بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة ((واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين)) . فى هذه الآية معنى يشيع فى القرآن كله ، تقوى الله ، والإعداد ليوم اللقاء ، وانتظار بشريات سارة بعد دنيا لم تخل من الكدر والقلق . هذا المعنى الشريف يصحح للإنسان هدفه ، ويضبط خطاه ، ويقيه الزيغ والعثار! وقد كان أئمة التربية عندنا يعتمدون عليه وحده عندما يعجزون عن إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية ، لا لأنه يغنى عن سلامتها بل لأنه يخفف من ضرها ، ويقلل من خللها .. ونحن ننشد إقامة الشرائع التى تقينا السيئات وترهب المجرمين ، ولكننا قبل ذلك نقيم العقائد التى تربط الناس بالله عز وجل وتجعل تعاملهم معه وخوفهم منه وأملهم فيه . إن كثرة الحديث عن الآخرة والجنة والنار لم يكن من قبيل اللغو ! وكثرة الحديث عن التقوى وما تورثه فى القلب من استقرار وما تلقيه فى الطريق من نور ليس من قبيل الخيال . لقد استيقنت أنه لا يقل الغرور والشره ، وحب النفس وحب الظهور ، والمكاثرة بالمال والجاه .. إلا بالإيمان الحى والتعلق الشديد بما عند الله تبارك وتعالى . لقد رأيت من طغى عندما حكم ، ومن غشى عندما تعامل ، ومن استكبر عندما استغنى ، ومن أفسد أسرته وأمته عندما تمهد له الطريق .
ص _006(1/1)
وتأملت الدوافع إلى هذا كله فلم أر إلا قلوبا خالية من الله جل وعز بعيدة عن الشعور بعظمته ورقابته! وإن همهمت بكلمات محفوظة عن الدين والوحى! وأؤكد أنه عند فساد الفطرة لا يوجد دين، وعند اختلال العقل أو نقصانه لا يفهم وحى! وأن الأوامر الجزئية المتناثرة المنفصلة عن روح جامع لا تكون سلوكا كما أن اللبنات المركومة وأسياخ الحديد الملقاة لا تنشئ بيتا... إن تعليمات المرور لا تفيد من أصيب بانفصال فى الشبكية، أو من أصيب فى صمامات القلب. ولقد أقام نبينا ـ صلى الله علليه وسلم ـ حضارة حققت الغاية العليا من الوجود الإنسانى، وكانت عدته فى ذلك ما تلقى من وحى، وما ألهم من هدى. كان أقدر المستقدمين والمستأخرين على تصحيح المسار الإنسانى عن طريق ضبط الأجهزة الرئيسية فى الكيان الإنسانى. ونحن فى هذا المنهج نسير، وبمواريث النبوة نستهدى. إننى عندما أكتب أقسم مشاعرى وأفكارى قسمين! قسما يتعرف الواقع الإسلامى بدقة ـ أعنى أحوال أمتنا ما ظهر منها وما بطن! ـ وآخر يتلمس من توجيهات الإسلام ما يشفى السقام ويدعم الكيان... وفى تعرفى على أحوال أمتنا أميز الأمراض الموروثة عن الوافدة حتى لا أضل العلاج، ولا أسمح للأعراض المتشابهة أن تخدعنى عن جراثيمها المختلفة! وفى تلمسى للأدوية أفرق بين الإسلام من مصادره المعصومة وبين تاريخه المتفاوت بين مد وجزر، وسواء أكان هذا التاريخ سياسيا أو ثقافيا... وعندما أخطئ ـ وأنا خطاء ـ أكون أطوع الناس لمن يأخذ بيدى إلى الصواب، والمشكلة أن المرء قد يطب لغيره، ولا يحسن أن يطب لنفسه، ولا مناص من أن يلهج أبدا بالدعاء المأثور: " اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت "... والله ولى التوفيق... الدوحة فى غرة شعبان 1404 هـ محمد الغزالى ص _007(1/2)
الإنسان فى القرآن كانت الملائكة متشائمة من مستقبل الإنسان على ظهر الأرض.. لعلها أحست أن أصله الترابى سيجعله هشا أمام الاختبارات الصلبة، وأنه سيفقد تماسكه أمام الأهواء والمغريات؟ لعلها رأت أنه يشبه أجناسا أخرى لم تصدع بأمر الله، ولم تحسن تنفيذ وصاياه..؟ أو لعل شعاعا من عالم الغيب طلع عليها فرأت معه صورا من الحروب الدامية، والمسالك المعوجة التى سوف يخوضها البشر، ويظلمون بها أنفسهم. على أى حال لقد تساءلت الملائكة وقالت لله جل شأنه: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) وكان الجواب الأعلى: (إني أعلم ما لا تعلمون). وخلق الله آدم ووهب له عقلا محيطا بالأشياء كلها، ووضع فى هذا العقل خاصة باهرة يستمكن بها من معرفة الأسرار والظواهر، ويهيمن بها على شتيت من القوى والعناصر، إن هذا المحدود فى أعضائه ومشاعره يملك طاقات ضخمة تجعله سيدا لما حوله، بل تجعله ملكا واسع السلطان ممدود النفوذ. ولعل الملائكة اليوم ترقبه دهشة وهو يخترق الفضاء ويغزو الكواكب. لكن عظمة الإنسان لا تكمن فى هذه القدرات الطليعة، إنها تكمن فى أمر آخر أهم منها وأجل، هو معرفته لمن خلقه فسواه، لمن أعلى قدره ورفع مستواه! لله الذى خلق هذا الكون ومكنه فيه وسخره له. إن هذا الفريق من الناس الذى عرف ربه وأسلم له وجهه، وافتتح مغاليق الحياة باسمه، هو الذى يبرز الحكمة من وجود الإنسان فى العالم، وأحسب أن هذا الفريق الصالح المصلح هو الذى استشفت الملائكة خبره ثم قالت لله : ص _008(1/3)
(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم). وقصة الحياة الإنسانية كما ساقها القرآن الكريم تستوقف النظر من نواح عدة نحب أن نتبينها : أولها هذا التنعيم الذى أحاط بها منذ بدايتها، فبين يدى عرض القصة فى سورة البقرة نقرأ قوله تعالى : (هو الذي خلق لكم ما في الأرض). وقبل ذلك بقليل نقرأ: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم). وبين يدى عرضها فى سورة الأعراف نقرأ قوله: (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون * ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم). وبين يدى عرضها فى سورة الحجر، سرد للنعم التى تحف الحياة البشرية نقرأ منه قوله تعالى: (ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش). والواقع أن الرغيف الذى يطعمه إنسان تشترك فى إنباته وإنضاجه فجاج الأرض وآفاق السماء. فتربة الأرض، والسحب الهامية، والأشعة العمودية أو المائلة التى تتعرض لها الحقول وأثر الضوء فى تكوين الخضرة مثلا وأشياء أخرى كثيرة تتعاون جميعا على تكوين الغذاء والكساء. والدواء الذى يحتاج إليه البشر. ص _009(1/4)
إن شبكة من المواد الدقيقة جدا، والجسيمة جدا، انتظصت فى خدمة الإنسان وتأمين معايشه وتخطيط حاضره ومستقبله، كل يؤدى دوره بوفاء وقدرة، الكواكب السابحة فى الفضاء، والجراثيم التى لا تراها العين! وذاك سر الأقسام الكثيرة التى وردت فى القرآن الكريم مشيرة إلى فخامة هذا العالم. (فلا أقسم بالشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق * لتركبن طبقا عن طبق). (كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر). وتدبر القسم بالرياح المثيرة والسحب الحافلة وما يتبع ذلك من زرع وحصاد وتجارة واحتراف وخيرات تعم البشر: (والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق). إن رب العالمين أبدع ما صنع! وحدثنا عن هذا الإبداع لنعجب به ونتذوق جماله. وإنى لأستغرب أحوال الناس ينتسبون إلى الإسلام ويديرون ظهرهم للكون، فلا يدرسون له قانونا، ولا يكشفون له سرا. أى إيمان هذا؟ وأى جهل بقصة الحياة ووظيفة آدم وبنيه فى ربوعها..؟ إن الإنسان فى القرآن الكريم كائن مكرم مفضل محترم مخدوم، ومن حق الله تبارك اسمه أن يعاتب البشر على سوء تقديرهم لآلائه: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير). هذه ناحية تتصل بالتكريم المادى للإنسان، وثم ناحية ثانية تتصل بكيانه المعنوى. فالإنسان نفخة من روح الله الأعلى، هكذا بدأ خلق آدم، وهكذا تتخلق الأجنة فى بطون الأمهات. إن الحياة فى شتى الأجسام المتحركة شىء، وخصائص الحياة الرفيعة فى أبناء آدم شىء آخر، وقد أشاع الله نعمة الخلق بين خلائق كثيرة برزت من العدم إلى الوجود، بيد أن آدم وحده هو الذى وصفه بقوله: (سويته ونفخت فيه من روحي). ص _010(1/5)
واطرد هذا التكريم فى ذريته إلى قيام الساعة: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). والإنسان بهذه النفخة كائن جديد يعلو فوق ما يشبهه من ضروب الحيوان ولذلك قال جل شأنه: (فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين). وبعد أن تم خلق آدم على هذه الصورة أمر اله الملائكة أن تسجد له سجود تعظيم وتوقير لا سجود عبادة! والملائكة هى التى أبدت دهشتها لإيجاد هذا الإنسان واستنكرت ما سوف يقع منه من فساد وفوضى. إنها طولبت بالسجود له بعدما تم تكوينه! وعوقب من رفض السجود بالطرد من رحمة الله. وسواء أكان إبليس من الملائكة، أم كان وجوده بينهم وهو من الجن، فإن النتيجة لا تختلف، إذ إن الاستهانة بالإنسان هى عند الله عصيان وخيم العاقبة! وهذا التكريم البين ينضم إليه أمر آخر عظيم الدلالة على مكانة الإنسان وحفاوة الله به ، هذا الأمر هو الفرح الإلهى بعودة الإنسان التائب واستقبال الله له بإعزاز بالغ وتجاوزه عما فرط منه من خطأ وقوله فى عفو شامل: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى). كلتا الناحيتين من تكريم وتنعيم استتبعت ناحية ثالثة كان لها الأثر الأكبر فى مستقبل الإنسان ومستقبل الكوكب الذى أعد لسكناه، بل فى مستقبل المجموعة الشمسية كلها التى سينتثر عقدها وينطفئ نورها مع انتهاء الرسالة الإنسانية على ظهر الأرض!. هذه الناحية هى (التكليف) ؛ فإن الله الذى زود الإنسان بهذا السمو فى مواهبه لم يتركه سدى، بل أمره ونهاه وطلب منه أن يفعل وأن يترك! وربما كلفه أن يفعل ما يثقله، وأن يترك ما يشتهيه. وهنا نقف وقفة أمام سر التكليف ومعناه لنتناول جملة أمور. ص _011(1/6)
إن أبانا آدم، وهو الإنسان الأول، كلف ألا يأكل من شجرة معينة وكان جديرا به أن يعرف حق الآمر جل شأنه وأن يدع الأكل من هذه الشجرة أبدا. ولكنه بعد مرحلة من الذهول والضعف، عرضت له ساعة انهيار فى إرادته وامتداد فى رغبته فأكل من الشجرة المحرمة، وشاركته زوجته فى عصيانه فطردا جميعا من الجنة. وكانا قد أحسا بالخطأ الذى تورطا فيه فدعوا الله نادمين: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين * قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). ونزل أبونا إلى الأرض وشرع كثير من الأبناء يمثلون القصة نفسها ويرتكبون الخطأ ذاته، ولكنه ليس أكلا من شجرة بل اتباعا للشهوات التى تقود إلى العصيان والحرمان! العنوان متغير والحقيقة واحدة.. إن هذا السلوك من الإنسان الأول يجعلنا نتساءل عن علته ؟ والعلة واضحة فإن الإنسان بدأ حياته بطبيعة مزدوجة، قبس من نور الله داخل غلاف من طين الأرض! إن الله تبارك اسمه بعدما صور الإنسان من التراب وسواه، نفخ فيه من روحه، فإذا كائن عجيب يجمع النقائض فى تركيبه، يقدر على التسامى وعلى الإسفاف، ويقدر على الاستقامة وعلى الانحراف. وقد نبه القرآن الكريم إلى هذا الخليط فى التكوين البشرى فقال جل شأنه: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا). كما نبه إلى أن إلمامه بالخطايا ليس مستغربا، إنه ينزع إلى عرق فيه: (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم). كلتا النزعتين الأرضية والسماوية تجد فى الحياة ـ أو فى البيئة ـ ما يضعفها أو يقويها، وقبل ذلك كله تجد فى الإنسان نفسه ما يرجح كفة على أخرى، وما يسلم زمامه للخير أو للشر، كما يريد هو لنفسه دون تدخل من أحد فى اتجاهه هنا أو هنا. ص _012(1/7)
إن إيثار الوقوف عند الإشارة الحمراء أو المروق منها والتعرض لأخطار الانطلاق الأحمق تصرف إنسانى محض. وفى هذا يقول تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها). أى لو تسامى وترفع. (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) فتركه الله حيث شاء لنفسه. ولابد من توكيد هده الحقيقة، حقيقة الإرادة الحرة فى الصعود والهبوط، وفى التقوى والفجور، وفى إغضاب الله أو إرضائه، فإن الرحمن الرحيم يستحيل أن ينقم على إنسان سعى فى مرضاته، كما أنه لا يرضى عن إنسان سعى فى إغضابه. وبعض الناس يمارى فى هذه الحقيقة من مكابرة، أو تحمل أعذار وهيهات.. فقصة الوجود الإنسانى تقوم على اختبار حقيقى لاكتشاف المحسن والمسيء. (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا). والمحسن إنسان أتقن العمل واحترم الصواب. والمسيء إنسان فرط ولزم العوج. والعراك داخل النفس الإنسانية لاختيار أحد النهجين عراك حقيقى لا صورى. وتلمح صدق هذا العراك وقبول نتائجه فى قوله تعالى: (فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). إن السالم فى هذا العراك إنسان يشعر بقيام الله عليه وعلى سائر الكائنات، ومع نماء هذا الشعور يخفت صوت الهوى ويغلبه صوت الضمير اليقظان أو القلب الحى.. فأين التمثيل أو المحاباة أو الخداع فى هذه الحالات؟ الله جل شأنه ينادى الإنسان ويذكره ويهديه، وعلى الإنسان أن يلبى ويتذكر ويهتدى، فإذا أبى إلا الشرود فهو وحده الملوم، ومن ثم تقررت هذه الأحكام العادلة التى ندركها من قوله تعالى: ص _013(1/8)
(قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها). (ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها). والتزكية والتدسية جهد بشرى محض، أو كذلك يكون أول الطريق ثم يلحقه من مشيئة الله ما يصل به إلى النهاية: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم). ونتساءل مرة ثانية: ما قيمة الصوت المضلل الذى يستمع إليه الإنسان فيزيغ ويشقى؟ الحق أن صداه الضخم أضعاف أضعاف حقيقته التافهة، إنه كنقيق الضفدعة يملأ أكناف الليل ومصدره لا قيمة له! ما الشجرة التى أكل منها آدم؟ هل أحس طويلا لذة ثمرها ومتعة ازدرادها؟ لقد كانت وهما هذه النشوة المأمولة ولو فرضناها لذة ساعة فما قيمتها! إذا وزنت بما أعقبتها من حسرات سنين عددا؟ بل دهرا طويلا! إن الإنسان فى هذه الدنيا تهيجه رغبة حمقاء إلى شىء محرم ما أن يواقعه حتى يحس الفراغ والضياع، وحقيق بالإنسان أن يتماسك أمام عوامل الاستفزاز ومزالق القدم. ونتساءل مرة أخرى: ما مصدر هذا الصوت النابى الجهول الذى يذل الإنسان؟ والجواب أن له مصدرين اثنين: أولهما نفس الإنسان أو الإهاب الترابى الذى غلفت به، والمصدر الثانى من كائن آخر خاصم الإنسان من النشأة الأولى وهو الشيطان الذى آلى على نفسه استدامة هذا الخصام إلى يوم النشور. فى المصدر الداخلى للمعصية يقول الله تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما). فالنسيان وضعف العزيمة رذيلتان وقع فيهما الإنسان الأول، ومع تولدهما فى نفسه تتهيأ الإمكانات للشيطان كى يوسوس ويخادع ويقول لآدم وامرأته: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين * فدلاهما بغرور). ص _014(1/9)
وما تمت هذه التدلة ولا نجح الشيطان فى خدعته إلا لأن آدم كان قد ضعفت ذاكرته وضعفت إرادته. والضعف النفسى أولا، ثم وساوس الشيطان ثانيا.. ولا عبرة بما يتعلل به المخطئون من أن الشيطان هو السبب الأول والأخير فى انحدارهم! إن الشيطان محطة إرسال يذيع منها فنون الإغراء والإغواء، والإنسان هو الذى يهيئ أقطار نفسه لاستقبال هذه الإذاعات والتجاوب معها. وأنت الذى تتخير ما تسمع من محطات (الراديو) المختلفة، ولو شئت أغلقت للفور ما تعاف سماعه، وابتعدت عنه حتى لا يصل صداه إلى سمعك، أو قاومته بمشاعر النفور والمقت حتى لا يستولى عليك! وقد منح الشيطان من أول يوم القدرة على إغراء الإنسان وخداعه. ودفعته خصومته إلى ابتكار وسائل كثيرة ونصب أحابيل مختلفة لإيقاع الأغرار والغافلين، وقيل له: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك). وكان الشيطان لا يملك أكثر من الكلام يكذب فيه ويغر، وقد نبه الله آدم وبنيه من هذا العدو الغار الكاذب. وحذرهم من الشراك المنصوبة والأقاويل المزورة. إن الشيطان يعد كذبا، ويقسم حانثا، وينصح غاشا، ويلين ليلدغ وينحنى ليثب ويصرع. وهو فى هذا كله لا يملك إلا شيئا واحدا، الكلام، الكلام وحده! فلا يجوز أن نصدقه: ( يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى). (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا). ومع ذلك فقد قدر الشيطان بالكلام المضلل أن يزيغ الكثيرين. وسيقول يوم القيامة لمن استجابوا له: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم). إن سلاح الشيطان مفلول والنجاة منه ميسورة! وعندما يقع البعض فى قبضته فلا حماية له لأن القانون لا يحمى المغفلين. ص _015(1/10)
