خفي، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى.. ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* والآخرة خير وأبقى).. والحياة الدنيا كهذا المرعى، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى ... والآخرة هي التي تبقى. (2)
أما قول الدكتور منصور حسب النبي أن زيت البترول أصله عضوي والمواد العضوية أصلها الأول نباتي، حتى الحيواني منها؛ لأن أكله اللحوم من الحيوانات إنما تعيش على أكلة النبات فمعنى الآية جعل النباتات وبقايا الحيوانات فحماً أو سائلاً يابساً مسودا (غثاء أحوى) كما في زيت البترول الخام.
__________
(1) ينظر المصدر نفسه 4/295.
(2) ينظر في ظلال القرآن 6/3888.(1/17)
وكلامه هذا يشير إلى أن أصل البترول إما نباتي أو حيواني وهو الذي تحول إلى بترول ولو عدنا إلى تفسير ابن عاشور نجده يقول في تفسيره لقوله تعالى: ( أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ). (1) يقول المرعى: مَفَعل من رعَى يرعَى، وهو هنا مصدر ميمي أطلق على المفعول كالخلْق بمعنى المخلوق، أي أخرج منها ما يُرْعى. والرعي: حقيقته تناول الماشية الكلأ والحشيش والقصيل فالاقتصار على المرعى اكتفاء عن ذكر ما تخرجه الأرض من الثمار والحبوب لأن ذكر المرعى يدل على لطف الله بالعجماوات فيعرف منه أن اللطف بالإنسان أحرى بدلاله فحوى الخطاب، والقرينة على الاكتفاء قوله بعده ( مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) وقد دل بذكر الماء والمرعى على جميع ما تخرجه الأرض قوتا للناس وللحيوان حتى ما تعالج به الأطعمة من حطب للطبخ فإنه مما تنبت الأرض. (2)
ومن هذا يتبين أن المرعى يشمل كل ما يرعى لأن حقيقة الرعي تناول الماشية الكلأ وكلاهما يمكن أن يتحولا بعد الموت إلى غثاء أحوى فقد فسر بعضهم الغثاء بالهالك البالي كما قال الزجاج والأحوى الذي أسود وتعفن فصار أحوى.
المبحث الثاني
حياة الحيوان
الحيوانات أمم:
قال تعالى: ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) (3)
معنى الدابة لغة:
عن الخليل (4) : دبَّ النَّمل دَبيبا، والَمدِبُّ موضع دبيب النمل ودَبَّ القومُ يدبون دَبيبا إلى العدو أي مشوا على هينهم ولم يسرعوا وكل شيء مما خلق الله يسمى دابة، والاسم العامُّ الدَّابة لما يرُكب.
__________
(1) النازعات /31.
(2) التحرير والتنوير 30/87.
(3) الأنعام / 38.
(4) العين (دب) 8/12.(1/18)
قال ابن فارس (1) : الدال والباء أصلٌ صحيح منقاس ، وهو حركةٌ على الأرض أخفُّ من المشي. تقول دب دبيبا. وكلُّ ماشٍ على الأرض فهو دابة.
وجاء في الصحاح (2) : وكل ماشٍ على الأرض دابةٌ وقولهم: أكذب من (دبَّ) ودرج أي أكذب الأحياء والأموات.
وفي المصباح المنير (3) : وكل حيوان في الأرض دابّة وتصغيرها دُويْبَةُ على القياس وخالف بعضهم فأخرج الطير من الدواب ... وأما تخصيص الفرس والبغل بالدابة عند الإطلاق فعرفٌ طارئ. وتطلق الدابة على الذكر والأنثى والجمع الدَّوابُّ.
وفي مفردات الراغب (4) : الدب والدبيب مشيٌ خفيف ويستعمل ذلك في الحيوان وفي الحشرات أكثر.
وفي حياة الحيوان الكبرى (5) : الدابة ما دب من الحيوان كله، وقد خرج بعض الناس منها الطير لقوله تعالى :(وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم). أما قوله أمم لغة فقد جاء في الصحاح (6) الأمة الجماعة قال الأخفش لفظ واحد وفي المعنى جمع ... والأمة الطريقة والدين وجاء في اللسان (7) قال الليث: كل جيل من الناس هم أمة على حدة وقال غيره كل جنس من الحيوان غير بني آدم أمة على حدة، والأمة: الجيل والجنس من كل حي ... وكل جنس من الحيوان أمة وفي الحديث (8) : لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، ولكن اقتلوا الأسود البهيم وورد في رواية (9) (لولا أنها أمة تسبح لأمرت بقتلها) يعني بها الكلاب.
أقوال المفسرين:
__________
(1) مقاييس اللغة (دب) 2/263.
(2) الصحاح (دب) 1/124.
(3) المصباح المنير (دب) 1/188.
(4) مفردات الراغب (دب) 237.
(5) حياة الحيوان الكبرى (دابة) 1/441.
(6) الصحاح (أمم) 5/1864.
(7) اللسان (أمم) 12/27.
(8) صحيح ابن حيان، رقم الحديث (5656) وينظر الترمذي رقم الحديث (1489) 12/471-472.
(9) حاشية السندي رقم الحديث (4280) 7/185.(1/19)
لا يختلف المفسرون (1) عما قاله أهل المعاجم في معنى (الدابة) أما قوله تعالى (أمم أمثالكم) ففيه أقوال منها:
أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض رواه أبو صالح عن ابن عباس (2) قال مجاهد: أمم أمثالكم أصناف مصنفة تعرف بأسمائها (3) فكل جنس من البهائم أمة كالطير والظباء والذباب والأسود وكل صنف من الحيوان أمة مثل بني آدم (4) وقال قتادة الطير أمة والإنس أمة والجن أمة. (5)
وقيل هي أمثال لنا في التسبيح ودلالة والمعنى: وما من دابة ولا طائر إلا يسبح الله تعالى ويدل على وحدانيته لو تأمل الكفار. (6)
وقيل أمثالكم في الخلق والموت والبعث قال الزجاج: وقال أبو هريرة هي أمثال لنا على معنى أنه يحشر البهائم غداً ويقتص للجماء من القرناء. (7) وقيل أمثالكم في كونها تطلب الغذاء وتبتغي الرزق وتتوقى المهالك قاله ابن قتيبة. (8)
النظرة العلمية في تفسير هذه الآية:
__________
(1) ينظر زاد المسير 3/34 أنوار التنزيل 1/301 فتح القدير 2/113 روح المعاني 7/142.
(2) ينظر زاد المسير 3/35 تفسير البغوي 2/95.
(3) جامع البيان 7/187 تفسير القرآن العظيم 2/132.
(4) تفسير الواحدي 1/352.
(5) جامع البيان 7/187 تفسير القرآن العظيم 2/132.
(6) ينظر جامع لأحكام القرآن 6/419 زاد المسير 3/34 تفسير البغوي 2/95.
(7) ينظر زاد المسير 3/35 الجامع لأحكام القرآن 6/419.
(8) ينظر زاد المسير 3/35 التفسير الكبير 12/174 تفسير البغوي 2/95.(1/20)
لقد اكتشف علماء الحيوان الذين يدرسون حياته الاجتماعية سواء منها ما تسعى في الأرض أو تطير في السماء أو تسبح في الماء إنما هي شعوب وقبائل وأمم تربطها صلات وعلاقات وثيقة فهي لا تختلف في أسلوب حياتها ونشاطها عن أمم البشر الذين يعمرون الأرض، وقد ألف علماء علم الأحياء مؤلفات كثيرة تبين نتائج ما وصلوا إليه من معلومات وحقائق عن نظام كل نوع من الحيوان والحشرات في حالة السلم والحرب وفي السعي لطلب الغذاء وفي رعاية الصغار والضعفاء وما تلجأ إليه من حيل في التغلب على ما يواجهها من مصاعب وأخطار وفي انقيادها لما هيأه لها الخالق العظيم من أعمال تتلاءم مع بيئتها وبنيتها، والأهداف التي خلقت لها. (1)
وأثبت العلم أن للحيوان لغته الخاصة، فلكل نوع من أنواع الحيوانات لغة خاصة به ويتعارف بها ويتعارف مع غيره على أحواله وأحوال ما حوله ... فهذه الدجاجة التي تصدر أصواتاً خاصة مميزة فنرى صغارها أقبلت في سرعة تلتقط الحب، وتصدر أصواتاً مخالفة فإذا بالصغار تهرول إلى العش في لحظة. (2)
ويرى العلماء أن هناك تنوعا في أصوات الطيور تدل على ما قام بخيال ذلك الطير من فرح أو حزن أو جزع وهي تنوعات لأغراض محدودة ولكنها ثابتة إذ سجلت على أشرطة وأذيعت في الغابات فتنتج عنها نفس رد الفعل من باقي الطيور عند سماع مثل هذا الصوت. (3)
وقد أطال العلماء القول في إدراك الحيوان وقدموا الأدلة المختلفة من النقل والعقل ويمكن أن نخرج من كل هذه الآراء بأن لهذه الحيوانات إدراكا متفاوتا فيما بينها ولكنه لا يصل بأي حال إلى مرتبة إدراك الإنسان لأن إدراكها ضيق فتنحصر في مجالات محدودة. (4)
الضابط اللغوي في التفسير:
__________
(1) القرآن وإعجازه العلمي /141 القرآن إعجاز يتعاظم 140 أعجاز القرآن في علوم الجغرافية 141.
(2) القرآن يفك لغز الأرض 76.
(3) جواهر القرآن 7/135.
(4) ينظر تفسير المنار 7/401.(1/21)
أحاط القرآن عن طريق أسلوب التعميم لا التخصيص، أي: عن طريق الكلي الذي يحيط بكل ما يندرج تحته من جزئي. والتعبير بالكلي عما يدخل تحته من الجزيئات الكثيرة هو أقصى ما يفعله العلماء إذا بلغوا من علم شيء غايته، والقوانين الكثيرة التي توصل إليها العلماء في العلوم المختلفة هي من هذا القبيل، لا يستغني العالم بذكر أحدهما عن ذكر كل ما انطوى تحته من جزيئات.
فمن هذا الوجه وبمثل هذا الأسلوب البديع اللائق بكمال علم الله وبإعجاز كتابه ينبغي أن نتطلب تحقيق قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء). لنعرف كيف أحاط القرآن بأمر من الأمور التي كشف أو يكشف عنها العلم والاختراع، مما لم يكن معروفاً حين أنزل الله القرآن ( هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (1) وآية الأنعام تعطينا أولها مثلاً رائعاً ينير لنا الطريق عند تطبيق هذا المبدأ، وتعرف أسلوب الكتاب العزيز في التعبير بالكلي العام عما لا يكاد يدخل تحت الحصر من الجزيئات (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء). فالاستغراق الذي شمل كل دابة وكل طائر ذي جناح أغنى عن ذكر الدواب دابة دابة، وعن ذكر الطيور طائراً طائراً. والحصر مع التعبير عن حياة دواب الأرض وطيورها بأنها أمم، وأمم أمثالنا معاشر الناس، يؤكد ويشمل من الحقائق ما يمكن أن تكتشفه علوم الحيوان عن حياة كل نوع من الأنواع. (2)
واختلف المفسرون والمعجميون في قوله (دابة) فمنهم من قال إنه يريد كل ما دب على الأرض وجميع ما خلق لا يخلو إما أن يدب وإما أن يطير. (3)
__________
(1) البقرة /185.
(2) ينظر الإسلام في عصر العلم 366-367.
(3) ينظر زاد المسير 3/34.(1/22)
أما أبو حيان فيقول (1) : الدابة هنا في سياق النفي مصحوبة بـ (من) تفيد استغراق الجنس، فهي عامة تشمل كل ما يدب فيندرج فيها الطائر، فذكر الطائر بعد ذكر الدابة تخصيص بعد تعميم وذكر بعض من كل وصار من باب التجريد كقوله تعالى: (وجبريل وميكال) (2) بعد ذكر الملائكة لأن تصرفه في الوجود دون غيره من الحيوان أبلغ على القدرة وأدل على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية.. وأما قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ الدابة وهو المتصرف أتى بالمتصرف فيه عاما وهو الأرض. ويشمل الأرض البر والبحر، ويطير بجناحيه.
أما النظرة العلمية فتتحمل الوجهين فإذا حملنا لفظ (الأرض ) على كوكب الأرض بمجمله مع غلافها الجوي فيكون معنى الدابة هنا كل ما يدب فيها في البر والبحر والهواء فالقرآن الكريم يقول (وما من دابة في الأرض ) ولم يقل وما من دابة تدب على الأرض فحرف الجر (في) يشمل كل ما هو موجود في الأرض وقد أشار الشعراوي (3) في مواضع من تفسيراته أن حرف الجر( في )يشمل الأرض مع غلافها الجوي. ففي هنا ظرفية.
ففي هذه الحال يكون قوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) تخصيص بعد تعميم أما إذا أردنا بلفظ (الأرض ) جهة السفل والغلاف الجوي هي جهة العلو (السماء) يكون قوله تعالى (دابة) هو ما يدب فوق الأرض أو في داخل الأرض من مخلوقات أو في البحار قال الآلوسي (4) وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض ووجهها أو جوفها كما ذكر أن حيتان البحر داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه.
__________
(1) ينظر البحر المحيط 4/501.
(2) البقرة /98.
(3) ينظر معجزة القرآن 45-46.
(4) ينظر روح المعاني 7/143.(1/23)
وقوله تعالى يطير بجناحيه تأكيد لقوله (ولا طائر يطير بجناحيه، وليرفع المجاز الذي كان يحتمله (ولا طائر) لو أقتصر عليه، ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل (1) في قوله: (وكل إنسان ألزمناه طائرة في عنقه). (2) وقيل: إنه لقطع مجاز السرعة (3) فقد استعمل في ذلك كقوله
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
... ... ... طاروا إليه زرافات ووحدانا (4)
وجاء الوصف بلفظ (يطير) لأنه مشعر بالديمومة والغلبة، لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير. (5) وقوله ولا طائر معطوف على دابة مجرور في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وعبد الله بن أبي إسحاق ولا طائر بالرفع عطفاً على موضع الدابة على تقدير زيادة من وبجناحيه لدفع الإيهام لأن العرب تستعمل الطيران لغير الطير وقيل ذكر الجناحين للتأكيد تضرب بيده وأبصر بعينيه. (6)
أما قوله تعالى (إلا أمم أمثالكم) فقد أشرنا إلى أقوال المفسرين من المراد بالمثلية عن أن بعضهم يحصر المماثلة في كونها أمم لا غير إلا أن الفائدة في هذه الآية تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمم. (7)
وفي الصحاح نجد من معاني الأمة الطريقة وهو ما اكتشفه العلماء في طريقة عيش بعض الحيوانات مثل النمل والنحل وغيرها من الحيوانات ولا يقتصر لفظ (أمم) في كونها جماعة فقط.
__________
(1) البحر المحيط 4/501 روح المعاني 7/143.
(2) الإسراء / 13.
(3) روح المعاني.
(4) ديوان الحماسة 1/4.
(5) البحر المحيط 4/501.
(6) فتح القدير 2/113.
(7) جواهر الحسان 1/518.(1/24)
وقوله تعالى (طائر) و (دابة) في الآية الكريمة لا يقصد بها الفرد على إطلاقه، ولكن يقصد بها الفرد من كل نوع، دلالة على النوع نفسه الذي يكون مجموع أفراده أمة لها نظامها كما لكل أمة من البشر نظامها، وبينها وبين غيرها من أمم الأنواع الأخرى من ضروب التعامل أو التنافس والتناحر ما بين أمم الأرض من الناس. (1) وهذا ما أشار إليه العلم الحديث والضابط النحوي يكون قوله (إلا أمم) هو خبر المبتدأ الذي هو من دابة ولا طائر وجمع الخبر وإن كان المبتدأ مفردا حملا على المعنى المفرد هنا للاستغراق والمثلية. (2)
أمة النحل:
قال تعالى: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ). (3)
النحل في اللغة: ذباب العسل واحدتها نحلة، للذكر والأنثى. (4)
أما قوله يعرشون فالعرش في اللغة: العريش ما يستظل به، وإن جمع قيل عروش ويقال: العرش: ما عرش من بناء يستظل به وعرشت الكرم تعريشا إذا عطفت ما ترسل عليه قضبا الكرم. الواحد عرش وجمعه عروش ... وعرش البيت سقفه. (5)
__________
(1) الإسلام في عصر العلم /367.
(2) البحر المحيط 4/501.
(3) النحل /68.
(4) ينظر العين (نحل) 3/230 الصحاح (نحل) ، قاموس المحيط (نحل) 4/55.
(5) ينظر العين (عرش) 1/249، الصحاح (عرش) 3101، لسان العرب (عرش) 6/313-316.(1/25)
أما الثمرات لغة:فقد قال ابن منظور: الثمر: حمل الشجر.. وأثمر الشجر: أخرج ثمره ابن سيده: وثَمَر الشجر وأثمر: صار فيه الثمر، وقيل: الثامر الذي بلغ أوان أن يثمر. والمثمر الذي فيه الثمر، وقيل ثمر مُثمر لم ينضج، وثامر قد نضج.. الثمر هو الرطب في رأس النخلة فإذا كبر فهو التمر ... ويقع الثمر على كل الثمار ويغلب على تمر النخل.. وقيل الثامر كل شيء خرج ثمره ... وثمر النبات: نفض نوره وعقد ثمره ... الجوهري: الثمرة واحدة الثمر والثمرات. (1)
وجاء في مفردات الراغب: الثَّمرُ اسم لكل ما يُتَطعَّم من أعمال الشجر، والوحدة ثمرةٌ والجمع ثمارٌ وثمرات. (2)
وفي النهاية في غريب الحديث: الثمر: الرُّطب، ما دام في رأس النخلة، فإذا قطع فهو رطب، فإذا كُنز فهو تمر. (3)
أما السلك لغة:
قال الخليل: المسلك: الطريق، سلكته سلوكا، والسلك والإسلاك واحد. والسلك: إدخال الشيء في شيء تسلكه فيه، كالطاعن يسلك الرمح فيه إذا طعنه والسُّلْكى: الأمر المستقيم.
وفي اللسان (4) : السلوك مصدر سَلكَ طريقا سلك المكان يسلُكُه سَلْكا وسلوكاً سَلكه غيره وفيه وأسلْكه إياه وفيه عليه ... أبو عبيدة عن أصحابه سلكْتهُ في المكان وأسلكته بمعنى واحد ابن الإعرابي سَلَكت الطريق سَلكْتهُ غيري قال يجوز اسلْكته غيري سَلَك يده في الجيب والسقاء ونحوهما يَسْلُكها وأسلكها أدخلها فيها ... المَسْلكَ الطريق السلك إدخال شيء تسلكه فيه كما تطعن الطاعن.
وفي القاموس المحيط (5) : السُّلْكى، بالضم: الطعنة المستقيمة، والامر المستقيم وقال الراغب في مفرداته (6) : السلوك النفاذ في الطريق، يقال سَلكت الطريق وسلكت كذا في طريقه قال تعالى: (لتسلكوا ... فجاجا). (7)
__________
(1) لسان العرب (ثمر) 4/106.
(2) مفردات الراغب (ثمر) 109.
(3) النهاية في غريب الأثر (تمر) 1/221.
(4) اللسان (سلك) 10/442.
(5) القاموس المحيط (سلك) 3/307.
(6) مفردات الراغب (سلك) 349.
(7) لوح /20.(1/26)
أما السبيل لغة:
فقال الخليل (1) : السبيل يُذكر ويؤنث وجمعه سُبل.
وفي اللسان (2) : السبيل: الطريق وما وضح منه يذكر ويؤنث سبل الله طريق الهدى الذي دعا إليه وفي التنزيل: ( وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ..) (3) وفيه قال ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة ) فأنث.
وفي القاموس المحيط (4) :السبيل والسبيلة: الطريق ... وابن السبيل ابن الطريق الذي قطع عليه الطريق.
أما البطن لغة:
قال الخليل (5) : البطن في كل شيء خلاف الظهر. كبطن الأرض وظهرها.
وفي اللسان (6) : البطن من الإنسان وسائر الحيوانات: معروفٌ خلاف الظهر مذكر، وحكي عن ابي عبيدة أن تأنيثه لغة.. وجمع البطن أبطن وبطون وبُطنانٌ التهذيب: وهي ثلاث أبطن إلى العشر، وبطون كثيرة لما فوق العشر.. وفي حديث القاسم بن أبي بَرَّة: أمر بعشرة من الطهارة: الختان والاستحداد وفعل البَطِنة ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب والاستنثار؛ قال بعضهم البَطِنة هي الدبر هكذا رواها بَطنة بفتح الباء وكسر الطاء.. والبطن من كل شيء: جوفه، والجمع كالجمع.
أما الشراب لغة: اسم لما يشرب وكل شيء لا يُمضغ فإنه يقال فيه: يُشْرب والشراب: ما يشرب من أي نوع كان، وعلى أي حال كان. (7)
أما اللون لغة:
جاء في مختار الصحاح (8) : اللون هيئة كالسواد والحمرة ولونته فَتَلَّون واللون النوع وفلان متلون، إذا كان لا يثبت على خلق واحد ولون البسر تلوينا إذا بدا فيه أثر النضج.
__________
(1) العين (سبل) 7/263.
(2) لسان العرب (سبل) 11/319-320.
(3) الأعراف /146.
(4) قاموس المحيط/ سبل.
(5) العين (بطن) 7/440.
(6) لسان العرب (بطن) 13/52-55.
(7) ينظر العين (شرب) 6/257، لسان العرب (شرب) 1/487-489 مفردات الراغب (شرب) 377-378.
(8) مختار الصحاح (لون) 609.(1/27)
وفي اللسان (1) : ولون كل شيء: ما فصل بينه وبين غيره، والجمع ألوان وقد تَلَوَّن ولَوَّن ولَوَّنه. والألوان: الضروب واللّون النوع.
وقال الراغب (2) : اللون معروف ينطوي على الأبيض والأسود وما يركب منها ... ويعبر بالألوان من الأجناس والأنواع، يقال فلان أتى بأنواع الأحاديث وتناول كذا ألوان من الطعام.
أقوال المفسرين:
__________
(1) لسان العرب (لون) 13/393.
(2) مفردات الراغب (لون) 690.(1/28)
قال تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل) الإيحاء هنا الإلهام في روعها وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكهنة لا سبيل للوقوف عليه. أن أتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر هذا إذا لم يكن لها مالك ومما يعرشون جعل الله بيوت النحل في هذه الأنواع وكل ما يعرش من كرم أو سقف فيما يعرش ابن أدم من الأجناح والخلايا والحيطان. (ثم كلي من كل الثمرات) أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، حلوها ومرها. وقيل أنها تأكل النوار من الشجر. وقوله تعالى (فاسلكي سبل ربك ذللاً) اختلف المفسرون فيها قيل المعنى فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تلتبس مذللة غير متوعرة ذللها الله لك وسهلها لك أو فاسلكي الطرق التي ألهمك الله في عمل العسل أو فاسلكي ما أكلت منها سبل ربك أي مسالكها التي يراها الله بحيث يحيل فيها بقدرته القاهرة النور المر علا من أجوافك واختلف في قوله (ذللاً) معنى مجاهد لا يتوفر عليها سلكته وعن قتادة ذللاً أي مطيعة وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه. يقول تعالى ذكره يخرج من بطون النحل شراب وهو العسل مختلف ألوانه لأن فيها الأبيض والأحمر وغير ذلك من الألوان وقوله (فيه شفاء للناس) أختلف أهل التأويل فيما عادت الهاء التي في قوله (فيه) فقال بعضهم عادت إلى القرآن قال مجاهد وقال آخرون بل أريد العسل قاله قتادة وغيره. (1)
النظرة العلمية:
__________
(1) ينظر جامع البيان 14/139-140 الكشاف 2/612 زاد المسير 4/466 التفسير الكبير 20/59 الجامع لأحكام القرآن 10/133 البحر المحيط 6/561-562 تفسير القرآن العظيم 2/576-577 أنوار التنزيل 1/553 إرشاد العقل السليم 5/125-126 فتح القدير 3/176 محاسن التأويل 10/126-127.(1/29)
(بيوت النحل) بيوت رائعة التكوين ومعقدة التركيب، وهي بيوت بالمعنى الكامل للكلمة، فيها يتحقق كل الأغراض المطلوبة من البيت والبيت في حياة النحل نظام تقسيم العمل، وأن فئة الشغالات تنهض بأعباء كثيرة، وتنجز أعمال متنوعة ومهمة للغاية. (1) تقوم بعملها هذا وهي في منتهى السعادة إذ يشكل عملها إشباعاً شبه مطلق لغريزتها التي أودعها الله إذ أن النحلة العاملة هي بالأصل أنثى وقد حول الله غريزة الأمومة لديها إلى حبّ للنشئ الصغير إذ في عالم النحل تحتاج اليرقات الصغيرات إلى معيل وقد تكفلت النحلات العاملات بذلك.. أما الملكة فقد تركزت لديها غريزة الأمومة حيث تقوم بحضانة البيض إلى أن يفقس حيث تتولاّه العاملات بالتغذية. (2) وتوجد في كل خلية نحل ملكة واحدة، وظيفتها الأساسية هي وضع البيض ولكن من وظائفها الأخرى إشاعة الأمن والاستقرار في أرجاء الخلية بفضل ما تنشره من (فيرومون Pheromone) خاص على الشغالات لمنعهن من الإنجاب (أي اعقامهن) والتعود على رائحة الخلية. (3) ولجذب الذكور إليها وليس للذكور وظيفة إلا إلقاح الملكة فتلحق بالملكة الذكور القوية لذا بعد أن تطير الملكة لمسافة ثلاثين كيلو متراً دفعة واحدة تبدأ الذكور بالإعياء وتسقط الواحد تلو الأخر ولا تمكن الملكة من نفسها إلا أخر ذكر بقي يطير ولم يسقط ميتا أما الذين بقوا في الخلية فما أن تخرج الملكة حتى تنقض العاملات على الذكور الخاملة بالخلية فتطرد القسم الأكبر من الخلية وتقتل القسم الآخر ثم تنظف الخلية من آثارها. (4) لذا فالخلية تكون قوامها العاملات.
__________
(1) إشارات علمية / كارم السيد 322.
(2) إعجاز علم الحياة 43.
(3) إشارات علمية / كارم عتيم 411-412.
(4) إعجاز علم الحياة /44.(1/30)
وتصنع النحلة (الشغالة) من الشمع الذي تفرزه غددها الخاصة بعد مضغه بلعابها حجرات سداسية متجاورة الشكل قرصا. وهذا هو الشكل الأمثل – هندسياً- الذي يغطي أكبر فراغ ممكن بأقل كمية من مواد البناء. وبزوايا داخلية أكثر من قائمة، مما يمكن للشغالات من تنظيف الحجرات تنظيفاً كاملاً بخراطيمها، تطبيقاً للقاعدة (أكبر مردود بأقل من جهد). (1)
وتقوم الشغالات بجمع الرحيق (2) فقط أو حبوب اللقاح فقط، كما تقوم شغالات أخر بحمل الرحيق وحبوب اللقاح معاً من نفس الزهرة. وعندما ينضب الرحيق.. فإن النحل قد يجمع الندوة العسلية التي تنتجها حشرات المن وبعض الحشرات ... وفي حالات الجوع الشديد قد يضطر النحل إلى جمع عصارة الثمار الفجة (زائدة النضج) أو عصارة الثمار التي مزقتها الطيور والحشرات الأخرى. (3)
وتبعد النحلة عن خليتها آلاف الأمتار ثم ترجع إليها ثانية دون أن تخطئها وتدخل خلية أخرى غير خليتها. (4) وتعود النحلة بخط مستقيم لاختصار المسافة والتعب. (5)
والعسل يخرج من منطقة البطن التي توجد بها حوصلة العسل وغدد إنتاج مواد أخرى مثل سم النحل. والغذاء الملكي والشمع. (6)
وسم النحل: سائل شفاف يجف بسرعة حتى في درجة حرارة الغرفة، رائحته عطرية لاذعة طعمه مر، به أحماض كثيرة ومعادن بالإضافة إلى كميات كبيرة من البروتينات والزيوت الطيارة والأنزيمات.. يخرج سم النحلة من آلة اللسع الموجودة في مؤخرة البطن.
__________
(1) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 143-144.
(2) الرحيق سائل سكري تفرزه مجموعات من الخلايا الغدية في أنواع كثيرة من النباتات الزهرية ، الإشارات العلمية / كارم غنيم 417-419.
(3) ينظر الإشارات العلمية / كارم غنيم 417-419.
(4) ينظر القرآن وإعجازه العلمي 152.
(5) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 428-435.
(6) ينظر الإشارات العلمية 428-435.(1/31)
أما غذاء الملكات: فهو سائل أبيض يسمى أيضاً (لبن النحل) لأنه يشبه اللبن: الكثيف أو القشدة تنتجه (فتيات النحل) أي الشغالات الشابة من أجل إطعام الملكة وبعض اليرقات الصغيرة في الحَضَنة brood ، وإذا غذيت اليرقة طيلة عمرها (6 أيام) نشأت ملكة، طويلة الجسد رشيقة القوام، مبايضها خصيبة كاملة، أما إذا غذيت اليرقة به ثلاث أيام فقط، وغذيت في الأيام الباقية (3 أيام) بخبز النحل (حبوب اللقاح المعجونة بالعسل فإنها تنشأ شغالات عقم – أما الشمع فهو سائل قبل أن يتعرض للهواء له قدرات علاجية وخواص طبية). (1)
التفسير العلمي والضابط اللغوي فيه:
قال تعالى (وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتا).
قال المفسرون: النحل أسم جنس جمعي واحده نحلة (أن اتخذي من الجبال بيوتا) أي بأن أتخذي على أن (أن) مصدرية ويجوز أن تكون تفسيرية لأن الإيحاء معنى القول وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدم أو للحمل على المعنى أو لكون النحل جمعاً وأهل الحجاز يؤنثون النحل. (2)
__________
(1) ينظر المصدر نفسه 430-433.
(2) ينظر التفسير الكبير 20/56-57 البحر المحيط 6/559 إرشاد العقل السليم 5/125 فتح القدير 3/176 التحرير والتنوير 14/205.(1/32)
أما أهل التفسير العلمي فيرون أن ورود الفعل (اتخذي) في الآية القرآنية بصيغة المؤنث ولم يأت بصيغة المذكر لفتة علمية مهمة، هي أن أغلب أعمال الحياة في الخلية تقوم بها الشغالات، وهي إناث عقم وقد ذكرنا أن دور الذكور ليس إلا التلقيح فحسب. (1) ففي الآية إعجاز علمي لطيف في الإيحاء إلى أنثى النحل بقوله (أن أتخذي) بياء المؤنثة وهذه الحقيقة لم تتبين إلا في الـ 300 سنة الأخيرة بعد بحوث علمية طويلة أثبت أن إناث النحل هي التي تبني البيوت وهي التي تجمع الغذاء. (2)
والعدول عن اسم الجنس (النحل) وهو للمذكر والمؤنثة إلى المفردة المؤنثة يشير إلى قيام إناث النحل بهذه الأعمال. (3)
وقوله تعالى: (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) قال القاسمي: وأكثر بيوتها ما كان في الجبال وهو المتقدم في الآية ثم في الشجر دون ذلك ثم في الثالث أقل. (4)
وقد وجد أن القيمة الغذائية للعسل المأخوذ من الجبل أكبر من الذي في الشجر والقيمة الغذائية للعسل المأخوذ من النحل في الشجر أكبر مما في العسل المأخوذ من نحل الذي يربُى في البيوت. لذلك قدم القرآن الكريم وأخر حسب ترتيب القيمة الغذائية للعسل. (5)
و(من) في قوله (ومن الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) للتبعيض لأنها لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها. (6)
__________
(1) الإشارات العلمية 414-415.
