أسرار المرضى
هاني بن عبدالله بن محمد الجبير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فالفقه الإسلامي بأدلته العامة وقواعده وضوابطه يتسع ليشمل حياة المكلفين بجميع جوانبها ومهما حدث من مسائل ونوازل ومستجدات فسيجد الباحث المتأمل فيه توصفياً شرعياً لها يمن الله به على من شاء من عباده.
وفي هذه الأوراق نظرات عاجلة لجملة فروع يشملها كلها أنها إجراءات وأحكام في قضية من القضايا الطبيّة المعاصرة هي سريّة المعلومات المتعلقة بالمرضى، ولقد كانت دعوة كريمة من مستشفى الملك خالد للحرس الوطني بجدة بإقامة المؤتمر العالمي عن أخلاقيات مهنة الطب من منظور إسلامي، وكان من توفيق الله تعالى أن كلفت بإعداد ورقة علمية لهذا المؤتمر في هذا الموضوع، أسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه صواباً إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كتبه: هاني بن عبدالله بن محمد الجبير
قاضي بالمحكمة العامة بمكة المكرمة، وعملت سابقاً في القضاء في مدن أخرى.
شاركت في عدد من الندوات العلمية خارج المملكة وداخلها.
صدرت لي مجموعة من الكتب والأبحاث.
لي مسيرة أكاديمية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
h-j-30@naseej.com
ص.ب 14028
مكة المكرمة-العوالي
فاكس 5283305/02
أولاً: معنى السر ومفهومه:
السر في اللغة اسم لما يُسر به الإنسان أي: يكتمه، وأصل الكلمة يدل على إخفاء الشيء وعدم إظهاره. (1)
فالإسرار خلاف الإعلان(2)، قال تعالى:{يعلم ما يسرون وما يعلنون}(سورة البقرة:77).
والسرّ ينقسم إلى أنواع: (3)
__________
(1) …معجم مقاييس اللغة (3/67)، لسان العرب مادة [سرد].
(2) …المفردات للراغب، ص 228.
(3) …أنظر: الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 297، غذاء الألباب اللسفاريني (1/116)، إحياء علوم الدين (3/132)، الموسوعة الفقهية (5/292).(1/1)
ما يبلغ الإنسان من الأمور التي يطلب صاحبها كتمانها عليه سواء طلب ذلك صراحة، أو بدلالة الحال بأن يتعمد الحديث عنها حال الإنفراد مثلاً.
مايريد الإنسان عمله مما تدعو المصلحة إلى كتمانه.
ما أمر الشرع بكتمانه وعدم إذاعته.
ما كن الأصل إخفاءه واطلع عليه شخص بسبب مهنته.
وموضع ما يعنينا في هذا المقام هو الرابع منها أصالة، وبقية الأنواع معنيّة تبعاً.
ثانياً: الأصل في حكم إفشاء السر:
إنّ ما أمر الشرع بكتمانه فحكمه ظاهر باعتبار فهم دلالة الخطاب الشرعي، ومن ذلك: ما يجري بين الرجل وامرأته حال المعاشرة من أمور الاستمتاع.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنّ من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرها). (1)
قال النووي -676هـ-: في هذا الحديث تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمر الاستمتاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل.
أما مجرد ذكر الجماع فهو مكروه؛ لأنه خلاف المروءة، إلا إن كان لحاجة كأن تذكر عجزه عن الجماع، أو إعراضه ، أو لبيان حكم شرعي فهنا يباح. (2)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رجلاً سأل رسول الله صلى لله عليه وسلم عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل هل عليهما الغسل؟ وعائشة جالسة ، فقال رسول الله عليه وسلم: (إني لأفعل ذلك أنا وهذه ، ثم نغتسل). (3)
__________
(1) …صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، برقم 1437.
(2) …شرح مسلم ، ص 899 باختصار، وانظر: المغني لابن قدامة (10/232).