ومن ثم فالجهد الحقيقى فى النصح والتربية يتجه إلى الإنسان أولا وآخرا ليوقظ فيه أسباب الحذر، وليسد الثغرات التى يمكن أن يتسلل منها الشيطان بوساوسه الماكرة. لقد أشرنا إلى الأمشاج التى يتكون منها الإنسان، والحق أن فى الإنسان ـ مع أصله السماوى ـ طباعا لا يجوز تركها حرة تتصرف كما تشاء، لابد من مراقبتها وإخضاع حركتها وسكناتها لحكم الله، وإلا جرته من القمة إلى الحضيض : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين). وليس معنى هذا الرد أنه تحول إلى مسخ ذميم بعدما كان فى ذروة الحسن! كلا. المعنى أن إمكانات الهبوط جاورت معانى الرفعة فى نفسه، وأنه يستطيع التحليق والإسفاف معا، وذاك سر الاستثناء بعد: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). أى سوف يبقى قوامهم حسنا، ماديا ومعنويا! وجاءت فى القرآن الكريم آيات كثيرة تقرر الطباع الرديئة التى ينبغى الخلاص منها. فالإنسان (أنانى) يحب نفسه وحسب، وقد تكون محبة النفس أصلا فى استبقاء الحياة، ولكن هذه المحبة تتحول إلى مرض خطير يورث الشره والطمع والبغى واجتياح الحقوق بنزق. وقد ذكر القرآن أن هذه الأثرة لا يطفئها الغنى مهما اتسع: (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا). والإنسان نساء أو غافل، وقد يكون هذا أو ذاك أصلا فى استبقاء الحياة، فلو استصحب المرء حزنه إلى الأبد على ما فقد ما صلحت الدنيا. ولكن هذا الذهول قد يكون جرثومة الكنود ونكران الجميل ونسيان الرب وما أولى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا). ص _016(1/11)
(إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد). والإنسان الذى يحلو له أحيانا أن يفخر، ويتطاول، وينظر إلى السماء بقلة اكتراث، تذله علة فى أى مكان فى جسمه أو تذله غلطة فى أى وقت من تفكيره مهما كان عبقريا. (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا). والإنسان محتال كبير فى الدفاع عن نفسه، والتماس الأعذار لأخطائه وعد ما يقع منه وجهة نظر مقبولة أو مغفورة. (وكان الإنسان أكثر شيء جدلا). وهذه الطبائع جميعا مزالق لمن يسترسل معها، وقد نبه القرآن الكريم إلى أمراض شتى تعترى النفس، فالإنسان قد يبطر على الغنى، ويطغى مع السلطة، ويقنط مع الفشل، وقد يستحلى من شهوات النساء والرياء والاستعلاء ما يحيله إلى عبد لنفسه وهواه. ولكن الفكاك من هذه الآثام كلها ميسور، فإن القرآن الكريم لما خوف عواقب هذه الانحرافات الإنسانية ذكر أسباب النجاة منها: (والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبرِ). وما أجملته سورة العصر من وصف للداء والدواء فصلته سور أخرى. نختار منها سورة المعارج التى أسندت للإنسان هذه الخلال: (إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا). لكن الإنسان يبرأ من هذه العلل إذا قام بجملة العبادات المفروضة. ونتساءل: هل هذه العبادات (مصل) واق أم شفاء من أمراض توجد وتتجدد؟ قد يكون هذا أو ذاك. ولنتدبر أولا الاستثناء الذى تضمنته السورة الكريمة: (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم * والذين يصدقون بيوم الدين * والذين هم من عذاب ربهم مشفقون * إن عذاب ربهم غير مأمون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم بشهاداتهم قائمون * والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك(1/12)
في جنات مكرمون). ص _017
لا شك أن هذه العبادات مجتمعة تنشى إنسانا كاملا شريطة أن تؤدى أداء حقيقيا لا أداء تمثيليا، وأحب أن أقف عند واحدة من هذه العبادات لأتأملها وأتعرف على آثارها النفسية، وهى قوله تعالى: (والذين هم بشهاداتهم قائمون). إن الإنسان المسلم يجب أن يكون مستعدا دائما لأداء الشهادة على وجهها، وليحق الحق، ويبطل الباطل، ويدعم العدالة. والقيام بالشهادة يتطلب صراحة لا تخاف فى الله لومة لائم، ذلك أن الحق يختنق فى هذه الدنيا وسط دخان الشهوات المتصاعد من هنا ومن هناك. والمرء ينكل عن الأداء بالرأى الصحيح والقول الصحيح لأنه يخشى على مستقبله مثلا، أو يريد محاباة قريب، أو يطمع فى مال، أو يتطلع إلى منصب، إنه لا يستبين وجه الله من غلظ الحجب على بصيرته! والمجتمع الإسلامى يسقط مع اختفاء الذين هم بشهاداتهم قائمون. لأن هؤلاء المؤمنين ـ كما يزعمون ـ ليسوا بشهاداتهم قائمين، ربما سكتوا أو قالوا فلم يعدلوا! وكم رأينا من أناس قدموا وحقهم التأخير أو أخروا وحقهم التقديم. ولقد عرفت لماذا سبقت بعض المجتمعات سبقا بعيدا عندما قرأت أن زوج الملكة فى هولندا عزل وجرد من أوسمته لما كشفت صلته بقضية رشوة، وأن رئيس وزراء اليابان عزل ورمى به فى السجن للتهمة نفسها. إن القيام بالشهادة يعنى ألا نترك صاحب حق مستوحشا فى هذه الدنيا لا صديق له ولا ظهير. والشهادة بداهة ليست ما يقال أمام المحاكم فقط، بل ما يقال فى كل خلاف أو مشورة أو اختيار أو انتخاب أو أى شأن ذى بال. والقائم بالشهادة رجل أسلم لله وجهه وقرر أن يحيا للحق وحده! ص _018(1/13)
وقد تتشابك فى نفس الإنسان عدة طباع مثل تشهى الحياة، وتعجل النتائج وغلبة الأثرة، فيصدر أحكاما خاطئة على ما يصيبه من خير أو شر، وتستبد به المبالغة فتجمح به مشاعره نحو نفسه ونحو الناس. وفى هذا يقول جل شأنه : (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير). فى هذه الآيات صورة الإنسان الذى تستعبده الساعة الحاضرة وحدها، فهو عند فقد ما يسر منهزم كسير من شدة القنوط، وعند وجدانه، ينتشى ويغتر من شدة الفرح. وكان يجب أن يتمالك نفسه فى الحالين وينظر إلي أصابع القدر وراء ما يحسه فيستكين لله ويؤدى ما عليه بتعقل.. ثم ينضم إلى هذا الإحساس المعتدل شعور آخر، أساسه أن ما يناله من خير ليس تمتيعا له وحده، فإن للمحرومين سهما فيما جاءه، وقد يكون سهما كبيرا: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حبا جما). والآيات تشير إلى أن الغنى ابتلاء، وأن الفقر ابتلاء، ومن الخطأ تصور أن الإغناء تكريم، والإفقار إهانة، والعبرة بالنتائج، فإن الذى يستعف فى فقره أسبق عند الله وأرجح فى الميزان من الذى يطغى بغناه. والذى يمنح الثراء، فيفتح أبوابه لليتيم والمسكين ويسارع بالبذل فى مواطن النفقة هو الإنسان الناجح فى الامتحان السابق فى الميدان. لكن البشر ـ للأسف ـ يحسبون العطاء تدليلا لأشخاصهم، والحرمان إهانة وإذلالا.. وذلك خطأ بالغ فى فهم الدين والدنيا. وعندما خال الناس أن الغنى تكريم ذاتى لبعض الأفراد والأسر، وأن الفقر هوان ذاتى قصده الله لبعض الأفراد والأسر، عندما شاع ذلك انفجرت براكين الأحقاد ضد أصحاب الثروات،(1/14)
وانفجرت معها عواصف الإلحاد والكفر، وتعرض مستقبل الإنسانية كلها للبوار، ص _019
وهل انتشرت الشيوعية إلا فى هذا الجو؟ إن العبادة هى السلم الفذ الذى تصعد فيه النفوس الإنسانية إلى الكمال المنشود. يجب على الإنسان أن يعرف ربه، وأن يقف فى ساحته عبدا نقيا من الآفات والعاهات. إن آدم لما نسى وضعف أضحى دون مستوى الجنة فأخرج منها. ولن يعود أبناؤه إلى الجنة وهم يحملون أوزار النسيان والضعف، لابد من إيمان واضح وعمل صالح. وفى طول القرآن وعرضه، توكيد لهذه الحقيقة التى حاول كثيرون الزوغان منها. ونعود إلى الخاصة الأولى فى تكوين آدم وبنيه، خاصة العقل العالم بالأشياء الخبير بالحقائق والأسماء، إن الإنسان المكلف بعبادة الله لا يعبده بشبحه المحدود، وجسمه المادى القاصر! إنما يعبده بتطويع طاقاته كلها لله. إنه يضع بصماته المؤمنة على الأرض حتى إذا سجد سجد معه زرعها وضرعها وحديدها وذهبها وكل ما سلك وارتفق! وأرى أن ذا القرنين عندما ساوى بين الصدفين، وذوب الحديد والنحاس داخل سلسلة من القلاع التى تحمى الضعاف وتذود الطغاة ـ أرى أنه أحق الحق وأبطل الباطل لا بالكلام وحده، ولكن بجعل الأرض ومعالمها ومعادنها تؤدى وظيفته وتحمل طباعه وكأنها امتداد لنبض قلبه وبطش يده. وهل ملك الله الأرض الإنسان إلا لهذا؟ عندما تعطى خادمك أسباب الزينة والوجاهة فيجيئك أشعث أغبر فأنت تضيق به. والعباد الجهلة بالحياة، والغرباء فى الكون، سوءة زرية، وجهل أو تمرد على الخلافة الإنسانية فى العالم. ونحن المسلمين سنحاسب حسابا عسيرا على تخلفنا الواضح فى العلوم الطبيعية. ربما احتاج الإنسان كى يصلى إلى مساحة من الأرض لا تعدو ذراعا فى ذراع، ولكنه كى يدفع العدوان عن هذا المسجد الضئيل يحتاج إلى معرفة تمتد من الأرض إلى المريخ بل إلى الشمس. معرفة فى هذا العصر تهيمن على ما فى الأرض وما فوق البر، وتخترق طباق الجو متحسسة آفاقا بعد آفاق من أغوار الكون(1/15)
البعيد. كتب الدكتور فاروق الباز الخبير فى غزو الفضاء عن حاجة العرب إلى (متنقل فضائى) يستعينون به على اكتشاف أرضهم وما أودع فيها من خيرات، وأهاب بالحكومات العربية أن ص _020
تمول هذا المشروع، قال: ( ليس من المستبعد فى نظرى أن تخطو دولة أو دول عربية هذه الخطوة فتحقق ما فيه الخير للعالم العربى كله. نحن نعلم أن الصحراء تكون 96% من جملة الأراضى العربية، ولابد من الانتفاع بجزء كبير من هذه الصحراء إلى جانب دراستها دراسة علمية صحيحة فنحن لا نعلم عن الصحراء إلا قليلا، وربما كان سبب هذا أن علماء الغرب لم يهتموا بالصحراء لقلة الصحارى فى بلادهم ولصعوبة التنقل فى صحرائنا الشاسعة..! ويلزم العلماء العرب أن يدرسوا الصحراء وتضاريسها وتراكيبها دراسة تفصيلية، لان البادية منبع كل ما هو عربى. والصحراء تحيط بالعرب من كل ناحية، ويتضح هذا لرواد الفضاء فى المدار الأرضى وضوحا تاما حتى إن رواد القمر كانوا يتعجبون لظهور الصحراء العربية فى صورهم الملتقطة كتلة واحدة على بعد 4.000.000 كيلو متر). قال: (وتعتبر الصحراء خزانا عظيم الشأن للنفط وللمياه الجوفية ويصلح بعض أجزائها للزراعة المثمرة. وأهم من ذلك كله أن الصحراء خزان عظيم للطاقة لا نهاية لها هى الطاقة الشمسية، ولذلك يجب أن تشتمل دراسة الصحراء العربية تحديد أصلح الأماكن لأبحاث الطاقة الشمسية وطرق الإفادة منها. ومن الناحية الاجتماعية يجب أن تشمل الدراسة التعرف على الأماكن المختارة لمعيشة الإنسان وإنشاء المدن الكبيرة والصغيرة وطرق المواصلات ومنتجات السياحة والترفيه، وتحديد بنية الخضرة فى الصحراء لاستغلالها، ومعرفة المؤثرات المختلفة على حياة البدو، إلى غير ذلك مما يجعل الصحراء بقاعا لائقة للعيش الكريم). قال: (وينجح هذا العمل إذا تم على مستوى عربى جماعى! فالصحراء العربية برغم ترامى أطرافها إقليم واحد له ميزات ومعالم جغرافية واحدة، ولا صلة لهذه الوحدة(1/16)
بالحدود السياسية الوهمية بين الدول، خطوط الشتات التى مزقت الكيان الواحد). قال: (أما المطلوب لدراسة الصحراء على المدار الأرضى فهو فى اعتقادى قمر صناعى يرحل إلى الفضاء مع " المتنقل الفضائى " ـ الذى سبق للدكتور الباز اقتراحه ـ يرجع صوره الملتقطة إلى الأرض رواد الفضاء المختارون، وذلك بين آونة وأخرى). ويكون هذا القمر عربيا فى أغلب نواحيه، يختار مكوناته علماء يقومون بتشغيله، وتدرس المعلومات المرسلة فى عدة معاهد عربية أو فى مركز عربى موحد تشترك فيه الدول العربية كلها). ص _021(1/17)
قال: (وكنموذج للمكونات التى يجب أن يشتمل عليها القمر الصناعى العلمى ينبغى وجود عدة " كاميرات " أهمها " كاميرا " للتصوير الطبوغرافى، و"كاميرا" للتصوير الدقيق، أى بانورامية و " كاميرا " لأخذ الصور المتعددة الأطياف، على نمط أجهزة لاند سات بل أكثر دقة وأقل تعقيدا). [ الكاميرات الطبوغرافية تلزم لأخذ الصور المطلوبة بخرائط على مقياس 1 : 15000 من ارتفاع 180 كيلو متر، وطول عدسة هذه " الكاميرا " هو 305 ملليمترات ومساحة الصورة الواحدة 23 × 46 سنتيمترا.. الخ). إننى تعمدت هذا النقل ليعلم من يجهل أن دراسة الكون شىء مثير وخطير ولابد منه لدنيانا وديننا معا. وأن هذه الدراسة برع فيها غيرنا ونبت لديه جيل من الرواد والباحثين العباقرة على حين تراجعنا نحن وراء وراء. إن هذا التخلف إذا بقى فسوف تتلاشى عقائد الإيمان بالله واليوم الآخر، وينهزم التوحيد هزيمة نكراء. وإننى لأصرح دون مواربة أن هذا التخلف جريمة دينية لا تقل نكرا عن جرائم الربا والزنا والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وغير ذلك من الكبائر التى ألفنا الترهيب منها. بل لعلها أوخم وأشنع عقبى. إن الجو الذى يحيا فيه قارئ القرآن يسع البر والبحر، والسماء والأرض، ويطلق الفكر سابحا فى ملكوت لا نهاية له. ويؤكد للإنسان أنه ملك يخدمه كل شىء فما الذى جعل الفكر الدينى يعيش فى قوقعة؟ إننى أحسى فزعا كبيرا عندما أرى بعض المتصدرين فى العلوم الدينية ـ هكذا يوصفون ـ يمارى فى دوران الأرض أو ينكر وصول الإنسان إلى القمر! لماذا؟ لأنه يعيش فى مغارة سحيقة صنعها أشخاص قاصرون، لا يتصلون بحقيقة القرآن إلا كما يتصل القروى بعلوم الذرة. وإذا كنا هنا قد أطلنا الكلام فى التسامى الروحى للإنسان فلنذكر أن القرآن الكريم ينشد التسامى العقلى والتسامى الخلقى معا. ص _022(1/18)
ويشدد النكير على السقوط الفكرى كما يشدد النكير على السقوط النفسى. أى أنه يحارب الخرافة بالقوة نفسها التى يحارب بها الرذيلة. بل إن منابع الإيمان فى نفس الإنسان تنبجس مع علم عميق محيط دارس للكون دراسة ملاحظة وتجربة واستقراء لا دراسة تخمين وظنون وخيال.. وإذا لم تنبعث نهضتنا من هذا الأصل فلن تكون نهضة إسلامية صحيحة. إن هذا العلم بالمادة، بالفطرة التى فطر الله الكون عليها، بالسنن التى تحكم هذا الكون علوه وسفله، وطوله وعرضه، إن هذا العلم ينظم الإنسان مع الملائكة فى الشهادة لله الكبير بالتوحيد والعدل. نعم.. إن أولى العلم، والملأ الأعلى يؤكدون هذه الحقيقة التى شهد الله بها لنفسه فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). ص _023(1/19)
كيف غير الإسلام مسار العالم لم يكن الإسلام فكرة يحلم بها فيلسوف، أو نظرة ينقطع لها راهب بل كان دينا تتغير به النفوس وتنتقل من أدنى إلى أعلى! وتتغير به المجتمعات تغيرا يصيبها فى قوالب جديدة من صنع الله لا أثرا لصنع الناس!. إن العمل الذى كلف به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعيد الآماد، شاق المراحل، كان عليه أن يزيح ركاما هائلا، من الأوهام والأهواء أثقل القلب الإنسانى وضلل سعيه. كان عليه أن يفك قيودا منعته شاركت فى صنعها أديان أرضية وسماوية. كان عليه أن ينقذ الناس من مواريث روحية وفكرية وأدت الحق وطمست الفطرة. ما كان أحد غير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستطيع ذلك الأمر كما قال الكتاب العزيز: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة). إن انفكاك القرون عما ألفت، وانتقالها إلى طور آخر من الوعى والسداد هما العمل الكبير الذى أتمه صاحب الرسالة الخاتمة، وغير به وجه الأرض ، وصحح به أخطاء التاريخ ولابد من تفصيل يضع النقط على الحروف. إن محمدا وعيسى أخوان، ولكن الإسلام حاسم فى رفضه للفكر الشائع بين النصارى، أى رافض لعقيدتى التثليث والفداء، أساس الدين إله واحد، وإنسان مسئول برأسه عن نفسه، وعيسى لم يقل إلا هذا.. ومحمد وموسى أخوان بيد آن دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفض صلف اليهود، وتصورهم الردىء للألوهية وزعمهم أن لهم بالله علاقة خاصة تسول لهم الجور على سائر الخلق، إن موسى لم يقل شيئا من هذا. ص _024(1/20)
غير صحيح أن محمدا بعيد عن موسى أو عيسى، كلا، إنه بعيد عن مبتدعات أقحمت عليهما وغشت تراثهما، وخدعت الجماهير باسم الله عن دين الله... لكن كيف يتم تصحيح تلك الأخطاء التى غبرت عليها قرون طوال؟ يتم بإنارة العقل والتفاهم الهادئ والحوار الحسن! يتم برد الإنسان إلى فطرته واحترامه لمواهبه واستكشافه لحقيقته. إنك لتلمح ذلك المنهج فى قوله سبحانه: (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). لماذا أحرم عناية الله وعطفه وأنا أخلص له قلبى وأسلم له وجهى؟ لقد كان أهل الكتاب ينتشرون شمالى الجزيرة العربية وفوقها حتى ملتقى البحر المتوسط بالمحيط الأطلسى. أما الجزيرة نفسها، وشرقها حتى المحيط الهادى فإن الوثنيات وجدت لها مرتعا خصبا. وغريب أن يعبد الإنسان حجرا كان من حقه أن يجعله درج سلم يصعد فيه، أو يعبد بقرة كان من حقه أن يذبحها، ويسد بها جوعه إلى طعام دسم! ولكن الإنسان كان ولا يزال يفعل ذلك. الظاهر أن هذه الوثنية غطاء لا تباع المرء هواه، أو هى سد يعترض التفكير السوى ويردم مجراه لتنطلق بعد ذلك غرائز الإنسان الدنيا وشهواته العاجلة لتعربد كيف تشاء. هل تلك الحقيقة الوثنية وحدها؟ أم هى حقيقة كل تدين ينيم العقل ويأبى منطقه؟ سواء فى ذلك الإلحاد والتعديد، والجحد والتجسيد، وما ينتسب إلى الأرض أو ما ينتسب إلى السماء. إن الانحراف عن الصراط المستقيم يأخذ خطوطا شتى، ولا نحاول إحصاء هذه الخطوط، ولا معرفة أين زاغت! المهم معرفة الصراط المستقيم وإيضاح معالمه وإرشاد التائهين يمنة ويسرة إليه. وكم تكون هذه المهمة جسيمة وفادحة إذا كانت تتناول العالم أجمع. ص _025(1/21)
