...
مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
التواؤم بين آيات الله القرآنية وآياته الكونية
أ.د . علي الطاهر شرف الدين
المحرّم 1430هـ – يناير 2009م
الخلاصة
القرآن المجيد رسالة الله الخاتمة لبني الانسان؛ فيه تتسق الدلالالت القرآنية لآياته تعالى الكونية مع الدلالات الكونية لآياته القرآنية، ويتلازم في الخطاب القرآني روعة الاعجاز الرفيع مع دقة الايجاز البديع. فهو كلام الله وأمره في خلقه، وما يجري في الكون هو من سننه وفعله. فلا يكون بين كلامه عز وجل وفعله إلا التواؤم والالتآم والتناغم والانسجام والتكامل والانتظام. وتتجلى روعة هذا التواؤم والاتساق، بين آياته تعالى في القرآن وآياته في الانفس والآفاق. وذلك كلما اتسعت مدارك المتدبرين وتبلورت رؤى المتفكرين في دلالات هذا الكتاب الحكيم وفهم بيانه القويم عن تغاير الاشياء وتباينها وتكاثر الاحياء وتفرعها وتناظر الاسماء وتنوعها.
في هذا البحث رؤية عن المزاوجة بين ما تضمنه كتاب الله في وحيه من هداية وأحكام، وما ينطوي عليه خلق الله في الكون من سنن وإحكام.
مقدمة:(1/1)
القرآن الحكيم خاتم رسالات الله الى البشرية. فهو منذ نزوله خطاب لكل انسان في كل مكان وزمان. وقد حفظه الله تعالى من التحريف والتبديل وجعله خالداً لا تنقطع هدايته، تتواصل عبر الأجيال، وتتطور مع كل حال. يتجدد عطاؤه وتتعمق دلالات نصوصه كلما اتسعت آفاق المتدبرين وتطورت معارف المتفكرين في ما يعتمل في الكون من حدث محسوس وما تنفعل بتاثيره النفوس. أي أنه كلما ترقت مدارك العقل الانساني في مدارج العلم بطبائع الاشياء ومسالك الاحياء تكشفت له دروب من المعرفة وضروب من العلم بدلالات آي الكتاب العظيم. وهو كتاب شامل مهيمن على كل المعارف، متصل العطاء لا ينضب معينه. فهو مصدر للهداية بكل وجوهها، إذ لا تقتصر على هداية الانفس لتزكيتها وفلاحها بل تشمل كذلك هداية العقول لرشدها وصلاحها. فهي هداية لمعرفة حقائق الوحي كما هي هداية لمعرفة حقائق الكون. وحقائق الوحي تستمد اساسا من علوم الدين وحقائق الكون تكتسب اساسا من علوم الطبيعية، ولكن بين هذه وتلك تكامل. فالعلم المستمد من الوحي يرشد الى المقاصد ويجيب على السؤال: لماذا؟ وكل ما يتعلق بالغيب المستور، والعلم المكتسب يجيب على سؤال: كيف؟ وكل ما يرتبط بالكون المنظور. وكلاهما يسهم في تجليه الحقيقة في تواؤم وتكامل وانسجام، ودون تعارض أو تناقض وانفصام. والكشف عن هذا التواؤم بين الآيات القرآنية والآيات الكونية إنما يتأتى من خلال نهج رشيد في المزاوجة بين مدلول النص القرآني وما يفضي إليهه العلم الطبيعي. فهذه المزاوجة يجب أن تكون على درجة كبيرة من الدقة والحيطة والحكمة دونما اقحام لآي الكتاب الحكيم في غير دلالتها أو أعتساف لمعانيها أو تهافت في تحميلها غير ما تحتمل لتوافق نظرية علمية عن ظاهرة طبيعية، أو عكس ذلك محاولة تطويع مفهوم عن نظرية علمية عن ظاهرة طبيعية والزج بها لموافقة فهم سطحي لآية قرآنية. فالقرآن حمّال أوجه، ونظريات العلم الطبيعي قابلة للتعديل.(1/2)
لذلك فالمزاوجة القويمة إنما تكون بين فهم سليم للنص القرآني عن ظاهرة كونية وفهم قطعي الدلالة عن حقيقة هذه الظاهرة. وهذا ما نعنيه بالتواؤم والتكامل بين علوم الوحي وعلوم الطبيعية. وهذا التكامل إنما يعبر عن وحدة الغيب والشهادة التي تنم عن وحدانية الخالق.
وحدة الخلق بين عالمي الغيب والشهادة:(1/3)
إن ما يدركه الانسان أو يمكن أن يدركه في الطبيعة بحواسه هو ما نسميه عالم الشهادة. إلا أن في الطبيعة ما يستحيل إدراكه بالحواس أو بأي وسيلة مساعدة، إما بسبب وجوده في أطراف الكون القاصية أو بسبب حدوثه في الماضي أو المستقبل. علماً بان ما ندركه الآن من حالة الكون بوساطة الضوء الصادر من النجوم البعيدة إنما يصف حالته في ماضٍ سحيق، ذلك لأن الضوء وإن كانت سرعته كبيرة إلا أنها محدودة. وهكذا فإن ما نشاهده من حولنا في الكون محدود بحدود الزمان والمكان، ويستحيل تجاوز هذه الحدود عن طريق حواسنا. إلا أن ما وراء هذه الحدود يمكن تصوره عقلاً، بل يمكن وصفه من خلال القانون الطبيعي بحسبه امتداداً لما نشاهده بحواسنا. هذا الامتداد العقلي للكون المشاهد غيب نسبي من حيث ارتباط وجوده بالظرف الزماني والمكاني. أما الغيب المعرف بالألف واللام أو الغيب المطلق، هو وجود لا يمكن وصفه أو تفسيره بأي قانون طبيعي. ولكن بالطبع فهو محكوم بناموس الوجود الذي يشمل الغيب كما يشمل الشهادة. ومن هذا نجد أن عالم الغيب يحيط بالكون الطبيعي المادي ويسمو عليه ليس من حيث المكان بل من حيث مرتبته في عوالم الوجود، إذ يصير عالم المادة هو أدنى هذه المراتب، وهو ما يسمى بالسماء الدنيا بكل ما تحتويه مما نشاهده أو ندركه في هذا الكون الشاسع. والعلم عن ما يعلو على السماء الدنيا لا يدخل في إطار العلم الطبيعي ولكن يستمد من الوحي الذي فهمنا منه أن الله (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا...) [سورة الملك :الآية 2]، قد رتب بناء الوجود من هذه السماوات أو الطبقات السبع حيث يسمو بعضها على بعض في المرتبة، ولكنها تتحد في الخلق. والعلم بما يلينا من السماء الدنيا المتمثل في العلم الطبيعي محدود بمحدودية حواسنا وقاصر بقصور ادراكنا ولكنه متطور أبداً كلما اتسعت دائرة هذا الادراك، وكلما تعمقت معرفتنا بما يعتمل في الكون وفي الطبيعة وفي الحياة.(1/4)
إن سمو عالم الغيب وتضمنه الكون الطبيعي ينسجم مع شمول الوحي وهيمنته على العلم الطبيعي ومن ثم يدل على وحدة العلم وحدةُ الخلق بين عالمي الغيب والشهادة وارتباط كل ذلك بأصل واحد مستمد من الذات المتفردة بأحديتها المتميزة بصمديتها. وهنا يجب ألا يُخلط بين ما نُعنيه من وحدة الخلق في هذا السياق وما ذهب إليه بعض الغلاة من مقولة "وحدة الوجود" التي لا تتفق في مضمونها ومراميها مع ما يعالجه هذا البحث. أما هذا البحث فيتناول من خلال هذه العلاقة التوحيدية التواؤم بين العلم المستمد من الوحي مع شموله والعلم الطبيعي مع قصوره.
قصور العلم الطبيعي:
من هذا يمكن النظر إلى العالم الطبيعي وما يحدث فيه من ظواهر بحسبه مظهراً لوجود غيبي. ومن ثم يصير العلم الطبيعي مدخلاً للايمان بالغيب من حيث أن الاعتقاد بحقيقة ما يجري في عالم الشهادة وتبين حدوده يستوجب الايمان بالغيب الذي يمتد وراء هذه الحدود بلا حدود.
كما أسلفنا في ما ذكرناه من أوجه القصور في العلوم الطبيعية والتي كشفت عنها النظريات الحديثة، فإن الباحث المتعمق في دراسة سلوك المادة لابد وان يجد نفسه عند أعتاب الغيب. فالأجسام المادية – كما يمكن تصورها – ليس إلا حالات اختزان للطاقة أو مظاهر لتكوينات متكاثفة وسط وجود ذي طبيعة غيبية على نحو مشابه لقطعة ثلج في بحر تجمدت عن مياهه أو قطرة ماء تكاثفت عن بخاره. وهذه الطبيعة الغيبية يعضدها مبدأ عدم التيقن في الطبيعيات الكمية المؤسس على خاصية "التقطُع" في حالة الجسيمات الدقيقة، الذي يمكن تصوره من خلال ازدواجية جسيمية – موجية أو ( مادية – غيبية) تجعل وجود هذه الجسيمات احتمالياً لا قطعياً في المكان والزمان.(1/5)
من هذا يمكن الكشف عن حقيقة مهمة، وهي أن العالم الطبيعي المنظور ليس إلا تجليات لعالم غيبي مستور. أي أن أصل المادة ومنشأها وجود غيبي. ومن هذه التجليات والتي يمثل عالمنا صورة منها نشأ الكون والطبيعة وما يعتمل فيها من تفاعلات.
في القرآن أعظم تجليات الغيب:
تتفاوت تجليات الغيب من حيث الدرجة في المخلوقات؛ فهي في أدنى هذه الدرجات تتمثل في الجمادات التي نعني بها الأجسام القاصرة بذاتها عن الحركة ما لم يؤثر عليها مؤثر خارجي. وتتجلى الطبيعة الغيبية بمستوى أكبر في الأحياء وما ينطوي في سلوكها من غرائز، متدرجة من الحياة النباتية إلى الحيوانية. وأبرز درجات هذا التجلي هو خلق الانسان بما تفرد به من خاصية إعمال العقل في إدراك قوانين الطبيعة وسنن الكون. وأرقى تجليات الغيب تكون لدى نماذج من البشر اصطفاهم خالق الوجود لتبليغ ما لا يستطيع العقل بلوغه، هم أنبياء الله وحملة رسالاته الذين يمكن أن يطلعهم على غيبه (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) [سورة الجن :26-27] وعلى رأس هؤلا أتى النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم. وفي ذروة هذه التجليات وأروعها أوحى الله إليه القرآن الحكيم كتابا شاملاً ومهيمناً على كل المعارف، معبراً عن أعظم تجليات الغيب، ما فرط الله فيه من شيء، هادياً لمعرفته تعالى ولمعرفة سننه في خلقه. وبهذا يتسم هذا الكتاب المجيد بخطاب ذي خصائص تنم عن ايجازه في البرهان وإعجازه في البيان.
