الرؤى والأحلام
بقلم
الشيخ نادر زين الدين
المدخل إلى علم تأويل الرؤيا
أو
علم تفسير المنام
المعبّر
نادر زين الدين
عنوان الكتاب : المدخل إلى علم تأويل الرؤيا أو علم تفسير المنام.
تأليف : المعبر نادر زين الدين .
الطبعة : الأولى /1420ه/2000م/ .
موافقة الإعلام : رقم /47102/ تاريخ :30 /12 /1999م.
يمكن الحصول على نسخة مطبوعة من الكتاب بالأتصال المباشر مع المؤلف على الهاتف التالي : 00963115751111
كلمة شكر وتقدير
لا يسعني إلا أن أشكر مكتبة الأسد والقائمين عليها من إداريين ومشرفين على ما قدموه لي من خدمات في توفير المراجع وتصوير صفحاتها . مما ساهم في إخراج هذا الكتاب إلى النور .
كما أنني أشكر الأخ السيد عبده التشة على خدماته في مراجعة الأحاديث النبوية التي استندت إليها وتخريجها حسب الأصول .
كما أنني أشكر الأخ السيد أنس بن مصطفى الحلبي الذي أمدني بكل ما أحتاجه من تفاسير للآيات القرآنية من خلال الكمبيوتر .
يرجى من كل من يريد أن يعبّر رؤيا أو يفسر مناماً أن يتصل على الرقم 00963115751111
الفهرس
المقدمة ... 6
علم الأولين والآخرين ... 8
صفات المعبِّر ... 11
التجربة - قبلها وبعدها ... 13
اكتشاف بنيامين ... 62
شروط الرؤيا الصادقة ... 66
القسم الأول
علم التأويل / حقائق مستمدة من الأصول ووقائع من حياة الناس /
الرؤيا الصادقة في القرآن الكريم ... 72
الرؤيا الصادقة في السنة النبوية الشريفة ... 90
دلالة الألوان ... 96
دلالة الأرقام ... 97
الجديد في هذا العصر ... 99
ابن سيرين ... 103
فرويد والأحلام ... 108
تحليل حلم لبسمارك ... 109
خمسون رؤيا أوّلتها ... 116
القسم الثاني
اللامرئيات من العوالم / دراسة قرآنية متصلة بعلم تأويل الرؤيا /
1-عالم الملائكة ... 134
2- عالم الجن ... 141
المصطلحات القرآنية :
1- الأولون ... 143
2-الآخِرون ... 148
3- المجرمون ... 150
4- الظالمون ... 157
5- من دوني ... 163(1/1)
حوار الشركاء ... 165
الشيطان ... 171
الريح والجن ... 179
6- أولياء ... 193
الخلوة ... 201
العنكبوت ... 214
المشاركة بالوراثة ... 221
صفات المرأة العنكبوتية ... 224
خاتمة لا بد منها ... 228
المراجع والمصادر ... 230
مقدمة لا بد منها
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد I سيد الأولين والآخرين والمبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد :
فما كتبت كتابي هذا سعياً وراء هدف مادي منه ، أو شهرة أسعى إليها ، ولكنني وضعته خدمة متواضعة لعلم يكاد يكون مندثراً ، ولم يبق في أذهان الناس منه إلا نزر يسير توارثوه ، بعضه فيه شيء قليل من الصحة والصواب ، ومعظمه مليء بالتشويه والتحريف . ألا وهو علم تأويل الرؤيا .
وقبل أن أخوض في ثنايا هذا العلم ، لا بد لي من أن أعرّف القارئ عني . فأنا من مواليد عام 1948 بلا يوم ولا شهر . توفي والدي ، وعمري سنة واحدة ، فقامت أمي برعايتي ، وكان لا بدَّ لي من العمل في سن مبكرة ، فوالدتي أرملة فقيرة تخلى عنها أقرباؤها ، تقوم على تربية طفلين ورعايتهما ، فكانت مضطرة للعمل ، وكان عملها الخياطة في منزلها .
وكان أول عمل لي مارسته وأنا في منتصف المرحلة الابتدائية هو رعي الغنم في إجازة الصيف . ومع مطلع المرحلة الإعدادية من دراستي بدأت أعمالاً حرة حتى حصلت على الثانوية العامة وسجلت في الجامعة .
وفي أثناء هذه المرحلة كنت أتردد على مجالس العلم التي تُعنى بتفسير القرآن وشرحه ، فلما ازداد وعيي وجدت نفسي مدفوعاً إلى الانكباب على المطالعة ، فقرأت في شتى أنواع المعارف التي كانت تتاح لي .
ولما وضعت قدمي على أعتاب الجامعة طالباً في قسم اللغة العربية شعرت بحاجة ماسة إلى حفظ القرآن الكريم . فبدأت بحفظه ، ثم بقراءته .(1/2)
ولا أزال أذكر أنني في تلك الأيام لم أرَ مناماً ، ولم أسمع أحداً يقصّ رؤيا ، كما أنني لا أزال أذكر أنني لم أسمع أثناء حضوري لمجالس العلم حديثاً يمكّن من فهم الآيات الكريمة التي تتحدث عن عالم الجن .
وهكذا فإن هذين العلمين اللذين يعالجهما هذا الكتاب وهما : علم تأويل الرؤيا ، وعلم الجن كانا بعيدين تماماً عن دائرة ثقافتي من ناحية ، وعن اهتمامي الشخصي من ناحية ثانية .
الرؤيا الأولى في حياتي :
كان ارتباطي بأمي ـ رحمها الله تعالى ـ ارتباط ولد بوالدته ، ولكني عندما كبرت وأدركت قيمة إصرارها على متابعة دراستي ، على الرغم من كونها أمية لا تقرأ ولا تكتب ، أدركت عظمة ما قدمته أمي لي .
وعندما تزوجت سافرت إلى العمل في دولة الكويت مدرساً في وزارة التربية لمادة اللغة العربية ، وحدث أن توفيت ـ رحمها الله تعالى ـ وأنا بعيد عنها ، فلم أرها قبل وفاتها ، ولم أودّعها فأصابني ذلك الخبر ـ بعد مرور أيام عليه ـ بزلزال في كياني ، أمرضني وطرحني الفراش . لقد فقدت بموتها أحب إنسان إليّ ، وأعظم إنسان في حياتي ، ولم يعد ارتباطي بها ارتباط ولد بوالدته ، ولكن كان أعمق من ذلك بكثير ، كان ارتباطاً روحياً لا أزال أنهل من معينه .
ومرّ عام على وفاتها ، وقلبي لا يُطفأ لهيبه شوقاً إليها ، وحسرة عليها . وما كان هناك شيء يروي ظمأي غير رؤيتها .
وفي أثناء قيلولتي ، منّ الله عليّ فرأيتها في نومي ، رأيتها وقد دفعت باب بيتي بيدها ودخلت إلى الصالون . كانت ترتدي ملابسها التي كانت ترتديها أثناء صلاتها ، وكنت أجلس في صدر الصالون ، وأخي يجلس على يساري .
فقمت واحتضنتها ورحبت بها ، وقلت لها : هاهو ذا أخي جالس هناك ، فأعرضت عنه وتركتنا وانحرفت يساراً داخلة إلى غرفة أولادي .
استيقظت من نومي ، والسعادة تملأ جوانحي ، لاطمئناني عليها ، وللمحبة التي منحتني إياها .(1/3)
لقد مرت هذه الرؤيا وأنا لا أزال بعيداً تماماً عن فهمها ، وأجهل تماماً رموزها ومعانيها ، وليس هناك من مرجع في مكتبة يمكن أن يروي ظمأك ، كما أنه ليس هناك من هو عالم بهذا الجانب يمكن أن تلجأ إليه .
لكن هذه الرؤيا نفسها لم تكن بحاجة إلى تأويل ، لعلّ ذلك مرده إلى جهلي بهذا العلم ، ولهذا كانت واضحة لا ترميز فيها .
لكنها كانت في الوقت نفسه إرهاصاً لي ، ومقدمة تلامس هذا العلم الذي سأتخصص فيه لمساً مباشراً بلا تردد .
علم الأولين والآخرين
كثيراً ما يتردد على ألسنة العلماء وصف لعلم تأويل الرؤيا بأنه علم الأولين والآخرين . فإذا ما سألتهم عن هؤلاء الأولين والآخرين قالوا : إنه علم مَن قبلَنا وعلم مَن بعدنا .
ولكي أرسّخ حقائق هذا العلم وتحديد مصطلحاته ، فإنني ارتأيت أن أعود إلى القرآن الكريم والسنة النبوية لأتعرف على حقيقة العبارة السابقة وتحديد معانيها .
هذه العودة إلى القرآن الكريم واكتشاف هذه المعاني كانت فتحاً إلهياً بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى روحي وكشف عقلي وواقعي .
ولم يكن هذا الفتح ناتجاً عن فراغ أو اجتهاد لفظي وفكري فحسب ، بل هو ناتج عن تجربة عميقة كان مصدرها عالم الجن . هذه التجربة هي التي سأفرد لها فصلاً مطولاً في هذا الكتاب . ولكني لا بدّ لي من أن أشير إلى أن عودتي إلى القرآن الكريم ألزمني بالعودة إلى جملة من المفسرين وعلى رأسهم الإمام الطبري رحمه الله تعالى ، لأتمكن من تحديد ما أراه طرحاً جديداً ، وبين ما قاله السلف الصالح مع إجراء مقارنة تقتضيها الضرورة .
ولا بدّ لي من أن أسجل الملاحظات التالية :(1/4)
إنّ الآيات الكريمة التي أعالجها هي آيات ذات طابع إشكالي بالنسبة لهؤلاء المفسرين . ولا يدخل ضمن هذه الآيات ، تلك الآيات التي تتحدث عن الأحكام والعبادات والشرائع والقراءات . بل هي الآيات التي تتعلق بعالم الجن ، وعالم الشركاء . فالطبري ـ رحمه الله تعالى ـ عندما يتوقف لتفسير آيات تتضمن هذين العالميْن ( الجن والشركاء ) يقول : ثم اختلف أهل التأويل .
إن هؤلاء المفسرين اعتمدوا التفسير اللفظي في معظم الأحيان ، فوضعوا نصب أعينهم شرح الألفاظ شرحاً لغوياً ، ثم بيان وضعها الإعرابي إذا كان هناك إشكال فيها فالأنداد هي الأصنام ، والأصنام هي الأوثان ، والأوثان هي اللات والعزى .
ونجد معظم هؤلاء المفسرين اعتمدوا كل آية بمفردها ، فعزلوها عما قبلها وعما بعدها ولم يخطر لهم أن يتابعوا هذه الآية في هذه السورة بآية في سورة أخرى ، وهذا أفقدهم عمق الفهم الذي تقتضيه الحقائق كما أفقدهم شمولية النظرة .
فالحقائق القرآنية منثورة كحبات العقد في ثنايا السور القرآنية ، وهي بحاجة إلى من ينظمها في عقد واحد يظهر جماله ، والغرض منه .
ولهذا لم يستطيعوا أن يتبينوا الموضوعات المحددة والمتعددة لأنهم لم ينظروا إلى القرآن تلك النظرة الشاملة التي تخرج كل موضوع على حدة ، وتفرد له فصلاً مستقلاً .
لقد نظروا إلى القرآن الكريم نظرة أحادية ضيقة عندما توقفوا عند عالم الإنس وحده ولم يستطيعوا أن يحددوا تلك العوالم الأخرى بتفصيل دقيق استناداً لقول الله تعالى لرسوله الكريم { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107] .
فالرسالة التي حملها الرسول الكريم هي رسالة تتعدى عالم البشر ، لتصل إلى عالم الجن ، وكما أن القرآن الكريم فصّل الحديث عن عالم الإنس ، فكذلك فصّل الحديث عن عالم الجن ، لتكون الأوامر والنواهي القرآنية ملزمة لكلا العالمين على حد سواء .(1/5)
هذه الحقائق السابقة لو أردت أن أستجمعها من مصادرها ، مجرياً مقارنة بين ما ذكرته تلك المصادر ، وبين ما سأقوله في هذا الكتاب ، لاحتجت إلى مجلدات عدة ، وما إلى هذا قصدت ، ولكنني أشرت إلى ما عالجته تلك المصادر بحسب ما تقتضيه الضرورة القصوى .
وليس الهدف من هذا الكلام انتقاصاً من مكانتهم ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ولا الغرض منه أن أبرز نفسي على حسابهم ، ولكنني ما كنت لأمتلك زمام علم التأويل لو كان فهمي كفهمهم .
ولا بد لي من أن أستشهد بمفسرين إثنين هما الطبري والقرطبي رحمهما الله في تفسير الآية الكريمة { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } [ الزخرف : 6] .
فالطبري يقول : { وكم أرسلنا من نبي } يا محمد في القرون الأولين الذين مضوا قبل قرنك هذا الذي بعثت فيه ، كما أرسلناك في قومك من قريش . أ-هـ
فالأولون عند الطبري هم عالم البشر الذين جاءوا قبل النبي الكريم .
أما القرطبي فيقول : كم هنا خبرية ، والمراد بها التكثير ، والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء . أ-هـ
ويلاحظ أن القرطبي بدأ بالتفسير النحوي ثم اللغوي ، وأغفل هؤلاء ( الأولين ) تماماً .
ولابد من عرض مثال آخر يبين هذا التفسير المجتزئ .
ففي آية المائدة قال الله تعالى { قال عيسى بن مريم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً : لأولنا وآخرنا } [ المائدة :114] .
فالطبري يقول : ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى ( تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا ) فقال بعضهم : معناه : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا . أ-هـ
لقد عنى بلفظة ( لأولنا ) نحن ، وبلفظة ( وآخرنا ) مَن بعدنا . على حين أنه عندما فسّر ( الأولين ) قبل قليل عنى بها الذين مضوا قبل قرنك .
فكيف استقام أن يجعل ( لأولنا ) معنى بعيداً تماماً عن ( الأولين ) مع أن المادة المصدرية لكليهما واحدة هي ( أول )(1/6)
ثم يخرج الطبري نفسه من تفسير كهذا فيقول بإسناد عن السري أنه هو قال بهذا التفسير . وبإسناد عن قتادة قال : أراد أن تكون لعقبهم من بعدهم .
وبإسناد عن جريج قال : ( لأولنا ) هم الذين هم أحياء منهم يومئذ ( وآخرنا ) من بعدهم منهم . وقال آخرون معناه : نأكل منها جميعاً .
وأما القرطبي فيقول : يكون يوم نزولها ( عيداً لأولنا ) أي لأول أمتنا وآخرها . ثم يروي بلا إسناد عن ابن عباس قوله : يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم .
وهكذا نجد أن هذين المفسرين ، أحدهما من الشرق ، والثاني من الغرب ، لم يستطيعا أن ينتبها إلى المراد من هذه اللفظة ، ولهذا يظل تعريف علم تأويل الرؤيا ( علم الأولين والآخرين ) تعريفاً إشكالياً . لكنني سأبين في فصل ( المصطلحات القرآنية ) بالدليل القطعي ، أن المراد بمادة ( أول ) هو عالم الجن ، وأن المراد من مادة ( آخر ) هو عالم الإنس .
ومن الملاحظ أن جميع المفسرين ، إنما اعتمدوا الطبري في تفاسيرهم ، فإما أن يحذفوا منه شيئاً ، أو يزيدوا عليه قليلاً؛ لكن تفاسيرهم لا تخرج في إطارها العام عما يقوله الطبري إلا في حدود ضيقة جداً .
وربما كان دافعهم إلى ذلك ، عدم جرأتهم في تحمل مسؤولية تفسير القرآن الكريم إجلالاً له ، فحملّوا المسؤولية في ذلك كاملة إلى الطبري وحده باعتباره أول من تجرأ ففسّر .
لكن الطبري نفسه اعتمد على الأسانيد وتحديد الرواة لكي يبرئ نفسه من المسؤولية .
أمام فهم كهذا ، كنت ألقى عنتاً كبيراً ـ ولا أزال ـ عندما يثار نقاش حول هذا العلم ، فمعظمهم يتقيّد بما قاله المفسرون السابقون ، معتبرين تفاسيرهم هي الصواب ، ولا صواب سواه ، سادين في وجهي باب الاجتهاد والتجديد .
فإذا حمي النقاش وأُحصروا قالوا : القرآن حمّال أوجه . ولم يسبق أن حدّد مفسر معنى واحداً لهذه اللفظة أو تلك .(1/7)
وكنت أرد على هؤلاء ، بأن العلم الحديث سخّر لنا ما لم يسخّر لمن قبلنا ، ويكفي لاستخراج لفظة معينة أن نشير إلى الكمبيوتر ، فيخرجها لنا دفعة واحدة من كل الآيات التي يضمها القرآن الكريم ومعها تفسير كل مفسر .
ثم تبين لي أن ما يعونه من تفسير إنما هو قوالب جاهزة عندهم ، لا يريدون الاعتراف بغيرها ويعتبرون نقيضها مغامرة كبرى .
ولعمري ، فإن هذا التجديد والتحديد كان هدفاً ـ ولا يزال ـ من أهداف القرآن الكريم ، فالله سبحانه وتعالى طالبنا أن نتدبر القرآن بعقل منفتح ، وببصيرة نافذة إلى عمق الأشياء ، حتى نتمكن من فهم مراده سبحانه وتعالى منها واكتشاف جوهرها لا قشرها أليس هو القائل لنا : { أفلا يتدبرون القرآن ، أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24] .
لقد انطلقت في فهم القرآن الكريم ، من حقيقة واحدة هي أن البشر متغيرون لكن القرآن الكريم ثابت . وثباته هذا هو صلاحه لكل زمان ومكان .
وكل حقيقة مهما كان نوعها هي حقيقة ثابتة لنا ، ولمن قبلنا ولمن بعدنا ، ولطالما هو كذلك فإنه يستعمل ألفاظاً محددة يصل معناها وهدفها لكل جيل ، ولطالما هي كذلك فليس هناك أوجه محتملة لها .
وكثيراً ما استخدم علم أسباب النزول ذريعة أمام تجديد المعنى الذي يُراد من هذه اللفظة . إن أسباب النزول مرهونة بوقتها الذي نزلت فيه ، لكنها تصبح فيما بعد حقيقة ثابتة لكل جيل . إن الآيات التي نزلت بحق ( الثلاثة الذين خلِّفوا ) عن غزوة تبوك ، أصبحت فيما بعد تحذيراً شديداً لكل من يؤثر دنياه على دينه .
صفات المعبِّر(1/8)
للمعبِّر صفات عدة يجب أن تجتمع كلها في شخصه ، وأول هذه الصفات ، أن يكون عالماً باللغة العربية ، لا علماً سطحياً بالنحو والإعراب ، بل عالم باللغويات ، انطلاقاً من أن الألفاظ القرآنية إنما وضعها في موضعها اللهُ الذي خلق اللغة وعلمها لآدم عليه السلام { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31] ولهذا لا يمكن استبدال لفظة بأخرى في القرآن الكريم؛ لأن اللفظة التي اختارها الله سبحانه في هذا الموضع ، هي لفظة مخصوصة بهذا المعنى وليس هناك من لفظة أخرى ، يمكن لها أن تؤدي المعنى الذي تؤديه اللفظة المختارة . وربما هذا الجانب يغطيه علم ( فقه اللغة ) الذي يُعنى بالألفاظ أصولاً واشتقاقاً ، وإيضاح المعاني الذي تنطوي عليه الألفاظ المشتقة من أصل واحد .
فما الرابط المعنوي بين كلمتي ( جِد ) و ( جَد ) مثلاً . يضاف إلى ذلك فهم المعبّر للهجات المحلية ، والفروق بين كل لهجة وأخرى .
ومن المؤكد أن دراستي الجامعية للغة العربية كانت نعمة كبرى عليَّ ، ولم أدرك قيمتها إلا فيما بعد .
والصفة الثانية للمعبر أن يكون ذا خيال واسع ، وقدرة حقيقية على التخيل ، فالفرق الحقيقي بين الشعر والنظم هو الخيال . وإذا ما تسامى هذا الخيال فإنه يصل إلى الخيال الإبداعي الذي اتصفَّ به الشعر الجمالي في كل أمة ، وعلى مرّ العصور .
ولهذا لابدّ للمعبّر أن يكون متقناً لعلم البلاغة ، وما فيه من تشبيه واستعارات وقدرة على التخيّل .
هذا الخيال هو الذي منحني القدرة على التخيل لذلك العالم اللامرئي الذي أتحدث عنه والذي مكنني من أن أتحدث عنه كأنه عالم مرئي أراه بعيني .
وإنني لأنصح كل من يقرأ كتابي هذا ، أن يكون متمتعاً بالحد الأدنى من القدرة على التخيل كي يتمكن من أن يتجاوز الواقع الحسي ليصل إلى فهم ذلك العالم اللامرئي .(1/9)
هذا الخيال سنكون بأمس الحاجة إليه عندما نعالج التشبيه في قوله تعالى عن عصا موسى عليه السلام { فلما رآها تهتز كأنها جان } [ النمل : 10] .
ولعل تجربتي في كتابة الشعر وإلقائه ، كان لها فضل كبير عليّ إذ منحتني هذه القدرة على التخيل ، والتي لولاها لم أستطع أن أتجاوز الواقع الحسي من جهة ، وأن أتمكن من ربط المتباعدات في تأويل الرؤيا في نسيج محكم .
وثالث صفات المعبر ، أن يكون عفيف النفس ، مترفعاً عن بذل علمه لهدف مادي فهذا العلم الذي أكرمه الله به ، إنما مُنحه ليكون خدمة سخرها الله له لينتفع بها الآخرون ولهذا فإنه يجب ألا يقبل أي أجر مادي على عمله ملتزماً بقول الله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86] . ثم أن يكون ورعاً في دينه ودنياه ، بعيداً عن الغيبة والنميمة والنيل من أعراض الناس مؤتَمناً على أسرارهم ، فلا يفشيها تباهياً بمعرفته عن هؤلاء بما لا يعرفه الآخرون . وهو حيادي في تأويله ، يضع عواطفه جانباً ، فلا يأمر إلا بمعروف ، ولا ينهى إلا عن منكر .
ورابع هذه الصفات أن يكون المعبّر صاحب إلهام ، فعلم المعبّر لا يغطي إلا مساحة محدودة في هذا العلم ، لكن المساحة الكبرى يغطيها الإلهام الذي يعتبر العروة الوثقى الذي يمنحها الله له ، والتي تعطيه تلك القدرة على ربط المتباعدات في آلية التعبير .
هذا الإلهام هو الذي يمكنّه من ربط المرئي باللامرئي ، والمحسوس باللامحسوس ، فيكون الإلهام ذلك الإشراق الروحي الخفي الذي يمكنه من اكتشاف ما تريد الرؤيا أن تقوله والتي لم يستطع رائيها أن يكتشفه في رؤياه .
أليس إلهاماً روحياً عالياً ليوسف عليه السلام عندما استطاع أن يكتشف أن سبع بقرات سمان مع سبع سنابل خضر دليل على سبع سنوات خصبة ؟
وأخيراً فإن علم التأويل يُتّهم بأنه يكشف أسرار الناس ، ولعمري إنه لكذلك . ولكن هل هناك من حقيقة تظل خافية مهما حاول صاحبها أن يخفيها ؟(1/10)
ألم يقل الشاعر زهير بن أبي سلمى منذ عهد طويل :
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم ؟
لكن كشف السر هنا إنما يكون لهدف سام ، هو تخليص الرائي من معاناته التي يتحملها لقاء ما يخفيه ، ويكون في ذلك موعظة مباشرة له مخصوصة ، كي يتخلص من هذا الإثم الذي يغطي سره .
أليس الحديث الشريف ( يكفي أحدكم أن يوعظ في منامه ) دليلاً على رعاية الله سبحانه للرائي الذي أكرمه بهذه الرؤيا التي تدعوه للتخلص مما هو عليه ؟ وبذلك تكون الحجة عليه قائمة يوم القيامة ، إن أصر على الاستمرار بها .
هذه الصفات مجتمعة هي التي تميز المعبّر عن أولئك المشعوذين العرافين . وكثيراً ما لجأ الناس إلى هؤلاء طالبين منهم تفسير مناماتهم . غير مدركين أن هؤلاء المشعوذين ما هم إلا أُميّون لا يعلمون الكتاب إلا أماني .
هذا الخلط بين المعبر والمشعوذ هو الذي جعل بعض الناس يتهمونني بالشعوذة اعتقاداً منهم أن مَن يجيد تفسير منام إنما يقوم بعمل هو امتداد لعمل المشعوذ .
ما قبل التجربة
فرضت عليّ ظروف حياتي أن أقوم باستئجار غرفة لي ولأمي لدى شاب يعمل خارج بلده ، وكان بيته خالياً . حدث ذلك مع بدء الدوام الجامعي لي وكنت طالباً مستجداً أدخل الجامعة لأول مرة .
كان يومي موزعاً بين عمل صباحي ، ثم أذهب بعدها إلى الجامعة ، وهناك بعد أن تنتهي المحاضرات كنت أدخل المكتبة فلا أخرج منها حتى تغلق أبوابها .
ومع مطلع السنة الثانية ، عاد ذلك الشاب إلى بلده ، ليستقر ويتزوج . وعبثاً حاولت أن أجد غرفة بديلة عن غرفته ، كي يتمكن من الزواج في بيته فلم أجد .
كانت مشكلة السكن تتفاقم باستمرار ، فهناك بيوت خالية كثيرة معروضة للبيع ، ولكن ليس هناك غرفة واحدة معروضة للإيجار .(1/11)
كل ذلك كان خوفاً من أن المستأجر يحميه القانون فلا يستطيع المؤجر أن يخليه من بيته . أمام وضع اجتماعي كهذا ، لم يكن أمامنا من خيار إلا أن نبقى في البيت . ولم يبق أمام صاحب البيت من خيار له ، إلا أن يتزوج قانعاً مضطراً لبقائنا أنا وأمي .
لم يمض على زواجه أسبوعان حتى تعرضت زوجته لحريق من ماء حار جداً ، اندفع عليها ـ وهي منحنية ـ من صفيحة موضوعة فوق نار الغاز وهي تغلي ، فانسكب الماء الحار على مؤخرة رأسها ثم رقبتها ليغطي ظهرها كله .
صُنّف حريقها من الدرجة الثالثة ، وأوشكت على الموت . وبعد علاج طويل في المستشفى خرجت سليمة . ومع الأيام بدأت تعود إلى طبيعتها .
كانت أمي تمنحها كل رعاية وعطف ، وتقوم بخدمة البيت أثناء غيابها لكونها تعمل مدرِّسة في وزارة التربية ، وفي هذه الأثناء تم التعرف على عائلتها المكونة من أمها وأخت لها تصغرها بسنتين . ثم أخذت العلاقة بهذه العائلة تشتد أكثر فأكثر ، ومن خلال ذلك كانت هناك ظواهر تدعو للاستغراب . فالبنتان لا يعرفان أباهما منذ طفولتهما ، ويجهلان إن كان والدهما حياً أو ميتاً .
ثم إن هذه الفتاة الأصغر سناً من أختها ، كانت قد تعرضت لحادث مروري من دراجة نارية ، كانت من الشدة أنها خضعت لعمليات جراحية كانت آخرها وهي في سنّ الرابعة عشر عملية تم فيها استئصال الرحم لها .
وكانت لا تزال تعاني ـ وهي تناهز الخامسة والعشرين في ذلك الوقت ـ من مرض عصبي نتيجة لذلك الحادث ، بحيث كانت وهي تسير تتوقف لثوان فجأة ، فإذا ما كانت تحمل أوانٍ سقطت من يدها .
ثم تبين لي أن هذه العائلة ثرية ، ومصدر ثرائها أن أم الفتاتين تعيش في بيت في مكان معروف في دمشق ، والبيت عبارة عن بيت عربي دمشقي قديم من طابقين ، ويعيش معها ثلاثة أخوة ذكور ، أكبرهم سناً تزوج ولم ينجب . وغادر بيت أخته إلى غيرما رجعة .
أما أصغرهم سناً فقد امتد به العمر إلى التسعين عاماً ، ومات وهو أعزب أيضاً .(1/12)
كان هؤلاء الأخوة تجاراً معروفين بمكانتهم وسمعتهم ، ويبدو أن كثيراً من العائلات قد عرضت فتياتها على هؤلاء الاخوة الذين عرفوا بصلاحهم وعفتهم ، ومع ذلك لم يوافقوا على الزواج منهن .
ومن الواضح أن عدم زواج هذين الأخوين الأوسط والأصغر عائد إلى أن المرأة التي كانت مكلفة بأن تقوم بزيارة العائلة التي تريد أن تمنح ابنتها لأحدهما كانت أختهما . وفي كل مرة كانت أختهما تضع في الفتاة أو في عائلتها عيباً منفٍّراً ، فيصرف أحدهما النظر في موضوع الخطبة .
ومع تنامي هذه العلاقة العائلية ، بدأت تلوح في الأفق ، الرغبة في أن أتزوج الأخت الأصغر . ثم أصبحت هذه الرغبة عرضاً مباشراً فيه إغراء مالي كبير .
وعلى الرغم من أنني لم يكن لدي اعتراض على الفتاة لا من الناحية الجمالية ، ولا بسبب عرضهم المالي ، إلا أنني وجدت ظاهرة تبعث على الرفض ، وعدم الرضا ، لأسباب عدة أهمها أن الفتاة كانت تكبرني بسنتين ، وأنها ليست مؤهلة للإنجاب ، وثالثاً لكون أخوالها كلهم لم ينجبوا . وبدأت أُحمّل المسؤولية في ذلك كله لهذه الأم .
فهي التي تقف وراء عدم زواج أخويها بغية أن تستحوذ على مالهما ، وكنت أرى أن موقفاً كهذا من أخت تجاه أخويها أمر شاذ غير مألوف . فما من أخت إلا ويسعدها أن ترى إخوتها متزوجين .
ثم شعرت أن شكوكي هذه لها ما يبررها ، وذلك عندما عرضت البنت الكبرى رغبتها في زواجي من أختها قائلة : إن أختي تملك جهاز عروس كاملاً من أثاث إلى لباس إلى مجوهرات . لقد كانت مخطوبة من قبل ، وفي ليلة زفافها ، وعندما حضر أهل العريس ليأخذوها ، افتعلت أمها سبباً تافهاً لهم ورفضت بإصرار منحهم إياها .(1/13)
أمام حقائق مخيفة عن أم كهذه ، دفعني إلى إعلان رفضي تماماً لتحقيق هذا الزواج . لكن ظاهرة أخرى أشد خطورة بدأت تظهر أمامي . فهذه المرأة التي كنا نسكن عندها أصبحت مختلفة في سلوكها عما كانت عليه قبل الحرق ، وعما أصبحت عليه بعده . كانت من قبل ترتدي طقماً من قطعتين هما تنورة طويلة وجاكيت وتضع على رأسها إيشارباً أبيض محجباً ، وتذهب إلى عملها بهذا الزي دائماً .
لكنها بعد الحرق ، أصبحت ترتدي جلباباً وفوقه عباءة سوداء ، وتغطي رأسها بإيشارب أبيض محجب وتضع فوقه منديل سميك يغطي وجهها تماماً .
ولا بد أن يكون مظهر كهذا دليلاً على استغراقها في التدين . لكنها كانت عندما تأتي من عملها تخلع ملابسها هذه ، متجنبة أي نوع من أنواع الحشمة . ثم بدأت تظهر منها حركات مريبة ، فيها شيء غير قليل من الإغراء ، وخاصة إذا كانت أمي غير موجودة ، وإذا كان زوجها غائباً .
أمام دعوة مفتوحة كهذه لم يكن أمامي من خيار إلا أن أخرج من البيت باكراً وألا أعود قبل منتصف الليل .
فإذا ما حدث أن كان هناك يوم عطلة ، جلست في غرفتي مغلقاً بابها ، وقد جعلت في جزء منها مكاناً شبيهاً بمطبخ صغير ، حتى لا أحتك بها في مطبخها .
وأمام هذا التناقض في شخصيتها كانت حيرتي تزداد ، فهي في مظهرها خارجاً متدينة شديدة التدين ، وهي في بيتها ومع وجود رجل غريب عنها متحررة تماماً من أية قيود .
لقد كنت شاباً يملك الغريزة الجنسية الملحة ، لكنني كنت أحمل إرثاً دينياً ربما لم تكن شدته اليوم بالمقدار نفسه الذي كنت عليه من قبل . ومع ذلك فإنني لا أستطيع أن أرمي به كله أمام نزوة جنسية عابرة .
ثم إن هذا الرجل الذي أسكن عنده قد آواني أنا وأمي وأحسن إلينا ، ومما لا يقبله عقل أو ضمير أن أرد عليه إحسانه بأن أخونه في زوجته .
وإذا كنت قد وجدت حلاً من وجودي في البيت نهاراً ، فكيف لي أن أجد حلاً لغرائزي التي تلح علي ليلاً ؟(1/14)
واخترعت حلاً جديداً وجريئاً لهذا الموقف ، وهو أن ألجأ إلى كتابة الشعر مفتعلاً موقفاً في ذهني ، وصابّاً طاقتي كلها في التعبير الشعري عن هذا الموقف ، مانحاً قدرتي على التخيل أقصاها ، وصارفاً ذهني تماماً عن أية رغبات جنسية تراودني . إنني لا أريد من خلال تحليل لهذا الموقف الذي كنت أعانيه ، أن أبرز نفسي على أنني شاعر .
صحيح أن لديّ مجموعة من القصائد ، ولكنني ما كتبتها لكي أصبح شاعراً ، وإنما لأنها كانت الفرصة المتاحة لي لكي أصعّد غرائزي في اتجاه أسمى بكثير من رغبة مؤقتة ، ونزوة عابرة .
هذه الحال التي وصفتها بدقة وأمانة ، لازمتني لخمس سنوات متتالية ، ولكنها عندما أدركت أنني لست ذلك الشاب الذي يحقق لها رغبتها ، بدأت تناصبني وأمي العداء .
وكانت لها قدرة عجيبة على افتعال موقف ما يثير مشكلة مع زوجها ، بغية طردنا من البيت . ولم يكن أمامنا من حل إلا أن نهرب من البيت صباحاً ، فأنا أذهب إلى عملي ، ثم فيما بعد إلى قطعتي العسكرية؛ وأمي تذهب إلى بيت أخيها ، أو إلى بيت من بيوت الجيران .
لقد حاولت أكثر من مرة ـ أثناء فترة غوايتها ـ أن أنبّه زوجها إلى ضرورة أن تكون زوجته أكثر حشمة وخاصة إذا كنت موجوداً ، وفي كل مرة كان يرد علي قائلاً : إنها مثل أختك ، وأنا أعتبرك أخاً لها .
إجابة كهذه منه كانت تزيد من حنقي عليه ، وكنت أتساءل : أين رجولتك ؟ وأين غيرتك على عرضك ؟
وبدأت أشعر أنه رجل مسلوب الإرادة ، وهو معها ضعيف الشخصية ، فرغباتها أوامر ، وإشارتها تنفيذ .
الزواج
عدت إلى عملي بعد انتهاء خدمتي العسكرية ، وكان لي صديق عزيز على قلبي ، أُصيب بمرض السرطان ، ولشدة محبته لي طلب مني أن أمضي معه أيامه الأخيرة .
وكنت أرغب أن أرتبط معه برباط دائم سواء كان حياً أم ميتاً ، ففاتحته بخطبة أخته وكانت آخر فتاة عندهم وأصغر أخواتها سناً ، فوعدني خيراً .(1/15)
مرت إحدى وعشرون ليلة على خدمتي له ليلاً ونهاراً ، وقد قام لفيف من أصدقائي الأطباء بالإشراف عليه مجاناً محبة لي .
وصباح يوم وفاته جمع أهله وقال لهم : لي وصية واحدة هي أن تمنحوا أختي زوجة له . توفي الشاب ـ رحمه الله تعالى ـ بين يديّ ، فقمت بما يقتضيه الواجب في مناسبة كهذه . لكنني فوجئت أن الوصية التي أوصى بها ، إنما فهموا نقيضها ، فناصبوني عداء سافراً ورفضاً مطلقاً ، وكان ذلك أمراً يثير دهشتي حقاً .
لقد كنت ألمس منهم قبل وفاته وأثناءها ترحيباً حاراً هو الذي دفعني إلى أن أرد على ذلك بخدمة ابنهم ، ولو كنت أعلم عدم قناعتهم بي لما أقدمت على خطبة هذه الفتاة . لقد كان موقفهم غير مبرر إطلاقاً . وانقلبوا ما بين يوم وليلة من محبة مطلقة إلى عداء مطلق .
من يستطيع وقتذاك أن يجد مبررات عقلية مقنعة لموقف متناقض بين يوم وليلة ؟ لكنني اليوم ـ والقارئ معي ـ أستطيع أن أجد المبرر العقلي لكل هذا ، بعد أن تستوفي هذه التجربة التي توشك على البدء شروطها .
ولكنني لا بد لي من أن أبين أن زواجي من تلك الفتاة قد تم برغبتها وبإصرارها . وكان لا بد لي من البحث عن بيت أتزوج فيه ، فقدم لي أحد أصدقائي بيتاً مؤقتاً ، فخرجت أنا وأمي من تلك الغرفة في ذلك البيت معتقداً أن المعاناة التي عشتها فيه قد ولت إلى غير رجعة .
لكنني فوجئت في ليلة زفافي ولأسبوع بعدها أنني مسلوب الرجولة ، وأنني لا أملك تلك القوة الجنسية التي كانت تجتاحني من قبل .
مَن فعل هذا ؟ ومَن له هدف فيه ؟ إجابات ستأتي فيما بعد .
التجربة
كثيراً ما يُطرح عليّ هذا السؤال : كيف أصبحتَ معبّراً ؟ ولا أجد رداً على هذا السؤال أوضح مما قاله الإمام اللقانيّ رحمه الله تعالى في تعريف الكرامة ، وتحديد صفاتها حيث يقول :(1/16)
(( الكرامة أمر خارق للعادة ، غير مقرون بدعوى النبوة ، ولا هو مقدمة لها . وتظهر على رجل ظاهر الصلاح ، ملزم بمتابعة نبي ، مكلفٌ بشريعته . مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح ، علم بها أو لم يعلم )) .
حملتني الطائرة المتجهة إلى الكويت مدرساً لمادة اللغة العربية في وزارة التربية هناك مع مطلع العام الدراسي 1977-1978 .
وما كادت قدماي تستقران في عملي ، حتى بدأت مشاعر الكراهية لي تتجلى في تصرفات مدير المدرسة ، وكثيراً ما كنت أراه يتلصص عليّ ، وأنا داخل صفي .
ثم زاد الأمر سوءاً مفتش المادة الذي كان يستفزني في تصرفاته معي ، وفي كلامه . وكنت أتحمل ذلك مقنعاً نفسي بأنني مدرس جديد يريدون أن يتحققوا من خبرتي ونشاطي وانتظام عملي .
ثلاث سنوات مرّت عليّ في هذه المدرسة اللعينة بمديرها ومفتشها ، وانتهى بهم المطاف إلى نقلي إلى مدرسة كانت قريبة من منزلي .
ولعام واحد أمضيت سنة دراسية هادئة وممتعة ، ومع مطلع العام الدراسي التالي جاءني المفتش الإرهابي نفسه ليستكمل معي وحدي أسلوبه السابق دون بقية زملائي . وكنت إذا ما تحدثت أمامهم عن أسلوبه معي ، دافع جميعهم عنه بكل حماسة .
لكنّ قدميّ كانت راسخة هنا لأنني أدرس مادة جديدة هي ( النشاط الحر ) وهي مادة كان المدرسون يتهربون منها ، وقد أثبتُّ فيها جدارة كفيلة بحماية مديري لي .
في هذه الأثناء كانت تلك المرأة وزوجها قد حصلا على عقدين للتدريس في دولة خليجية أخرى .
وفي صيف عام 1983 ـ وأنا في دمشق ـ رزقت بمولودة ، فجاءت هي وزوجها لتبارك لنا مع لفيف من النسوة الأقارب لي . وجلست النساء في غرفة ، وجلسنا نحن الرجال في غرفة أخرى .
كنت قد أحضرت لزوجتي معي قميص نوم طويل من قطعتين داخلية وخارجية ، فقامت زوجتي التي كانت ترتدي القطعة الداخلية باستبدالها لما فيها من رائحة النفاس وعرق الولادة ، وآثار حليب الرضاعة .(1/17)
ولدى البحث عن هذه القطعة بعد مغادرتهم لم نجدها ، وثارت الشكوك حول السارق ، لكن هذه الشكوك هدأت أمام تفاهة قيمة القطعة المسروقة .
ولكن جملة من الأسئلة بدأت تُطرح حول هذه القطعة . فهي لم تكن نظيفة لما عليها من آثار الولادة ، ولماذا القطعة الداخلية بالذات دون القطعة الخارجية ؟ وكلتاهما كانتا معاً ؟
ومع اقتراب موعد سفري ، طلبت تلك المرأة منا أن ترافقنا في سفرنا ، كل بسيارته ، ولم نجد مانعاً في ذلك ، لكنها كانت هي المرة الأولى والأخيرة في طلبها هذا . وافترقنا عند حفر الباطن ، نحن إلى الكويت ، وهم إلى الإمارات العربية .
الرؤيا الصادقة الأولى
في منتصف الشهر العاشر من شهر تشرين الأول من عام 1983 ، استيقظت من نومي ليلاً على رؤيا أفزعتني ، كانت من الشدة والوضوح بحيث أنني أصف أحداثها بعد أكثر من خمسة عشر عاماً ، وكأنني رأيتها في هذه الليلة .
رأيت فيها أنني نائم على فراشي ، في غرفة نومي ، وإذا بي أسمع أصواتاً حادة على باب بيتي ، ثم يشتد الصوت؛ فأشعر كأن هناك أحداً يريد أن يقتحم بيتي . فأسرع إلى الباب الخارجي ( وأنا في نومي ) وأنظر من العين الساحرة ، فأرى رجالاً ثلاثة ملثمين ، يحاولون دفع الباب بأيديهم ، فأضع كتفي على الباب مقاوماً دفعهم له؛ لكنهم ينجحون في دفعه ، فيقع الباب على الأرض ، فيمشي أولهم فوقه داخلاً إلى صالون البيت يريد مهاجمتي ، فأبحث عن أي شيء أدافع به عن نفسي ، فأجد عصا غليظة ، في رأسها قطعة حديدية حادة ، فأمسك بها وأهوي عليه؛ فأصيبه ما بين شفته العليا ، وما بين أنفه ، فينفجر دمه ، وقد شق الحديد الحاد رأسه .
كان أول حدث رئيسي لهذه الرؤيا ، بعد إحدى وعشرين يوماً ، أن صدر قرار بنقلي من مدرستي إلى مدرسة أبعد . وقد حاول ـ ناظر المدرسة ـ وأنا معه طيّ القرار لكنه لم يفلح ، وعندما أصرّ علي معرفة السبب قال له المسؤول عن النقل :(1/18)
إن مدرّساً لمادة النشاط الحر في تلك المدرسة ، أحدث شغباً مع طلابه ، فارتأينا نقله . فأجابه غاضباً : تأخذون مني مدرساً جاداً في عمله وهادئاً ، وترسلون لي بدلاً عنه مدرساً مشاغباً ؟ أي قرار هذا ؟
وفي صباح يوم السبت في 5/11/1983 ، انطلقت إلى مقر عملي الجديد ، كانت مدرسة جميلة مليئة بالأشجار ، وتحيط بها الخضرة من كل جانب وعلى عكس ما توقعت ، فإنني رأيت طلابها هادئين ، ليس لديهم أي ميل للشغب والانحراف . واستطعت أن أحصل على غرفة خاصة بي ، تمكنني من متابعة نشاط طلابي فيها . ولقد قمت بتدريب بعض من هؤلاء الطلاب على لعبة الشطرنج فاستطاعوا أن يحققوا المركز الأول في المسابقة التي أعلنت عنها وزارة التربية ، على جميع مدارس المرحلة الإعدادية في ذلك العام الدراسي 1983-1984 .
استقراري في عملي ، واستقلالي في غرفة خاصة بي ، دفع المدرسين إلى زيارتي والتعرف عليّ وأصبحت هذه الغرفة ملتقى للمدرسين ، يتبادلون فيها الأحاديث ، ويرتشفون الشاي والقهوة .
من بين هؤلاء كان هناك مدرّس للغة العربية ، قديم في المدرسة ، ذو خط جميل ينادونه ( أبو أكمل ) أما اسمه الحقيقي فهو ( محمود ) .
مضت السنة الأولى ، ومحمود هذا ، كان يتردد على غرفتي بين الفينة والأخرى . ومع مطلع السنة الثانية ، أصبح يتردد بانتظام ، ثم دعاني إلى الغداء لدى عودتي من السفر .
وبدأت العلاقة العائلية فيما بيننا تتنامى . كانت زوجته مدرّسة للغة العربية ، وابنه الأكبر يدرس في أمريكا ، وله ولدان ذكور سواه هما أصغر منه سناً ، وابنة واحدة . خطبت ابنته ، وتزوجت ، ودعينا إلى حفل زفافها .
في هذه الأثناء كان عملي يثير اهتمام مديري ، ولأكثر من مرة استدعاني إلى مكتبه ، وكأنه يريد أن يحقق معي ، لمعرفة أسباب نقلي إليه .(1/19)
ولما لم يكن هناك أي سبب مباشر يدعو مديري السابق إلى نقلي ، قال لي : إن في الأمر سراً ، فأجبته : إن الحياة مليئة بالأسرار ، والرجل الناجح هو الذي يستطيع أن يكتشفها . ومرت السنة الثالثة والرابعة في هذه المدرسة على أحسن وجه .
* * * * *
الغواية بين يدي
خلال السنوات السابقة ، امتدت بيني وبين مدرس من بلدي علاقة اجتماعية عميقة . كان شاباً هادئاً متزناً ، اقترن بفتاة تكبره بسنتين ، بعد علاقة حب بينهما في الجامعة . وكلاهما يدرّس اللغة الإنجليزية .
وكانت زوجته ـ وهي في مثل سني ـ على نقيضه تماماً ، فلقد كانت امرأة عصبية المزاج ، حادة الطبع ، لا أثر لأي تدين عليها ، بل كانت لا تتورع أحياناً عن التفوه بعبارات فيها سخرية بالدين ورجاله .
ولكونهما يسكنان قريباً من منزلي ، ولم ينجبا أطفالاً خلال هذه السنوات ، فقد اعتادا أن يحضرا إلينا في كل يوم تقريباً .
وكنت ألاحظ أنها كانت تتعمد أن تجلس مقابلي تماماً ، وهي مكشوفة الصدر ، عارية الساقين ، وتشعل سيجارتها أثناء حديثها . فإذا ما فرغت علبة السجائر منها قالت لزوجها : قم وأحضر لي علبة من المحل .
كان هذا السلوك منها يستفزني ، عندما أرى رجلاً متزناً ، وقد أصبح طوع بنان زوجته ، هذا الثنائي كان يذكرني تماماً بالثنائي الذي كنت أسكن عندهما ، ما خلا أن تلك المرأة كانت ترتدي زياً مستغرقاً في التدين ، أما هذه فكانت سافرة متبرجة . لقد كان جوهرهما واحداً ، لكن الشكل الخارجي لهما مختلف .
لقد كان حضورهما شبه اليومي مغطى بغلاف اجتماعي رقيق ، هو أنها تحضر لمساعدة زوجتي في تربية أطفالها ، فقد أصبح عددهم أربعة .
ولما كانت مدرستها تقع على خط مدرستي ، فإن زوجها بدأ يطلب مني أن أقوم بتوصيلها لأنه مضطر للحضور إلى مدرسته في هذا اليوم باكراً .(1/20)
ثم أصبح طلبه هذا يتكرر إذا كان هو متأخراً ، ولم يعد لديه الوقت الكافي لإيصالها . فإذا ما صعدت إلى سيارتي ، جلست بقربي قائلة : إنني لن أجلس في الخلف فأنت لست سائقاً عندي . وتقوم بإشعال سيجارتها ، ووضع ساق على أخرى كاشفة بذلك عن ساقيها وكأنها تدعوني دعوة غير مباشرة لكي أضع يدي عليها .
وبدأ عقلي يتيقظ ، إن هذه المرأة تدعوني إلى ما كانت تلك تدعوني إليه ، ولكن هذه المرة بجرأة ووقاحة وثقة بالنفس .
ومع التمادي في ذلك ، لم أجد بداً من طردهما ، فكنت أفتعل الأسباب ، ومع ذلك فقد كانا يغيبان عني أسبوعاً ثم يعودان حاملين طبقاً من الحلوى وهي تقول : إنني أعلم أنك تطردنا ، وإذا كان لا بد من ذلك فيجب أن نفترق على حلوى .
وبذلك كانت تفوت عليّ الفرصة في استمرار هذا الطرد . لكنني في آخر مرة عقدت العزم على ذلك .
فإذا كنت في فترة شبابي وعزوبيتي قد نجوت من ذلك ، فهل يمكن لي بعد أن تزوجت وأصبح لدي أطفال أن أفعل ذلك ؟.
ولم يكن أمامي من حلٍ سوى أن أضع سيارتي في مكان بعيد عن بيتي إشارة لهم أننا لسنا في البيت . ثم صرف الله كيد هذه المرأة عني .
ومن المؤكد أنني اختصرت قصة هذه المرأة وكثّفتها بإيجاز مبالغ فيه . إذ أن شخصيتها بما فيها من ثقة وجرأة وقدرة على تحقيق ما تريده تستحق أن تفرد لها رواية طويلة لا تقل عن شخصية مدام بوفاري التي سطرها الروائي ( فلوبير ) وإن كان هناك تباين كبير بينهما .
وما أقدمت على هذا الإيجاز لشخصيتها إلا لأنني لا أريد لهذه التجربة الممتدة أن تخرج عن خط سيرها الذي وضعته لها .
النقل الثالث(1/21)
مع بداية السنة الخامسة لي في هذه المدرسة ، افتعل أبو أكمل مشكلة بيني وبين مدرسي الأول (1) ، فارتأيت أن أفضل حل لها أن أنتقل إلى المرحلة الثانوية ؛ وكانت هناك رغبة من مدير المنطقة التعليمية وقتذاك بهذا ، خاصة أنه حضر حفل وداع ٍ لمدير مدرستي ألقيت فيه قصيدة شعرية رنانة من تأليفي .
إن انتقالي من مدرسة ( أبي أكمل ) أتاح له الفرصة ليكثر من زياراتي مساءً ، فكان يأتي مع زوجته وأصغر أولاده فيسهرون عندنا .
وكان في أحيان كثيرة ، يتصل بي في وقت متأخر داعياً لنا على العشاء ، ولعلمه بأننا نحب السمك فغالباً ما يكون العشاء سمكاً .
وكنت أرأف بحال زوجته ، فهي مدرّسة تعمل صباحاً ومساءً ، وبحاجة ماسة للراحة . فإذا كان هناك يوم عطلة ، اتصل بي لنشرب القهوة معاً في منزله . ولأكثر من مرة لاحظت أن الفسحة أمام بيتهم تكون مكنوسة ، وأن هناك ماء رشت به ، دون أبواب الجوار .
وكنت عندما أرى ذلك يراودني خاطر سريع بأن هذا الرجل يصنع لي سحراً ، ولكن ما أجده منه من محبة واهتمام كانا ينفيان هذا الخاطر سريعاً . وأعزو هذا التنظيف إلى حبهم للنظافة .
وذات يوم أخرج لي ورقة مالية من فئة المائة دولار وقال : أرجو أن تحتفظ لي بهذه الورقة أمانة عندك ، فهي تحمل في نفسي ذكرى عزيزة عليّ وأخشى أن أصرفها أو أفقدها . هذه المئة دولار سيأتي ذكرها بعد ثلاث سنوات .
في هذه المرحلة بدأت ظواهر عدة في حياتي تدعو للتأمل ، ففي الوقت الذي كان زملائي ، وبعضهم أحدث مني خبرة ، يحصدون العلاوات التشجيعية فإنني لم أحظ بأية علاوة من هذا النوع ، مما أثار استغراب زملائي أنفسهم ، وأصبح بعضهم يصف عملي بالضعف ، وشخصيتي بعدم الاستحقاق وكان ذلك يحزنني جداً ، فقد أصبحت عائلتي كبيرة ، وأنا بأمس الحاجة إلى هذه العلاوات التي تسهم ولو بمقدار محدود في مساعدتي ، خاصة أن زوجتي ربة بيت ، ولا دخل آخر لي غير راتبي .
__________
(1) - منصب يعمل به في مدارس الكويت .(1/22)
في هذه المرحلة كانت زوجتي حاملاً ، ولدى بدء المخاض معها ، أخذتها إلى المستشفى وكانت ولادتها توأماً ذكوراً . عدت إلى البيت ، ولا تزال زوجتي مع توأمها في المستشفى ، وإذا بالهاتف يرن ، وكان المتحدث معي من الإمارات ذلك الرجل الذي كنا نسكن عنده .
فرحبت به ، وسألته عن زوجته وأولاده فقال : أصحيح أن زوجتك قد ولدت وأنجبت لك ولداً ذكراً ؟ فقلت ضاحكاً : إنه ليس ولداً واحداً ، إنهما توأم ذكور . ولكن ما الذي جعلك تتصل بي لتسأل عن ولادة زوجتي ، وتحدد لي أنها أنجبت ولداً ذكراً ؟! فقال : إن زوجتي رأت في نومها ذلك !!! .
هذه العبارة التي قالها أثارت استغرابي . فكيف يمكن لهذه المرأة أن ترى مناماً يحدد بالضبط ما حدث معي ؟ إذا كانت المنامات واضحة ومباشرة كهذا المنام ، فلم يعد هناك مبرر أبداً لوجود علم تأويل الرؤيا ، ومعبريه .
ولو كانت رؤياها صادقة كما تدعي لكانت رأت أنهما ذكران لا ذكر واحد . وبدأت ملامح شخصيتها تزداد وضوحاً أمامي .
إن هناك من نقل لها خبر ولادة زوجتي التي لا تزال في المستشفى ، لكنه كان نقلاً مستعجلاً لا تروّي فيه . ولكن من يكون ذاك الناقل ؟ وما صفاته ؟
إن الذين حضروا إلى المستشفى ، ليس بينهم معرفة أبداً ، بتلك المرأة ، ولا مكان عملها ، وكلهم أعرفهم معرفة حقيقية ، وليس بينهم أي شخص غريب . فكيف هي عرفت بذلك ؟ وماذا يهمها فيّ إن أنجبت زوجتي أو لم تنجب ؟
قوبلت ولادة زوجتي بتوأم بفرح غامر من قبل الجيران ، لكنه كان فرحاً مبالغاً فيه . فقد بدأت النسوة يجتمعن على أصوات الزغاريد ، وموائد الإفطار ، ويقمن الحفلات الراقصة .
وأصبحت نفسي ميالة إلى اللهو والتسلية والسهرات الطويلة الممتدة . وكل ذلك كان غريباً عليّ وجديداً .
في هذه الأثناء قدّم لي أحد طلابي هدية من نوع خاص؛ كان كتاب ابن سيرين رحمه الله تعالى . وكانت المرّة الأولى التي أتعرّف فيها على هذا الكتاب ، وأضعه بين يديّ .(1/23)
وبدأت أتصفح الكتاب ، وكنت قد بدأت أُعرف في محيطي بتفسيري للمنام ، فجاء هذا الكتاب ليكون ركيزة بين يدي أعتمد عليها .
لكن أبا أكمل كان يقابل تفسيري للمنام بسخرية قائلاً : دع عنك ذلك فكله خربيط .
ومع بداية السنة الثالثة في هذه الثانوية ، والتي ستكون آخر سنة لي هناك ، وجدت نفسي منقولاً إلى ثانوية محدثة .
قرار النقل هذا أصابني في الصميم ، وخيّم الحزن على نفسي ، ونفرت الدمعة من عيني . لماذا أنا بالذات مقدر علي ألا أستقر في مدرسة واحدة ؟
ولي زملاء لا زالوا في مدارسهم منذ أن دخلوها ، بماذا يفضلونني في علمهم وعملهم ؟ لقد كان كل انتقال لي ، دعوة لكي أبدأ من الصفر ، وما أكاد أثبت جدارتي في عملي حتى أنقل . وكل ذلك يحرمني من كل ترقية ، أو علاوة تشجيعية .
هذه هي المرة الخامسة التي أنقل فيها . لماذا يحدث ذلك ؟ ومعي أنا بالذات ؟ وبدأت أسئلة كثيرة تطرح نفسها ؟ هل هناك أيد خفية تسعى إلى تدميري ؟ وإذا كان سؤال كهذا حقيقة واقعة فلماذا ؟ ومن يكون وراءها ؟ وماذا فعلت معها ؟ ظاهرياً لم يكن لي أعداء حقيقيون وما اصطدمت أثناء عملي بأحد من رؤسائي ، وما توانيت في أداء عملي الذي يحكمه ضميري المهني . أسئلة كثيرة كنت أبحث عن إجابات لها فلا أجد ، ولا أجد من أشكو له حالي ، أو في يده طريقة لمساعدتي .
وأنكفئ على ذاتي شاكياً أمري إلى الله تعالى ، ومفوضاً إليه أمري .
السحر يأخذ مجراه
جئنا كعادتنا لقضاء الصيف في بلدنا ، وما كادت تستقر بي الإقامة ، حتى شعرت برغبة كبرى بالعودة إلى الكويت ، وبدأت أندم على مجيئي ، فما كان مني إلا أن حزمت أمتعتي عائداً إلى الكويت .(1/24)
كانت هذه العودة مثار دهشة أهلي ، وموظفي الحدود في آن واحد . فقد كان سفرنا ظهر يوم وقفة عيد الأضحى . وفي حين كانت فيه سيارات القادمين تشكل طابوراً ممتداً ، حيث يريدون قضاء عيد الأضحى بين أهليهم وأقاربهم ، فقد كانت سيارتي هي الوحيدة التي تقف عند ( المغادرين ) .
وكان الموظفون في الحدود لا يخفون دهشتهم فيسألونني : هل لك أقارب في الكويت ؟ فأقول : لا . فيقولون : أمرك عجيب . الناس يتدافعون هناك على طابور المغادرين ، وأنت لا أهل لك هناك – وتذهب إلى الحر والطوز (1)!!
لقد كان لهؤلاء الموظفين الحق كل الحق أن يُدهشوا ويسألوا ، فأنا نفسي لا أجد جواباً مقنعاً يرضيني ويرضيهم .
غادرنا حفر الباطن بعد استراحة قصيرة ، فغلب النعاس على زوجتي ، فأخذت إغفاءة قصيرة ، واستيقظت منها قائلة :
لقد رأيت في نومي الشيخ جابر أمير دولة الكويت ، يسير على قدميه ، وليس معه أحد متجهاً إلى حفر الباطن ، وقد دعوته أن يحل بضيافتنا ، فهزّ برأسه موافقاً عند العودة كان ذلك يوم 13/8/1989 أي قبل موعد الغزو العراقي للكويت بسنة تقريباً . فقلت لها : خيراً إن شاء الله ، الله يحمي الكويت مما سيحل بها .
* * * * *
__________
(1) - الطوز عاصفة رملية محملة بالتراب .(1/25)
وصلنا من سفرنا مرهقين ومتعبين ، فاستغرقنا الليل كله نوماً عميقاً ، تاركين متاعنا في السيارة . ولم يوقظني من نومي إلا قرع على الباب . قلت : من يا ترى يكون ؟ إن العمارة التي نسكنها كلها مدرسون مسافرون ، ولا أحد يعلم بوصولنا ، فقمت متثاقلاً وفتحت الباب لأرى أمامي ( أبا أكمل ) يحمل بيديه كيسين مملوءين ماءً وخبزاً ومعلبات وقال : الحمد لله على السلامة . دعوته إلى الدخول فرفض قائلاً : إنكم متعبون وسآتيكم مساءً . وفي المساء جاء لزيارتنا ، كانت علائم البشر طافحة على وجهه . قلت له : كيف عرفت بوصولنا ؟ فقال : كنت ماراً بقربكم فرأيت سيارتكم ، والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا يمر بالقرب من منزلنا ، وبيته بعيدٌ عنا ، وليس في شارعنا مَن له صلة به أو معرفة ؟.
وهذا يقتضي أن يكون مروره كل يوم منذ أَن أُخبر أننا انطلقنا من دمشق ولكن مَن ذا الذي يكون قد أخبره ؟؟
ولكنّه أردف قائلاً : إن هذا اليوم هو أسعد يوم في حياتي . هاتان الجملتان اللتان قالهما تحتاجان إلى تحليل طويل ، ربما يكتشفه القارئ من تلقاء نفسه بعد أن ينهي هذه التجربة معي .
وسألته عن زوجته وابنه فقال : هما في أمريكا مع ابنتي وصهري . قلت : ولماذا لم تسافر معهم ؟ فأجابني : إن لدي عملاً هنا في هذا الصيف ، يحتاج مني إلى تفرغ كامل وهدوء تام . ولم يفصح أكثر من ذلك .
رؤيا السبع
بدأ هذا العام الدراسي الأخير لنا في الكويت ، برؤيا صادقة رأتها زوجتي . قالت : رأيت في نومي أنني أنا وأنت خارجين من البيت ، وعندما أردنا الخروج من باب العمارة ، رأيت سبعاً ضخماً واقفاً مقابلاً للباب ، فلما رآنا نظر إلينا ثم زمجر فينا ، فخفنا منه ، وانكفأنا عائدين إلى البيت .
وربما يكون أفضل تحليل لهذه الرؤيا الصادقة هو ما ستسطره صفحات هذه التجربة ، ومجريات أحداثها .(1/26)
لقد كانت زوجتي تتقن رصف حبات السيلان الذهبي والفضي ترصع به الآيات القرآنية بحياكتها عليها ، فقام هذا الرجل ، وهو كما ذكرت كان خطاطاً ، بتخطيط لوحتين قرآنيتين للآيتين : ( وقل رب زدني علماً ) ثم ( ولسوف يعطيك ربك فترضى ) فقامت زوجتي برصفهما ثم وضعت كل واحدة منهما في برواظ جميل وعلقتهما في بيتي . ولا تزالان معلقتين في بيتي هنا . وما كنت أتوقع أن أحظى بنصيب وافر مما تتضمنه هاتان الآيتان من معانٍ .
أمام إتقان زوجتي لهذا العمل ، أحضر لها ذلك الرجل كيساً مملوءاً خرزاً ملوناً ذا أحجام مختلفة قائلاً لها : يمكن لك أن تطوري عملك فتصنعين من هذا الخرز عقوداً وأشكالاً جميلة . ولما لم يكن لديها فراغ إلى عمل كهذا ورغبة فيه ، فقد أهملته ؛ مما أتاح للصغار فرصة ليعبثوا به ، فانتشر في أرجاء البيت كله .
ثم كانت الخطوة التي واجهتنا ـ بعد انتشار هذا الخرز في بيتنا ـ هي أن تحدث مشكلة بعد مشكلة فيما بيننا وبين جيراننا . لقد مرّ علينا يوم كنا فيه إلى هؤلاء الجوار أكثر من أهل ، وهم كانوا كذلك بالنسبة إلينا . ولم يكن هناك خلاف مادي ولا معنوي وإنما جملة قالتها إحدى النساء ، ثم تفاقمت ، ثم انتهت هذه العلاقات العائلية الجميلة إلى قطيعة دائمة . ولم يكن هناك خلاف بين الرجال أبداً ، ومع ذلك فقد أصبح كل واحد منا يتحاشى الآخر ، ويتجنب الحديث معه .
ثم تطور هذا الأمر ، فلم يعد مقتصراً على جوارنا ، وإنما تعدى ذلك إلى أصدقائنا من بلدنا ، ولكن بلا مشاكل . محتجين في ذلك بانشغالهم ، ومسؤوليات أولادهم . وأصبح الحديث معهم مقصوراً على الهاتف .(1/27)
وهكذا بدأنا ندخل في عزلة اجتماعية شيئاً فشيئاً ، ولم يعد من أحد يزورنا أو يأتينا ، مما أفسح المجال أمام أبي أكمل ليأتينا كل يوم ، أحياناً مع عائلته ، وأحياناً بمفرده . وفي كل مرة كان يفتعل سبباً مقنعاً لمجيئه . فإذا شكونا له تسرب الماء في المطبخ ، حضر في اليوم التالي ، ومعه صندوقه المعدني ، وقام بإصلاح هذا التسرب على أكمل وجه . وحدّث بعد ذلك عن مهارته في إصلاح أي شيء من أعطال البيت ، ولوازمه ، من دهان ، إلى نجارة ، إلى فك البرادي وتركيبها ، إلخ .
هذا الخط العقلاني المرئي الذي كان يمارسه معنا ، كان يرافقه خط آخر لا عقلاني ولا مرئي ولست أدري اللفظة أو المصطلح الذي يمكن أن أطلقه عليه .
فقد لاحظت أنني إذا ما اقترب العيد مثلاً ، وكنت جالساً في البيت ، وتشهيت الحلوى الشامية الشهيرة في الأعياد ، كان الباب يقرع بعد ساعة أو أكثر ، لأجده وقد حمل لي علبتين من هذا النوع من الحلوى .
صحيح أنها مصنوعة في الكويت ، لكن ذلك كان كفيلاً بازدياد محبتي له ، على هذه الثنائية التي قامت بيننا .
ولا أزال أذكر أنني ـ وكان الوقت شتاءً ـ اشتهيت العنب ، وإذا بالرجل يأتي ومعه صندوق منه ؛ ويأبى أن يأخذ ثمن ذلك .
لست أدري ماذا أسمّي هذا ؟ ولكنه في كل الأحوال ، استطاع أن ينتزع محبتي له إذ أنني اعتبرت ذلك علاقة من نوع خاص ، تجاوزت فيه علاقة الأجساد ، لتصل إلى علاقة الأرواح ، في إطار من التواصل الروحي المتسامي .
* * * * *
لكن ظاهرتين جديرتين بالاهتمام في شخصيته كان لا بد من أن أشير إليهما :(1/28)
الأولى أنه كان إذا حضر إلينا سواء وحده أم مع عائلته ، فإنه لا بد له من أن يدخل الحمام في بيتنا . وكان في بعض الأحيان يطيل المكوث ، فإذا خرج أسرعت بإحضار المنشفة إليه ، فيشير إلى يديه ، فأنظر إليهما ، فأراهما جافتين لم يستعمل ماء أبداً . لكنني إذا كنت معه في السوق ، أو في بيته ، ولساعات طويلة ، فإني لا أراه يدخل الحمام مطلقاً .
وذات مرة شكت زوجتي من أنها فقدت قطعاً داخلية لها من الحمام .
والظاهرة الثانية التي لاحظتها ، هي أنه ما من دعوة على الغداء ، أو العشاء ، سواء كانت في بيتي أو في بيته ، كان يأكل منها . وكنت إذا ما ألححت عليه قال : إن وزني يزداد ، وأنا أتبع حمية من أجل ذلك ، فإذا ألححت أكثر لم يزد ما يأكله عن لقمة واحدة .
* * * * *
الحديقة
بقاؤه في الصيف الذي عدنا فيه مبكرين إلى الكويت ، دفعه إلى إنجاز حديقة في عمارة أخيه .
هذه الحديقة كانت مهملة ، لا خضرة فيها ولا ماء . ولم يمض شهران على عمله فيها حتى بدأت تخضر ، زارعاً فيها كل أنواع الخضر التي تحبها زوجتي . وكان مما زرعه فيها مدادة خضراء امتدت في فترة قياسية ، فعلقها على أعلى مدخنة بجوار الحديقة . هذا الاهتمام المفاجئ بالزراعة ، كان مثار دهشتنا .
لقد عمل فيها في جو حار لا يطاق ، وأمّن لها الماء اللازم ، وقام بوضع ممرات إسمنتية في وسطها ، وقسمها إلى أقسام ، حيث زرع كل نوع في قسم خاص به .
فكنا إذا لم نجد ( كزبرة ) مثلاً ، أحضرها لنا من حديقته ، وأشياء كثيرة كهذه كان يقطفها ويجلبها معه تشع بالخضرة التي عادة ما تكون مستوردة هناك .
مع رجل كهذا في علاقة ممتدة لسبع سنوات متتالية ، أصبح أولادي ، وقد بدأوا يكبرون أصبحوا يألفونه تماماً ويفرحون بقدومه .
ولكنه كان إذا رأى فرحتهم الغامرة به ، كانت تنفر دمعة من عينيه ويقول : والله لا أريد بكم أي أذى ، وسترون ذلك .
فإذا سألته : لماذا تقول ذلك ؟ مسح دمعته وقال : لا شيء لا شيء .(1/29)
ومع موعد اقتراب العطلة الإنتصافية ، اقترح علينا أن نمضيها في دمشق ، على أن نسافر معاً عائلته وعائلتي في سيارتنا حيث أنها كانت كبيرة وتتسع لعائلتينا .
لم يحدث من قبل أن فكرنا بقضاء عطلة الشتاء في بلدنا . لكنه شجعنا على ذلك ملمحاً أنه زار بلاداً عديدة ، وتبقى زيارة دمشق أمنية يتمنى لها أن تتحقق .
وعند لحظة السفر جاءت زوجته معه معتذرة عن مرافقتنا ، لأن لها ابن أخت قد أفرجت عنه إسرائيل منذ عهد قريب ، وهو موجود في مصر للعلاج ، وهي تريد أن تراه .
لقد كان من الواضح أنه عذر مفتعل ، وأنه يرغب أن يكون معنا وحده . وعلى الفور وضع حقيبته في السيارة ، وقال لي : سأقود عنك . فأُسقط في يدي .
كان سفراً مريحاً هادئاً ، وشعرت كأن السيارة لا تسير على عجلاتها ، بل يحملها الهواء . ونزلنا بضيافة أهل زوجتي ، لأن بيتي لم يكن مجهزاً لفصل الشتاء .
أمضينا في دمشق قرابة أسبوعين ، زرنا خلالها أقاربنا وتعرف عليهم ، كما أنني قمت باصطحابه إلى معالم دمشق الأثرية .
كان من بين هذه المعالم ، قبر صلاح الدين الأيوبي ، فطلبت منه قراءة الفاتحة على روحه . تمتم الرجل ، ولم يقرأ . ولما رآني أمسح وجهي بيديّ بعد قراءتها ، قام بمسح وجهه .
* * * * *
عدنا إلى الكويت ، فوصلناها صباحاً باكراً وكان يوم جمعة ، فانطلق بنا إلى بيت ابنته ـ وكانت قد تزوجت وأنجبت ـ فأيقظهم من نومهم .
فقاموا منزعجين ، وأنا معهم ، وقد حاولت عبثاً أن أقنعه بسوء تصرفه ، لكنه أصرّ ، وأدركت أن ابنته إنما تخاف منه خوفاً شديداً ، ولا تجرؤ على معارضته أبداً فأعدت لنا فطوراً على عجل ، ولم يكن بنا من جوع ، وكل ما كنت أرغب فيه أن أصل إلى بيتي .(1/30)
ولدى خروجنا طلب أن يقود هو السيارة ، فتركته ، وانطلق بنا ـ ماراً ببيتنا ـ إلى بيته . على الرغم من اعتراضي ، ورغبتي أن أستريح في البيت مع أولادي قبل أن تبدأ صلاة الجمعة . ولم أفلح في إقناعه ، ووجدنا أنفسنا أمام منزله . وفوجئت زوجته بنا ، وقامت لإعداد الغداء لنا بناء على أوامره .
وعلى وجه السرعة أعد لنا القهوة ـ وسمّها ما شئت فالمهم أنه كان شراباً أسود اللون ساخناً ـ فرفضتُ أن أشربها ، ويبدو أنه لم يصنعها من أجلي ، لكنه ألح على زوجتي ، فشربت كوباً من قهوة لها طعم مرٌ غير مستساغ على الإطلاق ، على ما وصفته فيما بعد .
تركتُ زوجتي وأطفالي عندهم ، وذهبت لأداء صلاة الجمعة . هذا الرجل كان منضبطاً تماماً لا تفلت منه كلمة تؤخذ دليلاً عليه في أي شيء، عفيفاً فلم ألحظ أبداً أن نظر إلى زوجتي نظرة مريبة . بل كان أحياناً ينبهها إلى انتقادٍ أخطأت فيه ، أو جملة في غير محلها . لكن ما كان ينقصه شيء من التدين سوى الصلاة .
وكنت أعتقد أنه لا يصلي كسلاً بها ، شأنه في ذلك شأن معظم الذين لا يصلون ، أما أنا فقد كنت ملتزماً بصلاتي ، لا يفوتني منها وقت منذ صغري والحمد لله .
أيام معدودات مرت بعد ذلك اليوم ، عندما بدأت زوجتي تعاني من آلام معوية حادة ، استدعت أخذها إلى المستشفى .
وقام الأطباء بفحصها ، فلم يعثروا على أي سبب لهذه الآلام ، فأعطوها مهدئاً . ولأسبوعين متتالين بعدها ، وفي يوم محدد من كل أسبوع ، كانت تلك الآلام تعودها . فكنت آخذها إلى المستشفى ، مما أضجر الأطباء منها ، فقال لها أحدهم : إن مرضك نفسي وليس جسمياً .
* * * * *
بدأ هذا الرجل يعزف نغمة جديدة ، فهو ما يفتأ يردد أمام زوجته السعادة الكبرى التي أحدثتها زيارته لدمشق معنا . وكذلك الحفاوة ، وحسن الاستقبال التي غمرته بكرمنا وضيافتنا .(1/31)
وأمام هذا كله ، فإنه لا يجد طريقة يعبّر عن امتنانه لنا ، ورد ضيافتنا بضيافة أحسن منها ، إلا أن يدعونا لقضاء إجازة الصيف ـ وقد اقتربت ـ في رحلة إلى أمريكا نقيم فيها عند أولاده . فقد أصبح له هناك ولدان متزوجان .
وقام على الفور برفع سماعة الهاتف ، متصلاً بولديه هناك ، طالباً منهم البحث عن بيت كبير يكفي لعائلتينا .
دعوة كهذه كانت كفيلة أن تفسح له المجال بالحضور إلينا كل يوم . وقد قام باصطحابي إلى شركات الطيران مستفسراً من كل شركة عما تمنحه من تسهيلات ، وأسعار لرحلة عائلية سياحية بهذا العدد الضخم .
وعندما وقع اختياره على إحدى هذه الشركات ، طلب منهم إدخال الأسماء في قائمة الحجز الذي يبدأ يوم 28/6/90 . وهو يوم بدء الإجازة الصيفية للمدرسين .
كنت إلى تلك اللحظة ، أنظر إلى الأمر على أنه نكتة . فمن ذا الذي يستطيع أن يتحمل نفقات سفر عائلتين مكونتين من أحد عشر شخصاً ؟ ناهيك عن تكاليف الإقامة ، ومتطلبات السياحة .
ثم من ذا الذي يستطيع أن يستمتع بإجازة سياحية ، ولديه هذا العدد من الأطفال ؟ لكن إصرار هذا الرجل على تنفيذ هذا الوعد كان عجيباً ، وبدأت أدرك أن الأمر ليس نكتة ، وإنما هو حقيقة واقعة .
وقام على الفور بشراء حقائب غالية الثمن ، قدمهم لنا ، كي نتمكن من انتقاء ما هو ضروري لسفرنا . لقد أصبح الحديث عن هذا السفر ، والمتعة التي سنجدها هناك ، أشبه ما يكون حديثاً عن الجنة الموعودة ؛ فأمريكا بلد الجمال والكمال والمتعة .
وبدأت ألاحظ على نفسي ، أن هذا الرجل عندما يكون عندنا ، فإنني أفقد القدرة على النقاش أو الرفض أو الاعتراض ؛ فإذا ما خرج من عندنا تعود لي قدرتي تلك فأبدأ أثور وأغلي لاعناً تلك الساعة التي سمحت فيها لهذا الرجل بدخول حياتي .(1/32)
وكانت زوجتي تقول لي : إذا كنت تستاء منه فاقطع صلتك به . فأقول لها : لقد احتملت هذا الرجل مدة طويلة ، ولا بد أن يكون لكل أمر نهاية ؛ ولا بد لي من أن أعرف ما وراءه . إنه يريد مني شيئاً ، لكنني لا أزال أجهل هذا الشيء ؛ ولن أدعه ينصرف عني حتى أعلم ماذا يريد مني .
وبعد أسبوعين تقريباً من اتصاله بأولاده هناك ، قال : إنهم يجدون صعوبة كبرى في تأمين منزل يتسع لهذا العدد الضخم ؛ ولهذا فهو يرى أن يكون سفرنا نحن الكبار فقط . وهنا برزت مشكلة الأطفال . فأين يمكن لنا أن نترك ستة أطفال ، أصغرهما توأم بعمرٍ يقل عن السنتين ، وأكبرهم لا يزيد عن عشر سنوات ؟ وأين يجب أن نتركهم ؟ في الكويت أم في دمشق ؟
وقدّم لنا اقتراحات عديدة منها : أن نحضر خادمة تقوم على رعايتهم في الكويت . وكان هذا الاقتراح مرفوضاً مني ، فلست مضطراً لأن أترك أولادي بين يدي خادمة ، أجنبية ، لا تجيد لغتهم . وليس هناك من ضمان بحسن رعايتها لهم .
وأمام رفضي هذا ، اقترح أن تسافر زوجتي مع زوجته بمفردهما ، ونسافر نحن والأطفال إلى دمشق . فإن وجدنا هناك من يرعاهما . سافرنا معاً من هناك إلى أمريكا لاحقين بأزواجنا . وكان هذا الاقتراح أقرب إلى التنفيذ .
وبدأ على الفور بإحضار طلبات الزيارة إلى أمريكا ، وقمنا بوضعها على جوازات السفر لنا جميعاً . كانت حيرتي فيما أواجهه كبيرة ، ومعاناتي صامتة ، ولا أجد أحداً من حولي ألجأ إليه ، فكنت ألجأ إلى الله تعالى في صلاتي ، وفي مناجاتي ، طالباً منه رفع هذه الغشاوة عن عيني وأن يبصّرني طريقي ، وأن يهديني سواء السبيل .(1/33)
وأمام الصعوبات التي يمكن لها أن تواجهنا في دمشق . وخاصة في رعاية هؤلاء الصغار ، فقد أبدى اقتراحا جديداً جريئاً قال : إنني أرى أن تسافر زوجتك وحدها في مطلع الشهر القادم ، وسيتكفل أولادي برعايتها هناك ، وتنظيم جدول لتعريفها بالمناطق السياحية ، وتعود مع بداية إجازة الصيف ، فتنطلقون جميعاً من هنا إلى دمشق .
قلت له : إن هذا الاقتراح هو أفضل اقتراح سمعته ، ولكنني أشعر بدهشة كبرى إذ أجدك مصراً على سفرها إلى أمريكا .
قال : إنني فقط أريد أن أرد لها بعضاً من التكريم الذي حظيتُ به منها ومن أهلها .
وذهب على الفور ليعود ومعه تذكرة سفر تبدأ من 1/6 ، ومع التذكرة مبلغ قدره ألفا دولار هما نفقات إقامتها هناك .
وسألته : ومن أين أحضرت ثمن التذكرة وهذا المبلغ ؟ ولا أزال أذكر كيف ضرب بيديه على جيبه قائلاً بثقة مفرطة : أنا لا يمكن أن يخلو جيبي من أي مبلغ أريده !!
قلت : وهل لك دخل غير راتبك وراتب زوجتك ؟ فقال بسخرية : أنت ماذا تعرف ؟ وقلت في نفسي : لقد رافقتك لسنوات طويلة ، وأنا أعرف كل صغيرة وكبيرة عنك وعن عائلتك ، وما أجهله اليوم لا بد لي من معرفته ذات يوم .
لقد أصبحت التذكرة في حوزتنا ، ومعها مبلغ كهذا ، فالأمر الآن قد أصبح حقيقة .
وسألت زوجتي : هل ترغبين حقاً بالسفر إلى أمريكا ؟
قالت : لست راغبة به مادمت لست معي . وكيف يمكن لي أن أترك زوجي وأولادي لأذهب في رحلة بمفردي إلى بلاد لا أتكلم لغتها وليس لي فيها من أحد أعرفه ، أو ألجأ إليه ؟
قلت لها : إذاً دعيني أتصرف معه بالطريقة التي أراها مناسبة ، وعندئذٍ سترين ما سأفعله به .
* * * * *
الأربعاء 29/5/90
تاريخ هذا اليوم لا يمحى من ذاكرتي ، فهو تاريخ الرؤيا الصادقة التي حسمت نهاية هذه القصة ، ووضعت حداً لها .(1/34)
ففي الساعة الرابعة عصراً ، دخل الأولاد إلى غرفتي ـ وأنا في قيلولتي ـ قائلين : العم أبو أكمل على الباب . فقلت لهم : أدخلوه . وخرجت من غرفة نومي متثاقلاً ، وأنا أمسك رأسي بيديّ . فرحبت به فقال : ما بك ؟ قلت : إنني أشعر بصداع شديد ، وقد رأيت رؤيا أزعجتني .
وقمت فتوضأت وصليت العصر ، وجلسنا نشرب القهوة . فسألتني زوجتي عن رؤياي فقلت : انتظري حتى يهدأ صداعي .
قال : إنني ذاهب إلى سوق السمك وأريد أن أصطحبك معي . فارتديت ملابسي وذهبنا . قام بشراء السمك ، وعرّج على ابنته ، وعدنا .
ولم يكن من عادته أن يدخل بيتنا مرتين في يوم واحد ، فقلت له عندما وصلنا وأردت النزول من السيارة : تفضل . فأطفأ محرك السيارة ونزل .
لقد كانت دعوتي كلمة عابرة ، ما توقعت أن يأخذها على محمل الجد . وجلسنا . بادرتني زوجتي قائلة : ما الرؤيا التي رأيتها ؟ فقلت لها : نعم ، تذكرت .
* * * * *
الرؤيا
( رأيت كأن صالون بيتنا هذا قد أصبح حماماً لكنه بارد ، وأنا أرتدي ملابسي التي اعتدت أن أرتديها وأنا في البيت .
وفي قدميّ قبقاب خشبي جلده ملون منقوش ، وكأن الماء قد دخل على الصالون ، وابتلعته الأرض ، فبقيت هوام هي عبارة عن حشرات ميتة طافية عليه .
وكان هناك حوض ماء ، فاقتربت منه لأتوضأ ، فنظرت إلى قدمي اليسرى ، فرأيتها تكاد تلامس حية رفيعة طويلة جداً وملتفة على شكل دائري ، ميتة لا حياة فيها ، وذات رأس سوداء كبيرة .
وأمّا باب بيتنا هذا ، فرأيته باباً صغيراً قد أصبح وراءنا )
قالت : وما تأويله ؟
قلت : الحية التي لامست قدمي هي عدو لي على أية حال .
قالت : ومن يكون هذا العدو ؟ إنني لا أعلم أن لك أعداء .
قلت لها : ما من أحد يدخل علينا سوى هذا الرجل ، وأشرت عليه بإصبعي .
فما كان منه إلا أن هب واقفاً ، وانطلق إلى الباب مسرعاً هارباً لا يلوي على شيء . ولم نعد نستطيع أن نلحق به .(1/35)
شعرت ـ عندئذ ـ بأن الجبال التي كانت جاثمة على صدري قد زالت ، وأن الحمل الثقيل الذي تنوء به كتفاي قد نزل عني ، وأن لساني قد انطلق متحرراً من قيد ثقيل . فقلت لها : أحضري لي كتاب ابن سيرين رحمه الله تعالى .
وبدأت أبحث فيه بحث من يريد أن يجد ضالته . إنه بحث الباحث عن الحقيقة الغامضة . وتوقفت عند العبارات التي وردت في الرؤيا ، متصفحاً الكتاب سطراً سطراً . ونطق أخيراً ابن سيرين بما حوته رؤياي من معانٍ ورموز .