وقد كانت هذه هى الرسالة التى صدع بها النبى العربى الخاتم، عليه أن يهدى الناس كلهم، عليه أن ينير بالحق بصائرهم، عليه أن يفك القيود التى شلت حراكهم الروحى وحراكهم العقلى، إنه رحمة للعالمين وقد تضمن الكتاب الذى نزل عليه التحقيق الأمثل لهذا الهدف الجليل، ونذكر منه الحقائق الآتية: أولا: لا يستطيع المرء أن يعرف ربه معرفة حقة وهو محجوب عن الكون الكبير الذى يعيش فيه، إن التأمل فى الذات العليا مستحيل، وإنما ندرك عظمة الذات من آيات الله فى ملكوته الضخم، وذاك منهج القرآن فى بناء الإيمان: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي). (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا). (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر). (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء). ولا نعرف كتابا قبل القرآن، ولا نبيا غير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ربط الناس بروائع العالم وبدائعه على هذا النحو. وليست صلة الإنسان بالعالم لمعرفة بديع السموات والأرض فقط، بل لبيان المملكة الفسيحة الأرصاد التى أعدت للإنسان وجعلت له مرتفقا... إن التدين ليس غربة ولا عجزا ولا انحسارا فى هذه الدنيا، كيف وقد قيل للناس كلهم: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة). وفى آية أخرى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). ولو انساق المسلمون مع توجيهات دينهم لكانوا أسبق إلى غزو الفضاء من غيرهم ولكن معنى الدين انكمش فى نفوس كثيرة فما قدرت الله حق قدره، ولا أبصرت وظيفة فى كونه، ص _026(1/22)
ولا سمت همتها لتتبع نبيها المتجاوب مع ملكوت الله ، الذى أسرج مصابيح حضارة مادية أو أدبية لا نظير لها. ثانيا: من العلماء والأطباء من اعتبر الزمان بعدا ماديا رائعا مع الطول والعرض والعمق وإذا كان ذلك موضع جدال فى عالم المادة فهو فى عالم الأمم وتاريخها المديد حقيقة ملحوظة.. وقد أشار علماء التفسير على أن كيان الأمم فى الماضى والحاضر وحدة متماسكة، وأن الأخلاف النابتين بعد الأسلاف مسئولون معهم عما قدموا ما داموا ينشئون على عقائدهم ويسيرون فى مسالكهم ويتبنون قيمهم! من أجل ذلك قيل لبنى إسرائيل فى المدينة أيام البعثة الشريفة: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم). لقد خوطبوا بما وقع لآبائهم مع بعد الزمان لأن المسئولية مشتركة بين أفراد القافلة التى تنطلق إلى هدف واحد، وينتظمها باعث واحد، وإن اختلفت الأعصار والأمصار. وهذه النظرة الشاملة للإنسانية قديمها وحديثها جعلت القرآن الكريم يمتلئ بالقصص الحاكية لأحوال الأولين، وأطوار الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، والمرسلين وأتباعهم عن ناحية، والمجرمين وأحزابهم من ناحية. نعم فعلى المستأخرين أن يفيدوا من التجارب الماضية كما يستفيد أى شخص من عظات الأمس القريب أو البعيد! عليهم أن يدركوا: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وعلى المصلحين الثبات فى مواقفهم وإن تجهمت الدنيا لهم وغاب النصر عنهم فإن المستقبل لمبادئهم على أية حال: (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله). ثالثا: الدين عقائد وتوجيهات عملية، وآفة العقيدة ألا تكون مطابقة للواقع، إن الكذب هنا أمر خطير، وآفة التوجيهات التى تكون جائرة مرذولة، تضر الأفراد والشعوب. ص _027(1/23)
والإسلام ـ فى كلا الميدانين ـ منزه عن هذه الآفات، بل هو يتهدد مروجى الكذب فى مجال الإيمان، ومروجى الشر فى ميدان السلوك فيقول: (ويل لكل أفاك أثيم). ثم يكشف الإسلام صت طبيعة الصدق فى عقائده، والعدالة فى وصاياه، فيقول: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم). وكذا يبنى الإسلام حاضر الناس على الحق والخير، إن الله الأحد ليس له شركاء، أين هم؟ لا وجود لهم فى شرق أو غرب، لا وجود لهم فى أرض أو سماء، إن الإشراك خيالات سكارى يجسدون الأوهام، لا إله إلا الله! وأذكى الناس فى تصوير هذه الحقيقة محمد بن عبد الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومنه وحده يعرف الخبر اليقين، كما أن منه وحده يعرف التوجيه الصحيح لسلوك الناس على ظهر هذه الأرض. فالعبادات التى شرحها ضوابط للسمو وموانع من الإسفاف، والمعاملات التى شرعها تدور على محور من المصالح عادة وترفض الضرر للأفراد والجماعات. إن الدين ـ من أفواه بعض الدعاة ـ مر المذاق كريه التناول: لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة، ولأمر ما يقول الله فى كتابه: (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل). وهزائم الدين فى بيئات شتى ترجع إلى هذه الإضافات الأرضية لا إلى أصوله السماوية، وعلى المسلمين المعاصرين الالتفات إلى هذه الحقيقة وهم يتصورون دينهم ويصورونه للناس أن فتانين كثيرين انتشروا هنا وهنالك يتحدثون باسم الإسلام وبصرهم بحقائقه كليل. رابعا: إلى أين المصير؟ لقد فضح الموت الحياة، فهو يسطو عليها كل دقيقة من الساعة، بل كل ثانية من الدقيقة ، وفى أنحاء القارات الخمس تتصل مواكب الذين يغادرون هذه الأرض ليخلو المكان لقادمين جدد.. عجبا، أين يذهبون؟ يقول الدين: إنهم يعودون إلى بارئهم كى يقدموا حسابا عن حياتهم السابقة. ص _028(1/24)
ويفر كثيرون من الإجابة على هذا السؤال لأن سكرة الدنيا تشغلهم عنه، أو لأن خطورة المصير تفزعهم فهم يفضلون عدم رؤيته كما تفضل النعامة دفن رأسها فى الثرى حتى لا ترى الصياد المقبل. وحديث اليهود عن الآخرة غامض ونادر، بل لا ذكر له فى أسفار موسى الخمسة (التوراة) عندهم! وحديث النصارى عن الآخرة روحانى محدود الصورة، أما حديث القرآن فهو عن عالم مكتمل الوعى محسوس الثواب والعقاب، تسمع فيه دوى الحوار بين السعداء والأشقياء كما تلمح فى استيعاب المساءلة لكل ما يقع من المرء فى دنياه. هناك أجل لكل فرد، ما ينكر ذلك مؤمن ولا ملحد! فأما الملحدون فيرون ذلك الأجل ختام الحياة كلها، وأما المؤمنون فيرون ذلك بدء الحياة الأبدية الصحيحة. وستبقى الدنيا تركل وفودها لحظة إلى العالم الآخر حتى ينتهى أجلها هى الأخرى، وهنا تلتقى القرون كلها لتتوزع على النعيم والجحيم، وتكتمل نشأة الدار الآخرة. هناك من يرفض ذلك التصور كله، ولا يدرى من أين أتى ولا من أتى به؟ وتصوير القرآن لذلك الإنسان جدير بالتأمل: (قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين). إن هناك ميثاقا غير مكتوب بين المذاهب والمبادئ المنتشرة فى عالمنا المعاصر، ألا تذكر الدار الآخرة! وأن يقتضب الحديث عنها إذا عرضت ضرورة لهذا الحديث الكئيب! وهذا موقف يستحق النظر. إننى أؤيد ذلك عندما يكون الدين تعويقا لحركة الأحياء، وكسرا لهمم العاملين المنتجين، ومن أهل الدين من يريد بذكر الموت إطفاء منارات الحضارة، وتجفيف منابع الأمل، وهؤلاء يسيئون إلى الدين والدنيا معا. لقد أكثر القرآن الكريم من الحديث عن الدار الآخرة ومشاهد البعث والجزاء، والغرض من ذلك لا يعدو تذكير الغافلين وترشيد المسعورين حتى يدخلوا حساب(1/25)
العالم القادم فى حساب يومهم الحاضر، مستشعرين قوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين). ص _029
والنسيان شديد الوطأة على ألباب الناس حتى ليذهلهم عن حقائق قريبة وشئون ذات بال، فإذا كانوا يسهون عن حاضرهم أفلا يكونون عن الغد البعيد أكثر سهوا وأحوج إلى مذكر ملحا!؟ وبعد.. فقد ارتقت العلوم الكونية والإنسانية، واتسع تطبيقها لترفيه العالم وترقيته، فهل يستغنى الناس فى عصرهم هذا عن تلك العناصر التى تضمنها الإسلام لضبط مسارهم وإحكام أمرهم؟ يبدو أنه مع اتساع الحضارة تكثر الحاجات المادية والروحية على سواء، ولعلهم فى يومهم القريب أشد فقرا إلى الإسلام من أمسهم البعيد. ص _030(1/26)
أبعاد التغيير الإنسانى قبل كلمة الله الحاسمة لا تنجح رسالة أو تزدهر حضارة أو تسبق أمة إلا إذا وقع تغيير جذرى فى كيان هذه الأمة السابقة المتفوقة، أو تلاقت خصائص مادية وأدبية فى مقومات تلك الرسالة الناجحة والحضارة المزدهرة. نعم، فصعود الجماعات أو هبوطها لا يتم وفق حظوظ عمياء أو مصادفات طارئة! بل للمد والجزر علل كامنة إن غابت عن العين المجردة فلن تغيب عن البصائر الحادة والعقول الثاقبة. وقد تتبعت أسباب التحليق والإسفاف عند من يحلقون ومن يسفون فوجدت سنن الله الكونية تعمل عملها كأنها خصائص المادة وقوانينها الثابتة، ولا تنخرم ولا تتخلف. ويسرنى أن أقدم نموذجا لاطراد هذه الحقيقة من سورة (الأنفال) وهى تخص أسباب النصر لقوم والهزيمة لآخرين. ولكن ـ قبل هذا التقديم ـ أثبت كلمة قالها سائح مسلم فى ديار الأندلس قال: إن الدليل الذى قادنى بين آثار الحمراء، تناول المسلمين بالكلمة الحاسمة، لقد قامت لهم دولة هنا لما كانوا لله خلائف، ثم طردوا من هذه الديار لما أصبحوا على ثراها طوائف. العبارة لاذعة بيد أنها تصور الحق المجرد، يوم قادهم الإيمان قامت لهم دولة ترعى الخير والشرف، وتصدر للآخرين العقائد والقيم، فلما أسلموا زمامهم للشهوات، ومزق وحدتهم الترف وحب الدنيا، لم يبق لوجودهم معنى، فعادوا من حيث جاءوا. ترى هل وعوا ذلك الدرس الفاجع؟ لا أدرى! ولكنى وأنا أتدبر القرآن الكريم وجدت صورة لأبعاد التغير الذى يسبق كلمات الله الحاسمة فى الإعزاز والإذلال، وجدتها وأنا أتلو سورة الأنفال، فأحببت أن أصورها فى هذه العجالة. وفى وسط السورة تلمح قادة الوثنية الجاهلية وهم يودعون الحياة شر وداع، تتناولهم ملائكة الموت باللطمات والصفعات وهم يواجهون جزاءهم: ص _031(1/27)
(ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد). ماذا فعلوا؟ ظلوا أمدا طويلا يكرهون الحق ويؤثرون العناد، ويحيون لأنفسهم فما يرجون لله وقارا، ولا يتخذون عنده مآبا. كانوا فى رخاء لا تشوبه أزمة، وفى أمان لا يعكره قلق، فما شكروا من هذه النعماء قليلا ولا كثيرا، وجاءهم رجل منهم لا ترقى إلى سيرته تهمة فطاردوه فى صلف غريب. والإنسان العادى إذا اشتبهت عليه الأمور طلب من الله أن يهديه إلى الصواب، أما هؤلاء فقد أبغضوا الحق، وأبغضوا النزول على حكمه، وقالوا مكابرين رب الكون: (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). ولقى دعاؤهم الأخير بعض الإجابة، فلما التقوا بالمسلمين فى (بدر) حل بهم خزى رهيب، وتبخر السراب الذى كانوا يعيشون فى خداعه فسقطوا بين قتيل وأسير. إنهم ليسوا وحدهم الذين يفسدون فيعاقبون، كان الفراعنة على هذا الغرار، فغشيهم من اليم ما غشيهم: (كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وعند الجملة الأخيرة نقف طويلا لنتساءل: ما أبعاد هذا التغيير وما مداه؟ إن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا ويؤكد بعضه بعضا! فى سورة أخرى يقول جل شأنه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). ويقول بعدما أودى بنعيم (سبأ) وخرب جنانها: (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور). ص _032(1/28)
ويقول فى أهل مكة لما حاربوا الرسالة الخاتمة، وقاوموا إمام الأنبياء، ورفضوا إجالة النظر فيما عرض من آيات بينات.. يقول: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون). وما يجب إبرازه هو طول المدة التى يستغرقها الاختيار الإلهى، فإن الأقدار طويلة الأنفاس، والصراع بين الحق والباطل لا تكتشف عقباه فى سنة أو سنتين، ولا فى جولة أو جولتين. إنه قد يستوعب السنين والقرون: (وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير). ولما كان عمر الأفراد محدودا، فقد اقتضت حكمة الله أن يهيئ لكل إنسان فرصة كافية يتمكن فيها من معرفة الحق، ويقدر فيها على اعتناقه، وذلك من تمام العدل الإلهى. إن الناس تحكمهم تقاليد شديدة، ويتوارثون أفكارا يحتاج نقدها ووزنها إلى زمان غير قصير.. بل إن الأهواء التى تصرف البشر لها سلطان محيط، والخلاص منها لا يتم بين عشية وضحاها. وقد تأملت فى ماضى خالد بن الوليد عبقرى الحروب الملهم، وماضى عمرو بن العاص السياسى الداهية، فوجدت كلا الرجلين لم ينشرح صدره للإسلام إلا بعد ما يقرب العشرين سنة. ومن رحمة الله وحكمته أن منحهما هذه الفرصة، وهما مثل لغيرهما من سائر الخلق. وفى سورة الأنفال رأينا المعركة التى قصمت ظهر الوثنية، وقعت بعد خمس عشرة سنة من بدء الرسالة كانت هذه الفترة هى المدة التى حددها القدر الأعلى ليكتشف مصير فريقين من الناس. أولهما: المؤمنون الذين تحملوا العنت وصابروا الليالى الكوالح وهم يساندون الحق ويأملون فى الغد القريب أو فى الدار الآخرة إن فاتهم النصر فى هذه الدنيا. والفريق الثانى: الكفار الذين قاوموا الشعاع المقبل بكل ما لديهم من جبروت، واستماتوا كيما يبقى ليل الوثنية مخيما على جزيرة العرب وكيما تبقى الخرافات تسرح فى المشارق والمغارب. ص _033(1/29)
ويخيل إلى أنه إلى آخر ليلة باتها المشركون قريبا من بدر كانت الفرصة باقية أمامهم ليسلموا ويسلموا.. ولكن المرء عندما يمضى على سيرته، أو عندما يتحرك وفق طبيعته يرتكب الغلطة التى تبت فى عاقبته كلها، أى يفعل ما يسمى بالقشة التى قصمت ظهر البعير، أو القطرة التى فاض بها الإناء. وذلك ما فعله أبو جهل، كان الرجل يستطيع أن يعود بقومه ما دامت القافلة التى خرجوا لإنقاذها قد نجت، بيد أن مشاعر الكبرياء والغرور هاجت فى دمه فقال : لا نعود حتى ننحر الجزور، ونشرب الخمور، وتغنى لنا القيان، ويسمع بنا العرب فلا يزالون يهابونا أبدا.. أى أنه كان حريصا على إذلال الإسلام وأهله فى مهجرهم الجديد. إن هذا القصد النزق هو الذى ذبحه، وقاد قومه معه إلى المأساة! وهذا ما تفسره الآيات من سورة الأنفال التى نزلت لتشرح العدل الإلهى فى مصاب المهزومين: (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم). وفى أول السورة يزداد الأمر وضوحا، إن القدر الأعلى تدخل على غير ما يود المؤمنون! إنهم كانوا يودون الأوبة إلى المدينة بغنيمة باردة يدعدعون بها حياتهم المرهقة! ولكن الله ـ بعدما أنهى المشركون الفرصة الممنوحة لهم كى يعقلوا ـ قرر إنزال ضربة مهينة بهم: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون). إن الأمم تضيع بعدما تبدد آخر فرصة للنجاة، والأقدار التى تنزل بصعود هذا، أو هبوط ذاك ليست حركات عابثة، إنها أقدار تزن بدقة هائلة مسالك الأفراد والجماعات. وتتجدد فرصة النجاة، أو إمكانات التوبة مرة أخرى أمام الصناديد الذين وقعوا أسرى! لطالما ضيقوا الخناق على الآخرين وحرموهم الكلمة وحرية المعتقد، وهاهم أولاء أصبحوا فى قيود الهوان والمسكنة لقد قيل لهم: إنكم وحدكم الذين تصنعون(1/30)
مستقبلكم، إن انتويتم خيرا للناس انفتحت أمامكم مجالات رحبة للحركة والعطاء، وإلا فلكم الويل: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم). ص _034
إن الخونة قد يستطيعون الإساءة إلى غيرهم ردحا من الزمان، وقد يتطاولون فى المجتمعات ويحسبون أن الجو قد خلا لهم.. غير أن القضاء الحكيم يتربص بهم إلى حين، ثم يستمكن الوثاق من أعناقهم. وندع المجتمع الكفور يلقى مصيره كما صورته سورة الأنفال، ونلقى نظرة أخرى على المجتمع المؤمن! لقد عاش قبل الهجرة وبعدما يحترم دينه، ويقدم مطالبه على رغائبه، ويحمل فى الحياة شارته ويرفع رايته! وكان خصومه يستكثرون عليه حق الحياة كما يريد، بل كانوا يروعونه فى الحرم الآمن، ويرغمونه على النزوح هنا وهناك.. لقد أنالته الأقدار مكافأة سخية لم تخطر له ببال، فضلا عن أن يرسم لها خطة ويشرف على التنفيذ. أجل، لقد أنالته الأقدار النصر والتمكين والسيادة، وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون). وهنا نلقى نظرة أشمل على السورة كلها، لنرى أنها فى صدرها رسمت صورة المجتمع المؤمن حقا ثم بثت خلال القصص الواعى وعبره البالغة نداءات شتى للمؤمنين تحدوهم إلى الكمال وكأنها تقول لهم: إن البقاء فى القمة يحتاج إلى مثل الجهد الذى بذر فى بلوغها! فلا قعود ولا ترف. ومن أجل ذلك تضمنت السورة ستة نداءات لا يستغنى عنها سلف ولا خلف، بل لعلنا أحوج الناس إلى فقهها.. أول هذه النداءات وآخرها يقومان على معنى واحد، هما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار). وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا(1/31)
واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). وثم أربعة نداءات أخرى تتضافر على صون الأمة، واستدامة صلاحيتها للرسالة التى تحملها، هى قوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون). وقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). ص _035
وقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون). وأخيرا قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا). ذلكم هو الأساس للتغير الشامل الذى يجىء بعده حكم القدر بيننا وبين أعداء الله، وهو أساس لا يختلف مع اختلاف الليل والنهار. *** ص _036(1/32)
أولو الألباب فى كتاب الله أشعر بغضاضة وغضب عندما يفهم الدين على أنه ركون إلى غيبيات غامضة، أو انسياق وراء مشاعر مبهمة، وكأن الإيمان فكر قاعد والإلحاد فكر مت! ك، أو أن الإنسان المؤمن يستكين للمجهول. أما الآخرون فيستكشفون الأسرار ويبحثون عن المعرفة. ربما كان بعض المنسوبين إلى الدين رديئى النظر عليلى الفطرة، فما ذنب الدين إذ يحمل لهؤلاء أو يحمله هؤلاء؟ لقد رأيت القرآن الكريم يتحدث عن (أولى الألباب) يعنى أصحاب العقول فى ستة عشر موضعا، نستطيع عند تدبر كل موضع منها أن نعرف المستوى العالى لذوى الإيمان الصحيح، وكيف يتحرك العقل المؤمن فى كل اتجاه ليقرر الحق، ويقود إليه. ونكتفى الآن بسرد هذه الآيات المنوهة بقيام الدين وأحكامه على الرشد والصواب لا على الجزاف والفوضى. فى سورة البقرة ثلاث آيات مختلفة السياق والموضوع هى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون). (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب). (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب). وللحكمة مواضعها الحميدة سواء فى تبليغ الدعوة أو فى إنفاق المال، أو فى أى شأن آخر. وفى سورة آل عمران آيتان: الأولى تتحدث عن عصمة الفكر من البحث، وفيما وراء المادة، لأن هذا النوع من البحوث يقوم على التخمين والتوهم.. ص _037(1/33)
والثانية تطلق العنان للفكر كى يبحث ويستنتج فى المادة وأسرارها وقوانينها، وقيام الله عليها، وإحكامه لوجودها. قال الله تعالى فى الموضع الأول: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب). أما الحث على التأمل فى الكون فهو فى الموضع الثانى من السورة قال تعالى: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار). ومعرفة الحق لا تكترث بالتقاليد السائدة، ولا تتقيد بالعرف الشائع، إنها بحث حر لا علاقة له بكثرة الأصوات أو قلتها. والمغالاة بالحق مطلوبة فى وجه المتنكرين له أو النافرين منه مهما كثروا، فهم كما قيل: إن شئت أن يسود ظنك كله فأجله فى هذا سواد الأعظم! وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون). ولمعرفة التاريخ العام أثر عميق فى صوغ العقل ونفعه بتجارب لا حصر لها، فإن حاضر الإنسانية امتداد لماضيها البعيد، ومهاد لمستقبلها المرتقب وعلى المؤمنين أن يلتمسوا العبرة مما مضى ليصونوا يومهم وغدهم، وهل للتاريخ ثمرة إلا هذا؟ قال تعالى فى سورة يوسف: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء). وهذه الآية ختام لفصل متكامل من التاريخ البشرى الحافل، وهو ختام صريح فى أن القصص القرآنى واقع لا خيال، وإخبار صادق لا تأليف مفتعل كما يشيع بعض المبشرين التائهين. ص _038(1/34)
وفى سورة الرعد حديث مفصل عن الخلال النبيلة التى يستجمعها أولو الألباب، وتضبط مسالكهم كلها، والذى يثير الانتباه هنا هو ارتباط الفضائل الإنسانية بالبصر العقلى! وبراءة المؤمنين من التخبط الذى يقع فيه العميان وكل من ضل الطريق! قال تعالى فى الموضع التاسع من ذكر أولى الألباب: (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق). وفى سورة إبراهيم نجد وصفا للصراع بين الحق والباطل، والآثار القريبة والبعيدة لهذا الصراع، سواء فى دنيا الناس أو فى اللقاء الأخير مع رب العالمين. وقد ختمت السورة بهذه الآية: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب). وأريد أن أستطرد قليلا وأنا أنقل هذا البلاغ للناس، وفى أول سورة من القرآن تحدثت عن بناء الكعبة، وكيف جعلها إبراهيم حصنا للتوحيد، وبيتا لعبادة الله الواحد، وقبلة لكل من يقيما الصلاة. رأيى أن هذا الختام يومى إلى وظيفة الأمة العربية، وإلى رسالتها الضخمة فى هداية الخلق كافة، إنه ـ فى هذه السورة ـ إيماء وحسب! ولكن عند الحديث عن القبلة الدائمة لجماهير المصلين فى كل القارات، ذكر دور العرب بإيضاح أكثر. وتدبر معى قوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني). هنا تحديد للقبلة على اختلاف الزمان والمكان، وتهوين بشأن المكابرين والمعوقين. ثم ماذا؟ ثم امتنان من الله على العرب يقول فيه: (ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون). أى قد جعلنا الكعبة المبنية فى أرضكم قبلة الجنس البشرى كله عندما يصلى لربه، وليس هذا أول تكريم لكم، بل هو تكرار التكريم الذى سبق بابتعاث النبى الخاتم منكم! وهذا معنى قوله: ص _039(1/35)
(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون). ومن حق الله بعدما جعل القبلة فى أرضكم، والرسالة بلغتكم ومن جنسكم، أن تعرفوا هذه المكانة، وأن تشكروا هذا الصنيع. ومن ثم قال: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). إننى بعد هذا البيان لا أجد أحقر ممن يفصل العروبة عن الإسلام ويظن لها مجدا دونه. وعلى ضوء ذلك التفسير نستصرخ أولى الألباب من العرب ليعيدوا النظر فى تدبر قوله سبحانه: (هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب). فى سورة (ص) نجد الموضعين العاشر والحادى عشر لأولى الألباب. وفى الموضع الأول يقول تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب). القرآن غزير المعانى، مفعم بالحقائق بيد أن الطريق لاستبانة هذا كله إدمان النظر، وتعميق البصر وطرق الأبواب دون سآمة، فإن حسن الفهم عطاء أعلى قبل أن يكون كد الذهن وطول التلاوة. وهو كتاب مبارك، دراسته زكاة للفؤاد، ونور على الطريق. وتطبيقه دعم للسلطة وترشيد للحكم وخير لا تفنى ينابيعه.. والمؤسف أن أمتنا تقرأ القرآن أحرفا وتسمعه أنغاما، فهل ترجع من ذلك بشىء يرفعها إلى مصاف أولى الألباب؟ أما الموضع الثانى فيتصل بالإنسان عندما يترنح تحت وطأة الألم، وتتتابع على أعصابه سياط البأساء والضراء، هل من ملجأ إلا الله؟ هل من موقف يقفه المؤمن إلا التسليم والصبر، والانتظار دون تبرم؟ ص _040(1/36)
لقد حكى القرآن بإجمال قصة أيوب الذى ألحت عليه الأوجاع، فانحصر داخل عبوديته يتألم ويؤمل، يتحمل ويرجو، حتى تأذن الله بالفرج، وجاءت العافية المنظورة: (ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب * وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب). فى أدبنا العربى القديم تحدث أولو الألباب عن الشدائد التى عرضت لهم، ويفخرون بأنها لم تلجئهم إلى الإسفاف أو الصغار، لا الغنى أطغاهم، ولا الفقر أذلهم: فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل فما لينت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل ولكن رحلناها نفوسا كريمة تحمل ما لا يستطاع، فتحمل وقينا بحسن الصبر منا نفوسنا فصحت لنا الأعراض والناس هزل وفى هذا المعنى نفسه يقول آخر، لم يذكر الرواة اسمه! لعله جندى مجهول فى باب الأخلاق: وإنى لأستغنى فما أبطر الغنى وأعرض ميسورى على مبتغى قرضى وأعسر أحيانا فتشتد عسرتى وأدرك ميسور الغنى ومعى عرضى وما نالها حتى تجلت وأسفرت أخو ثقة منى بقرض، ولا فرض يعنى أنه ظل متجلدا لا يكشف نفسه حتى انجلت الظلمة، فما مد يده طلبا لقرض أو طلبا لهبة. والأمم إنما تعلو أو تهبط وفق رصيدها الخلقى، لا المالى، كذلك قال كتابنا، وسجل أدبنا. وفى سورة الزمر نجد المواضع : 9 ، 18 ، 21 لأولى الألباب. فى الموضع الأول حديث عن قوام الليل، هناك رجال فى أعصابهم مدخر من نشاط لا يستنفده شبح النهار الطويل، فهم يبقون مع إدبار النهار وإقبال الليل قادرين على العمل، فماذا يعملون؟ يميتون الليل بالغفلة؟ أم يجعلونه أحمر بالعصيان؟ إنهم يضيئون جوانبه بالعبادة والتهجد مقتدين بإمام العابدين. ص _041(1/37)
قال تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب). وتلحظ أن أول الآية ذكر الأيقاظ الخاشعين وطوى ذكر النيام الذين لا يرجون ولا يحذرون! كأنهم أتفه من أن يذكروا فى هذه المفاضلة، وهم بداهة لا يحسبون من أولى الألباب. وفى الموضع الثانى من سورة الزمر نرى معالم للشخصية الإنسانية التى تنشد الأكمل والأجمل فى كل ما يعرض عليها.. إنها توازن بين المبادئ، والمذاهب وتؤثر الأحسن باستمرار. من الناس من تراه صريع عقدة ثابتة فى دمه، ومنهم من تراه سائب القياد يجره تيار هنا وتيار هناك، أما أولو الألباب فى هذا الموضع فهواهم الغالب على الأشرف والأفضل. قال تعالى: (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب). ما يقول المرء فيمن لا يتجاوز بصرهم مواقع أقدامهم؟ ومن يرضون بالأدنى من كل شىء؟ إن الإيمان الحق مع الهمم العوالى، وفى كل كفاح على ظهر الأرض ما تكون البشرى إلا لهؤيلاء. أظن أبا الطيب المتنبى كان يستوحى الآية الكريمة نصا وروحا عندما قال بيته المشهور: ولم أر فى عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام! والموضع الأخير لكلمة (أولى الألباب) فى سورة الزمر يتناول مصدرا من مصادر الإيمان الحق، وكيف ينبنى هذا الإيمان على التفكير الواعى. قال تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب). ص _042(1/38)
لا ريب أن خروج الحبوب والثمار من هذا الحمأ المسنون وهى حافلة بشتى الأغذية، وأنواع الطعوم، وروائع الألوان، يدل على قدرة مبدعة ولطافة فوق التصور. إن دورة الماء فى الكون، ودورة النبات فى الأرض وراءهما أسرار جديرة بدراسة أولى الألباب. تختفى الثمار فى بطون الآكلين حينا، ثم تعود إلى الأرض مرة أخرى للتحول من جديد إلى أغذية كاملة العناصر، وألوان تزهو تحت الضوء، وهكذا دواليك. والإنسان ـ الذى من أجله هذا الصنيع ـ كيف يحيا؟ قرأت أنه كل أربع عشرة ساعة ينبض القلب الإنسانى نحو 130689 مرة، ويقطع دمه فى الشرايين 168 مليون ميل ويتنفس 2323 مرة ويأكل كل يوم نحو ثلاثة أرطال من الطعام تبدأ على ما نعرف وتنتهى إلى ما ندرى. ثم ماذا؟ ثم يقف هذا الجهاز الإنسانى الدوار عندما يشاء الله لتدفن الألوف المؤلفة من تلافيف المخ تحت الثرى، هى وما كان يخضع لها من غدد وجوارح ومشاعر. وعندما يتم الدفن تكون الأرحام قد دفعت بأطفال جدد ينشئون دورة إنسانية أخرى على ظهر الأرض. والمحيى المميت يرقب من عليائه هذا الإنسان الذى تبلغ الصفاقة به أحيانا أن يكفر خالقه: (خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين). إن أولى الألباب هم الذين يعرفون الله، ويسبحون بحمده، أما الجهال وأنصاف العلماء ومرضى القلوب فهم الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم. وجاء ذكر (أولى الألباب) للمرة (15) فى سورة غافر، ويبدو من السياق أنها تتناول الأقدمين من بنى إسرائيل، ولا ريب أن أتباع موسى الأوائل كانوا أولى بالحق والنصرة والتكريم من فرعون وآله وجنده! ومن هنا أعطاهم الله الكثير. قال سبحانه: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب). ص _043(1/39)
على أن صفة أولى الألباب يمكن أن تنسحب على الأتباع المتأخرين إذا كان رسوخهم فى العلم حاملا لهم على تصديق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباع رسالته؟ وذاك ما قررته آية أخرى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة). أما آخر مكان فى المصحف الشريف لأولى الألباب فهو سورة النساء الصغرى قال تعالى للمرة (16): (فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) وهذه الكلمات تشير إلى أن حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هى تفسير كتابه، وأن سيرته العملية وسنته القولية بيان تطبيقى للقرآن الكريم.. والحق أنه لا قرآن بلا سنة ولا سنة بلا قرآن، وأن فصل أحدهما عن الآخر زيغ. إن ما أثبتناه هنا نموذج واحد من نماذج كثيرة لأسلوب القرآن فى بناء الأمم على الفكر الناضج والعقل السليم.. ونحن نجزم بأن الأمم المتخلفة عقليا لا تتصل بالإسلام إلا دعوى، وأنها ما تصدق فى هذا الانتماء المزعوم إلا يوم تكون من أولى الألباب. *** ص _044(1/40)
دين الفطرة أكاد أشعر بأن أشواق الفطرة وآثارها أشيع فى ظل الحضارة الحديثة منها فى ظل التدين المختل. إن الإنسان بفطرته التى ولد بها يدرك أن العدل حسن والظلم قبيح، وأن العلم مفخرة والجهل معرة، وأن الطهر سمو والعهر سقوط. ومع تجاوب المرء مع فطرته، ومع تعاونه مع أشباهه يمكن إقامة مجتمع أدنى إلى روح الدين، أو أقرب إلى تعاليم الإسلام. وعند الموازنة يكون هذا المجتمع أرجح وأنجح من مجتمعات أخرى صماء عن نداء الفطرة، ماهرة فى احترام المظاهر، قد يروج الدين فيها أشكالا من العبادات، تمارس برتابة بعد تفريغها من محتواها المهم أعنى بعد أن تخلو من الخشوع والفهم. والعبادات تفقد وجهتها السماوية وقيمتها الروحية ونتائجها الاجتماعية عندما تمارس حركات بدنية وحسب. ولنزد هذا الكلام وضوحا، أن أساس الفطرة عقل سليم وقلب نقى. وسلامة العقل توجب احترام الحقائق، وإدراك الواقع دون نقص أو زيادة، ورفض الأوهام والخرافات، والوقوف بالظنون عند حدودها فلا تتحول النظرية إلى يقين مثلا وضبط الأحكام المادية والأدبية للأشخاص والأشياء فلا يجمح الخيال بها إلى فوق أو تحت.. ذاك بالنسبة إلى العقل. أما بالنسبة إلى القلب ونقاوته فإن الفطرة السليمة تعنى إنسانا لا يعبد نفسه، ولا يقدم أثرته، ولا يتحامل على الآخرين. تعنى إنسانا يشعر بأن الحياة حقه وحق غيره على سواء، فلا معنى للحقد والغش والافتراء وتلمس العيوب للأبرياء ومحاولة الصعود على أنقاض الخصوم، أو من نرى نحن أنهم خصوم. ص _045(1/41)
ذلك كله هو مفهوم الفطرة السليمة، إذ هو جوهرها الحر ومعدنها الغالى، وأى امرئ يفقد هذه الفطرة فقد خسر نفسه ولن يعوضه عن هذا الخسار شىء. هناك عباد نحقر صلاتنا إلى صلاتهم، وقراءتنا إلى قراءتهم، ومظاهرنا إلى مظاهرهم، يفلتون من الدين بسرعة البرق لأن روابطهم الفطرية بالدين واهية أو معدومة، فأى دين لأولئك المزورين؟ إن فى عقولهم خللا لا تحسن معه وزن قضية، وفى قلوبهم علل تجرئهم على استباحة غيرهم، فأى تقوى ترتقب عند من فقد فكره وفؤاده؟ لقد كان الإسلام مبينا فى إعلائه قدر الفطرة، وفى جعلها عنوانا للإسلام، فإن الكهانة، وشارات الاتصال بالته على نحو مبهم، وطلب الدنيا باسم الدين، هذه كلها رذائل فضح الإسلام ذويها عندما قال: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). والمؤسف أنا نجد أقواما تنقصهم الدقة العقلية وسلامة الصدور يزحمون البيئات الدينية. ولا أدرى كيف ينتمى إلى دين الفطرة من فقد ركنى الفطرة كليهما نفاذ العقل، ونقاء الضمير؟ فى رفع الإنسانية إلى مستواها المطلوب يقول الله جل شأنه: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون). إن الدين القيم هو أساس النبوات التى زحمت القرون الأولى ثم ختمت أخيرا بالنبى العربى (محمد) الذى نقى الأصول مما عراها، ونفى عن حقيقة الفطرة كل ما يشينها، ووضع الدين فى صيغته النهائية فلا تحوير بعد ولا تبديل إلى آخر الدهر. وللفطرة الصحيحة سماتها البارزة فى العقيدة والشريعة، والحق بطبيعته لا يتعدد، لأنه خط مستقيم، كما قال علماء الهندسة: الخط المستقيم أقصر طريق بين نقطتين، ومن ثم لا يكون إلا واحدا.. أما مع فقدان الاستقامة واختلاف المبدأ والنهاية فإن الخطوط المائلة لا تحصر عدا. ص _046(1/42)