(2) كتاب القرآن المذهل بقلم البرفسور غازي ملل (جامعة أساك / ترجمة أورفان محمد علي 31-32 بتصرف ، وينظر تيسير الرحيم الرحمن 135-136.
(3) قرص سيدي آيات وحوار أو برنامج تلفزيوني د. أنيس الراوي وخالد العبيدي.
(4) محاسن التأويل 10/127.
(5) ينظر برنامج تلفزيوني د. أنيس الراوي ، خالد العبيدي ، قرص سيدي.
(6) الكشاف 2/ 612 ، محاسن التأويل 10/127.(1/33)
أما قوله تعالى (ثم كلي من كل الثمرات) دخلت ثم لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت، والإطلاق لها في تناول الثمرات. (1)
وذكر المفسرون أن معناها: ثم كلي من كل الثمرات من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها، وأشار المعجميون أن معنى الثمر حمل الشجر وقال الراغب الثمر أسم لكل ما يُتَطَعَّم من أعمال الشجر وقال الآلوسي: ثم كلي من كل الثمرات أي من جميعها. (2)
وقال القاسمي: العموم في هذه الآية عرفي، أو لفظ (كل) للتكثير أو هو عام مخصوص بالعادة. ولو أبقى الأمر على ظاهره لجاز لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات، الأكل منها. لأن الأمر للتخلية والإباحة. (3)
ويقول الدكتور كارم غنيم: في قوله تعالى (كلي من كل الثمرات) الأداة (من) تأتي في اللغة للتبعيض يعني أن النحل لا يأكل كل الثمرات، بل يأكل بعضها وهذا ما أثبته العلم الحديث، فالنحل لا يأكل الثمار المرة أو الثمار الصلدة.. وهناك أيضاً معنى أخر للأداة (من) في هذه الجزئية من الآية القرآنية، فهي تعني – أو يمكننا أن نفهم منها – أن النحل يأكل فقط أجزاء من مكونات الثمار، وهذه الأجزاء هي حبوب لقاحها، فيكون معنى (كلي من كل الثمرات) أي كلي أجزاء من كل الثمرات. (4)
__________
(1) محاسن التأويل 10/127.
(2) روح المعاني 14 / 82 .
(3) محاسن التأويل 10/126.
(4) الإشارات العلمية 420.(1/34)
ولعل قول الرازي أوضح في قوله من أن من تفيد هنا ابتداء الغاية فهو يقول: فإذا أشبعت التقطت بأفواهها شيئاً من ذلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذائها، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض. (1) والذي يبدو أن ما قاله الدكتور كارم السيد غنيم لا يخلو من التكلف وكما قال القاسمي هو عام مخصوص بالعادة وقد أشار ابن الجوزي (2) إلى أن كل هاهنا ليست على العموم ومثله (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْء). (3)
__________
(1) التفسير الكبير 20/235.
(2) زاد المسير 4/466.
(3) الأحقاف /25.(1/35)
وكذلك جاء في كتاب حياة الحيوان: وقوله من كل الثمرات المراد بعضها نظيرة قوله تعالى: ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (1) يريد البعض (2) فليس كل معنى جميع كما فرق أبو هلال العسكري (3) بينهما حيث قال: (والصحيح أن الكل تقتضي الإحاطة بالأبعاض، والجمع يقتضي الأجزاء). أما قوله تعالى (فاسلكي سبل ربك ذللاً).فقد أشرنا إلى أقوال المفسرين في هذه الآية أما التفسير العلمي لهذه الآية وفق الضوابط اللغوية فقد علمنا أن السلوك يستعمل في سلك الطريق والنفاذ فيه يقال سلكت الطريق وهذا ما يميل إليه الدكتور كارم السيد غنيم حيث يقول: وقالوا: إن الجزء (فاسلكي سبل ربك ذللاً) جاء بعد الجزء (ثم كلي من كل الثمرات) فهي تتناول غذاءها، وبعد ذلك تصنع منه منتجات متنوعة بطرق متعددة ... وهذا يعد في نظرنا معنى مجازياً لا حاجة إليه ، لذا فإننا نميل إلى المعنى المباشر للآية، وخصوصا وأن العلماء والباحثين الآن بدأوا يستعملون لفظ (المسارات) و (المسالك) وهي تعني في اللغة العربية (سبل، وهي التي وردت في الآية القرآنية، تلك التي يطير فيها النحل بمهارة، حيث توجد مسارات مرسومة واتجاهات محددة ... أودعها الله في دماغها بحيث تمكنه من التغلب على الصعاب وتحمل الشدائد وممارسة الأعمال دون ضياع أو فقدان. (4)
والذي يبدو أن النص القرآني يحتمل جميع هذه المعاني التي ذكرها المفسرون ومن ضمنها التفسير العلمي الحديث من غير الحاجة إلى الرجوع إلى ما استعمله المحدثون لفظ المسارات والمسالك بمعنى الطرق لأن هذا واضح في اللغة والضابط اللغوي يعتمد على ما قاله أهل المعاجم وليس ما يقوله المحدثون.
وأما إضافة السبل إلى قوله تعالى (ربك) فلأنه خالقها أي ادخلي طرق ربك. (5)
__________
(1) النمل /23.
(2) حياة الحيوان (نحل) 2/463.
(3) الفروق اللغوية 116.
(4) الإشارات العلمية / كارم السيد غنيم 427.
(5) الجامع لأحكام القرآن 10/133.(1/36)
وقد يوحي معنى السلوك أيضاً إلى الاستقامة جاء في المعاجم السُّلكى: الطعنة المستقيمة، والأمر المستقيم وقد أشار الدكتور محمد مختار عرفات إلى أن النحلة تعود بخط مستقيم لاختصار المسافة والتعب. (1)
والذي يؤكد هذا المعنى قوله بعد ذلك ذللا على قول من فسر قوله تعالى( ذللا) بأنه لا يتوعر عليها مكان سلكته ولعل هذا المعنى مناسب لطريق الرجوع ولترتيب الآية فبعد أن قال ثم كلي من كل الثمرات يكون معنى قوله تعالى فاسلكي سبل ربك (فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تلتبس ذللاً ذلول وهي حال من السبل أي المذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك). (2) وقيل (أو من الضمير أسلي أي وأنت ذلل منقادة لما أمرت به فيكون قوله ذللا حالاً من النحل. يقول الطبري وكلا القولين غير بعيد عن الصواب في الصحة ... غير إنا نختار أن يكون نعتا للسبل لأنها إليها أقرب. (3) أما قوله تعالى: (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه).فقد قال الدكتور كارم السيد: المفسرون قالوا بأن (الشراب) المقصود هاهنا العسل. ولكن العلم الحديث يوضح أن هناك أنواعا وأنماط من الشراب بالإضافة إلى العسل، والقارئ للآية القرآنية بلغتها العربية يعرف أن لفظة (شراب) جاءت نكرة، أي غير معرفة بـ (ال) ويدل هذا على إطلاق المعنى على كل ما هو شراب أو سائل يخرج من النحل. إذن فاللفظة الواردة في هذه الآية ذات مدلولات كثيرة وليس مدلولا واحداً. (4)
__________
(1) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 143.
(2) أنوار التنزيل 1/553.
(3) ينظر جامع البيان 14/140 الجامع لأحكام القرآن 10/135 إرشاد العقل السليم 5/125.
(4) الإشارات العلمية / د. كارم السيد غنيم 429.(1/37)
النقطة الثانية التي تستحق هنا إلقاء الضوء عليها هي الكلمتان (مختلف ألوانه) أي أن هذا الشراب (أو الأشربة) له ألوان مختلفة وقد فهم الناس قديماً أن الألوان المختلفة هنا تعني ألوان العسل، وهذا فهم صائب، ولكن اللغة العربية غنية بمكوناتها ... فالألوان في اللغة العربية قد تعني الأنماط والأشكال، وذلك إضافة إلى معناها الصريح المباشر، وهو الألوان التي ترجمتها بالإنكليزية (Colours). وزيادة في التأكيد ما نميل إليه ... نقول: إن الله سبحانه لم يقل في هذه الجزئية من الآية القرآنية (عسل مختلف ألوانه) وإنما قال: (شراب مختلف ألوانه) وذلك ليدفع الناس إلى البحث عن كل ما هو ذو صفة شراب ويخرج من بطون النحل. وبعض الناس يقول: إن الله لم يقل (شراب مختلف أنواعه) بل قال: (مختلف ألوانه)، وهذا يؤدي معنى أن الشراب واحد وإنما الألوان فقط هي مختلفة، ومن ثَّم يدللون على ما ذهبوا إليه من فهم (شراب) بالعسل. لكننا نكرر أن لفظة ألوان تعني في اللغة العربية الأنواع أو الأنماط أو الضروب أو الأشكال إضافة إلى معناها الحقيقي الصريح المباشر. (1)
وهنا نقطة أخيرة نود الإشارة إليها، تلك هي (بطونها)، فقد تفهم كما فهم السابقون على أنها بواطن النحل أي داخله، لكنا بالدليل العلمي نوضح أن (شراب) النحل يخرج من منطقة البطن التي توجد بها حوصلة العسل وغدد إنتاج مواد أخرى. (2)
وقوله تعالى (فيه شفاء للناس).
التنكير في الشفاء إما للتعظيم أي شفاء، أي شفاء وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء، فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفى به. (3)
__________
(1) المصدر نفسه 429-430.
(2) الإشارات العلمية ، د. كارم السيد غنيم 430.
(3) ينظر الكشاف 2/612-613 ، روح المعاني 4/185.(1/38)
ويقول الفخر الرازي في تفسير قول الله تعالى (فيه شفاء للناس): فيه قولان: القول الأول (وهو الصحيح) إنه صفة العسل. فإن قالوا: كيف يكون شفاء للناس، وهو يضر بالصفراء ويهيج المرارة؟ قلنا: إن الله تعالى لم يقل إنه شفاء لكل الناس، ولكل داء وفي كل حال، بل لما كان شفاء للبعض، ومن بعض الأداء، صلح بأن يوصف بأنه شفاء ... والقول الثاني (وهو قول مجاهد): إن القرآن شفاء للناس، وعلى هذا فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله :(يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانها)، ثم ابتدأ وقال (فيه شفاء للناس) أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة، مثل هذا الذي في قصة النحل. (1)
ويرد الرازي على هذا القول أن الضمير في قوله :(فيه شفاء للناس) يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وما ذاك إلا قوله (شراب مختلف ألوانه) وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق، فهو غير مناسب. (2)
وابن كثير يرجح أيضاً المقصود بالضمير في قول الله (فيه شفاء للناس) على أنه العسل، ولا يرجح بأنه ضمير عائد على القرآن، وإن كان هذا القول صحيحاً في نفسه، لكنه ليس هو الظاهر هاهنا في سياق هذه الآية، فإن الآية إنما ذكر فيها العسل. (3)
وهناك قصة تفيد أن معنى شفاء ليس المقصود به الشفاء من جميع الأمراض قال أبو عمرو الداني سمعت عبد العزيز بن علي المالكي يقول دخل أبو فرج غلام ابن شنبود على عضد الدولة زائراً فقال له يا أبا الفرج إن الله يقول (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس) وترى العسل يأكله المحرور فيتأذى به والله صادق في قوله قال أصلح الله الملك إن الله لم يقل فيه الشفاء للناس بالألف واللام اللذين يدخلان لاستيفاء الجنس وإنما ذكره منكرا فمعناه فيه شفاء لبعض الناس دون بعض. (4)
__________
(1) التفسير الكبير 20/235.
(2) ينظر المصدر نفسه 20/235.
(3) تفسير القرآن العظيم 2/576.
(4) معرفة القراء الكبار 1/334.(1/39)
أما المعالجة العلمية اللغوية في ذلك فقد أوضحنا أن شراب النحل ليس العسل المشهور منذُ القدم بالضرورة ولكنه قد يكون – إضافة إلى العسل – سم النحل، أو الغذاء الملكي، أو حتى الشمع (وهو لا يزال في صورته السائلة) أو صمغ (غراء النحل أو حتى خبز النحل.. ويدل على هذا كله إطلاق لفظة (شراب) في الآية القرآنية ... فهذه اللفظة بدون أداة التعريف تدل على عمومية ما هو (شراب) بشرط يخرج من إحدى منافذ البطن، وبشرط أن تكون له بعض المنافع الشفائية. وبالطبع، فإن عسل النحل هو الذي نال أكبر قسط من الدراسات والبحوث فيما بين منتجات النحل، وهذا لا ينفي أن العلم الحديث بتجاربه وبحوثه توصل إلى تحديد منافع لأغلب منتجات النحل – خاصة المنتجات التي يمكن أن يطلق عليها صفة (شراب)- فكما للعسل منافع علاجية، توجد للشمع أيضاً وكذلك لسم النحل ولصمغه ولخبزه، توجد منافع علاجية أيضاً. وكذلك عما للغذاء من قدرات علاجية مدهشة. (1)
الذباب:
قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ). (2)
السلب في اللغة:
قال ابن فارس: السين واللام والباء أصل واحد، وهو أخذُ الشيء بخفة واختطاف. (3) وفي الصحاح: سلبت الشيء سلبا والاستلاب الاختلاس. (4)
أقوال المفسرين:
__________
(1) الإشارات العلمية / كارم السيد غنيم 437.
(2) الحج /73-74.
(3) مقاييس اللغة ( سلب) 3 / 92 .
(4) الصحاح (سلب) 1/148.(1/40)
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها (يا أيها الناس ضرب مثلاً) أي لما بعبدة الجاهلون بالله المشركون به (فاستمعوا له) أي أنصتوا وتفهموا (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من أصنام والأنداد وقيل الذين عبدوهم من دون الله السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله، على أن يخلقوا ذبابا ما قدروا على ذلك ... عن أبي هريرة مرفوعا قال: (ومن أظلم ممن ذهب بخلق كخلقي، فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة). (1) ثم قال تعالى أيضاً :(وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه) أي هم عاجزون عن خلق ذبابا، بل أبلغ من ذلك عاجزون على مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطبيب والطعام، ثم أردت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك.عن أبن عباس: كانوا يطلون أسنانهم بالزعفران لتجف فيأتي يختلسه وقال السدي كانوا يجعلون للأصنام طعاما فيقع عليه الذباب فيأكله (ضعف الطالب والمطلوب) قيل الطالب الآلهة والمطلوب الذباب وقيل العكس وقيل الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم فالطالب يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه والصنم المطلوب إليه وقوله تعالى: (ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق عظمته حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له. (2)
النظرة العلمية في تفسير الآية:
__________
(1) مسند احمد ، رقم الحديث (9071) 2/391.
(2) ينظر جامع البيان 17/202-203 التفسير الكبير 23/60-61، الجامع لأحكام القرآن 12/96-98، تفسير القرآن العظيم 3/236 أنوار التنزيل 2/694 إرشاد العقل السليم 6/121 فتح القدير 3/469 روح المعاني 17/200-201.(1/41)
أجرى فريق متخصص بعلوم الخلية بعض التجارب محاولا أن يحاكي خلق الإنسان فوجد DNA الإنسان وهو الجزء الأهم في الخلية – معقدا جداً فبدأ بالبحث عن خلية يكون فيها DNA بسيطا فوجد إن أبسط أنواع الـ DNA هو الذي عند الذباب وبعد إتمام الشفرة الوراثية لـ DNA الذبابة المصنع وبعد وضعه في أنزيم لكي تتم عملية انشطار والتكاثر وجد أن الـ DNA المصنع جثة هامدة لم يتم تحفيزه ولم يستجب للأنزيم غير أن الـ DNA الطبيعي ينشطر ويتكاثر وهكذا تقهقر العلم أمام تحدي السماء معلنا استسلامه وخشوعه. (1)
هذا من جانب ومن جانب آخر اكتشف الباحثون في علم الحشرات أن الذباب مزود بغدد لعابية طويلة وغنية جداً باللعاب. وبمجرد أن يأخذ الذباب شيئاً من الطعام سرعان ما يفرز عليه كمية كبيرة من اللعاب الذي يحوله من فوره إلى مادة أخرى فإذا أخذ الذباب منا شيئاً أردنا أن نسترد منه ذلك الشيء الذي سلبنا إياه فإننا لا نقدر. فإذا قتلنا الذباب وأمسكناه وبحثنا عن المادة التي أخذها منا فلن نجد ما أخذه لأنه قد تحول إلى شيء آخر وقد ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة عن الذباب وضرب بها مثلاً عن إعجاز القرآن. (2) وعليه فالطعام المسلوب، ولو كان تافهاً لا قيمة له لا يمكن استنقاذه لأنه يتحول كيميائياً إلى مركب من نوع آخر – بفعل هذه العصارة – قبل أن يدخل في جوف الذبابة، وكذلك من يطلب هذا الطعام المسلوب ضعيف دون استنفاذه. (3)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر مجلة الإعجاز العلمي والتفكير / الموسم الثاني / جامعة بغداد علوم الفلك محرم 1423/ آذار 2002 ص31 وينظر قصة الخلق 150-151.
(2) تيسير الرحيم الرحمن 125.
(3) ينظر إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 150.(1/42)
قال تعالى: (يا أيها الناس ضُرب مثل فاستمعوا له) النداء هنا عام، والتعبير بعيد الصدى (يا أيها الناس) (1) أما قوله فاستمعوا له فالاستماع وزنه يدل على تكلف الاستماع والخطاب القرآني عندما يحرص على مدلول السمع فكأنه يريد أن يذكرنا بغرضين، الأول هو ضرورة الاستماع بلا مواقف مسبقة لأنها تؤثر على عملية العقل، والثاني هو أن نقبل نتيجة الاستماع الجيد المنصف التزاما بمنطق الصواب وتعبيراً عن الرضوخ للحق). (2)
وقوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له).ذكر المفسرون أن معنى (إن الذين تدعون من دون الله) هم الأصنام والأنداد والسادة وهذا ما يتحمله قوله (الذين تدعون من دون الله) فالنص يتحمل كل الذين يُدعون من دون الله .وقد ربط سيد قطب هذا القول بما يجري في الحاضر بقوله: كل ما تدعون من دون الله من آلهة مدعاة من أصنام وأوثان من أشخاص وقيم وأوضاع، تستنصرون بها من دون الله وتستعينون بقوتها وتطلبون منها النصر والجاه ... كلهم (لن يخلقوا ذباب ولو اجتمعوا له). (3)
__________
(1) في ظلال القرآن 4/3443.
(2) المنهج العلمي للاعتقاد 34.
(3) في ظلال القرآن 4/2443- 2444.(1/43)
فالخطاب صالح لكل زمان فهو لا ينتهي بوقت نزوله وإنما باقٍ يتجدد بتجدد الزمان، والعبادة قد تتبدل من الأصنام إلى أشخاص يطاعون طاعة عمياء وربما تكون عبادة الأصنام شركا ظاهراً عند أهل العصور المتأخرة وليس كما هو الحال عند المشركين في ذلك الوقت ولكن قد يستبدل بصور أخرى لا يفطن إليها أهل زماننا كما أشار سيد قطب من الاتكال على غير الله في طلب الجاه والنصر وغيرها من الأمور التي تكلنا على أشخاص معينين أو كما قال الشعراوي في قوله (الذين تدعون من دون الله) قال العلم وفسر قوله تعالى بقوله: (إن العلم الذي ستعبدونه من دون الله والذي ستؤمنون به هذا العلم وكل القائمين عليه.. لن يستطيعوا أن يخلقوا ذبابة ولو اجتمعوا له). (1)
وكما كان خطاب القرآن صالحا لكل زمانٍ فهو أيضاً يخاطب الناس كافة في كل مكان (لأن القرآن لم ينزل للعرب فقط وإنما نزل للناس كافة وفيهم من لا يعرفون العربية فكيف يكون الإعجاز القرآني مفهوماً لديهم؟ لقد تبين لهم هذا الإعجاز عن طريق المناهج العلمية والتشريعية والإصلاحية التي هي من أسرار الإعجاز العليا للقرآن والتي كلما تجلت علميا ذاتها الأداء البياني البليغ والأسلوب القرآني الرائع في مبناه ومعناه). (2)
والتحدي بالقرآن ما زال قائماً إلى يوم القيامة وكما تحدى القرآن بالإعجاز اللغوي وطلب أن يأتوا بسورة من القرآن تحداهم بالعلم وكان التحدي مطلقاً إلى يوم الدين. (3) ولغة القرآن هي التي تكشف هذا التحدي العلمي وتوضحه بصورة جلية من خلال فهم ألفاظه الدقيقة المعبرة عن تلك المعاني المقصودة.
__________
(1) ينظر معجزة القرآن 118 ، المنتخب في تفسير القرآن الكريم 1/35.
(2) القرآن وإعجازه العلمي 129.
(3) ينظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم 1/34-35.(1/44)
وفي قوله تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله) نلاحظ أنه (أكد إثبات الخبر بحرف توكيد الإثبات وهو إن، وأكد ما فيه من نفي بحرف توكيد النفي (لن) لتنزيل المخاطبين منزله المنكرين لمضمون الخبر .. وقد نفي عنها الخلق في المستقبل لأنه أظهر في اقتحام الدين ادعوا لها الإلهية لأن نفي أن تخلق في المستقبل يقتضي نفي ذلك في الماضي بالأخرى لأن الذي يفعل شيئاً يكون فعله من بعد أيسر عليه). (1) وبهذا فالقرآن عبر بحرف (لن) على أنهم لم يخلقوا ولن يستطيعوا في المستقبل خلق ذبابا مهما وصلت إليه علومهم.
أما كون التحدي بخلق الذباب فكان ذلك لأسباب. ذكر القرطبي أنه خص الذباب لأربعة أمور تخصه: لمهانته وضعفه ولاستقذاره وكثرته. (2) وأما الإشارة العلمية في خص الذباب دون غيره من المخلوقات والتي لم يتمكن من فهمها إلا في العصر الحديث حين وجد أن الذباب يحمل أبسط أنواع الـ DNA الذي هو الأهم في الخلية مقارنة مع باقي الأحياء لذا فالقرآن يتحدى ويشير بهذا المخلوق الضعيف الذي يحتقره الناس ويستقذرونه ورغم ذلك كله عجز العلماء على الخلق مثله وهو الجزء من الذبابة وليس الذبابة بأكملها. هذه الإشارة من الناحية العلمية أما من الناحية الأسلوبية فنجد (الأسلوب القرآني المعجز يختار الذباب الصغير الحقير لأن العجز في خلقه يلقي في الحس ظل الضعف أكثر مما يلقيه العجز عن خلق الجمل والفيل: دون أن يخل هذا بالحقيقة في التعبير ... فلو قال: وإن يسلبهم السباع لا يستنقذوه منها لأوحى ذلك بالقوة بدل الضعف وهذا من بدائع الأسلوب القرآني العجيب). (3)
__________
(1) التحرير والتنوير 17/341.
(2) الجامع لأحكام القرآن 12/97.
(3) ينظر في ظلال القرآن 4/2444 (بتصرف).(1/45)
ويحتم ذلك المثل المصور الموحي بهذا التعقيب: (ضعف الطالب والمطلوب) ليقرر ما ألقاه المثل من ظلال، وما أوحى به إلى المشاعر والقلوب ... وفي أنسب الظروف ... والمشاعر تفيض بالزراية والاحتقار ... يندد الله بسوء تقديرهم لله ويعرض قوة الله الحق الحقيق بأنه إله (ما قدروا الله حق قدره، إن الله لقوي عزيز). (1) ما قدروا الله حق قدره حين جعلوا له شريكاً ضعيفاً لا يقدر على خلق ذبابة.
بيت العنكبوت:
قال تعالى: ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ). (2)
العنكبوت لغة:
العنكبوت دويبة تنسج في الهواء وعلى رأس البئر نسجاً رقيقاً مهلهلاً مؤنثة وربما ذكرت في الشعر، الفراء: العنكبوت أنثى وقد يذكرها بعض العرب وقال أيضاً والتأنيث في العنكبوت أكثر. المبرد العنكبوت أنثى ويذكر. (3) وفي كتاب مختّصر المذكر والمؤنث للمفضل بن أبي سلمة قال: العنكبوت يذكر ويؤنث. (4) أما الوهن لغة: فالضعف. (5)
أقوال المفسرين:
__________
(1) المصدر نفسه 4/2444 (بتصرف).
(2) العنكبوت / 41-43.
(3) ينظر لسان العرب (عنكب) 1/632 القاموس المحيط (عنكب).
(4) مختصر المذكر والمؤنث ...
(5) ينظر لسان العرب (وهن) 13/453.(1/46)
عن أبن عباس قوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ... الخ الآية قال ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره إن مثله كمثل العنكبوت وعن قتادة قال هذا مثل ضربه الله للمشرك مثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه ... وقال ابن زيد قوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل عنكبوت اتخذت بيتا قال هذا مثل ضربه الله لا يغني أولياؤهم عنهم شيئا كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا. وقال الضحاك: ضرب مثلا لضعف آلهتهم ووهنها فشبهها ببيت العنكبوت (لو كانوا يعلمون) لو متعلقة ببيت العنكبوت أي لو علموا عبادة الأوثان كاتخاذ بيت العنكبوت التي لا تغني عنهم شيئاً وأن هذا مثلهم لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. (1) قال القرطبي: مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم وقبح رواياتهم وسوء اختيارهم لأنفسهم كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة احتيالها لنفسها اتخذت بيتا لنفسها كيما يكنها فلم يغن عنها شيئاً عند حاجتها إليه فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله وحل بهم سخطه. أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئاً ولم يدفعوا عنهم ما أحل الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم. (2) وقال الزمخشري: الغرض من التشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله، بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة. وهو نسيج العنكبوت ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله: (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت)؟ فإن قلت ما معنى قوله لو كانوا يعلمون؟ قلت معناه لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن.
__________
(1) ينظر جامع البيان 20/152-153 الجامع لأحكام القرآن 13/325.
(2) جامع البيان 20/152 وينظر تفسير الواحدي 2/833.(1/47)
ووجه آخر: أنه إذا صح تشبيه ما اعتمدوه في دينهم ببيت العنكبوت، فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون. أو أخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، فكأنه قال: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. ولقائل أن يقول: مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله، مثل العنكبوت التي اتخذت بيتا، بالإضافة إلى رجل يبني بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر، ولما أن أوهن البيوت إذا استقريناها بيتا بيتا بيت العنكبوت، كذلك أضعف الأديان إذا استقريناها دينا دينا عبادة الأوثان لو كانوا يعلمون. (1)
النظرة العلمية في تفسير الآية:
كشف العلم مؤخراً أن أنثى العنكبوت هي التي تنسج البيت وليس الذكر وهي حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن وإذا ما لاحظنا الآية الكريمة (اتخذت بيتا) وتاء التأنيث الساكنة دلالة على الأنثوية أي أن الأنثى هي المسؤولة عن اتخاذ البيت وإدارة شؤونه. (2)
وتنسج العنكبوت نسيجها أو بيتها لأغراض عديدة فبعض العناكب ينسج بيوته لغرض حماية الذرية في أكياس مصنوعة من خيوط حريرية وتقوم بنسج غرف الحضانة لذريتها وغرف الرقاد في فصل الشتاء وأخرى غرف للزواج وغرف للوليمة التي تكون عادة إما ذبابة أو أي حشرة أخرى. (3)
والعناكب فصائل وأجناس وأنواع مختلفة في الشكل والسلوك والعادات. (4) وقد بين العلماء حوالي 30.000 نوعاً وأغلبها تتميز بخصائص مشتركة منها:
__________
(1) الكشاف 3/903-904 أنوار التنزيل 2/801 إرشاد العقل السليم 7/40-41.
(2) ينظر المنظار الهندسي 200 برنامج المعجزة الخالدة / الجزء الأول، العلوم البيلوجية، قرص مدمج 1998.
(3) المصدر نفسه الصفحة نفسا,.
(4) المنظار الهندسي 200 .(1/48)
أن لها غدداً في بطنها تفرز خيوطاً حريرية دقيقة جداً، وكل خيط من خيوط العنكبوت مركب من أربعة خيوط، وكل واحد من الأربعة مركب من ألف خيط، وعليه فكل خيط من الخيوط المنسوجة يتألف من أربعة آلاف خيط دقيق. وتبين الدراسات الحديثة لعلم الحشرات أنه لو جُمعَ أربعة مليارات من خيوط العنكبوت لم تكن أغلظ من شعرة واحدة من شعر الوجه.. ثم تُكون العنكبوت من هذه الخيوط نسيجاً شبكيا في غاية الدقة بدءاً من الأعصاب الرئيسية للنسيج ثم توصل هذه الأعصاب بدقة مدهشة، وتقوم بطلاء هذا النسيج بمادة لاصقة ثم تركن إلى مركز هذا النسيج الشبكي أو بقربه بانتظار فريسة من الحشرات فيه لتعمل على تقييدها في هذه المصيدة بخيوط أخرى ثم تفرز في الفريسة سُماً من غددها وتقتلها بزوج من الكلاكيب تشبه الكماشة. وأخيراً تتغذى العنكبوت بامتصاص السوائل المكونة لجسم الحشرة على شكل عصير عن طريق الفم إلى معدتها الماصة. (1)
إن المثل المضروب في الآية من وَهَنِ وضعف بيت العنكبوت ومَثَله كمثَل من اتخذوا أولياء من دون الله فيه أكثر من إعجاز علمي عرفته البشرية حديثاً بعد تطور علم الحشرات: فقد تبين حديثاً أن النسيج العنكبوتي لا يدوم أكثر من ليلة واحدة، ولا يصلح بعدها لصيد الطرائد لأنه يجف وتفقد مادته اللاصقة خصائصها، ويتمزق خرقاً بالية عند الفجر، بعد أداء مهمته. إذن هو بيت بمنتهى الضعف، بيت لا يدوم إلا ليلة واحدة أو أقل. (2)
__________
(1) إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية 147-148.
