الإفادة الشرعية
في بعض
المسائل الطبية
تأليف
وليد بن راشد السعيدان
http://www.saaid.net/
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ثم أما بعد :-
فهذه بعض المسائل الطبية والتي يكثر السؤال عنها, أحببت أن أجمعها لك في مكان واحد ليسهل معرفة أحكامها, وتسهل مراجعتها لمن أراد معرفة شيء من ذلك والدافع لذلك النصيحة لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة المسلمين وعامتهم, ولأن هذه المسائل تعظم الحاجة لها عند الأطباء والمرضى, وقد حرصت فيها على التقعيد والاستدلال وإن رأيت في بعضها طولاً, فإنما الدافع لذلك إرادة الإقناع بالجواب, وحتى أستوفي في إجابتها أكبر قدر ممكن منها وقد حاولت بكل جهدي أن أيسر لك العبارة وأوضح لك المقصود حتى يستفيد منها أكبر قدر ممكن من المسلمين ولو لم يكن من أهل الاختصاص, وقد اخترت طريقة السؤال والجواب لأنه أقرب للفهم ومعرفة الحل لكل مسألة على حدة وقد حرصت كل الحرص أن أخرج الفروع على أصولها وأرد الجزئيات إلى كلياتها, وقد اعتمدت فيها على النقل في كثير من مواضعها وإن لم أشر إلى ذلك, فإنما الفضل في هذه الكتابة لله أولاً وآخراً ثم لأهل العلم رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, وأنا في هذه الكتابة معترف بالتقصير العظيم والخلل الكبير ولكن حاولت إتقانها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً, فإن رأيت فيها صواباً على قلته فهو من الله وحده فهو المنعم المتفضل وإن رأيت فيها غير ذلك وهو كثير فإنما هو من تقصيري وقلة علمي وضعف فهمي فأنا المقصر الذي لا حول له ولا قوة إلا بالله جل وعلا, وقد خضت غمار هذه المسائل الكبيرة لا لوفرة في العلم, لا والله, وإنما لأنني أحبك في الله, وأحب لك ما أحبه لنفسي فرأيت بنظري القاصر أنني استفدت من هذه المسائل فتاقت نفسي المقصرة أن أضعها بين يديك لتشهد على مقيدها بالإحسان أو التقصير, وإني أشهد الله تعالى أن(1/1)
الفضل كله له, والنعمة كلها له والمنة كلها له والإحسان كله له, والتوفيق كله منه, وإنما مهمتي في هذه الكتابة الجمع والتأليف بين ما ذكره أهل العلم رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة, وقد أسميت هذه الوريقات اليسيرة} الإفادة الشرعية في بعض المسائل الطبية { فالله أسأل أن ينفع به المسلمين أجمعين على مختلف طبقاتهم وأسأله جل وعلا أن يرزقني فيه التوفيق للحق والصواب وأن يعيذني من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأسأله جل وعلا أن يعينني على إتمامه على أحسن الوجوه وأكمل الأحوال وأسأله جل وعلا أن يغفر لأهل العلم وأن يرحم أمواتهم ويثبت أحياءهم وأن يقيهم شر الأشرار وكيد الفجار وأن يعيذنا وإياهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن, وأن يجزيهم خير ما جزى عالماً عن أمته وأن يعيننا على الاهتداء بهديهم واقتفاء أثرهم في الاعتقادات والأقوال والأعمال وأن يحشرنا في زمرتهم, وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه, ونستغفره جل وعلا ونتوب إليه ثم نستغفره ونتوب إليه ثم نستغفره ونتوب إليه إنه هو الغفور الرحيم سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق :-
* * *
سـ1/ ما القاعدة التي ينبني عليها طهارة المريض وصلاته مع توضيح ذلك بالأمثلة والأدلة ؟(1/2)
جـ/ أقول:- القاعدة هي:- لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة, وهي منبثقة من قاعدة:- رفع الحرج, ودليل ذلك قوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها } وقال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { مايريد الله ليجعل عليكم من حرج } وقوله تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } وقال الله تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } وقال عليه الصلاة والسلام (( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ))"متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين (( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبٍ ))"رواه البخاري" وعند البيهقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على مريض يعوده فرآه يصلي على وسادة فرمى بها وقال (( صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماءً واجعل سجودك أخفض من ركوعك )) وهذا أصل متفق عليه, وبيانه أن يقال:- إن الأصل هو وجوب القيام بكل أجزاء الواجب شرعاً, لكن قد تعرض للإنسان حالة لا يستطيع العبد معها أن يقوم بالواجب إما كلاً أو بعضاً, فتأتي هذه القاعدة القاضية بأن ما عجز عنه العبد فإنه يسقط عنه, فيسقط كله إن كان عاجزاً عنه كله, وإما أن يسقط عنه المقدار الذي يعجز عنه فقط, وهذا من رحمة الله تعالى وبناءً عليه فأي شيء من الواجبات يعجز عنه المريض فإنه يسقط عنه أو يسقط عنه ما يعجز عنه فقط, بمعنى أنه لا يطالب به شرعاً ولكن ينبغي في حال النظر إلى هذه القاعدة أن يتقي العبد ربه ولا يكذب في ذلك بقصد إراحة نفسه من عناء فعل الواجب, فإنه جل وعلا لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو العالم بما تكنه الصدور, وعلى هذا الأصل يخرج الفقهاء طهارة المريض وصلاته وبيانه في مسائل:-(1/3)
المسألة الأولى :- الأصل أنه يجب على المريض أن يتطهر الطهارة الكاملة بالماء, إن كان قادراً على ذلك سواءً بنفسه أو بغيره, فنحن نطالبه أولاً عند الطهارة أن يستعمل الماء لأنه الأصل, لكن إن كان عادماً للماء عدماً حقيقياً أو كان استعمال الماء يزيد في مرضه أو يؤخر برؤه فإنه ينتقل عنه إلى الطهارة الترابية وهي التيمم, لأن الله تعالى يقول { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } وقد تقرر أنه إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل, لكن إن كان العجز عن استعمال الماء في بعض أعضاء الطهارة فقط دون بعض، فإنه يسقط عنه ما يعجز عنه ويتيمم له، وعليه استعمال الماء في الأعضاء الباقية، والله أعلم .
المسألة الثانية :- إن كان الماء موجوداً في المستشفى ولكنه عاجز عن الإتيان به لبعده, ولم يكن عنده من يأتي به, ولم يعاونه الممرضون في ذلك لاشتغالهم أو لعدم اهتمامهم, فإنه يسقط عنه وجوب الطهارة المائية وينتقل عنها إلى الطهارة الترابية فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه, ولو قدر على الماء في الوقت, ذلك لأن الواجبات تسقط بالعجز .
المسألة الثالثة :- إن كان المريض عاجزاً عن الطهارتين المائية والترابية فإنهما يسقطان عنه ويصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه ولكن هذه الصورة نادرة جداً وإنما ذكرناها من باب التفريع ذلك لأن الطهارة من الواجبات وقد تقرر لنا أن الواجبات تسقط بالعجز, وهو هنا عاجز عن كلا الطهارتين فسقطت عنه لأنه لا واجب مع العجز .
المسألة الرابعة :- إن كان فراش المريض أو ثيابه أو بدنه قد تلوثت بالنجاسة فإن الواجب عليه أن يزيل ذلك قبل الدخول في الصلاة لأن إزالة النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة, ولكن لو كان عاجزاً عن إزالة هذه النجاسة جاز له الصلاة على حالته التي هو عليها لقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ولا يجوز له تأخير الصلاة عن وقتها بأي حالٍ من الأحوال بسبب عجزه عن إزالة هذه النجاسة فإن المتقرر شرعاً أن الواجبات تسقط بالعجز .(1/4)
المسألة الخامسة :- من به جروح في شيء من أعضاء وضوءه فإن الواجب عليه حال الوضوء أن يغسلها, هذا أولاً ولكن هذا الوجوب مقيد بالاستطاعة, فإن لم يستطع فإنه يبل يده بالماء ويمسحها مسحاً, فإن لم يستطع أيضاً فإنه يكمل وضوءه على أعضائه الصحيحة ويترك ذلك الجزء المجروح ويتيمم في آخر الوضوء بنيته, فالأول الغسل, والثاني المسح, والثالث التيمم له, وكل ذلك على وجه البدل, أي لا تنتقل إلى الثانية إلا إذا عجزت عن الأولى ولا تنتقل إلى الثالثة إلا إذا عجزت عن الثانية لأنه لا ينتقل إلى البدل إلا إذا تعذر أصله والواجبات تسقط بالعجز والله أعلم .
المسألة السادسة :- الأصل في صلاة المريض أنه يطالب بكل ما يطالب به الصحيح فيجب عليه أن يصلي قائماً بقيامٍ كامل ويركع ويسجد ركوعاً كاملاً وسجوداً كاملاً لكن هذا مع القدرة على ذلك فإن كان عاجزاً عن القيام فيصلي قاعداً وإن كان عاجزاً عن القعود فيصلي مضطجعاً ويكون على جنبه الأيمن مستقبل القبلة, لحديث عمران السابق, وإن كان يستطيع الركوع والسجود تامين فيجب عليه ذلك وإلا فيؤمي بهما ويجعل سجوده أخفض من ركوعه, وكل ذلك لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها .
المسألة السابعة :- يجب على المريض أن يستقبل القبلة لأنه من جملة شروط الصلاة، لكن هذا الوجوب ليس مطلقاً بل هو مقيد بالاستطاعة، فإن كان المريض مستطيعاً و مطيقاً له فيجب عليه ذلك، وإن كان عاجزاً عن الاستقبال فإنه يسقط عنه ويصلي على حسب حاله ولاشيء عليه إلا ذلك لأن الواجبات تسقط بالعجز والله أعلم.وعلى ذلك فقس، وهذه القاعدة هي الأصل الذي منه ينطلق أهل العلم في إجابة أي سؤال من الأسئلة الخاصة بطهارة أو صلاة أحدٍ من المرضى فاجعلها نصب عينيك فإنها أم الباب في هذه الأسئلة و الأجوبة و الله أعلى و أعلم .
سـ2/ ما حكم تطبيب الرجال للنساء أو العكس مع بيان الدليل والتعليل ؟(1/5)
جـ/ أقول:- الأصل في ذلك المنع, ولاسيما إذا كان معه خلوة والأصل أيضاً أن الرجال لا يطببهم إلا الرجال, والنساء لا يطببهن إلا النساء, والدليل على ذلك قوله تعالى { وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم و قلوبهن } وقال تعالى { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن...(1/6)
الآية } وهذا المريض أجنبي عنها, وهذه المريضة أجنبية عنه, والرأس والوجه من أعظم الزينة وعن عقبة بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إياكم والدخول على النساء )) فقال الرجل يا رسول الله:- أرأيت الحمو؟ قال (( الحمو الموت ))"متفق عليه" وعن جرير بن عبدالله - رضي الله عنه - قال (( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة, فأمرني أن أصرف بصري )) "رواه مسلم" وعن جابر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان, إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما في نفسه ))"رواه مسلم" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )) وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ))"متفق عليه" وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ))"رواه مسلم" وقال عليه الصلاة والسلام (( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها ))"رواه مسلم" وذلك لأن الصف الأخير للنساء هو أبعد شيء عن الرجال فاكتسب هذه الخيرية لبعده عن الرجال, فهو دليل على أن مباعدة النساء عن الرجال ومباعدة الرجال عن النساء من مقاصد الشريعة لأنه يسد أبواب شرٍ كثيرة, وقال عليه الصلاة والسلام (( المرأة عورة )) وقال الله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } وقال { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن } فهذه الأدلة تفيد إفادة قطعية أن(1/7)
الشريعة حرصت الحرص الكامل على أن يتباعد الرجال عن النساء والعكس, ويستفاد منها أن الرجال لا يطببهم إلا الرجال وأن النساء لا يطببهن إلا النساء, ولا يجوز أن تجعل هذه المسألة من مسائل الحوار و الأخذ و الرد لأنها قضية قد فصلتها الأدلة وقال أهل العلم الراسخون فيها كلمتهم، فالواجب على وزارة الصحة أن تحرص الحرص الكامل على تأمين الأقسام الخاصة بالنساء ولا يكون فيه إلا الطبيبات من النساء وفيه جميع التخصصات, وأن تكون أقسام تمريض الرجال على حدة وليس فيها إلا الأطباء من الرجال فقط, وهم قادرون على ذلك إن شاء الله تعالى, وسوف يسألهم الله تعالى يوم القيامة عن ذلك لأنهم مسؤولون عن رعيتهم من المرضى, وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يوفق القائمين عليها لكل خير وأن يعينهم على تحقيق ذلك وأن يكفيهم شر دعاة التغريب والفتنة, لكن إذا حلت الضرورة ولم تجد المرأة بعد البحث وبذل المستطاع إلا رجلاً, ولم يجد الرجل بعد البحث وبذل المستطاع إلا امرأة فإن الأمر حينئذٍ يكون ضرورة وقد تقرر لنا في القاعدة السابقة أنه لا محرم مع الضرورة ولكن لابد أن تقدر هذه الضرورة بقدرها لأنه قد تقرر عند الفقهاء أن الضرورات تبيح المحظورات وتقرر أيضاً أن الضرورات تقدر بقدرها فيباح من ذلك ما تدعو إليه الضرورة فقط, كما قال تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } ولكن ينبغي للمريض والمريضة الذين اضطروا لذلك أن يكونوا كارهين لذلك الأمر من داخلهم وأنه لولا هذه الضرورة الملحة لما فعلوا ذلك والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون وهو أعلى وأعلم .
سـ3/ إن بعض المرضى يقتضي الطب في علاج حالتهم إلى فتح مجرى للبول والغائط ويجتمع ذلك في كيس معلق بهم أو يكون بجوارهم قريباً منهم فكيف تكون طهارتهم وصلاتهم ؟(1/8)
جـ/ أقول:- لقد قررنا سابقاً أن المريض يطالب بما يطالب به الصحيح وبناءً عليه فالواجب على هؤلاء المرضى أن يتخلصوا من ذلك ويبعدوه عنهم ويتطهروا منه لأن الطهارة من النجاسة شرط من شروط صحة الصلاة, لكن إن كانوا يعجزون عن ذلك لضرر يرجع عليهم أو يكون في إبعاده خطر عليهم أو رفض الطبيب ذلك, فيصلون على حسب حالهم ولا إعادة عليهم ويسقط عنهم المطالبة بهذا الشرط لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها كما قررناه سابقاً ولقوله تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وقال تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال عليه الصلاة والسلام (( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )) وقد أمرنا بإزالة النجاسة ولكن هؤلاء المرضى يعجزون عن إزالة ذلك فلا شيء عليهم فيصلون في الوقت بالطهارة المستطاعة ولا إعادة عليهم ولا يجوز لهم تأخير الصلاة بسبب عدم القدرة على إزالة هذه النجاسة كما يظنه بعض المرضى - هداهم الله تعالى - فإن المتقرر عند الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الوقت آكد شرائط الصلاة, فكل الشرائط تسقط المطالبة بها مراعاة له, أعني حال العجز عنها, ولو علم المريض أن هذه الليات وهذا الكيس سيبعد عنه بعد الوقت فلا يجوز له أن يؤخر الصلاة حتى يخرج وقتها بل يجب عليه الصلاة في الوقت, على حسب حاله, ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها, وهذا من رحمة الله تعالى بعباده وتخفيفه عليهم فهذه الشريعة هي الحنيفية السمحة التي لا آصار فيها ولا أغلال ولا تكليف فيها يخرج عن حدود الطاقة البشرية ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة وهو أعلى وأعلم .(1/9)
سـ4/ ما الضابط الفقهي فيمن حدثه دائم؟ مع بيانه بالتدليل والتعليل والتمثيل؟ جـ/ أقول:- الضابط الفقهي يقول:- من حدثه دائم فإنه يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه, وبيانه أن يقال:- اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر شرعاً هو أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بطهور كما قال عليه الصلاة والسلام (( لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ ))"متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ))"رواه مسلم" وتقرر أيضاً أن من جملة الأحداث الناقضة للوضوء الخارج من السبيلين كما قال تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } وفي حديث صفوان بن عسال (( لكن من غائطٍ وبولٍ ونوم )) وفي حديث علي:- كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال (( يغسل ذكره ويتوضأ )) وحديث (( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )) وغير ذلك من الأدلة, لكن الخارج من السبيلين لا يكون من جملة النواقض إلا إذا كانت خروجه على الوجه المعتاد, أما لو خرج عن حده المعتاد المعروف بحيث يصدق عليه وصف الديمومة فيقال:- حدثه دائم, فإن خروج هذا الحدث على هذا الوجه المذكور لا يكون ناقضاً للوضوء بل هو ملغىً شرعاً غير معتبر, وهذا هو ما ينص عليه هذا الضابط, فمن تكرر خروج حدثه تكرراً على وجه المرض حتى خرج بتكرره عن حده المعروف المعتاد المألوف وصار كثيراً حتى صدق عليه وصف الديمومة فإنه حينئذٍ يعامل شرعاً معاملة من حدثه دائم, والفقهاء يعاملونه بعدة أشياء:- الأول:- يأمرونه أن يغسل أثر الخارج عنه عند إرادة الطهارة, الثاني:- يأمرونه أن يتحفظ بثوبٍ أو خرقة أو حفاظة ونحوها ويشدها على فرجه حتى يخفف على ذلك خروج الحدث على قدر المستطاع, الثالث:- أن يتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي وإن خرج منه شيء بعد ذلك فإنه لا يكون ناقضاً من نواقض الوضوء, والدليل على ذلك حديث أم سلمة رضي الله عنها أن امرأة كانت(1/10)
تهراق الدم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستفت لها أم سلمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( لتنظر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها فلتترك الصلاة فيها, فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوبٍ ثم لتصل )) فهذه المرأة حدثها دائم وهو خروج دم الاستحاضة وهو من جملة الأحداث الدائمة, فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب قدر الأيام التي كانت تحيضها أن تغتسل وتستثفر بثوبٍ وذلك لأن لها حكم الطاهرات, فاستفدنا من ذلك أن خروج دم الاستحاضة لا أثر له في انتقاض الطهارة بل تصلي ولو خرج منها ذلك الدم لأنه حدث دائم والحدث الدائم لا حكم له, وفي الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة كانت تستحاض حيضة كثيرة شديدة (( ألفت لك الكرسف تحشين به المكان )) قالت:- إنه أكثر من ذلك فقال (( تلجمي )) وفي الصحيح أن إحدى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتكفت معه فكانت ترى الصفرة والدم وكانت تضع الطست تحتها وهي تصلي, فدل ذلك أن هذا الخارج على هذا الوجه لا يكون ناقضاً للوضوء, وعن فاطمة بنت أبي حبيش أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكت إليه الدم فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إنما ذلك عرق فانظري إذا أتى قرؤك فلا تصلي فإذا مر قرؤك فتطهري ثم صلي مابين القرء إلى القرء )) فهذه الأدلة تدل على أمور:- الأول:- أن خروج الخارج على وجه الدوام لا يكون ناقضاً للوضوء, الثاني:- أن الواجب على من أصيب بذلك أن يغسل الموضع ويستثفر بثوب أو يحتشي بقطن وأما الوضوء لوقت كل صلاة فقد دل عليه مارواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها في حديث فاطمة بنت أبي حبيش لما استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:- إني امرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لها (( إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فدعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم(1/11)
اغتسلي وتوضئي لكل صلاة )) وزاد أحمد وابن ماجه (( ثم صلي وإن قطر على الحصير )) وفي رواية (( توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت )) وفي لفظٍ (( لوقت كل صلاة )) وهي من زيادات أبي معاوية وهو ثقة وقد تقرر في الأصول أن زيادة الثقة مقبولة بشرطها, وروى أبو داود من حديث عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المستحاضة (( تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي والوضوء عند كل صلاة )) ولأبي داود أيضاً من حديث أسماء بنت عميس مرفوعاً (( لتجلس إحداكن في مركنٍ فإذا رأت صفرة فوق الماء فلتغتسل للظهر والعصر غسلاً وللمغرب والعشاء غسلاً, وللفجر غسلاً وتتوضأ فيما بين ذلك )) فهذه الأحاديث تدل على أن المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة, وهذا هو المتوافق أيضاً مع مقاصد الشريعة من إرادة رفع الحرج والعسر عن المكلفين, فإن قلت:- إن هذه الأحاديث إنما فيها بيان حكم المستحاضة فقط فهل يدخل معها غيرها؟ والجواب:- نعم يدخل معها غيرها بالقياس الصحيح المستوفي لشروطه وأركانه, فالأصل هو المستحاضة والفرع هو صاحب الحدث الدائم, والعلة الجامعة:- هي دوام الحدث واستمراره, والحكم هو كما أنه خفف عن المستحاضة لدوام حدثها فكذلك يخفف عن صاحب الحدث الدائم من باب التيسير وقد تقرر في الشريعة أنها لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين وتقرر أيضاً أن القياس الصحيح المستوفي لشروطه وأركانه حجة تساق منها الأحكام فهذا هو شرح الضابط من باب التدليل والتعليل فأما من باب التفريع فأقول:-
منها :- المريض بسلس البول وهو نوع مرضٍ يعرفه الأطباء فإنه يغسل فرجه ويعصبه بشيء ويتوضأ لوقت كل صلاة يصلي ولا يضر خروج حدثه وذلك لأن حدثه دائم وقياساً على المستحاضة بجامع دوام الحدث في كلٍ والله أعلم .
ومنها :-المستحاضة وهو المرض المعروف بـ(النزيف) وتقدم حكمها شرعاً مع بيان الأدلة عليه .(1/12)
ومنها :- من فتح له تحت معدته فتحة يخرج منها غائطه فإنه ينزل منزلة من حدثه دائم لأنه حينئذٍ لم يتحكم في خروجه فلا يتوضأ إلا بعد الوقت ويحاول أن يغسل ما حول الفتحة بقدر المستطاع إن كان ذلك لا يضره ويصلي في الوقت ولا يضره خروج الغائط أثناء الصلاة, بل لا يضر خروج الغائط في سائر ذلك الوقت حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى .
ومنها :- من فتح له فتحة يخرج منها بوله فإنه يحكم عليه بحكم من حدثه دائم , ويقال
فيه ما قلناه في الفرع قبله والله أعلم .
ومنها :- من به تفلت ريح أي أن الريح تخرج من دبره على وجه الدوام فهذا أيضاً داخل تحت هذا الضابط إلا أنه لا يجب عليه أن يغسل دبره لأن الريح أصلاً لا يجب الاستنجاء منها مالم يخرج معها رطوبة, وإنما يجب عليه أن يتوضأ بعد دخول الوقت لكل صلاة ويصلي في الوقت ولا يضره خروج حدثه .
ومنها :- من به رعاف مستمر أو جرح ينزف دماً ولا يرقأ - وقلنا إن خروج الدم من نواقض الوضوء - فإنه يخرج على هذا الضابط, فيغسل المحل المجروح إن كان الغسل لا يضره وكان قادراً على ذلك, ويعصبه أو يحشوه بشيء يمنع خروج الدم ويتوضأ بعد دخول الوقت لكل صلاة ويصلي ولا يضر خروج حدثه وهذا من باب التخفيف والتيسير لأن كل حكم في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر .
ومنها :- الرجل المذاء الذي يكثر خروج المذي منه على وجه المرض لا على وجه الشهوة فإنه يعطى حكم المستحاضة فيغسل ما أصابه من المذي ويعصب على ذكره شيئاً ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه, وعلى ذلك فقس والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ5/ اذكر بعض أنواع العلاجات المحرمة مع بيان سبب تحريمها بالدليل والتعليل ؟(1/13)
جـ/ أقول:- هذا سؤال مهم جداً وقبل الإجابة عليه بالتفصيل أريد منك أن تحفظ هذا الضابط:- الأصل في التداوي الحل والإباحة إلا ما حرمه النص, وبيانه أن يقال:- إن كل علاجٍ عرفه الأطباء في السابق أو هو مما اكتشفه الأطباء الآن أو مما سيقدر الله تعالى اكتشافه في الأزمنة اللاحقة فالأصل فيه الحل والإباحة, إلا إذا كان مما ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح بتحريمه فإنه يكون حراماً, وذلك لعموم قوله تعالى { ألم ترى أن الله سخر لكم مافي الأرض } فكل شيء على وجه هذه الأرض فهو مسخر لنا ومقتضى تسخيره أن يكون حلالاً طاهراً, لأن الحرام والنجس ليس بمسخر لنا لعدم جواز الانتفاع به, وهذه الأدوية إنما هي مستخلصات مما على هذه الأرض من نباتٍ أو معدنٍ أو حيوانٍ وغير ذلك, ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام )) فقوله (( تداووا )) هذا لفظ مطلق وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو بقاء المطلق على إطلاقه حتى يرد المقيد, ولكن قيد النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا التداوي بقوله (( ولا تتداووا بحرام )) فقوله (( ولا تتداووا )) هذا نهي, وقوله (( بحرام )) نكرة, وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النهي تعم, فيدخل في ذلك كل حرام شرعاً فإنه لايجوز التداوي به فإن حقيقة الحرام أنه داء وليس بدواء, ولا أريد الإطالة في الاستدلال على هذا الضابط المفيد في باب التداوي, ولعله يذكر مطولاً في موضعٍ آخر إن شاء الله تعالى والمقصود أنني أريد منك الآن أن تحفظ هذا الضابط وهو أن الأصل في التداوي الحل إلا ما حرمه الشارع, وتفريعاً على هذا الضابط أذكر لك بعض الأشياء المحرمة التي انتشرت في هذه الأزمنة ويظنها بعض الناس أنها من العلاجات وهي من المحرمات المضرات التي تزيد العبد وهناً على وهنه فأقول وبالله التوفيق:-(1/14)
منها :- التداوي بالتمائم, وهي أشياء من الودع أو الخيوط أو الورق المكتوب عليه أو غير ذلك ويعتقد معلقه أنها تدفع عنه الشر وتجلب له الخير, وبعض المعالجين بالأعشاب يبيع هذه ( الحجب ) أو ( الأحراز ) بالأثمان الباهضة وكثير منها مشتمل على طلاسم وكتابات غير مفهومة, وكثير منها استعانة بالجن وكبراء الشياطين وأسيادهم, وهي من العلاج المحرم, بل هي داء وليست بدواء, قال تعالى { قل أفرأيتم ماتدعون من دون الله إن أرادني الله بضرٍ هل هن كاشفات ضره, أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله, عليه يتوكل المتوكلون } وفي الصحيح عن أبي بشير - رضي الله عنه - (( أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر - أو قلادة - إلا قطعت )) وعن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وفي يده حلقة من صفر قال (( ماهذه؟)) قال:- من الواهنة, قال (( انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً فإنك لوْ مِتَّ وهي عليك ما أفلحت أبداً ))"رواه أحمد وابن حبان والحاكم" ولأحمد عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له, ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) وفي رواية (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) وهي عند الحاكم أيضاً, وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن التمائم والرقى والتولة شرك ))"رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم" وفي حديث عبدالله بن عكيم مرفوعاً (( إن من تعلق شيئاًَ وُكِلَ إليه ))"رواه أحمد والترمذي" وفي حديث رويفع - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابةٍ أو عظم فإن محمداً بريء منه ))"رواه أحمد في المسند" فالتمائم كلها(1/15)
حرام, أما التمائم الشركية فبالإجماع وأما التمائم من القرآن فعلى القول الصحيح وذلك لعموم الأدلة وقد تقرر في الأصول:- أن العام يجب أن يبقى على عمومه ولا يخص إلا بدليل, وكذلك لسد ذريعة تعلق شيء من القلب بغير الله تعالى, ولسد ذريعة امتهان القرآن, ولسد ذريعة تعليق التمائم الشركية, وعليه أكثر المتأخرين, فلا يجوز للعبد أن يتخذ التمائم بقصد العلاج لأنها داء وما هي بدواء ولا تغرنك المرويات الباطلة والحكايات الكاذبة التي يروجها فقراء الدين, والمفلسون من الإيمان, ودعاة الفتنة حول تأثير هذه التمائم, فالحق أحق أن يتبع والله أعلم .(1/16)
ومنها :- جمع شيء من تراب الأرض الذي سقط عليه المريض فإن هذا شيء يفعله بعض المرضى, إذا سقط على أرض فاعتل فإنه يذهب إلى نفس المكان ويأخذ ترابه أو يريق عليه ماءً مقروءاً فيه وكل ذلك يقصد به العلاج, وهذا أمر لايجوز لأنه نوع تقرب للجن, ولا علاقة ظاهرة بين هذا الفعل وبين علاج ذلك المرض إنما هو التخرص والجهل والانسياق وراء الحكايات الباطلة من غير تمحيص لصحيح الأخبار وسقيمها, فهذا الفعل حقيقته نوع استرضاء للجن ونوع تقرب لهم واستكفاء لشرهم بشيء لا دليل عليه. فهذا ليس بعلاجٍ أصلاً حتى نطبق عليه القاعدة المذكورة, لأن إثبات كونه علاجاً لابد فيه كلمة أهل الخبرة الموثوقون في علمهم وخبرتهم وديانتهم, ولا نعلم عن أهل الخبرة في ذلك كلمة واحدة, بل المحفوظ عن كثير منهم إنكار مثل ذلك وبعضهم لم يسمع به أصلاً, وإنما هو من تهوكات العامة الذين يتلقفون مثل هذه الأشياء طمعاً منهم بالشفاء ولو كان على حساب دينهم وعقيدتهم, فإدخال ذلك في دائرة العلاج حتى نطلب الدليل على تحريمه غير مقبول أصلاً, فالحق منعه, والوصية لولاة الأمور أن يوقفوا كل من يقره ويأمر به العوام, فهو علاج شيطاني بدعي لا أصل له, ولا دليل يعضده ولا تجربة تصدقه وادعاء بعض العوام أنه فعله واستفاد منه ليس بشيء لأن مثل هذا الطريق لا يصلح أن يكون سبيلاً في معرفة طرق العلاج, فالعلاج يعرف طريقه بالنص أو بالتجربة الصادرة من أهل العلم والخبرة, وعلى كل حال فهذه الطريقة المذكورة داء وليست بدواء فالواجب تركها والحذر والتحذير منها والله المستعان .(1/17)
ومنها :- التداوي بالذهاب للسحرة والعرافين والكهنة والمشعوذين, فهو محرم بالاتفاق ووسيلة من وسائل الكفر والشرك, بل هو في بعض صوره شرك أكبر مخرج من الملة بالكلية, بل الذهاب لهم هو الداء بعينه والفساد برمته فكم توحيد ذبح عندهم وكم إيمان قتل في فناء دورهم وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له الصلاة أربعين يوماً ))"رواه مسلم" وقال عليه الصلاة والسلام (( من أتى كاهناً فسأله عن شيء فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ))"حديث صحيح" وفي الحديث (( ليس منا من تطير أو تُطير له, أو تكهن أو تُكهن له أو سحر أو سُحر له ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ))"رواه البزار بسندٍ جيد" وعن معاوية بن الحكم قال قلت يارسول الله:- أموراً في الجاهلية كنا نصنعها, كنا نأتي الكهان قال (( فلا تأتوا الكهان...الحديث ))"رواه مسلم" وعن عائشة رضي الله عنها قالت:- سأل أناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إنهم ليسوا بشيء )) قالوا:- يا رسول الله إنهم يحدِّثون أحياناً بالشيء فيكون حقاً, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( تلك الكلمة من الحق, يخطفها الجني, فيقرها في أذن وليه قَرَّ الدجاجة, فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة ))"متفق عليه". فهذه الطائفة الخبيثة المنتنة حقها أن تحارب ويرفع أمرها إلى ولاة الأمور لاجتثاثها والقضاء عليها, كما اجتثوا دين وإيمان كثير من الناس فاحذر من الذهاب إليهم الحذر المطلق فإنهم أعداء الديانة وأحباب إبليس ومنفذوا مخططاته اللعينة فاحفظ دينك بقطع دابر الذهاب لهم, وابذل النصيحة لمن خلفك من المسلمين بالإبلاغ عن هذه الثلة الخبيثة, والله أعلم .(1/18)
ومنها :- العلاج بالموسيقى, والتي يقوم بها بعض أطباء النفس المتفرنجين والمستغربين فإن في منظور طبهم أن الموسيقى تصلح أن تكون علاجاً لبعض حالات الأمراض النفسية وهذا لايجوز لأنه مخالفة للثابت شرعاً, فإن آلات المعازف والغناء والموسيقى بأنواعها حرام, والأدلة في ذلك كثيرة وقد استوفاها العلامة المحدث الألباني رحمه الله تعالى في كتابه } تحريم آلات الطرب { وقبله الإمام العلامة ابن القيم في كتابه } الكلام على مسألة السماع { وقبلهما الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في كتابه } الاستقامة { وقد كتب كثير من أهل العلم في هذه المسألة وبينوا فيها الأدلة وردوا فيها حجج المخالف وبينوا زيفها, فالحق الحقيق بالقبول هو حرمة الغناء وآلات الملاهي, فحيث ثبتت حرمتها فلا يجوز اتخاذها سبيلاً لطلب الصحة لأن الله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها ولحديث (( ولا تداووا بحرام )) وقد روى أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن عبدالله بن غنم عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ليشربن ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها, يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات, يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير )) وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين, صوت عند نغمة ولعب ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب ))"رواه أبو داود والترمذي وحسنه" وعن أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة, مزمار عند نغمة ورنة عند مصيبة ))"رواه البزار بسند جيد" وعن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف(1/19)
))"رواه البخاري في صحيحه" وقد ذكر القاضي عياض الإجماع على كفر من استحل الغناء ذكره عنه ابن مفلح في الفروع, وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى:- قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه ا.هـ. قلت:- والمراد بالكراهة هنا كراهة التحريم, وقد ثبت أن الغناء والموسيقى فيها مفاسد عظيمة فهو يفسد القلب, قال الضحاك رحمه الله تعالى:- الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب, وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:- فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق ا.هـ. ومن مفاسده أنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع, قاله ابن مسعود - رضي الله عنه - ومن مفاسده أنه يسخط الرب جل وعز, ومن مفاسده أنه ينافي الشكر لأن المغني استعمل لسانه فيما حرمه الشارع عليه وهو رقية الزنا وبريده كما قاله الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى وهو صاد عن ذكر الله تعالى وعن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبداً, وهو مزمور الشيطان كما سماه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهو من أسباب الضلال عن سبيل الله تعالى ومن ضل عن سبيل الله تعالى فهو هالك قال تعالى { ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم } وقد ثبت عن عدد من الصحابة أن الغناء هو المراد بذلك. والغناء من الزور فقد قال محمد بن الحنيفة في قوله تعالى { والذين لايشهدون الزور } قال هو الغناء, وهذا من تفسير الشيء ببعض أفراده وقال ابن القيم:- الغناء يورث النفاق في قومٍ ويورث العناد في قومٍ والكذب في قومٍ والفجور في قومٍ والرعونة في قومٍ ا.هـ. وهو صوت الشيطان كما قال الله تعالى { واستفزز من استطعت منهم بصوتك...(1/20)
الآية } فقد فسر جملة من التابعين والعلماء بأن صوت إبليس هو الأغاني, وهو من المكاء و التصدية كما قال تعالى { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية } قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة:- المكاء الصفير والتصدية التصفيق والغناء من جملة الأصوات الفاجرة التي تدعو إلى الفاحشة ولذلك فإن أهل الفواحش دائماً ما يستمعونه عند مواقعة فواحشهم فانظر إلى الملاهي الليلية و البارات التي تشرب فيها الخمور و الأوكار التي يفعل فيها الزنا فإنك لا تجد فيها إلا الغناء - نعوذ بالله من ذلك - وغير ذلك من المفاسد التي تفوق الحصر وبناءً عليه فلا يجوز جعل الغناء و الموسيقى سبباً من أسباب العلاج و الاستشفاء بل هي داء وليست بدواء عافانا الله و إخواننا من كل بلاء واسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يمن على المغنين و السامعين له بالتوبة النصوح قبل الممات وأن يهدي قلوبهم و جوارحهم إليه وأن يردهم إليه رداً جميلاً وأن يعيذهم من نزغات الشيطان وأن يكفيهم شره إنه سميع قريب مجيب الدعاء والله أعلى و أعلم .
ومنها :- بعض القراء هداه الله تعالى يستعمل أسلاك الكهرباء في العلاج، وهذا محرم ولا يجوز وذلك لعدة أمور :- الأول :- أنه مباشرة للجسد بتعذيبه بالنار وقد قال عليه الصلاة و السلام (( ولا يعذب بالنار إلا ربها )) أو كما قال عليه الصلاة و السلام والكهرباء في حقيقتها أنها نار، و لذلك من مات محترقاً بها فإنه ترجى له الشهادة لأن الحريق شهيد كما هو ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - .(1/21)
الثاني :- أن في العلاج بذلك أخطاراً عظيمة وآفات جسيمة على المريض فإنها قد تقتله وقد تعطل بعض حواسه وقد تشل بعض أطرافه عن الحركة, وقد تشوه بعض أجزاء جسمه, وكل ذلك لا يجوز فإن الإنسان نفساً وجسماً وأطرافاً وروحاً قد كرمه الله تعالى فلا يجوز التعدي عليه بمثل هذه الأعمال, وقد منع ولي الأمر المعالجة بمثل ذلك وطاعته في مثل ذلك واجبة لأنه أمر بمعروف ونهي عن منكر وتعطيل لكثير من الفساد فالواجب تركه والحذر والتحذير منه, والله أعلم .
ومنها :- المعالجة بالخمر, فإنه حرام ولا يجوز إقراره بل الواجب منعه, وهذه القضية قد فصلت بخصوصها بالأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة قال تعالى { ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون... الآية بعدها } وعن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه فقال:- إنما أصنعها للدواء فقال (( إنه ليس بدواء ولكنه داءٌ ))"رواه مسلم".
ومنها :- الأدوية التي قد اشتملت تركيبتها على شيء من شحم الخنزير, أو بعض أجزاء الحيوانات التي يحرم أكلها فإن هذه الأدوية محرمة لايجوز تناولها, لأنه يستلزم تناول ذلك المحرم, وقد قال تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به } والله أعلم .(1/22)
ومنها :- التداوي بشرب دم الضب لعلاج بعض الأمراض كالسعال الديكي ونحوه وهو حرام, وقد سئل عنه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى فأجاب فيه جواباًَ طويلاً شافياً كافياً فقال:- إذا كان دم الضب مسفوحاً فهو حرام والتداوي به لا يجوز والأصل في ذلك الكتاب والسنة والنظر أما الكتاب فقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم } وقوله تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير...(1/23)
الآية } وما جاء في معنى هاتين الآيتين من القرآن, وجه الدلالة:- أن الله تعالى حرم الدم في الآية الأولى على سبيل الإطلاق وحرمه في الثانية تحريماً مقيداً فيحمل المطلق على المقيد, ومن المقرر في علم الأصول أن الأحكام من أوصاف الأفعال فإذا أضيفت إلى الذوات فالمقصود الفعل الذي أعدت له هذه الذات فإضافة التحريم إلى الدم المسفوح إضافة إلى ما أعد له من شربٍ وتداوٍ وبيعٍ ونحو ذلك, وأما السنة فأدلة:- الأول:- روى البخاري في صحيحه معلقاً عن ابن مسعود - رضي الله عنه - (( إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم )) وقد وصله الطبراني بإسناد رجاله رجال الصحيح, وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه والبزار وأبو يعلى في مسنديهما ورجال أبو يعلى ثقات, وتقرير الاستدلال:- أن قوله - صلى الله عليه وسلم - (( يجعل )) فعل مضارع في سياق نهي, وهي (لم ) والفعل المضارع يشتمل على مصدرٍ وزمان وهذا المصدر نكرة, وهو الذي توجه إليه النفي, وقد تقرر في علم الأصول أن النكرة في سياق النفي تكون عامة إذا لم تكن أحد مدلولي الفعل, وألحق بذلك النكرة التي هي أحد مدلولي الفعل وقد صدر الجملة بأن المؤكدة, فالمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بعدم وجود شفاءٍ في الأدوية المحرمة, وباب الخبر لفظاً ومعنى, لا لفظاً من المواضع التي لا يدخلها النسخ فحكمه باقٍ إلى يوم القيامة, فيجب اعتقاد ذلك, وتقريره:- أن من أسباب الشفاء بالدواء تلقيه بالقبول واعتقاد منفعته, وما جعل الله فيه من بركة الشفاء ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد منفعتها وبركتها وبين حسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول بل كلما كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها وطبعه أكره شيء لها, فإذا تناولها في هذه الحال كانت داءً لا دواء, إلا أن يزول اعتقاد الخبث فيها وسوء الظن والكراهة لها بالمحبة, وهذا ينافي الإيمان فلا يتناولها المؤمن قط إلا على وجه أنها داء الحديث(1/24)
الثاني:- روى مسلم في صحيحه عن طارق بن سويد الجعفي أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه, وكره أن يصنعها, فقال:- إنما أصنعها للدواء فقال (( إنه ليس بدواء ولكنه داء )) وفي صحيح مسلم عن طارق بن سويد الحضرمي قال قلت يارسول الله إن بأرضنا أعناباً نعتصرها فنشرب منها, فقال (( لا )) فراجعته قلت:- إنا نستشفي للمريض, قال (( إن ذلك ليس بشفاءٍ ولكنه داء )) ويقرر الاستدلال من هذين الحديثين ما سبق, إلا أن هذا نص في الخمر ويعم غيرها من المحرمات قياساً, الحديث الثالث:- روى أصحاب السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث )) وجه الدلالة:- أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدواء الخبيث والنهي يقتضي التحريم فيكون تعاطيه محرماً, وما حرم إلا لقبحه والقبيح لا فائدة فيه وإذا انتفت الفائدة انتفى الشفاء, وروى أبو داود في السنن من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواءً فتداووا ولا تتداووا بحرام )) وأخرجه أيضاً الطبراني ورجاله ثقات, وجه الدلالة:- أنه - صلى الله عليه وسلم - بين أن الدواء في المباح أما المحرم فلا دواء فيه وبيان ذلك من وجوه:-
الأول :- أن الله جل وعلا هو الذي قدر الأمراض وقدر لها الأدوية وهو المحيط بكل شيء فما أثبته فهو المستحق أن يثبت وما نفاه فهو المستحق أن ينفى قولاً وعملاً واعتقاداً .
الثاني :- إن الله جل وعلا شرع لإزالة الأمراض أسباباً شرعية وأسباباً طبيعية وعادية فالأسباب الشرعية مثل قراءة القرآن والأدعية وقوة التوكل ونحو ذلك, وأما الطبيعية فمثل ما يوجد عند المريض من قوة البدن التي تقاوم المرض حتى يزول, وأما الأسباب العادية فمثل الأدوية التي تركب من الأشياء المباحة فكيف تجتنب الأسباب المشروعة إلى أسباب يأثم مرتكبها إذا كان عالماً بالحكم .(1/25)
الثالث :- أن أصل التداوي مشروع وليس بواجب فلا يجوز ارتكاب محظور من أجل فعلٍ جائز .
الرابع :- أن زوال المرض مظنون بالدواء المباح, وأما بالدواء المحرم فمتوهم فكيف يرتكب الحرام لأمرٍ متوهم ؟
الخامس :- أنه قال (( ولا تتداووا بحرام )) فهذا نهي, والنهي يقتضي في الأصل التحريم وهو إنما حرم لقبحه فلا يكون فيه شفاء, وأما النظر فمن عدة وجوه :-
الأول :- أن الله تعالى إنما حرمه لخبثه, فإنه لم يحرم على هذه الأمة طيباً, عقوبة لها كما حرمه على بني إسرائيل بقوله جل وعلا { فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم...الآية } وإنما حرم على هذه الأمة ماحرم من أجل خبثه, وتحريمه له حمية لها وصيانة عن تناوله فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل فإنه وإن أثر في إزالتها لكنه يعقب سقماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه, فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سقم البدن بسقم القلب .
الثاني :- أن تحريمه يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق, وفي اتخاذه دواءً حض على الترغيب فيه وملابسته, وهذا مضاد لمقصود الشارع .
الثالث :- أنه داء كما نص عليه الشارع فلا يجوز أن يتخذ دواء .
الرابع :- أنه يكسب الطبيعة والروح صفة الخبث لأن الطبيعة تنفعل عن كيفية الدواء انفعالاً بيناً فإذا كانت كيفيته خبيثة أكسب الطبيعة منه خبثاً فكيف إذا كان خبيثاً في ذاته ولهذا حرم الله سبحانه على عباده الأغذية والأشربة والملابس الخبيثة لما تكتسب النفس من هيئة الخبث وصفته .
الخامس :- أن إباحة التداوي به ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة لاسيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها, مزيل لأسقامها, جالب لشفائها فهذا أحب شيء لها والشارع سد الذريعة إلى تناوله بكل ممكن, ولا ريب أن بين سد الذريعة وفتح الذريعة إلى تناوله تناقضاً عظيماً .(1/26)
السادس :- أن في هذا الدواء المحرم من الأدواء مايزيد على مايظن فيه الشفاء ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى, وخلاصته أن التداوي بشرب دم الضب المسفوح حرام وفاعله آثم ولا عبرة بقول أحد مع هذه الأدلة من الكتاب والسنة والنظر الصحيح والتفريع على مقاصد الشريعة والله أعلى وأعلم .
هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى في أثناء الأسئلة بعض الأدوية التي ثبت النص بتحريمها ولنعد الآن إلى سياق الأسئلة :-
سـ6/ اذكر لنا بعض الأدوية النبوية مع بيان الأدلة عليها وبعض فوائدها ؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال واسع ولعل الله تعالى ييسر لنا أن نجمع فيه ماثبت به النص مع بيان شيء من فوائده نقلاً من كلام العلماء فأقول:-
منها :- وهو أعظمها وأفضلها على الإطلاق التداوي بالقرآن, أي بالرقية الشرعية ومن المعلوم أنها لا تكون مشروعة إلا إذا كانت بالقرآن أو بالأدعية الصحيحة وأن تكون باللسان العربي وأن يعتقد القارئ والمقروء عليه أنها سبب للشفاء فقط وأن الشافي هو الله وحده جل وعلا قال تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } و { من } هنا ليست تبعيضية وإنما هي لبيان الجنس على القول الصحيح واختاره ابن القيم وغير واحد من المحققين, وقال تعالى { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء } وقال تعالى { ياأيها الناس قد جاءتكم موعظمة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين } ولا يظن الظان أن القرآن شفاء لأمراض العين والسحر ومس الجان فقط بل هو شفاء من كل داءٍ بإذن الله تعالى سواءً الأمراض الروحية أو العضوية, وتفاصيل الرقية وأحكامها وأدلتها مذكور في غير هذا الموضع .(1/27)
ومنها :- التداوي بالأدعية والأوراد الشرعية الواردة, وهذه الأدعية لها أثر عظيم في استجلاب الخيرات والصحة واستدفاع المضرات والأمراض, فعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( من نزل منزلاً فقال:- أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ))"رواه مسلم" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:- يا رسول الله ما لقيت من عقربٍ لدغتني البارحة قال (( أما لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك ))"رواه مسلم" وفي الصحيح أن أنساً قال لثابت:- ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- بلى, فقال (( اللهم رب الناس مذهب الباس اشفي أنت الشافي لا شافي إلا أنت, اشفه شفاءً لا يغادر سقماً )) وروى مسلم في صحيحه عن عثمان بن أبي العاص أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه وجع كاد أن يهلكه, قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( امسحه بيمينك سبع مرات وقل:- أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر )) ففعلت ذلك فأذهب الله عزوجل ما كان بي, فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم وروى أبو داود بسندٍ حسن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلمهم من الفزع كلمات (( أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون )) وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لإنسان إذا اشتكى يقول بريقه, ثم قال به في التراب, تربة أرضنا, بريقة بعضنا, يشفى سقيمنا بإذن ربنا )) ومن ذلك أيضاً حديث رقية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهي قوله (( باسم الله أرقيك من كل داءٍ يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسدٍ الله يبريك باسم الله أرقيك )) ومنها حديث (( ربنا الله الذي في السماء تقدس(1/28)
اسمك أمرك في السماء والأرض, كما رحمتك في السماء أنزل رحمتك في الأرض أنت رب الطيبين اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع )) ومنها أن يقول العبد عند من يريد رقيته سبعاً (( أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك )) كما ثبت به النص .
وغير ذلك مما هو ثابت في السنة الصحيحة, فعلى العبد أن لا يغفل التداوي بذلك فإنه من أنفع العلاجات وأقلها كلفة وأسرعها تأثيراً ولكن لا تقل:- سأجرب, فإن هذا دليل على ضعف اليقين في النفس ولكن أقبل على هذه الأدعية بقلبٍ كله يقين وثبات وأبشر بالخير, والله يحفظنا وإياك من كل سوءٍ وبلاء وفتنة .(1/29)
ومنها :- التداوي بالعسل, قال تعالى { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } وفي الصحيحين من حديث أبي سعيدٍ أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:- أخي يشتكي بطنه, فقال (( اسقه عسلاً )) ثم أتاه الثانية فقال (( اسقه عسلاً )) ثم أتاه الثالثة فقال (( اسقه عسلاً )) ثم أتاه الرابعة فقال:- قد فعلت, فقال (( صدق الله وكذب بطن أخيك, اسقه عسلاً )) فسقاه فبرأ, وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه (( عليكم بالشفائين العسل والقرآن ))"أخرجه ابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي" وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن كان في شيء من أدويتكم خير, ففي شرطة محجم أو شربة عسلٍ أو لذعة نار توافق الداء, وما أحب أن أكتوي )) وللبخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً (( الشفاء في ثلاثة في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار, وأنا أنهى أمتي عن الكي )) قال ابن القيم رحمه الله:- والعسل فيه منافع عظيمة فإنه جلاء للأوساخ التي في العروق والأمعاء, وغيرها, محلل للرطوبات أكلاً وطلاءً نافع للمشايخ وأصحاب البلغم, وهو مغذ ملين للطبيعة، حافظ لقوى المعاجين وما استودع فيها، موافق للسعال الكائن عن البلغم...الخ كلامه رحمه الله تعالى، والله أعلم .
ومنها :- التداوي بالحجامة :- وقد تقدم الحديث فيها قبل قليل وفيه (( شرطة محجم )) والمراد بها الحجامة, وروى ابن ماجه في سننه بسنده عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما مررت ليلة أسري بي بملأ إلا قالوا:- يا محمد مر أمتك بالحجامة )) قال البوصيري:- هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة, وله شاهد من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والحاكم من حديث ابن عباس ورواه البزار في مسنده من حديث ابن عمر وصححه الألباني وتصحيح الشيخ الألباني له إنما هو بالنظر لشواهده والله أعلم .(1/30)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن كان في شيء من تداوون به خير فالحجامة ))"رواه ابن ماجه" وعن جابر - رضي الله عنه - (( أن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة, فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طيبة أن يحجمها ))"حديث صحيح" وعن أنس - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم في الأخذ عين وعلى الكاهل ))"رواه ابن ماجه وسنده صحيح" وله أيضاً عن أبي كبشة الأنماري أنه حدثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجم على هامته وبين كتفيه ويقول (( من اهرق منه هذه الدماء فلا يضره أن لا يتداوى بشيءٍ لشيء ))"حديث صحيح" وأما وقتها فقد روى الترمذي في جامعه من حديث أنس - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحتجم لسبعة عشر وتسعة عشر وفي إحدى وعشرين )) ورجاله ثقات وفي سنن ابن ماجه بسندٍ حسن عن أنس مرفوعاً (( من أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر أو تسعة عشر أو إحدى وعشرين, لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله )) وروى أبو داود في سننه بسندٍ حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً (( من احتجم لسبع عشرة أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين كانت شفاء من كل داء )) قال ابن القيم:- وهذه الأحاديث موافقة لما أجمع عليه الأطباء ا.هـ.
ومنها :- التداوي بالحبة السوداء, فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( عليكم بهذه الحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داءٍ إلا السام )) والسام الموت, وصحح ابن القيم رحمه الله تعالى أنها الشونيز وهي لغة الفرس, وقد ذكر رحمه الله تعالى كثير من فوائدها ومنافعها في الهدي فراجعه لأن نقله يطول والله أعلم .(1/31)
ومنها :- التداوي بالكي:- وقد تقدم لنا في ذلك عدة أحاديث وروى البخاري في صحيحه عن أنس - رضي الله عنه - (( أن أبا طلحة وأنس بن النضر كوياه, وكواه أبو طلحة بيده )) ولمسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال (( بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيِّ بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه عليه )) وله أيضاً عنه قال (( رمي سعد بن معاذ في أكحله, قال:- فحسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده بمشقص, ثم ورمت فحسمه الثانية )) وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه - (( أنه كُوِيَ من ذات الجنب والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي )) وفي الترمذي عن أنس (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى أسعد بن زرارة من الشوكة )) ورواته ثقات .
ولكن لا ينبغي الاستعجال به بل يجعل آخر العلاج, ويجمع بين أحاديث الفعل وأحاديث النهي, أن الفعل دليل الجواز والنهي دليل الكراهة, فالكي جائز لكنه مكروه فقوله (( وأنهى أمتي عن الكي )) ليس على بابه الذي هو التحريم وإنما هو للكراهة لوجود الصارف وهو أمره بالكي ومباشرته هو - صلى الله عليه وسلم - بكي بعض أصحابه, وقوله (( ولا أحب الكي )) لا يفيد إلا الكراهة فقط, فالقول الصحيح أن الكي جائز لكن مع الكراهة, ومتى ما أمكن الاستغناء عنه فلا يعالج به, والله أعلم .(1/32)
ومنها :- التداوي بما يضاد طبيعة المرض, كالتداوي من الحمى بالماء البارد, والتداوي من الغضب بالوضوء, فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء ))"متفق عليه" وفي لفظ لهما من حديث رافع بن خديج مرفوعاً (( الحمى من فور جهنم فأبردوها عنكم بالماء )) وعن أسماء بنت أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنهما (( أنها كانت إذا جاءتها المرأة المحمومة تدعو لها, أخذت الماء فصبته بينها وبين جيبها, وقالت:- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نبردها بالماء )) وفي الحديث (( إن هذا الغضب نار فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )) ومن ذلك أيضاً وجوب الوضوء من أكل لحم الجزور كما في حديث جابر بن سمرة عند مسلم وذلك لأن الإبل جن خلقت من جن, ففيها كثير من الطبائع الشيطانية والغاذي شبيه بالمغتذى والشياطين مخلوقة من النار, فناسب أن يوجب الوضوء بعد أكلها حتى يطفأ الماء الحرارة النارية الشيطانية المؤذية فتذهب مضرته وتبقى منفعته .(1/33)
منها :- التداوي بحفظ الصحة بعدم مخالطة أهل الأمراض المعدية وأمرهم بعدم مخالطة الأصحاء فإن الوقاية خير من العلاج, والدفع أقوى من الرفع, فعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال:- كان في وقد ثقيف رجل مجذوم, فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إنا قد بايعناك فارجع ))"رواه مسلم" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يوردن ممرض على مصح )) وفي المتفق عليه أيضاً من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن عبدالرحمن بن عوف قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - أي في الطاعون - (( إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )) وهذا من باب حفظ الصحة. ومن ذلك أيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم - (( بحسب ابن آدم لقيماتٍ يقمن صلبه فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه )) لأنه قال في الحديث الآخر (( ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه )) والطب قائم على الحمية وحفظ الصحة كما أفاده ابن القيم رحمه الله تعالى .(1/34)
ومنها :- علاجه - صلى الله عليه وسلم - العذرة بالعود الهندي, ففي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحري ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز في العذرة )) وعن أم قيس بنت محصن الأسدية رضي الله عنها وكانت من المهاجرات الأُوَل اللاتي بايعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي أخت عكاشة بنت محصن أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن لها قد علقت عليه من العذرة فقال (( اتقوا الله على ما تدغرن أولادكن بهذه الأعلاق, عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفيه, منها ذات الجنب ))"متفق عليه" وفي رواية لهما (( عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفيه يستعط به من العذرة ويلد به من ذات الجنب )) وفي السنن والمسند من حديث جابر - رضي الله عنه - قال:- دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دماً, فقال (( ما هذا؟ )) فقالوا:- به العذرة أو وجع في رأسه, فقال (( ويلكم, لا تقتلن أولادكن, أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطاً هندياً فلتحكه بماءٍ, ثم تسعطه إياه )) فأمرت عائشة رضي الله عنها فصنع ذلك للصبي فبرأ, وإسناده صحيح. والمشهور في علاج العذرة عندنا هو غمز اللهاة بالإصبع وهذا منهي عنه لأنه يعذب الطفل فأرشدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم, والقسط البحري المذكور في الحديث هو العود الهندي كما ذكر في الأحاديث الأخرى وخير ما فسرت به السنة هو السنة .(1/35)
ومنها :- أي من الأدوية النافعة، الكمأة، وهي شفاء العين كما أخبر بذلك المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، ففي الصحيحين من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين )) ولمسلم (( الكمأة من المن الذي أنزله الله تعالى على بني إسرائيل، وماؤها شفاء للعين )) والكمأة تكون في الأرض من غير أن تزرع, وسميت كمأة لاستثارها, ولا ورق لها ولا ساق, وهي للأرض كالجدري في الشكل والصورة ولذلك يقال لها:- جدري الأرض, وهي مما يوجد في الربيع ويؤكل نيئاً ومطبوخاً وتسميها العرب:- نبات الرعد لأنها تكثر بكثرته, وأجودها ما كانت أرضه رملية قليلة الماء, أفاده ابن القيم رحمه الله في الهدي والله أعلم. وسيأتي أكثر من ذلك إن شاء الله تعالى في أثناء الأسئلة بحوله وقوته .
سـ7/ هل التداوي والذهاب إلى الأطباء ينافي التوكل ؟
جـ/ أقول:- القاعدة المتقررة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى أن الأخذ بالأسباب من كمال التوكل, لأن التوكل عند أهل السنة مبني على ركنين:- على كمال الاعتماد على الله تعالى, وعلى الأخذ بالأسباب المشروعة, فإن الله رتب هذا الكون بعضه على بعض ومن باب التنبيه على شيء من أهمية الأسباب أذكر لك أمرين:-
الأول :- أنه لما ولدت مريم رضي الله عنها, واحتاجت للطعام, أمرت أن تهز جذع النخلة, وهي امرأة ضعيفة ونفاس وخائفة مما أمامها, ثم تؤمر بهز جذع النخلة فإنه لو يجتمع الرجال ذووا العدد ما قدروا على هزه, ولكنه الأخذ بالأسباب, فهزت فتساقط عليها الرطب الجني, وهذا يفيدك أهمية الأخذ بالسبب وترك العجز والتواني والكسل .(1/36)
الثاني :- أنه لما وقف موسى عليه السلام وقومه على سيف البحر وفرعون وقومه وراءهم { فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون, قال كلا إن معي ربي سيهدين, فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرقٍ كالطود العظيم } ففي هذا الوقت الحرج العصيب يؤمر موسى أن يضرب البحر والله قادر القدرة المطلقة على فلق البحر بلا ذلك الضرب, ولكن هذا من باب أهمية الأخذ بالسبب, وهذا مثالان فقط وإلا فالأدلة الشرعية على الأخذ بالأسباب كثيرة جداً وقد تكلمنا عن الأسباب وقواعدها في إتحاف أهل الألباب في العقيدة. والمقصود هنا:- أن الأخذ بالأسباب من كمال التوكل, ولذلك قال السلف:- الاعتماد على الأسباب شرك في التوحيد, وترك التوكل بالكلية قدح في الشرع, والأخذ بها مع كمال الاعتماد على الله تعالى هو حقيقة الشرع, وبناءً عليه فالتداوي والذهاب إلى الأطباء من باب الأخذ بالأسباب وهو من التوكل, لكن مع كمال اعتماد القلب على الله تعالى, واعتقاد أن هذا الطبيب المعالج إنما هو سبب سخره الله تعالى, فتعاطي الأسباب من علاج المرض وطلب الرزق وغير ذلك لا ينافي القدر لأن الله سبحانه قدر الأقدار وأمر بالأسباب وكل ميسر لما خلق له, ولذلك فإن التداوي بالأدوية المباحة من قدر الله تعالى, والقدر يدافع بالقدر فإن قدر الجوع يدفع بقدر الأكل, وقدر الظمأ يدفع بقدر الشرب, وقدر الحروب يدفع بالاستعداد لها, وقدر الفقر والحاجة يدفع بقدر السعي في طلب الرزق الحلال, وقدر البطالة يدفع بقدر البحث عن العمل, ومن ذلك أيضاً قدر المرض فإنه يدفع بقدر التداوي وطلب الشفاء, وذلك كما قال عمر - رضي الله عنه - في عام الطاعون (( نفر من قدر الله إلى قدر الله )) والله أعلم .
سـ8/ ما أقسام الأطباء؟ وكيف يعرف الطبيب الحاذق؟ وما الحكم مالو حصل من الطبيب تلف ؟(1/37)
جـ/ أقول:- أما الأطباء فهم أقسام:- من كان جاهلاً بالصنعة ولكنه يتطبب, ويظهر في صورة طبيب وهو لا يعرف من الطب إلا النزر اليسير, أو لا يعرف منه شيئاً, ومن هؤلاء كثير من الأطباء الشعبيين, فإن الكثير منهم لا يعرف من الطب ما يؤهله إلى وصف الأدوية ومن هؤلاء أيضاً من يؤتى به في تخصص معين ولا يتقن إلا هو, فيحتاج له في تخصص آخر لا دراية عنده به, وهذا يحصل كثيراً في بعض المراكز الصحية النائية التي يقل الاهتمام بها, ومن هؤلاء أيضاً بعض من يزاول الرقية على وجهٍ واسع وهو لا يعرف من أمرها إلا القليل, فهذا قسم, والقسم الثاني:- طبيب لا يزال في أول التعليم ولم يمهر بالصنعة بعد, فلا يزال في أول الطريق, وهم الطلبة الذين لا يزالون في مرحلة الطلب والقسم الثالث:- الأطباء المهرة الحاذقون العارفون, المشتهرون في مجال تخصصهم وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن الطبيب الحاذق هو الذي يراعي في علاجه عشرين أمراً:-
أحدها :- النظر في نوع المرض من أي الأمراض هو ؟
الثاني :- النظر في سببه من أي شيء حدث والعلة الفاعلة التي كانت سبب حدوث المرض ما هي ؟
الثالث :- قوة المريض, وهل هي مقاومة للمرض أم لا؟ فإن كانت مقاومة للمرض مستظهرة عليه, تركها والمرض ولم يحرك بالدواء ساكناً .
الرابع :- مزاج البدن الطبيعي, ماهو ؟
الخامس :- المزاج الحادث على غير المجرى الطبيعي .
السادس :- سن المريض .
السابع :- عادته .
الثامن :- الوقت الحاضر, من فصول السنة وما يليق به .
التاسع :- بلد المريض وتربته .
العاشر :- حال الهواء في وقت المرض .
الحادي عشر :- النظر في الدواء المضاد لتلك العلة .
الثاني عشر :- النظر في قوة الدواء ودرجته والموازنة بينها وبين قوة المريض .
الثالث عشر :- ألا يكون قصده إزالة تلك العلة فقط, بل إزالتها على وجهٍ يأمن معه حدوث ما هو أصعب منها .(1/38)
الرابع عشر :- أن يعالج بالأسهل بالأسهل, فإنه من حذق الطبيب أن يعالج بالأغذية بدل الأدوية وأن يعالج بالأدوية البسيطة بدل الأدوية المركبة .