وسواء أكانت عن يمين الخط المستقيم أو يساره فهى طرق معوجة. والسائرون عليها ضالون، ولا رشد إلا فى التزام الصراط المستقيم.. ولعل أول معلم فى دين الفطرة هو أن يعرف المرء ربه الواحد معرفة واضحة صادقة، وأن يؤسس معه علاقة وطيدة وثيقة. إن الولد العاق لأبيه وغد ذميم! والمرء الجاحد لربه شر وأخبث.. والناس تشرد بهم عن الله عبادتهم لأنفسهم، أو علاقة سخيفة بحجر. أو شىء حيا كان أو ميتا. ومع نسيان الله وإهمال الصلاة له تنشأ مذاهب شتى وفلسفات كثيرة، يتعصب لها المتعصبون، والناس إن لم يجمعهم الحق فرقهم الباطل، وإن لم تقنعهم الآخرة توزعتهم أودية الدنيا، واستبدت بهم أطماعها، وتناحروا على سرابها. من أجل ذلك قال الله لنبيه ولمن تبعه من المؤمنين الذين آثروا الفطرة: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). وليس معنى الفطرة أن الناس يولدون بعقائدها وفضائلها، فلو كان الأمر كذلك ما كان هنالك تكاليف، وإنما المعنى أن الناس يولدون مستعدين لها مؤثرين لمنهجها، يتدافعون فى مجراها تدافع الماء إلى منحدره، وأن عوائق مصطنعة هى التى تقطع طريقهم وتردهم عن وجهتهم. ترى ما هذه العوائق؟ إن الحديث الشريف أشار إلى أخطار البيئات المنحرفة، فهى التى تلوى زمام الفطرة عن التوحيد إلى التثليث أو التجسيد. وهذا صحيح مشاهد. إن ذلك يطرد حتى فى عالم النبات، ففى بعض الحقول تستطيع أن ترى الأزهار زاهية والجنى وارفا والثمار مفرحة.. وفى بعض آخر تغير أسراب من الجراثيم، وتظهر الأمراض الفاتكة بالمحاصيل فإذا الفواكه معطوبة، والحبوب مشوهة وناقصة. ما كانت هذه فطرتها، ولكنه عمل العلل الوافدة. وفساد الناس قد يصل إلى الأجنة قبل أن تولد! فالمفروض أن تبرز الأجنة إلى الوجود كاملة الحواس سوية المشاعر! بيد أن الزناة الفسقة قد يصابون بمرض الزهرى، فتعدو جرثومته على عينى(1/43)
الطفل فتودى بهما ويولد أكمه! لقد برز على غير الفطرة البدنية الكاملة. والسبب هو فساد البيئة. ولما كانت نواقض الفطرة كثيرة فإن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبه إليها وحذر منها. ص _047
بين يدى الآن حديث طويل للإمام مسلم بعضه قدسى وبعضه نبوى يشرح علل ومسالك تؤذى الفطرة، وتبطلها عملها، وسأشرح هذا الحديث خلال سرده موجزا لتفسير ما أمكن. عن عياض المجاشعى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذات يوم فى خطبة له: " ألا إن ربى أمرنى أن أعلمكم ما جهلتم مما علمنى يومى هذا.. " "كل مال نحلته عبدا حلال " ما معنى هذه الجملة؟ هذه الجملة تؤكد المعنى فى قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا). قال تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا). إن التدين الفاسد مولع بالتحريم، راغب فى تضييق دائرة المباحات، وهذا ظاهر فى الأديان الباطلة والمنحرفة. وقد يظهر على ألسنة بعض المسلمين الجهلة، فهم يشددون على الناس، ويقاومون منهج الفطرة. والحديث القدسى هنا يرفض ذلك الجهل ثم يستأنف توجيهه السديد فيقول: " وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا.. وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب". فى هذا الكلام إشارة إلى الضلال الذى أطبق على الأرض قبل البعثة الشريفة فلم ينج منه إلا الأقلون. لقد طمست الفطرة واختفى وهجها تحت ركام من الكهانات والخرافات التى نشرتها الجاليات السائدة فى العالم. وعودة الناس إلى دين الفطرة يقول الله تعالى لنبيه فى هذا الحديث القدسى: " وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلى بك! وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا ". ص _048(1/44)
فى هذه العبارة إشارة إلى خلود القرآن الكريم واستعصائه على عوامل المحو، لقد ضاعت كتب سابقة وتطرق إليها الغش! أما هذا القرآن فقد تم حفظه شكلا وموضوعا، معانى وحروفا، إن الصدور استوعبته فهو يقرأ فى كل زمان ومكان، لا يمحوه من القلوب شىء. وهنا معنى آخر، يقول العلماء: إن العصمة لا تمنع المحنة أى أن النبى المعصوم مبتلى بأعباء الرسالة، يشق عليه أداؤها ولكنه يتحمل بجلد هذه المشقة. ما نقول فى أناس يشمئزون من عقيدة التوحيد؟ ويكادون يوقعون صاحبها على الأرض حيث يحدثهم عنها؟: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون). ويريدون السطو عليه والبطش به وهو يقرأ كتابه! ومع هذه المقاومة فقد أمر بالبلاغ، وإسماع القوم ما يلذع جلودهم، ويهيج ثائرتهم. ولنسمع إلى هذا الحوار الجليل فى الحديث الذى نرويه: " وأن الله أمرنى أن أحرق قريشا ـ بإسماعهم ما يكرهون ـ فقلت: رب اذن يثلغوا رأسى ـ يكسروه ـ فيدعوه خبزة ـ كالرغيف المهشوم ـ قال: استخرجهم كما استخرجوك، وأغزهم نغزك ـ أى نعنك عليهم ـ وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشا نبعث خمسة مثله.. وقاتل بمن أطاعك من عصاك ". وظاهر من الحديث الشريف أنه قيل بعد الهجرة وبعدما تصدرت قريش مواكب المعاندين، وأرصدت كل ما تملك لمحو الإسلام، فكلف صاحب الرسالة الخاتمة أن يجند نفسه ومن معه لضرب الضلال حتى يستكين. ومضى الحديث بعدئذ يصف ذوى الفطر السليمة، وأخلاقهم فى مواقعهم الاجتماعية المختلفة فقال: "... وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق! ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذى قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال". قال: " وأهل النار خمسة: الضعيف الذى لا عقل له ـ يعنى السفهاء الرعاع ـ الذين هم فيكم تبعا لا يبتغون أهلا ولا مالا ـ يعنى أصحاب الفراغ اليدوى والنفسى الذين استهلكت البطالة أوقاتهم فلا يسعون إلى دنيا أو دين. ص _049(1/45)
" والخائن الذى لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه " هذه صفه النوع الثانى من أهل النار، ناس لا تشغلهم أمانة، ولا تقفهم حدود، ولا ترهبهم مسئولية، فهم يلتهمون ما تصل إليه أيديهم من حقوق الآخرين. وقريب من ذلك النوع الثالث الذى يصفه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: " ورجل لا يصبح ولا يمسى إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك ".. أما الصنف الرابع فقد تردد الراوى فيه بين البخلاء والكذبة، وكلاهما شر من صاحبه. والخامس: الفحاش، يعنى المشتط فى سوء قوله وعمله. وعندما ننظر إلى أصحاب النار فى هذا الحديث نجد أقواما غلبت عليهم الآفات النفسية، وتركتهم دون خلق شريف أو مسلك قويم. ونستطيع ونحن ندرس الإسلام الحنيف أن نرى سنن الفطرة وآدابها وتعاليمها الكثيرة، لكن شيئا من ذلك ـ على مكانته ـ لا يغنى عن ركنى الفطرة الأصليين، وهما الفكر الحصيف، والقلب السليم. ذاك أنه عن حصافة الفكر ونضج العقل ينشأ الإدراك الفقهى الواسع وكما جاء فى الأثر: "فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد" فكم من عابدين أساءوا إلى الإسلام وجروا عليه المتاعب بقصور فقههم وإن كانوا له مخلصين. وقد يكون الرجل حسن المعرفة ذكى الفهم، ولكن رغبته فى فرض ذاته، وإظهار مكانته، تستبد به فيقتحم الصعب والذلول، وينفق الغالى والرخيص ليكون الأمر له على حساب الدين ومصلحة الأمة ومستقبلها. إنه لابد من وضاءة الضمير والتفكير معا، لتتم مقومات الفطرة السليمة. إن الفقه كشاف جيد للنية الصالحة، وللسريرة المعافاة من العلل. ويؤسفنى القول بأن المجامع الدينية تحتفى بالمظاهر المزوقة أكثر مما تحتفى بسلامة الفطرة، ولذلك فهى تتحرك فى مكانها، وربما تراجعت إلى الوراء. ص _050(1/46)
جدال .. من ورائه أمور ذات بال هذا حديث لم أختر موضوعه وإنما دفعنى إلى الخوض فيه رجل يكره محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويخفى كرهه وراء ستار من اعتناق مبدأ الإنسانية المطلقة، وعدم التقيد بدين ما. قلت له: ما أراك تكره الرسل كلهم بمثل هذا النفور الذى تكنه لمحمد ـ صلى اله عليه وسلم ـ فلم هذه العاطفة الخاصة؟ فأراد الالتواء فى الإجابة وقال : بل الأديان عندى كلها سواء، وقد يكون ما أعرفه عن محمد سببا فى ضيق خاص به. قلت: وما تعرفه عن المرسلين الآخرين سبب كاف عندك للرضا عنهم والإعجاب بهم؟ فتضايق صاحبى من هذا الحوار، وأراد أن يتخذ خطة الهجوم فقال فى حدة يحاول إخفاءها: وما الذى جعلك أنت تتبع محمدا وتحبه؟. قلت ـ وأنا الآخر أخفى حدتى ـ: إننى أعرف بدقة ما دعا إليه، وأعرف كذلك خط حياته بدءا وانتهاء فلا أرى إلا ما يشد ضميرى وتفكيرى إليه. ولأكن صريحا معك، إنك قرأت العهدين القديم والجديد وتأثرت بهما فى صدر حياتك، ثم رأيت أن تتجه مع التيارات الإنسانية التى تهب من هنا ومن هناك. ولك ذلك كله، ما أستغربه منك، ولكن بقية من المواريث الآسنة بقيت فى نفسك تجعلك تكره الإسلام ونبيه، والمسلمين وحقوقهم الطبيعية. وهذا ما نأباه على إنسان يصطنع الحياد الفكرى والنفسى بين الأديان. قال: قد أكون كذلك أو لا أكون، إنى لا أدرى لماذا تتبع محمدا وتغالى بشخصه؟ حدثنى. قلت: سأحدثك بانيا على معتقداتك أنت وإن كنت أنا غير مؤمن بها. ص _051(1/47)
قل لى: لماذا يكون نوح أولى بالرسالة من محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى عقلك الحر ـ مع آن نوحا كما قرأت أنت سكر وتعرى حتى جاء من غطى سوءته بعدما فضحتها الخمر؟ إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يذق قطرة من خمر فى عمره كله، ولم تفقده النشوة وعيه لا فى شباب ولا فى شيخوخة، فلم ترجح عليه رجلا ينتشى حتى يفقد وعيه؟ وأى الرجلين أحق باصطفاء السماء لتلقى الوحى؟ إننى أسترسل معك فقط ، لأبنى على رأيك وإلا فإن لى رأيا آخر فى قصة نوح كلها. إنكم تستبيحون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصاحى الراشد، وتستكثرون عليه النبوة. ولا تستكثرون النبوة على رجل زنى بابنتيه كما تزعمون! إنكم تعاملون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغل أعمى وهو الإنسان المبرأ الطهور، فهل هذا هو الحياد العقلى كما تصف نفسك؟ قال الرجل وقد بدا عليه الحرج: إن حب محمد للنساء ينزله عن مكانة الرجل الربانى والمصلح الاجتماعى ودعنا من الخمر ومجالسها وندامها. قلت: سأتنزل معك أيضا، وأبنى على ما تعرف أنت وأنكر أنا! إنكم ترون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عارم الشهوة، فماذا فعل ليشبع هواه؟ هل جمع سبعمائة امرأة فى قصره يخدمهن الإنس والجن كما فعل سليمان الحكيم. هل خطف ثم غصب امرأة قائده وهو غائب فى الجبهة، ولما عاد الزوج المظلوم أعيد إلى الميدان ليقتل وينفرد الغاصب الزانى بعشيقته؟ كما تذكرون ذلك عن النبى داود؟ هل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس آهلا للنبوة لأنه تزوج بضع نسوة فى السنوات العشر الأخيرة من حياته لظروف إنسانية واضحة؟ والذى يستحق النبوة هو خاطف النساء العاهر، وجامع المئات منهن للمتعة؟ يا صاحبى.. ما أظلمكم لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تحكمون عليه بأنه امرؤ مادى غير جدير بالنبوة بينما ترون النبوة حقا للزناة والقتلة ـ كما تتخيلون ـ. قال: إن داود وسليمان ملكان وليسا نبيين! قلت: بل هما عندكم حاملا وحى، ومبلغا هداية ولهما فى الكتاب(1/48)
المقدس عشرات الصفحات ابتداء من المزامير إلى نشيد الإنشاد الذى لسليمان. إننا نرى الرجلين أكبر مما تقولون فيهما وأشرف مما تتقولون عليهما. ولكنى كما ذكرت أبنى على ما تعتقدون أنتم. ص _052
وأدهش للمفارقة الواسعة وأنتم تضنون بالنبوة على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا تضنون بها على إنسان مال قلبه إلى الوثنية إرضاء لنسائه عابدات الأصنام، وهن كثرة يبلغن عدة مئات. إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى السنوات الأخيرة من عمره ـ تزوج عدة نساء كسيرات القلوب لظروف ألمت بهن، وعشن معه طالبات آخرة لا ترف ولا سرف، بل على المستوى الأدنى من الضرورات الماسة. وربما أرسل إلى الحبشة يتزوج من لم يرها، لأنها وهى من أسرة رياسة وملك فقدت رجلها فأسرع إلى مواساتها كما فعل ذلك مع بنت قائد المشركين وزعيم مكة أبى سفيان بن حرب، فأين مكان الشهوة هنا أو هنا؟ يا عجبا.. تمرون بمقتل القائد (أوريا) والسطو على زوجته الجميلة فلا ترون الزنا والقتل مانعين من النبوة، وترون فى عقود الزواج المعلنة على رؤوس الأشهاد بنساء فاضلات شريفات ما يخدش الإيمان ويمنع من منصب النبوة؟ إنكم يا صاحبى تعاملون محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمنطق لا إنصاف فيه ولا اتزان.. وقال وقد احتدت نبرته وأزداد حرجه: لك أن تتبع محمدا ما شئت، وأما الأنبياء الذين ذكرت فهم غير معصومين من الخطايا.. فأسرعت أقول: إن الله لا يختار المبلغين عنه والمتحدثين باسمه من الزناة والسكارى والواقع أن تاريخ أولئك الأنبياء مزور. والآن لندخل فى صميم القضية، ولنتجاوز هامشها لنرى جدارة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالرسالة. قال: أما كنت تتحدث فى الموضوع آنفا؟ قلت: كان الحديث فى هامشه، أما الآن فله سياق آخر، إننى رجل أحترم الإنسانية المجردة وعن طريقها عرفت محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولست مثلك أدعى الإنسانية، وأتعصب للأوهام وأتلمس للأبرياء العيوب، اسأل ما الإنسانية التى(1/49)
تتعشقها ويستحب الانتماء إليها ألوف المثقفين الآن؟ إنها الارتفاع بقيمة الإنسان، وتثمير خصائصه الراقية فى إنشاء حضارة ذكية نافعة، وتمكينه من ارتفاق الكون كله وتسخيره لخدمته .. ثم تجاوز الفروق بين الأجناس والأديان وجعل الحياة تعاونا على المصالح العامة لا تعاركا على المآرب الخاصة. هذا تقريبا كل ما يقال فى تعريف هذه الإنسانية المنشودة، أو بتعبير صريح الإنسانية التى تحل محل الدين على ظهر الأرض. إن عنوان الإنسانية أبرزته فلسفات كثيرة ومذاهب اجتماعية متناقضة أو متنافسة وقد ظهر بعد التطبيق العملى لهذا المبدأ، سواء فى المحافل الدولية أو السلطات المحلية، أنه غطاء لقضايا ص _053(1/50)
أخرى خبيثة أو أنه شعار لجأ إليه الضائقون بوجود الله، أو المعترفون بوجود ألوهيات مفتعلة، كى ينشر ما لديهم وهم آمنون. وقد شعرنا نحن المسلمين أن الإنسانية تتجزأ عندما يكون النزاع بين اليهود والعرب، وأنها تتأخر عندما يكون الخصام بين البيض والسود وأن صوتها يعلو بل يهدر بالفرح عند جيشان الغرائز الجنسية، والنزعات العرقية، وأن هذا الصوت يحتبس ويتلاشى عند ذكر الآخرة وما وراءها. إن موقف الإنسانية المعاصرة من الله الواحد ومن حقوقه على خلقه غريب. إنه لا بأس عندها من التبشير بإله مزدوج أو مثلث أو مربع (!) أما الدعوة إلى إله واحد فشىء منكر. بل قد يكون التعطيل المحض أفضل عند سدنة هذه الإنسانية من التوحيد النقى الذى شرحه محمد صلى الله عليه وسلم ، أية إنسانية هذه؟ إن مخلب الوحش لن يتحول إلى يد رقيقة آسية لأنه وضع فى قفاز من الحرير. قاطعنى محدثى وقد ضاق بما سمع وقال: ما هى معالم الإنسانية التى تتخيلها، والتى قلت إن محمدا عرفك بها... ودعنى من هجائك للمدنية المعاصرة؟ أجبت غير ضائق: اسمع!، إن أشرف ما فى الإنسان عقله وقلبه ونحن عندما نتبع محمدا عليه الصلاة والسلام نصطلح مع إنسانية لا تضع على العقل قيدا، ولا تدع فى القلب عوجا، ذاك كلام مجمل يحتاج إلى تفصيل. إن الإنسانية الصحيحة ترفض جمود الفكر، وانسداد الآفاق أمامه وترفض عجز الحواس البشرية عن أن تكون أدوات لاستبانة الحقائق وإصدار الأحكام الصحيحة. والإسلام يرى هذا القصور ذنبا جديرا بالعقاب: (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير). وفى وصف أصحاب النار يقول الله تعالى عن سبب تعذيبهم: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون). فهؤلاء لهم حواس، ولكنهم عطلوها، ولهم عقل ولكنهم أماتوه. والدين الحق تشغيل لمواهب الإنسان الرفيعة بحيث ينتفى من حياته الظن والتوهم، ويبقى اليقين وحده. ص _054(1/51)