(2) المصدر نفسه 148.(1/49)
ويقول محمود مصطفى مؤلف كتاب (القرآن محاولة لفهم عصري): (والحقيقة اللافتة للنظر هي وصف بيت العنكبوت بأنه أوهن البيوت. ولم يقل القرآن خيط العنكبوت أو نسيج العنكبوت وإنما قال بيت العنكبوت وهي مسألة لها دلالة.. ولها سبب. والعلم كشف الآن بالقياس أن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات.. وأقوى من خيط الحرير وأكثر مرونة فيكون نسيج العنكبوت بالنسبة لاحتياجات العنكبوت وافياً بالغرض وزيادة.. ويكون بالنسبة له قلعة أمينة حصينة فلماذا يقول القرآن (وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) ولماذا يختم بكلمة: ( لو كانوا يعلمون). لا بد أن هناك سراً. والواقع أن هناك سراً بيولوجيا.. كشف العلم عنه فيما كشف لنا مؤخراً، فالحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم البيت من أمان وسكينة وطمأنينة. فالعنكبوت الأنثى هي التي تبني البيت وتغزل خيوطه وهي الحاكمة عليه وهي تقتل ذكرها بعد تلقيحها وتأكله والأبناء يأكلون أمهم والأبناء أيضاً يأكلون بعضهم بعضا (هكذا بعد الخروج من البيض، ولهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده بعد أن يلقح أنثاه ولا يحاول أن يضع قدمه في بيتها. وتغزل أنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً ومعتقلاً لكل حشرة صغيرة تفكر في أن تقترب منه. وكل من يدخل البيت من زوار وضيوف يقتل ويلتهم.. إنه ليس بيتاً إذن، بل مذبحة يخيم عليها الخوف والتربص، وإنه لأوهن البيوت لمن يحاول أن يتخذ منه ملجأ ... لغير الله ليتخذ منه معينا ونصيرا. (1)
__________
(1) ينظر القرآن محاولة لفهم عصري 231 وينظر المشاهد في القرآن الكريم 289-290 وينظر المنظار الهندسي للقرآن الكريم 200، الإعجاز العلمي للقرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 86-88.(1/50)
وهذا البيت الواهي لا يلبث أن تنقطع خيوطه ويتهدم بعد حدوث عدة معارك بين العنكبوت وفرائسه المكبلة، ثم تقوم الأنثى بعمل بيت جديد بعد ذلك. (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
قال أهل التفسير العلمي أن لفظة (اتخذت) بصيغة الفعل المؤنث وهي إشارة علمية غاية الروعة والدقة للدلالة على ما يقوم ببناء بيوت العناكب هي الأنثى منه وأن الذكر لا شأن له بذلك. أما من الناحية اللغوية فقد وجدنا أن العنكبوت في اللغة يؤنث ويذكر إلا أن التأنيث فيه أكثر وقد أنث القرآن الكريم هذا اللفظ الذي يوافق الحقيقة العلمية وبذلك عبر باللفظ الذي يوحي بالحقيقة العلمية التي ما كان أحد يفطن إليها وقت نزول القرآن وهذا يدل على دقة ألفاظ القرآن الكريم وإعجازه العلمي.
واختلف أهل التفسير العلمي أنفسهم في قوله تعالى: (أوهن البيوت) منهم من يرى البيوت هنا هو نسج العنكبوت كما أشار إليه القدماء ومنهم من يرى أن القرآن لم يقل خيط العنكبوت أو نسج العنكبوت وإنما قال بيت العنكبوت يقصد به أهل ذلك البيت والعلاقة الأسرية بينهم واصفا حياة المشركين والملحدين كما أشرنا. وعلى هذا يكون معنى البيت هو المعنى المجازي لأهل ذلك البيت وليس بناءه.
كما يستدل أهل هذا الرأي على أن قوله تعالى بعد ذلك (لو كانوا يعلمون) إشارة إلى أنه علم لن يظهره الله تعالى إلا متأخراً وقد ظهرت هذه الأسرار البيولوجية مؤخراً بالفعل. (2)
__________
(1) مجلة التربية الإسلامية / العدد الثاني/ 34 – كانون الثاني 1998م عن مقال (بيت العنكبوت للسيد عبد الله جبير عليوي ص 39-40 وينظر تيسير الرحيم الرحمان 124.
(2) تيسير الرحيم الرحمن 125.(1/51)
الضابط اللغوي في هذا القول (البيت) يمكن أن يقصد به الدار كما جاء في المعاجم: بيت الرجل داره. (1) وكذلك يأتي بمعنى أهل البيت كما جاء في المعاجم أيضاً: بيت الرجل: امرأته، والعرب تكنى عن المرأة بالبيت وعن الجوهري البيت عِيال الرجل. (2) ومن هذا يتبين لنا أنه يمكن أن يكون المقصود بالبيت المعنى الحقيقي له أو أهل البيت وهو المعنى المجازي وقد بينا سابقاً أن استعمال اللفظ بمعنييه الحقيقي والمجازي يسمى تضميناً كما قال الزركشي في البرهان.
أما احتجاج بعض المفسرين العلميين من أن قوله تعالى (أوهن البيوت) يخالف الحقيقة العلمية لأن خيط العنكبوت أقوى من خيط الحرير فقد رد على هذا القول عدد ممن فسر الآية تفسيراً علمياً أيضاً مشيراً إلى دقة الصدق القرآني الذي لا يخطئ أبداً بقوله: أن الآية تذكر البيت ولم تذكر الخيط فالوهن إذن في البيت لا في الخيط. (3) فاسم التفضيل أوهن يعود على البيت بأكمله وطريقة ربط الخيوط في بيت العنكبوت واهية وليس كما في شرنقة الحرير التي هي أكثر تماسكاً. وما الخيط إلا مادة مستعملة في بناء البيت تختلف كميتها وطريقة نسجها من حيوان إلى آخر. وقد ذكر بعضهم كما أشرنا إلى انهدام بيت العنكبوت بعد معركة لصيد الفريسة وبناء أخر لصيد فريسة أخرى فهو لا يدوم طويلاً أو قد يتمزق بعد يبس مواد ذلك البيت.
__________
(1) ينظر لسان العرب (بيت) 2/16.
(2) ينظر الصحاح (بيت) 1/244 لسان العرب (بيت) 2/16.
(3) ينظر تيسير الرحيم الرحمن 124 ، وينظر نظرة علمية للكتب السماوية 114.(1/52)
أما قوله تعالى (لو كان يعلمون) فقد وجه المفسرون العلميون هذا القول توجيها آخر يختلف عن توجيه القدماء له فقد قال محمد سيد أرناؤوط: (بعد أن علمنا السر البيولوجي في ذلك واتضح السر في قوله تعالى في تلك الآية (لو كانوا يعلمون) حيث لم نكن نعلم تلك الحقيقة الكاملة إلا حديثاً جداً.. وظهرت لنا الحقيقة التي ذكرها القرآن قبل العلم بأكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان وهكذا زال التناقض بين العلم وتلك الآية. وهكذا يظل القرآن حقاً وصدقاً إلى يوم القيامة. (1)
أما الضابط اللغوي فيه فيمكن القول أن قوله هذا يشير إلى أن قوله: (لو كانوا يعلمون) يعود إلى تلك الحقيقة التي بينت العلاقة الأسرية لبيت العنكبوت التي لم يكن يعرفها جميع الناس أما القدماء فقد وجهوا قوله تعالى (يعلمون) بشكل خاص إلى الذين اتخذوا من دون الله أولياء فالضمير الغائب في يعلمون يعود إليهم وليس المقصود من ذلك أنهم لا يعلمون أن بيت العنكبوت أهون البيوت فقد قال الزمخشري. (2) (فإن قلت ما معنى قوله (لو كانوا يعلمون) وكل أحد يعلم وهن بيت العنكبوت؟ قلت معناه لو كانوا يعلمون هذا مثلهم وأن أمر دينهم بالغ في غاية الوهن..الخ كلامه كما أشرنا سابقاً إليه وقد أشار إلى ذلك أيضاً القرطبي (3) بقوله أي لو علموا عبادة الأوثان كاتخاذ ببيت العنكبوت التي لا تغني عنهم وأن هذا مثلهم لما عبدوها لا أنهم يعلمون أن بيت العنكبوت ضعيف. وهو قول الطبري (4) أيضاً والواحدي. (5) والبيضاوي (6) وأبي السعود. (7)
__________
(1) الإعجاز العلمي للقرآن الكريم/ محمد سيد أرناؤوط 89، وينظر المنظار الهندسي 200.
(2) الكشاف 3/903-904.
(3) الجامع لأحكام القرآن 13/325.
(4) جامع البيان 20/153.
(5) تفسير الواحدي 2/833.
(6) أنوار التنزيل 2/801.
(7) إرشاد العقل السليم 7/41.(1/53)
ويحتج بعض أهل التفسير العلمي على رأيه أن الآية مختومة بقوله عز وجل (لو كانوا يعلمون) ثم في الآية التالية (وما يعقلها إلا العالمون) فهي إشارات إلى أنه علم لم يظهره الله تعالى إلا متأخراً وقد ظهرت هذه الأسرار البيولوجية مؤخراً بالفعل. (1)
ولو رجعنا إلى أقوال المفسرين والضابط اللغوي في هذا القول الأخير نجد أن العلم في هذه الآية لم يكن مشروطاً بزمان فليس شرطاً في هذه الآية أن يكون بهذه العلوم الحديثة التي ذكرناها وبهذا يدخل العلم أيضاً بما قاله القدماء فقد يكون العلم عند أشخاص ولا يوجد عند غيرهم وكذلك في قوله (وما يعقلها إلا العالمون) فهي إضافة إلى الإشارة العلمية الرائعة في هذه الآية يتحمل النص في هذا المثال وغيره من الأمثال القرآنية علمها في ذلك الزمان وقد يتضح أكثر في زماننا هذا من وجوه أخرى لم نكن نعرفها وهذا من إعجاز القرآن العلمي والبلاغي وما يؤكد هذا القول الرجوع إلى سبب نزول الآية الذي يعبر عنه لغوياً بالدلالة الحالية ،ففي قوله (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) يقول الزمخشري: كان الجهلة والسفهاء من قريش يقولون إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك، فلذلك قال (ما يعقلها إلا العالمون) أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا هم، لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي طرق للمعاني المحتجبة في الأستار حتى تميزها وتكشف عنها ونصورها للإفهام، كما صور هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد. (2)
__________
(1) تيسير الرحيم الرحمن 125.
(2) الكشاف 3/904.(1/54)
المبحث الثالث
خلق الإنسان:
ذكر القرآن قصة خلق الإنسان بدقة دون أن يكون في قراءتها أي مقولة مشوبة بالخطأ، ويعبر عن ذلك بعبارات بسيطة، يسهل على فهم الإنسان إدراكها وتتفق تماماً مع ما سيكتشف بعد ذلك بكثير.
وإذا كانت قصة خلق الإنسان مذكورة في عشرات من الآيات القرآنية دون أي ترتيب واضح، فإن القرآن يعرض مستعينا بمقولات ينصب كل منها على نقطة أو عدة نقاط خاصة، ولا بد من تجميع هذه الآيات حتى تكون لدينا فكرة شاملة، فلذلك ييسر التعليق مثلما فعلنا بالنسبة للموضوعات الأخرى التي عالجناها. (1)
ومن الآيات التي ذكرت أطوار خلق الإنسان منذ تكوينه الأول إلى تمام خلقه قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ). (2)
__________
(1) ينظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم 225.
(2) المؤمنون /12-14.(1/1)
وفي سورة الحج يذكر الله تعالى قصة خلق الإنسان منذ نشأته الأولى إلى نهاية عمر ذلك المخلوق أو ما سيكون حاله بعد الكمال والقوة وذلك بقوله: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ). (1)
وهناك آيات كثيرة أخرى سنذكرها في كل طور من أطوار خلق الإنسان التي توضح بشكل دقيق تلك المرحلة التي يمر بها الإنسان.
أولاً: المادة الأولى التي خلق الله منها الإنسان.
__________
(1) الحج / 5.(1/2)
قال تعالى: ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ). (1) وقال تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى *كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ). (2) وقال تعالى: ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ..) (3) وقال تعالى :( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ) (4) وقال تعالى: ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ). (5) ، ( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ). (6) ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ). (7) ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً..). (8) ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ).
__________
(1) هود /61.
(2) طه /55.
(3) النجم /32.
(4) نوح /17-18.
(5) آل عمران /59.
(6) الكهف / 37.
(7) الروم /20.
(8) فاطر /11.(1/3)
(1) ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ ). (2) ( قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ). (3) ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان من طين ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ). (4) ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ). (5) ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ). (6) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ). (7) ( قَالَ يَا إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ ). (8) ( خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ). (9)
والتراب والطين معروف أما وصف الطين باللازب فاللازب لغة: جاء في الصحاح (10) : طين لازب، أي لازق، تقول منه لزب الشيء يلزب لزوبا، واللازب الثابت، تقول صار الشيء ضربة لازب وهو أفصح من لازم
وفي اللسان (11) ولزب: لصق وصَلب.
أما الصلصال لغة:
__________
(1) غافر /67.
(2) الأنعام /2.
(3) الأعراف /12.
(4) السجدة /7-8.
(5) الصافات /11.
(6) ص /71.
(7) الحجر /26.
(8) الحجر /32-33.
(9) الرحمن /14.
(10) الصحاح (لزب) 1/219.
(11) اللسان / لزب 1/ 738.(1/4)
فقال الخليل (1) : صل اللجام صليلا إذا توهمت في صوته مدا، وإن توهمت ترجيعا قلت صلصل، وكل ذي صلابة يصلصل ... والطين صلصل لتصليله إذا حُرَّك والصَلصَلة والصُلصُلة : بقية الماء في الغدير. وقال الجوهري (2) : الصلصال الطين الحُرّ خُلِط بالرمل فصار يتصلصل إذا جفُ، فإذا طبخ بالنار فهو الفخار.
أما الحمأ لغة:
قال الخليل (3) : الطين الأسود المنتن.. والمسنون المصبوب ويسمى الطين في النهَر : الحمأة . وفي اللسان (4) : وحَمِئت البئر، بالتحريك فهي حمئة إذا صارت فيها الحمأة وكثرت. وحمئ الماء حَمأُ ،وحَمَأ خالطته الحمأة فكدر فتغيرت رائحته.
أما المسنون: جاء في الصحاح (5) الحمأ المسنون المنتن المتغير ... وسنه الوجه صورته ... والمسنون المصُور، وقد سننته أسنة سنا إذا صورته والمسنون المُلمس. وقوله سلالة: السل انتزاع الشيء وإخراجه في رفق سلة يسله سلالة وأسله فانسل ... الانسلال المُضي والخروج من مضيق، أو زحام ... وسلالة الشيء ما استل منه والنطفة سلالة الإنسان.. قال الفراء ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) قال الذي سلَّ من كل تربة). (6)
__________
(1) العين (صلل) 7/84.
(2) الصحاح (صلل) 5/1745.
(3) العين (حمأ) 3/312.
(4) اللسان (حمأ) 3/312.
(5) الصحاح (سنن) 5/2139.
(6) اللسان (سلل) 11/338-339.(1/5)
أقوال المفسرين: لا يختلف المفسرون (1) عما قاله المعجميون في هذه الألفاظ وفي هذه الآيات يخبر الله تعالى عن أحوال مختلفة وتطورات شتى مرة يخبر عز وجل خلق أدم من تراب ومرة من حمأ مسنون ومرة من طين لازب ومرة من صلصال كالفخار وهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة. (2) ويقول الرازي (3) : والأقرب أنه خلقه أولاً من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار.
وفي هذه الآيات يذكر الله تعالى الأحوال التي آلت إليها تلك الطينة التي خلق منها سبحانه آدم عليه السلام ومما يفيد أن آدم الإنسان الأول كانت بدايته من طين قوله تعالى: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ). (4)
يقول ابن كثير (وبدأ خلق الإنسان من طين) يعني خلق أبا البشر آدم (عليه السلام) من طين (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) أي يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة). (5)
__________
(1) ينظر الطبري 1/201 ، 14/28-29 ، 27/124 الكشاف 4/1207 التفسير الكبير 19/142 ، جواهر الحسان 2/294 الدر المنثور 7/82 البغوي 4/24 ، إرشاد العقل السليم 7/186 ، فتح القدير 4/288.
(2) ينظر البرهان في علوم القرآن 2/54.
(3) التفسير الكبير 19/142.
(4) المؤمنون /12-13.
(5) تفسير القرآن العظيم 3/458.(1/6)
أما قوله تعالى (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين). (1) يقول الرازي (2) : السلالة الخلاصة لأنها نسل من بين الكدرة، فُعالة وهو بناء يدل على القلة كالقُلامة والقُمامة واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد منه آدم عليه السلام فآدم سل من الطين وخلقت ذريته من ماء مهين، ثم جعلناه الكتابة راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم، والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده وقال آخرون الإنسان ههنا ولد آدم والطين هنا اسم آدم عليه السلام، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لم اجتمعت وحصلت في أوعية التي صارت منيا، وهذا التفسير مطابق لقوله في سورة السجدة : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) وفيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إنما يتولد من نطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء فالإنسان بالحقيقة متولد من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منيا، وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات.
وقال عز وجل: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ). (3) قال ابن كثير: أي من الأرض مبدؤكم، فأن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض، وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم، ومنها نخرجكم تارة أخرى يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً. (4)
__________
(1) المؤمنون /12.
(2) التفسير الكبير 23/74.
(3) طه /55.
(4) تفسير القرآن العظيم 3/157.(1/7)
أما سيد قطب فيقول في تفسير هذه الآية: من هذه الأرض خلقناكم، وفي هذه الأرض نعيدكم، ومنها نخرجكم بعد موتكم .. والإنسان مخلوق من مادة هذه الأرض. عناصر جسمه كلها من عناصرها إجمالاً ... ومن زرعها يأكل ومن مائها يشرب، ومن هوائها يتنفس. وهو ابنها وهي له مهد. وإليها يعود جثة تطويها الأرض رفاتاً يختلط بترابها، وغازا يختلط بهوائها. ومنها يبعث إلى الحياة الأخرى، كما خلق في النشأة الأولى. (1)
النظرة العلمية في المادة الأولى التي خُلق منها الإنسان والتفسير العلمي للآيات:
لقد أثبت العلم الحديث (أن جسم الإنسان يتكون من عناصر التراب وبالتحليل وجد أنه يتكون أكثر من 24 عنصراً وهي عناصر التراب أو القشرة الأرضية الخصبة). (2) والتفسير العلمي في قوله: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) هو أن الله سبحانه وتعالى خلق القشرة من هذه العناصر فجمع جل شأنه خلاصة منها (وهي التي تتركب منها أجسامنا منها) وهذه السلالة أو الخلاصة حدثت نتيجة تفاعلات كيميائية، وهي في اعتقاد علماء الطب وطبقات الأرض ما ورد به القرآن الكريم (من حمأ مسنون) أي طين متغير. (3)
وثبت للعلماء أيضاً أن النطفة – مني الإنسان الذي يتكون منه الجنين – تتولد من الدم الذي هو نتاج للغذاء النباتي وغيره المكون بمحتوياته من عناصر التراب. (4)
وعندما يموت الإنسان والحيوان والنبات تبلى أجسامهم وتتحلل إلى عناصرها الأولى وتعود إلى الأرض.. (5)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) في ظلال القرآن 4/2339.
(2) ينظر معجزة القرآن 114 ، وينظر الأرض في القرآن الكريم 205 ، الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد ارناؤوط 294. التفسير العلمي للقران الكريم 163.
(3) التفسير العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 306-307.
(4) ينظر القرآن إعجاز يتعاظم 142-143 ، القرآن يفك لغز الأرض 96.
(5) القرآن يفك لغز الأرض 96.(1/8)
من الضوابط العلمية في القرآن الكريم جمع الآيات المتعلقة بموضوع واحد وهنا في هذه الآيات نجد في كل آية تشير إلى حالة من أحوال المادة الأولية التي تكون منها الإنسان وبألفاظ مختلفة فمرة يقول من تراب ومرة من طين وأخرى من حمأ مسنون، وطين لازب والصلصال كالفخار وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد كل لفظ من هذه الألفاظ يصف حاله مختلفة للتربة. وكل آية أوضحت حالة من حالات هذه التربة بما يناسب سياقها في تلك السورة يقول سيد قطب (1) في الأعراف كانت نقطة التركيز في السياق من الجنة وإليها وإبراز عداوة إبليس للإنسان منذُ بدء الرحلة إلى نهايتها.. وفي سورة الحجر فإن نقطة التركيز في السياق هي سر تكوين آدم، وسر الهدى والضلال ... ومن ثم نص ابتداء على خلق الله آدم من صلصال من حمأ مسنون.. وهكذا في الآيات الأخرى.
ولمعرفة الحقيقة العلمية بأكملها يتطلب جمع تلك الآيات فالقرآن يفسر بعضه بعضا لأن القرآن وحدة متكاملة لذا فالنص القرآني واحد من أول سوره إلى آخره ومن الدلالات السياقية للآيات وغير السياقية أي وجود دلالات أخرى في آيات أخرى خارج السياق يمكن أن نصل إلى حقيقة قصة خلق الإنسان وتفاصيلها بشكل دقيق، كما وجدنا في حقيقة مادة خلق الإنسان الأولى وكما وصل إليه العلم الحديث، ونجد في بعض الآيات نفسها تتحمل أوجه مختلفة في التأويل من ذلك قوله تعالى :( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ). (2)
__________
(1) ينظر في ظلال القرآن 4/2137.
(2) المؤمنون 12-13.(1/9)
ويرى السيوطي أن المراد بالإنسان آدم – عليه السلام – ثم عاد عليه الضمير مرادا به ولده وهذا ما يسمى في علم البلاغة الاستخدام وهو التورية أشرف أنواع البديع ولها طريقتان منها طريقة السكاكي وأتباعه وهي أن يؤتى باللفظ له معنيان فأكثر مرادا به أحد معانيه ثم يؤتى بضميره مرادا به المعنى الأخر واستشهد السيوطي بهذه الآية. (1) وقال لأن آدم لم يخلق من نطفة. (2)
وقد عد محمد بن أبي بكر الزرعي ذلك استطرادا، والاستطراد أسلوب لطيف جداً في القرآن الكريم من ذلك أن يستطرد من الشخص إلى النوع كقوله تعالى ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ..) إلى أخره فالأول آدم والثاني بنوه. (3)
ومن الدلالات القرآنية غير السياقية التي تؤكد هذا التفسير قوله تعالى: ( وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ). (4)
أما الوجه الثاني لقوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ).
الإنسان هنا يمكن أن يراد به النوع كما أشار الرازي أن الإنسان شامل وولده كما ذكرنا سابقاً وهو موافق أيضاً للتفسير العلمي الحديث الذي يشير إلى أن أصل الإنسان تراب وهي المادة المكونة لجسم الإنسان مع الماء.
أما ما يفيد الحرف (ثم) في الآيتين السابقتين فمعلوم أن ثم يفيد التراخي بين المتعاطفين والفترة الزمنية بين خلق الإنسان من طين وبين تناسله عن طريق النطف يحتاج إلى وقت. (5) وكذلك يفيد التراخي في تكوين النطفة من أصل التراب إلى أن تكون نطفة.
ثانياً: مرحلة النطفة.
__________
(1) الإتقان 2/127-128.
(2) المصدر نفسه 1/549.
(3) ينظر التبيان في أقسام القرآن 165.
(4) المؤمنون 12-13.
(5) ينظر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم / محمد سيد أرناؤوط 307.(1/10)
وصف الماء بالدافق:
قال تعالى: ( فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ). (1)
الدفق في اللغة:
عن الخليل (2) : دفق الماء دُفوقاً ودَفقاً إذا انصب بَمَّرةٍ، وماء دافق والنطفة تدفق.
وقال ابن فارس (3) : الدال والفاء والقاف أصل واحد مطّرد قياسه، وهو دفع الشيء قُدُما. من ذلك دفق الماء، هو ماء دافق، وهذه دفقة من الماء.
وفي اللسان: واندفق وتدَفق واستدفق انصب، وقيل أنصب بمرة فهو دافق أي مدفوق كما قالوا سر كاتم أي مكتوم، لأنه من قولك دفق الماء على ما لم يسم فاعله.
وفي المفردات للراغب (4) : ماء دافق سائل بسرعة.
أما الصلب لغة: قال الخليل (5) : الصُلب، وهو عظم الفقار المتصل في وسط الظهر.
وفي اللسان (6) : الصلب: عظم من لَدُنِ الكاهِل إلى العَجْب والجمع أصلب وأصلاب ... والصُلب من الظهر، وكل شيء من الظهر فيه فقار فذلك الصُلب.
وفي مفردات الراغب (7) : والصلب والأصلاب استخراج الودك من العظم.
أما التريبة: فقد قال الجوهري (8) : واحدة الترائب، وهي عظام الصدر ما بين الترقوة إلى الثندوة. (9)
وفي اللسان (10) : الترائب موضع القلادة من الصدر، وقيل هو ما بين الترقوة والثندوة، وقيل الترائب عظام الصدر، وقيل وإلى الترقوتين منه؛ وقيل ما بين الثديين والترقوتين وقيل الترائب أربع أضلاع من اليمنة وأربع أضلاع من اليسرة وقيل التريبتان الضلعان اللتان تليان الترقوتين.
أقوال المفسرين:
اختلف المفسرون في هذه الآية إلى قولين:
__________
(1) الطارق /5-7.
(2) العين (دفق) 5/120.
(3) مقاييس اللغة / دفق 2/286.
(4) مفردات الراغب (دفق) 246.
(5) العين (صلب) 7/127.
(6) اللسان (صلب) 1/526.
(7) المفردات للراغب (صلب) 419.
(8) الصحاح (ترب) 1/91.
(9) الثندوة للرجل بمنزلة الثدي للمرأة الصحاح / ذكره القرطبي 20/6.
(10) لسان العرب (ترب) 1/230.(1/11)
أحدهما أن الولد مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة وقال آخرون أنه مخلوق من الماء الذي يخرج من صلب الرجل وترائبه ومن صلب المرأة وترائبها قاله الحسن. (1)
النظرة العلمية في التفسير:
يخرج ماء الرجل متدفقاً كما تشير هذه الآية ومما يلفت النظر أن القرآن يسند التدفق للماء نفسه مما يشير إلى أن للماء قوة دفع ذاتية. وقد أثبت العلم في العصر الحديث أن المنويات التي يحتويها ماء الرجل لا بد أن تكون حيوية متدفقة متحركة وهذا شرط للإخصاب. (2)
وقد أثبت العلم أيضاً أن ماء المرأة الذي يحمل البيضة يخرج متدفقاً إلى قناة الرحم (فالوب)، وأن البيضة لا بد أن تكون حيوية متدفقة متحركة حتى يتم الإخصاب. ومن المعلوم أن ماء الرجل يحوي بالإضافة إلى المنويات عناصر أخرى تشارك وتساعد في عملية الإخصاب مثال ذلك البروستاكلاندين التي تحدث تقلصات في الرحم مما يساعد في نقل المنويات إلى موقع الإخصاب. (3)
وتعريف الحيوانات المنوية هي كائنات حية نشطة تسبع في سائل منوي الذي يخرج من الرجل عند القذف وتحتوي الدفعة الواحدة حوالي 400 مليون حيوان منوي كما يتدفق السائل بشكل سريع ويحتوي الحيوان على ذيل طويل ورأس مصفح يساعد على السباحة السريعة. (4)
__________
(1) ينظر جامع البيان 30/143-144 ، التفسير الكبير 31/117 الجامع لأحكام القرآن 20/706 جواهر الحسان 4/402 فتح القدير 5/419 روح المعاني 30/97.
(2) علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة 32-33.
(3) المصدر نفسه 33.
(4) ينظر إعجاز علم الحياة 78-94، أعجاز القرآن في خلق الإنسان 120-124.(1/12)
أما النظرة العلمية لقوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب).فإنه (تتكون الخصية في الذكر والمبيض في الأنثى خلال عملية التطور الجنيني من الخلية التناسلية على جدار الجسم الخلفي، في منطقة متوسطة بين العمود الفقري والجزء الخلفي من الأضلاع هذه حقيقة ماء الرجل والمرأة كما ذكرها القرآن الكريم وأقرها العلم الحديث، ثم إن هذه الحقيقة تزداد إشراقا ووضوحاً وتلاؤماً مع الواقع التشريحي إذ تذكرنا أن الشرايين والأوردة المتصلة بالخصية والمبيض بمنطقة تكوينها على الجدار الخلفي للبطن وتخرج من هناك، كذلك الحال بالنسبة للأوعية اللمفاوية والأعصاب ومن ثَّم فإن المادة الغذائية الضرورية المستخدمة في تكوين البويضات والحيوانات المنوية مستمدة من تلك المنطقة أيضاً من بين الصلب والترائب أي أن المنطقة تلك هي شريان الحياة بالنسبة للخصية والمبيض على السواء). (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي للآية:
اختلف المفسرون في قوله تعالى: (دافق) إلى ثلاثة أقوال:قيل ماء دافق بمعنى مدفوق كما قالوا سر كاتم أي مكتوم قال الفراء (2) : وأهل الحجاز أفعل لهذا من غيرهم أن يفعلوا المفعول فاعلاً إذا كان في مذهب نعت. وقد ذكر ذلك الطبري (3) البغوي (4) وابن الجوزي (5) وأبو حيان (6) والشوكاني (7) والآلوسي (8) وغيرهم.
__________
(1) وجوه من الإعجاز القرآني 121-122 وينظر التفسير العلمي للقرآن الكريم 166 ، نظرة علمية للكتب السماوية 13 إعجاز القرآن في خلق الإنسان 67-77.
(2) الفراء 3/255، وينظر لسان العرب / دفق.
(3) جامع البيان 30/143.
(4) تفسير البغوي 4/473.
(5) زاد المسير 9/82.
(6) البحر المحيط 10/451.
(7) فتح القدير 5/419.
(8) روح المعاني 30/97.(1/13)
وقيل معناه ذي اندفاق قال الزجاج (1) يقال دارع وفارس ونابل أي ذو فرس ودرع ونبل وهذا مذهب سيبويه فالدافق هو المندفق بشدة وأراد الماءين ماء الرجل وماء المرأة لأن الإنسان مخلوق منهما لكن جعلهما واحداً لامتزاجهما.
وذكر ذلك القرطبي (2) والبيضاوي (3) وأبو السعود (4) والشوكاني (5) وغيرهم.
وقيل هو المعنى، لأن اندفق الماء بمعنى نزل. (6) وقال صاحب التبيان في أقسام القرآن: (وقيل وهو الصواب أنه اسم فاعل على بابه ولا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعل الدفق فإن اسم الفاعل هو من قام به الفعل سواء فعله هو أو غيره كما يقال ماء جارٍ ورجل ميت وإن لم يفعل الموت بل لما قام به الموت نسب إليه على جهة الفعل وهذا غير منكر في لغة أمة من الأمم فضلاً عن أوسع اللغات وأفصحها). (7)
يقول الآلوسي: (وقيل اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي ومصرحه لجعله دافقاً لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفقها أي يدفع بعضه بعضاً). (8)
والتفسير العلمي موافق لهذه الأقوال الثلاثة. فقولهم دافق هنا بمعنى مدفوق متوافق مع النظرة العلمية حيث الماء يقذف قذفاً فهو مقذوف وكذلك التقلصات الرحمية هي التي تدفع الماء، وأما قولهم بمعنى ذي دفق فالماء الذي يتكون منه الولد يكون متدفقاً خلافاً عن باقي الإفرازات الأخرى التي ليست لها علاقة بتكوين الجنين، وإنما لها وظائف أخرى مساعدة وهذه المياه لا تقذف فالماء الذي يتكون منه الجنين يكون ذي دفق.
__________
(1) ينظر معاني القرآن وإعرابه 5/311.
(2) الجامع لأحكام القرآن 20/4.
(3) أنوار التنزيل 2/1146.
(4) إرشاد العقل السليم 9/141.