(3) …صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء، برقم 350، والاكسال: الجماع بدون إنزال. قال النووي: وإنما قال صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة ليكون أوقع في نفسه. شرح صحيح مسلم، ص 320.(1/2)
أما كتمان الإنسان عملاً يريد القيام به فهذا من الحزم مع النفس، لكن لا يرتبط به حكم تكليفي، فللإنسان أن يتحدث عن مشاريع مستقبلية يعتزم القيام بها، وليس عليه في ذلك حرج.
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان). (1)
أما ما يطلب الإنسان كتمانه مما يبلّغ به غيره، فإنه إذا كان إفشاء السر يتضمن ضرراً فإفشاء السر حرام، باتفاق الفقهاء (2)، والضرر عام في كل ما يؤذي الإنسان.
وأما إذا لم يتضمن ضرراً فالمختار عدم جواز إفشائه متى ما طلب منه الكتمان، أو دّل الحال على ذلك، أوكان مما يُكتم في العادة. (3)
وكل هذا حال الحياة أما بعد موت صاحب السر فذهب بعض أهل العلم إلى جواز إفشائه إذا لم يتضمن غضاضة على الميت. (4)
والظاهر أن إفشاء السر لا يجوز سواء حال الموت أو الحياة، وسواء تضمن ضرراً أو لا. لأن هذا من قبيل حفظ العهد وهو كالوديعة التي يجب حفظها.
قال تعالى: {يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} (سورة الانفال: 27).
عن أنس رضي الله عنه قال: مرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الصبيان فسلّم علينا ثم دعاني فبعثني إلى حاجة له، فجئت وقد أبطأت عن أمي، فقالت:
__________
(1) …المعجم الكبير للطبراني (20/94)، المعجم الصغير له (2/149). قال في كشف الخفاء (1/123): رواه الطبراني وابو نعيم بسند ضعيف وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (943).
(2) …نقل الاتفاق ابن بطال، أنظر: فتح الباري (11/85)، الإنصاف للهوداوي (21/420)، غذاء الألباب (1/115)، إحياء علوم الدين (3/132).
(3) …وهو مذهب الإمام أحمد وغيره انظر: الإنصاف (21/420)، الآداب الشرعية لابن مفلح (2/257).
(4) …أنظر: فتح الباري (11/85).(1/3)
ما حسبك؟ أين كنت؟ فقلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حاجة، فقالت: أي نبي وما هي؟ فقلت: إنها سر، قالت: لا تحدث بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. (1)
وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم السر أمانة، عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا حدّث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة). (2)
وأما من قال بأن حفظ السر لا يجب إلا إذا تضمن ضرراً فإن دليله على ذلك حديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما قالت:انطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت امرأة من الأنصار على الباب فمرّ علينا بلال فقلنا سل النبي صلى الله عليه وسلم أيجزئ عني أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري، وقلنا : لا تخبر بنا، فدخل فسأله فقال: من هما؟ قال: زينب، قال أي الزيانب؟ قال: امرأة عبدالله، قال: نعم ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة. (3)
فالظاهر عندهم أن بلالاً كشف السر بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن اسم السائلة، قال القرطبي -656هـ- : ليس إخبار بلال باسم المرأتين بعد أن استكتماه بإذاعة سر ولا كشف أمانة لوجهين:
الأول: …أنهمالم تلزماه بذلك وإنما علم أنهما رأتا أن لا ضرورة تحوج إلى كتمانها.
__________
(1) …صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب حفظ السر، برقم 6289، صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أنس بن مالك برقم 2482.
(2) …سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في نقل الحديث برقم 4868، سنن الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء أن المجالس بالأمانة، برقم 1959، وقال حديث حسن مسند الإمام أحمد (3/324)، السنن الكبرى للبيهقي (10/247)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (486).
(3) …صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، برقم 1466، صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، برقم 1000 .(1/4)
الثاني: …أنه أخبر بذلك جواباً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لكون إجابته أوجب من التمسّك بما أمرتاه به من الكتمان(1).
أما ما اطلع عليه صاحبه بمقتضى مهنته فهذا كالمفتى والطبيب الذي يكشف له المستفتى أو المريض بعضاً من أسراره، أو يطلّع عليها أثناء علاجه، وهو محور اهتمام هذا البحث.