الكفر ليس إلا لونا من الحيوانية الهابطة تقدر على التقليد والتبعية فقط، أما الإيمان فمعناه دوران الأجهزة الفطرية فى الكيان الإنسانى على نحو صحيح. وعندما ينضج العقل ويرزق بالذكاء الحاد، فإنه يتحول وسيلة جيدة لخدمة ما يريد من الأغراض ؟ هناك أذكياء أشرار، هناك من يسخر علمه الواسع لبلوغ أردأ الغايات، وهنا يجىء دور القلب. إن القلب السليم أساس التدين المقبول ولباب التقوى. والإنسانية تبرز فى أرقى صورها وأزكاها مع نبل القصد وحسن النية. والقلب المشرق يشق طريقه وسط الظلمات والأشواك وقلما يخطى هدفه. وقد جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأله: أخبرنى ما يحل لى وما يحرم على؟ فقال له: " البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون " . إن هذا التوجيه النبوى يخلق الإنسانية الرفيعة خلقا، ويجعل المرء يضاء من الداخل قبل كل شىء، دون انتظار للتعلات والمعاذير، ودون رهبة من القوانين و الأقاويل. قال محدثى: موعظة حسنة لا بأس من قبولها! ولكن ما صلة الإنسانية بصور العبادات التى يجىء بها الدين، أو بتعبير أصرح: ما صلة العقل بهذه المراسم؟ وأنت تشيد به. قلت له : إننا نكتب لغتنا العربية من اليمين إلى اليسار، والأوروبيون يكتبون لغاتهم من اليسار إلى اليمين فما صلة العقل بذلك؟ قال: هذه أشياء تواضع الناس عليها ولا صلة للعقل بها. قلت: يكفينى ذلك فى إجابتك. هناك أشياء يرفضها العقل حتما، وهذه يستحيل أن تكون دينا، ولا حقائق ولا مراسم، وهناك أشياء لا دخل للعقل فيها لا سلبا ولا إيجابا. ص _055(1/52)
إن الإنجليز يلتزمون السير شمالا وغيرهم يلتزم السير يمينا وهؤلاء وأولئك لا يوصفون بحمق ولا ذكاء. فإذا وضع الدين صور العبادات ركوعا وسجودا فى الصلاة، وطوافا بالبيت العتيق فى الحج، وامتناعا عن الشهوات من الفجر إلى الغروب فى الصوم، فلا توصف هذه العبادات لأنها مخالفة للعقل. وقد وضع الدين ضوابط كثيرة لشرائعه ولم يترك هذه الأوضاع لكل ذوق حتى لا تشجع الفوضى. وقريب من ذلك موقف الدين من الغرائز الإنسانية، فإن قيام الحياة يعتمد على نشاط هذه الغرائز، إن قتلها خطأ، وتركها حبلها على غاربها خطأ. والمرء يحتاج إلى الضرورات التى تصونه والمرفهات التى تنعمه، والإسلام يضمن ذلك كله له. فإذا جارت هذه الغرائز أو طغت كسر الدين حدتها وقمع طغواها، وذاك سر التذكير الطويل بالله ولقائه الحتم. قال لى محدثى: فيما تقول أشياء موضع تسليم، فهل ذاك سر حبك لمحمد وأتباعك له ؟ قلت: ذاك جزء من أسباب تشبثى برسالته وتعلقى بشخصه. أما الجزء الأكبر فيعود إلى أسباب أخرى إن القرآن الكريم هو الكتاب الذى نزل على قلبه، وشرح دعوته وأيد نبوته. ترى لو وجدت هذا القرآن كله فى فلاة من الأرض، أكنت أستطيع الانتفاع به دون أن أجلس بين يدى محمد عليه الصلاة والسلام، واستمع إلى شرحه له، وأتابع تأثره به؟ ما أظن! سيعطينى القرآن جملة الحقائق العلمية والنفسية للرسالة الخاتمة، ولكن محمدا ـ صلى الله عيه وسلم ـ سيعطينى المنهج العلمى، والأسوة الحية والتطبيق الحاسم، والتفسير الذى يضع النقط على الحروف كما يقولون. ومن ثم فإنك لن تعرف الإسلام معرفة صحيحة واضحة. إذا جهلت سيرة محمد عليه الصلاة والسلام، ورفضت سنته التى نفذ بها توجيهات القرآن القريبة والبعيدة. ثم أى عظيم فى الأولين والآخرين قرر الناس تجاهل حياته واطراح كلماته. ص _056(1/53)
وإذا كان نفر من الناس يحيا على غير ما يدعو، فإن حياة محمد ـ صلى الله عيه وسلم ـ كانت قرآنا متحركا على دروب الأرض كلها. كان خلقه القرآن، والخلق ـ كما عرف العلماء ـ هو الملكة النفسية والعادات المطردة الثابتة. إن سنته هى أعماله وأقواله، هى ترجمة القرآن من المعنى إلى الواقع، فكيف يجازف بعض الحمقى فينكر السنة لأن حديثا دس عليها أو لأن حديثا لم يعجبه؟ وراء الخطوات المحسوبة بدقة، والكلمات المرسلة بحكمة كان محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتحرك ويتكلم وأشعة القرآن تعمر قلبه ولبه. قد يرى عظمة القدرة العليا أمامه فى الصحراء المبسوطة والآكام الشامخة، ولكنه عن طريق القرآن وعلومه كان يرى هذه العظمة فى السحب المركومة فوق المحيطات والكواكب المتهادية فى آفاق السموات. قد يعيش مع الناست فى مجالسهم ويستمع إلى سمرهم وشغلهم، ولكنه ببصيرته النافذة يعيش فى جو آخر يرى فيه الجنة ونعيمها حتى ليكاد يقطف من ثمارها وكرومها، ويرى فيه النار وأهوالها حتى ليكاد يتقهقر أمام شعوره بويلاتها. ما أكثر حديث القرآن عن مشاهد البعث والجزاء. مع التخلق بالقرآن كان الحس بتاريخ الماضين يغالبه، فقد رأى فى قصص القرآن أن مجتمعا فاسدا أودت به الرياح العاصفة، فهو يحس بشىء من القلق عندما تهب الريح على نحو ما. من تخطيط القرآن الكريم لكل شىء فى الحياة ومن بيانه المضىء فى كل قضية تفرعت السنة تفرع الأنهار من منبعها الفوار، وما يعرف ذلك إلا العلماء الراسخون لا السطحيون المتفيهقون. قال محدثى: إنكم معشر المسلمين تحبون محمدا حبا جارفا، وقد استمعت أخيرا إلى أناس ينكرون السنة النبوية، وقد أومأت أنت على عجل إلى ارتباط السنة بالقرآن نفسه فى نبوة محمد. وأيا ما كان الأمر فلا ريب أن محمدا إنسان عظيم، وليس كغيره من الناس. قلت: ما تعجبنى هذه اللهجة! والقول بأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنسان عظيم لا يزيده ولا ينقصه. الأمر عندنا أكبر من ذلك!(1/54)
فى علوم الدين يقولون إن النبوة هبة لا كسب، يعنون أن النبوة ليست إجازة علمية أو تربوية يحصل عليها بعض الدارسين بعد ليال ساهرة فى البحث والتمحيص. ص _057
إنها فضل أعلى، يخلق الله له أناسا من معدن خاص، يكونون بنقاوتهم الفطرية أهلا لتلقى الوحى، والوصول إلى درجة من المعرفة دونها جمهرة الفلاسفة والمفكرين. ونحن نقول: لو كانت النبوة كسبا شخصيا ـ وهذا فرض وحسب ـ لكان الإنسان الذى يتناولها ولو كانت فى الثريا هو محمد بن عبد الله صلى اله عليه وسلم. ولكان استحقاقه لها بتفوق ساحق يجعل مكانة الذين يجيئون بعده فى مؤخرة الصف. إنه الوحيد الذى غير الدنيا واجتاح ظلماتها ومظالمها. والوحيد الذى ترك تراثا قديرا على هذا التغيير المطرد كلما تفسخت الحضارات، واعوجت الخطوات. إننا نحب محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعقولنا قبل أن نحبه بأفئدتنا، ونعرف مكانته بالدراسة المتعمقة لا بالتقليد المتوارث. وأنا شخصيا لا أخاف على رسالته ضغائن الخصوم وإنما أخشى عليها الأصدقاء الجهال. ص _058(1/55)
من نفحات اليقين الإنسان عادة محاصر بمطالبه القريبة والبعيدة يفكر فيها ويكترث بها. وكلما اشتدت وطأتها زاد همه وربما نشاطه! فما يكاد يستيقظ مع الصباح حتى يبدأ تلبية هذه المطالب، مواصلا السعى مرحلة بعد أخرى فإما بلغ غايته فرضى، أو عجز فسخط، وهكذا طوال عمره. ترى ما هذه المطالب المسيطرة؟ البعض يدور حول نفسه فما يدرى غيرها... وهناك من يفكر فى (الرب) الذى خلقه فسواه، وفى الحقوق المفروضة له فهو يجعل لله وفرائضه نصيبا من حياته يقل أو يكثر. لكن لماذا تكون القسمة كذلك؟ امرؤ يكدح لنفسه، وآخر يتجه بين الحين والحين إلى ربه؟ إننا نحب أنفسنا يقينا، والعاقل حين يكدح لربه يرقب منه أن يصون يومه وغده ويحفظ عليه معاشه ومعاده، نعم، إنه يزرع لنفسه وأهله ولكنه يقرن الحصاد المنشود ببركة الله الواهب المحمود. فهو فى طيات عبادته لربه يحيى مجده وينتظر رفده على سواء. الإيمان الحق أن يكون الله فى قلبك وأنت تقطع الليل والنهار على ظهر الأرض. يقول علماء المادة: إن الطبيعة لا تعرف الفراغ. وهذا صحيح، فالإناء الخالى من الماء مملوء بالهواء، ترى هل الفؤاد الخالى من الله فارغ من كل شىء؟ كلا، إنه مملوء بشىء آخر حتما.. مملوء بالأثرة أو الحقد، أو عاكف على عبادة صنم حديث. والأصنام الحديثة فى عصرنا كثيرة، من بينها الثراء والجاه والشهرة، وسائر الشهوات العاصفة. ولذلك جاءت الآية الكريمة تقول: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا). ص _059(1/56)
إن الغفلة عن الله تبعها وعى للشهوات ويقظة لشتى المآرب الهابطة. ومن هنا انفرط العقد النفسى، وفشا التسيب الاجتماعى: ونشأت مع التقدم العلمى أهواء جامحة تتسم بالصفاقة والتبجح عرى الروح والجسد جميعا. وفى القرآن الكريم أمر بإكثار ذكر الله ، واستدامة هذا الذكر مع تجدد الزمان. يقول سبحانه وتعالى: (اذكروا الله ذكرا كثيرا * وسبحوه بكرة وأصيلا). (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون). وقد تأملت فى هذه الأوامر، وعرفت حكمتها! إن الغرفة التى ينقطع عنها (تكييف) الهواء سرعان ما يغلبها الجو العام. والقلب الذى ينقطع عنه تيار الذكر سرعان ما تتسلل إليه الأحاسيس الرخيصة، وما دام لا يشتغل بالخير فستقتحمه الشرور. ومن هنا جاءت الوصية بالتذكر المستمر، التذكر الذى يشعر المرء فيه بالحاجة إلى الله والافتقار إلى إرشاده وتسديد خطاه، والخوف من أن يتركه الله وحده فى هذه الحياة. والويل لمن حرم العناية العليا إنه يركض فى الدنيا ركض الوحوش ثم يعود آخر الشوط صفر اليد، بل قد يكون مثخنا بالجراح مثقلا بالهزيمة. إن استكانة المرء إلى ربه ضمان نجاحه ونجاته، وذاك معنى قوله تبارك اسمه: (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين). لكن ما معنى هذا الذكر؟ هل هو استغراق عقلى؟ أو سياحة نظرية؟ أو خلوة نفسية بعيدة عن الناس؟ أو مراحل من التأمل الذاتى المطلق؟ إن الإجابة على هذا السؤال لا نجىء بها من عند أنفسنا، وإنما نجىء بها من القرآن الكريم وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم وسنته الشريفة. وسنرى أن المنشود سلوك ظاهر، وعمل بارز، ووجهة فى الحياة تصبغ كل شىء بالربانية وتسوق الأحياء إلى ربهم سوقا رفيقا ساميا يرفض الدنايا ويؤثر الآخرة. ص _060(1/57)
لأن عبادة الحياة ليست شيمة المؤمنين: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون). لعل أول آثار الذكر الصحيح الارتقاء بالضمير حتى لا يسف إلى الرذيلة، أو يلم بما يغضب الله. وقد جاء فى الحديث عن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنى أخاف الله " . وكره المعصية مع إمكانات فعلها نقاء خلقى رائع، وفى سيرة يوسف الصديق ما يستدعى الإعجاب والأسوة وهو يقول لمن طلبن منه السقوط: (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين). وإنه لشىء رفيع حقا أن يؤثر الإنسان السجن على الفاحشة. ومن الناس من يحسب الاستحواذ على ملكة أغرمت به شيئا مشرفا! إن الحيوانية فى هذا العصر لها منطلق وضيع بالغ الوضاعة قد يغريها بالدنايا ثم يدفعها إلى الفخر بها. والقلب الكبير يستمد عظمته من رقابته لله والتزامه لوصاياه. وربما وضع بعضهم فاصلا بين الحياة الخاصة والحياة العامة، فالتزم مثلا أن يخدم وطنه بأمانة، وأن يدافع عن قضاياه بقوة، ثم ينثنى إلى حياته الخاصة فلا يحترم قيدا ولا يضع حدا، ويتصرف فى الظلام كيف يشاء. والإسلام برىء من هذا الازدواج، إنه نقاء فى السر والعلن، وصفحة واحدة يستوى فى نصاعتها ما لله وما للناس. عن ثوبان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة فيجعلها الله هباء منثورا ! ص _061(1/58)
قال ثوبان: يا رسول الله: صفهم لنا جلهم.. أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . ليس الذكر المطلوب أن تنشق الحناجر بالهتاف لله ، أو يطول الإحصاء فى ترداد الأسماء الحسنى، فإذا انكشف النقاب عن المخبوء وجدت الوحشة والعجز. الذكر المطلوب عمل إيجابى يغلب أعتى الغرائز ويسيرها وفق مراد الله طوعا أو كرها. فالمال مثلا محبوب للإنسان، ربما غلب حبه فكسبه صاحبه من أى وجه وربما غلب كنزه فشح به صاحبه فى مواطن النفقة. هنا يبرز عمل الذكر الصحيح عفة فى الكسب وعطاء عند الحاجة. وهذا هو معنى قوله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها). وجاء عن جابر بن عبد الله فى خطبة سمعها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وصلوا الذى بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة فى السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا " . والذكر الذى يقتل داء البخل معناه الثقة فيما بيد الله، وأنه مخلف كل ذاهب ومنجز كل موعود، وأن المال فى الحقيقة لمالكه الأعلى وأنه موضوع تحت يدنا امتحانا ليظهر: أنتشبث به أو نطيع واهبه؟ وقد يخبث صاحب المال، ويحاول إمساكه، والظهور بطاعة الله فى عبادات أخرى وهيهات.. فإن الغنى إذا شح بماله لم ينفعه عند الله أن يطول صيامه أو تطول تلاوته، أو تطول قراءته للأوراد فى الصباح والمساء. نوع واحد من الذكر هو الذى يجديه، الذكر الذى يحمله على البذل فى هذه الدار، ابتغاء ما عند الله فى الدار الأخرى. النجاة فى هذا الذكر وحده. ص _062(1/59)
ويتدخل ذكر الله تدخلا عميقا فى أشد الساعات رهبة فى حياة الإنسان، ساعة مواجهة الموت، إن النفس البشرية ليست آلة طيعة فى يد الإنسان يأمرها فتطيع، كما يغمز كاتب الآلة أزرار آلته فإذا هى تطبع الحروف المطلوبة.. كلا.. إن حب الحياة ناشب بكل عضو من أعضاء البدن، وكل خطرة من خطرات الحس، وستحاول النفس البقاء ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. وقد تتبعت مشاعر عدد من فرسان العرب المعدودين، وهم يواجهون الحتوف، فرآيتهم يصفون بصدق حركات نفوسهم وكيف قاوموها، تدبر قول عمرو بن معدى كرب : فجاشت إلى النفس أول مرة فرده على مكروهها فاستقرت! وقول قطرى بن الفجاءة: أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال: ويحك لن تراعى! فإنك لو طلبت بقاء يوم على الأجل الذى لك لن تطاعى! وقول عبد الله بن رواحة: أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه، أو لتكرهنه والقرآن الكريم يكلف المؤمنين عند ملاقاة الموت أن يكثروا من ذكر الله، فإن ذلك أعون لهم على الثبات، فإما النصر وإما الشهادة. أيا كانت النتيجة فهى إحدى الحسنيين، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون). وإعمال الروية مع مراقبة الله وتدبر العاقبة أدل على الرشد وذاك معنى قول الأحنف بن قيس : أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار. وفى الحديث عن عبد الله بن أبى أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر فى بعض أيامه التى لقى فيها العدو، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال: " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " . قال ابن كثير رحمه الله: وفى الحديث المرفوع يقول الله تعالى: " إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو مناجز قرنه.. " . ص _063(1/60)
وكان العرب يفخرون بذكر أحبتهم فى هذه اللحظات على نحو ما قال عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل منى وبيض الهند تقطر من دمى! وذكر الله أزكى وأشرف.. وفى الحروب الباردة ـ بتعبير أهل العصر ـ يحتاج المجاهدون إلى ذكر الله كما يحتاج المقاتلون سواء بسواء، فإن حماة العقائد المضطهدة والمبادئ المستضعفة تمر بهم أوقات مزعجة وأزمات شداد لا يحميهم فيها إلا ذكر الله والاعتماد عليه. وفى الأيام الأولى من جهاد الدعوة وتأدب المشركين يقول الله لنبيه: (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا * رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا * واصبر على ما يقولون). وأهل الحق يبدءون نصرته فرادى مستوحشين وسط مجموعات تضيق بهم، بل تضيق عليهم بحق الحياة. وإذا كان لهم فى المستقبل أمل فهو الاستناد إلى الله والاستمداد منه. والواقع أن ثقتهم فى أنفسهم لا تنبع من يومهم الراهن، وإنما تنبع من غد يسوقه الله لهم حافلا بالنصر، ولذلك فهم يذكرون ربهم ليمضوا فى طريقهم: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). ولما كانت الحياة يسرا وعسرا وحلوا ومرا فإن جماهير البشر لا تستغنى إبان متاعبها عن هذا الذكر الذى يعينها على اجتياز المضايق برجاء وقدرة. وفيمن تؤمل؟ إلا فى الحى الذى لا يموت. بعد هذه النماذج المفردة لأحوال الذاكرين ينبغى التنبيه إلى أن الجماعة الإسلامية تبنى وجوديها المحلى والعالمى على ذكر الله، والشهادة بوحدانيته. فهى ليست جماعة تعتز بدم معين، أو يتعاون أبناؤها على تحصيل منافع معينة، لا.. إنها جماعة ربانية يعنيها ابتداء إقام الصلاة والهتاف باسم الله مع كل أذان، قبل طلوع الشمس وبعد الغروب. وجهادها الفذ هو لتأمين الطريق أمام كل راغب فى عبادة ربه، يجعل هذه الحياة الدنيا مهادا لما بعدها من خلود طويل. ص _064(1/61)
العلو لاسم ابنه لا لفرد أو لجنس، فإن الله تعالى يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). وكم كان سلفنا الأول جليلا ورائعا عندما طوف بالمشارق والمغارب كادحا لتكون كلمة الله هى العليا. ص _065
