الإعجاز العلمي
في لفظتي المريض والمُمْرِض
في الأحاديث النبوية الشريفة
د.عبد البديع حمزة زللي
مقدمة
لقد عملت أجهزة الكشف والتحليل الحديثة على توسع العلوم والمعرفة في شتى الميادين بشكل هائل للغاية، كما مكَّن توسع العلوم المتعلقة بمسببات الأمراض العلماء من إظهار علم جديد أُطلق عليه علم أسباب الأمراض A etiology، وعرف الإنسان أن المريض قد يصاب بالأمراض نتيجة تعرضه لمسببات مختلفة ومتنوعة. وحسب نوع مسبب المرض فإن المرض إما أن يظل حبيساً في جسد المريض ولا ينتقل إلى من يخالطهم ويؤاكلهم، ولا تحدث العدوى بهذا المرض أبداً، وإما أن ينتقل هذا المرض من المريض إلى من يخالطهم ويؤاكلهم وتحدث العدوى، ويكون هذا المريض ممرضاً لغيره بإذن الله ومشيئته.
... ومما يثير العجب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ميَّز بين المريض الذي لا يسبب العدوى عن المُمْرِض الذي تنتقل العدوى منه إلى الآخرين، قبل أكثر من أربعة عشر قرناً، وقبل أن يكتشف هذه الحقيقة علماء هذا العصر، فندب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على زيارة وعيادة المريض، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض ويطيب نفسه، ونهى في الوقت نفسه عن إيراد المُمْرِض على المُصِح وأمر بالفرار منه والبعد عنه، كما ميّز نبيّ الهدى صلوات ربي وسلامه عليه بين المُمْرِض بمرض معدٍ والمُمْرِض بمرض وبائي، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد وضع أسس التعامل مع هؤلاء المُمْرِضين حيث سبق علماء العصر الحديث في هذا الأمر.(1/1)
ومن نافلة القول أن نشير هنا إلى أن كل مؤمن يعرف ويوقن تماماً أن من يتعرض لمسببات المرض فإن ذلك لا يعني أبداً أنه سوف يصاب بهذا المرض، إذا أراد الله سبحانه وتعالى حفظه وتجنيبه، وفي الوقت نفسه فإن من لا يتعرض لمسببات المرض الظاهرة فإن ذلك لا يعني للمرء أنه لن يصاب بالمرض إذا قدر مقدر المقادير ومسبب الأسباب أن يصاب هذا المرء بالمرض، ومن واجب المسلم التوكل على الله سبحانه وتعالى في جميع أمور حياته اليومية، لكنه مأمور بالأخذ بالأسباب والتحصن ضد مسببات الأمراض.
وصور الإعجاز العلمي في لفظتي المريض و المُمْرِض تظهر في الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بالأمراض، كما تظهر أيضاً في الطرق التي أخبرنا بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع المصابين بالأمراض المعدية أو المصابين بالأمراض الوبائية الفتاكة.
ومن صور الإعجاز النبوي أننا نجد بعض الأحاديث المتعلقة بموضوع العدوى تنفي العدوى، وفي الوقت نفسه تقرُّ بها. وهذه حقيقة علمية توصل إليها علماء هذا العصر، ولكن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه قد أخبرنا بها قبل أن يكتشفها بشكل دقيق العلماء.
ولعدم معرفة الطرق الصحية السليمة للتعامل مع المرضى المصابين بأمراض معدية، وللخوف الشديد من انتقال العدوى منهم فقد واجه مرضى الجذام في القرون السابقة انعزالاً اجتماعياً مجحفاً، خاصة في تلك المجتمعات التي لم تتقيد بالتعاليم الدينية والأخلاقيات الإنسانية. إذ أشارت
الموسوعات العلمية أن مرضى الجذام كانوا في الأزمنة السابقة ضحايا تحامل الناس عليهم وخوفهم منهم، وذلك بسبب التشوهات المرتبطة بالمرض. وفي العديد من المجتمعات يعامل مرضى الجذام معاملة المنبوذين في حين أن تعاليم الإسلام تنهى عن ذلك.(1/2)
... ولأن علم أسباب الإمراض لم يكن معروفاً بشكل واضح ودقيق في العصور السابقة فقد احتار العلماء في الجمع بين الأمرين (لاعدوى والعدوى)، وذكر النووي (1) رحمه الله: أن بعض العلماء قد قالوا إن حديثاً جاء فيه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يورد مُمْرِضٌ على مصح) منسوخ بحديث: (لا عدوى)، ولكنه قد غلَّطهم فقال: " وهذا غلط لوجهين أحدهما أن النسخ يشترط فيه تعذُّر الجمع بين الحديثين ولم يتعذر، بل قد جمعنا بينهما، والثاني أنه يشترط فيه معرفة التاريخ، وتأخر الناسخ، وليس ذلك موجوداً هنا، وقال آخرون حديث لا عدوى على ظاهره، وأما النهي عن إيراد المُمْرِض على المصح فليس للعدوى بل للتَّأذِّي بالرائحة الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم والصواب ما سبق والله أعلم.
