...
مركز بحوث القرآن الكريم والسنة النبوية
المؤتمر العلمي العالمي الثاني
التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون
بحث بعنوان :
إشكالات التكامل المعرفي
د. محجوب محمد آدم
جامعة الزعيم الأزهري – كلية التربية
المحرّم 1430هـ – يناير 2009م
إشكالات التكامل المعرفي
أحمد الله تعالى ، وأستعينه ، وأسأله السداد في القول والعمل ، وصلِّ اللهم على أشرف المرسلين سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ،
وبعد ؛
فإن طرح قضية التكامل المعرفي بين علوم الوحي وعلوم الكون ليثير جملة من التساؤلات حول قيمة المشكلة ، وحاجتنا في إبرازها ، تأصيلاً للمعرفة ، ومدى تباين المنهجية المعرفية عند المسلمين عن المنهجية الغربية ، وما يترتب على ذلك من إشكال وغيرها مما حاولت محاور المؤتمر العلمي أن تتبناه بنظرة نقدية وفكر منفتح ، معتمداً على تراث إسلامي أنضجته المدارسة ، وقوَّى عوده الحوار الفكري ، ولم يعد يخشى أحداً بعد طول صراع مع الملاحدة والعلمانيين والمغرضين وسواهم ممن لم يفتروا في اجتهادهم من النيل منه ، والقضاء عليه ..
وإن النظرة النقدية لجوانب هذه القضية لتفرض علينا التنبيه إلى مسائل تبدو في النظرة العجلى لها أنها عقبات أمام تيار التكامل المعرفي بين العلمين ، ووجدت حظها من إثارة الشكوك حولها سابقاً ، ووجدت ـ في الوقت نفسه ـ من يتصدى لمثيريها ، ودفع التهم عما حاولوا إلصاقها بعلوم الوحي ، والقول بتخلفها ، ورجعيتها .. وقد حاولت هذه الورقة عرض بعض هذه العقبات وتناولها بالدراسة ، غير أن اتساع جنبات كل مشكلة على حدة حالت دون ما كانت النية معقودة عليه ، فاقتصرنا على إبراز ثلاثة منها دون توسع في التمثيل لها ، وحشد أقوال العلماء عنها ، واستخلاص ما يعيننا في تبين حجم المشكلة ، وطرق تلافيها أو الحد منها .(1/1)
الإشكال الأول : عما يتراءى من تعارض بين علمي الوحي الكون ، بالنظر إلى بعض ما قدمه الوحي من معارف علمية تتعارض مع ما توصل إليه العلم الوضعي ، على نحو ما ذكروه في حديث تأبير النخل وجناح الذباب .
أما الإشكال الثاني فمجاله ما اعتمده التفسير من الإسرائيليات والمرويات الظاهر كذبها واختلاقها لتفادي ما لم يكن للعلماء من علم لتوضيح ما أجمله القرآن ، أو لم يتيسر لهم كشف ما يتضمنه من أسرار في زمنهم ، فاجتهدوا في الاستعانة بأهل الكتاب والإخبارين وكانت النتيجة مرويات ومعارف لا تتناسب مع التفكير العلمي الحديث القائم على الإدراك الحسي غالباً بالتجربة العملية والاستنباط والاستقراء ونحوها ..
وبينا في الإشكال الثالث مغالاة علماء الإعجاز العلمي للقرآن والسنة في تقديم معلوماتهم التخصصية البحتة ، فابتعدوا في بعضها عما قصده الشارع من البيان ..
ونحسب أن عرض هذه القضايا يمكن أن يساهم في مشروع التكامل المعرفي ، ويقدم نظرة نقدية لبعض ما يمكن أن يثار من جوانب التعارض بين العلمين ، وأرجو أن تكون هذه الورقة قادرة على إثارتها وتقديم عرض لجوانبها . أسأل الله القدير أن يعينني على خدمة كتاب الله وسنة نبي الله المصطفي بما يستحقان من الجهد والإخلاص فيه . وعلى الله قصد السبيل ..
تمهيد :
المقصود بعلم الوحي في هذه الورقة هو : المعارف التي يكتسبها الإنسان مما بلغه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى ، ويشمل القرآن الكريم والسنة النبوية . أما القرآن الكريم فهو كلام الله المعجز ووحيه المنزل على خاتم أنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه ، المكتوب في المصاحف ، المنقول بالتواتر.(1/2)
أما السنة فهي كل ما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التشريع من قول أو فعل أو تقرير ، أو صفة خلقية من مبدأ بعثته إلى وفاته . وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى هي التي تقابل الكتاب وتسمى الهدى ، وفي صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: « أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ » (1)
وما صح من الحديث النبوي وحي بدليل قوله تعالى : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم : 3-4]
وقد تكلفت السنة ـ وهي تبين للناس ما نزل إليهم بالقول والفعل والإقرار ـ بالبيان ، حتى تمت كلمات الله عز وجل . والأَصل في السنة لغة : الطريقة والسِّيرَة ، وإذا أُطْلِقَت في الشرع ؛ فإنما يراد بها ما أَمرَ به النبيُّ صلى الله عليه و سلم ونَهى عنه ، ونَدَب إليه قولاً وفعلاً ، مما لم يَنْطق به الكتابُ العزيز .
والغاية من الوحي هي تعهد البشرية وصياغتها على النهج الإسلامي علماً وعملاً ، وفكراً واعتقاداً وسلوكاً ، تخلقاً وعرفاً . والوحي بمفهوم هذه الغاية " دستور الخالق لإصلاح الخلق ، وقانون السماء لهداية الأرض . وهو ، في الوقت نفسه ، حجة الرسول وآيته الكبرى يقوم في فم الدنيا شاهدا برسالته ناطقا بنبوته دليلا على صدقه وأمانته . " (2)
وقد جاءت الإشارة إلى الغاية من الوحي في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى:
- { يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيم } [النساء : 26 ].
- { تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل : 89].
__________
(1) صحيح مسلم 2 / 592 ح رقم 867 باب تخفيف الصلاة والخطبة .
(2) مناهل العرفان 1 / 8(1/3)
- { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء : 9].
- { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان: 1].
- { هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ } [ لقمان: 3 ].
- { وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ } [ الإسراء: 82].
- { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } [ القمر : 5] .
- { قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [ يونس: 57]
ولا تتعرض الغاية من الوحي لاي تغيير في مضمونها ، وإن تأثرت ظاهرها ببعض التغييرات نتيجة للعوامل الاجتماعية والإنسانية التي طرأت عبر الحقب المختلفة ، وشكَّل الإنسان ومصالحه تبعاً لذلك ؛ الأمر الذي اقتضى تعدّد الشرائع السماوية ، أو تعدد القراءات لفقه الشريعة الخاتمة .