ولبيان حكم هذا لا بد من الإتيان بمقدمات تمهد لهذا الحكم كما يلي:
تحريم الغيبة:
والغيبة محرمة بقول الله تعالى:{ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه} (سورة الحجرات:12)
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ضابطها في قوله: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره. قال : أفرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه. (2)
فذكر الإنسان لغيره بشيء يكرهه – ولو كان فيه – هو الغيبة.
وهذه تفيدنا قاعدة أنّ الكلام بما يكرهه المتحدث عنه حرام، وهذا يشمل عيوب الإنسان البدنية، أوالخلقية. (3)
تحريم نشر السر:
وهو ما يطلب المخبر به كتمانه، أو ما تدل القرينة على سريته مثل أن يخبر به حال الانفراد أو خفض الصوت، أو ما كان من شأنه الكتمان كالمعايب عموماً ، أو ما كان فيه مضرة به.
تحريم النميمة:
__________
(1) …المفهم في شرح اختصار صحيح مسلم (3/46).
(2) …صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الغيبة، برقم 2589.
(3) …غذاء الألباب (1/103)، قال الغزالي: اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكره بنقص في دينه أو نسبه أو خلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته. أنظر: احياء علوم الدين (3/129).(1/5)
وهي: نقل الكلام على وجه التحريش، أو الإفساد بين الناس(1)، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل الجنّة قتّات). (2) والقتّات هو النمام.
فبناء على ما تقدم نخلص إلى أمرين:
السر : هو الذي يفضي به إنسان إلى غيره، أو يطلع عليه بحكم معاشرته أو مهنته ويستكتم عليه أو دلّت القرائن على طلب الكتمان، أو كان من شأنه في العادة أن يُكتم، أو تضمن ضرراً، أو عيباً يكره اطلاع الناس عليه، أو تضمن إفشاؤه الإفساد بينه وبين غيره.
إفشاء السر محرم في الأصل، ويزداد التحريم إن تضمن إفساداً أو ذكراً لعيب فيه.
وينبه هنا إلى أمور:
أ – أن الطبيب ومن في حكمه يتأكد في حقه كتمان السر، ومن حق المريض عليه أن لايبوح بأي معلومات عنه وذلك أن ثقة المريض في طبيبه هي أساس التعامل بينهما، والمريض إنما أفشى بأسراره وما يعانيه للطبيب لأجل الوصول إلى التشخيص الصحيح. (3)
وحفظ أسرار المريض من حفظ الأمانة وقد قال تعالى:{والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون} (سورة المؤمنون: 8).
قال ابن الحاجّ -737هـ- : ينبغي أن يكون – يعني الطبيب – أميناً على أسرار المريض، فلا يطلع أحداً على ما ذكره المريض؛ إذ إنه لم يأذن له في إطلاع غيره على ذلك. (4)
__________
(1) …غذاء الالباب (1/110)، وقيل: النميمة ليست مختصة بذلك بل تتناول كشف ما يكره كشفه فحقيقة النميمة على هذا: إفشاء السر قال ذلك الغزالي إحياء علوم الدين (3/139)، وهذا ينضاف لما سبق من خطورة إفشاء السر.
(2) …صحيح البخاري،كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة، رقم 6056، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة، رقم 105، وأخرجه مسلم في الموضع السابق أيضاً بلفظ: لا يدخل الجنة نمام.
(3) …أنظر: رؤية إسلامية لبعض القضايا الطبية، د. عبدالله حسين باسلامه ، ص 95.
(4) …المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات (4/143).(1/6)
وقال ابن مفلح -763هـ- : كما يحرم تحدّثه – يعني غاسل الميت – وتحدّث طبيب وغيرهما بعيب(1). ولذا رتب الشرع على هذا الكتمان الأجر الجزيل.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة، ولم يُفش عليه ما يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). (2)
ب – أن المجهول الذي لا يذكر اسمه ولا وصف له يميزه عن غيره لا يكون الكلام عنه غيبة، فمن أخبر أنه رأى شخصاً ولم يعينه، فإنه لا يكون مفشياً لسر. لأن المجهول ليس له غيبة لعدم حصول الضرر عليه بالإخبار عنه. (3)
ج – إذا اذن المريض بإفشاء شيء يخصّه فإنه يجوز إفشاؤه لأن الحق له وقد تنازل عنه، إلا إذا كان إفشاؤه يتضمن التعرض لحق الله تعالى أو لحق إنسان آخر.