وبعد ما كشفت لنا الأجهزة والآلات الحديثة النقاب عن الكائنات الحية الدقيقة، وعرف الإنسان حقيقة المرض غير المعدي والمرض المعدي، وأنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض، والعدوى تحدث بمخالطة المُمْرِض أو بانتقال مسببات المرض بوسائل أخرى، فجاءت هذه الحقائق العلمية الحديثة منسجمة بشكل مذهل مع ما جاء به الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه لتكشف عن إعجاز نبوي جديد من الإعجازات النبوية المتتابعة والمتجددة مع مرور الأزمنة، وحتى تتضح صور الإعجاز العلمي في
أحاديث لا عدوى وأحاديث العدوى بالأمراض المعدية، والأمراض الوبائية. وتتجلى كذلك صورة أخرى من الإعجاز في آيات القرآن الكريم التي تتعلق بهذا الموضوع، فينبغي أن نتعرف أولاً على المعاني اللغوية والعلمية للألفاظ المعنية بالإعجاز في هذا البحث كالمريض و المُمْرِض والعدوى والطاعون (الوباء). ونعرف أيضاً كيف جاءت نتائج الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة منسجمة بشكل بليغ مع ما ورد عنها في الأحاديث النبوية الشريفة.
__________
(1) -الإمام محي الدين بن شرف النووي، صحيح مسلم بشرح النووي:ص 216.(1/3)
هو الإنسان الذي يعاني من مرض أو علة جسمية أو عقلية نتيجة إصابته بمسببات معينة، دون أن تنتقل مسببات هذا المرض إلى من يخالطهم ويؤاكلهم.
وأسباب الأمراض غير المعدية عديدة بعضها تسببه مواد مؤذية أو مهيجة للجسم، وبعضها يحدث بسبب تناول أغذية غير متوازنة (1) ، وبعضها يحدث نتيجة تناول الماء والأطعمة الملوثة بمعادن سامة لها تأثيرات على أجهزة الجسم المختلفة أو المخ (2) ، كما أن القلق والتوتر يمكن أن يؤديا إلى أمراض الصداع وارتفاع ضغط الدم والتقرحات وغيرها (3) .
وتدل نتائج الدراسات والأبحاث وملاحظات الأطباء والعلماء أن مخالطة المريض بالأمراض غير المعدية ومؤاكلته الناس لا تسبب العدوى أبداً.
سبق أن أشرنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ميَّز بين المريض و المُمْرِض، فقد أخبرنا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة أنه لا عدوى تحدث بمخالطة المريض. روى البخاري (4) رحمه الله عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل "، قالوا وما الفأل؟ قال: " كلمة طيبة).
وروى مسلم (5) رحمه الله: عن جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :(لا عدوى ولا غُولَ ولا صَفَرَ).
__________
(1) -الموسوعة العلمية العربية.
(2) -عبدالبديع حمزة زللي، مقدمة لعلوم التلوث البيئي، تسرب معدن الألمنيوم من آنية الطبخ (مرجع إنجليزي),تلوث مياه الشرب بالمعادن الثقيلةعن طريق الانابيب المعدنية.
(3) -(الموسوعة الأكاديمية الأمريكية) موسوعة جروليال (مرجع إنجليزي).
(4) - الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، فتح الباري، مرجع السابق، حديث رقم 5776، ص254.
(5) - صحيح مسلم بشرح النووي، مرجع سابق ص216.(1/4)
ولأن معلّم البشرية الخير والصلاح يعلم أن مخالطة المريض ـ وليس المُمْرِض ـ لا تصدر من جسمه العدوى، وهو - صلى الله عليه وسلم - يأبى أن يُعرِّض أمته إلى عوامل الأذى والهلاك، وفي الوقت نفسه يأخذ بكل وسيلة توصل الناس إلى فعل الخير، فقد حث على عيادة وزيارة المريض المسلم وغير المسلم، وأخبرنا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لكل من يعود المريض، وأمرنا بتطييب نفس المريض ورفع معنويته، وتذكيره أن المرض حاتٌ لذنوبه وخطاياه.
وقد رغَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في زيارة المريض راوياً عن ربه عز وجل حديثاً قدسياً طويلاً رواه مسلم (1) رحمه الله: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدني قال يارب كيف أعودك ؟ وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده ؟).
لفظة المُمْرِض تعني الكائن الحي الذي يعاني من مرض أو علة جسمية نتيجة إصابته بمسببات هذا المرض، وتنتقل مسببات المرض منه إلى كل من يخالطهم ويؤاكلهم بوسائل مختلفة ومتنوعة. ويطلق العلماء على الكائنات الحية المسببة لهذا المرض الكائنات المُمْرِضة.
ولقد جاءت لفظة المُمْرِض في أحاديث نبوية شريفة إذ روى مسلم (2) رحمه الله: عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يورِد مُمْرض على مُصح).
وروى البخاري (3) رحمه الله: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال بلفظ: (لا يورَدَنَّ مُمْرض على مُصح).
__________
(1) - صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب البر، باب فضل عيادة المريض.
(2) - المرجع السابق، كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة، ج14، ص214 – 215.
(3) - فتح الباري مرجع سابق، باب (53) لا هامة، حديث رقم 5771، مج10، ص251.(1/5)
والمتأمل في هذه الأحاديث يجد فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدلنا على أن المُمْرِض هو إنسان أو حيوان مريض بمرض معدٍ، وينتقل هذا المرض منه إلى غيره بالمخالطة. وقد دلَّ النووي رحمه الله على أن المقصود بالمُمْرِض هو المجذوم، معللاً النهي عن إيراد المُمْرِض (المجذوم) على المصح لأسباب ذكرت في المقدمة.