(5) فتح القدير 5/419.
(6) التبيان في إعراب القرآن 2/258.
(7) التبيان في أقسام القرآن 64.
(8) روح المعاني 30/97.(1/14)
وقد أشار إلى هذه الإفرازات الأخرى بشكل مفصل الدكتور محمد كمال عبد العزيز (1) وغيره وذكر أنها ليست لها علاقة بتكوين الجنين وأنها غير متدفقة خلافاً للماء الذي يتكون منه الجنين.
كما يرى البعض (2) ممن فسر الآية تفسيراً علمياً أن دافق باقٍ على المعنى فهو اسم فاعل ولكن ليس على سبيل المجاز كما ذكر القدماء بل المراد منه على حقيقة المعنى بعد أن توصل العلم الحديث إلى معرفة حقيقة هذا الماء الذي يحتوي على حيوانات منوية سابحة فهذه الحيوانات جزء من هذه المياه وهي التي أطلق عليها لفظ الماء فهذه الحيوانات هي التي تتدفق فهي الفاعلة لذا يمكن أخذ المعنى (دافق) على معناه. والدفق يشير إلى السرعة كما أن هذه الحيوانات تسبح بسرعة.
وفي قوله تعالى (يخرج من بين الصلب والترائب).قال القرطبي: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه فالضمير في يخرج للماء ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة فالضمير للإنسان. (3)
والراجح أن الضمير راجع إلى الماء لأنه هو الأقرب إلى قوله يخرج وهو أيضاً ما أشار إليه العلم الحديث فالماء يخرج من صلب الرجل وترائبه ومن صلب المرأة وترائبها وكما أشار إلى ذلك بعض المفسرين مثل الحسن وغيره إلا أنه يشير إلى مصدر هذا الماء وليس إلى الأعضاء التناسلية للجنين.
__________
(1) ينظر إعجاز القرآن في خلق الإنسان 78-79.
(2) ينظر علم الأجنة 32-33.
(3) ينظر الجامع لأحكام القرآن 20/7.(1/15)
ويقول الدكتور محمد كمال عبد العزيز (1) (ولم أجد في المراجع الكثيرة التي رجعت إليها أفضل مما كتب الدكتور محمد علي البار في كتابه القيم (خلق الإنسان بين الطب و القرآن) حيث يقول ( والآية الكريمة إعجاز كامل، حيث تقول من بين الصلب و الترائب ولم تقل من الصلب و الترائب .. فكلمة بين ليست بلاغية فحسب و إنما تعطي الدقة العلمية المتناهية.. وقد أخطأ كثير من المفسرين القدامى، حيث لم يهتموا بهذه اللفظة (بين) .. وقالوا : إن المني يخرج من صلب الرجل. وماء المرأة يتكون من ترائبها .. وهذا خطأ علمي، وخطأ منهجي، حيث لم يعطوا الآية حقها فحذفوا كلمة (بين) ولهذا وقعوا في الخطأ .. ). و العجيب أن الإمام ابن قيم قد نبه على هذا الخطأ الذي وقع فيه أغلب المفسرين فقال في أعلام الموقعين (الجزء الأول ص 158): (ولا خلاف أن المراد بالصلب صلب الرجل وأختلف في الترائب فقيل: المراد به ترائبه أيضا. وهي عظام الصدر ما بين الترقوة و الثندوة .. وقيل: المراد بها ترائب المرأة. والأول أظهر ، لأنه سبحانه قال (يخرج من بين الصلب و الترائب) ولم يقل يخرج من الصلب و الترائب ، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين الملتقيين كما قال في اللبن (يخرج من بين فرثٍ ودمٍ لبنا خالصاً (2) )). على أن العلم الحديث يشير إلى كل من صلب الرجل والمرأة وترائبهما.
معنى سلالة من ماء مهين: قال تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ* ثم جَعَل نسله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ) (3) .
أقوال المفسرين :
__________
(1) إعجاز القرآن في خلق الإنسان 74 – 75.
(2) النحل / 66.
(3) السجدة 7 –8.(1/16)
قوله تعالى : ثم جعل نسله ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه من سلالة النطفة، وعن ابن عباس في قوله من سلالة قال صفو الماء (1) قال النسفي والعرب تسمي النطفة سلالة (2) للقليل مما ينسل والمهين الضعيف. وعن الآلوسي (3) من سلالة أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية من ماء مهين ممتهن لا يعتني به وهو المني.
التفسير العلمي للآية:
السلالة تستخلص من ماء الرجل وعلى شكل سمكة طويلة، ويستخرج برفق من ماء مهين فخلال عملية الإخصاب يرحل ماء الرجل ليقابل البيضة في ماء المرأة في قناة البيضات (قناة فالوب) ولا يصل من ماء الرجل إلا القليل ويخترق منوي واحد البيضة، ويحدث عقب ذلك مباشرة تغير سريع في غشائها يمنع دخول بقية المنويات. وتعرف هذه العملية في مراحل النطفة بالسلالة حيث يتم اختيار حوين واحد وبيضة واحدة ليتحدا مبتدئين التخلق البشري. (4) وبذلك يكون معنى الآية الكريمة أن الله تعالى جعل نسل بني آدم من خلاصة من الماء المهين وهو المني. (5)
__________
(1) ينظر جامع البيان 21/59، تفسير الواحدي 2/853 ،تفسير البغوي 3/498 ،الكشاف 3/932 ،التفسير الكبير 25/151، تفسير النسفي 2/462.
(2) معاني القران للنحاس 5/301.
(3) روح المعاني 21/124.
(4) ينظر علم الأجنة 35-36.
(5) إعجاز القران في خلق الإنسان 11.(1/17)
وقد استشهد أهل التفسير العلمي بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليؤكد هذا المعنى فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم:(ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء). (1) وهذا ما ثبت علمياً وهو أن جزءاً يسيراً جداً من المني هو الذي يخلق الله منه الولد ... حيث أن هناك اختياراً بعد اختيار لهذه الحيوانات فلا يصل منها إلا ما أرادته المشيئة الإلهية التي جعلت كل شيء بقدر وكذلك هناك اختيار واصطفاء أمني للبويضة ... فمبيض الطفلة وهي لا تزال جنيناً في بطن أمها يحتوي على ستة ملايين بويضة ... فإذا خرجت إلى الدنيا مات الكثير منها ... وتستمر هذه البويضات في اندثارها حتى إذا بلغت الفتاة المحيض لم يبق منها إلا ثلاثون ألفاً ... وما ينمو منها ويخرج من المبيض لا يزيد عن أربعمئة بويضة في حياة المرأة كلها، وفي كل شهر تنمو مجموعة من البيوضات، ولكن يد القدرة تختار واحدة منها فقط لتكمل نموها وتخرج لملاقاة الحيوان المنوي. (2) وليس كل الماء الذي يخرج من المرأة يكون منه الولد فالماء الذي يخرج ما هو إلا رشح ولو كان هذا الماء الخارج يتكون منه الولد لما كان إنسان على وجه الأرض فالماء المقصود البويضة التي لا تخرج مع مائها. (3)
الضابط اللغوي في تفسير الآية:
__________
(1) صحيح مسلم رقم الحديث (1438) / 2/1064.
(2) ينظر الإعجاز العلمي في الإسلام / السنة النبوية /95.
(3) الإعجاز العلمي في القران الكريم 309.(1/18)
علمنا من أقوال المفسرين أن معنى السلالة الماء القليل والخلاصة وقد ذكرنا سابقاً أقوال أهل المعاجم في السلالة وهو أن السل انتزاع الشيء وإخراجه في رفق والانسلال المُضي والخروج من المضيق أو الزحام. كما أن وزن سلالة فعالة يدل على هذه الخلاصة التي يتكون منها الإنسان فقد ذكر السمرقندي أن أهل اللغة قالوا: وكل شيء على وزن فعالة، فهو ما فصل من شيء يقال نشارة ونخالة. (1) وقد ذكر الرازي (2) أيضاً أن فُعالة هو بناء يدل على القلة كالقلامة والقُمامة. وكل ما ذكر أهل التفسير والمعجميون مطابق تماماً لما وصفه أهل التفسير العلمي لأحوال السلالة فهي خلاصة الماء وصفوه والسل انتزاع الشيء وإخراجه في رفق وهذا حال الحوين المنوي الذي ينسل وينتزع من ملايين الحوينات ويخرج من ذلك الزحام الهائل برفق ويلقح البيضة المختارة أيضاً والمنسلة من بين تلك البيضات بعد نضوجها وكل من الحوين والبيضة تسمى سلالة على وزن فعالة الدالة على القلة المنفصلة من ذلك الماء المهين ومن الجدير بالذكر هنا أن معنى جعل نسله قال المفسرون بمعنى ذريته وأن الذرية تطلق على كل من نسل المرأة والرجل وخير دليل على ذلك ألفاظ القرآن الكريم التي تفسر القرآن بعضه ببعض حيث يقول الله تعالى على لسان أم مريم عليها السلام (وإني أُعيذها بِك وَذُرّيتها من الشيطان الرجيم). (3) وهذه دلالة لفظية غير سياقية تدل على أن الذرية تكون من الرجل والمرأة وهذا ما أشار إليه العلم الحديث. ويوحي قوله (الذي أحسن كل شيء خلقه) أن السلالة (أحسن جزء من شيء). (4)
نطفة أمشاج:
قال تعالى: ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ). (5)
النطفة في اللغة:
__________
(1) تفسير السمرقندي 3/32.
(2) التفسير الكبير 22/264.
(3) أل عمران /36.
(4) ينظر القرآن الكريم والتوراة 230 (بتصرف).
(5) الإنسان /2.(1/19)
عن الخليل (1) : النَّطْفُ اللؤلؤ، الواحدة نطفة، وهي صافية الماء، وقيل الواحدة نطفة والجمع نطفُ تشبيها بقطرة الماء ... والنطفة التي يكون منها الولد.
وفي اللسان (2) : النطفة والنطافة: القليل من الماء، وقيل الماء القليل يبقى في التربة، قيل هي كجرعة ولا فِعل للنطفة والنطفة الماء القليل يبقى في الدلو ... والنطفة ماء الرجل والجمع نطف ... والنطف القطر ... والتربة تنطف أي تقطر.
أما قوله أمشاج فقد جاء في العين (3) : المَشْجُ: اختلاط حُمرة ببياض، والمشج منه، وكل لون من ذلك مَشَج، والجمع أمشاج، ولا يفرد ... والمشيج كل لون مستنكر خَلطه غيره.
وقال ابن منظور (4) : المَشْج والمَشِيج: كل لونين اختلطا، وقيل هو ما اختلط من حمرة وبياض، وقيل هو كل شيئين مختلطين، والجمع أمشاج مثل يتم وأيتام.
ابن سيدة.. وقال ابن السكيت: الأمشاج الأختلاطُ؛ يريد بالأخلاط النطفة لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة، وفي الحديث في صفة المولود: ثم يكون مشيج أربعين، المشيج المختلط أربعين ليلة ... عن أبي عبيدة وعليه أمشاج غزول أي داخلة بعضها في بعض، يعني البرود فيها ألوان الغزل. الأصمعي: أمشاج وأوشاج غزول داخلٌ بعضها في بعض.
أقوال المفسرين:
اختلف المفسرون في تفسير قوله تعالى (أمشاج):
__________
(1) العين (نطف) 7/436.
(2) لسان العرب (نطف) 9/335.
(3) العين (مشج) 6/41.
(4) لسان العرب (مشبع) 2/367-368.(1/20)
عن عكرمة قال ماء الرجل وماء المرأة يختلطان عن ابن عباس (من نطفة أمشاج) يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا و اختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون وعن ابن عباس أيضاً قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منها الولد وعنه أيضاً: خلق من ألوان خلق التراب وقال آخرون اختلاف ألوان النطفة عن مجاهد قال ألوان النطفة وعنه أيضاً قال أي الماءين سبق أشبه عليه أعمامه وأخواله وقال آخرون بل هي عروق التي تكون في النطفة (1) وقال الطبري (2) وأشبه هذه بالصواب قول من قال معنى ذلك نطفة أمشاج نطفة الرجل ونطفة المرأة لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج وهي إذا انتقلت فصارت علقة فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاج وهي علقة.
النظرة العلمية والتفسير العلمي للآية:
يوجد في الحيوان المنوي (23) حاملاً وراثياً كروموسوم (chromsome)، كما يوجد في البيضة (23) حاملاً وراثياً أيضاً. ويندمج الحيمن مع البيضة لتكوين الخلية الجديدة التي تحتوي عددا من الصبغيات (الكروموسومات) مساوياً للخلية الجسدية (46)، وبوجود الخلية التي تحمل هذا العدد من الصبغيات يتحقق الوجود الإنساني، ويتقرر به خلق إنسان جديد لأن جميع الخطوات التالية تتركز على هذه الخطوة وتنبثق منها، فهذه هي الخطوة الأولى لوجود المخلوق الجديد.
__________
(1) ينظر جامع البيان 29/203-205 ، الجامع لأحكام القرآن 19/120-121 ، تفسير القرآن العظيم 4/454 الدار المنثور 8/367-368 فتح القدير 5/344 روح المعاني 29/151.
(2) جامع البيان 29/205.(1/21)
بعد ساعات من تخلق إنسان جديد في خلية إنسانية كاملة تبدأ عملية أخرى، تتحدد فيها الصفات التي ستظهر على الجنين في المستقبل (الصفات السائدة). كما تتحدد فيها الصفات المتنحية التي قد تظهر في الأجيال القادمة. كما يتضمن التقدير الذي يحدث في النطفة الأمشاج تحديد الذكورة والأنوثة ... فإذا كان المنوي الذي نجح في تلقيح البيضة يحمل الكروموسوم (y) كانت النتيجة ذكرا، وإذا كان المنوي يحمل الكروموسوم (x) كانت النتيجة أنثى. (1)
التفسير العلمي وفق الضوابط اللغوية:
البيضة الملقحة تأخذ شكل قطرة، وهذا يتفق تماماً مع المعنى الأول للفظ نطفة (أي قطرة). (2) وفي قوله أمشاج فيه إشارة إلى الجينات الوراثية (الصبغيات) من الأم والأب واختلاطهما ببعضهما وازدواجهما في خلية الجنين لأن المشيج في اللغة كل لونين أختلطا. وقيل كل شيئين مختلطين، وأمشاج البدن طبائعه فكما قال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط، يريد بالأخلاط النطفة لأنها ممتزجة من أنواع، ولذلك يولد الإنسان ذا طبائع مختلفة. (3)
وهذه النطفة المختلطة (أمشاج) داخلة بعضها في بعض فكما قال أبو عبيدة (وعليها أمشاج العزول) أي داخلة بعضها في بعض يعني البرود فيها ألوان العزول. قد أشارت هذه الآية إلى الجينات الوراثية من الأم والأب (الصبغيات) ونقلها الصفات الوراثية إلى الجنين. (4)
وهذا التفسير العلمي شبيه بقول مجاهد حينما فسر الأمشاج بألوان النطفة وقال أيضاً أي الماءين أسبق أشبه عليه أعمامه وأخواله فكأنما يشير إلى الصفات السائدة والمتنحية. وأمشاج صفة أو بدل من النطفة. (5)
__________
(1) علم الأجنة 39-40 وينظر إعجاز القرآن في خلق الإنسان 14-15.
(2) المصدر نفسه 37.
(3) ينظر لسان العرب (مشج) 2/367-368.
(4) ينظر الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الميري 50.
(5) تفسير النسفى 3/626 التبيان في إعراب القرآن 2/275.(1/22)
وهناك نقطة مهمة بهذا النص وهي أن كلمة (نطفة): أسم مفرد أما كلمة أمشاج فهي صفة في صيغة الجمع؛ وقواعد اللغة تجعل الصفة تابعة للموصوف في الإفراد والتثنية والجمع. وقد اختلف أهل اللغة والتفسير في ذلك
فالزمخشري يرى أن قوله نطفة أمشاج كبرمة أعشار، وبرد أكياس وهي ألفاظ مفردة غير الجموع، ولذلك وقعت صفات للأفراد. (1)
أما أبن عاشور فيقول: (وصيغة الجمع) أمشاج ظاهرها صيغة جمع وعلى ذلك حملها الفراء وابن السكيت والمبرد (2) ، فهي أما جمع مِشْج بكسر فسكون يوزن عِدْل، أي ممشوج، أي مخلوط مثل ذِبح، وهذا ما أقتصر عليه في اللسان والقاموس، أو جمع مَشَج بفتحتين مثل سبب وأسباب، أو جمع مَشِيج بفتح فكسر مثل كَتِف وأكتاف والوجه ما ذهب إليه صاحب الكشاف: أن (أمشاج) مفرد كقولهم: بُرمة أعشار وبُرد أكياس.. فإذا كان أمشاج في هذه الآية مفردا كان على صورة الجمع كما في الكشاف. فوصف نطفة به غير محتاج إلى تأويل، وإذا كان جمعا كما جرى عليه كلام الفراء وابن السكيت والمبرد كان وصف النطفة به باعتبار ما تشمل عليه النطفة من أجزاء مختلفة الخواص، (فلذلك يصير كل جزء من النطفة عضوا) فوصف النطفة بجمع الاسم للمبالغة أي شديدة الاختلاط. (3)
وهذا ما ذهب إليه الآلوسي حيث قال (إن أمشاج هو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن بها مجموع ماء الرجل والمرأة ... أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلطا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى أختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلق بقدرته ... والحاصل أنه نزل الموصوف بمنزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه. (4)
__________
(1) الكشاف 4/1312.
(2) معاني القرآن للفراء 3/214.
(3) التحرير والتنوير 29/374.
(4) روح المعاني 29/151.(1/23)
ومنهم من جوز وصف المفرد بالجمع كما قال العكبري (وجاز وصف الواحد بالجمع هنا لأنه كان في الأصل متفرقاً ثم جمع :أي نطفة أخلاط. (1)
أما القاسمي فقد ذكر الوجهين بقوله :(من نطفة أمشاج) أي ذات أخلاط، وهي موادها المؤلفة منها جمع مَشَج أو مشيج. كسبب وأسباب، ونصير وأنصار، أو مفرد، كبرمة أعشار (البرمة القدر. وأعشار أي منكرة كأنها صارت عشر قطع. (2)
وكلا الوجهين يشير إلى أن النطفة مكونة من أمشاج فعند من قال الأمشاج مفردا كان المصطلح واضحا عند مفسري القرآن الكريم الأوائل مما جعلهم يقولون: النطفة مفردة لكنها في معنى الجمع. (3)
ويمكن للعلم اليوم أن يوضح ذلك المعنى الذي استدل عليه المفسرون من النص القرآني. فكلمة (أمشاج) من الناحية العلمية دقيقة تماماً وهي صفة جمع تصف كلمة نطفة المفردة، التي هي عبارة عن كائن واحد يتكون من أخلاط متعددة تحمل صفات الأسلاف والأحفاد لكل جنين. (4)
وصف الرحم بالقرار المكين:
جاء في سورة (المؤمنون): ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ). (5) وفي سورة المرسلات: ( أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ). (6)
ذكرنا معنى القرار لغة في قوله تعالى: ( أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ). (7)
__________
(1) التبيان في إعراب القرآن 2/275.
(2) محاسن التأويل 17/5.
(3) ينظر الجامع لأحكام القرآن 19/121 حاشية الصاوي على الجلالين 4/273 فتح القدير 5/344.
(4) علم الأجنة 38.
(5) المؤمنون /12-13.
(6) المرسلات /20-23.
(7) النمل /61.(1/24)
أما أقوال المفسرين في هذه الآية: فقد فسروا القرار هنا بالرحم فجعلنا الماء المهين في رحم استقر فيها متمكن والرحم معد لذلك حافظ لما أودع فيه إلى قدر معلوم يعني مدة معينة (1) قال القرطبي (2) في قرار مكين في مكان حريز وهو الرحم وإلى هذا أيضاً ذهب الشوكاني.
التفسير العلمي للقرار المكين:
لقد تبين من الناحية العلمية دقة وصدق هذا الوصف فالرحم قرار مكين بكل ما ينطبق عليه هذا الوصف ففي هذا المكان يكون الجنين في مأمن عن الصدمات ولا يضره أن تمارس أمه أعمالها اليومية ولعل من أهم الأسباب التي تجعل الرحم قراراً مكيناً هو كما يلي:
1- يكون الجدار الداخلي للرحم عند مرحلة النطفة الأمشاج (البيضة المخصبة) في الدور الإفرازي من الدورة الشهرية للمرأة مما يسهل عملية استقبال النطفة.
2- ازدياد سمك الرحم في هذا الدور ليحمي عملية الزرع والإنبات الربانية من الصدمات الخارجية.
3- يكون الرحم في مرحلة النطفة الأمشاج والانزراع داخل مركز الحوض وذلك قبل أن يكبر ويبرز من الحوض إلى التجويف البطني في الأسبوع الثاني عشر تقريباً والحوض صندوق عظمي دائري قوي، تبطنه عضلات قوية من الداخل وتحيط به عضلات أقوى من الخارج والرحم معلق في الوسط ما بين المثانة البولية والمستقيم بواسطة الأربطة والصفافات التي تمسك بالرحم من جميع جوانبه الخارجية ومع ذلك فهي تسمح له بالحركة والنمو حتى نهاية الحمل.
4- كما نلاحظ توازنا عجيبا بين الضغط الموجود في تجويف البطن وتجويف الحوض مما يساعد على سلامة الجنين.
__________
(1) ينظر جامع البيان 29/35 تفسير القرآن العظيم 4/461 تفسير الجلالين 785 إرشاد العقل السليم 9/79 فتح القدير 5/357.
(2) الجامع لأحكام القرآن 19/160.(1/25)
5- ويستقر الرحم أيضاً نتيجة إفراز هرمون البروجسترون الذي يجعل انقباضات وتقلصات الرحم بطيئة فيحافظ على سلامة الجنين من الإسقاط أو الموت داخل الرحم ويقوم النسيج المسمى (الجسم الأصفر) في كل من المبيض بإنتاج وإفراز الهرمونات الحافظة للجنين في الفترة الأولى من الحمل وتقوم المشيمة فيما بعد بهذا الدور. (1)
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
المراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر فسماه بالمصدر ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها كقولك سائر يقول أبو حيان (لتمكن من يحل فيه فوصف بذلك على سبيل المجاز كقولك طريق سائر لكونه يسار فيه. أو لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال لأنها تمكنت من حيث هي وأحرزت. (2)
وهكذا فإن كلمة (قرار) قد استعملت في القرآن الكريم لكل المعاني العلمية التي ذكرناها وقد وصف القرآن هذا القرار بالمصدر ليشمل كل هذه المعاني بهذا الوصف الدقيق المعجز فهو لفظ معبر جامع. (3)
__________
(1) ينظر كتاب مطابقة على الأجنة لما في القرآن والسنة 30 وينظر حقائق القرآن والعلم الحديث 10. برامج الإعجاز العلمي في القرآن مسجلا على قرص ليزري إنتاج شركة الديوان 2أ. برامج المعجزة الخالدة إنتاج شركة المروج/ قرص ليزري تيسير الرحيم الرحمن 70-71 إعجاز القرآن في خلق الإنسان 60-62.
(2) ينظر الكشاف 3/765 التفسير الكبير 23/74 البحر المحيط 7/551.
(3) ينظر علم الأجنة 38 بتصرف.(1/26)
أما قوله مكين فهو على وزن فعيل ومعلوم أن هذا الوزن يدل على المبالغة فكما علمنا أنه يقع في وسط الجسم، وفي مراكز الحوض وهو محاط بالعظام والعضلات والأربطة إلى غيرها من الأسباب التي تدل على أنه مكين أما على قول أبي حيان (لتمكن من يحل فيه) فكما هو معلوم في اللغة مجيء الفعيل بمعنى مفعول كما يقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فرجيم فعيل بمعنى مفعول أي مرجوم فالمعنى في هذه الآية أن المكين بمعنى متمكنٌ منه وهذا العدول يدل على شدة تلك الصفة فالجنين متمكن أشد الإمكان في هذا القرار.وهذا أيضاً لفظ جامع معبر عن كل المعاني التي تبين تمكن الرحم وتثبيته في جسم الأم. (1) وكذلك تمكنه في حفظ الجنين في داخله وكذلك تمكن الجنين في هذا القرار.
وهكذا فإن كل وصف يتضمن العلاقة بين الجنين والرحم وبين الرحم وجسم الأم، قد أدخل في معنى الكلمتين (قرار) و (مكين) اللتين تعبران تعبيراً تاماً عن حقيقة الرحم ووظائفه الدقيقة. (2) وهذا يدل على إعجاز القرآن الكريم اللغوي الذي مكنه بهذا الإيجاز الشديد أن يختزن كل هذه العلوم ليشير إلى جانب إعجازه البلاغي إعجازه العلمي الدقيق.
ثالثاً- مرحلة العلقة:
__________
(1) ينظر علم الأجنة 48.
(2) ينظر علم الأجنة 48.(1/27)
قال تعالى: ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ..) (1) وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ..). (2) وقال تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ). (3) وقال تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ). (4) وقال تعالى: ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ). (5)
العلق في اللغة: قال الخليل (6) : العَلَقُ: الدم الجامد قبل أن ييبس والقطعة عَلَقَة والعلقة: دُويبة حَمراء تكون في الماء، تُجْمَعُ على علق. وقال الجوهري (7) وعُلِقَتِ الدابة إذا شربت الماء، فعلقت بها العَلَقَة.
وجاء في اللسان (8) : عَلِق بالشيء عَلَقاَ وعَِلقةٌ ينشب فيه.. وعُلقَ الثوبُ من الشجر عَلَقاً وعُلوقا: بقي متعلقاً به ... والعَلق كل ما عُلَّقَ .. وقيل الدم الجامد الغليظ.. والعَلق دُوَيدة حمراء تكون في الماء تَعْلَق بالبدن وتمص الدم ... وعلقت المرأة إذا حبلت.
وفي المفردات للراغب (9) : العَلق التشبث بالشيء، يقال علق الصيد الحُبالة.
أقوال المفسرين في قوله (علقة):
__________
(1) المؤمنون /14.
(2) الحج /5.
(3) العلق / 1-2.
(4) غافر /67.
(5) القيامة /36-38.
(6) العين (علق) 1/161.
(7) الصحاح (علق) 4/1529.
(8) اللسان (علق) 10/263.
(9) مفردات الراغب (علق) 513.(1/28)
لا تختلف أقوال المفسرين (1) في هذه الآيات عما قاله المعجميون أن معنى علقة الدم الجامد والعلق الدم العبيط أي الطري وقيل شديد الحمرة وقال القرطبي والعلقة الدم الجامد وإذا جرى فهو مسفوح (2) وقالوا أيضاً (ثم خلقنا النطفة علقة) بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء وقال ابن كثير (3) ، فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة، قال الصابوني (4) وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه.
التفسير العلمي والضوابط اللغوية فيه:
تلتصق النطفة التامة التكوين التي تسمى في هذه المرحلة بالمتكسية الجرثومية (BLA stocyst) بجدار الرحم في اليوم السادس من بداية طور الحرث (الإنغراس Implanation) حتى تنزع تماماً وتستغرق هذه العملية أكثر من أسبوع حتى تلتصق النطفة بالمشيمة البدائية بواسطة ساق موصلة تصبح فيما بعد الحبل السري وفي أثناء عملية الحرث تفقد النطفة شكلها لتتهيأ لأخذ شكل جديد وهو العلقة، ووصف القرآن الكريم هذا التعلق بالعلقة.
وهذا يتفق مع معنى (التعلق بالشيء) الذي يعد أحد مدلولات (كلمة علقة).
أما إذا أخذنا المعنى الحرفي للعلقة (دودة عالقة) فإننا نجد أن الجنين يفقد شكله المستدير ويستطيل حتى يأخذ شكل الدودة.ثم يبدأ بالتغذي من دماء الأم، مثلما تفعل الدودة العالقة، إذ تتغذى من دماء الكائنات الأخرى، ويحاط الجنين بمائع مخاطي تماماً، مثلما تحاط الدودة بالماء. ويبين اللفظ القرآني (علقة) هذا المعنى بوضوح طبقاً لمظهر وملامح الجنين في هذه المرحلة.
__________
(1) ينظر الجامع لأحكام القرآن 12/6 ، 20/119 تفسير القرآن العظيم 3/241 أنوار التنزيل 2/61 إرشاد العقل السليم 6/126 محاسن التأويل 12/75.
(2) جامع لأحكام القرآن 20/119.
(3) تفسير القرآن العظيم 3/241.
(4) صفوة التفاسير 2/281.(1/29)
وطبقاً لمعنى (دم جامد أو غليظ) للفظ العلقة ، نجد أن المظهر الخارجي للجنين وأكياسه يتشابه مع الدم المتخثر الجامد الغليظ لأن القلب الأولي وكيس المشيمة، ومجموعة الأوعية الدموية القلبية تظهر في هذه المرحلة. وتكون الدماء محبوسة في الأوعية الدموية حتى وإن كان الدم سائلاً، ولا يبدأ الدم في الدوران حتى نهاية الأسبوع الثالث وبهذا يأخذ الجنين مظهر الدم الجامد أو الغليظ مع كونه دماً رطباً. (1)
والذي يبدو أن وصف الخليل كان دقيقاً جداً حينما قال العلق الدم الجامد قبل أن ييبس.
أما المدة الزمنية التي يستغرقها التحول من نطفة إلى علقة فإن الجنين خلال مرحلة الانغراس أو الحرث يتحول من مرحلة النطفة ببطء ، إذ يستغرق نحو أسبوع منذُ بداية الحرث (اليوم السادس) إلى مرحلة العلقة، حتى يبدأ في التعلق (اليوم الرابع عشر أو الخامس عشر). ويستغرق بدء نمو الحبل الظهري حوالي عشرة أيام (اليوم السادس عشر) حتى يتخذ الجنين مظهر العلقة. (2)
والدلالات الواردة في الآيات المذكورة فيما يتعلق بالفترة التي تتحول فيها النطفة إلى علقة، تأتي من حرف العطف (ثم) الذي يدل على انقضاء فترة زمنية حتى يتحقق التحول إلى الطور الجديد. (3)
رابعاً- مرحلة المضغة:
__________
(1) ينظر علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة 58-63 مجلة الإعجاز العلمي / وصف التخلف البشري/ البروفيسور كيث مور أستاذ علم التشريح وبيلوجيا الخلية / جامعة تورنتو – كندا ص14-16 ، وينظر إعجاز القرآن في خلق الإنسان 29-41.
(2) ينظر علم الأجنة 63 مجلة الإعجاز العلمي / د. كيث مور/16.
(3) علم الأجنة 64. مجلة الإعجاز العلمي 16-17.(1/30)
قال تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ). (1)
وقال تعالى أيضاً: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ). (2)
المضغة في اللغة:
قال الخليل (3) : المُضاغُ كل ما يمضغ والمضغة: قِطعة اللحم ... والمضغة كل لحم يخلق من علقة ... والمضغُ من الأمور صغارها.