أما غاية علم الكون فمنوطة بتحقيق عمارة الكون والاستفادة المثلى من معطياته من ناحية ، ولهذا لا تختلف الأمم حول هذه المعطيات كثيراً ، بل يسعون دون تردد في توظيفها بما يحقق لهم الأمن والاستقرار والرفاهية ، ولا يهم الناس حينئذٍ كثيراً مصدر ما يحققونه من هذا العلم شرقياً كان أم غربياً . ولثبات نظام الكون وعلمه كان أمر اتخاذ تدبره أداة عملية للتدبر في علم الوحي وتثبيت التدبر فيه عقلا لتحقيق الايمان ..(1/4)
وفي حالة اختلاف الغاية لكل من العلمين لا معنى للحديث عن التضارب والتصارع بينهما ، والبحث عن الوفاق بينهما ؛ تفادياً للنظرة السلبية عند بعض الناس لعلوم الوحي ، ودعوى أن ما يتضمنه عن الكون والطبيعة غير متفق مع العلوم الحديثة ، بجانب ثبات مضمون علوم الوحي مقارنة بالنظرة الايجابية للعلم لما يحققه من تطور مذهل ، وما يحققه الانسان من معطياته مادياً . الأمر الذي شجع علماء الدين بالبحث فيما لم يخض فيه العلم، أو فيما لم يتوصل إليه العلم بعد ، كما بحثوا عن أسس علمية لأطروحاتهم ، ومن ثم طرق مجال الإعجاز العلمي في علوم الوحي بإلحاح واضح . ولا يذهب بنا الفكر أن الغرض منه لا يعدو الدفاع عن الدين ، أو محاولة التوفيق والتوافق بين إشارات الوحي وما توصل إليه علم الكون حديثاً ، بل قد يكون أيضاً تفسيراً علمياً للوحي وقد يكون غير ذلك ..
أما تحقيق الإيمان فغاية نصل إليها بالتدبر الشرعي والتدبر الكوني .. ليستعد المؤمن لما يأتيه مما لا مجال فيه للتدبر ، بل المطلوب مطلق التقوى .. إذ نجد أن من بين ما وصف الله تعالى به المتقين: أنهم { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [البقرة : 3 ] { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [النمل : 3 ولقمان : 4](1/5)
وهم حينئذ ينزلون ما خفي عنهم دون تردد أو شك إلى واحة الايمان (مقام الصديقية) .. جاء في السيرة أن القوم قد ذهبوا إلى أبي بكر رضي الله عنه لما أخبرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخبر إسرائه ، فقالوا له : هل لك يا أبا بكر في صاحبك ، يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس ، وصلى فيه ورجع إلى مكة ، فقال : " وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنّ الْخَبَرَ لَيَأْتِيهِ ( مِنْ اللّهِ ) مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدّقُهُ فَهَذَا أَبْعَدُ مِمّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ ". (1) وتوقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن استقصاء ما لا يعلمه مما لا يتوقف عليه تكليف أو نهي كما يفهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه فقد روى أن عمر قال على المنبر : { وفاكهة وأبا } ثم قال : هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأب ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : " إن هذا لهو التكلف يا عمر ، اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب" (2) . وكان أبو بكر يقول : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ". . (3)
وهو مقام يعتمد على مفهوم قوله تعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً } [الاسراء : 85]
__________
(1) سيرة ابن هشام ج 1 / ص 399 وانظر المستدرك للحاكم ج 3 / ص 65 .
(2) المستدرك للحاكم - ج 2 / ص 559 .
(3) مصنف ابن أبي شيبة - ج 7 / ص 179 .(1/6)
دون أن يعني ذلك حجراً على البحث والكشف عن أسرار علم الوحي أو علم الكون ؛ بل إن ديننا ليحض الناس على ذلك ويدفعهم له دفعاً ، يقول الله تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت:20] ، ويؤكد في الوقت نفسه أن هذه الأسرار متاحة للعلماء إذا أخذوا بأسباب العلم واستخدموا ما يناسبه من مناهج للبحث .. وحينئذٍ يتكشف لنا ما نجهله من علم .. يقول تعالى : {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صّ : 88 ] أي نبأ ما في الذكر الحكيم من أسرار ..
فإذا تبين لنا أنَّا نجهل كثيراً من العلم على المستويين الفردي والبشري ، وأن ما يعلمه كل منا قليل للغاية قياساً لعلم البشرية . وإذا تبينا أن حاجة الدين لعلوم الكون استدلالية يتخذها أداة من أدوات الحجة على الناس { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101) ، وكذلك الحرص الديني على ضرورة التدبر والتفكر والنظر المعرفي . لا لما بين العلمين من تكامل معرفي بل لما يمكن أن يقدمه علم الكون من أدوات ضرورية لتحقيق الايمان . ولا يمنع ذلك أن طلبها ضرورة لعمارة الكون وتوظيفه لها في تحقيق الخلافة .. فإن الأخذ بما تبيناه يسهل علينا فهم العلاقة المعرفية بين علمي الوحي والكون ، دون أن نتوقف عند كل أمر جهلناه من حقائق العلمين. أو يقودنا إلى ربط كل كشف في علم الكون إلى علم الوحي ، مع تأكيدنا باختلاف غايتيهما .(1/7)
غير أن من الضروري إثبات أن كل ما قدمه علم الوحي من معارف ومعلومات صحيح، لا يأتيه الباطل ، ومتطابق تماماً مع ما ثبت من العلم بالضرورة .. ولاشك أن هذا الإثبات يستدعي تأكيد عدم تعارض ما يقدمه علم الوحي بما أثبته العلم حتى يومنا هذا ..وعندئذٍ يتحول هذا التكامل إلى إثبات أن الوحي مصدره العليم الخبير عز شأنه ؛ لما يقتضيه أن لا يجد المسلم المعاصر في الوحي ما يتعارض مع ما ثبت عنده من العلم .. غير أن من يريد أن يؤكد التكامل المعرفي بين العلمين بهذه الرؤية يجد مجموعة من الإشكالات تشكل في ظاهرها توتراً بين الشرع والعلم ، أو تعارضاً بينهما ..
وهذه الورقة ترجو أن تشير إلى بعض هذه الإشكالات ، وتحديد ما يمكن أن تشكلها من عقبة في مفهوم التكامل المعرفي ، وتجديد طرحها على مائدة النقاش ؛ بأمل أن ينير بصيرتنا حيالها الذين يستنبطون من علمي الوحي والكون ، ويكشفون ما غمض عنا من تكامل .. وعلى ذلك فإن الباحث لا يدعي أن يكون من أولئك النفر ، وإن كان يكفيه فخراً أنه منتسب إلى حلقاتهم طالب علم يقلقه هذا التعارض الظاهري ويغيب عنه ما يزيل غشاوته . وأسأل الله الحكيم الخبير أن ييسر هذا العلم ، وأسأله تعالى التوفيق والسداد ..
* * *
الإشكال الأول :
وجد العلماء أن بعض ما يقدمه الوحي من معارف علمية يتعارض مع ما عندهم حياله من العلم الوضعي ، على نحو ما ذكروه في حديث تأبير النخل وجناح الذباب ، وبعض ما نسب إلى رسولنا الكريم من توجيهات طبية تكاد لا يقر بها كثير من الناس في زماننا ..