الخامس عشر :- أن ينظر في العلة, هل هي مما يمكن علاجها أو لا؟ فإن لم يمكن علاجها, حفظ صناعته وحرمته, ولا يحمله الطبع على علاج لا يفيد شيئاً وإن أمكن علاجها, نظر هل يمكن زوالها أم لا؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالها, نظر هل يمكن تخفيفها وتقليلها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلها, ورأى أن غايته هو إمكان إيقافها وقطع زيادتها قصد بالعلاج ذلك فأعان القوة وأضعف المادة .
السادس عشر :- أن لا يتعرض للخلط قبل نضجه باستفراغ بل يقصد إنضاجه فإذا تم نضجه بادر إلى استفراغه .
السابع عشر :- أن تكون له خبرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان .
الثامن عشر :- التلطف بالمريض والرفق به كالتلطف بالصبي .
التاسع عشر :- أن يستعمل أنواع العلاجات الطبيعية والإلهية, والعلاج بالتخييل فإن لحذاق الأطباء في التخييل أموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل معين .
العشرون :- وهو ملاك أمر الطب, أن يجعل علاجه وتدبيره دائراً على ستة أركان:- حفظ الصحة الموجودة ورد الصحة المفقودة بحسب الإمكان واحتمال أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما, وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما, فعلى هذه الأصول الستة مدار العلاج وكل طبيب لا تكون هذه أخيته التي يرجع إليها فليس بطبيب ا.هـ.كلامه رحمه الله تعالى .
وأما بالنسبة للجزء الثالث من السؤال فجوابه فيه تفصيل :-(1/39)
فإن الطبيب إذا حصل منه تلف فلا يخلو:- فأما الطبيب الحاذق الذي أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده بإفراطٍ ولا تفريط, فقوله من فعله المأذون فيه من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس أو ذهاب صفة فهذا لا ضمان فيه باتفاق أهل العلم. وذلك لأن هذه السراية إنما حصلت بفعلٍ مأذونٍ فيه, وقد تقرر في القواعد أن سراية الواجب مهدرة بالاتفاق, وذلك كما أنه إذا ختن الصبي في وقت وسنه قابل للختان وأعطى الصنعة حقها فتلف العضو أو الصبي لم يضمن, وكذلك إذا بط من عاقل أو غيره ما ينبغي بطه في وقته على الوجه الذي ينبغي فتلف به, لم يضمن, وهكذا كل سراية تولدت من مأذون فيه فإنه لا ضمان فيه مالم يحصل تعدٍ أو تفريط, كسراية الحد بالاتفاق, وكسراية القصاص عند الجمهور خلافاً للحنفية وكسراية التعزير وكسراية ضرب الرجل لامرأته, أو المعلم للصبي, والمستأجر للدابة خلافاً للحنفية والشافعية وكالسراية التي تحصل من الطبيب أثناء إجراء العملية الجراحية المأذون فيها ونحو ذلك كل ذلك لا ضمان فيه, لكن بالشروط المذكورة, وهي أن يكون الطبيب حاذقاً لصنعته وأن لا يحصل منه تعدٍ ولا تفريط, ولا يسع الناس إلا هذا فإننا لو لم نقل به لتعطلت منافع الطب إذ كل طبيب سيتحفظ من إجراء أي عملٍ طبي خوفاً من الضمان وقد يتولى أمور الطب من ليس لها بكفءٍ لخوف الكفء من مزاولة الطب من خوفاً من التبعات بسبب حدوث التلف, ويمثل له أيضاً بمن يزاول الكي وهو ماهر به وحصل منه تلف فإنه لا يضمن, لأنه محسن وما على المحسنين من سبيل, لكن بالشرطين المذكورين, أن يكون حاذقاً في العلاج بالكي وأن لا يكون حصل منه إفراط أو تفريط فهذا بالنسبة للتلف الحاصل من الطبيب الحاذق, الماهر بالصنعة .(1/40)
وأما من تعاطى الطب وهو جاهل به, فهو ضامن لما حصل من التلف مطلقاً أي سواءً فرط أو لم يفرط لأنه ظالم بهذه المزاولة, وقد تقرر في القواعد أن الظالم يضمن مطلقاً فهذا الجاهل ظالم, وأما الأول فإنه أمين, وقد تقرر في القواعد أن الأمين لا يضمن التلف إلا بالتعدي والتفريط, فاحفظ هاتين القاعدتين فإنهما نافعتان في هذا الباب :-
الأولى :- سراية الجناية مضمونة بالاتفاق, وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق, فالطبيب الحاذق بالصنعة سرايته سراية واجب فهي مهدرة, والمتطبب الجاهل سرايتة سراية جناية فهي مضمونة, وهذا كله بالاتفاق .
الثانية :- لا يضمن الأمين التلف إلا بالتعدي والتفريط, والظالم يضمن مطلقاً, والطبيب الحاذق بالصنعة أمين فلا ضمان عليه فيما تلف إلا إذا تعدى أو فرط, وأما المتطبب الجاهل فإنه ظالم فهو ضامن مطلقاً, وتضمينه - أعني تضمين الجاهل بالطب بما أتلفه- متفق عليه بين العلماء, لكن تضمينه إنما يكون بالدية لأنه لا يستبد بالمعالجة بدون إذن المريض, لكن إذا علم المريض أن هذا المتطبب جاهل وأنه لا دراية له بأمور الطب ومع ذلك سلم نفسه له ليعالجه والمريض عاقل بالغ فلا ضمان على الطبيب في هذه الحالة .(1/41)
والأصل في الاستدلال لذلك ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من تطبب ولم يُعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن ))"حديث حسن" وقال أبو داود في سننه, حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا حفص قال حدثنا عبدالعزيز بن عمر عبدالعزيز, قال حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أيما طبيب تطبب على قومٍ لا يعرف له تطبب قبل ذلك فاعنت فهو ضامن ))"حديث حسن" فهذان الحديثان لهما منطوق ومفهوم, فأما المنطوق فإنه يفيد أن المتطبب الجاهل ضامن, وقد تقدم أن ذلك باتفاق أهل العلم, ومفهومه يفيد أن الطبيب المعروف لأنه حاذق في طبه لا يضمن, وقدمنا أن عدم الضمان إنما هو فيما لم يحصل منه تعدٍ أو تفريط, فصارت الأقسام ثلاثة :-
الأول :- من تعاطى الطب وهو جاهل فإنه يضمن بالاتفاق .
الثاني :- من تعاطى الطب وهو حاذق ولم يفرط فإنه غير ضامن بالاتفاق .(1/42)
الثالث :- من تعاطى الطب وأعطى الصنعة حقها ولكنه أخطأ بتعدٍ أو تفريط, أو غفلة أوجبت تلفاً كالخطأ في وصف الدواء, أو في صفة استعماله, أو جنت يده إلى عضوٍ صحيح فأتلفه أو كأن يعطيه من البنج أكثر مما يستحق, أو وصف الدواء قبل معرفة حقيقة المرض أي بلا كشفٍ ولا نظر, أو كأن يتعدي إلى قلع سن صحيح ظناً منه أنه السن التالف, ونحو ذلك, فهذه الجناية في الشرع جناية خطأ لا يمكن أن تهدر بل هي مضمونة فإن كانت أقل من ثلث الدية ففي مال الطبيب وإلا فعلى عاقلته, فهذا ما يخص الأحكام المتعلقة بالتلف الحاصل بسبب الأطباء وإتماماً للفائدة بقي عندنا مسألتان:- المسألة الأولى :- إن معرفة التعدي والتفرط مناطه أهل الخبرة, فإذا حصل شيء من ذلك فلابد من تشكيل لجنة من ذوي الخبرة الطبية والشرعية ويبحثوا في تفاصيل الواقعة وينظروا سبب التلف وما فعله الطبيب, وفيما قدم له من علاج ونحو ذلك, ويكون تقرير اللجنة معتمداً لدى الحاكم فيكون حكم القضاء منبثقاً من هذا التقرير .
المسألة الثانية :- إذا حصل التلف من الطبيب ثم ادعى أنه لم يفرط وادعى الولي أن الطبيب فرط, فالأصل الشرعي أن القول قول الطبيب بيمينه لأنه قد تقرر في القاعدة أن القول عند الاختلاف قول الأمين بيمينه, ولكن إذا رأى الحاكم أن جانب الطبيب ضعيف, وأراد زيادة الاستثبات قبل البت فيه بحكمٍ فله الأمر بتشكيل اللجنة المذكورة والله أعلم .
سـ9/ ما الوصايا التي يوصى بها المريض مع بيانها بالدليل ؟
جـ/ أقول:- هناك بعض الوصايا النافعة الجامعة والتي ينبغي للمريض أن يتذكرها دائماً وهي مجملة فيما يلي :-(1/43)
الأولى :- الوصية بالصبر, فإن الصبر واجب على ما نزل من البلاء وهو حبس اللسان عن التسخط والتشكي وحبس الجوارح عما لا يجوز شرعاً, قال تعالى { واصبروا إن الله مع الصابرين } وقال تعالى { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } وقال تعالى { وبشر الصابرين الذي إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } واعلم أن التسخط والتشكي منافٍ لكمال الإيمان الواجب, ففي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية )) وفي الصحيح أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه برئ من الصالتة والحالقة والشاقة, فيجب على المريض أن يصبر, ويحرص أن يكون ذلك الصبر هو الصبر الجميل, وهو الذي لا يشكو صاحبه البث والحزن إلا إلى ربه جل وعلا في حال خلواته, وقد عجبت من حال شيخنا عبدالرحمن الجاسر رحمه الله, فإنه قد نزل به مرض عضال جداً وكنت أزوره دائماً لقراءة بعض الكتب عليه, وكان يقول دائماً:- إنما سلوتي في العلم, وربما قال أحياناً:- لا أنسى المرض إلا في حال المطالعة واستماع العلم, وكنت أقصد أحياناً الترويح عنه وتصبيره من حيث لا يشعر فأكون أنا المنصوح وأنا المعزى بما أسمعه منه من عبرات الحمد لله تعالى والثناء عليه وكثرة شكره جل وعلا ودائماً كان يوصيني بالصبر وبالإيمان بالقدر, وأن الأنبياء والصالحين أصابهم أعظم من ذلك فلم يزدهم إلا ثباتاً وصبراً ويقيناً ورضاً بربهم جل وعلا, وقلت له يوماً:- يا شيخنا ألا تشكو لمن تحبهم ما تجده لعله يخفف عنك قليلاً فالتفت إلي التفاته المعاتب وقال:- أتريدني أن أشكو الله لخلقه, أشكو من لمن, فعاتبت نفسي كثيراً على هذه الهفوة, ودخلت عليه يوماً وهو مضطجع من قوة المرض, فقلت:- لو لم نقرأ اليوم, فقال:- هذا موعد الدرس ولا أريد تفويته فإنني أجد راحة في سماع العلم فبدأت بالقراءة والشيخ يعلق أحياناً ومع التعليق يقوم شيئاً فشيئاً فما أن انهيت(1/44)
القراءة إلا والشيخ قد جلس وكأنه جلوسه في حلقات التدريس, ناسياً مرضه ومقبلاً على الإفادة والتوجيه فرحمه الله تعالى رحمة واسعة وأجزل له الأجر والمثوبة رفع نزله في الفردوس الأعلى وجزاه خير ما جزى عالماً عن أمته وجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر, والمقصود:- أن الصبر عند حلول البلاء واجب .(1/45)
الثانية :- احتساب الأجر فإن هذا المرض حقيقته أنه نعمة من الله تعالى إذا وفق صاحبه للصبر, لأنه كفارة من ذنوبه وخطاياه, فعلى العبد إذا مرض أن يحتسب الأجر وأن يدخر ذلك المرض في ميزان حسناته,فقد قال عليه الصلاة والسلام (( إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده )) "حديث صحيح" وقد قال عليه الصلاة والسلام (( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها ))"متفق عليه" ولهما أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وصبٍ ولاهمٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله من خطاياه )) وفيهما أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ما من مسلم تصيبه مصيبة، مرض فيما سواه إلا حط الله له سيئاته كما تحط الشجرة ورقها )) وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من يرد الله به خيراً يصب منه )) وفي صحيح مسلم عن أبي هريره قال:- لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به } بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( قاربوا و سددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها، أو الشوكة يشاكها )) وفي صحيح مسلم أيضاً أن رسول - صلى الله عليه وسلم - دخل على أم السائب, أو أم المسيب فقال (( مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب تزفرين؟ )) قالت:- الحمى لا بارك الله فيها, فقال (( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد )) وعن عطاء بن أبي رباح قال قال لي ابن عباس:- ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت:- بلى, قال:- هذه المرأة السوداء أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت:- إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي, قال (( إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك )) فقالت:- اصبر, وقالت:- إني أتكشف فادع(1/46)
الله أن لا أتكشف, فدعا لها."متفق عليه", وفي صحيح البخاري من حديث أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تعالى قال:- (( إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر, عوضته منهما الجنة )) يريد عينيه .
الثالثة :- أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك و أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك، والعكس بالعكس، وأن هذا المرض الذي حصل لك قد كتب قبل خلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة كما في حديث ابن عمرو بن العاص قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات و الأرض بخمسين ألف سنة )) وأنه أمر قد جفت منه الأقلام و طويت صحفه و ختم عليه، وأن الله هو الذي ابتلاك ليختبر إيمانك و صبرك ولأنه يحبك كما مضى دليله وفي الحديث الآخر (( إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط )) وهذا هو حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر الذي هو الركن السادس من أركان الإيمان، فلا يتحقق إيمان العبد إلا به، فالمسلم عنده هذه الشماعة يعلق عليها جميع ما يصيبه من البلاء، وهذا من أحد الفروق بين المسلم و الكافر، فإن الكافر إذا حل به البلاء فإن الدنيا تضيق في عينيه فلا يجد متنفساً إلا في الخلاص من نفسه فينتحر و العياذ بالله تعالى، وأما المؤمن فإنه يعلم أن ما أصابه إنما هو من قضاء الله و قدره. والعاقل هو الذي يجدد إيماناً كلما تجدد له بلاء و الله المستعان .(1/47)
الرابعة :- الوصية بالرضا بالقضاء، و الرضاء أمر قلبي فوق الصبر فإن الصبر واجب لا اختيار فيه وأما الرضا فالصحيح أنه مستحب واختاره الشيخ تقي الدين، وابن القيم وغيرهما من المحققين والرضا بالقضاء مع التسليم التام له موجب لهداية القلب واستقامة الجوارح، قال تعالى { ماأصاب من مصيبة إلا بإذن الله، ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال غير واحدٍ من السلف هو الذي تصيبه المصيبة فيعلم أنها من الله فيرضى ويسلم وهذا وإن كان عسيراً على البعض إلا أنه يسير على من يسره الله عليه, فاطلبه من الله تعالى بالإكثار والإلحاح بالدعاء به وبإعظام الرغبة والرجاء له سبحانه أن يحقق لك ذلك وبتعويد القلب عليه, وبالمذاكرة في شأنه بينك وبين إخوانك حال حلول شيء من الأمراض أو غيرها من المصائب, فإن الذكرى تنفع المؤمنين كما قال تعالى { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ويطلب أيضاً بإدمان القراءة في سير الصالحين والذين بلغوا الغاية في الزهد والعبادة, كيف كانوا يتعاملون مع ما يجريه الله عليهم من الأقدار المؤلمة؟ فإن القوم سلفنا ونحن لهم بالأثر, فلابد من اتخاذهم قدوة ليس في اختياراتهم الفقهية فقط, بلا لابد من توسيع دائرة الاقتداء .(1/48)
الخامسة :- الوصية باتهام النفس وإقناع الإنسان نفسه أن الذي أصابه إنما هو بما كسبته يداه وأن الله ليس بظلامٍ للعبيد, جل وعلا, ويتلو عليها قوله تعالى { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } وقوله تعالى { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } فلابد حينئذٍ من مراجعة النفس ومحاسبتها والأخذ بزمامها وإحكام الأخذ به, وأن يبادر بالتوبة النصوح المستجمعة لشروطها, فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة, و لاسيما وأن المرض بريد الموت وواحدة من مقدماته, فالتوبة النصوح في أثنائه من أعظم توفيق الله للعبد وأن الله تعالى قد أراد به خيراً, فإذا كانت التوبة واجبة في كل وقت فهي في هذا الوقت أوجب, وإذا كانت تطلب من العبد دائماً فهي في هذا الوقت الحرج العصيب من أعظم المطالب وأهم الأشياء التي لابد من تحقيقها, وإنك لتعجب من بعض أهل الأمراض وما يصدر منهم من عظيم الإعراض فلا صلاة ولا صدقة ولا ذكر ولا إحسان, ولا توبة ولا استماع خيرٍ ولا قبول نصح ناصح, وهذا من الخذلان الظاهر ومن كانت هذه حاله فهو والله الخائب الخاسر, لأن القلب إذا لم يفق من رقدته عند حلول الفتن والمصائب فمتى بالله سيفيق وإذا لم تكن هذه الزواجر القدرية واعظةً له عن غيه فمتى بالله عليك سيتعظ؟ إن القلب إذا كان في حال الخوف معرضاً فهو في حال الأمن أشد إعراضاً، وإذا كان في حال المرض و المصيبة ساهياً لاهياً فهو في حال الصحة و العافية أشد التهاء و أشد سهواً، وما لجرحٍ بميت إيلام .(1/49)
السادسة :- أن يحذر من تمني الموت، وأن يستعيذ بالله تعالى من النطق بذلك و أن يكثر اللجأ إلى الله تعالى في كل أحواله أن لا يخذله فينطق بذلك ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لابد متمنياً، فليقل:- اللهم احيني إذا كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي )) "متفق عليه" وفي لفظ لهما لولا أني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( لا تتمنوا الموت )) لتمنيت ولهما أيضاً عن قيس بن أبي حازم قال (( اتيت خباباً وقد اكتوى سبعاً في بطنه فسمعته يقول:- لولا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به )) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول - صلى الله عليه وسلم - (( لا يتمنى أحدكم الموت, ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات انقطع عمله, وإنه ليزيد المؤمن من عُمره إلا خيراً )) فمهما بلغ بك المرض فإياك ثم إياك أن تنطق بذلك .(1/50)
السابعة :- أن لا يستبطأ الفرج, فإن الفرج قريب وإن رأيناه بعيداً وعليه مع ذلك الإكثار من الدعاء بالعفو والعافية ولا يقل دعوت ودعوت فلم يستجب لي فإن هذا القول من الأسباب المانعة للإجابة, وأن لا يقنط من رحمة الله فإنه لا يقنط ولا ييأس من روح الله إلا من خلا قلبه من الإيمان فقد روى أبو داود والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( الدعاء هو العبادة { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } ))"حديث صحيح" وعليه بجوامع الدعاء فقد روى أبو داود في سننه قال:- حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا يزيد بن هارون عن الأسود ابن شيبان عن أبي نوفل عن عائشة رضي الله عنها قال (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء, ويدع ما سوا ذلك ))"حديث صحيح" ولا يقل في دعائه ( إن شاء الله ) لما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يقل أحدكم اللهم اغفرلي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا مكره له )) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( يستجاب لأحدكم مالم يعجل, فيقول:- قد دعوت فلم يستجب لي )) وليعلم أن ربه جل وعلا كريم لا يرد دعاء الداعين ولا يخيب رجاء الراجين, فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه بإسنادهم عن سلمان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن ربكم تبارك وتعالى حييٌ كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً ))"حديث صحيح"وبالجملة فيتأدب بآداب الدعاء, فإن فرج الله قريب وما اختاره الله تعالى لك خير من الذي تختاره لنفسك والله أعلم .(1/51)
الثامنة :- الوصية بالإكثار من الذكر, لاسيما وأوقات المرضى واسعة وأشغالهم قليلة فعليه أن يستغل هذا الوقت بذكر الله تعالى فإن الذكر له فوائده العظيمة وأثاره الطيبة على القلب والروح والجوارح, وقد استوفاها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الوابل الصيب, فراجعه إن شئت. قال تعالى { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } وقال تعالى { ولذكر الله أكبر } وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرةً وأصيلاً } وقال تعالى { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } وقال عليه الصلاة والسلام (( مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت )) وقال عليه الصلاة والسلام (( ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا:- بلى يا رسول الله, قال ذكر الله ))"حديث صحيح" وقال عليه الصلاة والسلام (( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس )) وقال عليه الصلاة والسلام (( كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ))"متفق عليه" وقال عليه الصلاة والسلام (( من قال سبحان الله وبحمده في يوم مئة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر )) وقال عليه الصلاة والسلام (( من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة )) وقال عليه الصلاة والسلام (( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة كتب له مئة حسنة وحط عنه مئة خطيئة وكتب كأنما أعتق عشر رقابٍ من ولد إسماعيل وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك )) وقال عليه الصلاة والسلام لإحدى زوجاته وقد جلست تذكر الله من بعد الفجر حتى تعالى الضحى (( لقد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن(1/52)
سبحان الله وبحمده عدد خلقه وسبحان الله وبحمده رضا نفسه وسبحان الله وبحمده زنة عرشه وسبحان الله وبحمده مداد كلماته )) وأصناف الذكر وأوصي إخواني المرضى أن يكون عند رؤوسهم كتاب الله تعالى فإنه أعظم الذكر وأعظم الكلام, فليعمر به وقته تلاوة وتدبراً وحفظاً فإنه أنيس الوحشة وبرد الصدور وكافي الهموم وسلوة الأرواح, وهاديها إلى بلاد الأفراح .
التاسعة :- أن يحرص على الوصية، فإن كتابتها سنة، و تتأكد في حق من عليه حقوق للآخرين ستضيع لو لم يوصى، فالوصية أمر مطلوب من الصحيح فكيف بالمريض، ففي الحديث الصحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما حق امرئ مسلم يبيت ليلة أو ليلتين وله شيء يوصي به إلا ووصيته مكتوبة عنده )) فكان ابن عمر رضي الله عنهما يحافظ على ذلك .
العاشرة :- أن يكون رفيقاً بإخوانه المرضى موصلاً للخير لهم، كافاً يده ولسانه عنهم فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه و يده، مذكراً لهم بالله وبحقارة الدنيا وبنعمة الصحة وبضعف البشرية, معلماً لهم ما يحتاجونه من كيفية الطهارة والصلاة مدخلاً للسرور عليهم فإن إدخال السرور على العبد من الأعمال التي يحبها الله تعالى لاسيما وفي مثل هذه الأحوال والظروف, متأدباً مع الأطباء وناصحاً لهم, ومحافظاً على تعليماتهم مالم تتخالف مع شيء من أمور الشريعة, وداعية إلى الله تعالى بفعاله قبل مقاله ومحافظاً على الصلوات جماعة في أوقاتها على قدر ما يستطيعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر, غاضاً لبصره, حافظاً لفرجه, صادقاً في لهجته مأمون البائقة, لا يرى عليه ريبة, متخلقاً بالأخلاق الحسنة مع من حوله من الأطباء والمرضى, لا فظاً ولا غليظاً ولا قليل أدب ولا رفيق هوان, والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله أعلم .
سـ10/ ما الوصايا التي يوصى بها الأطباء ؟(1/53)
جـ/ أقول:- إن الطبيب له الأثر البالغ في المجتمع ولذلك فلابد من أن يراعي عدة وصايا :-
الأولى :- أوصيه بتقوى الله تعالى والخوف منه فإن الناس قد أمنوه على أبدانهم وأعراضهم, وسلموا له قيادهم, فإذا لم يحرص على الاتصاف بذلك فقد خاب وخسر فعليه بدوام المراقبة لله جل وعلا وأن لا يغفل أو يذهل عن ذلك .
الثانية :- أوصيه بالإخلاص في عمله وأن يكون مبدؤه في العمل القربة لله تعالى وابتغاء وجهه والدار الآخرة فإن تطبيب الناس عمل من أعمال الخير وهو نوع تعبد لله جل وعلا, فلا ينبغي أن يتخذ الطب مهنة فقط بل يجعلها من جملة الأعمال الصالحة التي يرجو برها وثوابها وأجرها عند الله تعالى, فإنه من التعاون على البر والتقوى, والأعمال مبناها على النيات فمن كان طبه لله فهو المأجور المثاب في الدنيا والآخرة ومن كان طبه لأخذ رويتبه فقط فليس له من طبه إلا ما نوى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } و { من كان يرد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يرد الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب } فالله الله بالإخلاص فإنه موجب للبركة وللتوفيق وللنجاح والسداد في الدنيا والآخرة .
الثالثة :- أوصيه بالرفق بالمرضى وبتحمل ما قد يصدر منهم من الأذى القولي والفعلي وأن لا يعاملهم بالمثل ولا ينوي الانتقام من آذاه منهم, ففي الحديث (( فإن الله الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه )) وفي الحديث الآخر (( وإن الله ليعطي على الرفق مالا يعطي على العنف )) فالله الله أيها الطبيب المبارك بالرفق والحلم والأناة فليزرع الطبيب محبته في قلوب مرضاه فإنه أحسن العلاج وأوفق للبرء .(1/54)
الرابعة :- أوصية بالاجتهاد في كشف العلة وألاّ يعتمد على وصف المريض فقط كما يفعله بعض الأطباء فإنهم لا يتكلفون عناء الكشف وإنما يصفون العلاج بمجرد سماع الشكوى وهذا خطأ، وهم يعلمون ذلك ولكن من باب التذكير فإن الذكرى تنفع المؤمنين وكم وكم من الأخطاء التي حصلت بسبب ذلك، وهذا أمر لا يجوز، بل الواجب على الطبيب من باب حفظ الصحة أن يجتهد في كشف المعاناة وأن يتلمس حقيقة المرض بما آتاه الله تعالى من قوة، فإن من مقاصد الشريعة الضرورية حفظ النفس و الطبيب له حظ وافر من ذلك، فالله الله أيها الأطباء الكرام بهذا الأمر والله يحفظكم و يرعاكم ويسدد خطاكم .
الخامسة :- أوصيه بالاستعانة بالله جل و علا في كل أحواله فإن مهنة الطب مهنة شاقة و مسؤلياتها تعجز الكواهل عن حملها فعليه بدوام الاستعانة بالله تعالى وأن لا يعتمد على علمه و خبرته وقوته فقط، فإنه لا حول و لا قوة إلا بالله تعالى، فإذا لم يكن الله هو معينه فاكتب عليه السلام، فلا بد من ذلك، وليس هذا للطبيب فقط بل هو أمر عام لكل أحد لكن لأننا نكتب في أمور الطب خصصنا الكلام له، فإذا ذهبت إلى عملك فابتهل إلى الله تعالى داعياً متضرعاً سائلاً ذليلاً بقلبٍ حاضر ونية صادقة أن يلهمك رشدك وأن يسدد قولك وأن يشفي مرضاك وأن يتولاهم برعايته جل وعلا, وأن يكون لك ناصراً ومعيناً وحافظاً وهادياً ومؤيداً ومغيثاً,فلا جرم أن الموفق من الأطباء من وفقه الله تعالى لذلك وأما من أعمى قلبه عن ذلك وطمس نور بصيرته عن ذلك الطريق فإنه لا خير فيه وإن بلغ في مراتب الدنيا و مناصبها ما بلغ والله المستعان .(1/55)
السادسة :- أوصيه أن يكون قدوة حسنة لمن عنده من الأطباء و المرضى، متأدباً بالآداب الحسنة المرضية و متخلقاً بالأخلاق الطيبة المرعية، قد ظهرت عليه علامات السنة متباعداً عن المعصية، وأن يحرص كل الحرص على ربط مرضاه بالله جل وعلا وأن يذكرهم بأن الشفاء من عنده تبارك وتعالى وإنما هو سبب من الأسباب التي سخرها الله لهم، فكم من طبيب عاقل راشد ناصح كان سبباً لهداية كثير من المرضى, فأوصل لهم بإذن الله تعالى صحة القلوب وصحة الأبدان, ونعم الطبيب هذا وأسأله جل وعلا أن يكثر في الأمة أمثاله, وكم من العلاقات الطيبة المحمودة قد استمرت بعد خروج المريض بينه وبين طبيبه بسبب أنه رأى القدوة الحسنة من هذا الطبيب, فعلى الطبيب أن يكون قدوة حسنة بفعاله وأقواله ومظهره, والله أعلم .
السابعة :- أوصيه بعدم الاقتصار على أمور الطب فقط, بل لابد أن يكون أيضاً على دراية بأمور الشرع وخاصة بما يتعلق بطهارة المرضى وصلاتهم, فضلاً عن ما يجب تعلمه مما تتوقف عليه صحة العقيدة والعبادة, وإنه والله ليعجبني بعض الأطباء الذين وضعوا مكتبة مصغرة في غرف علاجهم فما أن يجد سعة من الوقت إلا أكب عليها يطالع فيها ويتضلع من معين مائها الصافي ويتروى من موردها العذب الشافي, ويعجبني أيضاً ارتباط بعض الأطباء بالمشايخ وأهل العلم وطلابه سواءً في حلقات دروسهم أو جلسات خاصة في بيوتهم, فإن الطبيب إذا كان كذلك فليبشر بالتوفيق والسداد في محيط عمله وأسرته وغير ذلك. والله أعلم .(1/56)
الثامنة :- أوصيه بعدم الخلوة بمن لا تحل له من النساء ففي الحديث (( ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما )) فالاختلاط بالنساء والخلوة بهن لا يجوز لأحدٍ لا للطبيب ولا لغيره, لا سيما إن كن متبرجات وغير متسترات فيجب على الطبيب الابتعاد عن هذا الاختلاط وأن لا يسوغ لنفسه ذلك بحكم اقتضاء العمل, وتحرم مصافحة أحد منهن, فإنه وسيلة لشرٍ عظيم لابد من سده, وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما مست يده يد امرأة أجنبية قط, وإنما كان يبايع النساء بالكلام, فليس للرجل أن يخلو بامرأة أجنبية عنه لا في الليل ولا في النهار وليس للطبيب ولا لغيره أن يخلو بالطبيبة ولا بغيرها ممن لا يحل له, ولا يجوز له شرعاً مباشرة أحد الممرضات بشيء إلا من وراء حجاب كما قال تعالى { وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } والله المستعان .(1/57)
التاسعة :- أوصي الطبيبات بالاحتشام وبالتقيد بالضوابط الشرعية في الحجاب, وأن لا يخدعها حال العمل الوظيفي وينسيها أنها مسلمة مأمورة بالحجاب وارتداء الجلباب قال تعالى { يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } والجلباب ما تضعه المرأة على رأسها وبدنها حتى تستر به وجهها وبدنها زيادة على الملابس العادية وقال سبحانه { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو أباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن...الآية } فالواجب على الممرضة ستر وجهها وجميع أجزاء جسمها باللباس الساتر الفضفاض الذي لا يحجم شيئاً من عورتها, ولتتذكر قوله - صلى الله عليه وسلم - (( صنفان من أهل النار لم أرهما, رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ))"رواه مسلم في صحيحه" وهذا وعيد عظيم, فهؤلاء النسوة يلبسن ثياباً لكن ثياب شفافة أو ضيقة جداً تبدي مفاتنها وكأنها عارية, فهي مكتسية في الظاهر لكنها عارية في حقيقة الأمر كالتي تكشف رأسها أو نحرها أو عضدها أو ساقها ونحو ذلك فالواجب تقوى الله تعالى في ذلك والحذر من هذا العمل السيء وأن تكون المرأة مستورة بعيدة عن أسباب الفتنة عند الرجال وشرع لها بين النساء أن تلبس ماجرت العادة بلبسه بينهن وهذا الكلام إنما نقوله من باب المناصحة والله الشاهد, وإذا لم تجد المرأة إلا ذلك العمل ولم يستجب لها أحد في عزلها عن الرجال فالواجب عليها أن تترك هذا العمل إلى غيره, ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً مما ترك وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } والله أعلم .
سـ11/ هل يصلى على السقط؟ وهل الدم الخارج بعده يكون نفاساً ؟(1/58)
جـ/ أقول:- إذا أسقطت المرأة جنينها فلا يخلو من حالتين:-
إما أن يكون قد تبين فيه خلق الإنسان من رأسٍ أو يد أو رجل أو غير ذلك, وإما أن تسقطه قطعة لحم لم يبين فيه شيء, فإن كان الأول فهي نفساء, لها أحكام النفاس فلا تصلي ولا تصوم ولا يحل لزوجها جماعها ولا تطوف بالبيت الحرام حتى تطهر, فإن رأت الطهر قبل الأربعين اغتسلت وصلت وإلا فأكثر النفاس أربعون يوماً وقد تقرر في القواعد أن أحكام الحيض والنفاس معلقة بوجود الدم الصالح أن يكون حيضاً و نفاساً وتقرر في الأصول أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, فلا تسمى المرأة نفساء إلا إذا أسقطت ما تبين فيه خلق الإنسان، وأما إذا أسقطت مالم يتبين فيه ذلك وإنما هو قطعة لحم لا تخطيط فيه فإن ما يخرج بعده من الدم يعتبر دم فساد وتعطى حكم المستحاضة لا حكم النفساء، ولا حكم الحائض، وعليها أن تصلي و تصوم في رمضان ويحل لزوجها جماعها وعليها أن تتوضأ لوقت كل صلاة لحديث (( وتوضئي لكل صلاة )) فهذا بالنسبة لإجابة الشطر الأول من السؤال وأما بالنسبة للشطر الثاني، فأقول:- إن كان ما أسقطته قد نفخت فيه الروح فإنه يغسل ويكفن و يصلى عليه ويسمى، لأنه بعد نفخ الروح فيه صار إنساناً له أحكامه بل ويعق عنه أيضاً، وأما إن كان سقوطه قبل نفخ الروح فيه فإنه يدفن في مقابر المسلمين بلا صلاة ولا تغسيل لأن هذه الأحكام تتعلق بالإنسان إذا فارقته الروح، وهذا لم تنفخ فيه الروح أصلاً، وبهذا أفتى أهل العلم في هذه البلاد - زادهم الله شرفاً و رفعة - والله أعلم .
سـ12/ هل يجوز إسقاط الجنين لأن الأطباء قرروا أن فيه تشوهاً خلقياً؟ مع بيان ذلك بالدليل والتعليل ؟(1/59)
جـ/ أقول:- لقد سئلت عن هذا السؤال قبل خمس سنين فأجبت بما حاصله:- إن هذا الأمر لا يجوز, بل هو من أعظم المحرمات وأكبر المنكرات وهو إحياء لسنةٍ من سنن الجاهلية في قتل بناتهم خوف العار وقتل أولادهم خوف الفقر, وهذه الطائفة تقتل أولادها خشية التشوه, وهذا كله حرام ومنكر يجب سده, وعدم إعمال الفكر فيه ولو مجرد إعمال فإن هذا الجنين نفس بشرية لها أحكامها وحرمتها فلا يجوز الاعتداء عليها والتسلط بهذه الصورة المشينة المنكرة, وأي حجة عند الله تقال يوم القيامة في إزهاق هذه النفس البشرية المعصومة المكرمة من ربها جل وعلا؟ وما الجواب بالله عليك إذا سئل يوم القيامة بأي ذنبٍ قتل؟ ما الجرم الذي فعله؟ وهل وجوده مشوهاً يسوغ لنا أن نقتله ونزهق روحه؟ لا والله كل ذلك ليس بحجة على تسويغ هذا الفعل المشين والجرم الشنيع والموبقة العظيمة والدليل على حرمتها عدة أمور :-
منها :- قوله تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } فقوله { لا تقتلوا } هذا نهي وقد تقرر في الأصول أن النهي المطلق عن القرينة يفيد التحريم, وقوله { النفس } مفرد محلاً بأل الاستغراقية, وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على المفرد أفادته العموم, وهذا الجنين يسمى نفساً فيدخل في عموم هذا التحريم وقوله { إلا بالحق } أي إلا فيما ورد به الشرع, وهل بالله عليك قد ورد الشرع بجواز إسقاط المرأة جنينها لخوفها أن يكون مشوهاً؟ بالطبع لا, فإن من له أدنى معرفة بالأدلة يعلم قطعاً حرمت ذلك وأن قتلها لهذا السبب إنما هو ظلم واعتداء وتسلط سافر وتسخط على القدر والعياذ بالله تعالى .(1/60)
ومنها :- قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً, يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً...الآية } فقتل النفس التي حرم الله تعالى من المحرمات التي تعقب الشرك بالله تعالى في الأعظمية, فدل على الحرمة الشديدة وأنه لا يسوغ بحال قتل هذه النفس المعصومة إلا إذا كان في بقائها ضرر متحقق على الأم فيقال حينئذٍ:- إذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما .
ومنها :- قوله تعالى { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } وهذا الإسقاط بهذا السبب حقيقته أنه قتل نفس مؤمنة على وجه التعمد والتسلط ففاعله والراضي به والمتسبب فيه يدخل في ذلك الوعيد ولا شك لأن قوله { ومن يقتل } هذا شرط وقوله { مؤمناً } هذا نكرة وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق الشرط تعم, فيدخل في ذلك كل مؤمن ويدخل من باب أولى المسلم لأن الإيمان درجة تعقب الإسلام, وهذه النفس يحكم لها بأنها نفس مسلمة فلا يجوز الاعتداء عليها بالقتل, ومن اعتدى ففعل, فإنه يدخل في هذا الوعيد العظيم والعياذ بالله تعالى .
ومنها :- قوله تعالى { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علمٍ وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم لفظ النص لا بخصوص سببه, فقد حكم الله تعالى على فاعل ذلك بالخسارة في الدنيا و الآخر وعده سفهاً، وهذه الآية منطبقة تماماً على من قتل هذه النفس المعصومة البريئة بهذه الحجة الشيطانية و الوسوسة الإبليسية وهذا الإنكار يدل على تحريم هذا الفعل وأنه شنيع و جريمة و خسارة لا تعوض إلا بالتوبة النصوح الصادقة وأنه سفه في العقل و هوس وتخرص، لا أساس له من الصحة ولم يبن على هدى وليس لصاحبه أثارة من علم وإنما هو الهوى و الاعتداء و التسلط .(1/61)
ومنها :- قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياكم } وقال في آية الإسراء { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم و إياكم } وقد ظهر لنا طائفة تقتل أولادها خشية العاهة، فيقال لهم:- ولا تقتلوا أولادكم خشية العاهة فالله هو الذي قدر ذلك وهو حافظهم و رازقهم ولن يضيعهم فقتل الأولاد منكر على وجه الإطلاق بالاتفاق و تقييد التحريم هنا بخوف الفقر أو خشيته لا مفهوم له لأنه قد اتفق العلماء على التحريم ولو كان لسببٍ آخر، والآيات الأولى فيها عموم وإطلاق, وقد تقرر في القواعد أن العام يجرى على عمومه ولا يخص إلا بدليل والمطلق يجرى على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل والله المستعان .
ومنها :- قوله تعالى { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله عن الله غفور رحيم } وهذا نفي وقد تقرر في القواعد أن النفي نهي وزيادة فمبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهؤلاء النسوة مشروطة بأن لا يقتلن أولادهن, وهذا مطلق والواجب أن يبقى على إطلاقه ولا يقيد بشيء إلا بدليل ولم يأت الدليل المقبول الذي يسوغ للأم أن تقتل ولدها خشية أن يكون مشوهاً حتى ولو قرر الأطباء ذلك فإنه من علم الغيب وكم تقرير صدر عن اللجان الطبية فبان كذباً وزوراً وقلب الله الموازين وأخلف الظنون, والأمر كله بيديه, حتى ولو ثبتت صحة هذا التقرير فإنه لا يسوغ قتل هذه النفس المعصومة .(1/62)
ومنها :- ما في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يحل دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس و الثيب الزاني و المفارق لدينه التارك للجماعة )) و لمسلم عن عائشة مثله، و هذه النفس المعصومة بالإسلام لم تجن شيئاً من هذه الثلاث حتى تزهق روحها فلا هو قاتل حتى يقتل ولا هو يثب زانٍ ولا هو من أصحاب الخصلة الثالثة فبأي حق بالله عليك يستحل دمه و تزهق روحه، إن هي إلا الأهواء التي تتجارى بأصحابها وكأن هؤلاء الراضين بذلك يريدون منا زيادة خصلة رابعة على مافي الحديث وهي ( والرجل يقتل ولده إذا كان مشوهاً ) وهذا كذب و زور و بهتان، فهذا الحديث يفيد حرمة النفس المسلمة وأنها ليست خاضعة لتقارير الأطباء ولا لعبث أهل الأهواء والله المستعان.
ومنها :- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يزال المؤمن في فسحةٍ من دينه مالم يصب دماً حراماً ))"رواه البخاري" وفي رواية عنه أنه قال (( إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله )) ومن يقتل ولده لهذا السبب فإنه ينطبق عليه تماماً هذا الحديث فليبحث عن الخلاص بعد وقوعه في أعظم الورطات .
ومنها :- ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( اجتنبوا السبع الموبقات )) قيل يا رسول الله وما هن؟ قال (( الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المؤمنات المحصنات الغافلات )) ووجه الدلالة منه ظاهرة .(1/63)
ومنها :- أن قتل الجنين بهذه الحجة مفسدة, وسبب ارتكابها استجلاب مصلحة وهي حتى لا يتأذى الوالدان في تربيته ولا برؤيته ولا يتأذى هو بذلك, فهنا قد تعارضت مفسدة ومصلحة, وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
ومنها :- أن قتله الآن بإسقاطه مفسدة متحققة وسبب ذلك دفع مفسدة متوهمة, لأن وجوده على الهيئة التي ذكرها أهل الطب من التشويه الخلقي لا يمكن أن نجزم به لأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى, فهي مفسدة متوهمة, وقد تقرر في القواعد أنه لا يجوز الإقدام على مفسدة متحققة من أجل مراعاة مفسدة متوهمة .
ومنها :- أن إزهاق النفس بلا حق فيه ما فيه من الوعيد الشديد والعذاب الأليم فهو مفسدة عظيمة لا تطاق ولا تحتمل, ووجوده على الهيئة التي ذكرها أهل الطب - إن سلمنا صحة قولهم - مفسدة أيضاً لكنها لا تساوي شيئاً في جانب المفسدة الأولى فمفسدة قتله أعظم وأعظم وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما .(1/64)
ومنها :- أن فاعل ذلك إنما فعله لأنه سيكون ذا عاهة خلقية إما مجنون أو معتوه أو ناقص الأطراف ونحو ذلك من العاهات, فلو سألناه وقلنا:- أوليس في العالم الآن مجانين ومشوهين خلقياً؟ بالطبع سيقول نعم, فيقال له:- أفلا نقتلهم لتحقق عين العلة التي من أجلها أجزت قتل هذا الجنين؟ بالطبع سيقول:- لا هذا لا يجوز, فيقال له ولماذا؟ فسيقول:- لأنهم أنفس معصومة, فقل له:- وهذا الجنين أليس نفساً معصومة, وإن قال:- هؤلاء قد ولدوا وانتهى الأمر, فقل له:- وهذا الجنين أيضاً قتل تخلق ونفخت فيه الروح وانتهى الأمر, فهو يرث, وفيه الدية إذا جني عليه, بل ويستحب عند بعض أهل العلم أن تخرج عنه زكاة الفطر, فهو نفس موجودة, بل ويقال أيضاً:- إن العاهة في هذا الجنين ليست أمراً مقطوعاً به لأنه لم يولد بعد, ولكن هؤلاء المجانين والمشوهين خلقياً قد تحققت فيهم العاهة فليست هي أمراً مظنوناً بل هي حقيقة واقعة, فيكون قتلهم - على مذهبك - من بابٍ أولى, لأنك إذا أجزت قتل الجنين خشية أن يكون مشوهاً فلأن تجيز قتل من تحقق تشويهه من باب أولى, وما كان جوابه دفاعاً عن قتل هؤلاء فهو جوابنا عليه دفاعاً عن تجويزه لإسقاط الجنين خشية التشويه بل ونقول له أيضاً:- إن كان قتل من تحققت فيه العاهة عياناً لا يجوز فكيف بقتل من تظن فيه العاهة ويخشى أن يكون مشوهاً؟ لا شك أنه لا يجوز من باب أولى, وقد تقرر في الأصول أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة, وتقرر في الأصول أيضاً أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات .(1/65)
ومنها :- أن اليقين المتقرر هو وجوب بقاء هذه النفس وحرمة الاعتداء عليها إلا بيقين آخر وهذا اليقين الآخر لابد أن يكون مستنداً إلى دليل شرعي من كتابٍ أو سنة أو ما تفرع عنهما من الإجماع الثابت أو القياس الصحيح, والتقارير الصادرة عن الأطباء في هذه المسألة لا تفيد إلا الظنون والتكهنات واستطلاعات المستقبل, فهي لا تخرج عن دائرة الشك وقد تقرر في القواعد أن اليقين لا يزول بالشك ولا بالظنون الكاذبة التي لم تبن على علمٍ ولا على هدى .
ومنها :- أن وجود الطفل مشوهاً ضرر, وقتله ضرر, وقد تقرر في القواعد أن الضرر لا يزال بالضرر, فإذا كان هذا في الضرر المساوي, فكيف ندفع الضرر الأخف بارتكاب الضرر الأشد فإن إسقاطه قتل له وحرمان له من حقه في الحياة وتعدٍ وجناية عليه, فإذا كان الضرر لا يدفع بالضرر المساوي فكيف إذا دفع بضررٍ أشد منه؟ لا شك أنه أعظم نهياً وأشد جرماً والله المستعان .(1/66)
وبناءً عليه فإنه لا يجوز إسقاطه, وعلى من تولى إسقاطه بهذا السبب الدية والكفارة وحسابه على الله يوم القيامة, فإن أولى ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء, وقد سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن مسألة مماثلة لهذه المسألة فأجابوا بقولهم:- ( بأنه لا يجوز إسقاطه من أجل التشوه الذي ذكر في السؤال مع العلم بأنه قد يشفيه الله تعالى بما بقي من المدة ويولد سليماً كما وقع ذلك لكثير من الناس ) وسئلوا أيضاً عن ظن بعض الأطباء في جنين أن سيولد بلا عظام فأجابوا بقولهم:- ( لا يجوز إسقاط الجنين لمجرد ظن الأطباء أنه يولد بلا عظام لأن الأصل تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق ) وسئل سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى عن حكم إسقاط حمل قد بان فيه عيب خلقي وتشوهات, فأجاب بقوله ( لا يجوز ذلك بل الواجب تركه فقد يغيره الله, وقد يظن الأطباء الظنون الكثيرة ويبطل الله ظنهم ويأتي الولد سليماً والله يبتلي عباده بالسراء والضراء ولا يجوز إسقاطه من أن الطبيب ظهر له أن فيه تشوهاً بل يجب الإبقاء عليه وإذا وجد مشوهاً فالحمد لله, يستطيع والده تربيته والصبر عليه ولهما في ذلك أجر عظيم ولهما أن يسلماه إلى دور الرعاية التي جعلتها الدولة لذلك ولا حرج في ذلك, وقد تتغير الأحوال فيظنون التشوه وهو في الشهر الخامس أو السادس ثم تتعدل الأمور ويشفيه الله تعالى وتزول أسباب التشوه ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ13/ ما الحكم الشرعي في استخدام الصائم لإبر السكر ولقطرة الفم أو الأنف أو العين؟ وما الحكم إذا أعطي الصائم دماً وما حكم التبرع بالدم حال الصوم, أو سحب عينات من دمه لمعرفة الفصيلة ونحوها؟ وهل يجوز للصائم استخدام بخاخ الربو حال صيامه ؟
جـ/ هذا سؤال فيه فروع كثيرة ومن باب تسهيل إجابته أفرقه في مسائل:-(1/67)
المسألة الأولى :- لا بد أولاً أن تعرف ضابطاً مهماً من باب الصيام,وهذا الضابط يقول يغلب جانب المنفذ المعتاد ويغلب جانب التغذية في غيره, وبيانه أن يقال:- إن الأشياء إذا دخلت إلى جوف الصائم فلا يخلو من حالتين إما أن تدخل من منفذٍ معتاد المراد به الفم والأنف وإما أن تدخل من منافذ غير معتاده, كالعروق والعين والإذن ونحوها فإذا دخل هذا الشيء ووصل إلى الجوف من منفذٍ معتاد فإنه مؤثر في فساد الصوم من غير النظر في نوعية هذا الشيء هل هو مغذٍ أم غير مغذٍ وذلك تغليباً لجانب المنفذ، وأما إن كان هذا الشيء قد وصل إلى الجوف من منفذٍ غير معتاد فإنه لا يؤثر في الصوم إلا إذا كان مغذياً أي مما يتغذى به الجسد و يقوم مقامه أي أننا ننظر إن كان الداخل مغذياً فسد الصوم وإن لم يكن مغذياً فلا شيء فيه ولا بأس به.(1/68)
فجانب التغذية مغلب في المنفذ غير المعتاد، وأما في المنفذ المعتاد فإننا لا نفصل فيه، وبناءً عليه فأقول:- إبر السكر تنقسم إلى قسمين، إبر ترفع منسوبه عند انخفاضه و إبر تخفض من منسوبه عند ارتفاعه فالأولى مفطرة و الثانية لا بأس بها وذلك لأن هذه الحقنة تدخل للجوف من منفذ غير معتاد كما هو معروف، لكنها في الحالة الأولى تكسب الجسد غذاءً زائداً فهي في معنى الأكل و الشرب فتعيد ضعفه إلى قوة، و وهنه إلى شدة وهذا هو ما يفيده الأكل و الشرب، فهي إذاً في معنى الأكل و الشرب، وأما هذه الإبر في الحالة الثانية فإنها تعدم و تحرق غذاءً زائداً ولا تعطي الجسد شيئاً زائداً من الغذاء، فحقيقتها إذهاب لا زيادة فليست أكلاً و شرباً ولا هي في معنى الأكل و الشرب، فالإبر التي ترفع منسوبه مفطرة والإبر التي تخفض منسوبه ليست بمؤثره, وإن أخرها الصائم مع القدرة إلى مابعد الإفطار فهو الأفضل خروجاً من الخلاف, وأما بالنسبة لقطرة الفم فإنها تفسد الصوم إذا وصلت إلى الجوف, لأنها تدخل من الفم وهو منفذ معتاد وقد تقرر في الضابط أنه يغلب جانب المنفذ المعتاد, وأما قطرة الأنف فهي أيضاً تفسد الصوم إذا وصلت إلى الجوف لأن الأنف منفذ معتاد فيغلب جانبه, وأما قطرة العين فإنها لا تفسد الصوم لأنها غير مغذية وقد دخلت من منفذٍ غير معتاد, وأما قطرة الأذن فليست مفطرة أيضاً لأنها غير مغذية وقد دخلت من منفذٍ غير معتاد, وأما إذا أعطي الصائم شيئاً من الدم باختياره عالماً ذاكراً صومه فإنه يفسد, لأن هذا الدم يحصل به تغذية الجسم وتقويته فهو في معنى الأكل و الشرب، فإن قلت:- لكنه دخل من العروق وهي منافذ غير معتادة؟ فأقول:- نعم ولكنه مغذٍ وقد تقرر عندنا في الضابط أنه يغلب جانب التغذية في الشيء الذي يدخل من منافذ غير معتادة، وأما بخاخ الربو فالأرجح والله أعلم أنه يفسد الصوم لأنه يصل إلى الجوف من الفم والفم منفذ معتاد, فهو مفرع على الضابط(1/69)
المذكور, وغالب هذه المسائل فيها خلاف, وخلافها اجتهادي, ولا ينبغي إلزام أحدٍ بقول أحد, فإذا اضطر الصائم إلى بخاخ الربو فله استعماله ويقضي من أيام أخر وإذا كان داؤه مزمناً ويضطر إلى استعمال البخاخ في كل حين من النهار والليل ويغلب على الظن عدم برئه من ذلك فله الفطر وعليه الكفارة لأنه مريض مرضاً يمنعه من الصيام ولا يرجى برؤه في حدود المعرفة البشرية. فبخاخ الربو شيء له جرم يصل إلى الجوف من منفذ معتاد فهو مفسد للصوم, فهذه الفروع جميعها تدخل تحت الضابط المذكور والذي يقول:- يغلب جانب المنفذ المعتاد ويغلب جانب التغذية في غيره, والله أعلم .
المسألة الثانية :- مسألة التبرع بالدم أو تحليل الدم فهذه المسألة مبنية على مسألة الحجامة هل هي مفطرة أم لا وعلى مسألة التفريق بين اليسير والكثير, وقد تقاس على مسألة القيء أيضاً من بعض الوجوه, فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والفضل وحسن التحقيق:-
اعلم رحمك الله تعالى أن أهل العلم رحمهم الله تعالى قد قضوا بأن الأحكام الواردة في الشرع ولم يرد لها تحديد فيه ولا في اللغة فإنه يرجع في تحديدها إلى العرف, وهذه قاعدة أصولية وقد نظمناها بقولنا :-(1/70)
وهناك مسائل يفرق أهل العلم فيها بين القليل والكثير فيقولون:- هذا لا يؤثر لأنه قليل وهذا يؤثر لأنه كثير, ومسألة تحليل الدم, داخلة تحت هذا الأصل, فإن كان ما يحتاج إليه في التحليل دم يسير عرفاً فإنه يجوز للصائم إخراجه, ولا بأس بذلك فمثل ذلك يتسامح فيه, وأما إذا كان الدم المحتاج إليه كثير عرفاً أي يدخل في حد الكثرة عرفاً فإنه يؤثر في فساد الصوم, فلا يجوز للصائم حال صومه أن يخرج من دمه ذلك المقدار والمعروف عندنا في العرف المتقرر أن الدم الذي يحصل به التحليل دم يسير يتسامح في مثله, لكن الأفضل للصائم أن يؤخره إلى الليل إن أمكن ذلك, لكن هناك أنواع تحليل تفتقر إلى دم كثير فإذا كان كثيراً عرفاً فلا يجوز, والصوم يفسد بذلك, فهذا بالنسبة لمسألة التحليل, وأما بالنسبة لمسألة التبرع بالدم فإن عملية التبرع بالدم في العرف الجاري لا تكون إلا بسحب دم كثير عرفاً, فالكمية المسحوبة في عملية التبرع كثيرة فحيث كانت تدخل في حد الكثرة عرفاً فإنه لا يجوز للصائم أن يتبرع بالدم, لأنه بالتبرع هذا يفسد صومه, وهو مأمور بالمحافظة على صومه ولا تتم المحافظة عليه إلا بترك التبرع فيكون تركه واجباً لأن مالا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب, وهذه المسألة دليلها قياسي, أعني بالقياس على الحجامة, فقد ثبت الدليل الصحيح بمجموع طرقه وشواهده أن الحجامة من جملة مفسدات الصوم, وهي إخراج دم فاسد لكن لأنها توجب ضعف البدن ووهنه فيقاس عليها إخراج الدم للتبرع, بل قياسه هنا من باب أولى فإن الدم الخارج بالتبرع أكثر بكثير من الدم الخارج بالحجامة كما هو معلوم فحيث كانت العلة واحدة فيقال بالقياس لأن المتقرر شرعاً أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات, وتقرر أيضاً في القواعد أن القياس الأولوي حجة وتقرر أيضاً في الأصول أن القياس الصحيح حجة, تستنبط منه الأحكام الشرعية فالأصل الحجامة, والفرع التبرع بالدم, والعلة ضعف(1/71)
البدن ووهنه وخور قواه والحكم:- أنه كما أن الحجامة مفطرة لهذه العلة فكذلك التبرع بالدم مفطر لتحقق العلة فيه, بل وأولى لما ذكرته قبل قليل أن الضعف والوهن الحاصل في التبرع أظهر وأكثر من الذي يحصل بالحجامة, فإذا قيل لك:- ما الدليل على أن التبرع بالدم مفسد للصوم؟ فقل:- الدليل هو قياسه على الحجامة, وهناك قياس آخر:- وهو قياس التبرع بالدم على استدعاء القيء بجامع الضعف والوهن الذي يحصل للبدن بعد ذلك, فالأصل هو استدعاء القيء والفرع هو التبرع بالدم, والعلة ضعف البدن ووهنه وفتور قواه, والحكم أنه كما أن استدعاء القيء من جملة مفسدات الصوم فكذلك التبرع بالدم, وقد سئل سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز عن ضابط الدم الخارج من الجسد المفسد للصوم فأجاب بقوله:- ( الدم المفسد للصوم هو الدم الذي يخرج بالحجامة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أفطر الحاجم والمحجوم )) ويقاس على الحجامة ما كان بمعناها مما يفعله الإنسان باختياره فيخرج منه دم كثير يؤثر على البدن ضعفاً فإنه يفسد الصوم كالحجامة لأن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الشيئين المتماثلين كما أنها لا تجمع بين الشيئين المفترقين أما ما خرج من الإنسان بغير قصد كالرعاف وكالجرح في البدن من السكين عند تقطيع اللحم أو وطئه على زجاج ونحوه فإن ذلك لا يفسد الصوم ولو خرج منه دم كثير كذلك لو خرج دم يسير لا يؤثر كتأثير الحجامة, كالدم الذي يؤخذ للتحليل فإنه لا يفسد الصوم أيضاً ) ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى .
سـ14/ ما حكم الجراحة الطبية وما شروط جوازها ؟(1/72)
جـ/ أقول:- الجراحة الطبية جائزة إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها, والدليل على جوازها قوله تعالى { ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً } والجراحة الطبية من أسباب إحياء النفس البشرية, فكم نفس كانت مهددة بالموت أو تلف أحد الأعضاء ولكن بفضل الله أولاً ثم بالجراحة ثانياً انقلب الخوف أمناً وعاد الحياة تدب في أرجاء هذه النفس, ولذلك فإن الجراحة تحقق مقصوداً من مقاصد الشريعة العظيمة وهو حفظ النفس, فكم نفسٍ قد حفظها الله تعالى بمثل هذه العمليات الجراحية, ومن المعلوم في القواعد أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, فإذا لم يكن حفظ النفس يتحقق إلا بالجراحة فتكون الجراحة واجبة فالعمليات الجراحية من نعم الله تعالى على بني البشر لا سيما وهذا التطور الطبي الهائل متمثلاً في هذه الأجهزة الدقيقة التي يتحقق بها كثير من المصالح ويندفع بها كثير من المفاسد وكل ذلك من توفيق الله تعالى ولطفه بعباده جل وعلا، ومن أدلة جوازها أيضاً:- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال (( بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي بن كعبٍ طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه )) والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقر الطبيب على هذا القطع وهذا الكي وهو من جملة ضروب الأعمال الجراحية، فلما أقره - صلى الله عليه وسلم - دل على الجواز لأنه قد تقرر في القواعد أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - دليل على الجواز، ومن أدلة الجواز أيضاً الأحاديث الواردة في الحجامة، وقد قدمنا طرفاً منها، ذلك لأن الحجامة تقوم على شق ظاهر الجلد واستخراج الدم الفاسد فهو نوعٍ من أنواع العمل الجراحي، ومن أدلة الجواز أيضاً:- الأدلة الواردة في الختان الحديث أبي هريرة في الصحيحين (( الفطرة خمس، الختان و الاستحداد و تقليم الأظافر و قص الشارب و نتف الإبط )) ومن المعلوم لدى الجميع أن الختان من جملة الأعمال الجراحية لأنها تقوم على استعمال الموسى(1/73)
و قطع الجلدة الزائدة، ولكنها من جملة العمليات المصغرة، إلا أنها داخلة في عموم العمل الجراحي وقد جعلها الشارع من جملة خصال الفطرة، فدل ذلك على جواز العمليات الجراحية، ومن الأدلة على الجواز أيضاً الإجماع، فإنه قد نقل بعض أهل العلم اتفاق العلماء على جواز العمل الجراحي إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة وانتفت موانعه، ومن الأدلة أيضاً تفريع هذه العمليات الجراحية على الأصول و القواعد و مقاصد الشريعة، فهذه العمليات يحصل بها حفظ النفس أو الطرف، وحفظها من مقاصد الشريعة الضرورية، وهذه العمليات يتحقق بها مصالح عظيمة وتندفع بها مفاسد كثيرة، و الشريعة جاءت لتقرير المصالح و تكميلها و تقليل المفاسد و تعطيلها، وهذه العمليات وإن كان فيها شيء من الضرر, إلا أنها تدفع ضرراً أعظم وأشد وإذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, وتقرر أيضاً أن الضرر الأشد يدفع بالضرر الأخف, فهذه الأدلة تفيدك جواز العملية الجراحية, لكن هذا الجواز مشروط بشروط وقد نص عليها أهل العلم رحمهم الله تعالى, وهي كما يلي:-
الأول :- أن تكون الجراحة مشروعة, وبناءً على هذا الشرط فإن العمليات الجراحية المحرمة شرعاً لا يجوز فعلها, فلا يجوز للطبيب أن يزاول شيئاً من ذلك ولا يجوز للمريض أصلاً أن يطلب من الطبيب أن يفعل به ذلك فجراحة الإجهاض المحرم لا تجوز وفاعلها والراضي بها آثم وما اكتسبه بسببها فهو سحت وحرام, وكذلك بعض جراحات التجميل, كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى, وكذلك جراحة تغيير الجنس فإنها كلها بجميع صورها حرام بل هو من أشد المحرمات وأعظم المنكرات .(1/74)
الثاني :- أن يكون المريض محتاجاً إلى هذه الجراحة, وبناءً عليه فإذا كان المريض لا يحتاج إلى هذه الجراحة فإنه لا يجوز له طلبها ولو طلبها فإنه لا يجوز للطبيب أن يستجيب لذلك وذلك لأن العمل الجراحي في الأصل أنه ممنوع إلا ما دعت إليه الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة, أي لابد من الموجب والمسوغ الشرعي وإلا فالأصل المنع, وفي حالة عدم احتياج المريض للجراحة فإن الأصل هو البقاء على المنع .
الثالث :- أن تتوفر الأهلية في الطبيب الجراح ومساعديه فلابد أن يكون ذا علمٍ وذا خبرة تؤهله إلى القيام بهذه الجراحة, وأن يكون قادراً على تطبيقها وأدائها على الوجه المطلوب منه لمثل هذه الجراحة, فإن من تطبب وهو جاهل فإنه ضامن, وبناءً عليه فلا يجوز أن يقد م على إجراء أي عملية جراحية من ليس ذا علمٍ ولا خبرة بها أو ليست عنده القدرة في القيام بها حق القيام .
الرابعة :- أن يغلب على ظن الطبيب المعالج بنجاح هذه العملية الجراحية, وبناءً على ذلك فإنه إن غلب على ظنه عدم نجاحها وأن المريض يهلك بذلك أو يتضرر بضرر أكبر من ضرره الحاصل فإنه لا يجوز له الإقدام على هذه العملية وغلبة الظن هنا كافية فإذا غلب على الظن عدم نجاحها فالواجب الترك, فلو فعلها مع غلبة ظنه بعدم فائدتها فإنه يضمن جميع التلف المترتب على عمليته هذه لأنه فعل مالا يجوز فعله شرعاً, فهو ظالم ويده متعدية واليد الظالمة والمتعدية ضامنة مطلقاً أي سواءً فرط أو لم يفرط والشريعة جاءت بضرورة حفظ النفس البشرية وحمايتها من كل ما من شأنه أن يكون سبباً لتلفها .(1/75)
الخامس :- أن لا يوجد البديل الذي هو أخف ضرراً من الجراحة, وبناءً عليه فإذا وجد بديل صالح يتحقق منه ما يتحقق بالجراحة فإن الواجب هو المصير إليه وترك هذه الجراحة, وذلك لحفظ النفس, فإن العملية الجراحية تكتنفها أخطار وأضرار تهدد النفس والبدن, فلا يجوز الإقدام عليها إلا حال تعينها لعدم وجود البديل, أما إذا وجد البديل الصالح فإن الإقدام عليها لا يجوز, لأنها بدل والبدل لا يجوز الانتقال إليه إلا إذا تعذر الأصل .