وفي اللسان (4) : مَضَغَ يَمْضَغُ مضْغا: لاك. وأمْضَغه الشيء ومضَّغه لاكه إياه ... ومضَغَ الطعام يَمضَغه مَضْغا ... والمضُغْة القطعة من اللحم لمكان المَضغِ أيضاً، التهذيب: المضغة قطعة اللحم، وقيل تكون المضغة غير اللحم.. وقال خالد بن جَنْبةَ: المضغةُ من اللحم قَدرُ ما يُلْقى الإنسان في فيه ... والجمعُ مُضَغُ.
أقوال المفسرين:
فسر المفسرون المضغة: بالقطعة الصغيرة من اللحم قدر ما يمضغ. (5)
__________
(1) المؤمنون /12-14.
(2) الحج /5.
(3) العين (مضغ) 4/370.
(4) لسان العرب (مضغ) 8/450-452.
(5) ينظر جامع البيان 18/8، الكشاف 2/746 زاد المسير 5/47 التفسير الكبير 23/8 الجامع لأحكام القرآن 12/906 أنوار التنزيل 2/680 فتح القدير 3/436 محاسن التأويل 12/75.(1/31)
وقد أشار ابن كثير (1) في سورة المؤمنين إلى أن المضغة هي القطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط وذكر ذلك أيضا الصابوني. (2)
واختلف المفسرون في قوله تعالى (مخُلقة وغير مخلقة إلى أقوال): قيل المخلقة ما كان خلقاً سوياً وغير المخلقة ما دفعته الأرحام وهو السقط وقيل معنى ذلك المضغة مصورة أنسانا وغير مصورة فإذا صورت فهي مخلقة وإذا لم تصور فهي غير مخلقة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء (3) قال الرازي (4) : كأن سبحانه قسم المضغة إلى قسمين: أحدهما تامة الصور والحواس والتخطيط. وثانيهما: الناقصة من هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضغة منها ما خلقه أنساناً تاماً بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك. فكأن الله تعالى يخلق المضُغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/241.
(2) صفوة التفاسير 2/304.
(3) ينظر جامع البيان 17/116-117. وينظر الكشاف 2/746 تفسير القرآن العظيم 3/207-208. صفوة التفاسير 2/281.
(4) التفسير الكبير 23/8.(1/32)
أما ابن كثير فيرى المضغة لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء، فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ولهذا قال تعالى :(ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة) أي كما تشاهدونها (لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها. (1) أما القاسمي فيقول (والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولاً قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء). ثم ظهرت بعد ذلك شيئاً فشيئاً (لنبين لكم) أي بهذا التدريج، قدرتنا وحكمتنا، وأن ما قَبِلَ التغير والفساد والتكوّن مرة، قَبِلَها أخرى. وأن من قدر على تغييره وتصويره أولاً، قدر على ذلك ثانياً). (2)
التفسير العلمي:
اعتمد التفسير العلمي للآيتين على قواعد لغوية وعلى أساسها فسر المفسرون العلميون هذه الآية وكما يرون أنها مطابقة لما وصلت إليه علومهم يقول د. كيث مور : يكون الجنين في اليومين 23 – 24 في نهاية مرحلة العلقة ثم يتحول إلى مرحلة المضغة في اليومين 25-26 ويكون هذا التحول سريعاً جداً، ويبدأ الجنين خلال آخر يوم أو يومين من مرحلة العلقة اتخاذ بعض خصائص المضغة فتأخذ العلقات (Somites) في ظهور لتصبح معلماً بارزاً لهذا الطور (3) ويصف القرآن الكريم هذا التحول السريع من طور العلقة إلى طور المضغة باستخدام حرف العطف (فـ) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث.
ونظراً للعديد من الفلقات (الكتل البدنية) التي تتكون فإن الجنين يبدو وكأنه مادة ممضوغة عليها طبعات أسنان واضحة فهو مضغة.
ويمكن إدراك تطابق لفظ (مضغة) لوصف العمليات الجارية في هذا الطور في النقاط الآتية (4) :-
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 3/207.
(2) محاسن التأويل 12/8.
(3) علم الأجنة 64 – 65.
(4) المصدر نفسه 67 – 69.(1/33)
1- ظهور العلقات التي تعطي مظهراً يشبه مظهر الأسنان في المادة الممضوغة وتبدو وكأنها تتغير باستمرار مثلما تتغير أثار طبع الأسنان في شكل مادة تمضغ حين لوكها – وذلك للتغير السريع في شكل الجنين – ولكن آثار الطبع أو المضغ تستمر ملازمة، فالجنين يتغير شكله الكلي، ولكن التركيبات المتكونة من الفلقات تبقى .. وكما أن المادة التي تلوكها الأسنان يحدث بها تغضن وانتفاخات وتثنيات فإن ذلك يحدث للجنين تماماً.
2- تغير أوضاع الجنين نتيجة تحولات في مركز ثقله من تكون أنسجة جديدة، ويشبه ذلك تغير وضع وشكل المادة حينما تلوكها الأسنان.
3- وكما تستدير المادة الممضوغة قبل أن تبلع. فإن ظهر الجنين ينحني ويصبح مقوساً شبه مستدير مثل حرف (C) بالإنكليزية .
4- يكون طول الجنين حوالي (1) سم في نهاية المرحلة، وذلك مطابق للوجه الثاني من معاني كلمة مضغة وهو (الشيء الصغير من المادة) وهذا المعنى ينطبق على حجم الجنين الصغير. لأن جميع أجهزة الأسنان تتخلق في مرحلة المضغة ولكن في صورة برعم فهو إذن مضغة لأن مضغ الأمور صغارها وهذا الإنسان بجميع أجهزته طوله 1 سم.
وأما المعنى الثالث الذي ذكره بعض المفسرين للمضغة (في حجم ما يمكن مضغه) فإنه ينطبق ثانية على حجم الجنين، ففي نهاية هذا الطور يكون طول الجنين (1) سم، وهذا تصغر حجم لمادة يمكن أن تلوكها الأسنان.
... وأما طور العلقة السابق فقد كان الحجم صغيراً لا يتيسر مضغه إذ يبلغ (3.5)ملم طولاً، وينتهي طور المضغة بنهاية الأسبوع السادس. ولا تتمايز الفلقات في البداية، ولكنها سرعان ما تتمايز إلى خلايا تتطور إلى أعضاء مختلفة، وبعض هذه الأعضاء تتكون في مرحلة المضغة، والبعض الآخر في مراحل لاحقة وإلى هذا المعنى تشير الآية القرآنية (.. ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ..) (1) .
__________
(1) الحج / 5.(1/34)
... وجاء في كتاب مع الطب في القرآن للدكتورين: عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز ما يأتي: ( تطور المضغة يمر إذا بمرحلتين : المرحلة الأولى حيث لم يتشكل أي عضو أو أي جهاز وسميناها مرحلة المضغة غير المخلقة، و المرحلة الثانية حيث تم فيها تمييز الأجهزة المختلفة وسميناها المضغة المخلقة، وهكذا يتضح جلياً إعجاز القرآن الكريم في وصفه لطور المضغة بقوله تعالى : ( ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة). وعلى ذلك فقد عبّر المؤلفان أن مرحلة المضغة تبدأ من الأسبوع الثالث وتكون هذه المرحلة غير مميزة حتى نهاية الأسبوع الرابع وتكون في هذه المرحلة غير مميزة حتى نهاية الأسبوع الرابع، ويبدأ التمايز في بداية الأسبوع الخامس وهو ما يؤدي إلى ظهور الأعضاء والأجهزة، وبذلك يكون قبل مرحلة التمايز هو المضغة غير المخلقة و ما بعد التمايز يعتبر المضغة المخلقة (1) .
__________
(1) إعجاز القرآن في خلق الإنسان 58 – 59.(1/35)
... ولعل قول الدكتور ناطق محمد جواد النعيمي أكثر وضوحاً في ذلك حيث يقول : ( في يوم 24 –25 من عمر الجنين تتغير العلقة تدريجياً إلى مرحلة المضغة ، في يوم 26 –27 من عمر الجنين يتغير شكل العلقة إلى شكل من الانتفاخات الجسمية Somit وذلك من طبقة الميزوديوم Mesoderm ، وهذه الانتفاخات تجعل جسم الجنين شكلاً ذا انتفاخات غير منتظمة لا يمكن وصف شكلها الخارجي إلا بكلمة المضغة التي تعني اللقمة الممضوغة وعليها أثار أسنان الطواحن، وهذه الانتفاخات الجسمية Somits هي عبارة عن تشكيل أوليات لأجهزة الجسم، فالخلايا الداخلية بعضها قد تخصصت إلى تكوين جهاز المركزي و المحيطي، و الجهاز الهضمي وملحقاته وهكذا، وبعضها الآخر لا زال غير متخصص بعد. لهذا نرى أن الله عز وجل قد وصف شكلها الخارجي بالمضغة وهي اللقمة الممضوغة بالأسنان، فليس لها شكل منتظم كما وصف تشريحها من الداخل أيضاً بكلمات قليلة و مركزة (... ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ..) وصدق الله العظيم لهذا الوصف العلمي الدقيق (1) .
... ويقول عبد المجيد الزنداني (2) : لو أننا شرحنا الأجزاء الداخلية للمضغة سنجد أن معظم الأجهزة قد تخلقت وأن جزءاً من الخلايا قد تخلق وجزءاً آخر لم يتخلق بعد وإذا أردنا أن نصف هذه المضغة فهي (مخلقة وغير مخلقة) كما يقول الدكتور البرفسور مارشال جونسون (3) .
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
__________
(1) ينظر مطابقة علم الأجنة لما في القرآن و السنة 43.
(2) ينظر كتاب إنه الحق 15، وتيسير الرحيم الرحمن 48 – 49.
(3) مارشال جونسون رئيس قسم التشريح ومدير معهد دانيال بجامعة يوماس جفرسون بفلادلفيا في الولايات المتحدة الامريكية ينظر تيسير الرحيم الرحمن 49.(1/36)
... عند دراسة موضوع معين في القرآن الكريم فإن هذا يحتاج إلى جمع الآيات المتعلقة بهذا الموضوع لأن القرآن الكريم نص واحد يفسر بعضه بعضاً فما يخفى في آية قد يوضح في آية أخرى ولا يوجد تعارض بين الآيات فما كان ظاهرها متعارض فهذا يعود إلى عدم العلم الدقيق وأساليب تلك الآيات وفي قوله تعالى (مضغة) نجد في سورة المؤمنين يستعمل حرف العطف (ف) الذي يفيد التتابع السريع للأحداث قال تعالى :( فخلقنا العلقة مضغة) وبين الدكتور كيث مور أن الفاء هنا تفيد سرعة تحول الجنين من طور العلقة إلى طور المضغة وإذا رجعنا إلى سورة الحج نجد حرف العطف (ثم) – الذي يفيد التراخي هو المستعمل في عطف المضغة المخلقة وغير المخلقة على العلقة قال تعالى : (.. ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ..) وإذا عدنا إلى أقوال المفسرين نجد منهم من قال (فخلقنا العلقة مضغة) أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة، أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط ومنهم ابن كثير قال هذا في سورة المؤمنين وهذا ما أكده الدكتوران : عبد الحميد دياب وأحمد قرقوز من أن تطور المضغة يمر بمرحلتين المرحلة الأولى حيث لم يتشكل أي عضو أو أي جهاز وسميناها مرحلة غير المخلقة. على أن تسمية غير مخلقة يفيد في سورة الحج معنا آخر سنذكره ولم يذكر هذا في سورة المؤمنين وأيضاً قول الدكتور ناطق محمد جواد النعيمي من أن جسم الجنين يمر بانتفاخات غير منتظمة لا يمكن وصف شكلها الخارجي إلا بكلمة المضغة وقد بين أن هذه الانتفاخات الجسمية هي عبارة عن تشكيل أوليات لأجهزة الجسم.(1/37)
نستنتج من ذلك أن القرآن الكريم استعمل حرف الفاء والذي يفيد التتابع السريع في وصف بداية تكوين المضغة فالعلقة تتحول إلى مضغة بسرعة ولكن هذه المضغة في مرحلتها الأولى ولم تتخلق بعد وإن ظهرت بعض الكتل البدنية وقد وصفت بالمضغة لأن حجمها الصغير لا يتنافى مع كونه مضغة فهي بقدر المضغة الصغيرة إضافة إلى ما يحدث من تطورات سريعة تجعلها تشبه المضغة في مظهرها الخارجي كما ذكر د. كيث مور أما قوله تعالى في سورة الحج (.. ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة..) عطف بثم لأن مرحلة تحول العلقة إلى مضغة ووصف المضغة بأنها مخلقة وغير مخلقة يحتاج إلى وقت أطول لأن هذه المضغة بهذا الوصف هو وصف المرحلة الثانية أو المتأخرة للمضغة وكما ذكر ابن كثير أن المضغة لا شكل فيها ولا تخطيط، ثم يشرع في التشكيل و التخطيط فيصور منها رأس ويدان ... الخ على أن التفسير العلمي يؤكد بداية هذا التكوين وتخصص الخلايا قد بدأ في المرحلة الأولى للمضغة كما أشار الدكتور كيث مور ووصف المضغة في سورة الحج بـ (المخلقة وغير مخلقة) هي وصف للمرحلة الثانية وليس معنى مخلقة المرحلة الثانية وغير مخلقة المرحلة الأولى ويدل على هذا أنه قدم قوله مخلقة على قوله (غير مخلقة) والذي يقرأ هذه السورة يرى سياق الآية يسير على الترتيب قال تعالى : (فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة).
... ولا داعي إلى تكلف تفسير الآية والذي يبدو أن تفسير الزنداني أدق وهو أن مخلقة وغير مخلقة هي صفة لمضغة واحدة في وقت معين وهو أن نصفها قد بدأ فيه الحياة والآخر لم يتخلق بعد. فهو يوضح المرحلة المتأخرة لهذه المضغة وبشكل دقيق لا يمكن معرفته وقت نزول القرآن وبهذا يتضح دقة استعمال القرآن الكريم للحروف وإعجازه العلمي.(1/38)
... ومن الناحية الصرفية نجد القرآن قد استعمل صيغة (مُفَعَّلة) في وصف المضغة : وذكر ابن عاشور أن التخليق : صيغة تدل على تكرر الفعل، أي خلقاً بعد خلق، أي شكلاً بعد شكل (1) والذي يبدو أن مخلقة جاءت بهذه الصيغة لتدل على كثرة الأعضاء كما أشار القدماء إلى أن مخلقة التي خلق فيها الرأس و اليدين و الرجلين وقد قال أبو حيان (2) ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منهما مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأنه فيه خلقاً كثيرة. وقد أشار الآلوسي أيضاً إلى أن صيغة التفعيل هي لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق و صورة. وذكر أيضاً أن مخلقة بالجر صفة (مُضْغة) وكذا في قوله تعالى (وغير مخلقة) (3) وفي قراءة (4) ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال ومن النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه (5) . فقوله مخلقة هي صفة (للمضغة) التي هي أحد الأطوار فلو كانت هذه الصيغة تدل على التكرير كما يقول ابن عاشور لم يوصف بها المضغة فقط وإنما يشمل جميع الأطوار. فالوزن يأتي هنا للمبالغة.
... ومن الناحية البلاغية لا يخلو التشبيه من دقة متناهية في وصف هذه المضغة باللقمة كما أشار الدكتور كيث مور، كما نجد في هاتين الآيتين مشاهد مطولة تصف مرحلة الجنين وتُعرض بهذا التفصيل، وتُذكر فيها جميع الخطوات.. لأنها معروضة للعبرة، وللتأثير الوجداني في النفوس، ولبيان دقة العلم الإلهي. فحينئذٍ يحسن ولا شك التطويل (6) .
خامساً- طور العظام و اللحم:
قال تعالى : (.. فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ..) (7)
أقوال المفسرين :
__________
(1) التحرير و التنوير 17/198.
(2) ينظر البحر المحيط 7 /485.
(3) روح المعاني 17/116.
(4) البحر المحيط 7 / 485.
(5) البحر المحيط 7 /485.
(6) ينظر التصوير الفني في القرآن الكريم 105.
(7) المؤمنون / 13.(1/39)
... قوله تعالى : فخلقنا المضغة عظاماً أي صيرنا اللحم عظاماً صلبة قال ابن عباس : وهو عظم صلب (فكسونا العظام لحماً) أي سترنا تلك العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها (1) .
التفسير العلمي :
... يستمر طور المضغة حتى الأسبوع السادس تقريباً و طور العظام يظهر في بداية الأسبوع السابع بتطور الهيكل العظمي الغضروفي (2) .
... وقد أثبت العلم أن الخلية الأم للنسيج العضلي و العظمي و العصبي هي خلية واحدة للكل. وأول تشكيل للجنين يبدأ بالهيكل العظمي، إذن فأول ما يظهر في الإنسان من هذه الأنسجة هو العظام، ثم تنشأ العضلات حول العظام، وهكذا تتوالى الأنسجة التي تخرج منها بعد ذلك مختلف الأعضاء (3) .
... وتظهر أولى مراكز التعظم في الهيكل الغضروفي في بداية الأسبوع السابع فيتصلب البدن ويتميز الرأس من الجذع وتظهر الأطراف ثم يبدأ الجنين في طور الآخر من التخليق وهو إكساء العظام باللحم وهذا يتوافق مع ما ثبت في علم الأجنة من أن العظام تخلق أولاً ثم تكسى بالعضلات في نهاية الأسبوع السابع وخلال الأسبوع الثامن من تلقيح البيضة وبهذا تنتهي مرحلة التخليق حيث تكون جميع الأجهزة الخارجية و الداخلية قد تشكلت ولكن في صورة مصغرة ودقيقة وبنهاية الأسبوع الثامن تنتهي مرحلة التخليق (4) .
الضابط اللغوي في التفسير العلمي:
... وبشير حرف العطف (ف) في الآية الكريمة إلى أن طور العظام ينمو بعد طور المضغة بفترة قصيرة كما أشار إليه العلم الحديث وكذلك يشير حرف الفاء إلى التتابع السريع بين مرحلة العظام و مرحلة كساء العظام باللحم.
__________
(1) ينظر جامع البيان 18/9 تفسير البغوي 3 /304 التفسير الكبير 23 / 74 تفسير القرآن العظيم 3 /241 إرشاد العقل السليم 6/136 فتح القدير 3/477 محاسن التأويل 12/75 صفوة التفاسير 2/304.
(2) ينظر علم الأجنة 79.
(3) الإشارات العلمية في القرآن الكريم / د. كارم السيد عنيم 456.
(4) تيسير الرحيم الرحمن 52-53.(1/40)
سادساً- طور النشأة الأخرى:
... قال تعالى (.. ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (1) .
... واختلف أهل التأويل في معنى ذلك قيل هي نفخ الروح قاله قتادة وغيره وقال قتادة نبات الأسنان و الشعر وعن مجاهد استواء الشباب وقيل خروجه من بطن أمه وقيل خلقاً آخر صورة البدن وعن ابن عباس يعني ننقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلاً ثم نشأ صغيراً، ثم احتلم وصار شاباً، ثم كهلاً ثم شيخاً ثم هرماً (2) .
التفسير العلمي والضابط اللغوي فيه:
... تبدأ مرحلة النشأة في الأسبوع التاسع، ويكون معدل النمو بطيئاً جداً حتى الأسبوع الثاني عشر وحينئذ يدخل طوراً جديداً من النمو السريع و التغير الكبير (3) .
... وقد ورد حرف العطف (ثم) مع أنشاناه في الآية ليفيد أن مرحلة النشأة تأتي بعد مرحلة الكساء باللحم على التراخي في الزمن بصورة تدريجية وتبدأ مرحلة النشأة (المرحلة الجنينية) في الأسبوع التاسع، ولكن هذه المعاني لا تبدأ في الوضوح إلا فيما بعد كما أن بعض الأعضاء يظهر في الأسبوع الحادي عشر. ويشير القرآن الكريم إلى هذا التأخر بحرف العطف (ثم) (4) . فتبارك الله أحسن الخالقين أحسن المصورين والمقدرين (5) . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار. وفق سنة لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف حتى تبلغ الإنسان ما هو مقدار له من مراتب الكمال الإنساني (6) .
__________
(1) المؤمنون / 14.
(2) ينظر جامع البيان 18/9 ، زاد المسير 5/462 – 463 تفسير البغوي 3/304 فتح القدير 3/477.
(3) ينظر علم الأجنة 91. تيسير الرحيم الرحمن 53.
(4) علم الأجنة 92.
(5) ينظر زاد المسير 5 /163.
(6) في ظلال القرآن 4 /2459.(1/41)
المصادر
- القرآن الكريم
- أبحاث ونصوص في فقه اللغة العربية – د. رشيد عبد الرحمن العبيدي – مطبعة التعليم العالي – بغداد 1988م .
- إتحاف فضلاء البشر / للشيخ احمد بن محمد الدمياطي الشهير بالبناء ( ت 1117م ) صححه علي محمد الضباع – مطبعة المشهد الحسيني .
- الإتقان في علوم القرآن جلال الدين السيوطي ( ت 911ه ) ط1 ، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان ، 1407هـ – 1987م .
- أحكام الفضاء في الفقه الإسلامي – عبيد عبد الله عبد الطائي – رسالة ماجستير – كلية العلوم الإسلامية – جامعة بغداد 1422هـ – 2001م .
- ارتياد الفضاء بين العلم والقرآن / تأليف منصور محمد حسب النبي ط1 دار الفكر العربي – مصر ، 1417هـ – 1997م .
- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم / محمد بن محمد العمادي أبو السعود . ( ت951 هـ ) دار إحياء التراث العربي / بيروت .
- الأرض التي نعيش عليها / روبرت ماينلان / ترجمة محمد جمال الدين الفندي مكتبة نور العلم .
- الأرض في القرآن الكريم والعلم الحديث – عبد الوهاب حمد عبد العزيز الشيخ – أطروحة دكتوراه – كلية العلوم الإسلامية – جامعة بغداد 1422هـ – 2001م .
- أساس البلاغة / تأليف جار الله محمود بن عمر الزمخشري ، دار صادر بيروت ( د.ط) ، ( د.ت ) .
- أسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن الكريم ، الدكتور محمود السيد شيخون ، مكتبة الكليات الأزهرية ، ط1 ، 1413هـ – 1983م ، القاهرة .
- أسرار التنزيل وأنوار التأويل / فخر الدين الرازي تـ/ محمود أحمد محمد دار واسط 1406هـ – 1985م .
- أسرار النجوم / تأليف حسين دميرقان ترجمة : بابا علي طاهر حميد د. ط . د ت .
- الإسلام في عصر العلم / تأليف الدكتور محمد احمد الغمراوي ط1 مطبعة السعادة / مصر ، 1973م .
- الإسلام وغزو الفضاء / محمد سويد ، منشورات دار الرابطة الثقافية ، المطبعة الحديثة – د.ط د.ت .(1/1)
- الإسلام يتحدى / وحيد الدين خان / دار البحوث العلمية - ط2 بيروت ،تحقيق عبد الصبور شاهين ، 1973م .
- إشارات الأعجاز في مظان الإيجاز / تأليف بديع الزمان سعيد النورسي تحقيق : إحسان قاسم ط1 ، دار الأنبار 1409هـ- 1989م .
- الإشارات العلمية في القرآن الكريم / محمد وفا الأميري ط2 1401هـ .
- الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق ، د. كارم السيد غنيم ، ط1، دار الفكر العربي ، القاهرة 1415هـ – 1995م .
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن / محمد أمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي ،عالم الكتب – بيروت .
- أطلس الكون الذري / تأليف د. أنيس مالك الراوي – مطبعة جامعة بغداد .
- الإعجاز الصرفي في القرآن الكريم دراسة نظرية تطبيقية / تأليف الدكتور عبد الحميد احمد يوسف هنداوي ط1 – المكتبة العصرية – بيروت 1422هـ – 2002م .
- إعجاز علم الحياة ( البيولوجيا ) في القرآن الكريم / المهندس محمود يحيى الخطيب ط1 1422هـ 2001م .
- إعجاز القرآن في خلق الإنسان / د. محمد كمال عبد العزيز – مكتبة ابن سينا (د.ط) (د.ت) .
- الإعجاز العلمي في الإسلام / السنة النبوية / محمد كامل عبد الصمد ط4 دار المصرية اللبنانية ، 1417هـ – 1997م .
- الإعجاز العلمي في القرآن / د. السيد الجميلي ط1 – دار الفكر اللبناني بيروت – لبنان ، 1407هـ – 1987م .
- الإعجاز العلمي في القرآن / رعد طاهر رشيد العمري / جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا / كلية الأركان د.ت .
- الإعجاز العلمي في القرآن / محمد السيد أرناؤوط ،مكتبة مدبولي – القاهرة 1989م (د.ط).
- الإعجاز العلمي في القرآن / محمد كامل عبد الصمد ،ط4 ،دار الفكر اللبناني، بيروت لبنان ، 1407هـ – 1987م .
- الإعجاز العلمي في القرآن برهان النبوة / المهندس رائف نجم ط2 ، المكتبة الإسلامية عمان 1403هـ .(1/2)
- إعجاز القرآن في العلوم الجغرافية / د. محمد مختار عرفات ط1 ، دار أقرأ، دمشق – سوريا 1424هـ – 2003م .
- إعجاز القرآن اللغوي في فكر النورسي / د. عبد الرزاق عبد الرحمن السعدي، ط1 ،دار الأنبار – بغداد ، 1416هـ – 1995م .
- أعماق الكون / تأليف المهندس سعد شعبان – دار الكتاب العربي د.ط ، د.ت .
- الله والعلم الحديث / عبد الرزاق نوفل ، دار الكتب – القاهرة 1971م .
- الله والكون / د. محمد جمال الدين الفندي – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1976م .
- الانحراف في التفسير المعاصر / عمار الجعفري ( أطروحة دكتوراه ) مقدمة إلى كلية العلوم الإسلامية / أصول الدين والتفسير 2002م .
- الإنسان والكون في الإسلام / أبو الوفا الغنيمي التفتازي ، دار الثقافة للطباعة والنشر – بغداد ، 1975م .
- أنوار التنزيل وأسرار التأويل / تأليف ناصر الدين أبي سعيد عبد الله محمد الشيرازي البيضاوي – ط1 – دار صادر – بيروت 2001م .
- إنه الحق / عبد الزنداني / نشر المحرابي للتجارة والخدمات العامة .
- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك / أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن عبد الله بن هشام الأنصاري ( ت 761هـ ) ط5 ، دار الجيل بيروت ، 1979م .
- الإيضاح في علوم البلاغة ( المعاني والبيان والبديع ) للخطيب القزويني – جلال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن القزويني ( ت739 هـ ) ،دار الكتب ، ط1 ، بيروت – لبنان 1405هـ – 1985م .
- آيات الله في الآفاق وفي الأنفس / هاشم الدباغ – مطبعة الإرشاد – بغداد 1399هـ – 1979م .
- الآيات الكونية ودلالتها على وجود الله تعالى ، محمد متولي الشعراوي ،
- البحث اللغوي عند الهنود : د. احمد مختار عمر – دار الثقافة بيروت 1972م .
- البحر المحيط في التفسير / محمد يوسف الشهير بابي حيان الأندلسي الغرناطي ( ت745 هـ) دار الفكر بيروت – لبنان ن 1412هت – 1992م .(1/3)
- بحوث المؤتمر الأول للإعجاز القرآني المنعقد ببغداد للمدة من 21-16 رمضان سنة 1410هـ ، 16-20 نيسان 1990م .
- البرهان في علوم القرآن / أبو عبد الله محمد بن بهاء بن عبد الله الزركشي (ت 794هـ) تحقيق / محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعرفة – بيروت ، 1391هـ . ( د.ط ) .
- بصائر جغرافية / رشيد رشدي العامري / بغداد ، 1951م .
- البلاغة والتطبيق / تأليف د. أحمد مطلوب ، د. كامل حسين البصير ط2 دار الكتب والوثائق ببغداد ، 1410هـ 1990م .
- تاج العروس من جواهر القاموس / للإمام محب الدين أبي فيض السيد محمد مرتضى الحسيني الزبيدي ( ت 1205هـ ) دار الفكر .
- تأملات في العلم والدين / تأليف د. أحمد مدحت إسلام ط1 دار الفكر العربي – القاهرة ، 1418هـ 1997م .
- التبيان في إعراب القرآن / أبو البقاء عبد الله بن أبى عبد الله الحسين بن أبى بقاء العكبري . ( ت 616هـ ) تحقيق / علي محمد البجاوي ، دار إحياء الكتب العربية ( د.ط )، (د.ت ) .
- التبيان في تفسير غريب القرآن / شهاب الدين احمد بن محمود المصري ( ت815هـ ) تحقيق : فتحي أنور الدابولي ، ط1 ، دار الصحابة للتراث بطنطا ، القاهرة ، 1992م .
- البيان في علم البيان / شرف الدين الحسين بن محمد بن عبد الله ( ت743هـ) تحقيق / د. توفيق الفيل ، عبد اللطيف لطف الله ط1 ، مطبوعات الجامعة – الكويت ، 1986م .
- التحرير والتنوير / الشيخ محمد الطاهر بن عاشور دار التونسية للنشر 1984م.
- التصوير الفني في القرآن الكريم / سيد قطب ، دار المعارف بمصر ، 1956م .
- التطور اللغوي التاريخي / د. ابراهيم السامرائي ط2 دار الأندلس ، بيروت – لبنان 1401هـ – 1981م .
- التعبير الفني في القرآن الكريم / د. بكري شيخ أمين ط1 ، دار العلم للملايين بيروت – لبنان ، 1994م .
- التعبير القرآني / د. فاضل صالح السامرائي ، دار الكتب للطباعة والنشر ، بغداد ن 1978م .(1/4)
- التعريف والتنكير بين الشكل والدلالة / د. محمود أحمد نحلة ، مكتبة زهراء الشرق القاهرة ، 1999م .
- التعريفات – أبو الحسن علي بن محمد علي الجرجاني المعروف بالسيد الشريف ( ت816هـ) دار الشؤون الثقافية ( آفاق عربية ) عراق – بغداد .
- التفسير البياني للقرآن الكريم / عائشة عبد الرحمن ، ط3 ، دار المعارف بمصر 1968م.
- تفسير جزء عم / تأليف محمد عبده ، مطابع الشعب ، 1903م .
- تفسير الجلالين / العلامة جلال الدين محمد بن احمد المحلي ، جلال الدين عبد الرحمن بن أبى بكر السيوطي ،مكتبة المثنى ، بيروت – لبنان .
- تفسير روح البيان / الشيخ إسماعيل حقي البروسي ( ت1137هـ ) دار الفكر للطباعة والنشر ( د.ط) ، (د.ت) .
- تفسير السمرقندي ( بحر العلوم ) لأبي الليث نضر بن محمد السمرقندي (ت375هـ) تحقيق / د. عبد الرحمن أحمد الزقة ط1 ، مطبعة الإرشاد – بغداد 1406هـ – 1986م.
- تفسير الصنعاني / عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ) ج2 تحقيق / د. مصطفى مسلم محمد ط1 مكتبة الرشد / الرياض 1410هـ .
- التفسير العقلي حجيته وضوابطه / محمد صالح عطية الحمداني ( رسالة ماجستير) كلية العلوم الإسلامية ، 1987م.
- التفسير العلمي للآيات الكونية / تأليف : أحمد ، دار المعارف بمصر 1960م.