من ذلك أن قصة تأبير النخل وردت في كتب السنة على النحو التالي :(1/8)
- أخرج مسلم في صحيحه : عن موسى بن طلحة عن أبيه ، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل ، فقال : مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ ؟ فقالوا : يُلَقِّحُونَهُ (1) ؛ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الْأُنْثَى فَيَلْقَحُ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا . قال : فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ ، فَتَرَكُوهُ ؛ فأُخبِرَ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذلك ، فقال : إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ ؛ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا ، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللَّهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . " (2)
- عن رافع بن خديج ، قال : قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يَأْبُرُونَ النَّخل ـ يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ ـ فقال : مَا تَصْنَعُونَ ؟ قالوا : كنا نَصنَعُه . قال : لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْرًا . فتركوه ؛ فَنَفَضَت أو فَنَقَصَتْ ، (3) قال : فذكروا ذلك له ، فقال : " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ ؛ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ". (4) .
__________
(1) يلقحون : يأبرون في الرواية الأخرى ومعناه ادخال شيء من طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق باذن الله
(2) صحيح مسلم ج4/ص1835 باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي .
(3) فنفضت أو فنقصت ومعناه أسقطت ثمرها
(4) أخرجه مسلم (4/1835 ، رقم 2362) ، وابن حبان (1/202 ، رقم 23) ، والطبرانى (4/280 ، رقم 4424) .(1/9)
- عن عائشة وعن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يُلَقِّحُونَ فقال :" لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ . قال : فخرج شِيصًا (1) ، فمرَّ بهم ،فقال : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ قالوا : قُلْتَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ : " أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ."
هذه الأقوال لرسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة لا يشك فيها أحد ؛ ولصحتها تفتح لنا باباً من الإشكال الظاهري ؛ فقد تعارض ظنه أو رأيه - صلى الله عليه وسلم - مع التجربة الواقعية ، والصحيحة علمياً ، بل إنه لم يستقر على ما أفتى به من النظر البشري الخاص ، ولكنه في الوقت نفسه أكد أن ما قاله ليس وحياً يلزم الناس به . كما أكد ما يمكن أن يطرأ عليه من النسيان فيما لا يتصل بوحي الله له تشريعاً ... وقد يرى بعضنا أن ما قاله برأيه صحيح في المستوى الإيماني البحت ؛ إذ فيه غاية التوكل على الله ، وعدم الأخذ بالأسباب . مع أنه - صلى الله عليه وسلم - أكد بشريته في أكثر من حديث ، وما يطرأ عليه من النسيان لذلك ، وننقل هنا ما أورده مسلم في صحيحه :
- " إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي " (2) ، وفي الباب نفسه أورد قوله - صلى الله عليه وسلم - : "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَذْكُرُ كَمَا تَذْكُرُونَ وَأَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ ". وقوله - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ .. (3)
__________
(1) شِيْصا وهو البسر الردئ الذي اذا يبس صار حشفا وقيل أردأ البسر وقيل تمر ردئ
(2) باب السهو في الصلاة والسجود ، ح 93
(3) بَاب الْحُكْمِ بِالظَّاهِرِ وَاللَّحْنِ بِالْحُجَّةِ شرح النووي على صحيح مسلم ج5/ص61(1/10)
جاء في شرح النووي : وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إِنَّمَا أَنَا بَشَر ) : معناه التنبيه على حالة البشرية ، وأن البشر لا يعلمون من الغيب وبواطن الأمور شيئاً إلا أن يطلعهم الله تعالى على شيء من ذلك ، وأنه يجوز عليه في أمورالأحكام ما يجوز عليهم ، وأنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر ، والله يتولى السرائر ، فيحكم بالبينة وباليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك ولكنه إنما كلف الحكم بالظاهر ...
وأما الذي في الحديث فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كالبينة واليمين فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف وهو وجوب العمل بشاهدين مثلا فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك فالتقصير منهما وممن ساعدهما وأما الحكم فلا حيلة له في ذلك ولا عيب عليه بسببه بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع والله أعلم .
وذكر النووي أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : (وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي) دليل على جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع ، وهو مذهب جمهور العلماء ، وهو ظاهر القرآن والحديث ..وإذا لم يقر عليه لم يحصل منه مفسدة بل تحصل فيه فائدة ؛ وهو بيان أحكام الناسي وتقرير الأحكام ..أما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع والله أعلم .
وطعن بعضهم في صحة الحديث مستدلاً بما يأتي :
- أن القصة وقعت في المدينة ، وعمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آنئذ لا يقل عن ثلاث و أربعين سنة , فهل يعقل أنه لم ير و لم يسمع حتى ذلك الوقت بتأبير النخل و قد كان يعيش في مكة المكرمة .
- لا يليق بالمؤمن العادي أن يتدخل في أمور لا يفهمها فكيف يليق ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/11)
- لا شك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم أهل الارض في زمانه ، فكيف لعالم أن يخطئ في شيء بسيط مثل هذا!؟
أما حديث وقوع الذباب في الشراب فقد أخرجه البخاري في صحيحه (1) :
- عن عبيد بن حنين قال سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً )
وفي باب إذا وقع الذباب في الإناء :
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الْآخَرِ دَاءً )
وفي مسند أحمد بن حنبل :
- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم ـ فإن في أحد جناحيه داء ، وفي الآخر شفاء ، وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء ـ فليغمسه كله )
وقد انصرف شراح الحديث والفقهاء عن قضية الداء في جناح الذباب ، وما يمكن أن يثيره علماء الصحة في زماننا ، وما ثبت لهم من مضار الذباب ، وما يجتهدون فيه لذلك للقضاء عليه ، والاحتياط منه .. وبدلاً من ذلك نظروا إلى مضمون الحديث واجتهدوا في استنباط الأحكام الفقهية منه على نحو ما ذكره صاحب كتاب عون المعبود ، قال :
__________
(1) باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء ... وأخرجه أحمد (2/229 ، رقم 7141) ، وأبو داود (3/365 ، رقم 3844) ، وابن حبان (4/53 ، رقم 1246) .(1/12)
" الحديث دليل ظاهر على جواز قتله دفعاً لضرره ، وأنه يطرح ولا يؤكل ، وأن الذباب إذا مات في ماء فإنه لا ينجسه ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بغمسه ، ومعلوم أنه يموت من ذلك ولاسيما إذا كان الطعام حاراً ، فلو كان ينجسه لكان أمراً بإفساد الطعام ، وهو إنما أمر بإصلاحه ، ثم أدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة كالنحلة والزنبور والعنكبوت واشباه ذلك . " (1)
وجاء في فتح الباري لابن حجر :
" استدل بهذا الحديث على أن الماء القليل لا ينجس بوقوع ما لا نفس له سائلة فيه ووجه الاستدلال - كما رواه البيهقي عن الشافعي - أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بغمس ما ينجس الماء إذا مات فيه لأن ذلك إفساد . وقال بعض من خالف في ذلك : لا يلزم من غمس الذباب موته فقد يغمسه برفق فلا يموت ، والحي لا ينجس ما يقع فيه كما صرح البغوي باستنباطه من هذا الحديث . وقال أبو الطيب الطبري لم يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث بيان النجاسة والطهارة وإنما قصد بيان التداوي من ضرر الذباب ... " (2)
هذا ، وقد عدَّ العلماء هذا الحديث دليلاً على إعجازه لذكره قضيتين كلتاهما لم تكن معروفة في صدر الإسلام .