السادس :- أن يأذن المريض أو وليه بفعل هذه الجراحة والأصل إذن المريض إذا كانت عنده الأهلية للإذن وذلك بأن يكون بالغاً عاقلاً راشداً, فإذا لم يكن كذلك فإنه يرجع لوليه الذي نصبه الشارع للنظر في مصالحهم وبناءً عليه فإنه لا يجوز للطبيب الجراح أن يقوم بفعل الجراحة الطبية للمريض إذا لم يوافق عليها, وهذا معمول به عندنا ولله الحمد والمنة, لكن إذا كانت الجراحة في غاية الأهمية بحيث يكون في عدم إجرائها تلف للنفس أو أحد الأطراف وكان المريض في حالة غيبوبةٍ ولا يمكن تأخير الإجراء فإن إذنه في هذه الحالة يسقط ويقوم مقامه إذن الأولياء كما قرره الفقهاء رحمهم الله تعالى .(1/76)
السابع :- أن لا يترتب على هذه الجراحة ضرر أكبر من الضرر المراد دفعه, فإن المتقرر في القواعد أن الضرر لا يزال بالضرر المساوي, فكيف بالضرر الأشد, أي أن الضرر الأخف لا يزال بالضرر الأشد, فإذا اشتملت على ذلك حرم على الطبيب الجراح فعلها لما فيها من تعريض الأرواح والأجساد للضرر الأكبر ووجب على المريض البقاء على الضرر الأخف والامتناع عن فعل الجراحة المشتملة على الإلقاء بالنفس إلى الهلاك والتلف, فيجب على الأطباء أن يقارنوا بين نتائج الجراحة السلبية والمفاسد المترتبة عليها وبين المفاسد التي يشتمل عليها المرض الجراحي نفسه, فإن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أكبر من المفاسد الموجودة في المرض حرم عليهم الإقدام على فعل الجراحة لأن الشريعة لا تجيز للإنسان أن يزيل الضرر بمثله أو بما هو أشد لما تقرر في القاعدة التي تقول الضرر لا يزال بمثله, وأما إن كانت المفاسد التي تترتب على الجراحة أخف من المفاسد الموجودة في المرض الجراحي فإنه يجوز لهم الإقدام على فعلها إعمالاً للقاعدة الشرعية إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, والله أعلم .
سـ15/ ما أقسام الجراحة التجميلية مع بيان حكم كل قسمٍ مع ذكر الأدلة ؟(1/77)
جـ/ أقول:- الجراحة التجميلية لا تخلو من ثلاثة أقسام الجراحة التجميلية التحسينية والجراحة التجميلية الحاجية والجراحة التجميلية الضرورية, ولكل من هذه الجراحات أنواعها وأحكامها ودونك تفصيل ذلك :- فأما الجراحات التجميلية التحسينية فيراد بها تحسين المظهر وتحقيق الشكل الأفضل والصورة الأجمل دون وجود دوافع ضرورية أو حاجية تستلزم ذلك وإنما هو تحسين زائد بمحض الشهوة والهوى, ومنها عمليات التشبيب وهو تجديد الشباب وإزالة مظاهر الشيخوخة عن البدن فيبدو المسن بعدها وكأنه في عهد الصبا وعنفوان الشباب في شكله وصورته, ويدخل تحت هذه الجراحة أنواع كثيرة كجراحة تجميل الأنف وتصغيره وتغيير شكله من حيث العرض والارتفاع وجراحة تجميل الذقن وذلك بتصغير عظمها إن كان كبيراً أو تكبيره بوضع ذقن صناعي يلحم بالعضلات, وجراحة تجميل الثديين بتصغيرهما إذا كانا كبيرين, أو تكبيرهما إذا كانا صغيرين إما بحقن الهرمونات الجنسية أو بإدخال النهد الصناعي داخل جوف الثدي وكذلك جراحة تجميل الأذن بردها إلى الوراء إن كانت متقدمة وكذلك جراحة البطن بشد جلدته وإزالة القسم الزائد بسحبه من تحت الجلد جراحياً, وكذلك جراحة تجميل الوجه بشد تجاعيده, وكذلك تجميل الأرداف بإزالة المواد الشحمية الزائدة وكذلك جراحة تجميل الساعد وجراحة تجيل اليدين وجراحة تجميل الحواجب ونحو ذلك من أنواع الجراحة التجميلية التحسينية, وهذه الجراحة بجميع أقسامها محرمة في الشريعة الإسلامية ولا يجوز منها شيء أبداً لأنه لا يشتمل على دوافع ضرورية ولا دوافع حاجية بل غاية ما فيها تغيير خلقة الله تعالى والعبث بها حسب أهواء الناس وشهواتهم وهذا كله محرم ولا يجوز فعله وفاعله آثم والراضي به ىثم ويستحق العقوبة التعزيرية التي تردعه وأمثاله عن هذا الفعل القبيح والدليل على منعها قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله { و لآمرنهم فليغيرن خلق الله } وهي دليل على أن تغيير خلق الله(1/78)
مذموم فاعله لأنه وارد في سياق الذم والذم طريق من طرق معرفة الحرام, والجراحة التجميلية التحسينية تشتمل على تغيير خلقة الله تعالى والعبث فيها حسب الأهواء والشهوات فهي داخلة في المذموم شرعاً, وتعتبر هذه الجراحة من جنس المحرمات التي يسول الشيطان فعلها للعصاة من بني آدم ومن أدلة تحريمها أيضاً:- حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال (( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلعن المتنمصات والمتفلجات للحسن اللاتي يغيرن خلق الله )) وهو في الصحيح فالحديث دليل على لعن من فعل هذه الأشياء وعلل ذلك بأنه من تغيير خلق الله, وهذا المعنى موجود في الجراحة التجميلية التحسينية لأنها تغيير للخلقة بقصد الزيادة في الحسن فتعتبر داخلة في هذا الوعيد الشديد ولا يجوز فعلها, ومن الأدلة أيضاً القياس الصحيح فإن الوشم حرام والوشر والنمص حرام أيضاً وكل ذلك إنما حرم لأنه تغيير لخلقة الله تعالى وفاعله يطلب زيادة الحسن, فهو طلب للحسن بتغيير الخلقة, وهذه العلة التي من أجلها حرم ذلك متحققة في مثل هذه العمليات الجراحية, وقد تقرر في الأصول أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات, فالأصل هو الوشم والنمص والوشر, والفرع هو هذه العمليات الجراحية التجميلية التحسينية, والعلة هي طلب الحسن بتغيير خلقة الله تعالى, والحكم:- أنه كما حرمت هذه الأشياء لهذه العلة فكذلك تحرم عملية التجميل التحسينية لأنها تحمل نفس هذه العلة, والقياس الصحيح مصدر من مصادر استنباط الأحكام الشرعية, ومن أدلة تحريمها أيضاً:- أن هذه الجراحة لا يتم فعلها إلا بارتكاب بعض المحظورات ومن تلك المحظورات التخدير إذ لا يمكن فعل شيء من هذه العمليات إلا بعد تخدير المريض تخديراً عاماً أو موضعياً, ومعلوم أن الأصل في التخدير التحريم والحرام لا يستباح إلا بالضرورة وهذه العمليات ليست من باب الضرورة ولا من باب الحاجة المنزلة منزلة الضرورة,(1/79)
فالإقدام على التخدير لا يجوز، إذ لا سبب يوجبه، وأيضاً فإن كثيراً من هذه العمليات إنما يقوم بها الرجال للنساء الأجنبيات والعكس, وحينئذٍ ترتكب محظورات كثيرة كاللمس والنظر للعورة والخلوة بالأجنبية, وإذا كان يقوم بها الرجال للرجال والنساء للنساء فإنه يحصل محظور آخر وهو انكشاف العورة كما في جراحة تجميل الأرداف, وكل هذه المحرمات ترتكب من أجل جراحة تجميلية تحسينية, فأين عقل من يجيز مثل هذه العمليات؟ ومن الأدلة أيضاً على تحريمها:- إن هذه الجراحة لا تخلو من الأضرار والمضاعفات التي تنشأ عنها, فهي مفضية إلى مفسدة ولو بعد حين, وبناءً على ذلك فالواجب على الجميع ترك ذلك ولا ينبغي الانصياع وراء تهوسات بعض مرضى القلوب وأعذارهم وتحججاتهم في التوصل لمثل هذه العمليات, من أنهم يتألمون نفسياً وأنهم لا يستطيعون العيش بين بني جنسهم فإن بعض أهل العلم إذا سمع مثل ذلك تساهل في جواز ذلك وهذه القضية قد فصلتها الأدلة كما ذكرتها لك سابقاً فالحق أن يطرق في علاج هؤلاء إلى إزالة الأوهام والوساوس وذلك بغرس الإيمان في القلوب وزرع الرضا بالقضاء وأن المظاهر ليست هي الوسيلة الوحيدة لبلوغ الآمال فهذا بالنسبة للنوع الأول من جراحات التجميل وتوصلنا فيه إلى أنه حرام بكل أنواعه ومختلف صوره والله أعلم.(1/80)
وأما النوع الثاني وهو الجراحة التجميلية الحاجية, وهي الجراحة التي تدعو الحاجة الملحة إليها بحيث لو لم تفعل لحصل الضيق والحرج على الشخص, فهو لا يطلب بها حسناً زائداً وإنما يطلب بها إزالة ذلك الضيق أو الحرج الحاصل وذلك كإزالة التشوهات التي حصلت بسبب حريق مثلاً أو حوادث سيارات ونحو ذلك أو كإزالة أصبع سادسة أو يدٍ زائدة, أو سن زائدة تضر بالفم وعملية المضغ أو كتصحيح الأنف الأعوج الذي من شأنه أن يضر بعملية التنفس أو كشد الجفون المتهدلة التي من شأنها إعاقة الرؤية أو سحب الدهون من الشخص البدين والتي من شأنها أن تسبب كثيراً من الأمراض كالسكر والضغط وزيادة الدهون في الدم, أو تعديل حَوَلٍ في العين يمكن إصلاحه بلا ضرر, أو كعملية زرع الشعر للمرأة إذا كانت صلعاء بلا شعر أو كعملية إصلاح الأصابع بإقامتها إذا كان فيها انحناء خلقي ويضر بعمل صاحبها بها, وكعملية تخفيف الثديين غا كانا كبيرين جداً بحيث يضرا بعمود المرأة الفقري بسبب عدم التوازن لوجود الثقل الزائد من الأمام, وكعملية رتق الشفة المنشقة بسبب حادث أو حريق ونحوه, وغير ذلك من أنواع العمليات التي تدعو لها الحاجة فهذه العمليات لا بأس بها شرعاً, إذ لا مانع منها وليست داخلة في حد التغيير المنهي عنه وإنما دواعيها الحاجة المنزلة منزلة الضرورة, وقد تقرر في الشرع بالإجماع رفع الحرج, فحيث وجد الحرج وجد التخفيف, ويستدل عليها أيضاً بحديث عرفجة (( أنه قطع أنفه يوم كلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ أنفاً من ذهب )) والحديث صحيح.(1/81)
ووجه الدلالة منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز له اتخاذ ذلك الأنف وإخفاء ذلك العيب مما يدل على أن الإجراء الطبي إذا كان لستر شيء من العيوب الحادثة أو الخلقية فإنه لا بأس به, فلا حرج على الطبيب في الإقدام عليه ولا حرج على المريض في طلبه ولقد قال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } وقال سبحانه { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وقال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وفي الحديث الصحيح (( يسروا ولا تعسروا )) فهذه النصوص تدل على أن كل حرج واقع فإنه مرفوع بما شرع من التيسير والمتقرر عند الفقهاء أن كل شيء في فعله عسر فإنه يصحب باليسر, فلله الحمد والمنة, ويدل على جوازها أيضاً أن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها, وهذه العمليات الجراحية يتحقق بها مصالح عظيمة ويتعطل بها مفاسد كثيرة, وهذه الأسباب المذكورة في الأمثلة هي من جملة الأدواء والأمراض, والأدلة وردت بجواز علاج الأمراض, وإزالة الأدواء بما شرعه الله تعالى من أنواع العلاج وذلك كما في حديث (( ما أنزل الله من داءٍ إلا وأنزل له دواء )) وقوله عليه الصلاة والسلام (( لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله )) وقوله (( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل )) وقوله (( عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام )) ونحو هذه النصوص فإنها دليل على جواز مثل هذه العمليات الجراحية لأنها في حقيقتها علاج لهذه الأدواء الحادثة أو من أصل الخلقة, وقد تقرر في الأصول أن الأصل في العموم بقاؤه على عمومه ولا يخص إلا بدليل, فهذه العمليات نوع علاج لهذه الأدواء, فتدخل في عموم هذه الأحاديث, وبالجملة فهذا النوع من العمليات جائز لا بأس به لما مضى من الأدلة والله أعلم.(1/82)
وأما النوع الثالث فهو العمليات الجراحية التجميلية الضرورية وهي تلك العمليات التي تدعو إليها الضرورة الملحة أي الضرورة القصوى, ولا شك في جواز مثل هذه العمليات وجوازها أولى من مجرد جواز العمليات الحاجية لأن الضرورة حالة أعلى من الحاجة فإذا كانت العمليات الجراحية الحاجية جائزة فجواز ما كان من باب الضرورة من بابٍ أولى, ولا يحضرني حال الكتابة شيء من الأمثلة على هذه العمليات, لكن الحكم الشرعي فيها الجواز, فهذا بالنسبة لإجابة هذا السؤال وخلاصته أن جراحة التجميل ثلاثة أقسام:- جراحة تجميلية تحسينية وهي ممنوعة شرعاً, وجراحة تجميلية حاجية وهي جائزة, وجراحة تجميلية ضرورية وهي جائزة أيضاً فهذا بالنسبة لأصل الحكم ولكن تبقى بعض التفاصيل في بعض هذه العمليات واختلاف أهل العلم أو أهل الطب في نوعية هذه العملية فالخلاف قد يكون في التفريع لا التأصيل والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ16/ ما معنى موت الدماغ؟ وهل يعتبر الإنسان ميتاً شرعاً بمجرد موت دماغه مع أن قلبه لا يزال ينبض؟ وهل يجوز شرعاً رفع أجهزة الإنعاش عن المريض إذا قرر الأطباء أنه مات دماغياً؟ وضح ذلك بالأدلة والقواعد ؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال عظيم ومهم جداً لاسيما وأنه يتكلم عن مسألة تعتبر من المسائل الجديدة, والتي يتعلق بها كثير من الأحكام الشرعية, فلابد فيها من التفصيل والتحليل والإطناب في الاستدلال للقول الراجح, فأقول:- لقد اتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن من مات دماغه وتوقف قلبه عن النبض توقفاً كلياً أنه يحكم عليه بالموت, لأن هذا هو حقيقة الموت .
واتفقوا أيضاً على أن من طرأ على دماغه ما يمنعه من أداء مهمته وكان العارض معلوماً ويعلم زواله ولو بعد حين أنه يحكم بحياته فلا يجوز التعدي عليه بشيء .(1/83)
وإنما الخلاف بينهم حصل فيما إذا مات الدماغ ولا يزال القلب ينبض, فهل موت دماغه هذا كافٍ في الحكم عليه بأنه ميت شرعاً, أي هل موت الدماغ هو الحقيقة الشرعية للموت؟ فيه خلاف طويل بين أهل العلم والأرجح, بل الحق والصواب المعتمد في هذه المسألة هو أن موت الدماغ ليس بكافٍ للحكم على المريض بأنه ميت, فالقول بعدم اعتبار الإنسان ميتاً بمجرد موت دماغه هو القول الذي دلت عليه الدلائل النقلية والعقلية وأصول الشرع وقواعده والاعتبار الصحيح .
فمن الأدلة قوله تعالى { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً, إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمه وهيئ لنا من أمرنا رشداً فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً، ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً } فقوله تعالى { بعثناهم } أي أيقظناهم وهذه الآيات فيها دلالة واضحة على أن مجرد فقد الإحساس والشعور لا يعتبر وحده دليلاً كافياً للحكم بموت الإنسان لأن هؤلاء النفر فقدوا الإحساس والشعور ولم يعتبروا بذلك أمواتاً والحكم باعتبار موت الدماغ موتاً مبني على فقد المريض للإحساس والشعور, وهذا وحده لا يعتبر كافياً للحكم بالموت لأن هذه الآية الكريمة دلت على عدم اعتباره مع طول الفترة الزمانية التي مضت على أهل الكهف فإذا كان فقد الإحساس والشعور في هذه الفترة الطويلة جداً لا يعتبر موتاً فلأن يكون فقد الإحساس والشعور فيما هو أقل من ذلك لا يعتبر موتاً من باب أولى .(1/84)
ومن الأدلة أيضاً:- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن اليقين لا يزول بالشك بل لا يزول اليقين إلا بيقين آخر ينقض اليقين الأول, والمتيقن هنا هو الحياة والموت مشكوك فيه, لأنه لا يستطيع أحد أن يجزم جزم المتيقن أن هذا الشخص قد مات بمجرد موت دماغه وإنما هو ظنون وشكوك, وحيث تعارض اليقين والشك فالأصل هو البقاء على اليقين لأن اليقين لا يزول بالشك, أي أن الأمر المتيقن ثبوتاً أو نفياً لا ينقض بشك عارض .
ومن الأدلة أيضاً:- أن المتقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الأصل بقاء ما كان على ما كان, أي أن ما كان الأصل انتفاؤه في الماضي فهو منتف الآن حتى يثبت خلاف ذلك, وما كان الأصل ثبوته في الماضي فهو ثابت الآن حتى يثبت خلاف ذلك يقيناً, والأصل في الماضي ثبوت حياته, فكذلك يحكم به الآن أن حياته ثابتة لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان, فلما كانت حياته ثابتة في الماضي فهي ثابتة الآن, فيقال حينئذٍ:- الأصل بقاء الروح وعدم خروجها فنحن نبقى على هذا الأصل ونعتبره والمتقرر عند أهل العلم أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل .
ومن الأدلة أيضاً:- الاستصحاب, وذلك أن حالة المريض قبل موت الدماغ متفق على اعتباره حياً فيها, فنحن نستصحب الحكم الموجود فيها إلى هذه الحالة التي اختلفنا فيها ونقول:- إنه حي وروحه باقية لبقاء نبضه, وقد تقرر في الأصول أن الاستصحاب من مصادر الشرع المعتبرة إلا إذا قام دليل على خلافه .
ويدل على ذلك أيضاً:- أن حفظ النفس يعتبر من مقاصد الشريعة الإسلامية التي بلغت مرتبة الضروريات التي تجب المحافظة عليها بكل الطرق وكافة الوسائل ولا شك أن الحكم على المريض في هذه الحالة حياً فيه حفظ للنفس وحماية وصيانة لها, وذلك يتفق مع هذا المقصد الذي شهدت دلائل الشرع المتواترة باعتباره .(1/85)
ويوضح ذلك:- أن حقيقة الموت هو خروج الروح من الجسد، وإذا خرجت الروح منه تعطلت كل منافعه ولا يبقى فيه شيء يعمل ويكون جثة هامدة، والمريض في حالة موت الدماغ لا يزال قلبه ينبض أي لا تزال الروح فيه بدليل وجود هذا النبض، فكيف يقال:- قد مات ولا تزال روحه فيه؟ فميت الدماغ وإن كان فيه شبه كبير بالميت إلا أنه لا يحكم عليه بالموت الذي تترتب عليه أحكامه إلا بوقوف القلب عن النبض فما دام القلب ينبض فهو حي وإن مات دماغه لأن هذا النبض علامة على وجود الروح في بدنه والله المستعان .
ويوضح ذلك أيضاً:- أن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد احتاطوا في أمر الوفاة والحكم بها احتياطاً كبيراً, فخذ مثلاً على ذلك وهو ما ذكره صاحب المغني فإنه قال:- ( وإن اشتبه أمر الميت اعتبر بظهور أمارات الموت من استرخاء رجليه وانفصال كفيه وميل أنفه وامتداد جلدة وجهه وانخساف صدغيه وإن مات فجأة كالمصعوق أو خائفاً من حرب أو سبع أو تردى من جبلٍ انتظر به هذه العلامات حتى يتيقن موته ) ا.هـ. ومن ذلك أيضاً ما ذكره النووي رحمه الله تعالى فإنه قال:- ( فإن شك في موته بأن يكون به علة واحتمل أن يكون له سكتة أو ظهرت عليه علامات فزع أو غيره كأن يكون هناك احتمال إغماء أو خلافه أخر حتى اليقين بتغير الرائحة وغيره ) ا.هـ. وحالة موت الدماغ تعتبر من الحالات المشكوك فيها وذلك نظراً لبقاء القلب نابضاً والجسم يقبل التغذية ولم يتغير لونه, فهذا أمر موجب للشك وحينئذٍ فينبغي الانتظار إلى توقف القلب عن النبض بالكلية .(1/86)
ويوضح ذلك أيضاً:- أن الحكم بموت الدماغ إنما يعرف بالتشخيص وكثير من الأطباء يعترفون ويسلمون بوجود أخطاء في بعض التشخيصات ولذلك فإن الحكم بموت الدماغ يحتاج إلى فريق طبي ذي خبرة عالية وإلى فحص دقيق وهذا لا يتوفر في كثير من المستشفيات, ففتح الباب للقول باعتبار هذه العلامة موجبة للحكم بالوفاة سيؤدي إلى خطرٍ عظيم فالواجب قفله صيانة للأرواح التي يعتبر حفظها مقصداً ضرورياً من مقاصد الشريعة الإسلامية .
ويوضح ذلك أيضاً:- أن هناك بعض الأشخاص حكم الفريق الطبي عليهم بالموت دماغياً ثم كتب الله له الحياة, وقد ثبت ذلك في حوادث مختلفة, يفيد مجموعها أن موت الدماغ ليس سبباً حتمياً موجباً للوفاة بذاته, وقد ذكر فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد طرفاً من ذلك فقال:- ( حكم جمع من الأطباء على شخصية مرموقة بالوفاة لموت جذع الدماغ لديه, وأوشكوا على انتزاع بعض الأعضاء منه, لكن ورثته منعوا من ذلك ثم كتب الله له الحياة وما زال حياً إلى تاريخه ) ا.هـ.
ويوضح ذلك أيضاً:- أن هناك أولاد يولدون بلا مخ أصلاً وعاش بعضهم على حالته أكثر من عشر سنوات وهذا يدل دلالة واضحة على أن موت الدماغ لا يعتبر موجباً للحكم بالوفاة إذ لو كان كذلك لما عاش هؤلاء لحظة واحدة بدون المخ الذي يعتبر موته أساساً في الحكم بموت الدماغ, فإذا كانت الحياة موجودة في حال فقد المخ بالكلية فإنه لا مانع من أن يحكم بوجودها في حال موت الدماغ وبقاء القلب نابضاً والله أعلم.(1/87)
ومما يوضحه أيضاً:- أن الفقهاء رحمهم الله تعالى جعلوا التنفس دليلاً على الحياة كما نص على ذلك المرداوي في الإنصاف, وجزم أنه المذهب المعتمد, فالصدر يتحرك مع النبض وهذا يدل على حياة صاحب ذلك الجسد, وبالجملة فالقول الصحيح المجزوم به في هذه المسألة هو أن موت جذع الدماغ ليس كافياً للحكم بوفاة الشخص حتى يموت قلبه تماماً ويتوقف نبضه بالكلية وتتوقف جميع حركاته, هذا ما ندين الله به في هذه المسألة والله أعلم .
سـ17/ كيف نجمع بين معرفة الأطباء لما في الرحم من كونه ذكراً أو أنثى وبين قوله تعالى { ويعلم ما في الأرحام } وحديث (( ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله )) ؟(1/88)
جـ/ أقول:- لا تعارض بين ذلك البتة إلا عند من قصر فهمه وضاق عطنه ولم ينظر إلى هذه المسألة إلا من عين واحدة وقبل تفصيل الإجابة أقول:- اعلم أولاً أن ظواهر الكتاب والسنة لا يمكن أبداً أن تتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة من طريق صحيح هذا لا يمكن أبداً فإن الذي أنزل النص هو الذي أوجد هذه الحقائق ويسر سبيل اكتشافها, وهو أحسن قيلاً وأصدق حديثاً فخبره لا يتصور أصلاً أن يتطرق إليه شيء من الاختلاف أو الاضطراب, بل هو الحق والصدق المطلق, ولكن إذا وجد من الحقائق العلمية ما يوهم أنه يتعارض مع شيء من ظاهر النص كتاباً أو سنة فلا يخلو الحال من أمرين:- إما أن تكون هذه الحقيقة العلمية ليست هي بحقيقة علمية أصلاً بل هي دعاوى كاذبة بنيت على تهوكات شيطانية وتلبيسات إبليسية لا أصل لها من الصحة بل هي إلى الحماقة والسفه أقرب وانتسابها إلى ذلك أصدق, فحينئذٍ يجب إطراح هذه الخرافة ورميها ورمي جميع أوراقها في سلة المهملات، ولا يؤبه بها ولا بأصحابها لا من قريب ولا من بعيد, وإن أصروا على موقفهم مع علمهم بمخالفة ما يقولونه للنصوص الشرعية فالواجب على ولي الأمر أن يعزرهم التعزير البليغ الذي يردعهم وأمثالهم عن مثل هذه الحماقات, ويحجر عليهم فلا يدخلوا في مثل هذه الترهات رحمة بهم وإحساناً ولا يمكنون من تولي شيء من أمور التعليم ولا يفسح لهم خانات التلفاز والصحافة والإذاعة, حتى لا يبثوا هذه السموم القاتلة في المجتمع ولا يجوز لولي الأمر أن يقصر في ذلك حفظاً للعقائد ودفاعاً عن الكتاب والسنة وزجراً لدعاة جهنم, فهذا بالنسبة فيما إذا كانت هذه الحقيقة المدعاة ليست بشيء, وأما إذا كانت ثابتة من طريق صحيح وأثبت أهل الخبرة والاطلاع صحتها فانتقل للحالة الثانية وهي عدم فهم النص أصلاً أو القصور في فهمه, بحيث لو أن النص فهم فهماً جيداً كاملاً لما قدح في الذهن هذه المعارضة لكن لأن الناظر في النص قصر في الفهم, ثارت في ذهنه هذه(1/89)
المعارضة, فلابد من فهم النص فهماً كاملاً ولا تقصر دلالته على بعض أفراده, فإذا تحقق الأمران:- أي كانت الحقيقة العلمية ثابتة, وكان الفهم للنص فهماً صحيحاً سليماً فإنه والله الذي لا إله إلا هو لا يمكن أبداً أن توجد هذه المعارضة مع المعتمد عند المسلم دائماً وأبداً هو تقديم كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على كل كلام, وأن كلام غيرهما يوزن بكلامهما فإن وافقه قُبل وإن خالفه رُد, فلا نتقدم بين يدي الله ورسوله بقولٍ ولا فعل إذا علمت هذا فاعلم أن قوله تعالى { ويعلم ما في الأرحام } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله )) ليس مقصوراً أو محصوراً في العلم بالذكورية والأنوثة فقط فإن هذا من الفهم القاصر لهذه النصوص بل المراد هو العلم الكامل بكل أحوال هذه النطفة من ذكورة وأنوثة وحياة وموت وأجل وعمل وسعادة وشقاوة وانفرادٍ أو تعدد وصلاح أو فسادٍ وغنىً أو فقر وكمال أو نقص وسلامة أو عيب ونحافةٍ أو بدانة وطولٍ أو قصر إلى آخر ما يتعلق بهذه النطفة من أحوال, فأين الأطباء من ذلك؟ ويقال أيضاً:- إن الأطباء إنما يعرفون ذلك بالأجهزة المحسوسة التي تبدي لهم ما خفي فيكون عندهم مشاهداً فالجنين إذا سلطت عليه هذه الأشعة أخرجته من عالم الاختفاء إلى عالم الشهادة فليس الأمر تدخلاً في علم الغيب أصلاً حتى يتعارض مع النصوص, ويقال أيضاً:- إن الأطباء لا يعرفون حال هذه النطفة إلا إذا تخلقت وبان منها ما يختص به الذكر مما تختص به الأنثى وأما في حال كونها نطفة أو علقة فوالله لو يجتمع أطباء الدنيا ليعرفوا أهي أنثى أم ذكر لما استطاعوا فلا يعرفونها إلا بعد تخلقها ولا قدرة لهم على معرفتها إلا بالأجهزة المعروفة وقد يخطئون في تحديد ذلك كما هو معلوم , وبالجملة فإنه لا تعارض ذلك مع من فهم النصوص فهماً كاملاً صحيحاً والله المستعان .
سـ18/ ما حكم تحديد النسل مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/90)
جـ/ أقول:- للأسف أننا نحن المسلمين نتلقف كل وارد يرد علينا من الغرب ودعاة السوء من أهل العلمنة والحداثة, من غير تمييز بين صحيحه وباطله ومقبوله ومردوده وما يتوافق منه مع شريعتنا مما لا يتوافق معها, والعجب من بعض المسلمين إذا وقف العلماء في وجه هذه الزوابع التي تعصف بالأمة, وصفوه بالتزمت والرجعية وعدم الفهم, وهذا يفيدنا أن الواجب هو بيان الشرع والصدع بالحق وإن غضب من غضب فإن بيان العلم ونصيحة الناس أمانة قد حملها الله العلماء وأخذ العهد عليهم أن يبنوا العلم للناس ولا يكتمونه, ولا ييأسوا من الواقع فإن الفرج قريب وبشائر الخير كثيرة ولله الحمد والمنة والذي دعاني لهذا الكلام هو أن هذه المسألة صارت هاجس كثير من دول العرب والمسلمين واعتمدت في دساتيرهم ووضعت العقوبات بالمال والحبس لمن خالف هذه الأنظمة وفرضت على الشعوب فرضاً لازماً, لا خيار لهم فيه إلا بالتخفي وراء الأحجبة والستر, وعقدت في شأنها المؤتمرات ونظمت فيها الدعوات وفتحت وسائل الإعلام لها أبوابها وعمت بها البلوى وتتطاير شررها وأزكم دخانها الأنوف ولكن ومع ذلك فالواجب بيان الحق وهداية الناس هداية الدلالة والإرشاد وبذل الجهد والغالي والنفيس في دلالة الناس على الخير والله وحده المعين والهادي والموفق إلى سواء السبيل, وأقول بعد ذلك:- إن تحديد النسل محرم ولا يجوز والدعوة إليه دعوة للحرام, فالداعي إليه آثم والميسر له أسباب دعوته آثم والراضي بدعوته آثم والمعين له بأي شيء من أنواع الإعانة القولية والفعلية آثم فهذه الدعوى يجب على شعوب الإسلام وحكامها أن يقفوا في وجهها بكل ما آتاهم الله من قوة, وأن لا يفتحوا لها قلباً ولا أذناً, وأن يرفضوها الرفض المطلق ويحاربوها المحاربة المطلقة, وأن يصيحوا في وجوه الداعين لها بأعلى أصواتهم منكرين عليهم, والدليل على منعها عدة أمور:-(1/91)
منها :- أنها إحياء لسنة من سنن الجاهلية, فإن من سننهم قتل أولادهم خشية الإملاق قال تعالى { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } وقال في سورة الإسراء { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } والإملاق هو الفقر وهذه الدعوى مبدؤها السلامة الاقتصادية, وعدم افتقار الشعب بكثرة الإنجاب وأن موجودات الشعوب لا تفي باحتياجات الموجودين فكيف إذا جاء مثلهم؟ وأن كثرة النسل فيه خطر واهم على موارد الاقتصاد, هذه هي شنشنتهم التي نسمعها منهم دائماً وهي بعينها حجة المشركين في قتل أولادهم, وهذا سفه وتحريم لشيء من رزق الله تعالى وقد قال تعالى { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علمٍ وحرموا ما رزقهم الله افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } فرزق الأباء والأبناء على الله, قال تعالى { نحن نرزقكم وإياهم } وقال تعالى { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتابٍ مبين } فالدعوة لتحديد النسل فيه إحياء لهذه السنة القبيحة الجاهلية, ونحن مأمورون بإخماد طرائق الجاهلية ومخالفتهم فيها ومنهيون عن التشبه بهم فيما هو من عبادتهم وعاداتهم ولا عبرة بأقوال السفلة المتفرنجين المستغربين الذين تربوا في أحضان الكفرة وارتضعوا من بالوعاتهم وأفكارهم العفنة المنتنة, وجاءوا ليبثوا هذه الأفكار في ديار المسلمين وإنما العبرة بما قررته الشريعة وقاله العلماء, فإنه لا نجاة ولا فوز ولا فلاح إلا بالاستمساك بالكتابة والسنة واتباع سبيل المؤمنين, فهذه الدعوى من دعاوى الجاهلية فلابد من مخالفتها واطراحها والله المستعان .(1/92)
ومنها :- أنها مضادة لمقصد من مقاصد الشارع فإن من مقاصد الشريعة تكثير النسل لا تحديده، كما قال عليه الصلاة والسلام (( تزوجوا الودود الولود إني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة )) فالمطلوب شرعاً هو تكثير النسل وهذه الدعوى مضادة ومصادمة لهذا المطلوب الشرعي وكل ماضاد أو صادم المطلوب الشرعي فإنه ممنوع والله أعلم .
ومنها :- أن هذه الدعوى فيها إساءة الظن بالله تعالى، ويصدق عليها قوله تعالى { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } وقوله تعالى { الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء } لأن حقيقة هذه الدعوى تقول:- لا تنجبوا لأنكم إن أتيتم بالأولاد واستكثرتم منهم فسيكونون عبئاً زائداً عليكم في معايشكم إذ لا رازق لهم، وهذا سوء ظن بالله جل وعلا لأنه الرازق ذو القوة المتين، الرب الذي لا يترك عباده هملاً بلا رزق يقيم به حياتهم، فأرزاق العباد عليه, { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } والنكرة في سياق الشرط والنفي والنهي تعم فيدخل في ذلك كل دابة فمن ظن أن الأولاد يولدون بلا رزق أو أنهم إذا جاءوا ستضيق بهم المعايش ولن يجدوا أو لن يجد آباءهم ما يأكلون فقد أساء الظن بالله - عز وجل - , فهذه الدعوى مبنية من أولها إلى آخرها على إساءة الظن, فهي تفضي إلى حرام وقد تقرر في الأصول أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام, وسد الذريعة من مطالب الشريعة الكبيرة والله أعلم .(1/93)
ومنها :- أن هذه الدعوى تحقق مأرباً من مآربهم وغاية من غاياتهم وهو تقليل الأمة العربية والإسلامية على وجه الخصوص ليسترقوهم ويذلوهم وينتصروا عليهم ويهينونهم ويسومونهم سوء العذاب, لأن الأمة الإسلامية هي العقبة الوحيدة في طريقهم, وهي العدو الوحيد لهم, فيسعون جاهدين في تقليلهم ما استطاعوا حتى إذا قل عددهم وذهبت هيبتهم تسلطوا عليهم بالقوة العسكرية فلا يجدون أمامهم قوةً تصد عدوانهم ولا يداً قادرة تقف في وجوههم فيقهروهم بالسلاح ويفتنوهم عن دينهم ويذيقوهم ويلات الإهانة والإذلال, فهذه الدعوى التي يصفق لها كثير من جهلة العرب والمسلمين هي في حقيقة الأمر دعوى كيدية مبدؤها بغض الإسلام وأهله, وهي بداية تخطيطٍ لتدمير المسلمين والاستيلاء على بلادهم وفتنهم عن دينهم, والعلو عليهم في العدد والعدة, وليكونوا دائماً أمةً سافلة مذلولة مقهورة لا يؤبه بها ولا ينظر إليها أبداً بل تكون على هامشية الأمم وفي مؤخرة الحضارات فإن الأمة إذا قل عددها ذهب نصيبها من العز والكرامة وتجرأ عليها السفلة الذين لا وزن لهم وبيعت واشتريت في سوق من يزيد, وهذا هو ما يدبر له أهل هذه الدعوى ويرمون إليه ولكنهم يلبسونها ثوب الشفقة والرحمة بالشعوب حتى لا ينكشف أمرها ولا ينفضح عوارها, فالمتعاون معهم في بثها ونشرها وتشجيعها وإقرارها ساع في هدم كيان الأمة ومظاهر للكفار على المسلمين وموال لهم في هذا التدبير ومشارك في تنفيذه ومحارب لعزة الأمة, ويا ويله إذا مات وبعث وهو مصر على ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه سيكون خصيمه عند الله يوم القيامة لأنه ساع في هدم الأمة وراغب في نقض عراها, ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذه الدعوة ونبرأ إلى الله تعالى من أهلها, ونعتقد أن الله تعالى هو الرازق وأن أزمة الأمر كلها بيديه جل وعلا والله أعلى وأعلم .(1/94)
سـ19/ ما القول في مسألة الإجازات المرضية التي تصدر من المستشفيات العامة والمراكز الصحية والمستوصفات الخاصة والوحدات الصحية المدرسية ؟
جـ/ أقول:- إن القول في هذه الإجازة التي تصدر من هذه المرافق الصحية لا يخلو من حالتين:- إما أن يكون الموظف الذي طلبها صادقاً في شكواه وإخباره بما فيه من حقيقة ما يعانيه من المرض, ورأى الطبيب بخبرته أن الموظف يشق عليه القيام بالعمل مع وجود هذا المرض فمنحه بسببه الإجازة المرضية, فهذا جائز, فهذه الإجازة وقعت موقعها ولاشك في جوازها والحالة هذه, وأما إذا كان الموظف يكذب في ادعائه المرض, وأنه ليس مريضاً في الحقيقة وغنما يتظاهر بالمرض, أو كان مريضاً مرضاً لا يعوقه عن العمل والقيام بمهام الوظيفة لأنه مرض يسير لا يكاد يذكر, أو حاباه الطبيب بهذه الإجازة تسبق معرفة بينهما أو تقدم إحسان منه للطبيب أو لأنه اشتراها من المستوصفات الخاصة, فهذه الإجازة بهذه الاعتبارات لا تجوز, فهي حرام وأجر هذا اليوم لا يستحقه الموظف لهذه الإجازة بل هو سحت يأكله حراماً وقد يكون سبباً لسخط الله عليه ومقته ورد دعائه وحرمانه البركة في رزقه وأولاده, فإن أكل الحرام له أثاره الوخيمة وعواقبه السقيمة, ويزداد الأمر سوءاً إذا صاحب ذلك الأيمان الفاجرة والحلف الكاذب في دعواه المرض, ظلمات بعضها فوق بعض, ولا تستصغر الأمر, فإن محقرات الذنوب يجتمعن على المرء حتى يهلكنه, وقد دخلت النار امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض, والطبيب الذي وقع هذه الإجازة آثم ومشترك مع هذا الموظف في العقوبة إذا لم يتب التوبة النصوح المستجمعة لشروطها, فالوصية للجميع بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلن وأن لا نشتري الفاني بالباقي, والدنيا بالآخرة, فالله يعلم السر وأخفى ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور, وما أخفيته عن ولاة الأمر في دائرتك التي تعمل فيها فإنه لا يخفى على الله تعالى,(1/95)
وما تركته لله فإن الله تعالى يعوضك خيراً منه, ولا تفرح ببقاء المال مع غضب ذي العزة والجلال, واصدق فإن الصدق منجاة والكذب مهواة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله أعلى وأعلم .
سـ20/ ما نصيحتك لبعض المراجعات التي تكشف وجهها للطبيب بلا داعٍ لذلك ؟
جـ/ أقول:- نصيحتي لها أن تتقي الله تعالى فإن الوجه عورة في باب النظر فلا يجوز أن يراه من الرجال إلا زوج أو محرم وتراقب ربها الذي أمرها بستره ولتعلم أنها بهذا الكشف تكون من حبذ الشيطان بسبب ما يحصل بهذا الكشف من الفتنة, فهو محرم وفاعلته تبوء بإثمها والويل لها من الله الذي بارزته بهذه المعصية, قال تعالى { وليضربن بخمورهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن...(1/96)
الآية } وليس فيها ذكر الطبيب إلا إذا كان زوجاً أو محرماً, وقال تعالى في حق الصحابة بالنسبة لأمهات المؤمنين { وإذا سألتموهن متاعاً فسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } فإذا كان ذلك في حق ذلك الجيل الطاهر فكيف بحالنا في هذه الأزمنة وستر وجه المرأة من حقوق الله تعالى وليس حقاً خاضعاً لاختيار المرأة وداخلاً تحت رغبتها بل هو حق لازم وواجب متأكد قال تعالى { وما كان المؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً } والمرأة مأمورة أمر إيجاب أن تستر خلخالها صوتاً وصورة, أي لا يجوز لها أن تبديه صورة ولا تضرب برجلها ليعلم الرجال ما تخفيه من الزينة قال تعالى { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } فإذا كانت المرأة قد أمرت بستر قدمها وخلخالها فهل بالله عليك كشفها لوجهها وهو مجتمع الحسن والجمال وأول رغبات الرجال وهو الذي يرفع المرأة ويخفضها في عيون الرجال؟ لا والله هذا لا يكون أبداً, بل إذا كانت مأمورة بستر قدمها وخلخالها فأمرها بستر وجهها من بابٍ أولى وهذا من القياس الأولوي وقد تقرر في الأصول أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة, كما في قوله تعالى { ولا تقل لهما أف } فإذا كانت هذه اللفظة لا يجوز للولد أن يقولها لوالديه فكيف بضربهما وسلاطة اللسان عليهما بالسباب والشتائم, فإنه محرم من باب أولى فكذلك هنا, وهذا الدليل كافٍ في ستر المرأة لوجهها عن الرجال لو خلا الناظر فيه من الشهوة الخفية الشيطانية التي هي:- اتباع الهوى والعياذ بالله منها فالطبيب من جملة الرجال الأجانب الذين لا يجوز للمرأة أن تريهم شيئاً من جسمها لا وجهاً ولا كفين ولا رجلين إلا ما دعت لكشفه الضرورة العلاجية الملحة فالضرورة تقدر بقدرها فلتقتصر في كشف ما تدعو الضرورة إليه, أما أن تلقي المرأة الطرحة عن وجهها من حين ما تدخل على الطبيب وكأنه زوجها أو(1/97)
أبوها أو أخوها أو أحد محارمها فهذا محرم لا يجوز وكل سيرى عمله في يومٍ لا ينفع فيه حسب ولا منصب ولا جاه ولا مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم والله أعلم .
سـ21/ ما الحكم الفقهي في الحالات التالية:- حكم المريض الذي لا يرجى برؤه بالنسبة للصيام؟ وحكم تأخير الصلاة عن وقتها للطبيب الذي لا يستطيع الخروج من حجرة العمليات؟ وحكم صيام مريض الكلى إذا غير دمه وهو صائم؟ وحكم قلع السن في نهار رمضان؟ وهل إبرة التخدير في الفم لإزالة السن تفسد الصيام؟ وهل يجوز للمرأة أن تتعاطى الحبوب المانعة للدورة الشهرية لإكمال الصوم؟ وما حكم تسمية مرض السرطان بالمرض الخبيث؟ وهل على كبير السن صوم أو إطعام إذا كان يهذي؟ وهل أمر الطبيب لأحد المرضى بأن يفطر كاف في جواز الإفطار؟ وما الحكم لو مات المريض ولم يصم ما فاته ؟
جـ/ أقول:- من باب التسهيل والتيسير وحتى لا تختلط الإجابة فإني أفصل لك الجواب في مسائل فأقول :-(1/98)
المسألة الأولى:- أما المريض الذي لا يرجى برؤه أو كبير السن الذي لا يستطيع الصوم وعقله باقٍ فإن الصوم يسقط عنهم وذلك لقوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر } واتفق أهل العلم على أن الواجبات تسقط بالعجز، وقد قال عليه الصلاة والسلام (( وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم )) وقال تعالى { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } وهذا لانعلم فيه خلافاً بين أهل العلم رحمهم الله تعالى فيجوز لهم الفطر ولكن يجب عليهم أن يطعموا عن كل يوماٍ مسكيناً، بمقدار كيلو ونصف من الطعام عن كل يوم لفقير واحد من تمرٍ أو بر أو أرز أو نحو ذلك، والدليل قوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قال ابن عباس رضي الله عنهما:- نزلت رخصة في الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما عن كل يومٍ مسكيناً، والمريض مرضاً لا يرجى برؤه منزل منزلة الشيخ الكبير، ونفى بالطبع إذا كان مرضاً يمنعه من الصيام، فالأصل الصيام وبدله الإطعام وإذا تعذر الأصل فإنه يصار إلى البدل فهذا جواب المسألة الأولى .(1/99)
المسألة الثانية:- فالأصل أنه يجب على الطبيب إذا كان الأمر يدخل تحت تحديده هو أن يختار لمثل هذه العمليات الأوقات الطويلة كبعد صلاة العشاء أو صلاة الفجر, ولا يجوز له أن يتعمد توقيت العملية بوقت يحصل بسببه تفويت الصلاة عن وقتها فإن الوقت آكد شروط الصلاة فتجب المحافظة عليه, قال تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } فهذا هو الأصل, لكن إذا لم يكن الأمر داخلاً تحت اختياره وتصرفه فلينظر فإن كان وقت العملية حصل في وقتٍ يجوز جمعه مع الصلاة الأخرى فيجوز له الجمع في هذه الحالة إذا كان يعلم أن وقت العملية سيستغرق الوقتين جميعاً فليصل صلاة جمع تقديم وليتوكل على الله, ولا يجوز له أن يؤخر الصلاتين المجموعتين عن وقتهما, فإن هذا من الكبائر, ولا ضرورة تدعو إليه والأمر بيده وجواز الجمع مشروع لأدنى من ذلك فجوازه في هذه الحالة من باب أولى, فإذا حددت العملية بعيد الظهر ولن تنتهي إلى بعد المغرب مثلاً فليصل الظهر والعصر جمع تقديم, وإذا كان الأيسر له والأرفق بالمريض أن يجمع تأخير فله ذلك كأن تكون العملية مثلاً ستبدأ قبل المغرب بساعة ولن تنتهي إلا بعد الساعة العاشرة ليلاً فليؤخر صلاة المغرب ليصليها مع العشاء جمع تأخير, كل ذلك جائز لا حرج فيه وقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الجمع رخصة عارضة, ومن أسبابه رفع الحرج عن الإنسان, فلا حرج في هذه الشريعة ولله الحمد والمنة, وأما إذا طلب الطبيب الجراح فجأة لإجراء عملية حاضرة ولا تقبل التأخير ويتعلق بالمبادرة بإجرائها حفظ النفس أو الطرف فهذا نقول له:- قم الآن وأجرها ولا يجوز لك التأخير ولو فاتتك صلوات يومٍ كامل واقضِ إذا انتهت تلك العملية جميع ما فاتك من الصلوات بالترتيب تؤذن للأولى وتقيم لكل صلاة منها وذلك لأن مصلحة حفظ النفس والطرف مقدمة على مصلحة إيقاع الصلاة في وقتها وقد تقرر في الأصول أنه إذا تعارض مصلحتان روعي أعلاهما بتفويت(1/100)
أدناهما, وحفظ النفس من مقاصد الشريعة فهي من الضرورات الخمس التي جاءت الشرائع كلها بوجوب مراعاتها والمحافظة عليها, وهلاك النفس مفسدة وإخراج الصلاة مفسدة لكنها أدنى من الأولى وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما ومن المعلوم أن في المبادرة بإجراء هذه العملية درء مفسدة والصلاة في وقتها فيها جلب مصلحة, وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ومن المعلوم أيضاً أنه إذا فاتت النفس فإنه لا بدل لها والصلاة إذا فاتت بعذر فإن لها بدلاً وهو قضاؤها متى ما زال العذر, فهما أمران أحدهما يفوت لغير بدل والثاني يفوت لبدل وقد تقرر في القواعد أن مراعاة ما يفوت لغير بدل مقدمة على ما يفوت لبدل, وهذا متقرر عند الفقهاء رحمهم الله تعالى, والضرر الحاصل من عدم إجراء العملية الآن ضرر عظيم كبير, والضرر الحاصل بتفويت الصلاة عن وقتها لعذرٍ أخف من ذلك, وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, فالقواعد تفيد أن الطبيب يجب عليه أن يجري هذه العملية الطارئة ويقضي ما فاته من الصلوات بعد فراغه مباشرة, والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/101)
المسألة الثالثة :- أما بالنسبة لمريض الكلى فإنه لا يجوز له أن يغير دمه ويصفيه في نهار الصيام مالم يكن ثمة ضرورة لذلك، وذلك لأن الدم يخرج من جسده وخروجه هذا باختياره وهو دم كثير جداً بالاتفاق وهذا مفسد للصوم وهو أولى بالحكم من الحجامة فإذا كانت الحجامة تفسد الصوم على القول الراجح ودمها معلوم مقداره فكيف بخروج الدم كله في عملية تنظيفه فهذا مفسد من باب أولى، فهذا هو المفسد الأول، وثمة مفسد آخر وهو أن الدم بعد تصفيته وتنقيته يعاد للجسد مرة أخرى من جهة العروق ومن المعلوم أنه مما يتغذى به الجسد ويتقوى به وينشط به وما كان كذلك فإنه مفسد للصوم لأن الشيء إذا دخل من منفذٍ غير معتاد وكان مما يتقوى به الجسد ويتغذى به فإنه يفسد الصوم لأنه في معنى الأكل والشرب, وأضرب لك مثالاً حتى يتضح لك الأمر:- أرأيت لو أن الصائم احتاج إلى دمٍ فأعطي دماً فهل يفسد صومه؟ بالطبع نعم, فكذلك هنا بل وأولى لأن الدم الذي يدخل لجسده دم كثير جداً, فهنا مفسدان وبناءً عليه فلا يجوز له أن يعمل هذه العملية في نهار الصيام إلا إذا كان هناك ضرورة حالة لا يمكن تأخيرها فإن الضرورة لها حكم آخر,فيقوم بذلك ويحكم بفساد صومه وعليه قضاؤه من أيام أُخر,أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يشفي كل مرضانا الشفاء العاجل والله اعلم.(1/102)
المسألة الرابعة :- وأما قلع السن في نهار رمضان فالراجح أنه لا بأس به لأن الأسنان في الفم والفم له حكم ظاهر ولا دليل يمنع من ذلك والأصل في الأشياء الحل والإباحة والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, فالأصل الجواز وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, وقد أفتى بذلك جمع كبير من العلماء المعاصرين, فإن قلت:- فقد يخرج منه دم بسبب قلع السن؟ فأقول:- إن الدم الخارج بسبب قلع السن قليل عرفاً فلا حكم له, وقد لا يخرج دم أصلاً لكن لو خرج فإنه مقدار يسير جداً لا يؤثر لكن يجب عليه أن يلفظه من فمه وأن لا يبتلع منه شيئاً فإن سبق إلى جوفه شيء من غير قصدٍ ولا تعمد فلا شيء عليه لعموم قوله تعالى { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } ولأنه حال القلع لم يتعمد ولم يقصد أصلاً إخراج الدم, وإنما قصد قلع السن فقط فالدم خرج بلا قصد فلا حرج عليه فيه, كمن قلم أظفاره فسبقت الآلة إلى شيء من جلده فقطعته فخرج من الدم فإنه لا شيء عليه في ذلك والله أعلم .
المسألة الخامسة :- وأما إبرة التخدير لإزالة السن فإنه من المعلوم أن باطن الفم ليس من الجوف ولذلك فلا يفسد الصوم بالمضمضة, وهذه الإبرة تضرب في باطن الفم قريباً من السن المراد إزالته لتتخدر اللثة فلا يحس المريض بألم الخلع, والمادة التي تخرج من هذه الإبرة موضعها اللثة فلا يتسرب إلى الجوف منها شيء وبناءً عليه فهذه الإبرة لا تفسد الصوم ولا تؤثر فيه بل هي بمنزلة المضمضة والله أعلم .(1/103)
المسألة السادسة :- وأما أكل الحبوب لمنع نزول دم الحيض لتتمكن المرأة من إتمام صيامها فهذا فيه خلاف بين أهل العلم والراجح جوازه بشرط أمن الضرر, وذلك يكون باستشارة طبيبة مسلمة موثوقٍ في علمها وخبرتها وأمانتها, فإذا قررت هذه الطبيبة أن البدن لا يتضرر بذلك فيجوز تعاطي هذه الحبوب, إذ لا مانع من ذلك والأصل براءة الذمة من المنع, والمنع حكم شرعي وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, والأصل في الأشياء الحل والإباحة, والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, ولكن ومع القول بالجواز فإني انصح أخواتي أن يتركن ذلك لأن نزول الحيض في وقته أمر جبلي طبيعي في المرأة ومنع ما هو جبلي وطبيعي فيه ما فيه من مخالفة هذه الطبيعة وقد جعل الله تعالى في ذلك سعة وهو قضاؤها من أيامٍ أخر, ولكن يجوز لها تناول هذه الحبوب بالشرط المكور والله أعلى وأعلم .
المسألة السابعة :- وأما تسمية السرطان بالمرض الخبيث فإنه لا ينبغي, لأن المرض في عمومه سبب من أسباب حط الذنوب والخطايا, فهو رحمة وليس بنقمة, فالمؤمن إذا أصابه المرض فإن الله تعلى يحط عنه ذنوبه وخطاياه, فتسمية السرطان بالمرض الخبيث تجاوز من الأطباء والعامة ولا ينبغي أن يدور على ألسنة العلماء وطلبة العلم, ولو سموه بالمرض الخطير لكان أحسن وأولى وقد كان الشيخ محمد رحمه الله تعالى ينكر تسمية السرطان بالمرض الخبيث, وقد توفي به رحمه الله تعالى, وأجزل له الأجر والمثوبة وجزاه الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته, وجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر فلا ينبغي هذه التسمية والواجب استبدالها فلا يقال:- مرض خبيث ولا ورم خبيث وإنما يقال:- مرض خطير وورم خطير والله أعلم .(1/104)
المسألة الثامنة :- إذا كان كبير السن هذا قد فقد عقله وصار يهذي ووصل إلى مرتبة التخريف وعدم معرفة المقربين إليه فهذا قد سقط عنه وجوب الصوم أصلاً, فلا صوم عليه ولا كفارة لأن العقل الذي هو مناط التكليف قد فقده, فالقلم مرفوع عنه لحديث (( رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يفيق )) وقد تقرر في القواعد أنه لا تكليف إلا بعقل وفهم خطاب واختيار, والله أعلى وأعلم .
المسألة التاسعة :- إذا أمره الطبيب بالإفطار فهل يفطر؟ أقول:- إذا كان هذا الطبيب بنى أمره هذا على علة ظاهرة أي على مرض موجود ورأى بخبرته أن صيام المريض يزيد في مرضه أو يؤخر في برئه فلا بأس بأن يفطر ويقضي من أيامٍ أخر, حتى وإن رأى المريض أنه يطيق الصوم, فالفطر في حقه جائز, لعموم قوله تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ فعدة من أيامٍ أخر } فالمريض الذي يحس بالمرض ويتعب من الصوم ونصحه الطبيب بالإفطار فإنه لا حرج في فطره, وقد تقرر في القاعدة أن المشقة تجلب التيسير, أي أن كل فعل في تطبيقه عسر فإنه يصحب باليسر, ولا ينبغي للمريض أن يشدد على نفسه بالصيام مع وجود هذه المشقة فإن الفطر رخصة وسعة من الله تعالى والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته, قال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وقال تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقال تعالى { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } فيجوز الإفطار حتى وإن كان الطبيب الآمر له ليس بمسلم, المهم أن يكون أمره مبنياً على علة ظاهرة يشق معها الصوم, والله تعالى أعلم .(1/105)
المسألة العاشرة :- أما لو مات المريض ولم يقضِ ما فاته في أيام مرضه فلا يخلو إما أن يكون قد تمكن من قضائها ولكنه فرط في القضاء تهاوناً وتكاسلاً منه في ذلك, فإن كان كذلك فهو يموت آثماً لأنه تمكن من أداء الواجب ولم يؤده, وأما إن مات في أثناء مرضه وقبل التمكن من الأداء, فإنه لا شيء عليه لأنه لم يستطع القضاء وقد تقرر بالاتفاق أن الواجبات تسقط مع العجز, فالقضاء واجب وقد عجز عنه فيسقط عنه, وإن صام عنه وليه فقد أحسن, وصيام وليِّه عنه من باب الاستحباب لا من باب الوجوب كما يقوله الظاهرية, لعموم قوله تعالى { ولا تزر وازرة وزر أخرى } , فهذا مختصر الأجوبة لهذه المسائل العشر والله أعلى وأعلم .
سـ22/ هل يجوز للصائم أن يفحص نفسه بالمنظار الطبي الذي يدخل من الفم ؟(1/106)
جـ/ أقول:- أما إذا كان الأمر ضرورة فهذا يجوز لأن القاعدة تقول:- الضرورات تبيح المحظورات, وتقرر أيضاً أنه لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة, وأما إذا كان الأمر لا ضرورة فيه ويمكن تأخيره إلى ليلة الصيام فإنه لا يجوز له في هذه الحالة أن يفحص بالمنظار الطبي, لأن هذا المنظار يدخل من الفم إلى الجوف وغالباً ما يوضع عليه مادة تسهل دخوله في البطن, والفم منفذ معتاد وهذا المنظار يصل إلى الجوف وما كان كذلك فإنه يفسد الصوم تغليباً لجانب المنفذ فقد تقرر عند الفقهاء رحمهم الله تعالى قاعدة مفيدة جداً في باب الصيام, وهي التي تقول:- ( يغلب جانب المنفذ المعتاد ويغلب جانب التغذية في غيره ), هذا بالنسبة للمنظار الطبي الذي يدخل من الفم, وأما المنظار الآخر الذي يدخل من الدبر فإنه لا بأس باستعماله في حالة الصيام لأن الدبر منفذ غير معتاد وليس المنظار من المغذيات وإنما هو آلة كشف فقط فلا معنى فيه لإفساد الصوم لأننا نشترط لإفساد الصوم في الذي يدخل من منفذٍ غير معتاد أن يكون مغذياً وهذا النظار ليس من جملة المغذيات والخلاصة أن هذه المناظير قسمان:- منظار يدخل من الفم فهو يفسد الصوم فلا يجوز للصائم تمكين الطبيب من ذلك إلا إذا كان ثمة ضرورة ومنظار من الدبر فلا بأس به والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ23/ ما الآيات والأذكار والتعاويذ الشرعية الثابتة والتي تستعمل في الرقية على المريض ؟
جـ23/ أقول:- القرآن كله شفاء من أوله إلى آخره، قال تعالى { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } وقال تعالى { قل هو للذين آمنوا هدىً وشفاء } وقال تعالى { يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } فالقرآن كله من أوله إلى آخره رقية وشفاء إلا أنه ينبغي التركيز على هذه الآيات :-(1/107)
الأول :- سورة الفاتحة فإنها الشفاء والرقية وأم الكتاب والقرآن العظيم الذي أوتيه نبينا - صلى الله عليه وسلم - , فليكثر القارئ منها وليكررها بتدبر وحضور قلب فإنها تنزل على البلاء بلسماً شافياً وسلسبيلاً عذباً كافياً, ولا يستطيع أي بلاء أن يقاومها لاسيما إذا وافقت قلباً مؤمناً متدبراً ومحلاً صالحاً لقبول أثرها, فإنها أعظم سلاح ولكن السلاح بضاربه, ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى عن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - أن أناساً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب فلم يقروهم, فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا:- هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا:- إنكم لم تقرونا ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلاً, فجعلوا لهم قطيعاً من الشاء, فجعل يقرأ بأم القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرأ فأتوا بالشاء فقالوا:- لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه, فضحك, وقال:- (( وما أدراك أنها رقية, خذوها واضربوا لي بسهم )) .
الثاني :- قراءة سورة الإخلاص وسورتي قل أعوذ برب الفلق و قل أعوذ برب الناس وينبغي للقارئ أيضاً أن يركز على هذه السور ويكررها بتدبر وحضور قلب, واستيقان النفع, فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما من طريق معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات, فلما ثقل, كنت أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها )) وقال الإمام النسائي في سننه, أخبرنا هلال بن العلاء قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من عين الجان وعين الإنس فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك ))"حديث حسن" .(1/108)
الثالث :- آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن فإن لها أثراً عجيباً جداً على الجن الملابس وقد رأيت من ذلك العجب, فإن الجني الملابس لا يكاد يصبر عند سماعها وتراه يصيح بأعلى صوته من الألم وما يجده من الإحراق وسرعان ما يرفع راية الهزيمة عند تكريرها برفع صوتٍ وتأنٍ في التلاوة مع حضور قلب وكمال تدبر, روى البخاري في صحيحه بسنده من حديث عوفٍ عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- وكلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت:- لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:- إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة قال:- فخليت عنه, فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة )) قال قلت:- يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال (( أما إنه قد كذبك وسيعود )) فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إنه سيعود )) فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت:- لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:- دعني فإني محتاج وعلي عيال, لا أعود, فرحمته فخليت سبيله فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا أبا هريرة ما فعل أسيرك )) قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله, قال (( إما إنه قد كذبك وسيعود )) فرصدته الثالثة, فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت:- لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ثم تعود, قال:- دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها, قلت:- وما هو؟ قال:- إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح, فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما فعل أسيرك البارحة )) قلت:- يا رسول(1/109)
الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله, قال (( ما هي )) قلت:- قال لي: إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية, فلن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربنك شيطان حتى تصبح, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( أما إنه قد صدقك وهو كذوب, تعلم من تخطاب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة )) قال:- لا, قال (( ذاك شيطان )) .
الرابع :- أواخر سورة البقرة, أعني من قوله تعالى { آمن الرسول...إلخ } السورة, فإن لها أثراً عجيباً في الحفظ والكفاية, فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ))"متفق عليه" وعنه - رضي الله عنه - قال (( لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهى به إلى سدرة المنتهى فأعطي ثلاثاً:- أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاًَ المقحمات )) "رواه مسلم" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( بينما جبريل عليه السلام قاعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال:- هذا باب من السماء فتح اليوم, لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك, فقال:- هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم, فسلم فقال:- أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته ))"رواه مسلم" .(1/110)
الخامس :- قراءة سورة البقرة بكاملها إن أمكن ذلك وبخاصة في البيت فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ))"رواه مسلم" وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صوافٍ تحاجان عن أصحابهما, اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيلها البطلة ))"رواه مسلم" .
السادس :- أن يرقي المريض برقية جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فعن عائشة رضي الله عنها قالت:- (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى رقاه جبريل - عليه السلام - قال:- باسم الله يبريك ومن كل داءٍ يشفيك ومن شر حاسدٍ إذا حسد وشر كل ذي عين ))"رواه مسلم" وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له:- يا محمد اشتكيت؟ قال:- نعم, فقال (( باسم الله أرقيك من كل شرٍ يؤذيك من شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيك باسم الله أرقيك ))"رواه مسلم" .
السابع :- أن يقول:- اللهم رب الناس مذهب الباس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر سقماً, فعن ثابت أنه قال:- يا أبا حمزة اشتكيتُ فقال أنس:- ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال:- بلى فقال (( اللهم رب الناس مذهب الباس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاءً لا يغادر سقماً ))"رواه البخاري" وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي بهذه الرقية (( أذهب الباس رب الناس, بيدك الشفاء لا كاشف له إلا أنت ))"رواه مسلم" .(1/111)
الثامن :- أن يضع الراقي سبابته في الأرض ثم يرفعها ويقول (( باسم الله ربنا تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا بإذن ربنا )) فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها (( بسم الله ربنا تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى به سقيمنا بإذن ربنا ))"متفق عليه واللفظ لمسلم" .