فالحمام الذي رأيت نفسي فيه ، وكان بارداً يقول عنه : فإن كان فيه بأثوابه ، فالأمر من ناحية أجنبية ( أي امرأة ) أو من بعض المحرمات كالأم والابنة والأخت .
وتأملت اللفظة الأخيرة منها وهي ( الأخت ) .ألم يكن زوج تلك المرأة التي سكنت عندها يقول عنها : إنها أخت لك ؛ وأنك أخ لها .وهي في كل الأحوال امرأة أجنبية محرمة عليّ .وهل يكون من المعقول أن تكون تلك المرأة وراء كل ذلك ؟ إنها تعمل في بلد آخر ، وليس هناك أدنى قرابة أو معرفة من أي نوع بينها وبين هذا الرجل . وكلاهما من جنسية بعيدة عن الأخرى . وإذا كانت هناك علاقة من نوع ما بينهما ، فكيف يمكن أن تنشأ علاقة كهذه بعد هذا الذي وصفته ؟
وأما العبارة الثانية في الرؤيا ، أن الباب كان صغيراً وأصبح وراءنا فيقول : وإن رأى أنه دخله من قناة أو طاقة صغيرة في بابه ، وكان فيها حيات ، فإنها امرأة يدخل إليها في زينة ، ويجتمع عندها مع أهل الشر والفجور من الناس .(1/36)
وهذا الرجل كان يأتي وحده في زينة ، ولم يكن يحضر معه أحداً من الناس ، وإذاً فإنه كان يحضر معه شياطينه من الجن . واستوقفتني لفظة ( عندها ) لا ( معها ) فهو إذاً كان يحدّد لشركائه المكان الذي سيتواجد فيه ليلحقوه . وبدأت الآن أدرك أنه يجتمع بهم في حمام بيتنا . ولهذا كان في كل مرة يأتي إلينا يدخل حمامنا . ولم يعد لدي أدنى شك ، بأنه هو الذي قام بسرقة القطع الداخلية لزوجتي التي كانت عادة ما تضعها في الحمام .
وأما الرمز الثالث فهو الحية . ويقول ابن سيرين عنها : هي أعداء ، وبها توسل إبليس إلى آدم ، فإن كانت الحية ميتة فهو عدو يكفيك الله شره من غير حول ولا قوة .
وأما الرمز الرابع والأخير ؛ فلقد كان القبقاب الخشبي ذا الجلد المنقوش فيقول عنه : والحذاء الخشبي الملون هو امرأة منافقة ذات تخليط ، فقلت لزوجتي : إن هذا الرمز يعنيك فإنك تخلطين بين العمل الصالح وسواه . فنهضت باكية شاكية أمرها إلى الله عز وجل معلنة بصوت عال توبتها مما هي عليه .
لقد كانت رؤيا صادقة واضحة ، لا لبس فيها ولا غموض ، أجابت إجابة مباشرة عن مئات الأسئلة التي كانت تدور في خاطري . واصفة بدقة متناهية مجريات الأحداث اللامرئية والعلاقات التي تجري بين عالمين أحدهما لا مرئي .
لقد حُبكت جزئياتها في كل متماسك ، يعجز عنه خيال الشعراء مهما كان محلّقاً . وكانت فتحاً إلهياً حقيقياً ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ، وبداية ممتدة للوصول إلى تلك الكرامة التي عرّفها الإمام اللقاني في مطلع هذا الفصل .
وسائلي الدفاعية(1/37)
ولما كنت أفقد أية وسيلة من وسائل الدفاع عن نفسي ، ولم أكن أملك أدنى فكرة عن ذلك العالم اللامرئي ، وأنا الذي أنفقت عمري في مجالس العلم ، واجتهادات العلماء ، وفيما كتبه المفسرون قبلي ، لأجد نفسي بعد ذلك جاهلاً تماماً كجهل أي عاميّ أو أميّ . وإذا كان هذا حالي ، وأنا المتعلم المثقف ، فما هو حال عامة الناس ؟ لقد رثيت لحالي وحالهم على حد سواء ، فكلنا أميون جهلاء . ومن هنا بدأت أدرك أن هناك ثغرة كبرى بل ثغرات ، لم يستطع السابقون ولا المعاصرون أن يسدوها من خلال فهم حقيقي للقرآن الكريم .
وإن جملة حديثهم أو كتابتهم عن عالم الجن ، وعالم إبليس ما هو إلا كلام ظاهر سطحي لا ينشر ظلاً واضحاً ولا يوضح حقيقة .
أمام هذا الواقع المستجد كان لا بد لي من أن أبحث ـ بمفردي ـ عن وسيلة أدافع بها عن كياني وأسرتي . فقلت لزوجتي : بدءاً من هذه الليلة ، لن ننام قبل صلاة الفجر . وسنبقي البيت كله مضاء ، وباب الحمام مفتوحاً ، وسنضع شريطاً قرآنياً في المسجل يظل مسموعاً طوال الليل .
لقد كان قراري هذا مبنياً على معلومات بسيطة فطرية لاعتقادي أن القرآن الكريم وحده هو الذي سيقوم بطرد هؤلاء الشياطين لدى سماعهم له ، وأما يبقى البيت مضاء فذلك لأن النور يزعجهم ، وألا ننام قبل صلاة الفجر خوفاً من أن يوقعوا علينا أذىً ونحن نائمون .
أمضيت اليوم الثاني ، وأنا أنتظر مجيئه ، ولكنه لم يحضر . ومرّ الليل وأنا أتوقع أن يتصل بي هاتفياً ، ولم يفعل . وكان ذلك حدثاً كبيراً له مغزاه .
فهذا الرجل رافقني مرافقة ظلي لسنة كاملة ، لم يتغيب عن الحضور فيها ، أو الاتصال بنا يوماً واحداً .(1/38)
لقد كان سبعاً واقفاً على بابنا ، منعنا من الخروج ، ومنع غيرنا من الدخول إلينا . لقد عزلنا ، ونجح في ذلك . وها هو ذا اليوم الأول الذي لا نراه فيه ولا نسمع صوته . لقد أسعدني ذلك كثيراً ، ولكن سعادتي الكبرى كانت أنه فهم الرسالة التي قالتها تلك الرؤيا له وأدرك مغزاها .
وفي الساعة الثانية تماماً بعد منتصف الليل ، غالبني نعاس شديد مفاجئ ، فقلت لزوجتي : أنا داخل إلى غرفة النوم لآخذ إغفاءة قصيرة فكوني جنبي ، فإذا ما أحسست أي شيء يصدر عني فامسكيني وكبّري . وكأنني كنت بكلماتي هذه أستقرأ الغيب .
فما كاد النوم يملأ أجفاني ، ولكنني لا أزال في أدنى درجات اليقظة ، حتى شعرت أن هناك جسماً دخل من أصابع قدميّ ، ومشى في ساقيّ ، حتى وصل إلى رقبتي ، فوضع أصابع يديه على حلقي ، يريد خنقي .
وأمام ضغطه المتواصل على عنقي ، بدأ صوتي يتحشرج حشرجة النزع ، وأخذت أتقلب يمنة ويسرة على فراشي ، فقامت زوجتي وأمسكت بكتفي ، وبدأت تهزني وهي تكبّر ، الله أكبر ، الله أكبر .
فصحوت وأنا أتحسس رقبتي ، وكأن أصابع ذلك الشيطان لا تزال عليها ، وكبرت معها وخرجت إلى الصالون . لقد كان خنقاً حقيقياً مادياً بكل ما تعنيه هذه الكلمات .
بدأ اليوم الثالث من تاريخ تلك الرؤيا ، وكان يوم جمعة في 31/5/1990 ، واتصل بي عصراً قائلاً : ما رأيكم بالخروج إلى الحديقة ، فالجو مقبول ، ويمكن للأولاد أن يتحرروا من جلوسهم الدائم في البيت ؟ فوافقت وقلت له : سآخذكم بسيارتي .
وصلنا إلى الحديقة ، فسارع الأطفال إلى ألعابهم ، بينما ذهبت الزوجتان يتمشيان . وجلسنا منفردين نراقب الأطفال وهم يلعبون . كان الجو فيما بيننا مشحوناً ، وتعابير وجهه تنم عن معان شتى .(1/39)
وقام وحده يتمشى ، وكانت زوجتي وراءه تظن أنني سأتبعه ، فسمعته وهو يقول : لقد هدّم كل ما بنيته . ففاجأته زوجتي بسؤالها : عمّن تتحدث ؟ فقال : عن زوجك . إنه يرى منامات كلها خربيط ، وكل ما يراه إنما هو بسبب طعامك الدسم الذي يملأ معدته .
لقد كان هذا الرجل يقابل تأويلي لرؤيا الناس بسخرية وتهكم . فلماذا هو نفسه يقبلها اليوم ولكنه يتحايل عليها ؟
عدنا إلى البيت ، وقد اتفقنا أن نذهب غداً إلى السفارة الأردنية للحصول على تأشيرات مرور لنا وله .
لقد كان كالغريق الذي يحاول أن يمسك بأي شيء ينقذه مما هو فيه . وكنت قد عقدت العزم أن أجبره على أن يجد هو المخرج لنفسه ، ولن أمنحه أية فرصة يتخذها حجة علي أمام زوجته وابنته وأولاده .
لقد دخل حياتي رغماً عني ، واحتملته لسنوات طويلة ، وأنا أحلم باليوم الذي تنتهي فيه علاقته بنا ، وهاهو ذا اليوم المنتظر قد جاء ، وليخرج من حياتي رغماً عنه كما دخلها رغماً عني .
في الساعة الثانية تماماً بعد منتصف الليل ، شعرت زوجتي بنعاس مفاجئ كالذي شعرت أنا به في الليلة السابقة . فطلبت منها أن تأخذ إغفاءة قصيرة .
وكان شيء ما في داخلي يملي عليّ أن أظل بقربها صاحياً ، خوفاً من أن يحدث لها ما حدث معي . وكان ما توقعته صحيحاً . فما كادت تغمض عينيها حتى بدأ جسمها يرتجف ويهتز بعنف ، وتصدر عنها حشرجة مسموعة ، فأمسكت بها بكلتا يديَّ ، أحاول رفعها لكنها ترتجف وتهدأ ، ثم ترتجف وتهدأ حتى أتمت سبع رجفات ، وأنا خلالها أصيح بكل صوتي : الله أكبر الله أكبر ، ثم استجمعت قواي فأنهضتها وأنا أكبّر . وخرجت بها إلى الصالون ، ودموعها تملأ مقلتيها ، وتسير متثاقلة وأنا أحاول أن أمسك بها خشية الوقوع .(1/40)
كان صوت القرآن في المسجل يزيدنا ثقة بالله سبحانه ، ويضفي على أرواحنا ذلك المعنى الخالد بأن الله معنا . وقلت لها : لقد صرف الله أذاهم عني وعنك ولن يعترضوا لنا بعد اليوم . وهكذا يكون هذا العدو قد صرف الله عنا أذاه بلا حول ولا قوة منا .
السبت 1/6/1990
في الساعة العاشرة من صباح هذا اليوم ، حضر بسيارته فركبنا معه ذاهبين إلى السفارة وهناك أخذوا منا جوازات السفر وقالوا : عودوا بعد ساعتين .
كان الجو حاراً لا يطاق ، فاقترحت أن نذهب إلى ( الكوفي شوب ) في فندق الشيراتون . وما كدنا نجلس على الطاولة المطلة على حوض السباحة ، حتى قام هذا الرجل قائلاً ، اعذروني سأدخل الحمام . لعنه الله ولعن حماماته . لماذا لا يحلو له أن يدخل الحمام إلا إذا كان عندنا أو معنا ؟
كنت أنا وزوجتي في كامل وعينا تجاهه ، فغمزت زوجتي لتتأمل ملابسه . لم تطل غيبته فرجع ولم يتغير من انضباط ملابسه شيء ، وبادرنا قائلاً : إن هذه المرة هي المرة الأخيرة التي نلتقي فيها . لقد نطقها أخيراً ، وخرج من حياتنا رغماً عنه كما دخلها رغماً عنا .
فسألته متهكماً : لماذا ؟ هل بدر منا شيء يستحق أن تقاطعنا من أجله ؟ ثم هل من المعقول أن تنتهي صداقة ممتدة لسبع سنوات هذه النهاية في يوم واحد ؟
وبدأت الدموع تغلي في عينيه فقال : ربما تكون هذه السنة هي أسوأ سنة في حياتي . وما سيحدث فيها ربما تكون فيها نهايتي .
وتحدث – بعدئذ – حديثاً تافهاً عن فشله في زواجه ، وهذا ما دمّر له حياته . وأدركت أنه يريد أن يغطي فشله معنا بفشله في زواجه .
لقد تحملت زوجته منه مالا تتحمله أية زوجة مع زوجها ، وها هو ذا الآن ينكر ذلك كله .
عدنا إلى البيت مارين بالسفارة ، فأخذنا جوازات السفر ، وعندما وصلنا ، قلت له : تفضل كانت كلمة عابرة ، فيها معنى الطرد . وما ظننت أبداً أن يأخذها موضع جد . فالوقت وقت غداء وقيلولة . لكنه نزل .(1/41)
سارعت زوجتي لإعداد الغداء ، وجلست معه ، كان صامتاً حائراً ، وألمح إلى سفر زوجتي إلى أمريكا فقلت له : إن هذا الموضوع قد تأجل ، فهناك مستجدات أخرى أهم منه . ووضعنا الغداء ودعوناه ، فرفض . وظل جالساً ، فألمحت له أن موعد قيلولتي قد حان ، فلم يحرك ساكناً أيضاً .
ونظر إلى التلفاز فرأى صورته غير منتظمة فقال : أليس له خط خارجي ؟ قلت : بلى . فقام على الفور ، وصعد على السطح ، ثم اعتلى بيت الدرج ، فأمسك بالخط فوجده مقطوعاً ، فاقترب من حافة السطح اقتراباً خطيراً كمن يريد أن يهوي منتحراً ، فخفت أن يفعلها ، وإذا فعلها فما من أحد غيري سيتهم به ويرميه عن عمد . فتركته مسرعاً وعدت إلى البيت . لكنه أصلح الخط بعد أن ربطه بالشبكة وعاد .
وفي الساعة السادسة مساءً جاءني طالبٌ اسمه أنور هو أخ لصديق لي . فتيمنت باسمه ، وأعطيته ساعتين متواصلتين ، والرجل جالس .
وسألت نفسي ماذا أفعل به ؟ هل أطرده علناً ؟ إن أقدمت على فعل كهذا ، فسأكون كمن قدم له سبباً على طبق من ذهب .
وفي الساعة الثامنة والنصف رن الهاتف ، وكان المتحدث معي على الخط طالباً في الثانوية العامة يدرس حراً . فسألني هل سأحضر اليوم ؟ قلت له : نعم . ولكن عندي ضيف الآن وهو على وشك الذهاب ، وسأكون عندكم بعد نصف ساعة .
قلت هذا الكلام على الهاتف وهو بجانبه ، وقلته بصوت عال حتى يسمعه هو . وفي الساعة التاسعة إلا ربعاً قلت له : عن إذنك ، لم أعد أستطيع أن أتأخر أكثر من ذلك ولا أستطيع أن أتركك في البيت ، فقام متثاقلاً وانصرف .
رفعتُ سماعة الهاتف فوراً ، واتصلت بالطالب ، واعتذرت منه عن حضوري الليلة . فسألتني زوجتي : لماذا اعتذرت ؟ فقلت لها : إن هذا الشيطان سيتصل بك في الساعة التاسعة والربع لاعتقاده أنني خارج البيت . فإذا اتصل فارفعي السماعة وتصرفي وكأنني غير موجود ، وسأرفع السماعة الثانية في غرفة النوم .(1/42)
لقد حدث ما توقعته بدقة متناهية . ففي تمام الساعة التاسعة والربع رن الهاتف قائلاً : كيف حالكم ؟ هل ذهب زوجك إلى طلابه ؟ وماذا تفعلين ؟ قالت إنني أقوم بإعداد العشاء للأطفال .
فقال لها : كيف يمكنك أن تتحملي رجلاً فظاً غليظاً كزوجك ؟ وكيف يمكن لأهلك أن يتحملوه ؟ فغمزتها أن تواصل ، فتابع قائلاً : إنك امرأة شفافة حساسة ، وكان يجدر بكِ رجلٌ آخر يعرف قيمتك أكثر منه . وهنا أشرت لها أن تقطع المحادثة فقالت له : إن الصغار يبكون من الجوع ، ولديّ وجبات غسيل كثيرة . وأغلقت الهاتف .
هذه هي المرة الأولى التي يقول فيها هذا الرجل كلاماً فيه إساءة مباشرة لي . كان كلامه تحريضاً لزوجتي كي تتركني وتلحق به .
وهكذا يكون هدفه من سفرها وحيدة واضحاً وضوح الشمس ، إنه سيسافر معها على الطائرة نفسها التي كانت ستطير عليها . وهناك لا أحد يعلم سوى الله عز وجل ماذا سيفعل ذلك الرجل بها . أليس هذا التفريق هو الهدف الذي يسعى إليه الشيطان وعملاؤه في التفريق بين المرء وزوجته ؟ ولكنهم على قوة مكرهم ، كان مكر الله أكبر منهم .
صباح الأحد فجراً 2/6/1990
يقول الله تعالى في آخر سورة الجن { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً ، إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً } [ الجن :28] .
إن لفظة ( رسول ) في الآية الكريمة جاءت نكرة بمعنى ( رسول ) يراد له أن يُبلّغ أمراً ما .
ولا تعني أبداً الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . لأنها لو عنته لجاءت معرّفة بأل وتكون أل في هذا الحال أل العهدية .
لقد كان الله سبحانه وتعالى عالماً بي ، وما كان ليدعني حائراً متحيراً في حالي وحال ذلك الرجل . ولكي يطمئن قلبي ، ويثبت فؤادي ، فقد أكرمني بهذه الرؤيا التي فيها إطلاع على الغيب بحسب حالتي .(1/43)
لقد كانت نافذة صغيرة فتحت من نوافذ الغيب لأطلع على ذلك العالم اللامرئي الذي سبب لي وللكثيرين غيري معاناة طويلة .
صليت الفجر صباح يوم الأحد ونمت ، وما كادت عيناي تغمضان حتى رأيته في نومي ، جالساً على كرسي مستدير قصير متحرك في وسط صالون بيته ، هذا الكرسي أعرفه جيداً ؛ وكانت نوافذ بيته كلها مشرّعة ، ويصفقها هواء شديد مزعج ، فتنفتح على أقصاها وترتد محدثة صريراً حاداً مزعجاً .
وكان يتحرك بكرسيه مرتاعاً محتاراً لا يدري ما يفعل . ورأيت على حواف كنباته من الأعلى أقزاماً ذوي لون أسود ، وشعر أجعد ، يرتدون دشاديش بلون بترولي ، يزيد عددهم عن العشرة ، وكلهم بطول واحد تقريباً ، لا يزيد عن ثلاثين سنتيمتراً . وكلهم يقفزون ويضحكون ساخرين به مستهزئين منه . فقلت له : أبا أكمل ! ما بك ؟ فقال : إن العفاريت تتنطط في وجهي .
واستيقظت من نومي صباحاً ، وكنت معتاداً أن أخرج من البيت في تمام الساعة السابعة إلا ربعاً لكنني هذا الصباح آثرت الانتظار توقعاً بأنه سيتصل بزوجتي بعد خروجي .
وهو يعلم موعد خروجي فقد عملنا معاً لأربع سنوات متتالية . وفي تمام الساعة السابعة والربع رن الهاتف ، فكان هو .
رفعت زوجتي السماعة فصبّح عليها وقال : ما هذا الذي فعلتموه بي في هذه الليلة ؟ قالت : وماذا يمكننا أن نفعل ؟ لقد خلدنا إلى النوم طوال الليل بعد نهار طويل مضنٍ معك . فقال : إنني لم أستطع النوم لأن العفاريت كانت تتنطط في وجهي .
فصرخت من شدة فرحي بما أكرمني ربي به الله أكبر الله أكبر ، لقد نطق في اليقظة الجملة نفسها التي أنطقها الله على لسانه في نومي .
هذه هي الحقيقة الكونية الخالدة ( وهو معكم أينما كنتم ) نائمين أو مستيقظين هو معنا . لم تكن رؤيا صادقة فحسب ، بل هي لمحة من ملامح الغيب ، الذي أكرمني الله به فأطلعني عليه .
* * * * *
السبت 8/6/1990(1/44)
كنت مدرساً منتدباً لتصحيح أوراق الثانوية العامة في امتحان مادة اللغة العربية . ومن الطبيعي أن ينتدب هو للمراقبة في امتحانات آخر السنة ، باعتباره مدرساً قديماً في التعليم المتوسط .
وكان هذا يقتضي مني ألا أعود إلى بيتي قبل الساعة الثانية ظهراً ، لكنه يعود إلى بيته في الساعة الحادية عشرة والنصف قبل الظهر .
هذا الفارق الزمني بين عودته وعودتي ، كانت له قيمته القصوى بالنسبة له . حيث أنني لا أكون موجوداً في البيت من ناحية ، وزوجته أيضاً ليست موجودة في البيت لأنها منتدبة مثلي لتصحيح أوراق امتحانات الثانوية العامة . وهذا يمنحه وقت طويل يتحدث فيه مع زوجتي وهو مطمئن .
ولما كانت هذه التجربة قد علمتني ، أن أستقرأ الأحداث قبل وقوعها ، فقد دفعني ذلك إلى تقديم اعتذار عن التصحيح لأسباب شخصية . وقُبل الاعتذار فعدت إلى البيت على جناح السرعة . وما توقعته حدث بدقة . ففي تمام الساعة الحادية عشرة والنصف رن الهاتف فقلت : لا أحد يرفع السماعة سواي .
رفعت السماعة وقلت : ألو . فصدمه صوتي إذ لم يكن يتوقع أبداً وجودي في هذه الساعة فتردد أيغلق الخط أم يتكلم ؟ ثم حسم أمره وقال : مرحباً . كيف حالكم ؟
قلت له : إننا بخير ما دمت بعيداً عنا .
قال : إنني أريد أن أزيل سوء التفاهم الذي وقع بيننا .
فقلت له : اسمع . هذه هي المرة الأخيرة التي أسمع فيها صوتك . وأقسم بالله لئن اتصلت ثانية ، وإن رأيتك في حيّنا ، أو في عمارتنا ، فإنني سآتي إلى بيتك ، قاصاً لسانك ، ومحطماً قدميك بيدي ، وسأسلم بعدها نفسي للشرطة طواعية ، وأغلقت الخط . وكان ذلك آخر عهد لي به . لكنه لم يكن آخر عهد له بي .
الرؤيا الرابعة
ليلة الأحد 9/ 6/1990
في هذه الليلة ، رأيت في نومي زوجته ترتدي دشداشة حمراء ، وهي واقفة في الممر الصغير ما بين باب البيت والصالون ، ويقف هو وراءها متوارياً بها عني ، وأريد أن أهجم عليه لكن زوجته تحاول منعي من الوصول إليه .(1/45)
قصصت هذه الرؤيا على زوجتي وقلت لها : إن زوجته ترتدي دشداشة حمراء وهو لون الفرح والبهجة ، فهي سعيدة جداً للحال التي انتهت إليها هذه العلاقة . ولكنها لم تدخل البيت إلا ولها طلب عندي تريده مني .
وفي الساعة الواحدة ظهراً رن الهاتف وكان المتحدث على الخط زوجته ، فرحبت بها وقلت : إن فضلك علينا كبير جداً ، لقد حمّلك زوجك من أجلنا ما يفوق طاقة أية امرأة .
قالت : إن لي طلباً واحداً عندك هو أن ترد على زوجي المائة دولار التي أودعها أمانة عندك .
قلت لها : إنك لك الحق أن تحضري في أي وقت تشائين ويكون صدر البيت لك ، أما هو فلا يدخل بيتي أبداً . ولهذا أرى إما أن تحضري بمفردك ، وإما أن تأخذيها من أسفل العمارة إن كان هو معك .
قالت : إذاً سآخذها من أسفل العمارة .
قلت : في الساعة الثانية ظهراً ستجدين ابني بانتظارك ومعه المائة دولار وتذكرة الطائرة والألفا دولار . فحضرا فأخذاهما وانطلقا .
الرؤيا الخامسة
البيت قاعة مطار
في هذه الليلة رأت زوجتي صالون البيت كأنه قاعة مطار للمسافرين ، وأن هناك ركاباً مجهولين كثيرين يحملون حقائب سفرهم . فلما سألتهم : لماذا يسافرون ؟ أجابها أحدهم قائلاً : لم يعد لنا مقام هنا .
فقلت لها : بشراك . لقد خرج شركاؤه من بيتنا بعد أن خرجت المائة دولار منه .
لقد كانت هذه المائة دولار تعويذته اللعينة التي كانت إن أدخلها بيتاً ، إذناً لشركائه بدخول ذلك البيت . لكنّ الحديث عن هذه المائة دولار سيعود بعد ثلاث سنوات تقريباً . إلى هنا ويكون الستار قد أسدل على الفصل الأول من هذه الرواية .
لقد بدأ هذا الفصل بالرؤيا الصادقة التي رأيتها عام 1983 ، وكان هذا الرجل الضحية الأولى التي أصبتها في تلك الرؤيا ، وهاهو ذا ينتهي بهذه الرؤيا الصادقة التي رأتها زوجتي .(1/46)
لكن رؤيا عام 1983 لا يزال فيها رجلان لم يدخلا البيت لكنهما كانا وراءه . هذان الرجلان هما ضحايا المرحلة الثانية أو الفصل الثاني من هذه الرواية .
لقد طويت صفحة هذه التجربة التي بدأت في الكويت ، لتبدأ صفحة جديدة أخرى ولكن في دمشق هذه المرة .
رؤيا ابنته
مرّ أسبوع كامل على انقطاع هذه الصلة بيننا وبينهم نهائياً . وإذا بالهاتف يرنّ . كان المتحدث على الطرف الآخر ابنته الوحيدة ، وكان قد مضى على زواجها أربع سنوات وأصبح لديها طفلان .
قالت ابنته : إنني مستاءة جداً لهذه النهاية التي وصلت إليها هذه العلاقة فيما بيننا . قلت لها : إنني – يا ابنتي – لا أستطيع أن أشرح لك الحقائق التي تتعلق بوالدك .
قالت : لقد اتصلت بك لأنني رأيت رؤيا عن والدي وأريد أن تعبّرها لي .
قلت : خيراً إن شاء الله . قولي ما رأيتيه .
قالت : رأيت في نومي دمعة على خد أبي لكنني لم أره باكياً .
قلت : يا ابنتي لا أستطيع أن أعبّر لك هذه الرؤيا . لأنها ما تقوله عن والدك لن يرضيك .
قالت : بل لا بدّ لك من أن تعبّرها ، لأنني لدي الكثير مما لا أفهمه عنه .
قلت : ما دمت مصرّة فسأقول . وذنبك على جنبك .
إن والدك هو ابن زنا ، وهذه حقيقة لا اتهام . ولأنه كذلك فقد اختاره أولئك الشركاء ليكون شريكاً لهم . فلكل شيء مصدر ، والدمع مصدره العين ، وما كان ليس له مصدر فمصدره لا مرئي . بكت الفتاة بصوت عال وقالت : لقد أرحتني إذ أنك بصرتني بحقيقة والدي والآن بدأت أفهم ما كنت أحاول أن أفهمه ولكنني لم أستطع .
قلت : وما الذي كنت تحاولين أن تفهميه ؟
قالت : إنّ زوجي مهندس مدني يدير شركة له وفيها مئات من العمال . ولكنني بعد أن تزوجته بقليل أصبحت أراه كلما دخل بيته أو كنا معاً ، فإنني أراه صامتاً لا يتكلم إلا الكلام القليل جداً . ولكنه إذا تحدث بالهاتف مع موظفيه ، كان لسانه طلقاً لا يهدأ .(1/47)
وقد دفعني ذلك إلى البحث عن العرافين في الكويت كلها ، وذهبت إليهم شاكية لهم حال زوجي مستنجدة بهم كي يعطوني العلاج الذي يمكنني من أن ينطلق لسانه معي .
ولكنهم جميعهم بعد أن يعرفوا اسمي واسم والدتي ووالدي ويقوموا بعملهم في هذا المضمار ، فإنهم كانوا يصرفونني ولا يأخذون أجراً مني .
قلت لها : إن مكانة أبيك في شراكته هذه معروفة لديهم ، وربما كان لشركائه أنفسهم سلطان عليهم ، فيخشون منه وممن معه ، فيقومون بصرفك .
قالت : الآن فهمت .
وقفة تأملية
ما بين انصراف ذلك الرجل عني ، وبين موعد سفري ، كان لا بد لي من أن أقف متأملاً لما حدث . لقد جئت إلى الكويت فقيراً معدماً ، ليس لي في بلدي موطئ قدم ؛ فعملت بجدٍ وإخلاص يمليه عليّ ضميري المهني ، وحسن تربية أمي لي .
والتزمت ببيتي وعائلتي التزاماً كاملاً . فماذا فعلت حتى أواجه ما واجهته طوال هذه السنوات ؟
لقد كانت الكراهية لي هي الطابع الذي ميّز حياتي في هذه المرحلة . فما أكاد أستقر في عملي حتى يصدر قرار نقلي . وفي حين حصد زملائي علاوات تشجيعية بالجملة ، فإنني لم أحظ بعلاوة واحدة .
ثم تمادى هذا الأمر الذي كانت خيوطه العنكبوتية تنسج المؤامرة تلو الأخرى ، لتصل إلى قمتها في هذا التفريق الشيطاني المتعمّد لإبعاد زوجتي عني .
إن هذا التفريق في حال وقوعه – عدا أنه هدف شيطاني ثابت – كان يخفي وراءه هدفاً أكبر من ذلك . هو الفضيحة لي التي تنتظرني في بلدي ، عائداً بمفردي مع ستة أطفال رمتهم أمهم وتخلت عنهم ، بسبب رجل منحرف ، سيئ في أخلاقه ، احتملته طوال هذه السنين ، ثم لم تعد قادرة على احتماله ، فآثرت عليه رجلاً آخر .
وأية سلطة كانت لذلك الرجل الذي كان قادراً على إصدار قرارات نقل . خيوطها خفية . وأية سلطة مادية كانت لذلك الرجل الذي كان قادراً على دفع آلاف الدولارات ، لتنفيذ هذا الهدف الشيطاني .(1/48)
لقد كان راتبه يحوّل بالكامل إلى ولديه في أمريكا ، وكل ما يبقى لديه هو راتب زوجته . لقد ألمح إلى زوجتي أكثر من مرة لو تعطيه الرقم السري لحسابي في البنك .
ولقد شكت ابنته أكثر من مرة ، أنها بين الفينة والأخرى ، تجد قطعاً ذهبية قد سرقت من بيتها . وأوضحت أنه ما من أحد يملك مفتاح بيتها سوى أبيها .
إذاً ، لقد كان الرجل لصاً محترفاً أنيقاً ، ولص كهذا لا بد له من أن يكلف شركاءه بإحضار المال الذي يريد .
إن أول صفة تبدت لي من صفات هؤلاء المشاركين ، هي أنهم لا يسرقون الأعراض فحسب ، بل ويسرقون الأموال أيضاً . هذه النقطة بالذات سيكون لنا وقفة أطول عندها في فصل قادم .
بعد كل هذا العرض ، لا بد من سؤال واحد يطرح . هل ما حدث معي هو نتيجة لخطأ ارتكبته ؟ أم هو أمر مقدّر من الله تعالى ؟ وإذا كان الجانب الثاني من السؤال هو الأرجح ، فهذا يملي عليّ أن أخوض هذه التجربة حتى نهايتها ، لكنني في هذه المرة أكثر وعياً ، واستعداداً للأعباء التي تفرضها علي استمرارية تجربة كهذه .
* * * * *
إنذار بغزو الكويت 21/6/1990
لثلاث ليالٍ متصلة تبدأ من 21/6/1990 رأت زوجتي في منامها جاراً لنا اسمه ( غزوان ) لم تكن لنا أية صلة به . ولتكرار رؤيته التي لم تكن تدوم أكثر من ثوان ، سألتني زوجتي عن معنى اسمه فقلت : هو من الغزو ، وما الألف والنون في آخر الاسم إلا حرفان زائدان ينوبان مناب ( أل ) التعريف في أول الاسم . ومثله ( رمضان ) و ( شعبان ) .
قالت : وما معنى أن أراه ؟ قلت : هناك غزو محتمل للكويت إن كانت رؤياك صادقة . قالت : ومن سيغزوها ؟ قلت : الله ورسوله أعلم .
لكن هذه الرؤيا كانت تنبيهاً لي لكي آخذ حيطتي في حال وقوع أمر كهذا ، فسارعت إلى البنك وطلبت قرضاً مجزياً بكفالة وديعتي .(1/49)
وكذلك فإن احتمال سفري أنا وزوجتي إلى أمريكا مازال قائماً . ولطالما كان هدفهم أن تسافر وحدها ، فإن سفرها معي سيكون رداً مجزياً مغيظاً لكل أولئك الذين سعوا وراء سفرها منفردة . إن تأشيرات الدخول إلى أمريكا بحوزتنا ، ومعي من المال ما يغطي تكاليف سفرنا وأكثر ، ولم يبق إلا أن تتهيأ الظروف في بلدي لرعاية أطفالي أثناء غيابنا .
وانطلقنا من الكويت إلى دمشق مع بدء إجازة الصيف ، وحال وصولنا إلى هناك ، هيأ الله لنا من يقوم برعاية أطفالنا أثناء سفرنا إلى أمريكا .
ركبنا الطائرة متجهين إلى مدينة ( لوس أنجلوس ) وكان لي فيها أصدقاء كثيرون ، قاموا باستقبالنا في مطارها ، وأحاطونا طوال فترة وجودنا برعاية تامة .
لقد كان أول عمل أردت القيام به هناك ، هو اتصالي بذلك الرجل أو بأحد أولاده . وكان هدفي من ذلك أن أُسمعه صوتي ليعلم أنني قد حضرت إلى هنا ومعي زوجتي . لكن محاولاتي كلها لم تفلح في العثور عليه . لقد كانت أرقام هواتفهم معي ، وكنت متأكداً أنه موجود هنا مع زوجته . ومع ذلك لم أعثر عليه . هل الأرقام التي كانت معي أرقاماً مزورة ؟ أم أنهم قد غيروا بيوتهم التي يسكنونها ؟ وأدركت عندئذٍ أن القطيعة التي حدثت في الكويت هي قطيعة أبدية مقررة من الله تعالى .
الماجيك ماونتن
من المعالم السياحية لمدينة ( لوس أنجلوس ) هو الماجيك ماونتن أي الجبل السحري أو مدينة الألعاب . وقضاء يوم فيها مكلّف وغال لكنه ممتع حقاً .
كنا هناك في العاشرة صباحاً ، ونحن في حالة صحية وغذائية تامة . وبدأنا نتعرف على البرنامج السياحي الذي أُعطي لنا ، وأخذنا نستمتع ونشارك بهذه الألعاب المنتشرة . كان الجو رائعاً حقاً ، والناس الذين يعج بهم المكان كانوا أكثر روعة . لقد بلغ استمتاعنا أقصاه لولا هذا الحدث .(1/50)
كانت الساعة تقارب الرابعة عصراً ، حين بدأت أنا وزوجتي نحسّ بتثاقل بطيء . وقد بدأ معي عندما بدأت أشعر أنّ جفنيّ يتثاقلان ، وأن يديّ وقدميّ تسري فيهم حالة من الارتخاء .
ثم بدأ ضغط هذا الإحساس يشتد على عينيّ ، فشعرت – مع ثقل أجفاني – برغبة عارمة في النوم ، وأن جسمي كله منحل لا يقوى على الوقوف .
عندها قلت لزوجتي : لو أنني أستطيع أن أجد مكاناً خالياً أستلقي فيه ، قالت : وأنا كذلك . فخرجنا من هناك – ويحق لك الخروج لمرة واحدة – باحثاً عن مكان منعزل ، فوجدت مرجاً أخضر تحيط به شجيرات الحديقة . فاستلقينا عليه .
أدركت – عندئذ – أن هناك من يصاحبنا في سفرنا هذا ؛ إنها مصاحبة لا مرئية . وهؤلاء الذين معنا ، إنما كلفوا بمصاحبتنا من دمشق . فمن كلفّهم بذلك هناك ؟
إن ذلك الرجل الذي عرفناه في الكويت ، لا يعرف أبداً بوجودنا هنا ! لكن تلك المرأة تعلم . فقد جاء زوجها لوداعنا أسوة بأصدقائنا الآخرين .
وإذا كان الأمر كذلك ، فنحن على وشك أن نفتح الصفحة الأولى من هذه المرحلة الثانية ، ولمّا يجف بعد الحبر على نهاية الصفحة الأخيرة من المرحلة الأولى .
هذه الحالة التي نحن عليها الآن – ونحن مستلقون على المرج – لم تكن هي الحالة الأولى . فكثيراً ما كنا نشعر برغبة عارمة بالنوم في بيتنا في الكويت وكان العلاج الذي نتّبعه للتخلص من هذا الأذى أن نقرأ القرآن ، وعلى وجه الخصوص من أواخر سورة البقرة ، من قوله تعالى : ( آمن الرسول ) إلى قوله : ( فانصرنا على القوم الكافرين ) .
ولم أجد بدّاً من أن أعيد العلاج نفسه ، ونحن بأمس الحاجة إليه هنا . فبدأت القراءة المرة تلو المرة ، حتى بدأ هذا الأذى الشيطاني يرفع بإذن الله . وكان الدليل على رفعه ، تثاؤباً عميقاً خارجاً من أعماق الصدر مصحوباً بآهة عميقة ، ويترافق معه خروج دموع حارة من عينيّ .(1/51)
نصف ساعة من القراءة المتواصلة كانت كفيلة لأن نعود إلى وضعنا الطبيعي ، فأكملنا رحلتنا .
الخروج من الجنة
في ليلة الخميس 2/8/1990 كنا نحضر حفلاً في مدينة ( لاس فيغاس ) . كان الحفل على إحدى مسارحها . بدأ الحفل الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل . وكانت الفقرة الرئيسية في برنامج الحفل ممارسات سحرية فائقة التصميم ، متقنة الأداء .
ولدى بدء الحفل قاموا برش مادة في الصالة فملأتها ، وعندما انعكست عليها الأضواء الجانبية أصبح لونها أخضر .
وأعتقد أنها مادة صنعت خصيصاً لكي تلامس شبكية العين ، لأنها إن لامستها كان هناك أفعال سحرية لا تقبلها الشبكية السليمة ، ولا تنخدع بها .
ولقد حاولت أثناء الحفل أن أستعمل ( الكاميرا ) التي بحوزتي ، لاعتقادي أن عين الكاميرا لا تسحر ، لكنهم سارعوا إلى مصادرتها وقالوا : خذها عند خروجك .
لقد جئت إلى هذا العرض ، وأنا لا أعلم شيئاً عما يعرض فيه ، حيث أن الموظفة في مكتب الحجز العام لكل العروض هناك ، هي التي اختارت لي هذا العرض ، بعد أن أخبرتُها أن المرأة التي معي هي زوجتي وأريد عرضاً محترماً .
ولكن أن يكون العرض كله قائماً على ممارسة فنون سحرية ذات أداء رفيع ، فإن ذلك يعيدني إلى المشكلة نفسها التي حاولت الهروب منها .
وخرجت من هذا الحفل بالنتيجة التالية : إن أمريكا هي البلد التي تتوفر فيها الشروط المناسبة لأن تكون مسكن الشياطين .
خرجنا من هذا العرض المسرحي السحري المثير في الساعة الثانية والنصف بعد منتصف الليل ، وسرنا إلى الفندق مشياً على الأقدام ، في جو هادئ بارد جميل في بلد لا ينام . وخلدنا إلى النوم . لم يمض على نومي أكثر من ساعتين ، حتى استيقظت على رؤيا . فقمت وتوضأت وصليت الفجر ، وأعددت القهوة ، وجلست أتأمل فيها .
فاستيقظت زوجتي ، وفعلت مثلي ، ثم جلست تشرب القهوة معي .
قالت : ما بك ؟(1/52)
قلت : لقد رأيت رؤيا أزعجتني ، وأرجو من الله عز وجلّ ألا يلحقنا منها أذى شديد .
قلت : رأيت في نومي صديقين عزيزين عليّ ، أحدهما ( غياث ) قضى نحبه وهو يتخصص . والثاني ( عدنان ) كنت لا أزال أراه من حين لآخر .
رأيتهما قد أقبلا معاً ، ولشدة فرحي برؤية غياث رحمه الله تعالى وكنت أحبه ـ ولا أزال ـ حباً عميقاً . قلت لعدنان : إنني أرى غياث معك ، وأنا أحسبه ميتاً . فقال عدنان : ما مات ولكنه كان في غيبوبة والآن رجع .
فأقول له : دعنا معاً على انفراد ، فأُمسك بيده ونسير خطوات عدة .
ثم رأيت بيتاً قديماً كنا نسكنه محاطاً بخضرة رائعة على طرفي الطريق ، لكن الطريق نفسه مليء بالأشواك التي تمنعني من السير فيه للوصول إلى بيتي . فأقول لعدنان : ما هذا الشوك ؟ فيجيبني قائلاً : إنهم يريدون تعبيده . واستيقظت .
وقلت لها : في هذه الرؤيا أمران : الأول : رؤية غياث الميت . والموت مصيبة لقوله تعالى : { فأصابتكم مصيبة الموت } [ المائدة : 106 ] فهي مصيبة واقعة علينا ، ومدتها عام واحد لاسم غياث { ثم يأتي بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } [ يوسف : 49 ] وما سنفقده فيها ، سيرجع إلينا لقول عدنان في الرؤيا : ما مات ، لكنه كان في غيبوبة والآن رجع . وأما أنني أمسكت بيده وسرنا معاً ، فإن من يصاحب ميتاً ، فإنه يسافر سفراً بعيداً ، يصيب فيه خيراً كثيراً . وهذا ما يقوله ابن سيرين فيها .
وهذه النقطة الأخيرة تلزمني بالعودة إلى بلدي ، مهما قُدمت لي من مغريات للعمل هنا . وأما رؤية ( عدنان ) فإن اسمه يدل على ( الجنة ) فالألف والنون في آخر الاسم زائدتان مانعتان الاسم من الصرف . و ( عدن ) هي الجنة التي وعد الله المتقين بها فسماها ( جنات عدن ) . وأما بيتنا القديم الذي كنا نسكنه ، فهي الكويت التي سكناها لمدة طويلة . وأن يكون طريقها غير صالح للسير عليه ، فهذا ما أود أن أعرفه .(1/53)
وعدنا إلى النوم . وفي حوالي الساعة العاشرة صباح الخميس 2/8/1990 رنّ الهاتف . كان المتحدث صديقاً قديماً لي ، هو الذي حجز لنا في هذا الفندق . فقال : هل علمت بما جرى هذه الليلة ؟
قلت : لا . قال : وأين كنت ؟
قلت : في عرض ممتد لما بعد منتصف الليل . قال : ألم تسمع أخباراً ؟
قلت : نعم ، لم أسمع أخباراً .
قال : إن أمريكا لم تنم هذه الليلة ، لأن صدام حسين قد احتل الكويت ، وقد تابعنا دخوله إليها عبر الأقمار الصناعية .
عندئذٍ قفزت إلى ذهني هذه الرؤيا الصادقة بكل جزئياتها ، وارتبطت كلها ربطاً محكماً بهذا الحدث ، فقلت له : لا تنفعل . لقد أخبرني ربي بذلك قبلك .
فقال مازحاً : أهو إشراق كإشراق الصوفيين ؟ فقلت : ربما .
صدم الخبر زوجتي فقالت : وماذا ستصنع ؟ قلت : لن أصنع شيئاً ، وسأستمر في برنامجي السياحي كما هو مقرر . ولن يكون بإمكاننا الحضور مرة ثانية إلى أمريكا .
وعلى كل حال ، ولكي لا تأسي على ما فاتك ، فإنني أحمد الله تعالى الذي ختم لنا إقامتنا في الكويت ، برحلة سياحية رائعة . لقد كان ختامها مسكاً .
وهكذا وضعت هذه الأحداث خاتمة لتلك الذكريات التي كانت تربطنا بذلك الرجل زماناً ومكاناً كما أنها خلصتني من عبء لا يطاق من صداقات عابرة ، ومؤامرات تحاك ، وحسد قاتل ، وخبث دفين .
انتهت إقامتنا هناك ، وعدت إلى بلدي . وبدأ الأصدقاء يتوافدون عليّ ، وهم في حيرة من أمرهم . أيهنئوننا بسلامة العودة ؟ أم يعزوننا بذهاب الكويت ، وفقدان عملي ومالي ؟ وكان يفاجئهم إصراري على عودة الكويت ، وعودة أموالي .
وأنّى لهم أن يدركوا عظمة تلك الرؤيا التي أكرمني ربي بها . لقد تخطت الزمان والمكان مبشرةً لي وحدي دون سائر الخلق الذين كانت مصالحهم فيها وضياع تلك المصالح والأموال ، عرضةً للكثيرين في إصابتهم بأمراض خطيرة .(1/54)
من بين سائر الخلق هؤلاء ، كنت وحدي مطمئناً ، وثقتي كاملة بالله سبحانه وتعالى الذي خصني بما لم يخصص به الآخرين .
ثم عادت الكويت فيما بعد ، واسترجعت حقوقي فيها ، لكنني – للظرف السياسي الذي رافق تلك الأزمة – مُنعت من العودة إليها . وهذا الجانب الأخير هو تأويل الطريق إلى بيتي القديم بأنه غير سالك .
وهكذا فقد طُردت وزوجتي من الكويت ، كما طرد آدم وحواء من الجنة ، وما كان ذلك الرجل ليقلّ في أساليبه عن إبليس ، بل ربما كان هو إبليس نفسه في زي بشر .
المرحلة الثانية : الفتح الإلهي
في الوقت الذي كان فيه الناس ، يتابعون أخبار حرب الخليج – ولم تكن قد بدأت بعد – وينشغلون بمجريات الأحداث المستجدة كل يوم ، وكأنهم يتابعون فصولاً من مسرحية شيقة . في ذلك الوقت كان لي انشغال آخر جديد كجدة حرب الخليج .
ولما كان فصل الشتاء على الأبواب ، ولا نملك هنا ملابس شتوية على الإطلاق . فقد حضرت تلك المرأة وزوجها وهم في نهاية إجازتهم ، وهم يحملون أكياساً قماشية ملئت بملابس مستعملة .
وبعد خروجهم ، فتحت الأكياس فإذا بها ملابس مستعملة مضى عليها أكثر من خمسة عشر عاماً ، بعضها مهترئ من العث الذي أكلها ، وبعضها الآخر قد تجرّد من ألوانه ، ولا يكاد يصلح منها للاستعمال شيء أبداً . فقمت برميها كلها لعدم صلاحيتها .
وأعاد ذلك إلى ذهني ، ما فعله ذلك الرجل في الكويت قبيل انكشاف أمره . فقد قام هو الآخر بتفريغ خزائن بيته ، ومما اختزنه من أوان وأدوات ، وقام بإحضارهم لنا .
لقد كان كلاهما يعبّر عن شح دفين ، حيث يضنون بتوزيع ما لم يعد لهم به حاجة ، على مَن يكون بحاجة ماسة له . وهذه الصفة هي الصفة الأولى التي اكتشفها بالمشاركين . إنهم لا يدعون أية فرصة لأحد لينتفع منهم .(1/55)
ومع دخول هذه الملابس إلى البيت ، وإخراجها منه ؛ بدأت بعض الظواهر ذات الطابع الشيطاني تظهر في البيت . فمن تحريك للأواني في المطبخ ، إلى إطفاء النور في غرفة مجاورة ، إلى وضع أشياء في غير مكانها كالمفاتيح وما شابه .
ولمواجهة هذا الهجوم المستجد كان لا بد لي من العودة إلى الأسلوب القديم الذي اتبعته في الكويت . وهو ألا ننام – نحن الكبار – قبل صلاة الفجر ، وأن نضع الشريط القرآني في المسجل ، وأن أترك ضوء الصالون والمطبخ مضاء .
ولأكثر من مرة كنت إذا وقفت ليلاً لإعداد القهوة أو الشاي ، تراءى لي من خلف الطاولة التي تقع ورائي ، جسم قصير أسود اللون ذو شعر أجعد ، ويرتدي دشداشة بترولية اللون ، شديد الشبه بأولئك الذين رأيتهم في بيت ذلك الرجل يوم انقلبوا عليه . وكان يظهر خلفي من وراء كتفي الأيمن ، فإذا ما التفت إليه كان يختفي .
ولكي أتمكن من تحديد شكله ، فما عدت ألتفت ورائي ، ولكنني كنت أنظر إليه من أقصى الزاوية اليمنى من عينيّ .
وبهذا الأسلوب استطعت أن أحدد شكله وحجمه . فإذا ما أطال الوقوف ظناً منه أنني لا أراه ، خاطبته قائلاً بصوت مرتفع : إن الرسول الكريم لم يركم ، وأنا لا أريد أن أراكم .
واستمر يفعل ذلك معي كلما دخلت المطبخ ، فلما ضقت به ذرعاً قلت له مهدداً دون أن أنظر إليه : هذه هي المرة الأخيرة التي أراك تظهر لي ، فإن ظهرت لي بعدها أحرقتك بماء حار ، وقد أعذر من أنذر .
بعد هذا التهديد لم يظهر لي أبداً ، ولكنه ظل يمارس أذاه في تحريك الأواني ، وإيقاع الفناجين على المجلى .
أمام هذا الواقع المستجد ، كان لابد لكثير من الأسئلة أن تطرح نفسها من جديد . فمن يكون ذلك الشخص الذي يتابعني بهذا الشكل ، ويكاد يحصي عليّ أنفاسي ؟ من يكون ؟ وما هدفه ؟ لقد أصبح ذلك الرجل – بعد احتلال الكويت – منفياً مقيماً قي أمريكا عند أولاده . وهو نفسه لم يكن له هدف مباشر في إيذائنا .(1/56)
ثم إن أي أذى من هذا النوع ، لا بد أن يكون وراءه من له معرفة دقيقة بك . ومن هنا بدأ تفكيري ينصب على تلك المرأة . إنني الآن في دمشق ، وهي تعمل في دولة خليجية ، فكيف لها أن تفعل ذلك بي على الرغم من هذا البعد الذي بيننا ؟
وإذا كان هذا الافتراض الأخير صحيحاً . فإذاً لا بد من أن يكون هناك مكلف جديد .
رؤيا الذئب
رأيت نفسي في نومي أسير في أرض مكشوفة ، وإذا بذئب ضخم يلاحقني ، فأحاول الهروب منه ؛ لكنه يستمر في مطاردتي ، فأجد حفرة حفرت حديثاً ، فأرمي نفسي في داخلها فأجده وقد استجمع قواه ، وقفز باتجاهي فاتحاً فمه على أقصاه ، وقد ظهرت أنيابه حادة لامعة ، فأجد في يدي قطعة خشب هي بقايا من عصا ، فأدخلها في فمه .
ثم أرى نفسي بعدها أسير ويسير معي جرو ذئب ، وكلما أراد أن ينبح في وجهي ، كنت أضربه على رأسه بجريدة كنت أحملها في يدي .
ولن أقوم بتحليل هذه الرؤيا ، بل سأترك تحليلها لمجريات الأحداث التي تلتها ، فاعلاً فيها ما فعلته من بسط الأحداث التي رافقت رؤيا السبع في فصل سابق .
وتبدأ الأحداث من أنّ لي صديقاً عزيزاً عليّ ، عرفته منذ الطفولة ، ودرسنا معاً في مدرسة واحدة . ثم كبرنا فدرس هو الطب المخبري .
ومنذ أن عدت عودة نهائية للاستقرار في دمشق ، فإنه بدأ يعيد صداقته لي . ثم إنه اعتاد أن يمرّ علي كل يوم ليراني . ثم إنه عندما قمت بأعمال البناء ، حاول أن يتدخل في جانب منه ، يكون له فيه مصلحة مادية جيدة .
وفي عبارة ابن سيرين عن جرو الذئب لفظة ذات مغزى كبير هي قوله : (( فإن رأى عنده جرو ذئب فإنه يرى لقيطاً من نسل لص . ويكون خراب بيته وذهاب ماله على يديه )) .(1/57)
أن يكون الجرو لقيطاً من نسل لص ، فهذه عبارة تفتح الطريق إلى احتمالات شتى ، أولها معرفة حقيقة أبيه . فأبوه لا أعرفه إلا رجلاً متديناً ملتحياً يضع عمامة ، وقد حضرت له أكثر من خطبة من خطب أيام الجمع والأعياد ، وكان المدير العام للجمعية الخيرية في منطقتنا .
وذات يوم دخلت بيت صديقي الطبيب هذا ، وكان بيته لا يزال عربياً ، وإذا بغرفة في صدر الدار مغلقة ، فقلت لصديقي : إن هذه الغرفة كافية لك إذا أردت أن تفصل بين أولادك . فقال : إن هذه الغرفة لأبي . قلت : وهل أبوك ساكن عندك ؟ قال : لا ، إنّ له بيتاً حديثاً مستقلاً . ولكن هذه الغرفة خاصة به ، وممنوع على أي واحد منا دخولها ، فإذا ما جاءها ، فتحها بمفتاحه ثم دخل وقفل عليه بابها ، وأرخى ستائرها ، فلا يعلم أحد سوى الله عز وجل ماذا يصنع فيها . فقلت له : إن هذا الوصف يقتضي أن يكون أبوك مشاركاً ، وهذه الغرفة هي المكان الذي يختلي فيه مع شركائه .
فقال : أتظن أن شيئاً كهذا صحيح !!
سألته : وما محتوياتها ؟ قال : خزانة أثرية يضع فيها كتبه التي لا يسمح لأحد بالاطلاع عليها ، ومعرفة محتوياتها . وقد ورثها عن أبيه .
قلت : وهل جدك كان مشاركاً أيضاً ؟ قال : لا أدري ماذا تعني بكلمة مشارك ؟
قلت : هو من أتخذ له شركاء من عالم الجن . قال : نعم ، لقد كان جدي إمام مسجد وكان له سلطان عليهم ، فإذا ما خالفوه جمعهم وعاقبهم .
وهكذا بدأت تتضح معالم هذه الظاهرة الإشراكية ، فالجد ورّث هذه العلاقة للأب ، والأب يورثها لابنه . وتمتد هذه العلاقة الإشراكية وتتصل من جيل إلى جيل قائمة إلى قيام الساعة . ولتأكيد هذه الحقيقة فقد تبيّن ـ كما سأثبت فيما بعد ـ أن تلك المرأة كانت مشاركة وأن أمها من قبل كانت كذلك . وهذا ما دفعني إلى البحث عن أصل لهذه العلاقة في القرآن الكريم ، وعندما عثرت عليه كان هناك فصل في هذا الكتاب عنوانه ( المشاركة بالوراثة ) .(1/58)
لقد امتدت وتمادت هذه العلاقة فيما بيننا ، لدرجة أن هذا المخبري قد أعاد إلى ذاكرتي ، أسلوب ذلك الرجل في الكويت .
فمن بين الأشياء المشتركة بينهما . هو ما يسميه العلماء ( قراءة الأفكار ) حيث كان هذا المخبري يحضر لي معه شيئاً ما أكون قد حدثت نفسي أو عائلتي به . وإنّ ذلك لا يكون إلا إذا كان قد كلف بي من يقوم بمراقبتي وإحصاء أنفاسي وأفكاري .
لكن هناك عبارة عن ابن سيرين في تأويله لرؤية جرو الذئب هي ( لقيط من نسل لص ) هذه العبارة سيتم تحليلها وبسط حقيقتها في فصل قادم بعنوان العنكبوت .
ولما كنت لا أستطيع أن أقطع علاقتي به إلا بعد أن يقع بين يديّ دليل على إدانته ، فقد قدم لي هو نفسه دليلاً قاطعاً على أنه مكلف بي من قبل تلك المرأة عندما قال : لقد قمت بزيارة مع عائلتي إلى الساحل السوري ، وفي منطقة هناك التقيت بعائلة تلك المرأة ، لكن اللقاء لم يكن طويلاً .
إن الإقرار بالتقائه معها في مكان منعزل بعيد ، وفي إجازة الصيف لها . أثار لدي أسئلة كثيرة . فكيف يمكن لهما أن يلتقيا – ما لم يكونا قد اتفقا مسبقاً – في ذلك المكان المحدد من بين أمكنة الساحل السوري على كثرتها ؟
ثم إنهما لم يعتادا أن يلتقيا هنا ، لوجود عائق اجتماعي وديني يمنع لقاءهما . وإذاً لا بد لذلك أن يكون قد حدث من خلال اتفاق الشركاء من كلا الطرفين على أن يكون اللقاء في مكان بعيد ومنعزل ولا يثير الشكوك أو الشبهات .
أمام هذه الحقائق دعوته على الغداء في مطعم صيفي ، وواجهته بما لديّ وقلت : إنني لا أريد أن أثير لك أية فضائح . ولكنني أطلب منك – احتراماً للصداقة التي امتدت فيما بيننا – ألا تزورني أبداً ، وألا تدخل بيتي مطلقاً . فأنا بصدد حصر المنافذ الشيطانية التي تدخل عليّ .(1/59)
عندئذٍ ، توقفت واسترجعت تلك الرؤيا في عام 1983 ، وقلت : لقد كان هذا الرجل هو الضحية الثانية المكلفة بي . ولا بد لكي تستقيم تلك الرؤيا في عدد أولئك المهاجمين من أن يطلّ برأسه مكلف جديد آخر .
* * * * *
وهكذا نجد أن ذلك الرجل في الكويت قد عبرت عنه رؤيا السبع ، كما عبرت رؤيا الذئب عن هذا الرجل هنا .
ولكون السبع والذئب من الحيوانات المفترسة للإنسان ، فإنّ دلالتها في علم تأويل الرؤيا أنها تعبّر عن رجلٍ مشارك وشركاؤه إناث . وهذا أصل ينطبق على كل الحيوانات المفترسة بما فيها الضبع والفهد والنمر ولأنّ شركاءهم إناث فإنه لا يأتي منهم ضرر كبير وأذى شديد كالذي يأتي ممن تكون امرأة منا وشركاؤها ذكور .
فالمرأة هي المرأة في كلا العالمين من إنس وجن . وتكون ألين جانباً ، وأكثر رقة من حدة الذكر وانفعاله .
وسيثبت هذا البحث في فصل قادم أن العنكبوت وما شابهها من الحشرات دالة في علم التأويل على أذى شديد قادم من المرأة التي تدلّ العنكبوت عليها في اليقظة لأن شركاءها ذكور وهؤلاء سيتمادون في إيقاع الأذى بمن يكلفون به من شريكاتهم تمادياً قد يصل إلى حد القتل .
ولكي لا يثير هذا الاستنتاج هذا الاستغراب أو الدهشة لأولئك الذين لا يزالون غير مقتنعين بحقيقة كهذه ، فإن وجود دليل لغوي يؤكد هذه الحقيقة ربما يكون وروده ضرورياً الآن .
ففي اللغة نقول ( قُتل الرجل ) بالسيف ونحوه ، فإن قتله عشق النساء أو ( الجن ) فليس يقال فيه إلا ( اقتُتل ) ( (1) ) .
إن تخصيص اللغة لفعل مبني للمجهول دال على مقتول قاتله لا مرئي في الحالتين إن كان مصدره عشقاً أو جناً لدليل على أن أمراً كهذا ممكن الحدوث . وسنتبين دلالته في فصل قادم .
ولكن هل يمكن أن تكون هناك صلة لا مرئية بين العشق والجن ؟
__________
(1) - أدب الكاتب ، ابن قتيبة ص227 .(1/60)
إن العشق ما هو إلا حالة حب من طرف واحد للآخر تمادت فأصبح الحب عشقاً . إن التمادي في هذا الحب ليس بعيداً عن الأذى الشيطاني الذي يصل به إلى العشق .
ولهذا لا أستغرب أن يلتقي العشق والجن في فعلٍ دالٍ عليهما معاً .
رؤيا العنكبوت
استيقظت زوجتي من نومها لتقول :
رأيت نفسي في صحراء ، وكان هناك عمال مجهولون يعملون على الأنوال . فسألتهم : لمن تعملون في هذا المكان ؟ فأشار أحدهم بيده إلى كومة أحجار . فلما نظرت إلى هذه الأحجار وجدت تحتها عنكبوتاً سوداء اللون كبيرة .
وفي اليوم التالي تماماً ، قُرع الباب ظهراً ، فإذا بي بضيف هو ابن تلك المرأة ، وقد أرسلته إليّ لأساعده في دراسته الجامعية .
فاستقبلتُه وكانت زوجتي تعد طعام الغداء . فجلس أولادي معه ، حيث أنني كنت مشغولاً بأمر . وفجأة علا صراخ أولادي خائفين مذعورين ، فتركت ما يشغلني وأسرعت إليهم فقالوا : إن في يد هذا الشاب عنكبوتاً مخيفة ، كان هو قد أخفاها .
فلما ألححت عليه أخرجها قائلاً : إنها عنكبوت صناعية أحضرتها معي قبل مجيئي من هناك .
عندها ، قلت لزوجتي : سبحان الله . لقد حمّل الله سبحانه هذا الشاب الدليل القطعي على عنكبوتية أمه . لكن هذا الموقف أعاد إلى ذهني رؤيا السبع التي رأتها زوجتي من قبل ، وتذكرت فجأة أن ذلك الرجل كان يضع في بيته سبعاً محشواً قطناً أحضره معه من الاتحاد السوفيتي وقتذاك . لكننا – للغفلة التي كنا عليها – لم نستطع أن نربط رؤيا السبع ، بذلك التمثال الذي رأيناه بشكل دائم عنده ولم ننتبه لذلك .
لكن الحال اليوم مختلفة كثيراً عن ذي قبل . إن العينين اللتين أرى بهما اليوم ، ليستا هما العينين اللتين كنت أرى بهما من قبل .(1/61)
ومع أن هذه الرؤيا قد أكدت حقيقة هذه المرأة ، إلا أنني اعتبرتها كرامة إلهية لزوجتي . لقد أصبحت على درجة من الصفاء والنقاء والصدق ما يجعلها مؤهلة لكرامة كهذه . ولكنني كنت في وضع مختلف . إذ أنني لست أدري إلى أي مدى يمكن لامرأة كهذه أن تمارس خداعاً منسجماً شكله مع مضمونه كهذا الخداع .
فبالإضافة إلى أنموذج لباسها الخارجي الذي وصفته من قبل ، فإنني لا أزال أسمع منهما ، كلما حضرا إلى زيارتي عند مجيئهم ، أنهم تأخروا لقضاء العمرة ، ثم إنهم مضطرون للذهاب قبل نهاية إجازتهم ليمروا على مكة مؤدين للعمرة . ثم إنهم قد قاموا بقضاء فريضة الحج للمرة الثالثة والرابعة أثناء الدوام المدرسي .
مظاهر إيمانية بهذا المضمون ، متفقة مع المظهر الخارجي لها قد تكون نافية لأي شك . ولهذا كان لدي إصرار من نوع خاص . إما أن أرى دليلاً عيانياً ينفي أي شك ، أو أن يبقى ما لدي شكوكاً محضة لا غير .
وكنت أعتبر إصراري هذا حقاً مشروعاً . ألم يطلب إبراهيم عليه السلام من ربه – على الرغم من إيمانه العظيم – أن يريه كيف يحيي الموتى ؟ وأن الله سبحانه الذي منّ عليه بتحقيق ذلك كفيلٌ أن يمنّ عليّ بمثله ، ومهما كانت هناك من فروق بيني وبين إبراهيم عليه السلام ، لكن هناك شيء واحد يجمعنا هو البحث عن الحقيقة الإلهية التي لا لبس فيها ولا شك .
وربما تأخذ الغيرة على هذه المقارنة بعض المؤمنين فيقولون : ومن أنت حتى تقارن نفسك بإبراهيم عليه السلام ؟ مستنكرين أن يكون هناك أحد شبيه به أو بأمثاله من الأنبياء .
ولكنني أرد على هؤلاء فأقول : إذا كان الأمر كما تقولون فإن دور المعجزات قد انتهى ، وأننا في هذا العصر والعصور اللاحقة قد رفع عنا التكليف الذي كُلف هؤلاء الأنبياء به .(1/62)
وهذا يعني أن الجعبة الإلهية قد فرغت من المعجزات ، وحاشا لله أن يكون الأمر كذلك . وما قول الله تعالى : { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } [ القمر : 50] تأكيد على أن المعجزة الإلهية قائمة في كل زمان ومكان . وعلى هذا فقد كان إصراري يستند إلى إرث طويل من المعجزات التي منحها الله لأنبيائه وأوليائه على مر العصور .
ولهذا كان طلبي واضحاً محدداً أن يكرمني الله عز وجل . بما يثبت فيه فؤادي ، ويُطَمْئنُ به عقلي ، ويمحو أي شك من ذهني . ولكن طلباً كهذا لا يأتي بلا أسباب .
فوقفت على بابه متضرعاً طالباً منه أن يهديني سواء السبيل . لقد عودني أن يكون معي في حركاتي وسكناتي ، وعودني أن يريني عظمته في كل موقف حالك وقفت فيه . ولم يكن إصراري هذا إلا واحداً مما أطلبه . ولم يكن تنفيذه بعيداً عني .
* * * * *
الرؤيا الحق 21/5/1991
عدت إلى بيتي من سهرة جمعتني ببعض أصدقائي ، كان الوقت متأخراً قليلاً ، والساعة تقارب الحادية عشرة ليلاً . ولم أكن قد صليت العشاء بعد .
جهزت نفسي لصلاة العشاء ، ووقفت في الغرفة التي اعتدت أن أصلي فيها . كانت الغرفة تضاء بضوء أزرق فاقع .
ورفعت من الركعة الثانية ، وإذا بي أرى نوراً مبهراً مشعاً صادراً من سقف الغرفة ، وفي وسط هذا النور شخصان . أحدهما يقابل شِمالي وهو ذلك الرجل الذي عرفته في الكويت . وكان يرتدي ملابسه التي أألفه يرتديها . وأما الثاني فكان يقابل يميني ، وكان تلك المرأة بشحمها ولحمها . لكن لباسها كان مختلفاً عما أألفها ترتديه .
لقد كانت ترتدي طقماً فستقي اللون من قطعتين ( جاكيت وتنورة ) وتضع إيشارباً أبيض محجباً . لقد كان هذا الطقم هو الطقم نفسه الذي كانت ترتديه قبل عشرين سنة تقريباً . أيام كنت أسكن عندها ، وأنا أعزب .(1/63)
لقد كان مشهداً عيانياً واضحاً لا لبس فيه ولا شك ولا تأويل . وانجلت الآن الحقائق التي كان يعوزها الدليل القطعي على أن هذه المرأة كانت وراء هذه التجربة المرّة المريرة التي استخدمت فيها شركاءها لعرقلة زواجي ، ثم توصلت من خلال الرائحة التي سرقتها من قميص نوم زوجتي يوم ولادتها برابع أولادي إلى تكليفهم بالبحث عمن يستطيع أن يتوصل إلينا في الكويت .
لقد سافرت معنا ذلك العام عائدين إلى أعمالنا ، كي يرافقنا شركاؤها إلى بيتنا في الكويت . وهناك واصل شركاؤها البحث عن رجل يستطيع أن يحقق هدفها ، فاتصلوا بشركائه وألزموه بهذا التكليف . هل هذا شيء يصدق ؟ لقد كان هو نفسه يقول : كنت أمرّ كل يوم من أمام عمارتكم باحثاً عن بيتكم . ولكن لما أعجزه الأمر كلفهم – حتى يتمكن من إنجاز مهمته – بنقلي إليه .
ولكن لا بد لي من توقف تحليلي لهذا المشهد العياني . إنني في قرارة نفسي كنت أعتبره مشهداً ينقصه الكمال ، وهذا مرجعه نقص كمالي .
فأنا كنت قد نسيت لباسها الذي ظهرت فيه ، والذي كانت ترتديه قبل عشرين عاماً ، وكل ما أعرفه هو لباسها الذي هي عليه اليوم . فلماذا لم تظهر به ؟ ولماذا ظهرت باللباس القديم ؟ ولم تكن الإجابة على هذا التساؤل بعيدة عني أيضاً . ففي أول أيام عيد الأضحى جاء زوجها ليعايدني فدعوته على الغداء في اليوم التالي . وحضروا كلهم يوم 23/6/1991 ملبين الدعوة .
وفي الساعة الواحدة والربع ظهراً . دُق الباب ، فلما فتحته ودخلوا ، رأيتها ترتدي اللباس نفسه الذي أراني الله إياه في الرؤيا الحق ، في الرؤية العيانية المحضة . وصرخ قلبي : الله أكبر . هذه الصرخة لو نطق بها لساني لأزالت كل شيء أمامي . لقد أخرجها الله تعالى من بيتها مرتدية لباسها هذا ليقول لي : برهاني أمامك أنظر إليه : إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا ، فاعبدني واصطبر لعبادتي .(1/64)
نعم! إنك أنت الله ، لا إله إلا أنت ، مالك الملك ، تؤتي الملك من تشاء . لقد آمنت بوحدانيتك ، وسجدت على أعتابك ، شاكراً عظيم نعمتك التي أنعمت عليّ . معترفاً بفضل ما أكرمتني به من علمٍ مخصوص بالأنبياء قبلي ، والآن تفهمت مغزى قولك ليوسف عليه السلام { ولنعلّمه من تأويل الأحاديث } [ يوسف: 21]، إنك أنت الله ، أنت وليي في الدنيا والآخرة ، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين .
ثم أليس هذا النور الإلهي في هذا المشهد هو مصداق لقوله تعالى في سورة النور وما أعظمها من سورة حملت اسم النور . إنه النور الإلهي الذي لا يظهر إلا ليثبت حقيقة كونية من حقائق الله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40] ، هذه هي المدرسة الإلهية التي إن تم اختيارك فيها فقد حزت سعادة الدارين . هي المدرسة تجعلك قريباً من الله ، متصلاً به اتصالاً لا فاصل فيه بينك وبينه . والتي تجعله قريباً منك قرباً تستشعر فيه عظمته وجلاله ، وقدرته . منه أستمد الإلهام في تأويلي ، وعليه أعتمد فيما يُعرض عليّ ، ولا أسأل في ذلك إلاّ الأجر العظيم الذي يمنحني إياه ربي .
* * * * *
العودة إلى المئة دولار
ما بعد التجربة
بعد هذا العرض الموجز لتجربة روحية عميقة ، لازمتني فيها الرؤيا الصادقة في كل أحداثها ، فقد أصبحت موقناً ومُلزماً بالعمل بها . ولثلاث ليال متصلة ، كانت زوجتي تسمع في نومها هاتفاً يقول لها : اذهبوا إلى مسرابا .
في المرتين السابقتين لم يلق هذا الهاتف منها الاهتمام المطلوب . ولكنها في المرة الثالثة لم تستطع أن تقاوم ما فيه . فقالت : هذه هي الليلة الثالثة التي أسمع فيها هذا الهاتف الذي يطلب منا في الرؤيا أن نذهب إلى مسرابا .(1/65)
قلت لها : إننا ذاهبون إلى هناك على بركة الله ، وقمت على الفور بشراء قطعة أرض فيها ، وبدأت بالعمل على بنائها ، عندها جاءتني الرؤيا التي لا أستطيع الحديث عنها الآن . فأحداثها تحتاج إلى فصل كامل وحدها . ربما تكون واحدة من بين الرؤى الصادقة التي يحتاج بسطها إلى كتاب مستقل . ولكنني فوجئت وأنا في قمة العمل بالبناء أن هناك رسالة لي من أمريكا من ذلك الرجل ، قد أودعها ساعي البريد في بيت أهل زوجتي .
أما كيف حصل على العنوان مفصلاً فلست أدري ، ولربما أكون أنا قد أعطيته إياه ونسيت ذلك . كان تاريخ هذه الرسالة 25/5/1992 .
وهذا التاريخ هو تاريخ ميلاد زوجتي 25/5 . فهل اختار هذا التاريخ مصادفة ؟ أم عن خبث متعمد يوحي به إليها بشيء ما في نفسه ؟ إنه يقول في رسالته :
(( إذا كانت لديكم الرغبة في الإقامة هنا ، فأرجو إرسال الأوراق المطلوبة بالسرعة الممكنة . ))
قمت بإعداد الأوراق المطلوبة وإرسالها إليه .
ثم جاءت الرسالة الثانية تحمل تاريخ 27/7/1992 ويقول فيها :
إنني أعمل في مجال السيارات ، وأحقق أرباحاً ممتازة ، لكنني في الحقيقة أحتاج إلى أصدقاء مثلكم ، واختتمها بتحياته إلى كل من عرفهم في سوريا أثناء زيارته لها .
ثم جاءت الرسالة الثالثة والأخيرة بتاريخ 22/11/1992 ويقول فيها :
(( والمشكلة الكبرى هي الفيزا ، وغير ذلك أصبح محققاً ، الإقامة والعمل والبيت )) ، ثم ختمها بهذه العبارة :
(( إنني أشعر تماماً بشديد الأسف حيث طلبت منكم إعادة ورقة المائة دولار . الورقة لا زالت معي ، وستبقى ، لأنها تحمل في نفسي شيئاً ، ولم أطلبها لقيمتها المادية )) .
الرسائل الثلاث حملت اسم : أخوك محمود . ولم يذكر فيها لقبه أبداً .
أمام هذه العبارة الأخيرة كان لا بد لي من أن أضع له النقاط على الحروف ، وأظنه كان حريصاً على معرفة ما جرى معي من تلك المرأة فكتبت له أقول :(1/66)
(( إن السنوات التي عشناها معاً ، من الصعب على أحدنا أن ينسلخ عنها أو يتناساها ، لقد كانت سنوات مليئة بالعطاء المتبادل ، أما عطاؤك فقد أسفر عن هدف شيطاني ليس لك عليه مكافأة تستحقها غير نار جهنم .
وأما عطائي لك ، فقد كان عطاء محبة صادقة ، لقد أحببتك وعائلتك من كل قلبي ، وما بخلت في محبتي وعطائي بأي شيء أعبر لك فيه عن صدق مودتي .
لكنني لا أزال أذكر بعضاً من عباراتك التي كنت ترددها ، والتي – لحسن ظني بك – لم أكن أفهمها . فكم من مرة قلت لأولادي عندما كنت ترى فرحتهم بك : والله لا أريد بكم أي أذى . وكم من مرة كانت تنفر من عينيك دموع الحسرة على ما تراه من محبتنا لك ، وعلى ما تضمره أنت لنا من هدف شيطاني .
لقد كنت ملزماً بتنفيذ التكليف الذي أُمرت به ، وحاولت ما وسعك ذلك تحقيقه . ولكن الله سلّم . وظل السؤال المحير من كلفك بنا ؟
إنني أؤمن تماماً أنك كنت تتلقى أوامرك من جهة معلومة لديك ، مجهولة لنا ، وكنت تجد حيرة في تنفيذها خاصة بعد أن عرفتنا على حقيقتنا .
لقد كنا عائلة مسالمة ، رضي كل فرد منا بشريك حياته ، وعائلة كهذه لا تستحق أن يُفعل بها ما كلِّفت به . ولهذا كانت دمعة الحسرة وعذاب الضمير تندّ من عينيك رغماً عنك ، دمعة حارة حرارة الإثم الذي كنت تمضي فيه .
والآن ، وبعد هذه السنوات ، اكتشفت أن المشكلة الحقيقية لم تكن معك . لقد كنت أنت مكلفاً ، موظفاً يعمل براتب لدى جهة عليا ، ولهذا كنت تضرب يدك على جيبك وتقول بثقة : أنا لا يمكن لجيبي أن يخلو من المال .
لقد أظهر الله لي أن المشكلة الحقيقية كانت مع المكلف الحقيقي لك . إنها تلك المرأة التي حدثتك عن إقامتي عندها أثناء دراستي ، وما كنت أنت تنفي أو تؤكد ذلك .(1/67)
إن ما حرصت أنت على كتمانه خوفاً منهم ، قد أظهره الله لي بأوضح مشهد وأجلى صورة . لقد أراني الله إياكما ، وأنا في صلاتي ، كنت أنت بلباسك المألوف ، أما هي فكانت بلباس قديم قِدم الأذى الذي مارسته عليّ .
لكنها عندما حضرت ملبية دعوتي لزوجها بالغداء ؛ حضرت باللباس نفسه الذي أراني الله إياه .
وبهذا انجلى ما كان خافياً ، وظهر ما حسبته سراً ، لقد كلفتك عبر شركائها الذين اتصلوا بشركائك وحدث ما حدث .
لستُ نبياً ولكنني عوملت معاملة الأنبياء ، ولو لم تذكر المائة دولار لما فتحت معك هذا الحديث مطلقاً . )) .
بهذه الرسالة الثالثة والأخيرة طويت صفحة هذا الرجل في مسار هذه التجربة نهائياً .
* * * * *
الاثنين 22/8/1993
كانت ليلة من ليالي أواخر الصيف ، معتدلة رطبة ، دعيت فيها إلى سهرة أعدها أحد الأصدقاء ضمت هذه الدعوة رجالاً من فئات شتى ، واتضح لي أن هؤلاء إنما حضروا لعلمهم بأنني مدعو ولدى كل واحد منهم مناماً أو أكثر يسعى إلى تأويله .
قمت بتأويل ما ألهمني فيه الله عز وجل صدقه ، وكان زوج تلك المرأة واحداً ممن دُعوا إلى هذا المجلس ، فلما رأى إقبال الحاضرين عليّ عارضين رُؤاهم . انتظرني حتى خرجت وقال : هل لديك مانع أن نسير على انفراد ؟ قلت لا . قال : إن لديّ رؤيا وما أحببت أن أعرضها عليك أمام الحاضرين .
قال : لقد رأيت في نومي شيخي مضجعاً عارياً على جنبه الأيمن ، وبيدي اليمنى وعاء فيه ماء ، وبيدي اليسرى قطعة صابون ، وأقوم بتنظيفه . فلما أنهيت جنبه الأيمن ، قلبته ، على جنبه الأيسر ونظفته ، ولم تظهر لي سوأته .
تأملت رؤياه وقلت : إنني لا أستطيع أن أعبر لك هذه الرؤيا . فقال مندهشاً : ولماذا ؟
قلت : لأنك تعتقد أنك القمة في الصلاح ، ورؤياك تقول نقيض ذلك .
قال : لا بد من أن تعبرها لي .
قلت : هذه الرؤيا تقول : عُري صلاحك الذي تحاول أن تغطيه بما لا يغطى . فسكت ثم قال : أخبرني من أين جاءك هذا العلم ؟(1/68)
قلت : جاءني من مكر امرأة .
قال : إنني أعرفك منذ أن كنت ساكناً عندي ، ثم زرتك بعدها وإلى هذا اليوم ، ولم أر أن هناك امرأة في حياتك . فمن عساها تكون ؟
قلت : لا أستطيع أن أجيبك .
قال : لا بد لك من أن تجيبني .
قلت : إن إجابتي مرهونة بقوة أعصابك .
قال : قل ما تشاء فإنني مستعد .
قلت : وعلى نفسها جنت براقش . وتابعت : إن تلك المرأة التي مكرت بي هي زوجتك .
جحظت عيناه وقال : زوجتي أنا ؟ قلت : نعم . وسأبدأ بعرض أدلّتي .
وعرضت له سرقة قميص نوم زوجتي ثم حضور ابنه بالعنكبوت الصناعي ، ثم بالرؤيا الحق التي عرضتها قبل قليل . فحاول أن ينكر عليّ رؤياي هذه فقلت مغضباً : ( أفتمارونه على ما يرى ) لقد أراني الله إياها بعينيّ هاتين . وإن جادلتني جمعت عليك الناس .
ولكنني سآتيك بدليل منك هذه المرة ، أجبني بصدق : متى سُرقت ؟ قال : وما علمك بسرقتي ؟ قلت : ليس الأمر ضرباً من ضروب السحر ، ولكن صديقك الطبيب الذي يعمل في المدينة المنورة هو الذي أخبرني . فأُسقط في يده . فقال : لقد سُرقت عام 1983 ونحن قادمون إلى سوريا .
قلت : وأين سُرقت ؟ قال : وقفت في ساحة الحرم المدني ، وتركت زوجتي وأولادي نائمين في السيارة ، ودخلت الروضة الشريفة فصليت ركعتين ، وعدت . فقالت زوجتي : لقد سُرقنا . قلت : وكم المبلغ ؟ قال : ما مجموعه خمسة وعشرون ألف درهم .
قلت : وكيف سُرق هذا المبلغ منك ؟ ألم تضعه في مكان في السيارة لا يعرفه أحد سواكما ؟ قال : بلى .
قلت : وكيف يمكن لأحد أن يقوم بنبش المكان الذي وضع فيه المبلغ ، والسيارة فيها خمسة أشخاص ، زوجتك وأولادك الأربعة . قال : لست أدري .
قلت : سأخبرك بحقيقة ما حدث .
لقد كانت زوجتك قد عقدت العزم على إيقاع الأذى الشيطاني عليّ وعلى زوجتي ، ولم تكن تستطيع أن تفعل ذلك وأنتما في سوريا لعدم وجود المال الكافي لهذه المهمة .(1/69)
ولكنكما ، وبعد سنتين من العمل هناك معاً ، أصبح لديكما المال الكافي الذي طلبه ذلك المكلف في الكويت .
فقامت زوجتك بدفع هذا المال الذي سُرق منك لشركائها وقام هؤلاء بحمله إلى شركاء ذلك الرجل في الكويت ، فقُدّم له المبلغ الذي يمكنه من تحقيق تكليف كهذا .
لقد قبض ذلك الرجل أتعابه وما يحتاجه من نفقات لتنفيذ تلك المهمة سلفاً ، ولهذا كان يردد دائماً : إن جيبي لا يمكن أن يخلو من الأموال .
وإذا كانت السرقة قد حدثت عند قدومكم إلى سوريا في بداية الصيف ، فإن سرقة قميص النوم حدث بعد ذلك بشهر عندما جئتم لتهنئة زوجتي بسلامة الولادة .
ولقد تم اختيارها للقطعة الداخلية دون القطعة الخارجية معها ، لما فيها من روائح العرق والنفاس والولادة . وهذا وحده كافٍ لتعقبها في الكويت ، ومعرفة مكانها . ولما لم يستطع ذلك الرجل أن يصل إلينا ، قام شركاؤه بمساعدته في نقلي إليه بتخطيط ماكر .
ويبقى سؤال واحد أخير : هل كنت تعلم قبل حديثي هذا بأنها مشاركة ودليل شراكتها أن لها خلوة ؟ قال : لا .
قلت : كم مضى على زواجكما ؟
قال : في هذا اليوم عيد زواجنا العشرين .
قلت : عشرون عاماً مضت وهي على هذه الحال وأنت لا تعلم ! إنك بين أمر من اثنين إما أنك كاذب ، وإما مخدوع . وأنا أرى بأنك كاذب وهذا هو عُري صلاحك الذي تحاول أن تغطيه بما لا يغطى لقد غضضت الطرف عن شراكتها لأنها درّت – ولا تزال تدر – عليك منافع جمّة . هذا هو تأويل رؤياك .
ومنذ ذلك اليوم انقطعت زيارتهم لنا نهائياً ، وتعمدت قطع أي اتصال بهم .
* * * * *
رؤيا سلام الرسول صلى الله عليه وسلم لي
قبل عام تقريباً من هذه المحادثة بيني وبين زوجها ، رأيت نفسي واقفاً في المكان ذاته الذي جرت هذه المحادثة فيه ، وكان الوقت نهاراً والشمس ساطعة .