عندما يكون الإلحاد أذكى قرأت للدكتور طه حسين، واستمعت له، ودار بينى وبينه حوار قصير مرة أو مرتين فصد عنى وصددت عنه! أسلوب الرجل منساب رائق! وأداؤه جيد معجب، وهو بين أقرانه قد يدانيهم أو يساويهم ويستحيل أن يتقدم عليهم.. بل عندما أوازن بينه وبين العقاد من الناحية العلمية أجد العقاد أعمق فكرا وأغزر مادة وأقوم قيلا، وأكاد أقول: إن الموازنة المجردة تخدش قدر العقاد.. وأسلوب زكى مبارك أرشق عبارة وأنصع بيانا من أسلوب الدكتور طه حسين، ولولا أن الرجل قتله الإدمان لكان له شأن أفضل. ودون غمط لمكانة الدكتور الأدبية نقول: إنه واحد من الأدباء المشهورين فى القرن الحالى، له وعليه... وحسبه هذا. بيد أننى لاحظت أن هناك إصرارا على جعل الرجل عميد الأدب العربى، وإمام الفكر الجديد، وأنه زعيم النهضة الأدبية الحديثة. ولم أبذل جهدا مذكورا لأدرك السبب، إن السبب لا يعود إلى الوزن الفنى أو التقدير الشخصى، السبب يعود إلى دعم المبادئ التى حملها الرجل، وكلف بخدمتها طوال عمره، إنه مات بيد أن ما قاله يجب أن يبقى، وأن يدرس، وأن يكون معيار التقدم. تدبر هذه العبارة للدكتور (العميد) : (إن الدين الإسلامى يجب أن يعلم فقط كجزء من التاريخ القومى لا كدين إلهى نزل يبين الشرائع للبشر، فالقوانين الدينية لم تعد تصلح فى الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام فى صميم الحياة السياسية! أو يتخذ كمنطلق لتجديد الأمة (!) فالأمة تتجدد بمعزل عن الدين) ص _066(1/62)
الإسلام وحده يجب أن يبعد: ويمكن الرجوع لمثل كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) لتجد أشباها لهذه العبارات السامة. ويشاء القدر أن تقع عينى على هذه العبارة وقد قررت (إسرائيل) وقف الطيران فى شركة العال يوم السبت احتراما لتعاليم اليهودية! إن الإسلام وحده هو الذى يجب إبعاده عن الحياة العامة، أما الأديان الأخرى فلتقم باسمها دول، ولترسم على هداها سياسات. وظاهر أن الدكتور طه حسين كان ترجمانا أمينا لأهداف لم تعد خافية على أحد عندما طالب بإقصاء الإسلام وأخلاقه وأحكامه، وعدم قبوله أساسا تنطلق الأمة منه وتحيا وفق شرائعه وشعائره. قائل هذا الكلام يجب أن يكون عميد الأدب العربى فى حياته وبعد مماته، وأن تشتغل الصحافة والمسارح بحديث طويل عن عبقريته، وليكون علما فى رأسه نار كما يقول العرب قديما. أما العقاد وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه، ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة، وساند (الديمقراطية) مساندة مخلصة جبارة، فإن العالم (الحر) ينبغى أن يهيل على ذكراه التراب، ليكون عبرة لكل من يتحدث فى الإسلام، ولو بالقلم! فكيف إذا كان حديثا بالفكر والشعور، والدعوة والسلوك، والمخاصمة والكفاح؟ هذا هو الخصم الجدير بالفناء والازدراء. * * * ضرورة هتك الأستار: والقوى التى تعمل دائبة على تخليد الدكتور طه حسين، وتجديد فكره، وإعلاء شأنه معروفة لدينا، ونريد أن نكشف عنها، إذ لا معنى لبقائها فى جحورها تلدغ ثم تستخفى، وتنال منا باسم الحرية والعلم، وهى لا تعرف الحرية إلا لونا وحيدا: كيف تضرب الإسلام وتطفئ جذوته وتميت صحوته؟ ذلك، إلى أن الريح تعصف اليوم ضدنا أكثر مما كانت تعصف يوم ألف الدكتور طه ضد ديننا وتراثنا، لقد أقامت اليهودية على أنقاضنا دولة تريد اجتياح حاضرنا ومستقبلنا، وهى تربى النساء والأطفال لتحقيق هذه الغاية، وتعتبر المدرسة ثكنة عسكرية، والثكنة معبدا دينيا، والتوراة دينا ودولة. ص(1/63)
_067
أما الصليبية العالمية فإنى أكتفى بنقل العبارات للشيخ (عبد الله كنون) سجلها فى إحدى زياراته لأوروبا. قال: (أذكر للاعتبار أنى كنت فى أسبانيا ذات يوم، وصادف وجودى فى غرناطة يوم الاثنين، وهو يوم تعطل فيه الصحف الأسبانية ولا تصدر إلا صحيفة واحدة تسمى صحيفة الاثنين، وأخذت هذه الجريدة لأنظر فيها أنباء اليوم.. فإذا داخلها ملحق صغير للأطفال يكاد يستغرقه كله مقال رئيسى بعنوان (محمد النبى المزيف) يكتب بلغة سهلة مبسطة، ولكنها مليئة بالهزء والسخرية. وقد بنى المقال على فكرة أن القرآن مقتبس من التوراة والإنجيل اقتباسا مشوها، لأن صاحبه ـ على حد تعبير الكاتب ـ كان أميا لا يعرف قراءة ولا كتابة، وإنما تلقف ما ضمنه كتابه من أفواه اليهود الذين كانوا يسكنون جزيرة العرب، ومن بعض الرهبان الذين لقيهم فى أثناء رحلته إلى الشام. وهكذا يعمل النصارى على تنشئة أبنائهم منذ الصغر على احترام عقيدتهم ـ وحدها ـ ويرابط الكاثوليك فى حصن غرناطة، مستأنفين إلى اليوم مطاردة الإسلام حتى فى نشرات الأطفال بعد أن أجلوا أتباعه من هذا الحصن قبل بضعة قرون). هذا ما سجله الشيخ الأديب فى كتابه اللطيف (جولات فى الفكر الإسلامى) وصت حق القارئ أن يتساءل إذا كانوا يربون أولادهم على هذا الغرار فكيف نربى نحن أولادنا؟ وما هى المناهج التى اختارها عميد الأدب العربى عندما كان وزيرا للتربية والتعليم، أو اختارها أمثاله لتخريج أجيال تعرف دينها ونبيها وتاريخها وتراثها؟ ويعلم أولو النهى وذوو الإنصاف أن الإسلام مخترع الحريات الدينية منذ العصور الوسطى، وصانع المجتمعات البعيدة عن التعصب الأعمى.. وأنه قدم للعالم حضارة فريدة، تجاور فيها أهل الكتاب مع علماء الإسلام، فكانت الحضارة الإسلامية نتاج جهود مشتركة وتعاون صالح بين الكثرة المسلمة والقلة اليهودية أو النصرانية.. * * * الطائفية زرع الاستعمار: حتى جاء الاستعمار الحديث فشرع يشحن أفئدة(1/64)
الطوائف الدينية فى العالم الإسلامى بالحقد والغش على إخوانهم الطيبين، ويختلق حكايات مفتراة عن ظلم الأكثرية للأقليات ص _068
الدينية، ويغرى نفرا من الغلاة بمطالب مجنونة لا حصيلة لها إلا زرع الفتن.. ويقول الشيخ عبد الله كنون فى هذا المجال: (أحب أن أوضح هذه النقطة التى أصاب العالم الإسلامى منها خطر كبير، ذلك أن هذه الأقليات وإن كانت تتمتع بجميع الحقوق، ويتوفر لها ما ليس لأقلية أخرى فى بلد غير إسلامى، إلا أنها لا تقنع إلا بالهيمنة على أجهزة الحكم والقوانين الدستورية، واستطاعت بذلك إحكام سيطرتها على الدول التى تنتمى إليها. إن بعض هذه الدول كان فى دستورها أن دين الدولة هو الإسلام، فحذف هذا البند من الدستور إرضاء لأقلية متحكمة، وهذا أمر لا نظير له فى العالم أن تنقاد الأكثرية لحكم الأقلية). قال: (ولا نذكر هنا الأقليات الإسلامية الكبيرة فى الهند والصين والاتحاد السوفيتى، وإنما نذكر الأقلية الكاثوليكية فى المملكة المتحدة البريطانية، وهى أقلية تبلغ أربعة ملايين ـ تزيد إنجلترا قليلا عن خمسين مليونا من البروتستانت ـ ونسأل : هل دار بخلد هذه الأقلية أن تتحكم فى الكثرة المخالفة لها فى المذهب؟ هل فكرت فى معارضة الملكة عندما تؤدى القسم التقليدى على حماية الكنيسة الإنجيلية، والإخلاص لها عندما ترتقى العرش؟ ويطرد هذا التساؤل عند الكلام عن الأقليات الدينية فى ألمانيا وهولندا وسويسرا وغيرها). ولا نريد أن نقتبس أكثر من ذلك، وإنما نريد المضى فيما بدأنا به وإشعار الذاهلين بخطورة الثقافات المؤذية بل القاتلة التى روجها يوما ما أدباء ضعاف الخلق مرضى الإيمان.. فلما قضوا وتراجع مدهم أتى من يحاول استحياء فكرهم وتلميع أسمائهم حتى يقع الأغرار فى شركهم ويستقر الأمر للاستعمارين الصهيونى والصليبى على سواء.. على حساب الإسلام الذاهب. * * * قصور معيب: ويحزننى أن أقول: إن الدكتور طه حسين انتصر فى معارك كثيرة لأن(1/65)
خصومه لم يكونوا على شىء! فمن نيف وأربعين سنة أمر الدكتور ـ وكان عميدا لكلية الآداب بالقاهرة ـ بقبول طالبات فى الكلية لأول مرة فى تاريخ التعليم الجامعى. وانفجرت مراجل الغضب عند الأزهريين، وزلزلت الأرض زلزالها فقد كان إلحاق النساء بالتعليم العالى شيئا إدا. ص _069
والواقع أن جماهير من المتدينين كانت تستنكر تعليم المرأة فى أى مرحلة، وتعد تجهيلها من الإيمان. ولو أنها غضبت لأن التعليم مختلط، وينبغى تخصيص كليات للبنات لكانت على حق. وفتحت بعد ذلك بعشرين سنة كليات للفتيات فى الأزهر.. لقد استيقظ بعدما فاته القطار .. إن التدين القاصر ينيل أعداءه مكاسب كبيرة دون جهد يبذلونه. والغريب أن هذا القصور المعيب لا يزال سمة غالبة على المتكلمين باسم الإسلام فى أماكن شتى! وفى قضايا سياسية واجتماعية بعيدة الآثار. ألا فلنعلم أن الموقف السلبى لا يهزم العمل الخاطئ، إنما يهزمه بديل منصف نفاع للناس، حام لحقوقهم ومصالحهم. قد تكون ( للديمقراطيات) الغربية هنات تنال منها، لكن هذه الأنظمة لا تهزمها قصيدة هجاء، أو خطبة رنانة، إنما يهزمها نظام ينفى الاستبداد، ويعز الشعوب، ويصون الفطرة، ويحترم البرهان، ويطارد الأوهام. لم تكن الجبهة الإسلامية قادرة على تقديم هذا البديل، فنجح سماسرة الاستشراق والتنصير فى اجتياح مواقع كثيرة.. على أن الدكتور توقف عندما واجهه عاملون جدد فى حقل التراث، كان يبشر بعظمة اليونان وعراقة تاريخهم وحضارتهم، حتى كتب العقاد يثبت عكس ذلك، وكان يريد تغيير الكتابة العربية، ونشر مقالا أدخل فيه حروف العلة فى بنية الكلمة للدلالة على الحركات، ولكن الدعوة سرعان ما انهارت لأن حماة أشداء ـ من غير البيئة الدينية ـ بصقوا على الفتنة فانطفأت. ولست بصدد التأريخ لما كان، وإنما بصدد التوجس مما هو كائن فإن العراك مازال محتدما بين الإسلام ورسالته من ناحية، وبين الاستعمار العالمى وأحقاده التاريخية من ناحية(1/66)
أخرى، والمستقبل مقلق إذا بقيت شئون المدافعين على ما هى عليه الآن. * * * مقابلة.. ومقارنة: تسألنى كيف؟ والجواب: إن الهاجمين متفاهمون على الغاية المنشودة، ومتعاونون فى الطريق الطويل، ويقيم بعضهم ص _070
بعضا إذا كبا، ويغطيه إذا تعرى، ومع أن للكثير منهم أخطاء مذلة فقلما تجد من يتتبعها، وقد وزعوا الأدوار بينهم ومشوا إلى هدفهم متساندين. أما نحن فما بيننا متقطع، وإذا تصالح ندامى الحان، وتشاكس إخوان المسجد، فستنكسر المئذنة ويستولى السكارى على المحراب. اطلعت أمس على مجلة أحبها فقرأت فيها لمزا للأديب الحر المصلح عبد الرحمن الكواكبى وتفسيقا لرجلين من بناة النهضة الإسلامية الحديثة.. وأنا أحد تلامذة (المنار) وشيخها محمد رشيد، وأستاذه الشيخ محمد عبده. وأنا أعرف أن المتنبى غفر الله له كان يحب المال إلى حد البخل ويحب الإمارة إلى حد الجنون. ومع ذلك أطرب لشعره، وأستجيده وأستزيده، وإذا لم يكن أميرا لشعراء العرب فهو من قممهم. إننى لا أجعل عيبا ما يغطى مواهب العبقرى، ثم لحساب من أهدم تاريخنا الأدبى والدينى؟ ولمصلحة من أشتم اليوم علماء لهم فى خدمة الإسلام وكبت أعدائه كفاح مقدور؟ ومن يبقى من رجالنا إذا أخذت تاريخ الشيخين أبى بكر وعمر من أفواه غلاة الشيعة، وتاريخ على بن أبى طالب من أفواه الخوارج، وتاريخ أبى حنيفة من أفواه الإخباريين، وتاريخ ابن تيميه من ابن بطوطة وابن فلان، وتاريخ محمد بن عبد الوهاب من أفواه الترك.. الخ! وددت لو أعنت على محاكاة أبى حامد الغزالى مؤلف (إلجام العوام عن علم الكلام) فألفت كتابا عنوانه (إلجام الرعاع والأغمار عن دقائق الفقه ومشكل الآثار) لأمنع الصغار عن مناوشة الكبار وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم، وتنفع أممهم بهم. ص _071(1/67)
وجهة نظر فى أقدار الرجال أكره التعصب المذهبى، وأراه ضيق عقل وقلة علم، أو ضيق خلق وقلة مروءة. وأستحب التقليد المذهبى للعامة وأشباههم، وللمختصين فى علوم الكون والحياة وشئون الدنيا، حتى لا تشغلهم الفضول عن الأصول! وأعنى بالأصول ما توفروا عليه من مهارات فنية وحيوية، مدنية أو عسكرية لابد منها لدعم أجهزة الجهاد ورفع كفايتها، فإن مصاب المسلمين فى هذه الميادين فادح أو فاضح. أما المشتغلون بعلوم الدين التقليدية، فلا بأس أن يوازنوا بين وجهات النظر المختلفة ويرجحوا دليلا على دليل ومذهبا على مذهب. مع إكنان الاحترام للرجال الذين قادوا ثقافتنا القديمة، وليس هذا تفضيلا عليهم نتطوع به، بل هو أدب ننزل به على قول رسولنا الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) . واحترامى لك لا يعنى بتاتا أن أسلم بكل ما تقول، وتخطئتى لإنسان لا تعنى أبدا أنى أفضل منه، إن حقيقة الفضل لا يعلمها إلا الله والأئمة الراسخون قد تقع منهم هنات، وما يهدم ذلك مكانة حصلوها بالسهر والإخلاص والدأب والتفانى. وقد نبتت فى عصرنا هذا نابتة سوء، تغمز الأكابر بما تراه مأخذا عليها وتتعامى عن كل ما لهم من حسنات. من المعروف أن الإمام الشافعى هو أحد مجددى الإسلام، وهو واضع علم الأصول، والمحامى المجيد عن السنة النبوية، ومع ذلك فإن البعض لا يذكرونه إلا بأنه يبيح زواج البنت من الزنا، ويقترف بدعة القنوت فى الفجر... وتوافه أخرى يذكرونها. وبهذا المنطق الصبيانى لا يبقى فى تاريخ المسلمين رجل موضع ثقة! ص _072(1/68)
فمن من عباقرة الأرض رزق العصمة؟ ذلك لو سلمنا بأن ما ذكروا مآخذ.. أقول ذلك لمناسبة ما قرأت من تهجم على الشيخ محمد عبده وهو أحد رواد الإصلاح الحديث، وروح الفقه المتجدد فى مدرسة النار. أول ما عرفت الشيخ فى كتابه (رسالة التوحيد) وهو عرض جديد لعلم الكلام ردم الفجوة بين السلف والخلف، وشرح العقائد شرحا يمزج بين العقل والنقل، وتجاوز الترف العقلى والجدل اللفظى ومنهج المتون والشروح، وقدم أصول الإسلام تقدمة دقيقة جيدة. ثم قرأت كتابه عن الإسلام والعلم الذى رد به على وزير خارجية فرنسا، فرأيت رجلا عليما بالإسلام وتاريخه وفضله على الحضارة الإنسانية، عليما فى الوقت نفسه بالنصرانية والهندوكية وتاريخهما وما يكتنفه من غيوم. وقد ألف الكتاب فى ليلة واحدة لشدة غضبه من الهجوم الفرنسى وملأه بالوثائق التى تشرف الحق وتخزى الباطل. مَن مِن علماء المسلمين فى عهده تحرك بهذه العاطفة ورد بهذا الرسوخ؟ ثم قرأت تفسيره للقرآن الكريم، ووجدت بواكير التفسير الموضوعى للسورة فيما كتب، اهتدى إليها ذهن لماح مستوعب، وبصر حديد فى إدراك الخيوط التى تشد أجزاء السورة، كما تشد الأعصاب أجزاء الكائن الحى. ويمكن عند متابعة المنار أن يعرف فضل الرجل فى تجلية المعنى والحكمة، ودفع الشبهات ودعم اليقين. قال صديق: لا تنس أن الرجل ـ من الناحية العلمية ـ متهم بتجاوز أحاديث صحاح، وهو اتهام لو صح يسىء إلى مكانته! قلت: نعم، إن الذين يرفضون السنة النبوية مصدرا للتشريع بعد القرآن الكريم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وإذا كان رفضهم للمتواتر والآحاد جميعا فهم كافرون يقينا.. بيد أن هنا خلطا مزعجا ينبغى كشفه، فإن جماهير أهل العلم تعترف بالسنة جملة، ويقوم لديها بعدئذ من الأسباب الوجيهة ما ترد به حديثا من مرويات الآحاد. والذين يفعلون ذلك لا يسمون مكذبين بالنسبة، فإن ردهم لهذا الحديث إنما وقع لأنهم يستبعدونه من السنة المطهرة، كأنهم يقولون(1/69)
عنه: هو موضوع، أو فاقد لشرط من شروط القبول المقررة. قال: إنك تعلم دقة الشروط التى وضعها علماء هذا الفن لتمييز الصحيح والحسن والضعيف، فهل تتهم ما ارتضوه من قواعد؟ ص _073
قلت: بل أنزل وينزل غيرى عندها! فهى شروط جامعة مانعة، لو نظر فيها رجل مادى لارتضاها فى ضبط الأخبار وتأصيلها. وما حدث أن تساهلا وقع فى تطبيق هذه الشروط. فإن حديث الثقاة إذا ورد مخالفا لمن هم أوثق وصف بالشذوذ، وإن كان سنده صحيحا. كيف تقع هذه المخالفة؟ إن الراوى بشر قد يخطئ الفهم أو يغلبه النسيان وهنا تجىء المقابلة بين حديث وحديث وسند وسند، ومع التحرى والاستقصاء يظهر الحق. وقد تجىء المقابلة بين الدلالات المأخوذة من آية قرآنية، وبين الخبر المروى عن طريق الآحاد، ومن غرائب ذلك أن أبا حنيفة يبيح أن تباشر المرأة عقد زواجها بنفسها ويرد ما روى بالمنع.. لأن الله يقول: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف). ويقول تعالى: (حتى تنكح زوجا غيره). فنسب العقد إليها، وهذا الإسناد حقيقى ولا داعى للقول بالمجاز.. الخ.. وأغلب الفقهاء يرفض هذا المذهب لضعف الاستنتاج وإن أيده كثيرون والذى نلفت النظر إليه أن أحدا لا يرد حديثا بالهوى أو لأنه لم يعجبه، فذلك مسلك كما قلنا أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان. *** ص _074(1/70)