- التفسير العلمي للقرآن الكريم / صلاح عبد علي / رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية العلوم الإسلامية / جامعة بغداد / 1987م .
- تفسير غريب القرآن ، / عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدنيوري ، (ت276هـ) ، تحقيق ، السيد صقر ، دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1398هـ 1978م . (د.ط1 ) .
- تفسير القرآن العظيم / أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي (ت774هـ) (4ج) دار الفكر – بيروت – 1401هـ .
- التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب / للإمام فخر الدين الرازي ( ت 604هـ ) ط1 دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان ، 1421هـ – 2000م .(1/5)
- تفسير المراغي / للأستاذ أحمد مصطفى المراغي / دار الفكر ، 1356هـ .
- تفسير المنار / للإمام رشيد رضا ط1 دار الكتب العلمية ، بيروت – لبنان 1420هـ – 1999م .
- تفسير النسفي المسمى بمدارات التنزيل وحقائق التأويل / أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي ،دار الكتاب العربي ، بيروت – لبنان ( د.ط ) ، ( د.ت ) .
- تفسير الواحدي المسمى بتفسير الوجيز في تفسير الكتاب العزيز / ابو الحسن علي بن احمد الواحدي ( ت468هـ) تحقيق صفوان عدنان الداودي ط1 ، دار القلم ، دار الشامية ، دمشق – بيروت ، 1415هـ .
- التفسير الواضح / الدكتور محمد محمود حجازي ، مطبعة الاستقلال الكبرى القاهرة ، ط4 ، 1388هـ – 1968م .
- التفسير والمفسرون / الدكتور محمد حسين الذهبي ، ط3 ، دار القلم بيروت ، 1396هـ – 1976م .
- التلخيص ، للخطيب القزويني ،تحقيق عبد الرحمن البرقوقي ط2 القاهرة 1350هـ – 1732م .
- تهذيب الأسماء واللغات / للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي ( ت 676هـ) / القسم الثاني إدارة الطباعة المنيرية .
- التوقيف على مهمات التعاريف / محمد عبد الرؤف المناوي (ت1031هـ) تحقيق / محمد رضوان الداية ط1 ، دار الفكر المعاصر – بيروت – دمشق ، 1410هـ .
- تيسير الرحيم الرحمن في الإعجاز العلمي للقرآن / تأليف الدكتور لطيف أحمد عبود د.ت د.ط .
- التيسير في القراءات السبع ، لأبي عمرو عثمان الداني (ت444 هـ) ، مطبعة الدولة ، استنبول 1930م .
- جامع البيان في تأويل آي القرآن / أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310 هـ) دار الفكر – بيروت ، 1405هـ .
- الجامع لأحكام القرآن / أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي (ت 671هـ) تحقيق : أحمد بن أحمد البردوني ط2 دار الشعب – القاهرة ، 1372هـ .
- جماليات المفردة القرآنية في كتب الإعجاز والتفسير / أحمد ياسوف ، ط1 ، دار المكتبي سورية – دمشق ، 1415هـ – 1994م .(1/6)
- الجملة العربية تأليفها وأقسامها / فاضل صالح السامرائي ، دار الكتب للطباعة والنشر بغداد ، 1419هـ – 1998م .
- جواهر البلاغة في المعاني والبديع / تأليف أحمد الهاشمي ط12 ، مطبعة السعادة بمصر 1379هـ – 1960م .
- جواهر الحسان في تفسير القرآن / عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت (د.ط) ، (د.ت) .
- الجواهر في تفسير القرآن الكريم / للشيخ طنطاوي جوهري ، ط2 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ، مصر ، 1350هـ .
- حاشية السندي / نور الدين بن عبد الهادي أبو الحسن السندي (ت1138 هـ) تحقيق / أبو الفتاح أبو غدة ط2 8ج مكتبة المطبوعات الإسلامية – حلب ، 1406 – 1986م .
- حاشية الصاوي على تفسير الجلالين / أحمد بن محمد الصاوي (ت1241هـ) راجع تصحيحها الشيخ على محمد الصباغ ، دار الجيل ، بيروت . د.ط .
- حجة القراءات ، للإمام عبد الرحمن بن محمد بن زنجلة أبي زرعة ط4 ، تحقيق سعيد الأفغاني ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1404هـ – 1984م .
- الحجة في القراءات السبع / أبو عبد الله الحسين بن احمد بن خالويه (ت370هـ) تحقيق .د. عبد العال سالم مكرم ط4 دار الشروق – بيروت ، 1401هـ .
- حقائق القرآن والعلم الحديث / عامر تحسين ، مطبعة الزهراء ، الموصل .
- حياة الحيوان الكبرى / تأليف كمال الدين محمد بن موسى بن عيسى الدميري (ت808هـ) ط1 ، دار الكتب العلمية بيروت – لبنان .
- الحيوان / للجاحظ :تحقيق عبد السلام محمد هارون ، القاهرة .
- الخصائص / أبو الفتح عثمان بن جني (ت392هـ) تحقيق / محمد علي النجار عالم الكتب – بيروت . (د.ط) ، (د.ت) .
- خلق الكون بين العلم والإيمان / د. محمد باسل الطائي ط1 ، دار النفائس ، بيروت – لبنان ، 1998م .
- دائرة المعارف الإسلامية – كتاب الشعب – النسخة العربية 13ج .
- دراسات في أصول تفسير القرآن الكريم / دكتور محسن عبد الحميد / مطبعة الوطن العربي / بغداد 1989م .(1/7)
- دراسات في التفسير ورجاله / أبو اليقظان عطية الجبوري ، المطبعة العربية الحديثة – القاهرة .
- الدر المنثور / عبد الرحمن بن كمال جلال الدين السيوطي (ت911هـ) (8ج) دار الفكر، بيروت ، 1993م .
- درة التنزيل وغرة التأويل ، للخطيب الإسكافي ، دار الآفاق الجديدة ، بيروت د.ط ، د.ت .
- دلائل الحق في عظمة الخالق / عزت محمد خيري ، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية / القاهرة / 1972م .
- دور الكلمة في اللغة – ستيفن اولمان ، ترجمة وتعليق كمال محمد بشر – 1962م .
- دورتا الشمس والقمر وتعيين أوائل الشهور العربية باستعمال الحساب / د. حسين كمال الدين ،ط2 ، دار الفكر العربي ، القاهرة 1416هـ – 1996م .
- ديوان الأسود بن يعفر تحقيق الدكتور نوري حمودي القيسي ، وزارة الثقافة والأعلام ، سلسلة كتب التراث .
- ديوان ابن مقبل تحقيق الدكتور عزت حسن ، دار إحياء التراث العربي ، دمشق ، 1381 هـ – 1962م .
- ديوان الحماسة / أبو تمام الطائي دار القلم – بيروت – لبنان .
- ديوان الحجاج / رواية عبد الملك بن قريب الأصمعي تحقيق / الدكتور عزت حسن مكتبة دار الشرق – بيروت – لبنان .
- ديوانا عروة بن الورد والسموأل ، دار صادر ، دار بيروت 1384هـ- 1964م .
- روح الدين الإسلامي / عفيف عبد الفتاح طبارة / ط10 دار العلم للملايين ، (د.ت) .
- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني / أبو فضل محمود الآلوسي (ت1270هـ) دار إحياء التراث العربي بيروت . (د.ت) .
- روعة الكون في ضوء الكشوف الحديثة / لويز . ب . يونج ، ترجمة محمد محمد فرج ،مكتبة الغريب، د.ط ، د.ت .
- زاد المسير في علم التفسير / عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (ت597هـ) 9ج ط3 ، المكتب الإسلامي – بيروت ، 1404هـ .
- السبعة في القراءات / أبو بكر أحمد بن موسى بن مجاهد التميمي البغدادي (ت324هـ) تحقيق : شوقي ضيف ط2 ، دار المعارف – القاهرة ، 1400هـ .(1/8)
- السماء وأهل السماء / عبد الرزاق نوفل / دار الكتاب العربي ، بيروت 1394هـ – 1974م .
- سنن أبي داود / سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي (ت275هـ) / تحقيق : محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الفكر .
- سنن الترمذي / محمد بن عيسى الترمذي السلمي (ت279هـ) تحقيق / أحمد محمد شاكر وآخرون ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت .
- سنن الدارقطني / علي أبو الحسن الدارقطني (ت385هـ) تحقيق / السيد عبد الله هاشم اليماني المدني ، دار المعرفة ، بيروت ، 1386هـ – 1966م .
- السنن الكبرى / أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي (ت303هـ) تحقيق / د.عبد الغفار سليمان البنداري ،ط1، دار الكتب العلمية ، بيروت 1411هـ – 1991م .
- السور المكية دراسة بلاغية أسلوبية / عروبة خليل إبراهيم الدباغ (أطروحة دكتوراه) مقدمة إلى كلية التربية / ابن رشد / 1417هـ – 1997م .
- الشافية / جمال الدين أبو عمر وعثمان بن عمر الدويني (ت646هـ) تحقيق / حسن أحمد العثمان ط1 ، المكتبة المكية – مكة المكرمة ، 1995م .
- شرح ابن عقيل / بهاء الدين عبد الله بن عقيل (ت672هـ) تحقيق / محمد محي الدين عبد الحميد، ط2 ،دار الفكر – دمشق ، 1985م .
- شرح التسهيل – ابن مالك (ت672هـ) – مكتبة الأنجلو المصرية – ط1 مصر ، (د.ت) .
- شرح ديوان عامر بن لبيد العامري / قدم له إحسان عباس ، التراث العربي الكويت 1962م .
- شرح المعلقات السبع / ابن عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزني الدار العربية – بغداد .
- شرح النابغة الجعدي ط1 المكتب الإسلامي للطباعة والنشر بيروت ، 1384هـ – 1964م .
- شعر نصيب بن رباح ( ت 108هـ) جمع وتقديم د. داود سلوم مطبعة الإرشاد – بغداد ، 1967م .
- شهادة الكون / عبد الودود رشيد محمد، ط1 ،طبع شركة السرمد للطباعة المحدودة بغداد ، 1410هأ – 1990م .(1/9)
- الصحاح ( تاج اللغة وصحاح العربية ) / إسماعيل حماد الجوهري / تحقيق : أحمد عبد الغفور العطار ط4 ، دار العلم للملايين ، بيروت – لبنان ، 1407هـ – 1987م .
- صحيح البخاري / محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي (ت256هـ) تحقيق / مصطفى الديب البغا ، ط3 ، دار ابن كثير ، اليمامة ، بيروت ، 1407هـ – 1987م .
- صحيح ابن حبان / محمد بن حبان بن احمد أبو حاتم التميمي (ت354هـ) / تحقيق شعيب الأرنؤوط ط2 ، مؤسسة الرسالة – بيروت ، 1414هـ – 1993م .
- صحيح مسلم / مسلم بن حجاج أبو الحسين القشيري النيسابوري (ت261هـ) تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي ، دار إحياء التراث العربي – بيروت (د.ط) .
- صفوة التفاسير / محمد علي الصابوني ، ط4 ،دار القرآن الكريم ، بيروت 1402 هـ - 1981م .
- الطب محراب الإيمان / خالص جلبي كنجو ، ط1 ، مؤسسة الرسالة / بيروت 1367هـ – 1977م . ومطبعة دار الكتب العربية / بيروت – دمشق 1394هـ- 1974م .
- الطبيعة في القرآن الكريم / الدكتور كاصد ياسر الزيدي / دار الرشيد للنشر بغداد ، 1980م .
- الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز / يحيى بن حمزة العلوي (ت745هـ) منشورات مؤسسة النصر ، مهران ، القاهرة ، 1332هـ – 1914م .
- طريق إلى الله / تأليف : عبد الرزاق نوفل ، ط1 ، مؤسسة الخانجي بالقاهرة 1381هـ – 1962م .
- الظاهرة القرآنية / مالك بن نبي ، ترجمة عبد الصبور شاهين ط3 ، دار الفكر ، بيروت 1968م .
- الظواهر الجغرافية بين العلوم والقرآن / تأليف الدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر ، ط2 الدار السعودية ، 1405هـ – 1985م .
- علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة / المجلس الأعلى للمساجد هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة بمقر العالم الإسلامي / مكة المكرمة / طبع بمطابع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ، (د.ط) ، (د.ت) .(1/10)
- العلم الحديث حجة للإنسان أم عليه ؟ / تأليف الدكتور : عبد الله عبد الرحيم العبادي ط1 ، دار الثقافة – قطر – الدوحة ، 1405هـ – 1985م .
- علم الدلالة / أحمد مختار عمر ، ط1 ، دار العروبة للنشر والتوزيع ، 1402هـ – 1982م.
- العلم في ظلال القرآن والسنة / كلية الصيدلة ، جامعة الموصل ، شركة مطبعة الجمهور ، الموصل .
- علم اللغة العام / الدكتور كمال بشر ، ط1 ، دار المعارف – القاهرة .
- العلوم الطبيعية في القرآن / يوسف مروة / منشورات مروة العلمية / مطابع الوفاء ط1 – بيروت – 1387هـ – 1968م .
- علوم القرآن والتفسير / د. محسن عبد الحميد / مطبعة التعليم العالي والبحث العلمي (د.ط) ، (د.ت) .
- العين – أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ) ، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي ، دار الهلال للنشر ، بغداد 1981م .
- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير / محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت1250هـ) 5ج ،دار الفكر – بيروت . (د.ط) ، (د.ت) .
- الفردوس في مأثور الخطاب / لأبى شجاع بن شهردار شيرويه الديلمي الهمذاني (ت509هـ) / تحقيق محمد السعيد بن بسيوني زغلول / دار الكتب العلمية ط1 ، 1986م .
- الفروق اللغوية / أبو هلال العسكري (ت395هـ) ، طبعه وحققه : حسام الدين القدسي ، دار الكتب العلمية ، بيروت _لبنان ، 1401هـ – 1981م .
- فقه اللغة وسر العربية – أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي – مطبعة الاستقامة بالقاهرة (د.ط) ، (د.ت) .
- في الإسلام والعلم والحيات / الدكتور عبد العزيز عزام 1391هـ – 1971م (د.ط) .
- في ظلال القرآن / سيد قطب ط7 ، دار الشروق ، بيروت ، القاهرة 1398هـ – 1978م .
- في اللهجات العربية – د. إبراهيم أنيس ط2 ، مطبعة لجنة البيان العربي ، 1952م .
- القاموس المحيط / محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت817)، دار الفكر بيروت – لبنان .(1/11)
- القرآن إعجاز يتعاظم / شاكر عبد الجبار ، ط1 ن مطبعة الحوادث ، بغداد . 1985م .
- القرآن تفسير الكون والحياة / محمد عفيفي ، منشورات ذات السلاسل للطباعة والنشر – الكويت ، 1406هـ – 1986م . (د.ط) .
- القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم (دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة) / تأليف : موريس بوكاي ، دار المعارف – مصر ، 1979م . (د.ط) .
- القرآن الكريم والعلوم الحديثة / تأليف : المهندس سعد حاتم مرزه ، بغداد ، 1414هـ – 1993م . (د.ط) .
- القرآن محاولة لفهم عصري / تأليف مصطفى محمود ، ط4 ، دار الشروق – بيروت 1973م .
- القرآن المذهل / البروفسور غازي ملل (جامعة إساك) ترجمة أورفان محمد علي .
- القرآن وإعجازه العلمي / محمد إسماعيل إبراهيم / دار الفكر العربي ، القاهرة ،(د.ط) ،(د.ت) .
- القرآن والطب / د. أحمد محمود سليمان / دار العودة بيروت .
- القرآن والعلم / محمد جمال الدين الفندي / دار المعرفة القاهرة .
- القرآن والعلم الحديث/ تأليف عبد الرزاق نوفل ط1، دار المعارف بمصر 1378هـ – 1959م .
- القرآن والعلوم العصرية / طنطاوي جوهري ط2 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1371هـ – 1951م .
- القرآن يفك لغز الأرض / شاكر عبد الجبار ط1 / مطبعة أسعد بغداد ، 1985م .
- القرآن ينبوع العلوم والعرفان / علي فكري، ط2 ، دار إحياء الكتب العربية مصر ، 1951م .
- قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن / نديم الجسر ، دار التربية (د.ط) ، (د.ت) .
- قصة الخلق / ناطق محمد جواد النعيمي ، وزارة الثقافة والإعلام 2001م . (د.ط) .
- قضية الخلق بين الماديين والمثاليين / عبد الرسول مهدي عودة ط1 ، مطبعة الحسام بغداد 1979م .
- قوانين الله وليست قوانين الطبيعة / الدكتور : محمود سراج الدين عفيفي ، ط1 ، دار الفكر العربي _ 1978م .
- كتاب الإيمان / عبد المجيد عزيز الزنداني ، دار القلم ، بيروت – لبنان ، (د.ط) ، (د.ت) .(1/12)
- كتاب التوحيد / عبد المجيد عزيز الزنداني ، ط3 ، دار الأنبار ، بغداد 1990م .
- الكتاب لسيبويه / لأبي بشر عمر بن عثمان بن قنبر (ت180هـ) تحقيق : عبد السلام محمد هارون ،ط3 ، عالم الكتب ، بيروت 1403هـ – 1983م .
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل عن وجوه التأويل، تأليف / أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري (ت538هـ) ، ط1 ، دار إحياء التراث العربي بيروت – لبنان ، 1404هـ – 2003م .
- كشف الخفاء / إسماعيل بن محمد العجلوني الجراحي (ت1162هـ) / تحقيق : أحمد القلاس، ط4 ،مؤسسة الرسالة – بيروت ، 1405هـ .
- الكليات (معجم مصطلحات والفروق اللغوية )/ لأبى بقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ت1094هـ) تحقيق د.عدنان درويس ، محمد المصري ، دار الكتب الثقافية ، دمشق 1976م .
- كوكب الأرض نقطة زرقاء باهتة رؤية لمستقبل الإنسان في الفضاء / تأليف : كارل ساجان / ترجمة : د. شهرت العالم ، سلسلة كتب شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت ، 1420هـ – 2000م .
- كوكبنا النابض بالحياة / محمد سعيد النعناعي ، دار النهضة مصر . (د.ط) ، (د.ت) .
- الكون الأحدب / الدكتور عبد الرحيم بدر ، ط3 ، دار العلم ، بيروت ، 1980م .
- الكون العجيب / قدوري حافظ طوقان ، دار المعارف ، القاهرة ، 1943م .
- الكون الذي نعيش فيه / روبرت ماينلان / ترجمة الدكتور محمد جمال الدين الفندي ، مكتبة نور العلم ، 1986م .
- الكون في القرآن الكريم دراسة مقارنة / إسماعيل محمد قرني (رسالة ماجستير) مقدمة إلى كلية العلوم الإسلامية ، جامعة بغداد ، 1414هـ – 1993م .
- الكون وأسراره في القرآن الكريم / د. حميد مجول النعيمي ، ط1 ، الدار العربية للعلوم بيروت – لبنان ، 1421هـ – 2000م .
- الكون والإعجاز العلمي للقرآن / الدكتور منصور محمد حسب النبي ،ط2 ، دار الفكر العربي – القاهرة ، 1991م .(1/13)
- الكون والحياة من العدم حتى ظهور الإنسان / د. مخلص الريس ، علي موسى ط1 ، دار دمشق – سورية ، 1997م .
- لسان العرب / محمد بن مكرم بن منصور الأفريقي المصري (ت711هـ) ط1 ، دار صادر 15ج بيروت .
- لغة القرآن الكريم في جزء عم / محمود أحمد نحلة ، دار النهضة العربية ، بيروت – لبنان 1981م. (د.ط) .
- اللغة والمجتمع رأى ومنهج / الدكتور محمود السعران – بنغازي 1985م .
- مباحث في علوم القرآن / د. صبحي الصالح ط8 ، دار العلم للملايين ،بيروت ـ لبنان .
- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر / ضياء الدين ابن الأثير (ت637هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية ، بيروت .
- مجاز القرآن / أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت210هـ) تعليق / د.محمد فوائد سزكين ، ط2 ، دار الفكر 1390هـ – 1970م .
- كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية / أحمد بن عبد الحليم بن تيمية (ت728هـ) تحقيق / عبد الرحمن محمد قاسم الجندي ، مكتبة ابن تيمية (د.ط) ، (د.ت) .
- محاسن التأويل / تأليف : محمد جمال الدين القاسمي ، ط2 ، دار الفكر ، بيروت 1398هـ – 1978م .
- المحتسب في تبيين وجوه القراءات والإيضاح عنها / ابن جني (ت392هـ) تحقيق علي الجندي ناصبف وآخرين 1969م .
- المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز – أبو محمد عبد الحق ابن عطية الأندلسي – تحقيق وتعليق : عبد اله بن إبراهيم الأنصاري ، السيد عبد العال السيد إبراهيم ط1 ، مؤسسة دار العلوم – الدوحة – قطر 1409هـ – 1989م .
- مختار الصحاح / تأليف محمد بن أبي بكر عبد القادر الرازي (ت666هـ) دار الكتاب العربي بيروت لبنان ، (د.ط) ، (د.ت) .
- مختصر المذكر والمؤنث – المفضل بن أبى سلمة (ت300هـ) تحقيق : رمضان عبد التواب ، مطابع الشركة المصرية ، القاهرة 1972م.
- المزهر في علوم اللغة – جلال الدين السيوطي (ت911هـ) ط4 دار إحياء الكتب العربية – القاهرة ، 1378هـ – 1985م .(1/14)
- مسند أبى يعلى / احمد بن علي المثنى أبو يعلى الموصلي التميمي (ت307هـ) تحقيق / حسين سليم أسد ، ط1، دار المأمون للتراث ، دمشق ، 1404هـ – 1984م .
- مسند أحمد / أحمد بن حنبل أبو عبد الله الشيباني (ت241هـ) مؤسسة قرطبة مصر . (د.ط) ، (د.ت) .
- مشاهد في القرآن الكريم دراسة تحليلية وصفية / الدكتور حامد صادق قنيبي ، ط1،مكتبة المنار ، الزرقاء – الأردن ، 1984م .
- مشكل إعراب القرآن / مكي بن أبي طالب القيسي (ت437هـ) تحقيق / حاتم صالح الضامن – ط2 مؤسسة الرسالة ، بيروت ، 1405هـ .
- المصباح المنير / أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي (ت770 هـ ) ج2 المكتبة العلمية – بيروت .
- مصنف عبد الرزاق / أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ) تحقيق / د. حبيب عبد الرحمن الأعظمي ط2 ، المكتب الإسلامي – بيروت ، 1403هـ .
- مطابقة علم الأجنة لما في القرآن والسنة / دكتور ناطق محمد جواد النعيمي إصدار جامعة الموصل .
- المعارف الكونية بين العلم والدين / إعداد نخبة من علماء الفكر الإسلامي المعاصر إشراف الدكتور/ منصور محمد حسب النبي ، دار الفكر العربي – القاهرة – مصر 1418هأ – 1998م .(د.ط) .
- مع الله في السماء / الدكتور أحمد زكي ، مطبعة الديوان بغداد ، 1984م . (د.ط) .
- معاني القرآن / للأخفش الأوسط الإمام أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البصري (ت215هـ) د. فائز فارس ط3 ، دار البشير ، دار الأمل ، 1401هـ – 1981م .
- معاني القرآن / لأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت207هـ) ،ط3، عالم الكتب – بيروت ، 1403هـ – 1983م .
- معاني القرآن / أبو جعفر النحاس (ت338هـ) ،تحقيق محمد علي الصابوني ،ط1 ،جامعة أم القرى – مكة المكرمة، 1409هـ .
- معاني القرآن وإعرابه / أبو إسحاق الزجاج (ت311هـ) تحقيق / د. عبد الجليل عبده شلبي ط1 ، عالم الكتب ، بيروت – لبنان ، 1408هـ – 1988م .(1/15)
- المعجزات القرآنية / بديع الزمان النورسي / ترجمة إحسان قاسم الصالحي ط1 ، دار الرشيد – بغداد 1410÷ـ - 1990م .
- معجزة القرآن / الشيخ محمد متولي الشعراوي ، دار العربية – بغداد . (د.ط) ، (د.ت) .
- معجم البلدان / ياقوت بن عبد الله الحموي (ت626هـ) ،دار الفكر – بيروت .
- معجم المصطلحات البلاغية وتطورها / د. أحمد مطلوب (مطبعة المجمع العلمي العراقي 1403هـ – 1983م .
- معجم مقاييس اللغة – أبو الحسين احمد فارس (ت395هـ) تحقيق وضبط : عبد السلام محمد هارون (د.ط) ، (د.ت) .
- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار / محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت748هـ) تحقيق بشار عواد معروف ، ط1 ، مؤسسة الرسالة – بيروت ،1404هـ .
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب / جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت761هـ) تحقيق / د. مازن مبارك ط6 ، دار الفكر – بيروت ، 1985م.
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة – احمد بن مصطفى ، ط1 ، دار الكتب العلمية بيروت ، 1985م .
- مفتاح العلوم / أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي (ت626هـ) تحقيق اكرم عثمان يوسف ،ط1 ، دار الرسالة – بغداد ، 1400هـ – 1981م .
- المفردات في غريب القرآن / تأليف: الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني مكتب الأنجلو المصرية ، 1970م .
- المفهوم العلمي للجبال في القرآن الكريم / أ.د. زغلول راغب النجار ، مكتبة الشروق الدولية ، (د.ط) ، (د.ت) .
- المقتضب – أبو العباس المبرد(ت285هـ) – تحقيق الشيخ محمد عبد الخالق عضيمة القاهرة – 1163هـ – 1964م .
- ملامح كونية في القرآن / شاكر عبد الجبار ، ط1 ، مكتبة الشرق الجديد ، بغداد ، 1985م .
- من أسرار العربية في البيان القرآني / دكتورة : عائشة عبد الرحمن جامعة بيروت العربية ، 1972م .
- من إشارات العلوم في القرآن الكريم / عبد العزيز سيد الأهل ،دار الكتب العلمية ـ بيروت ،1977م .(1/16)
- من بلاغة القرآن / د. أحمد بدوي ط3 ، مكتبة النهضة ، القاهرة ، 1950م .
- من روائع القرآن / محمد سعيد رمضان البوطي ، ط2 ، مكتبة الفارابي ، دمشق ، 1970م .
- مناهل العرفان في علوم القرآن / محمد عبد العظيم الزرقاني / تحقيق مكتب البحوث والدراسات ط1 ، دار الفكر – بيروت ، 1996م .
- المنتخب من تفسير القرآن / الشيخ : محمد متولي الشعراوي ، دار النصر، بيروت . (د.ط) ، (د.ت) .
- المنظار الهندسي للقرآن الكريم / د. خالد فائق العبيدي، ط1 ، دار المسيرة للنشر عمان – الأردن ، 1422هـ – 2001م .
- المنهج العلمي للاعتقاد / شاكر عبد الجبار، ط1، مكتبة القدس ، بغداد 1984م .
- منهج الفن الإسلامي / محمد قطب ، دار القلم بالقاهرة ، (د.ط) ، (د.ت) .
- المهذب في علم التصريف / د. هاشم طه شلاش ، وصلاح الدين الفرطوسي وعبد الجليل عبيد حسن – بيت الحكمة – (د.ط) ، (د.ت) .
- الموسوعة العربية الميسرة ، تأليف : محمد شفيق غربال ، دار الشعب ، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر .
- النبوءة والإعجاز في القرآن والسنة / علاء الدين شمس الدين المدرس ، دار الكتب العلمية (د.ط) ، (د.ت) .
- النحو الوافي / عباس حسن، ط4 ،دار المعارف ـ مصر 1976م .
- النشر في القراءات العشر – حافظ الدمشقي – مصر المكتب التجاري (د.ط) ، (د.ت) .
- نظرة علمية للكتب السماوية / الدكتور فاروق الشيخ عبد الشيخ نجم العبدلي دار الكتب والوثائق ، بغداد ، 2000م .
- النهاية في غريب الأثر / أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري (ت606هـ) تحقيق / طاهر أحمد الزاوي ، المكتبة العلمية – بيروت ، 1399هـ – 1979م .
- نيل الأوطار / محمد بن علي الشوكاني ، دار الفكر ، بيروت ، 1973م .
- همع الهوامع ـ شرح جمع الجوامع في علم العربية / جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت911هـ) صححه السيد محمد بدر الدين النعساني ، القاهرة ،1327هـ .(1/17)
- هندسة النظام الكوني في القرآن الكريم / الدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر ،ط1، مطبوعات تهامة ، جدة ـ المملكة العربية السعودية ، 1403هـ – 1983م .
- وجوه من الإعجاز العلمي / مصطفى الدباغ ، ط2 ، مكتبة المنار ، الأردن (د.ت) .
الدوريات
- مجلة الإعجاز العلمي / مجلة فصلية تصدر عن هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – رابطة العالم الإسلامي / مكة المكرمة . الأعداد (1-13) .
- مجلة الإعجاز العلمي والتفكير (كلية الفلك) جامعة بغداد ، الموسم الأول والثاني .
- مجلة التربية الإسلامية ، تصدرها جمعية التربية الإسلامية ،بغداد .
- مجلة كلية الدراسات الإسلامية ، العدد السادس ، 1394هـ – 1974م .
أقراص سي دي :
- برنامج المعجزة الخالدة . ج1 مسجل على قرص ليزري / إنتاج شركة المروج 1988م .
- آيات وحوار /الدكتور أنيس مالك الراوي ، الأستاذ رعد الخزرجي .
- تفسير الشعراوي .(1/18)
الخاتمة
بعد هذه الرحلة الكونية الممتعة في رحاب القرآن الكريم التي تعرفت من خلالها على كثير من عجائب هذا الكتاب الكريم المعجز الذي أعجز الخلق على معرفة جميع أسراره مهما بلغت علومهم ومهما بلغوا من الفصاحة والبلاغة يبقى هذا القرآن منهلاً رحباً لكل من يريد أن يتزود منه مهما كانت ثقافته . وفي ختام هذه الدراسة توصلت إلى نتائج اعتقد أن فيها شفاء للصدور لمن يريد أن يتعرف على صحة هذه التفاسير العلمية الحديثة بعد معرفة موقف الضوابط العلمية واللغوية منها ونجملها بالآتي :
1- يجب على المفسر أن لا يخالف القواعد اللغوية الواضحة المقررة في التفاسير .
2- الاستعانة بالتفاسير السابقة مع استبعاد الخرافات .
3- الابتعاد عن الاحتمالات والنظريات التي تخضع للتغيير حتى لا يترتب على هذا التفسير العلمي نتائج سيئة أما بالنسبة للنظريات الراجحة فلا بأس باستخدامها والاستئناس بها لإلقاء الأضواء العلمية على الآية لتقريب فهم الناس لها .
4- استحالة التصادم بين الحقائق القرآنية والحقائق العلمية ، فإذا حصل تعارض بين حقيقة قرآنية وما يعتقد أنه حقيقة علمية فينبغي التريث ، ويجب تمحيص هذه الحقيقة العلمية ، التي غالبا ما يثبت أنها ليست حقيقة ، بل هي نظرية ، وإن أي خلاف ناشئ فهو حتماً ناتج من أحد الأمرين : إما جهل لغوي باللغة العربية .. وإما جهل علمي .