أولاهما : أن الذباب ناقل داء ، وهذا شيء أصبح الآن معروفاً لدى الجميع.
وثانيهما : وهي التي يجهلها الكثير أن الذباب يحمل مضادات للجراثيم .
وتمكن العلماء حديثاً من عزل مواد مضادة للحيوية تقتل جراثيم مختلفة من بينها الدسنتاريا والتيفوئيد ، ووجدوها ذات مفعول قوي على الجراثيم المسببة لأمراض الحميات ذات الحضانة القصيرة المدة .
والخلاصة أنه يستدل من كل ما سبق على الآتي:
__________
(1) عون المعبود 8 / 359 باب في الذباب يقع في الطعام .
(2) فتح الباري ج10/ص251(1/13)
أ الذباب ضار جدًا .. حيث ينقل للإنسان الكثير من الأمراض، كمرض التيفود، والدوسنتاريا ، والسل، والرمد الصديدي ، وذلك لأنه يقع على الفضلات والمواد القذرة وما شابه ذلك ، فيحمل بأرجله أو يمج كثيراً من الجراثيم المرضية الخطرة.
ب يقع الذباب على الطعام فيلمس بأرجله الملوثة الحاملة للمرض هذا الطعام أو هذا الشراب، فيلوثه بما يحمل من جراثيم .
ج- فإذا حملت الذبابة من الطعام، وألقيت خارجه دون غمس، بقيت هذه الجراثيم في مكان سقوط الذباب ، فإذا التهمها الآكل وهو لايعلم طبعاً ، دخلت فيه الجراثيم ، فإذا وجدت أسباباً مساعدة ، تكاثرت ثم صالت وأحدثت لديه المرض، فلا يشعر إلا وهو فريسة للحمى طريحاً للفراش.
د - أما إذا غمست الذبابة كلها، خرجت من جسمها الأنزيمات الحاملة لجراثيم المرض والقاتلة له، فتقع على الجراثيم التي تنقلها الذبابة بأرجلها فتهلكها وتبيدها، ويصبح الطعام طاهراً من الجراثيم المرضية. (1)
وهذا يعني أن الذباب يحوي على سطح جسمه الخارجي مضادات حيوية تعالج العديد من الأمراض، أي أن الذباب فيه شفاء ! ، وأن أفضل طريقة لتحرير هذه المواد الحيوية المضادة أن نغمس الذبابة في سائل!! لأن المواد المضادة تتركز على السطح الخارجي لجسد الذبابة وجناحها.! (2)
الإشكال الثاني :
الاعتماد في التفسير على الإسرائيليات أو الأساطير أو الأعراف التي سادت عصر المفسر على نحو لا يتناسب مع التفكير العلمي الحديث القائم على الإدراك الحسي غالباً بالتجربة العملية والاستنباط والاستقراء ونحوها ..
__________
(1) عن التفسير العلمي لحديث الذبابة ، ( بتصرف ) ، نقلا عن موقع ( صيد الفوائد )
(2) نقلاً ( مع التصرف بالاختصار ) عن : http://www.saudiinfocus.com/(1/14)
وقد اجتهد علماء التفسير في الإحاطة بكل ما بلغهم من العلم فيما يتصل بالقضايا العلمية أو الغيبية التي تطرق لها الوحي فأورودها كما هي ، على ما يمكن أن يكون بين الروايات المختلفة من بون شاسع . ولتفادي ما بينها من اختلاف لجأ بعض المفسرين إلى السند ، وتتبع تسلسل الإسناد ، فوضعوا في تفسير كل آية جميع الوجوه المروية تحرياً للدقة المتناهية فيما ينقلونه ، ولا يهم بعد ذلك ما يمكن أن يكون من غرابة في بعض ما يأتي به الرواة . وقد ذكر ناصر الدين الأسد (1) أن مرد التزام الإسناد المتصل في رواية الحديث إلى أمرين ؛ أمر داخلي ، وذلك أن المحدث بإسناده الحديث يرفع العهدة عن نفسه، حيث يشترك معه في تبعة هذا الحديث ونقله من روى عنهم ، وأمر خارجي : حيث يبعث المحدث بإسناده الطمأنينة في نفوس المتلقين ويوحي إليهم بالثقة في حديثه عندما يصل بين عصره وعصر الرسول الكريم بسلسلة متصلة من الرواة المحدثين .
__________
(1) ناصر الدين الأسد : مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية ، ص 258(1/15)
وقد وظِّف اطمئنان جمهور المسلمين وثقتهم في أسلافهم من الصحابة والتابعين من رواة الحديث لتوضيح الرؤى وتعميق المفاهيم الدينية بطريقة مبسطة ، تنفذ إلى قلوبهم بواسطة ما يروى لهم من قصص طريفة ومشوقة ، تبقى في الأذهان طويلاً ، مستفيدين من غريزة حب الاستطلاع عند المتلقين ، وشغف العامة الطبيعي لسماع القصص ، وإلحاحها في استفسار ما غمض عنها ، وحاجتها لسماع التفاصيل عما لم يفصل في أمرها القرآن الكريم ؛ لاسيما وأن هذه القصص لا ترد في الأحكام الشرعية والتكاليف ونحوها ، بل تلازم عادة الجوانب الغيبية وسير الماضين ومواضيع الترهيب والترغيب وفي كل ما لا يترتب عليه تحريم أو تحليل . الأمر الذي مكَّن القصاص والإخباريين من تقديم مادة هذه الروايات ممزوجة بمعارف اليهود وأخبارهم خاصة ، وأخبار الأمم السابقة ، وتعددت الجوانب التي لجأوا فيها إلى هؤلاء الإخباريين من ذلك ما أوردوه من روايات عن معنى (النون) في قوله تعالى : ( نْ ، وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) ؛ جاء في كتاب ( البدء والتاريخ ) : " أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تكفأ كما تكفأ السفينة ؛ فبعث الله ملكا ؛ فهبط حتى دخل تحت الأرض ، فوضع الصخرة على عاتقه ، ثم أخرج يديه إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب ، ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها ؛ فاستقرت ، ولم يكن لقدمه قرار ، فأهبط الله ثورا من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، فجعل قرار قدمي الملك على سنامه ، فلم تصل قدماه إليه ، فبعث الله ياقوتة خضرآء من الجنة ، غلظها مسيرة كذا ألف عام ، فوضعها على سنام الثور، فاستقرت عليها قدماه ، وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض مشبكة تحت العرش ، ومنخر الثور فى ثقبين من تلك الصخرة تحت البحر ، فهو يتنفس كل يوم نفسين ، فإذا تنفس مد البحر ، وإذا رد نفسه جزر البحر .(1/16)
قال : ولما لم يكن لقوائم الثور قرار ، فخلق الله كمكما كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، فاستقرت عليه قوائم الثور ، ثم لم يكن للكمكم مستقر ، فخلق الله حوتا يقال له بهموت ، فوضع الكمكم على وتر الحوت ، والوتر الجناح الذى يكون فى وسط ظهره ، وذلك الحوت على الريح العقيم ، وهو مزموم بسلسلة كغلظ السماوات والأرضين معقودة . قال : ثم انتهى ابليس ـ عليه اللعنة ـ إلى ذلك الحوت ، فقال : ما خلق الله خلقا أعظم منك ! فلم لا نزيل الدنيا ؟ فهمَّ بشئ من ذلك ، فسلط الله عليه بقة فى عينه فشغلته . وزعم بعضهم أن الله سلط عليه سمكة كالشطبة ، فهو ينظر اليها ويهابها . قالوا : ثم أنبت الله من تلك الياقوتة جبل قاف ، وهو من زمرد خضرآء ، وله رأس ووجه وأسنان ، وأنبت من جبل قاف الشواهق، كما أنبت الشجر من عروق الشجر . وزعم وهب أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض فاذا امتلأت أجوافهما قامت القيامة (1) .