فرأيت رجلاً يسير مسرعاً وهو يقول لي : محمد يسلّم عليك ، فصحوت من نومي على هذه الرؤيا ولساني يقول : صلى الله عليه وسلّم .(1/70)
آخر الضحايا 19/4/1996
ما بين الحديث الأخير مع زوجها ، وبين هذا التاريخ ، وقعت أحداث فيها أذى شيطاني رفيع المستوى عليّ ؛ وصل إلى تعريضي للقتل .
ولست بصدد الحديث عن هذه الفترة ، فهي تحتاج إلى كتاب منفصل . ولكن من بين هذه الأحداث ، حدث يستحق أن نتوقف عنده ، وبه تكون هذه التجربة قد وصلت نهايتها .
من بين أصدقاء طفولتي ، صديق جمعتني به المدرسة ، ثم مجالس العلم التي كنت أحضرها . ولم يستطع أن يستكمل دراسته الثانوية ، فقد اعتمد عليه أبوه – وهو أصغر اخوته – اعتماداً كلياً في إدارة شؤون المزرعة التي يمتلكونها .
وانحصر عمله منذ ذلك الحين بزراعة الأرض ، وتربية الأبقار . ولا يزال عمله هذا إلى هذا اليوم .
في هذه الفترة ، كان يحضر إليّ ، وقد جلب لي معه بضع كيلو غرامات من الحليب .
ذات يوم قال لي : إذا أردت مني أية خدمة فما عليك إلا أن تقرع بيدك جرس باب بيتك . وعندئذٍ ستراني قد حضرت .
لم يخطر لي على بال أبداً أنه يعني ما يقول . لكنه في زيارة أخرى قال : لقد ذكرتموني في بيتكم مساء أمس .
عندها بدأت أتوخى الحذر منه . فهل يعقل أن يكون هذا الشخص بالذات مكلفاً جديداً بي ؟ وهل يعقل أن يكون هو نفسه مشاركاً ؟
وأصبحت أنتظر زيارته بفارغ الصبر . كانت أموري قد هدأت ، ونظرتي في التعامل مع هذا الجانب أصبح موسعاً وموثوقاً .
فلما حضر إليّ قلت : كيف يمكن لك أن تعرف أنني أطلبك من خلال قرع جرس بابي ؟
قال : إن الذين معي قادرون على إخباري بذلك .
قلت : ومن هم هؤلاء الذين معك ؟
قال : إنهم ( أملاك ) !!!
قلت : وكيف تتعامل معهم ؟
قال : إذا أردتهم وضعت المسبحة بين أصابعي وبدأت بالذكر ( أي ذكر الله )
قلت : أوتفعل ذلك ، وأنت منفرد في غرفتك ، أم وسط زوجك وأولادك ؟
قال : أكون منفرداً ؟
قلت : إذاً هي خلوة تجمع بينكما .
قال : نعم .
قلت : إن هؤلاء الذين تختلي بهم إنما هم شياطين .
قال : لا تقل عنهم هذا ، بل قل ( أملاك ) .(1/71)
علمت – عندئذٍ – أنه مكلف جديد آخر ، أمامه مهمة وعليه تنفيذها .
جاءني ذات يوم قائلاً : رأيت في نومي أني في صحراء ممتدة ، وأحسست بظمأ شديد ، فحفرت في الرمال ، فنزلت إصبعي السبابة فيها ، فانفجر الماء فشربت ، ثم جاء رجلان فشربا ، ثم جاء عشرة رجال فشربوا ، ثم أصبحوا بالمئات فقمت من نومي وأنا أصيح بهم : كفى كفى .
سألته : لماذا لم تعرض رؤياك على شركائك ؟
فقال : إنهم لا يعلمون بهذا العلم .
قلت : وإذاً ما العلوم التي يمتلكونها لتكون طالباً لها منهم ؟ هل اخترعوا طائرة ؟ أم صنعوا طنجرة ؟ أم أوجدوا مصنعاً ؟
لقد أصبحوا منذ أن خلق الله الإنسان عالة عليه ، يعيشون على موائده ، ويبحثون عن بيت من بيوتنا ينامون فيه .
ولكنني قبل أن أعبّر لك هذه الرؤيا ، أريدك أن تصدقني ما تحدثك به نفسك . فقال : إنني أعدّ العدة لكي أذهب إلى المغرب لمدة سنتين ، حتى أستكمل علومهم وأعود .
قلت : الآن أعبّر لك . إن رؤياك تقول : إن المقدار الذي أخذته من علومهم ( وهو مقدار غرس سبابتك في رمال الصحراء ، والماء الذي ارتويت ) هو المقدار الذي لا يملكون زيادة عليه ، وليس لديهم من علوم أخرى غير ما أخذته ممّن معك ، إلا إذا كنت تريد أن تصبح ساحراً لا يشق لك غبار . هم أنفسهم سيكونون فيما بعد بحاجة إليك . وعندئذٍ ستضيق بهم ذرعاً . ثم قلت : لقد بقي من الرؤيا شيء هو أن شركاءك ترابيون وهم أقربهم خلقاً إلى طبائع البشر . فقال لي : صدقت .
جاءني هو نفسه زائراً في تاريخ هذا اليوم الذي عنونت به هذا الفصل ، وبدأ حديثه فقال : لقد جئت لأوضح لك بعض الحقائق :
إن زوج هذه المرأة التي وراءك عقيد في الجيش ( ويقصد زوجها منهم لا منا ) وهو ابن حرام . مؤذ لا يردعه رادع .
وكل ما هو مطلوب منك – كي نضع لهذه القصة نهاية – أن تقوم بدعوتهم إلى بيتك على غداء عندما يحضروا لقضاء إجازة الصيف .
قلت له : وإن لم تقبل زوجتي بدعوتهم .(1/72)
قال : إنها تنتظر منك اتصالاً هاتفياً .
قلت : إنني لا أعرف أرقام هواتفهم لا هنا ولا هناك .
قال : إذا كنت موافقاً ، فإنني يمكنني أن أقوم بالاتصال نيابة عنك .
قلت : وكيف يمكن لك أن تتصل بهم ؟ هل لديك أرقام هواتفهم ؟
قال : لا ، ولكنني أرسل لهم مرسالاً تحمله الريحُ إليهم ، ويكون ذلك كافياً لوضع خاتمة لهذه القصة .
عندئذٍ ، فهمت أنه مرسل بغرض الصلح بيننا . وأنها وقد يئست من تحقيق أي هدف لها لم يعد أمامها إلا أن تطوي هذه الصفحة . فقلت :
أولاً- إن تهديدك لي بزوجها الشيطاني لا يلقى مني إلا كل احتقار وسخرية ، وإذا كان عقيداً حقيقياً كما تزعم فإنني أتحداه هو وجنوده تحدياً مباشراً ، وعندئذٍ سأريك ماذا أصنع بهم .
لقد أمدني الله عز وجل بقدرة منه مكنتني أن أصمد طوال هذه السنين ، ولم تنحن هامتي خشية منهم ، لاعتقادي بقول الله عز وجل : { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } .
وثانياً- الآن حصحص الحق ، لقد فعلت كل ما بوسعها أن تفعله ، ولم تحصد إلا الندم والخسران لقد أُحرقت في دنياها حرقاً مؤقتاً ونجت منه ، لكنها ستحرق في نار جهنم خالدة مخلدة فيها ، لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها .
ثالثاً- لقد صمّمت ألا تقع عيناي عليها أبداً ، ولا أقبل بحال من الأحوال أن أراها .
كانت هذه المحادثة هي الخاتمة لهذه التجربة التي بدأت فعلياً بالرؤيا الصادقة في عام 1983 . وها هي ذي تمتد ثلاثة عشر عاماً متصلة .
وكان هذا الرجل هو الرجل الثالث الذي أشارت إليه تلك الرؤيا ، والذي كان يقف خلفهم بانتظار أن تسنح له الفرصة للدخول .(1/73)
أليست تجربة ممتدة طوال هذه السنين بكل أحداثها التي يتشابك فيها الليل مع النهار وعالم الإنس مع عالم الجن ، وتلك الرؤى الصادقة التي رافقتني خلالها ، والتي منحتني فهماً عميقاً لعلم تأويل الرؤيا لم أكن لأحلم به من قبل . أليس ذلك كله يعيد إلى الأذهان قول الإمام اللقاني رحمه الله تعالى معرفاً الكرامة فقال :
الكرامة أمر خارق للعادة ، ليس فيه معنى النبوة ولا هو مقدمة لها .
وتظهر على عبد ظاهر الصلاح ، ملزم بمتابعة نبي ، مكلف بشريعته .
مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح . علم بها أو لم يعلم .
نعم . لم أعلم بها ، ولو كنت أعلم بها لما تعلمت هذا العلم الذي أكرمني به ربي ؟
* * * * *
اكتشاف بنيامين
مسرابا هي القرية الهادئة الوادعة الواقعة في فم الغوطة ، تحيط بها الأشجار المثمرة من جميع جوانبها إحاطة السوار بالمعصم .
ويستقبلك مدخلها الغربي ببركة ماء تعلوها نوافير مضاءة ، وتتصل مباشرة بحديقة ممتدة يلامس طريقها الرئيسي الذي يعتبر الشريان الحيوي الذي يصل غوطة دمشق بعاصمة ريف دمشق وهي مدينة دوما التي تبعد عن مسرابا مسافة ثلاثة كيلو مترات فقط .
إلى هذه القرية جاءني الأمر الإلهي عبر رؤيا زوجتي لثلاث ليال متصلة بالذهاب إليها ، والإقامة فيها .
وبعد أن شيدت فيها بناء أسكنه ، اعتدت أن أذهب كل يوم جمعة إلى المسجد القديم في القرية . المسجد يبعد عن مكان سكني مئتي متر فقط . حيث أُؤدي فيه صلاة الجمعة .
قبل مدخل باب المسجد بقليل ، يقع بناء قديم ذو باب حديدي مغلق معظم الوقت ، تتخذه الجمعية الخيرية في مسرابا مقراً لها .
وفي داخل هذا البناء القديم المكون من غرفة واحدة فقط ، قبر مغطى برداء أخضر .
ومع أنني أمرّ من أمامه كل يوم جمعة ، فإنني وبعد سنة ونصف سنة من استقراري في هذه القرية ، لم يخطر لي على بال أن أقرأ عبارة منحوتة على أعلى الباب على صخرٍ قد تجرّد من لونه لطول عهده .(1/74)
وفجأة توقفت أتأمل الكلمات التي نحتت على الحجر ، فكانت المفاجأة الكبرى لي . لقد حفر على هذا الحجر هذه العبارة .
هذا مقام بنيامين ، أخوه يوسف ، أبوه يعقوب
وسألت نفسي هل هذا معقول ؟ هل من الممكن أن يكون بنيامين قد اختار هذه القرية سكنى له ؟ ثم هل هو قبر أم مقام ؟
صحيح أن العبارة المنحوتة تذكر كلمة مقام ، لكن هناك قبر حقيقي داخل هذه الغرفة . وبدأت أبحث عن هذه الحقيقة ، التي إن ثبتت صحتها تكون قد أجابتني على أسئلة كثيرة تراودني منها : أنني أُمرت بالمجيء إلى قرية لا أعرف فيها أحداً ، وكنت أمرّ فيها مضطراً أحياناً ، وما خطرت لي على بالٍ أبداً كمكان أستقر فيه .
لقد أمضيت حياتي كلها في المدينة ، وأنا أعلم أن الحياة في القرية مختلفة تماماً عنها ، ثم إن استقراري فيها يقطع عني الشريان الاجتماعي الذي أنتمي إليه .
ثم إن ثبتت صحتها تكون إشارة إلهية لي أنني أسير على خط شقيق بنيامين . لقد جاء بي إلى هنا لأستقر قرب أخي .
وربما يكون ذلك تعويضاً لي عن أخي الذي افتقدته منذ زمن طويل بعيداً عني .
وبدأت أسأل عن حقيقة هذا الأمر . معظم الذين سألتهم يقولون : نعم إنه سيدي سرابي وكانت إجابة كهذه غير كافية لي . فسألت بستانياً كبيراً في السن عن هذه الحقيقة فقال : نعم هو سيدي بنيامين أخوه يوسف وأبوه يعقوب عليهم السلام أجمعين .
فسألته : هل هو قبر أم مقام ؟ فقال : هو قبر يضم بنيامين . ولقد أخبرني والدي أنه كان واحداً ممن قاموا بإعادة بناء القبر ، بعد أن تداعى ، وأخرجوا منه ما وجدوه فيه فلم يجدوا إلا جمجمة كبيرة الحجم كاملة ، فقاموا بغسلها وتكفينها من جديد ، والصلاة عليه ، وأعادوها إلى القبر بعد أن تم إصلاحه .(1/75)
أمام ثبوت هذه الحقيقة ، بدأ يتضح أمامي اسم مسرابا . فكلمة ( مسرى ) هي اسم مكان على وزن مفعل ، وتعني السفر ليلاً ذهاباً أو عودة . ودليل ذلك أن الله عز وجل استعمل الفعل ( أسرى ) لبيان عروج النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ليلاً فقال : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] .
وأن الحرف ( ب ) الذي به ينتهي اسم مسرابا ، ويمكن لهذه اللفظة أن تكتب بألف مقصورة فنقول ( مسرابى ) وهذه هي اللفظة التي أرجحها لأنها تضم في آخرها أول حرفين من اسم بنيامين .
لقد أصاب اسم بنيامين نحتٌ لاتصاله بمكان سفره ، وهذا النحت مصدره كثرة الاستعمال ، وربما يكون استعمال العوام أكثر دقة في بيان هذا النحت ، ومعرفة أصله عندما يقولون : سيدي مسرابي . فالحرفان ( بي ) أشد التصاقاً بلفظة ( بنيامين ) لأن الباء فيه مكسورة .
أما بنيامين نفسه فهو الشقيق الأصغر ليوسف عليهما السلام ، وليس له اخوة من أمه سواه . وأمهما راحيل هي الزوجة الثانية ليعقوب عليه السلام .
بعض المؤرخين يرجح نبوة بنيامين ، وبعضهم ينكرها . ولم يرد ذكر اسمه في القرآن الكريم صريحاً لكن الإشارة إليه وردت في عشر آيات من قصة يوسف عليه السلام وفي أربعة عشر موضعاً منها هي :
{ ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين ، فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون ، قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون } [ يوسف : 59-60-61]
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون } [ يوسف : 63]
{ قال هل أمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل } [ يوسف :64]
{ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك } [ يوسف :69]
{ فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه } [ يوسف :76](1/76)
{ قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } [ يوسف :77]
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك قد سرق } [ يوسف :81]
{ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } [ يوسف :87]
{ قال هل علمتم بما فعلتم بيوسف وأخيه } [ يوسف :89]
{ قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي } [ يوسف :90]
بهذا الاكتشاف لقبر بنيامين عليه السلام ، ثم التحقيق في نسبة اسم قرية مسرابا إليه ، أكون قد طويت صفحة هذه التجربة بكل ما مرّ فيها .
وقفة تأملية
كان لا بد لي من أن أوضح بعض الجوانب التي رافقت هذه التجربة ، والتي كانت وتيرة أحداثها التي تتصاعد باستمرار ، عائقاً لي في أحيان كثيرة عن بسط هذه الجوانب ، وتفصيل الحديث عنها . وكان هناك أسئلة كثيرة من بينها ؛ هل هذه التجربة التي أمرّ بها ، والتي بدأت أستوعبها ، هي تجربة خاصة بي ، أم أنها تجربة عامة ؟
فإذا كانت خاصة بي ، فإنني في غنى عن إنفاق الوقت وبذل الجهد في تقصي أصولها . ولكنني عندما بدأت أتعامل مع علم تأويل الرؤيا ، ولمست حاجة الناس الماسة إليه أدركت عندئذٍ ، أنها تجربة عامة تملي عليّ أن أبحث عن أصولها .
أليس الفكر الإنساني عامة هو حصيلة تجارب مرّت بها البشرية عموماً ، والإنسان خصوصاً ؟ أليست التجربة في حد ذاتها ، علمية كانت أم فكرية ، تبحث عن نتائج توصّل إليها المجرّب ؟ وما قيمة أية تجربة ، مهما كانت كلفتها أو أهدافها ، ما لم تسفر عن نتائج تقدّم في نهايتها إجابات محددة في إطار من الصيغ الثابتة التي تضيف جديداً للفكر الإنساني عامة ، وللباحث عن هذا الجانب ، في هذا العلم التخصصي خاصة ؟
ولدى البحث عما قدمه الفكر الإنساني في مجالَيْ علم تأويل الرؤيا ، وعلم الجن ، وما عالجته المصادر العربية والإسلامية منها ، لم أجد ما يروي الظمأ .(1/77)
ففي المصادر العربية ليس هناك سوى كتاب واحد يعالج علم تأويل الرؤيا هو كتاب ابن سيرين ، وأما في المصادر الغربية فليس هناك كتاب أوسع وأضخم من كتاب تفسير الأحلام للعالم الألماني سيجموند فرويد .
وكان لا بد لي من أن أعود إلى مصدر أكثر دقة منهما ، وأوسع تفصيلاً مما ورد فيهما ، وكان هذا المصدر هو القرآن الكريم . ثم ربط ذلك كله بما فصلّته السنة النبوية .
وأمام محاولة كهذه ، كان لا بد لي من التوقف المتأني عند كل سورة ، بدءاً من تسميتها ، ثم تحديد ما ورد فيها آيةً آية ، ولفظةً لفظة .
فدخلت في عزلة أملاها علي هذا الهدف لثلاث سنوات متصلة ، بدءاً من عام 1991 تفرغت فيها تماماً لإنجاز هذا الفهم ، وللتوصل إلى نتائج فيه .
هذه العزلة رافقها عشرات من الرؤى الصادقة التي عرضت لي والتي عُرضت عليّ .
وكانت في جوانب كثيرة منها تضيف إلى خبرتي شيئاً ، وتغرس في نفسي يقيناً بأن ما أنا عليه ليس ضرورياً لي فحسب ، بل هو ضروري لعامة الناس .
ولا أزال أذكر أن زوجتي قالت : لقد رأت في نومها فأرتين ، إحداهما دخلت بيتنا ، والثانية ظلت خارجة .
فقلت لها يومئذٍ احذري من امرأتين داخلتين عليك بهدف السرقة . وفي اليوم التالي حدثت السرقة فعلاً . ولم تكن هناك امرأتان داخلتان ، وكان المسروق مالاً ورقياً فحسب ، مع وجود قطع من الأثاث خفيفة ، كان يمكن للسارق لو كان بشراً أن يحملها مع المال . وهنا تبين لي أن هذه السرقة إنما قام بها شركاء تلك المرأة من الجن . وأن الفأرة التي دخلت تدل عليها ، أما التي بقيت خارجاً ، فهي التي تدل على أمها .
أثناء هذا التفاعل مع الآيات القرآنية ، بدأت تتضح لي جوانب لم يشر إليها المفسرون لها ، وما كنت لأفهم هذا الإصرار الذي تعالجه الآيات الكريمة في موضع الأرزاق ، لو لم أتعرض أثناءها ، ولا أزال ، إلى محاربة مستهدفة قام بها أولئك الشركاء لمحاربتي في رزقي .(1/78)
وما كنت لأفهم حقيقة ( الاستدراج ) في قوله تعالى ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) إلا عندما رأيت أن تلك المرأة وزوجها يزدادان غنى وثروة ولكنهما لم يسعدا بهما للبخل الشديد الذي هما عليه .
وأما فيما يخص عالم الجن ، فإنني لا أزال أذكر فرحتي الغامرة عندما اكتشفت أن نوحاً عليه السلام كان يعلم أن قومه مشاركون شراكة جماعية عندما قال لهم : { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } [ يونس :71] .
وعندما فهمت المغزى الذي تتضمنه آيات العنكبوت ، أدركت عندئذٍ أنني بصدد اكتشاف جديد غاب عمن قبلي .
ولما وصلت إلى آخر سورة الشورى وقرأت قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب وما الإيمان } [ الشورى : 52] . غمرني شعور ملأ كياني أن ما أفهمه اليوم هو إلهام إلهي خصني به .
لقد كنت أحفظ القرآن من قبل ، لكنني لم أكن أدرك عمق هذا الفهم أبداً ، وشتان بين من يحفظ ولم يفهم ، وبين من يفهم ثم يحفظ .
وقلت : نعم : ما كنت أدري ما الكتاب وما الإيمان ؟ وأعتقد أن كثيرين غيري لم يدركوا ذلك أيضاً . ولكي أتمكن من تسهيل البحث عليّ ، وعلى غيري ، فقد رأيت أن أتحدث عن كل علم على حدة ، ولا أخلط بينهم إلا فيما اقتضته الضرورة فيما يخص الحديث عن الشركاء .
* * * * *
شروط الرؤيا الصادقة
لا يزال هناك كثيرون لا يستطيعون أن يفرقوا بين لفظتي ( نبي ) و ( رسول ) ، وإذا ما اجتهد بعضهم قال : الرسول هو صاحب رسالة أو كتاب سماوي أما النبي فلا .
لكن الفارق الجوهري بينهما هو أن النبي وحيه رؤيا صادقة ، أما الرسول فوحيه ملك . فالرسول الكريم I سمي نبياً ورسولاً في وقت واحد ؛ لأنه كان يرى الرؤيا الصادقة ، وكان هناك ملك ينقل إليه الرسالة وهو جبريل عليه السلام . أما يوسف عليه السلام ، فقد كان نبياً فحسب ، لأن وحيه كان رؤيا صادقة .(1/79)
ولو لم تكن الرؤيا الصادقة جزءاً لا يتجزأ من الإيمان بالقرآن الكريم كاملاً ، ما أفرد لها القرآن الكريم تلك المساحة فيه . فسورة كسورة يوسف لو جردت من الرؤى الأربعة الصادقة التي فيها ، لما كانت هناك سورة أبداً . وهذا ما يجعل الإيمان بها جزءاً متصلاً بسلامة عقيدة المؤمن ، وإن الشك فيها ، أو التقليل من أهميتها ، يمس سلامة هذه العقيدة مباشرة . وأما بناؤها فهو قائم على أرضية يدركها الرائي تماماً ، وأحداثها وشخصياتها بأسمائهم ومهنهم ، متصلان بحياة الرائي ، وطبيعة العلاقة التي تنظمه بهم .
وأما زمانها ، فأفضل أوقاتها هي رؤيا القيلولة ، ثم يأتي بعدها رؤيا الفجر قبله أو بعده . وتمتاز رؤيا القيلولة عن غيرها بأمور عدة :
أن الوحي نزل أول ما نزل على الرسول الكريم I نهاراً في غار حراء .
وهي في هذا الوقت بعيدة عن تدخل الشيطان فيها لقوله I : (( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل )) ( (1) ) . ولا بد من إيضاح الحقائق الذي أشار إليها الحديث الشريف . فهو دعوة مباشرة كي نخالف تلك الكائنات الحية التي تتبع النظام القمري فلا تقيل . فالقيلولة مرتبطة تماماً بالنظام الشمسي فالإنسان يلجأ إليها إذا ما اشتد الحر ، وأحسّ بإرهاق العمل ، فيبحث عن مكان ظليل يستريح فيه فيغلبه النوم .
وبما أن عالم الجن يعمل ليلاً حيث لا شمس ترهقه ، ولا ضوء يتعب ناظريه فإنه لا يقيل . فإذا ما أشرق النهار بضوئه ، خلد ذلك العالم القمري إلى النوم ، وعندئذٍ تصبح هذه الفسحة الزمنية من القيلولة بمنأى عن التدخل الشيطاني فيها .
__________
(1) - رواه البزاز عن أنس / كشف الخفاء ومزيل الإلباس جزء 2 ، ص 104 .
ورواه الطبراني عن أنس / جزء 2 ، ص 119 ، دار الكتب العلمية .(1/80)
كما أن النوم في القيلولة يكون بعد إرهاق وتعب ، فيكون ذهن النائم منصرفاً فيها إلى طلب الراحة ، وبعيداً تماماً عن توقع أية رؤيا قد تعرض له . هذه الأسباب المجتمعة هي التي تجعل رؤية القيلولة أشد صدقاً ، وأكثر ثباتاً من رؤيا الليل خاصة إذا كان الرائي يعاني ليلاً من الأرق أو القلق . ولكن ذلك لا يمنع أبداً أن تكون رؤى الليل صادقة خاصة إذا كان نوم الرائي على وضوء وكان مستغرقاً في النوم . وأما مصطلح ( الرؤيا الصادقة ) فهو المصطلح الذي اعتمده القرآن الكريم للرؤى التي ذكرها فيه فعندما رأى إبراهيم عليه السلام أنه يذبح ابنه ، وقام بتنفيذ ذلك . خاطبه الله سبحانه وتعالى قائلاً : { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } [ الصافات : 104 ،105] . وعندما دخل الرسول الكريم مكة فاتحاً ، ذكّره الله سبحانه بالرؤيا التي يبشره فيه بفتح مكة فقال : { ولقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27] .
إن استعمال مصطلح ( الرؤيا الصادقة ) ( (1) ) لا يطلق إلا على كل منام تم تحقيقه قطعاً وهو مصطلح ضروري لتمييزها عن سائر المنامات التي تعترض الإنسان في نومه . ولها شروط أربعة لا بد أن تجتمع معاً حتى تكون صادقة هي :
__________
(1) - أ – تكتب لفظة ( رؤيا ) بألف ممدودة لكراهيتهم اجتماع ياءين في آخر الاسم . فما كان في آخره ياآن فإنه يكتب بالألف ومثاله : دنيا وقصيا ، أدب الكاتب – لابن قتيبة ص202 .
ب – ونقول : رأيت في المنام ( رؤيا ) ورأيت في الفقه ( رأيا ) ورأيت الرجل ( رؤية ) المصدر السابق ص 268.
ج- ونقول عَبَرَ الرؤيا يعبُرها عِبارة ، المصدر السابق ص258(1/81)
أن يكون ذهن الرائي خالياً تماماً من أي موضوع متصل بما يراه ، وخير دليل على ذلك رؤيا يوسف عليه السلام وهو فتى ( لأحد عشر كوكباً ) حيث لم يكن يوسف وقت ذاك في سن يسمح له بأن يستوعب ألفاظ هذه الرؤيا ، ويدرك مدلولاتها . وفتى في مثل سنه لا يزيد عمره وقتها عن سبع عشرة عاماً ، يكون ذهنه منصرفاً إلى ما يتناسب مع سنه .
أن تكون ألفاظها قليلة ، ومدتها قصيرة . وكلما قصرت قلت ألفاظها ، وعندئذٍ تكون مصداقيتها أبلغ ، وأحداثها ملزمة الوقوع . ففي رؤيا ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل لفظتان فقط هما ( أني أذبحك ) ولكون هذه الرؤيا أقدم رؤيا يعرضها القرآن الكريم بهاتين اللفظتين ، فقد بني على هذا تشريع سماوي ملزم بالأضحية في موسم الحج ويبدو أن هذه الصفة كانت صفة أساسية لدى المعبرين قديماً ، ولهذا نجدهم عندما عرضت عليهم رؤيا الملك { في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات } أنهم قالوا عنها بأنها ( أضغاث أحلام ) .
وما كانوا ليصفوها بهذا لو لم يجدوها طويلة . ففيها إحدى عشرة لفظة ، وهذا العدد وحده كافٍ لينزعوا عنها صفة الصدق .
3-الرؤيا الصادقة تلزم رائيها أن يحتفظ بها في ذاكرته مدة طويلة ، كأنه يودعها في مستودع عقله ، فإذا ما تحققت استخرجها مسترجعاً كل لفظة وردت فيها ، وكل صورة عُرضت فيها عليه . فيوسف عليه السلام عندما رأى { أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } نجده يقول عندما رأى اخوته وأبويه يسجدان له { هذا تأويل رؤياي من قبل } لقد كان هناك زمان ممتد لعشرين عاماً تقريباً ، ما بين هذه الرؤيا وبين تحقيقها . وعلى الرغم من الأحداث المثيرة التي مرّ بها خلال عقدين من الزمان ، فإنه عندما رأى تحقيق ذلك استرجعها لم يُنقِص منها حرفاً .
وعلى هذا فالمعبرون يضعون حداً لتحقيق الرؤيا الصادقة أقصاه عشرون عاماً ( (1)
__________
(1) - أنظر الطبري – المجلد الأول ص364 حيث يقول :
(( وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن اسحاق ، قال :
ذكر لي – والله أعلم – أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثمانيّ عشرة سنة . أ-هـ(1/82)
) .
4-للرؤيا الصادقة هدف واضح محدد يُراد للرائي أن يصل إليه . ويتجلى هذا الهدف في تحقيق أحد أمرين هما : الإنذار أو البشارة . فهي إما أن تكون إنذاراً تتفاوت درجته من تنبيه إلى تحذير إلى إنذار . وإمّا أن تحمل له بشارة تكون بين يديه بشرى من الله عز وجل له كأن تُبشّر امرأة عقيم بالحمل . أو سجين بريء بالإفراج عنه .
ولعل هذه الصفة هي التي تجعل للرؤيا الصادقة دوراً يكمل دور ما بدأ به الأنبياء من قبل . فكل الدعوات التي حملها الأنبياء قامت على تحذير الكافرين وتبشير المؤمنين . ومصداق هذا قول الله تعالى { وما نرسل المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين } [ الكهف : 56 ].
ولقد أكد النبي الكريم I أن الرؤيا الصادقة هي امتداد للنبوة المنقطعة عندما قال : ( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) ( (1) ) قالوا : ما المبشرات يا رسول الله ؟ قال : الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له ( (2) ) . ولطالما كان التكليف على العباد قائماً بعد انقطاع النبوات ، فإن من رحمة الله تعالى بعباده أن يبقى خطاً مفتوحاً بينه وبينهم ، ومن خلاله يأمرهم أو ينهاهم ، يحذرهم أو يبشرهم وهذا الخط هو الرؤيا الصادقة . فالله تعالى يقول : { وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء ، إنه عليم حكيم } [ الشورى 51] .
__________
(1) - أخرجه الترمذي في الرؤيا بدون رقم ، وابن ماجة في تعبير الرؤيا برقم (3896) وأحمد في مسند الأنصار برقم (22922) .
(2) -عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن رسول الله I قال :
الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
ويورد كتاب ( منامات الرسول ) للسيد مجدي فتحي السيد ، منشورات دار السلام ط أولى 1991 ، مناقشة مستفيضة لهذا الحديث ص66 وما بعدها الحاشية .
ويشير إلى أن الحديث صحيح بإجماع البخاري ومسلم وأحمد وابن ماجة والبغوي في شرح السنة .(1/83)
وما الحجاب الذي يفصل العبد عن ربه إلا حجاب النوم . ومن خلاله يلقي الله تعالى على عبده ما يريد منه .
إلزامية الرؤيا
إذا كانت الرؤيا ملزمة الوقوع ، فهل هي واجبة التنفيذ ؟ ولا بد للإجابة على هذا السؤال الذي كثيراً ما واجهني ، من أن أبيّن أن ذلك يتناسب مع استعداد الرائي للتنفيذ .
لقد ضرب إبراهيم عليه السلام المثل الرائع في استعداده لتنفيذ ما رآه ، لقد كان ابنه الوحيد ـ وقتذاك ـ الذي جاءه بعد انقطاع الأمل في إمكانية امتلاكه للولد ، ولكنه مع ذلك ، لم يتردد أبداً في تنفيذ ما رآه .
إن هذا الإيمان بالإلزام في التنفيذ هو خاصية من خصائص الأنبياء ومن في مستواهم ، وهذا لا يكون إلا بحسب درجة استعداد الرائي من فهمه لحقيقة رؤياه .
وها هو ذا ملك مصر زمن يوسف عليه السلام الذي رأى سبع بقرات سمان . لقد أدرك أن رؤياه تحمل هدفاً غائباً عن ذهنه ، وشعر بحاجة ماسة إلى اكتشافه .
وعندما فسّر له يوسف عليه السلام رؤياه سارع إلى تنفيذها ، وأدرك أن تقصيره في ذلك سيوقعه هو وشعبه تحت سطوة مجاعة عارمة تصيبهم .
لقد كانت سرعة تنفيذه منجاة له ولشعبه ، وبهذا يكون الاستعداد قد بلغ مداه فحقق الغاية المرجوة منه .
وبالمقابل فإن فرعون موسى عليه السلام ، تنكّر للرؤيا الصادقة التي أنذرته بأنه إن لم يؤمن بموسى فإنه هالك هو ومن معه .
فالمؤرخون يذكرون أنه رأى في نومه ناراً خرجت من فلسطين ، فوصلت مصر ، وأنها دخلت كل بيت فيها فأحرقته .
فأخبره معبروه بأنه سيخرج من صلب يعقوب عليه السلام ولد يكون زوال ملكه على يديه .
لم يكن فرعون هذا يملك أي استعداد للتنفيذ ، فعارض وقاوم ثم هلك هو ومن معه ، لا في دنياه فحسب ، بل وفي آخرته ، ولم يهلك وحده وإنما أهلك شعبه معه ( (1)
__________
(1) -يروي الطبري بإسناد عن السدي أنه قال ما حدثنا موسى بن هارون ، قال :
حدثنا أسباط ، عن السديّ في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمذاني عن ابن مسعود – وعن ناس من أصحاب رسول الله I :
أنه كان من شأن فرعون أنه رأى رؤيا في منامه أن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر ، فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل ، وأخربت بيوت مصر .
فدعا السحرة والكهنة والقامْة والحازة فسألهم عن رؤياه فقالوا له :
يخرج من هذا البلد الذي جاء بنو إسرائيل منه – يعنون بيت المقدس – رجل يكون على وجهه هلاك مصر .
فأمر ببني إسرائيل ألا يولد لهم غلام إلا ذبحوه ، ولا يولد لهم جارية إلا تُركت .
انظر في تتمة الخبر ، الطبري ، المجلد الأول ص 388 وما بعدها تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، الناشر دار سويدان ، بيروت – لبنان .(1/84)
) .
ولعل هذا التحليل هو الذي يوضح مغزى العبارة التي تقول :
إن الرؤيا الصادقة تكون للمؤمن ( بها ) حجة له يستهدي بهديها ، ويستضيء بنورها وهي لغير المؤمن ( بها ) حجة عليه أمام الله سبحانه وتعالى ، فلا يستطيع أن ينكر تقصيره في تحقيقها ، وأن يتبرأ من مسئوليتها .
* * * * *
القسم الأول
علم التأويل
حقائق مستمدة من الأصول
ووقائع من حياة الناس
الرؤيا الصادقة في القرآن الكريم
إن أول مصدر بين أيدينا ، يتحدث عن الرؤيا الصادقة ، واضعاً شروطها وقوانينها هو القرآن الكريم . فقد عرض لنا سبع رؤى صادقة هي :
رؤيا إبراهيم عليه السلام عندما قال لابنه :
{ يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } [ الصافات : 102] .
وهي أول وأقدم رؤيا عرضها القرآن الكريم . وفيها أول أصل من أصول هذا العلم وهو الذبح .
وعلى هذا فإن رؤية الذبح في المنام فيه هذا ن المعنيان : ذبح الكبير للصغير ظلم . وذبح الصغير للكبير عقوق .
وعن هذا الأصل تتفرع معان عدة في الذبح ، فإن كان الذابح والمذبوح متساويين في السن ، أو المكانة ، فهذا بشرى للذابح برد اعتباره أمام المذبوح .
فإذا رأى أنه يذبح كبشاً ، وكانت امرأته حاملاً ، فهي بشرى بأنه سيرزق بغلام .
رؤيا يوسف عليه السلام عندما قال لأبيه :
{ إني رأيت أحد عشر كوكباً ، والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } [ يوسف :4]
تحتاج هذه الرؤيا إلى وقفة تحليلية مطولة ، لفهم المعدود فيها وهو ( كوكب ) و ( الشمس والقمر ) .
ومن المؤكد أن عدد إخوته من أبيه كانوا عشرة ( (1) ) . وأما الحادي عشر فهو أخوه بنيامين الذي كان أصغرهم سناً . وما وصفوا بكلمة ( كوكباً ) لعلو مكانتهم كما يقول المفسرون ، وإنما على النقيض من ذلك تماماً .
__________
(1) - تاريخ الطبري – المجلد الأول ص 348 .(1/85)
ولقد دلَّ لفظ ( الشمس ) على أبيه ، كما دلَّ لفظ ( القمر ) على أمه . هذا ما يقوله المعبرون . لكن القمر في هذا الموضع دلَّ على زوجة أبيه . فهي ليست أماً له بل خالته ، ومما لا شك فيه أنها هي خالته من جهتين . الأولى : أنها زوجة أبيه الأولى ، والثانية أنها أخت لأمه ( (1) ) . ومن المعلوم أن الكواكب والنجوم تتبع النظام القمري . وعلى هذا فإن هؤلاء الأبناء الأحد عشر كان يتبعون أمهم ، ويرهبونها .
شخصية هذه الزوجة كانت قوية إلى تلك الدرجة التي جعلتها تعزل أبناءها عن أبيهم ، وتبعدهم عنه . فلم يجرؤ واحد منهم ، لا صغيرهم ، ولا كبيرهم ، أن يبوح لأبيه عن مكر اخوته بيوسف .
لقد بلغت كراهيتهم ليوسف مبلغاً عظيماً وصل إلى حد القتل ، ومع ذلك لم يبح أي واحد منهم لأبيه ولو سراً بما يمكر إخوته به .
هذه الكراهية المتأصلة في نفوسهم ليوسف وأخيه ما هي إلا ثمرة فاسدة من ثمار هذه العلاقة الزوجية بين يعقوب عليه السلام وامرأته .
ولكي أريح القارئ من هذا الاستنتاج ، فإنني أستبق ما قلته فيما بعد ، عن النظام القمري باعتباره النظام الذي يشكل في كل ما يصدر عنه أذى مستمراً لعالم الإنسان وهو العالم الذي يتبع النظام الشمسي .
لقد حدد الله سبحانه العلاقة بين هذين العالمين بقوله : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } [ يس : 40] ، فإذا كانت الشمس هي أبوه . وأن القمر هي خالته ، فإن من صفات هذه المرأة أنها سعت خلال حياتها الزوجية مع يعقوب عليه السلام ، أن تكون لها الكلمة الفاصلة عنده . وأن يكون تبعاً لها .
__________
(1) - فالطبري يقول :
وقد اختلف في اللذين رفعهما يوسف على العرش ، وأجلسهما عليه فقال بعضهم :
كان أحدهما أبوه يعقوب ، والآخر أمه راحيل .
وقال آخرون : بل كان الآخر خالته ليا وكانت أمه راحيل كانت قد ماتت قبل ذلك .
راجع تاريخ الطبري – المجلد الأول ص362 .(1/86)
لقد كانت شخصيتها مسيطرة مستبدة ، ولقد نجحت في تكريس ذلك على أولادها ، لكنها لم تكن لتنجح في ذلك مع زوجها .
فرجل مثل يعقوب عليه السلام لا يمكن أن يقبل أو يتقبل أن يعيش – وهو نبي – في ظل امرأة تتحكم به وتسيطر عليه . امرأة تسلبه رجولته وكرامته . لكنه كان صابراً عليها ، حليماً بها ، مدركاً للأذى الشيطاني الذي يخضعها لتحقيق رغبات فاسدة كرغباتها .
ألم يقل لابنه يوسف عندما قصّ عليه رؤياه { لا تقصص رؤياك على أخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين } [ يوسف : 5] .
لقد كان يعقوب عليه السلام مدركاً تماماً لطبيعة زوجته ، وآثارها السيئة في تربية أولادها . لقد كانت تربية بعيدة عن أي احترام لأبيهم ، ولا بد أن يرافق ذلك ، سموم تنفثها في صدورهم مليئة بالاحتقار والسخرية منه .
واحتمل يعقوب عليه السلام منها ما احتمل ، محافظاً على هذا المركب الزوجي من التصدع . فمما لا يليق به ، وقد أنجب هذا العدد من الأولاد منها ، أن يقوم بتطليقها ، فالطلاق في حالة كحالة يعقوب عليه السلام وهو النبي الملزم بالمحافظة على سمعته ومكانته لا يحل المشكلة التي يواجهها ، بل – إن طلّقها – نقلها من السر إلى العلن ، وفتح الباب على مصراعيه أمام نيل الناس منه ومن نبوته .
ولم يكن هناك من حل أمامه ، بعد هذا الصبر الطويل عليها ، وأمام إصرارها وعنادها وتكبرها ، لم يكن هناك من حل سوى أن يتزوج عليها .
هذا الحل الذي ارتأه يعقوب عليه السلام ، أصابها في صميم كبريائها . لقد استبدل بها زوجة أصغر سناً منها ، وأكثر جمالاً .(1/87)
وأما صغر سنها ، فهي قدرتها على الإنجاب . وأما أنها أكثر جمالاً منها . فدليله جمال ابنها يوسف ( (1) ) إذ لم يوصف أحد من أبناء يعقوب عليه السلام بالجمال سواه .
وسواء كانت ( راحيل ) الزوجة الثانية أختاً لها كما يقول المؤرخون ( (2) ) أو لم تكن ، فإن ذلك لم يحدث أثره المطلوب في كبح جماحها .
فتعاظمت كراهيتها لزوجها ، وكراهية أبنائها لأبيهم ، وانعكس ذلك مباشرة على هذين الولدين اللذين فقدا أمهما مبكراً .
ولما لم يكن هناك من يربيهما ، بعد موت أمهما ، فقد أُلزمت هي بتربيتهم .
هذا هو العدل الإلهي الذي يرد الصاع بالصاع . فلو أنها كانت مع زوجها كما يجب على الزوجة أن تكون ، لما أجبرت زوجها على الزواج من امرأة أخرى ؛ ولكانت قد أعفت نفسها من أن تقوم بتربية أبناء عدوتها وضرتها .
ومن المؤكد أنها كانت تردد على مسامع أولادها ، فعلة أبيهم بها . وبدلاً من أن تضم هذين الصغيرين إلى صدرها ، مانحة إياهم حبها وحنانها ورعايتها ، فإنها بدلاً من ذلك ملأت قلوب أبنائها كراهية لهم ، وغيرة منهم . لقد تعاظمت هذه الكراهية في نفوس هؤلاء الأبناء على مر السنين لأخويهم ، فلم يخفف من حدتها ضياع أخيهم هذه السنوات الطويلة ، ضياعاً ملأ قلب أبيهم حزناً على فقده لولده .
ولم يستفق ضميرهم مؤنباً لهم على ما فعلته أيديهم . فلم تندّ من أحدهم كلمة واحدة فيها مواساة لأبيهم على مصابه هذا ، بل أرادوا ألا يذكر أبوهم أخاهم ولو بكلمة واحدة فقالوا : { قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين } [ يوسف : 85] .
__________
(1) تاريخ الطبري 330 المجلد الأول ، دار سويدان-بيروت . ففي الحديث المسند عن ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أعطي يوسف وأمه شطر الحسن)) .
(2) -المرجع السابق 361 المجلد الأول ، دار سويدان – بيروت .(1/88)
ويورد الطبري حواراً أُجري بين هؤلاء الأخوة وبين أخيهم بنيامين في مجلس يوسف عليه السلام قبل أن يُعرّفهم على نفسه فيقول :
فحدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السدي قال :
لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم وقالوا :
يا بني راحيل ، ما يزال لنا منكم بلاء ! متى أخذت هذا الصواع ؟
فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية ( (1) ) .
ولقد كان يعقوب عليه السلام مدركاً لهذا المحيط المشبع بالكراهية والغيرة على ولديه اليتيمين ، ولذلك طلب من ابنه ألا يقصّ رؤياه على اخوته ( فيكيدوا له كيداً ) .
لكن هذا الإدراك لم يكن سطحياً ، هدفه التهرب من تحمل المسؤولية ، بل كان إدراكاً جوهرياً مصدره الشيطان الذي زرع تلك الأفكار المسمومة في ذهن زوجته . ولذلك قال ( إن الشيطان للإنسان عدو مبين )
ولقد أدرك يوسف عليه السلام فيما بعد أن ما حدث بينه وبين اخوته مصدره ذلك النفث الشيطاني الذي دخل على أمهم من قبل ، فأوصلها إلى ما وصلت إليه . والذي كان هؤلاء الاخوة ضحية مباشرة له عندما قال :
{ وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي } [ يوسف :100] .
وإذا كان القمر قد دلّ على شيء فإنه يدلّ على ذلك النزغ الشيطاني الذي صاحب هذه الأم ورافقها ، فصدرت عنها تربية فاسدة بنيت على كراهية وغيرة ( (2) ) .
وإذا كانت الشمس قد دلت على يعقوب ، فهي الدلالة على الحق والصدق والصفاء . وهذان أصلان من أصول هذا العلم .
ولتأكيد الحقائق التي تضمنها هذان الأصلان وهما الشمس والقمر ، فإن السلف الصالح لم يكن فهمه عنها بعيداً .
__________
(1) - المرجع السابق ص 355 المجلد الأول .
(2) - هذا التحليل يؤكد على أن القمر دل في رؤيا يوسف عليه السلام على خالته زوجة أبيه وهذا ما يؤكده ابن سيرين عند الحديث عن الشمس فيقول : بل على خالته زوجة أبيه .(1/89)
فقد روي أن قاضي حمص رأى كأن الشمس والقمر اقتتلا فتفرقت الكواكب ، فكان شطر مع الشمس ، وشطر مع القمر ، فقص رؤياه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : مع أيهم كنت ؟ قال : مع القمر ، فقرأ عمر { فمحونا آية الليل ، وجعلنا آية النهار مبصرة } [ الإسراء : 12] ، وصرفه عن عمل حمص ، فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفين فقتل ( (1) ) . واعتماداً على فهم المعاني التي تتضمنها هذه الأصول ، فقد قمت بتأويل هذه الرؤيا التي تتصل بالنظام القمري . وإليك هذه الرؤيا وما نتج عنها من أحداث بعد تأويلها .
زارني صديق ذو رتبة عالية في الجيش ، ومعه زوجته ، وأخت له ، ومعهم شاب متخرج في الدراسات النفسية من الولايات المتحدة الأمريكية . هذا الشاب معه أخته وهي فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها . وهما ابنا أخت لهذا الضابط الصديق وهما مقيمان في الأردن . كان الوقت صيفاً ، فجلسنا على البلكون .
وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث ، وكان الجو منعشاً ، وكل شيء هادئاً ، التفت الضابط قائلاً : إن ابنة أختي تعاني من رؤيا رأتها وتريد منك أن تعبرها لها .
قالت : رأيت نفسي واقفة فوق سطح بيتنا ليلاً ، فنظرت إلى السماء فرأيت النجوم وهي تشكل أشكالاً عجيبة جميلة رائعة . فقلت لأبي : ألا ترى معي ذلك ؟ فقال لي : لا تنخدعي يا ابنتي بمنظرٍ كهذا .
التفت إلى الضابط وقلت : هل لديكم استعداد كافٍ لما سأقوله ؟ قال : نعم ، ولم يدرك مغزى سؤالي . فسألتها : هل تتراءى لك مخلوقات من عوالم أخرى ؟
لقد كان سؤالاً واحداً وحيداً من بين عشرات الأسئلة التي يمكن أن تطرح . وما كدت أُنهي سؤالي ، وإذا بي أراها واقفة ، قد نزعت غطاء رأسها ، وصرخت صرخة بعيدة مدوية ، ثم وضعت قدمها على كنبتها تريد أن ترمي بنفسها من الدور الثاني .
__________
(1) - تفسير ابن سيرين ، ص 326 .(1/90)
عندئذ وقف الجميع وقد أمسكوا بها ، فما كان منها إلاّ أن جثت على الأرض ، وزحفت جاثية على قدميها ويديها خارجة من بين الكراسي ، إلى الممر المؤدي إلى الصالون . وهناك بدأت تلقي بكل ما تحمله في يديها وأذنيها من حلي ، وهي تتأوه ثم تصرخ صراخاً مصحوباً ببكاء موجع .
لم يكن هناك من حل بين أيدينا إلا أن نوقف هذا الأذى الشيطاني الواقع عليها من شركاء جدد يصطحبونها ، إلا قراءة القرآن .
ولساعتين متصلتين ونحن وقوف حولها ، كنت أقرأ أواخر سورة البقرة { آمن الرسول } بصوت عالٍ و يرددون معي . وقف أخوها مذهولاً أمام ما يراه ، ويبدو أنه قد شعر بالعجز عن مد يد المساعدة لأخته فقال وهو مضطرب : ماذا يمكنني أن أفعل لها ؟ قلت له : اقرأ معنا وحسب .
أمام هذه الوقفة الجماعية المصحوبة بقراءة الآيات من أواخر سورة البقرة ، بدأت تظهر عليها تدريجياً عوارض الهدوء ، ثم عادت إلى طبيعتها ، لكنها كانت تتحاشى أن تنظر إليّ . وعند انصرافهم قال لي الضابط وقد أستوعب المغزى من سؤالي : لو كنت أعلم بحالتها هذه ما كنت جئت بها . ولكن أخبرني كيف استطعت أن تعبر ذلك ؟
قلت : لقد ذكرت هي النجوم التي تتشكل ، وهذه النجوم تتبع النظام القمري ، وكل ما يتبع هذا النظام فإنه يدخل منه أذى شيطاني علينا .
ولنا في فصل قادم تفصيل أكثر عن هذين النظامين ، ودلالة كل منهما في علم تأويل الرؤيا .
يوسف والتأويل
كيف أصبح يوسف عليه السلام معبراً ؟ من المؤكد أنه أصبح معبراً عندما دخل السجن ، أما قبل السجن فلم يكن كذلك .
ولا بد لنا قبل أن نخوض في تحليل الرؤى الثلاثة ، التي قام بتأويلها وهو في السجن . من أن نتعرف على التجربة التي مرّ بها قبل السجن فأوصلته إلى أن يخصه الله سبحانه بهذا العلم .
ونبدأ بقول الله تعالى له : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } [ يوسف :12] .(1/91)
فالفعل ( يجتبيك ) هو فعل استعمله الله سبحانه لاثنين من الأنبياء ، مرّ كل واحد منهما بتجربة مريرة .
أولهما كان آدم عليه السلام ، الذي تعرض لتجربة قاسية مع الشيطان . وتفصّل الآيات الكريمة بألفاظ مكثفة أبعاد هذه التجربة فتقول :
{ فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى ، فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } [ طه :120-122] .
فهنا عصيان لأمر الهي ، يتبعه غواية من الشيطان ، كادت أن تذهب بآدم عليه السلام .لقد كانت هذه التجربة مُرة قاسية على آدم ، فهو أول من مرّ بتجربة كهذه .
فقد كان صراعه مع الشيطان صراعاً لا مرئياً ، ولم يكن انحرافه وعصيانه نابعاً من ذاته ، وإنما بفعل مؤثر خارجي لا مرئي له .
ولما كانت كل تجربة لها خاتمة كما أن لها بداية ، فقد كان ( الاجتباء ) لآدم خاتمة لها .
وأما الاجتباء الثاني فكان ليونس عليه السلام . فقد وصف الله سبحانه تجربته فقال : { فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم ، لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم ، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين } [ القلم :48-50] . فيونس عليه السلام ، أوصله قومه إلى قمة الغضب ، عندما رآهم معرضين عن الإيمان بدعوته ، فغادرهم غاضباً قد مُلئ غيظاً ، ولم يدرك أن غضبه هو ما يريده الشيطان منه ليصرفه عن استكمال دعوته لقومه .
وهنا نجد أنّ عصيانه في تنفيذ الأمر الإلهي الذي كُلف به ، لم يكن نابعاً من ذاته ، وإنما بفعل مؤثر خارجي عنه . وأمام هذا العصيان كان هناك ( الاجتباء ) ليونس خاتمة لهذه التجربة . أما في حالة يوسف عليه السلام فقد كان هذا ( الاجتباء ) مقدراً عليه من قبل أن يخوض أية تجربة ، ومن قبل أن يتعرض لأي مؤثر خارجي شيطاني أو غير شيطاني .(1/92)
ولما كان ( اجتباؤه ) والمعنى هنا اختياره وانتقاؤه مقدراً عليه من قبل ، فلا بد عندئذٍ من إحاطة هذه التجربة بالشروط الكفيلة بنجاحها .
ولهذا فلقد تم اقتلاعه من محيطه التربوي والاجتماعي بعيداً عن تأثير أبيه النبي يعقوب عليه السلام عليه ، ثم نفيه إلى محيط اجتماعي مختلف تماماً عن مجتمعه في عاداته وتقاليده ومفاهيمه .
فالمجتمع المدني يتسم بحرية أفراده ، وللمرأة فيه حظ كبير من الحرية والاستقلال والتنقل ، أما المجتمع الصحراوي فهو مجتمع يقيّد أفراده بقيم القبيلة ، ومفاهيمها ، وليس للمرأة فيه حظ كحظها في مجتمع المدينة .
هذا الإطار الخارجي لهذه التجربة ، هو الإطار الذي وفّر ليوسف هذه الحرية التي كان يفتقدها ، والتي هو بحاجة ماسة لها . فقد جاء إلى هذا الوسط الاجتماعي فتى لا يزيد عمره عن سبعة عشر عاماً ( (1) ) ، ثم ها هو ذا ينتقل فيه من مكان لآخر حتى استقر المقام به في بيت العزيز .
هذه الخبرة الاجتماعية التي تنامت معه ، صقلت شخصيته ، فمنحته تلك الرجولة التي تستهوي النساء المتزوجات في أزواجهم .
لقد كان بيت العزيز هو الإطار الداخلي الذي يحقق لهذه التجربة شرطها الضروري ، ففيه امرأة متزوجة ذات غنى ، ولها حريتها التي تمكنها من أن تفعل ما تشاء .
أضف إلى ذلك تمتعها بشخصية قوية قادرة على أن تتحكم بشؤون بيتها وأن تفرض إرادتها على زوجها .
هذا الزوج الذي صوره القرآن الكريم بأنه مسلوب الإرادة ، ضعيف الشخصية أمامها ، قد سلبت منه نخوته ، وحرصه على عرضه .
إذ أنه ، وبعد أن انجلت حقيقة خيانتها أمامه ، لم يزد على قوله : { يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } [ يوسف :29] .
رجل كهذا إرادته مسلوبة في بيته ، وشخصيته ضعيفة إلى هذا الحد أمام زوجته ، مع أنه في منصب حكومي يفرض عليه أن يكون آمراً وناهياً وذا شخصية قوية في عمله أمام رؤسائه .
__________
(1) -تاريخ الطبري ، المجلد الأول 336 ، دار سويدان-بيروت .(1/93)
وتمرّ الأيام والسنون بيوسف عليه السلام في هذا البيت ، وهو تحت نظر امرأة العزيز وبصرها فينكشف أمام عينيها جماله ورجولته .
هذه الرجولة التي كانت تفتقدها في زوجها ، فليس جمال الرجل مقياساً لشخصه ، إذ أن مقياس الجمال إنما تقاس به النساء ، وإنما المقياس الحقيقي لجمال الرجل هو رجولته .
وما الرجولة إلا أن يكون حازماً في مواطن الحزم ، ليناً في موضع اللين ، له رأي سديد يمليه بثقة وبعد نظر .
كل صفات الرجولة هذه كانت بعيدة كل البعد عن العزيز زوجها . وربما تكون هي نفسها قد ساهمت في إفقاد زوجها هذه الرجولة ، وتحويله إلى مسخ بين يديها .
أما كيف استطاعت أن تفعل ذلك ؟ وأن تسعين بمن يمكنّها من تحقيق هذا الهدف ؟ فهذا ما يقدمه هذا التحليل الجديد لهذه الشخصية .
وهنا لا بد من أن نعالج نقطتين جوهريتين في هذه القصة القرآنية .
أولهما : شخصية امرأة العزيز . هذه الشخصية كانت تستمد قوتها في تحطيم مكانة زوجها ، وسمعته ، ثم في إغراء يوسف عليه السلام ، ومن ثم ملاحقته فيما بعد عندما امتنع عنها وحبك المؤامرات الكفيلة بإيصاله إلى السجن .
كل هذا كانت تفعله عن قوة واقتدار لا تملكها معظم النساء . وليس من المعقول أبداً أن تستعين برجال يعملون تحت إمرة زوجها ، لأنها لا يمكن أن تستخدم من يكون جاسوساً عليها ، بحيث ينقل أخبارها إلى زوجها .
وإذاً فما هو مصدر قوتها هذه ؟ ليس هناك من تحليل مقنع لمعرفة مصدر هذه القوة ما لم يكن لها شركاء من عالم الجن .
هؤلاء الشركاء – ليسوا مرئيين – ويمكن لهم أن يكونوا بين يديها خدماً حاضرين . ولكونهم ذكوراً ، فإن تكليفهم بأي أمر ، إنما يقومون به بلا شفقة ولا رحمة ، وكل همهم أن ينالوا رضا شريكتهم .
ألم يصف الله تعالى هذه الحقيقة عندما قال : { واتخذوا من دون اللّه آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون } [ يس : 74-75](1/94)
ألم تقل هي نفسها بصوت مرتفع أمام النسوة الشامتات بها ، وبكل ثقة واقتدار ، وبلا أدنى حياء أو خجل { ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين } [ يوسف :32] . ألم يكن رفضه في تحقيقه لشهوتها ، طعنة بالغة لأنوثتها ؟ وهل هناك تحطيم أبلغ لامرأة تلقي نفسها بين ذراعي رجل لكنه يرفضها ؟ إنها مهانة كبرى لن تتقبلها ، وستحرص على أن ترد هذه الطعنة بطعنة أكثر إيلاماً من طعنته .
ولم يكن أمامها ما يحقق لها ذلك إلا أن تكيد . والكيد فعل شيطاني لا مرئي ، فيه يحيك المشاركون مؤامراتهم مع شركائهم . إنني أفهم هذا الكيد الذي اضطلعت به مع شركائها من خلال قولها عندما اعترفت بالمؤامرات التي كادت له فقالت : { وأنّ الله لا يهدي كيد الخائنين } [ يوسف : 52 ] ، فإذا كان الكيد منها ، فإن التنفيذ كان من شركائها الذكور فـ ( الخائنين ) جمع مذكر سالم . ولو كان شركاؤها إناثاً لقالت ( كيد الخائنات ) ، ولي وقفة عند لفظة ( الخيانة ) في فصل قادم .
لقد وصف الله تعالى هذا الكيد في أكثر من موضع دالاً من خلاله على المؤامرات التي يحيكها الشركاء للإيقاع بمن يريدون الإيقاع به .
{ أم يريدون كيداً ، فالذين كفروا هم المكيدون } [ الطور :42]
{ وما كيد الكافرين إلا في ضلال } [ غافر :25]
{ فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء :76]
ولم يكن هناك من وسيلة ، أمام هذا الشاب الأعزل المنقطع الجذور، الخالي من أية حماية ، سوى اللجوء إلى الله تعالى ، يدعوه فيها إلى أن ينير له دربه، وأن يفتح له آفاق ما يجهله مما يحاك ضده .
وهنا تأتي الرؤيا الصادقة التي بدأت مع يوسف عليه السلام ، محذرةً له من مؤامراتهم ، وكاشفة له عما يخططون له للإيقاع به .(1/95)
هذه العناية الإلهية التي أحاطته كانت من خلال تلك الرؤى الصادقة التي أُكرم بها . وإنني لأرى أن هذا الكيد قد وصل أقصاه ، إذ أنه كانت هناك رؤى خاصة به تحذره من هؤلاء المجرمين الذين يسعون إلى قتله والخلاص منه .
ورؤيتي لهذا الواقع إنما استنتجتها من خلال دعوته إلى ربه أن يسجن . فالسجن حماية للمرء من براثن القتلة خارجه . وعندما لم يستطيعوا قتله سعوا إلى سجنه { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننّه حتى حين } [ يوسف :35] .
وهنا تتحد الأهداف من وراء سجنه، فبالنسبة ليوسف عليه السلام هو حماية له ، وبالنسبة لأولئك يحقق الحد الأدنى لهم من سوء سمعته والتشهير به .
إلى هنا تكون هذه التجربة قد اكتملت أبعادها ، ووصلت إلى نهايتها التي أراد لها الله تعالى من قبل . ورؤية الإنسان نفسه في السجن في المنام أصل مستمد من أصول هذا التحليل ، ويدل على كل من سيتهم بتهمة باطلة هو بريء منها .
ولتأكيد هذا الأصل ، لا بد لي من أن أروي هذا المنام الذي قصته عليّ محضرة للعلوم في إحدى المدارس .
قالت : رأيت زوجي في نومي في السجن .
قلت لها على الفور : يتهم تهمة باطلة هو بريء منها ثم ينجو .
وبعد أسبوع تماماً . قالت لي : من أين استجمعت تأويلك لرؤياي عن زوجي ؟ لقد كان تأويلاً صادقاً تماماً .
وقصته كما يلي : إن زوجي كان متطوعاً في الجيش ومسؤولاً أثناءها عن قطع عسكرية ذات قيمة ، ولما بلغ الستين تم إعفاؤه من العمل .
وبعد خمس سنوات من إعفائه جاءه تبليغ بحضور محكمة عسكرية ، وكان ذلك بعد تأويلك لرؤياي . وعندما ذهب إلى المحكمة بلغوه أن هناك قطعة ذات قيمة لم يقم بإبراء ذمته منها . ولحسن الحظ ، فإن زوجي كان يحتفظ بأوراقه كاملة ، على الرغم من مرور هذه السنوات على تسريحه ، ومن بين هذه الأوراق ، الورقة التي تثبت تسليمه لتلك القطعة . وقد صدر البارحة قرار ببراءته .
* * * * *(1/96)
وأما النقطة الجوهرية الثانية التي تطرحها هذه القصة القرآنية فهي البرهان الإلهي . { ولقد همت به وهمَّ بها لولا أن رأى برهان ربه } [ يوسف : 24] .
فالبرهان هو الدليل القاطع الذي يقوم بعد مناقشة عقلية محضة ، فإذا كان من الله فهو دليل مانع لأي شك وصل الذروة في مناقشة عقلية ولم يصل فيها صاحبها إلى اليقين . ففي حالة يوسف عليه السلام ، كان يرى – وهو يعيش في مجتمع وثني – انحلال هذا المجتمع وتفسخه ، فلا يقيم وزناً لخلق أو دين .
فامرأة العزيز عندما دعت النسوة ليروا جماله ، انبهرن به ، وقطعن أيديهن ، ولم يصدر عن امرأة منهن ما يدل على استنكارها ، لما تعرضه تلك المرأة عليهن .
مجتمع كهذا ليس للفضيلة مكان فيه، مرتع خصب لشاب أعزب ، تتنامى لديه الرغبة الجنسية العارمة التي يؤججها جو من الإباحية ، والتعري ، شبيه تماماً بما نراه في المجتمع الغربي اليوم .
ولكنه – في الوقت نفسه – يعيش في بيت رجل لم يجد منه إلا كل إحسان ورعاية ، فكيف يمكن له أن يرد على إحسانه بالإساءة ؟ وهل يتقبل عقله وضميره أن يخونه في زوجته ؟ هذا الصراع بين عقله وشهوته كان بحاجة إلى برهان . برهان يستند إليه يكون منجياً له من صراعه ، ومنقذاً له من معاناته .
إنه – وإن كان قد همَّ بها – فإنه لا يزال يحتفظ بتلك القدرة العقلية والضميرية التي تغلب شهوته .
هذه المساحة المحدودة ما بين العقل والشهوة التي يتنامى أحدها على حساب الآخر ، كان بحاجة ماسة فيها إلى برهان يريحه . برهان يضع حداً فاصلاً ما بين هذا وذاك .
ولم يكن هناك من أحد يستطيع أن يبوح له بما يعانيه ، وليس هناك من رادع اجتماعي له فهو في بيئة غريب عنها ، ولم يعد هناك من باب يطرقه غير باب الله تعالى .(1/97)
في هذا الموقف العصيب كان هناك البرهان الإلهي مادّاً حبل النجاة له . لقد كان نوراً إلهياً حقيقياً رآه بعينيه قاطعاً الشك باليقين المطلق . إنه الله الذي أكرمه بهذا البرهان فهو الذي يسمع ويرى .
لقد كان هذا المشهد النوراني لمحة كافية له لتنقله من العالم المادي المحيط به ، إلى العالم الروحاني المطلق .
ولكن ألم يكن إبراهيم عليه السلام وهو صاحب الإيمان المطلق بحاجة إلى برهان كهذا ؟ ألم يطلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ؟
ثم ألم يكن لوط عليه السلام بحاجة إلى برهان إلهي ينقذه وضيوفه مما أراد قومه أن يفعلوه بهم ؟ ألم يقل في هذا الموقف العصيب { لو أنّ لي بكم قوة أو أوي إلى ركن شديد } [ هود : 80] ؟
في اللحظة الحاسمة الفاصلة يأتي البرهان الإلهي فيكون تكريماً عظيماً من الله سبحانه لعبده الصابر المُعاني الذي لا يجد عوناً من أحد إلا عون الله له . وهكذا يكون هذا البرهان تكريماً من الله لعبد يستحق هذا التكريم .
إن هذا البرهان الإلهي يأتي لصاحبه مرّة واحدة فقط . ولن يكون هناك بعده حاجة لبرهان آخر .
هذه الحقيقة في البرهان تتعرض باستمرار لاستخدام كاذب من أولئك المشاركين ، مدعين أنّ فلاناً سيحدث معه كذا ، فإذا سئلوا عن مصدر علمهم بهذا قالوا : شيء أكرمنا الله به .
ونختتم هذا الفصل بأصل من أصول هذا العلم وهو اجتماع النسوة ، فكل اجتماع لهن دليل على مصيبة ستحدث في مكان اجتماعهن ، ولو كان ذلك في الحرم .
وللغة دور في تأكيد هذا الأصل حيث لفظة ( المأتم ) هي لفظة خاصة باجتماع النساء حصراً سواء كان هذا الاجتماع لخير أو لشر . ومن نافلة القول أن الناس يستعملونها للدلالة على المصيبة ( (1) ) .
* * * * *
هذا النور الإلهي الذي يصاحب البرهان يمنح صاحبه صفاءً ذهنياً وعقلياً ونفسياً لا مثيل له . ولا يعرفه حق المعرفة إلا من تذوقه .
__________
(1) - أدب الكاتب لابن قتيبة ص 20 .(1/98)
وهذا مصداق قوله تعالى : { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور :40] .
ولابد لكل من أذن الله له بالخوض في علم كعلم التأويل من أن يكون قد رأى هذا النور الإلهي الذي منه يستمد هذا الإلهام في تأويله . وهنا نتوقف عند تحليل الرؤيتين اللتين عُرضتا على يوسف وهو في السجن . ويكون ترتيبهما الرؤيا الثالثة والرابعة في القرآن الكريم :
الرؤيا الأولى : ساقي الملك . قال : { إني أراني أعصر خمراً } [ يوسف :36] .
إن هذه الرؤيا هي خير مثال للرؤيا الصادقة لأنها تحوي الشروط الأربعة التي حددتها في فصل سابق لها .
وإنني إذ أقوم بتحليلها فإنني أفعل ذلك ، وكأنها تُعرض علي اليوم ، فماذا عساي أن أقول فيها ؟ إن مصر لم تكن في يوم من الأيام منتجة للعنب ، ولذلك فإنهم مضطرون لاستيراد الخمر مصنعاً من بلاد الشام . فجودة الخمر مرهونة بجودة العنب الذي يصلح للتخمير .
هذه الخمر المصنعة ربما ترضي أذواق العامة من الناس ، أما القصور الملكية التي تقدمه شراباً لضيوفها ، فإنها تحتاج إلى خمر مصنعة من أجود أصناف العنب ، وتحضرها أيد خبيرة ، لها باع طويل في تصنيعه بيديها بما يرضي مذاق الطبقة الراقية الخبيرة بأنواعها ، ومدة تخزينها . وهذا كان يفرض عليهم استيراد العنب من بلاد الشام ، متحملين بذلك غلاء ثمنه ، وتكاليف نقله ، وتوفير الشروط التي تمنعه من التلف ، ليصل سالماً مُهيئاً للتخمير .
هذه الشروط تجعله بعد تصنيعه خمراً غالية الثمن لا يستطيعها عامة الناس ، وبحاجة كما قلت لأيد خبيرة ماهرة تجعل منه خمراً ذا مذاق يرضي الطبقة الحاكمة ، وضيوفها الذين يردون عليها .
ومما لا شك فيه أن هذا الساقي قد تحدث مع يوسف عليه السلام في سجنه واصفاً له خبرته في تصنيع الخمر . هذا البعد الاجتماعي والمهني لم يغب عن ذهن يوسف عندما عُرضت عليه رؤيا هذا الساقي . ولهذا أوّلها له فقال : { أما أحدكما فيسقي ربه خمراً } [ يوسف :41] .(1/99)
فقد أدرك أن عصر هذا الساقي للخمر لا يكون إلا في القصر الملكي ، وخبرته في تصنيعها تجعله مقتدراً على استيعاب الأسلوب الراقي في تقديمها لضيوف القصر الملكي .
ويعتبر العصر هنا والعصير في تأويل رؤيا الملك القادمة . أصل من أصول هذا العلم يدل على فرج وخير قادم للرائي إن كان مفرداً ، وللجماعة إن كان عاماً . بعد شدة وضيق .
وأما الرؤيا الرابعة التي عرضها القرآن الكريم وهي الثانية التي أوّلها يوسف عليه السلام في السجن إنها رؤيا الخباز الذي قال :
{ إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه } [ يوسف :36] .
وكان تأويله لها { وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه } [ يوسف :41] .
وتنطبق على هذه الرؤيا الشروط الأربعة التي يقتضيها صدقها ، فهي قصيرة وألفاظها قليلة ، وقد وعاها ذهن الرائي ، وأخيراً حملت هدفاً كان إنذاراً بسوء مصيره .
ومما لا شك فيه أن يوسف عليه السلام قد استمع إلى قصة هذا الخباز باعتبارهما سجينين ، لكنه ربما كان كاذباً في رواية سبب سجنه . محاولاً أن يبرأ نفسه مما هو منسوب إليه .
إذ أن من أهداف الرؤيا الصادقة أن تنفي باطلاً أو تثبت حقيقة فجاءت هذه الرؤيا لتحمل بعداً اجتماعياً يقرر فيما بعد مصير هذا الخباز .
ففي عصرهم كان الخبز يباع معروضاً على طبق من قش ، يحمله الأجير على رأسه ، متنقلاً فيه من حي إلى حي . فلما رأى أن الطير تأكل من هذا الخبز فقد استدل منه على أن حامله مفقود ، إذ أنه لو كان حياً لما اقتربت الطير منه .
ومما هو مألوف أن ترد الطيور غير اللاحمة البيادر تلتقط منها الحب الذي تركه الفلاحون بعد جمعه . لقد أثبتت هذه الرؤيا ليوسف عليه السلام ان هذا الخباز ارتكب الجريمة التي يستحق عليها القتل .
وأما أنه قال ( فيصلب ) فقد كانت عقوبة الإعدام في عصرهم هو الصلب ، والمصلوب في العراء يكون عرضة لوقوف الطير عليه ناهشة من رأسه .(1/100)
ويعتبر رؤية الخباز في النوم هو رؤية لرجل مشاغب ذي مشاكل كثيرة ، وخاصة لملامسته النار بشكل دائم . ورؤية الحب المنثور دليل على أرزاق ضائعة لا تجد من يطالب بها . ورؤية المصلوب دليل على ثبات التهمة التي تنسب لهذا الرجل أو ذاك . والناقر حي والمنقور هالك . وهذا الأصل تؤكده الرؤيا التي رآها عمر بن الخطاب لنفسه فهو يقول : رأيت كأن ديكاً نقرني نقرتين أو ثلاث .
فلما قص رؤياه على أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت له :
يقتلك رجل من العجم المماليك .
فكان تأويل الديك رجلاً أعجمياً ، وتأويل النقر الطعن . وقد طعنه لؤلؤة الفارسي طعنتين أو ثلاث كما قالت الرؤيا ، وكانت بذلك نهاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ( (1) ) .
وهذا كله أصول من أصول هذا العلم .
* * * * *
الرؤيا الخامسة التي عرضها القرآن الكريم ، وهي الثالثة والأخيرة التي أوّلها يوسف عليه السلام وكانت سبباً في خروجه من السجن .
{ وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأُخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون ، قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } [ يوسف : 44]
ولي عند هذه الرؤيا وقفة متأنية أعالج فيها أموراً عدة منها :
أن العصور القديمة أفراداً ومجتمعات كانوا يولون الرؤيا الصادقة أهمية كبرى ، ويؤمنون بها وبإلزاميتها . ولهم فيها مقاييس ثابتة ، اعتبرت بالنسبة إليهم ، ولا تزال كذلك ، بالنسبة إلينا أصولاً يعتدّ بها من أصول هذا العلم .
فعلى مستوى الأفراد ، مرّت بنا رؤيتا السجينين مع يوسف عليه السلام ، ولكن في هذه الرؤيا يستوقفني قول الملك { أفتوني في رؤياي }
__________
(1) - تفسير ابن سيرين تحقيق يوسف بدوي ، ص 301 منشورات دار ابن كثير ط. ثانية 11993 .(1/101)
وتشير المصادر التاريخية التي تتحدث عن الطب عند قدماء المصريين . إلى وجود مكتب خاص في القصر الملكي ، يضم فيه نخبة من المعبرين . ويؤكد قول الملك هذا وجود طائفة منهم بين يديه ، قصّ عليهم رؤياه .
وما كان ذلك إلا لإدراكهم لأهمية الرؤيا ، وما تحمله من توجيه وتنبيه ومساعدة للملك في إدارة شؤون الحكم ، والقيام بمصالح الشعوب .
لقد مكنت هذه الرؤيا ، هذا الملك ، من أن يسلك الطريق الذي أنجاه وشعبه من كارثة محققة كانت ستحل بهم .
فسبع سنوات متتالية من الجفاف ، والقحط المريع ، كانت كافية ليذوق شعب مصر مرارة الجوع ، وغلاء الأسعار ، وقلة الموارد .
لقد كانت رؤيا الملك ، بعد إيمانه بها ، وبعد أن نفذ مقتضاها ، منجاة لشعب بكامله مما ينتظره من مآس وويلات .
وإذا كان إيمان الأفراد بالرؤيا الصادقة له تلك المكانة في تلك العصور ، فإن إيمان المجتمعات لم يكن يقل أهمية في إيمانها بها عن الأفراد . وسنعالج ذلك عند الحديث عن معركة بدر .
والنقطة الثانية التي تعالجها هذه الرؤيا قول الملك { أفتوني في رؤياي } وقول المعبرين عنها { أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } .
لقد كانت هذه الرؤيا من الصدق والوضوح ما جعل الملك يطلق عليها اسم رؤيا ، فقد كانت رموزها مما يستحيل على أي متخيل أن يستجمعه . لقد كانت رموزها منصرفة عن ذهن الملك تماماً . مما جعله يدرك أن هذه الرؤيا من الله سبحانه لا من صنع خياله .
أما المعبرون فقد وجدوها طويلة ، ذات ألفاظ كثيرة ، فنفوا عنها صفة الرؤيا . وهي في حقيقتها أطول رؤيا عرضها القرآن الكريم من حيث عدد ألفاظها . إذ أنه من الثابت لديهم أن الرؤيا الصادقة ألفاظها قليلة .
ولنا وقفة أخرى عند الفروق بين الرؤيا والحلم عندما نتوقف عند تحليل رؤيا بسمارك كما وصفها ( فرويد ) في كتابه تفسير الأحلام .(1/102)
ولا يسعني هنا إلا أن أنبه إلى حقيقة رحمة الله تعالى بالملوك والرؤساء الذين يتحملون مسؤولية شعوبهم ، فهم في حقيقتهم نواب عن الله في أرضه ، يحكمون بأمره ، وعلى أيديهم تجري أرزاقهم ، وتصريف شؤونهم في أمور دنياهم ، من عدالة ، وأرزاق ، ومعاملات .
ولطالما هم يتحملون هذه المسؤولية التي كلفوا بها بإرادتهم أو بغير إرادتهم ، وبعلمهم أو بغير علمهم ، فإن من رحمة الله تعالى بهم أن يكرمهم بالرؤى الصادقة التي تعينهم على تحمل هذه المسؤوليات الجسام .
وما رؤيا هذا الملك إلا تطبيق عملي لرحمة الله تعالى به وبشعبه .
أما كيف استطاع يوسف عليه السلام أن يعبّرَ هذه الرؤيا هذا التأويل المبدع ؟ فهنا يكمن الإلهام الذي يفتقده المعبرون المجتهدون .
لقد قسّم يوسف عليه السلام رؤيا الملك إلى قسمين متساويين فكانت البقرات السمان دليل خصب للقرينة التي تصاحبها وهي ( سنبلات خضر )
وكانت البقرات العجاف دليل قحط للقرينة التي تصاحبها وهي ( وأُخر يابسات ) .
أما كيف استدل يوسف عليه السلام بأن نهاية هذا القحط هو سنة مخصبة فهذا ما خصّ الله به يوسف في تأويله . إذ لم يرد في ألفاظ الرؤيا ما يشير إلى ذلك .
لقد وفرت هذه الرؤيا لشعب بكامله ، الوسائل التي تمكنه من أن يتحكم في شؤون حياته لمدة خمسة عشر عاماً . وإنها لمدة زمنية طويلة ، كان من الممكن – لولاها – أن يعاني هذا الشعب معاناة حقيقية .
لقد كان تأويل يوسف عليه السلام لها { تزرعون سبع سنين دأباً ، فما حصدتم فذروه في سنبله } [ يوسف : 47 ] حلاً مسبقاً لمشكلة قادمة .(1/103)
وعلى هذا فإن البقرة السمينة خصب سنة ، والهزيلة فقر سنة . والسنابل الخضر خير عميم ، والسنابل اليابسة تخزين لشدة . والغياث فرج قادم بعد سنة ، من ضيق وعسر . والعصر فرج ، والعصير رزق ورخاء ، فإن كان المعصور في أوانه كان رزقاً حاضراً ، وإن كان في غير أوانه ، فهي أرزاق قادمة مجهولة المصدر ( ويرزقه من حيث لا يحتسب ) وكل هذه الألفاظ أصول من أصول هذا العلم .
وهنا لا بد من أن أذكر تلك الرؤيا التي أوّلتها لصديق طبيب كان يعمل في دولة خليجية ، ولأمر ما صدر قرار بإبعاده ، ولم يستطع لقصر المدة الممنوحة له للمغادرة من أن يحصل على تعويضه لسنوات خدمته . فقال :
رأيت في نومي طالبين كانا يدرسان معي في كلية الطب أحدهما ( غياث ) والثاني ( نهلة ) قلت له على الفور : ما أخبار تعويضاتك عن سنوات خدمتك ؟
قال : ولمَ تسأل عن هذا الموضوع الذي لم يخطر لي على بال ؟
قلت : تعويضاتك ستصل إليك بعد عام من الآن ، وعندما تأتيك ستكون بأمس الحاجة لها .
قال : كيف ربطت هذا ؟
قلت : اسم غياث فيه دلالة على الفرج بعد الشدة ، ولكن بعد سنة من تاريخ الرؤيا . لقوله تعالى { ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس } لقد تحددت مدة الغياث بعام . وأما اسم ( نهلة ) فالنهل هو شربة الظمآن الأولى بعد عطش شديد .
* * * * *
6 - معركة بدر
هي المعركة الفاصلة الأولى في تاريخ الإسلام . ولا أريد لحديثي هذا أن يكون تكراراً لما قاله المؤرخون والمحللون والعسكريون عن هذه المعركة .
وإنما يقتصر حديثي على دور الرؤيا الصادقة التي سبقت هذه المعركة ، ومن خلالها نعالجها . ونبدأ بالرؤيا الصادقة التي رآها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، فالله سبحانه يقول : { إذ يريكهمُ الله في منامك قليلاً ، ولو أراكهم كثيراً لفشلتم وتنازعتم في الأمر ، ولكنّ الله سلّم ، إنه عليم بذات الصدور } [ الأنفال :43](1/104)
لقد كانت رؤية النبي I لأعداد المشركين قليلة العدد ضرورية له ، لمعان عدة كانت تجول في خاطر النبي الكريم قبلها .
إنه – هو نفسه – لم يخض معركة حقيقية من قبل ، وكل خبرته في القتال كانت عندما كان حدثاً لا يزيد عمره عن ستة عشر عاماً ، عندما شارك أعمامه في حرب الفجار ، حيث كان يجمع النبل لأعمامه .
إنه – الآن – ليس جندياً في المعركة ، بل هو قائد لها . وهذا يحمّله – وحده – مسؤولية النصر أو الهزيمة فيها .
ثم إنه يقود جيشاً من عدد قليل ، ولم يتهيأوا – بعد – لا عسكرياً ولا عقائدياً لمعركة حاسمة كهذه . فبعضهم لا يزال حديث العهد بالإسلام ، والبعض الآخر لا يملك العدة اللازمة لخوض معركة .
هذا الوضع الخاص الذي لا يتفهمه أحد كما يتفهمه النبي الكريم ، يستلزم إشارة خاصة من الله تعالى ، تعرّفه أين يضع قدمه ؟ وأين تسير به رجلاه ؟
وما كان الله عز وجل ليضنّ على نبيّه ببشارة تمنحه الثقة والاطمئنان اللذين هما بأشد الحاجة إليهما . فجاءت هذه الرؤيا الصادقة – قبل المعركة – مبشرة له بتحقيق النصر فيها .
( لقد رأى جيش المشركين قليل العدد ) وقد كانت البشارة في هذه الرؤيا حاضرة من خلال الآية الكريمة { وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } [ البقرة :249] . هذه البشرى التي حملتها الرؤيا ، جعلت النبي الكريم I متيقناً من النصر . ولهذا نراه يقول لأصحابه : سيروا و أبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأنني أنظر إلى مصارع القوم ( (1) ) .
وتتكرر لفظة الوعد بالنصر في قول الرسول الكريم I : (( اللهم فنصرك الذي وعدتني )) ( (2) ) .
هذا هو حال المؤمنين في المدينة بقيادة الرسول I ، فما حال المشركين في مكة بقيادة أبي جهل عمرو بن هشام ؟
تغطي رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب عن معركة بدر الوجه الآخر لحال المشركين في مكة قبل المعركة .
__________
(1) -سيرة ابن هشام الجزء الثاني ص 267 .
(2) -المصدر السابق ص 273 .(1/105)
حيث يروي لنا ابن هشام في سيرته هذه الرؤيا فيقول :
قال ابن اسحق ، فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ، وعن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قالا :
وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب ، قبل قدوم ( ضمضم ) مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها . فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب ، فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت هذه الليلة رؤيا أفظعتني ( أي اشتدت عليّ ) وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عني ما أحدثك به .
فقال لها : وما رأيت ؟ قالت : رأيت راكباً أقبل على بعيره ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته :
ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث . فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه . فبينما هم حوله مَثُلَ به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها : ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث .
ثم مَثل به بعيره على رأس ( أبي قبيس ) فصرخ بمثلها .
ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي . حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت ( أي تفتت ) ، فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار ، إلا دخلتها منها فَلَقة .
قال العباس : والله إن هذه لرؤيا ! وأنت ، فاكتميها ولا تذكريها لأحد .
ثم خرج العباس ، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقاً ، فذكرها له واستكتمه إياها .
فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به قريش في أنديتها .
قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة .
فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا .
فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم . فقال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب ! متى حدثت فيكم هذه النبيّة ؟
قال : قلت : وما ذاك ؟ قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ؟
قال : فقلت : وما رأت ؟(1/106)
قال : يا بني عبد المطلب ! أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ؟ قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقاً ما تقول فسيكون . وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء ، نكتب عليكم كتاباً ، أنكم أكذب أهل بيت في العرب .
قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير ، إلا أني جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئاً . قال : ثم تفرقنا .
فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني . فقالت :
أأقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء ، وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غِيَرٌ لشيء مما سمعت !