أما حق الله تعالى فكما لو تضمن رميه ببعض الفواحش أو الدعوة إلى الفساد والرذائل. وأما حق الإنسان فكما لو تعلق الأمر بشخص ثالث فإن له حقاً في كتمان السر أيضاً. (4)
ثالثاً: استثناءات تبيح كشف السر (متى يباح إفشاء السر):
تقدم معنا أن العلماء وجّهوا إخبار بلال باسم امرأة عبدالله بن مسعود رضي الله عنهم بأن ذلك كان جواباً لسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الذي إجابته أوجب من الكتمان.
وهذا يمهد لبيان أن واجب الستر فيما تقدم قد يترك لما هو أوجب منه، وذلك (لأن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجّح خير الخيرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما). (5)
__________
(1) …الفروع (2/217).
(2) …مسند الإمام أحمد (6/119)، المستدرك للحاكم (1/354)، وقال صحيح على شرط مسلم، وله شواهد ، أنظر: مجمع الزوائد (3/21).
(3) …أنظر: الأذكار للنووي، ص 486.
(4) …انظر: الإذن في إجراء العمليات الطبية، أحكامه واثره ص 89، لكاتب هذا البحث.
(5) …تضمين من مجموع فتاوى ابن تيمية (20/48).(1/7)
فالله تعالى نهى عن سب آلهة المشركين ، وإن كان ذلك حقاً واجباً، لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسبّ إله المؤمنين .
قال تعالى:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم} (سورة الأنعام: 108).
قال ابن القيم -751هـ- : النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وابغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله(1)
وقد جاء الشرع بالعناية بالمصالح العامة وتقديمها على المصالح الخاصة، كما اهتم برفع المفاسد العامة وإن تضمن ذلك مفسدة خاصة.
فالعناية بالأغلب والأعم هو المقدم.
كما أن حق الإنسان في حفظ سره يجب أن لا يتضمن ضرراً على فرد آخر، فإن حفظ حق أحدهما ليس أولى من حفظ حق الآخر.
وكل هذا فرع عن تطبيق قاعدة المصالح والمفاسد.
والتطبيق العملي لهذه القاعدة في مسألة سر المريض أن تنصب العناية بمقاصد الشريعة من حفظ المال والنفس والعقل والنسل والدين ولو انخرمت مصلحة المريض بإفشاء سره.
فيفشى سره إذا تضمن درء مفسدة عامة، أو جلب مصلحة عامة.
ويقع الترجيح بحسب الاجتهاد المصلحي في مسألة درء المفسدة عن الفرد.
قال العز بن عبدالسلام -660هـ- : الستر على الناس شيمة الأولياء، ويجوز إفشاء السر إذا تضمن مصلحة أو دفع ضرر، وقد كشف يوسف عليه السلام سر المرأة التي راودته فقال: {هي راودتني عن نفسي} (سورة يوسف: 26) ليدفع عن نفسه ما قد يتعرض له من قتل أو عقوبة. (2)
ولدينا شاهد مختص بموضوعنا ينطق بما نريده.
__________
(1) …إعلام الموقعين (3/4).
(2) …شجرة المعارف والأحوال، ص 389، بتصرف واختصار.(1/8)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس:سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق). (1)
فالمعنى أن ما يدور في المجالس أمانة يجب حفظها وعدم إفشائها إلا إن أدت إلى سفك دم أو استحلال فرج أو مال بغير حق فتنتفي الأمانة هنا ولا يجب حفظ السر.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه شاهد لإفشاء ما أمر بكتمانه لأجل المصلحة فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً فقال: أفلا أبشر الناس، قال: لا تبشرهم فيتكلوا. (2) وأخبر بذلك في آخر حياته خوفاً من كتم العلم ووصولاً لمصلحة نشره.