خصائص القرآن:(1/6)
ليس كلام الله كأي كلام. فالقرآن ليس خطاباً ينتهي معناه عند دلالات ألفاظه في مجال معين أو وقت معين. ولكنه رسالة الله إلى البشرية في كل مكان وعبر كل زمان. لذلك سميت الجملة المكونة لألفاظه آية يتنامى معناها ويتسع كلما ترقى العقل الانساني في مقدراته على استيعاب دلالاتها. وللسبب ذاته فإن المفسرين لم يقيدوا تفسيراتهم لآي القرآن بأسباب نزولها لأنهم وعوا حقيقة أن كلام الله أعمق من أن يقصر على معني واحد. كما انهم كانوا على درجة عالية من التأدب مع هذا الكتاب العظيم. فكثيراً ما ورد في تفاسيرهم افادات مثل قولهم: هذه الآية تعني فيما تعني، وقولهم: الله أعلم. ولعل ابلغ صور التأدب ماروي عن ابى بكر الصديق – وهو من هو في الاسلام- عندما سئل عن معنى الكلالة، الواردة في سورة النساء، إذ أجاب: أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان. والله ورسوله بريئان منه. وقد أفاد المقصود من المعنى. وأخذ به عمر (ر) قائلاً: إني لاستحي أن أخالف ابابكر في رأي راه. وقد أجمع على هذا المفسرون من بعده. ودرجة الفهم والإحاطة بمعاني الآيات ودلالاتها تزيد بزيادة العلم الذي يزيد مع التقوى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الانفال :الآية 29]. كما أن التقوى تفتح البصيرة في التفريق بين ما يلتبس على الناس (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) [سورة الانفال :الآية 29].(1/7)
ومع عمق دلالات القرآن فإنه في ما يفيد الذكر يناسب كل الناس ويخاطب كل مستويات العقل، إذ جعله الله ميسوراً في لفظه (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [سورة القمر :الآية 17] ، كما جعله بيِّناً في مدلوله (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [سورة يس الآية 69] هذه الصفة في كتاب الله التي تجعله ميسور الفهم للذكر عميق المعنى للفكر يكون القرآن هو الرسالة الخاتمة لبني الانسان. ولم يؤمر رسول الله إلا بتبليغها وتبيينها (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [سورة النور :الآية 54]. لذلك فإنه عليه السلام لم يعمد إلى تفسير آيات القرآن حتى لا يقصر معناها في دلالة محدودة فلا يجرؤ أحد بعده على مخالفة تفسيره فينغلق بهذا باب الاجتهاد والتفكر فيها لهذا فقد تعددت تفاسير القرآن مع تعاقب الاجيال والحقب. وقد كان عليه السلام يكتفي بالاشارة لآية تتعلق بامر ما إذ يقول: أقراؤ إن شئتم كذا ويذكر الآية ولا يفسرها بل إنما يبلغها. فلقد دعى النبي المؤمنين يوم حجة الوداع وقال: بلغوا عني ولو آية. وقال في الموقف ذاته: فليبلغ الشاهد منكم الغائب، ورب مبلغ أوعى من سامع. أي أن من يُبلغُ آية قد يعي معناها أكثر ممن يحملها. وقد طلب ممن استمعوا إلى مقالته ووعوها أن ينقلوها عنه كما سمعوها دون زيادة أو نقصان. وفي هذا اشارة إلى أن أجيالاً لاحقة من المؤمنين قد يكتشفون في القرآن ما لم يكتشفه من سبقهم كما أن فيه سر خلوده وإعجازه كلما تنزلت معانيه على الأحداث والظروف لكل زمان ومكان.(1/8)
في ضوء هذه الصفة التي ينفرد بها كتاب الله وما أوردناه عاليه من فهم لآيات الله الكونية وحقائق الوجود وعلاقة الغيب بالشهادة وأصل المادة، يجب أن ندرك أن كلام الله هو أعظم وأروع تجليات غيبه وربوبيته للكون. وعلى هذا يجدر بنا دراسة خصائص القرآن الحكيم سيما التي تعبر عن إعجازه في مجال العلوم الطبيعية والمعرفة الكونية، وذلك من حيث شموله هذه المعرفة وحفظه وثبوت حقائقه وثباتها في كل مكان وخلودها في كل زمان، ومن حيث أنه مجال للبحث والتفكر وطريق للهدى والاستقامة. وهنا يمكن – في إطار هذه المعرفة الكونية – مناقشة خصائص هذا الكتاب العظيم من الجوانب الآتية:
أولاً: خاصية شموله المعرفة الكونية:
لقد أسلفنا القول بأن الكون المنظور إنما يمثل حالة محدودة من وجود غيبي أوسع من أن ندرك طبيعته، وأن القوانين التي تصف السنن الكونية إنما تمثل حالة خاصة من ناموس الوجود. ولذلك فإن العلم الكوني لا يعدو أن يكون جزءاً من المعرفة الكلية. وهذا واضح من قصوره المرتبط بمفاهيم المكان والزمان والمادة، أو من ناحية أخرى، بتاريخ نشوء الانسان على وجه الأرض ومدى إدراكه المعرفي. بهذا فالعلم الكوني أو الطبيعي لا يخرج عن ما يتوصل إليه العقل الانساني من حقائق عن الكون والطبيعة. والقرآن وهو يقرر (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الانعام :الآية 38] يورد كثيراً من هذه الحقائق الكونية تصريحاً أو تلميحاً، وفي ما سوى ذلك يحرِّض العقل ويحثه على التدبر والتفكر والنظر في آيات الله. ويأتي الخطاب القرآني في ما يتعلق بآياته تعالى الكونية على ثلاثة وجوه؛ اخبار عن حقائق يمكن اختبارها، وحقائق لايمكن اختبارها وحقائق يمكن استنباطها وسناتي لمناقشة كل منها في الآتي:
(أ)حقائق قابلة للاختيار:(1/9)
وهذه نعني بها الإخبار عن حقيقة كونية يمكن اختبارها وإثباتها بالتجربة أو المراقبة كما في قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [سورة الذاريات :الآية47]. فاتساع السماء الكوني حقيقة توصل لها علماء الطبيعيات والكونيات وأثبتت حديثاً بالقياس الفلكي. وهي حقيقة لم يكن المفسرون الأوائل في وضع يمكنهم من ادراكها. وهناك من الحقائق ما يمكن الاستيقان منه بالتجربة كما حدث حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الاستشفاء من استطلاق البطن بعسل النحل التي: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة النحل :الآية69]. وهؤلا المتفكرون هم الباحثون في علوم الأحياء والكيمياء والصيدلة والطب، وفي سلوك النحل، وفي التركيب الكيمائي للعسل، وفي كيفية الاستفادة منه في الاستدواء. ولقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة على من استعجل شفاء أخيه فتشكك في فائدة العسل بقوله: صدق الله وكذبت بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا.
(ب)حقائق غير قابلة للاختبار:(1/10)
نقصد بذلك الإخبار عن حقيقة كونية مستنبطة من قانون طبيعي ولكن يستحيل اختبار صحتها بطريق التجربة أو القياسات العلمية فيما يؤمن به علماء الطبيعة – مثلاً – إزاء بداية خلق الكون. فهؤلا العلماء يصفون كيفية حدوث هذه البداية في الماضي السحيق قبل ما قد يصل إلى نحو عشرين بليون عاماً كما يتحدثون عن نهاية الكون في المستقبل البعيد. ويسود الاعتقاد لدى علماء الكونيات أن المادة الكونية - بما في ذلك الأرض - كانت رتقاً مندمجاً فانفتقت في انفجار هائل لم يستغرق من الزمن أكثر من برهة متناهية في الصغر، حيث انطلقت طاقة عظيمة جعلت درجة الحرارة تفوق 10 بليون درجة، تناقص مقدارها عبر الزمان مع اتساع مطرد في البناء الكوني حتى بلغت درجة من البرودة اتاحت للجسيمات الأولية أن تتآلف مكونة الذرات. ثم مع تزايد البرودة والاتساع تشكلت أجزاء الكون المنظور من مجرات ونجوم بالاضافة للمنظومة الشمسية بما فيها الأرض وما على الارض من ماء وحياة منشؤها هذا الماء. ثم أن هذا الكون سيواصل اتساعه إلى أن يؤول إلى فناء حراري محتوم لم يحدث بعد – والحمدلله على ذلك – مما يؤكد بداية الخلق وعدم أزلية الكون، إذ لو كان أزلياً – كما يدعي الماديون – لكان هذا الفناء الحراري قد حدث في الماضي. ويعتقد انه عندما يحدث هذا الفناء الحراري بعدما يستنفذ الكون كل طاقته في عملية الاتساع يصير خمود شامل يعقبه انكماش وانطواء إلى الداخل في أجزاء الكون ليعود كما بدأ.(1/11)
هذا النموذج الذي يؤمن بصحته علماء الطبيعة يتحدث عن بداية ونهاية الكون، وكلاهما غيب لا تحيط عقولنا بكنهه. ومن المفارقة أن الكثير من الملاحدة الذين كفروا بالخلق يؤمنون بهذا النموذج الكوني الذي يدل على حقيقة الخلق.فها هو القرآن يخاطبهم مستقرراً: (أَوَلَمْ يَرَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنبياء :الآية30]إلا أن هذه الافادة القرآنية اشمل دلالة من ما يفضي إليه النموذج الكوني إذ أنها لا تتعلق فقط بالكون أي بالسماء الدنيا بل تشمل الوجود كله بكل سماواته. وفي هذه الآية إعجاز بيّن من أن الذين كفروا – وليس الذين آمنوا – هم من رأوا هذه الحقيقة إبتداءً. كما يستقررهم بقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة العنكبوت :الآية19]. حيث أكد القرآن نهاية عمر الكون بقوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى). [سورة الاحقاف :الآية3] كما بين القرآن كيف ينتهي هذا الكون: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء :الآية104]. كذلك يؤكد القرآن أيلولة كل شيء إلى الهلاك: (لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). [سورة القصص :الآية88] ومثل ذلك قوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [سورة الرحمن:الآيات26-27]). وهذه الآيات تتحدى الذين كفروا وتجعلهم في ورطة إن لم يؤمنوا بالخالق.
(ج) حقائق قابلة للاستنباط:(1/12)
ونعني بهذه ما تتضمنه الآيات من إثارة لقضايا تتعلق بحقائق في الكون كماتتعلق بالغيب وتدعو إلى التدبر والنظر والتفكر في ملكوت الله واستنباط ما يفضي إليه ذلك من علم عن الطبيعة والحياة. والقرآن يذخر بالخطاب التوجيهي مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [سورة الأعراف :الآية185]، أو قوله تعالى:( قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [سورة العنكبوت :الآية20] وكذلك قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [سورة نوح :الآيات15-16].