... وقد عرَّف ابن حجر (1) لفظة المُمْرِض فقال: المُمْرِض بضم أوله وسكون ثانيه وكسر الراء بعدها ضاد معجمة هو الذي له إبل مرضى، ثم ذكر أن أهل اللغة قد قالوا إن المُمْرِض هو اسم فاعل من أَمرَض الرجل، إذا أصاب ماشيته مرض، والمصحُّ اسم فاعل من أصح إذا أصاب ماشيته عاهة ثم ذهب عنها وصحت.
والأمراض التي يمكن أن تنتقل من المُمْرِض إلى السليم إما أن تكون أمراضاً غير وبائية تأثيراتها لا تسبب مشكلات صحية واسعة، وإما أن تكون أمراضاً وبائية فتاكة تسبب الهلاك والفناء على نطاق واسع.
__________
(1) - فتح الباري، كتاب الطب، باب (54) لا عدوى، حديث رقم 5770، مج10، ص252.(1/6)
ومن أمثلة الأمراض المعدية غير الوبائية التي يمكن الوقاية منها بالبعد عن المريض مسافات معينة: الزكام والجذام. والزكام هو: واحد من أنواع كثيرة من العدوى التي تصيب الجهاز التنفسي العلوي، ويعد الزكام أكثر الأمراض انتشاراً وشيوعاً. وقطع العلماء شوطاً بعيداً لتحديدهم أكثر من مائة فيروس تتسبب في هذا المرض. وينتقل المرض بواسطة العدوى الرذاذية، ويعتقد العلماء إلى جانب ذلك أن جراثيم الزكام يمكن أن تنتشر بالاحتكاك المباشر وبخاصة من خلال الأيدي (1) ، أماَّ الجذام (ويسمى أيضاً مرض هانس) وهو مرض مزمن معدٍ يؤثر أساساً على الجلد والأغشية المخاطية، وخاصة تلك التي في الفم، وهو ليس مرضاً قاتلاً في العادة، ولكن إهمال المرض أو عدم علاجه قد يؤدي إلى تشوهات ربما تشل اليدين والقدمين. ولا يعرف الباحثون كيفية انتقال البكتيريا المسببة للجذام، بينما أشارت تقارير إلى حدوث الإصابات عن طريق التلامس الجلدي (2) .
وتدل نتائج الدراسات والأبحاث الطبية الحديثة أنه يمكن تجنُّب انتقال مسببات المرض من المُمْرِضين بالأمراض المعدية للسليمين بعدم الاحتكاك المباشر بهم، وعدم ملامسة جلد المصاب بدون وقاية، ولعل جعل مسافة بين المُمْرِض وبين من حوله يسهم كثيراً في وقايتهم من الإصابة بمثل هذه الأمراض المعدية. (انظر: الإعجاز النبوي في مكافحة الأمراض المعدية).
__________
(1) - الموسوعة العربية العالمية، الزكام، مج11، ص587.
(2) - نفس المرجع، الجذام، مج8، ص237-238.(1/7)
... ذكر ابن منظور (1) رحمه الله أن أصل العدوى من عدا، ويعدو إذا جاوز الحد، ومعنى أعدى أي أجاز جرب الذي به إلى غيره، وأجاز جرباً بغيره إليه، وذكر أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث لا عدوى أي لا يُعدي شيءُ شيئاً، وقد أشار إلى أن ذكر العدوى في الحديث قد تكرر، وأنه اسم الإعداء. والعدوى أن يكون ببعير جرب مثلاً فتُتَقى مخالطته بإبل أخرى، حذاراً أن يتعدى ما به من الجرب إليها فيصيبها ما أصابه.
ويكشف لنا علم الطب وعلم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة أن العدوى تحدث بما يُعدي من كائنات حية طفيلية تنتقل من كائن حي مصاب بالمرض الذي تسببه، أو حامل لهذه الكائنات، إلى كائن حي آخر سليم. وتسبب له بإذن الله المرض المعدي أو المرض الوبائي الخطير. والأمراض المعدية هي أكثر الأمراض شيوعاً حيث تستطيع أنواع عديدة من الكائنات الحية الدقيقة كالبكتيريا والفيروسات والفطريات والطفيليات والحشرات وغيرها أن تغزو جسم الإنسان وتسبب له الأمراض (2) .
سبق أن أشرنا أن علماء هذا العصر لم يقفوا على حقيقة العدوى إلا بعد اختراع أجهزة الكشف والتحليل وخاصة بعد اختراع المجاهر (الميكروسكوبات)، فعملت هذه الأجهزة على إظهار الكائنات الحية الدقيقة (المجهرية) التي كانت تخفى تماماً عن العيون لصغر حجمها، وأدرك العلماء كيفية غزو الكائنات المجهرية المُمْرِضة جسم الإنسان أو الحيوان
أو النبات، وكيفية انتشارها، وعرفوا أن العدوى تحدث بشكل رئيسي ومباشر عن طريق مخالطة المُمْرِض للكائنات الحية السليمة فتنتقل إليها الكائنات المجهرية المُمْرِضة فتمرضها.
__________
(1) - أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور، لسان العرب، مادة عدا، مج15، ص39.
(2) - الموسوعة العربية العالمية، المرض، مج23، ص105 – 106.(1/8)
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد سبق علماء العصر الحديث في الدلالة على حدوث العدوى بالمخالطة وبغير المخالطة، ويدل على سبل الوقاية من العدوى. روى البخاري (1) رحمه الله:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي يا رسول الله: فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فتجرب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فمن أعدى الأول؟).