قال : قلت : قد والله فعلت ، ما كان مني إليه كبير ، وأيمُ الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينّكنّه .
قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مُغضب ، أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه .
قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرّضه ، ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلاً خفيفاً ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر .
قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتدّ . قال : فقلت في نفسي : ما له ؟ لعنه الله . أكلّ هذا فَرَقٌ مني أن أشاتمه ؟
قال : وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ ببطن الوادي ، واقفاً على بعيره ، وقد جدع بعيره ، وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ! اللطيمة ، اللطيمة . أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها . الغوث ، الغوث .
قال : فشغلني عنه ، وشغله عني ما جاء من الأمر ( (1) ) .
ولنا وقفة تحليلية عند هذه الرؤيا تبسط الحقائق التالية :
__________
(1) -سيرة ابن هشام . منشورات دار إحياء التراث العربي ببيروت – لبنان ، ص :258-260 .(1/107)
لقد كان الرائي امرأة بعيدة تماماً عن مجرى هذا الصراع بين مكة والمدينة ، ولم يكن لديها ذلك الخيال الواسع الذي يمكنها من نسج رؤيا برموز كهذه . وهذا يمنح رؤياها هذه المصداقية ، فلم يكن هناك حديث نفس ، أو تحقيق رغبة كما سيقول لنا ( فرويد ) عن أحلامه .
هذه الرؤيا لم تكن خاصة بالرائي ، بل كانت عامة تهم المجتمع المكي كله . ومن الملاحظ أنها قد أصبحت حديث أهل مكة . وما كان ذلك ليحدث لو لم يكونوا مهتمين بهذا الجانب من العلم ، ومؤمنين بمصداقيته ، ومدركين لإمكانية وقوعه .
لقد وصف أبو جهل صاحبة الرؤيا بالمتنبئة ، وهذا يعني إدراكه أن الرؤيا الصادقة تتحدث عن المستقبل ، وكأنها مرتبطة بما يقوله الأنبياء عموماً لأقوامهم عما سيحدث لهم .
لقد كانت هناك أصول من هذا العلم معتمدة لديهم ، وما ذكر الرقم ثلاثة إلا واحداً منها .
فأبو جهل يقول : قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث . فسنتربص بكم هذه الثلاث . فالرقم ثلاثة هو رقم معتمد في تحقيق الرؤيا أكد عليه القرآن الكريم عندما أمهل الله سبحانه قوم صالح عليه السلام ، ثلاثة أيام ، بعد أن عقروا الناقة فقال : { فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } [ هود : 65]
قدمت هذه الرؤيا للمجتمع المكي بأكمله تحذيراً شديد اللهجة من مغبّة التمادي في هذا الصراع . وبينت لهم في حال استمرارهم فيه ، بأنّ هناك مصائب جمة ستواجههم ، ( فالصخرة التي سقطت من قمة أبي قبيس وتفتت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة ). كانت إشارة واضحة لهم بأنه ستكون هناك في كل بيت مصيبة واقعة في قتل أحد رجال هذا البيت ، والبيوت الأخرى .(1/108)
تؤكد هذه الرؤيا على أن الشخص المجهول في الرؤيا ، سيصبح معلوماً في اليقظة . فعاتكة قالت : رأيت راكباً أقبل على بعير له . لقد كان هذا الراكب مجهولاً ، ولكن بعد أن انقضت أيام الإنذار وجاء الراكب فقد أصبح معلوماً وهو ضمضم بن عمرو الغفاري .
يتجلى العدل الإلهي في أوضح صوره ، في منح قريش الفرصة الكافية للتفكير بنتائج مواجهة خاسرة أمام عدوهم الذي بشره الله بالنصر .
فلطالما كان هناك تبشير للمنتصر ، فلا بد أن يكون هناك تحذير للمهزوم . فإن استمرّ في غيّه وتماديه ، وتلقى الهزيمة التي حذره الله منها ، عندئذٍ تكون هذه الرؤيا حجة عليه أمام الله تعالى .
تحذير آخر قبل بيوم المعركة :
تصاعدت وتيرة الأحداث بين الطرفين ، فوصلت إلى أقصاها عندما توجه الجيشان إلى مكان المعركة عند ماء بدر . وأبدى كل طرف تصميمه على هذه المواجهة .
كان تصميم الجيش المسلم بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم مبرراً . أما تصميم جيش مكة فلم يكن مبرراً أبداً . إذ أن أبا سفيان تمكن من إنقاذ القافلة التي دفعت قريش إلى تسيير هذا الجيش لإنقاذها واسترجاعها .
أمام هذا التصميم الخاسر ، كان لا بد لرحمة الله تعالى بهؤلاء من أن تمنحهم فرصة التحذير في اللحظة الأخيرة . تمشياً مع المنطوق الإلهي { وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها } [ الأنفال : 61] فقبل يوم واحد من بدء القتال ، والطرفان يتقابلان وجهاً لوجه ، كانت هناك هذه الرؤيا الصادقة التي رآها جهيم بن الصلت بن مخرمة بن عبد مناف فقال :
إني رأيت فيما يرى النائم ، وإني لبين النائم واليقظان ؛ إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس ؛ حتى وقف ، ومعه بعير له . ثم قال :
قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم بن هشام ( أبو جهل ) وأمية بن خلف ، وفلان وفلان ، فعدد رجالاً ممن قتلوا يوم بدر من أشراف قريش .(1/109)
ثم رأيته يضرب في لَبّة بعيره ، ثم أرسله في العسكر ، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه .
قال : فبلغت أبا جهل فقال : وهذا أيضاً نبي آخر من بني عبد المطلب ! سيعلم غداً من المقتول إن نحن التقينا ( (1) ) .
وهكذا تكون قريش قد استنفذت الفرص التي منحت لها من الله تعالى ، وتبقى هي – وحدها – المسؤولة عن نتائج هذا الصراع الدامي الذي ينتج عنه هزيمة منكرة .
ومن هذه الرؤيا يؤخذ أصل من أصول هذا العلم ، وهو البعير الهائج الذي يدل على مصيبة واقعة على من يمسه أو يصيبه .
القلة العينية
لما كان الطرف المكي قد أستنفذ الفرص التي أتيحت له للتراجع في آخر لحظة ، ولما كان الطرف المدني قد عقد العزم على هذا اللقاء الفاصل ، الذي خطط الله له ، وأحكم تدبيره فيه فإنه كان لا بد من وجود سبب آخر إضافي يغري كل طرف في الآخر . إن إيجاد هذا السبب هو المعجزة الحقيقية التي لم تعط حقها من قِبَل كل من تحدث عن هذه المعركة .
فالآية الكريمة توضح هذا السبب فتقول :
{ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ، ويقللكم في أعينهم ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } [ الأنفال :44] .
لقد تمثلت هذه المعجزة في ( القلة ) فالمكيون رأوا أعداد المدنيين قليلة ، والمدنيون رأوا أعداد المكيين قليلة . هذه الرؤية التي رأتها العين المجردة لكل من الطرفين في الآخر ، كانت حافزاً لكليهما لكي يطمع كل طرف بعدوه .
لقد كان وجود هذا الحافز ضرورياً لكليهما ، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً .
وهكذا تكون هذه المعركة قد استوفت شروطها من زاوية علم الرؤيا بكل مراحلها ، فقد كان هناك بشرى للمؤمنين ، وتحذير للمشركين ، ثم إعطاء الفرصة الأخيرة ، وأخيراً المعركة التي كان لا بد من وقوعها ، وقد أغرى الله كل طرف بخصمه من خلال رؤية كل طرف للآخر بأنه قليل العدد .
__________
(1) -سيرة ابن هشام المجلد الثاني ص 270 .(1/110)
وهكذا تكون قلة العدد في الرؤيا بشارة بالنصر أصلاً من أصول هذا العلم .
7 - فتح مكة
لقد عرض القرآن الكريم فتح مكة في الرؤيا السابعة والأخيرة من الرؤى التي عرضها . وهو أهم حدث تاريخي في مسيرة الدعوة الإسلامية بعد غزوة بدر .
يقول الله تعالى : { ولقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا ، فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } [ الفتح : 27] .
والمتأمل لهذه الآية الكريمة يستطيع أن يحدد هذه الرؤيا قبل وقوعها مباشرة بفتح مكة من قوله تعالى : ( لتدخلن المسجد الحرام ) إلى قوله ( لا تخافون ) .
وإذاً فالرؤيا الحقيقية التي رآها النبي I :
رؤيته دخول المسلمين إلى الحرم المكي جماعات ، آمنين ، فقاموا باستيفاء شروط الحج والعمرة في حلق بعضهم لرؤوسهم . والبعض الآخر في تقصير شعره ، وهم يفعلون ذلك باطمئنان تام لا يشعرون بأي خوف .
هذه هي الحدود التي رسمتها الرؤيا بشارة للنبي الكريم بفتح مكة ، حتى إذا ما تم هذا الفتح قال الله تعالى في مطلع الآية : ( ولقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ) .
إذاً كان فتح مكة تصديقاً لتلك الرؤيا التي بشرت النبي الكريم بفتحها .
وفي هذه الرؤيا أكثر من أصل من أصول هذا العلم .
فدخول المسجد الحرام للخائف أمن . وحلق الشعر وتقصيره بشارة للرائي بالحج أو العمرة .
وهكذا نجد أن الرؤيا الصادقة قد رافقت أهم حدثين تاريخيين في مسيرة الدعوة الإسلامية بدءاً بمعركة بدر وانتهاء بفتح مكة .
فهل يحق لأحد بعد هذا كله أن ينكر وجود هذا الجانب أو يقلل من أهميته .
فالقرآن الكريم إما أن يؤخذ كله . أو يترك كله ، ولا حجة لأحد بعد ذلك أن يأخذ منه ما يوافق هواه ، ويغض الطرف عن باقيه .(1/111)
إن الإيمان الكامل هو الإيمان بكل ما جاء في القرآن الكريم . وإذا كان هناك من يجهل مكانة الرؤيا الصادقة أو يقلل من أهميتها ، فلعل هذا الفصل أن يكون قد استطاع أن يضيء بعضاً من الجوانب التي تتصل بسلامة العقيدة .
الرؤيا الصادقة في السنة النبوية الشريفة
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أول ما بُدئ به ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرؤيا الصادقة في النوم . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ( (1) ) .
فالرؤيا الصادقة رافقت النبي الكريم منذ بدء البعثة ، مستكملة ما بدأه الوحي ، ومتممة له .
ولقد خصّ الله سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم بصفتين لم يخصص بهما أحد سواه هما النبوة والرسالة . إذ أن صفة النبي لا تطلق إلا على من كان وحيه رؤيا . وأما صفة رسول فتطلق على من أُرسِل من الله عز وجل مزوداً بكتاب إلهي ينقله ملك هو جبريل عليه السلام . وتلتقي الصفتان في قول الله تعالى :
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً } [ الشورى :51] .
وبهاتين الصفتين خوطب النبي الكريم I في القرآن الكريم . فبلفظة النبوة قال له الله سبحانه { يا أيها النبي قل لأزواجك } [ الأحزاب : 28] .
وبلفظة الرسالة قال الله سبحانه له { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } [ الفتح : 28] . ثم عُممت الرسالة التي حملها فشملت العوالم جميعها من إنس وجن وملائكة .
ويتميز الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأنه كان يتصدر تأويل الرؤيا التي يراها والتي كان أصحابه يرونها . فهو سيد المعبرين من قبل ومن بعد . فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال :
__________
(1) -التجريد الصحيح-الجزء الأول-دار الإرشاد ، بيروت ص5 . وأخرجه البخاري في بدء الوحي برقم (4) . ومسلم في الإيمان برقم (160).(1/112)
كان رسول الله I يعجبه الرؤيا الحسنة ، فكان مما يقوله : هل رأى أحد منكم رؤيا ( (1) ) ؟.
وإن الجانب الذي يعنيني من بحثي هذا هو تلك الرؤى التي عبّرها سواء كانت له أم لغيره ، إذ أن تعبيره لها يتضمن الأصول التي ينطلق منها هذا العلم مستكملاً بذلك ما بدأ به القرآن الكريم .
1_ عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت ذات ليلة ، فيما يرى النائم ، كأنّا في دار عقبة بن رافع ، فأتينا برطب من رطب ابن طاب .
فأولت أن الرفعة لنا في الدنيا ، وأن ديننا قد طاب ( (2) ) .
وقد استند الرسول صلى الله عليه وسلم في تأويله هذا ، على الألفاظ التي وردت في الرؤيا . فاسم عقبة بن رافع دون سواه من الأسماء ، يتضمن أن العقبات التي يواجهها في بدء الدعوة ستزول ، وسيكون بعدها رفعة وعلو .
وهذا يدخل في باب دلالة الأسماء التي ترد في رؤيا الرائي . والرطب هو تمر النخيل الناضج فأوّله ( بالدين ) وأما اسم ابن طاب فدلالته واضحة .
فتأويل الرطب بالدين هو أصل من أصول هذا العلم .
2- معركة أحد من زاوية الرؤيا .
__________
(1) - أخرجه البخاري في الجنائز برقم (1320) ، وأحمد في باقي مسند المكثرين (11977) .
(2) -أخرجه مسلم في الرؤيا برقم (2270) ، وأحمد في باقي مسند المكثرين ( 12807 ).(1/113)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت كأني في درع حصينة فأولتها المدينة . وأني مردف كبشاً فأولته كبش الكتيبة ، ورأيت كأني بسيفي فلاّ ، فأولته ( فّلاً ) يكون فيكم ورأيت بقراً تذبح ، فأولته القتلى من أصحابي ( (1) ) .
وفي رواية أخرى قال : رأيت كأني مردف كبشاً فأولت أني أقتل كبش القوم . ورأيت أن ضبة سيفي انكسرت فأولت أنه يقتل رجل من عشيرتي . فقتل حمزة رضوان الله عليه . وقَتَلَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلحة صاحب لواء المشركين .
تأتي أهمية هذه الرؤيا بأنها كانت تخفيفاً مسبقاً عما سيعرض للنبي الكريم في معركة أحد . وتضمنت أصولاً من أصول هذا العلم . وهي :
الدرع الحصينة هي المدينة ، والكبش قائد الجيش ، والضعف في السيف ضعفٌ في الجماعة والبقر المذبوح سقوط القتلى .
وهذا الأصل الأخير تكرر في رؤيا عرضت للسيدة عائشة رضي الله عنها قالت فيها :
رأيت كأني على تل وحولي بقر تنحر .
فقال مسروق : إن صدقت رؤياك كانت حولك ملحمة . فكانت معركة الجمل .
3- رؤيا الأذان :
هذا الأذان الذي نسمعه خمس مرات كل يوم على الأقل ، إذ أنه في الأعياد يزيد عن ذلك ، إنما جاء على هيئته ، وبالألفاظ التي تستعمل فيه ، من خلال الرؤيا الصادقة . ففي الحديث المسند عن عبد الله بن زيد الأنصاري عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد همّ بالبوق ، وأمر بالناقوس فنُحتت .
فأرى عبد الله بن زيد الأنصاري في المنام قال :
__________
(1) - هذه الرؤيا وردت في أكثر من موضع وبألفاظ مختلفة ، فعن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي I أنه قال : (( رأيت في رؤياي أني هززت سيفاً فانقطع صدره ، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد ، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان . فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين )). أخرجه البخاري في المفازي برقم ( 3853 ) ، ومسلم في الرؤيا برقم ( 2272 ) .(1/114)
رأيت رجلاً عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوساً فقلت – يا عبد الله – أتبيع الناقوس ؟
قال : وما تصنع به ؟ قلت : ننادي به في الصلاة .
قال : أفلا أدلك على ما هو خير لك من ذلك ؟
قلت : بلى .
قال : تقول : الله أكبر ثم لقنني كلمات الأذان . ثم مشى هنيهة ولقنني كلمات الإقامة
فلما استيقظت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته . فقال عليه السلام :
إن أخاكم قد رأى رؤيا ، فاخرج مع بلال إلى المسجد ، فألقي عليه ، فليناد بها ، فإنه أندى صوتاً منك ، فخرجت معه ، فجعلت ألقيها وينادي بها بلال . فسمع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الصوت ، فخرج ، فأتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى ( (1) ) .
ومن الواضح أن النبي عليه السلام قد نفذ ما ورد في هذه الرؤيا دون تردد ، وأصبح بذلك هذا الأذان قائماً منذ أن جاءت به هذه الرؤيا ، وإلى قيام الساعة .
4- خلافة بني مروان :
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من رقدته ثم تبسم وقال : رأيت بني مروان يتعاقبون منبري ، فكان كما قال .
وصعود المنبر ولاية للصاعد .
5- الوباء العام :
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي I قال : رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الشعر خرجت من المدينة حتى قامت بمهية وهي الجحنة . فأولت أن وباء المدينة نقل إليها ( (2) ) .
فدلّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الوباء العام أو الموت الذريع يكون برؤية المرأة السوداء الناشرة الشعر .
6- رأى عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – رؤيا قال فيها :
رأيت كأن إصبعي هذين تقطران عسلاً ، وأنني ألعقهما .
فأوّلها له النبي I فقال : تقرأ الكتابين
__________
(1) - سيرة ابن هشام المجلد الثاني ص 154 وما بعدها ، وأخرجه ابن ماجة في الأذان برقم (706)، والترمذي في الصلاة برقم (194) .
(2) - حديث صحيح أخرجه البخاري برقم (6631) . وأحمد (2/107-117) والبيهقي (2/568) في دلائل النبوة .(1/115)
فدل العسل على ما فيه من حلاوة ومنافع على الكتب السماوية ( (1) ) .
7-ورأى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – أنه أكل تمراً . فأوّلها النبي I فقال : ذلك حلاوة الإيمان ( (2) ) .
8- دليل الألوان :
قال عليه الصلاة والسلام : رأيت في المنام أني وردت عليّ غنم سود فأوّلتها العرب . ثم وردت عليّ غنم بيض فأوّلتها العجم ( (3) ) .
فاللون الأسود والأبيض على الحيوانات كلها دال على العرب إن كان أسود ، وعلى العجم إن كان أبيض ، ثم يضاف نوع الحيوان إلى هذا الأصل ، لمعرفة مصدر هذا الخير أو الشر الذي يتحدد بنوع الحيوان الذي في الرؤيا .
9-فتح مكة : رأى أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – في منامه عام الفتح ، وهو بين مكة والمدينة ، أن رسول الله I دنا من مكة ، فخرجت عليهم كلبة تهرّ ، فلما دنوا منها ، استلقت على ظهرها ؛ فإذا أظباؤها تشخب لبناً .
فقصّ رؤياه على النبي I فقال :
ذهب كَلَبُهم ( أي عداوتهم ) وأقبل درُّهُم ( أي حليبهم ) وهم يسألونكم بأرحامكم . وفي هذا التأويل أصلان من أصول هذا العلم ( (4) ) .
الكلبة . وهي عدو ضعيف عداوته لا تضر . والحليب : هو صلة الأرحام .
10_ رؤيا تختصر عشرين عاماً تقريباً : الدلو
قال رسول الله I : (( رأيت كأني على قليب أنزع على غنم سود ، ثم أخذ أبو بكر الدلو بعد ونزع ذَنوباً أو ذَنوبين ( (5) ) .وفي نزعه ضعفٌ والله يغفر له .
__________
(1) - اخرجه أحمد في مسند المكثرين من الصحابة برقم (7027) بلفظ ( تقرأ الكتابين التوراة والقرآن ) فكان يقرأهما .
(2) - ابن سيرين ص 197 .
(3) - ابن سيرين ص 278 وتخريج الحديث في حاشية الصفحة نفسها .
(4) - ابن سيرين ص 289 .
(5) -الذَنوب : الدلو الممتلئ .(1/116)
ثم أخذ الدلو من بعده عمر بن الخطاب . وخالط الغنمَ غنمٌ بيض فاستحالت الدلو في يده عزَباً ( (1) ) .فلم أر عبقرياً من الرجال يغري فربك يا ابن الخطاب ))( (2) ) .
لقد رويت هذه الرؤيا للرسول الكريم I بألفاظ مختلفة ورواة عدة ففي رواية عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال :
قال رسول الله I : أُريت في المنام أنا على بئر أنزع منها ، فأخذ أبو بكر الدلو فنَزَع ذنوباً أو ذَنوبين . وفي نزعه ضعف ، فغفر الله له .
ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده عزَباً . فلم أرَ عبقرياً من الناس يغري فربك حتى ضرب الناس بعطن ( (3) ) .
ومما يُفهم من هذه الرؤيا أن الرسول الكريم I قد أتمّ دعوته ونشرها بين العرب (غنم سود) ثم إن أبا بكر يتولى الخلافة بعد النبي الكريم I لمدة سنتين (ذَنوبين) ثم تنتشر الدعوة الإسلامية على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيدخل في الإسلام أعاجم (غنم بيض) ويختلط العرب والعجم (وخالط الغنم).
وتكون فترة تولي عمر بن الخطاب للخلافة مليئة بالأحداث التي تشهد له بالعبقرية والإبداع (فلم أرَ عبقرياً يغري فربك يا ابن الخطاب) .
11- اللبن والعلم :
عن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( بينما أنا نائم أُتيت بقدح لبن ، فشربت منه ، حتى إني لأرى الريّ يخرج في أظافري ثم أعطيت عمر . قالوا : فما أوّلته يا رسول الله . قال : العلم )) ( (4) ) .
فاللبن يدل على العلم وهو أصل من أصول هذا العلم . فكلاهما غذاء الأول للجسم والثاني للعقل .
12- في اللباس :
__________
(1) -العزَب : الدلو العظيمة المتخذة من جلود البقر .
(2) - هو حديث صحيح باختلاف في ألفاظه . وانظر البخاري (5/130) ومسلم (2393) والبيهقي (8/153) في السنن الكبرى .
(3) - أخرجه البخاري في التعبير (6616) وأحمد برقم (5825) .
(4) - أخرجه البخاري في العلم ( 82 ) ومسلم في فضائل الصحابة ( 2391 ) .(1/117)
عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله I : ((بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ ، وعليهم قمص ، منها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك . ومرّ عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره ))( (1) ) .
وهذا الأصل واضح في اللباس . ويكون دين الرجل أو المرأة بحسب ما تستر تلك الملابس منه .
13- القيد والغُل :
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله I : (( القيد في المنام ثبات الدين ، والغُلُ أكرهه ))( (2) ) .
أما القيد فيكون في القدمين ، وهو صالح للرائي ، دال على الكف عن المعاصي .
وأما الغُل فيكون في اليدين ، وهو دال على بخل الرائي وسوء حاله لقوله تعالى : { غُلّت أيديهم } [ المائدة : 64] .
وهذان أصلان من أصول هذا العلم .
ولا بد لي ـ ما دمت أعتمد الأصول التي ينطلق منها علم تأويل الرؤيا ـ من أن أتوقف عند الرؤيا التي رآها الطفيل بن عمرو الدوسي . وهو متوجه إلى اليمامة لحرب مسيلمة الكذاب فقال لأصحابه :
لقد رأيت أني رأسي قد حلق ، وأنه خرج من فمي طائر ، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني فرجها ، وأرى ابني يطلبني حثيثاً ، ثم رأيته حُبس عني .
وإنني والله قد أوّلتها .
فأما حلق رأسي فوضعه ، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي ، وأما المرأة التي أدخلتني فرجها فالأرض تحفر لي فأُغيّب فيها . وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني ، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني .
فقتل رحمه الله شهيداً في اليمامة . وجرح ابنه جراحة شديدة ، ثم استبلّ ( (3) ) منها ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر – رضي الله عنه – شهيداً ( (4) ) .
لقد تضمنت هذه الرؤيا مع تأويلها أصولاً معتمدة من أصول هذا العلم .
__________
(1) - أخرجه البخاري في التعبير ( 6606 ) .
(2) - أخرجه البخاري برقم ( 12 / 404 ) في التعبير ، ومسلم برقم ( 2263 ) في الرؤيا .
(3) -استبلّ : أفاق وشفي .
(4) - سيرة ابن هشام . المجلد الثاني ص 25 .(1/118)
فحلق الرأس موت بقتل . وخروج الطائر من الفم هو خروج الروح . والمرأة المجهولة في هذا الموضع دالة على الأرض ، فيكون فرجها هو الحفرة التي تحفر للميت فيها .
والإصرار على نيل شيء تأخير في الحصول عليه .
دلالة الألوان في علم التأويل
لكل لون دلالة خاصة ، يضاف كقرينة للمعبَّر عنه ، وهذه الدلالة لها مصدران هما : القرآن الكريم ، أو الأصل اللغوي له .
فمما كان له أصل قرآني فهو :
اللون الأخضر : هو لباس أهل الجنة لقوله تعالى : { عاليهم ثياب سندس خضرٌ وإستبرق } [ الإنسان : 31] . وقوله تعالى : { يلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق } [ الكهف : 31] . وقوله تعالى : { متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان } [ الرحمن : 76]
اللون الأسود :
أصله اشتقاق لغوي من ساد يسود فهو سَوَدَ ، وساد القوم أي أصبح عليهم سيداً فاللباس الأسود دليل رفعة لابسه وعلو مكانته رجالاً ونساءً .
وأما في غير اللباس فهو غير محمود ، وخاصة إذا كان في الوجه لقوله تعالى : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } [ آل عمران : 106] . وكل حيوان ذي لون أسود فدال على أصل عربي ، فالكلب الأسود عدو للرائي من أصل عربي ، وهو لون غير محمود في الفواكه والخضار .
اللون الأبيض :
هو بهاء الدين والدنيا . فقد وصف الله سبحانه خمر أهل الجنة بالبياض { بيضاء لذة للشاربين } [ الصافات : 46] . وكان لواء الرسول I أبيض اللون .
ورؤية الوجه الأبيض في النوم بشارة لرائيه بحسن حاله عند الله عز وجل . قال تعالى : { وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } [ آل عمران : 107] .
وكل الفواكه والثمار ذات اللون الأبيض محمودة في رؤيتها .
وأما في الحيوانات ، فتدل على أن المتلون بها ذو أصل ليس عربياً لقول الرسول الكريم : (( ووردت عليّ غنم بيض فأولتها العجم )) .
اللون الأصفر :(1/119)
هو لون المرض الذي يستدل عليه من خلال لون وجه صاحبه ، ويكون الليمون القرينة الدالة على المرض الجسمي . وهو اللون الدال على النفاق والمراءاة لقوله تعالى عن المنافقين : { في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً وله عذاب أليم بما كانوا يكذبون } [ البقرة : 10] . وقوله تعالى : { إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } [ الأنفال : 49] .
فمن رأى نفسه مع جماعة في سيارة صفراء اللون ، فإنه يصادق قوماً منافقين . وأما ما كان جوهره حلواً لكن قشره أصفر اللون ، فإن ذلك لا يضره كالموز مثلاً .
اللون الأحمر :
هو لون المتعة والبهجة والسرور واللذة ، ويقولون إنه اللون الذي يحبه إبليس ولهذا نجد النساء تميل إليه في لباسها ، وفي استعمال الأصبغة لوجهها وأظافرها . ويظهر أثر هذا اللون بالقرينة التي تصاحبها . فالسيارة الجديدة ذات اللون الأحمر تكون للرائي إن كان عازباً وخاطباً ، بشارة له من حيث محبة هذه الفتاة لإسعاد زوجها .
اللون الرمادي :
هو اللون الدال على أمر مقدر من الله تعالى ، لا يستطيع له الرائي دفعاً أو خلاصاً منه . لقوله تعالى : { مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد } [ إبراهيم : 18]
اللون الأزرق :
هو أسوأ الألوان في الرؤيا . لأن الله تعالى وصف به المجرمين الخالدين في نار جهنم في قوله تعالى : { يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقا } [ طه : 102] . فاللباس الأزرق اللون ، والسيارة ذات اللون الأزرق ، كلها دالة على صفات غير محمودة للرائي فيمن يراه بهذا اللون .
ولا بد أن أشير إلى أن هذه الألوان تتناسب طرداً مع دلالة هذا اللون إلى المعبَّر عنه ، فما اشتد فيه هذا اللون أو ذاك كان الأمر أكثر شدة ، وما خفّ منه كان الأمر فيه أقل شدة .
دلالة الأرقام في علم التأويل(1/120)
للأرقام والأعداد دلالة مخصوصة تضاف قرينة إلى المعبَّر عنه . وأول هذه الأرقام :
الرقم 3 :
ووروده في الرؤيا دال على تحقيقها ، وصدق حدوثها لقوله تعالى في الرقم 3 حيث أمهل الله سبحانه قوم صالح عليه السلام ثلاثة أيام فقال : { فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } [ هود : 65] . ولقد مر معنا من قبل أن أبا جهل قال للعباس : لقد قالت عاتكة في رؤياها انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث .
ويستوفي هذا الرقم مصداق وقوعه في الطلاق ، حيث يتم وقوعه في الطلقة الثالثة .
ما زاد عن ثلاثة فهو داخل في ( البضع ) :
والبضع هو ما زاد عن ثلاثة إلى تسعة . وهو غير محمود في التأويل للرائي لقوله تعالى في سجن يوسف عليه السلام : { فلبث في السجن بضع سنين } [ يوسف : 42 ] .
الرقم 13 :
هو الرقم الذي يدل ذكره في الرؤيا على شدة واقعة ، أو نعمة زائلة ، ويكون بعدها فرج لكليهما . فهو رقم تحذيري وتبشيري إما بشدة تقع أو بلاء يرفع . فيوسف عليه السلام عدد في رؤياه الرقم 13 فقال ( أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ) فوقع بعدها في شدة طويلة .
واستمرت دعوة النبي I في مكة ثلاث عشرة سنة في معاناة دائمة واضطهاد وإعراض ثم انقضى ذلك كله بالهجرة إلى المدينة .
الرقم 30 و 40 :
الرقم 30 نقص في استكمال الموضوع لقوله تعالى : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } لكن هذا الوعد لم يتم في حينه .(1/121)
ويكون الرقم 40 دليلاً مؤكداً على صدق الحدوث . فالآية السابقة تبين أن تنفيذ هذا الوعد لم يحدث إلا عندما استوفت الأربعين فكانت تتمتها : { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة ، وأتممناها بعشر } [ الأعراف : 142]. ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر : { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } [ البقرة:51]. ويعتبر هذا الرقم في السن هو رقم الاكتمال لكل شيء . فالله سبحانه يحدد سن الأربعين سناً للمهتدي والعائد إليه ، وقد استوت شخصيته ، واستكمل استعداده فيقول : { حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ } [ الأحقاف : 15]. وبُلِّغ الرسول الكريم I بحمل الرسالة وهو في سنِّ الأربعين .
وعدة النفساء أربعون يوماً على الغالب .
الرقم 7 و 70 :
غير محمود أبداً ورود أحدهما أو كليهما في الرؤيا . فالرقم 7 ذكره الله تعالى حين عدّد أبواب جهنم فقال : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر :24] . والرقم 7 لا يحمد وروده في الرؤيا إذ ان أيوب عليه السلام أصابه البلاء سبع سنين وسجن يوسف عليه السلام سبع سنين ، وعُذِّب بختنصر مَخُوّل في السباع سبع سنين ( (1) ) .
وأما الرقم 70 فقد ورد تحديده في السلسلة التي يكبّل بها الداخل إلى جهنم فقال { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } [ الحاقة : 32] .
إن الاستعانة بالمعاني التي اقترنت بهذه الأرقام كما أوضحها القرآن الكريم تكون بين يدي من يعبر إرشاداً له ليكون تعبيره موافقاً للحقيقة .
__________
(1) -تاريخ الطبري . الجزء الأول . دار سويدان . بيروت - لبنان ص344 .(1/122)
ومما يؤكد على أن هذا الرقم 70 غير محمود في الرؤيا أن موسى عليه السلام اختار من قومه سبعين رجلاً فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه ( (1) ) . قال الله تعالى : { واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال ربي لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا } [ الأعراف :155].
ما استجد في هذا العصر مما يقتضيه التأويل
لقد استجد في هذا العصر مخترعات كثيرة وحديثة ، لم يعرفها المعبرون قديماً ، وأصبحت كثيرة الورود في ألفاظ الرائي في هذا العصر .
ولا بد لعلم التأويل من أن يواكب هذا الجديد ، وأن يدخله في ثنايا تعبيره . لقد تغيرت وسائل المواصلات اليوم تغييراً جذرياً عما كانت عليه من قبل ، ولم يعد الرائي يرى نفسه قد ركب حماراً أو بغلاً ، وإنما يرى ركوبه لسيارة قديمة أو حديثة ، صغيرة أو كبيرة ، مدنية أو عسكرية . وكل هذا يلزم بإدخال هذه المخترعات في رمزيات الرؤيا عند تأويلها .
الغسالة : امرأة نظيفة ، قائمة على شؤون زوجها وأولادها ، فإن كان لونها أخضر فهي امرأة تقية ، فإن كانت صفراء فهي منافقة ، فإن كانت حمراء فهي لاهية ، فإن كانت بيضاء فهي امرأة صالحة ديناً ودنيا وهذا أفضل أنواع الغسالات . فإن كانت قديمة دلت على جَدة الرائي أو أمّه ، وإن كانت حديثة دلت على زوجته .
فإن كانت الغسالة تعمل على ( الأتوماتيك ) فهي امرأة منظمة تدير شؤون بيتها بتخطيط محكم . وإن كانت الغسالة عادية دلت على امرأة بسيطة هادئة يغلب عليها طابع الفطرة .
الثلاجة :
بحسب حجمها ولونها . دالة على رجل ، ولا يغرنّك تأنيث اسمها ، فالمطبخ إنما يستمد مخزوناته من الطعام والشراب مما تقدمه الثلاجة . وهذه الثلاجة لا يملأها غير رب البيت .
__________
(1) - تاريخ الطبري المجلد الأول ص 427 .(1/123)
فإن كانت الثلاجة كبيرة حديثة فهو رجل موسر غني ، فإن كانت صغيرة فهو رجل في بدء حياته العملية . فإن كانت وسطاً فهو رجل متوسط الدخل والعمل .
فإن كان لها في أسفلها بابان فهو رجل متزوج من امرأتين . فإن كان لونها أخضر دلت على صلاحه ، فإن كانت صفراء دلت على نفاقه ، فإن كانت حمراء دلت على لهوه ، فإن كانت زرقاء دلت على إشراكه ، فإن كانت بيضاء دلت على اجتهاده في أمور دينه ودنياه . فإن استُخرج منها الحليب أو مشتقاته ، دل على مال حلال يعود إليه ، فإن استخرج منها لحماً نيئاً دل على صلته لأرحامه . فإن استخرج طعاماً مطبوخاً تجددت له مشكلة . فإن استخرج عصيراً ، فإن له مالاً حلالاً لم يحصل عليه في وقته ، لوجود مشكلة مانعة لدافعيه في ذلك الوقت ، لكنه بشارة له بعودة ماله إليه .
وسائل النقل :
الدراجة الهوائية : دالة على رجل يقوم بعمل جديد في بدايته ، ويسعى إلى إنجاحه . لأن حركتها تعتمد على سلامة الساقين ، والسعي بهما طلباً للرزق لقوله تعالى : { فامشوا في مناكبها } [ الملك : 15 ] .
الدراجة النارية : تدل لراكبها على رجل متسرع ، يسعى إلى تحقيق مراده دون تروٍ أو هدوء . لا يتوخى الحذر ، ولا يوفر لنفسه شروط السلامة .
السيارة الخاصة :
ويضاف إليها عند التأويل لونها وموديلها وحجمها . وهي دالة على رجل موسر وتكون حالته المادية بحسب ما يضاف إليها مما تقدم .
فإن كان يقودها وهو متحكم بها دل على رعايته لزوجته وبيته ، فإن رأى أنّ غيره يقودها ، فإن هناك رجلاً يخونه في امرأته ، فإن كان معروفاً كان هو بعينه ، فإن كان مجهولاً ، فإن خيانة امرأته به قائمة وهو يجهلها .
ورؤية السيارة في النوم للخاطب دالة على الفتاة التي يخطبها . فإن كانت جديدة فهي فتاة طاهرة ، فإن رآها أنها جديدة ولكنه شعر أن هناك من ركبها قبله ، فإنها تدل على فتاة قد خطبت من قبل أو عاشرت غيره .(1/124)
فإن كانت حمراء فهي لاهية ، وإن كانت خضراء كانت ذات دين ، وإن كانت بيضاء فهي ذات عفاف ، وإن كانت صفراء فهي ممراضة ، وإن كان لها أكثر من لون دل على تخليطها ونفاقها .
فإن رأى نفسه يقود أو يركب سيارة ذات رفاهية عالية ، وبمواصفات راقية ، فإنه رجل له خيال جامح ، وما يتمناه لا يستطيع أن يحققه .
فإن رأى أنه يركب سيارة أجرة – وهي عندنا ذات لون أصفر – فإنه يقوم بعمل سريع قائم على النفاق والمراءاة والكسب غير الحلال . فإن كان معه آخرون ، فإنهم جميعهم على حالٍ مثل حالته .
فإن رأى أنه يقود سيارة ركاب ، فهو يحتمل أمانة صعبة ، أو يكون في عنقه دين وعليه ردّه .
فإن كانت سيارة شحن فإنه سيقوم بعمل مرهق يوجب السفر .
السيارة العسكرية : نوعان :
1-السيارة العسكرية التي يستخدمها الجيش . فإن كان يقودها بلا رتبة فإنه رجل مبتدئ في صلاحه ، مجتهد في أمور دينه . ويكون عندئذٍ جندياً من جنود الله . لقوله تعالى : { فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } [ الأحزاب : 9] .
فإن كانت له رتبة فذلك بشارة له بمكانته عند الله عز وجل بحسب رتبته .
وإن رأى أنه يقودها مغروراً بنفسه ، مختالاً على من حوله فيكون عندئذ جنديا من جنود إبليس . لقوله تعالى : { وجنود إبليس أجمعون } [ الشعراء : 95] .
2-السيارة العسكرية التابعة للشرطة المدنية والعسكرية والأمن الجنائي .
فإن رأى نفسه أنه يقودها . فإنه يسير مع جماعة مهلكة لإحقاق حق أو لإيقاع مصيبة ، فإن رأى أنه يركبها ، ومعه رجال الشرطة ، فذلك تحذيراً له من ارتكاب أمر يورثه الندم .
وحصول حادث للسيارة في النوم دالٌ على خسارة واقعة إن كان تاجراً ، وعلى رسوب إن كان طالباً ، وعلى فسخ خطوبة إن كان خاطباً . ويكون ذلك كله بقضاء الله وقدره .
فإن رأى أنه يقودها ، ومقودها على اليمين ، فهذا أفضل بكثير للرائي ، لأنه عندئذ يكون من أصحاب اليمين .(1/125)
ويكون ذلك بشارة له ، من أن العمل المقدم عليه ، فيه توفيق وخير وبركة له في دنياه .
القطار :
من رأى نفسه يركب قطاراً ، فإنه يتحول عن عمله الذي هو عليه ، إلى عمل آخر أفضل منه ، ويكون في عمله الجديد أكثر دقة وضبطاً وسيطرة عليه .
فالقطار إنما يسير على الحديد ، وقد قال الله تعالى فيه : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس } [ الحديد : 25] .
الطائرة :
من رأى نفسه يركب طائرة ويطير بها ، فإن ذلك بشارة له بتحقيق أمانيه ، وأما إذا رأى نفسه يطير بلا أجنحة فإنه يكثر الأماني ، ولا يستطيع تحقيق مراده .
فإن رأى طائرات هيلوكبتر عسكرية مجهولة ، فإن ذلك إنذاراً له بوقوع حرب أهلية .
المطار :
من رأى نفسه في مطار مجهول ، فإنه رجل متحير في أمور دنياه ، لا يدري ماذا يفعل . فإن كان المطار معلوماً فإنه مدرك لما هو مقدم عليه . فإن عاد من المطار ولم يطر ، فإن العمل الذي كان يزمع القيام به قد طار من بين يديه .
النظارات :
من رأى نفسه يضع نظارة سوداء فهو رجل يتعامى عن رؤية الحقيقة ، فإن كانت خضراء فهو يسعى إلى إصلاح أمور دينه . فإن كانت زرقاء فرجل ذو فاحشة وغواية ، فإن كانت حمراء فإنه يتلصص على النساء .
فإن كانت نظارة طبية فهو محتاج إلى من يبصرّه بأمور دنياه . فإن كان يعاني من انحراف في الزاوية اليمنى من عينه ، فإنه رجل له معتقد بأهل الدين فاسد . فإن كان الانحراف من الجهة اليسرى فهو رجل صالح يتوخى الاستقامة .
الحاسب وكل آلات المحاسبة .
من رأى نفسه أن بين يديه حاسباً ، ويجيد استعماله ، دل على رجل متقن يزن أموره بميزان صحيح .
فإن لم يكن يجيد استعماله ، فإنه مقدم على عمل هو جاهل فيه ، ويجد صعوبة في إنجازه . فإن رأى انه يضرب على آلة أو عدة آلات حاسبة ، فإنه سيأتيه رزق من حيث لا يحتسب .
المسدس :(1/126)
لمن يمتلكه حماية ، فإن أطلق منه على رجل معلوم فأصابه ، فإنه يقول بحق ذلك الرجل كلاماً نافذاً مؤثراً . فإن لم يصبه فإنه يرميه بكلام باطل ، هو منه بريء .
والبندقية تجري مجرى المسدس ، إلا أنها تستهدف رجلاً أبعد مما يستهدفه المسدس .
التلفاز :
من رأى أنه اشترى تلفازاً ، فإنه يضيّع قسماً من ماله ، فإن وضع عليه ( دشاً ) فإنه منشغل بأمور دنياه عن آخرته . فإن رأى أنه يستعمله فيما لا يرضي الله تعالى فإنه يصاحب الشياطين .
الشارع :
هو الشرع لاستقامته واتساعه . فمن رأى نفسه يسير في شارع نظيف نهاراً ، فإنّه رجل مهتد بالشرع حريص عليه في أمور دينه .
فإن كان الشارع طويلاً لا يدري نهايته فذلك بشارة له بطول عمره وصحة بدنه . فإن كان ضيقاً قصيراً ، فإنه تضيق عليه أمور دنياه في معيشته .
فإن كان فيه حفر كثيرة وهو يحاول أن يجتازها ، فإنه رجل يُمكر به لإيقاعه وإهلاكه . فإن رأى أنه يسير فيه ليلاً وهو مضاء فإن له بصيرة وحزماً ، فإن كان مظلماً فإنه يسعى إلى فهم عالم لا مرئي ، أو التعامل معه .
البنك : هو صندوق القمامة . فإن رأى أحدهم أنه يرمي زبالة في صندوق للزبالة فهو يضع ماله في البنك ، فإن أخذ زبالة منه فعليه أن يسحب مالاً من البنك على قدر الزبالة التي أخذها بيده .
المعلبات :
ما كان من هذه المعلبات ما مُلئ بقولاً كالفول وما يشابهه فإن هناك مشكلة في انتظاره وهي قديمة ستتجددّ له .
فإن كانت مملوءة لحماً ، فإن له أرحاماً قد قطعهم ، وهو الآن على وشك صلتهم . فإن كانت مملوءة بأنواع السمك ، فإن له أرزاقاً قديمة موقوفة ، وهي الآن ستصل إليه .
فإن كانت هناك زجاجات مملوءة بأنواع المعصور والمشروب ، فذلك كله مرهون بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم : (( رفقاً بالقوارير ))
ويكون المعصور الحلو في الزجاجة امرأة لديها أموال حلال خاصة بها .(1/127)
فإن كانت الزجاجة مملوءة خلاً دلّ ذلك على زهدها في دنياها وافتقارها وكل زجاجات العطور على اختلاف أنواعها وقيمتها هي ثناء حسن وكلام طيب .
ابن سيرين
هو الجامعة التي خرّجتني ، وكتابه هو الشهادة الجامعية التي منحتني . لقد قدّر لي أن أنتفع منه – وهو ميت رحمه الله تعالى – ما لم أنتفع به من أحد من الأحياء .
صحيح أنني انتفعت من علوم أساتذتي في الجامعة ، وأكنّ لهم كل محبة وتقدير . إلا أنني عندما وضعت في التجربة التي مرّت بي ، فإنني لم أجد أحداً معي يعينني على فهم ما أنا فيه ، غير ابن سيرين .
وكان للعلماء الذين استمعت إليهم دور محدود في فهمي للعالم المرئي الذي أعيش فيه ، ولكن الدور الأعظم للعالم غير المرئي إنما وعيته من خلال ابن سيرين رحمه الله تعالى .
وإن علم التأويل لا يمكن استيعابه ما دام مقتصراً على فهم العالم المرئي ، إذ لا بد للمعبر من أن يكون عالماً بالعالم اللامرئي قدر علمه بالعالم المرئي .
فالطبري يشهد لابن سيرين أنه كان فقيهاً عالماً ورعاً أديباً ، كثير الحديث ، صدوقاً ، شهد له أهل العلم والفضل بذلك وهو حجة ( (1) ) .
قال أخوه أنس بن سيرين : ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان وولدت بعده لسنة . وأبوه من سبي عين التمر الذين أسرهم خالد بن الوليد . وأصبح مولى للصحابي الجليل أنس بن مالك . وقال ابن حباب عنه : هو من أورع أهل البصرة ، كان فقيهاً فاضلاً حافظاً متقناً . يعبّر الرؤيا توفي وهو ابن سبع وسبعين ، وكان كاتب أنس بن مالك بفارس ( (2) ) .
__________
(1) -سير أعلام النبلاء للذهبي 5/489 وما بعدها . تحقيق محي الدين عمر بن عرامة العروي ، طبعة دار الفكر – بيروت .
(2) -تهذيب الكمال في أس الرجال للحافظ يوسف المزني – تحقيق د . بشار عواد 6/340 وما بعدها ، مؤسسة الرسالة – الطبعة الأولى .(1/128)
قال هشام بن حسان عنه : أدرك محمد ثلاثين صحابياً منهم أبو هريرة وابن عباس وشريحاً القاضي وأنس بن مالك . وعندما توفي هذا الأخير أوصى أن يصلي عليه ابن سيرين وكان سجيناً ، فقدم وفد من أهل البصرة على أميرها ، واستأذنوه بالإفراج عن ابن سيرين ليصلي على أنس بن مالك ، على أن يعود للسجن بعد قضاء الصلاة .
فخرج ابن سيرين وصلى على أنس بن مالك وشارك في تشييع جثمانه حتى مثواه ، ثم رجع إلى السجن ولم يذهب إلى أهله بارّاً بوعده .
نسب إليه كتاب ( تعبير الرؤيا ) وهو غير الكتاب المعروف ( منتخب الكلام في تفسير الأحلام ) والمنسوب إليه أيضاً ، وينسب إليه كذلك كتاب ( الإشارة في علم العبارة ) ( (1) ) .
ويكاد يكون كتابه ( منتخب الكلام في تفسير الأحلام ) الذي يتداوله الناس اليوم هو المصدر الثالث بعد القرآن الكريم والسنة النبوية في الحديث عن علم التأويل بأصوله وفروعه .
وهو الكتاب الوحيد الذي عُرف على مرّ العصور بتخصصه في الحديث عن هذا العلم وتأويله . وكل من ألف في هذا العلم بعده ، إنما اعتمد عليه اعتماداً كلياً ، فأضاف باجتهاد . ويظلّ ما ورد فيه أصلاً لا ثاني له .
ولكن المتأمل في مقدمة هذا الكتاب يقرأ ما يلي : قال أبو سعيد الواعظ رضي الله عنه ( (2) ) . ولا يفصح هذا الاسم عن اسم صاحبه الحقيقي .
فلو كان الكتاب من تأليف ابن سيرين فإنه عندئذ سيقول : قال أبو بكر الأنصاري فهذا هو لقب ابن سيرين الحقيقي . وعلى هذا فإننا يمكن أن نستنتج من ذلك أن هذا الكتاب ليس من تأليف ابن سيرين وإنما هو كتاب جمع كتبه الثلاث التي سبق ذكرها في نسيج واحد ، كاتب أو أكثر في عصر ابن سيرين أو بعده .
__________
(1) - الموسوعة الإسلامية الميسرة . د . محمود العكام 1/131 ، دار صحارى حلب .
(2) - ابن سيرين ، ص31 .(1/129)
وربما يؤكد هذه الحقيقة أن تأويلات ابن سيرين ، جاءت منفصلة عن جوهر الكتاب ، ووضعت كل رؤيا في الفصل الذي تنتمي إليه ، وقد تم وضعها بخبرة ودراية . وكأن هذه التأويلات إما أن تكون قد سمعت عن ابن سيرين ، أو كتبت عنه وهو يعبرها .
ونقرأ هذه العبارات عند التأويل : سأل رجل ابن سيرين – وأن رجلاً أتى ابن سيرين ( (1) ) . ولو كان هو الكاتب لقال : سألني رجل ، وأتاني رجل .
وهذا ليس بمستبعد : فكل علم جديد لا يلقى الاهتمام المطلوب إلا بعد موت عالِمه .
هذه المقدمة السابقة عن حياة هذا العالم الجليل الذي شهد له كل من عرفه بالتقى والورع والعلم ما كنت لأكتبها إلا لكي أوضح للقارئ هذا الجانب من حياته .
فأنا لست معنياً بحياته كما حفظتها لنا المراجع ، فهذا عمل أولئك الذين لهم اهتمام مباشر بتراجم الأشخاص .
إذ أنني معني أن أفهم حياة إنسان من خلال رؤياه . وكثيراً ما تختصر الرؤيا الصادقة حياة طويلة لرائيها . وكثيراً ما تفصح رؤياه عما يحاول إخفاؤه .
ومن هذا المنطلق فإن هناك رؤيتين تتصلان مباشرة بحياة ابن سيرين ، وتوضح ما لم تستطع المصادر إيضاحه .
أما الرؤيا الأولى فقد حكي أن رجلاً أتى ابن سيرين فقال : رأيت كأن على ساقيّ رجلٍ شعراً كثيراً . فقال ابن سيرين : إن هذا الرجل يركبه دين ويموت في السجن .
فقال له الرجل : لك رأيتها .
فقال ابن سيرين : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ثم إنه مات في السجن ، وعليه أربعون ألف درهم ، فقضاها عنه بعد موته ( (2) ) .
أثارت فيّ هذه الرؤيا أسئلة كثيرة . ماذا فعل هذا الرجل ليسجن ثم ليموت في السجن ؟ وما العمل الذي قام فيه ، فأورثه خسارة كبرى تقتضي منه مبلغاً كهذا ؟
__________
(1) - ابن سيرين ، ص219 .
(2) - تفسير ابن سيرين ص 150 .(1/130)
فالمصادر تقول إنه كان بزازاً أي بائع ثياب ( (1) ) . وتجارة كهذه لا يمكن أن تسفر عن خسارة كتلك .
وكانت نظرتي إلى سجنه تؤكد أن وراء هذا الموضوع امرأة . فرجل في مثل صلاحه وشهرته ينتهي المطاف به إلى أن يودع السجن ويموت فيه . فهذا في اعتقادي أنه تدبير من امرأة حاكت له من المؤامرات ما أوصله إلى ذلك .
إذ أن يوسف عليه السلام ، لم يدخل السجن إلا بعد أن كادت امرأة العزيز له ، وهو الشريف الطاهر . وفي اعتقادي أن هناك تطابقاً كاملاً بين الشخصيتين . فلولا هذا التطابق ما أصبح ابن سيرين معبراً .
ربما يكون هناك اختلاف في الجزئيات والتفاصيل ، لكن الكليات التي يلتقي فيها هذان الرجلان تبقى متطابقة .
وتأتي الرواية التي رواها محمد بن سعيد لتضع ما ينقص هذا التطابق بينهما موضع التأكيد فيقول : سألت الأنصاري عن سبب الديْن الذي ركب محمد بن سيرين حتى حبس فقال : اشترى طعاماً بأربعين ألف درهم ، فأُخبر عن أصل الطعام شيء فكرهه فتركه أو تصدّق به ، فحبس على المال ، حبسته امرأة ( (2) ) .
إذاً لابد أن تكون هناك امرأة وراء كل ما حدث له ، تماماً كامرأة العزيز بما فعلته بيوسف .
ولكن ما الطعام الذي اشتراه فلما أُخبر عن أصله كرهه فتركه ؟ ليس هناك من طعام في عصرهم يمكن أن يتاجروا به غير الزيت . فما الذي كرهه فيه ؟ يقال : إنه وجد في ذلك الزيت الذي كان يوضع في خباء كبير من الجلد ، وجد فيه فأرة . ولكون الفأرة نجسة فإنها تنجس كل سائل تقع فيه . إذ لا يكفي استخراجها من السائل ليصبح طاهراً . ولا بد عندئذٍ من أن يُرمى بالسائل كله سواء كان زيتاً أو غير زيت .
__________
(1) - الموسوعة الإسلامية الميسرة ، بإشراف د . محمود عكام 1/131 . دار صحارى حلب .
(2) -المصدر السابق .(1/131)
ولم يجد أمامه من حل إلا أن يرمي بالزيت كله . ولما لم يكن المال ماله ، فإن مَنْ أقرضه المال لم يعفه من مسؤولية خسارته . ولمّا كان المال لامرأة فقد طلبت سجنه . وسواء أكانت هذه المرأة هي التي كادت له ، فأوقعت في زيته فأرة ، أم أنها سقطت فيه من تلقاء نفسها فإنها كانت كافية لإيقاع الخسارة به وإنها لتعلم أن هذا الرجل لا يمكن له أن يبيع دينه بدنياه . وهكذا تكون قد أوجدت السبب الخفي اللامرئي الذي يحقق مرادها في النيل منه ومن سمعته .
ألم يقل ابن سيرين نفسه عن الفأرة : إنها امرأة فاسقة سارقة ذات سريرة فاسدة ؟
ولا بد لي من إيضاح مدلول ( الفأرة ) في الرؤيا ، من خلال رؤيا رأتها زوجتي . كان ذلك صباح اليوم الموافق لتاريخ 22/5/1993 .
حيث رأت زوجتي في نومها فأرتين . الأولى ظلت خارجة والثانية دخلت إلى البيت . فقلت لها يومئذ احذري من دخول أية نسوة عليك .
وفي مساء اليوم التالي خلعت ملابس العمل ، وكان فيهم مبلغ قدره سبعة آلاف ليرة سورية ، وتركت البنطال ملقى على الأرض ، في بيت ليس فيه أحدٌ منا .
وفي صباح تلك الليلة يوم 23/5/1993 ، أخذت البنطال من الأرض ولبسته ولم ألحظ أي تغيير فيه يدل على أنه تحرك من مكانه أو أن أحداً لمسه .
ولما ارتديته ، وضعت يدي في جيبي ، فلم أجد المبلغ ، فقلت لزوجتي : لقد سُرقنا . قالت : ومن سرقنا ؟ قلت لها : الفأرتان ، فالتي دخلت علينا هي التي قامت بالسرقة ، والتي بقيت خارجاً هي أمها .
وربما أصبح القارئ واعياً لما أقصده في قولي هي ومن ثم أمّها .
ولما كانت سرقة كهذه لا مرئية – مع أنه كان موجوداً بجانب البنطال شيء خفيف ثمين يمكن أن يسرق لو كان السارق منا – فقد تعلمت منها ما قاله ابن سيرين عن الفأرة : إنها امرأة سارقة فاسقة ذات سريرة فاسدة ( (1) ) .
__________
(1) - تفسير ابن سيرين ص 312 .(1/132)
وتبقى بين أيدينا الرؤيا الثانية التي تؤكد أن ابن سيرين لم يتزوج . وحتى المصادر التي بين يديّ ، والتي اعتمدتها في بحثي هذا عن حياته ، ليس فيها أدنى إشارة إلى زواجه .
أما الرؤيا فتقول : أن امرأة جاءت إلى ابن سيرين وهو يتغذى فقالت : رأيت كأن القمر دخل الثريا وأن منادياً ينادي أن ائتي ابن سيرين فقصي عليه رؤياك .
فقبض يده عن الطعام وقال لها : ويلك كيف رأيت ؟ فأعادت عليه ما رأته ، فاربدّ لونه ، وقام وهو آخذ ببطنه . فقالت له أخته : مالك ؟ فقال : زعمت هذه أني ميت إلى سبعة أيام . فمات في السابع ( (1) ) .
ولا بد لنا من أن نحلل ما جاء في هذه الرؤيا لنفهم ما فهمه ابن سيرين منها .
فالثريا مجموعة من النجوم عددها سبعة تشكل شبه قوس ، وهي إحدى منازل القمر ، فإذا دخل القمر فيها فلا يخرج إلا بعد سبعة أيام .
وإذاً فقد كانت إنذاراً له بدنو أجله ، حتى يتمكن من ترتيب أموره قبل رحيله .
وقد استدل هو على مصداقيتها ، من أن الذي رآها له لم يكن هو ، بل جاءته عن طريق امرأة محايدة لا تفهم رموز الرؤيا ولا تدرك معانيها .
وأما أنه كان يتناول غداءه عند أخته ، فهذا يدل على أنه لم يكن له بيت ، وأنه كان خارج السجن وهو لم يكن حراً طليقاً ، وإنما لأنه رجل عرف بصلاحه ، ومكانته في المجتمع .
ولم يكن سجنه لجرم اقترفه ، وإنما كان بسبب ذلك المال الذي فقده من خلال تلك الفأرة اللعينة . ولهذا كانوا يسمحون له بالخروج من السجن ، كما مرّ معنا من قبل لما خرج للصلاة على الصحابي الجليل أنس بن مالك الذي أوصى أن يصلي ابن سيرين عليه .
ولكن لا تزال في رؤيا ذلك الرجل الذي رأى شعراً كثيراً نابتاً على قدميّ ابن سيرين . لا تزال هناك نقطة جديرة بالاهتمام هي أن هذا الرائي هو الذي قام بقضاء الدين عن ابن سيرين بعد وفاته . فلماذا لم يقم بقضائها عنه وهو حي ، ويكون بذلك قد أخرجه من السجن الذي مات فيه ؟
__________
(1) -تفسير ابن سيرين ص 328 .(1/133)
إن هذا التصرف يدل دلالة قطعية على عفة ابن سيرين وطهارة نفسه ، إذ أنه من المؤكد أن ذلك الرجل حاول أن يقنع ابن سيرين بقبول قضاء هذا الدين عنه ، ولكنه رفض . وآثر أن يموت في السجن على أن يمدّ يده لمال ليس له .
وفي اعتقادي أن موقفاً أخلاقياً كهذا لا تقل قيمته عن شهرته كمعبّر ، بل ربما يكون هذا الموقف الأخلاقي نفسه هو الذي أهلّه لأن يحظى بهذه الشهرة . ومن المؤكد أنه ما دام عفيفاً في المال ، فإنه عفيف مع المحرّمات كلها وأهمها العفة عن الجنس والزنا .
إن نظرة تحليلية لحياته تؤكد أن هذا الرجل قد عانى من كيد امرأة ، وأنه عصم نفسه ودينه من مراودتها له .
لقد أبت عليها أنوثتها أن يهزمها رجل ، فاستخدمت وسائلها لتحطيمه ، لينتهي به المطاف سجيناً . ألم تقل امرأة العزيز بصوت عال عن يوسف عليه السلام : { وإن لم يفعل ما أمره ليسجنن وليكوننّ من الصاغرين } [ يوسف:32] .
لقد سجنته ، وأرادت أن تحطم سمعته ، لكنها لم تدرك أبداً – هي وسواها – أن ما تفعله به هو الطريق الذي يفتح له باب العلم والشهرة على مصراعيه .
إنها امرأة العزيز مرة ثانية وثالثة ، وستظل قائمة حقيقة كونية متصلة بهذا العلم علم تأويل الرؤيا ومحددة شروطه .
فكل شاب أعزب يعيش في بيت امرأة متزوجة مشاركة ، لها سلطة مطلقة على زوجها ، تراود فتاها عن نفسه . والويل له إن رفض ، لأنه إن رفض كادت له فأصبح معبّراً .
إن اجتماع هذه الشروط الصعبة ، يفسّر لنا قلة عدد المعبرين على مر العصور . فهو علم إلهي مخصوص موهوب لكل من خضع للشروط السابقة ونجا منها . وهذا مصداق قوله تعالى : { وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث } [ يوسف: 6]
فرويد والأحلام(1/134)
لقد ترك لنا العالم الألماني ( سيجموند فرويد ) سفراً ضخماً عنوانه : تفسير الأحلام .ويبدو لنا من خلال هذا المجلد الضخم أنه اهتم بهذا الجانب اهتماماً جعله يسخّر له من أجل فهمه ، كل ما توصل إليه من نظريات في التحليل النفسي .
ولعل التحليل النفسي نفسه هو الذي قاده إلى الاستغراق في معالجة هذه الظاهرة ، محاولاً أن يسلّط الضوء عليها ، محللاً لها ، ومكتشفاً لشروطها .
ولنا في الجملة الأخيرة ما يؤكد أن التحليل النفسي هو الذي قاده إلى ذلك فهو يقول في أكثر من موضع : ( ولقد اعتدت و أنا أحلل أحلام مرضاي ) ( (1) ) .
ويقول في موضع آخر : إن مجموعتي تزخر بالطبع بأحلام كهذه من أحلام المرضى ( (2) ) . وهكذا نرى منذ البدء أنه ربط الحلم بالمرض النفسي ، فهؤلاء الذين يعرضون عليه أحلامهم إنما هم مرضى ، ومرضهم هو الذي يعكس الحلم الذي يرونه .
واستناداً إلى هذا فهو يقرر الحقيقة التالية : يحق لنا إذاً أن نقرر أن كل حلم ، إنما هو تحقيق ( مقنع ) لرغبة مكبوتة .
إن هذه الرغبة المكبوتة يلقي عليها مزيداً من الضوء فيقول :
إن الفكرة البارزة التي يكشف عنها تحليل الحلم من بين سائر الأفكار المفهومة التي يعرفها الحالم جيداً هي من مخلفات اليقظة ( مخلفات النهار ) كما تسمى فنياً . وأن هذه الفكرة البارزة إن هي إلا رغبة من نوع تمجّه النفس . إنها رغبة غريبة على الحالم في يقظته ، وبالتالي فهو ينكرها في استغراب وازدراء .
هذه الرغبة هي المنشئ الفعلي للحلم ، وما الحلم إلا تحقيق لهذه الرغبة .
أمام تحليل من هذا النوع لمنشأ الحلم الذي يمكن أن نختصره فنقول : ما لا يستطيع الحالم أن يحققه في يقظته فإنه يحققه في حلمه .
__________
(1) -تفسير الأحلام 509 ، ترجمة مصطفى صفوان – دار المعارف بمصر .
(2) - المصدر السابق 223 .(1/135)
هذا النوع من الأحلام التي يتحدث عنها فرويد هي التي نطلق نحن عليها تعريف : حديث نفس ، أي أن ما أردناه في يقظتنا إنما نحدث به أنفسنا أثناء نومنا .
ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة – رضي الله عنه – عن النبي I وأوضح فيه الأنواع الثلاثة للرؤيا . قال عليه الصلاة والسلام : ( ورؤيا مما يحدث الإنسان نفسه ) ( (1) ) .
أن يستهدف الحلم تحقيق رغبة ، وأن يعوض ذلك مما حمله معه من مخلفات النهار ، فإننا نتفق فيها مع فرويد ضمن قائمة الأحلام التي يراها الإنسان في نومه انعكاساً لصدى أحداث النهار . وهذا النوع ليس له تأويل .
ولكن الاختلاف الجوهري بيننا وبينه يكمن في أمور عدة منها :
أنه ينكر الرؤيا الصادقة إنكاراً تاماً فيقول : بفضل التداعي الحر وفنّ التأويل المرتبط بها ( ولاحظ استعماله للفظة التأويل لا التحليل ) ارتباطاً وثيقاً ، فقد أمكن أن نثبت أن للأحلام معنى ، وأن نكتشف ذلك المعنى . وهذا يقوده إلى قول آخر أكثر تخصيصاً فيقول : كان للأحلام في العصور القديمة أهمية كبرى في التنبؤ بالمستقبل . ولكن العلم الحديث أعرض عنها ، إذ أسلمها للخرافة معلناً أنها مجرد عمليات جسمية ( (2) ) .
وبهذا فهو يعلن الحرب على الرؤى الصادقة التي تضمنها القرآن الكريم والتي كانت بعيدة عن معرفة فرويد بها وإدراكها . ولكن ذلك لا يمنع أبداً من أن يكون فرويد قد استوعب التوراة ـ وهو يهودي ديناً ـ وعرف ما فيها من رؤيا صادقة ، أشار إليها هو نفسه ، ولكنه مع ذلك يقلل من أهميتها ويصفها بالعجز فيقول :
__________
(1) -أخرجه البخاري في التعبير برقم ( 6587 ) والترمذي في الرؤيا ( 2270 ) .
(2) - تفسير الأحلام : ص50 ، ترجمة مصطفى صفوان – دار المعارف بمصر .(1/136)
إن التفسير الرمزي للأحلام هو منهج لا يلبث أن يتضح بالضرورة عجزه ومثال على ذلك المنهج أن يرى فرعون سبع بقرات سمان تأكلهن سبع عجاف تأتي من بعدها ، ذلك كان بديلاً رمزياً لنبوءة تنبئ بسبع سنين من المجاعة في أرض مصر تأكل فائض السنوات السبع وافرة الغلة ( (1) ) .
إنه يلغي تماماً أن يكون للحلم وظيفة أو هدفٌ آخر غير تحقيق رغبة الحالم . إذ أنه يرى أن وظيفة الحلم العامة تهدف إلى درء المنبهات الداخلية التي يطلق عليها اسم أحلام الحَصَر ( القلق ) والتي يكون نشوءها نتيجة لضغط الغرائز ، والتي يسمح النائم لها بالحرية فتجد عندئذ إشباعاً في تكوين أحلامه .
وينفي أن يكون قد قرر أن يكون الإشباع لحاجة جنسية وإنما هناك قوى دافعة أخرى كالجوع والعطش أو الحاجة إلى الإفراز . فهذه كلها تنتج أحلام إشباع شأن أي دافع مكبوت ، جنسي أو أناني .
لكن أفكار الحلم إن همت بالانطلاق والتفلت من حكم الرقابة ، وأصبح معنى الحلم أوضح من اللازم فإن النائم عندئذ يقطع حلمه ويستيقظ في رعب . وهذا ما نسميه بالأحلام الموقظة ( (2) ) .
إن هذا التحليل يلغي أن يكون للحلم هدف يسعى إلى إبلاغه للرائي . فضلاً عن أن هذا النوع من الأحلام الموقظة هي التي يسميها الحديث الشريف السابق ذكره في رواية أبي هريرة : بأنها حلم من الشيطان .
فهذا النوع من الأحلام في السنة النبوية يكون وراءها الشيطان الذي يسعى إلى إزعاج النائم وإدخال الرعب إلى قلبه .
هذه المقدمة كان لا بد منها ، لنتمكن من تحليل رؤيا صادقة سماها فرويد حلماً هي للقائد الألماني المشهور بسمارك . وسنطبق عليها شروطنا الأربعة التي حددناها للرؤيا الصادقة محاولاً أن أتلمس الفرق بين المنهجين .
حلم لبسمارك
__________
(1) -المصدر السابق : ص127 ، ترجمة مصطفى صفوان – دار المعارف بمصر .
(2) - المصدر السابق .(1/137)
بسمارك الشخصية العسكرية والسياسية المحنكة التي ملأت أوربا ضجيجاً في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو ألماني المولد والنزعة والهوى .
يروي هذا الرجل في كتابه ( خواطر وذكريات ) خطاباً قصيراً كتبه إلى القيصر فيلهلم في 18من ديسمبر عام 1881 . وكان الخطاب يتضمن تلك الفقرة :
إن ما أفضت به جلالتكم إليّ يشجعني أن أروي حلماً أتاني ربيع عام 1863 ، في أشدّ أيام ذلك الصراع الذي لم تكن تستطيع أن ترى عين إنسان منه مخرجاً .
حلمت ـ وطلع الصباح فما لبثت حتى قصصت الحلم على زوجتي وشهوداً آخرين ـ أنني أركب في طريق ضيق من جبال الألب ، الهاوية على يميني ، والصخور عن يساري ، والطريق تزيد ضيقاً بعد ضيق حتى أبى الحصان مواصلة المسير ، واستحال عليّ أن أنزل أو أستدير لقلة المتسع .
عندئذ رفعت سوطي بيساري وهويت على الصخرة الملساء وأنا أدعو الله ، فإذا السوط يطول إلى غير نهاية ؛ وإذا الصخرة تسقط مثل مشهد من مشاهد المسرح .
ويظهر طريق فسيح يشرف على تلال وغابات من قبيل ما نرى في بوهيميا ، ولاحت الفرق البروسية حاملة راياتها .
فأفكر – وأنا ما أزال في حلمي – في أن أُنبئ جلالتكم بالأمر من غير إمهال ، ولقد ( صار هذا الحلم حقيقة ) واستيقظت منه مثلج الصدر مبتهجاً ( مشددّاً ) ( (1) ) .
ولأول مرة يطلق فرويد على هذا الحلم اسم الرؤيا المتنبئة التي لا تحتاج إلى تشييد الفروض الصوفية . لأن نظريته عن ( تحقيق الرغبة ) فيها ما يغني عن ذلك .
ثم يقول إن السياط والعصي والرماح وما شابهها موضوعات نعرفها رموزاً قضيبية ، ولكن أن يملك أحدهم سوطاً له قابلية الاستطالة إلى غير نهاية فهذا يدل على استثمار ليبيدي مفرط ، الطفولة مبدأه .
وأن يمسك الحالم السوط بيده إشارة جلية إلى الاستمناء ( (2) ) .
__________
(1) - المصدر السابق ص 283 .
(2) - المصدر السابق ص 385 .(1/138)
وفي اعتقادي أن فرويد نفسه لم يكن مقتنعاً بتحليل هذه الرؤيا بحسب القواعد التي حلل بها أحلام مرضاه ، ولذلك يبحث عن دليل يقوي ما وصل إليه ، لكن هذا الدليل يكشف بكل وضوح عن فهم أخرق لطبيعة الرؤيا الصادقة المتنبئة التي تجعلها مغايرة تماماً لمنطق الأحلام الذي تخصص به .
فالدليل الذي ساقه إنما أخذه من التوراة التي تسجّل كيف فجّر موسى الماء من الصخر لأبناء إسرائيل الظماء . ويقول :
ولنا أن نفترض من غير تردد أن بسمارك كان يعرف هذه الفقرة وتفاصيلها ، وهو المنحدر من أسرة بروتستانية حافظة للتوراة . كما أنه ليس من المستبعد أن يكون بسمارك قد قارن نفسه بموسى . ثم يضيف : لقد حوت فقرة التوراة من التفاصيل ما ينطبق على تخييل استمنائي ؛ حيث يمسك موسى بالعصا خارجاً على أمر الله ( هكذا ) فيعاقبه الربّ فيعلنه أنه لا محالة ميت قبل أن يدخل أرض الميعاد ( (1) ) .
ومن هنا فإنه يجعل من بسمارك وهو يحمل سوطه بيساره ظلاً لموسى الذي يحمل عصاه ، لكن التوراة لم تشر ، وكذلك فرويد إلى أن العصا قد حملها موسى بيساره ليكون هناك تطابق في الوسيلة . ثم يعود إلى هذه العصا ليقرر أن الإمساك المحرم بالعصا – وهو ما يحمل في الحلم معنى قضيباً لا لبس فيه – ثم حدوث السائل من ضربتها ووعيد الموت ، كل ذلك يزودنا باللحظات الرئيسية في الاستمناء الطفلي مجتمعة .
ويحلل عبارة بسمارك في رؤياه ( وأنا أدعو الله ) فيقول : إن الله يدعى في محتوى الحلم الظاهر كي تستبعد استبعاداً ظاهراً كل فكرة في محرّم أو مستور ( (2) ) .
__________
(1) - المصدر السابق ص 385 .
(2) - تفسير الأحلام 386 .(1/139)
ولكي يؤكد هذه الحقيقة التي توصل إليها ، والتي يجد نفسه مضطراً للبحث عن أكثر من دليل يسعفه في استنتاجه هذا فإنه يجد في عبارة ( شتيكل ) المنقذ الذي يخرجه مما هو فيه فيقول : ومن الكشوف الثمينة القيمة ههنا كشف ( شتيكل ) أن اليسار يعني في الحلم الخطأ والممنوع والأثيم ( (1) ) . وإلى هنا يكون فرويد قد استنفذ كل ما لديه من حجج وأدلة على تحليل لحلم استخدم رموزاً قضيبية جمعية ، منسجماً مع دعوته التي صنف فيها الأحلام بأنها تحقيق لرغبة .
ولا بد لي – قبل أن أخوض في تحليل هذه الرؤيا – من إبداء ملاحظات على ما توصل إليه فرويد .
فهو – وقد اعترف بأنها رؤيا متنبئة – لم يستطع أن يفصلها عن أحلام مرضاه ، فيستخرج منها شروطها التي تجعلها رؤيا صادقة لا حلماً من الأحلام .
ثم إن بسمارك الرائي لها لم يكن مريضاً نفسياً ، لنطبق على رؤياه هذه ما طبقه على أحلام المرضى النفسيين . وهذا ما دفعه للبحث عن أدلة أخرى كالتوراة وأقوال العلماء مجتهداً في كل ذلك . ليصب تحليله في نهاية المطاف في تلك الرموز التي يستخدمها التحليل النفسي .
وأمام هذا فلا بد لي لكي أحكم عليها بأنها رؤيا صادقة من الله تعالى من أن أخضعها للشروط الأربعة التي تحكم هذا النوع من المنامات ، وتخرجها بذلك عن الباقي .
وأول هذه الشروط أن الرؤيا الصادقة تظل محفورة في ذاكرة رائيها مهما طال عليه الزمن . وخير مثال على أطول رؤيا في مدة زمنية تقل عن عشرين عاماً ( (2) ) ، نجدها في رؤيا يوسف عليه السلام في ( الأحد عشر كوكباً ) فقد كان عمره حينذاك سبعة عشر عاماً ، وعندما تحققت بسجود أخوته له كان عمره خمسة وثلاثين عاماً .
وهذه المدة هي المدة القصوى القابلة لتحقيق الرؤيا الصادقة ، إذ تكون خلال هذه السنين قد استجمعت الأسباب التي تجعل تحقيقها ممكناً .
__________
(1) -تفسير الأحلام 385 .
(2) -تاريخ الطبري ، المجلد الأول ص364 . دار سويدان – بيروت .(1/140)
وما رؤيا بسمارك إلا مثال ثان حي على قابلية استغراق هذه المدة الزمنية .
فبسمارك يقول في رسالته أنه رأى هذه الرؤيا في عام 1863 ، ويسجلها في خطابه إلى القيصر فيلهلم في عام 1881 أي بعد مرور أقل من عشرين عاماً بقليل ، ثم يقول في نهايتها : ( ولقد صار هذا الحلم حقيقة ) إنه قول يكاد يتطابق مع قول يوسف عليه السلام لأبيه : ( هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) .
فكلا الرؤيتين لم تمحيا من أذهان رائيهما ، على الرغم من هذه المدة الزمنية الطويلة ، مما يجعلها مستوفية لأول شرط من شروطها وهو احتفاظ الذاكرة بها بكل تفصيلاتها .
والشرط الثاني للرؤيا الصادقة قصرها ، ولا يغرنك الأسطر الستة التي حوتها ، إذ أن التصوير الذي ورد فيها جعل هذا الوصف يطيلها .
فالمنظر المرسوم هو طريق ضيق عن يمينه هاوية ، وعن يساره صخور ثم طريق فسيح يشرف على تلال .
هذه هي الأرضية التي لا بد للرائي من أن يقف عليها ليستكمل سيره في الرؤيا . فكان هناك السوط والصخرة والفرق البروسية .
لقد كانت رؤيا قصيرة بكل أبعادها ، تكاد تتماثل تماماً مع رؤيا فرعون ( في سبع بقرات سمان ) .
والشرط الثالث هو خلو ذهن رائيها من رموزها التي لا يستطيع خياله مهما كان مبدعاً أن يستجمعها في ذهنه على هذا النحو التخيلي البديع .
ولو كانت هذه الرؤيا حديث نفس أو من مخلفات اليقظة لما تواجد فيها هذا العدد المحدود من الرموز القابلة للتعبير .
فأن تكون فيها طريق ضيق ، وهاوية ، وصخور ، ثم فرس ، ثم غابات ، ثم ضرب بالسوط ، وبعدها ظهور كتائب عسكرية . كل هذا لا يمكن جمعه في مخيلة الرائي ، بل هو تجميع من صنع الله الذي دعاه بسمارك خلالها أن يوضح له طريقه .
ورابع هذه الشروط ، هو التبشير أو التحذير . ومن المؤكد أنها استوفت هذا الشرط استيفاءً كاملاً ، إذ أنها حملت بشرى عظيمة له بالخلاص مما هو فيه .(1/141)
فبسمارك نفسه يقول إنها جاءته في أشد أيام ذلك الصراع الذي لم تكن تستطيع عين إنسان أن ترى منه مخرجاً .
فقد جاءته مبشرة بالخلاص من هذه المعاناة التي لا يعرف طريقاً للخلاص منها ، وقد تحققت هذه البشرى بدءاً من استيقاظه ( مثلج الصدر مشددّاً ) ثم خاتمة عندما قال : ( لقد أصبح هذا الحلم حقيقة )
ولطالما لم يستطع فرويد أن يصطنع الحدود التي لا تجعل كل الأحلام خاضعة لمقياس واحد ، ولطالما لم يستطع أن يتبين حدود الرؤيا الصادقة التي تخرجها عن باقي الأحلام ، فإنه عندئذٍ لا بد له من أن يتخبط في تحليل هو نفسه لم يكن مقتنعاً به ، إذ نراه يحاول التخفيف من وقع تحليله الذي يتناقض تماماً مع شخصية بسمارك من جهة ، ومن فهم رمزية السوط واختلافه عن رمزية العصا – إذ جعلهما كلاً واحداً رموزاً قضيبية – فإننا نراه يقول : وإن تكن الإشارة لا تتجه بالطبع إلى ملابسات الحالم المعاصرة بل إلى رغباته الطفيلية المنتمية إلى الماضي السحيق .
لقد أبرز في تحليله خلطاً في فهم رمزية كل جزء عن غيره . ففي هذا العلم يكون للعصا رمز مختلف تماماً عن رمزية السوط .
ولكي نتبين هذا الفرق في المعنى الذي يحمله هذان الرمزان . فإنني سأتوقف عند عصا موسى الذي قال عنها فرويد بأن فقرة التوراة قد حوت من التفاصيل ما ينطبق على تخييل استمنائي . ويقوده هذا إلى اعتبار حمل موسى للعصا أمراً محرماً خالف فيه الله . وأن الماء الذي انبجس من ضربه للصخرة إنما هو حدوث سائل نتيجة للإستنماء .
أمام تحليل كهذا تتهاوى هذه القدسية التي تحيط بموسى عليه السلام ، وتتهاوى معها عظمة بسمارك في حمله لسوطه ، لينحصر الحلم في رمزين جنسيين هما القضيب والاستنماء . وهذا هو الفرق الهائل بين مفهوم العصا عند فرويد وبين مفهومها عندنا . فالعصا التي حملها موسى عليه السلام ، أحدثت معجزات إلهية كانت فوق إدراك بني إسرائيل لها ، وفرويد واحد منهم .(1/142)
فقد كانت هذه العصا المعجزة الإلهية الأولى التي أُعطيت لموسى عليه السلام في بدء اختياره للنبوة فقد قال الله تعالى عنه : { فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب } [ النمل : 10 ] . هذه العصا حملت معجزة أخرى عندما ألقى بها أمام فرعون . قال الله تعالى : { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } [ الشعراء : 35] .
وهي نفسها التي دفعت بالسحرة الذين جمعهم فرعون في يوم الزينة لمقابلة موسى فقال الله تعالى : { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون } [ الأعراف :117] ، لقد دفعت القوة الإلهية التي حملتها هذه العصا إلى إيمان أولئك السحرة بالله سبحانه وتعالى إيماناً دفعهم إلى تحمل العقاب الذي أنزله فرعون بهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، إدراكاً أن ما رأوه هو معجزة إلهية تفوق كل أنواع السحر وألوانه . وهذه العصا هي نفسها التي أنقذت بني إسرائيل من حصار فرعون لهم وملاحقته لهم وقد حُصروا ما بين فرعون وبين البحر . قال الله تعالى : { فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] ، إذ أنهم بهذه العصا التي شقت لهم وسط الماء طريقاً يبساً لا يخافون فيه غرقاً أو إدراكاً من فرعون لهم ، هي التي كانت وراء نجاتهم من موت محقق .
إن هذه العصا هي التي قدمت لهم المعجزة الخامسة التي نص عليها القرآن الكريم والتي قامت بإنقاذهم من الموت عطشاً قال الله تعالى : { وإذا استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشر عيناً ، قد علم كل أناس مشربهم } [ البقرة : 60] .(1/143)
هذه العصا التي حملت المعجزات الإلهية لبني إسرائيل هي نفسها التي يعتبر فرويد إمساك موسى لها محّرماً . ولا يكتفي بذلك بل يقول : فالإمساك المحرم بالعصا – وهو ما يحمل في الحلم معنى قضيباً لا لبس فيه – يربط انفجار الماء الذي أحدثته العصا بتلك الصخرة التي انفجر منها الماء ، بخروج السائل المنوي من قضيبه ويردف قائلاً : كل أولئك يزودنا باللحظات الرئيسة في حدوث الاستمناء الطفلي مجتمعة .
ماذا بقي لموسى من عظمة بعد تحليل كهذا ؟ وهل العلم يعطينا الحق أن نتمادى فيه فنجعل من الأنبياء مثلاً لحياة جنسية فاشلة شاذة قائمة على التلذذ بهذا الاستمناء باليد .
وأن نجعل من الشعوب كلها شعوباً نما أفرادها كلهم على استمتاع جنسي بالاستمناء دون أن يكون هناك استثناء لأحد . وأن يتوارث هذا الشعب كله هذا الاستمناء الطفلي منذ ذلك العصر البعيد وإلى هذا اليوم .
إن هذه العصا في علم الرؤيا أصل من أصوله . والبشرى كل البشرى لمن رأى نفسه في المنام أنه يحملها ؛ لأنه يكون قد حمل في يده قوة إلهية كفيلة بنصره إن كان في معركة ، وبانتصافه من ظالمِه إن كان مظلوماً .
وتكون بين يديه قوة يجابه فيها عدوه ، ونصيراً له أمام أية قوة تعانده . وهي بذلك تختلف كلية عن السوط . فالسوط إنما يستعمل عادة للعربات التي تجرها الخيول ، فيكون السوط الأداة التي بها يحث هذه الخيول على السرعة . والتي بها يقوّم انحرافها . ولقد صور الله عز وجل العذاب الأليم الذي أوقعه بفرعون ومن معه بالسوط فقال : { فصب عليهم ربك سوط عذاب } [ الفجر 13] ، وما إمساك بسمارك به ، وضربه لتلك الصخرة ، إلا دليل على أن بسمارك لم يكن ليعرف الرحمة وأما أن سوطه يطول إلى غير نهاية ، فهذا يدل على أن سلطانه الذي يسعى إلى تحقيقه سيمتد خارج وطنه .وأما أن يحمله بيده اليسرى ، فهذا دليل على بطشه وجبروته ، ولعل هذه الصفات التي تواردت في هذه الرؤيا عن بسمارك توضح شخصيته أشد الوضوح .(1/144)
لقد كان يمتلك قلباً قاسياً ، وطموحاً لا حدود له ، وجرأة لا مثيل لها ، ولو لم يكن كذلك لما استطاع أن يعيد وحدة أمته ، وأن يقطع جذور كل من يحاول أن يمد يده إليها بسوء . إن حمل سوطه بيده اليسرى هو الدليل على أنه كان يضرب أعدائه الذين في الداخل أولاً ـ ثم أعداءه خارج بلده ـ بكل قسوة وجبروت ، وما ذلك إلاّ لأن استعمال اليسار دالٌ على بطش شيطاني مريع .