5- الحقيقة القرآنية هي المعيارية التي يجب أن يحتكم إليها العلم .
6- أن يكون المفسر محيطاً بقدر من علوم القرآن .
7- لا يمكن فهم القرآن إلا من جهة لسان العرب .(1/1)
8- لا يجوز تفسيره بغير عرفه المعهود . فلا يجوز تفسير الآية مثلاً بالمصطلحات الحديثة كما فعل بعض المفسرين العلميين في قوله تعالى : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات ... ) فسر الأقطار بالدول وكما فسر بعضهم بعض الكلمات بالمصطلحات الهندسية وفسر ( قطر) بقطر الدائرة ، وهو الخط المستقيم الذي يقسم الدائرة إلى نصفين .
9- أن يراعي المعنى الدلالي للفظ القرآني باستعراض هذه اللفظة في موضوعها في القرآن كله .
10- ينبغي على المفسر العلمي أن لا يتعسف في تحميل الآيات العلمية ما لا يمكن تحميلها ؛لأن هذا سيؤدي إلى نتيجة سيئة على حساب القرآن الكريم والقرآن بريء منها .
11- آيات الموضوع الواحد بعضها مكمل للبعض وموضح لهذا فلابد من جمع جميع الآيات الواردة في الموضوع المبحوث حتى نستطيع ان نتوصل الى الحقيقة الثابتة .
12- لابد من مراعاة سياق الآية في التفسير والاسترشاد من دلالة السياق وأسباب النزول .
13- لا يصح لنا أن نترك ظاهر القرآن ونتجه إلى التأويل ، إلا أن يكون الظاهر يقبل التأويل .
14- كل المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها ما لم تقم قرينة تمنع من ذلك . كما وجدنا ذلك في المشترك في قوله تعالى : ( أدنى الأرض ) يمكن حمل لفظ أدنى بمعنى أخفض وبمعنى أقرب . كما أثبتت الحقائق العلمية . وكذلك مع الحقيقة والمجاز يمكن حمل الآية على الحقيقة والمجاز في آن واحد كما فسر الرسول صلى الله عليه وسلم عدد من الآيات ،وكما مر علينا ذلك سابقا في عدد من الآيات المفسرة تفسيراً علمياً .
15- يجب على المفسر مراعاة جميع الضوابط اللغوية والنحوية والصرفية والصوتية والدلالية والأسلوبية وعدم الأخذ بإحداها أو ببعض منها دون بعض فقد يوافق التفسير العلمي بعضها ولا يتوافق مع البعض الآخر . ولا يمكن معرفة المعنى الحقيقي للآيات إلا بموافقة جميع الضوابط اللغوية للتفسير العلمي .(1/2)
16- هناك بعض المعاني للألفاظ ذكرها أصحاب المعجمات واستبعدت عن التفسير القديم بسبب عدم معرفتهم بالحقيقة العلمية للآية وقد استعان المفسرون العلميون بتلك المعاني لتفسير الظواهر العلمية للآية وهذا كثير جدا في التفسير العلمي .
17- كثير من الآيات يمكن حملها على التفسير القديم ـ سواء أكان التفسير بالمأثور أو التفسير العقلي ـ والتفسير العلمي من دون تعارض بين التفسيرين وهذا من إعجاز القرآن الكريم فهو صالح لكل زمان ومكان .
18- كثير من الآيات العلمية تشير إلى الحقائق العلمية بالإشارة ولا تصرح بها كي لا يصدم الناس بهذه الحقيقة التي لم تكن معلومة لديهم وقت نزول القرآن وتكون هذه الإشارة بأسلوب بلاغي معجز ومن غير تكلف يفهمها أهل العلم بأسلوب مقنع ومؤثر في النفوس. فيضفي هذا الغموض غير المستغلق جمالا بلاغيا إضافة إلى ما يحتويه من علوم مذهلة .
19- قد يصل المفسر العلمي إلى معرفة الحقيقة القرآنية الموافقة للحقيقة العلمية من خلال بعض هذه الضوابط اللغوية مع موافقتها لباقي التفاسير في الضوابط الأخرى فقد يتوصل إلى تلك الحقيقة من الدلالة المعجمية مثلا أو الصرفية كما في معاني الأوزان مثلا أو النحوية وغيرها .
20- يشير القرآن الكريم إلى الحقيقة العلمية بأسلوب فني معجز في عدد من الآيات ويصور لنا الظاهرة العلمية بالطرق البلاغية المعروفة لدى القدماء مثل التشبيه والاستعارة وغيرها وقد يضيف المفسر العلمي تشبيهات وأموراً أخرى للتشبيه القرآني القديم مما يزيد الصورة جمالاً تدعو إلى دقة التأمل فيها مما يشير إلى إعجازه البلاغي إضافة إلى إعجازه العلمي في آن واحد .(1/3)
21- لعلم المعاني دور مهم في تفسير الآيات العلمية ومن هذا العلم التعريف والتنكير في الآيات قد حمل المفسرون ( ال ) فيها للعهد كما في قوله تعالى : ( وجعل القمر فيهن نورا ) قالوا ( ال ) في قوله ( القمر ) للعهد أما المفسرون العلميون فقد فسروها للجنس فبفضل معرفتهم بعلم المعاني تمكنوا من الكشف عن هذا الوجه الجديد للآية وكما معلوم أن القرآن حمال ذو وجوه .
22- للقراءات القرآنية دور كبير في استنباط الحقائق العلمية فقد تشير قراءة إلى حقيقة علمية لا تشير إليها قراءة أخرى أو قد تشير القراءة إلى جانب من هذه الحقيقة وتشير قراءة أخرى إلى جانب آخر . فكل قراءة بمنزلة آية فتنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام الآيات .
23- تتميز ألفاظ الآيات الكونية في عدد من الآيات بسعة مدلولاتها إلى درجة الغموض يوافق غموض هذه اللفظة الغموض الكوني وعمقه وسعته وما يستنبط من دلالات هذا اللفظ وهو جزء يسير بقدر علمهم الضئيل بهذا الكون بالنسبة إلى علمه سبحانه وتعالى خالق الأكوان . كما في قوله تعالى : ( والسماء ذات الرجع ) فالرجع مصدر يحمل الكثير من المعاني لم يكن ليتحملها الفاعل وغيره .
24- لا يمكن الاعتماد على اللغة العربية دون الرجوع إلى التفسير المأثور عن الرسول(صلى الله عليه وسلم) والصحابة في بعض المسائل كما في حقيقة العدد 7 في قوله تعالى:( سبع سماوات ) هل المراد بالعدد الحقيقة أو المراد للكثرة . فقد بينت السنة أنها سبع سماوات .
25- مسميات القرآن أدق من المصطلحات الحديثة كما في قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان ) فالدخان هي المادة الأولية التي تكونت منها النجوم والكواكب فهي أدق من تسمية العلماء لها بالسديم فالدخان يجمع صفة تلك المادة أكثر من قولهم سديم . كما بينا ذلك .(1/4)
26- وصفت السماء بأوصاف عدة هي ذات الحبك ، وذات الرجع ، وذات البروج وكل وصف من هذه الأوصاف يحمل وجوها عدة من التفاسير العلمية إضافة إلى أن لفظ السماء يأتي بمعنى السماوات السبع والسماء الدنيا وقد يجيء لفظ السماوات المراد منه الكواكب أو السماوات السبع .
27- لم يفرق الكثير من المعجميين بين النجم والكواكب وقد توضع بفضل التعبير القرآني إلى معرفة الفرق بين الكواكب والنجوم فالكواكب أجسام صلبة لذا قال تعالى :( إذا الكواكب انتثرت ) فالانتثار يكون للمواد الصلبة على حين عبر عن انطفاء النجوم بالانكدار قال تعالى:( وإذا النجوم انكدرت ) لأنها أجسام نارية والكدرة نقيض الصفاء وكذلك قال تعالى :( فإذا النجوم طمست ) وانطماس الشيء معناه إزالة أثره ومعالمه ، ويستعمل لذهاب الضوء وهذا ما يوافق حالة النجوم يوم القيامة لأنها أجسام نارية .
28- استعمال أسلوب القسم في عدد من الآيات الكونية قال تعالى :( فلا أقسم بمواقع النجوم ) وقال: ( فلا أقسم بالخنس ) ، وقال : ( والسماء والطارق ) وغيرها من الآيات وكلها مكية وفيها يقسم سبحانه وتعالى بمخلوقاته ، فندرك من هذا القسم عظمة المقسم به وهذا ما أشار إليه المفسرون العلميون .
29- قد يظن في بعض الألفاظ أنها مترادفات كما في قوله تعالى : ( دحى ) و ( طحا ) إلا أن بعضها لها معانٍ استعملها العرب لا يوجد في اللفظ الآخر كما في قولهم : ( لا والقمر الطاحي ) أي المرتفع ولم يذكر أصحاب المعاجم معنى الارتفاع في ( دحى ) وقد استعمل القرآن هذين اللفظين مرة واحدة كل منهما في الموضع المناسب .
30- بعض الدلالات الصوتية تؤيد الحقيقة الصوتية كما في قوله تعالى : ( رواسي شامخات ) فالمد في قوله شامخات يدل على ارتفاع الجبال الشاهقات في هذه الآية .(1/5)
31- كثير من الآيات كان المفسرون القدماء يرون أنها تتحدث عن أهوال يوم القيامة كما في قوله تعالى ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ) مستدلين على ذلك من السياق المتقدم ( ويوم ينفخ في الصور ) إلا أن المفسرين المحدثين استدلوا بسياق الآية المتأخر وهو قوله تعالى :( صنع الله الذي أتقن كل شيء ) والإتقان يشمل الحياة الدنيا والآخرة ومن هنا يتبين لنا أن كل وجه من وجوه القرآن يناسب مرحلة زمانية دون أن يصدم الناس في معتقداتهم وقد صدق القرآن في كل المراحل .
32- استعمل القرآن الكريم لفظ ( البحرين ) في القرآن مرة مراداً به البحران الملحان على التثنية ومرة مراداً به البحر الملح والنهر العذب على التغليب ، وقد استدللنا على ذلك من سياق الآيات .
33- استعمل القرآن الرياح بالجمع في مقام الخير والنعمة ومفردة مع العذاب إلا في مواضع كانت الريح المفردة للخير لأن الحال يتطلب ذلك .
34- من أساليب القرآن في الإقناع أنه يستدل بما هو محسوس على ما هو غيبي من ذلك مراحل خلق الإنسان ففي الوقت الحاضر يطابق وصف القرآن لمراحل خلق الإنسان بما هو مشاهد عند العلماء وبشكل دقيق ويحاجج سبحانه وتعالى بالخلق الأول على البعث والنشور يوم القيامة قال تعالى : ( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ... ) وقد وصف كل مرحلة من المراحل بشكل دقيق أذهل العلماء .
هذه أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث المتواضع
والحمد لله رب العالمين .(1/6)
الخلاصة
بعد صحبة كتاب الله تعالى ومصادر النحو قديمها وحديثها ، وبعد رحلة علمية أتسمت بالمتعة والجهد معاً ، نوجز فيما يأتي أهم النتائج التي وقف عليها البحث .
1 ـ إن الجملة التفسيرية هي المركب الإسنادي المتسم بالافادة المعنوية ، مشروطاً
فيها الإيضاح لمبهم في جملة سابقة ، سواء أكان الابهام ناتجاً عن استغلاق دلالة
مفردة ما ، أم عن إبهام دلالة الجملة مجتمعة . وعلى هذا فهي المرادف
المعنوي لما تفسره،إذ إنها تقتضي التعبير عن مدلول ما بصياغة تعبيرية جديدة .
وعلى هذا فوظيفة التفسير النحوية تختلف عن وظيفة التفسير للنصوص
المقدسة أو غيرها في أن التفسير النحوي يكون من إنشاء المرُسِل نفسه حين
يشعر أن المتلقي بحاجة إلى إيضاح لاستدامة عملية التواصل .
2 ـ إنَّ مفهوم التفسير مصطلحاً ودلالةً كان قائماً في أذهان النحاة العرب منذ بداية
الدراسات النحوية ، فنجده عند سيبويه ومن تلاه من النحاة ، وكذلك عند اصحاب
مصنفات معاني القرآن وإعرابه ، وأصحاب المصنفات المتخصصة بحروف
المعاني.
فقد أشاروا إلى أن الجملة التفسيرية تكون على ضربين:مصدرة بأداة تفسير،
ومجردة منها .
3 ـ عرض البحث لأدوات التفسير سواء المجمع عليها وهي( أَنْ ، وأَيْ ) أم المختلف
فيها وهي ( إِذا ، وَأَنَّ ) ، وناقش كل أداة وما قيل فيها على حدة ، منتهياً إلى
استبعاد وقوع الأداتين ( أيْ ، وإذا ) مفسرتين في القرآن الكريم .
4 ـ أوضح البحث أن جمهور النحاة العرب قد ضيّقوا من دلالة مصطلح الجملة
التفسيرية حين قصروه على قسم خاص من الجمل التي لا محل لها من الإعراب
إذ ربطوا بين دلالة المصطلح والموقعية الإعرابية ، في حين أن الواقع اللغوي
يشير إلى أن الجملة التفسيرية هي المرادف المعنوي،لما تفسّرهُ ولكنه يتسم بزيادة
الوضوح ، فالوظيفة الأولى لهذا النوع من الجمل هي إزالة غموض أو إبهام(1/1)
سابق ، ولا علاقة لها بالموقعية الإعرابية التي تخضع لإعتبارات شكلية حسب .
5 ـ كشف لنا البحث انّ أول من قال بالموقعية الإعرابية للجملة المفسِّرة هو الزجاج
عند إعرابه قوله - سبحانه وتعالى - : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] إذ رأى أن جملة { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ } في محل نصب بدل من قوله - سبحانه وتعالى - : { ذَلِكَ الأَمْرَ } وهي مفسِّرة
لمضمونه ، ثم جاء من بعده مكي بن أبي طالب ليؤكد هذه الحقيقة عند إعرابه
قوله - سبحانه وتعالى - : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ]
إذ ذهب إلى أن جملة { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } في محل نصب بـ
{ يُوصِيكُمْ } وهي تفسير لمضمونه ،وبذلك يندفع ما قاله ابن هشام من أن
المشهور لدى النحاة هو أن الجملة المفسِّرة لا محل لها من الإعراب وأن
المخالف في ذلك هو الشلوبين فقط .
6 ـ اتضح للباحث أن النحاة لم يلتزموا بما قعدوا من قواعد معيارية في عددٍ من
مسائل النحو ، ولا سيما فيما يتعلق بـ ( أنْ ) المفسرة ، فهم بعد أن جعلوا لها
شروطاً شكلية ، أطالوا الحديث عنها في كتب النحو والتفسير . عادوا ثانية
فنقضوها بتجويزهم في كثير من المواضع القرآنية التي تحققت فيها الشروط
الشكلية لـ ( أنْ ) المفسرة وجوها أخرى كأن يقولوا : وتحتمل ( أنْ ) ها هنا
أن تكون مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، فضلاُ عن احتمالها لأن تكون مفِّسرة
وقد اعتمدوا في تلك الاحتمالات وسائل تأويلية تبتعد في بعض الأحيان عن
واقع اللغة. والذي يبدو للباحث أن الأجدر بهم اعتماد منهج وصفي في دراسة
اللغة يكتفي بتوصيف قواعدها على ما هي عليه من غير افتراض أشياء غير
موجودة في النص .(1/2)
الخاتمة
الخاتمة
بعد صحبة كتاب الله تعالى ومصادر النحو قديمها وحديثها ، وبعد رحلة علمية أتسمت بالمتعة والجهد معاً ، نوجز فيما يأتي أهم النتائج التي وقف عليها البحث .
1 ـ إن الجملة التفسيرية هي المركب الإسنادي المتسم بالافادة المعنوية ، مشروطاً
فيها الإيضاح لمبهم في جملة سابقة ، سواء أكان الابهام ناتجاً عن استغلاق دلالة
مفردة ما ، أم عن إبهام دلالة الجملة مجتمعة . وعلى هذا فهي المرادف
المعنوي لما تفسره،إذ إنها تقتضي التعبير عن مدلول ما بصياغة تعبيرية جديدة .
وعلى هذا فوظيفة التفسير النحوية تختلف عن وظيفة التفسير للنصوص
المقدسة أو غيرها في أن التفسير النحوي يكون من إنشاء المرُسِل نفسه حين
يشعر أن المتلقي بحاجة إلى إيضاح لاستدامة عملية التواصل .
2 ـ إنَّ مفهوم التفسير مصطلحاً ودلالةً كان قائماً في أذهان النحاة العرب منذ بداية
الدراسات النحوية ، فنجده عند سيبويه ومن تلاه من النحاة ، وكذلك عند اصحاب
مصنفات معاني القرآن وإعرابه ، وأصحاب المصنفات المتخصصة بحروف
المعاني.
فقد أشاروا إلى أن الجملة التفسيرية تكون على ضربين:مصدرة بأداة تفسير،
ومجردة منها .
3 ـ عرض البحث لأدوات التفسير سواء المجمع عليها وهي( أَنْ ، وأَيْ ) أم المختلف
فيها وهي ( إِذا ، وَأَنَّ ) ، وناقش كل أداة وما قيل فيها على حدة ، منتهياً إلى
استبعاد وقوع الأداتين ( أيْ ، وإذا ) مفسرتين في القرآن الكريم .
4 ـ أوضح البحث أن جمهور النحاة العرب قد ضيّقوا من دلالة مصطلح الجملة
التفسيرية حين قصروه على قسم خاص من الجمل التي لا محل لها من الإعراب
إذ ربطوا بين دلالة المصطلح والموقعية الإعرابية ، في حين أن الواقع اللغوي
يشير إلى أن الجملة التفسيرية هي المرادف المعنوي،لما تفسّرهُ ولكنه يتسم بزيادة
الوضوح ، فالوظيفة الأولى لهذا النوع من الجمل هي إزالة غموض أو إبهام(1/1)
سابق ، ولا علاقة لها بالموقعية الإعرابية التي تخضع لإعتبارات شكلية حسب .
5 ـ بعد جرد احصائي للجملة المفسِّرة المصدرة بأداة تفسير تبين أنها على ثلاثة
أقسام : فعلية واسمية وندائية ، وأن الفعلية منها هي الأوسع استعمالاً في النص
القرآني ، إذ بلغ عددها تسعة وخمسين موضعاً قرآنياً في حين بلغ عدد الاسمية
أربعة مواضع ، ولم تتجاوز الندائية الموضعين . وقد كانت أغلب المواضع التي
وقع فيها التفسير هي من القسم المكي من كتاب الله الشريف .
6 ـ كشف البحث أنّ ( أنْ ) المفسِّرة تباين نظيرتها المصدرية الثنائية والمصدرية
المخففة من الثقيلة من حيث إِنها تدخل على الجملتين : الفعلية والاسمية ، في
حين أن المصدرية الثنائية ، مختصة بالدخول على الجمل الفعلية فقط والمخففة
من الثقيلة مختصة بالدخول على الجمل الاسمية فقط .
7 ـ كشف لنا البحث انّ أول من قال بالموقعية الإعرابية للجملة المفسِّرة هو الزجاج
عند إعرابه قوله - سبحانه وتعالى - : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] إذ رأى أن جملة { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ
مُصْبِحِينَ } في محل نصب بدل من قوله - سبحانه وتعالى - : { ذَلِكَ الأَمْرَ } وهي مفسِّرة
لمضمونه ، ثم جاء من بعده مكي بن أبي طالب ليؤكد هذه الحقيقة عند إعرابه
قوله - سبحانه وتعالى - : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُُنثَيَيْنِ } [ النساء : 11 ]
إذ ذهب إلى أن جملة { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } في محل نصب بـ
{ يُوصِيكُمْ } وهي تفسير لمضمونه ،وبذلك يندفع ما قاله ابن هشام من أن
المشهور لدى النحاة هو أن الجملة المفسِّرة لا محل لها من الإعراب وأن
المخالف في ذلك هو الشلوبين فقط .
8 ـ اتضح للباحث أن النحاة لم يلتزموا بما قعدوا من قواعد معيارية في عددٍ من(1/2)
مسائل النحو ، ولا سيما فيما يتعلق بـ ( أنْ ) المفسرة ، فهم بعد أن جعلوا لها
شروطاً شكلية ، أطالوا الحديث عنها في كتب النحو والتفسير . عادوا ثانية
فنقضوها بتجويزهم في كثير من المواضع القرآنية التي تحققت فيها الشروط
الشكلية لـ ( أنْ ) المفسرة وجوها أخرى كأن يقولوا : وتحتمل ( أنْ ) ها هنا
أن تكون مصدرية أو مخففة من الثقيلة ، فضلاُ عن احتمالها لأن تكون مفِّسرة
وقد اعتمدوا في تلك الاحتمالات وسائل تأويلية تبتعد في بعض الأحيان عن
واقع اللغة. والذي يبدو للباحث أن الأجدر بهم اعتماد منهج وصفي في دراسة
اللغة يكتفي بتوصيف قواعدها على ما هي عليه من غير افتراض أشياء غير
موجودة في النص .
9 ـ أوضح البحث أن هنالك جملاً تؤدي في عدد من السياقات دوراً وظيفياً
مشتركاً ، كأن تقوم الجملة بوظيفة الاخبار والتفسير في السياق الواحد كما في
الجملة المفسرة لضمير الشأن ، إذ تقوم الجملة التي بعده بوظيفة إخبارية
بوصفها خبراً له ، كما تقوم في الوقت نفسه بوظيفة تفسيرية بيانية بوصف
ضمير الشأن مجهولاً يحتاج إلى إيضاح وتفسير، إذ إنها توضحه وتزيل ما
فيه من إبهام ، أو تقوم بوظيفة التفسير مع تأكيد المعنى المساقة من أجله كما
في الجملة المفسِّرة في باب الاشتغال ،علما بأنه قد قال عدد من العلماء
السابقين بأداء هذا الضرب من الجمل وظيفة التفسير مثل الشلوبين والعكبري ،
وقد ناقش البحث رأي القائلين بخلاف ذلك وعلى رأسهم ابن هشام الأنصاري .
أو تقوم بوظيفة تفسيرية مع وقوعها موقع المفعول به كما في الجملة الواقعة
بعد فعل يرادف فعل القول .
وقد اتضح للباحث أن هذا النمط يعد من صور إعجاز النظم القرآني بما
يؤديه من دور على المستويين النحوي والدلالي .
10 ـ أما على صعيد الجملة المفسِّرة في سياق الشرط ، فقد رصد البحث ثلاثة أشكال
تركيبية قيل فيها بالتفسير ، وهي عندما يتقدم فاعل فعل الشرط عليه ، وعندما(1/3)
يتقدم الجواب كلياً على الأداة وجملة الشرط ، وعندما يكتنف الجواب أداة
الشرط وجملة الشرط معاً .
وأوضح البحث أن الاشتراك الوظيفي في هذا الضرب من الجمل قائم على
معطيات الخلاف بين المذهبين البصري والكوفي . مع ميلنا إلى المذهب
الكوفي الذي يُخرج هذا الضرب من باب التفسير ، وذلك لإبتعاده عن التأويل
أولاً ، وإفادته من ميزة العربية في تغيير مواقع الوحدات اللغوية مع احتفاظها
بوظائفها النحوية ثانياً .
-
ثبت
المصادر والمراجع
ثبت المصادر والمراجع
ــــــــــــــــ
أولاً : الرسائل والأطاريح الجامعية :
* الاستعارة في القرآن الكريم : أحمد فتحي رمضان ( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى
كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 1988 م ، بإشراف الدكتور جليل رشيد فالح .
* تعاقب الظاهر والمضمر في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية بلاغية ـ : عائشة
خضر أحمد البدراني ( رسالة ماجستير) ، مقدمة إلى كلية الاداب ـ جامعة
الموصل ، 2000 م ، بإشراف الدكتور طلال يحيى ابراهيم الطوبجي .
* الجمل التي لا محل لها من الإعراب في القرآن الكريم ـ دراسة نحوية ـ : طلال
يحيى ابراهيم ( أطروحة دكتوراه ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل ،
1996 م ، بإشراف الأستاذ الدكتور كاصد ياسر الزيدي .
* الجمل التي لها محل من الإعراب في كتب إعراب القرآن : ليلى محمد علي
( أطروحة دكتوراه ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 1996 م ،
بإشراف الدكتور طالب عبد الرحمن عبدا الجبار .
* حاشية ابن الحاج على النهجة المرضية : محمد صابر مصطفى ( أطروحة
دكتوراه ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 1994م ، بإشراف الأستاذ
الدكتور طارق عبد عون الجنابي .
* الحال في الجملة العربية دراسة في النحو العربي : فاخر هاشم سعيد الياسري
( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة البصرة ،1986م ، بإشراف
الدكتور عبد الحسين المبارك .(1/4)
* دلالة الأنماط التركيبية لجملة الأحرف الناسخة( المشبهة بالفعل)في القرآن الكريم :
فراس عبد العزيز عبد القادر الكداوي ( أطروحة دكتوراه ) مقدمة إلى كلية الآداب
ـ جامعة الموصل ، 2003 م ، بإشراف الدكتور عماد عبد يحيى الحيالي .
* الربط في الجملة العربية : عبد الخالق زغير ( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى كلية
الآداب ـ جامعة بغداد ، 1988 م ، بإشراف الدكتور محمد ضاري حمادي .
* شرح اللمع لابن جني ، أبو نصر القاسم بن محمد الواسطي الضرير، تحقيق
ودراسة : حسن عبد الكريم الشرع ( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ
جامعة القاهرة ، 1973 م ، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد أحمد كامل جمعة .
* قراءة عبد الله ابن مسعود : عبد الله حسن أحمد ( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى
كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 1987م ، بإشراف الدكتور طارق عبد عون
الجنابي .
* المجاز المرسل في القرآن الكريم علاقاته ودلالاته : ياسر محمد أمين جميل
( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 2001 م ،
بإشراف الدكتور أحمد فتحي رمضان .
* المصطلح النحوي عند ابن خالويه ـ دراسة نحوية ـ : صباح حسين محمد
( رسالة ماجستير ) ، مقدمة إلى كلية الآداب ـ جامعة الموصل ، 1997 م ،
بإشراف الأستاذ الدكتور محيي الدين توفيق ابراهيم .
ثانياً : الكتب المطبوعة :
* ائتلاف النصرة في اختلاف نحاة الكوفة والبصرة : عبد اللطيف الشرجي
( ت802هـ ) ، تحقيق : الدكتور طارق الجنابي ، ط 1 ، مكتبة النهضة العربية ،
بيروت ، 1407 هـ = 1987 م .
* الاتقان في علوم القرآن : جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ، تحقيق : محمد
أبو الفضل ابراهيم ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مصر ، 1975 م .
* الاختيار لتعليل المختار : عبد الله بن محمود الحنفي ( ت 683 هـ ) ، تحقيق :
الأستاذ أبو دقيقة ، ط3، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ،1395هـ
= 1975 م .(1/5)
* أدب الكاتب : ابن قتيبة ( ت 276 هـ ) ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ،
ط2، مطبعة السعادة ، المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر ، 1382هـ = 1963 م .
* ارتشاف الضرب من لسان العرب : أبو حيان الأندلسي ( ت 745 هـ ) ، تحقيق :
لدكتور مصطفى النماس ، ط1، مطبعة المدني ـ القاهرة ، 1408هـ = 1987م .
* ارشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم : أبو السعود محمد بن محمد العمادي
( 982 هـ ) ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، 1419 هـ =
1999 م .
* أساس البلاغة : الزمخشري ( ت 538 هـ ) ، دار صادر للطباعة والنشر ، دار
بيروت للطباعة والنشر ـ بيروت ، 1989 م .
* أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين: الدكتور قيس الأوسي، دار الكتب للطباعة
والنشر ـ جامعة الموصل ، 1988 م .
** أسباب نزول القرآن: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي ( ت 487هـ ) ، تحقيق :
السيد أحمد خضر ، ط 1 ، دار الكتاب الجديد ، 1389 هـ = 1969 م .
* أسرار العربية : أبو البركات ابن الأنباري ( ت 577 هـ ) ، تحقيق : محمد بهجة
البيطار ، مطبعة الترقي ـ دمشق ، 1377 هـ = 1957 م .
* أسرار النحو : ابن كمال باشا ( ت 940هـ ) ، تحقيق :الدكتور أحمد حسن حامد ،
منشورات دار الفكر ـ عمان ( د . ت ) .
* الأشباه والنظائر في النحو العربي : جلال الدين السيوطي ( ت911هـ ) ، ط 2 ،
نشر دائرة المعارف العثمانية ـ حيدر آباد ، 1359 هـ .
* الأصول : ابن السراج ( ت 316 هـ ) ، تحقيق: الدكتور عبد الحسين الفتلي ،
ط 2 ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ، 1407 هـ = 1987 م .
* أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية : محمد الشاوش ، ط 1 ،
المؤسسة العربية للتوزيع ـ بيروت 1420 هـ = 2001 م .
* أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن : محمد الأمين بن محمد الشنقيطي
( 1944 م ) ، تحقيق : الشيخ صلاح الدين العلايلي ، ط 1 ، دار احياء التراث
العربي ، بيروت ، ـ لبنان ، 1417 هـ = 1996 م .(1/6)
* اعراب الجمل وأشباه الجمل : الدكتور فخر الدين قباوة ، ط3، دار الآفاق الجديدة ،
بيروت ، 1401 هـ = 1981 م .
* اعراب سورة آل عمران : علي حيدر ، منشورات دار الحكمة ـ دمشق1392 هـ
= 1973 م .
* الاعراب عن قواعد الاعراب : ابن هشام الأنصاري ( ت 671 هـ ) ، تحقيق :
الدكتور علي فودة نيل ، ط 1 ، دار الأصفهاني ـ جدة ، 1401 هـ = 1982 م .
* اعراب القرآن : أبو جعفر النحاس ( ت 338 هـ ) ، تحقيق : الدكتور زهير
غازي زاهد ، مطبعة العاني ـ بغداد 1397 هـ = 1977م .
* اعراب القرآن : المنسوب إلى الزجاج ( ت 311 هـ ) ، ويرجح أنه للباقولي
( ت 543 هـ ) ، تحقيق : ابراهيم الأبياري ، الهيئة العامة لشؤون المطابع
الأميرية ، 1384 هـ = 1965 م .
* اعراب القرآن وبيانه : محيي الدين الدرويش ، ط 7 ، دار الارشاد للشؤون
الجامعية ، حمص ـ سوريا ، 1423 هـ = 2002 م .
* الاقتراح في علم أصول النحو : جلال الدين السيوطي ( ت 911هـ ) ، تحقيق :
الدكتور أحمد سليم الحمصي والدكتور محمد أحمد قاسم ، ط 1 ، جروس برس ،
1988م .
* الانصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين : أبو البركات
الأنباري ( ت 577 هـ ) ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، ط 4 ،
المكتبة التجارية الكبرى ـ القاهرة ، 1380 هـ = 1961 م .
* أنوار التنزيل وأسرار التأويل المسمى : ( تفسير البيضاوي ) : ناصر الدين عبد الله
ابن عمر بن محمد الشيرازي البيضاوي ( ت 791 هـ ) ، تحقيق : الشيخ
عبد القادر عرفان العشا حسونة ، دار الفكر للطباعة والنشر ، بيروت ـ لبنان ،
1416 هـ = 1996 م .