ومن هذا الحديث يظهر جلياً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وافق الأعرابي على ملاحظته في أن العدوى تحدث بالمخالطة، لكنه قد بيَّن له ولنا أن العدوى تحدث أيضاً بوسيلة أخرى غير المخالطة، فقوله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: (فمن أعدى الأول؟) فيه دلالة واضحة على أن الجمل الأول أصيب بالعدوى ولكن بدون مخالطة. ولم يكتشف العالم حقيقة نقل العدوى بدون مخالطة إلا في العصر الحديث. إذ كشفت لنا نتائج الدراسات والأبحاث الحديثة كيف تصل العدوى إلى الكائن الحي بدون مخالطة، إذ من الممكن أن تسقط الطفيليات المسببة للمرض من ممرض ما على التربة، أو تتلوث بها المواد أو الأدوات والآنية التي يحتك بها المُمْرِض، وقد تبقى الطفيليات الساقطة على الأرض زمناً طويلاً لا يصل إليها أي كائن حي أو تترك المواد أو الآنية أو الأدوات بعيدة عن متناول الأيدي زمناً طويلاً جداً وبالرغم من هذا فإن الجراثيم تبقى حية ولكنها في وضع سكون. فعلى سبيل المثال تستطيع
__________
(1) -فتح الباري مرجع سابق، مج10، حديث رقم 5770، ص251.(1/9)
أنواع من البكتيريا أن تنتج تركيباً خاصاً يسمى الجرثومة الداخلية، والجراثيم الداخلية تستطيع مقاومة الظروف البيئية القاسية غير الملائمة لنمو وتكاثر هذه البكتيريا، فبعضها يقاوم درجات الحرارة العالية التي تتعرض لها والتي تصل إلى 120مْ ولمدة ثلاث ساعات. وتعتبر الجراثيم الداخلية مرحلة ساكنة للخلية الأم، وهي تستطيع أن تعيش لعشرات السنين في غياب مصدر غذائي خارجي يتاح لها (1) ، ولكن عندما يأذن الله سبحانه وتعالى لهذه الجراثيم المُمْرِضة الساكنة أن تصيب الإنسان أو الكائن الحي الآخر بالمرض، فإن المصدر الملوث بها (التربة أو المواد أو الآنية أو الأدوات) يجد طريقه ميسراً إلى جسم الكائن الحي الذي قدر الله له سبحانه وتعالى إصابته بالعدوى، فتجد هذه الجراثيم في جسمه الوسط الغذائي المناسب لتكاثرها ونموها، فتتكاثر وتنمو وتسبب له العدوى دون أي مخالطة لممرض.
ومن هنا يظهر بشكل واضح أن ذهاب المرض المعدي من أرض قد انتشر فيها لا يعني غيابه عن هذه الأرض أبداً، إذ أشرنا أعلاه أن شيئاً من مسببات هذا المرض قد يبقى ساكناً لمدة طويلة في أي مكان يترك فيه، وعندما يقدر الله سبحانه وتعالى ومسبب الأسباب ظهور هذا المرض من جديد تصل هذه الجراثيم إلى جسم كائن حي وتسبب له العدوى وينتشر المرض من جديد. وقد أخبرنا بهذا الأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، إذ روى البخاري (2) رحمه الله:
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الوجع (الطاعون) فقال: (رجز ـ أو عذاب ـ عذب به بعض الأمم، ثم بقي منه بقية، فيذهب المرة ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه، ومن كان بأرض وقع بها فلا يخرج فراراً منه).
__________
(1) - مصطفى كمال أبو الذهب وآخرون، علم البكتيرات، ج1، ص102-103.
(2) - فتح الباري، مرجع سابق، كتاب الحيل، باب 13، ما يكره من الحيل في الفرار من الطاعون، حديث رقم 6974، مج12، ص260.(1/10)
ومن الإعجاز النبوي العجيب أننا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينفي العدوى وفي نفس الوقت يقر بها في حديث واحد. فقد روى البخاري (1) رحمه الله:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر. وفرَّ من المجذوم كما تفرُّ من الأسد).
إن تشبيه المجذوم بالأسد في حديث فر من المجذوم كما تفر من الأسد، هو تشبيه بليغ، فاختلاط المجذوم بالآخرين السليمين وملامسته لهم كالأسد أو السبع الذي يؤذي من حوله إذا وصل إليهم ولامسهم بمخالبه وأنيابه، في حين أن وجود الأسد في مكان يتواجد فيه الناس مع وضع حائل يحول دون وصوله إليهم لا يترك فرصة لهذا الأسد أو السبع أن يؤذيهم أو يضرهم. ولو تأملنا في هذا التشبيه فكأننا نرى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرشدنا إلى أن لا نعزل المجذوم الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بهذا المرض عن مجتمعاتنا، إذ لا حرج في وجوده في المجتمعات طالما كانت هناك مسافة بينه وبين من حوله تحول دون ملامسته لهم أو تعرضهم لرذاذه، مما يجعله لا يشعر بالعزلة، ويهيئ الفرصة للآخرين لتطييب نفسه ومؤازرته في مصيبته التي ابتلاه الله بها والتداوي للعلاج من هذا المرض. ويتأكد لنا هذا الأمر في توجيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى التعامل السليم الصحيح مع المُمْرِضين بالأمراض المعدية (غير الوبائية) كمرض الجذام مثلاً في أن نتكلم معهم وبيننا وبينهم مسافة لا تترك فرصة لانتقال الجراثيم من أجسامهم إلينا، أو التعرض إلى ما يخرج من أفواههم أو أنوفهم من رذاذ وغيره. (انظر: الإعجاز النبوي في مكافحة الأمراض).