فالشيطان وهو الذي يمثلّ المنشقَّ عن عالم الجن إنما يستعمل يده اليسرى خلافاً لعالم الإنس الذي يستعمل يده اليمنى . إن استعمال اليد اليسرى عند الشيطان إنما يكون دليله قوله تعالى في سورة الواقعة حيث يقول : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال ، في سموم وحميم } [ الواقعة : 41-42] ، ومن هنا نستنتج أنه كان رجلاً قاسياً لا يعرف التهاون ولا الشفقة أمام تنفيذ أوامره . وإذا كانت رؤياه قد صرحت بأنه يمسك بالسوط بيده اليسرى ، فهل صرحّت التوراة بأن موسى كان يمسك عصاه بيسراه ؟
ويبقى في رؤياه جزء لا بد من الوقوف عنده وهو أنه في أثناء ذلك كان ( يدعو الله ) أن يعينه على مواجهة هذه الصعاب التي تعترضه . وما كان الله ببعيد عنه ، فقد بشرّه فيها بتحقيق مراده عندما تهاوت الصخرة أمامه ، وظهرت بعدها الكتائب البروسية حاملة راياتها . إنني لا أريد أن أضفي على بسمارك صفة المؤمن الذي يستجاب دعاؤه ، ولكنني أحاول أن أفهم هذه الرؤيا فهماً يتسامى مع أبعادها .
لقد بشره الله تعالى فيها بالخلاص مما يواجهه من عقبات ، لأنه هو نفسه كان يسعى وراء هدف جدير بكل سياسي وعسكري أن يسعى إليه .
فهو يريد أن يرى أمته قوية لها مكانتها بين الأمم ، متحدة في كيان قوي ، ويريد أن يرى وطنه متسعاً ممتداً . وأهداف كهذه لا يكون تحقيقها بعيداً عن رضا الله سبحانه ،بل ربما يكون لله إرادة في تحقيق ذلك .(1/145)
وعندئذ يصبح هذا الرجل القائد الفذ ملهماً لغيره من القادة الذين يسعون إلى توحيد كلمة أمتهم في بنيان متراص قوي .
هذه هي الرؤيا الصادقة بكل شروطها وأبعادها تسجل تاريخ فرد استطاع أن يصنع أمّة وإذا ما أسعفني الوقت فإنني سأعود إلى فرويد وكتابه عن الأحلام فأبسط الحقائق التي لم يستطع بسطها .
فقد أبدى تعجبه من أن ( تبدي الأحلام قدرة خارقة على الثبات في الذاكرة ) وأنه هو نفسه يستطيع أن يتذكر حلماً له ، تفصل بينه وبين الآونة الحاضرة سبع وثلاثون سنة على الأقل وهذا الحلم لم يفقد شيئاً من نضارته في ذاكرته ويقول :
كل هذا عجيب أشد العجب ، ولا يدنو للفهم للوهلة الأولى ( (1) )ويجد نفسه مرة أخرى في حيرة من فهم أحلام الطيران والسقوط التي يطير المرء فيها مسروراً أو يسقط وهو يشعر بالهيلة . ويقول عنها :
إنني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي بحال من الأحوال قصوري عن الإتيان بتفسير كامل لهذه الطائفة من الأحلام النمطية ؛ فالمادة التي عندي تتركني في هذه المسألة بالذات حائراً ( (2) ) .
وهكذا نجد أن العلم الذي استند إليه فرويد في دراسة الأحلام لم يستطع أن يجيب على الأسئلة التي يطرحها هذا الجانب كاملاً ، وما ذلك إلا دليل على أن علم تأويل الرؤيا إنما هو علم إلهي مخصوص من الله تعالى ، كان فيه يوسف عليه السلام المثل الأعلى له .
خمسون رؤيا أوّلتها
من بين الآلاف من الرؤى الصادقة التي أوّلتها ، كان هناك عددٌ أكبر منها لم أعبّره . وما ذلك إلا لأنني لم أكن أتيقن من استكمال شروط الرؤيا الصادقة فيها .
وإنني إذ أسجل في هذا الفصل هذا العدد من هذه الرؤى الصادقة ، فهي مما وعته ذاكرتي ، ومما تأكدت من تحقيقه .
__________
(1) -تفسير الأحلام لفرويد ، ص79 ، ترجمة مصطفى صفوان ، دار المعارف بمصر .
(2) -تفسير الأحلام لفرويد ، ص287 ، ترجمة مصطفى صفوان ، دار المعارف بمصر .(1/146)
إن معظم ما أولته إنما كان على الهاتف لأناس لا أعرفهم ولا يعرفونني ، وكنت أستدل على صدق تأويلي عندما أراهم يعيدون اتصالهم بي . طالبين مني أن أعبر لهم رؤيا جديدة .
وكثيراً ما حاولت أن أصرف هذا العلم عني ، محاولاً أن أتلمس الأعذار للناس ، ولكنني كنت أضطر في أحايين كثيرة إلى خرق هذا القرار أمام إلحاح الآخرين . وما كان هروبي من الاستمرار فيه إلا لشعوري بالمسؤولية التي أتحملها . وخوفي من أن يكون تأويلي فيه مجافاة للحقيقة وبعد عن الصدق .
ثم وجدت نفسي أخيراً مذعناً لتلبية هذه الحاجة الماسة التي يستشعرها الرائي في منامه وعندئذ أدركت أن هذا العلم الذي أكرمني ربي به هو تكليف منه لا يسعني أن أتهرب منه أو أرفضه .
ولقد حاولت في هذه الرؤى التي أوّلتها أن تكون من ذلك النوع الذي أوّلته لأصحابه مباشرة وجهاً لوجه . وأن أنتقي منها ما يضيف جديداً في كل تأويل واضعاً الأسس التي يجب أن ينطلق التأويل منها .
1- صديق صالح يعمل موظفاً في دائرة حكومية قال : رأيت في نومي أن ثلاثة كتب موضوعة على مكتبي فوق بعضها بعضاً ، وكان الكتاب الأول جلده مهترئ .
وأن السيد الرئيس أشار إلى الكتاب الأوسط فيهم كأنه يريده . واستيقظت .
قلت له : هذه الرؤيا تقتضي أن تكونوا في الغرفة ثلاثة موظفين .
قال : نعم نحن كذلك .
عندئذٍ قلت له : إن الموظف الأوسط فيكم خدمة ينقل من غرفتكم .
فصاح الرجل مكبراً . سألته : لم تكبّر ؟ قال : لقد نقل هذا الموظف في هذا اليوم .
قلت : إذاً ينبغي أن تكون رؤياك قبل ذلك . قال نعم : رأيتها البارحة .
قلت له : لا يزال في رؤياك شيء لم يعبّر . هو الكتاب الذي جلده مهترئ . قال : نعم .
قلت : هل تدري من هو ؟ قال : لا . قلت : إنه أنت فأنت أكبرهم سناً وأكثرهم خدمة . قال : نعم صحيح . وضحك الرجل قائلاً : وكيف عرفت ذلك ؟
قلت : إن جلدك مهترئ وما الكتاب الأول إلا أنت .
قال : وكيف استطعت أن تستنبط ذلك من الرؤيا ؟(1/147)
قلت : السيد الرئيس – وكل الرؤساء – أمره نافذ في النوم كما هو نافذ في اليقظة . وأما الكتاب فهو حياة إنسان .
ألم يقل الله تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً . اقرأ كتابك } [ الإسراء : 13] .
2-3- دخلت إحدى الدوائر الحكومية ، وقدمت طلباً لمديرها العام لشأن يهمني . وانتظرت خارجاً . وبعد قليل عاد مدير مكتبه قائلاً : إن السيد المدير يريد أن يراك .
دخلت ، فقام الرجل وأحسن استقبالي وقال لي ضاحكاً : من غير المعقول أن تأتي إلينا ولا نسألك عن تفسير مناماتنا .
وكان عدد من رؤساء الأقسام يجلس عنده . فأدركت أنه قد سمع عني . فقال : إنني وزوجتي متحابان ولدينا أولاد كبار ، ولأكثر من مرة رأت زوجتي في نومها أننا نفترق عن بعضنا .
قلت : لا بد – في كل مرة رأت زوجتك مناماً كهذا – من أن تكونوا واقعين في ضائقة مالية وتكون هذه الرؤيا في كل مرة بشارة لكما بانفراج هذه الضائقة المالية عنكم .
صمت هنيهة ثم قال : أعتقد أن هذا صحيح ولكن ما دليلك ؟ قلت : قول الله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سَعته } [ النساء : 130].
ولا يجمع الله سبحانه وتعالى على عبده ضائقتين ولا عسرين ولا خوفين .
قال : هناك رؤيا ثانية . ويبدو أنه قد تأكد من صدق قولي .
لقد منحتني الدولة بعثة للتخصص في دولة أوربية . فرأت زوجتي أنها ذهبت معي إلى المطار . وعندما طارت الطائرة بي ، أمسكت هي بالعامود الحديدي الذي يصل بين العجلات خارجاً وطارت معنا .
قلت له : إن هذه الرؤيا جيدة لك ، وليست كذلك لزوجتك .
وسأعبر لك الجانب الذي يخصك فيها . إن هذه الرؤيا بشارة لك بتحقيق ما أنت قادم عليه ، ومن المؤكد أنك ستذهب للتخصص وتعود وقد كللت بالنجاح .
قال : نعم ، لقد حدث ذلك بالضبط . وأريد أن أعرف ما تقوله الرؤيا عن زوجتي .
قلت : أرجو أن تعذرني عن إجابتك . وأمام إلحاحه وزملائه قلت : إنها تموت .(1/148)
فالتفت الرجل منفعلاً وقال لمدرائه : إنني يوم عودتي من سفري لم أجد زوجتي في انتظاري ، ووجدت مهندساً هو فلان ، ويبدو أن الحاضرين يعرفونه .
فأخذني من المطار إلى مطعم ساهر . وبدأ يطيل الحديث معي حتى كاد الفجر يبزغ ، فلما ضقت ذرعاً بذلك ، وصممت على المغادرة إلى بيتي شوقاً لزوجتي وأولادي قال : لقد أخرتك هذه المدة الطويلة لأن زوجتك في العناية المشددة ، فقد تدهورت بسيارتها في حادث مريع ، وإنني أثناء وجودي معك كنت أتصل بالمستشفى لأطمئن على حالتها قبل أن أخبرك .
قال : فانطلقت إلى المستشفى وبقيت هناك حتى الظهر حيث فارقت الحياة ، وبكى . شعرت بإحراج شديد وهممت بالخروج ، لكنه قام وطلب مني الجلوس ، وكان انفعاله قد هدأ .
فقال : وما دليلك على هذا التأويل ؟
قلت : الرؤيا الأولى دليلها نقلي . فالآية من القرآن الكريم .
أما الثانية فدليلها عقلي . لقد طرت أنت بجناحين ، وهذان الجناحان هما اللذان يحفظان للطائرة توازنها ، ويمنعانها من السقوط . فهما الأمان للراكب ببلوغ المراد . وأما زوجتك فقد اعتمدت في طيرانها على قوة ساعديها ، ولا بدّ لهذه القوة من أن تضعف كلما طال اعتمادها عليهما . فإذا ضعف ساعداها سقطت ، ويكون عندئذ سقوطها من هذا الارتفاع الشاهق موتاً محققاً .
4- فتاة مجهولة اتصلت بي وقالت : رأيت في أذني حلقاً مكسوراً .
قلت لها : أنت عزباء أم متزوجة ؟
قالت : بل عزباء .
قلت : تخطبين ثم تترددين ، ثم ترفضين .
وبعد فترة اتصلت بي ثانية ، وكنت قد نسيتها . فطلبت منّي تفسير منام لها فسألتها : وكيف عرفت هاتفي ؟ فقالت :
لقد اتصلت بك من قبل وأنا صاحبة الحلق المكسور . لقد تحقق ما قلته لي تماماً . لقد خُطبت فترددت ثم رفضت .
5- اتصل بي رجل مجهول فقال :
لقد رأيت في نومي أنني أركب سفينة تسير في البحر هادئة ، ولكن الأمواج تحيط بي من كل جانب عالية صاخبة .(1/149)
سألته : وما عملك ؟ فقال : ملحق عسكري في إحدى السفارات العربية .
قلت : أنت رجل مستقر في عملك ، وحولك رجال يكثرون من القيل والقال عنك . فاحذرهم ، وكن حريصاً في كلامك أمامهم ، فهم يتربصون بك .
ثم عاود الاتصال بي بعد شهر تقريباً وقال : إن لك عندي هدية على تفسيرك لمنامي ، لأنك نبهتني إلى ما كنت غافلاً عنه . وكان كلامك صحيحاً .
قلت : خدمتك لله ( قل لا أسألكم عليه أجراً )
6- رجل قال لي : إن زوجته رأت في نومها ديكاً على رأس مئذنة . وكان يسكن بيتاً عربياً .
فقلت له : هناك رجل أعجمي يتلصص على زوجتك .
فلما راقب زوجها هذا الوضع ، وجد رجلاً أجنبياً يتلصص عليها من شقته في الطابق الثاني ، وهي خارجة من الحمام ، إذ لم يكن من مكان مكشوف في ساحة بيته غير الممر الذي يصل بين الحمام وبين غرفة نومه .
7- شاب صالح قال أمام جمع من أصدقائه :
لقد رأيت نفسي في الحرم المدني واقفاً قبالة قبر الرسول – صلى الله عليه وسلم –
قلت له على الفور : إنك لصلاحك تكثر من التحريم على أهل بيتك ، فكن بهم رحيماً ودعهم يعيشون حياتهم كالآخرين .
فلما شعر أن تأويلي هذا قد أصاب كبد الحقيقة فيه قال : كيف ربطت ذلك ؟
قلت : لقد قلت أنت ( الحرم المدني ) قال : كان قصدي أن أقول : المسجد النبوي .
قلت : لقد كان ما قلته هو لفظ أملاه الله عليك . ولم يكن بإرادتك . وهذه الرؤيا تدعوك إلى أن تستهدي بسنة رسول الله لا باجتهادك أنت في تحريم ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسير عليه في حياته مع أهل بيته .
8- شاب متدين تديناً متزمتاً قال :
رأيت في نومي أنني خرجت من باب المسجد بعد أن أديت صلاتي ، فلما نظرت أمامي رأيت صحراء ممتدة لا نهاية لها . قلت : إن صدقت رؤياك وصدق تأويلي ، فإنك تظن نفسك قد استكملت الشروط الكفيلة لوصولك إلى الجنة . ولكن ما يزال أمامك شوط طويل لتحقيق ذلك .
فرؤياك هذه تنذرك بأن هناك فتناً كثيرة ستتعرض لها .
قال : وما دليلك ؟(1/150)
قلت : قول الله تعالى : { وينجي الله الذين آمنوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون } [ الزمر: 61] والعرب تسمي الصحراء مفازة لأن من يقطعها سالماً يفز بالنجاة ، وأنت شاب ظاهرك حسن . فاجعل باطنك كظاهرك .
9- رجل أعرفه قديماً قال :
رأيت نفسي في النوم واقفاً مع صهر لي . وإذا ببقرة تدخل علينا في ورشة النجارة التي يملكها ، فحاول إخراجها فلم تخرج ، فأصر على إخراجها وعندئذ قالت له البقرة : لست بخارجة .
سألته : هل رأيت وسمعت ما قالته البقرة ؟ قال : نعم .
قلت : لا حول ولا قوة إلا بالله .
قال : ما بك ! هل هناك شيء ؟
قلت : إن صهرك قد يموت .
قال : أعوذ بالله . وما دليلك على ذلك ؟
قلت : قول الله تعالى : { وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم } [ النمل : 82] .
فلم يمض على تأويلي هذا قرابة شهر حتى وجد ميتاً على فراشه ، وكان شاباً في مقتبل العمر .
10- رجل مقدم على خطبة لولده قال :
رأيت في نومي غزالة تقفز من بين وحوش تحيط بها ، لكنها لم تستطع أن تخرج من بينهم .
سألته : هل هناك خطبة ؟ قال : نعم لقد خطبت لولدي .
قلت : الفتاة ممتازة لكن أهلها رديئون ، وإن صدقت رؤياك فإن هذه الخطبة لا تصل إلى الزواج . وحدث أن تم فسخ الخطوبة بينهما بعد سنة ونصف تقريباً ، لشروط صعبة وضعها أهلها .
11- صديق قديم جاءني في آخر مرة قال :
رأيت في نومي أفعى كبيرة جداً ، فتحت فمها فوجدت فيه ضرساً واحداً ، فأحضرت آلة معدنية وقمت بخلعه .
سألته : أين رأيت هذه الأفعى ؟
قال : في بيت أهلي .
قلت : إنني لا أستطيع أن أعبر لك هذه الرؤيا .
قال : لماذا ؟ إنك تعبّر لسائر الناس ، فلماذا لا تعبرها لي ؟
قلت : لو قلت لك إن الساعة الآن – وهي الرابعة عصراً – هي الرابعة ليلاً هل تصدقني ؟ قال : نعم .(1/151)
قلت : إن قولي لك أن الساعة الآن الرابعة ليلاً ليس تهويلاً ، بل هو حق لمن أدرك أن هذا الوقت بالنسبة لعالم الجن هو وقت نومهم ، فهم ينامون نهاراً وبهذا يكون نهارنا ليلاً لهم .
وسأحدد لك صفتين من صفات أمك . الأولى : أنها ذات شخصية قوية جداً تطغى بها على شخصية أبيك تماماً .
قال : نعم هذا صحيح . قلت : وأما الصفة الثانية ، فمن المؤكد أن لك أختاً لم تتزوج بعد وهي كبرى أختيها اللتين تزوجتا ، وليستا أكثر جمالاً منها . قال : نعم وهذا صحيح أيضاً .
قلت : إن أمك امرأة مشاركة قامت بوضع العراقيل أمام زوج هذه الأخت ، لأنها تعهدت لشركائها وهم ذكور ليشاركوها ( فالمشاركة بالوراثة ) وهي لهذا السبب تخترع الأعذار لمنع زواجها . وهذه الرؤيا تلزمك أنت مسؤولية زواج أختك دون وضع أية عراقيل أمام الخاطب مهما كلفك ذلك .
12-شاب تقدمت به السن وهو يبحث عن شريكة حياته . قال :
رأيت في نومي سيارة سبور حمراء من أحدث طراز .
سألته : هل هناك خطبة .
قال : نعم
قلت : عليك بها ولا تتردد ، فلونها يدل على أنها فتاة ذات غنج ودلال .
13- كنت في زيارة لعائلة فقال لي غلام حدث :
رأيت في نومي بوماً يجلس على هذه الكنبة ، وهناك بومات أربع صغار يقفزن على أعلاها .
فقلت لأهله : ابحثوا لي عن صديق لكم له أربع بنات . فوجدوا صديقاً لهم كان عندهم قبل يوم واحد ، وقد جلس على الكنبة نفسها .
قلت احذروه ، فهو نذير شؤم لكم ، إنه يأتي ليتحسس أخباركم ، سريرته فاسدة ، ومظهره خادع .
ثم أخبروني فيما بعد أن أمه مشعوذة ، وأنه هو نفسه له علاقات مريبة مع النساء .
14- صديقة لابنتي قالت :
رأيت في نومي اثنين من أسناني قد سقطا ، فأرجعت الأول إلى مكانه ، والثاني بقي في يدي .
سألتها عن السن الذي أرجعته إلى مكانه هل كان في الفك السفلي أم العلوي ؟ فقالت : الذي أرجعته كان في الفك السفلي ، والذي بقي في يدي مكانه في الفك العلوي .(1/152)
قلت : تخطبين مرتين ، الأولى لابن خالتك ولن توافقي . والثانية لابن عمك وستوافقين ثم حدث أنها خطبت لابن عمها وتزوجت منه .
فالأسنان في الفك السفلي أقارب من جهة الأم
والأسنان في الفك العلوي أقارب من جهة الأب .
15- امرأة مجهولة اتصلت بي هاتفياً وقالت :
رأيت في نومي حماراً مسلوخاً ، ولحمه أحمر اللون ، أمسكت بقطعة من لحمه فمضغتها فقرفت منها ، وقمت منزعجة .
قلت لها : حدثيني عن عمل زوجك .
قالت : إنه يعمل من الساعة السابعة صباحاً وحتى الساعة السابعة مساء .
قلت لها : اتق الله في زوجك وارحميه من نفقاتك التي معظمها لا فائدة منها .
قالت : وكيف عرفت ذلك ؟
قلت : إن زوجك ( حمار شغل ) وأنت لا تقدرين ذلك ، فاتق الله فيه ولا تسلخيه أكثر مما هو عليه .
16- جاءني صديقان، أحدهما مهندس فقال :
إن زوجتي رأت في نومها والدي جالساً في غرفة الضيوف – وهو ميت طبعاً – في حال حسنة ، فقال لها أخبري أخا زوجك الكبير أن يدفع لأخوته من زوجتي الثانية مبلغاً قدره ثلاثون ألف ليرة سورية . واستيقظت من نومها .
قلت : إن هذه الرؤيا تلزم أخاك بدفع هذا المبلغ . ولم أكد أنهي كلامي حتى حضر أخوه فجأة . وجلس معاتباً لأخيه لأنه لم يخبره بنيته في القدوم إليّ .
فقلت له : لقد رأت زوجة أخيك هذا رؤيا تلزمك بدفع هذا المبلغ لأولاد خالتك . فقال : سبحان الله ، لقد أنهيت البارحة الحسابات المالية التي تخصنا ، والتي تخصهم فوجدت أن لهم في ذمتي هذا المبلغ نفسه . فقلت له : إن والدك يأمرك أن تدفع لهم هذا المبلغ بلا تردد .
17- سألني طبيب أسنان عن رؤيا رأتها قريبة له فقال :
لقد رأت زوجها يدخل عليها في غرفة نومها ، وبيده سكين ، فاعتقدت أنه سيقتلها ، لكنه وضع على سريرها ( توالاً ) أبيض كالتي تُزين به بدلات العرائس .
فسألته : هل قتلها ؟ قال : لا .
قلت : لو قتلها كان حظها منه أوفر .
قال : لم أفهم .(1/153)
قلت : لقد قال الله تعالى : { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } [ الإسراء : 33].
إن هذه المرأة ستجد من زوجها رعاية فائقة ، وحباً لم تعهده فيه من قبل .
قال : نعم إنها تجد ذلك . وهذا ما دفعها للاستغراب حيث شغلها هذا المنام فذهبت إلى أحد العرافين فقال لها : نعم احذري من زوجك أن يقتلك وأنت نائمة .
قلت له : وما أدرى هذا العراف بالتأويل . إنك لم تسألني عن سبب هذه الرعاية الفائقة من زوجها لها .
قال : نعم ، هو هذا الذي دفعها للدهشة من سلوكه معها ، ومما رأته في منامها .
قلت : لقد كان زوجها واقعاً بغرام امرأة أخرى ، وقد وعدها بالزواج . ثم فكر بالأمر ملياً فوجد أن له زوجة مخلصة ، فاستفاق ضميره وعزف عن هذا الزواج . وأما دليلي في هذا الاستنتاج فهو ( التوال ) الأبيض الذي وضعه على سريرها . لقد كان ينوي الزواج حقاً لكنه عندما صحا ضميره أحضر معه ما يدل على ذلك .
18- مهندس آخر قال :
لي أخت متزوجة رأت في نومها أنها تدخل حديقة مسوّرة فيها أشجار مثمرة ، وأرض خضراء ، وفي وسطها قبر مشيد فخم ، وقف على حراسته امرأة مجهولة ، فطلبت أختي منها أن تدخل القبر لترى ما فيه فمنعتها .
قلت له : حدثني عن أختك .
قال : كانت قبل زواجها متدينة حافظة للقرآن ، ثم بعد زواجها خلعت حجابها .
قلت له : اكتب لها ما سأقوله لك :
إن الجنة التي وُعدت بها من قبل لا تزال موعودة بها إن عادت لما كانت عليه .
قال : والقبر .
قلت : ذاك كان قبرها ولو فاتت ماتت . أي أنه لا يزال أمامها متسع من الوقت كي تعود إلى سالف عهدها ، ولم يحن وقت موتها بعد .
19- ولهذا المهندس نفسه ابنة أخت وجميعهم مجهولون بالنسبة لي قال :
إن ابنة أخت لي رأت نفسها في رحلة جامعية ، ومعها صديقة عزيزة عليها . فرأت بركة ماء كأنها مستنقع ، فتعرّت صديقتها ونزلت فيه ، وكلما أرادت الخروج تساقط من جسمها شيء وكأن هذا الماء أسيد حارق . ثم غطست ولم تخرج .(1/154)
ثم رأت دماً مسفوحاً على قطعة خشب كأنها صليب .
سألته : هل ابنة أختك جامعية ؟ قال : نعم .
قلت له : أدرك ابنة أختك قبل أن تسقط كما سقطت صديقتها . فإن هناك شاباً أعزب على غير دينها يفكر باغتصابها كما فعل بصديقتها .
اضطرب المهندس لهذا التأويل ، وذهب مغضباً .
لكنه عاد بعد ثلاثة أيام ليقول : نعم لقد كان هناك شاب على ما وصفت ، وقد جاء إلى بيتها طالباً يدها . فلما أخبره أهلها أنه لا بد من حضور أهله ، فإنه عندئذ ذهب ولم يرجع أبداً .
20-لي قريب متزوج وله ابن اسمه جهاد قال :
رأيت ابني قد سقط من نافذة البيت في الدور الرابع فوقع على سارية مدخل البناء قبل أن يقع على الأرض ، وعندما رأيته قد حرك عينيه أدركت أنه لم يمت .
سألته : ما وراءك ؟ قال : لقد عُرضت عليّ إقامة للعمل في دولة خليجية .
قلت له : إذاً أنصحك ألا تغادر بلدك لأن جهادك في تلك الدولة سيضيع على الأرض ، وتكاد تحل بك مصيبة هناك .
لكنه سخر من تأويلي وظن أنني حاسد له . فحزم أمتعته وغادر .
وبعد أربعة أشهر من ضياعه هناك ، حيث سحبت منه إقامته ، ولم يعد يملك مالاً يمكنه من العودة ، فأصبح ينام في الحدائق . عاد بخفي حنين ليجد نفسه قد فقد عمله هنا .
21- امرأة لها أخت متزوجة منذ سنوات . قصت عليّ الرؤيا التالية من خلال الهاتف قالت : رأيت نفسي في النوم مع حماتي واقفتين على بركة ماء عذبة في مسجد معروف ، فملأت حماتي كوب ماء منها وقدمته لي فرأيت فيه ثلاث حبات كأنهن بذور سمك يتحرك . فقلت لها لا أريده ، عندي مثله ، ولكن خذيه فأعطيه لأختي . واستيقظت .
سألتها عندئذ كم مضى على زواج أختك . قالت : تسع سنوات .
قلت : هل لديها أولاد ؟ قالت : لا .
قلت : هذه الرؤيا بشرى لأختك بحملها وإنجابها ولداً ذكراً .
ففرحت المرأة كثيراً ودعت أن يحقق الله لأختها ذلك .
وبعد مدة تقارب السنة اتصلت بي لتخبرني أن أختها قد أنجبت ولداً ذكراً .(1/155)
22- طبيب بيطري هو صديق لي منذ زمن بعيد . اتصل بي قائلاً : إن ابنه رأى رؤيا ويريد أن يخبرني بها . كان ابنه طالباً جامعياً . قال :
رأيت نفسي واقفاً مع والدي في بستان ، وجاء طائر كبير الجناحين يقال له عندنا ( أبو سعد ) وكان علينا أن نقصّ له رجليه .
أبي لم يستطع أن يفعل ذلك لكنه نتف له ريش رجليه ، أما أنا فقصصت له رجليه مع طائرين آخرين مثله .
قلت له : إنني أعلم أنكم تعملون بتربية الدواجن . قال : نعم .
قلت : أخبر والدك أن هناك ثلاثة يعملون في هذا المجال وهم بعيدون من هنا . يريدون أن يتعاملوا معكم . فإذا صح ذلك فامنع أباك من هذا التعامل أبداً وقم أنت بقص أرجلهم عن المجيء إليكم . وأغلقت الخط .
اتصل بي والده بعد دقائق ليقول : لقد كنت البارحة في إحدى المحافظات فالتقيت هناك بثلاثة من الأطباء البيطريين دعوني على الغداء ، وكان لهم مطلب عندي هو أن أكون شريكاً معهم في مشروع لتربية الدواجن هناك .
قلت له : إن هذه الرؤيا تحذرك من ذلك .
قال : إنني لم أكن سعيداً عندما فاتحوني بالموضوع . والحمد لله الذي أكرمني بهذه الرؤيا قبل أن أتورط معهم .
23- طبيب مختص قال :
رأت زوجتي في نومها أنها تصلي باتجاه الشمال .
قلت له : هل زوجتك متدينة ؟ قال : نعم .
قلت : هل هي مستغرقة في دينها ؟ قال : نعم .
قلت له : زوجتك امرأة تبتدع أشياء في دينها لا يقرها الشرع عليها .
قال : مثل ماذا ؟
قلت : ربما تقترب منها تريد أن تقبلها قبلة عابرة فتقول لك : إنني متوضأة .
قال : نعم يحدث هذا .
قلت : هذا الاجتهاد مبالغ فيه وبعيد عن يسر الإسلام وسماحته حيث أن هناك بعضاً من الفقهاء لا يجدون فيه حرجاً .
قال : وكيف أولت هذا ؟
قلت : إن القبلة التي نصلي باتجاهها هي الجنوب ، والشرق قبلة النصارى والغرب قبلة اليهود ، وأما الشمال فهو قبلة من لا قبلة له وهم أصحاب البدع .
24- امرأة قصت عليّ هذه الرؤيا بحضور زوجها قالت :(1/156)
رأيت آدم وحواء خلفا نوحاً .
قلت لها : إنك تعيشين منذ زمن في سعادة وأنت الآن أمام معاناة شديدة تستلزم منك وتفرض عليك النوح والبكاء .
فلما خرجتُ تبعني زوجها قائلاً : هل لديك تأويل آخر لهذه الرؤيا .
قلت : لي إضافة عليها تخصك أنت ، وما كنت لأستطيع أن أقول لك ذلك أمامها . هل تدري من يكون ( نوحاً ) فيها ؟ إنه أنت . إنك أنت نوح . وفي قصة نوح شيئان أساسيان : شراكة زوجته ؟ وعقوق ولده ؟
قال : وما أدراك أن زوجتي مشاركة ؟ قلت : هل لها خلوة ؟ قال : نعم .
قلت : احذرها واحذر ولدك هذا فلا تثق بهما ثقة عمياء .
25- شاب أعزب متقدم في السن قال بحضور أخيه :
رأيت بحيرة ماء طولها خمسة وعشرون متراً ، وعرضها كذلك ، فخضت فيها ، كان ماؤها عكراً ، ثم صفا الماء وأصبح نقياً .
قلت له على الفور : لقد خطبت فتاة أتمت الخامسة والعشرين من عمرها ، وأهلها بين رفض وقبول لك ، لكن الأمر ينتهي بتمام خطوبتك .
فنظر أخوه إليه ضاحكاً وقال : قلت لك .
وبعد مرور عام تقريباً دعاني إلى حفل زواجه وقال : إنها هي نفسها التي بشرتني بها . إنّ عمرها خمسة وعشرون عاماً بالتمام والكمال .
26- رجل عربي يعمل موظفاً في سفارة بلاده في مصر قال :
رأيت في نومي طائرات هيلوكبتر بدأت تقصف جمعاً من الناس وكنت معهم فلم يصبني من قصفهم شيئاً .
قلت له : كن حذراً فرؤياك تدل على وقوع حرب أهلية في بلدك ، فكن بعيداً عنها .
ثم وقعت تلك الحرب بعد ثلاثة أشهر . فاتصل بي بعد سنة قائلاً : لقد كان تحذيرك صحيحاً ، لقد أجلّت إجازتي السنوية وقتذاك وكنت في مصر عندما وقعت تلك الحرب .
27- طبيب مسيحي قال :
رأيت زوجتي في نومي تقطف رمانة كبيرة ففتحتها وكانت حباتها حمراء .
قلت : تصيب زوجتك هدية ثمينة من جهة غير معلومة لكما .(1/157)
وبعد أسبوع جاءت عمته . وهي راهبة تعمل في جنوب أفريقيا – وكان قد مضى على عدم رؤيته لها سنوات طويلة ، وهي تحمل معها هدية لزوجته عبارة عن جاكيت طويل من الفرو الخالص .
28- شاب قال : رأيت جملاً يدفع برأسه نافذة غرفتي وهي مسورة بالحديد . سألته : هل أنت متزوج ؟ قال : نعم . سألته : هل زوجتك حامل ؟ قال : نعم . قلت : تلد لك ولداً ذكراً إن شاء الله . وبعد مدة اتصل بي ليقول : لقد ولدت زوجتي ولداً ذكراً ، جزاك الله خيراً .
29- امرأة لها بنت في سن الخطوبة قالت :
رأيت بركة ماء في وسطها جمل يرفع إحدى يديه وينزلها في الماء .
سألتها : هل هناك خطبة لابنتك ؟ فالت : نعم .
قلت لها : الشاب لا يزال متردداً وسبب تردده هو أمه . فقالت : صحيح .
ثم إنّ الشاب حسم أمره وخطبها .
30-رجل قال :
رأيت نفسي أركب فوق سيارة شحن مليئة بالبطيخ ، وأنا سعيد أنظر يميناً وشمالاً .
قلت له : ستواجهك هموم ومشاكل يميناً وشمالاً فكن واعياً لنفسك .
ثم حدث بعدها أن فقد بيته ، وباع سيارته ، وأصبح مفلساً حقيقياً .
31- رجل قال : رأيت نفسي عائداً إلى بيتي ليلاً ، فدخلت المطبخ فرأيت ( فلتر ماء ) ينزل منه ماء على أرض المطبخ ، فأغلقته .
سألته : هل لك أخ يعمل في الخليج ؟ قال : نعم .
قلت : هل تصلك منه مساعدات مادية ؟ قال : أحياناً .
قلت له : في هذه المرة إن قدّم لك مساعدة فلا تقبلها لأنه سيكون وراءها مشاكل معك و مع زوجتك من قبل أخيك وزوجته .
ثم حدثت هذه المشاكل وتمادت إلى قطيعة دائمة بينهما .
32- رجل قال : رأت زوجتي في نومها أنها دخلت المرحاض فأسقطت دماً .
سألته : أين تسكن ؟ قال : في بيت منعزل عن أهلي .
قلت : هل هناك مشاكل بين أمك وزوجتك ؟ قال : نعم .
قلت : هل كانت زوجتك حاملاً وأجهضت .
قال : أكثر من مرّة .
قلت : هذه الرؤيا تقتضي إما أن تكون أمك عرّافة أو تذهب إلى عرافين .
قال : نعم . لقد علمت أنها تذهب هي وخالتي .(1/158)
قلت : اعتباراً من اليوم إن أردت لزوجتك أن تحمل فواقعها ظهراً في يوم نزول البويضة .
ثم التقيته بعد مدة فقال : منذ متى قصصت عليك رؤيا زوجتي . قلت : لا أدري .
قال : لقد قصصتها منذ شهر تماماً وهي اليوم حامل .
33- امرأة مسنة قالت :
رأيت في نومي أنني أريد ركوب الباص ، فلما صعدت إليه ، سقطت إحدى فردتي حذائي ، وسار الباص بي .
سألتها : هل زوجك مريض ؟ قالت : نعم .
قلت : إن رؤياك هذه تنبّهك إلى دنو أجل زوجك ، أما أنت فحياتك تطول .
فتوفي زوجها بعد أقل من شهر .
34- رجل قال :
رأيت في نومي أن على صدري ثلاث نملات .
قلت : هذه الرؤيا تقتضي أن تكون مقدماً على عمل مع اثنين من الشركاء .
قال : نعم .
قلت : إنه عمل جيد فلا تتردد فيه . وشركاؤك أمناء جيدون مخلصون .
فقام بافتتاح محل كبير للحلويات .
35- فتاة ناضجة موظفة ذات مظهر حديث قالت :
رأيت شاباً في نومي يجلس على أريكة يتأرجح بها .
سألت : هل الشاب معروف عندك أم مجهول ؟ قالت : بل معروف .
قلت : هل بينك وبينه علاقة حب ؟ قالت : نعم .
قلت : احذري أن تستغرقي في هذه العلاقة ، فهو لم يعقد نيته على الزواج منك حتى الآن . إنك أرجوحته التي يستمتع بها .
36- طبيب قصّ هذه الرؤيا فقال :
رأيت نفسي في النوم أسير في طريق زراعي فاعترضتني أبقار فدخلت وسطها فجرحتني بقرة بقرنها في خنصري ، ورأيت بعدها كلباً مصاباً بمرض الكلب .
قلت : ينبغي أن تكون أصغر أخواتك متزوجة من رجل فقير دنيء وهي خجلى من أن تطلب منك عوناً مادياً مباشراً ، فأعنها سراً ببعض الصدقات .
قال : نعم ، زوجها على ما ذكرت ، وهي كثيرة الخجل .
37- رجل على الهاتف قال :
رأيت في نومي أني خارج من بيت أهلي ، وأمي ترضى عليّ ، فلما ركبت في سيارتي – وهي سيارة نستخدمها للعمل – رأيت أختاً لي جالسة على يميني .
سألته : هل أختك هذه متزوجة ؟ قال : نعم .
قلت : وهل زوجها رديء لا يكاد يستقر في عمل ؟ قال : نعم .(1/159)
قلت : إن أردت أن تستحوذ على رضا أمك في اليقظة ، فقم بإيجاد عمل لزوج أختك معك وبإشرافك ، ولا تتركه ينتقل من عمل إلى آخر .
38- رجل له قطعة أرض قال :
رأيت في نومي أن هناك حيات في أرضي تلك .
قلت : هل قطعة الأرض هذه بعيدة عنك ولا تستطيع استثمارها ، فتريد بيعها ؟
قال : نعم .
قلت : أبشر فإنها ستباع وشيكاً .
وبعد مدة جاءني قائلاً : لقد بيعت تلك الأرض وبسعر لم أتوقعه .
39- اتصلت بي امرأة من كندا وقالت :
رأيت في نومي ثلاث فئرات يتجولن في منزلي ، ولم أستطع إخراجهن .
سألتها : كم جارة لك يدخلن منزلك ويطلن المكوث ؟
قالت : ثلاث .
قلت : احذريهن فهن سارقات لك .
قالت : نعم لقد سُرقت أكثر من مرة ، ولم أستطع تحديد السارقة منهن .
قلت : إنهن شريكات في السرقة ، وهن متفقات أن يشغلك منهن اثنتان ، والثالثة هي التي تقوم بالسرقة .
40- شريكان يعملان معاً . قال أحدهما :
رأيت في نومي أني وشريكي نركب سيارة مع رجل مجهول ، فأدخلنا بيته ، ثم رأيت شريكي قد وقف وبدأ يرقص . ويضع في أصابعه ما تضعه الراقصات .
قلت له – أمام شريكه - : احذر شريكك هذا فإنه يشركك في عمل يوقع عليك مصيبة فالرقص مصيبة على الراقص . فلا تدعه يقوم بأي عمل يخصكما دون أن تشاركه الرأي .فقال لي : صدقت . لقد ألزمني بعمل فقدت فيه نصف مليون ليرة سورية ديوناً بين يدي الناس .
41- رجل قال لي :
رأيت في نومي ورماً في صدري .
قلت له : ما عملك ؟ قال : موظف في دائرة حكومية .
قلت له : لعلك اصطدمت برئيسك في الدائرة .
قال : نعم ، حدث ذلك البارحة .
قلت : سيأتيك منه كتاب ربما يكون استجواباً أو لفت نظر ، أو أي شيء من هذا القبيل .
ثم اتصل بي بعد يومين ليقول : لقد جاءني من مديري استجواب .
ولكن كيف عبرت ذلك ؟
قلت : الورم في الصدر دليل على غيظ يملأ صدرك . ولا يكون كذلك لموظف مثلك إلا إذا اصطدم برئيسه بسبب أمر أنت على حق فيه وهو لا يرى ذلك .(1/160)
42- امرأة اتصلت عبر الهاتف قائلة :
كنت في المستشفى في حالة ولادة ، فأخذتني إغفاءة قصيرة رأيت نفسي فيها أقرأ ( سورة الفيل ) ثم ولدت مباشرة .
قلت لها : ينبغي أن يكون لك أعداء كثيرين ، يكيدون لك ، وكانت ولادتك أنت وسلامتك وسلامة مولودتك رداً على كيدهم ومكرهم بك .
ألم يقل الله تعالى فيها ( ألم يجعل كيدهم في تضليل ) .
قالت : نعم إنني أعلم أن هناك امرأة تكيد لي .
43- طبيب أسنان قال : رأيت طريقاً ضيقاً أسير فيه ، ذهاباً وعودة .
قلت : ينبغي لك ألا تكون سعيداً في سكنك ، فجيرانك تراهم رديئين .
قال : نعم . إنني مستاء من جيراني .
قلت : إن استطعت أن تغيّر مسكنك فلا تتأخر .
44- امرأة قالت لي :
رأيت في نومي أنّ قزماً صغيراً قفز من الأرض فوقف على كتفي ثم طار إلى السقف واختفى .
قلت لها : هناك امرأة صالحة أعاذها الله منك ومن أذاك .
وفي اليوم التالي مباشرة قالت لي :
لقد دخلت البارحة إلى حديقة أختي فرأيت شجرة ليمون ، فأردت أن آخذ منها غصناً أزرعه في منزلي . فلما أردت قطع الغصن وشددته ، كان لا يزال عالقاً فانكسر الغصن الأكبر منه .
45- امرأة قالت لي :
رأيت في نومي قريبة لي اسمها ( إسعاف )
قلت : انتبهي إلى أولادك ، فربما يصيب أحدهم شيئاً سريعاً يحتاج معه إلى إسعاف وفي اليوم التالي اتصلت بي قائلة :
لقد ابتلع ابني الصغير البارحة حبة سكاكر ووقفت في بلعومه ولو لم أسرع إليه وأنتبه إليه لمات خنقاً . لقد قمت بدفعها بإصبعي إلى داخل بلعومه .
46- امرأة قالت :
رأيت في نومي أختاً لي من أبي تدخل بيت أهلي وهي تحمل بطيختين واحدة باليمنى ، والأخرى باليسرى . قلت لها : احذريها إذا جاءت فإنها ستثير مشكلتين .
وبعد فترة اتصلت بي لتقول : لقد تحقق تأويلك عن أختي ، لقد جاءت فأثارت مشكلتين الأولى أنها شتمت زوجي ، والثانية أنها حرّضت أخواتها الذكور عليه .
47- امرأة متقدمة في السن قالت :(1/161)
رأيت زوجي في نومي – وهو ميت في اليقظة – قد حصره البول فدخل إلى التواليت ورأيت أولادي يعدون بين أيديهم كمية كبيرة من الذهب .
سألتها : هل زوجك ثري ؟ قالت : نعم .
قلت : أولادك يلعبون بالأموال التي تركها لهم ، وهم يضنون عليه بالصدقات . أنصحك أن تلزمي أولادك بدفع رواتب شهرية لعائلات فقيرة تكون هدية لروحه الظمأى إلى الإنفاق .
قالت لي : والله لقد استقرأت من هذه الرؤيا ما تقول ، وقمت على الفور بتوزيع علب حلويات على روحه .
قلت لها : حسناً فعلت ولكن المطلوب منكم أكثر من ذلك . المطلوب إنفاق أموال عينية لمستحقيها .
48- امرأة لها أولاد كبار عددهم ستة قالت :
رأيت نفسي في نومي آكل برتقالة ناضجة حلوة جداً .
قلت : سترزقين بمولودة ستسرين بها .
قالت : ولكنني لست حاملاً .
فقلت : سيكون هناك حمل ثم ولادة وتكون المولودة أنثى .
وبعد أقل من سنة اتصلت بي وقالت : لقد كانت بنتاً جميلة حلوة جداً .
49- شاب صالح قال :
رأيت في نومي اثنين من أقاربي وهما يطوفان حول الكعبة .
قلت : هل هما حاجان من قبل ؟ قال : نعم .
قلت : هذه الرؤيا بشارة لك بالحج والطواف كما طاف هذان القريبان قبلك .
وغاب عني ، ثم جاءني قائلاً : لقد أتيت لأودعك فأنا ذاهب غداً إلى الحج .
50-لقد تعمدّتُ أن أؤخر هذه الرؤيا ، قبل البدء في معالجة العالم اللامرئي ، لأن القصة التي تعالجها هذه الرؤيا هي خير دليل على الصلة القائمة بين علوم الأولين وعلوم الآخرين .
وتكاد توضح بكل جلاء أنه ما من وسيلة تستطيع أن تكشف ما يمارسه العالم اللامرئي - من كيد ومكر وغواية وإغراء وفتنة – كما تكشفه الرؤيا الصادقة في كل ذلك .
لقد تعمدّتُ تأخيرها لتكون إرهاصاً للقارئ في فهم القسم الثاني من هذا الكتاب وهو قسم ( اللامرئيات من العوالم ) ليتمكن من استيعاب تلك الصلة مابين علم تأويل الرؤيا وعلم الجن .(1/162)
هذه الصلة الوثيقة بين هذين العلمين هو أحد الأسباب التي تفسّر لنا قلة المعبرين على مرّ العصور .
فالرموز التي تعبّر عن ذلك العالم اللامرئي بكل ما فيه من خير وشر ، لا يمكن معرفة دلالتها في الرؤيا ما لم يكن المعبّر لها عالماً بهذا الجانب الذي لا بد من معرفته به ليتمكن من تعبيره .
إن هذه الرؤيا التي بها ينتهي هذا البحث قد صدرت يوم السبت في 13/11/1999 وهو تاريخ قريب كان هذا الكتاب قيد الإعداد لطباعته .
حيث اتصلت بي امرأة مجهولة صباح هذا اليوم وقالت :
لقد رأى زوجي في النوم أنه حليق الشارب . فطلب مني أن أسألك عن تأويلها .
قلت لها : أخبريني من أين حصلت على رقم هاتفي ؟
فقالت : لقد اتصلت بك منذ مدة تزيد عن الأربعة أشهر .
قلت : لقد نسيت ونسيت أن أسجّل رؤياك التي أولتها لك وقتذاك . فأخبريني عن تلك الرؤيا بادئ ذي بدء .
قالت : لقد رأيت في نومي في تلك الرؤيا أن زوجي يركب سيارة ( مرسيدس ) لكنها قديمة على الرغم من أنه يملك سيارة من نوع آخر . وكان معه في سيارته تلك كلبة بيضاء .
فسألتني يومئذ إن كنا نحن مسلمين أم مسيحيين ؟ فقلت لك : إننا مسلمون . فأخبرتني أن زوجي له صلة بامرأة مسيحية هي أكبر منه سناً .
فقلت لك : إن زوجي كان شريكاً في عمله مع رجل مسيحي ، ثم فضت الشراكة بينهما ، وقد أخذني مع أمه – وأخته المطلقة – لزيارة تلك العائلة .
وعلى الرغم من انقطاع الشراكة بين الزوجين إلا أن زوجي لا يزال على صلة حميمة به وأحياناً يعمل عنده بأجر يومي .
قلت : أخبريني عما جرى بينك وبين زوجك بعد تأويلي لرؤياك تلك .
قالت : لقد كاشفته بحقيقة ما أولته لي عن صلته بتلك المرأة منذ عهد قريب ، فاعترف لي بصحة هذه العلاقة لكنه أعلن توبته مما هو فيه .
قلت : قبل أن أمضي في تأويل رؤياه لنفسه (حليق الشارب ) فإن لي عدة أسئلة : هل زوجك في اليقظة حليق الشارب ؟
قالت : لا ، بل هو يطلق لحيته أيضاً .(1/163)
قلت : أيفعل ذلك عن تدين أم عن موضة كما يفعل بعض الشباب اليوم ؟
قالت : بل عن موضة .
قلت : أخبري زوجك أنه إذا كان يجيد الكذب عليك ، فإنه لا يجيد الكذب على الله سبحانه . لقد فضحه الله عزّ وجل في رؤياه لنفسه .
إن حلق الشارب في النوم للرجل – إن كان لا يحلقه في اليقظة – دليل على امتهان كرامته وسلب رجولته ، وانغماسه في المعاصي .
ولا يكون ذلك إلا عندما يعاشر الرجل الساقطات من النساء . إنه لا يزال على صلته بتلك المرأة أو بسواها . فلا فرق عندئذ بينها وبين غيرها من الساقطات .
قالت : تلك كانت رؤيا زوجي لنفسه . وأما ما رأيته أنا :
فقد رأيت في نومي تلك المرأة في مكان خرب متصدع ، وهي ترتدي لباساً كاملاً ذا لون كحلي . ورأيت زوجي يتفرج علينا نحن الاثنتين عندما تقابلنا معاً وجهاً لوجه .
قلت : ينبغي على تلك المرأة بحسب ما وصفت من لباسها ومكانها أن تكون شيطانة من شياطين الإنس قامت بصنع سحرٍ لزوجك .
فصرخت على الهاتف وقالت :
لقد وجدت هذا السحر في كيس أسود موضوع أمام غرفة أخته .
قلت : ينبغي لهذا السحر أن يكون مكتوباً بخط اليد ، ومعه قطعة قماش .
قالت : نعم لقد كان معه قطعة قماش .
قلت : وماذا فعلت به ؟
قالت : رميت قطعة القماش مع الزبالة ، وأما الورقة فلا أزال أحتفظ بها .
قلت : ولماذا تحتفظين بها ؟ هل هناك من أحد يعثر على سحر ويبقيه معه ؟!
قالت : إنني أحتفظ بها لأنني لا أدري ماذا أفعل بها ؟
قلت : لماذا لم تتصلي بي وتخبريني ؟
قالت : ما كنت أعلم أنك تفهم في هذا الجانب ، وكل ما أعرفه عنك أنك تفهم في تفسير المنام .
قلت : لك الحق في ذلك ، فمعظم الناس لا يستطيعون أن يفهموا الصلة بين هذين العلمين وعليك الآن أن تضعي الورقة في إناء فيه ماء بارد وتتأكدي من أن الحبر الذي كُتبت به قد انحلّ تماماً فيه . ثم صُبّي الماء كله بهدوء في البالوعة .
واحذري أن يمسه أو يشرب منه كائن حي .(1/164)
ولعلاج حالة زوجك وخلاصه من السحر الواقع عليه ، فعليك بقراءة سورة الطور بصوت مسموع في غرفة نومك وبحضور زوجك قبل النوم .
فإنّ هذا يكون إشارة إلى أولئك الشركاء الذين استخدمتهم تلك المرأة والذين هم يرافقون زوجك ، وأوصلوه إلى حالة الزنا . يكون إشارة إليهم بأن مكرهم قد انكشف ، وكيد تلك المرأة قد عُرف . إنها قصة ما كان لأحد أن يكشف خفاياها لولا الرؤيا الصادقة التي تعيد إلى الأذهان ذلك الأذى الشيطاني الممتد منذ آدم وحواء عليهما السلام ، وما فعله إبليس بهما ، ليستمر هذا النوع من الأذى الذي يصل إلى خيانة هذا الزوج لزوجته ، وخيانة تلك الزوجة لزوجها في علاقة جنسية محرّمة تمّت بإشراف هؤلاء الشياطين ، ونمت تحت بصرهم مستمتعين بها هذا الاستمتاع الجنسي الذي سيعالجه الفصل القادم بتفصيل دقيق .
القسم الثاني
اللامرئيات من العوالم
دراسة قرآنية
متصلة بعلم تأويل الرؤيا
1-عالم الملائكة
هو خلق نوراني مجرد من الشهوات والغرائز ، وهم بهذا يخلقون خلقاً لا تناسلاً . وهم أول خلق الله من بين جميع خلقه . بدليل أنهم كانوا أول من حمل العرش الإلهي بعد أن استوى الرحمن عليه إذ أن القرآن الكريم يقرر أن العرش الإلهي كان على الماء { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7] وأن الله عز وجل عندما أتم خلق السموات والأرض في ستة أيام استوى على العرش . وعندئذ قامت الملائكة بحمله وهم يسبحون ويطوفون حوله .
قال الله تعالى :
{ إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } [ يونس : 3 ] .
ويتأكد هذا المعنى في الآية ( 54 ) في سورة الأعراف حيث تتطابق تماماً مع الآية السابقة في ألفاظها ومعانيها .
إن حمل الملائكة للعرش الإلهي وما يحيط به إنما يكون مقروناً بتسبيحهم لله عز وجل قال تعالى : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم } [ غافر : 7] .(1/165)
وهو أول العوالم اللامرئية التي حجبت رؤيته عن عالمي الإنس والجن ، لكنه عالم يُستدل عليه بالأثر .
وبما أن رؤيتهم قد حجبت عنا في اليقظة ، فكذلك حجبت عنا في النوم ، فلا يظهرون في النوم من خلال الرؤيا على حقيقتهم الخلقية ، وإنما يظهرون من خلال وجودهم في الرؤيا بظهور شخص أو أكثر يكون معروفاً لدينا أثناءها ، فإذا استيقظنا نسينا شكله . فيقول الرائي عندئذ : أنه كان معه شخص يعرفه ولكنه الآن نسيه . ويكون هذا الشخص المعروف في الرؤيا ، المجهول في اليقظة متصفاً بالسمات التي تتصف بها ملامح الإنسان في وجهه . فيكون وجهه واضح المعالم تماماً للرائي . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
ويكون وجوده في الرؤيا بشارة للرائي أو إنذاراً له . مما يؤكد حدوث هذه الرؤيا وإمكانية تصديق ما تهدف إليه .
وأما رؤيتهم على حقيقتهم الخلقية في النوم ، فتكون إنذاراً بوقوع عذاب شديد للرائي على عمل شائن سيقوم به لقوله تعالى :
{ يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين } [ الفرقان : 22] .
وينقسم الملائكة من حيث عملهم وتكليفهم إلى قسمين :
قسم مختص بخلق الله الذي يتبع النظام الشمسي وهو الإنسان .
وقسم مختص بخلق الله الذي يتبع النظام القمري وهو الجان .
ويتعاون القسمان قيما بينهما ، فيقوم كل قسم بتسليم ما وصل إليه في قسمه إلى ذلك القسم الذي بدأ عمله .
هذا العمل المتصل ليلاً نهاراً هو الذي عبّر عنه الرسول الكريم I عندما قال :
( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) ( (1) ) .
__________
(1) - صحيح البخاري في كتاب مواقيت الصلاة رقم /530/ طبعة د. البغا .
وفي صحيح مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة برقم (6992) طبعة د. البغا .(1/166)
هذان القسمان يخضعان في عملهم لنظام دقيق محكم صادر عن الديوان الإلهي . وهذا الديوان يرأسه جبريل عليه السلام الذي يتلقى الأوامر الإلهية ويعمل على تنفيذها .
فإن كانت هناك أمور مستعجلة تستوجب التنفيذ العاجل قام هو نفسه بتنفيذها . وعندئذ ينعقد مجلس الحرب الملائكي بقيادته ، ويتم تحديد العمل الذي يوكل إلى كل مَلك للقيام به .
وتوضح المصادر أن الملائكة اشتركت فعلياً في القتال يوم بدر . قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم عن ابن عباس قال : ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام . وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عدداً ومدداً لا يضربون( (1) ) .
وعن عبد الله بن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء أرسلوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء ( (2) ) .
وإذا صحت الروايات برؤية الملائكة ، فإن اختلاف لون عمامة جبريل عن باقي الملائكة دليل على أنه القائد الفعلي لهذا الجيش الملائكي .
ومن المؤكد أن هذا الجيش الملائكي قد ساهم في هبوط الروح المعنوية لدى المشركين في معركة الخندق فكانت سبباً مباشراً في انسحابهم من المعركة .
قال الله تعالى عن غزوة الخندق : { فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } [ الأحزاب : 9 ] .
فالجنود المجهولون في الرؤيا هم ملائكة في الجيش الإلهي . وهذا أصل من أصول هذا العلم . فإن رأى أحدهم أنه يضع رتبة عسكرية على كتفيه ، فيكون هذا بشارة له من الله عز وجل على حسن طاعته ، وعلو منزلته بحسب الرتبة العسكرية التي يضعها .
__________
(1) - سيرة ابن هشام ص 286 .
(2) - المصدر السابق ص 286 .(1/167)
ومما لاشك فيه أن جبريل عليه السلام هو الذي قاد الهجوم بنفسه على قوم لوط ، وكان الملك ميكائيل تحت قيادته . فالطبري يروي بإسناد عن مجاهد في أكثر من رواية منقولة عنه أن جبريل عليه السلام أدخل جناحيه تحت الأرض السفلى من قوم لوط ، ثم أخذهم بالجناح الأيمن . وأخذهم من سرحهم ومواشيهم ثم رفعها على خوافي جناحيه بما فيها ، ثم صعد بها إلى السماء ثم قلبها ( (1) ) .
فمن رأى أن له جناحين فذلك بشارة له على القوة التي منحها الله له ، وذلك على قدر حجم الجناح وكبره .
ومن المؤكد أن جبريل عليه السلام هو الذي قاد الهجوم على جيش أبرهة الحبشي . وتمثلت قيادته لهذا الجيش الملائكي بالطير الأبابيل التي حملت حجارة من سجيل مأخوذة من نار جهنم . ولهذا فإن الطيور المجهولة النوع والكثيرة العدد تكون في الرؤيا إنذاراً بوقوع عذاب ماحق ، وغالباً ما يكون هذا العذاب عاماً لا خاصاً . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
وينقسم العمل في الديوان الإلهي إلى أقسام عدة ، يتولى كل قسم العمل الموكل إليه ، ويكون على رأسه كبير من الملائكة .
فقسم العذاب يتولاه المَلَك مالك عليه السلام ، فهو خازن النار . قال الله تعالى : على لسان أصحاب النار وهم في جهنم { ونادَوا يا مالكُ ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون } [ الزخرف : 77] .
ويعينه على تنفيذ مهامه عدد من الملائكة هم ملائكة العذاب . قال الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } [ المدثر : 31] .
وملائكة العذاب هؤلاء هم الذين يتولون عذاب أهل النار ، ولا يعرفون الشفقة ولا الرحمة بهؤلاء . قال تعالى : { عليها ملائكة غلاظ شداد } [ التحريم : 6] .
__________
(1) - تاريخ الطبري ص305 ، دار سويدان – بيروت .(1/168)
ولهم أسلوب خاص في قبض أرواح المجرمين كما سنبين في مصطلح المجرمين حيث أنهم أثناء قبض أرواحهم يقومون بضربهم على وجوههم وأدبارهم ، قال تعالى : { فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ محمد : 27] .
وهم لا يفعلون هذا مع هؤلاء المجرمين إلا لأن وجوههم كانت تأخذ وضع السجود على الأرض طلباً للاستمتاع مع شركائهم في نكاحهم في أدبارهم .
ووضع السجود هذا ظاهره يوحي بالعبادة ، لكنه في حقيقته ليس إلا طلباً للمتعة في ذلك النوع من النكاح ، قال تعالى : { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكةُ يضربون وجوهَهم وأدبارهم } [ الأنفال : 50] .
ملائكة العذاب هؤلاء إنما يظهرون في الرؤيا على صورة رجال الشرطة بكافة أنواعها ورتبها من ( عسكرية أو مدنية أو جنائية ) بصورة رجال مجهولين . وتكون رؤيتهم إنذاراً للرائي بتجنب أي عمل يؤدي به إلى هذه النهاية . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
وأما القسم الثاني فهم :
ملائكة الرحمة ويتولاهم رضوان خازن الجنة . واسمه وحده كاف للتبشير برضا الله عنه .
وفي القرآن الكريم كله لم ترد لفظة رضوان إلا مصحوبة بلفظ الجلالة ظاهراً أو ضميراً . قال تعالى : { خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله } [ آل عمران : 15] .
ويقول سبحانه : { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله } [ آل عمران : 162] .
وملائكة الرحمة هم الذين يتولون المؤمنين في حياتهم الدنيا بالتوجيه والرعاية والبشرى ، قال تعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } [ فصلت : 30] .
وهم الذين يتوفون الصالحين ، ويسلمون عليهم أثناء قبض أرواحهم تطميناً لهم . قال تعالى : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } [ النحل : 32 ] .(1/169)
وهم الذين يتابعون مهامهم مع المؤمنين حتى بعد وفاتهم ، ودخولهم الجنة ، فيقومون بزيارتهم ، مهنئين لهم بهذا المقام الرفيع الذي منحه الله لهم في الجنة . قال تعالى : { جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار } [ الرعد : 23-24] .
ملائكة الرحمة هؤلاء ، تكون رؤيتهم على هيئة رجال مجهولين كاملي الملامح ، صحيحي البنية ويكون ما يقولونه للرائي بشرى له من الله عز وجل بتحقيق مراده وهدفه .
وغالباً ما يكون ظهورهم في الرؤيا أفراداً أو جماعات ، معروفاً لديه ، فإذا استيقظ من نومه قال : لقد نسيت شكلهم .
وهذا أصل من أصول هذا العلم .
وأما القسم الثالث من أقسام الملائكة فهم الكتبة الذين يسجلون أفعال المخلوق من خير أو شر . فالملكان رقيب وعتيد يقومان بتسجيل الأعمال الصالحة ، والأعمال غير الصالحة . ويكون الملك ( رقيب ) على الجهة اليمنى . والملك ( عتيد ) على الجهة اليسرى . قال تعالى :
{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18] .
وما يسجله هذان الملكان ، يقوم ملائكة آخرون بنسخه إلى كتاب خاص بكل مخلوق .
قال تعالى : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون } [ الجاثية : 29] .
فإذا ما توفي هذا المخلوق أُغلق كتابه الذي يغطّي حياته وحُفظ بما فيه إلى يوم القيامة . فإذا بدأ الحساب ، أُعطي كل مخلوق كتابه بحسب أفعاله . فإذا ما أُعطي باليمين كان من أصحاب اليمين ، وما أعطي بشماله كان من أصحاب الشمال . قال تعالى :
{ اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14] .
ثم { فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه } [ الحاقة : 16] .
ثم { وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه } [ الحاقة : 25](1/170)
وعندئذٍ يبدأ تصنيف الأمم بحسب كتب أفرادها ، فكل من حمل كتابه بيمينه جُمع مع زمرته من أهل اليمين في كتاب واحد ، وكل من حمل كتابه بشماله جمع مع زمرته من أهل الشمال في كتاب آخر . وعلى هذا تكون الأمم قد صنفت .
قال تعالى : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون بما كنتم تعملون } [ الجاثية : 28] .
فأما الذين حملوا كتبهم في أيمانهم فقد سماهم الله الأبرار . قال تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18] .
وأما الذين حملوا كتبهم بشمائلهم فقد سماهم الله الفجار . قال تعالى : { كلا إن كتاب الفجار لفي سجين } [ المطففين : 7] .
ويكون عندئذ لكل كتاب رقم فالأبرار لهم أرقام خاصة بهم تميزهم عن غيرهم . قال تعالى :
{ وما أدراك ما عليّون ، كتاب مرقوم } [ المطففين : 20] .
ثم { وما أدراك ما سجّين ، كتاب مرقوم } [ المطففين : 9] .
وكذلك الفجار لهم أرقام خاصة بهم .
وتكون أرقام الأبرار وتراً . من 1-3-5-7 . ولهذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ينهي صلوات يومه بصلاة الوتر ، وهي صلاة مفردة . فالله واحد أحد .
وتكون أرقام الفجار شفعاً . من 2-4-6-8 الخ… { الذي جعل مع الله إلهاً آخر } [ ق : 26 ] ، فالفاجر هو الذي اتخذ إلهين .
ولقد أقسم الله تعالى بهذين الرقمين في سورة الفجر فقال : { والفجر وليال عشر والشفع والوتر } [ الفجر : 1-3] .
وعندئذ يتم تقسيم أمة الأبرار إلى زمر وجماعات ، فيدخلون الجنة بحسب زمرهم . قال تعالى : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } [ الزمر : 73] .
وكذلك يتم تقسيم أمة الفجار إلى زمر وجماعات ، فيدخلون جهنم بحسب زمرهم . قال تعالى : { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً } [ الزمر : 71] .
فمن رأى نفسه أنه يساير شخصاً وهو على يمينه ، فهي بشرى له بحسن عمله وطاعته ، فإن رأى أنه يسايره وهو على شماله ، فإن ذلك إنذار له بسوء عاقبته .(1/171)
فإن رأى أنه مع جماعة ، وفي الرؤيا قرينة تدل على الصلاح ، دل على أنه يصادق مجموعة طاهرة ، فإن رأى أنه مع جماعة ، وليس في الرؤيا قرينة تدل على الصلاح ، دل على أنه يصادق جماعة من المنحرفين ، وتكون عاقبته معهم وخيمة .
فمن رأى أنه يسير وسط اثنين ، فمن كان على يمينه فهو رجل صالح ، ومن كان على شماله فهو رجل فاسد .
فمن رأى أنه قد جاءه كتاب مجهول فهو دنو أجله ، فإن فتحه فإنه يكون قد بقي له من عمره قدر ما بقي من الكتاب . فإن أخذه بيمينه فهي بشرى له بحسن حاله عند ربه .
فإن وضعت بين يديه كتب معلومة ، فهم رجال متعلمون يقابلهم ، فإن كانت مجهولة كانوا رجالاً متعلمين لكنهم مجهولون سيقابلهم .
فإن كانت الكتب قديمة فهم رجال يعرفهم قديماً ، فإن كانت جديدة كانت رجالاً متعلمين سيتعرف عليهم عاجلاً . وهذا كله أصول من أصول هذا العلم .
وأما القسم الرابع من الملائكة الذين يعملون في الديوان الإلهي فهو قسم ( المراسلين ) الذين يتحملون عبء نقل الرسائل من الديوان الإلهي إلى عامة الخلق وهؤلاء هم الذين يخصهم الله سبحانه بتسمية ( الرسل ) ، قال تعالى :
{ الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1] .
ويبين أن هؤلاء المراسلين أو المرسلين إنما ينتقيهم ربهم انتقاء من بين جميع ملائكته . قال تعالى :
{ الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75] .
وهؤلاء المراسلون هم الذين يحملون الأوامر الإلهية إلى عباده الذين هم بحاجة إلى رسالة مخصوصة بهم ، قال تعالى :
{ يُنّزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده } [ النحل : 2] .
هؤلاء الملائكة هم الذين يقومون بنقل الأوامر الإلهية ، ويكون ذلك من خلال الطرق التي حددتها الآية الكريمة في قوله تعالى :
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليٌّ حكيم } [ الشورى :51] .(1/172)
وما من شك في أن إحدى وسائل الاتصال بالمخلوق هو ( من وراء حجاب ) هذا الحجاب الذي يفصل بين العبد وبين حامل الرسالة إليه هو النوم .
ومن هنا ، فإن الرؤيا الصادقة هي التي تأتي الرائي وهو نائم ، فتحمل إليه تبشيراً أو تحذيراً خصه الله به من بين جميع خلقه على قدر الحاجة الملحة التي تملي وجود منبه لهذا العبد مما هو فيه .
وعلى هذا فإن الرؤيا الصادقة تحمل للرائي ما يحمله عادة الأنبياء والرسل لأممهم ، وتكون هي امتداداً لعمل هؤلاء الأنبياء بعد انقطاع نبوتهم . ومصداق هذا قول النبي I : (( ذهبت النبوة ، وبقيت المبشرات . قالوا : ما المبشرات يا رسول الله . قال : الرؤيا الصادقة يراها العبد أو ترى له . )) ( (1) ) .
وأما الوسيلة الثانية التي يتلقاها النائم في رؤياه فهو الهاتف . فكل حديث يسمعه الرائي في نومه عبر هاتف مجهول هو وحي من الله تعالى لا تأويل له . ويكون الكلام الذي سمعه منه أمراً حقاً مجاباً كما سمعه . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
ولكون عالم الملائكة عالماً جدياً لا يعرف المزاح والضحك لأن الله عز وجلّ قد خلقهم لتنفيذ أوامره حيث أنهم : { لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27] .
فهذا يستوجب صدق الرؤيا لأنها ينقلها مَلَك ينفذ أمراً . ولأنها كذلك فهي تستوجب التأويل .
ومما لا شك فيه أن عالم الملائكة عالم رحب فسيح يصعب حصره ، ووضع القوانين والأحكام الشاملة له . وقد اقتصرت على الجوانب السابقة لما لها من صلة مباشرة بعلم التأويل .
بقي أن أشير إلى اتهامين متصلين بعالم الملائكة . أحدهما اتهام صادر عن عالم الجن . والثاني صادر عن عالم الإنس .
__________
(1) - عن أم كُرز الكعبيّة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ذهبت النبوة وبقيت المبشرات ) . والحديث عن ابن ماجة برقم ( 3896 ) ترقيم فؤاد عبد الباقي، وفي مسند أحمد برقم ( 26600) ترقيم إحياء التراث .(1/173)
فأما الاتهام الصادر عن عالم الجن ، هو أن هؤلاء الملائكة هم إناث لا ذكور . قال تعالى : { فاستفتهم ألربك البناتُ ولهم البنونَ ، أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ، ألا إنَّهم من إفكهم ليقولون ، وَلَدَ اللهُ وإنهم لكاذبون ، أصطفى البناتِ على البنين } [ الصافات : 149-153] .
ويقول سبحانه وتعالى : { أم له البناتُ ولكم البنونَ } [ الطور : 39] .
إن هذا الاتهام صادر عن أولئك المجرمين الذين أقاموا علاقة زواج مع شريكاتهم من عالم الإنس ، وهذا ما سنفصل به الحديث في فصل قادم .
وهم بادعائهم هذا يسوغون لشريكاتهم قدرتهم الجنسية التي تمنحهم القوة في إنجاب الذكور . على حين أن الله عز وجلّ قد منح شريكاتهم إنجاب الإناث .
وأما الاتهام الذي جاء من عالم الإنس ، فهو إدعاء هؤلاء المشاركين منا أن شركاءهم ما هم إلا ملائكة ( (1) ) . ولو لم يكونوا صالحين على مرتبة عالية من الإيمان لما أقدم هؤلاء الملائكة على اختيارهم لهذه المشاركة .
وبهذا الإدعاء يتم فيه إحالة مجهول على مجهول ، فعالم الملائكة مجهول لدينا لا نراه ، وكذلك عالم الجن . ولا يمكن في حالة كهذه نفي أحدهما أو إثباته .
ولهذا فإن هؤلاء المشاركين إذا سئلوا عن شركائهم قالوا عنهم : ( أملاك ) وبهذه التسمية ينفون أي شك حول هؤلاء الشركاء الشياطين من عالم الجن .
قال تعالى : { ويوم يحشرهم جميعاً ، ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ : 40-41] .
فالتخصيص هنا بسؤال الله للملائكة إنما كان لإظهار حقيقة عبادة هؤلاء المشاركين لمن شاركوهم من عالم الجن . ونفياً قاطعاً لذلك الإدعاء الكاذب بأن شركاءهم من الجن ما هم إلا ملائكة .
* * * * *
2- عالم الجن
__________
(1) - راجع ص 112 وما بعدها .(1/174)
لقد أفرد الله سبحانه لعالم الجن سورة خاصة بهم سمّاها سورة ( الجن ) للدلالة على وجود هذا النوع من الخلق ، ويقابلها سورة ( الإنسان ) للدلالة على عالم الإنس .
لقد وردت لفظة ( الجن ) في القرآن الكريم في اثنتين وعشرين آية دالة على الجمع وفي سبعة مواضع دالة على المفرد منهم وهو ( الجان ) .
وهو ثاني العوالم اللامرئية التي حجبت رؤيته عن عالم البشر . ويحيط بهذا العالم مفاهيم متباينة أشد التباين ، فبعضهم ينكر وجوده جملة وتفصيلاً ، وبعضهم يؤمن بوجوده من باب التسليم لأن الله سبحانه سمّى سورة باسمهم . معتبرين أن الحديث عن هذا العالم إنما هو حديث عن خلق سابق قد انقضى ، وما حديث القرآن عنهم إلا من باب العبرة وضرب المثل .
وهناك نوع آخر يؤمن به إيماناً خاصاً حيث ينسب إليه كل ما تعانيه البشرية من شرور وآثام .
فإذا دخلنا عالم المفسرين الذين فسّروا القرآن الكريم قديماً ، وتبعهم في ذلك جملة من المفسرين المعاصرين ، فإننا نجد أنهم جميعاً نظروا إلى القرآن الكريم نظرة أحادية ، منطلقين في ذلك من مفهوم خاطئ هو أن هذا القرآن الكريم إنما نزل علينا وحدنا ، وأننا وحدنا مَن خصه الله بما فيه .
ولا يسعني قبل أن أبدأ بحثي هذا من أن أؤكد على أن هذا العالم إنما حجبت رؤيته عنا من خلال قول الله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [ الأعراف : 27] .
فالآية تؤكد أن عالم الإنس مرئي منهم في ليله ونهاره ( إنه يراكم هو وقبيله ) ولذلك أطلقت على عالم الإنس العالم المرئي .
ولأننا لا نستطيع أن نراه في ليلنا ولا نهارنا : ( من حيث لا ترونهم ) فقد أطلقت عليه العالم اللامرئي . وهذان المصطلحان سيرافقان هذا البحث .(1/175)
ولا بد لي كي لا أكون أحادي النظرة في تعاملي مع القرآن الكريم من أن أوضح الجانب الذي يتحدث عنه القرآن الكريم بتفصيل دقيق وعجيب عن عالم الجن ، مستنتجاً من ذلك أن هذا القرآن إنما نزل لنا ولهم على حد سواء ، وأن محمداً عليه الصلاة والسلام كُلّف بتبليغ دعوته إليهم ، كما كُلّف بتبليغ دعوته إلينا في آن واحد .
ولا بد لكل من يريد أن يتقن علم التأويل ويكون عالماً فيه من أن يتمكن من فهم هذا الجانب حتى يستوفي علمه في الأولين والآخرين .
لقد عالجت فيما سبق العلم المتصل بالآخرين ( (1) ) حتى يكون ذلك توطئة للحديث عن هؤلاء الأولين الذين فصّل القرآن الكريم الحديث عنهم تفصيلاً يكاد يلغي معظم ما قاله المفسرون السابقون والمعاصرون عن هذا الجانب .
وهنا لا بد لي من أن أتوقف عند المصطلحات القرآنية التي استعملها القرآن الكريم للدلالة عليهم بشكل خاص ، كما استعمل المصطلحات التي تدل علينا نحن عالم الإنس . فالمصطلح القرآني إنما وضع ليدل على قانون ثابت لا يتغير معناه من جيل إلى جيل ، فإذا كانت الأجيال تتعاقب ، والأمم يستخلف بعضها بعضاً ، فإن الحقائق القرآنية تستوجب الثبات حتى لا يكون فهمها عرضة للتأويل الخاطئ الذي يخرجها عن مرادها من عصر إلى عصر . وهذا هو بالذات ما يقتضيه قولنا : إن القرآن صالح لكل زمان ومكان .
فإذا كانت ألفاظه بما تحتويه من معان متغيرة ، فإن ذلك مدعاة لجيل ما أن يؤوّل هذا المعنى بما يخدم ميوله وأهواءه . وهذا – إن صح – فإنه يلغي صحة صلاحه لكل زمان ومكان . ومن هنا فإنني سأعالج بعضاً من الألفاظ التي استخدمها القرآن الكريم كمصطلحات لها معانٍ ثابتة تتصل بفهمنا المتعمق لعلم تأويل الرؤيا .
1- الأولون
__________
(1) - راجع ص 5 .(1/176)
هو المصطلح الأول الذي خصّ الله به عالم الجن على وجه التحديد والحصر . ولكي نتبين حقيقة هذا التخصيص لا بد لما من التوقف المتأني عند المادة المصدرية لهذا المصطلح وهو لفظة ( أول ) في قوله تعالى :
أولاً- { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15] . فالآية تنص على وجود خلقين ، أولهما خلق قديم ( أول ) والثاني ( جديد ) ولطالما أن الخالق سبحانه لم يُرهق عند خلقه لذلك الخلق الأول ، ولم يشعر بالإعياء والتعب ، فإنه لا يحق لهم أن يكونوا في حيرة من أمرهم إذا ما خلق الله خلقاً جديداً .
وعندما نتابع هذا المصطلح في كل الآيات التي ورد فيها ، فإننا نجده جاء مرفوعاً في ستة مواضع ( الأولون ) ونتوقف عند ثلاثة منها لنتبين حقيقة هذا المصطلح القرآني فيما قصد إليه .
ثانياً- قال تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون } [ الإسراء : 59] . فهذه الآية الكريمة تبين أن هناك حججاً وبراهين أرسلت إلى ذلك النوع من الخلق ولكنهم كذبوا بها ، وأعرضوا عن الإيمان بها ، فكان ذلك سبباً مانعاً لإرسال حجج وبراهين لهذا الخلق الجديد .
ثالثاً- { بل قالوا مثل ما قال الأولون } [ المؤمنون : 81] .
ويؤكد الله تعالى في هذه الآية أن عالم الإنس عندما أُرسل إليه الأنبياء داعين لهم إلى الإيمان بالله تعالى فقد كان ردهم مماثلاً تماماً لما ردّ به عالم الجن على أنبيائهم .
رابعاً- { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } [ التوبة : 100] .
هذه الصفة المرفوعة ( الأولون ) في هذا الموضع قد يظن البعض أنها لم تعط المعنى الاصطلاحي الذي حددته في بداية هذا الفصل ، وما ذلك إلا لوجود قرينة مانعة لها ، والقرينة المانعة هي ( من المهاجرين والأنصار ) .(1/177)
لكن المتأمل لها يجد أن هؤلاء المهاجرين والأنصار الذين كانوا سباقين إلى الإيمان ، هم تماماً كأولئك السابقين من عالم الجن بالإيمان . وكلاهما جن وإنس مؤمن سبّاق ، جمعهم الله معاً في سورة الواقعة التي سيرد الحديث عنها في الفقرةة السادسة .
ومن المعلوم أن الموصوف ثابت ، والصفة متغيرة ، وهذا وحده كاف للدلالة على أن المعنى الاصطلاحي للفظة ( الأولون ) يبقى دالاً على معناه الذي خص به عالم الجن .
وأما لفظة ( الأولين ) في حالتي النصب والجر ، والتي ورد ذكرها في اثنين وثلاثين موضعاً ، حددت كلها المعنى الاصطلاحي الثابت لها في دلالته على عالم الجن .
خامساً- قال تعالى : { وكم أرسلنا من نبي في الأولين ، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزؤن فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومضى مثل الأولين } [ الزخرف : 6] .
فكم هنا خبرية دلت على الكثرة . أي أن الله تعالى أرسل إلى عالم الجن أنبياء كثيرين ، ولم يرسل لهم رسلاً . فكلمة رسول تعني من حمل رسالة سماوية في كتاب كالقرآن والتوراة . وإنما كانوا أنبياء حملوا لواء الدعوة إلى الله ، ونشروها بين أقوامهم . ولكنهم قوبلوا بسخرية واستهزاء ، فكان ذلك سبباً كافياً لإيقاع العذاب الماحق بهم .
وأنهم منذ أن خلق الله الإنسان أصبحوا تابعين له . لقد فقدوا بخلقه المثل الأعلى لهم حيث أصبح الإنسان هو مثلهم الأعلى الذي يلزمهم باتباعه والاقتداء به . ولقد كانت التوراة هي الكتاب السماوي الأول الذي ألزم به عالما الجن والإنس على حد سواء . وعند هذه النقطة لنا وقفة مفصلة في فصل قادم .
ولكن هل عالم الجن كله كان معرضاً عن الإيمان بالله تعالى ؟ وحتى نتمكن من الإجابة على هذا السؤال لا بد من التوقف عند سورة الواقعة . فالله سبحانه وتعالى يقول فيها :
سادساً- { والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ، ثلة من الأولين ، وقليل من الآخرين } [ الواقعة : 10-14] .(1/178)
ومن الواضح أن ( السابقون ) قد كُررت مرتين ، وأن الثانية ليست توكيداً للأولى كما يظن النحويون . إذ أن الآيات تشير إلى وجود طائفتين مؤمنتين كلاهما سابق في إيمانه ، وهما من نوعين مختلفين .
فأما النوع الأول فهم المؤمنون من الأولين ، وهم من حيث العدد أكثر من الآخرين فهم ( ثلة ) ونحن ( قلة ) .
ولقد دلت الأولى على أنهم أول الخلق ، ودلت الثانية على أننا آخر الخلق . ولتأكيد هذه الحقيقة الأخيرة قال عليه الصلاة والسلام : (( نحن السابقون الآخرون )) ( (1) ) .
ويتم في سورة الواقعة تحديد مكان كل منهما في الجنة حيث يجلسون ( متقابلين ) فالجالسون على الجهة اليمنى هم المؤمنون من عالم الإنس ، والجالسون على الجهة اليسرى فهم المؤمنون من عالم الجن ، إن هذا التقابل بين المؤمنين من عالمي الإنس والجن في الجنة تؤكده الآيات الكريمة في ثلاثة مواضع أخرى في القرآن الكريم .
ففي سورة الحجر قال الله تعالى : { إن المتقين في جنات ونعيم ، ادخلوها بسلام آمنين ، ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] .
ولما كانت التقوى هي الصفة التي تمكّن صاحبها من دخول الجنة . فإنه عندئذٍ لا فرق هناك بين تقي عربي وغير عربي كما أنه لا فرق هناك بين تقي من الإنس وتقي من الجن .
لقد أطلقت صفة ( التقوى ) على كل مخلوق أياً كان نوعه أو جنسه .
ويتواصل هذا التأكيد في سورة أخرى هي سورة الدخان . قال الله تعالى :
{ إن المتقين في مقام أمين ، في جنات وعيون ، يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين } [ الدخان 51- 53 ] .
إن هذه الآية تكاد تتطابق تماماً مع سابقتها . ففي كلا الآيتين نجد أن المتقين في جنات وعيون ، وهم آمنون ، وهم متقابلون .
__________
(1) -عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة ، ويراجع صحيح مسلم في كتاب الجمعة /855/ ترقيم فؤاد عبد الباقي .(1/179)
لكن الآية الأولى أضافت إضافة جوهرية تؤكد على أن ( التقابل ) في الجنة يحمل ( نزع الغل ) من نفوس هؤلاء ومن صدورهم .
إذ أننا نحن – عالم الإنس – لا نكاد نسمع بذكر عالم الجن فرداً أو جماعة حتى نستشعر الخوف منهم وتمتلئ نفوسنا ذعراً من ذكرهم . لاعتقادنا أنه لا يأتينا منهم إلا كل شرّ ، ولا يصيبنا منهم إلا كل أذى . ونكون بذلك قد حملنا عالم الجن كله مسؤولية ما نواجهه من خلال عالم إبليس وذريته . ولطالما كان حالنا كهذا فكيف يمكن لنا أن نتقبل الجلوس معهم في الجنة ، وأن نراهم بأعيننا .
ولهذا كان ( نزع الغل ) من صدورنا ضرورياً لنا لنتمكن من التعامل معهم في الجنة بلا حذر أو ريبة ، فهم متقون مثلنا ، نأمنهم ويأمنوننا .
وهذا يؤكد على أن هؤلاء ( المتقين ) منهم ما كانوا ليفوزوا بالجنة لو لم يكونوا مؤمنين حقيقيين بعيدين تماماً عن أي أذى يصدر عنهم تجاهنا .