* الايضاح في علوم البلاغة : جلال الدين محمد بن عبد الرحمن الخطيب القزويني
( ت 739 هـ ) ، تحقيق : الدكتور عبد المنعم خفاجي ، ط 5، بيروت ـ لبنان ،
1401 هـ = 1980 م .
* البحث النحوي عند الأصوليين : الدكتور مصطفى جمال الدين ، منشورات وزارة
الثقافة والاعلام ـ بغداد ، 1980 م .(1/7)
* بحر العلوم للمسرقندي ( ت 375 هـ ) : أبو الليث نصر بن محمد ، تحقيق :
الشيخ علي محمد معوض ، والشيخ عادل أحمد ، والدكتور زكريا عبد المجيد
النّوتي ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، 1413 هـ = 1993 م .
* البحر المحيط : أبو حيان الأندلسي ( ت 745هـ ) ، تحقيق : صدقي محمد جميل ،
وعرفان العشا حسونة ، وزهير جعيد ، دار الفكر للطباعة والنشر ، بيروت ـ
لبنان 1412 هـ = 1992 م .
* بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة : السيوطي ( ت 911 هـ ) ، تحقيق :
محمد أبو الفضل ابراهيم ، المكتبة العصرية ، بيروت ـ لبنان ، 0 د . ت ) .
* البلاغة فنونها وأفنانها ( علم المعاني ) : الدكتور فضل حسن عباس ، ط 1 ، دار
الفرقان للنشر والتوزيع ، 1409 هـ = 1989 م .
* البيان في غريب اعراب القرآن : ابو البركات ابن الأنباري ( ت 577 هـ ) ،
تحقيق : الدكتور طه عبد الحميد طه ، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر ـ
القاهرة ، 1390 هـ = 1970 م .
* التأويل النحوي في القرآن الكريم : الدكتور عبد الفتاح الحموز ، ط 1 ، مكتبة
الرشد ـ الرياض ، 1404 هـ = 1984 م .
* التبيان في اعراب القرآن : أبو البقاء العكبري ( ت 616 هـ ) ، تحقيق : علي
محمد البجاوي ، مطبعة البابي الحلبي ، 1976 م .
* التبيان في البيان : شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي ( ت 743هـ ) ، تحقيق :
توفيق الفيل ، وعبد اللطيف لطف الله ، ط 1 ، مطبعة ذات السلاسل ـ الكويت ،
1406 هـ = 1986 م .
* التحرير والتنوير : محمد الطاهر ابن عاشور ( ت 1973 م ) ، الدار التونسية
للنشر ، ( د . ت ) .
* تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب : الأعلم
الشنتمري ( ت 746 هـ ) ، تحقيق : الدكتور زهير عبد المحسن سلطان ، ط 1 ،
دار الشؤون الثقافية العامة ، 1992 م .
* تحفة الغريب بشرح مغني اللبيب : بدر الدين محمد بن أبي بكر الدماميني(1/8)
( ت 827 هـ ) ، المطبعة البهية المصرية ـ القاهرة ، 1304 هـ .
* تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد : ابن مالك ( ت 672 هـ ) ، تحقيق : محمد
بركات ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ، 1387 هـ = 1967 م .
* التسهيل لعلوم التنزيل : محمد بن أحمد بن جزي الكلبي ( ت 741 هـ ) ،
تحقيق : رضا فرج الهمامي ، ط 1 ، المكتبة العصرية ، بيروت ، 1423 هـ =
2003 م .
* التطبيق النحوي : الدكتور عبده الراجحي ، بيروت ، 1975 م .
* التعبير القرآني : الدكتور فاضل صالح السامرائي ، دار الكتب للطباعة والنشر ـ
الموصل ، 1989 م .
* التعريفات : الشريف الجرجاني ( ت 816 هـ ) ، دار الشؤون الثقافية العامة ،
1986 م .
* تفسير الجلالين : جلال الدين المحلي ( ت 864 هـ ) ، وجلال الدين السيوطي
( ت 911 هـ ) ، عالم الكتب ، بيروت ـ لبنان ، ( د . ت ) .
* تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان : نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري
( ت 728 هـ ) ، تحقيق : الشيخ زكريا عميرات ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ،
بيروت ـ لبنان ، 1416 هـ = 1996 م .
* تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير: أبو الفداء اسماعيل بن كثير القرشي
( ت 774 هـ ) ، تحقيق : لجنة من العلماء ط 1 ، دار الأندلس ـ بيروت ،
1385 هـ = 1966 م .
* التفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) : فخر الدين الرازي ( ت 606 هـ ) ، ط 1 ،
منشورات دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، 1421 هـ = 2000 م .
* تنوير الأذهان من تفسير روح البيان : الشيخ اسماعيل حقي البروسوي
( ت 1137 هـ ) ، تحقيق : الشيخ محمد علي الصابوني، الدار الوطنية ـ بغداد ،
( د . ت ) .
* تهذيب اللغة : أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري ( ت 370 هـ ) ، تحقيق :
عبد السلام هارون ، القاهرة ، 1384 هـ = 1964 م .
* جامع البيان عن تأويل القرآن : محمد بن جرير الطبري ( ت310هـ ) ، تحقيق :
محمود شاكر ، وعلي عاشور ، ط1، دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ،(1/9)
1421 هـ = 2001 م .
* جامع الدروس العربية : الشيخ مصطفى الغلاييني ( ت 1364 هـ ) ، ط 5 ،
انتشارات ناصر خسرو ـ طهران ، ( د . ت ) .
* الجامع الصحيح المسمى ( سنن الترمذي ):محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ)،
تحقيق وشرح : أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية ،بيروت ـ لبنان،( د . ت ) .
* الجامع لأحكام القرآن : محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( ت 671 هـ ) ،
تحقيق : سالم مصطفى البدري ، بيروت ـ لبنان ، 2000 م .
* الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه : محمود صافي ، ط1، مطبعة النهضة ،
قم ، 1411 هـ = 1991 م .
* الجمل في النحو : الزجاجي ( ت 337هـ ) ، تحقيق: الدكتور علي توفيق الحمد ،
ط 4 ، دار الأمل ـ اربد ، 1408 هـ = 1988 م .
* الجملة العربية في شعر عروة بن أذينة : ضياء الدين الفلاحي ، مطبعة التعليم
العالي ـ جامعة الموصل ، 1989 م .
* الجملة العربية نشأةً وتطوراً واعراباً : الدكتور فتحي عبد الفتاح الدجني ، ط 1 ،
مكتبة الفلاح ـ الكويت ، 1398 هـ = 1978 م .
* الجنى الداني في حروف المعاني : الحسن بن قاسم المرادي ( ت 749 هـ ) ،
تحقيق : الدكتور فخر الدين قباوة ، ومحمد نديم فاضل ـ بيروت ، 1983 م .
* جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع : أحمد الهاشمي ( ت 1943 م ) ،
ط 12 ، دار احياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ( د . ت ) .
* حاشية الأمير : محمد الأمير الأزهري ( ت 1232 هـ ) ، مطبعة البابي الحلبي ،
1302 هـ .
* حاشية الجمل على الجلالين المسماة بالفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين
للدقائق الخفية : سليمان الجمل ( ت1204هـ )، مطبعة مصطفى محمد الحلبي ـ
مصر ، 1352 هـ = 1933 م .
* حاشية الخضري على شرح ابن عقيل : محمد بن مصطفى بن حسن
( ت 1287 هـ ) ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ القاهرة ، 1359 هـ .
* حاشية الدسوقي على مغني اللبيب : مصطفى بن محمد عرفة الدسوقي
( ت 1230 هـ ) ، المطبعة الميمنية ـ مصر ، 1305 هـ .(1/10)
* حاشية الشنواني على شرح مقدمة الاعراب : أبو بكر بن اسماعيل الشنواني
( ت 1019 هـ ) ، تحقيق : محمد شمام ، ط 2 ، مطبعة النهضة ـ تونس ،
1373 م .
* حروف المعاني : أبو القاسم عبد الرحمن ( ت 340 هـ ) ، تحقيق : الدكتور علي
توفيق الحمد ، ط 1 ، دار الأمل ، مؤسسة الرسالة للطباعة ، اربد ـ الأردن ،
1404 هـ = 1984 م .
* الخصائص : ابن جني ( ت 392 هـ ) ، تحقيق : محمد علي النجار ، ط 2 ،
مصورة عن طبعة دار الكتب ، نشر دار الهدى للطباعة والنشر ـ بيروت ،
( د . ت ) .
* خصائص التراكيب : الدكتور محمد أبو موسى ، ط 2 ، دار التضامن للطباعة ،
1980 م .
* دراسات لأسلوب القرآن الكريم : محمد عبد الخالق عضيمة ، دار الحديث ـ
القاهرة ، ( د . ت ) .
* درة التنزيل وغرة التأويل في بيان الآيات المتشابهات في كتاب الله العزيز :
الخطيب الاسكافي ( ت 420هـ ) ، ط1، منشورات دار الآفاق الجديدة ، بيروت ،
1393 هـ = 1973 م .
* الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ، ط 1 ،
دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، 1403 هـ = 1983 م .
* دلائل الاعجاز : عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) ، تحقيق : محمد رشيد
رضا ، ط 1 ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، 1409 هـ = 1988 م .
* الدلالة الزمنية في الجملة العربية : الدكتور علي جابر المنصوري ، ط 1 ، مطبعة
الجامعة ـ بغداد ، 1984 م .
* ديوان امرئ القيس ، تحقيق : محمد أبو الفضل ابراهيم ، ط 2 ، دار المعارف ،
مصر ـ القاهرة ، 1964 م .
* رصف المباني في شرح حروف المعاني : أحمد بن عبد النور المالقي
( ت 702 هـ ) ، تحقيق : أحمد محمد الخراط ، مطبوعات مجمع اللغة العربية ـ
دمشق ، 1375 هـ = 1975 م .
* روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني : أبو الثناء شهاب الدين
محمود بن عمر الآلوسي ( ت 1270 هـ ) ، ط 2 ، دار احياء التراث العربي ،
بيروت ـ لبنان ، ( د . ت ) .(1/11)
* الزمن في القرآن الكريم : الدكتور بكري عبد الكريم ، ط 2 ، دار الفجر للنشر
والتوزيع ، 1999 م .
* الزمن في النحو العربي : الدكتور كمال ابراهيم بدري ، ط 1 ، دار أمية للنشر
والتوزيع ـ الرياض ، 1404 هـ .
* السبعة في القراءات : ابن مجاهد ، أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي
( ت 324هـ ) ، تحقيق : الدكتور شوقي ضيف ، ط2، دار المعارف ـ القاهرة ،
1980 م .
* شذرات الذهب في أخبار من ذهب : ابن العماد الحنبلي ( ت 1089هـ ) ـ مصر،
1351 هـ .
* شرح ابن عقيل : بهاد الدين عبد الله بن عقيل ( ت 761 هـ ) ، تحقيق : محمد
محيي الدين عبد الحميد ، ط 14 ، مطبعة السعادة ، المكتبة التجارية الكبرى ـ
مصر ، 1384 هـ = 1964 م .
* شرح التصريح على التوضيح : خالد الأزهري ( ت 905 هـ ) ، مطبعة البابي
الحلبي ، دار إحياء الكتب العربية ، د . ت .
* شرح جمع الجوامع : جلال الدين المحلي ( ت 864 هـ ) ، ط 2 ، مصطفى
البابي الحلبي وأولاده ـ مصر ، 1356 هـ = 1937 م ، ( بهامشه حاشية العلامة
البناني ) .
* شرح جمل الزجاجي : ابن عصفور ( ت 669 هـ ) تحقيق : الدكتور صاحب أبو
جناح ، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ، 1400هـ = 1980 م .
* شرح الحدود النحوية : الفاكهي ( ت972هـ ) ، تحقيق : الدكتور زكي الآلوسي ،
مطابع دار الكتب ـ جامعة الموصل ، 1988 م .
* شرح الرضي على الكافية : رضي الدين الاسترابادي ( ت 686 هـ ) ، تحقيق :
يوسف حسن عمر ، جامعة قار يونس ـ ليبيا ، 1398 هـ = 1978 م .
* شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب : ابن هشام الأنصاري ( ت761 هـ ) ،
تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ـ القاهرة ، 1965 م .
* شرح عمدة الحافظ وعدة اللافظ : ابن مالك ( ت 672 هـ ) ، تحقيق : عدنان
عبد الرحمن الدوري ، مطبعة العاني ـ بغداد ، 1977 م .
* شرح عيون الاعراب : علي بن فضال المجاشعي ( ت 479 هـ ) ، تحقيق :(1/12)
الدكتور حنا جميل حداد ، ط 1 ، دار المنار ـ الأردن ، 1406 هـ = 1985 م .
* شرح اللمحة البدرية في علم اللغة العربية : ابن هشام الأنصاري ( ت761هـ ) ،
تحقيق : الدكتور هادي نهر ، مطبعة جامعة بغداد ، 1397 هـ = 1977 م .
* شرح المفصل : موفق الدين بن يعيش ( ت 643 هـ ) ، عالم الكتب ـ بيروت ،
( د . ت ) .
* شرح المقدمة المحسبة : ابن بابشاذ ( ت 469 هـ ) ، تحقيق : خالد عبد الكريم ،
ط 1 ، المطبعة العصرية ـ الكويت ، 1977 م .
* الشرط في القرآن على نهج اللسانيات الوصفية : الدكتور عبد السلام المسدي ،
ومحمد الهادي الطرابلسي ، الدار العربية للكتاب ـ ليبيا ، 1985 م .
* شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح : جمال الدين بن مالك
الأندلسي ( ت 672 هـ ) ، تحقيق : الدكتور طه محسن ، طبع دار آفاق عربية ،
1405 هـ = 1985 .
* الصاحبي في فقه اللغة : أبو الحسن أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) ، تحقيق :
مصطفى الشويمي ، مؤسسة أ . بدران للطباعة والنشر ـ بيروت ، 1383 هـ
= 1963 م .
* الصحاح ، تاج اللغة وصحاح العربية : الجوهري ( ت 395 هـ ) ، تحقيق : أحمد
عبد الغفور عطار ، ط 1 ، دار العلم للملايين ـ بيروت ، 1399هـ = 1979 م .
* صحيح البخاري : أبو عبد الله محمد بن اسماعيل البخاري ( ت 256 هـ ) ، دار
الفكر ـ بيروت ، 1986 م .
* صحيح مسلم : أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ( 261 هـ ) ، تحقيق :
محمد فؤاد عبد الباقي ، ط1، دار احياء التراث العربي ، 1375 هـ = 1955 م .
* صفوة التفاسير : الشيخ محمد علي الصابوني ، ط 1 ، دار إحياء التراث العربي ،
بيروت ـ لبنان ، 1425 هـ = 2004 م .
* طبقات المفسرين : جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ، تحقيق : علي محمد
عمر ، ط 1 ، مكتبة وهبة ـ القاهرة ، 1396 هـ .
* الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز : يحيى بن حمزة العلوي
( ت 745 هـ ) ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ، 1402 هـ = 1982 م .(1/13)
* العربية الفصحى نحو بناء لغوي جديد :هنري فليش، تعريب: الدكتور عبد الصبور
شاهين ، ط 2 ، دار المشرق ، بيروت ـ لبنان ، 1986 م .
* عيسى بن عمر الثقفي نحوه من خلال قراءته : صباح عباس السالم ، ط 1 ،
منشورات مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ، 1395 هـ = 1975 م .
* العين : الخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 175 هـ ) ، تحقيق : الدكتور مهدي
المخزومي ، والدكتور ابراهيم السامرائي ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ،
1980 ـ 1985 م .
* الغرة المخفية في شرح الدرة الألفية : ابن الخباز ( ت 639 هـ ) ، تحقيق :
حامد محمد العبدلي ، ط 1 ، مطبعة اليرموك ـ بغداد ، 1410 هـ = 1990 م .
* فتح البيان في مقاصد القرآن : صديق حسن القنوجي ( ت 1307 هـ ) ، تحقيق :
عبد الله بن ابراهيم الأنصاري ، دار احياء التراث الاسلامي ـ قطر، 1410 هـ
= 1989 م .
* فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير : محمد علي
الشوكاني ( ت 1250 هـ ) دار الفكر للطباعة والنشر ـ بيروت ، 1401 هـ =
1981م .
* الفهرس الموضوعي لآيات القرآن الكريم : محمد مصطفى محمد ، مطبعة وزارة
الأوقاف والشؤون الدينية ـ بغداد ، 1403 هـ = 1983 م .
* الفهرست : ابن النديم ، أبو الفرج محمد بن أبي يعقوب الوراق ( ت 438 هـ ) ،
تحقيق: رضا تجدد بن علي ـ طهران ، 1350 هـ = 1971 م .
* في التحليل اللغوي منهج وصفي تحليلي : الدكتور خليل عمايرة ، ط 1 ، مكتبة
المنار ـ الأردن ، 1407 هـ = 1987 م .
* في النحو العربي نقد وتوجيه : الدكتور مهدي المخزومي ( ت 1993م ) ، ط 1 ،
منشورات المكتبة العصرية ـ بيروت ، 1384 هـ = 1964 م .
* في نحو اللغة وتراكيبها منهج وتطبيق : الدكتور خليل عمايرة ، ط 1 ، عالم
المعرفة ـ جدة ، 1404 هـ = 1984 م .
* القاموس المحيط : محمد بن يعقوب الفيروزآبادي ( ت 817 هـ ) ، دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت ، 1983 م .(1/14)
* قواعد النحو العربي في ضوء نظرية النظم : الدكتورة سناء حميد البياني ، ط 1 ،
دار وائل للنشر ، عمان ـ الأردن ، 2003 م .
* الكتاب ( كتاب سيبويه ) : أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر ( ت 180 هـ ) ،
تحقيق : عبد السلام هارون ، ط 3 ، مكتبة الخانجي ـ القاهرة ، 1408 هـ =
1988 م .
* كشاف اصطلاحات الفنون : التهانوي ( ت1745م ) ، صوّر في طهران ، 1967 ،
عن طبعة كلكتة ، 1862 م .
* الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل : الزمخشري
( ت 538 هـ ) ، انتشارات آفتاب ـ طهران ، ( د . ت ) .
* كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون : حاجي خليفة ( ت 1067 هـ ) ،
مصطفى بن عبد الله القسطنطيني ـ استانبول ، 1941 م ، أعادت طبعه بالأوفست
مكتبة المثنى ـ بغداد .
* كشف المعاني في متشابه المثاني : بدر الدين بن جماعة ( ت733هـ ) ، تحقيق :
الدكتور محمد محمد داود ، ط 1 ، دار المنار للنشر والتوزيع ، 1418 هـ =
1998 م .
* الكليات : أبو البقاء الكفوي ( ت 1094 هـ ) ، تحقيق : الدكتور عدنان درويش ،
ومحمد المصري ، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي ـ دمشق ، 1975 ـ
1976 م .
* لسان العرب ابن منظور ( ت 711هـ ) ، دار صادر للطباعة والنشر ـ بيروت ،
1414 هـ = 1994 م .
* اللغة وعلم النفس : الدكتور موفق الحمداني ، مطابع دار الكتب للطباعة والنشر ـ
جامعة الموصل ، 1982 م .
* مجاز القرآن : أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي ( ت 210 هـ ) ، تحقيق :
الدكتور محمد فؤاد سزكين ، ط 2 ، مكتبة الخانجي ، دار الفكر ، 1390 هـ =
1970 م .
* مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : علي بن أبي بكر الهيثمي ( ت 807 هـ ) ، ط 1 ،
دار الكتاب ، بيروت ـ لبنان ، 1967 م .
* المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والايضاح عنها : ابن جني
( ت 392هـ ) ، تحقيق : علي النجدي ناصف ، والدكتور عبد الحليم النجار ،
وعبد الفتاح اسماعيل شلبي ـ القاهرة ، 1386 هـ = 1966 ـ 1969 م .(1/15)
* المحرر الوجيز : ابن عطية ( ت 541 هـ ) ، دار ابن حزم ، بيروت ـ لبنان ،
1423 هـ = 2002 م .
* مختصر في شواذ القراءات من كتاب البديع : ابن خالويه ( ت 370 هـ ) ، عني
بنشره : برجستراسر ، دار الهجرة ـ مصر ، 1934 م .
* مدارك التنزيل وحقائق التأويل : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
( ت 710 هـ ) ، دار الكتاب العربي ، بيروت ـ لبنان ، ( د . ت ) .
* المدخل إلى دراسة النحو العربي : الدكتور علي أبو المكارم ، ط 1 ، 1402 هـ
= 1982 م .
* مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو : الدكتور مهدي المخزومي
( ت 1993 م ) ، بيروت ، ط 3 ، 1406 هـ = 1986 م .
* المرتجل في شرح الجمل : ابن الخشاب ( ت 567 هـ ) ، تحقيق : علي حيدر ،
دار الحكمة ـ دمشق ، 1392 هـ = 1972 م .
* المركب الاسمي الاسنادي وأنماطه من خلال القرآن الكريم : الدكتور أبو السعود
حسنين الشاذلي ، ط 1 ، دار المعرفة الجامعية ـ الاسكندرية ، 1410 هـ =
1990 م .
* مسائل خلافية في النحو: أبو البقاء عبد الله العكبري ( ت616هـ )،تحقيق وتقديم :
الدكتور محمد خير الحلواني ـ حلب ، ( د . ت ) .
* المسائل العسكريات : أبو علي النحوي ( ت 377 هـ ) ، تحقيق : الدكتور علي
جابر المنصوري ، ط 1 ـ بغداد ، 1982 م .
* المستدرك على الصحيحين : أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري
( ت 405 هـ ) ، تحقيق : مصطفى عبد القادر عطا ، ط 2 ، دار الكتب العلمية ،
بيروت ـ لبنان ، 1422 هـ =2002 م .
* مشكل اعراب القرآن : مكي بن أبي طالب القيسي ( ت 437 هـ ) ، تحقيق :
الدكتور حاتم الضامن ، منشورات وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد ، 1975 م .
* المصطلح النحوي نشأته وتطوره حتى أواخر القرن الثالث الهجري : عوض حمد
القوزي ، ط 1 ، شركة الطباعة العربية السعودية ـ الرياض ، 1401 هـ =
1981 م .
* معالم التنزيل ، المسمى بـ ( تفسير البغوي ) : أبو محمد الحسين بن مسعود(1/16)
البغوي ( ت 516 هـ ) ، ط 1 ، دار ابن حزم ، بيروت ـ لبنان ، 1423 هـ =
2002 م .
* معاني الأبنية في العربية : الدكتور فاضل صالح السامرائي ، ط 1 ، نشر جامعة
بغداد ، 1401 هـ = 1981 م .
* معاني الحروف والصفات : الرماني ( ت 384 هـ ) ، تحقيق : عبد الفتاح
اسماعيل شلبي ، ط 2، دار الشروق للنشر والتوزيع والطباعة ـ جدة ، 1981م .
* معاني القرآن : أبو زكريا الفراء يحيى بن زياد ( ت 207 هـ ) ، تحقيق : محمد
علي النجار ، ط 2 ، عالم الكتب ـ بيروت ، 1980 م .
* معاني القرآن : الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة ( ت 215 هـ ) ، تحقيق الدكتور
فائز فارس ، ط 2 ، دار البشير ، دار الأمل ، 1401 هـ = 1981 م .
* معاني القرآن الكريم : أبو جعفر النحاس ( ت 338 هـ ) ، تحقيق : محمد علي
الصابوني ، ط 1 ، نشر جامعة أم القرى ـ مكة المكرمة ، ( 1419هـ ) ، ( نقلاً
عن : قرص مكتبة التفسير وعلوم القرآن ) .
* معاني القرآن واعرابه : أبو اسحق الزجاج ( ت 311 هـ ) ، تحقيق : الدكتور
عبد الجليل عبده شلبي ، ط 1 ، دار الحديث ـ القاهرة ، 1424 هـ = 2004 م .
* معاني النحو : الدكتور فاضل صالح السامرائي ، مطابع دار الحكمة للطباعة
والنشر ـ بغداد ، 1991 م .
* معترك الأقران في إعجاز القرآن : جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ،
تحقيق : أحمد شمس الدين ، ط1، دار الكتب العلمية ، بيروت ـ لبنان ، 1408هـ
= 1988 م .
* معجم القراءات القرآنية : الدكتور أحمد مختار عمر ، والدكتور عبد العال سالم
مكرم ، ط 2 ، مطبوعات جامعة الكويت ، 1408 هـ = 1988 م .
* معجم المؤلفين : عمر رضا كحالة ، مطبعة الترقي ـ دمشق ، 1379 هـ =
1960م .
* مغني اللبيب عن كتب الأعاريب : ابن هشام الأنصاري ( ت 761 هـ ) ، تحقيق :
محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الكتاب العربي ، بيروت ـ لبنان ،( د . ت ) .
* مفتاح العلوم : أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي ( ت 626 هـ ) ، ط 1 ،(1/17)
مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده ـ مصر ، 1356 هـ = 1937 م .
* المفردات في غريب القرآن : الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني
( ت 502 هـ ) تحقيق : الدكتور محمد أحمد خلف الله ، الناشر : مكتبة الأنجلو
المصرية ، ( د . ت ) .
* المفصّل في علم العربية : الزمخشري ( ت 538 هـ ) ، نشر : محمد بدر
النعساني ، ط 2 ، دار الجيل ـ بيروت ، ( د . ت ) .
* مقاييس اللغة : أبو الحسين أحمد بن فارس ( ت 395 هـ ) ، تحقيق : عبد السلام
محمد هارون ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ، ( د . ت ) .
* المقتصد في شرح الإيضاح : عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) ، تحقيق :
الدكتور كاظم بحر المرجان ، منشورات وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ،1982م .
* المقتضب : المبرد محمد بن يزيد ( ت 285 هـ ) ، تحقيق : محمد عبد الخالق
عضيمة ، عالم الكتب ـ بيروت ، ( د . ت ) .
* ملاك التأويل : أحمد بن ابراهيم الغرناطي ( ت 708هـ ) ، تحقيق : سعيد الفلاح،
ط 1 ، دار الغرب الاسلامي ، بيروت ـ لبنان ، 1403 هـ = 1983 م .
* مناهج المفسرين : الدكتور مساعد مسلم آل جعفر، ومحي هلال السرحان ، ط 1 ،
دار المعرفة ، 1980 م .
* المنصف من الكلام على مغني ابن هشام ( حاشية الشمني ) : تقي الدين أحمد بن
محمد الشمني ( ت 872 هـ ) ، المطبعة البهية ـ مصر ، 1315 هـ .
* موصل الطلاب إلى قواعد الاعراب : خالد الأزهري ( ت 905 هـ ) ، المكتبة
الشعبية ، بيروت ـ لبنان ، ( مطبوع بهامش اعراب الألفية المسمى بـ ( تمرين
الطلاب في صناعة الاعراب ) .
* النحو القرآني قواعد وشواهد : الدكتور جميل أحمد ظفر ، ط2، مكتبة مكة
المكرمة ، 1418 هـ = 1998 م .
* نظرية النحو القرآني نشأتها وتطورها ومقوماتها الأساسية : الدكتور أحمد مكي
الأنصاري ، ط 1 ، دار القبلة للثقافة الاسلامية ، 1405 هـ .
* نظم الدرر في تناسب الآيات والسور : برهان الدين أبو الحسن البقاعي(1/18)
( ت 885 هـ ) ، ط 1 ، مطبعة دائرة المعارف العثمانية ، ( د . ت ) .
* النواسخ في كتاب سيبويه : حسام سعيد النعيمي ، دار الرسالة للطباعة ، بغداد ،
1977 م .
* همع الهوامع شرح جمع الجوامع : جلال الدين السيوطي ( ت 911 هـ ) ،
تصحيح : محمد بدر الدين النعساني ، دار المعرفة للطباعة والنشر ـ بيروت ،
( د . ت )
* وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان : ابن خلكان ( ت 681 هـ ) ، تحقيق :
الدكتور احسان عباس ، دار صادر ـ بيروت ، 1968 م .
ثالثاً : البحوث المنشورة في الدوريات :
* الاكتناف في بناء الجملة الشرطية القرآنية : الدكتور طلال يحيى ابراهيم ، بحث
مقبول للنشر في مجلة آداب الرافدين .
* الجملة التي لها محل من الإعراب والتي لا محل لها : ابن أم قاسم المرادي ،
تحقيق : طه محسن ، مجلة آداب الرافدين ، العدد السابع ، لسنة 1976 م .
* المصطلح الكوفي : الدكتور محيي الدين توفيق ابراهيم ، مجلة التربية والعلم ، كلية
التربية ـ جامعة الموصل ، ع 1 ، لسنة 1979 م .
* معاني الماضي في القرآن الكريم : الأستاذ حامد عبد القادر ، مجلة مجمع اللغة
العربية ـ القاهرة ، الجزء العاشر ، لسنة 1958 م .
* معاني المضارع في القرآن الكريم : الأستاذ حامد عبد القادر ، مجلة مجمع اللغة
العربية ـ القاهرة ، الجزء الثالث عشر ، لسنة 1961 م .
* مفهوم الجملة في اللسانيات والنحو العربي : الدكتور خير الدين الحلواني ، مجلة
المناهل ـ الرباط ، العدد 26 ، لسنة 1983 م .(1/19)
المحتويات
المقدمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 1ـ3
التمهيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 4ـ 9
الباب الأول
الفصل الأول : ضوابط التفسير العلمي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 10 ـ 32
الفصل الثاني : الضابط اللغوي في تفسير الآيات الكونية ... ... ... ... ... ... ... ... . 33 ـ 88
الفصل الثالث : الضابط اللغوي في تفسير آيات المجموعة الشمسية ... ... ... ... ... .. 89 ـ 134
الفصل الرابع : الضابط اللغوي في تفسير آيات الأرض ... ... ... ... ... ... ... ... 135 ـ 172
الباب الثاني
الفصل الأول : الضابط اللغوي في التفسير العلمي لآيات الجبال ... ... ... ... ... .. 137 ـ 206
الفصل الثاني : الضابط اللغوي في التفسير العلمي لآيات البحار ... ... ... ... ... 207 ـ 231
الفصل الثالث : الضابط اللغوي في التفسير العلمي لآيات الظواهر الجوية ... ... ... .. 232 ـ 285
المبحث الأول : الرياح ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 223 ـ 253
المبحث الثاني : السحاب والرعد والبرق ونزول المطر ... ... ... ... ... 254 ـ 272
المبحث الثالث : الليل والنهار والشروق والغروب ... ... ... ... ... ... 273 ـ 285
الفصل الرابع : نشوء الحياة والضابط اللغوي في التفسير العلمي لآيات النبات والحيوان
وخلق الإنسان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 286 ـ 350
المبحث الأول : النبات ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 289 ـ 298
المبحث الثاني : حياة الحيوان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 299 ـ 322
المبحث الثالث : خلق الإنسان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 323 ـ 350
الخاتمة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 351 ـ 354
المصادر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... .. 355 ـ 370(1/1)