التاسع :- أن يعوذه بتعويذة النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن والحسين, ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين ويقول (( إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق, أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة )) .(1/112)
العاشر :- أن يضع المريض يده على الذي يألم من جسده ويقول ما ورد في هذا الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجده في جسده منذ أسلم فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل:- باسم الله - ثلاثاً - وقل سبع مرات:- أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر )) وبالجملة فإن قراءة القرآن على المريض مما يوجب سكينة قلبه وذهاب غمه وتنزل السكينة على فؤاده وراحة نفسه وانشراح صدره فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال:- كان رجل قرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين, فتغشته سحابة, فجعلت تدنو منه وجعل فرسه ينفر, فلما أصبح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له فقال (( تلك السكينة تنزلت بالقرآن ))"متفق عليه" ولا بأس بالنفث حين الرقية, وقد بوب الإمام البخاري في صحيحه باباً في شأن ذلك فقال:- باب النفث في الرقية, ثم قال:- حدثنا خالد بن مخلد, قال حدثنا سليمان عن يحيى بن سعيد قال سمعت أبا سلمة قال:- سمعت أبا قتادة يقول سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم شيئاً يكرهه فلينفث حين يستيقظ ثلاث مرات ويتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره )) وقال البخاري أيضاً:- حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله الأويسي قال حدثنا سليمان, عن يونس عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ { قل هو الله أحد } وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه, وما بلغت يداه من جسده )) وقد تقدم أيضاً في حديث أبي سعيد في قصة اللديغ ذكر التفل وفيه (( فانطلق فجعل يتفل ويقرأ الفاتحة )) فإن كان الوجع في موضعٍ معين كرأس أو يد أو رجل أو بطن أو ظهر ونحوه فليركز القارئ على هذا الموضع وإن كان(1/113)
المريض يشتكي من جسده فلينفث على جميع جسده, ولا بأس أن يمسح القارئ مريضه بيده فقد قال الإمام البخاري في صحيحه:- باب مسح الراقي الوجع بيده اليمنى, ثم قال:- حدثنا عبدالله بن أبي شيبة قال حدثنا يحيى عن سفيان عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت:- كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بعضهم يمسحه بيمينه (( اذهب الباس رب الناس...الحديث )) وقد تقدم وإنما ذكرناه موضع الشاهد منه, ولا بأس أن ترقي المرأة الرجل إذا كان محرماً لها فقد قال الإمام البخاري في صحيحه:- باب المرأة ترقي الرجل ثم قال حدثني عبدالله بن محمد الجعفي قال حدثنا هشام قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن فأمسح بيد نفسه لبركتها... )) والأفضل ترك الاسترقاء لمن استغنى عنه طلباً لتحقيق كمال التوكل, وهذا في الاسترقاء والكي لا في سائر أنواع العلاجات, فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال (( عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي وليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً في الأفق فرجوت أن تكون أمتي فقيل:- هذا موسى وقومه, ثم قيل لي:- انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل لي:- هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم )) فتذاكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا:- أما نحن فولدنا في الشرك, ولكنا آمنا بالله ورسوله ولكن هؤلاء أبناؤنا, فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (( هم الذين لا يتطيرون ولا يسترقون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون... )) "متفق عليه واللفظ للبخاري" والله تعالى أعلى وأعلم .(1/114)
سـ24/ ما المحاذير التي يقع فيها الرقاة والتي ينبغي لهم التباعد عنها ؟
جـ/ أقول:- لاشك أن الرقاة - وفقهم الله تعالى لكل خير - يقومون بعمل جليل له أهدافه السامية وغاياته النبيلة وقد كفونا القيام بهذا الواجب وهم في نوع جهادٍ مع الشيطان يبطلون أثره من السحر والعين والعشق والأذى ونحو ذلك, فلا جرم أنهم مشكورون على ذلك, ونحن ندعو لهم بالتوفيق والإعانة ولكنهم بشر وليسوا بملائكة فلابد أن يصدر منهم بعض الأخطاء التي لا يقصدونها ولا يدرون بحالها ولا نظن في واحدٍ منهم أنه يتعمد المخالفة, فلابد من إقلال اللوم عليهم ونقول كما قال القائل :-
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكموا من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ولكن ينبغي أيضاً من باب التناصح فيما بيننا والتواصي على الحق أن ببين بعضنا الأخطاء التي نقع فيها حتى نتلافاها ونسد على أصحاب النقد أبواب النقد الهدام، الذي ينسف ولا يبني، ويهدم ولا يعمر ولا ينبغي مع بيان الخطأ أن تأخذنا العزة بالإثم، بل الواجب قبول النصح واعتماده إذا كان موافقاً للكتاب والسنة، ثم أقول:- إن هناك بعض المحاذير والأخطاء التي لا بد أن تتلافى من قبل الرقاة وفقهم الله تعالى وسددهم وحفظهم للأمة وجزاهم الله خير ما جزى راقياً عن أمته وهي كما يلي :-(1/115)
الأول :- عدم أمر النساء بكمال الاحتشام عند مجيئهن لمكان الرقية، فإن بعض الرقاة قد يتجاوز عن ذلك بحجةٍ أو بأخرى وهذا أمر لا يجوز، بل الواجب على سائر الرقاة وبخاصة من يقرؤون قراءة جماعية إذا خصصوا يوماً للنساء أن يحرصوا على أمر النساء بكمال الاحتشام وإتمام الحجاب ومن خالف منهن فإنها تطرد من المكان فإن الراقي أجنبي عنها فلا يجوز له أن يرى منها ظفراً ولا شعراً ولا عيناً ولا شيئاً من بدنها أبداً ومن المعلوم أن مكان الرقية كلما كان أبعد عن المعصية كلما كان الأثر أكمل، فلا يسمح بالبرقع ولا بالنقاب الذي تبين منه العينان وأعلى الأنف ولا يسمح لها بالدخول أصلاً بدون القفازين وجوارب القدمين، فإن المرأة عورة كلها، والراقي رجل كسائر الرجال، فحتى لا يفتن هو في دينه ينبغي له مراعاة ذلك ولا خير في راقٍ يتساهل في مثل ذلك .
الثاني :- المبالغة في أسعار الدخول والماء والزيت ونحو ذلك, فإن الأجرة وإن كان أصلها الجواز إلا أنه ينبغي للرقاة أن ييسروا الأمر على الناس, وقد وقع قليل من الرقاة في استنزاف أموال مرضاه حتى إن بعض المرضى ليضطر للدين لتغطية أمور العلاج عند هذا الراقي, وهذا لا يجوز وهو قادح من قوادح الإخلاص, وقد قال عليه الصلاة والسلام (( يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا )) وليكن قصد الراقي تفريج كربة هذا المريض, والوسطية في الأمور مطلوبة, ولو استفحل الأمر فلولي الأمر أن يتدخل ويفرض بما آتاه الله من السلطان أسعار محددة لهذه الأشياء ومن لا يلتزم بها فإنه يبعد عن الرقية ويمنع منها, ولا نريد الدخول في تفاصيل الأمثلة لأن المقصود ليس هو تبع الأخطاء ولا تشويه الصورة وإنما المقصود المناصحة, والله من وراء القصد, فالوصية لإخواني الرقاة أن يتساهلوا في مثل ذلك وأن يتقوا الله في مرضاهم وأن ينظروا لهم بعين الرأفة والعطف والرحمة, والله اعلم .(1/116)
الثالث :- الاستطراد في مخاطبة الجني الملابس, وهذا أمر لا أصل له, لأن المقصود هو خروجه من هذا الجسد فلا يخاطبه إلا بما لابد منه كسبب دخوله مثلاً أو ديانته ونحو ذلك وأما أن يتجاذب معه أطراف الحديث فيسأله عن اسمه ونوعية طعامه وشرابه وطوله وقصره وعمره واسم قبيلته وعدد إخوانه وهل هو متزوج أو أعزب فإن ذلك تدخل فيما لا يعني وهو سبب من أسباب تطاول الجن الملابس على القارئ وقد يوجب للقارئ أيضاً أن يغتر بنفسه حيث قدر على استخراج هذه المعلومات من هذا الجني فضلاً عن أن الجن يكذبون أصلاً فلا يوثق في خبرهم, ويزداد الأمر سوءاً إذا تعمد القارئ هذه الأسئلة لتسجيل كلام الجني في شريط فيوزع على الناس, فإن هذا لا يفعله إلا ساذج أحمق مغرور, وحق هذا الصنف من القراء أن يمنع لأنه يثير فتنة بين عوام المسلمين وفي الحديث (( من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه )) .(1/117)
الرابع :- التخرص في تحديد الحالة المرضية من غير سبق فهمٍ ولا خبرة بحقيقة هذا المرض, وهذا من التقول على الله بلا علم وقد قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } وهذا من باب واسع قد أوجب لكثير من المرضى الوساوس النفسية واستحكام الخيالات الشيطانية, فإن نفس المريض مولعة بما يقوله القراء غالباً فليتق اللهُ القارئ ولا يحدد نوعية المرض إلا بعد دراسة مبنية على خبرة سابقة لمثل هذه الحالات ولا يستعجل في إصدار أحكامه إلا بعد النظر الطويل وتكرير القراءة وليكن همه الأول والأخير أن تذهب هذه الأعراض المحسوسة عن المريض فإذا ذهبت فالحمد لله, ولا يدخل مريضه في دوامة الوساوس والخوف فضلاً عن أن أعراض هذه الأمراض فيها تشابه كبير قد لا يتميز معه حقيقة هذا المرض, وهي من باب الغيب المستور الذي لا ينبغي الجزم به, وعليك بزرع الفأل الحسن في قلب مريضك وروحه, والمريض مولع بالسؤال عن حقيقة مرضه ولكن القارئ الناجح ليس الذي يتفوه بما يهواه المريض ويرضاه بل بما يسره يوم القيامة أن يراه والله المستعان .(1/118)
الخامس :- العلاج بالكهرباء قد رأيت بعيني بعض القراء يفعل ذلك وهذا إجرام كبير وخطر عظيم, ولا يجوز بأي حالٍ من الأحوال, والواجب على ولاة الأمر زجر من يداوي بذلك فإن انزجر وإلا فالواجب إيقافه, فإن أبدان المرضى ليست مرتعاً لعبث هذه الطائفة التي تفعل ذلك فضلاً عن النهي الأكيد عن التعذيب بالنار ففي الحديث (( لا يعذب بالنار إلا ربها )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - وله آثاره السلبية على البدن والنفس, حتى ولو ثبت أن في هذا المريض مس من الجن, فإن تعذيب الجني بذلك لا يجوز والله تعالى أمرنا بالعدل ولا أشد ولا أقوى من صواعق الآيات وإحراقها وتعذيبها له, ومثله الضرب أيضاً فإن بعض القراء قد توسع في ذلك, والأصل فيه المنع لأنه من جملة الاعتداء الذي لا مسوغ له, وله آثار سلبية خطيرة, قد تؤدي إلى مالا تحمد عقباه فلابد من تضييق هذه الدائرة أو سدها بالكلية, وفعل بعض أهل العلم ليس بتشريع عام ولما استحكم الجهل بمثل هذه الحالات صار لزاماً علينا أن نقف في وجه هذه الاعتداءات ولابد لولي الأمر أن يمنع من ذلك, وأي أثر في المريض بسبب الضرب فإنه يعد جريمة في حقه له المطالبة بتعويضها أو القود على ما يراه القضاة, وقد حصل بسبب ضرب المرضى آفات كثيرة ومفاسد عظيمة ومن المعلوم المتقرر أن الشيء وإن كان جائزاً لكن إن أفضى إلى المفاسد فإنه يمنع سداً للذريعة, فكيف إذا كان ممنوعاً بالأصالة وإنما عليك القراءة عليه فقط فإن عافاه الله فهو المطلوب وإلا فكرر عليه ولا أشد على الشيطان الملابس من صواعق القرآن وقوارع الآيات التي هي كلام الله تعالى, وأعرف مريضاً ضربه بعض القراء حتى سبب له شللاً في قدميه من شدة الضرب, وأعرف امرأة بقيت في فراشها شهراً لا تستطيع المشي بسبب ضربها من بعض القراء, فالأصل في الاعتداء على بدن الغير الحرمة إلا بما يسوغه من الأسباب الشرعية المعتمدة وقولهم:- إن الضرب يقع على الجني, لا أدري عن مستنده(1/119)
ونحن مأمورون بالأخذ بالظاهر, والظاهر أن هذه السياط واللكمات إنما تقع على بدن المريض ويحس بها ويتألم, وأعرف مجموعة قد اجتمعوا على رجلٍ للقراءة عليه ومعهم حبالهم وعصيهم وكأنه - أي المريض -عاندهم قليلاً فانهالوا عليه بالضرب وقيدوه بهذه الحبال وكلما ازداد الضرب ازداد صراخه وهم يقولون:- زيدوا عليه هذا الجني يتكلم على لسانه, حتى تشققت قدماه وسالت دماً, فالمرجو من ولي الأمر إغلاق هذا الباب ومنع الضرب بالكلية, فضلاً عن أني إلى الآن لا أعلم مستنداً شرعياً صحيحاً صريحاً يفيد جواز ذلك, وإذا وجدنا ذلك فالنظر ينصرف إلى من يطبق ذلك فإن بعض القراء لا يعرف كوعه من بوعه ولا يعرف متى يضرب ولا أين يضرب ولا الآثار المترتبة على ضربه هذا, فالواجب سد هذا الباب وإبعاد من يزاوله عن طريق الرقية ومنعه منها, والمقصود أن العلاج بالكهرباء والضرب من الأخطاء التي ينبغي للأحبة القراء أن يبتعدوا عنها والرقية غنية عن ذلك وأن يقتصروا على الكتاب وصحيح الأدعية وشدة الافتقار واللجأ إلى الله تعالى أن يعافي مرضاهم فإنه الشافي جل وعلا والله المستعان .(1/120)
السادس :- وضع اليد على المرأة حال الرقية عليها, وهذا يفعله البعض وهم قلة ولله الحمد وهذا أمر محرم لا يجوز, ولا حجة لمن يوهم المريضة بأهمية ذلك فإنه لا أهمية له ونحن نعلم ذلك عن تجربة, بل إن هذا الوضع يوجب فساداً في قلبه أو قلبها, والمرأة عورة كلها والناس يغارون على أعراضهم ولولا الحاجة لما أتوك, فلا تستغل هذه الحاجة في انتهاك حجاب العرض فاتق الله, بل ولا يجوز لك إدامة النظر لها حال الرقية, لأن الواجب غض البصر, ومهما كنت في دينك وأمانتك فأنت رجل وهي امرأة والشيطان حريص على أن يلقي في قلبيكما الاستئناس بذلك, وقل لي بربك أين المسوغ الشرعي الذي يجيز لك هذا الوضع؟ أين المستند الذي تستند عليه في فعل ذلك؟ أهو الكتاب أم السنة أم فعل أحد من سلف الأمة وأئمتها؟ فإننا لا نعرف حرفاً واحداً يجيز ذلك بل الأدلة متوافرة على وجوب مباعدة الرجال عن النساء, والضرورة تقدر بقدرها, ولا ضرورة أبداً في وضع اليد على رأسها, وعلى هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تهتم بذلك وأن تزود القراء بالفتاوى الشرعية الصادرة من اللجان المعتمدة في الفتوى في حكم ذلك وعلى ولاة الأمر أن يضربوا بيدٍ من حديد على من يستخف بذلك ويخالفه والله المستعان .
السابع :- أمر المريض بإيقاف العلاجات التي قد صرفت لهم من قبل الأطباء, وهذا أمر لابد من التنبيه عليه, وهو من التدخل الذي لا ينبغي, فإن الأطباء ما صرفوا هذه العلاجات إلا لأنهم حددوا حالة المريض ورأوا أنها تحتاج إلى هذا العلاج المعين فلا يجوز للقارئ أن يأمر المريض أن يوقف هذا العلاج المعين بحجة أن ما يجده إنما هو من الشيطان الملابس, والله المستعان .(1/121)
الثامن :- انسياق بعض الرقاة وراء الاتهامات الصادرة من الشيطان الملابس بأن قريب المريض أو قريبته هو الذي تسبب له بالسحر أو العين, وكم من القرابات التي تفرقت بسبب ذلك وكم من الخلافات التي حصلت بين الأقرباء بسبب ذلك, فالواجب على القارئ أن لا يمكن الشيطان الملابس من هذه الاتهامات وأن يكذبه فيها وأن يقنع المريض بأن الشيطان يكذب وأنه يقصد بهذه الاتهامات نشر الفساد وقطع أواصر القرابة فإن التحريش من مقاصد الشيطان كما قال عليه الصلاة والسلام (( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم ))"رواه مسلم من حديث جابر - رضي الله عنه - " فالواجب سد هذا الباب وعدم تمكين الشيطان الملابس من هذه الاتهامات والأصل براءة الذمة, وأخبار الجن لا تصدق, ويا ليت الرقاة يسدون هذا الباب فإنه باب شر و فتنة, وقد حصل بسببه شرور كثيرة نعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
التاسع :- أمر المريض بتعليق بعض الأحجبة والتعاويذ والتمائم وهذا قد عرف خطره واشتهرت بين المسلمين حرمته. وقد ذكرنا أمر التمائم مفصلاً في كتابنا في العقيدة .(1/122)
العاشر :- القراءة الجماعية على الأعداد الكثيرة, وهذا يوجب اختلاط الحابل بالنابل وانكشاف ما كان خافياً, وفضيحة ما كان مستتراً, ولا يُمَكِّنُ القارئ من متابعة حالة المريض, ولا يعرف له أصل عن السلف رحمهم الله تعالى, والسرية التامة في الرقية مطلوبة, وقد جربنا القراءة الجماعية فلم نجد فيها كبير فائدة, بل ما وجدنا الفائدة إلا في القراءة الفردية, وإن بعض الناس يحضر إلى مجلس الرقية الجماعية لمجرد حب الاستطلاع, فيخرج فاضحاً ما رآه فالمرجو من إخواننا القراء تجنب القراءة الجماعية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. وهناك مفسدة أخرى وهو أن بعض المرضى يأتي وليس فيه إلا أشياء يسيرة ويحضر مجلس الرقية العامة فيرى هذا يصرع وهذا يصرخ وهذا يتخبط في الأرض وهذا يتقيأ وهذا يتمتم بألفاظ لا تعرف فقد يصاب هو بالوساوس, وكم من رجل وامرأة خرجوا من مجلس الرقية بالأوهام الردية, فأصيبوا بسبب ذلك بأمراضٍ أكبر مما كانت فيهم, فأسأله جل وعلا أن يعين إخواني القراء على ترك ذلك, فهذه بعض الأشياء التي قد تلاحظ, وهي قليلة في جانب حسناتهم الكثيرة ومن الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ25/ هل توبة أصحاب الأمراض الميئوس منها مقبولة كمريض الإيدز والسرطان المنتشر في سائر الجسد والطاعون ونحو ذلك؟ مع بيان ذلك بالدليل ؟
جـ/ أقول:- لقد ثبت عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن التوبة المقبولة هي ما تحقق فيها خمسة شروط :-
الأول :- الإخلاص وأدلته معروفة .
الثاني :- الإقلاع عن الذنب فوراً .
الثالث :- العزم على عدم العودة .
الرابع :- الندم على ما فات .(1/123)
الخامس :- أن تكون في زمن الإمكان, وكل أوقات العمر وقت صالح لإيقاع التوبة إلا إذا ظهرت علامتان:- الأولى:- أن تطلع الشمس من مغربها, الثانية:- أن تغرغر الروح وذلك بحلول سكرات الموت وبلوغ الروح الحلقوم, والأدلة في ذلك شهيرة. وهناك شرط سادس خاص بمن تحقق فيه وهو أداء الحقوق إلى أصحابها, فإذا تاب صاحب المرض الميئوس منه وتوفرت في توبته هذه الشروط فإن توبته مقبولة وصحيحة إن شاء الله تعالى, وأما إذا بلغ به المرض حالة الغرغرة فتوبته غير صحيحة لأن القاعدة تقول:- ( لا تصح العبادة إلا إذا توفرت شروطها وانتفت موانعها ) والتوبة عبادة ومن شرط صحتها أن تكون في زمن الإمكان كما مضى وهذا المريض قد أخرها إلى حلول سكرات الموت بسبب هذا المرض, فتوبته لاغية, ولا أثر لها فوجودها كعدمها, وأما إذا تاب قبل ذلك أي لم تحل به سكرات الموت ولم يغرغر فإن التوبة صحيحة إذا توفرت فيها الشروط الأخرى, ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار غلاماً يهودياً وهو مريض فدخل عليه وأمره بالإسلام فنظر الغلام إلى أبيه كالمستشير له فقال له أبوه:- أطع أبا القاسم فشهد هذا الغلام شهادة الحق, ثم مات بعيدها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار )) وهذا دليل على توبته من الشرك في هذه الحال قد قبلت لأنها وقعت في زمن الإمكان, ودليل آخر وهو في الصحيحين (( أنه لما حضرت أبا طالبٍ الوفاة جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أمية بن المغيرة, فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله )) فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية:- يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب فلم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالبٍ آخر ما كلمهم:- هو على ملة عبدالمطلب...(1/124)
الحديث )) ووجه الشاهد منه أن أبا طالبٍ كان مريضاً وأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوب من الكفر بهذه الكلمة مما يدل على أنه لو قالها لنفعته ولقبلت منه, وهذا الحكم أي قبول التوبة في حال المرض قد ثبت في حق الغلام وأبي طالب وقد تقرر في الأصول أن كل حكم ثبت في حق واحدٍ من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, وقد قال عليه الصلاة والسلام (( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ))"رواه الترمذي وقال حديث حسن" فإذا لم يصل به المرض حد الغرغرة فتوبته مقبولة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما إذا حلت به السكرات وغرغرت روحه فلا توبة والله تعالى أعلم وأعلى .
سـ26/ ما حكم استخدام الجن في مسألة العلاج من تحديد نوعية المرض أو معرفة مكان السحر أو تحديد نوعية العلاج المناسب ونحو ذلك؟ مع التفصيل والتدليل والتقعيد؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال مهم ودقيق ولابد من الإطالة في الجواب والتوسع فيه فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون, يتحرر جواب هذا السؤال في عدة مسائل :-
((1/125)
المسألة الأولى) لا يخلو استخدام الإنس للجن من ثلاثة أقسام:- إما استخدام شيطاني وإما استخدام سليماني, وإما استخدام رحماني, ونعني بالاستخدام الشيطاني استخدام السحرة والكهنة والمشعوذين والعرافين وبعض أصحاب الطرق الصوفية للجن, فهذا النوع من الاستخدام لاشك في تحريمه بل تحريمه مما اتفق عليه علماء الإسلام بل هو مما يعلم تحريمه من الدين بالضرورة وذلك لأن هذا الاستخدام كله مفسدة إما خالصة وإما راجحة ومن المتقرر شرعاً أن الشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, وهذا الاستخدام يفضي بصاحبه في كثير من أحواله إلى الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية فإن الجن لا تعين هؤلاء لسواد عيونهم ولمحبتها لهم وإنما تعينهم على بعض ما يطلبون مقابل توحيدهم, أي مقابل ما يتقربون به لهم من الذبح لهم والاستغاثة بهم, ونحو ذلك والأدلة على ذلك قوله تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } وقال تعالى { ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياءهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا, قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم } وقال تعالى { وما يعلمان من أحد يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون } وبالجملة فكل دليل يحرم السحر ويحرم الإتيان للكهنة والعرافين فهو دليل على تحريم هذا النوع, فمن كان يستخدم الجن بهذه الصورة فإنه آثم مرتكب لكبيرة من كبائر الآثام ومتقحم في أبواب الشرك نعوذ بالله من ذلك, فهذا النوع من الاستخدام محرم بكل صوره وأشكاله ولا يجوز بأي حالٍ من الأحوال, بل الواجب على كل أحدٍ يعرف أحداً يفعل ذلك أن(1/126)
يرفع أمره للمسئولين للأخذ على يده بعد مناصحته والإنكار عليه, وهذه الطائفة الفاسدة والطغمة الكاسدة السافلة التافهة لا بقاء لها بيننا والويل لمن أقرهم أو داهنهم أو تستر عليهم من الله تعالى, فيجب على المجتمع الإسلامي بكل فئاته من الملك إلى أقل رجل في المجتمع أن يقفوا صفاً واحداً في وجه هذه الثلة الفاسدة المضلة وأن لا يتساهلوا معهم وأن يقعوا بهم أشد العقوبات فإنهم سوسة تنخر في كيان الأمة, وحثالة وتكدر صفاء الاعتقاد بل وتفسده بالكلية, فهم أخطر عدوٍ علينا لأنهم يتصلون اتصالاً مباشراً بأشد أعدائنا عداوة لنا وهم الشياطين, فنعوذ بك اللهم منهم, ونسألك اللهم باسمك الأعظم أن تسلط شياطينهم عليهم, وإنه في الحقيقة لا يعرف العبد جرم هؤلاء إلا إذا نظر إلى ضحية من ضحاياهم, فلعنهم الله وأخزاهم وأهلكهم وأبعدهم وأعاذ الأمة من شرورهم والله أعلم.
((1/127)
المسألة الثانية) ونعني بالاستخدام السليماني أي الاستخدام الإعجازي الملكي القهري السلطاني, وهذا النوع من الاستخدام كان معجزة لنبي الله سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى التسليم ولا يمكن أن يكون لأحدٍ من بعده أبداً لقوله تعالى عنه { قال رب اغفرلي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب والشياطين كل بناءٍ وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب } ولذلك قلنا ( الإعجازي ) أي أنه كان معجزة أجراها الله على يد نبيه سليمان - عليه السلام - وانتهت كتسخير الريح له تجري بأمره رخاء حيث أصاب, وقد انتهى ذلك, فلا يستطيعه احد من بعده أبداً, وهو من خصائصه - عليه السلام - وقولنا ( الملكي ) هذا فيه بيان نوع هذا الاستخدام وأنه من باب استخدام الملوك لمن تحت يدها ويوضحه قولنا ( القهري ) أي بلا اختيار من الشياطين بل هم مقهورون على ذلك بأمرٍ من الله تعالى وتقدير وخوف منه جل وعلا كما قال تعالى { ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير } وقال تعالى { وكنا لهم حافظين } وقد بين الله تعالى هذا الاستعمال بقوله { وآخرين مقرنين في الأصفاد } وهذا الاستخدام يكون في المباحات التي يعود نفعها على نبي الله سليمان وأهل مملكته كما قال تعالى { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفانٍ كالجواب وقدور راسيات } وقوله تعالى { ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك } وقال تعالى { والشياطين كل بناءٍ وغواص } وهذا الأمر من جملة المعجزات التي أتاها الله تعالى نبيه سليمان - عليه السلام - كما قال تعالى { هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب } ولذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هم بتقييد الشيطان الذي تفلت عليه وأراد أن يقطع عليه صلاته قال (( فذكرت دعوة أخي سليمان...(1/128)
الحديث )) ذلك لأن تقييد الشيطان وإذلاله وإهانته بالقيد والحبس إنما هو من الاستخدام الملكي القهري السلطاني وهو من خصائص سليمان - عليه السلام - فتحقيقاً لدعوة أخيه سليمان تركه وأطلقه ولم يفعل ما هم به - صلى الله عليه وسلم - , وقد ورد أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - لما خير بين أن يكون عبداً رسولاً وبين أن يكون نبياً رسولاً يعطي من يشاء ويمنع من يشاء بلا حسابٍ ولا جناح اختار المنزلة الأولى بعد أن استشار جبريل - عليه السلام - فقال له:- تواضع, فاختار المنزلة الأولى والحديث عند الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وهذا النوع من الاستخدام قلنا إنه من خصائص نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام, وقد يحصل شيء منه على وجه ضيق ولبعض الشياطين فقط مع بعض الإنس لكن لا على وجه العموم كما كان لسليمان عليه الصلاة والسلام, وبالجملة فلا يجوز للإنسان أن يتقصد هذا الاستخدام لأن وراءه ما وراءه من الآفات والمفاسد لأن الجن لا يمكن أن تخدم هؤلاء إلا بعوض إن عاجلاً أو آجلاً فالواجب على المؤمن أن يعتقد أن هذا من خصائص سليمان - عليه السلام - وأن يتعبد لله بالتباعد عنه, والله أعلى وأعلم .
((1/129)
المسألة الثالثة) ونعني بالاستخدام الرحماني أي أن يكون استخدامهم فيما يحقق المصلح الشرعية العاجلة والآجلة فإذا كان استخدامهم فيه مصلحة خالصة أو راجحة فهذا لا بأس به بل إنه يكون في هذه الحالة من باب المستحب، وهذا أعلا أنواع الاستخدام وذلك كأمرهم بطاعة الله والإيمان به وأن يكونوا نذراً إلى قومهم وكنهيهم عن المنكر وأمرهم بإفراد الله تعالى بالعبادة وحده دون ما سواه، وهذا هو حاله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يعلم بعض الجن ثم يجعلهم رسلاً منذرين إلى قومهم ودعاة لهم، فإن الله تعالى قد أوجب على الجن طاعة الرسل كما أوجب ذلك على الإنس فأولياء الله المتبعون للرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما يستخدمون الجن كما يستخدمون الإنس في عبادة الله وطاعته كما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يستعمل الإنس لا في غرضٍ له وإنما فيما يعود عليهم نفعه في العاجل والآجل، فإذا قرأ القارئ على المصاب بالمس ونطق الجان وكان كافراً فإنه يدعوه إلى الله تعالى ويأمره وينهاه فإذا استجاب له فلا حرج على القارئ أن يقول للجان الملابس اذهب إلى قومك وأمرهم بالإسلام وحذرهم من الشرك، وكم في هذا من تحقيق المصالح الشرعية العظيمة التي لا يقابلها شيء من المفاسد وإن سلمنا مقابلة شيء من المفاسد فإنه تكون مغمورة في جانب هذه المصالح العظيمة، وإذا أسلم الجني الملابس وظهرت منه مخايل التوبة النصوح فلا حرج البتة على القارئ أن يقول له:- إن من تمام توبتك أن تدلنا على مكان السحر وأن تسمي لنا الساحر، هذا لا حرج فيه وليس هذا من إطالة الكلام معه أو من الاستعاذة به أو التوسل إليه بل هذا من تمام أمره بالمعروف ونهيه عن النكر ومن باب دلالته على الخير وفعل المعروف ومن باب التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان، ولا يترتب على هذا الاستخدام لا محرم ولا مكروه، ولكنه من توفيق الله تعالى لبعض القراء لكمال إيمانهم وسلامة وصفاء عقيدتهم(1/130)
ومحبتهم لنفع الغير، واعلم رحمك الله تعالى أن علاقة الإنس بالجن لا تحرم بذاتها، وإنما تحرم إذا كان يترتب عليها الوقوع في المحظور أو كانت وسيلة إليه، فلا يعد واستخدامنا لهم أن يكون وسيلة وقد تقرر في القواعد أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كانت هذه العلاقة وسيلة إلى تحقيق أمر واجب أو مستحب فإنه يحكم لها بذلك وإذا كانت سبباً من حصول الحرام أو المكروه فهي كذلك، وبهذا يتبين لك أن الأقسام ثلاثة:- الاستخدام الشيطاني وهذا حرام مطلقاً والثاني الاستخدام السليماني وهذا قد علمت أنه كان معجزة لنبي الله سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والثالث الاستخدام المحمدي الرحماني وهذا داخل في حدود المأمور إما إيجاباً إذا كان لا يتحقق الواجب الشرعي إلا به، وإما استحباباً إذا كان لا يتحقق المستحب إلا به والله أعلم .
((1/131)
المسألة الرابعة) اعلم رحمك الله تعالى أن مسألة الرقية كمسألة العلم, فإن الله قد يفتح بعض الفتوحات المعرفية في باب الرقية على بعض الناس فيهديه الله تعالى هداية الدلالة والإرشاد وهداية التوفيق والإلهام إلى معرفة خصائص الأمراض التي سببها الجن ومعرفة علاماتها وتفاصيلها وحركة الجن في الجسد ومكان وجود الجن الملابس في جسد المريض فيكون ذلك من باب التخصص المعرفي فلا يجوز لأحدٍ إذا رأى تفوق هذا الرجل في مجال تخصصه وكمال معرفته بأحوال هذه الأمراض أن يتهمه بأنه يستخدم الجن وأن الجن هي التي توحي إليه بذلك, وأنه ما حصل له هذا التفوق إلا بسبب استخدامهم والاتصال بهم, فهذا لا جوز بحال فإن الأصل في المسلم السلامة والأصل إحسان الظن به لاسيما إذا كان من طلبة العلم المعروفين بالصلاح والتقوى الذين هم من أبعد الناس عن ذلك, ولا تجعل جهلك بهذه المسائل حاكماً على معرفة غيرك, ولا يكون إخفاقك في معرفة هذه الأحوال ميزاناً لنجاح غيرك فيها, بل هو توفيق الله وفضله الذي يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم, وقد ضرب بعض المعبرين للرؤى والأحلام في هذا الباب ما ينقضي منه العجب وهذا فتح من الله لهم في هذا المجال, وقد ضرب بعض أهل الصناعات في صناعتهم مالا يكاد يصدق لولا أننا نرى أثر هذه الصناعات وهذا فتح من الله لهم, وقد ضرب بعض القضاة في مجال القضاء أقضية صارت مثلاً تقيده الكتب كشريح وغيره, وهذا فتح من الله وقد ضرب بعض طلبة العلم في مجال التحصيل والتأليف والتدريس ما يعجز القلم عن ذكر بعضه فضلاً عن كله, بل ولو نظرنا في كل المجالات لوجدنا أن فيها من الناس من أكرمه الله ببعض الفتوحات التي لم يفتحها لغيره وكل ذلك يدخل تحت قوله تعالى { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم } ومجال الرقة كذلك فإنه لا يعدو أن يكون باباً من أبواب النفع فكيف نستبعد أن يفتح الله على بعض الناس فيه فتوحات يكون بها رائداً في هذا(1/132)
الشأن, فلنتقِ الله تعالى ولا نكون من الذين قال الله فيهم { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } ولنكف ألسنتنا عن اتهام إخواننا والقدح فيهم بالباطل وبالظنون الكاذبة الفاسدة الكاسدة العاطلة عن رائحة البرهان وإنما هو التخرص والهوى والحسد, فإن اللسان شأنه عظيم وبلاء وعدم حفظه وخيم وقد سمعت من تفوق في هذا المجال وضرب فيه بسهم وافر بعد إيقافه يقول:- إن سبب إيقافي هو التقارير السرية التي تكتب لولاة الأمر والتي يتهمنا فيها من يكتبها أننا نتصل بالجن وأننا نستخدمهم, قلت:- وهذا من جهل هؤلاء وحماقتهم ولغلٍ وحسدٍ وكبر في صدورهم ما هم ببالغيه إن شاء الله تعالى, والله أعلى وأعلم .
((1/133)
المسألة الخامسة) اعلم رحمك الله تعالى أن عالم الجن كعالم الإنس فيهم المسلم والكافر والصالح والطالح وطالب العلم والجاهل والتقي والشقي والبر والفاجر كما قال تعالى حاكياً عنهم { وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قدداً } وقال تعالى { وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فاؤلئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة منهم بقوله (( أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن هم )) كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - والصالحون والعلماء منهم لا حرج في الاتصال بهم ولمن فتح الله تعالى عليه ذلك، فإن جانبهم مأمون، فلا ينبغي للمفتي إذا سئل عن شيء من ذلك أن يمنعه مطلقاً وأن يقدح فيمن يتصل بهم بمجرد الاتصال بهم إذا لم يترتب على هذا الاتصال شيء من المحظور الشرعي، ولقد نظرت باستقصاء في الأدلة المانعة من الاتصال بهم فوجدتها في الاتصال الذي يترتب عليه شيء من المفاسد الشرعية، كاتصال السحرة بهم واتصال الكهنة بهم واتصال المشعوذين بهم واتصال أصحاب الطرق الصوفية بهم وكاتصال أهل الجاهلية قبل الإسلام بهم فقد كان أحدهم إذا نزل بوادٍ وخاف من تسلطهم قال:- أعوذ بسيد أو بكبير هذا الوادي من سفهاء قومه، ونحو ذلك وأما الاتصال الذي لا يترتب عليه شيء من المفاسد فإني والله إلى ساعتي هذه لا أعلم دليلاً يمنعه، فضلاً عن الاتصال الذي يترتب عليه شيء من المصالح الشرعية وجوباً أو استحباباً والأصل الجواز وعلى المانع الدليل، وقد تقرر في القواعد أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً والعلة في الأدلة المانعة من الاتصال بهم هي وجود المفاسد الشرعية، لكن هل العلة متحققة في الاتصال الذي ليس فيه شيء من ذلك فضلاً عن الاتصال التي هو مصالح شرعية؟ الجواب:- بالطبع لا، فحيث كانت العلة في المنع لا توجد في هذا فالحكم لا يوجد أيضاً لأنه يدور مع علته وجوداً وعدماً فإذا(1/134)
وجدت العلة منع الاتصال وإذا انعدمت العلة انعدم المنع، هذا هو ما توصلت إليه في هذه المسألة وهو الذي يميل إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى ومن قرأ كلامه في هذه المسألة فإنه لا يخرج بغير هذه النتيجة، ولا ينبغي تحميل الأدلة وكلام العلماء أكثر مما يحتمل، والمسألة خاضعة للنظر، فأما ما منعه النص فإنه ممنوع وأما مالم يتعرض له النص بمنع فإن الأصل فيه الجواز، وبهذا التقسيم والتفصيل الذي ذكرته تتآلف الأدلة ويتجلى الأمر إن شاء الله تعالى، ولا يجوز حمل طلبة العلم بحكم الولاية على منع شيء لا دليل على المنع منه، يدفعنا التعصب لقول مفتٍ أو عالمٍ أن نأطر طلبة العلم عليه أطراً فإن هذا من التعدي والظلم والجهل، وقد قال تعالى { ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وهذا آخر ما أردت تقييده في هذه الجواب وأستغفر الله وأتوب إليه من الزلل والخطأ والتقصير والله أعلى وأعلم .
سـ27/ هل يجوز للطبيب أن يكذب على المريض بشأن حالته الصحية ؟(1/135)
جـ/ أقول:- الأصل تحريم الكذب، وقد وردت فيه الأدلة كثيرة من الكتاب والسنة لكن إذا اضطر الطبيب إلى ذلك اضطراراً ولم يجد مندوحة لقول الصدق، وعلم أو غلب على ظنه أن مريضه هذا ستتأخر حالته الصحية أو سيزيد مرضه وتتفاقم علته وتعظم إذا أخبره بحقيقة مرضه، فلا بأس ولا حرج على الطبيب في هذه الحالة أن يكذب بالقدر الذي اضطر إليه ولكن لا يكذب ابتداءً وعلى الطبيب دائماً أن يعلم مرضاه وجوب الصبر واحتساب الأجر ويربيهم على الرضا بالقضاء، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن يعالجهم العلاج الروحي قبل العلاج البدني وأن يبعث الصحة في نفوسهم بتصحيح الإيمان وتنميته عندهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وإذا كان الطبيب يجهل شيئاً من ذلك فليستعن بأهل العلم الموثوقين في علمهم وأمانتهم وخبرتهم في مثل هذه المسائل, ولو بالاتصال عليهم في بيوتهم وما أحسن أن تكون أرقام بعض أهل العلم متوفرة عند الأطباء للاستعانة بهم في مثل هذه الحالات, فإذا كان الكذب ينفع المريض ولا يضره ولا يضر غيره فلا بأس به للضرورة الملحة والحاجة القائمة, ولابد من قيد آخر أيضاً وهو عدم نفع المعاريض, أما إذا كانت المعاريض تنفع فاللجوء أحوط وأحسن, فإن في المعاريض مندوحة عن الكذب, ولا يكون هذا هو ديدن الطبيب دائماً فإن المرضى إذا عرفوا ذلك منه فإن الثقة تنعدم في هذا الطبيب وفي خبره, وليس الكذب أو المعاريض تجوز مع كل المرضى, بل مع بعضهم فقط, فإن هناك من المرضى من هو قوي القلب كامل الإيمان وافر الصبر دائم الرجاء شديد التوكل على الله تعالى وعنده الاستعداد التام لتحمل إخباره بحقيقة مرضه فمثل هذا النوع لا يجوز الكذب عليه لعدم وجود الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة , وبالجملة فالكذب على المريض بشأن حالته الصحية جائز بشروط :- الأول :- أن لا تنفع المعاريض .(1/136)
الثاني :- أن يكون من المرضى الذين عندهم ضعف في جانب التعبد والتوكل والصبر .
الثالث :- أن يعلم الطبيب أو يغلب على ظنه عدم تحمل المريض لقول الحقيقة .
الرابع :- أن لا يجد الطبيب بداً من إخبار المريض بذلك لشدة إلحاح المريض بكثرة سؤال الطبيب عن حالته وحقيقة مرضه, وأما إذا لم يسأل المريض عن حالته أو استطاع الطبيب أن يؤخر الجواب ولا مفسدة على المريض في هذا التأخير فلا يجوز له الكذب حينئذٍ, ودليل ذلك ما تقرر في قاعدة لا واجب مع العجز ولا محرم مع الضرورة, فإن الكذب محرم في الأصل لكن الضرورة هنا أجازت منه القدر الذي يحصل به دفع هذه الضرورة. ويفرع أيضاً على قاعدة القياس الأولوي حجة, وهذا بالاتفاق والخلاف فيها شاذ غير معتبر, ومن الجائز شرعاً الكذب على الزوجة ليرضيها والكذب على أحد المتخاصمين للإصلاح بينهما فإذا كان ذلك جائز شرعاً فلأن يجوز الكذب على المريض في الحالة التي لو أخبرناه بالحقيقة لأدى ذلك إلى تلفه أو تلف عقله أو زيادة مرضه أو تأخر برئه من باب أولى, وهذا وجد قوي واستدلال حسن, ويفرع أيضاً على قاعدة حفظ النفوس ووجه التخريج عليها واضح, بل قد يجب الكذب أحياناً إذا كان في الإخبار بالصدق تلف النفس المعصومة, لاسيما إذا لم يعارضه مفسدة كما هو الحال هنا هذا هو تفصيل الجواب والله يتولانا وإياك والله أعلى وأعلم .
سـ28/ ما حكم التداوي بالأسورة النحاسية الموجودة في بعض الصيدليات والتي من خصائصها مكافحة ( الروماتيزم ) مع بيان وجه الحكم بالدليل والتأصيل ؟(1/137)
جـ/ أقول:- لقد سئل سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رفع نزله في الفردوس الأعلى وغفر له ولسائر علماء المسلمين عن ذلك فأجاب بما نصه ( سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:- فقد وصلني كتابكم الكريم وصلكم الله برضاه وأشرفت على الأوراق المرفقة المتضمنة بيان خصائص الأسورة النحاسية التي حدثت أخيراً لمكافحة الروماتيزم وأفيدكم أني درست موضوعها كثيراً وعرضت ذلك على جماعة كثيرة من أساتذة الجامعة ومدرسيها وتبادلنا جميعاً وجهات النظر في حكمها فاختلف الرأي فمنهم من رأى جوازها لما اشتملت عليه من الخصائص المضادة لمرضى الروماتيزم ومنهم من رأى تركها لأن تعليقها يشبه ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتبارهم تعليق الودع والتمائم والحلقات من الصفر وغير ذلك من التعليقات التي يتعاطونها, ويعتقدون أنها علاج لكثير من الأمراض وأنها من أسباب سلامة المعلق عليه من العين ومن ذلك ما ورد عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) وفي رواية (( من تعلق تميمة فقد أشرك )) وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً في يده حلقة من صفر فقال (( ما هذا؟ )) قال:- من الواهنة فقال (( أنزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً )) وفي حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه في بعض أسفاره أرسل رسولاً يتفقد إبل الركب ويقطع كل من علق من قلائد الأوتار التي كان يظن أهل الجاهلية أنها تنفع إبلهم وتصونها فهذه الأحاديث وأشباهها يؤخذ منها أنه لا ينبغي أن يعلق شيئاً من التمائم أو الودع أو الحلقات أو الأوتار أو أشباه ذلك من الحروز كالعظام والخرز ونحو ذلك لدفع البلاء أو رفعه, والذي أرى في هذه المسألة هو ترك الأسورة المذكورة وعدم استعمالها سداً لذريعة الشرك وحسماً لمادة الفتنة بها(1/138)
والميل إليها وتعلق الناس بها, ورغبة في توجيه المسلم بقلبه إلى الله سبحانه وتعالى ثقة به واعتماداً عليه واكتفاءً بالأسباب المشروعة المعلومة إباحتها بلا شك, وفيما أباح الله تعالى ويسر لعباده غنية عما حرم عليهم وعما اشتبه أمره, وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه )) وقال عليه الصلاة والسلام (( دع ما يريبك إلى مالا يريبك )) ولا يريب أن تعليق الأسورة المذكورة يشبه ما تفعله الجاهلية في سابق الزمان فهو إما من الأمور المحرمة الشركية أو من وسائلها وأقل ما يقال فيه:- إن من المشتبهات فالأولى بالمسلم والأحوط له أن يترفع بنفسه عن ذلك وأن يكتفي بالعلاج الواضح الإباحة البعيد عن الشبهة هذا ما ظهر لي ولجماعة من المشايخ والمدرسين وأسأل الله عزوجل أن يوفقنا وإياكم لما فيه رضاه وأن يمن علينا جميعاً بالفقه في دينه والسلامة مما يخالف شرعه إنه على كل شيء قدير والله يحفظكم والسلام )ا.هـ.كلامه رحمه الله تعالى وقد جاء الشيخ رفع الله قدره بكل ما في النفس من كلام, فما أجمل كلام العلماء وما أبرده على القلوب رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وغفر لأمواتهم وثبت أحياءهم وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته والله أعلى وأعلم .
سـ29/ اذكر لنا طرفاً من الأحاديث الموضوعة والضعيفة والتي لها تعلق بالأدوية والأدواء مع ذكر بعض كلام أهل العلم عليها ؟
جـ/ أقول:- على الرحب والسعة وهذا بعضها :-
الأول :- حديث (( من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه )) وهذا حديث موضوع والمتهم به خالد بن القاسم، قال أهل العلم عنه كذاب .
الثاني :- حديث (( كان - صلى الله عليه وسلم - يكتمل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة )) موضوع، والمتهم به سيف بن محمد الثوري وهو كذاب .(1/139)
الثالث :- حديث (( نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة يوم السبت ويوم الأربعاء وقال:- من فعل ذلك فأصابه بياض فلا يلومن إلا نفسه )) وهو موضوع .
الرابع :- حديث (( في الجمعة ساعة لا يوافقها رجل يحتجم إلا مات )) فيه يحيى بن العلاء وهو متهم فالحديث موضوع .
الخامس :- حديث (( لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد نزلت علي يوم الثلاثاء وفيه ساعة لا يرقأ فيها دم )) حديث موضوع و لا عبرة بتعقب السيوطي عليه فإنه
متساهل جداً رحمه الله ورضي عنه وأرضاه .
السادس :- حديث (( من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم بلاء )) موضوع أو ضعيف شديد الضعف بمرة وما ورد في العسل من النقول الصحيحة فيه كفاية ولله الحمد .
السابع :- حديث (( النظر إلى الخضرة يزيد البصر، النظر إلى المرأة الحسناء يزيد في البصر )) حديث موضوع لا شك في وضعه قال الصنعاني:- موضوع .
الثامن :- حديث (( لا تمارضوا فتمرضوا ولا تحفروا قبوركم فتموتوا )) قال أبو حاتم:- منكر، قلت:- وهو حديث شديد الضعف بمرة .
التاسع :- حديث (( المرض ينزل جملة واحدة والبرء ينزل قليلاً قليلاً )) قال في المقاصد:- باطل .
العاشر :- حديث (( المريض أنينه تسبيح وصياحه تكبير ونفسه صدقة ونومه عبادة وتقلبه من جنب إلى جنبٍ جهاد في سبيل الله )) قال ابن حجر:- ليس بثابت. قلت:- وفيما ورد من النقول الصحيحة في أن ما يصيب المسلم كفارة لذنوبه حتى الشوكة يشاكها فيه غنية وكفاية .
الحادي عشر :- حديث (( الأمراض هدايا من الله، فأحب العباد إلى الله أكثرهم هدية )) حديث موضوع .
الثاني عشر :- حديث (( البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل بدن ما اعتاده )) قال في المختصر:- لم يوجد، وقال في المقاصد:- لا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/140)
الثالث عشر :- حديث (( لا تكرهوا أربعة فإنها لأربعة:- الرمد فإنه يقطع عرق العمى ولا تكرهوا الزكام فإنه يقطع عرق الجذام, ولا تكرهوا السعال فإنه يقطع عرق الفالج ولا تكرهوا الدماميل فإنها تقطع عرق البرص )) حديث موضوع والمتهم رجل يقال له:- يحيى بن آدم وهو وضاع .
الرابع عشر :- حديث (( الحجامة في نقرة الرأس تورث النسيان )) في إسناده من يتهم بالوضع فهو موضوع .
الخامس عشر :- حديث (( الشرب من فضل وضوء المؤمن فيه شفاء من سبعين داء )) لاشك في وضعه .
السادس عشر :- حديث (( من خلط دواءً فنفع به الناس أعطاه الله عزوجل ما أنفق الدنيا وأعطاه نعيم الجنة )) حديث موضوع وفي إسناده كذاب .
السابع عشر :- حديث (( من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان الشكوى وكتمان المصيبة )) حديث موضوع. لكن معناه صحيح, لأن إخفاء الصدقة من تمام الإخلاص وقال تعالى { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وكتمان الشكوى وكتمان المصيبة من باب كمال التوكل والصبر. لكن الحديث بهذا اللفظ لا يصح أبداً .
الثامن عشر :- حديث (( إن في الجنة شجرة يقال لها شجرة البلوى )) وهذا حديث لا يصح لأن في إسناده متروكان فهو موضوع .
التاسع عشر :- حديث (( يود أهل العافية أن لحومهم قطعت...الخ )) في إسناده عبدالرحمن بن مفراء, وهو ليس بشيء فهو حديث ضعيف شديد الضعف ورواه الترمذي وقال:- حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
العشرون :- حديث (( لا يعاد المريض إلا بعد ثلاث )) لا يصح من أساسه فإن في إسناده متروك .(1/141)
الحادي والعشرون :- حديث (( هل يكون مع الشهداء غيرهم يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:- نعم من ذكر الموت كل يومٍ عشرين مرة )) وهذا الحديث لا يوجد في شيء من دواوين الحديث المعتمدة, ولذلك قال في المختصر:- لم يوجد . الثاني والعشرون :- حديث (( لو أن قطرة من ألم قطرة وضعت على جبال الأرض كلها لذابت )) وهو حديث موضوع لا أصل له في الكتب المعتمدة ولذلك قال في المختصر:- لا يوجد .
الثالث والعشرون :- حديث (( من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينيه رمداً )) موضوع لاشك في وضعه بل قال ابن القيم في المنار:- من أقبح الموضوعات ا.هـ.
الرابع والعشرون :- حديث (( النظر في المصحف من الشفاء )) حديث موضوع .
الخامس والعشرون :- حديث (( لو يعلم الناس ما في الحلبة لا شتروها بوزنها ذهباً )) حديث موضوع .
السادس والعشرون :- حديث (( بئست البقلة الجرجير من أكل منها ليلاً بات ونفسه تنازعه ويضرب عرق الجذام في أنفه, كلوها نهاراً وكفوا عنها ليلاً )) حديث موضوع .
السابع والعشرون :- حديث (( صوموا تصحوا )) وهو حديث ضعيف قال العراقي في تخريج الإحياء:- رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من حديث أبي هريرة بسندٍ ضعيف .
الثامن والعشرون :- حديث (( سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا )) وهو حدث ضعيف وسبب الضعف ابن لهيعة وفي سنده أيضاً دراج وهو صاحب مناكير. ومثله أيضاً حديث (( سافروا تصحوا وتغنموا )) وهو حديث منكر .
التاسع والعشرون :- حديث (( استشفوا بما حمد الله به نفسه قبل أن يحمده خلقه وبما مدح الله به نفسه:- (( الحمد لله )) و (( قل هو الله أحد )) فمن لم يشفه القرآن فلا شفاه الله )) وهذا حديث ضعيف جداً .
الثلاثون :- حديث (( أكل الشمر أمان من القولنج )) وهذا حديث موضوع وعلته إبراهيم بن أبي يحيى وهو الأسلمي وهو كذاب .(1/142)
الحادي والثلاثون :- حديث (( غسل القدمين بالماء البارد بعد الخروج من الحمام أمان من الصداع )) وهو حديث موضوع .
الثاني والثلاثون :- حديث (( إياكم والحبوس في الشمس فإنها تبلي الثوب وتنتن الريح وتظهر الداء الدفين )) وهذا حديث موضوع أيضاً .
الثالث والثلاثون :- حديث (( ما من أحدٍ إلا وفي رأسه عرق من الجذام فإذا هاج سلط الله عليه الزكام فلا تداووا له )) وهذا حديث موضوع وآفته محمد بن يونس هو الكديمي وهو متهم بوضع الحديث, وقد حكم عليه بالوضع الذهبي وابن الجوزي والألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة .
الرابع والثلاثون :- حديث (( تنكبوا الغبار فإنه منه تكون السمنة )) وهو حديث لا أصل له, أي لا يعلم له سند تمكن دراسته .
الخامس والثلاثون :- حديث (( ثلاث لا يعاد صاحبهن:- الرمد وصاحب الضرس وصاحب الدملة )) وهو حديث موضوع وآفته مسلمة بن علي الخشني فإنه يحدث بالموضوعات عن الثقات .
السادس والثلاثون :- حديث (( ثلاث يفرج بهن البدن ويربو عليها:- الطيب, والثوب اللين, وشرب العسل )) وهذا حديث موضوع والمتهم بوضعه محمد بن يونس القتيري .
السابع والثلاثون :- حديث (( سؤر المؤمن شفاء )) وهذا ليس بحديث أصلاً, أي أنه لا أصل له .
الثامن والثلاثون :- حديث (( عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنه مصحة من الباسور )) وهذا حديث موضوع .
التاسع والثلاثون :- حديث (( إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها فإن ذلك يورث العمى )) وهو حديث موضوع, ومثله حديث (( إذا جامع أحدكم زوجته فلا ينظر إلى الفرج فإنه يورث العمى ولا يكثر الكلام فإنه يورث الخرس )) وهو موضوع أيضاً .
الأربعون :- حديث (( ما للنفساء عندي شفاء مثل الرطب ولا للمريض مثل العسل )) وهو حديث موضوع والمتهم به علي بن عروة فإنه كذاب يضع الحديث .
الحادي والأربعون :- حديث (( ما استشفى بغير القرآن فلا شفاه الله )) وهو حديث موضوع .(1/143)
الثاني والأربعون :- حديث (( ما أبالي ما أتيت إن أنا شربت ترياقاً أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي )) وهذا حديث ضعيف .
الثالث والأربعون :- حديث (( إن الله عزوجل أنزل الداء والدواء وجعل لكل داءٍ دواءً فتداووا ولا تتداووا بحرام )) وهذا حديث ضعيف ولكن معناه صحيح .
الرابع والأربعون :- حديث (( لا تقتلوا أولادكم سراً فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه )) وهذا حديث ضعيف .
الخامس والأربعون :- حديث (( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك...الخ )) وهذا حديث ضعيف الإسناد .
السادس والأربعون :- حديث (( العيافة والطيرة والطرق من الجبت )) وهو حديث إسناده ضعيف .
السابع والأربعون :- حديث (( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت...الخ )) وهو حديث ضعيف .
الثامن والأربعون :- حديث (( كان يستعط بدهن الجلجان إذا وجع رأسه, يعني دهن السمسم )) وهذا حديث لا يصح .
التاسع والأربعون :- حديث (( إذا اشتهى مريض أحدكم شيئاً فليطعمه )) وهذا حديث ضعيف. ومثله حديث (( اتشتهي كعكاً , فقال نعم, فطلبوه له )) وهو حديث
ضعيف أيضاً .
الخمسون :- حديث الأمر بالحساء وفيه (( إنه ليرتو فؤاد الحزين ويسر وعن فؤاد السقيم )) وهذا حديث ضعيف .
الحادي والخمسون :- حديث (( العجوة والصخرة من الجنة )) وهو حديث ضعيف .
الثاني والخمسون :- حديث (( قم فصل فإن في الصلاة شفاء )) وهو حديث ضعيف .
الثالث والخمسون :- حديث (( لو كان شيء يشفي من الموت كان السنا والسنا شفاء من الموت )) وهذا حديث ضعيف أيضاً .
الرابع والخمسون :- حديث (( نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذات الجنب ورأساً وقسطاً وزيتاً يلد به )) وهو ضعيف .
الخامس والخمسون :- حديث (( من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج )) وهو حديث ضعيف .
السادس والخمسون :- حديث (( بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر عرق نَعَّار ومن شر حر النار )) وهو حديث ضعيف .(1/144)
السابع والخمسون :- حديث (( خير الدواء القرآن )) وهو ضعيف في المبنى لكنه صحيح في المعنى . فهذه بعض المنقولات الموضوعة والضعيفة في أبواب الطب, وليس من باب الحصر وإنما من باب ذكر الشيء بذكر بعضه فنعوذ بالله من الأمراض جميعها ومن الفتن ما ظهر منها وما بطن, والله أعلى وأعلم . وبختم إجابة هذا السؤال يتم القسم الأول من أسئلة الإفادة الشرعية في بعض المسائل الطبية والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
سـ30/ ما الأحكام الطبية التي تهم الحاج في حجه والتي لها تعلق بالمناسك أداءً أو تفويتاً بسببه مع بيان ذلك بالتدليل والتأصيل ؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال واسع ويحتاج إلى بسطٍ كبير, ولكن نلخصه لك في مجموعة مسائل :-(1/145)
المسألة الأولى:- اعلم أرشدك الله لطاعته أن الحاج إذا كان مريضاً ويخاف أن يكون هذا المرض سبباً لانقطاعه عن إتمام مناسك حجه أنه يجوز له الاشتراط في هذه الحالة وهذا من توسيع الله تعالى الذي لا حدود له ومن جملة نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة على عباده, فالحمد لله رب العالمين أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً, فإذا حل بالحاج مرض من الأمراض فإنه يجوز له الاشتراط أي أن يقول:- ومحلي حيث حبستني ويترتب على هذا الاشتراط أنه لو حال المرض ينه وبين إكمال نسكه فإنه يحل مجاناً بلا فدية, والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:- دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضباعة بنت الزبير فقال لها (( لعلك أردت الحج؟ )) قالت:- والله ما أجدني إلا وجعة فقال لها (( حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني )) وكانت تحت المقداد بن الأسود وقد أخرج مسلم في صحيحه وأحمد وأصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة بنت الزبير قالت:- يا رسول الله إني امرأة ثقيلة, وإني أريد الحج فكيف تأمرني أأهل؟ قال (( أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني )) قال:- فأدركت, وللنسائي في رواية (( فإن لكِ على ربكِ ما استثنيتِ )) ومن المعلوم أن المتقرر في القاعدة أن كل حكم ثبت في حق واحد من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص فهذا الحكم ليس مختصاً بضباعة فقط, لأن الأصل عدم الاختصاص, ولكن مع قولنا إن غيرها يدخل معها إلا أنه لابد من مراعاة الحالة التي قبل فيها ذلك الحكم, وهي المرض المخوف منه المانع, ولذلك فمن لم يخف مانعاً فليس من السنة في حقه أن يشترط لأن جميع الذي حجوا معه - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عن أحد منهم أنه أمره بالاشتراط ولو كان ذلك مما ينبغي لأمرهم, أو دلهم عليه ورغبهم فيه فلما لم يحصل ذلك دل على أنه مخصوص بمن خاف المانع واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى(1/146)
والمقصود أن المريض الذي يخاف أن يمنعه المرض من إكمال نسكه له حق الاشتراط والله أعلم .
المسألة الثانية :- ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن الإنسان إذا كان مريضاً مرضاً لا يستطيع معه الحج وكان قادراً على الحج بماله فإنه يقيم من ماله من يحج عنه ويعتمر, وهذا من باب التوسعة أيضاً قال تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } فالمريض العاجز عن الحج بنفسه فإنه يحج عنه وكيله وقد دلت على ذلك الأدلة الشرعية, ومن أنواع ذلك أصحاب العاهات الخلقية كالنحيل جداً إذا كان لا يستطيع أن يثبت على الراحلة وهو الذي يسميه الفقهاء بـ( النضو ) وكالمغمى عليه إغماءً طويلاً لتلف بعض خلايا مخه مع تقرير الأطباء بأنه لن يستفيق منه, وكمريض الإيدز المحجور عليه من قبل وزارة الصحة منعاً له من مخالطة الناس وقد بلغ به ذلك المرض مبلغاً أعاقه عن القدرة على الحج, وكمريض السرطان الذي دخل في غيبوبته التي يحصل بعدها الهلاك غالباً, ونحو هذه الأمراض فإنه من باب التوسعة عليهم يشرع لهم أن يقيموا من يحج عنهم, فعن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن فقال (( حج عن أبيك واعتمر ))"رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح" وعن الفضل بن عباس أنه كان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أمي عجوز كبيرة وإن حملتها لم تستمسك وإن ربطتها خشيت أن أقتلها فقال عليه الصلاة والسلام (( أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه؟ )) قال:- نعم قال (( فحج عن أمك ))"رواه النسائي" وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:- كان الفضل بن عباس رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر قالت يا رسول الله إن فريضة الله على(1/147)
عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال (( نعم )) وذلك في حجة الوداع"متفق عليه" ومن المعلوم أن العلة في جواز الإنابة هي العجز عن الحج بالنفس وهذا العجز له أسباب ومنها المرض وهو ما نتكلم عنه, فالمريض الذي يعجز عن الحج بنفسه يدخل في دلالة هذه الأدلة بالقياس الجلي, لأن المتقرر أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين, فالأصل هو الكبير العاجز والفرع هو المريض العاجز والعلة الجامعة هي العجز في كل, والحكم:- جواز الإنابة للمريض للاتفاق في العلة مع الكبير والله أعلم .(1/148)
المسألة الثالثة :- لقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الأصل في الطواف والسعي أن يكون الإنسان راجلاً أي على قدميه, فالنبي - صلى الله عليه وسلم - طاف وسعى على قدميه وقال (( خذوا عني مناسككم )) وبناءً فلا ينبغي للحاج أو المعتمر أن يطوف أو يسعى راكباً إلا للحاجة وللحاجات صور كثيرة, ومن هذه الصور أن يكون الإنسان مريضاً بشللٍ أو دوارٍ في الرأس أو غير ذلك من الأمراض المعيقة له عن الطواف والسعي ماشياً فإذا تحقق فيه ذلك فإنه يطوف راكباً ولا حرج عليه في هذه الحالة فعن أم سلمة رضي الله عنها أنها شكت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها تشتكي فقال (( طوفي من وراء الناس وأنتي راكبة )) قالت:- فطفت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ يصلي إلى جنب البيت وهو يقرأ { والطور وكتابٍ مسطور } "متفق عليه" وفي لفظ للنسائي أنها قدمت مكة وهي مريضة فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( طوفي وراء المصلين وأنت راكبة...الحديث )) وهذا فيه دليل على أن الطواف راكباً إنما يكون لعذر كالمرض وكبر السن ونحوه وأما بلا عذرٍ فالأفضل له أن يطوف ويسعى راجلاً وبما أن إدخال الدواب في الحرم في هذه الأزمنة ممنوع فيكون الركوب على ظهور الرجال المعروفين بذلك فيجوز ذلك للمريض توسعة من الله تعالى عليه, والحديث وإن ورد في حق أم سلمة إلا أن الحكم الشرعي إذا ثبت في حق واحد من الأمة فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, ولأن الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين والله تعالى أعلى وأعلم .(1/149)
المسألة الرابعة :- الأصل في المحظورات عدم المقارفة، ومن قارف منها شيئاً عالماً عامداً مختاراً فإنه يترتب عليها أثرها من الإثم والفدية، لكن إذا كان الإنسان قد تأذى برأسه بسبب ما فيه من القمل أو نحوه مما يوجب الأذى للرأس فإنه يجوز له في هذه الحالة أن يحلق رأسه ولكن عليه فدية ذلك فقط، فلا إثم ولا عقوبة وإنما هي الفدية فقط، وهذا تخفيف من الله تعالى لمن به أذى في رأسه قال تعالى { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيامٍ أو صدقة أو نسك } وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن مغفل قال:- جلست إلى كعب بن عمرة - رضي الله عنه - وسألته عن الفدية، فقال:- نزلت في خاصة وهي لكم عامة، حملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال(( ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى، أو ما كنت أرى الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ )) فقلت:- لا، قال (( فصم ثلاثة أيامٍ أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع )) وفي رواية (( أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقاً بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام )) فالآية والحديث دليلان على أنه لا يجوز حلق الرأس حال الإحرام إلا إن كان هناك ثمة ضرورة إلى حلقه من مرض أو لأذىً في الرأس من هوام أو صداع ونحوهما وقد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قاله كعب هنا (نزلت في خاصته وهي لكم عامة ) ويقاس عليه أيضاً فيما إذا حصل برد شديد في المشاعر وخاف الإنسان من انكشاف رأسه أن يصيبه ضرر فإنه يجوز له أن يغطي رأسه ولكن عليه الفدية لأن هذا نوع من أنواع الأذى وهذا كله من فضل الله ورحمته وتخفيفه على عباده فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً. والله أعلم .