والسؤال عن خلق السموات، وهو أمر غيبي، مقرونا بوصف لطبيعة الشمس والقمر، مثار لقضية تجمع بين العالم المستور والعالم المنظور. والخطاب القرآني كثيرا ما يمزج بين الإخبار عن الغيب والإخبار عن الطبيعة والفطرة والحياة بحسب أنها علوم تتكامل للكشف عن حقائق الوجود. ولهذا فكتاب الله هو المصدر الجامع للمعرفة في كل مناحيها، وتبيان لكل شيء فيها، حيث يقول الحق: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [سورة النحل :الآية89].(1/13)
إن وظيفة الرسول عليه السلام أن يبلغ الرسالة ويبين للناس ما نُزِّل إليهم فيما يتصل بعلاقتهم بالخالق وبالمخلوقات من حولهم حسب قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [سورة المائدة :الآية67] ، أو قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ). [سورة النحل :الآية44] ولكن مع ذلك فإن القرآن كان يصرف الرسول عن الاجابة على الأسئلة التي يُقصد بها شرح ظاهرة طبيعية كسؤالهم في علم الأحياء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) [سورة البقرة :الآية222] فلم يجبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلا في ما يفيدهم في أمر دينهم أما ما يحدث للبويضات داخل الرحم فمتروك للعقل البشري لاكتشافه. ومثل ذلك سؤالهم في علم الفلك: (يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [سورة البقرة :الآية189] فكانت الإجابة في ما يهم السائلين في حياتهم وعبادتهم أما كيف يتحول الهلال إلى بدر ثم يصير مُحاقاً وعلاقة ذلك بحركتي الأرض والقمر، فما بُعث الرسول لبيان ذلك. والإجابة على مثل هذه الأسئلة متروكة ليتوصل إليها الانسان كلما ترقى في إعمال عقله متدبراً آيات الله في خلقه ومتفكراً في ملكوته، فيكتشف القوانين التي تحكم وتصف ما ينجم في الكون من ظواهر.
مما أوردنا يمكن الخلوص إلى أن القرآن، وهو الكتاب الجامع لعلوم الوجود، يشمل علوم الكون بحسبه جزءاً من هذا الوجود. وتاتي الحقائق الكونية في سياق النصوص القرآنية إما بوجه صريح يدل عليها، أو بتوجيه للعقل ليكشف عنها. وفي الحالتين فإن مقدار ما نستمده من حقائق كونية من القرآن يزيد كلما تدبرنا آياته وكلما انعمنا النظر في آيات الكون.
ثانياً: خاصية حفظه وديمومته:(1/14)
حقيقة أن القرآن شامل لكل ضروب المعرفة ومهيمن عليها وأنه مصدر للعلم بحقائق الكون والوجود ما عُلم منه وما لم يُعلم، يعني أنه خالد ومتجدد العطاء لا ينضب معينه مع الزمن. وتجدد العطاء يفيد خطاب الله للانسان المتصل عبر الزمان. فهو محفوظ في كلمات الله لا يعتريه التبديل إذ: (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [سورة الكهف :الآية27] تعالى، ومحفوظ من التحريف والتزييف: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [سورة فصلت :الآية42]. ولقد أكد الله هذا الحفظ بقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [سورة الحجر :الآية9] ومع تطور حال المخلوقات عبر الزمان وكلام الله عن الحقائق الكونية ثابت لا يتبدل مثلما لا يتبدل خلقه للكون حيث: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) [سورة فالروم :الآية30] ، أو ما يجري فيه من سنة: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) [سورة الفتح :الآية32]. (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ...) [سورة يونس :الآية37] (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [سورة الواقعت :الآية77]. (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [سورة البروج :الآيات21-22]. واضافة لهذا الحفظ الذي كفله الله لكتابه في ملكوت السماوات فقد سخر له من يحفظونه في صدورهم على ظهر قلب ويجودون نطقه ويدققون في رسم حروفه وتوثيق قراءاته وضبطها والتفنن في تلاوته وفي طرق كتابته وفي إحصاء عدد آياته وحروفه. ولقد تكشف أن هناك علاقات عددية تحكم هذه الاعداد وغيرها في القرآن إذ كلها يقبل القسمة على العدد 19، وهذا اعجاز عددي يتفرد به كتاب الله.
ثالثاُ: خاصية ختمه للرسالات:(1/15)
منذ أن وجد الله الناس على الارض بعث فيهم انبياء وارسل الرسل يحملون الهداية لكل قوم مبشرين ومنذرين (...وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ) [سورة فاطر :الآية24]. وكانت هذه الرسالات على قدر ما تتسع له مدارك كل أمة. وما بلغت البشرية درجة من النضج وصارت أهلاً لتلقي رسالة الله التي تلبي حاجة كل انسان وتخاطب كل وجدان بُعث محمد هاديا وبشيراً ونذيراً بالقرآن رسالة الله الخالده للناس كافة. هذه الخاصية في القرآن التي تمثل خلوده وحفظه من التبديل مع شموله وتجدد عطائه للمعرفة في كل مكان وزمان تجعله رسالة الله الخاتمة للانسان. وفي هذه الخاصية يكمن سر إعجازه. وإعجاز القرآن تتعدد جوانبه. ومن هذه الجوانب سحره البياني الذي خاطب به الجيل الأول في صدر الإسلام. ونحن هنا لا نتطرق لكل جوانب الإعجاز القرآني وسنقصر تناولنا، أساساً - كما أشرنا آنفاً - على الإعجازات الكونية منها.
رابعاً: خاصية اعجازه:(1/16)
الآيات المعجزات في كتاب اللله يتجلى انسجامها وتناغمها مع آيات الله في آفاق الكون وفي خلق الأنفس كلما ترقى العقل البشري في فهم قوانين الطبيعة وتعمق في فهم دلالات النص القرآني والانفعال يإيقاعاته. ولا يزال القرآن يخاطب العقلاء ممن التبس عليهم الامر فلم يتبينوا الحق: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [سورة فصلت :الآية53]، ويسألهم مستقرراً: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ) [سورة ق:الآية6]ْ، أو يلفت نظر الانسان إلى خلقه داعياً: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) [سورة الطارق:الآية5]ْ. والعقل هو نعمة الله التي تتيح للانسان استنباط قوانين الطبيعة وتفتح بصيرته لفهم آيات الله المنزلات. وإن التعمق في فهم هذه القوانين والكشف عن سنن الله في ما ينجم من ظواهر طبيعية يفضي إلى اكتشاف أبعاد جديدة في معاني آيات القرآن، وبتطور مقدارات العقل البشري تتسع دائرة استيعابه لمعاني هذه الآيات. والحقيقة أن الله منزل القرآن هو الذي يهب لطالبي المعرفة العلم بما يستجد فيها لتعميق فهمهم لهذا الكتاب كلما تقدم الزمان. فربما فهم المفسرون الأولون آية قرآنية على نحو يتناسب آنئذ مع علمهم بخواص الأشياء وظواهر الطبيعة، لكن الآية ذاتها يمكن اليوم أن يتولد منها معنى أعمق، وقد يفهمها الجيل الذي يلينا بصورة أكثر عمقاً.(1/17)
وهذا الفيض المتجدد والمستمر من المعاني هو ما قد تُعنيه الآية: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) [سورة الكهف:الآية109]ْ وهوما نعنيه بالإعجاز القرآني والمنهل الرباني الذي لا ينتقص بالأخذ منه ولا يكتفي منه آخذ. وهو ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عبر عنه في وصف كتاب الله بأنه: لا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه. لهذا تحدى الله تعالى المرتابين في كلامه: (وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [سورة البقرة:الآية23]ْ. وبالطبع هم عاجزون حتى لو عاضدهم الجن في ذلك كما بين تعالى لرسوله: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) [سورة الاسراء:الآية88]ْ.
حقائق الكون في القرآن وحقائق القرآن في الكون:(1/18)
إعجاز القرآن – كما أسلفنا – يتجلى في اتساعه لمخاطبة العقل البشري المتصلة على مر العصور في الكشف والتدليل على الحقائق. ويجب الاعتقاد بأن هذا العقل قاصر بطبيعته عن ادراك الحقيقة الكونية النهائية مما يجعله قابلاً للتطور مثلما أنه قاصر عن الإحاطة بكل دلالات آية من القرآن الذي تتسع أبعاد معانيه مع الزمن. كما يجب الاعتقاد بأن الحقائق الكونية، قطعية الصحة، لابد وان تكون متوافقة مع ما يفضي إليه الفهم السوي لنصوص القرآن المتعلقة بهذه الحقائق. وانطلاقاً من هذا فإننا يمكن أن نقوِّم نتائج النظريات الكونية بمعيار فهم صحيح لآيْ القرآن، كما يمكن تقويم فهمنا الظني لآية قرآنية بما ثبتت صحته من قوانين كونية.أيْ أنه يمكن اكتشاف حقيقة كونية من خلال فهم متبصر لنصوص قرآنية، كما يمكن إدراك وتطوير معنى أشمل لآية قرآنية من خلال فهم لحقيقة كونية قطعية. وبهذه المزاوجة بين حقائق الكون في القرآن وحقائق القرآن في الكون تتفتح بصيرة المؤمن في ارتياد آفاق من المعرفة الكونية واستكشاف صور من الإعجاز عنها. وإن أبلغ معاني هذا الإعجاز هو ما يكون متعلقاً بالعلوم الطبيعية التي تُختبر فيها صحة الحقائق بالمراقبة والتجربة وتنضبط بالقياس.(1/19)
والنص القرآني قابل لمخاطبة كل مستويات العقل عند الفرد خلال تطوره الحياتي كما هو قابل لمخاطبة العقل البشري بوجه عام من خلال ترقيه عبر القرون والأجيال. ويمكن ان نسوق بعض الأمثلة لصور الإعجاز القرآني التي تكشفت عنها معان عميقة بتطور العقل في مجال العلوم الطبيعية. من هذه أن المرء ربما يكتفي بفهم سطحي أو مباشر – مثلاً – عند قراءة قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) [سورة القيامة:الآية4]ْ، ولكنه إذا تدبر روعة الخلق في الخلايا العصبية المتعلقة بحاسة اللمس وما في هذا البنان من دقة في ما تطبعه الانامل من بصمات يتباين رسمها عند أي شخصين حتى بين التوائم في الغالب الأعم، لعرفنا المغزى في تخصيص البنان للتدليل على قدرة الله، ولادركنا كم هو عظيم إعجاز الله في خلقه وفي قرآنه. ومثال ذلك إذا قرأنا قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) [سورة يس:الآية88]ْ، لكفانا ما يُستقى من معنى مباشر لهذه الآية. إلا أنه خلافاً لما يمكن أن يتبادر للذهن من أن الشجر اليابس هو الذي يُجعل وقوداً، فإن نعته بالخضرة، والذي يبدو لفظاً زائداً من أول وهلة، يثير تساؤلاً عظيماً، ما كان لنا أن نجيب عليه إلا عن طريق معرفتنا المكتسبة من علوم الطبيعيات والأحياء والكيمياء وعلم طبقات الأرض. فهذه العلوم تفيد بأن زيت النفط أو الغاز أو الفحم الحجري الذي تستمد منه في حياتنا المعاصرة وقوداً لتوليد الطاقة قد يكون ناتجاً من المادة الخضراء (اليخضور) في أوراق الشجر التي طُمرت تحت ضغط هائل في جوف الأرض منذ أمد بعيد كما يرى بعض المختصين، وإلا من المؤكد أن طاقة الاحتراق انما تنتج عن هذا اليخضور.(1/20)
ومن هذا يمكن ان نكتشف بُعداً أعمق ومعنى أشمل لما تنطوي عليه الآية دون ان يكون في هذا الفهم الحديث تناقض مع ما فُهم في الماضي أو ما قد يُفهم من ظاهر منطوقها. وقد لا يستوعب العقل ما ينطوي عليه لفظ قرآني ككلمة برزخ في قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ) [سورة الرحمن:الآية19-18]ْ وربما تفهم هذه الكلمة بمعنى حاجز مقارنة بالنص القرآني: (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) [سورة النمل:الآية61]ْ ذلك أن طبيعة الماء في البحرين متباينة كما تنص الآية: (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا). [سورة الفرقان:الآية52]ْ وهذا التباين هو الذي يُعزى إليه عدم اختلاط الماء المتحرك في البحرين فينشأ عنه هذا الحاجز البرزخي الذي يمكن تفسيره الآن في ضوء النظرية الجزيئية التي تصف سلوك التيارات السائلة. وهكذا فإن هذا المفهوم الجزيئي لكلمة برزخ كان مُكتنزاً فيها حتى كشفت عن دلالته الطبيعيات الجزيئية.