وتضيف الآيات من سورة الصافات صفة أخرى زيادة على صفة التقوى وهي أن هؤلاء هم عباد لله مخلصون في عبادتهم إخلاصاً يجعلهم مؤهلين لدخول الجنة سواء بسواء مع المؤمنين المخلصين منا .
قال الله تعالى :
{ إلا عباد الله المخلصين ، أولئك لهم رزق معلوم ، فواكه وهم مكرمون ، في جنات النعيم على سرر متقابلين } [ الصافات : 40-41 ].
وما هذا التقسيم إلا تأكيداً على أن عالم الإنس يستعملون اليد اليمنى والقدم اليمنى . أما عالم الجن فإنه يستعمل اليد اليسرى والقدم اليسرى . وقد أُلحق المؤمنون منهم بالمؤمنين منا فأطلق الله تعالى على كليهما اسم أصحاب اليمين .
وهذا تأكيد ثان لقوله تعالى : { ومضى مثل الأولين } أي أصبحوا كما قلنا تابعين لعالم الإنس فاقدين بذلك خصوصيتهم .
ومن هنا يفهم لماذا كان النبي I يحب التيامن ويطبقه في سلوكه ، إعلاناً منه أنه من عالم البشر وإليه ينتمي .(1/180)
وعلى هذا الاستنتاج القائم على استعمال اليمنى واليسرى ، يمكن لنا أن نفهم تسمية أصحاب الشمال . فهي تسمية دالة عليهم حصراً . قال تعالى :
{ وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين ، وكانوا يصرون على الحنث العظيم } [ الواقعة : 41-46]
هذا الوصف الذي خصّ الله به هؤلاء أصحاب الشمال ، مع أنهم من عالم الجن ، وكلهم يستعملون الشمال إنما كان من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء .
فالإنسان في كل ما يتعرض له من انحراف وشهوانية إنما صادر عن هذا الجزء الذي حمل عبء إضلال الإنسان وانحرافه . وهو الجزء الخاص بإبليس وذريته ومن تبعه .
ومن هنا كان ذلك الأصل من أصول علم الرؤيا وهو استعمال اليمين للدلالة على الطهر والنقاء ، واستعمال الشمال للدلالة على الانحراف والفساد .
سابعاً- { هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين } [ المرسلات : 38 ] .
توضح الآية الكريمة أن هناك مجموعتين منفصلتين سيجمعان للحساب يوم القيامة . فأما المجموعة الأولى فهي ( نحن ) عالم البشر ، وما كاف الخطاب ( جمعناكم ) إلا دلالة على ذلك . فهذه الكاف تستعمل لمن هو حاضر معاين .
وأما المجموعة الثانية فهي ( الأولين ) ودلت على ذلك الخلق الذي لا نراه ولا نعاينه وهو عالم الجن .
ويستدل من هذه الآية أن الله تعالى قد كرّم عالم الإنسان عندما قدّمه على عالم الجن . فهم على الرغم من أنهم خلقوا قبلنا إلا أن الله تعالى وضعهم في المرتبة الثانية بعدنا .
ثامناً- قال تعالى : { قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا } [ المائدة : 114] .(1/181)
ولا بد لي قبل أن أؤكد المعنى الاصطلاحي لمادة ( أول ) التي استعملها القرآن الكريم للدلالة على ذلك العالم الذي خلقه أولاً وهو عالم الجن . من أن أستعرض ما قاله المفسرون قبلي في فهم هذا المصطلح . وموطن الخلاف في الآية السابقة قوله تعالى : ( لأولنا وآخرنا )
فالطبري يقول : اختلف أهل التأويل فيها . ويقول بإسناد عن السدي قال : نتخذ اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا .
حيث يفسر هذا الإسناد لفظة ( لأولنا ) بكلمة ( نحن ) وآخرنا ( ومن بعدنا ) .
وحيث يطول هذا الاختلاف فيما بينهم فإننا نتوقف عند ابن عباس بإسناد ينقله الطبري عنه فيقول : أكل منها حين وضعت بين أيديهم آخر الناس كما يأكل منها أولهم .
وينهي الطبري هذا الاختلاف بقوله :
فإن الأولى من تأويله بالصواب قول من قال : تأويله للأحياء منا اليوم ، ومن يجيء بعدنا منا .
ويختصر القرطبي كل ذلك فيقول : ( عيداً لأولنا ) أي لأول أمتنا وآخرها .
هذا العرض الموجز لأقوال هذين المفسرين كاف للدلالة على أنهما اتفقا على أن هذه المائدة هي لنا نحن البشر ولا أحد سوانا .
ويكون قولهم هذا صحيحاً لو أن السيد المسيح قال : ( ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً ) واكتفى بذلك فلم يفصل .
ولكن عندما قال ( لأولنا وآخرنا ) فقد فصّل لمن يكون هذا العيد وهذه المائدة . فالمدعوون لهذه المائدة أولئك النفر من الجن الذين آمنوا بالسيد المسيح ودعوته . فكما أن القرآن الكريم يقرر وجود جن يهود مؤمنين في قوله تعالى :
{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ، فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ، قالوا إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } [ الأحقاف : 29-30] .(1/182)
فإذا كان القرآن الكريم يقرر ذلك ، فلا بد من أن يكون هناك نفر من الجن آمنوا بدعوة عيسى عليه السلام ، وأنهم دُعوا إلى هذه المائدة التي دعي المؤمنون منا إليها على حد سواء .
ثم جاءت الدعوة المحمدية داعية لهم كما هي داعية لنا في خط متواز . وإلا فكيف يمكن أن تقام عليهم الحجة التي تقام علينا .
وليس في القرآن الكريم كله إشارة إلى وجود جن مسيحيين غير هذا الدليل القاطع ( لأولنا ) . ولا يمكن أن يكون دليلاً قطعياً ما لم يتضمن المعنى الاصطلاحي لهذه المادة ( أول ) .
إن تخبط المفسرين في تفسير هذه الآيات تفسيراً مقنعاً ، يعود إلى اعتقادهم أن هذا القرآن إنما نزل علينا وحدنا نحن البشر . وكذلك نظرتهم إلى الكتب السماوية السابقة . أما ذلك العالم اللامرئي فهم يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى قد أهمله إهمالاً كافياً ليهمله هؤلاء .
ولكي نضع مسك الختام على مصطلح ( الأولين ) فلا بد لنا من أن نتوقف عند الآيات من سورة الأعراف . قال تعالى :
تاسعاً- { قال ادخلوا في أمم قد خلت قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها ، حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت ( أُخراهم لأولاهم ) ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون ، وقالت ( أولاهم لأُخراهم ) فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون } [ الأعراف : 38-39] .
إن هذا المقطع يزيل أي شك قد يدور في الأذهان عن حقيقة هذا المصطلح القرآني ومعناه . ليثبت بلا أدنى ريب أن المادة المصدرية للفظة ( الأول ) ومشتقاتها إنما عُني بها حصراً عالم الجن .
فهذا المقطع يبدأ بتحديد هذه الصلة بين المصطلح وبين المقصود به عندما قال : ( قد خلت من قبلكم من الجن والإنس ) ثم يبدأ الحوار بين هاتين الطائفتين فيتحدث الإنس وهم ( أُخراهم ) إلى الجن وهم ( لأُولاهم ) يتهمونهم فيه بأنهم كانوا وراء ضلالهم ويطلبون لهم عذاباً مضاعفاً .(1/183)
ويجيب ( أولاهم ) أولئك ( أُخراهم ) بأنه لا فضل لأحد على الآخر ، وأنه عليهم أن يذوقوا العذاب مثلهم .
ونعود إلى الطبري لنتلمس حقيقة هذا المعنى فنجده يقول : قالت أُخراهم الذين كانوا في أول الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين .
ثم يعرف ( أولى ) فيقول :
أولى كل أمة وملة سبقت في الدنيا لأُخراها الذين جاءوا من بعدهم ، وحدثوا بعد زمانهم فيها ، فسلكوا سبيلهم واستنوا سنّتهم .
وهكذا يكون الطبري قد حام حول المعنى لكنه لم يستطع تحديده . وأما القرطبي فيقول : ( قالت أُخراهم لأُولاهم ) أي آخرهم دخولاً وهم الأتباع لأُولاهم وهم القادة . ونسأل القرطبي نفسه : هل يظلّ القادة من الكفار محتفظين بقيادتهم ومكانتهم لدى أتباعهم وهم سواسية في النار ؟
هذا الحوار الذي قدمته الآيات الكريمة هو حوار الشركاء . ولنا معه وقفة أطول في فصل قادم . لكنني أريد أن أؤكد أن فَهمَ هذا المصطلح يرفع حجباً كثيفة عن فهم الجوانب التي لم يستطع المفسرون السابقون أن يزيلوها ، ويؤكد على أن هذا القرآن قد عالج قضايا عالم الجن بالمقدار نفسه الذي عالج به قضايا عالم الإنس .
2-الآخِرون
لن نجدَ عناءً كبيراً في إيضاح معنى هذا المصطلح القرآني الذي دل على عالم الإنس حصراً . ولقد كان لنا عند الحديث عن مصطلح ( الأولين ) ما يمهد الطريق أمام هذا المصطلح ويختصره .
لقد وردت لفظة ( الآخرين ) بالنصب والجر في عشرة مواضع من القرآن الكريم ، ولم ترد بالرفع مرة واحدة .
وللغة العربية دقة في استعمال هذه اللفظة لا بد من إيضاحها . فإذا كان لدينا اثنان ودخلا علينا فنقول : دخل الأول فالآخر . إذا كان الثاني آخرهم دخولاً ، ولا نقول دخل الثاني إلا إذا كان هناك داخل آخر بعده .(1/184)
وبما أننا أوضحنا في مصطلح ( الأولين ) أنهم سُموا بهذا الاسم لأنهم خلقوا ( أول ) فمن الطبيعي أن يطلق هذا المصطلح على هذا الخلق الجديد الذي هو ( آخر الخلق ) خلقاً وهم عالم الإنس . أما المواضع العشرة التي ذكر فيها هذا المصطلح فهي :
قال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام داعياً ربه :
{ واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [ الشعراء : 84] .
ومن الجلي أن دعاء إبراهيم عليه السلام في هذه الآية ، أن يبقى ذكره قائماً في حياة البشر الذي ينتمي إليه .
ويتوالى استعمال هذا المصطلح في أربعة مواضع من سورة الصافات في قوله تعالى :
{ وتركنا عليه في الآخرين } [ الصافات : 78] .في الحديث عن نوح عليه السلام .
وفي الحديث عن إبراهيم عليه السلام في الآية 108 ، وفي الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام في الآية 119 ، ثم في الحديث عن إلياس عليه السلام في الآية 129 .
ويدل هذا الوصف على أن هؤلاء الأنبياء قاموا بأعمال عظيمة في دعوة أقوامهم إلى الإيمان بالله تعالى مما جعلهم أهلاً لأن يتبوأوا المكانة العالية لهم في عالم الإنس .
ونتوقف عند آخر الآيات التي استعملت هذا المصطلح حيث أن الباقي قد تم استعراضه في بحث الأولين والتي وردت في سورة الواقعة .
قال الله تعالى في الحديث عن أصحاب فرعون وقومه عندما أُغرقوا جميعاً :
{ فلما أسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ، فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين } [ الزخرف : 56] .
لقد خص الله سبحانه فرعون وقومه بهذا العذاب ليجعل منهم عبرة لبني البشر ( ومثلاً للآخرين ) . ولربما يسأل سائل : لماذا كان لفظ ( الآخرين ) أقل عدداً من لفظ ( الأولين ) ؟
إن الحديث عن عالم الأولين هو الحديث عن عالم لا مرئي ، يكاد يشكك في وجوده وقدمه معظم الناس ، أما عالم ( الآخرين ) فهم عالم بني الإنسان ، ولا بد لكل واحد منا من أن يكون عارفاً بالحد الأدنى مما تقتضيه حياته مع هذا العالم .(1/185)
أما عالم ( الأولين ) فهو عالم مجهول ، أراد القرآن الكريم من تكرار ألفاظه وكثرتها أن يؤكد على وجوده . فهو عالم غائب غير معاين كما سيقول الطبري فيما بعد .
* * * * *
وإذا كنا قد استطعنا أن نثبت بالدليل القرآني أن مصطلح (الأولين) إنما عنى به القرآن الكريم الخلق الأول الذي خلقه الله تعالى وهو ( عالم الجن ) .
وأن مصطلح ( الآخرين ) إنما عنى به الخلق الآخر وهو (عالم الإنس).
فإنه لا يزال بين يدينا دليل من الحديث الشريف يؤكد ما ذهبنا إليه .
فعن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري – وكان من الصحابة – أنه سمع رسول الله I يقول :
إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، نادى منادٍ : من كان أشرك بعمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك . ( (1) )
إن هذا التخصيص لهذين العالمين بهذين المصطلحين ليؤكد على وجودهما معاً ، وكل عالم مستقل عن الآخر منفصل عنه تماماً ، ما خلا تلك العلاقة الإشراكية التي تقوم فيما بينهم وهي التي سنفصل الحديث عنها في المصطلحين القادمين وهما ( المجرمون ) منهم و( الظالمون ) منا .
3- المجرمون
مصطلح قرآني ثالث ، أطلق على فئة محددة من عالم الجن ، انشقت عنه و حملت على عاتقها مهمة إغراء الإنسان وغوايته من خلال مشاركته شراكة توصل بهما معاً إلى نار جهنم .
ولكي نبين خصوصية هذا المصطلح لا بد لنا من أن نتعرف على الألفاظ الأخرى التي وصف بها الكافرون .
فهناك ظالمون وكافرون ومنافقون وفاسقون ومجرمون .
لقد جمع الله الظالمين والكافرين في صعيد واحد فقال :
{ والكافرون هم الظالمون } [ البقرة : 254] .
وجمع المنافقين والفاسقين في صعيد واحد فقال :
{ إنّ المنافقين هم الفاسقون } [ التوبة : 67] .
__________
(1) - أخرجه أحمد في مسند الشاميين برقم (17431) إحياء التراث ، وابن ماجة في الزهد برقم (4203) عن الباقي .(1/186)
وبقيت لفظة ( مجرمون ) مفردة لا ثاني لها ، ومتفردة في خصوصية معناها .
هذه اللفظة ذكرت مرفوعة ( 15 ) مرة ، وذكرت منصوبة ومجرورة ( 34 ) مرة .
ومما يتصل بها لفظة ( أجرموا ) ثلاث مرات . ولفظة ( المجرم ) مرتان .
و لا بد لنا من التوقف عند المصطلحات القضائية لمعرفة خصوصية مدلولها . فالقضائيون يطلقون اسم جنحة ، ثم جناية ، ثم جريمة .
ولا يطلق اسم جريمة إلا على القتل ، والقاتل مجرم وجمعه مجرمون .
ولا أستبعد أن تكون هناك علاقة لغوية ومعنوية بين لفظتي الجاني بمعنى القاتل ، والجانّي أي الفرد من الجن المنتسب إليهم ، المتصف بصفاتهم .
إذ أن لفظة الجن جمع مفرده جانٌّ وليس جني كما يعتقد البعض ، إذ أن لفظة جني إنما تدل على شخص أفعاله كأفعالهم والياء ياء النسبة .
ونبدأ عند معالجة هذا المصطلح بالفرد المجرم . فالله سبحانه يقول :
{ إنه من يأت ربه مجرماً فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى } [ طه : 74] فالآية الكريمة تبين أن هذا المجرم خالد في نار جهنم ، وخلوده فيها مرده إلى ما مارسه من قتل في حياته . ولكن مَن المقتول الذي ذهب ضحيته ؟
وإذا كانت الآية السابقة قد حددت مصير هذا المجرم ، فإنها لم تحدد صفاته ولا الجرائم التي ارتكبها . وأمام هذا لا بد لنا من أن نتوقف عند هذا المقطع القرآني من سورة الصافات الذي يمهد لنا الطريق لتحديد ذلك كله . قال الله تعالى :
{ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ، وقفوهم إنهم مسؤولون .
ما لكم لا تناصرون ، بل هم اليوم مستسلمون . وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ، قالوا بل لم تكونوا مؤمنين ، وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، فأغويناكم إنا كنا غاوين . فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ، إنا كذلك نفعل بالمجرمين } [ الصافات : 22-34] .(1/187)
إن هذا المقطع القرآني يطرح قضايا عدة ، إن استطعنا أن نستوعبها فإننا نكون بذلك قد تمكنا من فهم حقيقة هذا المصطلح القرآني .
( فالذين ظلموا ) هم المشاركون من عالم الإنس ، وسنؤكد هذا المعنى عند الحديث عن المصطلح القرآني القادم وهو ( الظالمون ) .
( وأزواجهم ) فهم أزواجهم من عالم الجن ، لا من عالم الإنس كما يتخيل القارئ المتسرع ، فتمام الآية ( وما كانوا يعبدون من دون الله ) هي قرينة كافية لإخراج الأزواج من عالم الإنس منها ، إذ أنه ليس من المعقول أن يؤخذ البريء بتهمة الظالم .
إن قيام علاقة زوجية لا مرئية طرفاها جانّ وإنسية هي جريمة كبرى ليس لها من عقاب موجع إلا الخلود في جهنم . فالله سبحانه يقول على لسانهم يوم القيامة : { وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجّلت لنا ، قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله } [ الأنعام : 128 ]
ويفصل المقطع القرآني الكيفية التي تقوم عليها هذه العلاقة الزوجية من خلال الحوار الدائر بين الزوجة الإنسية وزوجها الجان .
فالزوجات الإنسيات يقلن ( إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) وهذا يدل على أنهم كانوا يأتونهم من ورائهم ، من الجهة اليمنى . ولكي يكون يميني متطابقاً مع يمين غيري فيجب أن نقف وراء بعضنا بعضاً . وهذا دليل على أنهم لا يتقابلون وجهاً لوجه .
ويرد هؤلاء الأزواج التهمة التي اتهمتهم بها زوجاتهم فيقولون لهم : ( بل لم تكونوا مؤمنين ، وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين ، فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين ) .
هذا الرد تنجلي فيه حقائق عدة منها :
أنهم كانوا مصرين على استمرار حياة زوجية كهذه ، فهي تحقق لكليهما متعة جنسية لا يمكن تحديدها أو إقامة التهمة عليها . وسنحلل ذلك بتفصيل دقيق في فصل قادم .(1/188)
وأنهم كانوا في علاقتهم هذه ينصرون بعضهم بعضاً ، ويستخدمون ذلك ليحقق كل طرف هدفاً للطرف الآخر هو بحاجة إليه .
نفى الشركاء عن شريكاتهم صفة الإيمان نفياً قاطعاً . وهذا يدل على أن هؤلاء النسوة إنما كن يدعين أمام من يعرفهن بأنهن ذوات صلاح وعفة وإيمان . قال تعالى : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } [ الأعراف : 30 ] وأن إدعاء كهذا كان يملي عليهن ممارسات يظهرن من خلالها أمام أزواجهم الحقيقيين أنهن مؤمنات طاهرات عفيفات ويتجلى ذلك من خلال مظهر ديني خادع ، وممارسات دينية كاذبة .
هذه الشراكة القائمة بين الظالمين والمجرمين ، وبهذه الصفات والممارسات ليس لها من عقاب موجع إلا الخلود في نار جهنم ، ولذلك كانت نهاية المقطع القرآني محدداً لها : ( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين ) .
ولكي نتمكن من تأكيد المعنى الاصطلاحي للفظة ( المجرمين ) التي عنت المشاركين من عالم الجن حصراً . فإنه لا بد لي من إجراء مقارنة بين المقطع السابق والمقطع القرآني التالي؛ قال تعالى :
{ وبُرّزت الجحيم للغاوين ، وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون ، فكبكبوا فيها هم والغاوون ، وجنود إبليس أجمعون . قالوا وهم فيها يختصمون ، تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ، وما أضلنا إلا المجرمون } [ الشعراء : 91-99] .
هذا المقطع هو واحد من حوار الشركاء الذي سنفرد له فصلاً مستقلاً . وإذا ما وضعنا جانباً الشفافية الروحية التي تغلف النص ، وهذه الروح الشاعرية المتألقة الخلاقة فيه ، وهذه البلاغة القرآنية في هذا الحوار الوصفي الرفيع المستوى ، فإننا نجد أن التطابق بين المقطعين يكاد يكون كاملاً .
ففيهما الحديث عن دور الغواية الذي مارسها المجرمون للإيقاع بشركائهم .
( فأغويناكم إنا كنا غاوين ) و ( فكبكبوا فيها هم والغاوون ) .(1/189)
وفيهما اعتداد كل طرف بالآخر ، ومناصرته له :
( ما لكم لا تناصرون ) و ( هل ينصرونكم أو ينتصرون ) .
وفيهما هذا الحوار الحي الدائر بينهما وهما معاً في العذاب .
( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) و ( قالوا وهم فيها يختصمون )
ثم اشتراكهما معاً في العذاب يوم القيامة امتداداً للشراكة القائمة بينهما في الحياة الدنيا .
( فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون ) و ( فكبكبوا فيها هم والغاوون ) .
وأخيراً فيهما تلك اللفظة الاصطلاحية ( المجرمون ) التي ينتهي بها المقطعان .
( إنا كذلك نفعل بالمجرمين ) و ( وما أضلنا إلا المجرمون ) .
لكن كل مقطع منهما ينفرد عن الآخر بصفة واحدة تلقي مزيداً من الضوء على كل منهما . فالمقطع الأول يوضح طريقة اتصال هذا المجرم بشريكته . ( إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ) .
وأما المقطع الثاني فإنه يوضح أن هؤلاء الشركاء منا ، يعتمدون اعتماداً كلياً على هؤلاء ( المجرمين ) في تصريف شؤون حياتهم { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100] ، فيجعلونهم على قدم المساواة مع الله سبحانه .
فهذا المجرم يستوطن بيت شريكته ، إذ يجد فيه المأوى والغذاء والجنس ، معتمداً عليه فيريح نفسه من عناء العمل ، والسعي في طلب الرزق ، فيكون اعتماده على المرزوق لا الرازق .
وبالمقابل ، فإن هذا ( المجرم ) يقدم لشريكته كل مساعدة ممكنة ، فيكون رهن إشارتها { وهم لهم جند محضرون } [ يس : 75] .
ونتوقف عند مقطع قرآني ثالث يتحدث عن هؤلاء ( المجرمين ) ليؤكد ما ورد في المقطعين السابقين ثم يضيف شيئاً جديداً خطيراً . قال الله تعالى :
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون ، لا يفتّر عنهم وهم فيه مبلسون ، وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين .
ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون ، لقد جئناكم بالحق ولكن أكثرهم للحق كارهون .(1/190)
أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون ، أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } [ الزخرف : 74-80] .
هذا المقطع يؤكد نهاية هؤلاء المجرمين نهاية خالدة في جهنم ، لكنه يضيف جديداً في نهايته إذ يبين الكيفية التي تمكّن هذين المتشاركينْ من الاتفاق على ما يريدون تنفيذه فهم لهم خلوة فيما بينهما ، سرية تماماً ، لا يعلم ما يجري فيها أحد من الخلق ، وهما فيها يعقدان صفقات ، ويبرمان اتفاقيات ( أم أبرموا أمراً ) .
وهما يعتقدان أنهما في خلوتهما هذه ليس هناك من يعرف ما يجري فيها ، إلا أن الله سبحانه يؤكد أن هناك ملائكة معهما يسجلون عليهما ما يقررانه ويدبرانه من مكر وكيد وإيقاع أذى بالآخرين . هذه الخلوة لنا وقفة مطولة معها في فصل قادم .
وتنعكس نتائج هذه الخلوة ، والقرارات التي اتخذت فيها ، على المحيط العائلي لهذه المشاركة . فإن كانت متزوجة ، فإنّ شريكها يقوم بتكميم فم زوجها ، وسلبه إرادته ورجولته . فهو خارج بيته ذو صوت مرتفع ، لكنه داخل البيت قط أليف ساع إلى إرضاء زوجته .
وإن كانت عزباء فإنه يحظر عليها الزواج ، مدعياً لها أنه هو البديل الذي يحقق لها المتعة الجنسية .
ومن خبرتي في هذا المجال لتأكيد هذه الحقيقة ، لا بد لي من أن أذكر القصة التالية :
اتصلت بي فتاة مجهولة ، وشكت لي حالة ابنة عمها . فاستقرأت من حديثها أنّ ابنة عمها تعاني من أذى شيطاني فقلت لها :
اقرأي لابنة عمك سورة ( الطور ) في غرفتها وأخبريني بردة فعلها .
وفي اليوم الثاني اتصلت بي ابنة عمها وسألتني لماذا طلبتُ من قريبتها أن تقرأ لها سورة ( الطور ) ؟
قلت : لقد وصفت لي ابنة عمك حالتك ، فاستنتجت من حديثها أنك مشاركة .
قالت : نعم هذا صحيح .
فسألتها : وكم كان عمرك عندما شاركك ؟
قالت : خمس سنوات .
قلت : وكيف شاركك ؟(1/191)
قالت : رأيت رجلاً وامرأة عاريين في وضع نكاح محرم وهما من أقاربي ، وعندئذ لبسني وأمرني أن أكتم ما رأيت . ومنذ ذلك الحين – وقد بلغت الآن التاسعة عشر – وأهلي يحاولون معالجتي لتخليصي من هذه الحال ، ولم يفلحوا .
قلت لها : أنا متأكد أنك خطبت مرات عدة ، ولكن ما يحدث هو أن كل من خطبك يذهب ولا يعود .
قالت : نعم لقد حدث هذا . وشريكي الذي معي يقول لي إن علاقته بي علاقة أخ بأخته .
قلت لها : اعلمي أنك لن تخطبي ولن تتزوجي كسائر فتيات جيلك ، ولن يكون لديك أسرة ولا أولاد؛ لأن ذلك الشيطان – بعد أن اصطفاك لنفسه – لن يسمح لك بالتخلي عنه .
وهكذا فإن هذا المجرم قد قتلها في حياتها الدنيا ، فحرمها مما منحها الله إياه ، ومما خلقها من أجله . لقد سلبها إرادتها وحريتها ، وجعلها تتآلف مع وضعها هذا ، فتنساق معه في تحقيق رغباته منها ، واستمتاعه الجنسي بها ، فتكون نهايتهما في نار جهنم .
لقد قتلها في حياتها ، كما قتلها في آخرتها . وليس هناك إجرام أشد فظاعة مما فعله هذا المجرم بحقها وبحق نفسه .
وما دمنا لا نزال نعالج هذا المصطلح القرآني ودلالته ، فإنه لا بد لنا من أن نتوقف عند صفة أخرى من صفات هذا المجرم . قال الله تعالى :
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون } [ يونس : 18] .
كيف يكذب هذا المجرم على الله ؟ وكيف يكذب آياته ؟
إنه يحاول أن يقنع شريكته بأنه مَلَك من الملائكة ، قد خصصه الله لهذه الشريكة نظراً لحسن حالها عند ربها ، ولتدينها وشدة تقواها . ولو لم تكن تحمل هذه الصفات لما اختارها اللّه لهذه الشراكة .(1/192)
إنه يكذّب كل الحجج والبراهين التي تحرم عليه ثم عليها فيما بعد هذه المشاركة . وهذا سنتعرض له في فصل قادم بتفصيل أدق يتحدث عن الشراكة والشركاء . ثم يبين الله سبحانه لنا صفات هؤلاء ( المجرمين ) في نهاية حياتهم . وأن لهم صفات خاصة بهم تجعلهم ينفردون بها ، ويتم التعرف عليهم من خلالها . يقول الله تعالى :
{ يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام } [ الرحمن : 41] .
والسيماء وهو الوجه ، والملامح التي تميزه . وهؤلاء يمكن تمييزهم عن غيرهم بسيماء وجوههم وعندئذ يؤخذون من جباههم وأقدامهم من بين جميع الخلق في ذلك الموقف العصيب . أما السيماء الخاصة بهم فهي التي يحددها الله تعالى في قوله :
{ يوم ينفخ في الصور ، ونحشر المجرمين يومئذ زرقا } [ طه : 102] .
فأن يكون لرجل الوجه الأزرق ، فهو سمة يمكن تمييزها من بين جميع الوجوه . ويعتبر هذا اللون الذي خصّ به الله هؤلاء المجرمين ، يعتبر أصلاً من أصول هذا العلم . فهو لون غير محمود في الرؤيا دال على صفات شيطانية يتصف بها من يحمل لوناً كهذا اللون . ويتفرع عن هذا الأصل جزئيات كثيرة ، فالسيارة ذات اللون الأزرق هي مركب شيطاني واللباس الأزرق على رجل أو امرأة دال على صفات شيطانية فيهما .
لقد حدد العرض السابق صفة ( المجرم ) وبيّن خصوصية هذا المصطلح القرآني .
لكنني أجد نفسي مضطراً إلى الانتقال من الحديث عن المجرم الفرد إلى الحديث عن المجرمين بهذه اللفظة الجماعية . ولكي نكون أكثر فهماً لاستعمال هذا المصطلح القرآني فلا بد من أن ننتقل نقلة نوعية تكون كافية لإدراك ما في هذا المصطلح من جوانب خطيرة ربما لا يخطر على بالنا أنها على هذه الدرجة من الخطورة .
وهنا لا بد لنا من وضع هذا العنوان الخطير . إنها : المشاركة الجماعية .
المشاركة الجماعية(1/193)
يقودنا الحديث عن هذه المشاركة الجماعية إلى التوقف عند الأنبياء الذين واجهوا عداء ناصباً من أقوامهم ، وانتهى بهم المطاف جميعاً إلى إبادة جماعية بعذاب مدمّر . وأول هذه الأقوام قوم نوح عليه السلام : يقول الله تعالى :
{ واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم و ( شركاءكم ) ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون } [ يونس : 71] .
توضح هذه الآية بجلاء أن نوحاً عليه السلام كان يدرك إدراكاً عميقاً للمشاركة الجماعية القائمة بين قومه وبين شركائهم من الجن .
لقد أمضى حياته كلها معهم داعياً لهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده . ثم أدرك أن إعراض قومه عن الإيمان بدعوته وراءه سبب خفي هو عناد شركائهم له . إذ أن قومه إذا استجابوا لدعوته فإن أول شيء ينبغي عليهم فعله هو وضع حد نهائي لهذه الشراكة مع أولئك . فليس هناك من صلة بين العبد وبين ربه مهما كان نوعها غير الصلة المباشرة التي ترفض عندئذٍ أن تكون هناك وسائل تتخذ ذريعة لهذه الصلة .
إن إدراك هؤلاء المجرمين لحقيقة دعوى نوح عليه السلام بالإيمان كانت وراء كل عناد ومكابرة أملاها هؤلاء المجرمون على شركائهم . و إن إدراك نوح عليه السلام لهذه الحقيقة جعله يقول لهم { فأجمعوا أمركم وشركاءكم } أي اجتمعوا معاً وقرروا ، وليكن اجتماعكم معلنا لا خفاء فيه ( ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ) وأنا راض عن أي قرار تتخذونه أنتم وشركاؤكم .
لقد كان نوح يدرك أن دعوته إلى عبادة الله وحده ، لن يستطيعوا إنكارها . وإنما كانت مشاركتهم لبعضهم بعضاً تحقق للطرفين مآرب عديدة .(1/194)
لكن نوحاً عليه السلام مع إدراكه لهذه المشاركة الجماعية لم يكن ليخطر له على بال أبداً أن هذه المشاركة الجماعية لقومه سيكون له نصيب منها في شراكة فردية كانت زوجته واقعة بها ، ولم يستطع أن ينتبه إليها . وهذا سنفصل الحديث فيه في فصل قادم هو الزنا والخيانة .
ومن الأقوام التي وقع عليها عذاب ماحق بسبب هذه الشراكة الجماعية قوم لوط عليه السلام . ولا بد أن أشير إلى صفات عدة مشتركة بين قومي نوح ولوط عليهما السلام . فقوم نوح عليه السلام قال له قومه :
{ قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } [ هود : 32] .
وقوم لوط عليه السلام قال له قومه :
{ قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } [ العنكبوت : 30] .
ووصف الله تعالى قوم نوح فقال :
{ إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } [ الأنبياء : 77] .
ووصف قوم لوط فقال :
{ إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } [ الأنبياء : 74] .
وكلاهما وصم الله زوجتيهما بالكفر فقال :
{ وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } [ التحريم : 40] .
* * * * *
ومن الأقوام التي وقع عليها عذاب الإبادة الجماعية قوم فرعون . ولكن من كان وراء فرعون في عناده وإصراره على موقفه ؟
لقد عرض عليه موسى عليه السلام من المعجزات الإلهية ما كان كفيلاً بإعلان إيمانه بالله تعالى ولكنه مع ذلك رفض وأصر . وما ذلك إلا لأنه وقومه كانوا يشاركون شراكة جماعية هذه الحقيقة نتلمسها من قول موسى عليه السلام . قال تعالى :
{ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون } [ الدخان : 22] .(1/195)
لقد أدرك موسى عليه السلام أن الحجج التي ساقها لفرعون ، والبراهين التي استدل بها ، لا يمكن لبشر ذي عقل كعقل فرعون أن ينكرها ، فلما أنكر ذلك كله أدرك موسى أن وراء هذا الرجل وقومه سراً خافياً ، وعالماً لا مرئياً يتحكم به وبقومه ، فلا يستطيعون معهم أن يعلنوا إيمانهم ، وما عناده وقومه إلا استمرار لعناد قوم نوح وقوم لوط اللذين أظهرا هذه المشاركة إلى العلن .
هذه الحقيقة التي لم يستطع أحد أن يقررها ، قررها القرآن الكريم في سورة القمر . ففي هذه السورة استعرض الله سبحانه عذاب هذه الأقوام ، ليختم الحديث عنهم بقوله تعالى : { إن المجرمين في ضلال وسعر ، يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } [ القمر : 47-48] .
ويكفي ختاماً لهذا الفصل أن نستوعب المعنى الاصطلاحي للفظة ( المجرمين ) من خلال قول الملائكة لإبراهيم عليه السلام وهم ذاهبون لتدمير قوم لوط :
{ إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } [ الذاريات : 32]
إن هؤلاء المجرمين هم المنشقون عن عالم الجن الذين اختاروا أن يشاركوا عالم الإنس ضاربين بالأوامر الإلهية المانعة لكل ذلك عرض الحائط . إنهم الجانب اللامرئي في صراع الشيطان مع الإنسان لإضلاله .
ويستدل على هؤلاء المجرمين في الرؤيا من خلال الفئران والجرذان فالفئران إناثهم والجرذان ذكورهم .
4- الظالمون
هو المصطلح القرآني الرابع الذي استعمله القرآن الكريم للدلالة على المشاركين من عالم الإنس . وإذا كان لكل عملة وجهان . وإذا كان ( المجرمون ) هم الوجه الأول اللامرئي من هذه المشاركة . فإن ( الظالمين ) هم الوجه المرئي الآخِر فيها .
وإذا كان ( المجرمون ) هم الفئة المنشقة عن عالم الجن ، فإن ( الظالمين ) هم الفئة المنشقة عن عالم الإنس .
لقد استعمل القرآن الكريم هذا المصطلح بهذا المعنى المخصوص ( 33 ) مرة بالرفع و( 91 ) مرة بالنصب والجر .(1/196)
ويكفي أن يستدل من خلال استعمال هذا المصطلح لهذا العدد من المرات ، على أن هناك قسماً كبيراً من عالم البشر قد وقعوا في إثم هذه المشاركة ، والخوض فيها حتى نهايتها .
ونبدأ بالبرهنة على صحة استخدام هذا المصطلح من خلال ما عرضه القرآن الكريم . ففي قصة آدم وحواء ، وهما أول البشر ، وهما أول من تعرض لفتنة الشيطان ولم يكونا بعد قد أدركا هدفه ، وخاصة أنه لم يكن مرئياً لهما ، فاستجابا له . لقد حذرهما الله تعالى من أن يقربا تلك الشجرة . فقال :
{ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ، فأزلهما الشيطان عنها } [ البقرة : 35-36] .
فلما استوعبا الهدف الشيطاني الذي سعى إليه الشيطان بإخراجهما من الجنة : { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23] .
لكن هذا الاستيعاب لم يكن ليحدث لو لم ينبه الله تعالى آدم وحواء على خطورة هذه المشاركة للشيطان والاستجابة له قال تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } [ البقرة : 37]. لقد كانت تلك الكلمات تحذيراً إلهياً مباشراً لآدم ، ليصرفه عن هذه المشاركة للشيطان والتي كانت لا تزال في بدايتها بعد . وبهذا فقد كانا أول من استُهدفا لهذه المشاركة وكانا أول من نجا منها .
ولنا وقفة مطولة عند امرأتي نوح ولوط للدلالة على المشاركة التي لم تستطع كلا المرأتين النجاة منها كما نجت منها حواء .
ومن وصايا لقمان لابنه . قال الله تعالى :
{ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13] .
وارتباط الشرك والإشراك بالظلم يؤكده قول الله تعالى :
{ ويوم يعض الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ، يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلاناً خليلا . لقد أضلني عن الذكر إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا } [ الفرقان : 27-29] .
ولا بد لنا من أن ننتقل من ظاهرة المشاركة الفردية إلى المشاركة الجماعية لهؤلاء الذين سماهم الله ( الظالمين ) .(1/197)
هؤلاء الظالمون يستدل عليهم في الرؤيا من خلال الأفاعي والثعابين فالأفاعي إناثهم والثعابين ذكورهم .
ففي الحديث عن قوم نوح عليه السلام قال الله تعالى : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } [ المؤمنون : 27]
ولما وقع عليهم العذاب بالغرق قال الله تعالى :
{ فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } [ العنكبوت : 14]
وفي العذاب الواقع على قوم لوط ، قال الله تعالى :
{ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد } [ هود : 83]
وفي العذاب الواقع على ثمود ، قال الله تعالى :
{ وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } [ هود : 27]
وفي العذاب الواقع على قوم شعيب قال الله تعالى :
{ وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين } [ هود : 94]
وفي العذاب الواقع على فرعون وقومه قال الله تعالى :
{ وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم } [ هود : 101]
ولكن استكمال الآية السابقة ، يبين بجلاء هذه المشاركة الجماعية التي كانوا عليها { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب } [ هود : 101]
وليست الآلهة هنا إلاّ ذلك الغطاء الذي يخفي وراءه تلك الشراكة المتبادلة بين العالمين . وعلى ضوء هذا تصدر الأحكام الإلهية القطعية بأن هذا العذاب الجماعي إنما وقع عليهم بسبب مشاركتهم الجماعية . قال الله تعالى :
{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد } [ هود : 102] وما كان ربك ليأخذ هؤلاء الظالمين لو لم يكونوا كفاراً . فليس هناك كفر أعظم من تلك المشاركة سواء كانت فردية أو جماعية . قال الله تعالى :
{ والكافرون هم الظالمون } [ لبقرة : 254]
ومن هنا ، فإن التعامل مع هؤلاء المشعوذين والعرافين محرم قطعياً ، ومن يتعامل معهم أو يتصل بهم فإنه يعرض نفسه للعذاب في النار . قال الله تعالى :
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } [ هود : 113](1/198)
ثم يلتقي مصطلحا { الظالمون والمجرمون } حيث كلاهما وجهان لعملة واحدة ، قال الله تعالى :
{ واتبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين } [ هود : 116] .
وفي سورة الطور يبين الله تعالى أن عذاب الظالمين أقل من عذاب المجرمين فيقول :
{ وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون } [ الطور : 47]
وعلى هذا يقوم أصل من أصول هذا العلم ، حيث تعتبر القرية دار ظلم والمدينة دار حق فالخارج من القرية إلى المدينة في الرؤيا تدل على إنسان ظالم يريد أن يتخلص من ظلمه . والخارج من المدينة إلى قرية في الرؤيا تدل على إنسان ، عليه حقوق للآخرين ويريد أن ينكرها فالله سبحانه وصف المدن بقوله : { ادخلوا مصر إن شاء الله أمنين } [ يوسف : 99 ] . فدخول المدينة أمن للخائف ، ونيل حق ضائع .
الشرك والشركاء
لقد اتضح لنا الآن أن هذين العالمين المرئي منهما واللامرئي يسيران في خطين متوازيين لا يلتقيان إلا عند هؤلاء الشركاء .
وهما الأولون ونحن الآخرون ، ومنهم المجرمون ، ومنا الظالمون .
وليست هناك قضية أشد خطورة على الإنسان عامة من أن يتخذ الإنسان وسيلة أو صلة فيما بينه وبين الله تعالى .
ولقد أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة الخالدة في قوله تعالى :
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً } [ النساء : 48] .
فالآية الكريمة توضح بجلاء أن أيّ ذنب يرتكبه الإنسان فإنه له مغفرة من الله عز وجلّ إلا أن يتخذ له شريكاً يحجبه عن الله تعالى ، أو يجعله صلة فيما بينه وبين ربه ، فإن هذا إثم عظيم لا مغفرة له .
هذه العلاقة الإشراكية التي نعالجها هنا هي العلاقة القائمة بين عالمي الإنس والجن . وهي علاقة ممتدة تحقق لكل طرف منافع وغايات متجددة .
ولا بد لها من أن تقوم بين طرفين أحدهما مرئي والآخر لا مرئي . وهي شراكة قد تكون معلنة ، أو سرية ، أو مستحدثة .(1/199)
كما أنها تأخذ شكلاً دينياً ، أو نفعياً ، أو طلباً للمتعة والاستمتاع الجنسي .
ويتجلى مظهر هذه الشراكة من الناحية الدينية اقتناع المرئيين بأن هؤلاء اللامرئيين على درجة عالية من الإيمان يضعهم في مصاف الملائكة .
وتكون شراكتهم لهم قائمة على أساس أن الصلة بهم تزيد من تقربهم إلى الله تعالى :
قال الله تعالى : { ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } [ الزمر : 3] .
ويؤكد هذا المعنى قول الله تعالى : { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون } [ الأعراف : 30 ] .
هذا الاعتقاد الديني بهؤلاء يتمادى ليأخذ شكل الشفاعة التي يظنون أن هؤلاء سوف يكونون لهم شفعاء يوم القيامة . وهم في هذا يعتقدون أن الشفاعة لا تُعطى إلا لمن كان على صلة كبرى بربه . قال تعالى :
{ ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } [ الأنعام :94] . وتتأكد دعوى شراكتهم لهؤلاء بأنهم شفعاء لهم يوم القيامة في قول الله تعالى :
{ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات والأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } [ يونس :18] .
ويرد الله سبحانه على دعوى الشفاعة هذه فيقول لهم :
{ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [ الزخرف : 86] .
ويؤكد الله سبحانه هذا الادعاء الكاذب الذي اتخذه اللامرئيون ترغيباً لشركائهم ، حيث بيّن أن هؤلاء لا يملكون الشفاعة فكيف يمكن لهم أن يمنحوها . قال الله تعالى : { ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، لا يملكون الشفاعة } [ مريم : 81] .(1/200)
هذا الاعتقاد الذي قام لدى بعض من المرئيين على مكانة شركائهم الدينية ، لم يكونوا يعتقدون أن هذا الاتصال بأولئك هو شرك وقعوا فيه ولذلك نراهم يقولون :
{ ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام :24] .
ومما يؤكد هذا الاعتقاد أنك ترى قسماً كبيراً من أصحاب الطرق الدينية يقومون بدق ( نوبات ) طالبين حضور شركائهم فيها اعتقاداً منهم أن وجود هؤلاء الشركاء إنما يضفي على جلسات الذكر من هذا النوع روحانية عالية .
وتكاد تجد معظمهم يضعون العمائم ويطلقون اللحى وهم مع ذلك يقومون بكتابة الحجب ، واستعمال الوسائل نفسها التي يستخدمها العرافون والمشعوذون .
وهذا النوع من الشراكة معلَنٌ لا خفاء فيه ، بل هو أحياناً مدعاة للتفاخر فيما بينهم بمكانة أحدهم الروحية التي تقاس بقوة شركائه .
وأما أولئك الذين يطلبون هذه الشراكة فإنما يطلبها بعضهم لما تعود عليه من منافع مادية . ونكاد نجد أدنى درجاتها أولئك الذين يكتبون الحجب ، ويصنعون التمائم ، ويصفون نوعاً من الأعشاب أو خلاصتها إدعاءً منهم بقدرتهم على شفاء مرضاهم .
هذا النوع من الشراكة خصّ الله به هؤلاء عندما قال :
{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [ البقرة :78-79] .
فالآية الكريمة تؤكد أن هؤلاء أميون يجهلون ما نص عليه القرآن الكريم ، وقد اتخذوا ما فيه من آيات يكتبونها لمن يلجأ إليهم مقابل مبلغ من المال .(1/201)
وتتعدد أساليب النفع المادي التي تعود عليهم من خلالها . وتكاد تكون ظاهرة مرض النكاف أو ما يسميه العامة ( أبو كعب ) هو إحدى هذه الوسائل النفعية . اعتاد معظم الناس أن يذهبوا بأبنائهم إذا أصيبوا بهذا المرض إلى ذلك الشيخ في الحي ، فيقوم بوضع دمغة عليها حروف على خد الولد المصاب ولمدة ثلاثة أيام متتالية مقابل أجر زهيد يُدفع .
فإذا دققت النظر فيما خطه بخاتمه المستدير على خد الولد وجدته حروفاً تجمع هاتين الكلمتين ( حي قيوم ) لكن الذي يلفت النظر عند التدقيق أن الحرف الثاني من كلمة قيوم وهو الياء قد حذفت . فإذا سألته لماذا حُذفت هذه الياء ؟ أجابك قائلاً : لأنها تكررت في الكلمة الأولى . فإذا قرأت الكلمتين معاً وجدتهما ( حي قوم ) .
أي قوم هؤلاء الذين نتوجه إليهم بالتحية ؟ أليسوا أولئك الذين قاموا بإصابة هذا الولد بهذا المرض كي يقوم أهله بأخذه إلى ذلك الشيخ لينتفع من علاجه ؟
أليس هذا النوع من استخدام هذه الألفاظ المقدسة بعد أن يحذف منها ما يحرفها عن معناها ومقصودها ؟ أليس هذا تحريفاً مهيناً لهذه القداسة بغية هدف مادي مبتذل ؟ ألم يستحق هؤلاء المنتفعون من هذه الشراكة الظالمة قول الله تعالى :
{ فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [ البقرة :79] ؟
ويفند الله سبحانه هذا الاستخدام النفعي لشركائهم فيقول :
{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً والله هو السميع العليم } [ المائدة : 76] .
ويبين أن هؤلاء الذين يرجون منهم هذه المنفعة المادية الحاضرة هم أنفسهم لا يملكون لأنفسهم أية منفعة . فكيف يمكن لهم أن يقدموا لغيرهم شيئاً لا يملكونه . قال تعالى :
{ واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا } [ الفرقان : 3] .
وتمهد الآية السابقة الطريق إلى مصطلح قرآني جديد هو :
5- من دوني(1/202)
هذا المصطلح يأخذ شكلين اثنين فهو إما أن يأتي مضافاً إلى الله مباشرة ، أو يأتي مضافاً إليه بالضمير الدال عليه . ومن الدلائل عليه قول الله تعالى :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة :165] .
{ إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله } [ الأعراف :30] .
لقد استخدم هذا المصطلح ( اثنتين وسبعين مرة ) مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى مباشرة واستخدم هذا المصطلح ( مائة وثلاث عشرة مرة ) مضافاً إلى ضمير دال على الله تعالى .
وهو يدل على كل من اتخذ له معبوداً غير الله تعالى . وهي دلالة فيها من التحقير والإذلال لهذا العابد ومعبوده الشيء الكثير .
ونتوقف عند الدلالة المخصوصة لأولئك الذين اتخذوا إلهاً ظاهراً في عبادتهم وأول هؤلاء هم عبدة الشمس في قول الله تعالى :
{ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } [ النمل : 24]
حيث تشير الآية إلى عبدة الشمس عموماً ، وعبدة الشمس من قوم بلقيس خصوصاً . واتخذ هذا المصطلح مرتين للدلالة على المسيحيين الذين اتخذوا من عيسى عليه السلام وأمه إلهين لهم يعبدونهما من دون الله . قال الله تعالى مخاطباً عيسى عليه السلام :
4- { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } [ المائدة : 116]
ويشير في المرة الثانية إلى أولئك المسيحيين الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً لهم فيستجيبون لهم في أوامرهم ونواهيهم اعتقاداً منهم بأن هؤلاء إنما يفعلون ذلك بأمر من الله تعالى . حيث يقول الله تعالى :
5- { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31] .(1/203)
وتكاد هذه الصورة تكرر نفسها فيما نجده من بعض الطرق الدينية الإسلامية وغيرها في اتخاذ رجال الدين وسيلة يتقرب بها العبد إلى الله تعالى . وخاصة تلك الطرق التي تغالي في اعتبار هذا العالم أو الشيخ محاطاً بأسرار إلهية وكرامات مخصوصة ، وأن مُريديه إنما يقاس إيمانهم بقدر تقربهم منه ، وبذل كل ما لديهم لخدمته . وفي أحيان كثيرة يتقمص المريد شخصية رجل الدين هذا فيقلده في حركاته وسكناته ولا يعبر عن رأي خاص به . إذ أن رأيه مستمد من رأي شيخه .
وهكذا يصبح المريد مسلوب العقل والإرادة والتفكير الحر السليم ، فإن صحا مما هو فيه وبدأ يناقش ما يراه مناقشة عقلية ، بدأوا باستهزائه والسخرية منه محيلين كل ذلك على الجانب الروحي الذي اختص به شيخ الطريقة ، ومن خلاله يتم تبرئته من كل نقد أو نقاش .
حيث ينطلقون من مقولة شيطانية يرددها المريدون المخلصون هي خطأ العالم ولا صواب المريد . ويكون تبرير هذا الخطأ قائماً على أساس روحي خافٍ على عقل المريد الذي لا يستطيع أن يصل إلى فهم ذلك البعد الروحي الذي جعل شيخه يخطئ . وينطلق خطأ الشيخ – في اعتبارهم – من كلمة عظيمة خفيت على هذا المريد المتمرد .
وهكذا يصبح الإيمان بهذا العالم والتسليم له جداراً قائماً بين العبد وصلته بربه . وتتحول صلة هذا المريد بشيخه استزلاماً له بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى . وفي اعتقادي أن علاقة بين المريد وشيخه قائمة على هذه الأسس هي شراكة حقيقية تكاد خطورتها تفوق خطورة تلك الشراكة القائمة بين المرئيين واللامرئيين .(1/204)
فإبليس لعنه الله أعلن أن هؤلاء العباد المخلصين في عبادتهم لن ينجوا من تحريف لهم عن طريقهم في الوصول إلى الله تعالى ، وأنه سيهيئ لهم طريقاً من خلال عبادتهم ينحرف بهم عن هذا الاتصال المباشر بين العبد وبين ربه جاعلاً لهم وسيلة يجعلونها هدفاً في حد ذاته ، فينقلب إرضاء الله تعالى إرضاء لذلك العالم والتقرب من الله تعالى تقرباً لذلك الشيخ . هذا الهدف المعلن عبّر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى على لسان إبليس :
{ وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضا } [ النساء : 7] .
لقد قال إبليس ( عبادك ) ولم يقل ( خلقك ) أي أن له من هؤلاء الذين يعبدون الله وهم يعتقدون سلامة عبادتهم ، نصيباً مفروضاً وعدداً محدداً يحرفهم – وهم في عبادتهم – عن هذه العبادة الخالصة لله تعالى . ولا يستطيع تحقيق ذلك إلا إذا استطاع أن يوجد جداراً فاصلاً بين العبد وبين صلته المباشرة بربه .
* * * * *
وتأخذ العلاقة بين المرئيين واللامرئيين طابعاً أكثر غموضاً وسرية مما هي عليه بين المرئيين أنفسهم . فمن مظاهر هذه العلاقة : هي العبادة . يقول الله تعالى :
{ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } [ النحل : 25] . وفي آية أخرى يقول الله تعالى :
{ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } [ الأنعام : 148] .
وفي الآيتين السابقتين تتكرر عبارة ( لو شاء الله ) وهكذا يلقي هؤلاء المشاركون المسؤولية في شراكتهم هذه على ( المشيئة ) وهم بذلك يعلنون براءتهم من الاعتقاد بها ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يتجنبوها لأنها مقدرة من الله تعالى عليهم .
ويتوالى استعراض القرآن الكريم لهذه العلاقة بين هؤلاء الشركاء لتأخذ طابع العبادة الحقيقية . وليس هناك من شيء هو مدعاة للسخرية كما هو ظاهر في عبادة مخلوق لمخلوق . فإذا كان كلاهما مخلوقاً فمن هو الخالق ؟؟ يقول الله تعالى :(1/205)
{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ الأعراف : 194] . ويؤكد الله سبحانه أن هذا المعبود يتشابه تماماً مع العابد ، فهؤلاء المعبودون لهم أرجل وأيد وأعين وآذان . وهذه الصفات الخلقية تتطابق مع الصفات الخلقية للعابد . فأي سخرية واستهزاء يستحقها هذا العابد على اختياره لمعبود مثله ؟ قال الله تعالى :
{ ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } [ الأعراف :191-195] .
لقد أكد إبراهيم عليه السلام لأبيه أنه في عناده وإصراره على كفره إنما يؤدي به ذلك إلى عبادة المخلوق لمخلوق مثله . قال الله تعالى على لسان إبراهيم لأبيه :
{ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا } [ مريم : 44] .
ويستند المرئيون في عبادتهم للامرئيين على مبدأين اثنين سلط القرآن الكريم الضوء عليهما أما أولهما ، فهم يعتقدون أن هؤلاء اللامرئيين إنما هم ( ملائكة ) حقيقيون ، وأنهم لو لم يكونوا هم أنفسهم مؤمنين أو باحثين عن الإيمان الحقيقي لما أظهر أولئك أنفسهم إليهم . هذا الخلط بين ( الملاك ) و ( الشيطان ) قد مكن المرئيين وخاصة الأميين إلى أن يؤمنوا بذلك على اعتبار أن كليهما ليس مرئياً . قال الله تعالى :
{ ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ، قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون } [ سبأ :40-41] .
وأما المظهر الثاني فهو الاعتداد بهذه الشراكة والتفاخر بها ، على اعتبار أن قوة المرئي إنما تقاس بقوة اللامرئي الذي معه . لقد عبّر القرآن الكريم عن هذا المظهر عندما قال :
{ واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } [ مريم : 81] .(1/206)
ولكي نؤكد على هذا المظهر فقد روى صديق هذه الحكاية . قال : اجتمع عدد من الرجال لهم مظهر ديني من عمائم ولحى ، وبدأ كل واحد منهم يتفاخر بقوة شركائه ، فقال أحدهم : سأريكم قوة ما عندي . وأمال يده على الأرض ، فبدأت الدنانير الذهبية تتساقط من كم جبته . ثم قال لهم : احذروا أن تمدوا أيديكم إليه . وهكذا تحولت هذه الشراكة إلى علاقة نفعية تمتد إلى سلطان اجتماعي وديني متميز .
حوار الشركاء
يلقي حوار الشركاء ظلالاً مضيئة على طبيعة هذه الشراكة بينهما . وقد عرض القرآن الكريم في مواضع عدة من سورٍ مختلفة صوراً عن هذا الحوار بين المرئيين واللامرئيين كما يجري يوم القيامة .
فمما يوضحه هذا الحوار في إحدى صوره أنه انتقل من مفهوم العبادة للمرئي إلى مفهوم الاستعباد للامرئي . ويصبح هؤلاء الظالمون مستعبدين تماماً لشركائهم المجرمين ، يملون عليهم أوامرهم ونواهيهم وليس أمام هؤلاء إلا التنفيذ .
قال الله تعالى :
1- { وبرزوا لله جميعاً فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ، قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } [ إبراهيم : 21] . فالضعفاء منا ، والمستكبرون هم . والضعفاء يتبعون هؤلاء في كل ما يصدر عنهم من رغبات . وفي مقطع قرآني آخر يتأكد هذا الاستعباد الذي يمليه القوي على الضعيف ، والسيد على المسود . قال الله تعالى :
2- { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل } [ الأحزاب : 68] .
وفي مقطع قرآني ثالث يتوالى الحوار بينهما فيضيء جوانب من صور هذا الاستعباد .(1/207)
3- { وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً } [ سبأ : 33] ، وفي مقطع قرآني رابع يتم التأكيد على أن هؤلاء المجرمين قد سلبوا شركاءهم أرادتهم فلا يستطيعون أن يجدوا ملجأ أو مخرجاً للنجاة مما هم فيه ، قال تعالى :
4- { وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار ؟
قال الذين استكبروا إنّا كلٌ فيها إن الله قد حكم بين العباد } [ غافر : 18]
ولكن السؤال المطروح هو لماذا لا يستطيع هؤلاء الخلاص من أولئك ؟ لماذا يبقى الظالمون تابعين للمجرمين ومنقادين إليهم ؟ وما الوسيلة التي يتبعها أولئك لضمان هذه الشراكة واستمراريتها ؟
إنهم يقومون بتخويف شركائهم من أنهم إن حاولوا أن يخرجوا من هذا الطوق المحكم فإنهم يتحملون مسؤولية ما سيحدث لهم ولأبنائهم .
هذا التخويف سلاح ماض ينقلب إلى تنفيذ سريع يضمن لهذا المجرم عودة الظالم إليه . قال الله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 175] ، إنه التخويف الذي يمارسه المجرمون على الظالمين . فإن أصر الظالم على نبذ هذه المشاركة فإنه عندئذ يتم تنفيذ هذا التهديد به .
ومن خبرتي في هذا المجال هناك حادثتان منفصلتان متضادتان ، الأولى أن رجلاً معروفاً في منطقتي كان مشاركاً ويعيش في رفاهية هو وعائلته .(1/208)
وعندما صحا ضمير هذا الرجل وأصر على قطع هذه الشراكة بإيمان حقيقي فإنه بدأ يتعرض لهذا التنفيذ الذي بدأ تخويفاً حيث تعرض أحد أبنائه إلى حادثة غرق بمجرى ماء سطحي . ثم بعد مدة نُفذ الحكم بالولد الثاني ، ثم نفذ فيما بعد بالولد الثالث . من خلال تعرضه لحادث سيارة .
وكانت نهاية الأب أن قامت سيارة بصدمه وهو راكب على بغلته ، ورافق ذلك استلاب لأمواله فمات وهو فقير معدم .
وأما الحادثة الثانية فهي أم مشاركة كنت قد ذكرتها في الحديث عند تجربتي من خلال الفتاتين اللتين كانت إحداهما قد عرضوها عليّ للزواج منها ، ووصفت فيها الحادثة الرهيبة التي تعرضت لها هذه الفتاة وهي في سن الرابعة عشر .
لقد كانت حادثة هذه الفتاة إنذاراً شديداً لأمها بأنها إن أصرت على موقفها فإن نهاية هاتين الفتاتين هو الموت .
وفي رؤيا صادقة عُرضت علي قال الرجل :
رأيت نفسي أسكن في خيام منعزلة كأنني خارج عن المدينة ، وقريب من الصحراء ، فدخل رجال ملثمون مسلحون ، كنت قد ظننتهم بادئ الأمر ضيوفاً ، ولكنهم دخلوا خيمتي وأشهروا في وجهي سلاحهم ، فناشدتهم بالله ورسوله ، ثم بعيسى وموسى عليهما السلام واستيقظت .
قلت له : حدثني عن نفسك فقال :
لقد كنت في حالة مادية جيدة ، وعائلتي مستقرة . وفجأة بدأ كل شئ ينهار ، لي فتاة مصابة بمرض لا أدري سببه ، وقد حار الأطباء فيه ، ولي زوجة أُصيبت بسرطان في الرحم ، وتوقفت أعمالي تماماً ، فأنا اليوم أُنشد العون للإنفاق على علاجهما .
قلت له : سأعبر لك رؤياك . لقد كنت رجلاً لك شركاء من الجن ثم استفاق ضميرك وخشيت على مستقبل عائلتك فأردت قطع هذه الشراكة . فهددوك ولما كنت مصراً فقد بدءوا ينفذون تهديدهم لإعادتك إلى ما كنت عليه معهم . فبكى الرجل أمام من أحضروه ولم ينطق بكلمة .
فقال له أحدهم : هل صحيح ما سمعته ؟ فقال : إنني أخاف أن أجيب .(1/209)
عندئذ قلت له : إنك تدفع إن أصررت على توبتك ، ثمن ما أقدمت عليه يداك فيما مضى من حياتك .
العلاقة الجنسية
حوار الشركاء هذا يقودنا إلى البحث عن سبب جوهري يجعل من هذه الشراكة هدفاً يسعى كلاهما إليه . ولا بد لهذا الهدف من أن يكون متبادلاً ومشتركاً بينهما . وعندئذ لابد لنا من أن نتوقف عند الآيات القرآنية التي تكشف بجلاء عن هذا الهدف . وهنا يعوزنا الفهم اللغوي المحض .
قال الله تعالى :
{ إن يدعون من دونه إلاّ إناثا ، وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً } [ النساء : 117] هذه الآية الكريمة استعملت الفعل ( يدعون ) مرتين . وهذا الفعل في المرتين معناه واحد وهو ( يطلبون ) لكن الوزن الصرفي لهما مختلف .
فالفعل ( يدعون ) في المرة الأولى وزنه الصرفي ( يفعون ) لأن لام الفعل تحذف من الفعل ( دعا ) عندما يتصل به واو الجماعة ، وهذه الواو هي واو الجمع للذكور فيكون المعنى في القسم الأول من الآية أن الذكور يطلبون لهم إناثاً .
وأما الفعل ( يدعون ) في المرة الثانية فهو مضارع دعا يدعو ولكن أُضيفت إليه نون النسوة فيصبح وزنه الصرفي ( يفعلن ) ويكون المعنى في القسم الثاني من الآية أن الإناث يطلبن لهن ذكوراً .
هذا الفهم يسلط الضوء على حقيقة لا يكاد معظم الناس أن يتفهم سرها . فالشراكة كما تقررها الآية الكريمة قائمة بين نوعين مختلفين هما الإنس والجن وبين جنسين مختلفين من كل نوع هما الذكر والأنثى .
إن هذه العلاقة بينهما هي كأية علاقة بين ذكر وأنثى سواء كانت ظاهرة أو خفية ، ففي كلا الحالتين هناك علاقة جنسية يسعى كل طرف إلى تحقيقها .
ولكي لا يكون استنتاجنا هذا قائماً على اجتهاد لغوي وصرفي محض ، فإننا بحاجة إلى دليل قرآني يؤكد هذا الاستنتاج ويقره . ولدينا الدليل القاطع من سورة الأنعام على صحة ما نقول .
قال الله تعالى :(1/210)
{ ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ، وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } [ الإنعام : 128] ، فجماعة الإنس يعترفون أمام الله تعالى أن علاقتهم بشركائهم كان هدفها الاستمتاع الجنسي المحض . ولكي لا يكون هناك تفسيرٌ آخر لمعنى الاستمتاع ، فإن إخواننا الشيعة يطلقون مصطلح ( نكاح المتعة ) على نوع خاص من الزواج المشروط لديهم .
ومما يؤكد على أن لفظة ( استمتع ) إنما خصّ الله سبحانه بها الاستمتاع الجنسي قوله تعالى : { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } [ النساء : 24 ] .
ولكي لا تختلط الألفاظ التي تتصل مباشرة بالحواس ، فإن ما نراه بالعين يكون ( تلذذاً ) وما نتعامل به مع اللسان يكون ( تذوقاً ) وما نتعامل به متصلاً بالجنس يكون ( متعة ) وهذا يؤدي إلى أن نفهم أن لفظة استمتاع وفيها من حروف الزيادة الألف والسين والتاء يكون وجودهم في الفعل ومصدره طلباً للشيء ( (1) ) .
وعلى هذا فإن هذا الاستمتاع الجنسي المتبادل بينهما هو مطلب يسعى كلاهما إلى تحقيقه ، وهو الهدف الذي يجعل من هذه العلاقة مستمرة ودائمة وتجعل علاقة الشريكة بشريكها حميمة ومتصلة . ولكي يصل كل منهما إلى لحظة النكاح بينهما لا بد أن يسبق ذلك غواية وإغراء .
هذه الغواية يقررها القرآن الكريم في مقاطع حوارية عدة بين هؤلاء الشركاء .
قال الله تعالى :
{ ربنا هؤلاء الذين أغوينا ، أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون } [ القصص : 63]
وفي موضع آخر قال الله تعالى على لسان هؤلاء المجرمين :
{ فأغويناكم إنا كنا غاوين } [ الصافات : 32]
وفي مقطعين حواريين سبق الاستشهاد بهما يتأكد هذا الهدف .
في سورة الشعراء قال الله تعالى :
__________
(1) - أدب الكاتب ص 360 .(1/211)
{ وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعين } [ الشعراء : 91-96] .
هذا الاستمتاع الجنسي بينهما يجعل هؤلاء الظالمين يحبون شركاءهم محبة تتساوى مع محبتهم لله تعالى ، فأولئك يحققون لهم من المتعة الجنسية ما يفوق ربما استمتاعهم الجنسي الطبيعي مع أزواجهم إن كن متزوجات ، ومع شركائهم إن كن عازبات .
ولهذا نجد بعضاً من هؤلاء يقول الله عنهم :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165] ويتأكد هذا المعنى ثانية في قول هؤلاء الشركاء منا .
{ قالوا وهم فيها يختصمون ، تالله إن كنا لفي ضلال مبين ، إذ نسويكم برب العالمين ، وما أضلنا إلا المجرمون } [ الشعراء : 95-99]
ففي الآية الأولى ( يحبونهم كحب الله ) وفي الثانية ( إذ نسويكم برب العالمين ) .
إن تحقيق هذه الرغبة الجنسية لكليهما نكاد نجده عند المشاركات منا في حالتي الأرامل والمطلقات إذا كن مشاركات ، ولهذا تجدهن يعزفن عن الزواج ثانية لأن لديهن ما يحقق لهن هذه الرغبة ، ويكون ذلك مدعاة لإظهار إخلاص هذه المرأة بعد وفاة زوجها بعدم الزواج ثانية بهدف تربية أولادها .
وتكاد تجده عند بعض العوانس إن كن مشاركات فيكون لديهن ما يحقق لهن هذه الرغبة بطريقة ممتعة لا مرئية .
وأما إذا كانت المشاركة متزوجة فإنها تعامل زوجها باحتقار شديد وازدراء ، لأن ما هي عليه من قلة الحياء ، ومع وجود من يحقق لها حاجتها إلى زوجها ويكون بديلاً عنه أكثر إرواءاً لها ، ما يجعلها قليلة الاحترام للرجال عامة ولزوجها خاصة .
ومنذ عهد قريب ، حدثت هذه القصة الطريفة التي تؤكد ما ذهبنا إليه .
هناك امرأة متقدمة في السن ، قامت بتزويج أولادها الذكور ، وأسكنتهم عندها في بيتها . وبدأت زوجاتهن بالشكوى من أذى شيطاني في هذا البيت .(1/212)
ولما ضقن ذرعاً بما يحدث لهن ولأولادهن ، أخذ الأزواج بالبحث عن مصدر هذا الأذى وصارحوا والدهم بذلك .
عندئذ افتعلت أمهم مشكلة مع أبيهم ، وتركت البيت طالبة للطلاق .
وتدخل أهل الإصلاح لحل هذه المشكلة بين زوجين كبيرين في السن ولا يليق بهما أن يصل الأمر بينهما إلى ما وصل إليه .
لكنّ هذه المرأة أصرت على موقفها ، ولدى الضغط عليها انفجرت قائلة :
إن معها ثلاثة من الجن هم شركاؤها ، وهم أغلى عليها من أولادها وزوجها . وأن لديها الاستعداد لأن تضحي بعائلتها كلها ، ولا تضحي بواحد منهم . فما رأته منهم لم تره طوال حياتها لا من زوجها ولا من أولادها .
* * * * *
ولا بد لي هنا من التوقف عن الحديث عن الكيفية التي تتم بها حالة الاستمتاع الجنسي بينهما والتي لا تنعقد إلا بالنكاح .
وإذا كانت هذه الشراكة قد استكملت شروطها بتحقيق هذه الرغبة الجنسية المحضة بينهما ، فلا بد من الحديث عن البداية التي تبدأ فيها هذه الشركة .
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا هناك مُشارِِكون ؟ ولماذا ليس هناك مُشارَكون ؟ وإذا كنا قد تحدثنا عن الجانب المتصل بنا بتفصيل دقيق فلأننا منه ونعيش معه ونرى بأعيننا ظواهره ، فإن حديثنا عن الجانب اللامرئي وهو عالم الجن كان حديثاً عاماً لم نفصل فيه ، ولم نتحدث عن صفاته الخلقية التشريحية التي قررها القرآن الكريم ، والتي أوضحها بتفصيل دقيق .
وهنا لا بد لنا من أن نبدأ هذا الفصل بالحديث عن الشيطان .
الشيطان
ما من لفظة تستعمل على ألسنة العامة والخاصة ، في مجالس الوعظ ، وفي الأحاديث العامة كما تستعمل لفظة الشيطان .
وما من خطأ يرتكبه أحدنا ، أو إثم يقع فيه ، ثم يصحو منه ، إلا ويقول : لعن الله الشيطان . فما حدث معي لم أكن مقتنعاً به لولا الشيطان الذي زيّن لي ذلك .(1/213)
لقد استعمل القرآن الكريم هذه اللفظة المفردة ( 68 ) مرة واستعملها بلغة الجمع ( شياطين ) ( 17 ) مرة واستعمل لفظة ( شيطاناً ) مرتين . ولفظة ( شياطينهم ) مرة واحدة ويكون المجموع لهذا الاستعمال ( 88 ) مرة . وهذا العدد كافٍ للدلالة على أهمية هذا المعدود وخطورته .
والحقيقة الأولى التي نقررّها أن كل شيطان جانٌّ وليس كل جانٍّ شيطاناً . فالشيطان هو مخلوق لا مرئي ينتمي في شكله وتكوينه إلى صفات جنسه من عالم الجن . وإذا كانت لفظة ( الجن ) جمعاً لهذا الخلق فإن المفرد هو ( جان ) وقد استعمل القرآن الكريم هذا المفرد في أكثر من موضع . قال الله تعالى :
{ والجان خلقناه من قبل من نار السموم } [ الحجر : 27]
{ فيومئذ لا يُسئل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39]
ويتوالى استعمال هذا المفرد في خمسة مواضع أخرى من القرآن الكريم للدلالة على استعمال هذه اللفظة بمعنى الواحد من هذا النوع من الخلق .
وأما من يستعمل لفظة ( جني ) للدلالة على المفرد فهو خطأ محض إذ أن الياء في آخر الكلمة هي ياء النسبة . أي أن أفعال هذا الإنسان تنسب إلى عالم الجن ومواصفاته . وأما لفظة ( شيطان ) فلكي نفهم دلالتها اللغوية والمعنوية فإنه لا بد لنا من إعادتها إلى فعلها الماضي وهي ( شاط ) ويكون الفعل المضارع ( يشيط ) ولا يكون ( يشوط ) فهو فعل معتل أجوف قلبت ألفه ياء عند المضارعة . ويستعمل ( شوط ) في موضع لا يستعمل فيه ( شيط ) فنحن نقول شاط الكرة يشوطها ، وقطع في سباحته شوطاً كبيراً .
وأما ( يشيط ) فهو فعل دال على ما زاد احتراقه . فنحن نقول شاط الحليب ( (1) ) إذا غلى زيادة فاحترق وظهر آثار هذا الغليان الزائد في طعمه .
__________
(1) -أدب الكاتب ص 46 .(1/214)
وتكون لفظة ( شيطان ) على حالتين من المعنى اللغوي فيها . فالأولى أن تكون مصدراً للفعل ( شاط يشيط فهو شيط ) وأضيفت الألف والنون الزائدان إليه كما هو الحال في كلمة الألفاظ المنتهية بألف ونون زائدين يمنعان هذه اللفظة من الصرف . ومثالها رمضان من الرمض وشعبان من الشعب والشيطان من الشيط ( (1) ) .
وأما النوع الثاني فيكون بفتح الياء فهو في المصدر من شاط شيَطان كما نقول : مال مَيلان . ويكون وزنه الصرفي فعْلَ فَعَلان وهو مصدر دال على الحركة والاضطراب نحو طار طيران ( (2) ) .
وهذا الشَيطان لا يحدث إلاّ إذا زاد احتراق هذا المغلي زيادة عما هو بحاجة إليه . وسواء شاط الحليب أو لم يشط فكلاهما بحاجة إلى نار تحدث فيه هذا الغليان .
وهذا يقودنا إلى بسط الحقيقة التالية التي قررها القرآن الكريم . وهي أن عالم الجن قد خلق من النار . قال الله تعالى :
{ وخلق الجان من مارج من نار } [ الرحمن : 15] .
وفي موضع آخر قال الله تعالى :
{ والجان خلقناه من قبل من نار السموم } [ الحجر : 27]
لكن النار التي خلقوا منها ليست ناراً باردة كالتي نألفها ، وإنما هي نار متقدة تتعالى فيها ألسنة اللهب وتموج في أعماقها بحرارة عالية .
هذا الأصل الذي خلقوا منه ، إليه ترد طبائعهم . وانعكس هذا على أسلوب حياتهم ؛ ولهذا كانوا كثيري الحروب والفتن فيما بينهم ، هذه الحقيقة تؤكدها الملائكة الذين قالوا لله سبحانه عندما خلق الإنسان ، قالوا :
{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30]
__________
(1) -أدب الكاتب لابن قتيبة ص 233 حيث يقول : ما كان منتهياً بألف ونون ونونه أصلية صرفته في كل حال نحو دهقان من الدهقنة وشيطان من الشيطنة . ثم يقول المحقق في الحاشية : فإن كان شيطان مشتقاً من ( شاط ) أي احترق كان ممنوعاً من الصرف لأن نونه حينئذٍ زائدة .
(2) - المصدر السابق ص 469 .(1/215)
إن الملائكة وهم الذين وُكلوا بالإشراف على حياة هذا العالم ومتابعته ورصد حركاته وسكناته كانوا أكثر علماً بحقيقة هذا النوع من الخلق وبما تنطوي عليه حياتهم القائمة على حروب طاحنة فيما بينهم ، يذهب ضحيتها الآلاف منهم ، وكل ذلك اعتداء صرف لا هدف له إلاّ الفساد على الأرض .
لقد ظن الملائكة أن هذا الخلق الجديد وهو الإنسان سيسير في نظام حياته على ما سار عليه عالم الجن من إشعال للفتن ، وإيقاد للحروب لا يردعهم قانون ، ولا ينفع معهم دعوة الأنبياء والمصلحين . ومصداق هذا قوله تعالى عنهم :
{ وكم أرسلنا من نبي في الأولين ، وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون ، فأهلكنا أشد منهم بطشاً ومضى مثل الأولين } [ الزخرف : 6-8]
هذه هي الصفات العامة التي اتصف بها هذا النوع من الخلق ، ولكن هذا التعميم يقابله تخصيص لتلك الفئة التي هربت بدينها وبإيمانها بالله عز وجل معتزلة لما عليه هذا الخلق . قال الله تعالى على لسان هؤلاء المؤمنين الناجين بدينهم وبإيمانهم بربهم :
{ قالوا إنا كنا في أهلنا مشفقين ، فمنّ الله علينا ووقانا عذاب السموم ، إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم } [ الطور : 25-28]
هذه الفئة المنشقة التي اعتزلت قومها وما هم عليه من فتن وضلال وفساد يحمدون الله سبحانه على رحمته بهم إذ أنجاهم من عذاب السموم الذي أوقع أقوامهم في الضلال ، لقد كان هؤلاء مؤمنين حقيقيين نجوا بدينهم كما فعل أصحاب الكهف في اعتزال قومهم ناجين بدينهم . إن مقارنة كهذه تؤكد على أن القرآن الكريم أنزل علينا كما أنزل عليهم ، وهم مكلفون به كما كلفنا نحن به .
وهنا نعود إلى الحديث عن الشيطان فنسأل : هل هذا الخلق مادي محسوس ؟ أم معنوي ملموس ؟ ولكي نجيب على هذا السؤال فإننا بحاجة إلى خيال شاعري نستضيء به في فهم الآية الكريمة في قوله تعالى :
{ فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب } [ القصص :31](1/216)
فالعصا هنا مشبه ، والجان مشبه به ، وأداة التشبيه كأنّ ، ووجه الشبه الاهتزاز . وعلى هذا فإن أول صفة خلقية لهذا النوع من الخلق هو الاهتزاز ( (1) ) ويقابله في عالم الإنس الثبات .
هذا الاهتزاز هو أصل من أصول هذا العلم ، فكل من يرى في نومه شخصاً مهتزاً متمايلاً فإنه تنبيه إلى وجود شيطان يلاحقه .
هذا الثبات الذي يتصف به الإنسان في حياته قائم على وجود هيكل عظمي له يجعل حركته أكثر ثباتاً واطمئناناً . ويتضح هذا الثبات الذي مصدره وجود هيكل عظمي له هو أنه إذا كسرت قدم أحدنا وأراد أن يمشي فعندئذ يمشي مهتزاً لا ثابتاً ( (2) ) .
ويبنى على هذا الاستنتاج السابق استنتاج آخر ينطلق من الآية الكريمة . قال الله تعالى :
{ فكسونا العظام لحماً } [ المؤمنون : 14 ]
ولطالما ليس هناك هيكل عظمي للجان ، فمن المؤكد أنه لا يدخل اللحم في تكوينه الجسماني فاللحم يحتاج إلى جدار ينمو عليه ويكسوه وهذا الجدار هو العظم . إن ارتباط اللحم بالعظم تؤكده الآية الكريمة في قوله تعالى :
{ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً } [ البقرة : 259]
وليس هناك كائن حي لاحم يخلو من العظام تماماً .
هذا التكوين الجسماني الذي يختلفون فيه عنا ، يجعل لهم نظاماً غذائياً يتناسب مع تكوينهم فيعتمد غذاؤهم أساساً على حاسة الشم .
__________
(1) -والعرب تسمي الحيّة الخفيفة الجسم النضناض ( شيطاناً )أدب الكاتب ص 170 .
(2) - ويطلق العرب على صوت الجن لفظة ( عزف ) والجن تعزف . ومنه أخذتُ اسم ( العازف ) على من يستعمل الآلات الموسيقية لأنه يكون أثناء عزفه متمايلاً مهتزاً لا ثابتاً . ثم إنه يصدر أصواتاً غير مفهومة شبيهة بالأصوات الصادرة عن الجن ولا نفهم معناها . انظر مادة عزف : 1-كتاب الفرق لأبي حاتم السجستاني تحقيق د. حاتم صالح الضامن ط أولى 1987. 2-أدب الكاتب لابن قتيبة ص223 .(1/217)
هذه الحاسة منحتهم قدرة كبيرة على التعرف على الروائح والقدرة على التمييز بين أنواعها بشكل عجيب . ففي المصادر الدينية ، هناك حديث شريف يرتبط بذلك النفر من الجن الذين وفدوا على المدينة طلباً للطعام .
فالآية الكريمة من أواخر سورة الأحقاف تقول :
{ وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين } [ الأحقاف : 29] .
هذا النفر من الجن أصابهم الجوع فطلبوا من الرسول الكريم طعاماً فدعا لهم قائلاً : ( اللهم اجعل لهم من كل روثة وعظام طعاماً ) ( (1) ) .
ومن المؤكد أنهم لا يأكلون الروث ولكنهم يشتمون رائحتها ، ولا يأكلون من العظام إلا ما رق حجمه . كعظام الدجاج . ويكاد يكون الكلب – وهو من حيواناتهم – دليلاً على صدق ذلك ( (2) ) . فالكلب يعتمد غذاؤه على العظم ، فإذا ما أخذ عظمة كبيرة فإنه ينزوي بها لاعقاً لها وشاماً لرائحتها .
ولهذا نجدهم يتواجدون في الأماكن التي تنبعث منها الروائح بشدة ، كالحظائر ، ودكاكين الجزارة والمطاعم .
ومن هنا نستطيع أن نفهم ظاهرة الروائح التي نراها عند المشعوذين ، كالبخور والمسك ، فهم يحبون هذه الروائح ويعتبرونها من وسائل الرفاهية التي تمنحهم رائحة طيبة .
ومن هنا يمكننا أن نفهم ما يطلبه المشعوذون من زبائنهم الذين يريدون إلحاق أذى بأحد منهم ، يطلبون إحضار شيء من ملابسه ، وخاصة الداخلية منها ، والمتسخة بشكل خاص ، لما فيها من رائحة عرق صاحبها .
__________
(1) -وعن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن ) ، الترمذي في كتاب الطهارة برقم / 18 / ترقيم أحمد شاكر .
(2) - وفي حديث ابن مسعود عن الصراع الذي قام بين إنسي من أصحاب محمد وبين جانّي أنه قال له : إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذُرعتيك ذريعتا كلب . انظر مسند الدارمي في فضائل القرآن برقم ( 3381 ).(1/218)
حيث يستطيعون أن يصلوا إليه في أي مكان يكون فيه من خلال رائحة عرقه . ومن المؤكد أن لكل إنسان رائحة عرق خاصة به تميزه عن سواه .
وهذا يؤدي بنا إلى فهم ( البسملة ) التي أُمرنا بها عند بدء تناولنا لطعامنا .
هذا التكوين الجسماني لا بد له من كيس يحتويه ، ففي الحشرات تكون القشرة الرقيقة هي الكيس الذي يضم في داخله أجزاء الحشرة ويمنحها شكلها .
وفي الكائنات اللاحمة يكون الجلد هو الكيس . وأما الكيس الذي يضم هذا الكائن فهو كيس رقيق جداً ، ومرن ويكاد يكون مطاطياً إن صح التعبير . ومغطى بطبقة من الشعر الكثيف .
هذه الطبيعة المطاطية فيهم تمنحهم القدرة على التمثل . فيتطاول أحدهم أو يقصر من خلال ذلك ( (1) ) . وتمكّنه أن يأخذ الشكل الذي يريده بحسب حاجته إليه . ففي الأحداث التي وقعت في مكة قبل معركة بدر يحدثنا ابن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر ( من عداوة ) فكاد ذلك يثنيهم ، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعثم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعاً ( (2) ) .
وأما الشعر الكثيف الذي هو إلى الوبر أميل نستدل عليه فيهم من خلال ظاهرة ( المس ) لقد قال الله تعالى :
{ الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف :201] .
__________
(1) - عن ردف النبي صلى الله عليه وسلم أو من حدثه عن ردف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ردفه فعثرت به دابته فقال : تعس الشيطان . فقال I : لا تفعل فإنه يتعاظم إذا قلت ذلك حتى يصير مثل الجبل ويقول بقوتي صرعته . وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى يكون مثل الذباب . أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار برقم ( 22582 ) .
(2) -سيرة ابن هشام 273 دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان .(1/219)
فالمس لا يكون إلا إذا كانت هناك ( ملامسة ) ، فإذا ما حدثت تلك الملامسة بين وبر الشيطان وجلد الإنسان كان هناك ( قشعريرة ) .
إن كثافة الشعر هذه محبذة في صفات الرجولة ، لكنها صفة غير محمودة في النساء ، وكثيراً ما تقلل النساء من جمال إحداهن إذا وصفتها بأنها ( مشعرانية ) .
وكثرة الشعر على جسد بعض النساء يكون دليلاً على وجود مس شيطاني قديم متوارث في هذه العائلة . ولهذا نجد النساء يسارعن إلى إزالة هذا الشعر عن أبدانهن باستعمال المواد المساعدة لذلك .