ولعل من أوضح أمثلة هذا الباب ما طبقه علماء الحديث من الكشف عن أحوال الرواة من أحوال تبين فسق الراوي أو قلة دينه أو ضعف حفظه، وهذا لدفع مفسدة نسبة حديث للنبي صلى الله عليه وسلم لم يقله.
فبناء على ما تقدم فإنه يباح إفشاء السر فيما يلي:
إذا أذن صاحب السر – وكان الحق يختص به – وقد تقدم بيانه.
إذا كان عدم الإفشاء يتضمن ضرراً يلحق المجتمع، أو يضر بفرد منه ضرراً أكبر من ضرر صاحب السر.
وطريق تقدير المفسدة والضرر هو الظن والاجتهاد، لأنه لا يمكن تحديد مقدارها بدقة.
قال العز بن عبدالسلام: أكثر المصالح والمفاسد لا وقوف على مقاديرها وتحديدها، وإنما تعرف تقريباً لعزة الوقوف على تحديدها. (3)
وبناء على ما تقدم تتضح لنا الأمثلة الآتية:
__________
(1) …سنن أبي داود ، كتاب الأدب، باب في نقل الحديث، برقم 4869، مسند الإمام أحمد (2/342)، السنن الكبرى للبيهقي (10/247). وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (6678).
(2) …صحيح البخاري ، كتاب اللباس، باب ارداف الرجل خلف الرجل، برقم (5968)، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة برقم 30.
(3) …القواعد الصغرى، ص 100.(1/9)
أ – …إذا كان أحد الزوجين مصاباً بمرض جنسي معد(ينتقل بالمباشرة) فإنه يجب إبلاغ الطرف الآخر.
ب – …إذا كان المريض غير لائق بعمل معين كالمصاب بالاضطرابات العصبية أوضعف الرؤية الشديد فلا بد من إبلاغ جهة عمله – فيما لو كان سائقاً مثلاً.
ج – …إذا علم بوشوك حدوث جريمة فتبلغ الجهة المختصة.
د – …إذا علم بوجود مرض معد سارٍ.
هـ …عند الكشف الطبي قبل الزواج، إذا تبين عدم توافق أحد الزوجين مع الآخر فلا بد من إبلاغه.
و – …إذا اعتقد أن وفاة قد حصلت نتيجة جريمة.
ز - …إذا دعى للشهادة في المحكمة لقوله تعالى:{ ومن يكتمها فإنه آثم قلبه} (سورة البقرة: 283).
ح - …إذا علم بإصابة الزوج بمرض غير معد، ولا تعلم به الزوجة مثلاً فإنه لايجوز له إخبارها لعدم الموجب.
ط - …إذا حملت زوجة شخص تبين بالفحص أنه عقيم فلا يلزمه سوى اخبار الزوج بالعقم وأنه في الحالات المعتادة لا يتأتى الإنجاب لمثله.
وهذا وإن تضمن نوع ضرر بالزوجة، لكن لابد من إطلاع الزوج على حالته الصحية، دون أن يتضمن اتهاماً بالزنا، أو تشكيكاً في نسب الولد.
وهنا لابد من التنبّه إلى استعمال أحسن الألفاظ في التعبير ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة إذ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، فيتلفظ أو يكتب الطبيب العبارة المؤدية للغرض.
فكلمة غير لائق تكفي في الإخبار عن حالة المتقدم لعمل مثلاً دون ذكر تفاصيل المرض، وكذلك أن المريض مصاب بمرض ينتقل بالاتصال الجنسي يكفي عن تسمية المرض، وعدم التوافق بين الزوجين كذلك يؤدي الغرض دون الحاجة لذكر اسم الداء.
وقد بدأت المستشفيات بذكر التصنيف العالمي لأي مرض عوضاً عن ذكر اسمه وهذا واحد من أمثلة ما أقصده.(1/10)
ولما تناول العلماء جواز بيان حال الرواة ومن أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وجواز الرد عليهم استثنوا من ذلك إذا كان يفحش في الكلام ويسيء الأدب في العبادة فينكر عليه إفحاشه وإساءته دون أصل رده. (1)
وضابط ما سبق أن الضرورة تقدر بقدرها. وكذلك تقدر بقدرها في الذي يخبر بسر المريض فلا يخبر إلا من لا يتم المطلوب بإخباره فقط.