__________
(1) - فتح الباري المرجع السابق باب (19) الجذام، حديث رقم 5707، مج10، ص167.(1/11)
ذكر الجوهري (1) أن الطاعون هو الموت الوَحِيُّ من الوباء، أي الموت السريع الذي ينتج من الوباء، وزاد ابن منظور (2) في تعريف الطاعون فذكر أنه هو المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة والأبدان. كما يذكر علماء اللغة أن الوباء هو الطاعون وهو كل مرض عام، ويقال الوبأ والوبا والوباء بالقصر والمد والهمز.
ومما تقدم ذكره ندرك أن معنى الطاعون في اللغة لا ينحصر في مرض معين، وإنما يشمل أي مرض يعم الناس وينتشر في البقاع بسرعة عظيمة ويسبب الموت السريع.
ولقد جاء العلم الحديث موافقاً للتعريف اللغوي للوباء أو الطاعون إذ يعرف الوباء علمياً بأنه ازدياد مفاجئ لمرض معدٍ (تفجرات وبائية) ينتشر بشكل واسع وسرعة كبيرة بين الناس وفي وقت واحد وفي أي منطقة (3) .
ومن أمثلة الأمراض الوبائية: الطاعون الدبلي (الموت الأسود)، والطاعون البقري، والطاعون الكبير، والكوليرا، والأنفلونزا، وأنفلونزا الطيور، وأمراض الكبد الوبائي والحمى الصفراء وحمى الوادي المتصدع وغيرها كثير.
ولقد تسببت الأمراض الوبائية في هلاك ملايين البشر والحيوانات في فترة زمنية وجيزة، بل وأدت إلى فناء أمم في مواطنها. وفي القرن الرابع عشر تسبب نوع من الطاعون الدبلي عرف بالموت الأسود في هلاك ربع سكان أوروبا، كما اجتاحت الأوبئة الخطيرة منذ أقدم العصور كلاً من أوروبا وآسيا وأفريقيا.
__________
(1) - إسماعيل بن حماد الجوهري، الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، مادة طعن، ج6، ص2158.
(2) - لسان العرب، مادة طعن، مج13، ص267.
(3) - المرجع العلمي بالإنجليزي (كول كوت ودبسون).(1/12)
ومن الإعجاز النبوي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا أن المرض الوبائي قد يسبب فناء أمة بأسرها. إذ روى أحمد بن حنبل (1) رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون).
كما أخبرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه الطريقة الصحية السلمية للوقاية من انتشار الأمراض الوبائية الخطيرة وحصرها في مكانها للحيلولة دون انتشارها.
لو تمعنَّا في تعاليم الإسلام المتعلقة بمكافحة الأمراض المعدية، لرأينا أن هذه التعليمات قد شملت المرضى والأصحاء، ولرأينا أيضاً أن الرسول الرؤوف الرحيم - صلى الله عليه وسلم - قد وضح لنا الوسائل المثلى للتعامل معهم، ابتعاداً عن احتمالية نقل الإصابة بهذا المرض منهم إلى السليمين، ولوضُح لنا أيضاً كيف عملت تعاليمه - صلى الله عليه وسلم - على السيطرة على الأمراض المعدية وحصرها في مكانها والحيلولة دون انتشارها، ولظهر لنا كذلك كيف خصَّ رسولنا الرؤوف الرحيم المُمْرِضين بكل ما يسهم في رفع معنوياتهم وعدم عزلهم عن مجتمعاتهم.
سبق أن أشرنا أن العلوم الحديثة قد أثبتت أن الوقاية من الأمراض المعدية غير الوبائية يمكن أن تتم عن طريق عدم ملامسة جلد المُمْرِض بشكل مباشر، وجعل مسافة تحول دون وصول ما يخرج من جسمه من رذاذ ونحوه وطرق التعامل الصحية هذه لم تكن جديدة على المسلمين، فقد وجه إليها ودل عليها رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - . فلنرَ الآن كيف دلنا رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - على هذه الوسائل:
__________
(1) - الإمام أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد، مج6، مسند عائشة، حديث رقم 5071، ص149، وحديث رقم 5171، ص162.(1/13)
تنتقل كثير من الأمراض المعدية عن طريق بصاق المُمْرِض (1) ، وقد يكون المرء حاملاً لمسببات الأمراض المعدية دون أن تظهر عليه أعراض المرض، ويبدو ظاهرياً أنه يتمثل بصحة جيدة، فإذا ما أصاب البصاق جلد الإنسان فإن ذلك قد يسبب له العدوى ويؤذيه. ومن أهم الوسائل التي توصل إليها العلم الحديث والتي تساهم في الوقاية من هذه الأمراض وعدم انتشارها أن لا يبصق الإنسان على الأرض في الساحات العامة وغيرها من الأماكن، وأن يغيبها في منديل يرمى بعد ذلك في سلة المهملات التي تعالج غالباً بالحرق أو بالوسائل الصحية الأخرى.