هذه الصفة الثابتة في أساس خلقهم وهي اكتساؤهم بالشعر هي الوسيلة التي تؤدي إلى موتهم . فمن المؤكد أن موتهم يختلف عن موتنا . فنحن إذا متنا عدنا إلى التراب ، فهذا هو الأصل الذي خلقنا منه ، وأما إذا مات أحدهم احترق فعاد إلى النار التي هي أصل خلقهم . قال الله تعالى :
{ والجان خلقناه من قبل من نار السموم } [ الحجر :27] .
وعلى هذا فإن موت أحدهم يبدأ باحتراق رأس الوبر الذي يغطيه ثم ينتقل هذا المس الحراري إلى كافة جسمه فيكون حرقه ذاتياً لا دليل عليه إلا خروج دخان .
هذه الظاهرة يمكن لنا أن نتأكد منها بالتجربة ، فلو وضع أحدنا بضع شعرات على النار فإنه سيرى أن النار تبدأ من أطرافه لتصل إلى نهايته كأنه سلك كهربائي ناقل . وعندما يكتمل الاحتراق يخرج دخان بلا رائحة .
هذه الحقيقة تؤكدها سورة سميت باسم ( سورة الدخان ) يقول الله تعالى فيها :
{ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ، يغشى الناس هذا عذاب أليم } [ الدخان : 10-11] .
وتؤكد هذه الآية أن انتشار الدخان الذي يملأ السماء ، فيراه الناس ، إنما هو دال على أن قيامة هذا الخلق قد قامت . وبهذا يكون الاستنتاج المنطقي أن هذا الخلق الذي خلق قبل الإنسان تقوم قيامته قبله أيضاً .(1/220)
وإذا كانت سورة ( الدخان ) دالة على ذلك ، فإن سورة ( القيامة ) دالة على نهاية عالم الإنسان . وإذا كانت سورة ( القيامة ) تذكيراً لنا باليوم الموعود الذي تنتهي فيه حياة الإنسان على الأرض ، فإن سورة ( الدخان ) تذكير لهم بيومهم الذي تكون نهايتهم فيه .
هذا الفهم هو الذي يدفعنا دائماً إلى التأكيد على أن في القرآن الكريم جانباً يخصهم ويتحدث عنهم ويحذرهم وينذرهم . كما هو بالنسبة إلينا تماماً .
فهو كتاب سماوي يكرس الحقائق والقوانين للعوالم كلها بلا استثناء ، ويفصل لا على الطريقة المنهجية . بل على الطريقة الاستنتاجية ، ما هو خاص بكل عالم من العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى .
ظاهرة الاحتراق هذه التي تكون نهاية لأحدهم تجعلنا نتوقف عند فهم حقيقي للحديث الشريف الذي يحدد الاحتراق كعامل رئيسي فيه . قال عليه الصلاة والسلام :
( إذا رأيتم الحريق فكبروا فإنه يطفئه ) ( (1) ) وفي لفظ ( فإن التكبير يطفئه ) ( (2) ) . فعلى ضوء فهمنا السابق يطرح السؤال التالي : ما علاقة التكبير بالحريق ؟؟
فأن يستعيذ الرسول الكريم I بالله من الغرق ، فهذا أمر مدرك لأنه عذاب لقومين سابقين هما قوم نوح وقوم فرعون . كان فيه نهايتهما .
ويكاد ينحصر معنى ( الاستعاذة ) واستخدامها فيما هو متصل بالشيطان.
فما هي العلاقة الخفية التي تربط الحريق بالاستعاذة ؟
وللإجابة على هذا السؤال ، فإننا نتحدث عن هذا النزاع الداخلي القائم بين عالم الجن . أفراداً وأمماً ودولاً وشعوباً . وهذا يؤكده قول الله تعالى :
__________
(1) -وأخرج النسائي في الاستعاذة ( 5533 ) بتحقيق عبد الفتاح أبو غدة قول الرسول I : ( وأعوذ بك من الغرق والحريق ) .
(2) - قال الخاوي رواه الطبراني عن عمرو بن شعيب ورواه البيهقي بلفظ ( استعينوا على إطفاء الحريق بالتكبير ) ورواه الطبراني عن جرير ورفعه بلفظ ( أطفئوا الحريق بالتكبير) . انظر كشف الخفاء جزء 1، ص 89 .(1/221)
{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } [ الأعراف :194] .
ويقوم فيما بينهم صراع دموي كالذي نشهده بين البشر ، وما أكثر منازعاتهم وحروبهم ، حيث يتساقط منهم الآلاف من القتلى ، ويبطشون ببعضهم بطشاً دموياً… قال الله تعالى على لسان الملائكة عند خلق الإنسان :
{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30]
فالملائكة يقررون حقيقة هذا النوع من الخلق . الذي تمتلئ حياته بالفتنة والحروب . فإذا ما قامت حرب بين طائفتين منهم سقط فيها العديد من القتلى ، ويكون موتهم عندئذ احتراقاً .
ويؤدي هذا الاحتراق الجماعي فيهم مع كثرته إلى احتراق ما حولهم ، وإذا كان الحريق مرئياً . فإن أسبابه غير مرئية ، وتكون الفتنة التي أحدثت هذا الصراع فيما بينهم ليس لها من دواء شاف غير التكبير .
فالتكبير يذكر هؤلاء بأن هناك قوة أكبر من قوتهم قادرة على إبادتهم جميعاً هي قوة الله تعالى . التي نلجأ إليها كلما حزبنا أمر أو وقعت علينا مصيبة.
وهكذا فإن سقوط عدد من القتلى من الجانبين فيما بينهم ينجم عنه دخان ، وبفعل الرياح والأوراق الجافة تبدأ النار .
ولعل هذا الفهم يقودنا إلى القول إن حرائق الغابات غير المسببة هي نتيجة لمعارك دامية سقط فيها العديد من القتلى من الجانبين كنزاع على الحدود أو مصادر العيش . والغابات هي إحدى مناطق سكناهم .
وكل حرق واحتراق في الرؤيا دالٌ على مشكلة ذات مصدر شيطاني .
وكذلك الانفجار الذي تتولد عنه حرائق . كانفجار أنبوبة الغاز أو محرك السيارة . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
* * * * *
لقد حاول الحديث السابق أن يلقي الضوء على هذا النوع من الخلق . ولكن هناك جوانب أخرى لا بد من الحديث عنها كي نتمكن من رسم ملامح الصورة لهم . وهنا سنعالج في هذه الفقرة نقطة مهمة تلقي المزيد من الضوء عليهم وذلك من خلال أحجامهم .
ونبدأ السؤال ، ما هو حجم الشيطان أو ذاك الجان قياساً إلى حجم الإنسان ؟(1/222)
ولا بد لنا من أن نعالج هذا السؤال من خلال الآية الكريمة . قال الله تعالى :
{ لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين :4] .
إن لفظة ( تقويم ) التي وصف بها الإنسان وصفاً مخصوصاً ، لا يمكن لأية لفظة أخرى أن تحل مكانها . وهي لفظة مفردة في معناها ، دالة دلالة عميقة لا يغني عنها قولنا : ( أحسن صورة ، أو شكل أو جسم ) ولكي نبين ما فيها فيجب إعادتها إلى أصلها :
فلفظة ( تقويم ) من الفعل ( قوّم ) فإذا فُك التضعيف أصبح مصدرها ( قَوَم ) بفتح الواو فإذا زيدت ألفٌ بعد الواو أصبحت اللفظة ( قوام )
ويبدأ المعنى عندئذ يتضح . فالقوام دال على الطول ، وهذا القوام هو ميزة تنفرد بها بعض النساء وتوصف بها كعنصر من عناصر الجمال .
فإذا ما كانت الفتاة جميلة قصيرة ، يُعاب جمالها لقصرها . وإذاً فالآية تقرر حقيقة ينفرد بها الإنسان عن غيره من الكائنات العاقلة وهي الطول . هذا الطول يقابله قصر يتصف به الأفراد من عالم الجن ، وإلا لما كان هناك فضل يميز الإنسان عن سواه بتقويمه . فالطول والقصر صفتان متضادتان في عالمين مختلفين في حقيقة الخلق . ولكي يتأكد هذا الاستنتاج فإننا سنتوقف عند تحليل لفظتين قرآنيتين تفصح كل واحدة منهما على هذا التضاد في الطول والقصر . فالطول يلزمه قيام ، والقصر يلزمه وقوف .
قال الله تعالى في وصف أصحاب الكهف :
{ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض } [ الكهف : 14] . لقد وصفهم الله تعالى بالقيام ، لأن القيام مقرون بالطول ، أما هذا النوع من الخلق وهو عالم الجن فقد وصف الله الكافرين منهم بالوقوف لا بالقيام . قال تعالى :
{ ولو ترى إذ وُقفوا على النار } [ الأنعام :27] . وفي آية تتبعها في السورة نفسها قال الله تعالى : { ولو ترى إذ وُقفوا على ربهم } [ الأنعام :30] .
ففي الآيتين تكرر الفعل ( وُقفوا ) ولو كانوا بشراً لتكرر ( قاموا ) .(1/223)
فالقيام يلزمه صفتان ثابتتان هما الطول والحركة ، ولذلك يقال : قام على خدمته .
أما الوقوف فيلزمه الثبات والسكون ولذلك يقال : وقف بين يديه . ولا ينظر إلى الطول في موقف كهذا . وما أحوج هذا النوع من الخلق إلى الثبات عند الحساب لأن حركتهم الاهتزاز . ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا سمّى الله تعالى نهاية الحياة للبشر بيوم القيامة ، لأن البشر كلهم يقومون ، ويلزمهم في قيامهم الحركة . ولم يقل يوم الوقوف . لأن أمر الوقوف يلزمه الثبات وخاصة لهذا النوع من الخلق الذي يعتمد في تكوين جسمه على الاهتزاز . إن خلقاً مجرداً من اللحم والعظم والطول يجعل ثقله النوعي محدوداً . بل ضعيفاً جداً ، ولا نرى من مظاهره إلا إذا وقف أحدهم على يد إنسان ، فإنه يشعر بأن يده ثقيلة .
وإذا ما وقف على رأسه أحس بتثاقل في جفنيه ( (1) ) ، وعندئذ يبدأ بالتثاؤب العميق ، هذا التثاؤب يختلف عن تثاؤب النعاس ، فإذا اشتد أكثر أصبح التثاؤب مصحوباً بدموع تخرج من عينيه مع كل مرة يتثاءب بها . ولا ينجلي ذلك إلا بقراءة آيات من القرآن كآية الكرسي مثلاً .
هذا القصر الذي يميز هذا النوع من الخلق إذا ما تمادى أصبح مسخاً ، وهذا المسخ يقابله الانسلاخ في العنكبوت . وسنتحدث بتفصيل دقيق عن هذا الانسلاخ في فصل العنكبوت . لكن الذي يهمنا هو أن نقرر حقيقة للقرآن الكريم تتعلق بالمشاركين المرئيين منا . هذه الحقيقة تتجلى في أن هؤلاء المشاركين من البشر ( الظالمين ) تحل لعنة القصر عليهم ثم المسخ في مراحل حياتهم المتأخرة أسوة بشركائهم . وإنك لتجد هذا المشارك أو المشاركة وهما في سن الخمسين قد مُلئا شحماً ولحماً ، ثم من بعدها يبدأ المسخ فيهم تدريجياً ، وبمعدل يكون ثابتاً كل خمس سنوات مرة ، فيبدءون بالنحول والقصر معاً .
__________
(1) - عن أبي هريرة - رضي الله عنه – قال : الذي يرفع رأسه ويخفض قبل الإمام إنما ناصيته بيد شيطان . أخرجه مالك في النداء للصلاة بلا رقم .(1/224)
مرحلة المسخ هذه ـ وهي تسمى عند العنكبوت بالانسلاخ ـ تمر على فترات زمنية متلاحقة تصل إلى 7-8 مرات في مراحل حياتهم ( (1) ) .
ومع التمادي في كبر سنهم وعدد الانسلاخات التي تمر بهم ، فإنك تجد هذا المشارك يزداد قصراً ونحافة فيصبح طوله أكثر من متر بقليل ووزنه متدن جداً .
هذا الوضع الجسماني المتردي يرافقه عزوف عن الطعام ، وهلوسة غير مفهومة أحياناً ، ولكنها في أحيان كثيرة تتعالى أصواتهم ويكون ذلك مقروناً بألفاظ نابية ليس فيها حياء على الإطلاق .
وهذا هو أرذل العمر الذي يصير إليه هؤلاء ، فيفقدون القدرة على التحكم بألفاظهم وتصرفاتهم . هذا الوصف العام هي حقائق يكرسها القرآن الكريم عن هؤلاء ، ويبدأ ذلك بالحشر .
والحشر هو اليوم الذي يتم فيه تصنيف كل فئة بحسب ما هي عليه . وتحشر كل طائفة مع مثيلاتها . وإذا كان هناك حشر عام ، فإن هناك حشراً خاصاً لهؤلاء المشاركين مرئيين ولا مرئيين ، ظالمين ومجرمين .
والصفة الجامعة لهم التي تميزهم معاً عن باقي الخلائق هو قصرهم ، وإذا صح ذلك فهو مسخهم . قال الله تعالى :
{ ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } [ الأنعام :22] . ويتأكد هذا الحشر الخاص في قوله تعالى :
{ ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس } [ الأنعام :128] .
فالآية تقرر أن الحشر هنا هو لتلك الطائفة من الجن التي شاركت الإنس واستكثرت هذه المشاركة . وفي قوله تعالى :
{ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } [ الفرقان :17] .
وفي آية أخرى يقول الله تعالى :
{ فوربك لنحشرنهم والشياطين } [ مريم : 61] .
وتؤكد هذه الآية أن هؤلاء المشاركين إنما يحشرون مع شياطينهم على وجه الخصوص . وأن الله سبحانه يمنح هؤلاء المشاركين الفرصة من جديد ليتعارفوا بينهم . قال الله تعالى :
{ ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم } [ يونس : 45] .
__________
(1) - عجائب العنكبوت . كارم غنيم .(1/225)
إن الله سبحانه يمنحهم هذه الفرصة بعد أن أمضوا حياة طويلة مع بعضهم بعضاً ، فلم يشعروا بإرهاق الحياة ومعاناتها ، وتخلصوا من كل تكليف أُمروا به ، ورضوا بهذه الشراكة الممتعة اللاهية شراكة أبعدتهم عن الإيمان بالله تعالى .
لكنهم بعد أن يتعرفوا على بعضهم يبدأ العداء فيما بينهم ، ويدركون عندئذ سوء المصير الذي أمامهم يقول الله تعالى :
{ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [ الأحقاف :6] .
ونخلص من ذلك كله إلى القول أن الذي يجمع بين هؤلاء في ذلك الموقف هو مسخهم جميعاً .
الريح والجن
أمام جسم مجرد من اللحم والعظم ، لُدينيّ مرن ، له ثقل نوعي خفيف ، تقوم حركته على الاهتزاز المتواصل ، لا يمشي كما نمشي نحن ، بل يقفز للانتقال قفزاً ، ويتمايل كما يتمايل المخمور الثمل . أمام جسم كهذا يمكن إذا توفر له عامل إضافي خارجيّ كالريح أن تحمله معها في أي اتجاه تنطلق إليه .
وقبل أن نخوض في الحديث عن العلاقة بين الريح والجن لا بد لنا من أن نتوقف لتأكيد الصفات الخلقية التي بسطنا الحديث عنها ، من فهم الحديث الشريف التالي :
أخرج أبو نعيم في الدلائل (ص 130) عن أبي هريرة مرفوعاً:
بينا أنا نائم اعترض لي الشيطان ، فأخذت بحلقه ، فخنقته ، حتى إني لأجد برد لسانه على إبهامي .
فيرحم الله أخي سليمان عليه السلام ، فلولا دعوته لأصبح مربوطاً تنظرون إليه.
وعنه أيضاً مرفوعاً :
أن عفريتاً من الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلاة ، فأمكنني الله منه ، فأخذته وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد . حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم أجمعون ، فذكرت دعوة أخي سليمان :
{ رب و هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي } [ ص : 35 ] .
قال : فرددته خاسئاً .
وأخرجه أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه مطولاً . وفي روايته .(1/226)
(( فلولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثوقاً يلعب به ولدان أهل المدينة)) ( (1) )
فالحديث الشريف هذا يؤكد على أنه عالم لا مرئي ، صغير الحجم ، قصير ، لا وزن نوعي له ، ولا حجم محصور بهيئة كهيئة ما نعلمه عن الكائنات الأخرى .
هذا التأكيد يقودنا إلى الحديث عن صلة هذا النوع من الخلق بالريح . ويمكن لنا بادئ ذي بدء أن نفهم ذلك من الحديث الشريف الثاني :
لقد كان الرسول الكريم I إذا عصفت الريح قال :
( اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ) ( (2) ) .
فأما الجانب الخير من هذه الريح فمعلوم لدى الجميع ، وأما الجانب الذي يستحق الاستعاذة منه فبحاجة إلى إيضاح . فالاستعاذة بادئ الأمر لا تكون إلا من الشيطان . قال الله تعالى :
{ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ، وأعوذ بك ربي أن يحضرون } [ المؤمنون : 96-97] .
وأما أن يكون هناك في الريح جانب يستحق الاستعاذة منه فهذا يدل على أن الرسول الكريم I كان يدرك من خلال قوله ( وشر ما أرسلت به ) أن هناك عذاباً واقعاً على عالم مرئي ولا مرئي في آن واحد ويدلّ على أن هذه الريح الشديدة إنما تحمل معها أثناء مرورها أعداداً كبيرة من هذا الخلق ، ولانعدام وزنهم لا يستطيعون أن يدفعوها عنهم .
وعلى هذا يؤخذ أصل من أصول هذا العلم وهو الحشرات الليلية الطائرة فكلها حشرات مؤذية للإنسان تزعجه أثناء نومه .
فإذا حملت الريح أحدهم فلا يستطيع الخلاص منها حتى تصل إلى نهايتها ، وبذلك يكون هذا المحمول قد ابتعد عن قبيلته بعداً تقتضيه المسافة التي قطعتها الريح .
__________
(1) -حياة الصحابة للكاندهلوي الجزء الثالث ص 578 دار القلم دمشق .
(2) -أخرجه مسلم في صلاة الاستسقاء برقم 899 عبد الباقي ، والترمذي في الدعوات برقم 3449 أحمد شاكر .(1/227)
وعندئذ يجد نفسه مضطراً للبحث عن مكان يأوي إليه ، فإذا سقط في مدينة دخل هو ومن معه في مجاريها ، ومن هناك يبدأ بالبحث عن مجرى خاص يوصله إلى أحد البيوتات . وعندما يدخل في فتحة التصريف لهذا البيت ، فإنه يجد أمامه بلوعتان رئيسيتان إحداهما في المطبخ ، والأخرى في الحمام . ويفضل هذا الجان أو الشيطان بلوعة الحمام ، فيصل من خلال مجراها إلى الحمام نفسه ، وهناك يطيب له المقام ، حيث يجد فيه وخاصة إذا كان الحمام ( أفرنجياً ) غذاءه . ففيه من الروائح ما يكفي .
ويجد فيه لذته حيث يستمتع بالنظر إلى النساء وهن يتعرين فيه . ويجد فيه الدفء إذا كان الجو بارداً .
هذا التواجد في الحمام يؤكده الحديث الشريف في الدعاء الذي كان عليه الصلاة والسلام يدعوه إذا دخل الحمام فيقول :
( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث ) ( (1) ) .
ولفظة الخبائث تعني وجود شيء إضافي هو أكبر من الخبث ، ومختلف عنه . ويكون دليل ذلك في الرؤيا خروج الصراصير من البلاليع ، فإذا كان هؤلاء الشياطين أشد أذى كانت في الرؤيا فئران صغيرة دالة على الإناث ، والجرذان دالة على الذكور وكل ما خرج من البلاليع أو دخل فيها فهو دال عليهم . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
إن دخولهم إلى البيوت لا يكون إلا عن هذا الطريق ، فإذا استوطنوا الحمام فعندئذ يبحثون عن شراكة لهم مع إحدى ساكنات هذا البيت . وهذه الوسيلة هي واحدة من وسائل عدة تفتح لهم طريق الشراكة .
هذا النوع من الخلق بهذه الصفات الجسمانية ، يصعب الإمساك به ، كما يجعل من المستحيل إيقاع أية عقوبة بدنية عليه .
__________
(1) - رُوي هذا الدعاء بأكثر من صيغة . فعن أبي أمامة أن رسول الله I قال: ( لا يعجز أحدكم إذا دخل مرحضه أن يقول : اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس ومن الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ). وفي رواية :( من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم ). أخرجه ابن ماجة في الطهارة وانفرد به برقم ( 299 ) .(1/228)
وأمام تماديهم في غيهم شرورهم ، كان لا بد من البحث عن وسيلة تتلائم مع طبيعة تكوينهم لإيقاع العقوبات عليهم وتنفيذها . وليس هناك سوى الريح طريقة فعالة لذلك .
ومن هنا يمكن لنا أن نفهم لماذا منح الله سبحانه سليمان عليه السلام سلطتين مرتبطتين ببعضهما وفي آن واحد ، هما سلطته على الريح والجن معاً . ولم تمنح هاتان السلطتان لنبي قبله أو بعده .
أما أنه منح السلطة على الجن فهو أمر مؤكد بالدليل القرآني : قال تعالى :
{ وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } [ النمل :17] .
واستخدمهم سليمان عليه السلام عمالاً بين يديه . قال تعالى :
{ ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } [ سبأ : 12] .
ومن الجلي أنه أخضعهم لأعمال قاسية شاقة جعلتهم ينتظرون موته بفارغ الصبر . قال تعالى :
{ فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } [ سبأ : 14] . هذه السلطة التامة على الجن ما كان لها أن تؤتي ثمارها لولا تلك السلطة الثانية التي منحها الله تعالى لسليمان عليه السلام وهي الريح . قال تعالى :
{ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره } [ الأنبياء : 81] .
هذه الريح التي منح الله سبحانه سليمان عليه السلام السلطة عليها فجعلها بين يديه كان لها وقت معلوم ( فغدوها شهر ) أي ذهابها لمدة شهر ، وهذا الشهر هو شهر النفي والعذاب لكل من استحق العقاب منهم ، فإن استقام أمر ذلك المنشق فإنه سيعود بعد شهر إلى أهله وعشيرته وقد ثاب رشده . ( ورواحها شهر ) أي عودتها . قال تعالى :
{ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر } [ سبأ : 12] .
هذه السلطة على الريح كانت كافية لردع كل من يتمرد أو ينحرف ، وتأتي قوة هذا السلاح من انه لا مرئي شأنه في ذلك شأن من تحمله معها عقوبة صارمة له .
* * * * *(1/229)
هذه الريح نفسها استخدمت سلاحاً مبيداً للأمم السابقة . ويمكن لنا الآن أن نفهم سر استخدام الريح لإيقاع العذاب في أقوام كعاد وثمود . قال تعالى :
{ وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } [ الذاريات :41-42] .
وفي موضع آخر قال تعالى :
{ وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما } [ الحاقة : 6-7] .
فقوم عاد إنما وقع عليهم العذاب بالريح لأنهم كانوا مشاركين شراكة جماعية ممتدة وبقدر ما كانت الريح عذاباً للمرئيين منهم ، فهي عذاب أشد للامرئيين ، وإلا فأين تكمن الضرورة في استمرار هذا العذاب سبع ليال وثمانية أيام بلا توقف ؟
لقد كانت الريح في شدتها ومدتها عذاباً قاتلاً لكل أولئك اللامرئيين الذين لا يستطيعون مقاومتها والاحتماء منها .
ولكن المتأمل لقوم عاد والعذاب الذي حل بهم يدرك عند قراءة الآية من سورة النجم في قوله تعالى :
{ وأهلك عاداً لأولى } [ النجم : 5]
يدرك أن قوم عاد هؤلاء ، هناك من وقع عليهم العذاب قبلهم في منطقتهم نفسها . فأن يقرر القرآن وجود عاد أولى ، ولا يقرر وجود عاد ثانية ، يؤكد استناداً إلى مصطلح الأولين أن هذه المنطقة تعرضت لعذابين مماثلين على قومين متباعدين أحدهما من الجن والثاني من الإنس وأن هؤلاء كانت لهم شراكة جماعية بأولئك . وربما يؤكد هذا الفهم من خلال فهم مصطلح الأولين قوله تعالى : { هذا نذير من النذر الأولى } [ النجم : 56 ] .
وربما تكون هناك صلة لغوية ذات مغزى بين هذا العذاب الأول الذي وقع على أولئك وبين العذاب الثاني الذي وقع على هؤلاء من خلال تسميتهم ( بعاد ) . إذ أن هذه التسمية تتصل بالفعل ( عاد ) أي رجع .
* * * * *(1/230)
هذه الريح استخدمت استخداماً إيجابياً لصالح المؤمنين في غزوة الخندق . لقد حاصر كفار قريش المدينة ، وكان المسلمون فيها قد حفروا خندقاً عميقاً يحميهم من هجوم المشركين إلى عمق المدينة . فاستخدم الله سبحانه الريح لتشتيت شملهم وتفريق جموعهم ، فاقتلعت خيامهم ، وانكفأت قدورهم ، فلم يجدوا من حل أمامهم إلا الرحيل . قال تعالى :
{ إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها } [ الأحزاب :9] .
ومن الجدير بالذكر قبل أن نختم الحديث عن الريح من أن نشير إلى لفظة الريح ففي القرآن الكريم كله جاءت مصحوبة بالعذاب والتهديد إلا في مواضع ثلاثة قال تعالى :
{ فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } [ ص :36] .
والموضع الثاني قال الله تعالى :
{ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة } [ يونس :22] .
والموضع الثالث قول يعقوب عليه السلام :
{ إني لأجد ريح يوسف } [ يوسف : 94] .
وأما لفظة ( الرياح ) فجاءت كلها بشارة بالعطاء والخير ، مصحوبة بالمطر . قال تعالى : { وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } [ الأعراف : 57 ] . وقوله تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } [ الحجر : 22 ] .
هذا التحديد بين لفظتي ( الريح ) و ( الرياح ) ضروري للمعبّر إذا عُرضت عليه الرؤيا التي استعمل فيها الرائي إحدى هاتين اللفظتين . كي يتمكن من التمييز بينهما . فإذا التبس الأمر عليه ، فإنه عندئذٍ يسأل الرائي عن شدة هذه الريح التي رآها . فإن كانت شديدة فهي إنذار بعذاب واقع ، وإن كانت خفيفة فهي بشرى بخير تحمله . وهذا أصل من أصول هذا العلم .
* * * * *
آخر نقطة بقيت أمامنا ، هي أن نعالج قوة الإبصار التي مُنحها هذا النوع من الخلق زيادة علينا نحن البشر .
قال الله تعالى متحدثاً عن إبليس لعنه الله :
{ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } [ الأعراف : 28] .(1/231)
فالآية تقرر أن عالم الجن يستطيع أن يرانا في ليلنا ونهارنا . حيث لا يحجبنا عنهم حاجب من ضياء أو ظلام . لكننا نحن لا نستطيع أن نراهم أبداً .
هذه الحقيقة التي تقررها الآية الكريمة منها ننطلق لنسمي عالم البشر عالماً مرئياً بالنسبة لهم ونسميهم عالماً لا مرئياً بالنسبة لنا .
قوة بصرهم قامت منذ بدء خلقهم ، لأنهم كانوا يعيشون على هذه الأرض وحدهم وكانوا بحاجة ماسة ( وهم أول الخلق عليها ) لهذه القوة البصرية في التنقل والاستقرار . فلما خلق الإنسان ، خلقت معه قوة البصر التي يكون بحاجة إليها . والإنسان عادة لا يعمل في الظلام ، وإذا جاء الليل خلد إلى النوم والراحة .
وعلى هذا فالإنسان بحاجة إلى ضوء ليرى ، فإذا فقد الضوء فقد قوة بصره . ومن هنا نقول إن الإنسان ينتمي إلى عالم الشمس .
أما هم فليسوا بحاجة إلى الضوء في الرؤية ، فهم يرون في الظلام وفي الضياء ، ولما كان الظلام ، لمن يعيش فيه بحاجة إلى نور يستضيء به ، فقد جعل الله سبحانه هذا النور مصدره القمر . ومن هنا نقول إن عالم الجن ينتمي إلى عالم القمر . قال تعالى :
{ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ، ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، يفصّل الآيات لقوم يعلمون } [ يونس : 5] .
وتبدأ هذه الصورة تنجلي عن نظامين كونيين هما الشمس والقمر .
فالآية الكريمة تقرر أن النظام الذي اعتمده الله عز وجل في المواقيت والتاريخ هو النظام القمري .
ولتأكيد هذه الحقيقة قال الله تعالى :
{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم } [ التوبة : 26] .
ومن هنا يكون اعتماد رؤية الهلال تحديداً لدخول الشهر القمري .
إن القدرة على الرؤية ليلاً ميزة كبرى منحت لعالم الجن ، لأنهم يعيشون حياتهم اليومية ليلاً ، من عمل وسفر وحياة . فإذا جاء النهار خلدوا إلى النوم والراحة .(1/232)
هذا النظام القمري الذي يتبعه من يعتمد عليه في حياته ، يقابله نظام شمسي معاكس له في نظام من يتبعه ويعتمد عليه . فالنهار هو المساحة التي يتحرك فيها الإنسان ، ويعمل وينتج والليل هو للنوم والراحة . قال الله تعالى :
{ وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم } [ الأنعام : 13] .
فالآية تقرر أن هناك سكوناً لعالمي الليل والنهار ، فيكون السكون ليلاً لنا ، ويكون نهاراً لهم . ثم يتأكد هذا الفصل بيننا وبينهم في قول الله تعالى :
{ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } [ الروم : 23] .
فيكون منامنا ليلاً ، ويكون نومهم نهاراً .
إن اعتماد عالم الجن على النظام القمري جعلهم على دراية كبيرة بالنجوم ومواعيد ظهورها واختفائها ، لأنها هي الدليل الذي يحدد لهم طرقات سفرهم ، ومواعيد أعمالهم ، وتحديد ولاداتهم وأمواتهم . قال الله تعالى :
{ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } [ الأنعام : 97] .
ويقرر أن هذه النجوم هي علامات يهتدون بها في تسيير شؤون حياتهم . قال الله تعالى :
6 . { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } [ النحل : 16]
هذا التخصيص لعالم الجن باعتمادهم القمر نظاماً وتأريخاً . واعتمادهم على النجوم لتحديد مواعيد سفرهم وتنقلاتهم . كان مدخلاً للبعض في محاولة فهم هذا النظام للتواصل مع أفراد من عالم الجن .(1/233)
وما انحرف عالم كبير كأبي معشر الفكلي عن عقيدته إلاّ لأنه دخل في علم النجوم وتمادى فيه لمعرفة أحوالهم وطرق التعامل معهم . فقد كان هذا الرجل في أول أمره من أصحاب الحديث وأنه بينما هو في طريقه إلى مكة زار مكتبة الوزير علي بن يحيى بن المنجم وتعلم فيها علم النجوم ، وأعرق فيه حتى ألحد ، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام أيضاً ( (1) ) .
وهذا ما دعا إليه الحديث الشريف الذي يقول :
( من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) ( (2) ) .
إذ أن التمادي في الحديث عن الكواكب والنجوم يقود إلى الحديث عن الأبراج ومواقيتها ، وهذا كله ضرب من ضروب التنبؤ الكاذب بالغيب . فالله سبحانه يقرر أن عالم الجن كله جاهل تماماً بأية معرفة لهم بالمستقبل ، لو كانوا يعلمون الغيب ، لعلموا بموت سليمان عليه السلام قبل وعند وقوعه . ولم يتحملوا الأعمال الشاقة التي كلفهم بها قبل موته . قال الله تعالى :
8. { فلما قضينا عليه ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } [ سبأ :14] .
__________
(1) -ياقوت الحموي ج 5 – ص 467 س10 نقلاً عن الحاشية من كتاب التراث اليوناني لعبد الرحمن بدوي ص 144 وما بعدها وفيه مناقشة مستفيضة عن اشتغال الإمام الشافعي بعلم النجوم في شبابه ولكنه أنكر اشتغاله به فيما بعد .
(2) -عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد . وانظر أبي داود في الطب /3905/ محي الدين عبد الحميد . وابن ماجة في الأوب /3726/ فؤاد عبد الباقي . وأحمد في مسند بني هاشم /2001/ إحياء التراث . وانفرد أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة بحديث عن علي – رضي الله عنه – قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : ولا تجالس أصحاب النجوم .(1/234)
ونصل من خلال ذلك إلى القول : إنّ قوة الإبصار التي جعلتهم يرون ليلاً . إنما هو دال على أن شبكية العين لديهم مزودة بطاقة تساعدهم على هذا الإبصار زيادة علينا .
هذه الشبكية في قوة النظر تختلف من نوع إلى نوع . فعالم البشر لا تساعده شبكية العين على الرؤية ليلاً ، وبالتالي فلا يستطيع أن يرى عالم الجن أبداً ، وكل من يدعي أنه يراهم منا فهو مشارك لهم ولا شك في ذلك .
هذه القوة في شبكية العين نجدها عند الحمار ففي الحديث الشريف أُمر بالاستعاذة إذا سمعنا الحمار ينهق لأنه يكون قد رأى شيطاناً .
وللديك في عينه شبكية أقوى من كل ذلك لأنه يستطيع أن يرى الملائكة ، فإذا رأى الديك ( ملاكاً ) صاح . ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي I قال :
إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكاً .
وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطاناً ( (1) ) .
فإذا أردنا أن نحدد طبيعة هذين العالمين بحسب شبكية العين قلنا إن المرئيين لهم شبكية واحدة تسمح لهم بالرؤية نهاراً وتعتمد في رؤيتها على ضوء الشمس . وأن اللامرئيين لهم في أعينهم شبكتان تمكنهم من الرؤية ليلاً ونهاراً . وهم يعتمدون في ذلك على نور القمر .
__________
(1) - راجع البخاري في كتاب بدء الخلق ( 3127 ) د . البغا ، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء ( 2729 ) عبد الباقي .(1/235)
ولما كانت صلة المرئيين باللامرئيين مرهونة بالقسم المنشق من عالم الجن وهم فئة الشياطين الذين يتزعمهم إبليس . وأن هذه الفئة إنما تمارس على المرئيين أذاها وشرورها وضلالها وغوايتها . فإننا نصل إلى أصل من أصول علم الرؤيا يقول : إن النظام القمري تكون رؤيته في النوم في كل كائناته الحية مصدر أذى وشر وضرر للإنسان . فمن حيواناته الكلاب والذئاب والضباع ، ومن طيوره البوم ( (1) ) والخفاش ، ومن زواحفه الفئران والجرذان والصراصير والزواحف الليلية . ومن حشراته الطائرة الناموس والبرغش والذباب الليلي . قال النبي I : ( خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ) ( (2) )
وسمين بالفواسق لأنهن كلهن خرجن عن أمر الله بالسجود لآدم واتّبعوا ابليس الذي فسق عن أمر ربه ، فلا يصيب الإنسان منهن إلا كل ضرر وأذى مثل إبليس تماماً .
وأن النظام الشمسي يكون رؤيته في النوم في كل كائناته الحية معروفة المعالم في خيرها وشرها على الإنسان . كالحمار والفرس والبغل والخرفان والبقر والذباب وكل أنواع الطيور النهارية ، والنحل والنمل .
فالكائنات الحية في النظام القمري تقوم بأذاها أثناء غياب الإنسان في نومه . وعلى هذا فإن الأحداث التي يراها الرائي في نومه في رؤيا صادقة ويكون فيها الليل والنجوم دالة على أذى واقع عليه من مصدر قمري يكيد له .
بعد هذا العرض لا بد من وجود حد فاصل بين عالمي الإنس والجن من حيث بدء كل زمن ونهايته لدى كل منهما . ولتحديد ذلك نتوقف عند الآيات القرآنية التي عالجت بدء اليوم ونهايته بالنسبة لكل نظام قمري كان أو شمسي . قال تعالى :
__________
(1) - فالمسعودي ينقل عن الجاحظ أن البومة لا تخرج بالنهار خوفاً من العين لأنها تظن أنها حسناء وهي أصناف ، وكلها تحب الخلوة بنفسها . راجع المستطرف في كل فن مستظرف ص 354 .
(2) - رواه البخاري ( 4 / 34 ) في جزاء الصيد – ومسلم ( 1198 ) في الحج .(1/236)
{ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } [ البقرة : 238] .
إن تحديد الصلاة الوسطى أثار إشكالية لدى عامة المفسرين . فبعضهم قال هي صلاة الظهر وبعضهم قال هي صلاة العصر ، وأكثرهم صواباً قال هي صلاة الفجر .
لكنهم كلهم كانوا مجتهدين بلا دليل . وأما الدليل في أن الصلاة الوسطى هي صلاة الفجر ، فهذه فيها أمران .
الأول منهما أنها تتوسط بين صلاتين متساويتين في عدد الركعات فقبلها صلاة العشاء ، وبعدها صلاة الظهر ، وكلتاهما صلاتان ركعاتهما أربع .
والأمر الثاني أنها تتوسط زمنياً بين فترتين هما الفترة ما بين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، وبين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، إذ يكاد يكون الوقت متساوياً بين الفترتين مع مراعاة فارق التوقيت .
فصلاة الفجر هي التي تحدد لكلا العالمين بدء يومه ونومه ، فعالم الجن يخلدون إلى النوم ، وعالم الإنس ينطلق للحياة .
وإذا كانت صلاة الفجر فيها هذا البدء وهذه النهاية ، فإن وقت المغرب يعيد الكرّة من جديد . فعند المغرب يبدأ عالم الجن يومه ، لينتهي اليوم لدى عالم الإنس .
لقد عظم الله الفجر فأقسم به قال تعالى :
{ والفجر } [ الفجر : 1] .
لقد سمّى السورة بكاملها بهذا التوقيت وأقسم به . وما ذلك إلا لكون هذا الوقت له هذه الأهمية الكبرى التي تحدد بدء ونهاية اليوم لكلا العالمين .
لقد جمع الله ميقات الشروق والغروب في أكثر من آية ، قال تعالى :
{ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } [ ق : 39] .
فالآية تطلب من كلا العالمين أن يبدأا يومهما بالتسبيح ، فعالم الإنس يستيقظ قبل طلوع الشمس وعالم الجن يستيقظ قبل شروق القمر . ويكون على المؤمنين من كلا العالمين أن يبدأوا بتسبيح الله وحمده قبل أي عمل سيقومون به .
هذا المعنى وهذا الفهم تؤكده الآية الثانية . قال تعالى :
{ وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها } [ طه : 130] .(1/237)
إن الوصول إلى فهم أملته الآيات السابقة يزيل الإشكال عن آية قرآنية كانت موضع اجتهاد لدى بعض المفسرين الذين مروا بالآية الكريمة مروراً عابراً دون أن يتمكنوا من بسط حقيقتها وهي الآية في قوله تعالى :
قال تعالى : { رب المشرقين ورب المغربين } [ الرحمن : 17] .
تقع هذه الآية في سورة ( الرحمن ) وهي السورة التي تخاطب عالمي الإنس والجن معاً مذكرة لهم بما قدمه الله سبحانه لهما من حجج وبراهين ، داعياً لهم إلى الإيمان به وحده . وتكاد تكون هذه الآية إشكالية من خلال فهم المفسرين لها .
حيث يتوالى قول الله تعالى : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] في إحدى وثلاثين آية من السورة نفسها .
ومن الجليّ أن الآية الكريمة تؤكد وجود مشرقين ووجود مغربين . ولكن ما التوقيت الذي يحدد كلاً منهما ؟
فعالم كابن كثير يقول : ( المشرقين ) مشرقي الصيف والشتاء . و ( المغربين ) مغربي الصيف والشتاء . ويقول في الآية الكريمة . { فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنّا لقادرون } [ المعارج : 40 ]
وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس . ولكنه لم يذكر ( المغارب ) ولم يتطرق إليها .
وأما القرطبي فيقول :
أي هو رب المشرقين . ويحيلنا إلى الآية رقم ( 5 ) من سورة الصافات ويقول : وقد قضي الكلام في ذلك هنالك .
وأما الطبري – رحمه الله تعالى – فيقول :
يعني ( المشرقين ) مشرق الشمس في الشتاء ، ومشرقها في الصيف .
و( المغربين ) مغرب الشمس في الشتاء ، ومغربها في الصيف .
وبسند مرقم برقم 25513 ينقل عن مجاهد قوله :
مشرق الشتاء ومغربه ومشرق الصيف ومغربه .
وبسند مرقم برقم 25514 ينقل عن قتادة قوله :
مشرقها في الشتاء ، ومشرقها في الصيف .( (1) )
__________
(1) - هذه الأقوال نقلت من تفاسير هؤلاء العلماء عن طريق قرص ليزري يجمع تفاسيرهم.(1/238)
ويلاحظ – مما سبق – أن هؤلاء العلماء ربطوا المشرقين والمغربين بفصلين من فصول السنة هما الصيف والشتاء .
وهنا يطرح سؤال آخر . لماذا لم يربطوا ذلك بفصلي الربيع والخريف ؟ ولماذا حددوا فصلي الشتاء والصيف لهذين المشرقين والمغربين ؟
ومن المؤكد أن هؤلاء العلماء إنما استمدوا تفسيرهم لهذه الآية من ابن قتيبة فهو أقدمهم مولداً(1) حيث يعتد فصلاً بعنوان ( باب معرفة ما في السماء والنجوم والأزمان والرياح ) فيقول : وللشمس ( مشرقان ) و ( مغربان ) وكذلك القمر .
فالمشرقان : مشرقا الصيف والشتاء ، والمغربان : مغربا الصيف والشتاء .
فمشرق الشتاء : مطلع الشمس في أقصر يوم من السنة .
ومشرق الصيف : مطلع الشمس في أطول يوم من السنة .
والمغربان على نحو من ذلك .
ومشارق الأرض ومغاربها في جميع السنة بين هذين المشرقين والمغربين(2) لقد حدّد ابن قتيبة المشرقين ببدء فصلي الشتاء والصيف ، لكنه لم يحدد المغربين واكتفى بالقول : والمغربان على نحو من ذلك .
ومع ذلك فقد ذكر ـ وحده ـ لفظة القمر دون أن يتمكن من تحديد علاقة القمر بالمغربين أو بالمشرقين .
وفي اعتقادي أنهم جميعهم قد جانبهم الصواب فيما ذهبوا إليه ، حيث غاب عن ذهنهم أن للقمر شروقاً وغروباً كما أن للشمس شروقاً وغروباً . وأن هذا كله يتجدد في كل يوم . ويكون تحديد هذين الشروقين وهذين الغروبين مرتبطاً بميقاتي الفجر والمغرب .
ففي الفجر يبدأ القمر بالغروب وتبدأ الشمس بالشروق .
وفي المغرب يبدأ القمر بالشروق وتبدأ الشمس بالغروب .
فيكون لدينا كل يوم شروقان وغروبان يحددان ما هو متصل بعالم الإنس ، من الفجر إلى المغرب ، وما هو متصل بعالم الجن من المغرب إلى الفجر . هذا التحديد يقودنا إلى فهم قول الله تعالى :
__________
(1) ولد في مستهل رجب بالكوفة في سنة ثلاث عشرة ومائتين من الهجرة ، راجع ترجمة ابن قتيبة في أدب الكاتب ص 6 .
(2) المصدر السابق ص 71 .(1/239)
{ وله ما سكن في الليل والنهار } [ الأنعام : 17 ] .
إذ تبين أن هناك عالمين يسكنان عن الحركة ، أحدهما ليلاً وهو عالم الإنس والثاني نهاراً وهو عالم الجن . ويتواصل هذا التحديد في قوله تعالى :
{ ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } [ الروم : 27 ]
فالآية توضح بجلاء أن هناك عالمين يتبادلان الحياة على هذه الأرض ، ولكل منهما نظامه حيث ينام الإنسان ليلاً ويسعى إلى الرزق نهاراً . وهناك عالم نيام نهاراً ويسعى إلى رزقه ليلاً .
وإذا ما كان لدينا خيال واسع فإننا نستطيع أن نتخيل أن هذه الكرة الأرضية ما هي إلا عبارة عن بيت كبير ، يضم عائلتين ، بينهما جدار وهمي لا مرئي يتقاسمون الحياة فيه ، وكل عائلة تنتظر نوم العائلة الأخرى لتبدأ بالعمل .
هذه الحقائق تؤكد أن الحياة على هذه الأرض مستمرة بليلها ونهارها بلا انقطاع ، ومؤكدة بذلك عظمة الله تعالى الذي وضع لكل عالم من النظم والقوانين ما يجعله مستقلاً بذاته .
لقد أكدت السنة النبوية هذه الحقائق عندما حثنا النبي الكريم I على أن نمنع أولادنا من اللعب في الطرقات عند صلاة المغرب .
وما ذلك إلا لحماية هؤلاء الأولاد من أي أذى قد يقع عليهم من هؤلاء الذين بدأوا يومهم في تلك الساعة . فالرسول الكريم I قال :
(( إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفّوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً ( (1) ) .
يلتقي عالما الإنس والجن في بعض المناسبات الدينية في العمل بتوقيت ما بعد العصر حيث يكون أولئك قد بدأوا بالاستيقاظ . فالأعياد يبدأ ميقاتها من بعد عصر يوم الوقفة . وتبدأ نفرة الحجيج من عرفات من بعد صلاة العصر .
__________
(1) - انظر البخاري في بدء الخلق / 3128 / .(1/240)
ولا بد لي قبل أن أختم هذا الفصل من أن أشير إلى رحمة الله تعالى بعالم الجن ، حيث أباح لنا أن تكون صلاتا الظهر والعصر خافتتين لأن ذلك العالم يكون نائماً .
وأباح لنا أن نجهر في صلاة التهجد وهي التي تكون في منتصف الليل تشجيعاً لأولئك الذين هم الآن مستيقظون وقادرون على سماعنا .
إبليس أول الشياطين
ما من أحد يستطيع أن ينكر سماعه بهذا الاسم ، بل وربما يكون قد لحقه منه أذى بطريقة أو بأخرى من الطرق الشيطانية التي يجيد استخدامها .
فأن يكون هو أول الشياطين فهذه تسمية أطلقها عليه الله عز وجل قال تعالى في قصة آدم وحواء وإغراء إبليس لهما :
{ وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلك الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } [ الأعراف : 22] . ولما لم يقم أي كائن من ذلك النوع من الخلق بعمل كالعمل الذي قام به إبليس فقد استحق تسميته بالشيطان . فالطبري يروي بإسناد أن اسمه الحقيقي هو الحارث ، وأن العرب في جاهليتهم كان لديهم اعتقاد بأن المرأة التي يطول عقمها تنذر إن هي حملت وأنجبت مولوداً ذكراً فإنها ستسميه عبد الحارث ( (1) ) . وإن صحت رواية كهذه فإنه يكون اعترافاً مبكراً بدوره في إحداث العقم لدى النساء ( (2) ) . وأن يحاول هذا المخلوق أن يصيب النساء بالعقم فهذا هدف رئيسي من أهدافه في القضاء على هذا النوع من الجنس البشري الذي استلبه مكانته وقربه من الله تعالى .
__________
(1) - تاريخ الطبري ، المجلد الأول ص 150 .
(2) - ( لما حملت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد فقال : سمّيه عبد الحارث فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره ) . وانظر في تخريج هذا الحديث : الترمذي في تفسير القرآن ( 3077 ) مرفوع متصل . وأحمد في مسند البصريين ( 19610 ) عن سمرة عن النبي I .(1/241)
... لقد سماه القرآن الكريم ( إبليس ) وهو مصدر للفعل ( أبلس ) ومعناه ( تحير ) ( (1) ) أي احتار في أمره وأضطرب في تفكيره . وعلى هذا يكون معنى اسمه هو ( المحتار ) .
... نعم لقد احتار هذا الكائن في أمره عندما رأى أن هناك مخلوقاً جديداً مستحدثاً أُمر بالسجود له والإقرار بمكانته .
وعندما رأى ببعد نظره أن هذا المخلوق قد كُرّم عليه بصفتين حُرم هو منهما وهما العقل والجسم . فإنه سيصب جام غضبه على هاتين الصفتين ، ويناصبهما العداء .
... فأما عداؤه لعقل الإنسان فإنه يحقق به الغاية الكبرى عندما يتمكن من إلغاء هذا العقل كلياً بجنون صاحبه ، وجزئياً في أحوال أقل ضرراً من الجنون .
... وأما عداؤه لجسم الإنسان فإنه يحقق به غاية أخرى عندما يتمكن من إيقاع الأمراض والعلل في جسم الإنسان خاصة ، وفي فنائه بالحروب والمنازعات عامة .
... ولديّ قاعدة أنطلق منها في تأكيد دوره على إمراض الإنسان في قولي : ( إن من يسلم من أذى الشيطان لا يمرض ) . ولا تكون السلامة تامة من الأمراض – ما لم تكن مقدّرة من الله عز وجل – إلا في المواظبة على قراءة القرآن . قال تعالى :
{ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82] .
... هذا الكائن المتمرد استطاع أن يحصل من الله سبحانه عند طرده من الجنة على قوة كفيلة له بتحقيق أهدافه .
... وأول هذه الأهداف هو أنه ضمن لنفسه حياة مديدة مدة حياة الإنسان على الأرض تمكنه من متابعة كل فرد من هذا الخلق الجديد . قال تعالى على لسانه :
{ قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } [ الإسراء : 62] .
__________
(1) - المرجع السابق ص 150 .(1/242)
... ولما ضمن لنفسه حياة ممتدة ، كان لابد له من أن تكون بين يديه الوسائل التي تمكنه من تحقيق ذلك . فمنحه الله هذه الوسائل المتمثلة بالقوة والعدد والعتاد ، ثم زيادة على ذلك منحه الإذن بمشاركة هذا الإنسان في ماله وأولاده . قال تعالى : { قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا ، واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } [ الإسراء : 63-64] .
... أمام هذه الإمكانيات التي مُنحها ، والتي لم تُمنح لمخلوق مثله ، بدأ يعرض أهدافه ويعلن عن نواياه وخططه بكل وضوح وجرأة . قال الله تعالى على لسانه : { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17]
وكان أول عمل قام به إبليس أن أعد لنفسه جيشاً قوياً في أعداد كبيرة من ذريته .
... وكلفهم بمتابعة عالم الإنس . ولكي يتمكن من إحكام السيطرة على هذا العالم الممتد فقد جعل لكل منطقة قائداً أعلى يتولى الإشراف عليها ولديه من الجنود العدد الكافي لذلك .
... هذا الجيش اعترف به القرآن الكريم على لسان شركائهم فقال :
{ فكبكبوا فيها هم والغاوون ، وجنود إبليس أجمعون } [ الشعراء : 94-95] .
... وعيّن لكل منطقة قائداً ينفذ أوامره فيها وهذا ما يؤكده قول الله تعالى :
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين } [ الفرقان : 31] .
... ولا بد لكل من يكلف بمناصبة نبي من الأنبياء العداء من أن يكون قائداً في هذه المعركة . ويتجلى هذا الدور الذي اضطلع به إبليس وجيشه في قصة مدينة مأرب وما حل بسدها فقد كان هو وجيشه وراء القضاء عليها .(1/243)
فالآيات في سورة سبأ تستعرض النعم التي أنعم الله بها عليهم لكنهم أعرضوا عن شكرها ، وتمادوا في اعتدادهم بأنفسهم وأموالهم . هذا الاعتداد هو الذي جمعهم مع إبليس في صعيد واحد ، فهو القائل معتداً بنفسه أمام السجود لآدم { أنا خير منه } [ ص : 76] .
... وليس هناك من حل لهؤلاء أفضل من أن يقود إبليس جيشه للإيقاع بهم ، لقد أشعل فيما بينهم نار العداوة والإعراض عن الله ، واستطاع أن يستغرقهم في فتن مادية صرفتهم عن عبادة الله تعالى . وليس هناك أفضل منه في التوقيع على أمر القضاء عليهم مكلفاً بذلك من الله تعالى :
{ ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ، وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ } [ سبأ : 20-21] .
... هذا الجيش الإبليسي الشيطاني تحدثنا عنه كتب السيرة .
... فالطبري – في تاريخه – يتحدث عن ( أوشهنج ) بأنه ورث الملك عن جده جيومرت ، وأنه عذاب ونقمة على مردة الإنس والشياطين .
... وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالناس ، وكتب عليهم كتاباً في طرس أبيض اخذ عليهم فيه المواثيق ألا يعرضوا لأحد من الإنس ، وقتل مردتهم وجماعة من الغيلان ، فهربوا من خوفه إلى المغاور والجبال والأودية .(1/244)
... وذكروا أن إبليس وجنوده فرحوا بموت أوشهنج ، وذلك أنهم دخلوا بموته مساكن بني آدم ، ونزلوا إليهم من الجبال والأودية ( (1) ) . وبغض النظر عن هذه الرواية ومدى صحتها فإنها تثبت أمرين أساسيين من صفات إبليس أولهما أن له جيشاً هو قوام سلطانه ، وبه يتمادى إبليس على عباد الله المؤمنين ، فيثير الفتن بينهم ، ويشجع أعداءهم عليهم ، ويغريهم بهم . وهذا ما يؤكده الله تعالى في قوله لإبليس : { واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك } [ الإسراء : 63] . وأما الأمر الثاني الذي تثبته هذه الرواية فهو منعهم من الاختلاط بالناس فهربوا من خوفه ، لكنهم بعد موت ( أوشهنج ) عادوا فدخلوا مسكن بني آدم . ويرد في كنز العمال الحديث التالي فيقول ( (2) ) : قال الزبير عن هشام بن عروة قال : جاء عمر بن عبد العزيز قبل أن يستخلف إلى أبي فقال له : رأيت البارحة عجباً كنت فوق سطحي مستلقياً على فراشي ، فسمعت جلبة في الطريق فأشرفت فظننت عسكر العسس ، فإذا الشياطين تجول كردوساً حتى اجتمعوا إلى خربة خلف منزلي ، قال : ثم جاء إبليس . فلما اجتمعوا هتف إبليس بصوت عالٍ ، فتسارعوا . ولهذه الرواية صلة متصلة بحديث الرسول الكريم I بالدعاء الذي يكون حرزاً من الشيطان وليس هذا موضوع بحثنا ، ولكنني أوردته فقط للتأكيد على أن لإبليس جيشاً قوامه كل من اتبعه من الشياطين وهدفه هو ممارسة هذا الأذى الشيطاني لا على الأفراد المؤمنين فحسب ، بل على كل أمة مؤمنة . ... وما من شك أن ما رآه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان كرامة من الله تعالى له إذ أطلعه في هذا المشهد الغيبي على نوع من خلقه وهي كرامة مخصوصة له .
6- أولياء
__________
(1) - تاريخ الطبري ، المجلد الأول 169 دار سويدان بيروت – لبنان .
(2) - كنز العمال المجلد الثاني ص664 للعلامة علاء الدين الهندي بتحقيق الأستاذان الشيخ صدر رزق والشيخ صفوة السقا نشر وتوزيع مكتبة التراث الإسلامي حلب .(1/245)
ما من لفظة حملت معنى دينياً مستغرقاً فيه كما حملته هذه اللفظة ( أولياء ) وهي جمع مفرده ( ولي ) كما نقول ( أغنياء ) ومفرده ( غني ) .
ولا يكاد يجاريها في معناها فيما تتناقله ألسنة العامة غير لفظة ( نبي ) أو ( رسول ) . فالعامة يصفون الجماعة من الصالحين بالأولياء ، ولا يصفون الجماعة من المنحرفين بهذه الصفة .
ويكاد يستخدم مفردها هذا في هذا المعنى المطابق لجمعها فيقولون عن الرجل الصالح ( ولي ) والمرأة الصالحة ( ولية ) دون أن يضاف إليها ما يحدد طبيعة الموالاة فيها .
وهكذا نرى بأن هذه اللفظة قد استخدمت في معنى أحادي يدل على الصلاح والإيمان . لكننا عندما نتوقف عندها في استعمال القرآن الكريم لها يفاجئك تماماً أنها استخدمت فيه في أربعة وثلاثين موضعاً . لكن ثلاثة مواضع فقط استخدمت فيها للدلالة على أولئك الذين كانت ولايتهم لله وحده .
وفي إحدى وثلاثين موضعاً استخدمت فيه للدلالة على أولئك الذين كانت ولايتهم للشيطان .
وأما المواضع الثلاث التي دلت على أولئك المؤمنين فهي في قوله تعالى :
{ ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62]
{ نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة } [ فصلت : 31]
{ إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34] .
وأما باقي المواضع التي استخدمت للدلالة على الموالاة للشيطان فإليك بعضها . قال الله تعالى :
{ إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } [ الأنعام : 121]
{ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء :76]
{ قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } [ الفرقان : 18] .
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت } [ العنكبوت : 41] .(1/246)
ومن الجلي أن هذه اللفظة ( أولياء ) دلت على مصاحبة طويلة بين المُولي والمُولى وهي مصاحبة فيها ثبات في هذا الولاء وعلاقة متبادلة فيما بينهما . فالله سبحانه يتولى المؤمنين الذين يتولونه . وكذلك فإن الشيطان يتولى من يتولاه .
لقد أردت من هذه المقدمة ، أن أتوصل إلى إقرار حقيقة هي أن هذه اللفظة لم تكن في استعمالها أحادية دالة على ولاء المؤمنين فحسب بل دلت بحسب ورودها على الموالاة للشيطان بعدد أكبر بكثير مما دلت عليه للمؤمنين .
وهذا يقودنا إلى نزع الغطاء عن هذا المعنى الديني في هذا اللفظ الذي تغطيه شفافية دينية وروحية عالية . سنكون بأمس الحاجة إليه عندما نعالج ظاهرة العنكبوت .
قوما نوح ولوط
كنا في فصل سابق تحدثنا عن صفات مشتركة جمعت بين هذين القومين ، فكلاهما كان مشاركاً شراكة جماعية ، وكلاهما كان ساخراً بعذاب الله ، وكلاهما وقع عليه عذاب ماحق . قوم نوح بالغرق ، وقوم لوط بالحجر .
وفوق هذا وذاك ، فقد جمع القرآن بينهما في قضية خطيرة جداً عندما وصف زوجتي هذين النبيين بالخيانة ، وضرب بزوجتيهما المثل الأعلى بكفرهما وخلودهما في النار . قال الله تعالى :
1- { ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين } [ التحريم : 10] .
وما من قضية أثارت جدلاً عميقاً وخلافاً اجتهادياً كما أثارته خيانة هاتين الزوجتين .
وكل من أراد أن يعالج هذه الخيانة ، فقد عالجها على معنى ظاهر ، وفسّر هذه الخيانة تفسيراً يقلل – من حيث لا يدري – بمكانة زوجيهما .
أحد هذه الاجتهادات أن خيانة هذه الزوجة إنما تمثلت بأنها كانت عوناً لقومها على زوجها . فقد كانت تخبرهم بكل ما يفعله ، وبمن حضر إليه .
ولا تخرج أقوال المفسرين في محتواها عن هذا المضمون . ولي ردود عدة على قول كهذا :(1/247)
أولاً : لقد كان زواج نوح عليه السلام هو أطول زواج بين رجل وامرأة ، وليس من المعقول أبداً أن نوحاً عليه السلام كان غافلاً طوال هذه المدة عن الموقف العدائي الذي تكنه زوجته له .
وهل يُعقل أن تؤثر زوجة محبة قومها على زوجها ، وأن تسهم في تأجيج نار العداوة بينه وبين قومها ، ولا يستطيع أن يكتشف ذلك ولو مرة واحدة ؟
إذا كان هذا ممكناً فإنّه الزوج الغافل المخدوع الذي يكون آخر من يعلم .
ثانياً : إذا اكتشف الرجل أن زوجته بهذه الصفات ضده ، فهل يعقل أن يبقيها على عصمته ، وقد أباح الله له الطلاق ؟
ثالثاً : هل كان نوح عليه السلام منبتّ الجذور ليس له عائلة من أقارب وأخوات يخبرونه عما تفعله زوجته به ؟
رابعاً : إن افتراضات كهذه إن صحت فهي تسلبه رجولته وإرادته أمام زوجته وتجعل منه زوجاً ضعيف الشخصية ، مسلوب الإرادة معها .
هذا كله لا يقبله عقل ولا يستسيغه منطق ، فرجل كنوح عليه السلام من الأنبياء ذوي العزم من الرسل وما كان ليقبل أبداً كل ذلك لو كان يعلم حقيقة زوجته . وإذاً فلا بد من أن يكون الأمر أكثر خفاء أو سرية في حياة هذه الزوجة . وقبل أن نصرّح بهذا السر الخفي لا بد لي من أن أجري مقارنة بين لفظتي ( الخيانة ) و ( الزنا ) .
فالخيانة قد تعدد معانيها ، فهناك خيانة للوطن ، وخيانة للأمانة ، لكنها تعني في الحياة الزوجية ، خيانة أحدهما للآخر . وأمام هذا يتجلى فرق واضح بين الزنا وبين الخيانة .
فواقعة الزنا هي نكاح لا شرعي محرم بين جنسين مختلفين قد يكون معلناً . أما الخيانة فهي إخفاء الزاني لما أقدم عليه عن زوجته ، أو إخفاؤها لهذه الواقعة عن زوجها .
وفعل الزنا يقوم به من قد يكون متزوجاً أو غير متزوج على حد سواء . أما الخيانة فلا تطلق إلا على من يخون زوجته مع امرأة أخرى وبسرية مطلقة .(1/248)
لكنّ هناك فرقاً جوهرياً يبقى بين الحالتين هو أن واقعة الخيانة مهما كانت سرية على المتزوج فإنها قد تترك أثراً لدى شريك حياته يقوده إلى الشك . فإذا شك رجل بخيانة زوجته ، ولم يكن لديه أي دليل يؤكد شكه فإنه عندئذ يحق له أن يلجأ إلى الملاعنة .
لقد قطعت آيات الملاعنة في سورة النور الشك باليقين ، فإما أن تثبت الزوجة براءتها ، أو تثبت وقوعها في هذه الخيانة . قال الله تعالى :
2- { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أنّ غضب الله عليها إن كان من الصادقين } [ النور :6- 9] .
آيات الملاعنة هذه وضعت قانوناً إلهياً يهدف إلى قطع الشك باليقين عمن يراوده شك في زوجته . فإن لم يكن هناك شك إطلاقاً – مع ارتكاب أحد الزوجين فاحشة الزنا – فإنها عندئذ تكون خيانة . فهي لم تترك أثراً يقود إلى الشك .
ولكي نستوفي هذا الجانب لا بد لنا من أن نتوقف عند الآية التالية ، قال الله تعالى :
3- { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ، وحرم ذلك على المؤمنين } [ النور : 3 ] .
فالآية الكريمة توضح بجلاء أن واقعة الزنا يقوم بها في كل أحوال طرف مشرك فإذا وسعنا مفهوم ( مشرك ) فمن الممكن أن يكون طرفاً مشاركاً .
وإذا كانت واقعة الزنا فيها طرف مشارك مرئي ، فإن واقعة الخيانة فيها طرف مشارك لا مرئي .
وهذا يقودنا إلى تحديد مفهوم ( الخيانة ) التي وُصمت بها هاتان الزوجتان . لقد أثبتنا من قبل أن قوم نوح وقوم لوط كانا مشاركين شراكة جماعية ، ولكن مَن مِن هذين النبيين يستطيع أن يثبت هذه الشراكة على زوجته ؟(1/249)
وإن العرض السابق يصل بنا إلى نتيجة لا يرقى إليها أدنى شك في أنها شركة زواج . فليس من المعقول أبداً أن تكون إحداهما أو كلتاهما قد مارست الزنا بشكل ظاهر . وكان يمكن عندئذ أن يكون هناك شك يحتاج إلى إثبات . ولكن كانت هناك خيانة من نوع لا مرئي مع شريك لا مرئي أيضاً نفى وجود أدنى شك في هذه المرأة .
لقد استطاعت زوجة نوح عليه السلام ، ثم زوجة لوط عليه السلام من بعدها أن تنفي أدنى شك في شراكتها من خلال ظاهر صالح يخدع أي رجل ، وينقلها درجة أعلى مما عليه الزوجات الأخريات . ولا يمكن لهذا المظهر الصالح أن يكتشف جوهر خداعه أي رجل مهما بلغت قوته وذكاؤه وحرصه على عرضه .
هذا المظهر الصالح الخادع إنما يتجلى في ممارسة الشعائر الدينية للزوجة أمام زوجها ممارسة تهدف إلى تأكيد صلاحها وقناعة زوجها بأن زوجته ( وليّة ) .
هذه الولاية لها حد شفاف لا مرئي يفصل بين الولاية لله ، والولاية للشيطان .
إن هذا الحد اللامرئي بينهما لا يمكن أن يكون بلا نهاية . وكانت نهاية هذا التمادي في الولاء للشيطان عندما ركب نوح السفينة مع أولاده وممن آمن به .
في هذا الموقف العصيب اكتشف نوح أن له ابناً عاقاً كان يعيش بمعزل عنه . وأن هذا الابن قد تمادى في عقوقه لأبيه فقال :
4- { سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } [ هود : 43] .
5-ولم تنفع معه إقناع أبيه له بأنه { لا عاصم اليوم من أمر الله } [ هود : 43] .
وبقدر ما كانت المحنة قبل ركوب السفينة محنة عصيبة في عراك بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر مع مدة زمنية طالت قرابة عشرة قرون ، فإن هذه المحنة كانت أشد وأعظم بعد رسو السفينة واستقرارها .(1/250)
لقد وقف نوح عليه السلام حائراً بين الوعد الذي وعده الله إياه بأن ينقذه وأهله من الغرق مع قومه ، وبين ذلك الولد الذي عق أباه فكان من المغرقين . إنها حيرة لها ما يبررها . ولنستمع إلى هذه الحيرة بالنبرة الحزينة التي انطلق بها لسان نوح عليه السلام لربه :
6- { قال ربي إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } [ هود : 45] .
لقد وعدتني بأهلي كلهم ، ولست أرى ابني وزوجتي معهم . فأين وعدك الذي وعدتني إياه ؟ وكان الجواب الإلهي حاضراً وكاشفاً عن حقيقة مريعة مرعبة ظلت خافية على نوح عليه السلام قروناً طويلة . قال الله تعالى مجيباً له :
7- { قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } [ هود : 46] .
أن يكون هناك ولد له من زوجته ، ثم يقال له : ( إنه ليس من أهلك ) فهذه حقيقة مرة مؤلمة . وأن هذا الولد هو نتيجة لعمل غير صالح .
وليس هناك من عمل ينتج ولداً إلا إذا كانت هناك واقعة نكاح بين اثنين طرفاها ذكر وأنثى فإن كانت هذه الواقعة شرعية كان ولداً شرعياً . فإن لم تكن شرعية فهذا الولد يكون من حمل سفاح .
ولما كان أمر كهذا يستحيل وقوعه في بيت نوح عليه السلام فقد انتفى الطرف الذكر المرئي في هذه الواقعة . وعندئذ لا بد أن يكون هناك ذكر لا مرئي مشرك مشارك قام بعملية النكاح مع زوجته دون أن يرافق ذلك أدنى شك بها وبصلاحها .
والسؤال الذي يطرح نفسه ، والذي طُرح عليّ مرات عديدة هو : هل يمكن أن تقوم بين هؤلاء الشركاء علاقة جنسية كالتي تقوم بيننا ؟ وإن حدث ذلك فهل ينتج عنه حملاً وإنجاباً ؟
لقد كنت أوضحت من قبل أن الهدف الذي يجمع هؤلاء في المشاركة هو المتعة الجنسية . ولكن هل يحدث نتيجة لذلك حمل وإنجاب ؟(1/251)
ولا بد من إيضاح هذا الجانب لنفهم كيف كان هناك لنوح ولد ليس له . فالله سبحانه قال له ( إنه ليس من أهلك ) ولم يقل له ( إنه ليس منك ) أي أن هذا الولد من زوجتك وهذا ما عنته كلمة ( أهلك ) أي إنه منها لا منك .
إن القرآن الكريم يؤكد على أن النطفة عند البشر إنما هي مكونة من الماء قال الله تعالى :
8- { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً } [الفرقان:54]
وأما النطفة عند الجن إنما هي مكونة من نار . قال تعالى :
9- { والجان خلقناه من قبل من نار السموم } [ الحجر : 27 ]
ولما كانت لكل نطفة رحم خاصة بها ، هي في أصل خلقها معدة لاستقبال نطفة تتلائم معها فإن هناك مانعاً مؤكداً من أن تستقر نطفة نارية في رحم امرأة إنسية ، أو أن تستقر نطفة إنسية في رحم امرأة جانّية . وهذا يقودنا إلى الحديث عن الرحم .
فالرحم عبارة عن كيس معد لاستقبال نطفة تتناسب معه حجماً ، وتتناسب معه نمواً . فهو كالأرض التي لا ينمو فيها نبات لا ينسجم مع خصائصها . ولكون هذا الرحم مقاساً بدقة كبرى ليتناسب مع نطفته ، فإن أي زيادة أو نقص على هذه النطفة لا تنتج حملاً. قال تعالى :
10- { الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار } [ الرعد : 8] .
ولفظة ( تغيض ) تعني ( تنقص ) وأما الزيادة فهي واضحة . وهذا المقدار الذي حدده الله تعالى هو النطفة التي تتلائم حجماً وشروطاً مع شروط الرحم المعد لاستقبالها .
فإذا ما تباينت النطفتان وكانتا من نوعين مختلفين فإنه يستحيل اجتماعهما في رحم واحدة .(1/252)
ولكنهما إذا اختلطتا وشكلتا نطفة واحدة فإنه عندئذ يمكن – ولكن بصعوبة بالغة – أن تستقر في رحم واحد ، فإذا استقرت ونمت وأصبح حمل كامل ، ثم ولادة طبيعية . جاء المولود يحمل تكويناً جسمانياً بشرياً ، ولكنه يحمل صفات شيطانية خلقية أخلاقية . يكون من أبرزها أن يؤثر هذا المولود عندما يكبر الوحدة واعتزال الناس ، والخوف منهم ومن مخالطتهم . وليس مثل ابن نوح عنا ببعيد ( وكان في معزلٍ ) .
هذا الفهم يقودنا إلى فهم صحيح للآية الكريمة . قال تعالى :
11- { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } [ فصلت : 47]
فالحمل لا يتم عند أية أنثى إلا بعلم الله بما تتكون منه هذه النطفة التي سيكون منها حمل وإنجاب . ولكي يتضح هذا المعنى على وجه الدقة فقد قال الله تعالى :
12- { ويعلم ما في الأرحام }
وحرف ( في ) هنا دلالته مكانية ، و ( في الأرحام ) شبه الجملة متعلق بخبر محذوف تقديره موضوع . أي أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يوضع في الأرحام من نطف صافية أو مختلطة . فإن كانت صافية فهو حمل شرعي ، وإن كانت مختلطة كان حملاً سفاحاً .
ويكاد يكون هذا الأخير لا يزال عالقاً في أذهان العامة عندما يرون ولداً أو رجلاً ذا مشاكل كثيرة لا يأتمر بأمر ولا ينتهي بنهي أن يقولوا عنه : نعوذ بالله منه كأنّ نطفته نطفة ابن حرام . هذه النطفة الصافية الخالصة هي أصل من أصول هذا العلم دال على رأس المال الحلال . فإن رأى رجل في منامه أن هناك نطفاً في يده فإنه يجمع رأس ماله ، فإن قذف بها فإن رأس ماله يتبعثر ، فإن أعطاها لرجل أو امرأة فإنه يدفع إليها رأس ماله . ويتفرع عن هذا الأصل فروع عديدة .
عند هذه النقطة يثور سؤال وجيه . كيف يمكن لنبي أن يكون معه شيطان يشاركه هذا النكاح فتختلط النطفتان ؟ وهو بالتأكيد يتعوذ من الشيطان عندما يقرب زوجته ويكون عندئذ هذا الشيطان بمنأى عنه .(1/253)
هذا السؤال سألني إياه طبيب . وكان جوابي سؤالاً طبياً له . قلت له : كم تدوم حياة النطفة في الرحم . قال : من يوم إلى مدة أقصاها أربعة أيام .
قلت : لقد أجبت نفسك . ففي حالة نوح عليه السلام لن يكون معه شيطان أثناء نكاحه لكنه يستطيع أن يفعل الشيطان ذلك في اليوم نفسه بعد خروجه أو في الأيام التالية .
هذا الجانب أوضحته السنة النبوية الشريفة في الحديث الشريف الذي يقول :
عن ابن عباس – رضي الله عنه – قال : قال النبي I :
( لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنّبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه وإن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً . ) ( (1) )
وهنا يثور سؤال آخر . ما الحجة التي يسوقها هؤلاء المجرمون لشريكاتهم لإقناعهم بحدوث نكاح تكون نتيجته ولداً ذكراً حتماً ؟
سؤال كهذا تجيب عليه الآيات القرآنية التي عالجت هذا الجانب وأوضحته بجلاء .
فهؤلاء المجرمون يدّعون أن نطفهم هي من القوة ما يمكنّها من إنجاب الذكور ، على حين أن الله سبحانه ، لا يستطيع ذلك فذريته إناث ودليلهم الذي يسوقونه لتأكيد افتراء كهذا هو أن الملائكة إناث وهن بنات الله . فالله سبحانه وتعالى يقول :
14- { أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ، ألا إنهم من إفكهم ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون ، أصطفى البنات على البنين } [ الصافات :150-153] .
وهكذا فالآية توضح أن هناك طرفاً يقال له هذا الإفك ( ليقولون ) ولا يكون هذا القول إلا من ذكر لأنثى إقناعاً لها بقوة نطفه التي تأتي بمولود ذكر .
وإنني على يقين بأنه ليس هناك رجل من عالم البشر يجرؤ على قول كهذا القول ، أو إدعاء كهذا الإدعاء .
ومن المؤكد أن عالم الجن نفسه ليس هناك فيه من يدعي ادعاء باطلاً كهذا ولا يجرؤ عليه .
__________
(1) - انظر البخاري في الدعوات (6025) د . البغا ، والبخاري في النكاح (4870) د . البغا ، ومسلم في النكاح (1434) عبد الباقي .(1/254)
وأن صدور مثل هذه الادعاءات لا يجرؤ عليها إلا المجرمون . ولهذا استحق هذا الصنف العذاب الإلهي المتمثل في الخلود في نار جهنم .
وفي آيات أخرى يؤكد الله تعالى افتراء هؤلاء وادعاءاتهم فيقول :
15- { أم له البنات ولكم البنون } [ الطور : 39] .
ويتكرر هذا الاستفهام الاستنكاري الهازئ بهذه الفئة المتمردة التي اشترت شهوتها بخلودها في العذاب . قال الله تعالى :
16- { ألكم الذكر وله الأنثى } [ النجم : 21] .
أليست هذه النتيجة التي وصل إليها نوح عليه السلام هي التطبيق العملي الذي منحه الله سبحانه لإبليس لعنه الله عندما قال له :
17- { وشاركهم في الأموال والأولاد } [ الإسراء : 64] .
لقد كانت تجربة نوح عليه السلام قبل الطوفان مع قومه ، ولم يكن يراوده أدنى شك بأنه سيجد نفسه لحظة الطوفان وبعدها في تجربة أكثر ألماً ومرارة هي شراكة زوجته الفاجرة وعقوق ولده الكافر .
وعندئذ ندرك مغزى وعمق ما قاله نوح عليه السلام في سورة نوح :
18- { ومكروا مكراً كباراً } [ نوح : 22] .
وعندئذ ندرك مغزى وعمق دعائه عندما قال :
19- { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 26-27] .
ثم إننا نقف عند الآية الأخيرة من سورة نوح متأملين لدعائه :
20- { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا خسارا } [ نوح : 28] .
لقد أدرك – وقد هدأ الطوفان واستقرت به الحياة ثانية على الأرض – أن هناك من كان يدخل بيته وهو كافر لا مرئي ، وأن هناك امرأة مشاركة ظالمة .
هذه هي العلاقة الحقيقية التي بسطها القرآن الكريم بين المجرمين والظالمين ، بين المرئيين واللامرئيين .(1/255)
إنها علاقة ما كان لنوح عليه السلام أن يدركها لو لم تحدث معه ، وهذا هو الجانب الذي يجعل الكثيرين من القدماء والمعاصرين لا يستطيعون استيعابها لكنهم سيجدون أنفسهم ملزمين بهذا الفهم العميق لدى التوقف عند ظاهرة العنكبوت . قصة نوح عليه السلام مليئة بأصول علم الرؤيا .
فالجبل عصمة ، والتنور المشتعل انفجار مشكلة ، والسفينة نجاة ، وركوب البحر مخاطرة ، والأمواج العالية هلاك ، والوصول إلى الشاطئ أمان للخائف .
وتتبقى نقطة أخيرة في قصة نوح عليه السلام ، وتنحصر فيمن نجا معه في السفينة . لقد روى الطبري بإسناد أن عدد الذين حملتهم السفينة لم يتجاوز الستة سوى أولاده ونسائهم ، وأن هؤلاء قد أعقموا بعد النجاة ( (1) ) ، وإذا صحت رواية كهذه فهي دليل على أن المشاركة تبدأ من النطفة .
ولما كان أولاده الناجون معه طاهرين فقد استمر إنجابهم بهدف استمرار الحياة البشرية النظيفة ولهذا نتوقف عند الآية الكريمة في قوله تعالى عن ذرية نوح عليه السلام :
21- { وجعلنا ذريته هم الباقين } [ الصافات : 77]
أي أن ذريته التي نجت معه وآمنت برسالته ، هي التي استمر منها التناسل البشري . ويقول الطبري : وإنما الذين هم اليوم في الدنيا من ولد آدم ولد نوح وذريته دون سائر ولد نوح كما قال الله عز وجل ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) أ-هـ
بعد بسط هذه الحقائق في قصة نوح عليه السلام أصبح استيعاب قصة لوط عليه السلام أقرب إلى الفهم .
__________
(1) - تاريخ الطبري المجلد الأول ص 183 وما بعدها . وهناك اختلاف بيّن في الروايات عن العدد الذي حمله نوح معه في السفينة . وأن هؤلاء الذين حملتهم السفينة – سوى أولاده – بادوا وهلكوا فلم يبق لهم عقب .(1/256)
فالمرأتان جمعتا معاً مثلاً أعلى ضرب للكافرين ، فكلتاهما كانتا خائنتين . واستمرت في خيانتها كتلك ، ولم تنكشف حقيقتها إلا عندما خرجت مع زوجها وابنتيها تنفيذاً لأمر الملائكة ، فكانت كتلك التي لم تنكشف حقيقتها إلا عند ركوب السفينة .
والسؤال الذي لا بد من أن يطرح هو كيف يمكن لامرأتين مشاركتين شراكة زواج لشيطان لا مرئي أن يفعلا ذلك وزوجاهما حاضران مقيمان معهما ؟ وكيف يمكن لشراكة كهذه أن تستمر هذه المدة الزمنية الطويلة والتي لم يستطع كل من نوح ولوط عليهما السلام اكتشاف أمرهما ؟
سؤال يجب أن يُسأل، لأن هذا السؤال يفتح صفحة جديدة من صفحات هذه العلاقة بين هذين العالمين هي صفحة الخلوة .
ذلك الكتاب الخلوة
من المفيد قبل أن نفصل الحديث عن الخلوة أن نتوقف عند الآية الثانية من سورة البقرة . قال الله تعالى :
{ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } [ البقرة : 2] .
ما من آية أحدثت إشكالاً بين المفسرين القدماء والمعاصرين ، وأثارت خلافاً فيما بينهم كما أثارته هذه الآية الكريمة .
فالطبري رحمه الله ينقل بإسناد عن ابن عباس أن ( ذلك الكتاب ) هو هذا الكتاب أي القرآن . وينقل عن بعضهم أن ( ذلك ) إشارة إلى السور التي نزلت قبل سورة البقرة .
لكن الطبري نفسه لم يكن مقتنعاً بتفسير كهذا فيقول :
وكيف يمكن أن يكون ( ذلك ) بمعنى ( هذا ) و( هذا ) إشارة إلى حاضر معاين ، و( ذلك ) إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟
ثم يعرض رأياً آخر فيقول : قال بعضهم : ( ذلك الكتاب ) يعني به التوراة والإنجيل ويكون ( ذلك ) حينئذ إخبار عن غائب عن صحة .
ويتابع القرطبي فيما ذهب إليه – وهو تلميذ ناسخ عنه – فيقول : ( ذلك ) إشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة . ثم يحاول أن يأتي بجديد فيقول :
( ذلك الكتاب ) إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما والمعنى ( ذانك الكتابان )(1/257)
ومنذ عهد قريب استمعت إلى عالم جليل وهو يستعرض هذه الآية ويحلل لغوياً أن استعمال ( ذلك ) ممكن بدلاً من ( هذا ) ويسوق حججاً قد أرهق نفسه فيها لتأييد هذا التفسير .
ومن الملاحظ أن كلاً من الطبري والقرطبي جمعا التوراة مع الإنجيل . لكن الطبري وحده أشار إلى كتاب واحد عندما قال :
و( ذلك ) إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين .
وكلا المفسرين لم يظهرا الهدف من الإشارة الذي تنطوي عليه لفظة ( ذلك ) للتوراة والإنجيل ومن هذه النقطة يبدأ ردنا ، وإيضاح حقيقة المراد بهذه الإشارة . ونقول :
إن اسم الإشارة ( ذلك ) لا يستعمل مكان ( هذا ) فذلك اسم إشارة للبعيد ، وهذا للقريب ولا يمكن لواضع اللغة والموجد لها أن يخلط بينهما في الاستعمال .
{ وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31] .
ويتمادى هذا الفهم الخاطئ للمشار إليه فهو عند القرطبي ( ذانك الكتابان ) وهكذا لما لم يستطع أن يحل مشكلة المشار إليه الواحد صعّدها إلى مشارين اثنين هما التوراة والإنجيل .
والسؤال هل يمكن لنا أن نشير إلى شيء قريب أو بعيد دون أن يكون لنا هدف من وراء الإشارة إليه ؟ هل يمكن لنا أن نشير بإصبعنا إلى ذلك الشيء ونبقى صامتين ؟
وننتقل من اسم الإشارة إلى المشار إليه ( الكتاب ) فأن نقول أن الكتاب هو السور التي نزلت قبل سورة البقرة فذلك يخالف أبسط القواعد المنطقية .
إذ أن قانون عدم التناقض يؤكد بطلان قول كهذا : فالكتاب لا يمكن أن يكون كتاباً وليس بكتاب في وقت واحد .
لقد التزم هؤلاء المفسرون بالوقوف عند اللفظة الواحدة محاولين إيضاح ما خفي من معناها ، ولم يحاولوا إجراء مقارنة مع ألفاظ مثلها في مواضع أخرى تحدد معناها .
لقد استعمل الله سبحانه اسم الإشارة ( ذلك ) في موضع يوضح بجلاء الإشارة فيه إلى التوراة . قال تعالى :
{ ذلك مثلهم في التوراة } [ الفتح : 29] .(1/258)
فمقارنة كهذه تجلو أي لبس في تحديد المشار و المشار إليه . فالمشار إليه بعيد ولا بد معه من استعمال ( ذلك ).
ثم لم يستطيعوا أن يتجاوزوا المعنى الخاص إلى معنى عام أكثر شمولاً وتحديداً للهدف من المشار إليه .
وهذا ما سنوضحه في هذا الفهم العام الذي لا بد منه لفهم الصفحات الأولى من سورة البقرة . فالقرآن أشار إلى كتاب بعيد هو التوراة حصراً . وما أشار إليه إلا لأنه أول كتاب سماوي حوى من الأوامر والنواهي ما يجعله كتاباً ملزماً لعالمي الإنس والجن على حد سواء .
إن تصريحاً كهذا يستلزم دليلاً ، والدليل قائم في فهم الآيات الأولى من السورة .
لقد عدد الله سبحانه صفات المؤمنين ، واستعمل للدلالة على المؤمنين من عالم الجن الضمائر ( هم ) و ( أولئك ) .