والقصة بكثير من تفاصيلها تجدها في كثير من كتب التفسير والتاريخ ، وفيها محاولة طريفة لتفسير بدء الكون ، وخلق الأرض وما عليها ، والسر في ثبات الأرض ، وخلق النباتات والجبال ونحوها ، وتفسير بعض المظاهر الطبيعية كالمد والجزر . وحكوا حكايات تعتمد على الخيال الواسع لتفسير كثير من المبهمات التي وردت في القرآن .
__________
(1) المقدسي ( 507 هـ ) : البدء والتاريخ [مكتبة الثقافة الدينية ، بورسعيد ] 2/47-49. وذكر نحوها ابن كثير في : البداية والنهاية 1/ 17وما بعدها ، وانظر : تاريخ الطبري 1/ 40 وفي تفسيره .. وألف السيوطي : مفحمات الأقران في مبهمات القرآن ، وذكر تلخيصاً وافياً له في كتابه الاتقان - 2 / 384 ، وألف ابن جماعة : كتاب (التبيان في مبهمات القرآن).(1/17)
وذكر صاحب الاتقان (1) أن قسماً في التفسير لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه ، وقال: إن عامته مما لا فائدة فيه ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ، وذلك كاختلافهم في لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفي قدر سفينة نوح ، وخشبها ، وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك ..
__________
(1) الإتقان2 / 470 .(1/18)
وحاولوا فيها تقديم ما يعينهم على إرضاء العامة من القصص التي تستثير نفوسهم ، وتحرك عواطفهم . بل إنهم لم يخفوا هذا الغرض من إيراد القصص ؛ إذ يقول المقدسي : " فهذه القصص ما تولع بها العوام ويتنافسون فيه ، ولعمرى إنه لمما يزيد المرء بصيرة فى دينه ، وتعظيما لقدرة ربه ، وتحيرا فى عجائب خلقه ، فإن صحت فما خلقها على الله بعزيز ، وإن لم يكن من اختراع أهل الكتاب وتزوير القصاص فكلها تمثيل وتشبيه والله أعلم ". ويكبر الشك عنده في صحة هذه القصص ، فيقول : " وفى كتب قصاص المسلمين أشيآء يضيق الصدر عنها .." ووقف ابن كثير موقفاً وسطاً بين القبول أو الرفض بدليل من السنة أو عدم الخوض فيه في غياب الدليل ، فقال : " ونحن نورد ما نورده من الذي يسوقه كثير من كبار الأئمة المتقدمين عنهم ثم نتبع ذلك من الأحاديث بما يشهد له بالصحة أو يكذبه ويبقى الباقي مما لا يصدق ولا يكذب ." (1) ويبدو أنه رد بعضاً مما لم يتفق مع عقله ، فسمح لنفسه نقد مروياته كالذي أبداه في حديث أبي هريرة عما حدثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات والأرض ، قال : " هذا الحديث مما سمعه أبو هريرة وتلقاه من كعب الأحبار ، فإنهما كان يصطحبان ويتجالسان للحديث ، فهذا يحدثه عن صحفه ، وهذا يحدثه بما يصدقه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكان هذا الحديث مما تلقاه أبو هريرة عن كعب عن صحفه ، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكد رفعه بقوله : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي . ثم في متنه غرابة شديدة ، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السموات وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام وهذا خلاف القرآن ...
__________
(1) ابن كثير : البداية والنهاية ، 1/18 .(1/19)
" (1) مع العلم بأن الحديث رواه مسلم في صحيحه ، (2) وقد جعله ابن كثير من غرائب صحيح مسلم ، وقال : وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار، وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا (3)
وقد استعان بعض المفسرين في كشف ما ورد في القرآن الكريم من المبهمات بما جاء عنها عند أهل الكتاب ، ذكر ذلك ابن خلدون فقال : إن العرب " : إذا تشوقوا إلى معرفة شيء مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات، وبدء الخليقة، وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى (4) ويقول : إن التساهل في روايتها وعدم تحري الدقة فيها ؛ لأنها مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي يحتاطون لها .