وقد وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى فعل هذا الأمر قبل أن يوجه إليه المهتمون بالصحة العامة في هذا العصر فقد روى أحمد (2) رحمه الله عن سعد - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إذا تنخم أحدكم في المسجد فليغيِّب نخامته أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه).
ومن أمثلة الأمراض المعدية التي تسبب العدوى عن طريق استنشاق الرذاذ الخارج من فم المُمْرِض والمحمل بالجراثيم المسببة للأمراض: مرض السل الرئوي، حيث يطلق على هذا النوع بالعدوى الرذاذية. ومن أجل الوقاية من الأمراض التي تنتقل عن طريق الرذاذ فقد علمنا معلمنا وقدوتنا الكيفية المثلى لكف أذانا عن الآخرين، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - الطاهر المطهر كان يضع يده أو ثوبه على فيه عندما يعطس. فقد روى أبو داود (3) في سننه عن
__________
(1) -عبدالبديع حمزة زللي، الإعجاز العلمي في لفظ الجنابة، مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة، العدد 23: 169ـ 208 (1428)هـ.
(2) -مسند أحمد بن حنبل، مج1، مسند أبي إسحاق سعد بن الوقاص رض الله عنهما، حديث رقم 1547.
(3) -سليمان بن الأشعث أبو داود السجستاني الأزدي، سنن أبي داود، مج2، ص725، رقم الحديث 5029.(1/14)
أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غض بها صوته). شك يحي.
سبق أن مر بنا أن الإرشادات الطبية الحديثة الخاصة بالوقاية من الأمراض المعدية غير الوبائية يمكن أن تتم بأن نجعل هناك مسافة بيننا وبين المُمْرِض، بحيث تكفي هذه المسافة للحيلولة دون ملامسته بشكل مباشر، ودون أن يصل إلى أجسامنا شيء من الجراثيم التي تنطلق من جسم المُمْرِض عن طريق الرذاذ أو غيره.
وأصبح من المألوف أن الذي يصاب بالزكام مثلاً (وهو مرض معد) عندما يدخل على الآخرين يسلم عليهم من بعد، ويقول دعكم بعيدون عني حتى لا أنقل إليكم العدوى بالزكام، ويكفي السلام عليكم من بعد، لأن الزكام ينتقل في العادة بالمصافحة والتقبيل.
والبعد عن المُمْرِض بمسافة للوقاية من العدوى هو طريقة مثلى قد أرشدنا إليها الهادي البشير والسراج المنير صلوات ربي وسلامه عليه فعن عبدالله ابن أبي أوفى (1) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (كلِّم المجذوم وبينك وبينه قيدَ رمح أو رمحين).
سبق أن مر بنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (فر من المجذوم كما تفر من الأسد)، إذ شبه المجذوم بالأسد، ورأينا كيف ينسجم هذا التشبيه بشكل عجيب مع كيفية التعامل مع المصابين بالأمراض المعدية غير الوبائية.
الحجر الصحي: هو عزل أشخاص بعينهم وأماكن أو حيوانات قد تحمل خطر العدوى. وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية من مواجهة الأمراض الوبائية (2) .
__________
(1) - محمد ناصر الدين الألباني، صحيح الجامع الصغير وزياداته، مج4، حديث رقم 158، ص106ـ، ط2، 1399هـ، المكتبة الإسلامية.
(2) - الموسوعة العربية العالمية، مج9، الحجر الصحي، ص88.(1/15)
ولقد وضع الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأسس السليمة الصحية في كيفية احتواء انتشار الأمراض الوبائية، ففي الوقت الذي سمح به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتكلم من بعد مع المصاب بالأمراض المعدية غير الوبائية نجده هنا ينهى - صلى الله عليه وسلم - تماماً عن دخول الأرض التي يقع بها مرض وبائي، بل وينهى أيضاً عن الخروج منها. وقد وردت أحاديث عديدة في هذا الموضوع نذكر بعضها. ما رواه البخاري (1) رحمه الله : عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: (إذا سمعتم بالطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها). وروى مسلم (2) رحمه الله: عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (الطاعون آية الرجز ابتلى الله عز وجل به ناساً من عباده، فإذا سمعتم به فلا تدخلوا عليهم، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تفروا منه).
__________
(1) - فتح الباري، كتاب الطب، باب (30) ما يذكر في الطاعون، مج 10، حديث رقم 5728، ص189.
(2) - صحيح مسلم بشرح النووي، مرجع سابق، ج14، ص205.(1/16)
... وقد يثار في النفس سؤال أو استفسار حول الحجر الصحي في الإسلام، فمنع الدخول إلى الأرض التي يقع فيها الطاعون هو حماية من العدوى، ولكن لماذا لا تُتْرك الفرصة لخروج من هم فيها فراراً من هذا الوباء القاتل؟. ونجيب على هذا السؤال ونقول: إن من يخرج من الأرض التي يقع بها الوباء فهو إما أن تكون الجراثيم المُمْرِضة قد غزت جسمه ولكن فترة حضانة هذه الجراثيم تأخذ فترة معينة حتى تظهر عليه أعراض المرض، فخروجه من الأرض الموبوءة التي كان بها يعني أنه قد عمل على نقل المرض إلى أماكن أخرى بعيدة، فيؤذي الآخرين ويتسبب بذلك في مرضهم أو هلاكهم، وهو في كلتا الحالتين (بقاؤه في المكان الموبوء أو خروجه منه) لن يفر من الموت إن قدر الله له ذلك، ففراره لن ينفعه بل ربما يجعله آثماً إن تسبب فراره في انتشار المرض. والمولى سبحانه وتعالى الرؤوف الرحيم الذي ابتلاه بهذا الوباء قد أنعم عليه بأجر الشهيد، وإن قدر الله له أن يعيش فلن يضره شيء إن صبر على مكوثه وسيحصل أيضاً على أجر الشهيد. إذ لا يقتضي الأمر أن يكون الموت مصير كل من أصابته العدوى بمرض وبائي فتاك، فقد يخلق الله سبحانه وتعالى في جسمه الأجسام المضادة التي تحارب وتقضي على الجراثيم المُمْرِضة وتكون في جسمه كجهاز مناعي يحميه بعد ذلك من هذا المرض الفتاك. وقد روى البخاري (1) رحمه الله: عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد.