المسألة الخامسة :- اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في وقوف المغمى عليه على أقوال:-(1/150)
فذهب الشافعي والحنابلة وابن المنذر وإسحاق وأبو ثورٍ إلى أنه لا يصح, وذهب المالكية والحنفية وبعض المحققين إلى صحته وهو القول الصحيح إن شاء الله تعالى وذلك لأن الوقوف بعرفة لا يشترط له نية تخصه فلا وجه لإبطال وقوف المغمى عليه ولأنه لا دليل على إبطاله والحكم الشرعي يفتقر في ثبوته للأدلة الصحيحة الصريحة, وحيث لا دليل يمنع من الصحة فالقول بصحة وقوفه هو المتوافق مع التأصيل ومع تيسير الله على عباده فإنه يريد بنا اليسر لا العسر والتخفيف لا الإثقال فالراجح في هذه المسألة هو صحة وقوف المغمى عليه والله أعلم .
المسألة السادسة :- لقد قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى أنه يجوز للضعفة والمرضى أن يذهبوا لرمي جمرة العقبة قبل طلوع الفجر وذلك مراعاة لحالهم فإن هؤلاء لا يستطيعون مزاحمة الناس في الصباح, ولاسيما هذه الأزمنة التي يضعف عن مزاحمة الناس فحول الرجال فضلاً عن النساء والضعفة والمرضى والصبيان, فالمريض يجوز له أن يرمي قبل الفجر, وهذا من يسر هذه الشريعة وسماحتها زادها الله شرفاً ورفعة ونسأله جل وعلا أن يختم لنا بها, والدليل على ذلك عموم قوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهذا الحكم لا أعلم فيه مخالفاً، قال ابن قدامة في المغني:- لا نعلم فيه مخالفاً, قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه:- باب من قدم ضعفت أهله بليل فيقفون بمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر, حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يوسف عن ابن شهاب قال سالم وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفت أهله فيقفون عن المعشر الحرام بالمزدلفة بليل يذكرون الله عزوجل ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع فمنهم من يقدم لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:- أرخص في أولئك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/151)
وقال البخاري أيضاً:- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن يزيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (( بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمعٍ بليل )) وقال أيضاً:- حدثنا علي, حدثنا سفيان قال:- أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول:- أنا ممن قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلية المزدلفة في ضعفت أهله .
وقال أيضاً:- حدثنا مسدد عن يحيى عن ابن جريج قال حدثني عبيد الله مولى أسماء عن أسماء أنها نزلت ليلة جمعٍ عند المزدلفة فقامت تصلي, فصلت ساعة ثم قالت:- يا بني هل غاب القمر؟ قلت:- لا, فصلت ساعة, ثم قالت:- هل غاب القمر؟ قلت:- نعم, قالت:- فارتحلوا, فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها, فقلت:- ياهنتاه, ما أرانا إلا قد غلسنا, قالت:- يا بني (( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للظعن )) .
وقال أيضاً:- حدثنا محمد بن كثير, أخبرنا سفيان حدثنا عبدالرحمن هو ابن القاسم عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت (( استأذنت سودة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة جمع وكانت ثبطة, أي ثقيلة, فأذن لها )) .
وقال أيضاً:- حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم ابن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت:- نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تدفع قبل حطمة الناس وكانت امرأة بطيئة فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس وأقمنا حتى أصبحنا نحن ثم دفعنا بدفعه, فلأن أكون استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به. وروى مسلم في صحيحه عن أم حبيبة رضي الله عنها (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث بها من جمع بليل )) .(1/152)
فهذه النصوص الصحيحة الصريحة تفيد جواز تقديم الضعفة والمرضى من جمعٍ بليل قبل الفجر لرمي جمرة العقبة, وقد تقرر في القواعد أن المشقة تجلب التيسير, وتقرر أيضاً أنه إذا ضاق الأمر اتسع, وتقرر أيضاً أن التكليف منوط بالاستطاعة, وتقرر أيضاً أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً, والعلة في تقديمهم هنا هو الضعف أو الثقل فيقاس عليه كل من تحققت فيه هذه العلة, كالنساء الحوامل والمرضى والصغار ونحوهم , وهذا من رحمة الله تعالى وتخفيفه على عباده , والله أعلى وأعلم.
المسألة السابعة :- لقد قرر لفقهاء رحمهم الله تعالى أنه يجوز للمريض الذي لا يستطيع الرمي بنفسه أن يوكل من يرمي عنه وبه قال كثير من أهل العلم, ولا شك أن هذا هو الحق في هذه المسألة لأن المتقرر في القواعد أن الواجبات منوطة بالاستطاعة فإذا كان الحاج غير مستطيع الرمي بنفسه فليرم بغيره وتقرر أنه إذا تعذر الأصل فإنه يصار إلى البدل, وفي الموطأ, قال يحيى:- سئل مالك هل يرمى عن المريض والصبي؟ فقال نعم, وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال (( حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنا النساء والصبيان, فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ))"حديث حسن صحيح" ومن المعلوم أن الرمي عن الصبيان إنما كان لعجزهم عن الرمي بأنفسهم فيقاس عليه من كان عاجزاً عن الرمي بنفسه لأن المتقرر شرعاً أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات, ولعموم قوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )) ولأنه إذا جاز للمريض العاجز عن الحج بنفسه إذا جاز له أن يوكل عنه من يحج, فلأن يجوز التوكيل في بعض أفراد الحج من بابٍ أولى, وقد تقرر في الأصول أن القياس الأولوي حجة والله تعالى أعلى وأعلم .(1/153)
المسألة الثامنة :- سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى عن سؤالٍ في الحج هذا نصه:- ما حكم استعمال الإبر المعروفة باسم ( الشرنقة ) في الحج هل يوجب على الحاج الفدية حيث إنه يخرج منه الدم بسبب ذلك؟ فأجاب بقوله ( يجوز للمحرم أن يتداوى بالإبرة المذكورة ولا يوجب عليه خروج الدم بسبب استعماله شيئاً لما روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم )) وروى البخاري في باب الحجامة للمحرم من صحيحه عن ابن بحينة - رضي الله عنه - أنه قال (( احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحي جمل - اسم موضع - في وسط رأسه )) قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح هذا الحديث:- استدل بهذا الحديث على جواز الفصد وبط الجرح والدمل وقطع العرق وقلع الضروس وغير ذلك من وجوه التداوي إذا لم يكن في ذلك ارتكاب ما نهي عنه المحرم من تناول الطيب وقطع الشعر ولا فدية عليه في شيء من ذلك ا.هـ. وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - في باب ما للمحرم أن يفعله من كتاب الأم, أخبرنا سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء وطاووس أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس رضي الله عنهما (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم )) ثم قال الشافعي:- فلا بأس أن يحتجم المحرم من ضرورة وغير ضرورة ولا يحلق الشعور وكذلك يفتح العرق ويبط الجرح ويقطع العضو للدواء ولا شيء عليه في شيء من ذلك فلو احتاط إذا قطع عضواً فيه شعر وافتدى كان أحب إلي, وليس ذلك عليه بواجب لأنه لم يقطع الشعر وإنما قطع العضو الذي له أن يقطعه ويختتن المحرم ويلصق عليه الدواء ولا شيء فيه ا.هـ. والخلاصة أن استعمال الشرنقة في الحج جائز ولا يترتب عليه الفدية والله أعلم ) ا.هـ.(1/154)
كلامه سماحته رحمه الله تعالى ورحم سائر علماء المسلمين وغفر لهم ورفع نزلهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم ويستفاد من هذا أن الحاج له حال الإحرام استعمال الحقنة ولا حرج في ذلك ولا فدية والله أعلم .
المسألة التاسعة :- لقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بأنه يجوز للمرأة أن تستعمل حبوب منع الحيض وقت الحج خوفاً من العادة ويكون ذلك بعد استشارة طبيب مختص محافظ على سلامة المرأة والله أعلم .
المسألة العاشرة :- لقد أفتت اللجنة الدائمة أيضاً في أن من أحصر عن الحج لمرضٍ لا يستطيع معه أداء الحج وكان قد اشترط في ابتداء إحرامه أن محلي حيث حبستني جاز له التحلل مطلقاً ولا شيء عليه وإن لم يشترط جاز له التحلل على الصحيح من قولي أهل العلم لكن يلزمه قبل أن يتحلل أن يذبح هدياً في الحرم, فإن عجز عنه صام عشرة أيامٍ لأنه يعتبر محصراً فإن استطاع أن يجعل إحرامه عمرة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يتحلل وجب عليه ذلك وعليه قضاء الحج مستقبلاً إذا استطاع ذلك ويهدي ذبيحة تجزئ في الأضحية ا.هـ. كلامهم رفع الله قدرهم في الدنيا والآخرة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ31/ اذكر لنا بعض التدابير المقررة في الشريعة والتي يتم بها حفظ الصحة وتتحقق بها السلامة مقرونة بأدلتها ؟
جـ/ أقول:- هذه التدابير كثيرة جداً ولا أظن أني سآتي عليها كلها ولكن سأذكر لك أغلبها إن شاء الله تعالى .(1/155)
فمن ذلك:- الإرشاد لتغطية الإناء وإيكاء السقاء وذلك لحفظ الطعام من التلوث الذي قد يضر بصحة الإنسان فعن أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال:- أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدح لبن من النقيع ليس مخمراً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ألا خمرته؟ ولو تعرض عليه عوداً )) قال أبو حميد:- إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً والأبواب أن تغلق ليلاً"رواه مسلم" وعن جابر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( غطوا الإناء وأوكوا السقاء وأغلقوا الأبواب وأطفئوا السراج فإن الشيطان لا يحل سقاءً ولا يفتح باباً ولا يكشف إناءً فإن لم يجد أحدكم إلا أن يعرض على إنائه عوداًَ ويذكر اسم الله فليفعل ))"متفق عليه" وفي رواية (( فأكفئوا الإناء أو خمروا الإناء )) وفي لفظٍ (( وخمروا الطعام والشراب )) وفي طرقٍ أخرى (( وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئاً )) وفي رواية (( غطوا الإناء وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناءٍ ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء )) وقوله في هذه الأحاديث (( غطوا )) وقوله (( أوكوا )) ونحوها لا يخفى عليك أنها صيغة أمر وقد تقرر في الأصول أن الأمر للوجوب إلا لصارف أو قرينة ولا أعلم هناك ما يوجب الانصراف عن الوجوب إلى الاستحباب, نعم ذهب أكثر أهل العلم إلى الاستحباب لكن أنت خبير بأن مذهب الأكثر ليس من جملة الصوارف, وبناءً عليه فالصحيح في حكم التغطية والإيكاء أنه للوجوب ومن قال بالاستحباب فليذكر الصارف والله المستعان .(1/156)
ومن ذلك :- مشروعية الشرب على أنفاس فلا يعب الماء عباً فعن أنس - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثاً ))"رواه مسلم" وفي رواية (( في الشراب ثلاثاً ويقول:- إنه أروى وأبرأ وأمرأ )) وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لا تشربوا نفساً واحداً كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث, وسموا إذا أنتم شربتم واحمدوا إذا أنتم فرغتم ))"رواه الترمذي" وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شرب تنفس على الإناء ثلاثة أنفاس, يحمد الله على كل نفسٍ ويشكره عند آخرهن ))"رواه الطبراني في الكبير بسندٍ حسن" فهذه الصفة في الشرب هي أفضل الصفات على الإطلاق فهي أكثر رياً وأسهل انسياباً في مجاري الطعام وأسلم من الضرر لأن دفع الماء مرة واحدة قد يحدث ضرراً كما أنه قد يسبب الشرق, قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( في هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على مجامعها فقال (( إنه أروى وأمرأ وأبرأ )) ثم ذكر من الحكمة فيه أنه لتردده على المعدة الملتهبة دفعات تسكن الدفعة الثانية ما عجزت الأولى عن تسكينه والثالثة ما عجزت الثانية عن تسكينه وأيضاً فإنه أسلم لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة ونهلة واحدة, فإنه والحالة هذه لا يروى لمصادفته لحرارة العطش لحظة ثم يقلع عنها ولما تكسر سورتها وحدتها وإن انكسرت لم تبطل بالكلية بخلاف كسرها على التمهل والتدرج وأيضاً فإنه أسلم عاقبة وآمن غائلة من تناول ما يروي دفعة واحدة ) ا.هـ.(1/157)
كلامه رحمه الله تعالى وهناك حكمة أخرى وهي أنه إذا تنفس خارج الإناء فإن ذلك يكون فيه حفظ الماء من التلوث, قال الأطباء:- إن النفس يحمل معه بعض الميكروبات التي تعلق بما تباشره فإن كان ماءً أو غيره وفضل منه شيء انتقل الميكروب إلى من يشربه وإن لم يكن ثمة ماء فالإناء عرضة للتلوث أيضاً. فما أعظم هذه الشريعة, وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء )) وفي رواية مسلم (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفس في الإناء )) زاد أبو داود (( أو ينفخ فيه )) وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب, فقال رجل:- يا رسول الله إني لا أروى من نفسٍ واحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( فأبن القدح من فيك ثم تنفس ))"حديث صحيح" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء فإذا أراد أن يعود فلينح الإناء ثم ليعد إن كان يريد ))"رواه ابن ماجه والحاكم بسندٍ حسن" فالشرب على أنفاس والمنع من النفخ فيه هو من التدابير التي تحفظ بها الصحة .(1/158)
ومن ذلك :- الأمر بغمس الذباب إذا وقع في الشراب, فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر شفاء ))"رواه البخاري وأبو داود" وزاد (( وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء )) وأخرجه أحمد في المسند من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - بلفظ (( إن أحد جناحي الذباب سم والآخر شفاء فإذا وقع في الطعام فاملقوه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء )) قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم والحكة العارضة عن لسعة, فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر فيغمس كله في الطعام فتقابل المادة السمية المادة النافعة فيزول ضررها وهذا لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم بل هو خارج من مشكاة النبوة ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ويقرر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن قوى البشر ) ا.هـ.كلامه رحمه الله تعالى, قلت:- فلا عبرة مع ثبوت النص بكلام أحد أو إنكار أحد بل كل كلام يخالف كلام الشارع فإنه مردود على صاحبه مضروب به في وجهه ولا كرامة له والله أعلم .(1/159)
ومن ذلك :- الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب سبعاً إحداها بتراب فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ))"متفق عليه" وزاد مسلم (( أولاهن بالتراب )) وله من حديث عبدالله بن مغفل - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب )) وهذا الأمر بالغسل والتتريب من باب الوجوب على القول الصحيح وذلك لأن لعاب الكلب يحمل ميكروبات تسبب بعض الأمراض وفي غسله وقاية منها, وهذا من وسائل الطب الوقائي الحديث وهذا الحكم عام في كل الكلاب المباح منها والممنوع .(1/160)
ومن ذلك :- الأمر بالاعتدال في كمية الغذاء وذم اعتياد الشبع وإن لم يحرمه مطلقاً وهذا من أعظم أنواع الوقاية والحماية وقد جاءت بها الشريعة المطهرة الكاملة على أحسن الوجوه وأكمل الأحوال, فعن المقداد بن معدي كرب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه، حسب ابن آدم أكلاتٍ يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث طعام، وثلث شراب، وثلث لنفسه )) وفي لفظٍ (( وما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه فإن غلبة الآدمي نفسه, فثلث للطعام وثلث للشراب، وثلث للنفس ))"رواه أحمد والترمذي وغيرهما بسندٍ حسن صحيح" قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( ومراتب الغذاء ثلاثة:- أحدها:- مرتبة الحاجة والثانية:- مرتبة الكفاية, والثالثة:- مرتبة الفضلة, فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه فلا تسقط قوته ولا تضعف معها, فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطنه ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس وهذا من أنفع ما للبدن والقلب فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس وعرض له الكرب والتعب بحمله, بمنزلة حامل الحمل الثقيل ) ا.هـ.كلامه رحمه الله تعالى وقد ذكر الأطباء أن المعدة إذا امتلأت بالطعام لم تجد العصارات الهاضمة مكاناً لتعمل عملها ويشعر الإنسان بعد ذلك بالتخمة وعسر الهضم, فتضعف المعدة عن أداء مهمتها الموكلة بها, والتقليل من الأكل هو هدي المؤمن على وجه العموم كما روى البخاري في صحيحه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال:- سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول (( المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء )) فالتقليل من الطعام والشراب موجب لحفظ الصحة واستقامة أعمال الأجهزة الباطنية فكل منها يؤدي عمله على الوجه المطلوب, وقديماً قيل:- البطنة أصل الداء والحمية رأس الدواء, والله أعلم .(1/161)
ومن ذلك :- الأمر بإطفاء النار عند إرادة النوم، فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم ))"متفق عليه" وهذا أمر وهو للوجوب ولا صارف يصرفه عن بابه، وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون ))"متفق عليه" وهذا نهي والأصل فيه التحريم ولا صارف يصرفه عن بابه، وتقدم في حديث جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( أطفئوا السراج... الحديث )) وهو أمر وجوب أيضاً، وفي لفظٍ (( وأطفئوا مصابيحكم )) وفي لفظٍ (( فأطفئوا المصابيح عند الرقاد فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت أهل البيت )) وهذا يتضمن حفظ النفس من التلف وحفظها من كل ما فيه عطبها ومن المعلوم أن حفظ النفس من المقاصد الشرعية الكبار, ونحن نعرف حوادث كثيرة حصل فيها حريق بسبب هذه المواقد التي نام أهلها عندها فأحرقتهم واختنقوا بسبب كثرة الدخان, ولاشك أنه يدخل في ذلك الأجهزة الكهربائية المعروفة في هذه الأزمنة بـ( الدفايات ) وقبل هذه الكتابة حصل في بيتي التماس كهربائي بسبب حرارة بعض الأسلاك مما أوجب أن السلك انصهر واحترق وأحرق بعض المتاع لكن حمانا الله منه بمحض فضله وجوده ورحمته وكرمه فالحمد لله على هذه النعمة العظيمة ومن المعلوم أن هذه النار تأكل مادة النفس الذي نتنفس به, فلربما نفدت هذه المادة من المكان الذي أنت نائم فيه من غير أن تشعر بذلك فيحصل لك اختناق فيؤدي ذلك إلى تلفك عافانا الله وإياك من كل سوء. والله أعلم .(1/162)
ومن ذلك :- الأمر بإغلاق الأبواب وكف الصبيان ففي حديث جابر المتقدم (( و أغلقوا الأبواب فإن الشيطان لا يفتح باباً )) وفيه من طريق آخر (( إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشيطان ينتشر حينئذٍ فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً )) وفي رواية (( لا ترسلوا مواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء )) وفي رواية للبخاري (( إذا استجنح الليل أو كان جنح الليل فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذٍ فإذا ذهب ساعة من العشاء فخلوهم وأغلق الباب واذكر اسم الله )) وفي رواية (( أجيفوا الأبواب واكفئوا صبيانكم عند العشاء فإن للجن انتشاراً وخطفة )) فهذه الآداب النبوية فيها الوقاية من شر الشياطين وأذاهم فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ولا يضر الصبية إذا كفهم ذووهم في الوقت المشار إليه في الحديث وهذا من باب الوقاية الصحية لا يناله إلا من اهتدى بهدي النبوة, على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام والله أعلم .(1/163)
ومن ذلك :- الحكم المترتبة على بعض آداب الخلاء, فإن هناك من آداب الخلاء ما يكون من حكمه حفظ الصحة, كالنهي عن مس الذكر باليمين حال البول أو التمسح بها ففي الصحيحين من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه هو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه ولا يتنفس في الإناء )) وفي صحيح مسلم من حديث سلمان - رضي الله عنه - قال (( نهانا - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي برجيع أو عظم )) ومن حكمة ذلك أن اليد التي تباشر الخلاء قد تنقل شيئاً من القذر والأذى واليد اليمنى هي التي يباشر بها العبد الأكل والشراب والسلام والأخذ والإعطاء فكان استخدامها لإزالة القذر أشد في التعرض للإصابة بالأضرار, فنهت الشريعة عن ذلك والحق أن هذا النهي للتحريم لأنه لم يرد له صارف, ومن ذلك النهي عن تلويث مجامع الناس كما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( اتقوا الَّلعَّانَيْنِ )) قالوا:- وما الَّلعَّانَانِ يا رسول الله؟ قال (( الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم )) وفي رواية فيها مقال (( اتقوا الملاعن الثلاثة:- البراز في الموارد وقارعة الطريق والظل )) ومن حكمة ذلك أن قضى الحاجة في مثل هذه الأماكن التي ينتفع بها عامة المسلمين فيه إيذاء لهم وهذا الأذى إما بإصابتهم النجاسة, أو الروائح الكريهة المؤذية أو انتقال الأمراض إليهم, خاصة في حال الموارد فإن المعروف لدى الأطباء أن الرياح تحمل جزئيات البراز والتي غالباً ما تكون ملوثة بالميكروبات وتلقيها في المياه المكشوفة مما قد يعرض شارب ذلك الماء للإصابة بأمراضٍ خطيرة فهو وسيلة من وسائل ذهاب الصحة فسدته الشريعة سداً محكماً لحفظ الصحة .(1/164)
ومن ذلك أيضاً :- تشريع بعض خصال الفطرة فإن من حكمة هذا التشريع حفظ الصحة, وذلك كمشروعية ختان الرجل فإن أهل العلم ذكروا أن من حكمة مشروعية ختان الرجل إزالة هذه القلفة التي لو لم تزل لاحتبس فيها شيء من البول وذلك يؤدي إلى التهاب المكان وتعفنه ومن ثم يؤدي إلى الإصابة ببعض الأمراض ولذلك فإن كثيراً من الأطباء الكفرة لما اطلعوا على الحكم والأسرار التي يتضمنها الختان صاروا يدعون إليه ويأمرون به باعتباره وسيلة مهمة لحفظ الصحة ولأنه يقي ضد تجمع إفرازات اللخن تحت جلدة القلفة التي ما تكون كثيراً مرتعاً للجراثيم واتفق الأطباء على مختلف أديانهم أن الختان سبب مانع بإذن الله تعالى من حدوث سرطان القضيب, وكذلك ختان المرأة فإنه يقي من حدوث سرطان الرحم وفيه المحافظة على بقاء هذا الموضع نظيفاً سالماً من كل آفة, وفي الختان حماية بإذن الله تعالى من كثرة الالتهابات في المجاري البولية, بل وقرأت لبعض الأطباء أن من فوائد الختان أنه يقي بإذن الله تعالى من مرض فقد المناعة ( الإيدز ) فلله الحمد والمنة أن جعلنا مسلمين ونسأله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأن يختم لنا به, ومن ذلك أيضاً مشروعية الاستحداد كما ثبت بذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( خمس من الفطرة )) وذكر منها(( الاستحداد )) وفي الصحيح - أعني صحيح مسلم - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( عشر من الفطرة )) وذكر منها (( وحلق العانة )) وفي هذا من الحكم والأسرار مالا يعلمه على وجه التفصيل إلا الله تعالى, وفيما يخص الطب وحفظ الصحة فيه أن الشعر إذا كثر صعب حينئذٍ تنظيف موضعه وأصبح مجمعاً للأوساخ ونمو الحشرات الضارة كالقمل ونحوه وتصدر منه الروائح الكريهة العفنة التي تكون ضارة بصحة الإنسان بسبب اجتماع العرق وكثرته تحت هذه الشعور ومن ذلك أيضاً مشروعية قص الأظفار كما ذكر في(1/165)
الحديثين السابقين وفيهما (( وقص الأظفار )) ذلك لأن الأظفار إذا طالت تجمعت تحتها القاذورات التي تنزل في الطعام خاصة إذا كان حاراً وربما كان بعضها لا ينزل مع غسل اليد ثم تدخل بعد ذلك في بطن الإنسان وهذا فيه ضرر بيّن, وقد ثبت لدى الأطباء حديثاً أن إطالة الأظفار من وسائل نقل الأمراض المعدية وبيان ذلك أن الأيدي تكثر مباشرتها للأشياء من ترابٍ ومواد مختلفة بل وحيوانات ونحو ذلك ومن العادة أن يغسل الإنسان يديه بعد فراغه من عمله وقبل تناول الطعام ولكن الذي يحدث أن بعض هذه الأحياء الدقيقة والتي تكون قد انتقلت لليدين أثناء العمل تختفي تحت الأظفار فلا يأتي عليها الماء والمطهرات فضلاً عما يكون من احتمال بعض هذه الكائنات لمواد التنظيف لكنها إذا أدخلت في طعام حار نزلت مع الأوساخ التي بدورها تنزل في الطعام فيأكله الآكل فتدخل في بطنه فيترتب على ذلك من الأمراض وذهاب الصحة مالا يعلمه إلا الله تعالى فسدت الشريعة هذه الوسائل فأمرت بالاستحداد وبالختان وقص الأظفار فهذا من جملة التدابير الواقية من كثير من الأمراض بإذن الله تعالى , ومن ذلك أيضاً مشروعية السواك والأدلة فيه كثيرة جداً وقد تجلى للأطباء حديثاً أهمية السواك وآثاره الصحية وفي هذا الصدد أثبتت التجارب العلمية الحديثة أن إهمال تنظيف الفم والأسنان لإخراج ما بينها من الطعام يؤدي إلى تعفن تلك الفضلات بين الأسنان وتكاثر الميكروبات الضارة التي تهاجم الأسنان واللثة وتصاب اللثة إثر ذلك بالالتهابات الضارة والبؤر الصديدية التي سرعان ما تنتقل إلى جذور الأسنان فتصيبها بالتسوس ثم تنتقل هذه الميكروبات من الفم إلى المعدة ثم إلى الدم مما يؤدي إلى احتمال الإصابة لأمراض الجهاز الهضمي وأمراض الغدد والمفاصل وغير ذلك فنظافة الأسنان والاعتناء بها يجنب الإنسان بإذن الله تعالى أدواء مزعجة كالتهابات شبكة العين والتهابات الجيوب الأنفية والتهابات جدار المعدة وغير(1/166)
ذلك وكل ذلك مقرر عند الأطباء, فسبحان من أودع هذه الشريعة هذه الحكم والأسرار مما يجعلنا نقول بأعلى صوتنا:- إنه لا صلاح لهذا العالم ولا فلاح إلا بهذه الشريعة والله أعلم .
ومن هذه التدابير أيضاً :- تحريم أكل النجاسات وهذا بالاتفاق قال تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } والنجاسات أعيان مستقذرة شرعاً فهي من الخبائث حساً ومعنىً, وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال:- لما كان يوم خيبر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طلحة فنادى (( إن الله ورسوله ينهياكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس )) وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي ثعلبة - رضي الله عنه - قال (( حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية )) وعن زاهر الأسلمي قال:- إني لأوقد تحت القدور بلحوم الحمر إذ نادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن لحوم الحمر ))"رواه البخاري" وقال تعالى { حرمت عليكم الميتة ولحم الخنزير...الآية } وقال تعالى { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعمٍ يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أُهل لغير الله به } والله أعلم .(1/167)
ومن هذه التدابير أيضاً :- الأمر بمجانبة أصحاب الأمراض المعدية والتباعد عنها فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا عدوى, وفر من المجذوم فرارك من الأسد ))"رواه البخاري" وروى مسلم في صحيحه بسنده من حديث عمرو ابن الشريد عن أبيه قال:- كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إنا قد بايعناك فارجع )) ولأحمد في المسند من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تديموا النظر إلى المجذومين )) ورواه ابن ماجه وهو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده, وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث أنه قال (( إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها )) وذلك في عدة أحاديث فالشريعة حفظت الصحة بمنع الصحيح من مخالطة السقيم إذا كان سقمه مما يعدي والله أعلم. فهذه بعض التدابير الوقائية من المرض , وليس هذا من باب الحصر وإنما من باب التمثيل فقط, والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ32/ كيف نجمع بين الأحاديث التي تثبت تأثير العدوى وبين الأحاديث التي تنفي تأثيرها ؟(1/168)
جـ/ أقول:- أولاً لابد أن تعرف أنه لا يمكن أبداً أن يتعارض نصان صحيحان مطلقاً, ونحن نباهل على ذلك, فوالله الذي لا إله غيره إنه ليس بين أدلة الشريعة الصحيحة أي اختلاف أو اضطراب أو تناقض, بل كلها حق وصدق وعدل في منطوقها ومفهومها ولوازمها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لأنها تنزيل من حكيم حميد, وكل ما يدعى من وجود تعارض بين دليلين فإنما هو شيء يثور في ذهن الناظر لا في ذات الدليل - حاشا وكلا - بل نحن المقصرون في البحث والنظر والتحقيق فالقصور فينا لا في الأدلة, والعيب فينا لا في الأدلة رفع الله منارها وجعلنا وإياك من أتباعها, وما ذكر في السؤال إنما هو فرع من فروع هذه القاعدة المباركة ولنا فيها مؤلف مستقل ذكرنا فيه طرفاً كبيراً من الأدلة التي يدعي بعض المقصرين في البحث أن بينها تعارض وبينا وجه الجمع بينها بالقواعد المقررة عند أهل العلم رحمهم الله تعالى, وبيان الجواب عن هذا السؤال أن يقال:-(1/169)
إن حديث (( لا عدوى )) إنما ينفي تأثير العدوى ابتداءً, وحديث (( فر من المجذوم )) يثبت تأثير العدوى انتقالاً, فالعدوى عندنا قسمان:- عدوى ابتدائية وعدوى انتقالية, فالعدوى الابتدائية هي المقصودة بالنفي وهو الاعتقاد الذي كان في الجاهلية فإنهم كانوا يعتقدون أن العدوى مؤثرة بذاتها أي بلا سبق القدر, فجاءت الشريعة بنفي هذا الاعتقاد بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا عدوى )) ولكن هناك العدوى الانتقالية ونعني بها انتقال المرض من السقيم إلى الصحيح بقدر الله تعالى لا بذاتها, وهذا قد أثبتته الأدلة ولذلك فقد روى البخاري وغيره من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا عدوى...(1/170)
الحديث )) وفيه:- قال أعرابي:- يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( فمن أعدى الأول )) وهذا حل للإشكال الذي ورد في ذهن ذلك الأعرابي - رضي الله عنه - لأنه ظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال (( لا عدوى )) ظن أنه يقصد العدوى الانتقالية فأزال عنه الإشكال بقوله (( فمن أعدى الأول )) أي إنه لا يريد الانتقالية المسئول عنها وإنما يريد الابتدائية, فيجب على المسلم أن يعتقد الاعتقاد الجازم الذي لا يعتريه شك بوجهٍ من الوجوه أن المرض ابتداءً من الله تعالى وأن انتقاله من المريض إلى الصحيح لا يكون أبداً إلا بقدر الله تعالى, وهذا الفرع مخرج على قاعدة الأسباب عند أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم, وهي أن الأسباب مؤثرة لكن لا بذاتها وإنما بجعل الله لها مؤثرة, ومخالطة الصحيح للمريض من أسباب العدوى لكنه لا يؤثر بذاته وإنما يؤثر إذا شاء الله تعالى ذلك وقدَّره, وانظر كيف جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين النوعين بقوله عليه الصلاة والسلام (( لا عدوى, وفر من المجذوم فرارك من الأسد ))"رواه البخاري" فقوله (( لا عدوى )) فيه نفي الاعتقاد الجاهلي أن العدوى مؤثرة بذاتها, وقوله (( وفر من المجذوم )) فيه إثبات العدوى الانتقالية التي هي في ذاتها خاضعة لقدر الله تعالى ومشيئته جل وعلا وحكمته, وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يوردن ممرض على مصح )) وفي رواية (( لا توردوا الممرض على المصح ))"متفق عليه" وبهذا التخريج يتضح وجه الجواب ولا يبقى بين الأدلة أي إشكال أو اضطراب والله تعالى أعلم وأعلى .
سـ33/ ما حكم استخدام الأدوية المشتملة على الكحول؟ مع بيان ذلك بالأدلة والقواعد ؟(1/171)
جـ / أقول:- لابد أولاً أن تعرف - بارك الله فيك - أن المسلم له شريعة تحكمه فليس له حرية التداوي بما شاء أو التصرف كيفما شاء بل لا بد من الالتزام بالقيود
الشرعية والضوابط المرعية التي لا خير ولا فلاح ولا صلاح للفرد والمجتمع والدول إلا بالالتزام بها فمتى ما كان هذا الفعل أو هذا الدواء فيه شيء من المخالفات الشرعية فإنه لا يجوز للمسلم أن يفعله أو يتعاطاه, فلابد من تقرر ذلك قبل الدخول في تفاصيل الإجابة, إذا علمت هذا فاعلم أن مادة الكحول من المواد المسكرة, بل هو روح الخمر وأساسها وهو سبب الإسكار فيها, ولا ننظر أبداً إلى المادة التي تستخلص منها هذه الكحول, فإن الحكم واحد لا يختلف لأن الكحول تأخذ في الشريعة حكم الخمر لأنها خمر بكل صورها ومختلف أشكالها سواءً أكانت من حبوب وثمار, أو كانت مستخلصة من الطرق الكيميائية من مواد أخرى فالحكم واحد, وأنت خبير أن تحريم الخمر صار من الأحكام التي تعلم من الدين بالضرورة ومن أنكر تحريمها فإنه كافر مرتد يستتاب ثلاثة أيامٍ فإن تاب وإلا قُتِلَ كافراً, قال تعالى { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } وقد ثبتت الأدلة الكثيرة الشهيرة من السنة المتواترة بتحريمها وقد أجمع أهل الإسلام على أن الخمر من المحرمات, وبناءً على ذلك فإنه يحرم إدخال الكحول في صناعة الدواء ويحرم تناول الدواء المشتمل على الكحول الذي لم تستحل عينه فيه وتجب الاستعاضة عنه بغيره من الأدوية المباحة ولا خيار للمسلمين في هذا وأي دواء قد اشتمل على الكحول فإنه لا يجوز للمسلم أن يتداوى به فلا يجوز التداوي به ولا بيعه ولا شراؤه ويجب على ولاة الأمر إتلافه, بل ويجب على من علم في دواءٍ أنه يشتمل على شيء من هذه الكحوليات أن يتلفه وأن يكتب فيه(1/172)
لأهل العلم ليكتبوا فيه لوزارة الصحة, ويجب على القائمين على استيراد الدواء أن يتقوا الله في المسلمين وأن لا يدخلوا للبلاد شيئاً من هذه الأدوية الكحولية, من غير فرق بين كون نسبة الكحول فيه قليلة أو كثيرة, كل ذلك ممنوع المنع الأكيد ومحرم التحريم الشديد طرداً للقاعدة المتقررة بالأدلة أنما ما أسكر كثيره فالقليل منه حرام, وكل دليل من القرآن يحرم الخمر فإنه دليل على تحريم هذا الدواء وكل دليل من السنة يحرم الخمر فإنه دليل على تحريم هذا الدواء لكن أنت خبير أن هذا الحكم فيما إذا كانت نسبة الكحول لم تستهلك الاستهلاك التام بحيث لم يبق لها لون ولا طعم ولا ريح, فإن هي قد استهلكت وذهبت أوصافها فإنه لا حكم لها تكون حينئذٍ كالمعدومة والمعدوم لا حكم له أما إذا كانت مادة الكحول فيه لا زالت باقية فإنه يحرم التداوي به لأنه خمر وقد تقرر في الضوابط أنه لا يجوز التداوي بالحرام, فإن قلت:- أو لا يجوز التداوي به للضرورة؟ فأقول:- إن أهل العلم قرروا أن التداوي ليس يدخل تحت باب الضرورات, فلا يدخل تحت القاعدة التي تقول:- الضرورات تبيح المحظورات ويقال أيضاً:- إن الكحول قد وضعت في بعض الأدوية قصداً للإفساد وإلا فهناك من المواد المباحة ما يقوم بأحسن مما تقوم به, فلا ضرورة لها أصلاً لأن هناك من البدائل المباحة المتوفرة ما يغني عنها ولله الحمد والمنة, وأضف إلى هذا أن الأدوية الكحولية تعطى لبعض المرضى الذين لم يبلغ بهم المرض رتبة الحاجة فضلاً عند رتبة الضرورة وذلك لتوسع بعض الأطباء - هداهم الله - في صرف هذه الأدوية فصارت هذه الأدوية عامة لكل أحد, بل إن كثيراً من الأطباء - هداهم الله تعالى - قد يصرف لبعض الحالات الوقائية, فمقابلة لهذا التوسع فلابد من سد هذا الباب السد المحكم القوي, والإنكار على من يجلب هذه الأدوية لبلاد المسلمين, والإنكار على الصيدليات التي قد علم عنها بيع مثل هذه الأدوية, فإنها داء وليست(1/173)
دواء, ومن المعلوم لدى أهل العلم أن الخمر محرمة التحريم المطلق والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ34/ ما الحكم في العمليات التي يتم فيها تغيير الجنس، فيتم فيها تحويل الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر؟ مع بيان ذلك بالدليل ؟
جـ/ أقول:- أسألك بالله العلي العظيم أن تستعيذ بربك دائماً وأبداً من زيغ القلوب وذهاب الحياء واتباع خطوات الشيطان، وما كنا نظن والله أننا نحتاج إلى إجابة مثل هذا السؤال لولا أننا بعد التتبع لمثل هذه الأخبار وجدنا أنها تسربت هذه الأفكار إلى ديار المسلمين وقد تم بالفعل عدد من هذه العمليات في ديار المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكان لابد من البحث في حكمها، ولم نجد ولله الحمد تعباً في وجوده لأنه من الواضح بمكان، وهو التحريم القاطع الذي لا يجوز أن يعتري قلبك منه أدنى شك، وأقسم بالله العظيم أنه حرام ولا أقول ذلك من باب الهوى بل مهتدياً بنور الدليل:- وذلك من عدة أوجه :-
الأول :- قوله تعالى { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } ووجه الدلالة أن الآية تضمنت تحريم تغيير خلق الله تعالى على وجه العبث, وهذا النوع من العمليات الجراحية يتم فيها تغيير خلق الله تعالى على وجه العبث واتباع الشهوات وتحقيق المطالب الشيطانية لأن الطبيب الجراح الآثم يقوم باستئصال الذكر والخصيتين تماماً وذلك في حالة تحويل الذكر إلى أنثى أو يقوم باستئصال الثديين وإلغاء القناة التناسلية الموجودة في الأنثى في حالة تحويلها إلى ذكر, فهذه الآية تحرم ذلك كله وتخبر أنه من عمل الشيطان ففيها التحريم القاطع لعمليات تحول الجنس المجردة من أي غاية علاجية .(1/174)
الثاني :- أن المتقرر عند أهل الإسلام وجوب الإيمان بالقضاء والقدر وأن الصبر على المقدور واجب, قال تعالى { وكان أمر الله قدراً مقدوراً } وقال تعالى { إنا كل شيء خلقناه بقدر } وإن التسخط على القدر من علامات الهلاك وهذه العمليات هي مظهر من مظاهر التسخط على القدر فإنه إذا قدر الله تعالى أن يكون ذكراً فيطلب أن يتحول إلى أنثى فهذا من التسخط على قدر ربه جل وعلا وكذلك الشأن في التي قدر الله تعالى أن تكون أنثى فلا ترضى بذلك وتطلب أن تكون ذكراً فإن هذا من باب التسخط على قدر ربها, والتسخط على القدر لا يجوز فإذا كان شق الجيب ونتف الشعر ولطم الخد حرام وكبيرة من كبائر الذنوب لأنه تسخط على القدر فكيف بتغيير الجنس أصلاً؟ لاشك أنه محرم من باب أولى لأنه من باب التسخط, والواجب على المسلم تجاه القدر التسليم والصبر والرضا, والتسخط شعبة من شعب الكفر بالقضاء والقدر نعوذ بالله من سخطه وأليم عقابه, وأنت خبير بأن من تسخط على القدر فإنه يوجب لنفسه سخط العزيز الجبار جل وعلا قال عليه الصلاة والسلام (( فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط )) والله المستعان .(1/175)
الثالث :- قال تعالى { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن } ووجه الدلالة من هذه الآية أن الله جل وعلا قد خص الرجال بمميزات معينة, وأيضاً قد خص النساء بمميزات معينة وجعل لكل خصائصه, ويأمر الله تعالى في هذه الآية بأن يقنعوا بما خصهما الله تعالى وأن يرضوا به ولا يتمنى أحدهما ما هو من خصائص الآخر لأن هذا التمني قدح في الذي قدر هذا التخصيص, فهذا التمني قدح في الباري جل وعلا, والعمليات التي يتم فيها تغيير الجنس هي في حقيقتها تمني أحد الجنسين ما هو من خصائص الآخر فالمرأة تتمنى ما هو من خصائص الرجال فتريد بهذه العملية أن تكون ذكراً لتنال خصائص الذكورية, والذكر يتمنى ما هو من خصائص الإناث فيريد بهذه العملية أن يكون أنثى لينال خصائص النساء, وهذا كله منهي عنه بقوله { ولا تتمنوا } وهذا نهي وقد تقرر في الأصول أن النهي يفيد التحريم إلا لصارف ولا نعلم صارفاً يصرف هذه الآية فالأصل هو البقاء على التحريم, ونقول أيضاً:- إن النهي هنا عن مجرد التمني, أي لا يجوز للرجل أن يسترسل مع أمنية ما هو من خصائص النساء, ولا يجوز للمرأة أن تسترسل مع أمنية ما هو من خصائص الرجل, فإذا كان النهي عن مجرد هذا التمني فكيف الحكم إذاً في حال من تجاوز سور الأماني إلى التنفيذ الفعلي والخضوع للأطباء ليجروا له هذه العملية الأثيمة الشيطانية؟ لاشك أن التحريم حينئذٍ أشد والمنع آكد, ولكن أكثر الناس لا يعلمون .(1/176)
الرابع :- روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عزوجل )) ووجه الدلالة منه أن هذه الأفعال المذكورة في الحديث قد لعن فاعلها وفي آخر الحديث ذكر العلة في التحريم وهو قوله (( المغيرات خلق الله )) والمرأة مع هذه الأفعال لا تزال توصف بأنها امرأة, فكيف بحال من تسعى إلى تغيير جنسها بالكلية من أنثى إلى ذكر؟ إذا كان تفليج الأسنان والوشم وقطع شعرات من الحاجب توجب اللعن فكيف بمن تستأصل ثدييها ورحمها وتلغي القناة التناسلية الأنثوية, مع زرع جزء من الجلد بين فخذيها وبناؤه على هيئة قضيب؟ لاشك أن اللعن سيكون أشد ودخولها فيه من بابٍ أولى وقد تقرر عند أهل العلم رحمهم الله تعالى أن القياس الأولوي حجة فكلما كانت صورة التغيير أشد كلما كان اللعن أشد والتحريم أوكد والله المستعان .
الخامس :- روى البخاري في صحيحه بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (( لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال )) ووجه الدلالة من هذا الحديث واضحة وذلك أن هذا الحديث قد دل على حرمة تشبه أحد الجنسين بالآخر وأن هذا الفعل من كبائر الذنوب لأنه قد لعن فاعله والضابط يقول:- كل ذنب رتب على فعله لعنة فإنه من الكبائر, وهذا النوع من الجراحة سبب يتوصل به لتحصيل هذا الفعل المحرم الذي يعتبر من الكبائر بل إن تحريمها من باب أولى وآكد وأشد, لأن الرجل في هذه العملية يريد أن يكون امرأة حقيقية باطناً وظاهراً, وهذا أولى بالتحريم, والمرأة كذلك لا تقصد بمجرد التشبه بالرجل بل إنها تريد أن تكون رجلاً حقيقة, وهذا أولى بالتحريم, وهذا الحديث وما قبله نص في هذه المسألة والله أعلم .(1/177)
السادس :- الأحاديث التي تنهى عن الخصاء كحديث عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - أنه قال يا رسول الله إني رجل تشق علي العزبة في المغازي فتأذن لي في الخصاء فأختصي؟ قال (( لا ولكن عليك بالصيام فإنها مخفرة )) وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال (( رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا )) "متفق عليه" وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال (( كنا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس لنا شيء فقلنا:- ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك, ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب ثم قرأ علينا { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } ))"متفق عليه" والأحاديث في النهي عنه كثيرة ووجه الدلالة منها أن يقال:- أنه إذا كان التحريم متعلقاً بالخصاء الذي فيه تغيير من مهمة العضو فقط فكيف بالله عليك بالتغيير الكامل لاشك أنه أولى بالتحريم وهذا قياس أولوي وهو حجة كما قررنا في موضعٍ آخر, والله أعلم .
السابع :- أن المتقرر شرعاً أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام وهذا النوع من الجراحة يشتمل على استباحة المحظور شرعاً دون إذن الشارع إذ فيه كشف كل من الرجل والمرأة عن موضع العورة ويتكرر ذلك مراتٍ عديدة وقد دلت الأدلة الشرعية على حرمة ذلك الكشف ولم يوجد في هذه الجراحة دافع ضروري ولا حاجة لهذا الكشف أصلاً فحيث كانت هذه الجراحة الآثمة تفضي إلى هذا المحظور فإنها تكون محظورة كذلك لأن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام والله أعلى وأعلم .(1/178)
الثامن :- أن القول بجواز هذه العمليات الآثمة الإجرامية فيه مفسدة عظيمة غير ما ذكرناه سابقاً وهو أنه - أي هذا التغيير - مفضٍ إلى تعطيل قطع النسل المأمور بتكثيره شرعاً, فإن الرجل إذا غير جنسه إلى أنثى فهل سيقوم بكل ما تقوم به الأنثى من الحمل والولادة والتربية؟ بالطبع لا, وإذا غيرت الأنثى جنسها إلى ذكر فهل ستقوم بما يقوم به الرجل من الوطء ونحو ذلك؟ بالطبع لا, بل بهذا التغيير سيفقد خصائص الرجولة ولن يتحصل به على خصائص الأنثى, وكذلك الأنثى ستفقد خصائص الأنثى ولن تتحصل به على خصائص الذكر, فيبقى الذكر بعد هذا التغيير لا هو ذكر حقيقة ولا هو أنثى حقيقة وتبقى الأنثى بعد التغيير لا هي أنثى حقيقة ولا هي ذكر حقيقة فلا الذكر يستطيع بعد التغيير على الوطء لأنه قد قطع عضوه وخصيتيه تماماً, ولا الأنثى تستطيع أن تحمل أصلاً لأنها قد استأصلت الرحم وما يتعلق به, وهذا يفضي إلى انهيار المجتمع, لأن هذا المجتمع مكون من أفراد, من ذكرٍ وأنثى فإذا تخلى كل عن خصائصه فإن المجتمع سينهار ويضعف وتذهب بذلك هيبة الأمة, ونحن مأمورون أن نقف في وجه كل ما من شأنه أن يوصل الأمة إلى هذه الهاوية التي فيها دمار الأمة وانهيار قواها وتفصم عراها وذهاب هيبتها, وانظر كيف توصل الشيطان إلى قلوب هذه الطوائف فإنه لم يكتف منهم بتحديد النسل فقط بل تدرج بهم حتى وصل بهم إلى تغيير الجنس حتى لا يحصل نسل أصلاً, وهذه المفاسد كفيلة بأن تجعلنا نحكم على هذه العمليات الآثمة الظالمة الجائرة بالتحريم القطعي, بل إن مفسدة منها كفيلة بذلك فكيف بها مجتمعة فاللهم نعوذ بك من زيغ القلوب بعد هداها والله أعلم .(1/179)
التاسع :- أن القول بجواز هذه العمليات الظالمة الملعونة مفضي إلى الاضطراب في الأحكام الشرعية على من تم تغيير جنسه, فالذكر بعد تغيير جنسه إلى أنثى فهل يأخذ أحكامها في الحجاب والتزويج والولاية والميراث ونحو ذلك, أم أنه سيبقى على أحكامه؟ وكذلك الأنثى إذا حولت جنسها إلى ذكر فهل ستأخذ أحكامه في ذلك أم ستظل على أحكامها؟ وستكثر المسائل والجدل وتضطرب الأمور, فإذا كنا مع بقاء كلٍ على جنسه قد لا نستطيع في كثير من الأحيان أن نضبط بعض المسائل لوعورة الإشكال فيها فكيف بعد هذا التغيير الآثم الظالم؟ وهذه المفسدة تضرب في أصل التشريع وقد تقرر في القواعد أن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, وبناءً عليه فهذا التغيير مفسدة من كل وجه وليس فيه وجه من وجوه المصلحة, فحيث كان مفسدة خالصة فإنه ينهى عنه ويسد بابه من كل وجه ولا يسمح بفتحه أبداً, ولا يجوز أصلاً أن تكون هذه المسألة داخلة تحت باب الحوار والمناقشة لأنها قد فصلت بالدليل من الكتاب والسنة والمعقول الصريح المتوافق مع النقل الصحيح, ومع بحثي في هذه المسألة في كثير من كتب الشرع التي تكلمت عن الطب لم أر مخالفاً في هذه المسألة, ففي حدود علمي أقول:- وتحريم هذه العمليات لا أعلم فيه مخالفاً من علماء الشريعة فإذا اطلعت أنت على مخالفٍ فيها فالحق فيها ما ذكرناه سابقاً بالأدلة التي قررناها لك في الجواب, وإذا لم يكن فيها مخالف فيكون الإجماع من جملة الأدلة على تحريم هذه العملية, لكننا لا ندعي لأنها مسألة حادثة ودعوى الإجماع فيها متعذرة إلا بكلفة لكن يسعني أن أقول:- لا أعلم خلافاً في تحريمها حسب ما اطلعت عليه, وهذا ما أعاننا الله تعالى عليه من الجواب وقد يظهر بالتتبع أكثر من ذلك لكن هذا ما حضرني حال هذه الكتابة والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ35/ ما الأحكام الطبية المختصة بباب المعاملات؟ مع بيانها بالأدلة والتفصيل ؟(1/180)
جـ/ أقول:- هذا سؤال واسع يجمع في إجابته فروعاً كثيرة ومن باب التيسير والتسهيل أجعل هذه الفروع في مسائل :-
{المسألة الأولى} لاشك أن الجنون نوع مرض:- وقد بني الفقهاء رحمهم الله تعالى على وجود الجنون أحكاماً كثيرة, منها:- عدم صحة بيعه وشرائه ومنها:- عدم صحة إجارته واستئجاره, ومنها:- عدم صحة الحوالة عليه ومنه, ومنها:- عدم صحة ضمانه وكفالته أي لا يصح أن يكون كفيلاً ولا ضامناً, ومنها:- عدم صحة وصيته, ومنها:- عدم صحة إهدائه وهبته, أي لو أهدى لأحدٍ أو وهب أحداً فإن ذلك لا يصح, ومنها:- عدم صحة إقراضه والاستقراض منه, ومنها:- عدم صحة وكالته, وتوكيله, أي لا يصح أن يكون وكيلاً لأحد, ولا يصح أن يوكل هو أحداً, ومنها:- عدم صحة الصلح لو صدر منه, ومنها:- عدم صحة الاستعارة منه أو إعارته شيئاً أي لا يصلح أن يكون معيراً ولا مستعيراً, ومنها:- عدم صحة توديعه أو الاستيداع منه, أي لا يصلح أن يكون مُوَدِّعاً ولا مُودَعاً, ومنها:- عدم صحة وقفه, ولا صدقته, ومنها:- عدم صحة توليه عقد النكاح بنفسه. وكل ذلك لا يصح منه لأن من شرطه صدوره ممن له أهلية التصرف, أي أن يكون من يتولى هذه الأشياء جائز التصرف, والمجنون ليس بجائز التصرف ولا يملك هذه الأهلية .
{المسألة الثانية} المريض, فإن له أحكاماً عندنا كثيرة في باب المعاملات :-
منها :- جواز الخيار, وهو خيار المسترسل الذي يخدع في البيوع كثيراً لنقص عقله بسبب بعض الآفات, أي بسبب مرض في عقله, ويستدل على ذلك بحديث حبان بن منقذ أنه كان يخدع في البيوع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إذا بايعت فقل لا خلابة )) وجعل له الخيار ثلاثة أيام .(1/181)
ومنها :- الحجر على المريض مرضاً يتوقع معه الموت وهو الذي يسميه ( المرض المخوف ) فإن تبرعات صاحب ذلك المرض محجور عليها إلا في الثلث فقط أي لا يجوز له أن يتصرف إلا في ثلث ماله, فلو تبرع بأكثر من ذلك لما جاز ذلك إلا بإذن الورثة, ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم ))"رواه ابن ماجه والدارقطني بسندٍ حسن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - " ولأنه في حال المرض المخوف يغلب موته به فكانت عطيته من رأس المال تجحف بالوارث فردت إليه الثلث كالوصية .
ومنها :- أن صاحب المرض المخوف معه الموت لو طلق فإن طلاقه غير معتبر لأنه يغلب على الظن هنا أنه ينوي حرمان زوجته المطلقة من ميراثها, فلم يقع طلاقه في هذه الحالة معاملة له بنقيض قصده .
ومنها :- في باب الشركات فإن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد نصوا على أن الإنسان إذا شارك غيره شركة أبدان ثم مرض فإنه يلزمه إقامة غيره إذا طلب شريكه ذلك ذلك لأن هذا النوع من الشركات يقوم على جهد كل واحدٍ منهما, فإذا مرض أحدهما انفرد الآخر بالعمل مع اشتراكهما في الربح, وهذا ظلم فإذا قال الشريك:- أقم من يعمل بدلك, وجب على المريض أن يقيم بدله من يعمل عنه .
{المسألة الثالثة} باب الحجر فإن الحجر يكون على المعتوه والسفيه والعته والسفه نوعان من الأمراض, فلا يُمَكَّن المعتوه والسفيه من التصرفات المالية, ويكون وليهما هو الذي ينظر في أموالهم, وذلك لأنهم لو تركوا يتصرفون في أموالهم مع حلول هذه الآفات بعقولهم لتلفت كل أموالهم, فحفظاً لأموالهم حجرت الشريعة عليهم حتى تزول هذه العلة, فإذا كمل عقل المعتوه وزال السفه بالرشد دفعت إليهم أموالهم بعد إيناس الرشد منهم, قال تعالى { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً...الآية بعدها } .
{(1/182)
المسألة الرابعة} في باب الوصايا, فإن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد نصوا على أنه يجب على المريض مرضاً مخوفاً أن يكتب الوصية إذا كان في ذمته حقوق مرسلة غير موثقة, وذلك حتى لا تضيع حقوق الناس, ولأن هذه الحقوق المرسلة لا تعرف إلا بتوثيقها بكتابة الوصية, فكتابة الوصية حينئذٍ واجبة لأن حفظ حقوق الناس وأدائها إليهم من الواجبات ولا يتم ذلك في هذه الحال إلا بالوصية فتكون واجبة لأن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
{المسألة الخامسة} لقد نص الفقهاء رحمهم الله تعالى أن الإنسان إذا كان لديه عبداً فوجده مريضاً مرضاً يقعده عن العمل ولم يكن المشتري يعلم بهذا المرض وكتمه البائع فإن وجود هذا المرض في العبد من العيوب التي يثبت بها خيار العيب فيخير المشتري بين أخذ الأرش أي الفرق بين قيمة العبد صحيحاً وبين قيمته بهذا المرض أو يرد العبد ويأخذ ما دفعه كله, فالمرض في العبد إذا كان يقعده عن العمل أو يوجب له عدم إتمام العمل من جملة العيوب التي يثبت بها الخيار عند الفقهاء رحمهم الله تعالى.
{المسألة السادسة} لقد قرر الفقهاء رحمهم الله تعالى أن أقوال المغمى عليه يطبق عليها أحكام النائم وبما أن أقوال النائم ليست بمعتبرة شرعاً فكذا أقوال المغمى عليه وبناءً عليه فالمغمى عليه لا يصح منه بيع ولا شراء ولا عتق ولا إسلام ولا ردة ولا نكاح ولا طلاق ولا وصية ولا مؤاخذة عليه البتة فيما يتفوه به وهو مغمىً عليه ولا يصح منه الإقرار, ولا الوقف ولا الصدقة ولا العطية أو الهبة ولا الحوالة, ولا غير ذلك من التصرفات, لأن هذه الأشياء يشترط لها الأهلية والمغمى عليه قد فقد أهلية التصرف لوجود ما غطى على عقله من عارض الإغماء والإغماء نوع مرض كما هو معروف .
سـ36/ ما حكم التدخين؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
جـ/ أقول:- التدخين محرم ولاشك في تحريمه والدليل على تحريمه الكتاب والسنة والقياس والاعتبار الصحيح وبيان ذلك فيما يلي :-(1/183)
أما الكتاب فقوله تعالى { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } فقوله { الخبائث } جمع دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية وإذا دخلت الألف واللام الاستغراقية على الجمع أكسبته العموم, فيدخل في ذلك كل الخبائث, والدخان من الخبائث في تركيبته ومن الخبائث في آثاره ومن الخبائث في رائحته ولاشك في أنه معدود من جملة الخبائث, فحيث كان من الخبائث فإنه يكون حراماً لأنه قال { ويحرم عليهم الخبائث } ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } وبإجماع الأطباء العقلاء الثقات أن التدخين من أسباب الهلاك العاجل أو الآجل المهم أنه من أسباب الهلاك, وكل ما كان من أسباب الهلاك فإن العبد منهي عن سلوكه لأن العبد مؤتمن على نفسه فلا يجوز له أن يعرضها لما فيه هلاكها وعطبها ومثله قوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً } والتدخين سبب من أسباب قتل النفس لأنه سبب رئيس لأمراض السرطان المهلكة كما قرره الأطباء المسلمون والكفار على حدٍ سواء, ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } وقوله تعالى { ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً } والإسراف له صور كثيرة ومن صوره إنفاق المال فيما لا طائل من ورائه ولا مصلحة تجنى منه, فكيف بإنفاق المال فيما ضرره في العاجل والآجل, لاشك أنه يدخل في النهي من بابٍ أولى والتدخين بشهادة الأطباء بل والمدخنين أنفسهم أنه لا ثمرة تجنى من ورائه ولا طائل من ورائه فضلاً عن أنه من أسباب الدمار الأسري والاقتصادي فإنفاق المال فيه من الإسراف والتبذير المنهي عنهما شرعاً, ومن الأدلة أيضاً ما رواه أبو داود في سننه قال:- حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال (( نهى رسول الله - صلى(1/184)
الله عليه وسلم - عن الدواء الخبيث ))"حديث صحيح" فإذا كان الشارع قد نهى عن الدواء الخبيث مع أنه دواء لكنه حرم لخبثه فكيف بالدخان الذي هو من أسياد الخبائث وليس من الأدوية في شيء بل هو داء قاتل وسم زعاف لاشك أنه منهي عنه من بابٍ أولى والنهي يقتضي التحريم وهذا من باب قياس الأولى وقد تقرر في الأصول أنه حجة, ومن الأدلة أيضاً حديث (( والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )) والعقلاء من المدخنين يعلمون قبح الدخان ويكرهون جداً أن يطلع عليهم الناس ولذلك فإنهم إذا أرادوا مقارفته فإنهم يختبئون وراء الجدر وخلف الأبواب المقفلة حتى لا يراهم أحد, وتراهم إذا ذهبوا إلى مجامع الناس يحاولون أشد المحاولة أن يزيلوا عنهم كل الروائح والمظاهر التي تجعل الناس يعرفون بحقيقة حالهم وهذا التصرف منهم يفيد أنه من الإثم, ولكن من ذهب حياؤه وطمس الله نور بصيرته وتزين واسترجل به عند الناس فهذا لا عبرة به بفساد فطرته وخراب باطنه, ولا أدل على ذلك من أننا لا نعلم عن مدخن أنه ابتدأ تدخينه بالبسملة ولا نعلم عن أحدٍ منهم أنه يختتمه بالحمدلة لأن الدخان عندهم ليس أكلاً ولا شرباً ولا نعمة يبسمل عليها في أولها ويحمد الله في آخرها, بل هو عندهم بلاء قد ابتلوا به وعاهة ونقص يحسون به في باطنهم ولكنهم لا يصرحون به للآخرين وبالله عليك ماذا يفعل المدخن بالسيجارة بعد الانتهاء منها؟ إنه يدوسها تحت قدمه لأنها عنده شيء مهين ومستحقر ولا قيمة ولا قدر لها في قلبه البتة, بل إن الدخان لو كان نعمة عند أصحابه لما استساغوا مقارفته في دورات المياه و أماكن قضاء الحاجات ولكن كثيراً منهم لا يجد غضاضة أن يدخن في مكان التخلي وإذا انتهى منها يرميها في حفيرة الغائط غير آبهٍ بها لأنها عنده أصلاً ليست بشيء, ولو كانت محترمة عنده لما فعل بها ذلك, بل لو سألنا المدخن وقلنا:- ما رأيك لو رأيت شخصاً يحرق ورقة نقدية قيمتها خمسة ريالات؟ أخذ(1/185)
الكبريت وجعل يحرق هذه الورقة فما رأيك فيه؟ فإني أظنه سيقول:- هذا مجنون لأنه يتلف ماله الذي تعب في تحصيله, فنقول له:- فكيف بالذي يشتري بماله الدخان ليشعله ويحرق بها قلبه ورئتيه وشفتيه وسائر جسده ويزرع بماله في جسده الأمراض المهلكة والأدواء الفتاكة التي لا مخلص منها وتكون نهايتها الموت؟ أوليس هو أحق بالذم؟ لاشك أن العاقل سيقول:- نعم ولكنه بلاءً عظيم وفتنة داهمة لا مخر ج منها إلا بتنمية الإيمان وزرع المراقبة وتكميل مراتب الخشية وقوة العزيمة وصدق الإرادة في الترك وترك مجالسة أصحابه والتباعد عن مخالطتهم وإقناع النفس بعدم فائدته وقراءة النشرات المحذرة منه والتي تبين أخطاره, والتعرف على أضراره وحكمه الشرعي, أسأله جل وعلا باسمه أن يقي كل مسلم هذه الفتنة وأن يعصمنا وإخواننا منها وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن يعاملنا بعفوه وجوده وكرمه والله أعلى وأعلم .