واكتناز اللفظ الواحد لمعان واسعة من خصائص التعبير القرآني والتي ربما لا تُكتشف من اول وهلة، ففي قوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [سورة الذاريات:الآية47]ْ، مجال للتدبر في آيات الله من اتساع كوني أسلفنا الحديث عنه ومن أييد تحكم بناءه. فالأييد هي محصلة القوى التي تتضافر في حفظ توازن الكون وتماسك بنيانه. نعرف منها القوى التثاقلية والكهرمغنطيسية والنووية بتفاعليها الشديد والضعيف، وربما هناك قوى أخرى لمَّا يكتشفها العلم الحديث.(1/21)
فالقوة التثاقلية هي التي تجعل الأجرام السماوية متماسكة البناء كما يجعلها متوازنة في ما بينها، وهي التي تنجذب بفعلها الأجسام فتستقر على الأرض كما جاء في قوله تعالى: (أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ) [سورة النمل:الآية61]ْ. وهذه الرواسي هي التي تحفظ توازن الأرض عند دورانها حول نفسها والتي ذكرت في آية أخرى:( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [سورة الأنبياء:الآية21]ْ. والرواسي الشامخات هي التي تؤثر في حالة الطقس فينعقد ركام السحب عند قممها وتتكاثف الثلوج عليها وتذوب وتستحيل السحب مطرا تجري من هذه وتلك الانهار بماء فرات ينحدر من سفوحها بفعل جذب الأرض التي تكفت إليها كل حي وجماد كما قال تعالى في بيان ذلك مذكِّراً الانسان: (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا. أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا. وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) [سورة المرسلات:الآيات35-37]ْ وإذا عرفنا أن القوة التثاقلية الجذبية هي التي تحكم نظام الكون الشاسع وهي التي تجعل الكواكب والنجوم وكل الأجسام المنظورة متماسكة متزنة، فإن القوة الكهربية والمغنطيسية هي التي تجعل الذرات المكونة للمادة كياناً مستقراً بفعل تجاذب نواة الذرة مع ما حولها من الكترونات مثلما تستقر الكواكب بافلاكها المدارية بفعل تجاذبها مع الشمس ومع بعضها بعضاً في المنظومة الشمسية.
وإذا غصنا داخل البناء الذري للمادة سنجد الجسيمات الدقيقة التي تتركب منها نواة الذرة مترابطة في ما بينها بقوة هائلة هي القوة النووية.(1/22)
وهكذا نجد أن البناء الكوني سواء في عالم الأجسام الجهاري أو الجسيمات المجهرية محكوم بمحصلة هذه القوى التي فتق الله بها الكون بعد أن كان رتقاً، كما أسلفنا شرحه. وهي التي يُعزى لها اتساعه الذي يؤكده القرآن بـ (إنّا) ولام التوكيد في (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) كما تؤكده المراقبة الفلكية.
إن النظرية التي يعتقد علماء الكونيات في صحتها عن البناء الكوني لا تخرج عن معاني آيات الانفتاق والاتساع المذكورتين آنفاً. وبتعميق فهمنا لهاتين الآيتين يمكن تطوير هذه النظرية. وفي هذا مثال لقابلية القرآن للكشف عن حقائق المعرفة الكونية.
وإذا استقرأنا ما توصل إليه العلم الطبيعي في ضوء آية الانفتاق لأفادنا ان الكون، بما فيه كوكبنا الأرضي الذي تقوم عليه الحياة، والسماء المحيطة به، بل واستصحاباً لمدلول هذه الآية ليشمل بقية السموات التي تكمل مراتب الوجود، كانت جميعها في حالة التحام ففتقها الله بانفجار هائل الشدة في زمن فائق في الصغر يقدر بجزء من مليون من الثانية تدل عليه "فا" التعقيب في قوله تعالى: (فَفَتَقْنَاهُمَا).
وتستطرد النظرية الكونية في وصف اتساع الكون وتناقص حرارته الذي أتاح للجسيمات أن تتآلف مكونة الذرات ثم تآلفت الذرات لتكوين الأجرام السماوية والكواكب بما فيها الأرض. وتفيد هذه النظرية أنه في مرحلة من عملية تطور خلق الكون سمحت الظروف الطبيعية باتحاد ذرات الاكسجين مع ذرات الهيدروجين لتكوين الماء الذي اتاح نشوء الحياة على وجه الأرض. وهذا ما أُخبرت به آية الانفتاق إذ اكتمل نصها بقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [سورة الأنبياء:الآية30]ْ. وذلك للارتباط المنطقي بين الانفتاق ونشوء الماء والحياة من خلال تسلسل عمليات الخلق.
روعة التعبير ودقة التقدير:(1/23)
والماء هو المركب الأساس في الكائنات الحية: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) [سورة النور:الآية45]ْ ولقد تكرر ذكر الماء في كتاب الله 63 مرة أغلبها في معان تذكر بهذه النعمة الشاملة التي جعلها الله متاحة في الطبيعة بحيث تغطي المياه 71% من سطح الكرة الأرضية. فهو موجود في الطبيعة في ثلاث حالات، صلبة وسائلة وغازية. لذلك فهو أحسن واق من انتشار الحرائق وانجع عامل لإطفائها مع أن جزيئاته مركبة من عنصري الهيدروجين شديد الاشتعال والاكسجين الذي يساعد عليه. وللماء استخدامات ووظائف كثيرة في الحياة. ولكي يؤدي الماء وظيفته الحيوية أودع الله فيه جملة من الخصائص الرائعة. فهو موجود على نطاق واسع في حالة السيولة كما يتبخر ليشيع في الجو قدراً من الرطوبة الضرورية للحياة البيئية ويستحيل بخاراً عند درجة حرارة الغليان كما أنه يتحول إلى ثلج وبرد وجليد عندما تنخفض درجة حرارته إلى الصفر. وعند هذه الدرجة تقل كثافة الماء المتجمد ثلجاً فيطفو على سطح السائل. وبفضل هذه الخاصية الرائعة التي يتفرد بها الماء دون غيره من السوائل تجد الأحياء المائية مأمناً في باطن المحيطات القطبية، حيث يكون الماء، الذي تحجبه عن الهواء البارد طبقة ثلجية، دافئاً نسبياً. ذلك لو كانت كثافة الماء تزيد بالتجمد كما هو الحال في غيره من السوائل لقضى ذلك على الحياة في جوف البحار الشمالية والجنوبية، ولتجمدت كل مياهها بل ولتسببت في كارثة من الطوفان والفيضانات على وجه الأرض.
وهذا الابداع في خلق الله الذي عبرت عنه آية: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [سورة القمر:الآية49] ، ليكشف عن دقة في التقدير: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [سورة المؤمنون:الآية14]ْ.(1/24)
وتوقف الحياة على الماء يبدو أمراً بديهياً إلا انه عندما يأتي ذلك في سياق آية الخلق مشيراً إلى مرحلة من مراحل الانفتاق الكوني يكون أكثر عمقاً في مخاطبة الذين كفروا وأكثر تحدياً لعقولهم.
ومثل هذه الأسئلة التي تتحدى عقول الغافلين أو الضالين تتكرر في القرآن، تسألهم عن خلق السموات والأرض لتقرر حقيقة يمكن أن يتوصل إليها العقل. وقد ظل هذا التحدي قائماً من عهد نوح عليه السلام عندما خاطب قومه: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا) [سورة نوح:الآيات15-16]ْ. والسماوات السبع – كما أسلفنا – هي مراتب الوجود أدناها كوننا المادي المنظور، الذي تمثله السماء الدنيا بما تحتويه من بروج ومن شمس وقمر:
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا) [سورة الفرقان:الآية61]ْ. والشمس هي السراج الوهاج الذي يشع منه الضياء وتنبعث منه الطاقة التي تعتمد عليها الحياة على وجه الأرض. أما الضوء المنعكس من على سطح القمر هو النور. وحقيقة الفرق بين طبيعة الشمس والقمر لم تكن معروفة قديماً بالوضوح العلمي الذي أشارت إليه الآية والتي لم تُفهم إلا بعد تقدم العلم الطبيعي في عصور متأخرة.(1/25)
ولقد ناقش العلم الطبيعي قضايا كونية تولدت عنها جملة من الأسئلة كانت إجابة القرآن – كما أسلفنا إزاء تمدد الكون – موجزة وبليغة وحاسمة. ومثل هذه القضايا ما يتعلق بخلق الأرض وكيف تكونت عليها الجبال الرواسي، وكيف تتوغل جذور هذه الرواسي عبر القشرة الأرضية كما تتووغل الاوتاد، وكيف يؤدي وزنها إلى التحكم في استقرارها وفي حركتها من أن تميد وتضطرب. وما توصل إليه العلم الحديث بشأن هذه القضايا كان القرآن قد أوجزه في آيات بيِّنات في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا. وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) [سورة النبأ:الآية6-7]ْ. كذلك في قوله الحكيم: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ). [سورة لقمان:الآية10]ْ لقد ظل الانسان ردحاً من الزمان يجهل حدود الأرض ولم يتأكد من كرويتها إلا بعد ما طاف حولها. ولم يكتشف مفسرو القرآن الأوائل سر الإعجاز القرآني في السؤال المتضمن لعبارة: (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [سورة الغاشية:الآية30]ْ، واكتفوا بما ظهر لهم من معنى قوله تعالى: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا) [سورة ق:الآية7] أو قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا). [سورة نوح:الآية19]ْ اكتفوا بما يبدو من معنى مباشر لهذه الآيات وبما ألفوه من انبساط في سطح الأرض ظاهر على مد البصر. إن المتبصر في هذه الآيات يرى أن سطح الأرض المنبسط في كل موضع يجب أن يكون ممتداً إلى ما لا نهاية. والسطح الوحيد الذي يتميز بهذه الصفة الهندسية هو السطح الكروي. وهو الذي يتيح تكور الليل على النهار والنهار على الليل على نحو ما نشهده في الطبيعة بتعاقب الليل والنهار ووفق ما تقول به الآية: (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) [سورة الزمر:الآية5]ْ ويمكن كذلك استنباط ما يشير إلى كروية الأرض من قوله تعالى: (...(1/26)
حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ....) [سورة القمر:الآية50]. وأمر الله ياتي للناس جميعاً في وقت واحد كلمح بالبصر كما في قوله تعالى: (وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) إذن الليل والنهار المذكورين في الآية يعبران عن وجهي الكرة الأرضية. وهنا يجدر ان نلحظ أن هذه النتيجة العلمية المستوحاة من هذا الفهم المتقدم لاتُناقض ما ذهب إليه المفسرون الأوائل في فهم آية: (وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ). بل تعمق معناها وتربط دلالاتها بسنة الله في الطبيعة كما تكشف عن إعجاز الخطاب القرآني.