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم في (سورة النور: آية 61):
__________
(1) -فتح الباري مرجع سابق، باب 31، أجر الصابر على الطاعون، حديث رقم 5734.(1/17)
ژ ? ? ? ? ? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ? ? ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ?? ?
? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ژ.
ذكر ابن كثير (1) رحمه الله أن المفسرين قد اختلفوا في تفسير هذه الآية، وعلى وجه التحديد في رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض وعن أنفسنا، وقد حيَّرت هذه الآية كثير من المفسرين خاصة عند قوله سبحانه وتعالى بأن الحرج مرفوع عن أنفسنا أن نأكل من بيوتنا، فذكر الرازي (2) رحمه الله أنه قد يثار في النفس سؤال حول قوله سبحانه وتعالى: ژ ڑ ک ک ک ک گ گ ژ ، وهو أن يقال أي فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته؟ ولا نريد أن نعرض ما قاله المفسرون في هذه الآية القرآنية، حيث يمكن الرجوع إليها، ولكن ينبغي علينا في الوقت نفسه أن نظهر ما تكشَّف من انسجام وتوافق بليغ للحقائق العلمية الحديثة التي عرفناها في العصر الحديث مع هذه الآية القرآنية الكريمة، ولا يدعو انسجام الحقائق العلمية وتوافقها مع آيات القرآن والأحاديث النبوية أن نلغي ما قاله الأولون من المفسرين وشرَّاح الحديث حول آية قرآنية كريمة أو حول حديث نبوي شريف، بحجة أنهم لم يدركوا الحقائق العلمية على حقيقتها، فعدم موافقة أقوالهم لما تكشف لنا في عصرنا الحديث لا يعني جهلهم بالكتاب والسنة، وإنما أطلعهم الله سبحانه وتعالى على ما تكشَّف لهم بقدر ما كان لديهم من معلومات، إذ إن من إعجاز القرآن الكريم أنه
من جوامع الكلم، فجوامع الكلم تستوعب معان كثيرة لا حصر لها، وبذلك تبقى جميع الأقوال المعتمدة للعلماء السابقين كما هي (3) .
__________
(1) - الحافظ عماد الدين أبو الفداء ابن كثير، تفسير ابن كثير، مج3، ص305.
(2) - محمد فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي، ج4، ص34-37.
(3) -عبدالبديع حمزة زللي، وجوه متنوعة من الإعجاز العلمي، ص44-45.(1/18)
على أية حال إن المتأمل في هذه الآية القرآنية الكريمة يجدها تنتهي بقوله سبحانه وتعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ?ژ، الأمر الذي يحثنا على التعقُّل في هذه الآية القرآنية لنلمس فيها الآيات المعجزة. فقد ذكر ابن تيمية (1) رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى قد سمَّى المعجزة في القرآن الكريم آية وبينة وبرهاناً، فقد قال: "والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد كثيرة متنوعة وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء ويسميها من يسميها من النظار معجزات وتسمى دلائل النبوة وأعلام النبوة، وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء كانت أدل على المقصود من لفظ المعجزات ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجوداً في الكتاب والسنة وإنما فيه لفظ الآية والبينة والبرهان".
... وفي هذه الآية القرآنية الكريمة نرى الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن فيها آيات (معجزات) وليس معجزة واحدة. فلنرى الآن كيف شملت هذه الآية القرآنية الكريمة آيات من الإعجاز العلمي.
... لقد عرفنا أن المرض يأتي في صور ثلاث يمكن أن نلخصها فيما يلي:
1. مرض غير معدٍ، ولا ينتقل هذا المرض من المريض إلى من يخالطهم ويؤاكلهم.
2. مرض معدٍ، ينتقل هذا المرض بالاحتكاك المباشر بالمُمْرِض وملامسة جلده، أو التعرض لما يخرج من جسمه.
3. مرض وبائي خطير، ينتقل هذا المرض عن طريق مخالطة ومؤاكلة المُمْرِض، أو عن طريق لمس المواد والأدوات والآنية التي كان يستخدمها.
ولم يكن الإنسان من قبل يعرف حقيقة انتقال الأمراض المعدية والأمراض الوبائية من غير مخالطة المُمْرِض، فعرفنا الآن أن العدوى بالمرض المعدي، أو العدوى بالمرض الوبائي قد يصاب بها الإنسان عن طريق استخدام أو استعمال المواد والأدوات التي لامستها يد المُمْرِض، أو تلوثت بشيء من بصاقه أو رذاذه أو عرقه أو غير ذلك.