سـ37/ عرف السحر؟ وهل له حقيقة؟ وكيف يتم عمل الساحر؟ وكيف يعالج من أصيب بشيء من ذلك ؟(1/186)
جـ/ أما السحر فهو عبارة عن ما خفي ولطف سببه, هذا تعريفه لغة وأما شرعاً فهو عبارة عن عقد تعقد ورقى شيطانية تقرأ مع النفث على العقد بهذه الرقى الإبليسية فيصاب المقصود به إذا شاء الله ذلك, فتؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه ومنه ما يجن والعياذ بالله تعالى, وأما حقيقته فمذهب السلف والأئمة قاطبة أن له حقيقة ظاهرة محسوسة, وليس مجرد خيالات لا حقيقة لها, بل هو حقيقة محسوسة ودليل ذلك إجماع أهل السنة والجماعة, قال النووي رحمه الله تعالى:- ( والصحيح أن للسحر حقيقة, وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة ) ا.هـ.(1/187)
ومن دلائل الكتاب قوله تعالى { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد ومن شر حاسدٍ إذا حسد } فقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من شر الساحرات اللاتي ينفثن في العقد السحرية مما يدل على أن له أثراً حقيقة, إذ كيف يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستعاذة من شيء لا حقيقة له, وهذا من أوضح الأدلة على أن للسحر حقيقة, ومن الأدلة قوله تعالى { يفرقون به بين المرء وزوجه } وهذا التفريق حقيقة محسوسة, ومن الأدلة قوله تعالى { وما هم بضارين به من أحدٍ إلا بإذن الله } وهذا الضرر المعلق بالإذن ضرر حسي له آثاره المحسوسة, وأما كيف يتم عمل الساحر فاعلم أن الساحر لا يتم له ما يريد إلا بالاستعانة بالشياطين وتقديم المقدمات القولية والفعلية التي يحبونها من العربدة والكفر وذبح التوحيد وقراءة الطلاسم المشتملة على سب الله تعالى وسب رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاستهانة بالمصحف وبالشريعة على وجه الإجمال والتفصيل ولا يستطيع الساحر أبداً أن يفعل السحر إلا بعد تعلمه من الشياطين كما قال تعالى { يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحدٍ حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } وأما كيفية علاجه وهو المقصود عندنا بالسؤال وإنما ذكرنا الأمور الأولى من باب التمهيد فقط, وعلاجه يكون بعدة طرق أشهرها ثلاث :-
الأولى :- الأدوية الإلهية من الدعوات والرقية الشرعية .
الثانية :- استخراج السحر وإبطاله .
الثالثة :- الاستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر .(1/188)
والأصل في ذلك كله حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في قصة سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت:- سحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم, حتى كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله, حتى إذا كان ذات ليلة أو ذات يوم وهو عندي, دعا الله, ودعاه ثم قال (( يا عائشة, أشعرت أن الله تعالى أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه:- ما وجع الرجل؟ فقال:- مطبوب, قال:- ومن طبه؟ قال:- لبيد بن الأعصم, قال:- في أي شيء؟ قال:- في مشطٍ ومشاطة وجف طلع نخلة ذكر, قال:- وأين هو؟ قال:- في بئر ذروان )) فأتاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من أصحابه فجاء فقال:- (( يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء, وكأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين )) قلت:- يا رسول الله, أفلا استخرجته؟ قال (( قد عافاني الله فكرهت أن أثير على الناس فيه شراً, فأمر بها - أي بالبئر - فدفنت ))"متفق عليه" وقد تضمن هذا الحديث عدة طرق في علاج السحر وهي كما يلي :-(1/189)
الأولى :- صدق اللجأ إلى الله تعالى وحده, والإكثار من دعائه بقلب حاضر ونبرة حزينة صادقة, مع التأدب بالآداب المرعية في باب الدعاء, فإن حالة المسحور حالة اضطرار وقد قال تعالى { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } وقال تعالى { وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } وقال تعالى { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان...(1/190)
الآية } وليوقن العبد أن ربه جل وعلا هو مجيب الدعوات وقاضي الحاجات ومفرج الكربات وأنه لا يرد دعاء من دعاه لاسيما المضطر منهم, وأن أكرم شيء على الله تعالى هو الدعاء, ولا يستعجل الفرج وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه فالله الله يا من قدر الله عليك شيئاً من ذلك بهذا الباب العظيم فإنه باب الفرج ويا سعادة من فيه عند الشدة ولج ويدل على ذلك قول عائشة رضي الله عنها (( دعا الله ودعاه )) أي كرر الدعاء وألح على ربه جل وعلا بالفرج والشفاء والعافية, وليكن حرصك في دعائك بالفرج في أوقات الإجابة كثلث الليل الآخر, وأدبار النوافل ووقت النداء وبعده وقبل الإقامة وفي حال السجود ووقت نزول الغيث وفي حال السفر ونحو ذلك, مع إخلاص القلب والدين لله تعالى فإن الله تعالى قد نجى الكفار من الأمواج العواتي لما دعوه مخلصين له الدين, وأنت مؤمن فلا جرم أنك أولى بالإجابة وإياك ثم إياك أن تقول:- دعوت ودعوت ولم يستجب لي فإن هذا من موجبات رد الدعاء, وابتعد عن أكل الحرام فإنه من أسباب عدم الإجابة وأذكرك حديث (( ومأكله حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك )) واجتهد في طلب الدعاء من أهل الدين والصلاح وأصحاب قيام الليل, وقدم بين يدي دعائك الصدقات وأبشر بالخير ثم أبشر بالخير, وقد حدثنا من نثق به أن امرأة أصيبت بالسحر وعجز عنها القراء, ولم تدع من القراء في بلدها وخارج بلدها قارئً إلا جلست عنده ولكن لم يقدر الله تعالى شفاءها على أحدٍ منهم, ولما تطاولت بها السنوات واشتدت عليها الكربات, انفطر قلبها وانهالت دموعها في ليلةٍ من الليالي وصلتها من أولها إلى قبيل الفجر تدعو الله تعالى أن يعافيها من هذا البلاء, بقلبٍ خاشع ودمعٍ منهمر فلما كان قبيل الفجر غلبتها عيناها ورأت في منامها أن طائراً أبيض نزل من السماء وضربها بجناحه عدة ضربات, فأفاقت فزعة وما بها من قلبة وجعٍ, وخرجت توقظ(1/191)
أهلها لصلاة الفجر فما كان أحد منهم أن يصدق أن هذه هي فلانة التي طالت بها الأوجاع وأكلها المرض, ولكنه فضل الله ورحمته, آمنت به رباً رؤوفاً رحيماً لطيفاً بعباده, فالدعاء الدعاء يا أهل البلاء, فخير طريق لعلاج السحر هو اللجوء إلى الله تعالى والاستعانة بالعلاج الإلهي, والإكثار من الدعاء وصدق التوكل عليه جل وعلا .(1/192)
الثانية :- استخراج السحر من موضعه وإبطاله, وهذا في سحر العقد, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استخرج السحر من البئر ذهب ما به حتى كأنما نشط من عقال, وظاهر هذا ذهاب أثر السحر بمجرد الإخراج إن شاء الله تعالى, وإن تمم ذلك بحله مع قراءة المعوذتين فهو أفضل إن شاء الله تعالى فقد ورد في الدلائل عند البيهقي أنهم لما استخرجوا سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - عليه السلام - بالمعوذتين فقال (( يا محمد { قل أعوذ برب الفلق } وحل عقدة { من شر ما خلق } وحل عقدة, حتى فرغ منها ثم قال { قل أعوذ برب الناس } وحل عقدة, حتى فرغ من السورة وحل العقد كلها )) وقد روى أحمد والطبراني في الكبير وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى من حديث زيد بن أرقم حديث سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه (( فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً - رضي الله عنه - فاستخرجها فجاء بها, فحللها )) وهذا الحديث مطلق والذي قبله مقيد والمتقرر أن المطلق يحمل على المقيد, فإن قلت:- وكيف يستدل المسحور على مكان هذه العقد؟ فأقول:- بعدة أمور:- أعظمها الدعاء, فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كشف له ذلك لما دعا ودعا ودعا, ومن ذلك الرؤيا الصالحة في النوم, فإذا رأى الإنسان من الرؤى ما يدل على ذلك فلينظر في المكان الذي رآه في المنام, ومن ذلك الاستدلال عليه بالبحث في جوانب الدار وفي دورات المياه وفي الأشجار وما حول البيت وفي أمكنته التي يجلس فيها غالباً وليجتهد في ذلك, ومن ذلك الاستدلال بإخبار الشيطان الملابس بعد ابتلائه عدة مرات من القارئ العارف بأحوال الجن وكثرة كذبهم فإذا حدد الشيطان الملابس مكاناً وغلب على الظن صدقه في ذلك فليستبرأ ذلك المكان إذا لم يكن في ذلك مفسدة وكم وكم وكم من العقد التي تم التعرف على مكانها بهذه الطريقة, ومن ذلك إخبار الساحر نفسه عن مكان العقد التي عقدها وعمل سحره فيها وذلك إذا تم القبض(1/193)
عليه من جهة السلطات, ولكن احذر يا أخي أن تتعرف على مكانها بالذهاب للكهان والسحرة فإنك تهدم توحيدك وتقتل إيمانك ويزداد وهنك من حيث تطلب شفاء جسدك .
الثالثة :- الاستمرار على الرقية الشرعية عند المعروفين بالعلم والأمانة والديانة والخبرة, أو أن يقرأ المسحور على نفسه إن كان يطيق ذلك بلا ضرر, وقد قدمنا الآيات التي تكون الرقية بها, ونعيدها هنا من باب المناسبة فأقول :-
أولاً :-الفاتحة, فإنها أعظم سورة في القرآن وهي الشفاء بإذن الله تعالى, ويستحب تكرارها كما في قصة اللديغ .
ثانياً :- الآيات الخمس الأوائل من سورة البقرة. ويستحب قراءة السورة كلها أو سماعها ولو من شريط إن لم يكن قراءتها فإن الحديث قد ورد بأنها بركة وتركها حسرة ولا تستطيلها البطلة .
ثالثاً :- آية الكرسي والإكثار منها .
رابعاً :- أواخر سورة البقرة .
خامساً :- قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس, مع تكرارها كثيراً .
سادساً :- قراءة قوله تعالى { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان... } الآية بتمامها .
سابعاً :- قوله تعالى من سورة الأعراف { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } واقرأ بعدها أيضاً الآية السادسة عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين والحادية والعشرين والثانية والعشرين كل ذلك بعد المئة .
ثامناً :- أن تقرأ قوله تعالى من سورة طه { قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى } والآية السادسة والستين والسابعة والستين والثامنة والستين والتاسعة والستين والسبعين .
تاسعاً :- أن تقرأ قوله تعالى من سورة يونس { وقال فرعون ائتوني بكل ساحرٍ عليم } واقرأ بعدها الآية الثمانين والحادية والثمانين والثانية والثمانين, مع تكرار جميع ما ذكرنا .(1/194)
الطريقة الرابعة :- أن تأتي بماءٍ يكفي للاغتسال ثلاث مرات وإن كان ماء زمزم فهو أولى وأولى, وتأتي بسبع ورقات من السدر وتدقها بين حجرين وتضعها في ذلك الماء, ثم تقرأ على الماء مع النفث فيه ما قدمناه لك من الآيات السابقة ويغتسل بها المسحور ثلاثة أيام, فهذا علاج مجرب نافع, وقد أفتى بذلك سماحة والدنا العلامة ابن باز وذكر أنه منقول عن بعض السلف .
الطريقة الخامسة :- مكافحته بالاستفراغ, وذلك أن السحر قد يكون مستقراً في المعدة مثلاً إذا كان مشروباً أو مأكولاً فتجد المسحور مع الرقية يستفرغ بقوة, وهذا حسن جداً لأنه بهذا الاستفراغ يذهب عنه الأثر إن شاء الله تعالى ومن ذلك الاحتجام في الموضع الذي يحس المسحور بثقله دائماً وبأن السحر قد أثر فيه, وقد روى الإمام أحمد في مسنده بسنده من حديث عبدالرحمن بن أبي ليلى يرفعه (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم على رأسه حين طب )) أي حين سحر, ولكن هذا الحديث ضعيف لأنه منقطع, ولكن تبقى الأدلة العامة المرغبة في الحجامة وأنها من طرق العلاج النبوي, فهذه نبذ من الكلام على هذه المسألة والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ38/ ما المقصود بالتلقيح الصناعي؟ وما الذي يحل منه؟ وما الذي يحرم؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
جـ/ أقول:- المقصود بالتلقيح الصناعي أي أن تتم معالجة المزج بين مني الرجل مع بويضة المرأة عن طريق تدخل الأنابيب الطبية, والحكمة في ذلك طلب الحمل, وقد عرض هذا السؤال على بعض المجامع الفقهية وكان حاصل جوابهم ما يلي:- إن هذا التلقيح الذي اكتشفه الطب الحديث لا يخلو من سبع طرق :-(1/195)
الطريقة الأولى :- أن يجري تلقيح بين نطفة مأخوذة من زوج مع بويضة مأخوذة من امرأة أخرى أجنبية عنه, ثم تزرع هذه اللقيحة بعد ذلك في رحم زوجته نفسها وهذه الطريقة محرمة بالاتفاق ذلك لأن هذه البويضة لا يحل أن تكون في رحم زوجته ولا يحل أصلاً أن يخلط منيه ببويضة امرأةٍ أخرى, لأن هذا الحمل الناتج من هذه الطريقة ليس حملاً شرعياً, لأن الولد ليس هو ولد المرأة الثانية التي هي زوجته إذ البويضة ليست هي بويضتها, ولا يكون هذا الولد ولداً له, لأن المرأة صاحبة البويضة ليست بزوجةٍ شرعية له إذ لا عقد بينهما, فيكون في ذلك اختلاط الأنساب وانتهاك للأعراض ومن مقاصد الشريعة العامة حفظ العرض والنسل ولذلك حرمت الزنا لأسبابٍ كثيرة, ومن هذه الأسباب اختلاط الأنساب, وهذه الطريقة للاستيلاد والحمل تحمل نفس العلة التي من أجلها حرم الزنا .
الطريقة الثانية:- أن يجري التلقيح بين نطفة رجل ليس هو الزوج مع بويضة الزوجة ثم تزرع بعد ذلك في رحم الزوجة التي يراد منها الحمل, وهذه الطريقة أيضاً محرمة بالاتفاق, والعلة في ذلك هي عين التعليل في الطريقة التي قبلها .
الطريقة الثالثة :- أن يجري التلقيح بين نطفة الزوج مع بويضة زوجته نفسها ثم تؤخذ هذه اللقيحة وتزرع في رحم امرأة أخرى متطوعة, وهذه الطريقة أيضاً محرمة بالاتفاق, لما عللناه في الطريقة الأولى بل هي أشد تحريماً مما قبلها .
الطريقة الرابعة :- أن يجري تلقيح خارجي بين نطفة رجل أجنبي مع بويضة امرأة أجنبية أخرى, ثم بعد ذلك تزرع هذه اللقيحة في رحم الزوجة التي يراد منها أن تحمل وهذه الطريقة أشد تحريماً مما قبلها لأن فيها طرفين أجنبيين, وأما الطرق الأولى ففيها طرف أجنبي واحد .
الطريقة الخامسة :-أن يجري التلقيح الخارجي بين نطفة الزوج وبويضة زوجته الأولى, وبعد ذلك تؤخذ هذه البويضة ثم تزرع في رحم الزوجة الثانية وهذه الطريقة محرمة أيضاً لنفس العلة التي عللنا بها الطريقة الأولى .(1/196)
الطريقة السادسة :- أن يجري تلقيح خارجي بين نطفة الزوج نفسه مع بويضة الزوجة نفسها وبعد ذلك تؤخذ هذه اللقيحة وتزرع في رحم الزوجة صاحبة البويضة نفسها وهذه الطريقة جائزة إن شاء الله تعالى, إذ لا محذور فيها شرعاً, بل فيها تحقيق مصلحة الاستيلاد وتكثير الأمة, لكن لابد أن تكون الحاجة الملحة داعية إلى ذلك, وأن يتولاها الأطباء المسلمون الثقات وأن يتأكدوا التأكد التام أن هذه النطفة وهذه البويضة هي بعينها ما أخذ من الزوجين, فلابد من أخذ كل الاحتياطات اللازمة لذلك, ومتى ما حصل شك في شيء من ذلك فالواجب الترك وحرمة الإقدام على إجراء هذا التلقيح .
الطريقة السابعة :- أن تؤخذ نطفة الزوج وتحقن في الموضع المناسب في مهبل المرأة أو رحمها تلقيحاً داخلياً من غير أخذ شيء من بويضة المرأة, وأعني بهذه المرأة زوجته وهذه الطريقة أيضاً جائزة ولكن مع التأكيد على ما أكدنا عليه في الطريقة السادسة هذا هو محصل ما أفتوا به, وبه نقول لصحته عندنا, وقد تبين لنا فيما مضى من هذه الطرق, أن الطرق الخمس الأولى كلها محرمة والعلة في ذلك حلول النطفة أو حلول البويضة في مكان لا يحل أن تكون فيه, وأما الطريقة السادسة والسابعة فإنهما جائزتان ويتبين لنا أيضاً أن الطرق الخمس الأولى فيها طرف أجنبي عن الزوج وزوجته التي يراد منها الحمل, ودخول طرف ثالث في عملية التلقيح الصناعي من أسباب تحريم هذه الطرق, وأما الطريقتان السادسة والسابعة فليس فيها طرف ثالث بل هي مقصورة على الزوج وزوجته التي يراد منها الحمل, والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ39/ هل يجوز إنشاء بنوك للمني؟ مع بيان العلة في ذلك ؟(1/197)
جـ/ أقول:- هذا محرم ولا يجوز البتة, ولا أعلم في ذلك خلافاً بين أهل العلم رحمهم الله تعالى, وليس العلة في ذلك نجاسة المني, لا, لأن القول الصحيح عندنا أن المني طاهر, ولكن العلة في ذلك حرمة بيع المني, فالمني - أعني مني الإنسان - لا يجوز بيعه مطلقاً ولا نعلم في ذلك خلافاً, وأيضاً لأن هذه البنوك ليس فيها مطلق الفائدة, فإنه لا يجوز البتة أن يؤخذ شيء منها ويلقح به بويضة امرأة, أياً كانت ولا يجوز بأي حالٍ من الأحوال أن يحقن ذلك المني في مهبل امرأة أو رحمها, أياً كانت هذا كله محرم تحريم مقاصد لا مجرد تحريم وسائل, بل هو بعينه الزنا, لكن بلا معالجة للوطء, فإن هذه البنوك فيها مني رجالٍ لا يعرف من هم, والأعراض لابد من حفظها, والنسل لابد من حمايته من هذه المهالك والمسلم له شريعة تحكمه, وقد منعت المجامع الفقهية كلها فيما نعلم تخزين النطفة منعاً باتاً, خوفاً من اختلاط النطف وبالتالي تختلط الأنساب ويفسد نظام العالم فليتق الله تعالى من يطالب بذلك من المتفرنجين الذين تربوا في أحضان الغرب وشربوا من بالوعاتهم, والواجب على ولي الأمر زجرهم وتعزيرهم التعزير البليغ الذي يردعهم وأمثالهم عن المطالبة بما فيه فساد الأنساب وهلاك القيم, وتدمير المجتمعات, ولا أعلم ولله الحمد والمنة أن هذه البنوك قد وجدت في شيء من ديار المسلمين, ولكنها موجودة عند الكفار الذين لا دين يحكمهم ولا شريعة تؤدبهم, ولكنها مطالبات من هنا وهناك من أناس سقطاء لا يعرفون إلا بما يخالف الشرع, أبعدهم الله وأقصاهم وكسر أقلامهم وأخرس أفواههم وكفانا شرورهم آمين, والخلاصة أنه لا يجوز بحال تخزين النطف, لما ذكرناه من أن المني لا يجوز بيعه ولا هبته ولا الصدقة به ولما في ذلك من اختلاط الأنساب وهلاك الأعراض والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ40/ اذكر لنا بعض الأضرار من استخدام المخدرات على وجه الإجمال ؟
جـ/ أقول:- الأضرار كثيرة جداً ونختصرها فيما يلي :-(1/198)
الأول :- تدهور الصحة وتراجعها وتلفها .
الثاني :- الاضطرابات العصبية .
الثالث :- الاضطرابات النفسية .
الرابع :- اضطراب جهاز التنفس .
الخامس :- خلل العقل وذهابه شيئاً فشيئاً .
السادس :- الإدمان, وهو مبدأ الضرر وفاتحة الشر حيث يصعب على متعاطيها الإقلاع عنها .
السابع :- اضطراب في جهاز الهضم فيصاب بفقدان الشهية وسوء الهضم وحالات الإمساك والإسهال .
الثامن :- الانعزالية وحب الوحدة وكراهة الاجتماع بالآخرين .
التاسع :- انفجار الشرايين وذلك إذا زاد في جرعة المخدر .
العاشر :- الخلل في التفكير .
الحادي عشر :- اضطرابات الوجدان وما يتبعه من انخفاض مستوى الذهن والخمول والبلادة .
الثاني عشر :- أن المخدرات تورث العداوة وإفساد ذات البين .
الثالث عشر :- الصد عن ذكر الله وعن الصلاة .
الرابع عشر :- تلف وظائف الكبد .
الخامس عشر :- تلف وظائف الأثني عشر .
السادس عشر :- سواد الوجه وتساقط الأسنان وتلف اللثة .
السابع عشر :- قتل النفس أو قتل الغير تحت تأثير المخدر .
الثامن عشر :- ذهاب الأسر وتفرقها .
التاسع عشر :- تلف الأموال .
العشرون :- تلف الدين .
الحادي والعشرون :- تفلت البول أو الغائط وعدم القدرة على التحكم فيه .
الثاني والعشرون :- صداع الرأس المزمن .
الثالث والعشرون :- كثرة التقيؤ .
الرابع والعشرون :- احتراق الدم وفساده .
الخامس والعشرون :- انقطاع النسل أو ضعف القابيلة له .
السادس والعشرون :- كثرة البلغم .
السابع والعشرون :- ذهاب الغيرة .
الثامن والعشرون :- ضعف المناعة الجسدية .
التاسع والعشرون :- تعريض الدماغ والقلب للإصابة بالجلطة .
الثلاثون :- ضيق الصدر وسرعة الغضب .
الحادي والثلاثون :- إهلاك خلايا المخ .
الثاني والثلاثون :- حمرة العيون وثقل اللسان وجفافه .
الثالث والثلاثون :- عدم استهجان القبيح القولي والعملي .
الرابع والثلاثون :- تلف العرض في كثير من الأحيان .(1/199)
الخامس والثلاثون :- تلف الشهوة أو إضعافها جداً .
السادس والثلاثون :- الإصابة بقرحة المعدة .
السابع والثلاثون :- الحوادث القاتلة .
الثامن والثلاثون :- الحرمان منها في الآخرة .
التاسع والثلاثون :- أن المدمن عليها يسقى من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار .
الأربعون :- أنها توجب لصاحبها الذلة والانكسار وذهاب الشخصية والمهابة .
الحادي والأربعون :- التثاؤب الشديد وسيلان اللعاب وانسكاب الدموع وزيادة كبيرة في إفرازات الأنف والتعرق الشديد والإحساس ببرودة الجو لاسيما عند مدمن الهيروين .
الثاني والأربعون :- ارتعاش الأطراف وعدم القدرة على التحكم فيها .
الثالث والأربعون :- الشيخوخة المبكرة .
الرابع والأربعون :- زهد الناس في مدمن الخمر وفيمن تحت يده من أولاد وبنات فلا يزوجون ولا يتزوج منهم .
الخامس والأربعون :- تلف الكلى .
السادس والأربعون :- الجنون, وهذا أثر أغلبي لمتعاطي الحشيشة .
السابع والأربعون :- ارتفاع ضغط الدم .
الثامن والأربعون :- الهلوسة .
التاسع والأربعون :- تشوه الأجنة إذا كان المتعاطي من النساء الحوامل .
الخمسون :- أنها أم الخبائث وباب كل شرٍ .
فهذه بعض الأضرار وواحد منها يكفي إذا سمعه العاقل أن يحذر منها وأما من لا يبالي فلا شأن لنا به والله أعلم وأعلى .
سـ41/ ما الأحكام الفقهية المختصة بالجبيرة؟ وما الفرق بينها وبين الخف ؟
جـ/ أقول:- هذه الأحكام ليست بالكثيرة ولكن نلخصها لك فيما يلي :-(1/200)
الحكم الأول :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح أنه يجوز المسح على الجبيرة ولو لم يتقدمها الطهر الكامل, خلافاً لما ذهب إليه البعض من أهل العلم رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وجزاهم الله خير ما جزى عالماً عن أمته, والدليل على ذلك هو أن الأصل في الاشتراط الشرعي التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح, ولا أعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة الصحيحة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح ولا من النظر والاعتبار المقبول يوجب تقدم الطهارة لجواز المسح على الجبيرة, وحيث لا دليل فالأصل عدم هذا الشرط, وتقرر في الأصول أيضاً أن الأصل في العبادات الإطلاق, وتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, ولا نعلم مقيداً شرعياً ينقلنا عن هذا الأصل, فحيث لا ناقل عنه فالواجب هو البقاء عليه, ولأنها قد تأتي فجأة فلا يتمكن الإنسان من تقديم الطهارة لعدم إمكانية ذلك, ولأن التكليف بتقديم الطهارة مناف للتخفيف والتيسير ورفع الحرج المقصود شرعاً, وبناءً على ذلك فيجوز المسح عليها ولو لم يتقدمها طهارة والله أعلم .
الحكم الثاني :- أنه يجب وجوباً مؤكداً أن لا يتجاوز الطبيب في شدها إلا على موضع الكسر وما يحتاج إليه في شدها من جوانبه فقط, فلا يجوز له أن يتجاوز بها مقدار الحاجة والضرورة, وذلك لأنها طهارة ضرورة والمتقرر في القواعد أن الضرورة تقدر بقدرها, وبناءً عليه فلو خالف الطبيب وتجاوز بها موضع الحاجة فإنه يجب على المريض إزالة ذلك المقدار الذي لا تدعو له الحاجة إذا لم يكن في إزالته ضرر زائد عن العادة والله أعلم .(1/201)
الحكم الثالث :- أنه يجب أن تكون مادة الجبيرة طاهرة، فلا يجوز التجبير بشيء نجس وهذا معلوم عند الأطباء ولله الحمد، ولأن النجاسة لا يجوز التداوي بها، ولأن من شروط الصلاة إزالة النجاسة، فوضع الجبيرة النجسة يؤدي إلى بطلان الصلاة وفسادها، ولأن النجاسة يحرم علينا استخدامها ولم يجعل الله شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها والله أعلم .
الحكم الرابع :- أنه يجب وجوب عين تعميم الجبيرة بالمسح فلابد من مسح جوانب الجبيرة كلها, وذلك لأنها بدل على الغسل والعضو المغسول لابد أن يغسل كله فكذلك إذا مسح فلابد أن يمسح كله, وقد تقرر في القواعد أن البدل له حكم مبدله إلا بدليل فاصل, فلما كان العضو الذي عليه الجبيرة يجب غسله كله, فكذلك في الجبيرة يجب مسحها كلها إنزالاً لها منزلة غسل هذا العضو. والله أعلم .
الحكم الخامس :- أنه يكتفى في مسحها على المرة الواحدة, حتى ولو كانت على عضوٍ يغسل ثلاثاً لو كان صحيحاً, وذلك لأن قاعدة الشريعة عدم التكرار في الممسوحات إلا بدليل, فالجبيرة طهارتها طهارة مسح فيكتفى فيها بالمرة الواحدة ولأن تكرار مسحها قد يفسدها كما هو معلوم والله أعلم .
الحكم السادس :- أنه يجب إذا برأ ما تحتها أن يحلها ولا يجوز له أن يبقيها أكثر من مقدار الحاجة لها لأنها طهارة ضرورة والمتقرر أن الضرورة تقدر بقدرها, ولأنه إذا أمكن فعل الأصل فلا يصار إلى البدل, والأصل هو غسل العضو, ومسح الجبيرة بدل له, والبدل إنما يكون مشروعاً إذا تعذر الأصل, كما هو معلوم والله أعلم .(1/202)
الحكم السابع :- أن اللزقة التي تكون ثابتة على العضو تأخذ حكم الجبيرة, وذلك كاللزقة على الجروح وكاللزقة على الظهر لمعالجة فتوق الظهر وكالربطة التي تكون على المفاصل كالركبة والمرفق والساعد والأصابع ونحوها, كل هذه الأشياء تأخذ حكم الجبيرة, لأنها تتفق معها في العلة فهي مثلها في الحكم لأن المتقرر شرعاً أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات .
الحكم الثامن :- أن الإنسان إذا كان متوضئاً ونزع الجبيرة لانتهاء الحاجة منها فإن طهارته باقية لا تبطل, بل هو على طهارته وذلك لأن المتقرر أن العبادة التي انعقدت بالدليل الشرعي فإنها لا تبطل إلا بالدليل الشرعي, ولأن المتقرر أن نواقض الوضوء توقيفية ولا نعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس يفيد انتقاض الوضوء بخلع الجبيرة, فحيث لا دليل فالأصل المتقرر هو وجوب البقاء على الأصل حتى يرد الناقل, ولأن طهارته بالجبيرة قد تمت على وجهٍ شرعي وما تم على الوجه المأمور به شرعاً فإنه لا ينقض إلا بدلالة الدليل الشرعي الصحيح الصريح ولأن الإبطال - أي إبطال الوضوء بخلع الجبيرة - حكم شرعي, وقد تقرر عند الفقهاء أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة والله أعلى وأعلم .(1/203)
الحكم التاسع :- إذا كانت هذه الجبيرة تفسد بالمسح بالماء أو أن الماء يتخللها ويحصل بذلك ضرر الجرح بزيادة الألم أو تأخر الشفاء فإن وجوب المسح يسقط وينتقل إلى التيمم, ويكون تيممه بعد الفراغ من الوضوء تماماً, فإذا فرغ من الوضوء فإنه يتيمم بنية هذه الجزئية التي لم يصبها الماء, هذا هو الواجب فقط وبناءً على ذلك تعرف أن الجمع بين المسح والتيمم عن هذه الجبيرة لا أصل له في الشرع بل هو غلو ومجاوزة وتنطع, بل إن كان قادراً على المسح فهو الواجب وإن عجز عنه فإنه ينتقل إلى التيمم هذا هو المشروع, وأما جمع طهارتين لعضوٍ واحد فإنه ليس صواباً بل هو من الخطأ الدارج عن العامة, وتعرف أيضاً خطأ من يفصل بين أبعاض الوضوء بالتيمم فإن الجبيرة لو كانت على اليد اليسرى مثلاً ولا يستطيع أن يمسحها بالماء لعذر شرعي فإن بعض الناس إذا وصل إلى غسل اليد اليسرى التي عليها الجبيرة أوقف الوضوء ثم تيمم ثم عاد فأكمل وضوءه وهذا خطأ ولاشك, بل التيمم مع العجز عن المسح لا يكون إلا في آخر الوضوء, قال ابن تيمية ( والفصل بين أبعاض الوضوء بتيمم بدعة ) ا.هـ.
الحكم العاشر :- القول الصحيح والرأي الراجح المليح أنه لا يجب أن تكون الجبيرة عامة للعضو كله للقول بالمسح عليها, بل يجوز المسح عليها ولو لم تغط من العضو إلا ربعه فقط كأن تكون مثلاً من الأصابع إلى منتصف الذراع, فيجوز المسح على هذا المقدار فقط وأما باقي العضو فإنه سليم فيجب غسله فانتبه لهذا والله أعلم .
الحكم الحادي عشر :- اعلم أن الجرح إما أن يكون مكشوفاً وإما أن يكون مغطىً فإن كان مكشوفاً فله ثلاث حالات وهي بالترتيب:- الأولى:- إذا لم يضره الغسل فالواجب غسله, الثانية:- أن يضره الغسل ولا يضره المسح فالواجب حينئذٍ مسحه الثالثة:- أن يضره المسح فالواجب حينئذٍ التيمم له بعد الانتهاء من الوضوء, وأما إذا كان مغطىً فليس له إلا حالتان فقط وهي الحالة الثانية والثالثة والله أعلم .(1/204)
الحكم الثاني عشر :- اعلم رحمك الله تعالى أن الجبيرة يمسح عليها ولو كان في الحدث الأكبر, فإذا طهرت الحائض أو النفساء, أو أراد الجنب الاغتسال وعليهم جبيرة فإنهم يمسحون عليها .
الحكم الثالث عشر :- اعلم أن الجبيرة لا توقيت فيها, بل وقتها من وضعها إلى الشفاء, فلا توقيت فيها كالخف, ولا يصح قياسها على الخف والله ربنا أعلى وأعلم .
وأما قوله في السؤال ( وما الفوارق بينها وبين مسح الخف ) ؟
فأقول:- فيه عدة فروق :- منها:- أن المسح على الجبيرة مسح ضرورة وعزيمة وأما المسح على الخف فمسح توسعٍ ورخصة, ومنها:- أنه يجب استيفاء المسح على الجبيرة, وأما المسح على الخف فيكتفى فيه بمسح أعلاه فقط دون أسفله وجوانبه ومنها:- أن المسح على الجبيرة لا توقيت فيه وإنما توقيته الحاجة فقط, وأما المسح على الخف فإن المسح فيه مؤقت بيومٍ وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ومنها:- أن المسح على الجبيرة لا يلزم فيه تقدم الطهارة وأما المسح على الخف فإنه يشترط فيه تقدم الطهارة, ومنها:- أن المسح على الجبيرة يكون في الحدثين الأكبر والأصغر وأما المسح على الخف فإنه لا يكون إلا في الحدث الأصغر فقط, ومنها:- أن الجبيرة لا تخص عضواً دون عضو فقد تكون على الرأس أو على اليد أو على الرجل أو في الظهر ونحو ذلك وأما الخف فإنه مخصوص بالرجلين فقط, ومنها:- أن المسح على الجبيرة يستعاض عنه بالتيمم إذا لم يكن المسح عليها وأما المسح على الخف فإنه لا يستعاض عنه بالتيمم, فهذه جملة الفروق التي تحضرني حال الكتابة والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ42/ ما الأحكام الطبية الفقهية المتعلقة بدم الإنسان؟ مع بيانها بالأدلة والتعليل والتقعيد ؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال واسع وحتى يتضح لك الأمر أجعله مفصل في مسائل :-(1/205)
المسألة الأولى :- القول الصحيح إن شاء الله تعالى هو أن خروج الدم من الإنسان من غير السبيلين لا ينقض الوضوء, على أي صفةٍ كان خروجه, وذلك للدليل الأثري والنظري, فأما الدليل الأثري فما رواه أبو داود رحمه الله تعالى في سننه قال:- حدثنا أبو توبة بن نافع قال حدثنا ابن المبارك عن محمد بن إسحاق قال حدثني صدقة بن يسار عن عقيل بن جابر عن جابر قال (( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني في غزوة ذات الرقاع - فأصاب رجل امرأة رجل من المشركين فحلف أن لا ينتهي حتى يهرق دماً في أصحاب محمد, فخرج يتبع أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلاً فقال (( من رجل يكلؤنا )) فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار فقال (( كونا بفم الشعب )) قال:- فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب, اضطجع المهاجري وقام الأنصاري وأتى الرجل, فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم فرماه بسهم, فوضعه فيه فنزعه, حتى رماه بثلاثة أسهمٍ ثم ركع وسجد, ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب, ولما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال:- سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى قال:- كنت في سورةٍ أقرأها فلم أحب أن أقطعها ))"حديث صحيح" وقد رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني وأحمد في المسند ووجه الدلالة منه أن هذا الأنصاري استمر في صلاته ولم يقطعها، ومثل هذه الحادثة لا تخفى تفاصيلها على سيد الجيش وأميره - صلى الله عليه وسلم - لاسيما وأنه الحارس الذي انتدب لحراستهم، ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الأنصاري استمراره في صلاته مع خروج دمائه، وقد تقرر في الأصول أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة ولا يقال:- إنها - أي هذه الحادثة - حصلت بعيداً عنه لأننا سنقول:- لا شك أنها قد نقلت، ونقول أيضاً:- إن الحادثة التي حصلت في غير مجلسه لو كان لها تعلق بحكمٍ شرعي فإن الله تعالى سيوحي(1/206)
بها لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنها لو خفيت على المخلوق ما خفيت عن الخالق جل وعلا ويدل عليه أن المسلمين لا يزالون يصلون في جراحاتهم في الجهاد وسيوفهم عليها الدم ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرهم أن يغسلوا الدم الذي عليهم وعلى سيوفهم، قال الحسن البصري ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم، قال الحافظ في الفتح ( وقد صح أن عمر - رضي الله عنه - صلى بالناس وجرحه يثعب دماً ) ا.هـ. وقال طاوس ومحمد بن علي وعطاء وأهل الحجاز:- ليس في الدم وضوء، وقد وصل الأثر عن طاوس ابن أبي شيبة بإسناد صحيح وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها الدم ولم يتوضأ، وكان الحسن رحمه الله تعالى لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلاً ويروى عن أبن أبي أوفى أنه بصق دماً ومضى في صلاته، فهذا من جهة الاستدلال الأثري، وأما الاستدلال النظري فلأن المتقرر في القواعد أن العبادات المنعقدة لا تنقض إلا بالدليل الشرعي وتقرر أيضاً أن نواقض الوضوء توقيفية، وتقرر أيضاً أن الإبطال حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها لأدلة الصحيحة الصريحة وبه تعلم أن القول الصحيح في هذه المسألة هو أن خروج الدم ليس من جملة نواقض الوضوء، وبناء عليه فالذي يصيبه الرعاف وهو متوضئ، والذي يصاب بالجروح وينزف دمه، والمتبرع بالدم كل هؤلاء إذا كانوا متوضئين فإن وضوءهم باق على حاله لا ينقض بمجرد خروج الدم، والله أعلم .(1/207)
المسألة الثانية :- القول الصحيح إن شاء الله تعالى أن دم الإنسان طاهر، فإذا خرج على ثيابه فإنه لا يجب عليه غسله لكن يستحب له إخفاء صورته يرضحه بالماء فقط والدليل على طهارته ما مضى من الأدلة في المسألة الأولى، ولأن الأصل في الأشياء الطهارة، والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل، ولا أعلم ناقلاً يصلح أن يكون دليلاً على نجاسة دم الإنسان، نعم، أكثر أهل العلم على أنه نجس ولكن الاستدلال لا يكون بالأكثر وإنما يكون بموافقة الدليل، وليست هذه المسألة من مسائل الإجماع, فنقل الإجماع على نجاسة دم الإنسان ليس نقلاً صحيحاً محرراً فالراجح إن شاء الله تعالى هو أن دم الإنسان طاهر والله تعالى أعلى وأعلم . المسألة الثالثة :- اعلم رحمك الله تعالى أن إنشاء بنوك الدم من ضرورات العصر لدعاء الضرورة الملحة له، وهو المعمول به في كل بلاد الدنيا، لاسيما مع كثرة الحوادث والحروب في هذه الأزمنة، ويدخل هذا الفرع تحت تحقيق مقصد حفظ النفوس، وقد تواترت الأدلة على ذلك أي على ضرورة حفظ النفس والله أعلم .(1/208)
المسألة الرابعة :- اعلم رحمك الله تعالى أن بيع الدم لا يجوز ويستدل على ذلك بما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الدم, ولأنه من أعضاء الإنسان السيالة وأعضاء الإنسان لا يجوز أن تمتهن بالبيع والشراء فالدم لا يجوز بيعه, وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إن الله تعالى إذا حرم شيئاً حرم ثمنه )) إلا أنه يستثنى من ذلك الحالات الإسعافية الضرورية إذا لم يكن هناك متبرعاً ولا بنكاً للدم, فإنه يجوز شراؤه بالمقدار الذي تندفع به الضرورة لأن المتقرر شرعاً أنه لا ضرر ولا ضرار, وأن الضرر يزال وأن الضرورات تبيح المحظورات, وعندئذٍ يحل للمشتري دفع العوض ويكون الإثم على الآخذ, ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة تشجيعاً على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري لأنه يكون من باب التبرعات لا من باب المعاوضات والله تعالى أعلى وأعلم .
المسألة الخامسة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه إذا أعطى أحد أحداً دماً على طريق التبرع له فإنه لا يتعلق بذلك بينهما أي حكم من الأحكام, فلو تبرع الزوج لزوجته فلا يؤثر ذلك على العلاقة بينهما أي لا ينتشر بينهما شيء من التحريم, ذلك لأن بعض الناس قد يظن أن التبرع بالدم يثبت به ما يثبته الرضاع وهذا ظن خاطئ مخالف للصواب, فأحكام الرضاع إنما هي خاصة بارتضاع اللبن خمس رضعات في الحولين فقط, وأما التبرع بالدم فلا شأن له في نكاح ولا محرمية, فيجوز الزوج أن يتبرع لزوجته ويجوز العكس, ويجوز أن يتزوج الرجل بالمرأة التي قد تبرع لها بالدم وكذا يجوز إذا كانت هي المتبرعة, وإذا تبرع رجل أجنبي لامرأة أجنبية فإنه لا يكون بينهما أي نوع من أنواع لمحرمية وذلك لأنه لا دليل على انتشار المحرمية بمجرد التبرع بالدم, ولا يصح قياسه على إرضاع اللبن للفارق بينهما وقد تقرر في الأصول أن لا قياس مع الفارق .(1/209)
المسألة السادسة :- اعلم رحمك الله تعالى أن الدم بعد أخذه من المتبرع وحفظه في أوعية خاصة به لا يكون دماً مسفوحاً ولا ينطبق عليه حكمه ولا يقاس عليه, بل حتى لو أخذ الدم من المتبرع إلى المريض مباشرة بواسطة الأنابيب فإنه لا يكون دماً مسفوحاً, ومن قال من أهل العلم بأنه دم مسفوح ولا يجوز التداوي به فإنه قد قال بما لا دليل عليه, وضيق على الناس واسعاً, وأوقع الأمة في العسر والمشقة والحرج بما هو محتمل, وهذا لا ينبغي, فهذا المسحوب بهذه الطرق الطبية الحديثة دم طاهر على القول الصحيح ويجوز التداوي به, وهذا هو الذي نفتي به والله ربنا أعلى وأعلم .(1/210)
المسألة السابعة :- اعلم أن الأصل في التبرع بالدم أنه عمل إنساني وإحسان شرعي يرجي لصاحبه الأجر والمثوبة, وهو عندنا من مندوبات الشريعة لأنه يحقق المصالح العامة والخاصة, ولكن هذا الندب يرتقي إلى مرتبة الوجوب الكفائي في الحالات الإسعافية الطارئة الضرورية إذا كانت فصيلة دم المريض من الفصائل المتيسرة في طائفة كبيرة من الناس فيكون التبرع لهذا المريض الذي يتوقف إحياء نفسه على هذا التبرع, من فروض الكفايات إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين, وأما إذا كانت هذه الفصيلة لا توجد إلا في آحاد الناس لندرتها فإن التبرع بها يكون فرض عين في الحالات الضرورية الطارئة أي التي يتوقف عليها إحياء النفس وحفظ الطرف من التلف, ويكون التبرع بالدم واجباً عينياً إذا لم يوجد أحد من المتبرعين إلا هذا الرجل, لكن هذا مشروط بأمن الضرر على المتبرع وذلك لأن المتقرر شرعاً أن الضرر لا يدفع بالضرر, والمتقرر أيضاً أن صاحب الشيء أحق به من غيره إذا كان محتاجاً له, وما يجده المتبرع بعد أخذ شيء من دمه من الدوار في رأسه شيء طبيعي لا آثار له إن شاء الله تعالى, لسرعة زواله, فليس هو من الضرر الذي يكون مانعاً من التبرع بالدم للمضطرين في مثل الحالات الإسعافية, ولأن هذا الدوار أصلاً لا يمنع من التبرع حال كون التبرع مستحباً, فكيف يمنعه في حال كونه واجباً كفائياً أو عينياً؟ والله ربنا أعلى وأعلم .(1/211)
المسألة الثامنة :- اعلم رحمك الله تعالى أنه إذا مرض الإنسان واشتد ضعفه ولا سبيل لتقويته أو علاجه إلا بنقل دم غيره إليه, وتعين ذلك طريقاً لإنقاذه وغلب على ظن أهل المعرفة انتفاعه بذلك, فلا بأس بعلاجه بدم غيره ولو اختلف دينهما, فينقل الدم من كافرٍ ولو حربياً لمسلم وينقل الدم من المسلم إلى الكافر بشرط أن لا يكون حربياً, أفادته اللجنة الدائمة في بلادنا, أي أن الدم إذا نقل من الكافر إلى المسلم فإن ذلك لا يؤثر شيئاً البتة وكذلك العكس, وذلك لأن بعض الناس قد يتحرج من نقل دم الكافر إليه ويعارض في ذلك ظناً منه أن ذلك يؤثر على دينه, فذكرنا ذلك تنبيهاً على إزالة هذا التوهم. والله ربنا أعلى وأعلم .(1/212)
المسألة التاسعة :- اعلم رحمك الله تعالى أن القول الصحيح أنه لا يلزم في الحالات الإسعافية الطارئة الضرورية أن يؤخذ إذن المريض المضطر لإعطائه دماً, وذلك لأن إذنه حينئذٍ غير معتبر, بل لا يجوز له أن يرفض هذا الحقن بالدم إذا توقفت حياته عليه أو توقف حياة عضوٍ من أعضائه عليه, وذلك لأن حفظ النفس والطرف من ضرورات الشريعة التي يجب المحافظة عليها، ولا يقال إن الأصل التداوي الجواز فلماذا توجبون عليه أن يأذن؟ لأننا سنقول:- نعم الأصل في التداوي الجواز إلا أن هناك من التداوي ما يكون واجباً وذلك في مثل هذه الحالة, فإن المريض يضطر اضطراراً قوياً حتى تنقذ حياته إلى حقنه بالدم, وحفظ الحياة بالأسباب المقدور عليها واجب وحفظ الأطراف بالأسباب المقدور عليها واجب ولا يتم ذلك في مثل هذه الحالة الطارئة إلا بتزويده بالدم المضطر إليه فيكون ذلك واجباً لأن المتقرر شرعاً أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولأن حقنه بالدم في هذه الحالة الضرورية يحقق أمراً واجباً وقد تقرر في القواعد أن وسائل الواجب واجبة, ولأن عدم حقنه بهذا المقدار من الدم يوجب ضرراً مؤكداً حسب التجربة والخبرة الطبية وقد تقرر في القواعد أن الضرر يزال, والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ43/ ما حكم زراعة الأعضاء البشرية ؟
جـ/ أقول:- هذه المسألة قد بحثها الفقهاء في كثير من المجامع الفقهية وتوصلوا إلى ما يلي :-
أولاً :- يجوز نقل العضو من مكانٍ من جسم الإنسان إلى مكان آخر من الجسم ذاته مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها, وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضوٍ مفقود أو لإعادة عضوٍ مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له أو لإصلاح عيبٍ أو لإزالة دمامة تسبب للشخص أذىً نفسياً أو عضوياً .(1/213)
ثانياً :- يجوز نقل العضو من جسم إنسانٍ إلى جسم إنسانٍ آخر إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً كالدم والجلد ويراعى في ذلك اشتراط كون الباذل كامل الأهلية وتحقق الشرعية المعتبرة .
ثالثاً :- تجوز الاستفادة من جزءٍ من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخصٍ آخر كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية .
رابعاً :- يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسانٍ حي إلى إنسان آخر.
خامساً :- يحرم نقل عضوٍ من إنسانٍ حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة الحياة عليه كنقل قرنية العينين كلتيهما .
سادساً :- يجوز نقل عضوٍ من ميتٍ إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو, أو تتوقف سلامة وظيفةٍ أساسية فيه على ذلك بشرط أن يأذن بذلك المتوفى قبل وفاته أو ورثته بعد موته أو بشرط موافقة ولي أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهولاً أو لا ورثة له .
سابعاً :- وينبغي ملاحظة أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها
مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو إذ لا يجوز إخضاع أعضاء الإنسان للبيع بحال ما .
ثامناً :- إذا كان المتوفى كافراً حربياً فيجوز الاستفادة من أعضائه لأن تعذيبه مقصود في الآخرة فالمسلم يستفيد من هذا العضو الذي سيكون مآله للنار تحرقه فهنا تتحقق المصلحة ولا يترتب على ذلك أي مفسدة .
تاسعاً :- أن يكون هذا النقل الذي ذكرناه سابقاً مما تدعو له الضرورة والحاجة الملحة, فلا مدخل للنقل من باب الأمور التحسينية, فهذه خلاصة ما ذكروه في هذه المسألة والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ44/ هل يجوز استخدام الأجنة وجعلها مصدراً لزراعة الأعضاء ؟
جـ/ أقول:- لقد بحث مجلس المجمع الفقهي في المملكة العربية السعودية هذه المسألة وبعد الاطلاع على التقارير والتوصيات المقدمة بشأن هذه المسألة قرر ما يلي :-(1/214)
أولاً :- لا يجوز استخدام الأجنة مصدراً للأعضاء المطلوب زرعها في إنسان آخر إلا في حالات وبضوابط لابد من توفرها:- فلا يجوز إحداث إجهاض من أجل استخدام الجنين لزرع أعضائه في إنسانٍ آخر بل يقتصر الإجهاض على الإجهاض الطبيعي غير المعتمد والإجهاض للعذر الشرعي ولا يلجأ لإجراء العملية الجراحية لاستخراج الجنين إلا إذا تعينت هذه الجراحة لإنقاذ حياة أمه, فإذا كان الجنين قابلاً لاستمرار الحياة فيجب أن يتجه العلاج الطبي إلى استبقاء حياته والمحافظة عليها, لا إلى استثماره لزراعة الأعضاء وإذا كان غير قابلٍ لاستمرار حياته فلا يجوز الاستفادة منه في الحالات الضرورية إلا بعد موته بالشروط المعتبرة أي أن يتحقق موته, وأن يكون النقل مما تدعو إليه الضرورة وأن يأذن وليه بذلك .
ثانياً :- لا يجوز أن تخضع عمليات زرع الأعضاء للأغراض التجارية على الإطلاق .
ثالثاً :- لابد أن يسند الإشراف على عمليات زراعة الأعضاء إلى هيئة متخصصة موثوقة والله تعالى أعلم .
جـ/ أقول:- لقد بحثت هذه المسألة في مجلس المجمع الفقه الإسلامي في المملكة العربية السعودية وبعد الاطلاع على التقارير والتوصيات بشأن هذه المسألة قرر ما يلي :-
أولاً :- زرع الغدد التناسلية, بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية للمنقول منه حتى بعد زرعها في متلقٍ جديد فإن زرعها محرم شرعاً .
ثانياً :- زرع أعضاء الجهاز التناسلي, والتي لا تعلق لها بنقل الصفات الوراثية - ما عدا العورات المغلظة - جائز لضرورة مشروعة ووفق الضوابط والمعايير المعتبرة شرعاً أي أن تكون الضرورة داعية لذلك وأن يأذن المتبرع بذلك أو ورثته من بعده وأن لا يكون ذلك على سبيل البيع والاتجار وأن يتولى ذلك الهيئة الشرعية المعتمدة الموثوقة والله تعالى أعلم .
سـ46/ ما حكم نقل القرنية من إنسان إلى آخر ؟(1/215)
جـ/ لقد بحثت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذه المسألة وقرروا ما يلي :-
أولاً :- جواز نقل قرنية عين من إنسانٍ بعد التأكد من موته وزرعها في عين إنسانٍ آخر مسلم مضطرٍ لذلك إذا غلب على الظن نجاح العملية في هذه الزراعة, ما لم يمنع أولياؤه وذلك بناءً على قاعدة تحقيق أعلى المصلحتين وارتكاب أخف الضررين وإيثار مصلحة الحي على الميت فإنه يرجى للحي الإبصار بعد عدمه والانتفاع بذلك في نفسه ونفع الأمة به ولا يفوت على الميت الذي أخذت قرنيته شيء فإن عينه قد أغمضت وطبق جفناها أعلاهما على الأسفل .
ثانياً :- جواز نقل قرنية سليمة من عين قد قرر الأطباء لزوم قلعها إبقاء لحياة المريض أو لتوقع خطر عليه من إبقائها, ومن ثم زرعها أي هذه القرنية المأخوذة من العين المقلوعة في عين مسلمٍ آخر مضطرٍ إليها, فإن نزعها إنما كان محافظة على صحة صاحبها أصلاً, ولا ضرر يلحقه من نقلها إلى غيره, وفي زرعها في عين آخر منفعة له فكان ذلك مقتضى الشرع وموجب الإنسانية. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سـ47/ ما الحكم الشرعي في إعادة العضو المقطوع في حدٍ أو قصاص ؟
جـ/ أقول:- إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في المملكة العربية السعودية قد بحث هذه المسألة وبعد الاطلاع على التقارير والتوصيات التي رفعت له بهذا الشأن قرر ما يلي :-
أولاً :- لا يجوز شرعاً إعادة العضو المقطوع تنفيذاً للحد لأن في بقاء اثر الحدود تحقيقاً كاملاً للعقوبة المقررة شرعاً ومنعاً للتهاون في استبقائها وتفادياً لمصادمة حكم الشرع في الظاهر .
ثانياً :- بما أن القصاص قد شرع لإقامة العدل وإنصاف المجني عليه وصون حق الحياة والمجتمع وتوفير الأمن والاستقرار فإنه لا يجوز إعادة عضو استؤصل تنفيذاً للقصاص إلا في الحالات التالية :-
الأولى :- أن يأذن المجني عليه بعد تنفيذ القصاص بإعادة العضو المقطوع .(1/216)
الثانية :- أن يكون الجاني عليه قد تمكن من إعادة العضو المقطوع منه .
ثالثاً :- يجوز إعادة العضو الذي استؤصل في حدٍ أو قصاص بسبب خطأ في الحكم أو بسبب خطأ في تنفيذه, والله أعلم .
وهذه خلاصة ما ذكروه هنا, وقد حرصنا على الاختصار طلباً لتصغير حجم الكتاب والله أعلى وأعلم .
سـ48/ ما حكم الشرع في التشريح ؟
جـ/ أقول:- لقد بحثت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية هذه المسألة وتبين لهم أن هذا الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام :-(1/217)
الأول:- التشريح لغرض التحقق عن دعوى جنائية, الثاني:- التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منه, الثالث:- التشريح للغرض العلمي تعلماً وتعليماً وبعد تداول الرأى والمناقشة ودراسة البحث المقدم قرر المجلس ما يلي:- ( بالنسبة للقسمين الأول والثاني فإن مجلس هيئة كبار العلماء يرى أن في إجازتهما تحقيقاً لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواءً كانت الجثة جثة معصومة أم لا, وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظراً إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها وبدرء المفاسد وتقليلها وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحهما وحيث أن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان وحيث أن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظراً إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتاً كعنايتها بكرامته حياً وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( كسر عظم الميت ككسره حياً )) ونظراً إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته وحيث أن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثث أموات غير معصومة فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر ) ا.هـ. والتوقيع:- هيئة كبار العلماء .
سـ49/ ما العلاج الشافي والدواء الناجع الكافي من الوساوس لاسيما فيما يتعلق بالله تعالى وجوداً وصفاتاً وغير ذلك؟ مع بيان ذلك بالدليل ؟(1/218)
جـ/ أقول:- العلاج الشافي والترياق الكافي هو الأخذ بهدي الكتاب والسنة اعتقاداً
وقولاً وعملاً, وتفصيل ذلك في عدة أمور :-
منها :- كثرة الاستعاذة بالله من هذه الوساوس, وذلك لأن مصدرها الشيطان, فإنه حريص على إدخال ما يكدر صفو الاعتقاد وما يوجب ضيق الصدر, بل هذا من أكبر مقاصده وهو عدو يرانا من حيث لا نراه, فطريق الخلاص من وساوسه أن نستعيذ بالله تعالى منه ومن وساوسه قال تعالى { قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس } وقد أعلمنا ربنا جلا وعلا أنه بالاستعاذة يزول سلطانه عنا, قال تعالى { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وهذا العلاج من أعظم ما يدافع به العبد هوى الواردات, فالله تعالى جعل للشيطان سبيلاً على القلوب والنفوس, والاستعاذة بالله منه تسد عليه هذه الأبواب التي ينفذ منها وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يأتي الشيطان أحدكم فيقول:- هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله - عز وجل - , فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته )) فالوصية لمن يرد عليه شيء من ذلك أن يكثر من الاستعاذة بالله من هذا العدو المترصد اللدود الذي لا يرضيه إلا هلاك بنو آدم حساً ومعنى .
ومنها :- الانتهاء عن هذه الوساوس وقطع التفكير فيها والانشغال بغيرها وتغيير الحال الراهنة, فإن كان وحيداً فليطلب من يجلس معه, وإن كان ساكتاً فليتكلم بشيء من ذكر وتسبيح أو قراءة القرآن, ونحو ذلك بل ولو بحديث الدنيا النافع والمقصود أن ينتهي عنها بغيرها, ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق وفيه (( ولينته )) وبناءً عليه فلا يجوز الرضى بها - أي بالأفكار والوساوس - ولا الاسترسال معها وفتح أبواب العقل والروح أمامها, فإنها هلكة مميتة, أو حفرة عميقة, من وقع فيها فقل عليه السلام .(1/219)
ومنها :- أن يقول آمنت بالله ورسله، ويكرر ذلك القول حتى يندحر عدو الله ويخف أثر وسوسته على القلب والعقل، فإن هذه الكلمة تقطع دابره وتبعث البأس في قلبه، وفي هذا معامله للخبيث بنقيض قصده, فإنه يقصد بهذه الوساوس هز الاعتقاد في الله تعالى, فإذا قلت:- آمنت بالله ورسوله ازدادت حيرته وعظم كربه وندم على وسوسته لأنك بهذا القول قد جددت إيمانك واعتصمت بربك والتجأت إليه وعذت به, ولربما قد كنت غافلاً عن ذلك من قبل, فذكرك إبليس بهذه الوسوسة, فيصدق عليه أنه حفر حفرة فوقع فيها وأراد بك شراً فقادك إلى خير ودليل هذا القول حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يزال الناس يقولون ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا:- هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً فليقل:- آمنت بالله ورسله ))"متفق عليه" .(1/220)
ومنها :- أن يعلم العبد أن هذه الوساوس لا تدل على قلة الإيمان وضعف اليقين بل إنها ترد على الجميع إلا من عصمه الله تعالى, وليعلم أيضاً أن نتائجها إذا عوملت بالعلاج الشرعي إنها طيبة, فقد كانت هذه الوساوس تعرض لبعض الصحابة وهم أكمل الأمة إيماناً وأعمقها علماً, ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- جاء ناس من أصحاب رسول الله إلى النبي فقالوا:- يا رسول الله, إنا لنجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال (( أوقد وجدتموه ))؟ قالوا:- نعم فقال (( ذاك صريح الإيمان )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل فقال:- إني أحدث نفسي بالشيء لأن أكوه حممة أحب إلي من أن أتكلم به, فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة ))"رواه أبو داود" فإذا كان مثل ذلك قد عرض لبعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم في عصر العلم, فلأن يعرض لمن هو دونهم في العلم والإيمان من بابٍ أولى, فلا ينزعج العبد من مثل هذه الوساوس أو يتهم نفسه بقلة الإيمان أو أنه ضعيف التقوى, كل ذلك لا يدل عليه مثل هذه الوساوس, بل العكس هو الصحيح, وهو أن مدافعتها ومقابلتها بالعلاج الشرعي هو صريح الإيمان كما قال عليه الصلاة والسلام مطمئناً لمن سأله عن ذلك (( ذاك صريح الإيمان )) بل إن حرص الشيطان على إثارة مثل هذه الوساوس عليك دليل على وجود الإيمان الذي أخافه وأجلب بخيله ورجله عليه, ولما سئل ابن عباس عن السبب الذي جعلنا نوسوس واليهود والنصارى لا يوسوسون قال (( وماذا يريد الشيطان بالبيت الخرب )) فلو كان قلب خالياً من الإيمان لما حرص على مثل هذه الوساوس, فابشر بالخير ولا تخف ولا تنزعج, فإن النتائج طيبة والعاقبة للمتقين والله المستعان .(1/221)
ومنها :- أن تقنع نفسك وتذكرها دائماً أن هذه الوساوس لا أثر لها ما دامت في حيز حديث النفس ووسوسة الصدر, ولم تقرن بعمل أو قول أو استرسال تستطيع أن تدفعه عن نفسه كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها مالم تعمل أو تتكلم )) وفي رواية (( ما حدثت به أنفسها )) وهذا من عظيم فضله جل وعلا وتبارك وتقدس, واعلم أن التكاليف منوطة بالاستطاعة, وليس في استطاعة العبد أن يمنع من ابتداء مثل هذه الوساوس الشيطانية, لكنه مكلف بما هو داخل تحت قدرته واستطاعته وهو عدم العمل بها أو التكلم فيها, ومكلف بقطع الاسترسال معها وبمجاهدتها بالطرق الشرعية, وهذه نعمة عظيمة ومنحة جليلة فالوصية لمن وقع له شيء من ذلك لا يؤثم نفسه, ولا يجعله في عداد الذنوب والخطايا, فإنه عفو بنص الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - لكن بالشروط المذكورة وهي:- أن لا يقارنه عمل, ولا يقارنه قول, ولا يقارنه استرسال, بل يبادر بقطع التفكير فوراً, والله المستعان .(1/222)
ومنها :- أن يتجنب العبد ما يثير مثل هذه الوساوس ومن ذلك:- السؤال عما لا يليق كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً (( لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا:- هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله ))؟ فمبدأ الأمر مطلوب وهو السؤال عن العلم ولكن الانسياق وراء هذه الأسئلة حتى تصل الحال بالعبد إلى المرحلة المغلقة فهذا هو الممنوع وصاحبه هالك, لأنه هو الذي تسبب في إثارة ذلك بالتنطع بمثل هذه الأسئلة وفي الحديث (( هلك المتنطعون )) ومن ذلك:- تجنب قراءة أو سماع الشبه في الأسماء والصفات خاصة, فإن هذه الشبه تخطف القلوب وتطمس نور البصيرة وخصوصاً في وسائل الإعلام, فاحذر من ذلك كل الحذر فلا تفتح الباب على نفسك فإنه إن فتح لا يكاد يغلق إلا بكلفة وأقبل على المعين الصافي المورد العذب الشافي وهو الكتاب وسنة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - , أكثر من قراءة كتب السلف فإنها تعطيك العلم صافياً لا شوب فيه ولا كدر, ومن ذلك:- كثرة الجدال في باب الأسماء والصفات بلا علم ولا برهان, هذا أمر ممنوع شرعاً وهو عنوان الخاسرين المخذولين الذين لم يرد الله بهم خيراً. وغير ذلك, والمقصود أن يتجنب العبد الأسباب التي من شأنها إثارة مثل هذه الأفكار المذمومة, ومن القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع المفضية إلى الممنوع .
ومنها :- الحرص التام على توطين النفس لطلب العلم الشرعي النافع وإشغال النفس به الإشغال التام, وخصوصاً في أبواب المعتقد, فأقبل على حلقات أهل العلم واجث بالركب عندهم وأطل ملازمتهم وانهل من معين علومهم وأخلاقهم وأقبل على كتب السلف الصالح فأكثر من مطالعتها واستخرج فوائدها وأبرد حرارة ظمأ قلبك ببرد يقينه, فطوبى لعبد أشغل وقته بمطالعتها, ويا سعادة قلبٍ استقرت فيه علومها ودع عنك قيل وقال وخذ وهات وإضاعة الأوقات في الذهاب والإياب, والله يحفظنا وإياك .(1/223)
ومنها :- أن تقرأ سورة الإخلاص, فإنه قد ورد في بعض روايات حديث أبي هريرة (( وليقرأ { قل هو الله أحد } )) فالله تعالى هو الأحد في ذاته وفي صفاته وأسمائه وأفعاله والصمد الذي له من الصفات أعلاها وغاياتها وهو بذاته كل أحد فلا صاحبة له ولا ولد, ولا أصول ولا فروع, لأنه الأول ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعده شيء الذي له الملك كله وإليه يرجع الأمر كله المنفرد بالأحدية والصمدية والربوبية والأولوهية الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فلا مكافئ له في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله جل وعلا وتقدس وتنزه عن مماثلة المحدثات وتعالى جل وعلا عن الأوهام الفاسدة والظنون الكاذبة والاعتقادات الباطلة والأفكار العاطلة, آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله فلا ندخل في هذه الأبواب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا .
ومنها :- أن تكثر من دعاء الله تعالى بقلب ونبرة صادقة أن يملأ قلبك إيماناً ويقيناً وثباتاً وعافية, فلرب دعوة صادقة صارت سبباً لسعادة صاحبها في الدنيا والآخرة وكم وكم من البلاء الذي دفع ورفع بسبب الدعاء, فعلق قلبك بالله تعالى بالإكثار من التضرع إليه والانطراح بين يديه واللجأ إلى جنابه فنعم المولى ونعم النصير ونعم العضيد والمعين والمؤيد ونعم المجيب, فاجتهد في دعائه أن يرفع عنك هذه الوساوس وأن يجعل قلبك قلباً سليماً وأن يملأه خشية وتقوى, ولا تستطل الدعاء ولا تستبطئ الإجابة, وأبشر فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً والله يحفظك من كل سوء وبلاء والله أعلم .(1/224)
ومنها :- إذا زادت عليك هذه الوساوس ولم تذهب بالعلاجات السابقة وترقت معك حتى صارت من الوساوس القهرية فأوصيك بمراجعة الأطباء النفسانيين الموثوقين في علمهم وديانتهم وأمانتهم, فإن بعض الوساوس تكون أسبابها اضطرابات نفسية ومزاجية بسبب زيادة بعض الإفرازات أو نقصها وعلاجها عند الأطباء النفسيين ولا عيب في ذلك فإن علم النفس علم له أدواته وقواعده, وقد تحققت منه الفوائد العظيمة والعوائد الحميدة فلا ينبغي إهمال جانبه ولا إغفال أهميته فذهب إليهم وأخبرهم بحقيقة ما تجده وستجد عندهم الخير إن شاء الله تعالى فهذا ما حضرني من العلاجات لمثل هذه الوساوس, أسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يعيذنا وإخواننا من هذه الوساوس إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو أعلى وأعلم .
سـ50/ ما الأحكام الطبية المتعلقة بالمعوقين؟ مع قرنها بقواعدها ؟
جـ/ هذه الأحكام كثيرة ولكن نذكر لك طرفاً منها:- فأقول :-
الأول :- إذا قطعت اليد أو الرجل الواجب غسلها فإنه يسقط عن صاحبها وجوب الغسل لسقوط المحل الذي يجب غسله إذ تكليفه بغسلها مع عدم وجودها من تكليف مالا يطاق وقد تقرر في القواعد أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وتقرر في القواعد أيضاً أنه لا واجب مع العجز هذا إذا كان القطع قد استوفى الرجل كلها إلى الكعبين واستوفى اليد كلها إلا ما فوق المرفق وأما إذا كان القطع لم يكن إلا في بعض محل الفرض فقط فيسقط الفرض عن الجزء المقطوع فقط أما باقي الفرض فيجب غسله .
الثاني :- إذا ركب الإنسان يداً اصطناعية أو رجلاً اصطناعية فهل تحل محل الأصلية في وجوب الغسل؟ الجواب لا, لا تحل محل الفرض في ذلك فلا يجب غسلها لأن الأحكام الشرعية إنما تتجه لليد والرجل الحقيقية, أما الاصطناعية فإنه لا يتعلق بها وجوب الغسل, بل ولا يجب مسحها أيضاً, لأن الغسل والمسح إنما يكونان على اليد والرجل الحقيقية, وقد تقرر في القواعد:- أنه إذا سقط محل الفرض سقط فرضه الواجب فيه .(1/225)
الثالث :- القول الصحيح أن الإنسان إذا لبس جورباً على هذه الرجل الاصطناعية فإنه لا يجب عليه مسحه, بل ولا يسن لأن المسح بدل عن الغسل, وقد ذكرنا سابقاً أن الغسل قد سقط لسقوط محله وقد تقرر في القواعد أنه إذا سقط الأصل سقط فرعه وتقرر أيضاً أنه إذا لم يجب المبدل لم يجب بدله والله أعلم .
الرابع :- إذا اعتدى أحد على اليد المشلولة التي لا حراك بها البتة وقطعها, فهذه جناية ولاشك إلا أنه لا قصاص فيها وإنما الدية فقط, وذلك لأن من شروط استيفاء القصاص التي قررها أهل العلم في الأطراف المكافأة في الاسم والكمال فلا تؤخذ يد صحيحة بشلاء, ولا عين صحيحة بعمياء, ولا رجل صحيحة بشلاء, هكذا ذكره الأصحاب في عامة كتبهم المؤلفة في الفقه والله أعلم .
الخامس :- المشلول يصلي على حسب حاله, ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, فإن
كان قادراً على استقبال القبلة وجب عليه ذلك وإلا فيسقط عنه لأن الواجبات تسقط بالعجز, وإن كان قادراً على الطهارة المائية وجب عليه ذلك وإن لم يكن قادراً عليها فله أن يتيمم إن كان قادراً على ذلك وإلا فيصلي على حسب حاله لأن الواجبات تسقط بالعجز عنها, فيفعل من الواجبات ما يقدر عليه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور, ومالا يقدر عليه فإنه لا يكلف به لأن المأمورات منوطة بالاستطاعة فلا تكليف إلا بالقدرة, والله أعلم .
السادس :- إذا كان حضور صلاة الجماعة فيه كلفة ومشقة على المشلول فإن الواجب يسقط عنه وله أن يصلي في بيته, والله أعلم .
السابع :- يجوز للمشلول الذي يشق عليه فعل كل صلاة في وقتها أن يجمع بين الظهرين وبين العشاءين جمع تقديم أو جمع تأخير على ما هو الأرفق به وبحاله وذلك لأن المتقرر أن الجمع رخصة عارضة لرفع المشقة والحرج, والله اعلم .
الثامن :- المشلول الذي لا يستطيع الحج بنفسه وهو يجد المال فإنه يلزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر والأحاديث في ذلك معروفة .(1/226)
التاسع :- إذا احتلم المشلول فإنه يجب عليه الاغتسال إذا كان يجد من يعينه على ذلك ممن حوله فإن لم يجد فإن وجوب الغسل يسقط عنه وينتقل إلى التيمم والله أعلم .
العاشر :- إذا كان أنبوب البول والغائط لابد من اتصاله بالمشلول ولا يتمكن حال الصلاة من إزالته فإنه يصلي به ولا شيء عليه لأنه لا واجب مع العجز .
الحادي عشر :- إذا سقط شيء من النجاسة على بدن أو ثوب المشلول ولم يستطع أن يزيله وليس عنده من يزيله فإنه يصلي ولا شيء عليه وصلاته صحيحة لأن إزالة النجاسة واجب مع القدرة وأما مع العجز فإنه يسقط لأنه لا واجب مع العجز .
الثاني عشر :- إذا قرر فريق طبي مسلم أن هذا المعوق لا يستطيع الصيام فلا يخلو إما أن لا يستطيعه مطلقاً أي أنه لا يرجى برؤه من هذه الإعاقة التي قرروا أنها مانعة له من الصوم وإما أن يرجى برؤه منها, فإن كان ممن لا يرجى برؤه فإنه يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً, وأما إن كان يرجى برؤه منها فإنه يفطر ويقضي من أيام أخر أي بعد شفائه فإن مات ولم يقضي ولم يشف من هذه الإعاقة فإنه لا يموت عاصياً ولا شيء عليه وإن صام عنه وليه تلك الأيام التي مات عنها فإنه حسن جداً لعموم حديث (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )) وهو في الصحيح .
الثالث عشر :- بيع المعوق وشراؤه وسائر معاملاته صحيحة لا غبار عليها, إذا لم تكن الإعاقة قد أثرت على أهليته .
الرابع عشر :- إذا كانت الإعاقة قد أفقدت المكلف بعض أهليته لا كلها وخشي أن يخدع في بيوعاته وشرائه فله شرعاً الخيار ثلاثة أيام لحديث حبان بن منقذٍ وفيه (( إذا بايعت فقل لا خلابة, وجعل الخيار ثلاثة أيام )) .(1/227)
الخامس عشر :- لا يجوز للمشلول في يديه ورجليه أن يعقد مع غيره شركة أبدان لأن هذه الشركة مبناها على العمل بالبدن وهو لا يستطيع أن يعمل ببدنه لتعطل جميع أطرافه إلا إذا كان سيستأجر من يعمل بدله فلا بأس بذلك لكن لابد أن يُعْلمَ شريكه بذلك قبل عقد الشركة ليكون على بصيرة من أمره .
السادس عشر :- إذا كانت الإعاقة لا شأن لها بأهلية المعاق فإن نكاح المعوق وطلاقه ورجعته وتوكيله وتوكله وكفالته وضمانه, وخلعه, وظهاره, وإيلاؤه, ويمينه ونذره, وعتقه, وإجارته واستعارته وإعارته واستيداعه وتوديعه كل ذلك يقع صحيحاً لا غبار عليه فإن هذه العقود لا شأن لها بحركة الأطراف ولا بغيرها من أنواع الإعاقة, ما دامت هذه الإعاقة لم تؤثر على الأهلية, فهذه بعض أحكام المعوقين والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ51/ ما العيوب المرضية التي ينص عليها الفقهاء في كتبهم في كتاب النكاح؟ وما الأثر الفقهي فيها ؟
جـ/ أقول :- هذه العيوب قد فَصَلَ ابن القيم فيها بكلام جامع مانع و هو قوله
((1/228)
الصحيح أن النكاح يفسخ بجميع العيوب كسائر العقود لأن الأصل السلامة فكأن هذه الشروط في العقد نقص شيء من الأطراف فكل عيب ينفر الزوج من الآخر ولا يحصل معه مقصود النكاح من المودة والرحمة فإنه يوجب الخيار ) ا.هـ. كلامه ولكن لابد من تفصيل ذلك فأقول:- العيوب من حيث هي تنقسم إلى قسمين:- أحدهما:- عيوب جنسية, تمنع الاستمتاع من أساسه, كالجب, والعنة والخصا في الرجل, والرتق والقرن والعفل في المرأة, الثاني:- عيوب لا تمنع الاستمتاع ولكنها أمراض منفرة من كمال العشرة بحيث لا يمكن معها بقاء الزوجية إلا بضرورة كالجنون والبرص والزهري والأمراض المعدية, فهذا بالنسبة لتقسيمها من حيث هي وأما تقسيمها من حيث محلها فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام:- عيوب مشتركة وعيوب خاصة بالرجل, وعيوب خاصة بالمرأة.(1/229)
ودونك تفصيلها أكثر فأقول:- أما ما يختص بالزوج فكقطع ذكره كله أو بعضه إن لم يبق من الذكر ما يمكن به الجماع وكذلك إذا وجد الذكر ولكنه ذكر خامد لا حراك به وهو العنين وحكمه عند الفقهاء أنه يؤجل بعد ثبوتها فيه سنة كاملة لأنه إذا مضت الفصول الأربعة ولم تزل علته علمنا أنها خلقة فيه, فإن وطئ في السنة وإلا فلها الخيار في الفسخ, فإن اختارت البقاء فلها ذلك وإن اختارت الفسخ فلها ذلك وبلا عوض وأما المختصة بالزوجة فهو الرتق بأن يكون فرجها مسدوداً لا يسلكه الذكر بأصل الخلقة, وكالقرن وهو لحم زائد ينبت في الفرج فيسده، وكالعفل، وهو ورم في اللحمه التي بين مسلكي المرأة فيضيق عليها فرجها فلا يسلكه الذكر, وكالفتق بأن بأن ينخرق سبيلها أو ينخرق مابين مخرج البول والمني وكالقروح السيالة في فرجها والتي تصدر الروائح الكريهة وتمنع من كمال الاستمتاع, وكدوام الاستحاضة أي النزيف فإنه ينفر الطبع ويمنع من كمال الاستمتاع, وأما العيوب المشتركة فكالجذام والبرص نعوذ بالله منهما وكالجنون ولو متقطعاً وكسقوط شعر الرأس كله فلا يبقى منه شيء وهو القرع, وكالباسور والناسور وهما داءان بالمقعدة, وكالأمراض المعدية الدائمة كالإيدز ونحوه نعوذ بالله منه, وكبخر الفم الدائم أي قبح رائحته جداً بحيث لا تطاق إذا لم تنقطع بالعلاج أو بما يزيلها ولو في وقت الاتصال وكالأمراض النفسية المتأزمة والتي من شأنها أن تمنع من كمال المودة والرحمة والمواءمة والاتفاق وكالسحر السابق للعقد والذي يقصد به منع المرأة من الرجال أو منع الرجل من النساء فإن الحياة به صعبة جداً وعلاجه يطول لاسيما مع قلة القراء الصادقين وضعف الإيمان وكثرة الذنوب واتباع الشهوات, وتفاصيل العيوب كثيرة ويجمعها لك ما قاله ابن القيم رحمه الله تعالى من أن كل عيب ينفر عن كمال الاستمتاع فإنه يثبت الخيار, وأما أثرها الفقهي فقد قرر الفقهاء أن هذه العيوب يثبت بها الخيار فإن كانت في(1/230)
الزوج فللمرأة الخيار في البقاء أو الفسخ وإن كانت في الزوجة فللزوج الخيار في البقاء أو الفسخ, وإن كانت مشتركة فالخيار ثابت في حقهما معاً والله أعلى وأعلم .
سـ52/ كيف تعالج الأمراض النفسية ؟
جـ/ أقول:- المشروع أن تعالج بالطب النبوي وبالعلاج الذي يعرفه خواص الأطباء المتخصصون في ذلك بشرط أن لا يكون بما يخالف الشرع, وهذا من باب الإجمال وأما التفصيل فيكون علاج ذلك بعدة أمور :-
منها :- الثقة بالله تعالى وإحسان الظن به وحسن التوكل عليه وتفويض الأمور إليه واحتساب الأجر في ذلك .
ومنها :- التوبة الصادقة المستجمعة لشروطها .
ومنها :- الإلحاح على الله تعالى بالدعاء بالضوابط الشرعية والآداب المرعية وتحري الفرج وترك الاستعجال .
ومنها :- الرقية بالقرآن والأدعية والتعاويذ الشرعية الثابتة, سواءً على نفسه - وهو الأحسن - أو عند الثقات .
ومنها :- التداوي بالإكثار من شرب ماء زمزم ففي الحديث (( ماء زمزم لما شرب
له )) وفي الحديث (( إنها مباركة وإنها طعام طعم وشفاء سقم )) رواه مسلم وأبو داود
وهذا لفظه .
ومنها :- توصية أهل الدين والصلاح والعلم بالدعاء لك .
ومنها :- استماع القرآن وقراءته كثيراً فإن الترياق المجرب الذي لا أنفع منه للروح والجسد .
ومنها :- الابتعاد عن الأمور المحزنة التي توجب تضييق الصدر والإقبال على ما يبهج الروح ويريح النفس .
ومنها :- طلب الخلطة وترك الوحدة .
ومنها :- العلاج عند الأطباء الثقات المسلمين المتخصصين في الأمراض النفسية و المواصلة معهم والمحافظة على مواعيد أخذ علاجهم, وإقناع النفس الدائم بأنهم أسباب ووسائل وأن الشافي وحده هو الله جل وعلا .
ومنها :- الصبر الجميل الذي يقتضي ترك الشكوى والجزع المنافي له .
ومنها :- التفاؤل وطول الأمل ومحاربة اليأس ما استطعت إلى ذلك سبيلاً .
ومنها :- معرفة الثواب والأجور المترتبة على ذلك بكثرة الاطلاع على ما كتب في ذلك .(1/231)
ومنها :- تقوية النفس بالإيمان ومضاعفة الجهد في تحصيل صالح الأعمال لاسيما كثرة الذكر الذي يشرح الصدر ويريح القلب وينير الدرب .
ومنها :- قطع الأسباب التي أثارت هذه المشكلة النفسية والتباعد عنها بقدر المستطاع .
ومنها :- تغيير البيئة المرضية إذا لم يمكن إزالة هذه الأسباب فإن تغيير البيئة منهج من مناهج العلاج النفسي وتغيير السلوك فهذه بعض الطرق لعلاج الأمراض النفسية ولو راجعتها لو جدت أنها جمعت بين العلاجين الحسي والروحي والله أعلى وأعلم .
سـ53/ كيف يعالج الغضب مع بيان ذلك بالدليل ؟(1/232)
جـ/ أقول:- اعلم رحمك الله تعالى أن للغضب علاجين, علاج دافع وعلاج رافع فأما علاجه الدافع فقطع أسبابه التي تثيره, وذلك بتعويد النفس وتربيتها على الحلم دائماً وقصرها على ذلك قصراً وإلزامها به, وتذكيرها بفضله وأنه من الخصال التي يحبها الله تعالى, وتعويدها دائماً على العفو والصفح, وتعليم من تحت يدك بما يغضبك من الأقوال والأعمال ليجتنبوه, من الزوجة والأولاد والخدم والعمال والطلاب والمرؤسين والموظفين ونحو هؤلاء وقد جربنا ذلك فوجدنا أن عوائده طيبة جداً, واحترم الآخرين وعدم إغضابهم بقول أو فعل, وسلوك طريق الأدب معهم والإكثار من ذكر الله تعالى دائماً وأبداً, والاستعانة على مجانبة الغضب بقيام الليل والإكثار من الصدقة وسائر أعمال البر, والبعد عن مجالس اللغظ والهذر والكلام الذي لا يحتسب له أصحابه, وتقليل مخالطة الغير إلا فيما دعت له الحاجة, وترك مصاحبة الأحمق الذي لا يفكر فيما يخرج من بين شفتيه, وترك الخصومات والجدال إلا في الحق مع مراعاة الأدب في ذلك, والجد في طلب الأعذار للآخرين إذا صدر منهم تصرفات تغضبك, وقد جربنا ذلك فوجدناه من أعظم ما يدافع به الغضب وإحسان الظن بالآخرين وحمل كلامهم على أحسن المحامل, وكثرة دعاء الله تعالى بالحلم ومجانبة الغضب, وبالجملة فكل سبب من الأسباب التي توجب الغضب فيتباعد عنها فهذا بالنسبة للوقاية منه, وأما علاجه بعد وقوعه فيكون بتملك النفس وإحكام زمامها وهذا هو الشديد الذي مدحه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) ومعنى ذلك أن يملك لسانه وتصرفاته, ذلك لأن الغضب حالة يهيج فيها كل شيء لأنه جمرة نار يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم فلا يستطيع غالب الناس أن يتحكموا في أقوالهم وأفعالهم فأخبر(1/233)
النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشديد في الحقيقة هو الذي يستطيع أن يقاوم هذا الوارد القوي وأن يدافعه بإحكام نفسه وإمساك أقواله وأفعاله عن ما لا ينبغي, فهذا هو الشديد في الحقيقة فالشديد ليس هو الذي يغالب الأبطال وفحول الرجال إنما الشديد هو الذي يغلب نفسه عند الغضب وفوران دم القلب, والله المستعان, ومما يعالج الغضب به أيضاً كظمه وعدم إظهاره مع احتساب الأجر العظيم والثواب الجزيل المترتب على ذلك, قال البخاري في الأدب المفرد:- حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو شهاب عبدربه, عن يونس عن الحسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (( ما من جرعة أعظم عند الله أجرً من جرعة غيظٍ كظمها عبد, ابتغاء وجه الله )) وسنده صحيح وقبل ذلك قوله تعالى { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةٍ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } ومما يعالج به الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم فقد روى الشيخان في صحيحهما من حديث سليمان بن صرد قال:- استب رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل أحدهما يغضب ويحمر وجهه فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (( إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب هذا عنه:- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) فقام رجل إلى ذاك الرجل فقال:- تدري ماذا قال؟ قال (( قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) فقال الرجل أمجنون تراني, وفي رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له (( تعوذ بالله من الشيطان الرجيم )) فقال الرجل:- وهل بي من جنون, ومما يدافع به الغضب السكوت ومجانبة الكلام فقد روى البخاري في الأدب المفرد بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( علموا ويسروا علموا ويسروا - ثلاث مرات - وإذا غضبت فسكت - مرتين - )) وهو حديث حسن ومما يدافع به الغضب بعد وقوعه تغيير الهيئة فإن كان قائماً(1/234)
فليجلس وإن كان جالساً فليضطجع ففي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا (( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ))"حديث صحيح رواه أبو داود وغيره" ومما يدافع به أيضاً إطفاؤه بالوضوء فقد روى أبو داود بسندٍ فيه ضعف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ )) فهذه جملة الأشياء التي يعالج بها الغضب دفعاً قبل وقوعه ورفعاً بعد وقوعه والله يعيننا وإياكم على امتثالها وهو أعلى وأعلم . سـ54/ ما هديه - صلى الله عليه وسلم - في علاج الحمى؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/235)
جـ/ أقول:- لابد من الذهاب للمستشفى لعلاجها ولكن مع علاجها بذلك فلابد أن يحرص المسلم على العلاج النبوي وهو إبرادها بالماء, ذلك لأنها نار في الجسد فتقاوم بما يضادها ويبطل فاعليتها والماء هو الذي يذهب أثرها بإذن الله تعالى, فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إن الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء - أو قال - بماء زمزم )) ويكون ذلك برش الجسد أو بالانغماس في الماء, فأما رش الجسد فيدل عليه ما رواه الحاكم والطبراني وأبو يعلى في مسنده وأبو نعيم في الطب من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا حَمَّ أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليالٍ من السحر )) قال الحافظ في الفتح:- سنده قوي, وهو حديث صحيح, فهذا الحديث أفاد أن الإبراد يكون بالرش, ويكون ذلك في وقت السحر, وأما الانغماس فيدل عليه حديث نافع بن جبير قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا أصابت أحدكم الحمى فإن الحمى قطعة من النار فليطفئها بالماء البارد فليستنقع في نهرٍ جارٍ وليستقبل جريته بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس وليقل:- باسم الله, ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام, فإن برئ وإلا ففي خمسٍ فإن لم يبرأ في خمسٍ, فسبع فإن لم يبرأ في سبعٍ فتسع فإنها لا تكاد تجاوز التسع بإذن الله ))"رواه الترمذي والحاكم وابن السني وأبو نعيم في الطب, والذهبي في الطب وفيه ضعف" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد ))"رواه ابن ماجه وصححه البوصيري وحسنه السيوطي" وخلاصة علاجها في الشرع المطهر إبرادها بالماء البارد بالرش أو الانغماس والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ55/ ما حكم التأمين الصحي؟ وما القاعدة في ذلك ؟(1/236)
جـ/ أقول:- التأمين الصحي لا يخلو من حالتين:- إما أن يكون تأميناً صحياً تجارياً
وإما أن يكون تأميناً صحياً تعاونياً فأما التأمين الصحي التجاري فإنه حرام بكل صوره وأشكاله, وبتحريمه صدر قرار هيئة كبار العلماء وقرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي المنعقد في جدة, وصدرت بتحريمه عدة فتاوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء, كل هؤلاء يفتون بتحريم التأمين التجاري بكل صوره وأشكاله, وذلك لأنه معاملة مبنية على المخاطرة وقد تقرر في القواعد أن كل معاملة مبنية على المخاطرة فهي قمار, والقمار من الميسر والميسر قد ورد تحريمه في القرآن بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون...(1/237)
الآية } والقمار والميسر من أكل المال بالباطل, وهذا حرام كما قال تعالى { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم } وبيان ذلك أن المبلغ المدفوع من المستأمن ليحصل به على خصم لمدة سنة أو أكثر أو أقل قد لا يستفيد منه مطلقاً لعدم حاجته إلى المستوصف تلك المدة فيغرم بهذا ماله الذي دفعه ويغنمه المستوصف, وقد يستفيد منه كثيراً ويفوق ما دفعه مضاعفاً فيغنم هو ويغرم المستوصف فالغانم منهما كاسب في رهانه, والغارم خاسر فيه وهذا العمل هو عين المقامرة المحرمة الوارد تحريمها في الآية السابقة, ولأن هذه المعاملة فيها غرر ظاهر وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الغرر )) وقد تقرر في القواعد أن كل معاملة فيها غرر وجهالة فيما يقصد فهي باطلة وبالجملة فالأدلة من الكتاب والسنة والأصول تدل على تحريم التأمين التجاري بكل صوره وأشكاله أي سواءً أكان على الممتلكات أو كان على الحياة أو كان على حفظ الصحة ونحو ذلك فكل ذلك حرام, وأما التأمين التعاوني فهو أن يجتمع بعض الناس أو بعض المحسنين ويدفعوا للمستوصف مبلغاً معيناً أو يوضع صندوق تجمع فيه تبرعات المحسنين لمساعدة المحتاجين للعلاج أو غيره, ولا يعود منه كسب مالي للتبرع
وإنما يقصد به مساعدة المحتاجين طلباً للأجر والثواب من الله تعالى , فهذا النوع من
التأمين جائز ولاشك في جوازه, والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ56/ ما معنى الاستنساخ البشري؟ وما حكمه شرعاً؟ مع بيان ذلك بالأدلة والقواعد ؟(1/238)
جـ/ أقول:- الاستنساخ البشري هو محاولة تقديم كائن أو خلية أو جزيء بحيث تستطيع من غير نقصٍ ولا إضافة لمحتوياتها الوراثية أن تتكاثر عن غير طريق التكاثر التلقيحي ويطلق عليه النسخ والتكاثر الخضري أو العذري أو اللاجنسي والتكاثر بالخلايا الجسدية, وخلاصته طلب التكاثر بغير الاتصال المشروع وإنما بطرق مخصوصة, وحكمه شرعاً التحريم الأكيد القاطع, ولا أعني به التحريم في حق النبات والحيوانات وإنما نتكلم هنا عما يتعلق بالإنسان, فلا يجوز البتة أن يدخل الإنسان تحت هذه العملية الساقطة الهابطة المحرمة, ولا نعلم أحداً من علماء المسلمين أفتى بالجواز وإن كان بعضهم قد توقف عن البت فيها إلا أننا لم نسمع عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أجازها, بل حتى رهبان النصارى وعقلاء الغرب قد وقفوا في وجهها أيما وقوف, وقد اتفقت كلمة المجامع الفقهية على تحريم الاستنساخ البشري وقد أفتى بذلك الشيخ محمد بن عثيمين والشيخ محمد سيد طنطاوي والشيخ فريد واصل والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم كثير مما يصعب حصره إلا بكلفة, بل وفي مجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة المنعقد بجدة والممثلة فيه جميع الدول الإسلامية قد منعوا الاستنساخ البشري منعاً باتاً, وأكدوا ذلك المنع في أول قرارات ذلك المجلس الموقر في دورته الخامسة عشرة والمنعقدة في مكة المكرمة, ولا أظن عالماً من علماء المسلمين يتوقف في تحريم ذلك, والأدلة على تحريمه كثيرة جداً ونذكر لك طرفاً منها :-(1/239)
الأول :- قوله تعالى { إنا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاج } ووجه الدلالة أن النطفة الأمشاج هي لقيحة مكونة من حيوان منوي ذكري وبويضة أنثوية والله تعالى يبين أن سنته في إيجاد الإنسان منحصرة في ذلك بهذه الطريقة فيكون مخالفتها حراماً ذلك أنه متى ما أمكن إيجاد الإنسان بطريقة أخرى خرجت الآية عن كونها خبراً إلى أنها بيان حكم شرعي كما في قوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } .
الثاني :- قوله تعالى { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } ووجه الدلالة أن الزواج هو أساس التكاثر في الشرع وهو سبيل إيجاد المودة والرحمة وفي الاستنساخ مساس بالعلاقة المتينة التي أوجدها الله تعالى في هذا الزواج ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم .
الثالث :- قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحاً لنكون من الشاكرين } ووجه الدلالة أن الله تعالى يخبر هنا عن الطريق الشرعي للحمل وهو غشيان الرجل لزوجته وهذا فيه بيان أن كل طريق يخالف ذلك ويضاده فإنه جنوح عن المسلك الشرعي والاستنساخ حقيقته أنه خروج عن هذا الهدي الشرعي وتنكب عن الصراط المستقيم ودخول في طرق هوجاء عوجاء لا علاقة لها بالآداب الشرعية ولا المناهج المرعية .(1/240)
الرابع :- قوله تعالى { والله جعل لكم من أنفسكم أزوجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون } ووجه الدلالة أن الله تعالى جعل لنا طريقاً واحداً للتكاثر وهو التزاوج فقط, فالبنون والحفدة لا طريق شرعاً لتحصيلهم إلا بذلك وهذا من نعمة الله تعالى وقوله تعالى { أفبالباطل يؤمنون } دليل على أن كل طريق لطلب التكاثر بغير المقرر شرعاً في أول هذه الآية فإنه من الباطل الذي يجب علينا أن لا نؤمن به والاستنساخ البشري من ذلك الباطل فإنه يدخل تحت عموم لفظة ( الباطل ) لأنه طلب للتكاثر بغير الطريق الشرعي وهو التزاوج , فالاستنساخ باطل بنص القرآن والباطل لا يكون إلا حراماً .
الخامس :- قوله تعالى { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم } والمراد بما كتب الله لنا أي الولد على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير وقد نقله عن ابن عباسٍ ومجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والربيع والضحاك ابن مزاحم, ومعلوم أن الولد لا يطلب إلا بالمباشرة في الفرج لقوله تعالى { فالآن باشروهن } فدل ذلك على أن كل طريق لطلب الولد غير هذه المباشرة المأمور بها شرعاً فإنه لا يجوز, فابتغاء ما كتب الله لنا من الولد لا يكون إلا بذلك وهذا هو الطريق الشرعي وما عداه فباطل زائف ومن ذلك الاستنساخ البشري فإنه طلب للنسل بغير المباشرة فهو حرام .(1/241)
السادس :- حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم ))"رواه أبو داود بسندٍ صحيح" فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتكاثر طريقاً واحداً وهو التزوج فقط, فلا تطلب المكاثرة بأي طريق من الطرق التي يمليها علينا كفرة أطباء الغرب الذين لا يحكمهم دين ولا تؤدبهم شريعة وإنما هم عبيد لأهوائهم ورغباتهم, فالأمر بالتزوج والإخبار بأنه - صلى الله عليه وسلم - سيكاثر بنا الأمم يوم القيامة دليل على أنه لا تكاثر شرعاً إلا بهذا الطريق الوحيد, والاستنساخ لا يحمل هذه الخاصية فهو حرام لأنه يفضي إلى ترك المأمور به شرعاً والله أعلم .
السابع :- أن النسب والمحافظة عليه يعتبر من أحد الضرورات الخمس التي جاءت كل الشرائع بالمحافظة عليها, وهو أحد الضوابط الجوهرية التي تعصم من اقتحام المخاطر غير المحصورة والإقدام على تطبيق الاستنساخ في الإنسان لا ينفك عن الوقوع في تجهيل الأنساب وانقطاع التناسل الذي ناط الله تعالى به القرابة بأنواعها وقد تناول الحظر صوراً عديدة تؤدي لجهالة النسب أو لإدخال التنازع فيه فالاستنساخ البشري يفضي إلى اختلاط الأنساب وانقطاع التناسل وهذا محرم شرعاً وقد تقرر في القواعد أن ما أفضى إلى الحرام فهو حرام .
الثامن :- أن الطريق الشرعي في الإنجاب هو التزاوج, وأي طريقة للإنجاب بغير ذلك فإنه تكون مصادمة لمقصود الشارع, والاستنساخ يحصل به الإنجاب من غير اتصالٍ بين الذكر والأنثى على الوجه الشرعي فيكون مصادماً لمقصود الشارع وما صادم مقصود الشارع فهو حرام لا يجوز الإقدام عليه .(1/242)
التاسع :- أن الله تعالى قد كرم الإنسان فقال { ولقد كرمنا بني آدم...الآية } وقال فيها { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } فأي فعل ينافي هذا التفضيل والتكريم فإنه ينهى عنه, وبناءً عليه فلابد من استشعار خطورة النظر إلى الإنسان وكأنه مما يتخذ للتكاثر بما يشبه التمول, وكأنه من السلع الخاضعة للتنمية, فلا يجوز أن يجعل الإنسان محلاً للتصرفات المهينة القبيحة المستهجنة كما هو حاصل في مسألة الاستنساخ البشري, وعلى ذلك فهو حرام لأنه مفضي إلى إهانة هذا الإنسان ولأنه منافٍِ لمقتضى تكريمه وتفضيله على سائر الخلق .(1/243)
العاشر :- أنه قد تقرر شرعاً أن سد الذرائع المفضية إلى الممنوع أصل من أصول هذا الدين الحنيف, فأي وسيلة تفضي إلى الوقوع في الحرام فإنها حرام, والاستنساخ البشري يفضي إلى استئجار الأرحام وهو حرام, ويفضي إلى ضياع النسب وهو حرام ويفضي إلى إهانة الإنسان وهو حرام, ويفضي إلى ترك التزوج وليس ترك الزواج من دين الإسلام في شيء ويفضي إلى تعطيل النفقة الواجبة لأن هؤلاء المستنسخين لا يعرفون لهم أباً ولا أماً, فمن الذي سينفق عليهم, وهذا وقوع في إهمالهم وعدم وجود من يراعيهم ولا يتفطن لأحوالهم فيبقون همجاً رعاعاً عالة على المجتمع وهذا كله لا يجوز, ويفضي أيضاً إلى الانتساب لغير الأب وهو محرم التحريم القاطع في شريعتنا ويفضي أيضاً إلى انقطاع العلائق بين الأصول والفروع فلا تراحم ولا توادد ولا شفقة ولا إحسان, ويفضي أيضاً إلى تفكك المجتمع لنشؤ شريحة فيه لا يعرفون لهم أباً ولا أماً, وهذا يفضي إلى تصدع نواة المجتمع الإسلامي ووهنه وضعفه وذهاب هيبته وكلمته, ويفضي أيضاً إلى تعطيل المواريث أو إعطائها من لا يستحقها شرعاً ويفضي إلى انتهاك حرمة المرأة وإهانتها وكشف عورتها لزرع هذه اللقيحات فيها ويفضي إلى افتتان العقول الضعيفة في شأن انفراد الله تعالى بالخلق والإيجاد فهذه بعض ما يفضي له الاستنساخ البشري وحيث كان يفضي إلى هذه الأشياء فلاشك حينئذٍ في تحريمه التحريم المؤكد القاطع .
الحادي عشر :- أن المتقرر شرعاً أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح, والمفاسد في الاستنساخ البشري كثيرة كما ذكرت لك طرفاً منها, ولو نظرنا إلى مصالحه لما وجدنا أنها معتبرة شرعاً, فلو سلمنا جدلاً وتنزلاً أن فيه مصلحة فإنها تكون مغمورة وليست بشيء في جنب هذه المفاسد التي لا يقوم لها شيء فتنزيلاً على هذه القاعدة فإن الواجب سده وإغلاق أبوابه بإحكام وزجر فاعليه وتعزيرهم ومعاقبتهم العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن معاودة مثل ذلك .(1/244)
الثاني عشر :- أن المتقرر شرعاً أن الشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكمليها وتقليل المفاسد وتعطيلها, وحيث كان الاستنساخ البشري يحمل المفاسد الكثيرة فإن الواجب شرعاً منعه لأننا بمنعه نعطل المفاسد التي يتضمنها هذا الأمر, فهذه بعض الأوجه الدالة على تحريم هذا الأمر, إذا علمت هذا فاعلم أنني قد سألت بعض مشائخي عن أدلة تحريمه, فقال:- إن هذا الأمر لا وجود له ولا حقيقة له, وإنما هي مقالات تنشر هنا وهناك من الغربيين الكفرة, ولو نظرنا إلى وجوده على أرض الواقع لما وجدناه متحققاً وإنما فرقعات إعلامية, فقلت:- على كل حالٍ فما سبق من بحثنا في حكمه وأدلته إنما هو من باب التقرير فإن كان موجوداً فهذا هو الحكم المتقرر فيه وإن لم يكن موجوداً فالله يعفو عنا ويغفر لنا ويتجاوز عن زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ57/ ما الأحكام الفقهية الخاصة بفقدان الذاكرة ؟
جـ/ أقول:- الأحكام المتعلقة بمن فقد الذاكرة مجملة فيما يلي :-
أحدها :- أن فاقد الذاكرة ينزل منزلة الصبي الذي ليس بمميز فتسقط عنه التكاليف فلا يجب عليه صلاة ولا صيام ولا طهارة ولا حج ولا غير ذلك لأن هذه التكاليف منوطة بالعقل التكليفي وفاقد الذاكرة فاقد لهذه الأهلية أي لا تمييز عنده ولا تمييز له فلا تكليف عليه .
الثاني :- أن فاقد الذاكرة لا تقبل شهادته ولا تطلب منه أصلاً لأن قبول الشهادة مبناه على أهلية الشاهد وفاقد الذاكرة لا أهلية له, ومن لا أهلية له فلا تقبل منه الشهادة .(1/245)
الثالث:- أن فاقد الذاكرة لابد أن يكون له ولي من أبٍ أو أخٍ أو عمٍ أو وصي وإلا فالحاكم, ذلك لأنه لا تصح تصرفاته بنفسه لأنه ليس جائز التصرف فإن جائز التصرف هو من توفر فيه العقل والبلوغ والرشد وفاقد الذاكرة منزل منزلة غير المميز فإذا كان السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال محجور عليه حتى يعرف منه الرشد ففاقد الذاكرة أولى بالحجر منه, ووليه في الحجر أبوه أو وصيه وإلا فالحاكم كما ذكرنا والله أعلم .
الرابع :- أن فقد الذاكرة لا شأن له بإسقاط الضمان لأن الضمان من خطاب الوضع لا من خطاب التكليف فلو أتلف فاقد الذاكرة شيئاً فعليه الضمان والله أعلم.
الخامس :- القول الصحيح إن شاء الله تعالى أن فاقد الذاكرة لو كان له مال وحال عليه الحول فعليه الزكاة, لأن وجوب الزكاة عليه من باب ربط الأحكام بأسبابها فالزكاة وإن كان لها تعلق بالذمة إلا أن تعلقها بالمال أقوى ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن (( صدقة تؤخذ من أموالهم )) فبين أن ارتباطها بالمال أقوى, والراجح عندنا أن مال المجنون فيه الزكاة ومال الصبي الذي لم يبلغ فيه زكاة فمن باب أولى فاقد الذاكرة والله أعلم .
السادس :- إذا كان فقد الذاكرة يعرض أحياناً ويزول أحياناً فيجب عليه الصلوات
التي يعود له عقله فيها وأما الأوقات التي تكون ذاكرته فيها مفقودة فلا شيء عليه فيها .
السابع :- لو أعتق فاقد الذاكرة عبداً من عبيده فإن عتقه لا يصح لأنه محجور عليه لحظ نفسه .
الثامن :- لو كان لفاقد الذاكرة امرأة فطلقها حال فقده للذاكرة فإن طلاقه لاغٍ لا يقع لعدم القصد .
التاسع :- لو ارتكب فاقد الذاكرة ما يوجب حداً أو قصاصاً فلا حد ولا قصاص عليه لأنه لا عقل له, أو نقول:- لأنه منزل منزلة الصبي الذي لا يميز, ولا يمنع هذا أن نعزره لأن التعزير لا يشترط له العقل فإذا رأى ولي الأمر تعزيره فلا حرج عليه في ذلك .(1/246)
العاشر :- فاقد الذاكرة يصح ميراثه فلو مات قريب له وهو ممن يرثه فإنه يرثه, لأن الميراث تملك قهري لا يفتقر إلى عقل الوارث والله أعلم, فهذه بعض الأحكام الفقهية الخاصة بفاقد الذاكرة والله أعلى وأعلم .
سـ58/ ما حكم إجراء تجربة الدواء على الإنسان والحيوان ؟
جـ/ أقول:- لاشك أن تجربة الدواء أمر لابد منه لأنه يتوقف عليها اعتماد الدواء إذ لا يمكن إعطاء الإنسان دواءً دون معرفة مقدار نفعه وضرره وهذا لا يعلم إلا عن طريق التجربة ويحرم جزماً إعطاء دواءٍ لا يعلم حاله ومقدار ما فيه من نفعٍ أو ضرر لما ينطوي عليه من المخاطر التي لا تخفى, وبهذا يعلم خطأ المتطببين الشعبيين ونحوهم ممن يصفون الأدوية المفردة والمركبة ولا علم لهم بذلك ولكنهم يخبطون خبط عشواء وهم بهذا يجنون على عباد الله بغية غرضٍ دنيوي رخيص فليعلم هؤلاء أنهم ضامنون لكل تلف يحدث بسبب ما وصفوه من دواء ومسئولون عنه يوم القيامة والله المستعان, فحكم إجراء التجربة في أصلها واجب دفعاً للأضرار التي تنجم عن تلك الأدوية وتحقيقاً للنفع المقصود من الدواء, وحيث كان الأمر كذلك فلابد من التأكيد على أنه يجب أن تبدأ دراسة أي عقار جديد على حيوانات التجارب كالفئران والأرانب والقردة وليس على الإنسان ذلك لأن التجارب الأولية قد تكون أضرارها خطيرة وبليغة جداً, ومثل هذه التجارب الأولية ذات الأضرار الخطيرة يحرم قطعاً استخدام الإنسان فيها حرمة بينة وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل العلم بالشرع ولا غيرهم من أهل الطب والقانون, لأنه جناية معتمدة على النفس والأطراف وهذا الحكم معلوم بالضرورة فلا يجوز مطلقاً إجراء التجارب الأولية للعقاقير الجديدة على الإنسان ولو كان بموافقته, فإنه لو وافق وأصيب بمكروه فإنه يكون قد أعان على نفسه, بل لابد أن يمر الدواء أولاً بسلسة من التجارب على حيوانات التجارب في مراحله الأولية فإذا كانت مراحله الأخيرة النهائية فلا مانع من إجراء(1/247)
التجربة الأخيرة على الإنسان إذا غلب على الظن عدم ضرره أي أن تكون الحال في التجربة أنها قد وصلت إلى درجة الأمان, أما استخدام الحيوان فالذي يظهر جوازه لأنه لا يمكن الوصول إلى استخدام الدواء على الإنسان إلا عن طريق استخدام الحيوان في الأطوار الأولى والأخيرة ولأن إهلاك الحيوان لمصلحة الإنسان جائز شرعاً كما في ذبح الحيوانات التي يأكل لحمها لأجل الغذاء, أو القربة وكذا إلحاق الضرر كما في ركوب الحيوانات التي تركب وإن كان يلحقها الأذى والضرر من ذلك وكما في خصا الحيوان فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه (( ضحى بكبشين خصيين ))"أخرجه أحمد وسنده صحيح" وذلك لمصلحة تسمينه وهي مصلحة عائدة للإنسان فإن قيل:- أليس في هذا تعذيب للحيوان؟ فأقول:- إن هذا التعذيب غير مقصود لذاته ولكنه كان لازماً للوصول إلى فائدة تتعلق بالإنسان فكان جائزاً والله تعالى أعلى وأعلم . وخلاصة الجواب:- أن إجراء التجارب على الحيوانات المخصصة لذلك جائز مطلقاً أي سواءً في الحالات الأولية أو الحالات النهائية وأما الإنسان فلا يجوز إجراء التجارب عليه البتة في الأطوار الأولية, وأما في الأطوار الأخيرة المصحوبة بغلبة الظن بالأمن من المخاطر فلا حرج والله أعلم .
سـ59/ عرف التلبينة, وما حكمها, وما فوائدها الطبية ؟(1/248)
جـ/ التلبينة حساءٌ يعمل من دقيقٍ أو نخالة وربما جعل فيه عسل, وقيل له تلبين لأنه يشبه بياض اللبن, وقد ثبت في السنة نفع هذا الحساء وعلاجه لبعض العلل, من ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت:- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن ))"رواه البخاري" ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها تأمر بالتلبين للمريض والمحزون على المهالك وتقول:- هي البغيض النافع, وجاء هذا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ (( عليكم بالبغيض النافع:- التلبينة )) "أخرجه أحمد وابن ماجه بسندٍ فيه ضعف" وأخرج الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذ أهله الوعك, أمر بالحساء فصنع, ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول (( إنه ليرتق فؤاد الحزين ويسرو عن فؤائد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها ))"رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وقال:- صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الترمذي:- هذا حديث حسن صحيح" قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( وهذا الغذاء هو النافع للعليل وهو الرقيق النضيج لا الغليظ النيء, وإذا شئت أن تعرف فضل التلبينة فاعرف فضل ماء الشعير الذي يطبخ صحاحاً فإنه ينفذ سريعاً ويجلو جلاءً ظاهراً ويغذي غذاءً لطيفاً, وإذا شرب حاراً كان جلاؤه أقوى ونفوذه أسرع وإنماؤه للحرارة الغريزية أكثروا التلبينة مريحة للفؤاد مسكنة له وتذهب ببعض الأحزان, هذا والله أعلم لأن الغم والحزن يبردان المزاج ويضعفان الحرارة الغريزية لميل الروح الحاملة لها إلى جهة القلب الذي هو منشؤها وهذا الحساء يقوي الحرارة الغريزية بزيادة مادتها فتزيل أكثر ما عرض له من الهم والحزن, وقد يقال - وهو أقرب - إنها تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة, فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية, وقد يقال:- إن قوى الحزين تذهب باستيلاء اليبس على(1/249)
أعضائه وعلى معدته خاصة لتقليل الغذاء وهذا الحساء يرطبها ويقويها ويغذيها ويفعل مثل ذلك بفؤاد المريض ) ا.هـ. وقد ثبت أخيراً لدى الباحثين في علم الطب أن الشعير مادة مرممة للجهاز الهضمي ويمنع تخريش المعدة والأمعاء ويقي الأنسجة المخرشة, ولاشك أن ما كان كذلك فهو أنفع شيء للمعلول, وهذا ما قرره الذي لا ينطق عن الهوى من أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه والله أعلم .
سـ60/ ما حكم استخدام المحادة للكحل؟ وهل يجوز لها استعماله إذا اضطرت إليه؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/250)
جـ/ أقول:- الأصل أن المحادة ممنوعة من كل زينة, وامتناعها من الزينة حال إحدادها نوع عبادة وقربه تتقرب بها إلى ربها جل وعلا فلا يجوز لها الإخلال بذلك ما دامت قادرة عليه, ومن الزينة التي قد نهيت عنها بخصوصها الكحل ففي الصحيحين من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت:- جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت:- يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال (( لا )) مرتين أو ثلاثاً, كل ذلك يقول (( لا )) وهذا نص صحيح صريح قاطع في أن المحادة يجب عليها اجتناب الكحل الاجتناب المطلق, حتى وإن احتاجت إليه للعلاج فإنها لا يجوز لها ذلك, هذا هو الأصل إلا أنها إذا اضطرت لوضع الكحل للتداوي ولم تجد ما تتداوى به غيره وقرر الأطباء أنه لا علاج لها من هذا الوجع الخاص إلا بوضع الكحل فيجوز لها حينئذٍ في هذه الحالة الاضطرارية أن تضع منه المقدار الذي يندفع به ضررها فقط ذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات, ولأن الضرورة تقدر بقدرها, ولأنه لا ضرر ولا ضرار ولأن الضرر يزال ولأنه إذا تعارض مفسدتان روعي أشدهما بارتكاب أخفهما ولأن الحرج مرفوع عنا في هذه الشريعة ولأن هذا الدين يسر ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - اكتحال هذه البنت المحادة محمول على أنها لم تصل إلى حالة الاضطرار, وبأنه لم يتعين الكحل لعلاج هذا الوجع الذي تشتكي منه في عينها, ولعموم قوله تعالى { وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه } إلا أننا نستبعد في هذه الأزمنة ومع تقدم الطب وتنوع الأدوية أن تضطر المرأة المحادة إلى عين المعالجة بالاكتحال, فإن الأدوية والعلاجات الخاصة بأمراض العين كثيرة مشهورة وفي متناول الجميع وبلا ثمن في غالب المرافق الصحية الحكومية لكن لو حلت حالة الاضطرار ولم يوجد ما يندفع به إلا الاكتحال فيجوز لها منه ما تندفع به ضرورتها فقط, وإن استطاعت أن لا تجعله إلا في الليل وتمسحه بالنهار فهذا(1/251)
الأولى والأحسن وبه أفتى جمهور أهل العلم, والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ61/ هل تختتن المرأة شرعاً, ولماذا ؟
جـ/ أقول:- الختان مشروع في حق الجنسين الذكر والأنثى, لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( خمس من الفطرة )) وذكر منها (( الختان ))"متفق عليه" ولحديث (( عشر من الفطرة )) وذكر منها (( الختان ))"رواه مسلم" ولحديث (( اختتن إبراهيم - عليه السلام - بعدما أتت ثمانون سنة واختتن بالقدوم )) وهو في الصحيح, ولحديث عائشة (( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل ))"رواه مسلم" والراجح عندنا والعلم عند ربنا جل وعلا أن الختان واجب في حق الرجال لأن المقصود منه تكميل طهارته لأن القلفة لابد أن يحتبس فيها شيء من البول وأما الختان في حق النساء فالراجح أنه سنة ومكرمة لأنه يقصد به تعديل شهوتها وتهذيب عوامل الإثارة في بدنها وقد روى الخلال بإسناده عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء )) وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للخافظة (( أشمي ولا تنهكي فإنه أبهى للوجه وأحظى عند الزوج )) والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ62/ هل يختتن الكبير إذا أسلم؟ ومتى يستحب أن يكون الختان؟ مع بيان ذلك بالدليل ؟(1/252)
جـ/ أقول:- نعم يختتن الكبير إذا أُمِنَ عليه الضرر, ودليل ذلك حديث أبي هريرة في الصحيح (( أن إبراهيم - عليه السلام - اختتن بعدما أتى عليه ثمانون سنة, واختتن بالقدوم )) لكن إذا قرر الطبيب أن ثمة ضرراً عليه فإنه لا يختتن, لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأنه إذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, وكذلك إذا خيف عليه أن يرتد على عقبيه لخوفه من الختان ولعدم تحمل نفسه له, فيؤخر حينئذٍ حتى يزداد إيمانه ويصلب عوده في الإسلام, وأما قوله ( ومتى يستحب الختان؟ ) فأقول:- أما الرجل فيجب ختانه إذا راهق البلوغ أي إذا وجبت عليه الطهارة والصلاة واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى, إلا أن الأفضل أن يختن وهو صغير لأنه أهدأ للقلب وأسرع للبرء وأنسى للألم وهذا هو الذي نعلمه معمولاً به في غالب ديار الإسلام والله أعلى وأعلم .
سـ63/ ماذا يُفْعَلُ بالأعضاء المبتورة؟ وهل يجوز بيع الأعضاء الآدمية؟ وضح ذلك بالأدلة ؟
جـ/ أقول:- هذا السؤال فيه فرعان :-
{الفرع الأول} أن المتقرر عند الفقهاء أن حكم الجزء كحكم الكل والمشروع في بدن الآدمي إذا مات أن يدفن فكما شرع دفن الجسم كله فكذلك يشرع دفن بعضه وبناءً على ذلك فإنه إذا بتر شيء من أعضاء الإنسان فإن المشروع دفنها ولأن الفقهاء رحمهم الله تعالى قد نصوا على أن ما أزيل من شعر الميت فإنه يوضع في أكفانه معه فمن باب أولى أعضاؤه المبتورة فإن حرمتها أعظم من حرمت الشعر ولأن ذلك هو المتوافق مع قوله تعالى { ولقد كرمنا بني آدم } فمن مقتضى تكريمه أن تدفن هذه الأعضاء فإن اشتملت هذه الأعضاء على بعض الأمراض المعدية فإنه يشرع إزالة الضرر بالمواد المتلفة للجراثيم الناقلة للمرض ثم تدفن بعد ذلك فينبغي على المستشفيات دفن تلك الأعضاء والله أعلم .
{(1/253)
الفرع الثاني} لقد تقرر عند الفقهاء أن البيع لا يكون صحيحاً إلا إذا كان البائع مالكاً للمبيع أو مأذوناً له بالتصرف فيه ولذلك فقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على أن الإنسان لو باع مالا يملكه فإن بيعه غير صحيح, إذا لم يجز المالك ذلك البيع وبناءً عليه فلا يجوز للإنسان شرعاً أن يبيع شيء من أعضائه لأنه ليس مالكاً لها ولا مأذوناً له في بيعها فيكون بيعها داخلاً تحت بيع مالم يملك, ثم إن بيع الإنسان لأعضائه فيه امتهان له والله عز وجل قد كرمه فبيعها مخالف لمقصود الشارع من تكريمه وما خالف مقصود الشارع فهو باطل وهذه العلة هي التي يعلل بها أكثر الفقهاء والخلاصة أن بيع الأعضاء لا يجوز والله تعالى أعلم .
سـ64/ ما الأحكام الخاصة بالتخدير ؟
جـ/ أقول:- خلاصة هذه الأحكام فيما يلي :-
الأول :- أن الأصل في التخدير المنع إلا إذا دعت له الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة فيجوز منه المقدار الذي يندفع به الضرر ويتحقق معه المقصود .
الثاني :- لا يعتبر إقرار المريض أثناء التخدير الجراحي وبعيد الإفاقة إقراراً صحيحاً نظراً لأن شرط صحة الإقرار أن يكون المقر عاقلاً يدري ما يقول ومن المعلوم أن المخدر فاقد للإدراك والشعور ومن ثم فلا يصح إقراره لتخلف شرط القبول والأصل في ذلك قصة ماعز - رضي الله عنه - فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل (( أبه جنون )) فلما قيل له ليس بمجنون سأل (( هل شرب خمراً )) فلما أجيب بالنفي قَبَلَ إقراره وأقام الحد عليه وبناءً على ذلك فإنه لا يعتد بأي إقرار يصدر من المريض حال تخديره ولا يترتب عليه أي أثر شرعي سواءً أكان هذا الإقرار في حقوق الله أو في حقوق العباد والله اعلم .(1/254)
الثالث :- لو أن المريض في حال تخديره تلفظ بكلمة الردة فإنه لا ينطبق عليه حكمها لأنه غير مدرك لما يقول والأصل في ذلك حديث أنس في الصحيحين مرفوعاً في الرجل الذي وجد ناقته بعدما أضلها (( اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح )) والجامع عدم القصد في كلٍ, ولأن المتقرر في شروط التكفير أن تصدر كلمة الكفر من العاقل والمخدر زائل العقل في حال تخديره والله أعلم .
الرابع :- اعلم رحمك الله تعالى أن المريض أثناء تخديره يعتبر فاقداً لعقله على وجهٍ يعذر فيه شرعاً ومن ثم فإن طلاقه لا يقع ولا يصح منه لأنه كالمجنون والنائم, وقد أجمع أهل العلم على أن طلاق المجنون والنائم لا يقع فكذلك المريض المخدر بجامع فقد كل منهما للعقل بسبب مباح ومعذورٍ فيه شرعاً, وقد ذكر الإمام القرطبي في تفسيره أن أهل العلم لا يختلفون أن من شرب البنج فذهب عقله أن طلاقه غير جائز ولأنه غير قاصد لما يقول وقد تقرر في القواعد أن القصود في العقود والفسوخ معتبرة والله أعلم .
الخامس :- اعلم رحمك الله تعالى أن المريض إذا خدره الأطباء تخديراً كاملاً وفاتت عليه بعض فروض الصلاة فإنه يجب عليه إذا أفاق ورجع له ذهنه أن يبادر بقضائها والأمر بالقضاء على الفورية وذلك لأن المريض حال تخديره بمنزلة النائم وفي الحديث (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ))"متفق عليه من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - " فيلزمه قضاء ما فاته على الفور وإن طالت مدة التخدير, وإذا قوي الأطباء على أن لا يخدروا مريضاً إلا بعد الصلاة إذا كان الوقت قريباً فهو الأفضل وإذا كانت هذه الصلاة تجمع لما بعدها وكانت مدة التخدير ستطول إلى ما بعد وقت الفريضة الثانية فللمريض أن يجمع بين الصلاتين جمع تقديم قبل تخديره لأن الجمع رخصة عارضة لرفع الحرج والله تعالى أعلى وأعلم .(1/255)
سـ65/ ما الأشياء التي يتكلم بها بعض المنتسبين للشريعة أو العامة ويعتقدون أنها من الطب ومما يحفظ الصحة وهي مما لا أصل له, مع بيان وجه ردها؟ مفرعاً ذلك على قواعد الشريعة ؟
جـ/ أقول:- هذه الأشياء كثيرة ولكن من باب التنبيه نقول :-
منها :- التداوي بجلد الذئب بتعليقه أو اعتقاد أنه مما يندفع به الجن, فهذه خرافة لا أساس لها وتميمة شركية لا يجوز للمسلم البتة أن يصدقها أو يعلقها لا في بيته ولا في دابته ولا على أولاده ولا على أي شيء ذلك لأن أمور الغيب مبناها على التوقيف ولأن من اعتقد سبباً لم يدل عليه شرع ولا قدر فقد أشرك شركاً أصغر وإن اعتقده الفاعل بذاته فشرك أكبر .
ومنها :- رش جدران الدار بالماء المملح أي بالماء الذي وضع فيه الملح ويزعم العامة أن ذلك يطرد الجن من البيت وهذه خرافة من خرافاتهم الكثيرة وهو مما لا أصل له في الشريعة والأمر غيب وأمور الغيب مبناها على التوقيف, ويغني عن ذلك قراءة سورة البقرة بتمامها كما ثبت ذلك في الحديث (( وإن الشيطان ليفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة )) .
ومنها :- ما يذكره بعضهم من أن مما يدافع به الرمد في العيون قص الأظفار مخالفاً ويروون في ذلك حديث (( من قص أظفاره مخالفاً لم ير في عينه رمداً )) وهذا باطل موضوع لا أصل له, وما بني على الباطل فهو باطل مثله, ولا أصل لهذا التداوي في الطب ولا في التجربة المعتبرة , فالواجب عدم اعتقاده .(1/256)
ومنها :- ما يذكره بعضهم من أن النظر في المصحف مما يتداوى به من وجع العين ويروون في ذلك أن بعض الصحابة شكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عينيه فقال (( انظر في المصحف فإني اشتكيت عيني إلى رب العزة فقال لي:- انظر في المصحف )) وهذا الحديث كذب مختلق موضوع لا أساس له من الصحة البتة وعلامات الكذب ظاهرة عليه فإن المصحف لم يكن مجموعاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالجملة فوجع العيون يداوى عند أهل الطب والرقية الشرعية وأما اختراع علاجاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان فإنه من باب التقول على الله بلا علم .
ومنها :- ما يذكره بعضهم في التداوي من الحمى بحمار قبان وهو الدويبة الصغيرة التي تشبه الخنفساء وعلى ظهرن مجن مرتفع يشبه القبة فإنهم يقولون:- لو أخذت هذه الحشرة ولفت في خرقة وعلقت على من به حمى فإنه يقلعها من جذورها وهذا لا أصل له في الشرع ولا في الطب بل هو من التمائم الشركية التي لا يجوز تعليقها .
ومنها :- مما يذكره بعضهم من التداوي بالوزغ فيقول ذلك البعض لو أخذ سام أبرص, وهو كبير الوزغ حياً وجعل في أنبوبة قصب ويشد رأسها وتعلق هذه الأنبوبة على مكان الألم فإنه يسكن وهذا من التمائم المحرمة بالأدلة الصحيحة ومن الخرافات التي تتناقلها العامة, ولا أصل لها في الطب ولا يسندها شيء من أدلة الشرع ومن التداوي بالمحرمات ولم يجعل الله شفاء الأمة فيما حرم عليها ولأن الشرع قد أمر بقتل الوزغ فتركه حياً مخالف لأمر الشارع .(1/257)
ومنها :- ما يذكره بعضهم من كتابات وطلاسم لا معنى لها وهي إلى الطلاسم السحرية أقرب والعجب أن تذكر هذه الخرافات السحرية في بعض الكتب المؤلفة في الطب النبوي وقد ذكر طرفاً منها الشيخ علاء الدين الكحال في الأحكام النبوية في الصناعة الطبية, والشيخ السفاريني في غذاء الألباب وقد ذكر طرفاً منها الدميري في كتاب الحيوان, والواجب تطهير عقول الناس من هذه الخرافات ومن باب ضرب المثال أذكر لك مثلاً واحداً وهو أنهم يكتبون هذه الأحرف على هذه الطريقة :-
ب ... ط ... د
ز ... هـ ... ج
و ... أ ... ح
ويقولون إنها إذا كتبت هكذا ووضعت تحت قدمي التي قد عسرت ولادتها فإنها تلد وهذا كله كذب مختلق وهو من التمائم الشركية وهو الاستغاثة بالشياطين أقرب منه إلى التداوي لأن هذه الأحرف رموز لأسماء كبار الشياطين وهي مما لا يفهم فلا يجوز استعمالها شرعاً فالواجب الحذر والتحذير من هذه الأشياء .
ومنها :- ما يذكرونه في علاج الرعاف أنه يكتب على جبهة المريض:- نزل ملك من دم, معه سيف من دم، بيده رمح من دم يقطع به الدم، انقطع يا دم بحق آدم وحواء, وهذا التداوي ممنوع لأن فيه استغاثة بملوك الجن, وفيه توسل بالذوات وليس هو من الأدعية الصحيحة ولم يرد فيه دليل بخصوصه .
ومنها :- التداوي بوضع بقايا الطعام في سطح الدار وأفنيتها بنية أن تأكل منه الجن فيندفع ضررها عن أهل الدار, وهذا لا يجوز البتة بل هو نوع من الشرك لأن فيه تقرباً للجن بذلك .(1/258)
ومنها :- ما ذكره الدميري في كتاب الحيوان في خواص الأسد أن من أخذ من شعر الأسد أو من جلده وعلقها عليه فإنه يبرأ من الصرع وأن لحمه ينفع من الفالج, وأن ذنبه لو استصحبه الإنسان معه فإنه لا تؤثر فيه حيلة محتال وأن خصيتيه إذا املحت ببورقٍ أحمر ومصطكى وجففت وسحقت وخلطت بسويق وشربت فإنها تنفع من جميع الأوجاع التي في الجوف مثل المغص والفولنج والبواسير ووجع الأرحام, وأن من دهن وجهه وبدنه بشحم الأسد فإنه يذهب عنه كل عيب في وجهه وبدنه وهذا كله من التداوي بالمحرم فإن الأسد مما لا يجوز أكله وإذا مات فهو ميتة والميتة لا يجوز الانتفاع بها وليس التداوي من باب الاضطرار حتى يجوز استخدام ما يحرم فيه وبالجملة فهذه الأفعال محرمة شرعاً والأسد من السباع العادية التي تقتل في الحل والحرم من باب قياس الأولى على الكلب العقور, فأسأله جل وعلا أن يغفر للدميري ما ذكره في هذا الكتاب من خواص الحيوانات التي تكلم عنها فإن في كثير منها مخالفات شرعية .
منها :- ما ذكره رحمه الله تعالى في خواص الخنزير البري المعروف من أن كبده إذا أكلت أو سقيت لإنسان نفعت من نهش الهوام وأنه إذا سحق عظمه وشربه من به بواسير فإنه يشفى وتبرأ, وأن من علق عظمه فإنه يشفى من حمى الربع, إلى آخر ما ذكره هناك وكل ذلك من التداوي المحرم الذي لا يشك في تحريمه وهو رحمه الله تعالى وعفا عنه كان ينقل من كتب الطب التي لا يعرف أصحابها بإتقان علم الشريعة, فالخنزير كله حرام لحمه وشحمه وبيعه وشراؤه والتداوي به وكل شيء فيه محرم ونجس ولم يجعل الله تعالى شفاء الأمة فيما حرم عليها .
ومنها :- التداوي من أثر الوقوع في مكانٍ بأخذ تراب ذلك المكان أو رش الماء عليه وهذا من التداوي بما لا تعلم سببيته ولم يثبتها شرع ولا تجربة, والأمر من الغيب وأمور الغيب توقيفية على الدليل فهذا التداوي محرم لا يجوز وهو مشهور جداً عند العوام ولكن مع شهرته فإنه لا أصل له .(1/259)
ومنها :- ما ذكره الدميري في كتاب الحيوان في خواص الحمار الأهلي فإنه ذكر فيه العجب, وفي آخر ما ذكره أن كبد الحمار الأهلي إذا أكلت مشوية على الريق منقوعة في الخل نفعت من الصرع, وهذا التداوي محرم لأن كبد الحمار الأهلي نجسة بل كله نجس خبيث اللحم ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال (( لما كان يوم خيبر بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طلحة فنادى إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس )) ولم يجعل الله تعالى شفاء هذه الأمة فيما حرمه عليها ولكنها النقول الفاسدة التي لم تحقق, فعفا الله عنه هذا الرجل .