وهذه الصفة الكروية للأرض ناتجة من قوة التثاقل التي تجعلها متماسكة مستقرة أثناء دورانها حول نفسها ودورانها حول الشمس. ومن هذا الدوران تنجم ظواهر طبيعية وتأثيرات بيئية تكون مدعاة للتدبر في آيات الله وسننه الكونية عند الموقنين به كما هي وازع للإستبصار في ما يعتمل في أنفسهم من ذلك: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [سورة الذاريات:الآيات30-31] وآيات الخلق وكل ظواهر الطبيعة إنما تخاطب الذين يعقلون: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [سورة البقرة:الآية164]ْ. وهذه الآيات مع ما فيها من إعجاز هي طريق للهداية والرشاد.
خامساًً: خاصية القرآن في الهداية:(1/27)
شمولية القرآن للمعرفة التي تعبر عن كونه خاتم الرسالات يفيد إحتواءه على خبر ما قبلنا ونبأ ما بعدنا، كما أفاد الحديث الشريف. وهذا معنى خلوده وتجدد معانيه عبر الزمان وامتداده ليسع كل حال وكل ظرف ومكان. فخلوده هو سر إعجازه، واتساعه يجعله مصدراً للهدى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [سورة الأسراء:الآية9]ْ فهو طريق للهداية والارشاد في كل أمر، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، كما حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم. وهو الفرقان بين الحق والباطل وبين الصدق والزيف وبين الصحة والخطأ وبين الخير والشر وبين الحلال والحرام وبين الفضيلة والرذيلة وبين الاصلاح والإفساد وبين الرشد والغي وبين الهدى والضلال، فهو (هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) [سورة البقرة:الآية185]ْ. ومما لا ريب فيه أن المتقين أحرى بان يجدوا في كتاب الله هداهم: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة:الآية2]ْ ، وهذه حقيقة يدركها الذين أوتوا العلم ويرون في هذا الكتاب المنزل الحق والهداية: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سورة سبأ:الآية6]. وفي كل علم من العلوم يكون وجه من الهداية. والهداية في مجال العلوم الكونية تكون في الآتي:
[1] توجيه العقل للرؤية والنظر في آيات الكون:
القرآن حافل بالآيات التي تحث على التدبر في خلق الكون والتفكر في ظواهر الطبيعة. عشرات الآيات تبدأ بالسؤال التقريري كما في قوله تعالى: ألم تر أن الله، أولم يروا، أفرأيتم، أولم ينظروا، أفلا ينظرون، وغيرها. ويعقب هذا السؤال التوجيهي طرح لموضوع يتعلق إما بقضية الخلق أو بسنة من سنن الفطرة او ظاهرة في الطبيعة. كمثال لهذا الخطاب القرآني نورد بعض الآيات التالية:(1/28)
(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ) [سورة إبراهيم:الآية19].
(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [سورة العنكبوت:الآية19].
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [سورة الرعد:الآية41].
(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ) [سورة الزمر:الآية31]ْ
(أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) [سورة النور:الآية43]ْ.
(أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ) [سورة الواقعة:الآيات68-69].
(أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [سورة الأعراف:الآية185]ْ
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ) [سورة ق:الآية6]ْ.
(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [سورة الغاشية:الآية17].
ويكون الخطاب أحياناً توجيهاً مباشراً كما في قوله تعالى:
(قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) [سورة يونس:الآية101].
(قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [سورة العنكبوت:الآية20].
(فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا) [سورة عبس:الآيات24-25].
(فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [سورة الطارق:الآيات5-6].
(انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام:الآية99].
الطريق لمعرفة الله:(1/29)
إن النظر والتفكر في آيات الله الكونية يكشف عن ما تنطوي عليه من حكمة وتقدير واتقان وتدبير ولطف وتيسير. فها هو ذا ابراهيم عليه السلام كان يتلمس طريقه لمعرفة ربه بالنظر في آيات خلقه (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي........ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ...) [سورة الأنعام:الآيات77-87].، حتي بلغ به المطاف إلى معرفة الله فأسلم وجهه حنيفاً. بهذا يكون ابراهيم عليه السلام قد استنَّ للباحثين عن الحقيقة منهجاً علمياً قويماً. وهكذا عصمه الله من أن يضل وهو نبي، فأراه ملكوت السموات والأرض وليكون موقناً: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام:الآية75].
والنظر في ظواهر الطبيعة مثلما هو مدخل لمعرفة الله هو كذلك طريق لمعرفة سننه الكونية ولاكتشاف القوانين الطبيعية التي يمكن تطبيقها لتطوير وسائل الحياة الانسانية، كما يمكن أن نستنبط منها تصوراً لبُنَى الطبيعة يفضي إلى نظريات تصف لنا ما يعتمل أو ما يمكن ان يعتمل فيها من أحداث.
فالنظرية الكونية الحديثة تقرر أن الأجسام ذات الكتلات العظيمة تؤثر على هندسة الكون. فكلما كانت كثافتها كبيرة كلما كان الفراغ حولها منحنياً غير مستو. لذلك فإن النجوم ذات الكثافة العالية تجعل مسار الأجسام حولها منعرجاً. ولعل هذا الإنعراج هو ما أشار إليه قوله تعالى: (وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) [سورة سبأ:الآية2].
وقوة التثاقل الهائلة حول النجوم كثيفة المادة تجعل لمواقع هذه النجوم خصوصية في الخلق يمكن أن تكون سر قسم الله بها في قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [سورة الواقعة:الآيات75-76].(1/30)
كما أن تباعد هذه النجوم بمسافات أكبر من أن نتصورها بعقولنا إنما يعزز تفسير سر هذا القسم ويزيده وضوحاً. والنجم الضخم يمكن – بفعل هذه القوة المتعاظمة – أن تتضاغط مكوناته فيتقلص منهاراً إلى داخله حتى تتلاصق أنوية الذرات المكونة له وتندمج. وهذا النجم الذي انهار بناؤه وهوى إلى داخله يتكون فقط من النيترونات، ويسمى لذلك نجماً نيترونياً. ؤيكون له أعظم كثافة ممكنة تبلغ 1.4 بليون طناً في السنتيمتر المكعب الواحد. وتكون جاذبيته أقصى جاذبية لجسم مادي، حيث تتجلى قدرة الخالق فيما أودعه الله فيه من قوة. وقد يكون في ذلك سر قسمه تعالى في أول سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) [سورة النجم:الآية1].. ولعل المقصود بالنجم الذي هوى، الشعرى اليمانية التي كثيراً ما نشاهدها بالقرب من كوكبة الجبار متلألئة بضوء لونه مائل للزرقة، وقد ورد ذكرها في أواخرالسورة ذاتها في آية: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى) [سورة النجم:الآية49].
. إذ كانت نجماً عملاقاً فانهارت لتصبح نجماً من الأقزام. وهي من أقرب النجوم إلينا إذ تبعد منا حوالي 8 سنوات ضوئية. والسنة الضوئية تساوي المسافة التي يقطعها الضوء لمدة عام بسرعة مقدارها نحو 300 الف كيلومتر في الثانية الواحدة.
واسترسالاً في التفكر في آيات الكون يمكن فهم تأثير النجم النيتروني على البناء الكوني حوله، حيث يكون هذا النجم ثاقباً لبنية السماء. وهنا يمكن أن نستأنس بهذا المعنى في فهم ما أقسم به الله: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ). [سورة الطارق:الآيات1-2].
وربما استأنس به أيضاً من يقولون بوجود ثقوب سوداء في الكون. والثقب الأسود هو نجم يعتقد انه تقلص منهاراً إلى داخله بسبب التجاذب المتعاظم بين أجزائه حتى انعدم حجمه فصار نقطة جذب لا متناه تبتلع كل ما حولها، حتى الضوء لا يمكن انفلاته أو خروجه منها، لذلك سمييت ثقباً أسود.(1/31)
هذا الكون البديع:
وهكذا فإنه كلما تقدم العلم الطبيعي في فهم آيات الكون كلما تكشفت لنا كنوز آيات القرآن. وكلما بحثنا في بناء الكون تجلى لنا الابداع في تكامل عناصره، والحكمة في توازن قواه، والروعة في انسجام أحداثه، والدقة في تناسق خلقه الذي لا يعتريه خلل: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعْ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ) [سورة الملك:الآيات3-4]. لهذا كان الخطاب القرآني موجهاً نظر المكذبين بحقيقة البعث للتفكر في بناء الكون وخلقه مذكراً المنيبين للتبصر في روعة هذا الخلق: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ. وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) [سورة الغاشية:الآيات6-8].
ومن روائع هذا النظام الرباني المحكم هذه الزوجية التي تسود في الطبيعة وتفضي إلى توازن بديع في شتى مدلولاتها. فقد أسبغها اله على الأحياء من حيوان ونبات في خاصيتي الذكورة والانوثة، كما فطر عليها كل الأشياء: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [سورة الذاريات:الآية49].
ومن الواضح أن "كل شيء" تعني الأزواج كلها كما في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [سورة يس:الآية26].(1/32)
وعبارة " مما لا يعلمون" تجعل المعنى شاملاً كل صنوف الخلق سواء في عالم الماديات أو حتى المعنويات. وامتداد معنى الزوجية ليشمل ما لا يعلمه الانسان بعد، يدعو إلى التفكر والبحث في صورها، كما أنه يمثل واحداً من أوجه الإعجاز في كلام الله عن شمول هذه الزوجية وعن تكشف انواعها كلما ازداد الانسان علماً. ولقد تجلت هذه الخاصية التكاملية في طبائع الأشياء في زوجية الشحنات الكهربية، وفي الازدواجية الجسيمية – الموجبة للضوء وللمادة بوجه عام ومضادها، وغير ذلك من أنماط الزوجية التي ستظل مجهولة ولمَّا يكتشفها العقل البشري كما تفيد الآية بذلك .