__________
(1) -أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج5، ص408.(1/19)
والمتأمل في الآية القرآنية التي نحن بصددها، يجد أنها تتعلق بأمر المؤاكلة، إذ رفع المولى سبحانه وتعالى الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض وعن أنفسنا في أن نأكل من البيوت التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في الأحد عشر موضعاً في الآية القرآنية.
فما هو الحرج؟ وكيف يجده الإنسان؟
ذكر ابن منظور (1) أن الحرج في الأصل هو الضيق، ويقع أيضاً على الإثم، ونقول أحرجْت فلاناً أي صيرته إلى الحرج وهو الضيق. ونجد أن المولى سبحانه وتعالى قد ذكر لنا في هذه الآية الكريمة أن الحرج قد رُفع عن الأعمى والأعرج والمريض في مؤاكلة غيرهم، فهم لن يجدوا حرجاً أو ضيقاً عند مؤاكلة غيرهم. والإثم لن يلحق بإرادة الله وإذنه إلا بمن يعلم أنه مصاب بمرض معدٍ (أي أنه ممرض)، وأنه سينقل هذا المرض بإذن الله إلى الآخرين عندما يشاربهم ويؤاكلهم.
وفي وقتنا الحالي أخذت بعض الأمراض المعدية في الانتشار، وأصبح عدد المصابين بهذه الأمراض يتزايد عاماً بعد عام، وذلك نتيجة لمخالطة المُمْرِضين بالمُصحٍّين، أو نتيجة استعمال أو وصول المواد أو الأدوات التي استخدمها المُمْرِضون وقد تلوثت بمسببات الأمراض المعدية إليهم.
__________
(1) -لسان العرب، مج1، مادة حرج.(1/20)
وعلى سبيل المثال قد يظهر الحرج والضيق لبعضنا بشكل كبير عندما نقف في الصيف عند إشارات المرور ونحن في عطش شديد، ويتدافع من يبيع قوارير المياه الصحية إلينا، فنتردد في أخذها، إذ إن الذي يبيع الماء لا نعرف عنه شيئاً، وهو ليس من الأقارب ولا من الأصدقاء الذين شملتهم الآية القرآنية، والذين نعرف في العادة حالاتهم الصحية، فلا حرج أبداً في أننا نأكل من بيوتهم أو يأكلوا من بيوتنا، أما الذين لا نعرف عنهم شيئاً، فنجد حرجاً في مؤاكلتهم، إذ ربما كانت قارورة الماء التي نأخذها منهم سبباً إذا أراد الله في الإصابة بعدوى مرضٍ معدٍ، كمرض الكبد الوبائي، ولذلك فإن من يعقل حقيقة وسائل نقل العدوى سيجد حرجاً وضيقاً شديداً عند رغبته في أخذ الماء من مثل هؤلاء، إذ هم لا يخضعون للفحوصات الطبية التي من خلالها يُمنع المصابون بمرض معدٍ من مزاولة الأعمال التي تسبب نقل المرض منهم للآخرين. وبذلك تظهر لنا صورة من صور الإعجاز العلمي في هذه الآية، وهي أن مخالطة ومؤاكلة من نعرفهم من الأقارب والأصدقاء لا تسبب أبداً حرجاً أو ضيقاً في النفس خوفاً من العدوى، في حين أن الحرج قد يعترينا عند مؤاكلة غيرهم من الذين يبدو عليهم الاعتلال في الصحة.
صورة أخرى من الإعجاز في هذه الآية الكريمة نلمسها في أننا لا نجد كذلك حرجاً في استخدام ما نملكه في بيوتنا أو في أماكن أخرى خاصةً بِنا في غير البيت أو المكان الذي نعيش فيه، ولكننا قد نجد حرجاً عند رغبتنا في استخدام الأدوات أو الأواني التي لا نعلم من استخدمها قبلنا، فقد يكون طبقاً أو ملعقة استخدمها شخص مصاب بمرض معدٍ مصدراً للإصابة بالعدوى. وخلاصة القول يتمثل في أننا نلمس من الواقع أن الحرج أو عدمه يظهر في وقتنا الراهن بشكل ينسجم انسجاماً عظيماً مع هذه الآية الكريمة. ومن هنا فقد ظهر لنا الآن وجهان من وجوه الإعجاز في هذه الآية الكريمة وهما كالتالي:(1/21)
... أن مخالطة ومؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض ومن نعرفهم حق المعرفة (الأقارب والأصدقاء) لا تؤدي إلى الحرج سواءً كان هذا الحرج ضيقاً في النفس أو إثماً يُقترف. ونلمس في هذه الآية دلالة على أن الحرج قد يظهر عند مؤاكلة من لا نعرفهم، وخاصة عند مؤاكلة من تبدو عليه أعراض مرض.
... أنه لا حرج في استخدام المواد والأدوات والآنية التي نملكها في أماكن مختلفة. وفي هذا الوجه الإعجازي دلالة أخرى غير مباشرة على أن الحرج قد يحدث لنا عند استخدام مواد أو أدوات أو آنية الأكل في الأماكن غير الخاضعة للإشراف الصحي، والتي لا نعرف عنها شيئاً.
على آية حال فإن وجوهاً أخرى من الإعجاز العلمي في هذه الآية القرآنية الكريمة قد تتكشف مع مرور الأعوام والقرون، إذ لا بد من ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد ذكر أن في هذه الآية القرآنية آيات معجزات وليس آيتان فقط، فهو القائل سبحانه وتعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ?ژ والله أعلم.
-(1/22)