وهم ضمير للجمع الغائب ، و( أولئك ) إشارة بعيدة إليهم . فهم بعيدون عنا لكنهم حاضرون معنا لا نراهم . وهذا هو مغزى قول الطبري رحمه الله في استعمال اسم الإشارة ( ذلك ) إخبار عن غائب عن صحة . وتلتقي ( ذلك ) و ( أولئك ) في استعمال كل منهما إلى مشار بعيد لكنه حاضر .
لقد توالى استعمال الضمير هم في القرآن الكريم ضميراً خاصاً دالاً على عالم الجن . قال الله تعالى :
{ وعلامات وبالنجم هم يهتدون } [ النحل : 16] .
وقلنا من قبل عند معالجة هذه الآية أن نظامهم القمري يتطلب منهم الاهتداء بالنجوم فإذا دققنا النظر في قوله تعالى : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } [ البقرة :4] . ندرك إلزام عالم الجن بموسى عليه السلام وبكتابه التوراة .
صفات المؤمنين التي تحددها الآيات الكريمة { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } [ البقرة : 3 ] هي صفاتهم من أي نوع كانوا ومن أي جنس . فإذا انتقلنا إلى الصفحة الثانية من السورة نفسها نجدها تتحدث عن الكافرين وتحدد صفاتهم .(1/259)
فالله ختم على قلوبهم ، ويدّعون الإيمان بالله وليسوا مؤمنين . ويخدعون الله والذين آمنوا وهم مفسدون ويدّعون الإصلاح ، ويدّعون الإيمان الذي يميزهم عن المؤمنين السفهاء . وأخيراً لهم خلوة مع شياطينهم ( (1) ) .
في هذه الخلوة يعلنون تضامنهم واتفاقهم مع شياطينهم ، كما يعلنون لهم استهزاءهم بالمؤمنين . ولا بد قبل الخوض في الحديث عن الخلوة واستجلاء خفاياها من أن تعرض لأسبابها .
لقد أوضحنا من قبل دلالة المصطلحين ( الظالمين ) دالاً على المشاركين المرئيين . و( المجرمين ) دالاً على المشاركين اللامرئيين .
وأوضحنا من قبل أن فرعون وقومه كانوا مشاركين شراكة جماعية ، شأنهم في ذلك شأن قومي نوح ولوط .
لكن القرآن الكريم يضيف شيئاً خاصاً بفرعون وقومه وهو اشتغالهم بالسحر . هذا التخصيص انفرد به هؤلاء عن باقي الأقوام السابقة .
ولما كان إيمان هؤلاء مستمداً من قوة شركائهم في قدرتهم على إحداث أشياء كثيرة لا يستطيع فعلها إلا السحرة . فإن السلاح الذي يمكّن موسى عليه السلام من استخدامه لبيان عجزهم في السحر هو سلاح المعجزات .
لقد ذهب إلى فرعون ومعه معجزتان إلهيتان هما :
{ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملأه إنهم كانوا قوماً فاسقين } [ القصص : 32] .
ولما لم يستطع فرعون أن يستوعب أن ما فعله موسى عليه السلام إنما هو معجزة من الله ظن أن هذا نوعاً من السحر كالذي يفعله قومه . قال الله تعالى :
{ فلما جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } [ القصص : 36] .
ثم انتهت قصة موسى عليه السلام مع فرعون وقومه بأن وقع عليهم عذاب الغرق . قال تعالى :
__________
(1) - { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزءون ، الله يستهزئ بهم ويمدّهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 14-15 ] .(1/260)
{ فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } [ القصص : 40] .
بهذه النهاية المريرة لأولئك الظالمين يُسدل الستار على صراع بين الكفر والإيمان وبين التوحيد والإشراك . وتنتهي تلك المعركة الطويلة مع عدو خارجي قُضي عليه وعلى قومه وهو فرعون وجنوده . لتبدأ معركة جديدة داخلية هذه المرة بين موسى عليه السلام وبين قومه . لكنه في هذه المعركة يكون أشد صلابة في دعوته لهم بالتوحيد ونبذ هذه المشاركة الجماعية التي هم عليها . وبين يديه مثل حي على مصير هذه المشاركة الجماعية التي أودت بفرعون وجبروته وعظمته واعتداده بسحرته إلى مصير ماحق له ولقومه .
أمام إصرار موسى عليه السلام على تخليص قومه من هذه الشراكة الجماعية ، وأمام المعجزات التي ساقها لهم ، والتي خصهم الله بها ، لم يجدوا من وسيلة لإظهار إيمانهم بما يقول إلا أن ينقلوا هذه المشاركة الجماعية العلنية إلى مشاركة فردية سرية .
ولم يكن دمار فرعون وقومه إلا لأنهم كانوا يعلنون عن شراكتهم تلك ، بل وربما كانوا يتفاخرون بها من خلال إظهار قوة أحدهم بقوة شركائه . ولم يكن دمارهم ببعيد عن قوم موسى عليه السلام .
لكن التهمة التي ألصقت بموسى وأخيه مِن قِبَل فرعون على أنهما ساحران ، هي نفسها التهمة التي ألصقها بنو إسرائيل بموسى عليه السلام .
فهذا فرعون يقول :
{ قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم } [ الشعراء : 34] .
لقد كانت قناعته بما يستطيع السحرة أن يفعلوه أمام هذا الساحر الجديد أكبر بكثير من اعتقاده بأن ما يأتي به هذا الساحر إنما هو معجزة كبرى من الله عز وجل .
هل يمكن لرجل ليس له شركاء من الجن أن يقدم عرضاً ساحراً من قوة ذاتية فيه ؟ هذا هو الجانب الذي لم يستطع فرعون أن يفهمه .(1/261)
ولطالما استطاع موسى عليه السلام أن يلقي عصاه يوم الزينة فتلقف كل هذه الأفاعي والثعابين التي ألقاها السحرة أمام فرعون أكدت له ولقومه أن قوة هذا الساحر فاقت قوة أولئك السحرة مجتمعين ، وما كان ذلك إلا دليلاً لفرعون على أن شركاء هذا الرجل لهم من القوة ما فاق قوة أولئك وشركائهم .
إن هذه القناعة الراسخة لدى فرعون ، كانت كذلك لدى بني إسرائيل ، وهم الذين لهم إرث طويل من مشاركة جماعية ممتدة ، خبروا فيها أنواع السحر ( (1) ) وضروبه من خلال هذا التعامل الطويل مع شركائهم .
__________
(1) - ويحدثنا ابن هشام في سيرته عن السحر الذي أصاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيقول :
ومن يهود بني زُريق : ليد بن أعصم ، وهو الذي أخّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه . ويقول : أخّذ من الأخذة ، وهي ضرب من السحر . ويقول المحقق : قال السهيلي : (( هذا الحديث مشهور عند الناس ثابت عند أهل الحديث ، غير أني لم أجد في الكتب المشهورة كم لبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك السحر حتى شفي . ثم وقعت على البيان في جامع معمر بن راشد ، حيث روى معمر عن الزهري قال : سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ، يخيل إليه أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله .
وقد طعنت المعتزلة في هذا الحديث ، وطوائف من أهل البدع وقالوا : لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا . ونزع بعضهم بقوله عز وجل: { والله يعصمك من الناس } والحديث ثابت خرّجه أهل الصحيح ، ولا مطعن فيه من جهة العقل . لأن العصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم . وأما أبدانهم فإنهم يُبتلون فيها – ويخلص إليهم بالجراحة والضرب والسموم والقتل والأَخَذَة التي أخّذها رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفن إنما كانت في بعض جوارحه دون بعض . وانظر سيرة ابن هشام ص 162 وحاشيتها .(1/262)
هذا ما يقودنا إلى فهم هذا الإصرار من بني إسرائيل على أن يصفوا معجزات موسى عليه السلام بأنها سحر من ساحر لا يشق لها غبار .
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين } [ الأعراف : 116] .
وأمام هذا العناد والإصرار على عدم وجود حاجز فاصل بين السحر وبين المعجزات أطلقوا عليه تسمية الساحر .
{ وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك } [ الزخرف : 49] .
إن رفض التسليم بالقوة الإلهية التي مُنحت لموسى عليه السلام كانت وراء إحدى عشرة حجة إلهية ساقها الله ليؤيد فيها نبيه . وبالمعجزات التي قدمها لقومه برهاناً على أن شركاءهم لن يستطيعوا مهما فعلوا أن يقدموا واحدة منها ، وتبدأ هذه الحجج والبراهين عليها من الآية رقم 63 إلى الآية 74 وفيها بسط إلهي لهذه القوة الإلهية .
ومع ذلك فقد كان المؤمنون حقاً من بني إسرائيل بوحدانية الله ونبذ عبادة ما سواه كان عدداً محدوداً . قال تعالى :
{ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه } [ يونس : 83] .
وأما العدد الأكبر من قومه ظلوا على عبادة شركائهم لكنها عبادة انتقلت من العلن إلى السر ومن الجمع إلى المفرد .
هذا العرض الموجز لمعاناة موسى عليه السلام مع قومه كان لابد منه لفهم الآية الكريمة قال الله تعالى :
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون . الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 13-14-15]
وبدءاً من بني إسرائيل امتدت هذه العلاقة السرية الفردية بين المشاركين بين الظالمين والمجرمين ، ولا تزال قائمة إلى هذا اليوم في كل دين بلا استثناء من يهودية أو مسيحية أو مسلمة ، وستبقى قائمة إلى قيام الساعة . ودليل ذلك انتشار هذا العدد من المشعوذين الذين لا تخلو منهم مدينة أو قرية أو حي .(1/263)
خلوة المؤاخاة
تطلق هذه التسمية على كل المشعوذين والعرافين الذين يدّعون أن شراكتهم لأولئك شراكة مؤاخاة .
وتتصف هذه الشراكة بأن هؤلاء المشعوذين هم أميون لا يفهمون القرآن الكريم ولا يجيدون قراءته . لكنهم يتخذون من الكتب السماوية عامة ، وممن يخصنا في ديننا خاصة القرآن الكريم وسيلة لإظهار مكانتهم الدينية وخداع زبائنهم بذلك .
فإذا دخلت بيت أحدهم وجدته يعلق على جدران بيته آيات قرآنية ، توهمك بأنه جدير بهذه المكانة .
وإذا نظرت إلى شكله ازداد انخداعك به ، فهو في معظم الأحيان شيخ له لحية وعليه عمامة . فإن أعطاك علاجاً لحالتك كان عبارة عن ورقة فيها آيات قرآنية كتبت على محيط الورقة ووضع داخل هذه الآيات شكل مربع مرسوم فيه حروف مبهمة . وطلب منك أن تضعها على صدرك ، ويحذرك من وقوعها على الأرض . لكنه لا يحذرك من الدخول بها إلى الحمام .
فإذا ذهبت امرأة إلى أحدهم أو إحداهن طالبة منه أن تتعرف على حال خاطب ابنتها أمسك بيده سبحة وأخذ اسمها واسم أمها ثم اسمه واسم أمه . ويمسك بهذه المسبحة من أي مكان فيها ، ويبدأ بسحب حبتين منها ثم حبتين حتى نهايتها . فإن بقي في نهايتها حبة أعاد الطريقة نفسها من مكان آخر منها . فإذا انتهت بحبتين قال :
لن يكون هناك توفيق في بداية هذا الزواج ثم يتآلف . فإن كان في المرة الثانية حبة واحدة ، أعاد الكرة مرة ثالثة من مكان مختلف . فإن بقيت حبتان أكد قوله . فإن بقيت حبة قال : تكون البداية والنهاية غير موفقة لكنها بعد أن تتم يكون التوفيق محدوداً .
هذه هي حسبة الزواج . فإن كان هناك من يدّعي أن عليه عيوناً كثيرة حاسدة له وضعوا له ( الزئبقة ) حيث يوضع زئبق في قالب معدني حجمه حجم الإصبع يعلقه على صدره . فإن كان هناك أمر مستعص على أحدهم ، طلبوا منه إحضار مواد غالية كالعنبر .(1/264)
فإن كان هناك مرض مستعص ، أُدخل المريض إلى غرفة خالية ومعه دجاج حي أو مذبوح ثم تغلق الغرفة عليه لأكثر من ساعة ، ليخرج منها وقد شعر بتحسن حالته .
فإن كانت امرأة تشكوا العقم فإنه يدخلها إلى غرفة ويطلب منها أن تستلقي على أريكة ثم يضع عليها غطاء ، طالباً منها خلع ملابسها الداخلية بعد خروجه ليتمكن شركاؤه من فحصها ثم يخرج ويغلق الباب .
فيقوم شركاؤه بالاستمتاع بها وهي لا تراهم حتى إذا ما انتهوا من استمتاعهم طلبوا منه إخراجها واصفين لها علاجاً من مواد عشبية وغيرها .
هذا العرض هو بعض من أساليبهم التي تتيح لشركائهم دخلاً مادياً يمكن أن نطلق عليه اسم ( نظرية الكسب ) حيث يكون لهذه العلاقة هدف مادي هو واحد من أهداف هذه الشراكة .
نظرية الكسب هذه طرحها القرآن الكريم محدداً لها . قال الله تعالى :
{ اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون } [ يس : 65] .
وليس هناك معنى آخر للكسب غير الكسب المادي . ولكي أؤكد هذا التخصيص أتوقف عند قول الله تعالى :
{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } [ البقرة : 267] .
فالآية توضح بجلاء أن الإنفاق مقرون بالكسب . وكلاهما مادي صرف . وهذه الآية ترشد المؤمنين إلى أن هؤلاء المشعوذين في الحجب والرقية التي يستخدمون فيها كتاب الله وآياته وسيلة للكسب المادي لهم عذاب شديد منه قال تعالى :
{ فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } [ البقرة : 79] .
ويبين القرآن الكريم أن هذا الكسب إنما هو استدراج من الشريك لشريكه قال تعالى :
{ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } [ آل عمران : 155] .
كما يبين أن هؤلاء مصيرهم النار لا مفر منها ، قال تعالى :
{ فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاء بما كانوا يكسبون } [ التوبة : 82] . ويقول :(1/265)
{ إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون } [ التوبة : 95]
ولأنه كسب حرام في وسيلته وأهدافه فإنك لا تجد واحداً من هؤلاء المشعوذين يستمتع بما يكسبه من عمله هذا .
ولا تكاد تجد أي مظهر من مظاهر النعمة عليهم في بيوتهم التي تكاد تخلو أحياناً من أثاث دالٍ على رفاهية . بل إنك في أحايين كثيرة تجدهم يجلسون على بساط على الأرض في غرفة قذرة خالية من أي أثاث .
وأضع بين يدي القارئ أنموذجاً خطياً من النماذج التي يستعملها هؤلاء المشعوذون لإيقاع الأذى الشيطاني القائم على تفريق الرجل عن زوجته ، ثم الانتقام منه في صرفه عن ممارسة أي نشاط جنسي له مع أية امرأة أخرى غيرها .
لقد تم العثور على هذا السحر الشيطاني مدفوناً في قبر مجهول ، وفيه قطعة قماش هي بالتأكيد من كم فستان نسائي تم قصه .
وقطعة الكم هذه وضعت في ثنايا هذه الورقة التي سأعرضها ، وكلتاهما وضعتا في كيس من نايلون أسود . ودفن هذا في هذا القبر المجهول الذي لم يفتح منذ مدة طويلة .
وأما الورقة فهي عبارة عن ورقة طويلة ، مسحوبة على آلة لتصوير المستندات من صفحتين في الصفحة الأولى نجد الآية الكريمة :
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين } .
كتبت هذه الآية مرتين دون أية إشارة إلى تعظيم لها أو بيان ما يشير إلى أنها آية في القرآن الكريم .
ثم يتلوها سطر يقول :
بحق شلياء ورائيل غورائيل دوفائيل وغلاسيل أربطوا وشتتوا .
ثم : بحق هذه الأسماء عليكم أربطوا وشتتوا . ثم أضيف اسم هذا الرجل وزوجته بخط مغاير يدل على أن كاتبه أمي لا يجيد الكتابة لوقوعه في أخطاء إملائية فيضيف بخطه فيقول : بعداو نعمة بنت إنعام عن خالد ابن حوا .
ثم يأتي سطر رابع فيقول :
بحق هذه الأسماء عليكم أربطوا وشتتوا وبعدوا نعمة بنت أنعام عن خالد أبن حوا . ثم يأتي سطر خامس فيقول:(1/266)
بحق جبرائيل وميكائيل وأسرافيل وعزرائيل أربطوا وشتتوا نعمة بنت أنعام عن خالد ابن حوا وعن جميع النساء .
ثم يتكرر هذا السطر مرة أخرى . وكل ذلك مسحوب على آلة التصوير ما عدا الفراغات التي ستوضع فيها الأسماء .
مما يؤكد أن هذا المشعوذ الأفاق قد تخصصّ في هذا العمل الشيطاني القائم على التفريق بين الرجل وزوجته . عملاً مأجوراً عليه بنفع مادي من المكلّف .
ثم : نجد تحت ذلك كله سطراً كتب فيه :
بحق جبرائيل وميكائيل وأسرافيل وعزرائيل اربطوا وشتتوا نعمة بنت إنعام عن خالد ابن حوا .
وقد تكرر هذا السطر تحت بعضه تسعاً وعشرين مرة . فإذا قلبنا الورقة على الصفحة الثانية وجدنا مقطعاً من سورة الزلزلة يبدأ :
إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتاً .
إلى هنا يتوقف استكمال السورة ، ويتكرر لفظة أشتاتاً مرتين ثم اللهم شتتوا وربطو وبعدوا نعيمة بنت أنعام عن خالد أبن حوا .
ويتكرر كتابة هذا المقطع القرآني سبع مرات ، وينتهي في كل مرة بهذا الطلب
ويستدل على أمية هذا المشعوذ في استعماله لهمزة ( أنعام وأبن ) همزة مفتوحة على حين أنهما مكسورتان والصحيح ( إنعام ) ولفظة (ابن) ألف بلا همزة
ثم رداءة خط الكاتب فيه ما يؤكد على أميته وأنه لم يعرف من الكتابة إلا بقدر ما يخدم له هدفه في كتابة الأسماء التي كُلّف بإيذائها .
ويدل النص في صفحتين – وهو محفوظ لديّ – على أمور عدة منها :
استخدام الآيات القرآنية استخداماً خالياً من القداسة تماماً .
استخدام الملائكة الكرام وهم جبرائيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل . استخداماً باطلاً إذ يعتبرهم الوسيلة التي تمكنه من تحقيق هذا التفريق الزوجي ، وحاشا لله ولملائكته الكرام أن يستخدموا هذا الاستخدام الهادم للحياة الزوجية المطمئنة .(1/267)
فالله سبحانه وتعالى يكذب هذا الإدعاء الباطل باستخدام هؤلاء الملائكة في قوله تعالى : { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27]
وفي اعتقادي أن هؤلاء المشعوذين إنما يستخدمون هذه الأسماء لإقناع زبائنهم بأنهم يستخدمون الملائكة لخدمتهم دلالة على شدة صلاحهم وتقواهم .
ثم نراه يستخدم أسماء مجهولة لنا تماماً وعددهم خمسة وهم : شلياء – سورائيل – غورائيل – دوفائيل – غلاسيل .
ومن المؤكد أن هذه الأسماء إنما هي أسماء شركائه الذين بهم يحتمي وإليهم يلجأ وهو لجوء فيه من الاستغناء عن الله عز وجل ما يحقق له هذا الامتداد الشيطاني الذي لا يتوقف أذاه بغية منفعة مادية محدودة ليس لها من عذاب غير نار جهنم .
إن هذين الاسمين اللذين يستهدفهما هذا السحر هي أسماء حقيقية ، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يتعرف عليهما . وهذا هو الذي يجعل هذا السحر مخصوصاً لهما .
إن نسبة الولد أو البنت إلى أمه يجعل العثور عليهما مستحيلاً ، وليس هناك وسيلة أخرى غير الكنية التي تنسب الأولاد إلى عائلاتهم .
ومن المؤكد أن هذا الأسلوب هو أسلوب يهودي محض تم توارثه منذ أن أصبحت الخلوة سرية فردية ، وامتدت حتى وصلت إلى هؤلاء المشعوذين من المسلمين .
وأخيراً أليست هذه الأسماء الخمسة التي اعتد بها هذا الساحر واستعان بها تدل في أربعة أسماء منها منتهية بالحروف (ئيل) وهي تعني عند اليهود لفظة ( الله ) وتصبح هذه الأسماء ( سورا الله ) و (غورالله) و(دوفاالله) و(وغلاس الله).
وهي أسماء أضيفت إلى الله سبحانه لإظهار هذه المكانة والقوة لهؤلاء الذين هم خدم بين يدي شركائهم ومن يستعين بهم .
ولكن إذا كانت هذه الأسماء دالة على الذكور ، وأن هذا المشعوذ ربما كان ذكراً فهل هذا يخالف النظرية التي بسطها هذا البحث ، ويؤكد فيها على أن هذه الشراكة ، إنما هي بين نوعين مختلفين من جنسين مختلفين ؟؟(1/268)
إن الإجابة على هذا التساؤل مرهون بفهم الآية الكريمة من سورة الجن نفسها حيث يقول الله تعالى :
{ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } [ الجن : 6]
فالآية الكريمة تؤكد على وجود شراكة كهذه لكنها شراكة موصوفة بلفظة ( يعوذون ) وهي تعني ( يستعينون )
إن الهدف من هذه الاستعانة هو أن يوضع هذا الأذى الشيطاني موضع التنفيذ .
فهؤلاء الذكور منهم لهم من القوة والجبروت ما يمكنهم من تنفيذ مطلب هذا المشعوذ بسرعة وكفاءة أكثر مما عليه إناثهن .
ولكن مقابل هذه الاستعانة بهؤلاء هناك مطالب لهم قد يصل إلى حدّ التعجيز ولا يستطيع هذا المشعوذ أن يتهرب منها ، وعندئذ يبدأون بإرهاقه . هذا النوع من الشراكة يتم تحقيقها بطلب من المرئي ، وعندئذ عليه أن يقوم بخلوة في غرفة محكمة لا يخرج منها قد تصل إلى أربعين يوماً . هذا هو الخلاف الوحيد بين نوعي الشراكة ، ففي الأولى يكون المرئي مطلوباً منهم أما في الثانية فيكون المرئي طالباً لهم .
خلوة الزواج
قبل أن أخوض في الحديث عن هذا النوع من الخلوة لا بد لي من أن أنوّه بأن خلوة المؤاخاة تفضي بين هؤلاء الشركاء إلى الاستمتاع الجنسي . فالمتعة الجنسية هي الهدف المستور ، والكسب المادي لأولئك هو الهدف العلني المعلن .
كما أن المرئي في هذه المشاركة معلن معروف هو المشعوذ أو المشعوذة ، لكن المرئي في خلوة الزواج غير معلن ، ويحاول أن يخفي نفسه وراء أي مظهر يحافظ فيه على سريته .
وغالباً ما يكون المرئيون في الأولى أميين ، على حين أنهم في الثانية متعلمون . وهؤلاء هم الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة في قول الله تعالى :
{ أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [ الجاثية : 23 ] .(1/269)
وربما يثير عنوان هذا الفصل الدهشة لدى الكثيرين ، خاصة إذا كان هناك من لا يؤمن بوجود الجن أصلاً فكيف يمكن له أن يؤمن بوجود زواج بين عالمي الجن والإنس ؟ وإذا كان ذلك ممكناً فكيف يمكن أن يحدث ذلك ؟ وهل يمكن للقرآن الكريم أن يعالج قضية جنسية بحتة كهذه ؟
ومنذ البدء نقرّ بأن الجنس هو المحرك الفعال للكائنات الحيّة بجميع أنواعها وأشكالها . فهي الغريزة التي وجدت ليوجد معها الكائن الذي يحتفظ بخصائصه واستمراريته من خلالها . لقد حثت الشرائع السماوية على الزواج ضماناً لاستغراق هذه المتعة في إثراء الحياة البشرية بأجيال متلاحقة .
هذا الهدف السامي سعى اللامرئيون من طائفة إبليس وذريته إلى تحطيمه من خلال القيام بكل غواية وإغراء بين اثنين من جنس واحد للوصول إلى حالة الزنا . وهو أسلوب مباشر لتحطيم قدسية الزواج وهدفه . وأما الأسلوب الآخر غير المباشر لتحقيق ذلك هو حدوث زواج بين اثنين من نوعين مختلفين يحقق المتعة لكل منهما دون أن يترك أثراً أو يثير فضيحة . هذا النوع من الزواج يكون بين إنسي بجانّية أو بالعكس . لقد أوضحنا من قبل عند تحليل الآية الكريمة :(1/270)
{ إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً } [ النساء : 117] . أن الشراكة لا تقوم إلا بين نوعين مختلفين من جنسين مختلفين ، هما ذكر منهم وإنسية منا وهو النوع الأكثر شيوعاً ، أو ذكر منا وجانية منهم وهو أقل بكثير من ذاك . وأوضحنا أن العلاقة القائمة على هذا الشرط هو علاقة جنسية محضة ( (1) ) أكدها القرآن الكريم على لسانهم ، فقال :
{ ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس ، وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض } [ الأنعام : 128] .
كما أننا أوضحنا مصطلح ( أولياء ) ومصطلح ( من دون الله ) لنصل إلى المقطع القرآني الذي أشرنا إليه من قبل في ( حوار الشركاء ) والذي يقرر بكل وضوح قيام زواج بين المرئيين واللامرئيين ، يقول الله تعالى :
{ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23] .
فالآية تقرر أن هؤلاء ( الظالمين ) يحشرون مع أزواجهم من ( المجرمين ) فكلاهما اتخذ شريكه معبوداً له دون الله عز وجل ، وكلاهما مصيرهما جهنم .
ثم يبدأ القرآن الكريم بعرض صورة هذا النكاح بتفصيل دقيق . قال تعالى :
{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور } [ هود : 5] .
__________
(1) - أخرج أبو نعيم في الدلائل ( ص 29 ) عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – قال : إن أول خبر كان في المدينة بمبعث النبي I أن امرأة من أهل المدينة كان لها تابع من الجن فجاء في صورة طائر أبيض – فوقع على حائط لهم – فقالت له : ألا تنزل إلينا فتحدثنا ونحدثك وتخبرنا ونخبرك ؟ قال لها : إنه قد بعث نبي بمكة حرّم الزنا ومنع منا القرار . أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط ورجاله وثقوا كما قال الهيثمي ( 8 / 243 ) . نقلاً عن حياة الصحابة ، للكاندهلوي ص 573 وللحديث رواية أخرى تؤكده .(1/271)
فالآية تقرر أنهم ينحنون إلى الأمام ثانين صدورهم وقد رفعوا ثيابهم من ورائهم وألقوها على رؤوسهم استخفاء ظانين أنهم بذلك لا يراهم أحد . إنهم بذلك يكونون كالنعامة التي تدفن رأسها في الرمال اعتقاداً منها أنه ليس هناك من يراها .
ونكاد نجد في مقطع آخر من سورة ( القلم ) تفصيلاً أكثر دقة من سابقه . يقول الله تعالى :
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين } [ القلم : 35] .
إنه استفهام استنكاري بليغ إجابته لا . فالمجرمون هؤلاء في وضعهم مع شريكاتهم في حالة التصاق بمتعة مستغرق فيها بحيث لا يستطيع أحدهم أن ينفصل عن الآخر ولا يرغب في انفصاله . ولهذا لا يستطيع أحدهم أن يدعي أنه زعيم على الآخر . كلاهما في وضع لا يسمح بتزعم أحدهما للآخر ، فهم شركاء في حالة انسجام تام مع بعضهما . حالة الالتحام هذه بينهما تؤكدها حالة الالتحام التي تكون بين الذئب والذئبة ، حيث أننا أوضحنا من قبل في رؤيا الذئب في النوم أنه دالٌ على مشارك مرئي يقيم علاقة زواج مع لا مرئية . ( ولا يعرف الالتحام عند السفاد إلا في الكلب والذئب ، وإذا هجم الصياد على الذئب والذئبة وهما يتسافدان قتلهما كيف شاء ) ( (1) ) . يقول الله تعالى متابعاً ما بدأه في المقطع من السورة نفسها :
{ سلهم أيهم بذلك زعيم ، أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين } [ 40-41] .
ثم يبدأ التخصيص في حالة المرأة التي تكون في وضع نكاح . إنها تأخذ وضع السجود تماماً كاشفة عن ساقيها استعداداً لمجيء شريكها من خلفها ليباشر النكاح . ولنتابع قول الله تعالى :
__________
(1) - المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي ص 354 .(1/272)
{ يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } [ 42-43] . لماذا لا يستطيعون السجود الآن ، وهم بين يدي الله تعالى ، مكشوفة سيقانهم ؟ ولماذا أبصارهم خاشعة لا يستطيعون فتح أعينهم من خجلهم مما كانوا يفعلونه في دنياهم ؟ ولماذا هذا الذل الذي يعلو وجوههم ونظراتهم ؟
أليس هذا كله دليلاً على أنه سجود مخزٍ يذكرهم بما كانوا يفعلونه في حياتهم طلباً لاستمتاعهم وإمتاع شركائهم معهم ؟
هذا الاستفهام المتكرر بهذه المعاني التي يصورها هي التي تثير غضب الله سبحانه على هؤلاء وهم لا يستطيعون إنكاراً لها أو تكذيباً . وويل لهم إن أنكروها . ولننظر إلى هذا التهديد الإلهي المخيف في نهاية هذا المقطع . يقول الله تعالى :
{ فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } [ القلم : 45] .
أي اتركني وهؤلاء الذين يظنون أنهم يستطيعون خداعي في سجودهم ذاك . إنهم لم يسجدوا عبادة لي وإنما سجدوا إشباعاً لرغباتهم ورغبات شركائهم .
ولا يزال لدينا مقطع قرآني آخر وأخير يضع خاتمة لهذا العرض المثير عرض التعري . ولنتابع هذا التفصيل الدقيق كما تبدأ به الآيات . قال الله تعالى :
{ ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون } [ فصلت : 19] .
فالآية منذ مطلعها يسمي الله هؤلاء أعداءه فيحشرهم ويسوقهم إلى جهنم يتوزعون عليها .
{ حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ، وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } [ فصلت : 20-22] .
أن تشترك حاستا السمع والبصر في الشهادة عليهما بما يقومان بفعله فهذا أمر طبيعي ، لكن الأمر الجديد الغريب أن تشهد عليهما جلودهما .(1/273)
ومن المعلوم أن أية واقعة نكاح لا يمكن أن تتم إلا باحتكاك الجلود ببعضهما ، هذا الاحتكاك الجلدي هو الذي يقوم دليلاً على هؤلاء ، ولذلك نرى هذه الآيات قد استخدمت لفظة الجلود ثلاث مرات .
وهما إنما يفعلان ذلك ، وقد قام أحدهما بإقفال الأبواب ، وإسدال الستائر وإحكام التستر في خلوته تلك مع شريكته ، أو هي مع شريكها .
وعندئذ تقوم تلك المرأة بتعرية ساقيها ، وهي في وضع السجود أو في وضع آخر ، استجابة لطلب شريكها . لكنهما وإن أفلحا في إحكام التستر فإنهما لن يستطيعا أن يتسترا من جلودهما فهما شاهدان على احتكاكهما احتكاكاً يؤدي إلى إشباع هذه الرغبة الجنسية لديهما .
وأما أن يكون وضعها وضع السجود ، فإن ذلك يؤكد لمن يراها أنها ساجدة لله ، فإن اقتحم أحدهم غرفتها فإنها يمكنها أن تعتدل في سجودها لتأخذ وضع القعود ، وعندئذ تكون قد أسدلت ملابسها من خلفها على ساقيها واختبأ ذلك الشيطان بينهما ، وهو في الأصل لا يُرى . وعندئذ تعاود السجود ثانية وهي لا تزال في مكانها .
سجود هذه المرأة على هذه الطريقة مخالف لمظهر يجب أن يرافق المصلية التي تسجد لله تعالى بأنها تلتزم في صلاتها بالركوع .
ولما لم يكن من أهدافها أن تؤدي صلاة حقيقية فإنها لا تلتزم الركوع أبداً ، بل تأخذ وضع السجود مباشرة . ولهذا نرى القرآن الكريم يضيف صفة عدم الركوع لهذه المشاركة في خلوتها . قال الله تعالى :(1/274)
10- { كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون ، ويل يومئذ للمكذبين ، وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } [ المرسلات : 46-48] . هذا السجود في هذه الخلوة مظهر ديني خادع ، مستغرق فيه الخداع بحيث يصبح من المستحيل إقامة أي دليل عليه . وهو سجود ينفي أي نوع من أنواع الشك بأن هذا السجود يحدث طلباً للمتعة الجنسية . هذا الوضع هو الوضع الذي كانت عليه امرأتا نوح ولوط تماماً ، لقد استطاعتا أن تخدعا زوجيهما خداعاً دينياً ينفي عنهما أي شك في أن حالتهم في السجود كانت لغير الله تعالى . هذه هي الخلوة التي ابتدعها إبليس لإضلال النساء المؤمنات وإغوائهن .
وإنني لأستغرب جداً عندما أسمع بعض الطرق الدينية تطلب من مريديها سواء كانوا شباباً أو فتيات أن يكون لهن خلوة .
ليس هناك في القرآن الكريم ، ولا في السنة النبوية الشريفة ، دليل واحد يدعو إليها . لقد كان هناك حث على العبادة التي لا يغيب عنها العقل ، والتي لا تخرج عما رسمه الشرع للعبادة .
العنكبوت
أليس عجيباً أن تكون هناك سورة من سور القرآن الكريم تحمل اسم العنكبوت . إنها حشرة زاحفة تتواجد في الزوايا بين الجدران . حيث تصنع لنفسها شباكاً من خيوط لينة جداً ، تتداخل مع بعضها وفوق بعضها كأنها جدران لمسكن لها . وأثناء عملها الدؤوب في نسج خيوطها لا تكاد تستطيع أن تميز أنثاها عن ذكرها ، ولهذا تستطيع أن تطلق هذه التسمية على كليهما ، وأنت لست متأكداً أنك تطلقه على ذكر أو أنثى .(1/275)
وتختلف أحجامها وألوانها تبعاً للبيئة التي تتواجد فيها . وهي لا تنفع لشيء على الإطلاق ، بل عدوة لدودة لربات البيوت لأنها تلزمهن بين الفترة والأخرى بتنظيف أسقف بيوتهن وجدرانها . حشرة بهذه المواصفات تحتل اسماً لامعاً في سورة قرآنية كبيرة . هذا كله كان دافعاً كبيراً لي لكي أدرس هذه الحشرة علمياً ثم أحاول أن أجد الرابط الذي يربطها بهذا المعنى الديني ومغزاه . أما الآيات نفسها التي تتحدث عن العنكبوت وعددها ثلاثة فالله سبحانه يقول :
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون .
{ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز }
3. { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 41-42-43] . بادئ ذي بدء نكاد نقرر أن هذه الآيات منقطع سياقها عما قبلها . لكننا بعد أن نستجلي حقيقتها فإننا سنجدها جاءت خاتمة لحديث قرآني عما حل بالأقوام السابقة .(1/276)
ونتوقف للتذكير بالمصطلحين القرآنيين اللذين عالجناهما من قبل وهما ( من دون الله ) و ( أولياء ) . وأما المصطلح الأول فقد تكرر في هذا المقطع مرتين ، مرة مضافاً إلى الله ظاهراً ، ومرة مضافاً إليه ضميراً . وقلنا إن معناه دال على كل من اتخذ له معبوداً غير الله تعالى . وأما المصطلح الثاني فلا يطلق إلا على من كان ثابتاً في مودته ، مستغرقاً فيها زمناً طويلاً . ومن نافلة القول أن نقول : إن أي فتاة لا يصبح لها بيت ما لم تتزوج ، ونقول عندئذٍ عنها إنها في بيت زوجها .لكن هذه المرأة التي تزوجت لا ينعقد لها زواج شرعي إلا بولي لها وشاهدين ( (1) ) . هكذا يحدد الإمام الشافعي شروط عقد الزواج ، فإن نقص النكاح واحداً من هؤلاء كان فاسداً ( (2) ) . ثم يجمعها معاً فيقول : لا نكاح إلا بشاهدي عدل وولي مرشد ( (3) ) . وهكذا تنجلي الآية الأولى بعد تحليل مصطلحاتها ، ووضع شرعية هذا الزواج فيها إلى أن نقول : هناك امرأة اتخذت لها معبوداً غير الله تعالى ، كانت ثابتة على محبته ومودته زمناً طويلاً كما هو حال المتزوجة الشرعية ، لكنها اتخذت معبودها هذا زوجاً لها في زواج لا يمكن إثباته أو إقامة دليل عليه . وهو زواج لا شرعي ، مورس فيه نكاح محرّم مع زوج لا مرئي . وهو زواج واهٍ ضعيف لأنه لا ينعقد له ثمر . إذ أن الزواج الشرعي وسيلته الاستمتاع الجنسي وهدفه الإنجاب . فكل زواج لا يحقق هذا الهدف هو زواج كهذا معرض للانهيار تماماً كما هو بيت العنكبوت . إنهما لو يعلمان حقيقة زواج كهذا ما أقدما عليه . وتوضح الآية الثانية { إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم } .
__________
(1) -الأم . الإمام الشافعي ص13 المجلد الثالث – منشورات دار الفكر .
(2) - المصدر السابق : ص13 .
(3) - المصدر السابق : ص23 .(1/277)
أن الله سبحانه عالم بأن هؤلاء الذين يطلبون معبوداً لهم سواه ، إنما يطلبون معبوداً لا يملك من أمر نفسه شيئاً بل إنه لا شيء على الإطلاق . فالله يتصف بالعزة وهؤلاء أذلاء ، والله يتصف بالحكمة وهؤلاء أعمتهم الشهوة ، وأضلتهم الرغبة فكانوا عمياناً لا يبصرون الحقيقة . هذا هو الجانب الذي عالج فيه القرآن الكريم ظاهرة العنكبوت علاجاً دينياً متصلاً بتلك التي اتخذت لها شريكاً بديلاً عن الله تعالى . لكن الجانب العلمي الذي يبسط الحقائق ويعالجها في ظاهرة العنكبوت ، يضيء جوانب عدة مهمة في هذه الحشرة .
وأول هذه الظواهر أن العنكبوت لديها القدرة على قتل زوجها . فإذا لم يسارع الزوج بعد نكاحه لها بالهروب منها قامت بقتله ( (1) ) .
هذه الظاهرة تكاد تعيد نفسها في حالة المرأة المتزوجة زواجاً شرعياً ، ولها زوج لا شرعي لا مرئي . فهذا الزوج اللامرئي يقوم بنكاح تلك المرأة في غرفة زوجها وربما على فراشه ، فيكون هذا النوع من النكاح المحرم قتلاً حقيقياً لذلك الزوج الشرعي ، بل ربما يكون القتل الحقيقي أهون بكثير من هذا لأنه يحدث مرة واحدة ويضع حداً نهائياً لاستلاب رجولته وكرامته .
وربما تكون في كثير من الأحيان عازفة عن ممارسة الجنس مع زوجها ، فتتركه لينام ، وتبدأ بممارسة الجنس مع شيطانها أو زوجها اللامرئي اللاشرعي . هذه الحقيقة يؤكدها ابن سيرين عندما يتحدث عن العنكبوت فيقول : العنكبوت من الممسوخ ، ويدل على امرأة ملعونة تهجر فراش زوجها ، ورؤية نسجها وبيتها اقتناء امرأة بلا دين ( (2) ) . ويقرن ابن سيرين برؤيا العنكبوت وجود رجل لا مرئي فيقول : ومن رأى عنكبوتاً فإنه يرى رجلاً مكايداً ضعيفاً متوارياً جديد العهد ( (3) ) .
__________
(1) - الإعجاز العلمي في القرآن . محمد سامي محمد علي .
(2) -تفسير ابن سيرين ص 312 تحقيق يوسف بديوي ط . ثانية 1993 .
(3) -تفسير ابن سيرين ص 312 .(1/278)
وعلى هذا يكون الرجل عنده ذكراً لا مرئياً من قوله ( متوارياً ) ومكايداً ضعيفاً من وصف الله تعالى للشيطان عندما قال :
{ إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء : 76] .
لقد كان الهدف من هذا البحث كله هو فهم ما قاله ابن سيرين عن العنكبوت . ولو لم أتعرف على العنكبوت من خلال التجربة التي سبق ذكرها ، لما تمكنت من أن أفهم ما قاله ابن سيرين عنها .
ويكاد يكون في كل جملة ذكرها في كتابه بحاجة إلى بحث مستفيض كهذا البحث ، يحلل فيه أسبابها ونتائجها . وربما كان ذلك هو السبب الذي يجعل الناس بعيدين في فهمهم عمّا يقوله ابن سيرين في كتابه .وأما الظاهرة الثانية التي يوضحها العلم في دراسته للعنكبوت فهو طريقته في نكاح أُنثاه .
فالذكر يتراءى للأنثى من بعيد ثم يختفي ، ويعيد الكرة ثانية ، وثالثة ، وتستمر محاولاته هذه لمدة ساعتين يكون خلالها قد وصل إلى الذروة في هيجانه الجنسي وبدأت قطرات منيّه تظهر على يديه لامعة . فإذا تهيأت هي لذلك جاءها من خلفها ، فيفرغ شحنته وينطلق هارباً ( (1) ) .
هذا الأسلوب العنكبوتي للذكر هو نفسه ما يكرره الزوج اللامرئي مع شريكته . إنه يظهر لها معبراً عن رغبته بها ثم يختفي ، ويعيد الكرة ثانية ، وثالثة ، فيمنحها في ذلك الفرصة لتتمكن من إعداد البيت لخلوتها ، أو انتظار الوقت المناسب لها .
فإذا جاءها وهي كما قلنا ساجدة قد كشفت عن ساقيها ، جاءها من خلفها ، ناكحاً لها في دبرها . ولا يصل إليها إلا إذا تسلق ساقيها تماماً كما تفعل صغار العنكبوت عندما تريد أن تصل إلى أمها ( (2) ) .
وأما أن يكون ناكحاً لها في دبرها فهذا ما ينسجم مع وضعه الذكري ، فهو ممسوخ ، ويطال المسخ عضوه . وعندئذ يكون الدبر كافياً له .
__________
(1) -عجائب العنكبوت ص78 كارم غنيم ، مكتبة الأسد برقم 109001 .
(2) -المصدر السابق .(1/279)
وتصاب هي عندئذٍ بقشعريرة سرعان ما تصبح لذة تعمّ جسدها كله ، فيكون استمتاعها أبلغ بكثير من استمتاعها بنكاح مشروع مع زوجها الشرعي .
فإن سقطت نطفة من منيّه في فرجها وكانت هناك نطفة لا تزال حية من زوجها الشرعي واختلطت النطفتان كان هناك مولود حمل صفات جسمانية بشرية ، وصفات أخلاقية شيطانية .
هذا الاستمتاع المفرط لها في نكاحها مع ذاك هو الذي يجعلها سعيدة بهذا الزواج فتحب شريكها حباً يكاد يماثل حبها لله فالله سبحانه يصفهم بقوله تعالى :
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة :16] . وأنداداً جمع مفردها ندّ : وهو المماثل له في المكانة .
إن الاستمتاع بهذا النوع من النكاح هو الذي التقطه قوم لوط عليه السلام من شركائهم وأشاعوه بينهم ، قال الله تعالى على لسان لوط عليه السلام :
{ أتأتون الذكران من العالمين } [ الشعراء : 165] .
هذا النكاح في الدبر نهى عنه النبي الكريم I في الحديث المسند في كتاب ( الأم ) للشافعي رحمه الله . لقد سأله الأعرابي عن نكاح المرأة من دبرها . فقال الرسول الكريم ( نعم ) فلما فطن إلى ما قصده الأعرابي قال : ردوه عليّ فلما حضر قال له :
إن كان من دبرها في قبلها فنعم ، وإن كان من دبرها في دبرها فلا فإن الله لا يستحيي من الحق ( (1) ) .
والله سبحانه ينهانا عن هذا النوع من النكاح عندما أمر المؤمنين أن ينتظروا طهارة أزواجهن ، فقال :
{ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } [ البقرة : 122] .
وأما الصفة العلمية الثالثة التي تتصف بها العنكبوت فهي الانسلاخ . والانسلاخ هنا أنها تتقازم في مراحل حياتها المتأخرة ، فيصيبها النحول والعزوف عن الطعام والشراب ، وتتعرض خلال هذه المرحلة إلى انسلاخات تصل إلى ثمانية ( (2) ) .
__________
(1) - الأم : للإمام الشافعي المجلد الثالث ص 100 منشورات دار الفكر .
(2) - عجائب العنكبوت : أكرم غنيم ص 82 وما بعدها .(1/280)
هذا الانسلاخ في العنكبوت يقابله عند المرأة العنكبوتية المسخ . وهناك انسجام لغوي بين اللفظتين فهناك ( سلخ ) وهنا ( مسخ ) .
لكن التحليل لظاهرة المسخ عند هذه المرأة تعود إلى أن ذلك الاستمتاع الجنسي الذي يكون مصحوباً بنطف حرارية لا تنسجم في الأصل مع نسيج جسمها .
ولما كان ذلك مصحوباً بعزوف عن الطعام فإنها تنحُلُ وتقصُر في كل مرحلة من مراحل المسخ . وعندما يستوفي المسخ مداه فيها فإنك تجدها وقد أصبح وزنها لا يزيد عن الأربعين كيلوا غراماً وأصبح طولها لا يزيد عن المتر إلا بقليل .
وشأنها في هذا شأن الرجل العنكبوت على حد سواء ، فإذا ما امتد العمر بهم – وهم يعيشون طويلاً – رافق ذلك هذيان عقلي مصدره عدم قدرتهم على التحكم بما هو متصل بعالم البشر وما هو متصل بعالم الجن . فلا يستطيع أن يتحكم بألفاظه ولا بأفكاره .
هذا التصوير كله مستمد من واقع حياة هؤلاء المشاركين ، ومن تأكيد القرآن الكريم لهذه الظاهرة ، قال الله تعالى :
{ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم مِن بعد علم شيئاً } [ الحج : 5] . وقوله تعالى :
{ ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئاً } [ النحل : 70] .
وفي الآيتين السابقتين تبدأ لفظة ( منكم ) ومن بعضية بمعنى بعض والكاف لمخاطب حاضر هو هذا المشارك منا . أي بعض منكم ممن هو مشارك فيكم .
ظاهرة طول العمر حدد لها الرسول الكريم صفة أساسية هي أن تكون مصحوبة بحسن العمل . فعن عبد الله بن يسر أن أعرابياً قال : يا رسول الله: من خير الناس قال : ( من طال عمره وحسن عمله ) ( (1) ) .
أما هؤلاء المشاركون فإنهم كلما طال بهم العمر عزفوا عن العبادة تماماً ، وأطلقوا ألسنتهم بسباب فاحش مبتذل لكل من يصبون عليه جام غضبهم .
__________
(1) -وانظر الترمذي في كتاب الزهد (2329) أحمد شاكر . وأحمد في مسند الشاميين (17227) إحياء التراث .(1/281)
وغالباً ما يتبرأ منه أولاده أو أولادها لعدم قدرتهم على تحملهم ، فإذا حان أجلهم فإنهم يموتون في غرف حقيرة قذرة ، منعزلين ، لا يقربهم أحدٌ كأنهم وباء معد .
وتصور الآيات الكريمة الكيفية التي يتم فيها قبض أرواح هؤلاء . وهي كيقية دالة على قرف الملائكة منهم لقذارتهم وسوء حالهم ، قال الله تعالى :
{ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون } [ الأنعام : 93] .
وهم يقومون أثناء قبض أرواحهم بضربهم على وجوههم وأدبارهم . قال تعالى :
{ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق } [ الأنفال : 50] .
ويتأكد هذا الفعل في ضرب الوجوه والأدبار في آية أخرى . قال الله تعالى :
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم } [ محمد :27] .
أما لماذا تفعل الملائكة بهم هذا ؟ فذلك لأنهم كانوا يضعون وجوههم على الأرض ساجدين وكأنهم يقومون بفعل الصلاة التي من شعائرها السجود لله . لكنهم يفعلون ذلك وأدبارهم مكشوفة لشركائهم في حالة استمتاع جنسي .
ولطالما نحن أمام نظرية كاملة يطرحها القرآن الكريم بتفصيل عن هؤلاء الشركاء ، فلا بد لنا من أن نستكمل هذه النظرية من كل جوانبها .
ونجد أنفسنا مضطرين أن نلاحق هذه الجزئيات فيها حتى تتكامل لنا الصورة التي جمعها القرآن الكريم في جزئيات متناثرة في ثنايا السور الكريمة .
لقد تابعنا هذه الشراكة منذ بدئها حتى وصلت إلى نهايتها في قبض أرواح الملائكة لهم .
ولكن السؤال الذي لا بد أن يطرح ، ما مصير أرواحهم ؟ لقد عادت أجسامهم إلى أصلها الذي خلقت منه وهو التراب ، وعادت أجسام أولئك المجرمين إلى أصلها الذي خلقت منه وهو النار .
ومما لاشك فيه أن البرزخ هو عالم الأرواح . إليه تصعد الروح بعد وفاة صاحبها . فأين تذهب أرواح هؤلاء المشاركين ؟
في المقطع الأخير من هذا البحث الذي يقول الله تعالى فيه :(1/282)
{ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين . ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } [ الروم : 12-13-14] .
فالآية الأخيرة من هذا المقطع تؤكد على أن أرواح هذين الشريكين كانتا في عالم الأرض ولم تصعدا إلى عالم البرزخ .
وأنهما روحان متحدتان معاً ، ظلت روح كل منهما في عالم الأرض ، لم تصعد شأنها في ذلك شأن الأرواح الأخرى بانتظار روح شريكها ، فإذا مات التقت روحه مع روحها في عالم واحد وبقيتا فيه .
ولكنه عندما تقوم الساعة ففي ذلك اليوم تتفرق هاتان الروحان لتحشر كل واحدة منهما مع نوعها في الخلق . وإلا فما المغزى من قوله تعالى : ( يومئذ يتفرقون ) ؟
إن عالم البرزخ هو عالم الأرواح الطاهرة ، وأما هؤلاء فإنهم لقذارة أرواحهم ليس لهم مكان فيه .
فإذا بدأ الحساب تواصل إنكار هؤلاء لما كانوا عليه في حياتهم ، وهم الذين تمرسوا على هذا الإنكار فلم يستجيبوا لأوامر الله ونواهيه . فيقولون وهم بين يدي الله تعالى :
{ الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعما من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تفعلون } [ النحل : 29] .
( ما كنا نعمل من سوء ) إنكار متواصل ينم عن أرواح متمردة ، حملت تمردها معها ، ولم تأنس بقربها من الله تعالى . فاستحقت بذلك الخلود في نار جهنم .
هل يمكن القول أن صفحة العنكبوت قد طويت بهذه النهاية ؟
الحقيقة أنها طويت لها لكنها فَتحت لمن معها ، ولمن بعدها صفحة جديدة هي : صفحة الشراكة بالوراثة .
لكن العنكبوت بحسب التحليل السابق لها ولصفاتها ، ستبقى حقيقة كونية لا تقل عن أية حقيقة كونية أخرى لاستمراريتها بدءاً من امرأتي نوح ولوط عليهما السلام ، ومروراً بزوجة العزيز . وصولاً إلى هذه المرأة التي كادت لي وستبقى قائمة إلى قيام الساعة .
نماذج
من تفاسير القدماء والمعاصرين للعنكبوت
1-فالطبري رحمه الله تعالى يقول :(1/283)
مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرها ونفعها عند حاجاتهم إليها في ضعف احتيالهم كمثل العنكبوت في ضعفها .
وينقل بإسناد عن قتادة قوله : هذا مثل ضربه الله للمشرك مثل إلهه .
ويلاحظ أن كليهما استعملا الآلهة والأوثان وهما معبودان جامدان لا يتحركان .
2-وأما ابن كثير فلا يخرج عما قاله الطبري فيقول :
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله .
3-وفي ( المنتخب في تفسير القرآن الكريم ) للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ص597 فيقول : ( شأن المبطلين الموالين لغير الله في الضعف والوهن والاعتماد على غير معتمد كشأن العنكبوت .
4-وأما الدكتور محمد البهي في تفسيره للآية من سورة العنكبوت فإنه يقول ص24 وما بعدها : وتعود السورة إلى الكشف عن قيمة المشرك والمشركين . فالإنسان قد يتخذ ولياً من إنسان آخر أو من قبيلة أو حزب أو دولة أو نظام معين أو حجر أو صنم يركن إليه…
وهكذا نجد أن هؤلاء المفسرين لم يستطيعوا أن يتخيلوا زواجاً قائماً بين مرئية ولا مرئي هو زواج في ضعفه كضعف بيت العنكبوت . إنه شرك لكنه لا مرئي .
المشاركة بالوراثة
قبل البدء في إثبات هذه الحقيقة لا بد من تساؤلات عديدة تفرض نفسها . كيف يتم انتقاء اللامرئيين للمرئيين ؟
ولماذا يتم اختيار هذه دون سواها من النساء ؟ أو يتم اختيار هذا دون سواه من الرجال ؟ وربما يثبت العلم الحديث إذا حظي هذا العنوان باهتمام علماء الوراثة ، أن هناك مورثات تنتقل من عائلة إلى أخرى عن طريق هذا المورّث اللامرئي .
واستكمالاً للنهاية التي تكون عليها نهاية المرئي في وفاته ، وبعدها ، نقول : هل تنتهي مشكلته مع شريكه بموته ؟(1/284)
وللإجابة على هذا السؤال نقول : إن مشكلة المرئي مع شريكه تتجدد مرة أخرى قبل وفاته وبعدها . إذ يجد نفسه مضطراً أن ينقل شراكة شريكه أو أحد أبنائه إلى واحد من أبنائه أو واحدة من بناتها . ولتحقيق ذلك يتبع المرئيون أحد أسلوبين :
الأول : أن يعمدوا إلى إقناع أحد أولادهم بهذه المشاركة خوفاً من أن يقوموا بإيذائه ، وهذا ما يسمى بأسلوب التخويف . قال الله تعالى :
1- { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ، فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [ آل عمران : 175 ] فإذا أصر المرئي على عدم نقل هذه الشراكة إلى أولاده ، عمد اللامرئيون إلى إيذاء أحدهم كأن يعرضوه إلى حادثة سيارة تودي بحياته ، أو يسقطوه من مكان مرتفع ، وإلى غير ذلك من الحوادث التي لا يكون سببها معروفاً . وغالباً ما يحدث هذا للمرئيين الإناث في شراكتهم مع اللامرئيين الذكور . ولنفهم قول الله تعالى :
2- { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون } [ الأنعام : 127] .
وأمام خوف هذا المرئي على ولده ، والمرئية على ابنتها فإنها تبدأ عندئذ مرحلة الإقناع حيث يعمد المرئي إلى إقناع ابنه بمزايا هذه المشاركة ويزينها له .
بعض من هؤلاء يفلح في إقناع ولده ، والبعض الآخر لا يفلح ، فأما الذي يفلح في ذلك فالله سبحانه وتعالى يبين لنا أن هؤلاء بفعلتهم هذه قتلوا هؤلاء الأبناء قتلاً معنوياً وأنهم قدموهم إلى العذاب بأيديهم ، ولو كانوا عاقلين لما فعلوا ذلك بأبنائهم ، بل هم سفهاء خالون من العقل السليم والتفكير الصحيح . قال تعالى :
3- { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين } [ الأنعام : 140] . ومن إحدى ظواهر العنكبوت قتلها لأولادها ( (1) ) .
__________
(1) -الإعجاز العلمي في القرآن . محمد سامي محمد علي .(1/285)
هذه الصفة الوراثية التي ينقلها الأب إلى أحد أبنائه ، وتنقلها الأم إلى إحدى بناتها ، عبرت عنها الآية الكريمة في قول الله تعالى :
4- { وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } [ الشورى : 46] .
إن مصطلح ( الظالمين ) وروده كاف في آخر هذه الآية ليؤكد أن هؤلاء المرئيين بما فعلوه من نقل هذه الشراكة إلى أولادهم لم يخسروا أنفسهم فحسب ، بل وخسروا أبناءهم أيضاً في عذاب مقيم معهم في دنياهم قبل أن يوردهم معهم في العذاب الدائم في جهنم .
وفي اعتقادي ليس هناك عذاب مقيم دائم أعظم من أن تستلب حرية الفرد ، ويصبح طوع قيادة غيره ، تبعاً له طوال حياته .
ولنتوقف عند هاتين الآيتين اللتين يرددهما عامة الناس للدلالة على بر الوالدين .
قال الله تعالى :
5- { ووصينا الإنسان بوالديه حسناً وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } [ العنكبوت : 8] .
والآية الثانية :
6- { وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13] .
تؤكد هذه الآية العلاقة الترابطية بين الشرك والظلم وهذا ما أوضحناه في مصطلح ( الظالمين ) ثم : { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير } [ لقمان : 14] .
تؤكد هذه الآية كسابقتها على وجوب بر الوالدين ، مذكراً للأبناء بفضل آبائهم عليهم . ثم { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ، وصاحبهما في الدنيا معروفاً واتبع سبيل من أناب إليّ ثم إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } [ لقمان : 15] .(1/286)
فالآيتان من سورة العنكبوت وسورة لقمان تتفقان في ثنائية عجيبة على أمور عدة ، فكلتاهما تستعملان فعل الشرط ( وإن جاهداك ) . والفعل ( جاهد ) مصدره ( مجاهدة ) وهو فعل دال مع مصدره على بذل الجهد الدائم الذي يحقق الغاية .
هذا الجهد الدائم الذي يقوم به الأبوان أحدهما أو كلاهما له هدف واحد اتفقت عليه الآيتان هو ( لتشرك بي ) و ( أن تشرك بي ) .
ولكن هذا النوع من الشرك بعيد تماماً عن ذهن هذا الابن أو البنت ، وهو شرك يجهل هذا الابن حقيقته ، لأنه يتعرض أثناء ذلك إلى إقناع متواصل من والده يزين له فيها محاسن هذه الشراكة ، ويغريه بمنافعها .
ويقوم الوالد بهذا الإقناع بشيء يجهله الولد تماماً ، وليس لديه أدنى علم به .
ففي الآيتين تتكرر العبارة التالية ( ما ليس لك به علم ) .
وهذه العبارة هي نفسها التي قالها الله عز وجل لنوح عليه السلام بعد فقدانه لزوجته وابنه ، وبعد أن انتهى الطوفان ، وأراد نوح أن يسأل عن مصير ولده وزوجته اللذين وعده الله بإنقاذهما معه . فقال الله له : { فلا تسئلن ( ما ليس لك به علم ) } [ هود : 46] .
وما استشهادي بهذه العبارة من الآية الكريمة إلا لأؤكد على أن هذا العلم الذي قصدته الآيات الثلاث هو ذلك النوع من العلم الذي يجهله معظم الناس .
والآيتان تتفقان في فعل آخر هو ( فلا تطعهما ) ولا هنا ناهية ، تنهى هذا الولد أو البنت عن إطاعة أبيه أو أمه إذا دعي إلى تعلم هذا العلم الذي يجهله ويجهل هدفه ونهايته .
وعندئذ إذا تكشفت حقيقة هذه الدعوة لهذا الابن ، وكان رافضاً لها ، غير مؤمن بها ، فإنه يكون لزاماً عليه حينئذ أن يتجنب الولد أباه وأن تتجنب البنت أمها ، ما خلا صلة محدودة بينهما بالمعروف .(1/287)
وأما الأسلوب الثاني الذي يسلكه هؤلاء اللامرئيون في نقل شراكتهم إلى الجيل الثاني من المرئيين فهو انتظار الوقت المناسب الذي يقع فيه هذا المرئي في موقف يستلزم تعرية تامة تطول من ناحية أو تتكرر من ناحية أخرى .
ومثال التعرية التي تطول هناك مرضان يستلزمان ذلك وما يجري مجراهما كالحريق والجرب فإذا كان الحريق عاماً في الجسم ، فإن ذلك يوجب التعري ، وعندئذ يقوم اللامرئي بدور الطبيب فيعالج هذا الحريق بوسائله وامكانياته ليصل في نهاية الأمر إلى شفاء يكاد يكون تاماً منه ولا يترك أثراً على الجلد .
ومما لا شك فيه أنهم خبراء في معالجة الحروق لأنهم هم أنفسهم يكون موتهم حرقاً ، فإذا ما أصيب أحدهم باحتراق جزئي قاموا بعلاجه على الفور لأنهم إن أبطأوا فيه وصل إلى الموت المحقق . ومن الأمراض التي تستلزم التعري هو الجرب ، وخاصة ذلك النوع من الجرب الذي ينشأ في مكان العورة . فهذا يتطلب التعري واستعمال نوع من الدهون للجسم كله ، ولمدة طويلة .
وأما النوع الثاني من التعري الذي يتكرر ويطول فهو تعري الفتاة في الحمام وطول بقائها فيه . ففي حادثتين منفصلتين ، وقعت زوجتان حديثتا الزواج بحريق كامل في الحمام ، انتهى بهما الأمر إلى المشاركة السرية العنكبوتية .
وفي حادثة أخرى ، شكا لي زوج متزوج حديثاً عما يعتري زوجته ، عندما يكون معها في غرفة النوم ، عن تهديد يسمعه بأذنيه ، أن لا يقرب منها . فطلبت رؤيتها ، كانت فتاة صغيرة لا يزيد عمرها عن ستة عشر عاماً . فسألتها : متى حدثت معك هذه المشاركة أول مرة ؟ قالت : كنت خارجة من الحمام وعليّ مناشفي فنمت بهم على سرير والدتي . سألتها : وكم يطول مكوثك في الحمام ؟ قالت : أكثر من ساعة ؟
ولفت نظري في حديثها قولها ( على سرير والدتي ) فقلت : وهل أمك مصابة مثلك ؟ قالت : نعم .(1/288)
هذا الجانب من هذه الشراكة الإرثية الذي عالجناه لحالات فردية ، نجده يكاد يكون عاماً في المشاركة الجماعية . ويحفل القرآن الكريم بإظهار هذا النوع المتوارث من الشراكة . قال الله تعالى :
7- { بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر } [ الأنبياء :44] .
فلفظة ( هؤلاء ) في سياق الآية تعني الأبناء ، ويؤكدها عطف الآباء عليهم .
وفي حوار الأنبياء مع أقوامهم التي حل عليهم العذاب الماحق تتكرر العبارات التي تشير إلى سير الأبناء على خطا الآباء في نقل هذه الشراكة من جيل إلى جيل .
قال الله تعالى :
8- { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا ، وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب } [ هود : 63] . ثم :
9- { قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } [ هود :87] .
وقال قوم فرعون لموسى عليه السلام :
10- { قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا } [ يونس : 78] .
ويتوالى هذا التعبير الدال على نقل هذه الشراكة من الآباء إلى الأبناء في قوله تعالى على لسان قوم عاد إذ قالوا لنبيهم هود عليه السلام :
11- { قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } [ الأعراف :70] .
ويؤكد الله سبحانه على هذه الحقيقة في كل الأقوام التي لم تستجب لدعوة أنبيائها في عبادة الله وحده وهم أنهم كلهم كرروا هذه المقولة .
{ قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } [ إبراهيم : 10] .
والآية تحدد أنهم كلهم كانوا يعبدون ما لا يرى لقولهم : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) والبشر عالم مرئي .
صفات المرأة العنكبوتية
للمرأة العنكبوتية صفات عدة يكرسها السلوك العائلي والاجتماعي . ويمكن للعين المبصرة أن تميزها عن باقي نساء جنسها . فمن هذه الصفات العائلية :(1/289)
1-بخل شديد هو إلى الشح أقرب ، فهي حريصة حرصاً عجيباً على كل قرش تريد أن تنفقه ، سواء عليها أو على بيتها .
2-تجدها قذرة في مطبخها ، وفي غرفة نومها ، فلا تكاد تستسيغ أي طعام تضعه على مائدتها ، لعزوفها هي نفسها عن الاهتمام بمائدتها ، وهذا يؤدي فيما بعد إلى عوامل انسلاخها .
3-تصرف عن طعامها أي نوع من البهارات ذات الرائحة النافذة كالفلفل والشطة فهذه الروائح تؤذي شريكها .
4-تحتفظ بكل شيء مهما كان تافهاً ، عديم القيمة ، عديم الاستعمال ، لفترة طويلة من الزمن ولا تخرج من ذلك شيئاً إلا عند الضرورة القصوى .
5-إذا كانت تعيش وسط بيئة متدينة فإنها ترتدي لباساً دينياً مستغرقاً فيه ، فتضع منديلاً أسود على وجهها ، وقفازات سوداء في يديها ، وجلباباً أسود يغطيها من قمة رأسها إلى أخمص قدميها .
فإذا خرجت من هذه البيئة ارتدت من الثياب ما يلائم البيئة التي تتواجد فيها .
6-تتمتع بشخصية قوية نافذة على زوجها وأولادها ، فزوجها مسلوب الإرادة مسلوب الرجولة ، يلاحقه خوفه منها في كل مكان يذهب إليه .
وقد تراه أحياناً كثير الجعجعة ، لكنه لا يستطيع أن يفعل أي شيء بقرار منه ، فالكلمة الأخيرة لها ، والقرار قرارها .
فإذا ما حُصر زوجها في موقف لاتخاذ قرار فإنه يخلص منه بالقول : دعوني أشاورها .
7-تهيمن على أولادها بأسلوب يعزلهم عن أبيهم ، فلا سلطان له عليهم ، ولنا في امرأة يعقوب عليه السلام خير دليل على ذلك .
8-تنصرف عن خدمتها لأبويها ، معتذرة في كل مرة عن انشغالها بأمور أعاقتها عن الحضور إليهما ، فهي بعيدة عن برها لهما ، وهذا الحال هو نفسه سيتكرر معها في أُخريات أيامها مع أولادها .
وهي حريصة على عزل أبنائها وزوجها عن أفراد عائلتهم ، مفتعلة معهم مشاكل تافهة فقط لتكون بين يدي زوجها وأولادها حجة مانعة لهم من التواصل مع أقربائهم .(1/290)
9-وكما يخلوا طعامها من أي ذوق أو تذوق فكذلك يخلوا لباسها ولباس عائلتها من أي ذوق ، فلا تجدهم على الرغم من وضعهم المادي الجيد لا يرتدون لباساً ذا قيمة جمالية أو مادية .
10-غالباً ما يقوم نزاع حاد بين أولادها على نصيبهم من الإرث ، تصل إلى عداوة حقيقية فيما بينهم ، ثم إلى قطيعة كاملة .
ففي دراسة العنكبوت علمياً ما يؤكد على أن الأخ يقتل أخاه ( (1) ) .
11-تعزف المرأة العنكبوتية عن التواصل الجنسي مع زوجها كلما تقدم بها العمر ، وقد يتمادى الأمر فلا تسمح له أن ينام معها في غرفتها .
وأمام إلحاح زوجها في ممارسة حقه معها ، فإنها تضع حداً لذلك طالبة منه الطلاق .
إن اجتماع هذه الصفات كلها دال على امرأة مشاركة ، لكن اجتماع بعضها يوحي بوجود آثار من شراكة في هذه العائلة ، قد يكون بعضها لا يزال قوياً ، وبعضه يصبح ضعيفاً
إن خطورة المرأة العنكبوتية لا يتوقف عند نقل هذه الشراكة إلى إحدى بناتها ، بل يتعدى ذلك إلى خطر أكبر ينحصر في دخول المرأة العنكبوتية إلى بيوتات الآخرين .
فلكون شركائها ذكوراً ، فإنهم يدخلون معها ، ولكونها امرأة فإن النساء يجلسن أمام بعضهن مكشوفات وغير محتشمات ، وهذا يتيح لشركائها فرصة انتقاء من تعجبه منهن .
وعند خروج المرأة العنكبوتية من ذلك البيت ، فإن ذلك الشيطان الذي جاء معها لا يخرج معها ، بل يبقى في البيت مستقراً فيه .
أليس دعاء نوح عليه السلام في آخر آية من سورة نوح دليل على أنه قد وعى هذا الدخول للامرئيين إلى بيته عندما قال : { ولمن دخل بيتي مؤمناً } [ نوح : 28 ]
إذ أنها تؤكد أن هناك داخلين إلى بيته ليسوا مؤمنين وليسوا مرئيين ، لأنه لم يكن ليسمح لأحد ممن فيه صفة الكفر والإشراك أن يدخل بيته أصلاً .
__________
(1) - عجائب العنكبوت ، كارم غنيم ص80 .(1/291)
وعندئذ تبدأ صفحة جديدة لهذا الشيطان في هذا المسكن الجديد متلصصاً على نساء البيت وفتياته . وتبدأ معه فتنتهن ، فيوحي إليهن أن يبرزن مفاتنهن ، ويزين لهن جمالهن في قدرتهن على إيقاع بعض الأقارب في حبهن ، ويتمادى الأمر في ذلك ليصل إلى الزنا . أليس هذا الفهم يطابق قول الرسول الكريم I ( الحمو هو الموت ) ( (1) )
إن منشأ الشراكة الوراثية من جيل إلى جيل ، قائم على تخيل عائلتين إحداهما مرئية والأخرى لا مرئية يسكنان معاً في بيت واحد ، منذ زمن بعيد . فيقوم الذكر اللامرئي بالزواج من المرأة المرئية العنكبوتية ، ويمتد بهما العمر وينجب كل منهما عدداً من الأولاد فينتقي هذا اللامرئي واحدة من بنات المرئية لابنه . ويستمر هذا الانتقال من جيل إلى جيل .
ويمكن لنا أن نستدل على البيت الذي تسكن فيه عائلة لا مرئية من ظاهرة نكاد نراها ولكننا لا ننتبه إليها وهي ظاهرة الهجر . إذ أنه لا بد من أن يأتي يوم على هذا البيت ، يهجره فيه ساكنوه ، فيبقى البيت قائماً لسنوات لا يسكنه أحد منا . ثم ينهار بالتدريج ولا تجد من يطالب به .
وإذا كنا قد ربطنا هجر هذا البيت دون سواه لأنه كانت فيه مشاركة فردية . فإننا عندئذ يمكننا أن نفهم عمق هذه الظاهرة من خلال المشاركة الجماعية التي كانت قائمة في بعض المدن .
هذه المدن المشاركة شراكة جماعية حلّ عليها دمار كامل ، فأزيلت عن وجه الأرض ، لكن هناك مدناً لا تزال آثارها قائمة ، وهي المدن الأثرية التي تعتبر اليوم من معالم البلد الحضارية ، في أي بلد وجدت فيه .
والسؤال الذي يطرح نفسه ، لماذا اندثرت الحياة في هذه المدن ، على حين أن هناك مدناً كانت تعاصرها ولم يحدث لها ما حدث لتلك المدن من هجر سكانها لها وتحولها إلى خراب ؟
__________
(1) -أخرجه الترمذي في كتاب الرضاع (1171) أحمد شاكر . والبخاري في كتاب النكاح (49341) البغا . ومسلم في كتاب السلام (2172) عبد الباقي .(1/292)
وللإجابة على هذا السؤال أقرر الحقيقة التالية : أن كل مدينة استوطن بها الجن ينتهي أمرها إلى هجر سكانها لها ، فتندرس معالمها ، ولا يبقى منها إلا ما يدل على وجود مدينة كانت قائمة في عصر ما في هذا الموضع .
فالقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة عندما يتحدث عن مدينة مأرب . هذه المدينة وصفها الله عز وجل بقوله :
{ بلدة طيبة ورب غفور } [ سبأ : 15]
ولكن أهلها أعرضوا ( فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم )
ولقد حددنا في مصطلح ( الظالمين ) أنه مصطلح استعمله القرآن الكريم للدلالة على المشاركين من عالم البشر شراكة جماعية .
نعم لقد ظلم أهل مدينة مأرب أنفسهم فقاموا بمشاركة طوائف من عالم الجن ، هذه المشاركة لم تكن بمنأى عن عذاب الله { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } [ سبأ : 19]
ويؤكد القرآن الكريم حقيقة هذه المشاركة الجماعية التي قادها إبليس نفسه ومن معه فقال :
{ ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه }
فكان اتباعهم لإبليس هو شراكة جماعية ، ليس لها من نهاية إلا أن يُدمر السد الذي كان عاملاً جوهرياً من عوامل قيام هذه المدينة .
ولم يكن دمار السد سبباً لهجر سكان المدينة لمدينتهم فحسب ، بل كان سبباً جوهرياً لتفريق ذلك النفر من الجن الذين استوطنوا فيها بزعامة إبليس لهم .
إذ أن عالم الجن كعالم الإنس بحاجة إلى موارد طبيعية تمكنه من الاستمرار في حياته ، ولكنهم لا يحق لهم أن يشاركوا عالم الإنس بموارده التي خصصت له .
ولهذا فإن هذا الدمار الذي لحق بالمدن التي استوطنوها مع عالم الإنس كانت وراء دمارها وانعدام الحياة فيها .
ولنتوقف لتأكيد ذلك على هذه الحقيقة في قوله تعالى :
{ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } [ إبراهيم : 45](1/293)
فالآية تقرر أن هؤلاء سكنوا في مساكن أولئك الظالمين وشاركوهم فكان ذلك سبباً كافياً لما حل بهؤلاء الظالمين من عذاب هو مضرب الأمثال لهؤلاء اللامرئيين حتى لا يكونوا سبباً وراء هجر تلك المدن وتفرق سكانها .
وهكذا ننتقل من الخاص إلى العام لتأكيد تلك المقولة التي طرحناها في مقدمة هذا البحث عن هجر البيوت التي يستوطنها عائلات من الجن .
خاتمة لا بد منها
ما من شك أنني حاولت – قدر استطاعتي – أن أبسط من خلال الآيات التي استعرضتها أن أفهم عالم الأولين كما يقرره القرآن الكريم .
وهو فهم قادني إليه من حيث لا أدري علم الرؤيا وتأويله . لما بين عالم الجن وعلم تأويل الرؤيا من صلة وثيقة بينهما ضرورية جداً لمن يريد أن يتمكن من استكشاف الرموز في الرؤى التي تعرض عليه ومعرفة مدلولاتها .
لقد أوصلني ذلك إلى اكتشاف نظامين لنوعين مختلفين من الخلق هما عالم الجن وعالم الإنس ولكل منهما حقائق تتصل به ، وصفات تميزه عن الآخر .
فالنظام الشمسي متصل بالإنسان قطعاً ، والنظام القمري متصل بالجن حتماً .
فنحن الآخرون ومنا المؤمنون ، ومنا السابقون ، ومنا الظالمون ، ومنا شياطين الإنس .
وهم الأولون ومنهم المؤمنون ومنهم السابقون ومنهم المجرمون ومنهم شياطين الجن .
إنه توازن دقيق بين عالمين يتناوبان الحياة على هذه الكرة الأرضية . تبرز عظمة الله تعالى وقدرته على مد هذين النظامين بالشروط الحياتية الكفيلة باستمرارهما وتعاقبهما .
ومن غير الإنصاف أن نعتقد أن الأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم إنما هم أنبياء لنا وحدنا ، وأن العالم الأول غير مكلف بالإيمان بهم . إذ أننا لو اعتقدنا ذلك فإننا نكون قد حررناهم مما كلفنا نحن به ، ورفعنا عنهم مسؤولية العقاب والثواب .(1/294)
وما قول الله تعالى لنبيه I { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] إلا تأكيد لقطعية هذا الاعتقاد وترسُّخِه فهو ليس نبياً ورسولاً لعالم البشر فحسب بل ولعالم الجن . وما مفهوم الرحمة التي وصف الله تعالى نبيه بها إلا دليل على أن نبوته هادية لكل الخلائق بكافة أنواعها فمن اتبعها أصابته الرحمة الإلهية ومن أعرض عنها فقد ظلم نفسه .
وإنني على يقين من أن فهمي للآيات التي استشهدت بها ، وقمت بتحليل بعض منها سيثير جدلاً واسعاً . ونقاشاً مستفيضاً ، بعضهم قد يؤيد ما ذهبت إليه ، وبعضهم سيتمسك بحرفية النص ويعارضني فيه .
وهؤلاء هم الذين سيطلبون مني أن أعود إلى ما قاله المفسرون قبلي اعتقاداً منهم أنني لو كنت مطلعاً على تفاسيرهم لما تجرأت على أن أقول ذلك .
وأرد على ذلك بأمور عدة أولها : أنني لو وضعت أمام كل آية ما قاله المفسرون القدماء والمعاصرون لاحتجت إلى مجلدات تخرج هذا الكتاب عن هدفه الذي وضع له .
وثانيها : أن كل أولئك المفسرين لم يستطيعوا أن يجدوا في تفسيرهم الحد الأدنى من الروابط التي تربط علم الرؤيا بما تمليه الآيات التي قاموا بتفسيرها .
وثالثها : أنني وكل من سبقني إلى تفسير القرآن كله أو بعضه ، وممن سيأتي بعدنا ، لنا جميعاً هدف واحد هو إبراز ما حواه هذا الكتاب العظيم من قوانين وقواعد تنظم الحياة كافة منذ بدئها ، وحتى نهايتها .
ورابعها : هو أن أثبت أن هذه الأمة التي أنجبت مفسرين ومفكرين وعلماء لا تزال قادرة على أن تنجب مثلهم ، بل وربما أن يتفوقوا عليهم بما أتيح لهؤلاء من وسائل حديثة تمكنهم من استكشاف بعضاً من الجوانب التي لم يستطع أولئك اكتشافها .
ولعلي أكون واحداً ممن شرفه الله عز وجل بفهم كتابه العظيم ، وكلفه بنقل ما فهمه كتابةً لهذا الكتاب ، وتعبيراً للرؤيا التي تزداد الحاجة إلى من يعبرها في هذا العصر .(1/295)
وقادني ذلك كله إلى تسليط الضوء على اللفظة القرآنية بشكل عام ، واللفظة المتكررة التي ينضوي تحتها فهم كامل للعوالم ، لا يمكن فهمه ما لم تقترن بمثيلاتها ، لتنظم عقداً واحداً يحيط بكل عالَم محدداً فيه صفاته وشروطه .
ولقد كنت أزداد دهشة عندما أمسكت بالمصطلح القرآني نافذة لي لفهم هذه العوالم لقد وضعت يدي على المصطلح الذي أطلقه الله على العالم الذي خلق أولاً وهو عالم الجن ، ثم على المصطلح الذي استعمل للدلالة على عالم البشر وهو الآخرون .
وربما كان وراء اكتشافي لهذه المصطلحات ومدلولاتها التي لم تخطئ في واحدة منها ، كان وراء ذلك حقيقة انطلقت منها مفادها أن القرآن ثابت ، وهذا يفترض وجود قوانين إلهية ثابتة تنظم العلائق بين كل نوع من الخلق وتضع له القواعد التي لا يصح أن يخرج عنها . ولطالما هو كذلك فهو لا بد أن يستعمل ألفاظاً ثابتة المعنى والدلالة ، ولست أدري لماذا نتقبل أن تكون للعلوم منفردة مصطلحات خاصة بها ، ويكون عدم استعمالها أمام المتخصصين بهذا العلم أو ذاك دلالة على جهلنا بهذا العلم ؟
ولماذا لا نتقبل أن تكون للقرآن ألفاظ ذات معان ثابتة هي مصطلحات يقتضي فهمها فهم واضعها .
وإن عدم تحديد الجانب الذي يعالجه الله سبحانه في خصوصية عالم الجن هو الذي أفسح المجال أمام ذلك العدد الضخم من المشعوذين والعرافين ، وأمام ذلك العدد الضخم من المصابين بمس شيطاني لا يزال موضع حيرة الكثيرين في فهمه .
ويؤكد هذا ما تعرضه المحطات الفضائية لرجال مشعوذين استطاعوا أن يشوهوا صورة الإيمان بما صنعوه من سحر . وما تعرضه هذا المحطات من مآس لأولئك الذين أصيبوا بهذا الأذى الشيطاني ولا يستطيعون أن يجدوا له علاجاً شافياً .
وفي اعتقادي لا يمكن أن يكون هناك علاج شاف ما لم يكن هناك فهم لأسبابه شأنه في ذلك شأن أي مرض جسدي .(1/296)
وأمام هذا فإنك تجد ذلك الموقف المتناقض بين المعالجة الروحية بالقرآن الكريم وبين عيادات الأطباء النفسانيين . فكل يدعي أن الطرف الآخر يقوم بالعمل الذي لا يصح أن يقوم فيه . ويكون المصاب بهذا المس هو الضحية المتلمسة للشفاء عن أي طريق كان .
لقد حاولت في هذا الكتاب أن أسلط الضوء – قدر ما أتيح له فهمه – على الأساليب التي يمارسها أولئك على عالم البشر .
وفي اعتقادي أن فهم السبب المنشئ للمرض متى عرف فإنه يمكن أن نجد له العلاج .
وربما أكون قد أصبت في بعض ما تناولته ، وربما أكون قد أخطأت في بعضه الآخر ومن الطبيعي أن يحدث ذلك أمام موضوع شائك ومبهم كهذا الموضوع في معالجة العالم اللامرئي ومحاولة فهمه .
وإنني متيقن من أن البعض قد يعذرني إن وجدني مخطئاً إذ أنني أنطلق من حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .
( من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر ) ( (1) )
والله من وراء القصد .
المؤلف
5/11/1999
من أحب الحصول على نسخة مطبوعة أو أن يتواصل مع مؤلف الكتاب ما عليه إلا الإتصال على الهاتف التالي : 00963115751111
المراجع والمصادر
القرآن الكريم
السنة النبوية ، قرص ليزري على الحاسوب المجموعة الذهبية .
منامات الرسول ، مجدي فتحي السيد / دار السلام ـ القاهرة/ طبعة أولى 1991 .
تاريخ الطبري ، المجلد الأول تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم / دار سويدان / بيروت ـ لبنان .
أدب الكاتب . لابن قتيبة / تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد / ط رابعة 1963 المكتبة التجارية / مصر
عجائب العنكبوت . كارم غنيم / مكتبة السبع برقم 109011 .
الإعجاز العلمي في القرآن ، د . محمد سامي محمد علي .
الفرق . لأبي حاتم السجستاني / تحقيق د . حاتم صالح الضامن / مكتبة النهضة بيروت ط أولى 1987.
__________
(1) - انظر البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (6919) البغا . ومسلم في كتاب الأقضية ( 1716 ) عبد الباقي .(1/297)
كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال / للعلامة علاء الدين علي المتقي / مكتبة التراث – حلب ط . أولى 1969 .
السيرة النبوية لابن هشام تحقيق مصطفى السقا / منشورات دار إحياء التراث العربي / بيروت – لبنان .
تفسير الأحلام د . سيجموند فرويد ترجمة مصطفى صفوان ط.ثانية ، دار المعارف 1969 .
التجريد الصحيح لأحاديث الجامع الصحيح . لأبي العباس زين الدين أحمد / دار الإرشاد .
المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي / تحقيق د . عبد الله أنيس الطباع / دار القلم بيروت ط 1981 .
المنتخب في تفسير القرآن الكريم . المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية / مكتبة السبع برقم 9372 .
تفسير سورة العنكبوت / د . محمد البهي / مكتبة السبع برقم 1212 ص 91 .
المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبد الباقي / دار الحديث القاهرة ط ثانية 1988
تفسير القرآن الكريم للطبري والقرطبي وابن كثير والجلالين / ديسك على الكمبيوتر .
حياة الصحابة / محمد يوسف الكاندهلوي / ج3 دار القلم / دمشق / ط رابعة 1986
المنتخب في تفسير المنام لابن سيرين الطبعة الثانية 1993 تحقيق يوسف علي بديوي منشورات دار ابن كثير دمشق ـ بيروت .(1/298)