[2] الكشف عن الحقائق الكونية:
لايقف القرآن في مجال الهداية عند حد توجية نظر الانسان للتفكر في حقائق الكون بل أنه كثيرا ما يتيح الكشف عن هذه الحقائق سيما في أمور يكون العقل قاصراً عن الإحاطة بها أو اثباتها بالتجربة كخبر نشؤ الكون ومآله الذي اسلفنا مناقشته، أو كما في قوله تعالى عن تسبيح الأشياء:( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [سورة الأسراء:الآية44]. وعلى الرغم من عدم فهمنا طبيعة هذا التسبيح إلا انه يمكن تقريبه للأذهان من خلال تصورنا للحركة الترددية التي تعتمل داخل البناء الذري للمادة ويحكمها قانون كمِّي، أو الحركة الدورية للأجرام السماوية التي لاتكف عن سمتها التكرارية التسبيحية. كما أننا يمكن أن نفهم النمط الترددي لهذه الحركة من خلال اعتقادنا بتسبيح الكائنات المادية.(1/33)
وهناك حقائق قرآنية أخرى يعجز العقل – في زماننا هذا – عن ادراك كنهها ولكنه لا يملك أن يدحضها كحديث الهدهد وحديث النمل في قصة سليمان عليه السلام. وحقيقة أن العقل البشري غير مصصم لاستيعاب لغة غير لغة الإنسان، سوى ما اختص الله به نبييه سليمان. إلاّ أن ملاحظ العلماء تشير الى وجود طريقة للتخاطب بين أفراد كل جنس من الأحياء كما تؤكد وجود تنظيم فطري بديع لدى ممالك النمل والنحل وغيرها من الحشرات، وفي سلوك الطيور والأحياء المائية وسائر الحيوانات. وهذا ماكشف عنه كلام الله: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [سورة الأنعام:الآية38].
وقد تأتي الحقائق الكونية في ثنايا نص قرآني عرضا، أو يمكن استنباطها من اشارة عابر أو من خلال إخبار غير مباشر. ومثال ذلك إنزال الحديد ورد في سياق الآية من أن فية بأسا شديدا ومنافع للناس : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) [سورة الحديد:الآية35].. ففي هذا ما يفيد أن هذا المعدن لم يكن موجودا في تكوين الأرض ربما إبان الحقب السابقة لنشوء الانسان عليها. وإن إفراده دون غيره من الفلزات يشير الى خصوصية في خواصه الطبيعية جعلت منه أداة آلية للحصول على الطاقة لمصلحة الانسان كما هو ضروري لتوفيرها في غذائه. فمنه يتركب اليحمور (الهموجلوبين) في الدم. واللافت للنظر هنا ان ذرات الحديد لا تتركب إلا بطاقة عالية غير متاحة في الأرض مما يفيد نزوله مركباً من خارج هذا الكوكب. ويؤكد ذلك أن النيازك التي تتساقط على الأرض بلا انقطاع ومعظمها في شكل ذرات تستقر في تربتها تتكون أساساً من عنصر الحديد الذي تمتصه النباتات ثم يدخل كأهم عنصر في غذاء الحيوان والانسان.
حقائق مستنبطة:-(1/34)
ويمكن استنباط جملة من الحقائق عن الطبيعة من خلال التدقيق في النصوص القرآنية مثال ذلك عن كروية الأرض كما أسلفنا أو عن انخفاض سطحها لأدنى حد عند الموضوع الذي دارت فيه المعركة التي غلب فيها الروم على ايدي الفرس حوالي 615م، وذلك من قوله تعالى: (غُلِبَتْ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ...) [سورة الروم:الآيات2-3].كما يمكن استنتاج قلة الأكسجين بالارتفاع عن سطحها من ما يدل عليه النص القرآني: (....وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).... [سورة الأنعام:الآية125].. أو ضرورة ترك الحصاد مثل القمح في سنبله حفظاً له من التسوس والآفات كما قد يستنبط من قول يوسف عليه السلام: (....فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) [سورة يوسف:الآية47].ويمكن من قوله تعالى: (إنا نأتي الأرض ننقصها من اطرافها) [سورة الرعد 41:الأعراف 44].، أن نستنتج تزايد حرارة الأرض وما يسمى بالتأثير الصوبي أو بظاهرة الإحتباس الحراري وما يستتبع ذلك من ذوبان الجليد والثلوج وارتفاع مياه البحار والمحيطات وسطوها على اليابسة، و من ثم تفسير انتقاص الأرض من أطرافها بتزايد غمرها بالماء بسبب تزايد حرارة الأرض الناجم عن تلوث البيئة. كما أن قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [سورة الروم:الآية41]. ، يمكن تفسيره بالتلوث الذي يفسد الجو والأرض براً وبحراً بسبب بعض أعمال الناس وأنشطتهم غير المنضبطة بمباديء العدل وقيم الفضيلة وما يجره عليهم هذا السلوك من أضرار لعلهم يؤوبوا إلى رشدهم.(1/35)
وثمة استنباطات أخرى لحقائق في علم الكونيات عن خصوصية مواقع النجوم التي أقسم بها الخالق، وعن تكون جزيئات الماء في مرحلة من تطور البناء الكوني سابق لنشوء الحياة على الأرض وغير ذلك مما ناقشناه آنفا في سياق الإعجاز القرآني وتواؤم ما قطع بصحته العلم الطبيعي مع ما يفيده مدلول النص القرآني. وبالطبع فإن التوصل الى حقائق كونية من خلال التبصر في آيات القرآن إنما يعبر عن هذا التواؤم. مثال ذلك الحقيقة المستنبطة من الخبر القرآني: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [سورة يونس:الآية92].والدالة على أن جسد فرعون مقدر له أن يبقى عبر القرون على الرغم من أنه لم ينج من الغرق حسب قوله تعالى (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا). [سورة الإسراء:الآية103].(1/36)
وقد قدر الله أن يبرع قدماء المصريين في كيمياء التحنيط لتحقيق هذه المعجزة القرآنية إذ اكتشفت مومياء هذا الفرعون في نهاية القرن الماضي لتكون شاهدا على اعجاز القرآن وحفظه. وفي هذا تصحيح لم يرد في سفر الخروج في كتب اليهود والنصارى ازاء حادثة غرق الفرعون. ومثل ذلك، تصحيح توقيت ميلاد عيسى عليه السلام الذي يحتفل به النصارى شتاء، في حين ان في القرآن ما يشير الى أنه ولد في فصل يكون التمر فيه رطبا حسب ماتعني الآية: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) [سورة الإسراء:الآية102].والنخل في فلسطين لا يثمر الرطب الجنى في الشتاء. وفي هذه الآية كذلك فائدة صحية عن جدوى الرطب لغذاء المرأة المرضع. وهو ما تؤكده التجربة. والحقائق المستمدة من الكتاب الحكيم تأتي أحيانا بصورة مباشرة، كما سبق ذكره ازاء الفائدة الطبية لعسل النحل، أو ما في الحديد من بأس ومنافع للناس أو في تطور خلق الإنسان في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ....) [سورة المؤمنون:الآيات13-14].وهذا الترتيب القرآني لأطوار الخلق هو ما استقر عليه علم الأجِنَّة الحديث. وتتضح الدقة العلمية في هذا النص القرآني من إستخدام "ثم" و"الفاء" في تقدير المدى الزمني لتعاقب هذه الأطوار. وخلق الإنسان من الطين، أي من الماء والتراب المكون من عناصر الأرض، حقيقة يؤكدها أن خلايا جسم الانسان إنما تتركب من هذه العناصر ومن الماء. لذلك فان الذي يرتاب في أمر البعث لا يسنده منطق علمي.(1/37)
فهذا شأنه كمن حدثتنا عنهم آية: (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً، قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ) [سورة النازعات:الآية11-12] إذ يكون قد ضرب مثلا ونسي أنه مخلوق من الذرات ذاتها التي نشأت عنها هذه العظام أول مرة: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).[سورة يس:الآية78-79]. ولقد كان الخطاب القرآني للمرتابين في البعث مؤسسا على حجة الخلق: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ...) [سورة الحج:الآية5].والأجل المسمى لتطور الجنين حتى يخرج طفلا يمكن استنباطه من الكتاب الحكيم حيث تصير أقل فترة ممكنة للحمل ستة أشهر. وهذه تمثل الفرق في المدة بين ما يدل عليه قوله تعالى: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف:الآية15]، وما يدل عليه قوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [سورة لقمان:الآية14] ولقد روى أن عليا كرم الله وجهه كان قد قضى بجواز هذه المدة، خاصة اذا كان ذلك درءاً لحد الزنا. وفترة العامين هي المدة الطبيعية لاتمام الرضاعة كما ترشد اليه الآية: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ) [سورة البقرة:الآية333].وهكذا نجد أن الله قد أودع في كتابه بركة من المعاني تفيض في عقولنا كلما تدبرنا آياته: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) [سورة ص:الآية29].
العلاقة بين المعرفة الكونية والغيبية:(1/38)
من ما سبق نجد أن القرآن مصدر لمعارف كونية يمكن إكتشافها إما مباشرة أو استنباطا من نصوصه. إلا أن النص القرآني كثيرا ما يربط بين معرفة غيبية لاتكون عقولنا مؤهلة لإدراك أبعادها، ومعرفة كونية يمكن اكتسابها على نحو ماجاء في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) [سورة لقمان:الآية20].فقصارى ما يمكن ان نراه أو نكتسبه من معرفة كونية لا يتعدى ما في الأرض أو ما يلبنا من السماء الدنيا. أما بقية السماوات فعلمنا عنها علم عن غيب كما هو علمنا عن الجنة والنار وما وراء ذلك من وجود لا تستوعب عقولنا مكانه او طول زمانه. والتطلع إلى ما يجري في السماوات العلى أو النفاذ إليها مستحيل إلا بسلطان من الله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) [سورة الرحمن:الآية33]. ولقد أوتي رسول الله سلطانا لينفذ من أقطار السماوات حين عُرج به فالتقى بالنبيين من قبله، كما رأى حال أمته يوم القيامة. ورأى الجنة كما رأى المعذبين في النار، ومنهم من لمّا يولد بعد في الحياة الدنيا. بهذا فإن نبينا قد شهد الماضي كما شهد المستقبل، علما بأن الرحلة بكاملها لم تستغرق – بحسابنا للزمن – الا اليسير جدا. ( .... وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [سورة الحج:الآية47].. ولان عقولنا مكيفة فقط لادراك ما حولنا من عالم المحسوسات فإن القرآن يمثل لنا المفاهيم الغيبية بصور يمكن استيعابها من ما في الطبيعة. فالجنة أو النار نموذج من الكون الطبيعي يقرب الى أذهاننا مفهومي الثواب او العقاب. وكما جاء في الحديث: في الجنة مالا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(1/39)
لذلك فإن القرآن في تقريبه لمشاهدها يعطي هذا المثل المحسوس: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى...) [سورة محمد:الآية15].