__________
(1) البداية والنهاية 1/ 17
(2) باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام رقم 2789
(3) تفسير ابن كثير 1/215 ، ونبه على ذلك البيهقي في الأسماء والصفات (ص276) وانظر :عبد الرحمن المعلمي : الأنوار الكاشفة ص185-190-ومناقشته في تصحيح هذا الحديث ورد الشبه عنه. وانظر : كنز العمال 6/ 51
(4) مقدمة ابن خلدون 1 / 439-440(1/20)
وكما ذكر ابن خلدون فإن كثيراً من المرويات منبعه كعب الأحبار ووهب بن منبه، على ما أحاط بهما من الشك عند بعض العلماء ، يقول ابن كثير (1) عن كعب الأحبار ، إنه " لما أسلم في زمن عمر كان يتحدث بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأشياء من علوم أهل الكتاب فيستمع له عمر تأليفا له ، وتعجبا مما عنده مما يوافق كثير منه الحق الذي ورد به الشرع المطهر فاستجاز كثير من الناس نقل ما يورده كعب الأحبار لهذا ولما جاء من الأذن في التحديث عن بني إسرائيل لكن كثيرا ما يقع مما يرويه غلط كبير وخطأ كثير "
وقد روى البخاري في صحيحه (2) أن معاوية ذكر كعب الأحبار ، وقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب . (3)
__________
(1) البداية والنهاية 1/ 18 ، وكعب الأحبار هو كعب بن ماتع الحميري ، يكنى أبا إسحاق ، كان يهوديا عالما بكتبهم حتى كان يقال له كعب الأحبار وكان إسلامه في عهد عمر وقيل في خلافة أبي بكر ، وسكن المدينة وغزا الروم في خلافة عمر ثم تحول في خلافة عثمان إلى الشام فسكنها إلى ان مات بحمص في خلافة عثمان سنة اثنتين وثلاثين
(2) صحيح البخاري 6/ 2679
(3) وعن فتح الباري 13/ 334 : " المراد بالمحدثين أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب واسلم فكان يحدث عنهم وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها قال ولعلهم كانوا مثل كعب الا ان كعبا كان أشد منهم بصيرة واعرف بما يتوقاه وقال بن حبان : أراد معاوية أنه يخطئ أحيانا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذابا ."(1/21)
أما وهب بن منبه ( ت 114هـ ) فقد قيل إنه كان يروي أخبار أهل الكتاب وقصصهم من غير تحرٍ ، مع أنهم ذكروا في ترجمته أنه كان من خيار التابعين ثقة صدوقاً، ونبهوا أن من ضعَّفه كان شبهته في ذلك أنه كان يتهم بالقول بالقدر ، وصنف فيه كتابا ، ثم صح أنه رجع عنه .. ومنهم من لم يرض بمروياته الغريبة ، فقد ذكروا أنه كان كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالإسرائيليات .. وجاء في المنتظم: أن خلفا من المؤرخين ملأوا كتبهم بما يرغب عن ذكره تارة من المبتدآت البعيدة الصحة ، المستهجن ذكرها عند ذوي العقول ، كما قد ذكر في مبتدأ وهب بن منبه وغيره من الأخبار التي تجري مجرى الخرافات ، وتارة يذكر حوادث لا معنى لها ولا فائدة .. ولعل ذلك كان سبباً ايضاً في أن البخاري لم يرو له غير حديث واحد عن أخيه همام عن أبي هريرة في كتابة الحديث (1)
وذكر صاحب الاتقان أن ما كان منقولاً من هذه الأحاديث نقلا صحيحا عن النبي قبل ، وما لا ، بأن نقل عن أهل الكتاب ـ ككعب ووهب ـ وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله صلى الله عليه وسلم : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم (2) ؛ فأمرنا أن نتوقف فيما يروونه فلا نصدقهم لاحتمال أنه مما حرفوا في تلك الكتب ، ولا نكذبهم لاحتمال أنه مما حفظوه منها .
__________
(1) انظر : البداية والنهاية – 9/276 والمنتظم – 1/ 116 و معجم الأدباء 5/ 576 .
(2) الحديث أخرجه أبو داود 3/ 318 والبيهقي في الكبرى 2/10 وفيهما ( ما حدثكم ... ) وأخرجه البخاري في صحيحه ـ 6/ 2679 ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، وفيه (لا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ، وَلا تُكَذِّبُوهُمْ ،)(1/22)
ونص الإمام أحمد بن حنبل عدم اعترافه بهذه القصص التي ترد في كتب التفسير ، فقال : " ثلاثة ليس لها أصل : التفسير والملاحم والمغازي (1) ، ولم يقتصر صاحب مناهل العرفان في عدم التسليم بما يرويه كعب الأحبار ووهب ونحوهما من المرويات وما تضمنتها من التفسيرات الغريبة والقصص العجيبة ، بل شمل ما رواه التابعيون ، وذكر اعتبارات مهمة تثير الطعن فيما رووه ، وتوجه النقد إليه :
منها : أن ما يروى عنهم من تفسير القرآن يغلب على الظن أنه من قبيل الرأي لهم ، فليس له قوة المرفوع إلى النبي .
ومنها أنهم لا يلتزمون بالإسناد الصحيح غالباً .
ومنها اشتماله على إسرائيليات وخرافات انسابت إليه تارة من زنادقة الفرس وأخرى من بعض مسلمة أهل الكتاب إما بحسن نية وإما بسوء نية . (2)
وقال الحافظ ابن كثير: إن أكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب قال بعضهم وجل ذلك في قصص الرسل مع أقوامهم وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم وفي تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة إرم ذات العماد وسحر بابل وعوج بن عنق وفي أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها وجل ذلك خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم . (3)
وغاية ما في الأمر أن الإشكال المعرفي في هذا الجانب تم نتيجة أن فهم علم الوحي قائم في بعض جوانبه على مثل ما ذكرنا من الإسرائيليات والتفسيرات الغريبة القائمة على الخيال وغيرها مما لا يتناسب مع العقل أو المنطق أو ما توصلنا إليه من معارف وعلوم .
الإشكال الثالث :
__________
(1) الإتقان 2/471
(2) مناهل العرفان - 2 / 18 – 19 ، وانظر فيه ما ذكره من الجوانب التي يتطرق إليها الضعف في تفسيرالقرآن عند الصحابة والتابعين . منها أن رواياتهم مليئة بالإسرائيليات والكثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها . ومنها :
(3) نقلاً عن المرجع السابق 2/ 12 .(1/23)
ليس من شك أن الذين يتناولون ما في القرآن الكريم من إعجاز علمي يجتهدون في تجلية التكامل المعرفي بين علمي الوحي والكون وذلك بالكشف عما يتضمنه القرآن الكريم من أسرار علمية ، ولم يكن من الممكن إدراكها إلا بعد كشف الحجاب عنها مصداقاً لقوله تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (صّ : 87- 88) ، ونتيجة للجهود الجبارة في كافة حقول المعرفة في العصر الحديث ، وما تم تحقيقه من تطور علمي وتقني ، وما ترتب عليه من انفجار معرفي وبعد توفير الأجهزة التقنية الدقيقة بإمكاناتها الهائلة في البحث والاستقصاء ، ولعل الغاية الكبرى من البحث في مجال الإعجاز العلمي في القرآن والسنة هي : تقديم الدليل المحسوس لكل ذي عقل أن الوحي من عند الله تعالى خالق هذه الحقائق .. وعندئذٍ يصبح ما يجتهد فيه علماء الإعجاز العلمي من قبيل التفسير العلمي للآيات المتضمنة على حقائق علمية ، ويعد بذلك دليلاً بأن ما يتضمنه القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من كلام رجل لم يشهد ما وصله عالمنا المعاصر من تقدم تكنلوجي ؛ وما يتم كشفه من أسرار يلحق إلى قدرته عز شأنه في العلم، ونحسب أنه أمر يتجاوز تحدي الخلق أجمعين ، وينفي أن يكون مجال إعجاز له .
يترتب على ما تقدم بيانه، وبعد أن تمكنا من إثبات التكامل المعرفي بين العلمين ـ ما يأتي:
- أن تقرأ هذه الأسرار وفق الغاية من علم الوحي ، فنثبت بها قلوبنا أننا على الحق ، وأن هذا الوحي من عند ربنا تعالى .
- أن الوحي لا يقصد مطلقاً من ذكر هذه الكونيات ـ كما نبه الزرقاني (1)
__________
(1) مناهل العرفان - 2 / 256 .(1/24)
ـ أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ، ولا أن يحل مسألة حسابية ، أو معادلة جبرية ، أو نظرية هندسية ، ولا أن يزيد في علم الطب بابا ، ولا في علم التشريح فصلا ، ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك ..
- أن يقرأ الوحي وفق نظامه اللغوي والأسلوبي ، وفي إطار دلالاته البيانية ومقاصده ، و ما يتوفر لنا من المعارف والعلوم ، وما نحققه من تجارب وخبرات ..