رابعاً: الفئات المنوط بها حفظ السرية:
إن من مزايا الشريعة الإسلامية أنها دين يطالب الإنسان فيه مع التزام الاحكام امتثال الأوامر فليست قانوناً أو تشريعاً يجرّم حدوداً معينة ويدع ما سواها بل هو منهج حياة متكامل، لم يدع جانباً من جوانب الحياة الإنسانية إلا كان له فيه موقف ففي الوقت الذي تحتاج القوانين الى تحديد ماهيّة السر الطبي والمنوط به نجد الشرع يأمر بحفظ السر وينهى عن إفشائه سواء كان من اطلع عليه طبيب ، أو صيدلي، أو موظفاً بالسجلات الطبية أو من أفراد الهيئة التمريضية أو الأغذية أو المختبرات والأشعة أو كان فرداً من غيرهم ويرتب المسئولية على إفشاء السر على أي واحد منهم.
إذ حفظ السر من الأمانة الواجب حفظها. والإخلال بها من علامات النفاق.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اوتمن خان). (2) وقد تقدم هذا.
ومع ذلك فإن العاملين في المجال الصحي يتوجب نحوهم من المؤاخذة أكثر من غيرهم، إذ أصل عملهم هو تخفيف معاناة المريض، والسعي لراحته، وأي عمل يخالف هذا المقصد يضاعف المؤاخذة، إذ من قواعد الشرع أن من عظمت النعمة عليه زادت المؤاخذة كذلك عليه.
خامساً: مشاكل تحتاج حلولاً:
__________
(1) …غذاء الالباب (1/108).
(2) …صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب علامات المنافق، برقم 33، صحيح مسلم، كتاب الإيمان ، باب بيان خصال المنافق، رقم 59.(1/11)
ومن هذه المشاكل مشكلة الحمل السفاحي – غير الشرعي – ومشكلة استغلال الأطفال جنسياً فهل إفشاء هذه يعتبر من إفشاء السر؟
ولبيان الحكم فإني أقدم بمقدمات..
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ستر مسلماً سرته الله يوم القيامة). (1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول، ولكن كان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا. (2)
وهذا سواء فيه الحدود وغيرها، فللمسلم أن يشهد عليها إن رآها، ولكن سترها أولى به وافضل إن كانت حقاً لله فقط كشرب الخمر مثلاً، أو الزنا الحاصل بالتراضي مع امرأة غير متزوجة.
أما لو كان في الحد حق لآدمي مالي أو غيره كمن شاهد من يأخذ مال غيره فعليه إعلامه والشهادة معه إن طلب.
المعروف بالفجور والمعتاد عليه الأولى الإبلاغ عنه.
قال القرطبي: من اشتهر بالمعاصي ولم يبال بفعلها ولم ينته عما نهى عنه فواجب رفعه للإمام وتنكيله، وإشهاده للأنام ليرتدع بذلك أمثاله. (3)
تحريم القذف بغير بيّنة:
فلا يجوز للإنسان أن ينسب غيره إلى الزنا ونحوه إلا وقد شهد عليه أربعة، وإلا فإنه قاذف له مستحق للعقاب.
قال تعالى:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم} (سورة النور: 4) ولكن له أن يخبر بما رآه أو دلت عليه قرائن الكشف أو الحال دون ذكر فعل الفاحشة فمثلاً تمزق البكارة والإصابات الشرجية وإصابات عضلات الآلية ونحوها أو الخلوة الممنوعة يمكن تناولها ولا تعد قذفاً لاحتمال حصولها بغير ممارسة جنسية في ضوء السرية التي تناولناهما سابقاً.
__________
(1) …صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم، برقم 2442، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم، رقم 2580.
(2) …سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في حسن العشرة رقم 4788، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم 2064.
(3) …المفهم (6/558).(1/12)
وبناء على ما سبق إذا وقف الطبيب على حصول حمل غير شرعي فإن توصيفه للحالة بأنها حمل لا كشف فيه للسرية لأنها من جنس الإخبار بالمرض ونحوه ولكن يختص هذا بالحامل دون غيرها.