القرآن وقوانين العلم الطبيعي:(1/40)
وكما أن صور الغيب يمكن تبسيطها بغرض تقريبها للأذهان وذلك عن طريق تمثيلها بما يلينا من صور الطبيعة ، فإن السنن العامة التي تحكم الوجود يمكن تخصيصها لتناسب حالات يمكننا وصفها. والقوانيين الكلية يمكن اختزالها الى معادلات يمكن حلها. وهكذا فان النصوص القرآنية التي تعبر عن مباديء شاملة يمكن أن يستنبط منها علاقات يمكن فهمها. مثال ذلك ما أسلفنا مناقشته وأكده القرآن من إتساع مستمر في البناء الكوني ظل يحدث تحت تأثير قوى طبيعية منذ أن فتق الله السماوات والأرض. وقد أكد القرآن (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) [سورة البقرة:الآية165].، مهما اختلف نوعها وأنه (لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ) [سورة الكهف:الآية39].وهذا يعني أن كل تغير أو حدث إنما يكون بفعل قوة . وهذا مبدأ عام يتعلق بسنة كونية. وإذا خصصناه لوصف التغير الذي يحدث في المكان والزمان لحصلنا على قانون الحركة - في صياغته الرياضياتية- الذي صار واحدا من أسس العلوم الطبيعية. وإزاء التغير الذي يحدث في حال الناس فإن القرآن قد أكد: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) [سورة الرعد:الآية11]. وهذا أيضاً مبدأ عام يفسر ما يجري من تحولات لمجموعة من الناس. فتغير حال الناس لا يحدث إلا بعد أن يحدث التغير الداخلي فيهم. فإذا انفعل الناس بفكرة فإنه لابد ان يترتب على ذلك تغير في سلوكهم أو أنشطتهم، وقد يتزايد هذا الانفعال فيؤدي إلى ثورة أو تحول كلي في حياتهم سلباً أو إيجاباً. هذا المبدأ يمكن تطبيقه في مجال العلم الطبيعي إزاء ما يحدث من تغير في حالة مجموعة من جزيئات سايل ما. فإذا ما انفعلت هذه الجزئيات بقدر من الطاقة الحرارية فإن سلوكها يتغير، وإذا ما تجاوزت الطاقة المؤثرة حداً معيناً يزداد انفعالها فتثور فيتحول السايل إلى بخار.(1/41)
ومثل السايل، الغاز، فإنه إذا سخن تبدأ جزيئاته في التحرك حتى تتغير اوضاعها ثم إذا اكتسبت طاقة حرارية أكثر فإنها تتحرك جماعياً حيث يتمدد الغاز فتتغير حالته. وهذا القانون الذي يحدث وفقه هذا التغير يعرف بالمبدأ الأول في التحريك الحراري. وهو بهذا يمثل حالة خاصة من مبدأ عام في التغيير أودعه الله في خلق الكون كما أودعه في نصوص القرآن. أي ان القانون الذي يفسر التغير والتحول في التكوينات الجزيئية في المادة يماثل القانون الذي يفسر التغير والتحول في المجتمعات والكيانات الانسانية.
[2] توجيه البحث العلمي:
كما اسلفنا، فإن النص القرآني في ثنايا بلاغته الرائعة يذكرنا تارة بأمور مألوفة لدينا لم نوجه تفكيرنا إليها، وتارة يثير فينا التفكير داعياً للنظر في ما تنطوي عليه هذه الامور من أسرار، وإلى اكتشاف ما تشتمل عليه من حقائق. والقرآن من خلال هذه الدعوة يفتح مجالات للبحث العلمي في إطار الإيمان ويصوبه نحو غايات رشيدة ومحكمة بجملة من الموجهات والضوابط. والبحث العلمي في ظل هذه الموجهات إنما يلبي أهداف العبادة ويتأصل على حقائق الدين ومقاصد الشرع ويلتزم بقيم الفضيلة وينأى عن مزالق الضلال.(1/42)
والخطاب القرآني يثير قضايا للبحث تتعلق بمواضيع مختلفة في مجالات العلوم الطبيعية. فهذا سؤال في علم الأحياء عن خلق الإبل ومدى مواءمة وظائف أعضائها للبيئة المحيطة بها وما وراء ذلك من دقة وتقدير. وسؤال آخر في مجال الكونيات عن القوى التي تحكم البناء الكوني في ما يحيط بنا من سماء. وسؤال في علم طبقات الأرض عن نشوء الجبال وانتصابها. وسؤال في علم الهندسة الفراغية عن طبيعة سطح كوكبنا الأرض الممتد بلا انقطاع. هذه الأسئلة التي تمثل مواضيع للبحث والدراسة يعرضها القرآن بأسلوب غاية في اليسر والروعة البلاغية: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ. وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ. وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ). [سورة الغاشية:الآيات-2017].وتأتي مواضيع البحث من خلال النصوص القرآنية مستجيبة لاهتمامات الباحثين في فروع العلوم المختلفة، إما في أسلوب إخباري، أو إقراري كما في قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ مِهَادًا. وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا. وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا. وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا. وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا. وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا. وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [سورة النبأ:الآيات6 -16].
ارتباط العلم الطبيعي بالإيمان:(1/43)
لقد بينا في ما سبق أن العلم الطبيعي قاصر بطبيعته عن أن يعطي كل الحقيقة عن الوجود. لذلك لابد أن يتأصل على حقايق الغيب حتى يتسق مع غيره من المعارف. كما أوضحنا إمكان أن يكون لمباديء هذا العلم أصل في القرآن. وبما أن التدبر والتفكر في خلق الكون عبادة يحث عليها الدين، فإن المعرفة الكونية في حقيقتها ضرب من العبادة ومولج إلى الإيمان برب الكون وخالقه. لذلك ارتبط الإيمان بالله وخشيته بالعلم: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [سورة فاطر:الآية28].، أولو الألباب الذين يذكرون الله في كل أحوالهم ويرون آياته تعالى في الكون فيتدبرونها ويتقونه. حيث قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الَْلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). [سورة آل عمران:الآيات190-191].فهؤلاء المتقون يجعل الله لهم فرقاناً بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ويمتزج في قلوبهم ذكر الله مع التفكر في خلق الله، فتتناغم قلوبهم مع عقولهم خلافا لما عليه الغافلون من الناس. فأولئك: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ) [سورة الأعراف:الآية179]. وقد قال الله في هؤلاء: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج:الآية46].(1/44)
وهنا ما يفيد إلى أن القلب ليس مجرد مضخة لدفع الدم في جسم الانسان بل هو مستودع معلومات وجهاز إدراك و أداة يفقه بها المرء ويعقل. وهذا ما يتواءم مع نتائج ابحاث حديثة عن أن نقل قلب شخص بزراعته مكان قلب شخص آخر ينقل خصائص المنقول منه إلى المنقول له.
العبادة الشاملة:
فالذين يسيرون في الأرض ويتفكرون في ما ينتظم الكون من بديع خلق الله تنفعل قلوبهم بذكره ويدركون الحكمة والقصد في ما خلق ويحمدونه تعالى على آلائه. فالشمس، هذا السراج الوهاج يمثل المصدر الأساس للحياة على الأرض إذ تبعث بضيائها مفعماً بالطاقة التي تبخر مياه البحار وتعيدها غيثاً يسيل على الأرض أنهاراً فتنبت الزروع وتخضر المروج كما نبهنا لذلك القرآن: (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا. وَأَنزَلْنَا مِنْ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا. وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [سورة النبأ:الآية13-16].وهذه الطاقة الهابطة من السماء تخزنها النباتات في أوراقها وثمارها لتستحيل غذاء للحيوان والانسان بوساطة عملية التمثيل الضوئي. ولعل هذا ما يكشف عن سر قسم الله (والشمس وضحاها) [سورة الشمس:الآية1].أي وتجلياتها في الطبيعة والحياة. والله يوجهنا للنظر في ما يجري في الطبيعة وإلى القصد من ورائه: (فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ) [سورة اعبس:الآية24].فهذا بعض ما افاض الله به من نعمه على الانسان. (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الله لغفور رحيم) [سورة النحل:الآية18].(1/45)
لذلك يجب على المؤمنين المتدبرين في خلق الله أن يستغفروا ربهم على ما قد يعتريهم من غفلة عن ادراك هذه النعم التي أودعها الله في الطبيعة، ولعلهم عندئذٍ يرددون دعوة نوح عليه السلام: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا. يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا. مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا. أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الأَرْضِ نَبَاتًا. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ بِسَاطًا. لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا) [سورة نوح:الآيات10-20].
إن مقتضى عبادة الله في شمولها يعني استشعار نعمه تعالى في كل حال واستحضار عظمته وجلاله في كل مآل، والنظر فيما تنطوي عليه آياته الكونية من حكمة وتدبير، واتقان وتقدير، ولطف وتيسير، والخلوص بذلك إلى التسليم له تعالى بالعبودية والطاعة. وهذا هو مقصد الخلق كما يقول الله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) [سورة الذاريات:الآية56].فهم مجبلون على أن يتواءم سلوكهم مع ناموس الله في الوجود وتنسجم حركتهم مع سننه تعالى في الفطرة: (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [سورة آل عمران:الآية82].
الشعائر التعبدية والحركة الكونية:(1/46)
والإسلام كَرْهاً هو ما تَجْبِلُ عليه سنة الخلق، والإسلام طوعاً أكثر ما يتمثل في أداء الشعائرالتعبدية. وإن هذه الشعائر التي تعبر عن ذكر الله وشكره قد ارتبطت بحركتي الأرض بالنسبة لأظهر جرمين سماويين يشاهدهما الناس منها، هما الشمس والقمر، وما ينتج عن ذلك من ظواهر طبيعية كتتابع السنين والشهور وتعاقب الليل والنهار: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [سورة الفرقان:الآيات61-62].والمؤمنون يذكرون الله بالصلاة عند كسوف الشمس وخسوف القمر، فهما آيتان من آيات الله ومن اوجه نعمه التي تستوجب الشكر له. وإنما تقام الصلاة لذكره تعالى: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [سورة طه:الآية14].ولقد ارتبطت هذه الشعيرة بمواقيت يلتزم المؤمنون بأدائها فيها: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) [سورة النساء:الآية103]. وينطلق صوت الأذان خمس مرات كلما دارت الأرض دورة حول نفسها ليبث في كل أرجاء الكون ويعلن للعالمين نداء التوحيد. وتقام الصلاة كلما استدارت الأرض بالنسبة للشمس: (وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ) [سورة هود:الآية114].، فريضة قبل شروق الشمس، أحد طرفي النهار، وفريضتين في طرفه الآخر قبل غروبها من عند الزوال، وثنتين بعد غروبها إلى غسق الليل. وهنا يجب أن نلحظ الحكمة والإعجاز في أن هذه الصلوات خمسة ولكن أوقاتها المذكورة في القرآن ثلاثة. ذلك لان القرآن خطاب لكل الناس في جميع أحوالهم وفي كل مواقعهم من الكرة الأرضية وفي سائر فصول السنة.(1/47)
فمن حال إلى حال ومن موقع إلى موقع ومن فصل إلى فصل يمكن الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في السفر والمرض والمطر، كما يتداخل وقتا الظهر والعصر في شمال الكرة الأرضية شتاءً، ووقتا المغرب والعشاء صيفاً. وفي ذلك إعجاز مبين وحكمة للعارفين ويسر للعابدين.