- علينا حيال المعرفة التي نقف عليها من الوحي أن نؤكد صدقها ، وخلوها من التناقض، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (النساء:82) ،
- أن نؤكد ، في الوقت نفسه ، قصورنا عن الإحاطة بكلام الخالق قصورا دائماً ، (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) (الاسراء:85)
- أن نؤكد ما ينتظر أجيالنا القادمة حتى قيام الساعة من كشوف متلاحقة ، لم نتبينها نحن بعد ، ولم يأذن الله لنا في كشفها بعد ، بالرغم مما وصلته البشرية من العلو في العلم؛ أخذاً كل ذلك من قول ربنا تعالى : ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) (صّ : 87- 88 ) ، وقوله تعالى : ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ) (النمل:93) وقوله تعالى : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (فصلت:53)
- التأكيد بأن المعرفة التي نحققها من علم الكون ليست غاية في حد ذاتها ، ولكنها وسيلة لتأكيد علم الوحي وشهادة له ، فهي وسيلة لإعمار الكون والإصلاح فيه وعبادة الله - سبحانه وتعالى .(1/25)
في ضوء هذه المسلمات في نظرنا نقدر ما يحدثه البحث في الإعجاز العلمي في القرآن والسنة من إشكال إن تجاوز النظر في كتاب الله المجيد والسنة النبوية المطهرة في إطار غايتهما ، وفهم وظيفة الأسرار العلمية في تحقيق هذه الغاية .
لتحرير هذه المسألة لك أن تتساءل كيف فهم العلماء من قبلنا الآيات التي كشفنا في عصرنا هذا اشتمالها على أسرار علمية ! وما الذي حققناه من الهداية والبصر بديننا أكثر مما حققه أسلافنا نتيجة ما زدنا عليهم بصراً بعلوم عصرنا، وما انهالت علينا من المعارف والعلوم !
بل إنك إن وجدت في هذا التساؤل إشكالاً من حيث عدم إمكانية تحقق الإجابة عنه؛ لك أن تسأل إن كنا ازددنا عنهم علماً بمقصود الوحي ! ..
... لاشك أنه سيتبين لك أن ما توصلنا إليه من تفسير علمي اعتمد على ما قدمه لنا علماؤنا الأوائل من أساس معرفي ، حين كشفوا لنا كثيراً من الجوانب اللغوية والأسلوبية في القرآن الكريم ؛ اعتماداً على حذقهم للعربية ، وتذوقهم الفطري لمعاني القرآن ؛ إذ من المعلوم أن القرآن الكريم معنى صيغ بلسان عربي ، وما سمعه القوم منه كان واضحاً في معناه ، وفي مقدور كل من سمعه أن يفهمه جيداً دون توضيح أو استفسار، إذ كانت ألفاظه مما يتعاملون به ، ويستعملونه في مخاطباتهم وأدبهم ، ولو لم يكن متيسراً لهم فهمه ، أو لم يكن بلغتهم ولسانهم لاحتجوا بعدم فهمهم له .(1/26)
كان إعجاز استخدام القرآن الكريم للألفاظ والتعابير من وراء تنبه العلماء في عصرنا لما تضمنته الآيات القرآنية من أسرار علمية ، والكشف عنها . وهذه الألفاظ والتعابير بدلالاتها اللغوية في سياقها من القرآن الكريم مكنت المتلقين لها في كل عصر من فهمها وتذوقها ، حسب إمكاناتهم العلمية والثقافية ؛ مما يدعونا إلى مزيد العناية بلغتنا العربية ، والوقوف على جهود علمائنا ف فهم النصوص وتذوقها . كما أن كشف الأسرار العلمية في القرآن الكريم والسنة ، وما يترتب على ذلك من زيادة فهمنا لآيات الله تعالى يدعونا إلى الاهتمام بالعلوم التطبيقية والعملية في مختلف مناحي العلوم ، ورعاية هذا الجانب بما يستحقه من العناية الفائقة ، حتى لا نمل في انتظار ما يكشفه غيرنا .(1/27)
غير أن بعض العلماء قد صرفهم بصرهم بتخصصاتهم الدقيقة عن النظر لهذه الأسرار في حدود علاقتها بسياق الآية ، أو الهدف من إيرادها على نحو معين ، للبحث عن دقائق هذه الأسرار ، وتعاملوا معها ، وكأنهم بإزاء كتب في التخصصات العلمية الدقيقة ، فلم يتركوا شاردة ولا واردة عن الحقيقة العلمية وربطوها بالآية . من ذلك ما تبينه العلماء من السر العلمي في قوله تعالى : ( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:176) فالفعل ( يلهث ) وهو إدلاع اللسان بالتنفس الشديد ، أمر حسي مشاهد ، ولا يكاد يفارق الكلب في حال الإجهاد والراحة ، وقد شبه به الكافر الذي لا يتأثر بالدعوة إلى الإيمان ترغيباً أو ترهيباً ؛ فالصورة مجسمة، تنبض بالحياة ، وفي تشبيه الكافر بالكلب إشارة واضحة إلى خسة الكافر وحقارته ، قال ابن قتيبة : " كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة وحال المرض وحال الصحة وحال الري وحال العطش. فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته ضل وإن تركته ضل، فهو كالكلب إن تركته لهث وإن طردته لهث ". (1) وذكر صاحب كتاب الصناعتين : أن بلاغة التشبيه في هذه الآية وقعت من إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه من لهث الكلب ؛ والمعنى أن الكلب لا يطيعك في ترك اللهث على حال ، وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق ولا عنف . (2)
__________
(1) نقلاً عن : ، الأمثال في القرآن 1/ 29 وتفسير البغوي 3/ 305 . وانظر فيهما دلالات الصورة البيانية في الآية الكريمة .
(2) الصناعتين الكتابة والشعر 1/ 240 ..(1/28)
وقال أبو السعود في تفسيره : " الأظهر أنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما اعتراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر من حال الكلب " (1)
إنه مشهد لإنسان يؤتيه الله علمه ، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والارتفاع . . ولكنه ينسلخ مما علمه ، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى؛ ويهبط مما رفعه الله اليه بالعلم ، ليهوى إلى الحضيض , ويلتصق بالطين ؛ وينسلخ من نعمة الله . ليصبح تابعاً ذليلاً للشيطان . ثم إذا هو يلهث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا والذي لا يتركه صاحبه سواء وعظته أم لم تعظه ؛ فهو منطلق فيه أبداً ! وعندئذٍ يصبح مسخاً في هيئة الكلب ، يلهث إن طورد ويلهث إن لم يطارد . . كل هذه المشاهد المتحركة تتتابع وتتوالى ، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثر . .
__________
(1) تفسير أبي السعود 3/ 293. وانظر في ظلال القرآن 3 / 321 .(1/29)
وواضح ما في هذا التشبيه من تنفير للصورة وتقبيحها . أما البحث في سبب ( اللهث ) وذكر تفاصيله العلمية ، من حيث طبيعة اللهث من الناحية الفسيولوجية ، وسبب إخراج الكلب للسانه عندئذٍ ، وسبب ظاهرة الحمرة في لسانه ، ونحوها مما لا يضيف للصورة المقصود إبرازها شيئاً (1) كذلك كان أسلوبهم في عرض ما في بيت العنكبوت من الإعجاز، وهو الذي ورد ذكره في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:41) فقد ذكر العلماء تفاصيل علمية دقيقة ومثيرة فعلاً للمتلقي ، فتحدثوا عن العنكبوت وذكروا أن خيطه « من حيث مادته وتركيبته المجهرية » أقوى من خيوط الفولاذ والنحاس ، فالخيوط الحريرية التي يفرزها العنكبوت لو جمعت في سماكة الأصبع لاستطاعت حمل طائرة ضخمة بكامل ركابها. فرغم أن خيط العنكبوت يبدو ضعيفا وواهيا إلا أنه مقارنة بسماكته التي تقل ب400 مرة عن شعرة الإنسان على درجة عالية من القوة والمرونة. وذكروا أن دور الذكر يقتصر على التلقيح ، إذ تفترسه الأنثى بعد انتهاء عملية التزاوج، وتتغذى على لحمه طيلة فترة الحضانة للبيض، وبعد أن يفقس البيض تتغذى اليرقات على أضعفها، ثم بعد أن يقوى ويشتد عود ما تبقى من الصغار تقوم بأكل أمها لأنها أصبحت أضعف الموجود . وبنوا على ذلك أن المقصود -في الآية الكريمة- هو وهن البيت من الناحية الاجتماعية والأخلاقية لا المادية والميكانيكية.
__________
(1) انظر ما كتبه أ.د كارم السيد في موقع موسوعة الإعجاز العلمي http://www.55a.net/firas ، وما ذكره العلامة التجاني حسن الأمين في منبر الإعجاز العلمي بجامعة القرآن الكريم تحت عنوان : وفي الآفاق آيات .(1/30)
وذكروا أن أنثى العنكبوت هي التي تقوم بنسج الخيط، عن طريق آلية هندسية تعتبر معجزة إلهية في حد ذاتها، فخيط العنكبوت الضئيل الذي يظهر أمام العين المجردة مصنوع بالطريقة نفسها التي يصنع بها الكوابل شديدة الصلابة؛ حيث يتكون الخيط المفرد من عدة خيوط متناهية في الصغر ملتفة حول بعضها، وقد يبلغ سمك الخيط الواحد منها 1 من مليون من البوصة، تنتجه غدد أنثى العنكبوت من خلال ثلاثة مغازل خاصة موجودة أسفل البطن، ويوجد قرب كل مغزل فتحات لغدة صغيرة تخرج منها المادة التي تكون الخيوط الحريرية، وهي مادة معظمها من البروتين و قد يصل عدد هذه الغدد إلى 600 غدة ، وغيرها من المعلومات المثيرة حقاً للمتلقي، (1) لا أنها لا تزيد بصرنا بفهم الصورة القرآنية والمراد بها ؛ فالصورة تدل على أمر بسيط للغاية ؛ هو بيان أن اتخاذ الكفار أولياء من دون الله ، لا يغني الإنسان شيئاً، فلا يستطيعون نصره أو حمايته في الملمات والشدائد كما لا يغني بيت العنكبوت أحداٌ إذا استجار به لأنه واهن ، بل إنه لا يحمي العنكبوت ولا ينفعها بوجه من الوجوه لا يقيها حراً ولا قراً ولا مطراً ولا يدفع عنها عدواً ، وما منا من لا يعرف حقيقة المشبه به ، وهو بيت العنكبوت ، وأنه في غاية الضعف ، فما قيمة التفاصيل العلمية في توضيح صورة ملموسة مشاهدة لكل ذي عينين ؟!
__________
(1) نقلاً بتصرف عن مقال د. محمد القويز في صحيفة الرياض الخميس 10 يوليو2008م - العدد 14626كما ورد في www.alriyadh.com وعنه في موقع : //www.islamway.com(1/31)
صحيح أن العلماء قدموا جملة طيبة من التفاسير الهامة لبعض الجوانب التي كانت تحير المتلقي للقرآن الكريم وتدبر آياته، وينقذه من تفاسير غير مقنعة .. الأمر الذي يدعونا بأن نؤكد أن الإشكال ليس فيما قدموه من تفسير علمي، بل في الجنوح في تتبع التفاصيل العلمية الدقيقة التي تبعدنا عن استيعاب الحكمة فيما احتوتها الآيات من أسرار ، وتحول من غايتها الإيمانية إلى غاية علمية بحتة .
الخاتمة :
أحسب أن هذه الورقة اجتهدت في تناول ثلاثة من إشكالات التكامل المعرفي بشيء من الإيجاز ، وأخلى الباحث نفسه لبلوغ غايته من التنبيه على طبيعة الإشكال أن يمثل لكل جانب من جوانبه المختلفة، فاكتفي في الإشكال الأول بقضية تأبير النخل وقضية غمس جناح الذباب، واقتصر على القصة التي روتها كتب التفسير عن بدء خلق الكون في افشكال الثاني، بينما أشار في الإشكال الثالث إلى بعض التفاصيل العلمية التي ذكرت عن بيت العنكبوت ولهث الكلب ، وابتعد بها علماء الإعجاز العلمي عن دلالة إيرادهما في سياقهما من النص القرآني .
ولنا أن نتساءل عن الدور الذي ينبغي للعلماء أن يقوموا به لحل هذه الإشكالات وأمثالها مما يثيره أعداء الإسلام لزرع بوادر الشك في نفوس الناشئة خاصة ، وزعزعة إيمانهم في أتون العولمة وعصر الفضاءات المكشوفة ، وغياب الحصانة الفكرية ، والإبهار التقني والعلمي الذي يقدمونه لهم .
وما يشعر به الباحث من جسامة الدور على علماء الأمة حيالنا ، وتلافي ما يمكن أن يصيب أبناءنا من الاهتزاز الفكري يدعوه لعرض هذه التوصيات ، وأمله أن يجد حظه من الدراسة والنظر :
o أن تتبنى جامعة القرآن الكريم بالتعاون مع الجامعات الإسلامية ومراكزها العلمية التوصيات التالية :
- إعادة النظر في مناهجنا الدراسية تأصيلاً ومواكبة .
- توظيف الوسائط المتعددة لعرض الفكر الإسلامي وقضاياه .
- تسخير الإعلام لخدمة الدين والتقديم الأمثل لمسائله ، وتبني الدفاع عنه(1/32)
- حصر أهم مشكلات الشباب الفكرية ودراستها ومعالجتها .
- تسيير قوافل دعوية لأماكن التجمعات المختلفة مدعومة بوسائط متعددة للعرض والدعوة .
- تكليف لجان من العلماء لمواجهة قضايا الشباب الفكرية في الجامعات والمعاهد والأندية ونحوها معتمدين على الحوار الهادئ الهادف .
- ربط علماء الأمة بالمستجدات العصرية والتيارات الفكرية وتدريبهم للاستفادة من وسائل العرض الحديثة .(1/33)