ومنها :- التداوي بصب الرصاص, وهو من دواء الكهان ولا يجوز فعله ولا الذهاب لهم أصلاً, لأن صب الرصاص إنما هو حيلة ظاهرية وتغطية على استعانته بالشياطين فهو كقراءة الفنجان والكتابة في الرمل .
ومنها :- ما ذكره الدميري رحمه الله تعالى وعفا عنه في كتاب الحيوان في ذكر خواصها فإنه ذكر في كثير من المواضع أن بعض أجزائها إذا علق على المريض فإنها تنفعه, وأن بعضها إذا وضعت بعض أجزائه عند باب الدار لم يقربه بلاء, فكل ذلك من المحرمات التي لا تجوز لأنها من التمائم الشركية التي فصلت الأدلة في تحريمها وقد اتفق علماء الإسلام على المنع من تعليق التمائم الشركية والمتقرر أن المحرمات لا يجوز التداوي بها والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ66/ اذكر بعض المرويات الصحيحة في شأن المرض؟ وما فضل عيادة المريض وحكمها؟ وما المراد بالحجر الصحي؟ وما الدليل عليه ؟
جـ/ أقول:- هذا سؤال فيه أربع مسائل :-
{(1/260)
المسألة الأولى} بعض المرويات الصحيحة في شأن المرض, فمن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري وأبو هريرة أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه, إلا كُفِّرَ به من سيئاته )) "أخرجاه في الصحيحين" وعن جابر - رضي الله عنه - قال:- دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم السائب يعودها, فقال (( مالكِ تزفزفين؟ )) فقالت:- الحمى لا بارك الله فيها, فقال (( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا ابن آدم, كما يذهب الكير خبث الحديد ))"رواه مسلم" وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً ))"أخرجه البخاري" وعن الحارث ابن سويد عن عبدالله بن مسعود قال:- دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوعك فمسسته فقلت:- يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً؟ فقال (( أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم )) قلت:- ذلك بأن لك أجرين؟ قال (( أجل ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها )) "أخرجاه في الصحيحين" وعن عروة عن عائشة قالت:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنبه حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها ))"أخرجاه في الصحيحين" وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إنما مثل العبد المؤمن حين يصيبه الوعك والحمى كحديدة تدخل النار فيذهب خبثها ويبقى طيبها ))"رواه البزار" وعن جابر بن عبدالله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( إن الحمى تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ))"انفرد بإخراجه مسلم" وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا اشتكى العبد المسلم قال الله تعالى للذين يكتبون:- اكتبوا له أفضل ما كان يعمل إذا كان طلقاً حتى(1/261)
أطلقه ))"حديث صحيح" وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا اشتكى المؤمن أخلصه الله تعالى كما يخلص الكير خبث الحديد ))"حديث صحيح" وروى أبو داود في سننه بسنده من حديث محمد بن خالد السلمي عن أبيه عن جده وكان له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله تعالى في جسده أو في ماله أو في ولده )) قال أبو داود:- زاد ابن نفيل (( صبره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل ))"حديث صحيح" فهذه بعض النقول في شأن المرض وفضله .
{(1/262)
المسألة الثانية} وأما فضل عيادة المريض ففيه أحاديث:- فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله ذو الجلال والإكرام يقول يوم القيامة:- يا ابن آدم مرضت فلم تعدني؟ قال:- يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال:- أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لو جدتني عنده...الحديث )) وعن عبدالله بن نافع عن علي - رضي الله عنه - أنه قال:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما من رجل يعود مريضاً ممسياًَ إلا خرج معه سبعون ألف ملكٍ يستغفرون له حتى يصبح وكان له خريف في الجنة, ومن أتاه مصبحاًَ خرج معه سبعون ألف ملكٍ يستغفرون له حتى يمسي, وكان له خريف في الجنة )) "رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والحاكم وهو حديث صحيح مرفوعاً وموقوفاً" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ:- أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً ))"رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وإسناده حسن" وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من عاد مريضاً لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس فإذا جلس اغتمس فيها ))"رواه مالك وأحمد وإسناده جيد" وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم, لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع )) قيل يا رسول الله وما خرفة الجنة؟ قال (( جناها ))"رواه مسلم" وعنه - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع ))"رواه مسلم" والله أعلم .
{(1/263)
المسألة الثالثة} وأما حكمها فاعلم أن العلماء قد أجمعوا على مشروعيتها ولكن اختلفوا في وجه هذه المشروعية والحق إن شاء الله تعالى أنها فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط الإثم عن الباقين, واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى والدليل على ذلك الأحاديث الكثيرة التي يقول فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - (( حق المسلم على المسلم )) - كذا وكذا - فإنه يذكر منها (( وعيادة المريض )) ومن الأدلة أيضاً الأمر الصادر منه - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث (( وإذا مرض فعده )) والأمر يقتضي الوجوب ومن الأدلة أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني )) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب. والله أعلم .
{(1/264)
المسألة الرابعة} المراد بالحجر الصحي أي منع المرضى من مخالطة الأصحاء, وهذا فيما إذا كانت مخالطتهم توجب انتقال العاهات الخطيرة المستعصية وذلك كالإيدز والطاعون والجذام ونحوها, والحجر الصحي مع قيام مقتضاه جائز في الشريعة, بل قد يكون من باب الوجوب محافظة على صحة الآخرين, ولو كان في الحجر الصحي مضرة ومفسدة خاصة إلا أننا نرتكبها لأننا ندفع به ضرراً عاماً ومفسدة عامة, وإذا تعارض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما, ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح, والضرر العام مقدم على الضرر الخاص, والدليل عليه ما رواه الشيخان في صحيحهما من حديث عبدالرحمن بن عوفٍ - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - أي في الطاعون - (( إذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )) وروى البخاري في صحيحه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لا يورد ممرض على مصح )) وعن عمرو بن الشريد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لا تديموا النظر إلى المجذومين ))"رواه ابن ماجه وسنده حسن" وروى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه والترمذي في جامعه وأحمد في مسنده أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إنا قد بايعناك فارجع )) والله أعلم .
سـ67/ مم تكون العيادة؟ وهل يعاد الكافر؟ وما السنة في العيادة؟ وهل يشرع تكرارها؟ وهل يجوز للرجل الأجنبي عيادة المرأة؟ وضح ذلك بالأدلة ؟
جـ/ أقول:- هذا السؤال فيه فروع :-
{(1/265)
الفروع الأول} قوله ( مم تكون العيادة ) وجوابه:- إن العيادة تكون من سائر الأمراض وإن دقت, كوجع العين والأسنان والصداع ونحوها, فكل الأمراض يشرع فيها عيادة أصحابها ويتأكد استحبابها في الأمراض الخطيرة الشاقة, فقد روى أبو داود في سننه من حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه قال (( عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني ))"حديث حسن" وهذا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى, أي أننا نستفيد من هذا الحديث عدة فوائد والذي يخصنا منها هنا فائدتان :-
الأولى :- أن العيادة تكون في الأمراض اليسيرة كوجع العين .
الثانية :- أن ما كان أعلى من مرض العين فإنه يدخل في استحباب العيادة من بابٍ أولى وهذا هو القياس الأولوي وقد تقرر عند أكثر أهل العلم أنه حجة .
{الفرع الثاني} قوله ( وهل يعاد الكافر ) فجوابه:- أما الكافر الحربي فلا يعاد البتة لأن العيادة من باب الإرفاق والإحسان وقد نهانا ربنا جل وعلا عن الإرفاق والإحسان لمن قاتلنا في الدين فقال تعالى { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون } وأما الكافر الذمي والمستأمن والمعاهد فإنهم يعادون إذا رجي من ذلك انتفاعهم بالإسلام أي من باب الدعوة إلى الله تعالى, ودليل ذلك ما رواه البخاري وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - أن غلاماً من اليهود كان قد مرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقعد عند رأسه فقال له (( أسلم )) فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه:- أطع أبا القاسم, فأسلم, فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول (( الحمد لله الذي أنقذه بي من النار )) ولعموم قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين } والزيارة من البر, والله تعالى أعلى وأعلم .
{(1/266)
الفرع الثالث} قوله ( وما السنة في العيادة ) فجوابه:- السنة فيها :-
أولاً:- أن يسأله عن حالته فيقول:- كيف تجدك؟ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عاد مريضاً قال له (( كيف تجدك )) .
ثانياً :- أن يدعو له بالشفاء والعافية بصوتٍ يسمعه المريض ليؤمن عليه ففي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاده دعا له فقال (( اللهم اشف سعداً وأتم له هجرته )) وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات:- أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض ))"رواه أبو داود والنسائي وسنده جيد" وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل:- اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً, أو يمشي لك في جنازة )) "حديث صحيح" .
ثالثاً :- أن يبشره بالخير والأجر, فعن أم العلاء رضي الله عنها قالت عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مريضة فقال (( أبشري يا أم العلاء فإن مرض المسلم يذهب الله به خطاياه كما تذهب النار خبث الذهب والفضة ))"حديث صحيح" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد مريضاً من وعكٍ كان به فقال (( أبشر فإن الله تعالى يقول:- هي - أي الحمى - ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة )) "رواه ابن ماجه بسندٍ صحيح" .(1/267)
رابعاً :- أن يرقيه بالأوراد والتعاويذ والأدعية الشرعية الصحيحة وذلك لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودني فقال لي (( ألا أرقيك برقيةٍ جاءني بها جبرائيل )) قلت:- بلى بأبي وأمي أنت يا رسول الله فقال (( باسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داءٍ فيك, من شر النفاثات في العقد ومن شر حاسدٍ إذا حسد ثلاث مرات ))"حديث فيه مقال" وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (( يا محمد اشتكيت؟ )) قال (( نعم )) فقال (( باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفسٍ أو عين حاسدٍ الله يشفيك, باسم الله أرقيك )) والله أعلم .
خامساً :- أن يقعد عند رأس المريض إن تيسر له ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما زار الغلام اليهودي (( قعد عند رأسه )) وهذا فيه إراحة للمريض وإيناس له وأقرب له حتى لا يتضرر برفع الصوت بالكلام, وأيسر للرقية .
سادساً :- أن يذكره بوجوب الصبر وبثواب الصابرين, وذلك لعموم الأدلة ولأن هذا هو مكانها .
سابعاً :- أن ينهاه عن التسخط إن سمع فيه ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد امرأة فقال لها (( مالكِ يا أم السائب ( أو يا أم المسيب ) تزفزفين؟ )) قالت:- الحمى لا بارك الله فيها فقال (( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد )).
ثامناً :- نهيه عن تمني الموت فإن العباس - رضي الله عنه - لما مرض عاده النبي - صلى الله عليه وسلم - , فتمنى العباس الموت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (( يا عم لا تتمن الموت فإنك إن كنت محسناً فإن تؤخر تزداد إحساناً إلى إحسانك خير لك, وإن كنت مسيئاً فإن تؤخر فتستعتب من إساءتك خير لك فلا تتمن الموت ))"رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي" والله أعلم .
{(1/268)
الفرع الرابع} قوله ( وهل يشرع تكرارها ) فجوابه:- نعم يشرع تكرارها إذا لم يكن في ذلك مشقة على المريض, بل يتأكد استحباب تكرارها في حق من يزداد المريض نشاطاً بعيادتهم ولاسيما إذا طال مرضه واشتد ودليل ذلك (( أن سعداً - رضي الله عنه - لما أصيب يوم الخندق ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه خيمة في المسجد ليعوده من قريب )) وهو في الصحيح يعني لكي يتردد عليه على الدوام بسهولة. وقد بوب أبو داود على هذا الحديث بقوله ( باب في العيادة مراراً ) .
{الفرع الخامس} قوله ( وهل يجوز للرجل الأجنبي عيادة المرأة ) فجوابه:- نعم ولو كان أجنبياً لكن بشرط عدم الخلوة وأن لا يكون ثمة ريبة, وأن لا تكون متبرجة أو في حالةٍ لا تسمح بدخول الأجانب عليها وأن تكون الفتنة مأمونة ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد أم العلاء, وروى مالك في الموطأ (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاد امرأة مسكينة مريضة )) وصححه ابن عبدالبر متصلاً, وقد عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - أم السائب أو أم المسيب وهذا دليل على الجواز, فإن قلت:- هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - , فأقول:- لا, لأن المتقرر في القواعد أن كل حكم ثبت في حقه - صلى الله عليه وسلم - فإنه يثبت في حق الأمة تبعاً إلا بدليل الاختصاص, وتقرر أيضاً أن الأصل عدم الخصائص إلا بدليل والله أعلم. فهذا هو خلاصة جواب هذا السؤال بأدلته والله تعالى أعلى وأعلم .
سـ68/ هل يجوز إنشاء بنوك من حليب النساء؟ وضح ذلك بالدليل والتعليل ؟
جـ/ أقول:- إن هذه المسألة من المسائل الحديثة وقد اختلف فيها أنظار أهل العلم وبعد النظر في الأقوال وأدلتها وجدنا أن الصواب هو التحريم فلا يجوز إنشاء هذه البنوك وذلك لعدة أوجه :-(1/269)
الأول :- أن بنوك الحليب سيدفع الكثيرين إلى عملية التحريم لأنه ستعم الفوضى فقد يتزوج الرجل امرأة يكون قد ارتضع منها أو من لبن ابنتها أو من لبن أمها وهذه مفسدة عظيمة تفضي إلى اختلاط الحابل بالنابل فتمنع سداً للذريعة وقد تقرر في القواعد أن سد الذريعة من أصول هذه الشريعة .
الثاني :- أن حفظ النسل من الضرورات الخمس التي جاءت الشريعة بها فأي سببٍ يفضي إلى ضياع النسل واختلاطه فإنه لابد أن يمنع محافظة على هذه الضرورة, وهذا اللبن في البنوك المسماة لا يعرف لبن أي امرأة ولا ندري من الطفل الذي سيرتضع منه, وحفظ النسل واجب والتسبب في اختلاطه وإضاعته محرم وقد تقرر في القواعد أن مالا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب وفعله محرم .
الثالث :- أن القول بجواز إنشاء هذه البنوك فيه إقدام على مفاسد متحققة من أجل مراعاة مفاسد متوهمة , فإن ارتضاع الطفل ممكن باستئجار مرضعة إن لم تكن أمه موجودة والمتطوعون بذلك من النساء كثير, بل إنه مع تقدم الصناعات فإنه يمكن استبدال لبن الأم مع فقدها وفقد المرضع من النساء بالحليب الصناعي فإنه يسد الغرض مع أنه لا يقوم مقام لبن الأم, لكنه يسد ثغرة, وبناءً عليه فإنشاء هذه البنوك لا ضرورة تدعو له ولا حاجة لها أصلاً فالإقدام عليها إقدام على مفاسد متحققة من أجل دفع مفاسد متوهمة, والمتقرر في القواعد أنه لا يجوز الإقدام على المفاسد المتحققة من أجل دفع المفاسد المتوهمة وهذا واضح .(1/270)
الرابع :- أن الفائدة من إنشاء هذه البنوك إغاثة الأطفال ونفعهم بحليب النساء فإنه لا يقوم مقامه شيء في فائدته وله عوائده الطيبة في الحال والمآل, وهذا من باب تحقيق المصلحة, فالقول بإنشائها فيه تحقيق مصلحة, والقول بإلغائها وسد أبوابها فيه دفع لمفسدة عظيمة وهي اختلاط النسل وضياع الأمور وفساد المجتمع, فالقول بجوازها فيه تحقيق مصلحة والقول بعدمها فيه درء للمفسدة وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
الخامس :- أن القول بإعدام هذه البنوك وإلغائها فيه مفسدة تعود على بنية هذا الطفل وليست هذه المفسدة مفسدة عظيمة, ولا هي متحققة كل التحقق, والقول بجوازها وفتحها فيه مفسدة تعود على المجتمع بأسره, فهما مفسدتان أحدهما أكبر من الأخرى وقد تقرر في الأصول والقواعد أنه إذا تعارض مفسدتان فإنه يراعى أعلاهما بارتكاب أدناهما, وإذا تعرض ضرران روعي أشدهما بارتكاب أخفهما .
السادس :- أن القول بعدم جواز هذه البنوك فيه مفسدة خاصة وهي المفسدة التي تعود على هذا الطفل الذي لا يجد من يرضعه, والقول بجوازها فيه مفسدة عامة عليه وعلى غيره, فهنا ضرران عام وخاص, فالقول بجوازها يتضمن ضرراً عاماً والقول بإغلاقها ومنعها يتضمن ضرراً خاصاً, وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعارض ضرران عام وخاص فإن الضرر العام مقدم على الضرر الخاص .
السابع :- أن القول بجواز هذه البنوك فيه مصلحة تعود على الطفل الذي لا يجد من يرضعه, فهي مصلحة صغرى, والقول بمنعها فيه مصلحة تعود على المجتمع بأسره ففيه مصلحة كبرى وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعارض مصلحتان روعي أعلاهما بتفويت أدناهما .(1/271)
الثامن :- أن الذين أجازوا فتح هذه البنوك إنما نظروا إلى مصلحة الطفل فقط وهذه المصلحة يمكن تحقيق أكثرها بغير لبن المرضعات, فهم يريدون أن يرفعوا الضرر عنه, لكن ما نظروا إلى أن قولهم بجواز فتحها أوجب ضرراً آخر على الطفل وعلى غيره من أفراد المجتمع, وقد تقرر في القواعد أن الضرر لا يزال بالضرر وتقرر أيضاً أن الضرر الأخف لا يدفع بالضرر الأشد, والمصلحة التي يريدون تحقيقها للطفل سيتحقق بعضها بالحليب الصناعي, وبالمرضعة المتطوعة إن وجدت أو بالمرضعة المستأجرة, ولا يزال في الأمة خير كثير والحمد لله. وبذلك فالقول مع التأصيل والتقعيد هو القول بالمنع من إنشاء هذه البنوك لما فيها من المفاسد العظيمة, ولا تنس أن القاعدة الشرعية الكبرى تقول:- الشرائع جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليها والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ69/ ما الحكم الفقهي في تلبيس الأسنان بالذهب؟ وتسوية بعضها إذا كان طولها زائداً على الباقي؟ وما حكم تركيب طقم أسنان صناعي؟ وهل وضع أسنان جديدة بدل الأسنان القديمة يعتبر من تغيير خلق الله؟ وهل تخلع أسنان الذهب من الميت قبل دفنه؟ وهل تخلع الأسنان التي ركبت في حياة صاحبها إذا مات؟ وضح ذلك باختصار ؟
جـ/ أقول:- في هذا السؤال ستة فروع وهي كما يلي :-
{(1/272)
الفرع الأول} قوله ( ما حكم تلبيس الأسنان بالذهب ) فجوابه:- إن الحال لا تخلو إما أن يكون ذلك للمرأة وإما أن يكون للرجل, فأما إن كان للمرأة فلا بأس سواءً للحاجة أو للزينة كل ذلك جائز لها لاسيما إذا كان ذلك هو عادة قومها فإن العلماء قرروا أنه يجوز للمرأة من الذهب والفضة ما جرت العادة بلبسه ولعموم قوله تعالى { أومن ينشؤ في الحلية وهو في الخصام غير مبين } وأما إذا كان رجلاً فلا يخلو إما أن يكون ذلك من باب ضرورة شد الأسنان وإما أن يكون من باب الزينة المجردة, فإن كان من باب الزينة المجردة فإنه لا يجوز لما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً وذهباً وقال (( هذان حرام على ذكور أمتي, حل لإناثهم )) وأما إذا كان من باب ضرورة شد الأسنان وربطها فإنه يجوز بالقدر الذي تندفع به الضرورة فيجوز للرجل ربط أسنانه بالذهب وتلبيسها به عند الضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة استدلال بحديث عرفجة - رضي الله عنه - (( أنه قطع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفاً من فضة فأنتن عليه, فاتخذ أنفاً من ذهب )) ولأن الذهب له خاصية حيث لا يصدأ في الفم. والله أعلم .
{الفرع الثاني} قوله ( وهل يجوز تسوية الأسنان إذا كان بعضها زائداً ) فجوابه:- أن ذلك جائز إذا كان من باب إزالة العيب الحادث, وإذا كان طولها يؤذي صاحبها فيزيل ما يتحقق به إزالة الأذى والضرر لأن المتقرر شرعاً أن الضرر يزال, وليس هذا داخلاً تحت النهي عن وشر الأسنان ولا عن تفليجها لأن صاحب هذه الأسنان الزائدة لا يقصد التجمل وإنما يقصد به إزالة العيب وهذا جائز .
{(1/273)
الفرع الثالث} قوله ( وما حكم تركيب طقم صناعي ) فجوابه:- أنه لا بأس به لأن ذلك من التداوي بالمباح وفي الحديث (( تداووا فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواءً )) وهذا نوع من التداوي فالأدلة العامة الآمرة بالتداوي والمجيزة له تفيد بعمومها جواز ذلك والله أعلم .
{الفرع الرابع} قوله ( وهل ذلك من تبديل خلق الله ) فجوابه:- لا ليس ذلك من تبديل خلق الله الوارد في قوله تعالى { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } وذلك كتركيب عضو اصطناعي كيدٍ أو رجلٍ فلا بأس بذلك, ولا يدخل ذلك في قوله { فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله...الآية } لأن المراد بذلك الإسلام, وبالجملة فلا بأس بعلاج الأسنان المصابة أو المعيبة بما يزيل ضررها ولا بأس بخلعها وجعل أسنان صناعية في مكانها إذا احتيج لذلك لأن هذا من العلاج المباح لإزالة الضرر ولا شأن له بتبديل الخلق والله ربنا أعلى وأعلم .
{الفرع الخامس} قوله ( وهل تخلع أسنان الميت إذا كانت من الذهب ) فجوابه:- نعم, تخلع هذه الأسنان لأنها مال يستحقه الوارث, والأحياء أحوج إلى هذا الذهب
من الأموات , و لعموم قوله (( من ترك مالاً فلورثته )) و مجرد تركيبها في حياته لا
يكسبها حرمة الأعضاء الأصلية والله أعلم .
{الفرع السادس} قوله ( وهل تخلع الأسنان الصناعية العادية ) فجوابه:- يعلم مما مضى من أن هذه الأسنان الصناعية نوع مال قد يستفيد منه الأحياء فلا بأس بخلعها بشرط أن يكون لها قيمة وأن يمكن نزعها دون تأثير على ما حولها, فإذا توفر ذلك فإنه يجوز لأنها نوع مالٍ ينتفع به الأحياء, والله أعلم .
سـ70/ هل يجوز سفر المرأة بلا محرم بغرض دراسة الطب؟ وما الحكم في دراسة الطب إذا استلزم منها الاختلاط؟ وهل يجوز حضور الندوات الطبية للتعرف على الجديد في عالم الطب ؟
جـ/ أقول:- هذا السؤال فيه ثلاثة فروع :-
{(1/274)
الفرع الأول} أما سفر المرأة بلا محرم فإنه لا يجوز البتة لعموم حديث (( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي محرم )) وهو في الصحيح, وليس هناك ضرورة لهذا السفر, ودراسة الطب في البلاد الإسلامية كافٍ في تحصيل المقصود, أعني في بلد هذه المرأة, ولا ينبغي للمرأة أن تخالف أمر الشارع من أجل دراسةٍ ولا غيرها, وهي مسئولة يوم القيامة عن عملها في الدنيا ومن خالفت في ذلك فإنها تعرض نفسها لعقوبة ربها عز وجل والله أعلم .
{الفرع الثاني} أما الدراسة المختلطة فإنها لا تجوز مطلقاً لما في ذلك من الفتنة والمفسدة المتحققة, فلا يجوز للفتاة الدراسة المختلطة, ولا يجوز لها أصلاً أن تدرس في مدرسة يتولى التدريس فيها الرجال إذا كان تدريسهم وجهاً لوجه, لما في ذلك من العواقب السيئة .
{الفرع الثالث} أما حضور الندوات فإن كان الملقي من النساء وسائر الحضور من النساء فلا بأس بذلك, وأما إن كان الحضور مختلطاً فلا يجوز حضورها درءاً للفتنة ودفعاً للفساد ولا ضرورة تدعو لذلك, فإنه يمكن وببساطة لو أراد المسئولون تبسيط الأمر أن يخصصوا محاضرات للنساء لا رجال فيها, ومحاضرات للرجال لا نساء فيها ويمكن أيضاً تسجيل المحاضرات المختلطة والاستفادة منها أو متابعتها على الشبكة العنكبوتية, ومتابعة ما يكتب في ذلك من المقالات والرسائل والتقارير, ولا حاجة مطلقاً إلى الاختلاط فإن الأمة لا تزال بخير ما تباعد الرجال عن النساء ولنعتبر بحال غيرنا والله المستعان. وهو أعلى وأعلم .
سـ71/ ما الحالات التي يكون فيها الصيدلي ضامناً ؟
جـ/ أقول:- الذي يحضرني منها حال الكتابة ما يلي :-
الأولى:- إذا كان جاهلاً بهذه المهنة, فإنه يضمن ما جنته يداه, قياساً على الطبيب ولعموم قوله (( من تطبب ولم يعلم منه الطب قبل ذلك فهو ضامن )) .(1/275)
الثانية :- إذا صرف الدواء من جهة نفسه بمجرد سماعه لشكوى المريض فإنه يضمن الآثار المترتبة على ذلك, ولكن ذلك مشروط بما إذا كان الدواء من الأدوية التي يحصل بها ضرر إذا لم يوافق الداء, وأما الأدوية التي تصرف عادة بلا وصفة طبيب كالبندول ونحوها فإنه لا ضمان عليه فيما حصل من أثره لأن العادة محكمة .
الثالثة :- إذا أبدل الدواء الموصوف في ورقة العلاج بدواءٍ آخر اجتهاداً منه أنه مثله في تركيبته وأثره, لأن هذا تفريط واعتداء .
الرابعة :- إذا زاد في مقدار تناول الدواء اجتهاداً منه فإذا كتب الطبيب المختص للمريض أن يتناول من هذا الدواء ثلاث مراتٍ في اليوم, واجتهد الصيدلي وزاد واحدةً أو أكثر فحصل التلف فإن الصيدلي يضمن لأنه فرط في هذه الزيادة, وتدخل فيما لا شأن له به .
الخامسة :- إذا أخطأ في عين الدواء المصروف من جهة الطبيب, كأن تسبق يده لدواءٍ آخر غير الدواء الموصوف خطأً فإنه في هذه الحالة يضمن ما حصل من التلف.
السادسة :- إذا أخطأ في تركيبة الدواء الموصوف من قبل الطبيب المختص, فإن بعض الأدوية تحتاج إلى تركيب بمقدار معين يحدده الطبيب فإذا أخطأ الصيدلي في تركيبة هذا الدواء و حصل التلف فإنه يكون ضامناً له . فهذه هي الحالات التي
تحضرني الآن حال الكتابة والله أعلى وأعلم .
سـ72/ سئلت اللجنة الدائمة عن حكم العلاج بالأفيون وغيره من المشروبات التي توجد بها نسبة من الخمر كالخل ؟(1/276)
جـ/ فأجابت بقولها ( لا يجوز التداوي بما حرم الله تعالى من أفيونٍ أو حشيشة أو خمر أو نحو ذلك من مخدرٍ أو مسكرٍ ووضع نسبة من ذلك في الدواء لا يجوز لكن إن وضعت فيه ولم تصل بالدواء إلى درجة أن يسكر كثيره جاز التداوي به لعدم التأثير مع ما أضيف إليه منها فكأنه كالعدم, أما الخل إذا لم يكن أصله خمراً أو كان أصله خمراً وتخلل بنفسه فليس بمخدر ولا مسكر فيجوز التداوي به وتناوله إداماً أو مع الطعام, وإن كان أصله خمراً وتخلل بصناعةٍ فلا يجوز إحداث ذلك فيه ولا الانتفاع به دواءً ولا إداماً ) ا.هـ. كلامهم رفع الله قدرهم ومنازلهم في الآخرة والله أعلم .
سـ73/ سئلت اللجنة الدائمة عن استعمال ( المر ) الذي يوجد في الدكاكين عند العطارين للعلاج؟ وهل البيت الذي فيه ( المر ) لا تدخله الملائكة ؟
جـ/ فأجابت بقولها ( المر الذي في دكاكين بعض العطارين حلال لأن الأصل حله ولا نعلم دليلاً يحرمه وأما هذا القول الذي حكيته عن بعض الناس أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه ( مر ) فلا نعلم له أصلاً بل هو باطل ) ا.هـ. كلامهم رفع الله قدرهم ومنازلهم في الآخرة والله أعلم .
سـ74/ سئل الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى عن طبيب يرجعه بعض المرضى الذين يتعاطون المسكرات فهل يبلغ عنهم؟ أم ماذا ؟(1/277)
جـ/ فأجاب بقوله:- عليك النصيحة, تنصح لهم وتحثهم على التوبة وتستر عليهم وتعينهم على طاعة الله ورسوله وتخبرهم أن الله سبحانه وتعالى يتوب على من تاب وتحذرهم من العودة إلى هذه المعاصي لقوله سبحانه { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقوله سبحانه { والعصر, إن الإنسان لفي خسر, إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( الدين النصيحة )) وقوله النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ))"رواهما الإمام مسلم في صحيحه" والله ولي التوفيق ا.هـ. كلامه رفع الله قدره ومنزلته في الفردوس الأعلى وجمعنا به في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر, والله أعلى وأعلم .
سـ75/ كيف يستفاد من قاعدة ( لا ضرر ولا ضرار ) في المجال الطبي ؟(1/278)
جـ/ أقول:- التفريع الفقهي على هذه القاعدة كثير جداً, فيدخل في ذلك النهي عن السحر لأن فيه ضرراً وإضراراً بالغير, ويدخل فيها الدواء المغشوش بيعاً وشراءً لأن فيه ضرراً وإضراراً بالغير, ويدخل فيها تطبيب الرجال للنساء وتطبيب النساء للرجال بلا حاجة ولا ضرورة لأن ذلك فيه ضرراً محققاً ومفسدة بينة من انكشاف العورات والفتنة وفساد الدين والأخلاق, لكن إذا دعت الحاجة لذلك فلا بأس ويدخل فيه التداوي بالجراحة التي لا ضرورة لها ولا حاجة تدعو إليها لأن ذلك فيه ضرر محقق, ويدخل فيه انتقام الطبيب من بعض المرضى لسوء أخلاقه أو لأن بينهما نوع ثأر أو خصومة سابقة ويدخل في ذلك التشريح الذي لا تدعو إليه الحاجة أو الضرورة لأن ذلك انتهاكاً لحرمة الميت بلا وجه حق ولا ضرر ولا ضرار ويدخل فيه التداوي بما هو محرم شرعاً, ويدخل فيه كذب الطبيب على المريض بشأن حالته الصحية بلا ضرورة ولا حاجة تدعو لذلك لأن في ذلك ضرراً وإضراراً ويدخل فيها خلوة الطبيب بمن لا تحل له من الممرضات بحجة المساعدة وهذا حرام لا يجوز لأنه لا حاجة له وضرره أعظم من نفعه ومفاسده لا تخفى, ويدخل فيه العمليات القيصرية إذا أمكن إخراج الولد من طريقه الطبيعي بحجة الاستعجال وازدحام غرفة الولادة فهذا حرام لا يجوز لأن فيه ضرراً وإضراراً, ويدخل فيه التبرع بالأعضاء التي توجب ضرراً محققاً أو متوقعاً في المستقبل على المتبرع بها فلا يجوز ولو وافق المتبرع, ويدخل فيها مخالطة المريض مرضاً معدياً بالأصحاء فلابد من منعه من ذلك لما فيه من الإضرار بغيره, ويدخل فيها منع المتطبب الجاهل من مزاولة هذه المهنة الشريفة لأن في ذلك إضرار بالغير, ومنها جواز سحب الشهادة من الطبيب الذي صدرت منه أفعال محرمة مع مرضاه إذا لم يزدجر بالنصح لأن في بقاء هذا الطبيب ضرر محقق ويدخل فيها جواز تسعير الدخول والعلاج في المستوصفات الخاصة إذا غالوا فيها وهذا من خصائص ولي الأمر فيسعر عليهم(1/279)
تسعير عدلٍ لا وكس فيه ولا شطط والفروع كثيرة والله أعلى وأعلم .
سـ76/ كيف يستفاد من قاعدة ( الضرر يدفع بقدر الإمكان ) في المجال الصحي؟ باختصار ؟
جـ/ أقول:- يدخل تحت هذه القاعدة فروع طبية كثيرة نذكر لك بعضها فمنها:- جواز التحصين الطبي المبكر قبل حلول المرض المتوقع, ومنها:- جواز الإفطار للصائم الذي شق عليه الصوم, ومنها:- جواز بتر العضو المتآكل الذي يغلب على الظن تلف باقي الأعضاء في بقائه, ومنها:- جواز الحجر على مرضى الإيدز ومنها:- جواز إسقاط الجنين إذا كان في بقائه تلف لأمه, ومنها:- جواز التداوي بلبس الحرير للرجال إذا دعت الحاجة لذلك, ومنها:- جواز شد الأسنان بالذهب إذا دعت الحاجة إلى ذلك, ومنها:- اقتصار المستحاضة على وضوء واحد طيلة الوقت, ومنها:- أن المريض يصلي على حسب حاله ولا يكلف شيئاً خارج وسعه ومنها:- جواز الانتقال إلى التيمم لمن خاف الضرر باستعماله, ومنها:- جواز منع الزيارة عن بعض المرضى إذا كان في زيارته ضرر عليه أو عليهم, ومنها:- منع الأطفال من الزيارة للمرضى إذا كان في زيارتهم ضرر, ومنها:- جواز الكذب على المريض إذا كان في إخباره بالحقيقة ضرر عليه .
سـ77/ كيف يستفاد من قاعدة ( الضرر لا يكون قديماً ) في المجال الصحي؟ باختصار ؟
جـ/ أقول:- فروعها كثيرة ونذكر لك طرفاً منها فنقول:- يدخل فيها :- وجوب(1/280)
تصحيح بعض النظريات الخاطئة في بعض كتب الطب ومجرد قِدمها لا يمنع من تصحيحها, ويدخل فيها:- وجوب تطهير الأنهار من المجاري القذرة المفتوحة عليها وقدمها لا يمنع من إغلاقها, ويدخل فيها:- وجوب إتلاف المصنعة القديمة والتي ثبت بالاكتشاف الحديث أنها مضرة ولا عبرة بكونها قديمة, ويدخل فيها:- وجوب قطع الأشجار التي يكون في بقائها ضرر بالصحة وقدمها لا يمنع من إزالتها, ويدخل فيها:- وجوب الحجر على المتطبب الجاهل دفعاً للضرر ولا عبرة بأن هذه المهنة قد ورثها كابراً عن كابر, ويدخل فيها:- وجوب تعديل بعض الأنظمة الطبية المقررة في السابق إذا كان في بقائها ضرر وإثقال وقدمها لا يمنع من تعديلها والله أعلم .
سـ78/ كيف يستفاد من قاعدة ( الضرر لا يزال بمثله ) في المجال الطبي ؟
جـ/ أقول:- فروعها كثيرة ونذكر منها ما يلي:- منها:- أنه لا يجوز إجراء العمليات الجراحية التي يغلب على الظن عدم نجاحها, ومنها:- أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء التي يحتاجها المتبرع نفسه, ومنها:- أنه لا يجوز صرف الدواء للمريض إذا كان سيحدث له علة أخرى, ومنها:- أنه لا يجوز الذهاب للسحرة والكهان ومنها:- أن ما يعرف بقانون إنهاء حياة المريض محرم شرعاً, ومنها:- أنه لا يجوز للمرأة أن تتناول حبوب منع الدورة الشهرية إذا كان في استعمالها ضرر عليها . والله ربنا أعلى وأعلم .
سـ79/ كيف يستفاد من قاعدة ( الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ) في المجال الطبي باختصار ؟(1/281)
جـ/ أقول:- يدخل تحت هذه القاعدة جواز تناول الأدوية التي فيها شيء من السموم إذا كان الغالب من استعمالها السلامة, ويدخل فيها:- جواز التخدير إذا دعت الحاجة إليه, ومنها:- جواز بتر العضو الذي يكون في بقائه ضرر عام على الجسد, ومنها:- جواز تناول الحبوب المانعة من الحمل إذا كان الحمل يضر بالمرأة ويدخل فيها:- جواز الختان, ومنها:- أن الكافر إذا أسلم وخيف عليه الردة إذا أردنا ختانه فلا يختن الآن حتى يصلب إيمانه, ومنها:- جواز كشف ما تدعو الحاجة لكشفه من العورة لضرورة العلاج, ومنها:- جواز استئصال رحم المرأة إذا قرر الأطباء المسلمون الثقات أن في بقائه تلف للمرأة, والله أعلم .
سـ80/ كيف يستفاد من قاعدة ( إذا ضاق الأمر اتسع ) في المجال الطبي ؟(1/282)
جـ/ أقول:- يدخل تحتها فروع كثيرة, فمن ذلك:- أن المريض الذي يعجز عن بعض واجبات الصلاة فإنها تسقط عنه إلى حين قدرته عليها, ويدخل تحتها:- جواز الصلاة له قاعداً إذا كان القيام يشق عليه, ويدخل فيها:- جواز التيمم للمريض العاجز عن استعمال الماء, ويدخل فيها:- سقوط وجوب الصيام عنه إذا كان الصيام يشق عليه, ويدخل فيها:- سقوط وجوب الحج عنه بالنفس إذا كان لا يستطيع الحج بنفسه عجزاً مطلقاً, ويدخل فيها:- جواز الاستنابة في الرمي لمن لا يستطيع الرمي بنفسه بسبب مرضه, ويدخل فيها:- سقوط وجوب إزالة النجاسة عنه إذا كان ذلك غير داخل في استطاعته, ويدخل فيها:- جواز الطواف محمولاً بسبب المرض, ويدخل فيها:- سقوط وجوب بالنفس عنه, ويدخل فيها:- جواز تغطيته لرأسه وهو محرم إذا كان محتاجاً لذلك مع الفدية, ويدخل فيها:- عدم إقامة الحد عليه حتى يبرأ, ويدخل فيها:- جواز الجمع إن كان ذلك أيسر له, ويدخل فيها:- جواز الصلاة لغير القبلة إذا كان لا يستطيع الاتجاه إليها لعذر, ويدخل فيها:- جواز ترك المبيت بمنى إذا كان في مستوصفٍ بعيد عن منى ولا يستطيع الوقوف بمنى بسبب حالته المرضية, والفروع على ذلك كثيرة. والله أعلم .
سـ81/ كيف يستفاد من قاعدة ( الاضطرار لا يبطل حق الغير ) في المجال الطبي؟ باختصار ؟
جـ/ أقول:- يستفاد منها في عدة الفروع وهي كما يلي :-
منها :- القول الصحيح الذي لا يجوز القول بغيره هو أنه لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن مريض بحجة أن هناك مريض آخر مضطر لها لأن الحق فيها للأسبق وضرورة المتأخر لها لا يسقط استحقاق الأول لها لأن الضرورة لا تسقط حق الغير وهذا واضح .(1/283)
ومنها :- ازدحام المرضى على دخول المستشفيات ومن الأحق بالتقدم وهذه مسألة دخل عليها فساد كبير بسبب حرمان من يستحق وتقديم من لا يستحق لأن عنده شفاعة كبيرة لا يستطيع أحد أن يردها ونقول في ذلك:- إن المريض الأسبق هو الأحق بهذا السرير إن كان مضطراً له والمريض الثاني إن كان مضطراً فإنه ينتظر حتى يفرغ له سرير آخر ومجرد كونه – أي المريض الثاني – مضطراً لا يسقط ذلك حق المريض الأول في التقديم لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير وكل شفاعة أفضل إلى تأخير من حقه التقديم أو تقديم من حقه التأخير فإنها شفاعة آثمة سيئة والله أعلم .
ومنها :- دخول غرفة العمليات فإن الأحق فيها للمضطر الأسبق فلو كان هناك مريض مضطر آخر فإنه لا حق له في أن يتقدم على المريض الأول لأن كليهما مضطر إلى هذه العملية ولكن تميز الأول بالأسبقية ولا حق لأحد أن يشفع في تقديم هذا على هذا لأن هذه الشفاعة تتضمن تقديم من حقه التأخير وتأخير من حقه التقديم فضرورة المريض الثاني لا تسوغ إبطال حق المريض الأول بالتقديم لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .
ومنها :- من المعلوم أن مرضى الربو والصدر يحتاجون إلى أخذ الأوكسجين والعادة الغالبة في كثير من المستشفيات والمستوصفات الصحية أنه لا يتوفر عندها إلا القليل من ذلك فإذا تزاحمت أعداد المرضى المحتاجين إلى أخذ ذلك فإنه يقدم الأول فالأول لأن الأول مضطر له والثاني مضطر له، ولا حق لأحدٍ لا طبيب ولا شافع أن يحابي أحد لضرورته على حساب ضرورة مريض آخر لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .(1/284)
ومنها :- أن هناك بعض أنواع العلاج لا توجد إلا في بلاد الغرب والدولة - وفقها الله لكل خير - سباقة لتسفير المحتاجين للعلاج في الخارج على حسب الأحقية والأسبقية فإذا اضطر عدد من المرضى للسفر للعلاج في الخارج فإننا نقدم الأسبق فالذي بعده فالأسبق مضطر والثاني مضطر فلا حق لأحد أن يقدم التالي على السابق من أجل محاباة أو قرابة أو معرفة لأنه بذلك يسقط حق الأول ولا حجة بأن الثاني مضطر لأننا سنقول:- والأول مضطر أيضاً وضرورة الثاني لا تسقط ضرورة الأول لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .
و منها :- الإخلاء الطبي فإذا احتاج عدد من المرضى لهذا الإخلاء و لم يمكن الجمع
بينهم فإنه يقدم الأول فالذي بعده ولا حق لدخول الشفاعات هنا بل الأحق للأسبق على غيره وضرورة المريض الثاني للإخلاء الطبي لا تسقط أحقية المضطر الأول لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير وعلى ذلك فقس والله أعلى وأعلم .
سـ82/ ما حكم ما يفعله بعض الأطباء في المستوصفات الخاصة من صرف كمية كبيرة من الدواء لبعض المرضى مما قد يستغنون عن بعضه ؟(1/285)
جـ/ أقول:- اعلم أولاً أن الطبيب مؤتمن على عمله ومحاسب عليه أمام الله تعالى يوم القيامة, وبناءً عليه فلا يجوز له أن يكتب للمريض إلا ما تدعو له حالته الصحية من الدواء, وهذا من الأمانة التي قد ربطت في عنقه, وقد تقرر بالدليل تحريم مخادعة المؤمنين واستغلال ظروفهم الصحية وغشهم في ذلك, والطبيب الذي قد عرف بذلك هو في الحقيقة خسيس لا يصلح لهذه المهنة الشريفة العالية, والواجب إيقافه أو أخذ التعهد عليه أن لا يعود لذلك, ومكاتبة مدير هذا المستوصف الخاص أن يكف هذا الطبيب عن هذا العمل السيء, أو إلغاء التعاقد معه, ولولي الأمر تعزيره بما يراه مناسباً لردعه وزجره عن هذا الفعل الذي يعد مخلاً بأمانته الطبية, وهذا الفعل مناف للنصح الواجب بين المسلمين ففي الحديث (( الدين النصيحة )) وفي الحديث الآخر (( وإذا استنصحك فانصح له )) وفي الحديث الآخر (( من غش فليس منا )) فواجب النصيحة أن لا يكتب له إلا ما تدعو له الحاجة في علاجه من الأدوية ولابد من تذكير الأطباء بذلك دائماً, لأن أعظم صفة يجب على الطبيب أن يتحلى بها هي الأمانة قال تعالى { إن عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } وكل وصفة زيد فيها عن مقدار الحاجة فإن الطبيب يضمن هذا المقدار الزائد, وإن الطبيب الذي يقدم النظر في مصلحته المالية على مصلحة مريضه لهو طبيب فاشل قد باع الآخرة بالدنيا, وقدم شهوة العاجلة على نعيم الآخرة, وخان الأمانة الدينية والمهنية, وحسبنا الله ونعم الوكيل, فنسأله جل وعلا أن يهدي قلوب هؤلاء الذين يفعلون ذلك وأن يردهم إلى
الحق والله أعلى وأعلم .
سـ83/ ما حكم التداوي بما يسمى بالجلسات الكهربائية ؟(1/286)
جـ/ أقول:- لقد عجبت من بعض الفقهاء الحكم على هذا النوع من التداوي بالتحريم مستدلاً بأنه نار وقد نهي عن التعذيب بالنار, وحيث حصل الخلط في مسألة التداوي بذلك أحببت أن أفرده بسؤال مستقل فأقول:- اعلم رحمك الله تعالى أن التداوي بالكهرباء على شكل مباشر والذي يفعله بعض القراء هداهم الله تعالى لا يجوز وذلك لأنه تعذيب حقيقة, ولأنهم ليسوا من أهل الخبرة بمثل هذا التداوي, ولأنه قد ثبت ضرره ونعرف في ذلك بعض القصص الثابتة عن بعض القراء, وقد ذكرنا ذلك في الكلام على بعض الأخطاء التي تحصل من بعض أصحاب الرقية وهم قليل لا يكادون يعدون على أصابع اليد, فأهل الرقية لا يجوز الجرأة على هذا التداوي, وهذا أمر مفصول ولا نطيل النقاش فيه وأما ثانياً:- فاعلم أن الكهرباء لا تعدو أن تكون ناراً وقد ورد جواز التداوي بالنار على أصولها من أهل الخبرة والدراية بذلك وذلك كما في أحاديث الكي ففي حديث أخرجه مسلم في صحيحه أن سعد بن معاذ رمي بسهم على أكحله فحسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي بعض طرقه (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كوى سعداً في أكحله بمشقص )) وفي حديث جابر (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أبي بن كعب طبيباً فقطع منه عرقاً ثم كواه )) وحديث أنس (( أن أبا طلحة وأنس بن النضر كوياه, وكواه أبو طلحة بيده, وقال أنس كويت من ذات الجنب ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي, وشهدني أبو طلحة وأنس بن النضر وزيد بن ثابت وأبو طلحة كواني )) وهو في البخاري, وفي حديث الشفاء في ثلاثة وذكر منها (( أو كية نار )) وقد وردت أحاديث أخرى تنهى عنه وتمدح من تركه, والجمع بينها هو ما قاله ابن القيم رحمه الله ( تضمنت أحاديث الكي أربعة أمور:- أحدها:- فعله - صلى الله عليه وسلم - والثاني:- عدم محبته له, والثالث:- الثناء على من تركه, والرابع:- النهي عنه, ولا تعارض بينها بحمد الله, لأن فعله يدل على جوازه وعدم محبته له لا(1/287)
يدل على المنع منه وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار أو على النوع الذي لا يحتاج إليه, بل يفعل خوفاً من حدوث الداء ) ا.هـ. وبناءً على ذلك فنقول:- التداوي بالجلسات الكهربائية جائز ذلك لأن الأصل في التداوي الحل, ولأن حقيقة هذه الجلسات الكهربائية إنما هو امتصاص للطاقة الكهربائية وتحويلها داخل الجسم إلى طاقة حرارية عميقة, تسبب زيادة في الدم الشرياني وبالتالي زيادة الأوكسجين في المنطقة المعالجة وهذا يؤدي إلى تغذيتها ويزيد عمليات الاستقلاب فيها, فتؤدي عملها على الوجه المطلوب أو قريب منه وقد ثبت بنجاحه وأنه مأمون العاقبة ولا يستخدمه الأطباء إلا في وقت اشتداد الحاجة إليه, فالكهرباء إذا استخدمت بقدر الحاجة والضرورة من الأطباء أهل الخبرة العارفين بذلك فإنها لا تعدو أن تكون من الكي وقد أثبت الدليل أنه من الشفاء فاتفق الدليل الشرعي والتجريبي على الانتفاع بذلك فلا وجه لمنعه أو تحريمه فالراجح الجواز والله أعلى وأعلم .
سـ84/ كيف يستفاد من قاعدة ( تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة ) في المجال الطبي؟ باختصار ؟
جـ/ أقول:- يستفاد منها في عدد من الفروع نذكر لك ما يلي :-
منها :- وجوب طاعته في الحجر الصحي على بعض المرضى إذا كان ذلك يحقق مصلحة عامة .
و منها :- وجوب طاعته في منع بعض الأدوية شراءً و استعمالاً إذا كان في ذلك
مصلحة عامة .
ومنها :- جواز التسعير على المستوصفات الخاصة إذا كان ذلك يحقق المصالح العامة .
ومنها :- جواز إيقاف بعض القراء أو الأطباء إذا صدر منهم ما يخل بعملهم بعد النصح والتوجيه .
ومنها :- جواز التوطين العام إذا كان ذلك يحقق المصالح العامة .
ومنها :- جواز إغلاق بعض المرافق الصحية إذا كانت لا تتقيد بأصول الطب وكان في إغلاقها تحقيق المصالح العامة .(1/288)
ومنها :- وجوب طاعته في تقرير بعض الأنظمة الطبية إذا كان في تقريرها تحقيق المصالح العامة وعلى ذلك فقس والله أعلم .
سـ85/ ما حكم استخدام الغطاء المطاطي لمنع نفوذ ماء الرجل إلى المرأة ؟
جـ/ أقول:- هذا جائز إن شاء الله تعالى بشرط إذن الزوجة إن كانت حرة, ولا يعد وذلك أن يكون من العزل وقد وردت أحاديث بجوازه فقد روى الشيخان في صحيحهما من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال (( كنا نعزل والقرآن ينزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )) وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء فأردنا أن نستمتع ونعزل فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون ))"متفق عليه" والخلاصة أن ذلك جائز لكن لابد من استئذان الزوجة إن كانت حرة والله أعلم .
سـ86/ كف يستفاد من قاعدة ( الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة ) في المجال الطبي؟ باختصار ؟
جـ/ أقول:- يستفاد منها في عدد كبير من الفروع نذكر لك بعضها :-
منها :- جواز العمليات الحاجية .
ومنها :- جواز إجراء عملية تفريج الأصابع الملتصقة .
ومنها :- جواز شد الأسنان بالذهب إذا كانت الحاجة داعية لذلك .
ومنها :- جواز التداوي بلبس الحرير للرجال إذا كانت الحاجة داعية لذلك .
ومنها :- جواز حلق الشعر للمحرم المريض مع الفدية إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك .
ومنها :- جواز التوكيل في الرمي للمريض العاجز .
ومنها :- جواز التداوي بحقن الدم إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك .
ومنها :- جواز إنشاء بنوك الدم إذا كانت الحاجة داعية إلى ذلك. والله أعلم .
سـ87/ كيف يستفاد من قاعدة ( الجواز الشرعي ينافي الضمان ) في المجال الصحي؟ باختصار ؟(1/289)
جـ/ أقول:- يستفاد منها في عدد من الفروع ونذكر لك بعضها :-
منها :- أن الطبيب الحاذق في الطب لا يضمن ما تلف مع إتقان التطبيب بأصول الطب المقررة وعدم التقصير فيها .
ومنها :- أن المتطبب الجاهل يضمن مطلقاً لأنه غير مأذون له شرعاً .
ومنها :- أن الطبيب إذا خالف أصول الطب فإنه يضمن .
ومنها :- أن الطبيب يضمن إذا وصف الدواء من غير سبق كشف .
ومنها :- أن الصيدلي لا يضمن إذا صرف الدواء الذي كتبه الطبيب للمريض بوصفته المثبتة لأنه مأذون له في ذلك .
ومنها :- أن المتطبب بالأعشاب العارف بذلك والمشهود له بذلك لا يضمن إذا حصل في علاجه شيء من التلف .
ومنها :- أنه إذا حصل شيء من التلف في العمليات التي أجريت للمريض بإذنه مع الالتزام بأصول هذه العمليات المقررة فإنه لا ضمان على مجريها من الأطباء والله أعلم .
سـ88/ اذكر بعض الترجيحات المختصرة في بعض المسائل الطبية ؟
جـ/ أقول:- على العين والرأس وهي كما يلي :-
الصحيح :- هو أن موت الدماغ لا يعد موتاً ولا تترتب عليه أحكام الموت لأن الأصل المتبقي هو حياة المريض, والموت مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك ولأن حياته قد كانت في الماضي فهي كائنة الآن لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان وقد تقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل .
والصحيح :- أن الأصل في التداوي الجواز لأنه يتحقق منه مصلحة والشريعة جاءت بتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها .
والصحيح :- تحريم التداوي بالتميمة من القرآن لأن الأدلة الواردة في شأن منع التمائم عامة والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد المخصص .(1/290)
والصحيح :- أن لبس السوار لعلاج الروماتيزم لا يجوز احتياطاً قياساً على المنع من لبس الحلقة والودع وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً وفي يده حلقة من صفر فقال (( انزعها...الحديث )) فالسوار هذا كهذه الحلقة والأصل أن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات ولا تجمع بين المختلفات .
والصحيح :- أن المريض العاجز عن الماء والتراب يصلي على حسب حاله ولا إعادة عليه لأنه لا واجب مع العجز ومن الأصول المقررة شرعاً ( رفع الحرج ) .
والصحيح :- أن حديث (( لا عدوى )) نفي للاعتقاد الذي كان سائداً في الجاهلية من أن العدوى تنتقل بذاتها بدون تقدير سابق وهذا هو المنفي وأما العدوى انتقالاً بسبب مخالطة العليل بقدر الله تعالى فإنها مثبتة لأن الجمع بين الأدلة واجب ما أمكن فالعدوى ابتداءً منفية والعدوى انتقالاً مثبتة .
والصحيح :- أن توبة أصحاب الأمراض الميئوس منها صحيحة إذا توفرت شرط صحتها كمرضى الإيدز والطاعون وأنفلونزا الدجاج ونحو هذه الأمراض فإذا تاب منها قبل غرغرة روحه فإنها تعتبر توبة صحيحة .
والصحيح :- جواز استطباب المريض عند المريض الكافر للحاجة والمصلحة لأن الأصل في المنافع الحل ولا يمنع منها شيء إلا بدليل .
والصحيح :- جواز استخدام الطيب لتطهير الجروح إذا احتيج إليه ولو كان فيه نسبة يسيرة من الكحول .
والصحيح :- أن من حدثه دائم كالمستحاضة ومن به سلس البول أو تفلت الريح أو الغائط فإنه يغسل المحل ويشده بخرقة ويتوضأ لوقت كل صلاة ويصلي ولا يضره خروج حدثه بعد ذلك ما دام في الوقت لأن إلزامه بالوضوء لكل خارجٍ منه فيه مشقة وعسر والمشقة تجلب التيسير .
والصحيح :- جواز استخدام حبوب منع الحمل إذا كانت لا تضر المرأة وأذن زوجها بذلك لأن الأصل الجواز وعلى المانع الدليل .
والصحيح :- أن التبرع بالدم مبطل للصيام قياساً على الحاجة والمتقرر أن القياس الصحيح حجة شرعية .(1/291)
والصحيح :- تحريم سائر العمليات الجراحية التحسينية لأنها تتضمن ارتكاب المحرم بلا ضرورة ولا حاجة والمتقرر أن الحرام يجب اجتنابه ووسائل الحرام وما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع .
والصحيح :- جواز صلاة المريض المجروح على سريره ولو كان عليه قطرات الدم إذا لم يستطيع الصلاة إلا كذلك لأن كل فعل فيه عسر فإنه يصحب باليسر .
والصحيح :- وجوب مسح سائر أجزاء الجبيرة لأن البدل له حكم المبدل .
والصحيح :- جواز المسح عليها ولو لبست على غير طهارة لأن مسحها من باب الضرورة ولأنها تأتي فجأة والمشقة تجلب التيسير .
والصحيح :- أن الجرح الذي يتضرر بالغسل فإنه يجب مسحه فإن كان يتضرر أيضاً بالمسح فإنه يتيمم له بعد الفراغ من الوضوء لأنه لا واجب مع العجز .
والصحيح :- أن اليد الاصطناعية أو الرجل الاصطناعية لا يجب غسلها لأن الغسل
واجب في اليد والرجل الأصلية لا البديلة وإذا زال محل الفرض سقط ما وجب فيه .
والصحيح :- أن المسح على الجبيرة لا يتقدم بيوم وليلة وقياسها على الخف قياس مع الفارق والمتقرر أن القياس مع الفارق باطل .
والصحيح :- أن الدم الخارج من غير السبيلين ليس من نواقض الوضوء لأن نواقض الوضوء توقيفية وقد تقرر أن العبادة المنعقدة بالدليل الشرعي لا تنقض إلا بالدليل الشرعي .
والصحيح :- أن المغمى عليه يجب عليه قضاء ما فاته إن كان وقت الإغماء مقدراً بثلاثة أيام واختاره سماحة الوالد الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى .
والصحيح :- أن لمس ذكر المريض أو لمس خصيتيه لا ينقض الوضوء لأن نواقض الوضوء توقيفية .
والصحيح :- الذي لا يجوز القول بغيره أن تحديد النسل لا يجوز .
والصحيح :- جواز استعمال حبوب منع الدورة للمصلحة إذا كانت لا تضره .
والصحيح :- أن الرطوبات التي تخرج من فرج المرأة تنقض الوضوء .(1/292)
والصحيح :- أن المريض إذا فاتته عدة فروض فإنه يجب عليه قضاؤها مرتبة لأن الترتيب في القضاء واجب كالأداء والمتقرر في القواعد أن القضاء له حكم الأداء إلا بدليل .
والصحيح :- جواز إفطار المريض إذا نصحه الطبيب بذلك .
والصحيح :- أن قطرة العين ليست بمفطرة ولو وجد طعمها في حلقه لأنها منفذ غير معتاد .
والصحيح :- أن قطرة الأذن ليست بمفطرة لأنها من منفذ غير معتاد .
والصحيح :- أن قطرة الأنف مفطرة إذا وجد طعمها في حلقه لأنها من منفذ معتاد.
والصحيح :- أن قطرة الفم مفطرة إذا وجد طعمها في حلقه لأنها من منفذ معتاد .
والصحيح :- المفتى به في الديار السعودية أن بخاخ الربو ليس من المفطرات لأنه
يتعامل مع الشعب في الرئة ولا دخل له في المعدة .
والصحيح :- أن الاحتجام يفسد الصوم لثبوت الدليل بذلك .
والصحيح :- جواز استعمال الفرشاة والمعجون في نهار الصوم إذا غلب على ظنه أنه لن يصل إلى الجوف منه شيء وإلا فيمنع .
والصحيح :- أن قلع السن في نهار رمضان جائز وإبرة التخدير إنما محلها اللثة والدم الخارج بعد السن قليل المقدار لا يؤثر في فساد الصوم والأصل الجواز .
والصحيح :- أن الإبر المغذية تفسد الصوم لأنها تقوم مقام الأكل والشرب .
والصحيح :- أن الإبر التي ليست بمغذية لا تفسد الصوم .
والصحيح :- أن الدم الخارج بلا اختيار كحادث سيارة مثلاً أو نحو ذلك لا يفسد الصوم ولو كان كثيراً لأنه مكره على ذلك والمكره لا تكليف عليه .
والصحيح :- جواز الكشف بالمنظار حال الصوم وبذلك أفتى كثير من أهل العلم في الديار السعودية .
والصحيح :- أن دم التحليل اليسير عرفاً لا يفسد الصوم .
والصحيح :- جواز استعمال دواء الغرغرة للصائم إذا غلب على ظنه أنه لن يدخل في جوفه شيء منه .
والصحيح :- أن المريض إذا مات قبل التمكن من قضاء الأيام التي فاتته فإنه لا شيء عليه البتة لأن الواجبات منوطة بالقدرة .(1/293)
والصحيح :- أن مريض القرحة يجوز له الفطر ويقضي من أيام أخر فإن كان لا يرجى برؤه فيطعم عن كل يومٍ مسكيناً .
والصحيح :- أن غسيل الكلى يبطل الصوم .
والصحيح :- أن الاكتحال لا يفسد الصوم .
والصحيح :- أن فاقد الذاكرة يرتفع عنه التكليف بالصلاة لأن من شرطها التمييز وهو غير مميز .
والصحيح :- جواز استعمال التحاميل للكبار في رمضان .
والصحيح :- أن الكبير المخرف الذي يهذي ولا يعرف من حوله يرتفع عنه التكليف .
والصحيح :- أن المستحاضة لها حكم الطاهرات .
والصحيح :- أن طلاق المعتوه لا يقع لأن من شرط الطلاق القصد وهو لا قصد له .
والصحيح :- أن طلاق المريض مرض الموت لا يقع .
والصحيح :- أن سريان البنج في الجسم لا يفطر .
والصحيح :- أن الحامل إذا أسقطت الجنين قبل التخلق وخرج منها دم فإنه دم فساد لا يسقط الصلاة ولا الصوم .
والصحيح :- أن السقط إذا سقط من بطن أمه بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويصلي عليه لأنه روح .
والصحيح :- أن الحامل يجوز لها الفطر إذا خافت على نفسها أو على أو ولدها .
والصحيح :- أن المريض الذي يخاف أن لا يكمل مناسك الحج أو العمرة بسبب المرض فإنه يجوز له الاشتراط فيقول ( وإن محلي حيث حبستني ) .
والصحيح :- أن المريض معدود من الضعفة الذين يجوز لهم النفر من مزدلفة بعد منتصف الليل .
والصحيح :- أن خروج الدم في الطواف لا يؤثر .
والصحيح :- صحة وقوف المغمى عليه بعرفات ولو كان الإغماء طويلاً .
والصحيح :- جواز الحج عن المشلول الذي تعطلت أركانه .
والصحيح :- أن الأطباء المشتغلين بالمرضى يجوز لهم تأخير الرمي إلى اليوم الثالث عشر .
والصحيح :- أن ختان الرجل واجب وختان المرأة سنة ومكرمة .
والصحيح :- أن بيع الدم لا يجوز .
والصحيح :- جواز تشريح جثة الكافر دون المسلم .
والصحيح :- جواز قطع العصب إذا لم يكن إزالة الألم إلا بذلك لأن الضرر يزال .(1/294)
والصحيح :- أن استخدام الجن المسلمين في العلاج لا يجوز سداً للذريعة .
والصحيح :- أن تسمية السرطان بالمرض الخبيث لا ينبغي لأن المرض من الخير وهو كفارة للمسلم وإنما يقال:- المرض العضال أو الأورام الخطيرة أو المميتة ونحو ذلك .
وهذا آخر ما أردت تقييده من هذه المسائل مقرونة بالقواعد والدلائل أهديها إليك بضاعة مزجاة على عجرها وبجرها, والمرجو منك أن تنظر فيها بعين الرحمة والرأفة فإن وجدت فيها ما ينفعك فأسألك بالله الذي لا إله غيره أن تدعو لمقيدها بالمغفرة والرحمة والرضا والجنة وهذا غاية ما أرجوه منك وإن لم تجد فيها نفعاً فضعها عنك جانباً, وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن ينفع بها النفع العام والخاص وأن ينزل فيها البركة تلو البركة وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام وإني أشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة ومن يطلع عليها من طلبة العلم أنها وقف لوجهه الكريم على عامة المسلمين ولا أجيز لنفسي ولا لولدي من بعدي أن يحتفظوا بحقوق طبعتها بل حقوق الطبع محفوظة لكل مسلم على وجه هذه الأرض, وأسأله جل وعلا باسمه الأعظم أن يغفر لنا زللنا القولي والعملي و الاعتقادي وأن يعاملنا برحمته وجوده وكرمه, وإني أشهده جل وعلا أنه لا فضل لي فيها وإنما الفضل كله أوله وآخره لله جل وعلا, وليس لي فيها إلا النقل والجمع فقط فاللهم اغفر لأهل العلم أولهم وآخرهم وأجزهم عنا وعن الإسلام خير الجزاء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وهو أعلى وأعلم .
وقد وقع الفراغ منها بعد صلاة الفجر في اليوم الأول من شهر جمادى الثانية عام ست وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب - صلى الله عليه وسلم -(1/295)