والصلاة عماد الدين وعمود الإسلام، لذلك فإن الله خصها بوضع مرموق، إذ لم تفرض في الأرض كسائر العبادات ولكن في احتفال سماوي عجيب. وذلك عندما عُرج بالنبي إلى الملأ الأعلى حيث تقصر قوانين الطبيعة عن وصف هذا الحدث ولكنها تشير بهذا إلى امتداد في الوجود ورآء الكون المادي. ومثل الصلاة، سائر العبادات الأخرى يتساوق فعلها مع حركة الكون. فكما ان الصلاة أكثر العبادات تكراراً كلما دارت الأرض حول نفسها في مواجهة الشمس فإن الزكاة أكثر ارتباطاً بدورة الطبيعة في حياة الأنعام وعند حصاد الزروع: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [سورة الأنعام:الآية141].. لذلك فأداؤها كفريضة يتكرر كلما دارت الأرض مرة حول الشمس. وعندما تاخذ الشمس والقمر والأرض في دورانها وضعاً معيناً، بعد حالة الاقتران التي يكون فيها القمر في وضع بين الأرض والشمس ومحاذياً لكلتيهما يتيح انعكاس ضياء الشمس من على سطح القمر إلى الأرض، يمكن رؤية الهلال. وبذلك تحدد بداية الشهور ونعلم عدد السنين والحساب كما بين لنا القرآن: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [سورة يونس:الآية5].في هذه الآية تمييز علمي بين الضياء الصادر من المنبع الشمس والنور المنعكس من على سطح القمر، كما أن كلمة ضياء تفيد الجمع أو التعدد وهو ما يعرف بأطياف الضوء بألوانه السبعة المعبرة عن تفاوت أطواله الموجية، وفي هذا دقة وإعجاز علمي.(1/48)
وبعلم الحساب نتحرى رؤية هلال شهر رمضان وكل الشهور التي ترتبط بهذه الظاهرة الكونية التي تتكرر أثنتي عشر مرة في كل عام كما جاء في كتابه تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة التوبة:الآية26]. ومن اللافت للنظر هنا ان كلمة شهر وردت في كتاب الله 12 مرة ومثل ذلك كلمة اليوم تكررت بعدد أيام السنة الشمسية. وهذا جانب من الإعجاز القرآني العددي الذي قد يتسع البحث فيه خارج إطار هذه الدراسة. وإضافة لذلك فإن صوم رمضان موقوت بدورة الأرض حول نفسها للافطار عند الغروب وللامساك عند الفجر. ولان رؤية الهلال لا تثبت لكل الناس، إذ لا يشتركون جميعهم في ليل واحد ومنطقة واحدة، فإن مواقيتهم تختلف على جانبي الكرة الارضية، ولكنهم جميعهم يؤدون فريضة الحج بميقات زمني واحد. وفي هذا نجد الإعجاز بيِّناً في قوله تعالى عن الأهلة: (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) [سورة الالبقرة:الآية189].. فإفراد الحج دون غيره من العبادات المرتبطة برؤية الأهلة كالصوم والزكاة راجع لكون الناس يكونون في موضع واحد هو مكة المكرمة فلا تتعدد الأهلة لديهم. أما لغيرهم المنتشرين على سطح الأرض فتتعدد رؤية الأهلة مع انحناء سطح الأرض. وما كانت لتتعدد لو كان هذا السطح مستوياً، إذن لرأى كل الناس الهلال في وقت واحد، ولكن بزوايا مختلفة. وهذا التفاوت في وقت ظهور الأهلة يدل على كروية الأرض، كما يدل على دقة التعبير القرآني وإعجازه. ومع ارتباط الحج بدوران القمر والأرض فإنه كذلك يتكرر مع دورانهما حول الشمس. وفي أداء مناسك الحج رمزية متميزة تحاكي دوران الكواكب حول الشمس في شعيرة الطواف أو السعي بين الصفا والمروة، وهذه الحركة الدورانية تكون دائماً من اليمين إلى الشمال فيما يسمى (عكس عقرب الساعة) وهي سمة غالبة في الكون في حركة الأشياء وسلوك الأحياء.(1/49)
وخلاصة القول، إن العبادات في ارتباطها بحركة الكون تخرج الانسان من حياة رتيبة إلى كنف حياة منفعلة بذكر الله. والعبادة في معناها الشامل تجعل سلوكه متناغماً مع سنن الله.
خاتمة:
كل ما أوردنا في هذه الدراسة من دلالات لآيات القرآن الحكيم متبصرين في محتواها، متفكرين في معناها، متدبرين في مرماها، إنما تكشف عن خصائص هذا الكتاب الحكيم. فهو خطاب متفرد من حيث أنه محفوظ في نصوصه، شامل في مضامين هذه النصوص ومتميز بتجدد فهمها وإدراك ما تنطوي عليه هذه المضامين. وبالتأمل في معناه وإعمال الفكر في محتواه تتجلى صورة المزاوجة بين ما أنزل الله في القرآن وما أودع في الكون من آيات وما يتكشف عن هذه المزاوجة من مواءمة وتناغم وانسجام تنم عن إيجاز في القول والتعبير وإعجاز في الخلق والتقدير والأمر والتسيير (...أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). [سورة الأعراف:الآية54]. فكتاب الله هو المصدر الجامع الكامل للهداية في شتى وجوهها. وكما انه يهدي للمعرفة الكونية فإنه كذلك يهدي لما سواها من المعارف والعلوم. ويُستمدُ العلم بطبيعة الكون وتُكشف حقائقه إما مباشرة من تلقاء النصوص القرآنية أو استنباطاً منها. ويتسع مجال الكشف عن هذه الحقائق كلما تعمق الباحثون عنها في إدراك معاني آيات الله المنزلات مع التدقيق في فهم آياته الكونيات، والقرآن لا ينفد منهله ولا ينضب معينه، فكلما اكتسب الانسان علماً عن ما يحيط به من الكون والطبيعة والحياة تفتق عقله عن ادراك معان جديدة في هذا الكتاب المعجز. وهكذا يدرك – في زماننا هذا – المتفكرون في آيات التنزيل دلائل كونية لم يكن العلم بها متاحاً لسلفنا الصالح من مفسري القرآن الكريم. ولسوف يأتي بعدنا في الأجيال اللاحقة – إن شاء الله – ممن يكتسبون العلم ويدركون من أسرار القرآن وخفايا الكون ما لا ندركه اليوم.(1/50)
إلا إن اكتساب العلم مرتبط بالتقوى (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ) [سورة البقرة:الآية282].، مثلما ترتبط الهداية بها (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) [سورة البقرة:الآية1].
. والعلم الكوني الموصول بالله هو الذي يقود إلى تقدم حقيقي في حياة الناس.
ولقد شهدت الحضارة الإسلامية إزدهاراً ملحوظاً عندما ترعرع العلم الكوني في أحضان الإيمان بالله واستهدى علماء الطبيعة بالقرآن. فقد برع هؤلاء العلماء في شتى المعارف الكونية، وشهد لهم التاريخ باسهاماتهم الرائعة وانجازاتهم الواسعة.
وأخيراً ندعو علماء الأمة أن يعيدوا سيرة أسلافهم بأن يستمدوا العلم من القرآن بعقول مفتوحة على آيات الله الكونية ويكتسبوا العلم من الكون بعقول مدركة لدلالات آياته القرآنية. وهذا ما نعنيه بالتواؤم البديع والتناغم الرفيع بين إيقاعات الوحي المنقول ودلالات العلم المعقول.
المراجع
أولاً مراجع أساسة:
-القرآن المجيد.
-تفسير الجلالين.
-في ظلال القرآن لسيد قطب.
-صفوة التفاسير – محمد علي الصابوني- دار القرآن الكريم – بيروت 1402هـ.
-المعجم الموضوعي لآيات القرآن الكريم – إعداد صبحي عبد الرؤوف عصر – دار الفضيلة – دمشق – 1405هـ 1984م.
-معجم الأحاديث النبوية – على أقراص صخر الحاسوبية المدمجة.
ثانياً: دراسات وبحوث للمؤلف تكمل الموضوع
-تأصيل المعرفة أسسه وأهدافه، مجلة التأصيل، العدد 6 يناير 1998م. إدارة تأصيل المعرفة – وزارة التعليم العالي والبحث العلمي- الخرطوم- السودان.
-حول الخصائص القرآنية في مجال العلوم الكونية – مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية – العدد 3 المحرم 1418هـ - أم درمان – السودان.
-التأصيل الإسلامي ومنهجية العلوم الطبيعية – من اعمال حلقة العمل العلمية حول قضايا تأصيل المعرفة – مركز التنوير المعرفي – الخرطوم – مارس 2005م.(1/51)
-حول أخلاقيات البحث العلمي – مجلة أبحاث الإيمان – العدد 11 شوال 1420هـ - المركز العالمي لأبحاث الإيمان – الخرطوم – السودان.
-إضاءات قرآنية حول ضياء الشمس وضحاها-مجلة أبحاث الإيمان–العدد 17 ربيع الأول 1426هـ - المركز العالمي لأبحاث الإيمان – الخرطوم – السودان.
-هلال رمضان بين نظرية الرؤية ورؤية النظر–مجلة مجمع الفقه الإسلامي – العدد الأول السنة الأولى 1422هـ الخرطوم - السودان.
-الإسراء والمعراج بين المنقول والمعقول-مجلة أبحاث الإيمان – العدد 12 جمادى الأولى 1421هـ - المركز العالمي لأبحاث الإيمان – الخرطوم – السودان.
ثالثاً: مراجع أخرى
-الإسلام يتحدى – وحيد الدين خان – مترجم من الأردية – صادر عن المجمع العلمي الإسلامي، دار البحوث العلمية – ندوة العلماء - لكنو - الهند – منشورات الشركة المتحدة للتوزيع بيروت – لبنان – الطبعة الثانية 1401هـ.
-التصور الإسلامي للوجود – حسن الحياري – دار البشير للنشر والتوزيع – عمان – الاردن 1409هـ.
-آيات قرآنية في مشكاة العلم – يحيى المحجري - دار النصر للطباعة الإسلامية – القاهرة – مصر – 1991م.
-بنية المادة بين الوجود والعدم – محمد ممدوح الخطيب – دار النشر للتوزيع – عمان – الاردن – مؤسسة الرسالة – بيروت – لبنان – 1416هـ.
-القوة العظمى – باول ديفز – ترجم من الانجليزية – وزارة الثقافة والاعلام – بغداد – العراق – 1989م.
- The Matter’s Myth, by Paul Davies & John Gribbin
ترجمة م . علي يوسف علي، تحت اسم اسطورة المادة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1998م.
- La Bible, Le Coran et la Science – Par Maurice Bucaille, Seghers, 31 Rue Falguière, 75,725 Paris, Cedex 15.
ترجم من الفرنسية بعنوان: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة - دار المعارف– الطبعة الرابعة – القاهرة – مصر – سبتمبر 1977م.(1/52)
-من محاضرات الشيخ عبد المجيد الزنداني – جامعة الإيمان – صنعاء – اليمن.
من محاضرات د. زغلول النجار – هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، مكة المكرمة.(1/53)