وإذا كانت متزوجة وأخبرته بأن حملها من سفاح أو توصل إلى ذلك فإنه لا يجوز له الإبلاغ عن ذلك لكونه قذفاً إلا إذا طلب منه ذلك لكشف دعوى قضائية.
وإذا اطلع على أن طفلاً قد استغل فإن عليه إبلاغ وليه بحالته الإصابية لأن سر المريض غير كامل الأهلية يتولاه وليه.
وفي جميع ما تقدم يجب على الطبيب كغيره مناصحة من علم منه المنكر وتوجيهه وتذكيره بالله فهذا واجب شرعي سواء ابلغ بعد ذلك أو لا.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم
هذا وأسأل الله تعالى أن يمن علينا بالفقه في الدين وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.
ملحق قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن السر في المهن الطبية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري بيجوان، بروناي دار السلام من 1-7 محرم 1414هـ الموافق 21-27 (يونيو) 1993م.
بعد إطلاعه على البحوث الواردة في المجمع بخصوص موضوع السر في المهن الطبية، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله، قرر ما يلي:
أولاً: السر هو ما يفضي به الإنسان إلى آخر مستكتماً إياه من قبل أو من بعد، ويشمل ما حفت به قرائن دالة على طلب الكتمان إذا كان العرف يقضي بكتمانه، كما يشمل خصوصيات الإنسان وعيوبه التي يكره أن يطلع عليها الناس.
ثانياً: السر أمانة لدى من استودع حفظه، التزاماً بما جاءت به الشريعة الإسلامية وهو ما تقضي به المروءة وآداب التعامل.(1/13)
ثالثاً: الأصل حظر إفشاء السر وإفشاءه بدون مقتضٍ معتبر موجب للمؤاخذة شرعاً.
رابعاً: يتأكد واجب حفظ السر على من يعمل في المهن التي يعود الإفشاء فيها على أصل المهنة بالخلل، كالمهن الطبية، إذ يركن إلى هؤلاء ذوو الحاجة إلى محض النصح وتقديم العون فيفضون إليهم بكل ما يساعد على حسن أداء هذه المهام الحيوية، ومنها أسرار لا يكشفها المرء لغيرهم حتى الأقربين إليه.
خامساً: تستثنى من وجوب كتمان السر حالات يؤدي فيها كتمانه إلى ضرر يفوق ضرر إفشائه بالنسبة لصاحبه، أو يكون في إفشائه مصلحة ترجح على مضرة كتمانه، وهذه الحالات على ضربين:
أ – حالات يجب فيها إفشاء السر بناء على قاعدة ارتكاب أهون الضررين لتفويت أشدهما، وقاعدة تحقيق المصلحة العامة التي تقضي بتحمل الضرر الخاص لدرء الضرر العام إذا تعين ذلك لدرئه.
وهذه الحالات نوعان:
ما فيه درء مفسدة عن المجتمع.
وما فيه درء مفسدة عن الفرد.
ب – حالات يجوز فيها إفشاء السر لما فيه :
جلب مصلحة للمجتمع.
أو درء مفسدة عامة.
وهذه الحالات يجب الالتزام فيها بمقاصد الشريعة وأولوياتها من حيث حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
سادساً: الاستنثاءات بشأن مواطن وجوب الإفشاء أو جوازه ينبغي أن ينص عليها في نظام مزاولة المهن الطبية وغيره من الأنظمة، موضحة ومنصوصاً عليها على سبيل الحصر، مع تفصيل كيفية الإفشاء، ولمن يكون، وتقوم الجهات المسؤولة بتوعية الكافة بهذه المواطن.
ويوصي بما يلي:
دعوة نقابات المهن الطبية ووزارة الصحة وكليات العلوم الصحية بإدراج هذا الموضوع ضمن برامج الكليات والاهتمام به وتوعية العاملين في هذا المجال بهذا الموضوع، ووضع المقررات المتعلقة به، مع الاستفادة من الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع.
والله الموفق(1/14)