مع الإمام مالك: ونتأمل فى مسلك إمام فقيه محدث، هو مالك بن أنس رضى الله عنه، يرى مالك أن المدينة المنورة على عهده ورثت علم الصحابة والتابعين، وهم القرون المفضلة فى هذه الأمة، وأن ما أجمع عليه أهل المدينة هو الصورة الدقيقة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء حديث مخالف لما عليه العمل عند أهل المدينة تجهم له مالك، وتوقف فى قبوله. إنه وإن رواه الثقة فقد خالف الثقاة، أى أنه وفق مصطلح أهل هذا الفن شاذ، ومن ثم رفض مالك النافلة قبل المغرب، ورفض تحية المسجد والإمام يخطب مع ورود أحاديث تجيز ذلك، بل تستحبه.. إن موقف مالك من هذه المرويات كموقف عمر بن الخطاب من حديث فاطمة بنت قيس فى سكنى ونفقة المطلقة ثلاثا، فقد رد الحديث ـ على صحته ـ قائلا: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لحديث امرأة لا ندرى حفظت أو نسيت! إنه لا يرد السنة وحاشا له ذلك، إنه ينكر أن هذا الحديث سنة. قال الشيخ عبد الله كنون كبير علماء المغرب ـ وهو مالكى المذهب ـ: (نلمح إلى رأينا فى تقديم مالك لعمل أهل المدينة على الخبر الصحيح الذى يروى عن طريق الآحاد فإنا نرى أنه ذهاب منه إلى وجوب النظر فى متن الحديث كما ننظر إلى السند. إن متن الحديث إذا وجد له معارض من الأصول والحقائق الثابتة المسلمة، وكان من رواية الآحاد أى لم يكن متواترا فيعلم بالضرورة أنه من الدين، فإنه يمكن وضعه موضع البحث، ويتوقف العمل به حتي يبت فيه أهل العلم). قال: (مما يستأنس به لهذا ما روى عن ابن المعذل أنه قال: سمعت إنسانا سأل ابن الماجشون: لم رويتم الحديث ثم تركتموه؟ فقال : ليعلم أنا على علم تركناه). وهذا القول يرد على من زعم أن الإمام مالكا ترك العمل بالحديث لأنه لم يبلغه، لا، إنه بلغه، ولكن ثقته برجحان ما عنده يأباه. إن الآحاد لا ترد الإجماع أو شبه الإجماع وهو يرى أن ما خالف إجماع أهل المدينة مرفوض. ويرى أبو حنيفة أن حديث الآحاد يفيد الظن الراجح، فكل دلالة(1/71)
أقوى ترجح عليه كظاهر القرآن، والقياس القطعى. *** ص _075
مع الإمام محمد عبده: وخصوم محمد عبده يكادون يتهمونه بالزيغ لأنه رفض حديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه رفضه تعلقا بظاهر القرآن الكريم وإعلاء لقدر المصطفى. وأخلص من هذا التطويل إلى أن اتهام الرجل برفض السنة كلها لأنه اعترض أثرا محددا جور شديد، ومدرسة المنار شديدة الاحترام للسنة ولكن القرآن عندها الدليل المقدم، ومن يعترض هذا؟ قال الصديق: فى كلامك وجهة نظر قد تقبل، ولكن ما لا يقبل تطويع القرآن لنفريات علمية أو مفاهيم حديثة، إن تفسير الشيخ للملائكة، وللطير الأبابيل لا مساغ له! قلت: قد يكون تطرف فى تقريب المعانى من أذهان المعاصرين، ولمست ممن يرتضون هذا المنهج، غير أنى أتساءل: لماذا يحسب عليه ذلك ولا يحسب له تفسيره القيم النقى لآيات سورة الأحزاب فى زواج بنت جحش، وتفسيره الرائع لآيات سورة الحج: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم). إن الرجل دمر خرافة الغرانيق التى وجدت لها أسانيد عن بعض المحدثين الكبار، وزاد عن السيرة الشريفة أوهاما تعكر صفاءها، وبدا من أسلوبه فى الاستدلال أنه استدرك على بعض المحدثين اهتمامهم بالسند وذهولهم عن المتن، وأنه رفض تقوية الفرع على حساب توهين الأصل. والواقع أنه لا يرد أوهام المستشرقين، ولا يصد مفتريات المبشرين إلا فكر على الغرار، فهل ذلك عيبه؟ صحيح أن الجانب السياسى فى حياة الرجل موضع أخذ ورد وأعرف أنه كان فى وضع لا يحسد عليه بين محتل غاشم وقصر خائن وليست لى دراسة مفصلة لهذا الجانب، وإنما أعلم أن دواعى التزكية والترجيح، والإهانة والتجريح طيعة لمن أراد المدح والقدح والمصير إلى الله الخبير بالنيات، وإنما عنانى فقط الجانب العلمى الذى يعنى المسلمين كلهم، وله بحاضر المسلمين ومستقبلهم علاقة وثيقة. *(1/72)
* * ص _0 ص
مع جمال الدين الأفغانى: وأذكر فى سطور قلائل رأيى فى جمال الدين الأفغانى، لوددت أن يكون علماء الدين على صفته فى عزة النفس وشموخ الأنف والتوكل على الله، عندما ذهب إلى الآستانة طلب منه السلطان عبد الحميد أن يدع مهاجمة شاه إيران، وأنصت جمال الدين دون أن يرد، فلما طال إلحاح السلطان عليه قال منهيا الحديث: قد عفوت عنه. وشده السلطان، وذعرت الحاشية! قد عفوت عنه؟ العهد بعلماء الدين أن يكونوا مدفوعين بالباب ينتظرون الجدا ويشكرون الندى. فما بال هذا الرجل يناصى الملوك ويحاكم أخطاءهم؟ قال المؤرخون: ما كان جمال الدين يرى نفسه دون الخليفة. وتذكرت وأنا أقرأ الحكاية بيتى الشريف الرضى، وهو يعاتب الخليفة العباسى فى بغداد قائلا: مهلا أمير المؤمنين فإننا فى دوحة العلياء لا نتفرق! إلا الخلافة ميزتك فإننى أنا عاطل منها وأنت مطوق! هل هذا السمو خلق عميل للماسونية كما يقال؟ إنه خلق متوكل وثيق الصلة بربه، راسخ القدم فى دينه، وما سمعت قبله ولا فى عصره من كشف أحقاد الصليبية العالمية وألب الجماهير ضدها وشن الغارات شعواء على المستبدين والظلمة، ونفخ من أنفته فى الشعوب الراكدة المستعبدة يحضها على العمل لدينها ودنياها، إن الرجل وحده كان صاحب هذا الصوت ويظهر أن تلك كانت جريمته. قالوا: كان منتسبا لأحد المحافل الماسونية، ولا أنفى هذا، وإنما أسأل: فى أى كتاب إسلامى شرحت آثام الماسونية وحذر المسلمون منها قبل عصر الأفغانى؟ إنه خدع بكلمات الإخاء والحرية والمساواة كما خدعت أمتنا اليوم فى المؤسسات العالمية الكثيرة، والمهم أنه منذ ظهر إلى أن مات عليلا أو قتيلا لم يؤثر عنه إلا العمل على استنهاض المسلمين وإحياء جامعتهم وحضارتهم ورسالتهم.. وذاك حسبه من الشرف. أذكر أن (بابا روما) الأسبق مات عقب مرض ألم به فألف طبيبه الخاص رسالة لا أدرى ما فيها عن حياته الخاصة، فصودرت الرسالة، وفصل الطبيب من النقابة، وانتهت(1/73)
حياته الاجتماعية، وقد ألفت عشرات الكتب عن (نابليون) تنوه بأمجاده وتتواصى بالسكوت عن غدره وشذوذه وخسته. ص _077
القوم إن رأوا من عظمائهم خيرا أذاعوه وإن رأوا شرا دفنوه! أما نحن فمبدعون فى تضخيم الآفات إن وجدت، واختلاقها إن لم يكن لها وجود، والنتيجة أنه لن يكون لنا تاريخ. وقد نظرت إلى علماء الدين الذين تناولوا الافغانى بالسوء فرأيتهم يحيون فى إطار نظم تتبع الاستعمار الشرقى أو الغربى، وأنهم فى مواجهته ومواجهة سماسرته خرجوا بالصمت عن لا ونعم. إن الهيابين لا يجوز أن يشتموا الشجعان. * * * التعاون المثمر: وأخيرا.. أريد أن اقترح تعاونا مثمرا بين مدرستى الأثر والرأى فى ثقافتنا الإسلامية، فإن استباحة أحد الفريقين للآخر وخيم العقبى على أمتنا المنهكة المحاصرة. أذكر وأنا طالب فى المرحلة الابتدائية أنى قرأت للزمخشرى هذين البيتين فى شتم معارضيه من أهل السنة: لجماعة سموا هواهم سنة وجماعة حمر لعمرى موكفة قد شبهوه بخلقه من جهلهم وتستروا فى زعمهم (بالبلكفة) ويظهر أن الرجل أحب أن يهين من فسقوه، فتناولهم بهذا الإقذاع وهو مخطئ بلا ريب. ربما تحمل المسلمون إبان ملكهم العريض، ودولتهم الكبرى نتائج هذا الشطط، أما اليوم وهم كما قال الله فى اليهود قديما: (وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك). أما اليوم وهم غنائم باردة لما هب ودب فليغيروا من سلوكهم وليحسنوا أدبهم مع الله ومع أنفسهم.. فجمع الشمل أولى والتلاقى على أركان رسالتنا أهم من التخاصم على سفساف الأمور. * * * ص _078(1/74)
مدرسة رائدة .. وإمام ضخم قلت لرجل يكره جمال الدين الأفغانى: ما قيمة التشكيك فى انتماء جمال الدين لبلد ما؟ ليكن أفغانيا أو إيرانيا أو سودانيا! فهل يستمد الرجل شرفه من وطن ولد به! إنما يستمد عظمته من سيرته وتراثه والأصداء البعيدة التى تركها فى العالم الإسلامى فأيقظته من سبات. قال: إنه إيرانى يستخفى بنحلته الشيعية وراء نسب زائف! ومبدأ التقية عند الشيعة يتيح له ذلك! قلت: إن أصدقاء جمال الدين وأعداءه نقبوا فى أقواله وأفعاله وخطبه وكتبه فلم يروا ذرة من تشيع إلا للإسلام والسلف الصالح، ولم يروا نبرة من حماس إلا لاستعادة الحضارة الغاربة وإنعاش أمتها المسكينة. إن نفس الرجل تساقطت أنفسا وهو يكافح الذل والجهل والذهول والتفرق وسائر العلك التى أكلت كياننا. و ما عرف عنه تعصب لمذهب كلامى أو فقهى أو جنسى، كان الإسلام وحده شغله الشاغل حيث ولى وجهه فى آسيا أو إفريقية أو أوروبا. قال: هذا من إتقانه لتمثيل دوره، فقلت مقاطعا: هذا الكلام يشبه اتهام (كارل ماركس) بأنه رأسمالى تخفى وراء فلسفة صنعها أو صنعت له كى يخدم الأغنياء وأرباب العمل. دع عنك هذا اللغو، ولننظر فى عمل الرجل لا فى نسبه. عندما ظهر (الأفغانى) كانت الأمة الإسلامية تركة رجل مريض يوشك أن يلفظ روحه ويقتسم ميراثه، ولم تكن له فى المحافل الدولية مهابة ولا رسالة. استطاع أعداؤها مع امتداد عصر الإحياء أن يجتازوا البارود إلى البخار وأن يتهيئوا للكهرباء والذرة على حين جثم المسلمون على مكانتهم يبذرون الحب، ويرجون الثمار من الرب، ولا يدرون شيئا قل أو كثر عن الكون الذى يعيشون فيه. ص _079(1/75)
أما ثقافتها الدينية فاجترار غريب للنزاع بين الأشاعرة والمعتزلة أو قصص عقيم عن فكر السلف والخلف، ذاك فى ميدان العقيدة. أما فى ميدان الفقه فتشريح للفروع ودوران حولها يجعل من الحبة قبة. وقد قرأت رسالة من مخلفات ذلك العهد الأنكد عنوانها (صواعق من نار فى الرعد على صاحب المنار) وسر هذه الغضبة المضرية أن الشيخ رشيد قال: إن صياح المؤذنين بالصلاة على رسول الله عقب الآذان أمر محدث ومن الخير الاقتصار على الوارد. وقاد الهجوم وقدم للرسالة الشيخ (الدجوى) عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف. لم تكن للثقافة الإسلامية موضوعات ذات بال، أو قضايا نفسية واجتماعية وسياسية مهمة. ماذا يصنع رجل حكيم حاد البصر والبصيرة بإزاء هذا الاختلال العقلى أو هذا الموت المادى والأدبى؟ لقد استجمع كل ما يملك من مواهب واشتبك فى صراع وحشى مع الحكام الذين أذلوا الشعوب ومع الشعوب التى ذلت للحكام. وشرع يعرض الإسلام حركة عقل وإباء نفس، ويبرز خصائص الحضارة الإسلامية الأولى بما حوت من فكر نضير وجراءة على الحياة، وقدرة على التغيير. كانت الشورى قد ماتت مبنى ومعنى، وكان الاجتهاد قد توقف وأمسى ذكريات بائدة! كانت الطاقات الروحية والفكرية قد نفدت بين العامة والخاصة وسقط المسلمون من أعين البشر جميعا. وكان على جمال الدين ومن التف حوله من الرجال أن يستأصلوا علل التخلف، ويردوا الأمة إلى الصراط المستقيم. وبديهى أن تكون الجامعة الإسلامية أساسهم فلا تعصب لجنس، وأن يكون العقل الإسلامى رائدهم أو باعثهم فلا تعصب لمذهب أو رأى.. وقد أحس الأفغانى بما يشيع فى أجواء المسلمين المنهزمين من خرافات، وبما يصحب اليقظة الأوروبية من باطل وهوى وظلم، فأخذ يعرض الإسلام على نحو يقمع المغرورين ويستنهض المقهورين. " وقد ذكر الأستاذ الكبير عبد القادر محمود أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة ستة عناصر لمنهج جمال الدين فى الإصلاح، نومئ إليها باختصار(1/76)
لدلالتها الصادقة على فكر الرجل العظيم: ص _080
ا ـ فالإسلام دين التوحيد الحق، الرافض لكل صور التعدد، الماحى لشتى الوثنيات وتبعية المرء لغير الله. 2 ـ وهو دين الكمال العقلى، دين أولى الألباب، والأفكار الناضجة والمزايا البشرية السوية، فلا مكان فيه لدعاوى جنسية وتفرقات عنصرية على نحو ما زعم (رينان) الفيلسوف الفرنسى الذى ناقشه جمال الدين وأوقفه عند حده. 3 ـ ينهض الإيمان على النظر فى الكون، وعلى أداء العقل لوظيفته المنطقية، والإسلام يأبى تقليد الأوائل دون وعى، ويرى تعطيل العقل مرادفا للحيوانية. 4 ـ ومنذ بدأ الإسلام والمسلم عزيز الجانب قوى بربه سيد لما حوله يفعل الخير ويدعو إليه، ويحترم الحق ويحكم به، ويستمده من الوحى الأعلى، ويقيم سلطان الدولة على دعائمه. ومن ثم فهو يزدرى الأهواء والتقنينات الأجنبية، ويجعل شريعة الله أساس الحكم فى أرض الله. 5 ـ والأطوار التى جدت على المجتمع الإنسانى توجب على المسلمين ألا ينحصروا فى تقليد فقيه واحد من فقهاء الأمصار، بل يجب العود إلى الينبوع الذى يستقى منه الكل، أى الكتاب والسنة، وأن ينفتح باب الاجتهاد للوفاء بالمصالح الدينية والمدنية التى جدت. 6 ـ غالى جمال الدين الأفغانى بالخصائص الأدبية التى كرم الله بها الإنسان، ونوه بعظمة العقل وإمكاناته على الكشف والحكم، وأزاح العوائق التى تعترض نشاطه، واحتقر الجمود الذى يلوذ به بعض المتدينين، والفلسفات الانسحابية التى تشد المسلمين إلى الوراء. ثم مضى الشيخ العبقرى يهدر فى كل بلد نزل به! ويصرخ بعد قرون من الصمت لم تشهد هذا الصنف من الدعاة الرواد، وفى كل قطر تيممه كان الرقاد يصحون! ولم يكن جمال الدين يخشى إلا الله، وما شغله قط مال أو جاه، ولا عناه إلا تكسير القيود التى أذلت جماهير المسلمين. لا أدرى أكان المتنبى يصف نفسه أو يصف جمال الدين الأفغانى حين قال: تغرب لا مستعظما غير نفسه ولا قابلا إلا لخالقه حكما ولا(1/77)
سالكا إلا فؤاد عجاجة..! ولا واجدا إلا لمكرمة طعما يقولون لى: ما أنت؟ فى كل بلدة وماتبتغى؟ ما ابتغى جل أن يسمى ومع التجهم الذى قوبل به من ذوى السلطان، والمكايد التى دبرها له الحاقدون والحدة فإن الرجل بقى على وفائه لدينه وانتصافه لأمته وجراءته على العدى وتحمله للآلام. ص _081
كذا أنا يا دنيا! فإن شئت فاذهبى ويا نفس زيدى فى كرائهها قدما فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى ولا صحبتنى مهجة تقبل الظلما الفارق بين المتنبى والأفغانى أن الأول كان طالب إمارة يرى نفسه أحق بها من ملوك عصره، أما الثانى فكان غاضبا للإسلام، ناقما على من حرفوه وأضعفوه. وكان يرفض بعنف شديد الفصل بين الإسلام والعقل، وبين الشورى والحكم، وبين الإنسان والحرية، وكان حاسما فى ربطه بين العبادات وزكاة الروح، والتوكل على الله والزهد فى أعراض الدنيا وصحبة الكبراء. ونجح الأفغانى فى تأليب الكثيرين على الاستعمار العالمى. ولا ريب أن مدرسة المنار فى مصر ومدرسة ابن باديس فى الجزائر، ومدرسة القاسمى والكواكبى فى الشام ومدارس كثيرة فى العالم الإسلامى كانت أثرا مباشرا لهذه الثورة الفكرية والتربوية التى بدأها جمال الدين. وفى هذه الأيام المهزولة من تاريخنا العلمى والسياسى تتعرض سيرة جمال الدين الأفغانى لمطاعن شديدة من صنفين متباعدين جدا. فالدكتور ( لويس عوض) يصب جام غضبه على الثائر الإسلامى الحر ويصفه بكل موبقة فهو (مغامر مجهول كافر مجنون مخاطر مغمور زنديق مخبول ملحد مأجور أفاك دساس دجال متلون... الخ). وقد كتب الأستاذان (أحمد بهجت و سامح كريم) فى أهرام 29/8/1983 تعليقات على طريقة ( لويس عوض) فى البحث والحكم، وبينا أن الرجل كان يرجع إلى تقارير المخابرات الدولية، ويستقى من مصادر لا تعرف بالنزاهة والصدق. وكتب الأستاذ الكبير الدكتور (جابر قميحة) مقالا تحت عنوان (التزوير وأمانة الكلمة) يكشف فيه أن الدكتور ( لويس) فى حديثه عن جمال الدين كان(1/78)
قاصر البحث غائب المنهج. والدكتور ( لويس) رجل واسع الاطلاع على الثقافة الغربية، شديد الولاء لأغراضها، وأعتقد أن كرهه لجمال الدين نابع من حبه لدينه واحترامه لدور أوربا فى احتلال الشرق الإسلامى، وتغييرها الواجب لعقله وضميره. وقد نفس عن كوامنه بالأسلوب الذى هاجم به جمال الدين، ومع أنى لا أتوقع أن يقول الدكتور ( لويس) كلمة طيبة فى جمال الدين أو فى محمود شاكر إلا أنى فوجئت بهذا الضغن الشديد على زعيم من زعماء الإصلاح الإسلامى. فلنترك التيار الصليبى ورجاله وطرائقه فى النيل منا! ولننظر إلى صنف آخر من الناس يحارب مجددى القرن الماضى، ويستميت فى تجريحهم. ص _082(1/79)
ولست أدافع عن شخص ما وانما أدافع عن المبادئ التى ظهر بها ما دمت أراها حقا، ولا بأس أن أنظر إلى الشخص نفسه لأعرف: أكان صورة حسنة لما يقول أم لا؟ وهنا أسأل: علام كان يعتمد جمال الدين فى تحشيد الأمة حول دعوته؟ وماذا كان يقصد؟ وهل للهاجمين عليه عذر فى نيلهم منه؟ إن الإسلام وحده هو وجودنا المادى والأدبى، وهو العنوان المشترك بل الموضوع المشترك بين ماضينا ومستقبلنا، ولن نقبل أن يبتعد حاضرنا عن الإسلام قيد أنملة. ويوجد أقوام يقدمون رباط الأسرة على رباط الدين، أو يصغون إلى نداء الدم أكثر مما يصغون إلى نداء العقيدة، وقد كثر فى عهدنا من يهتمون بالوطنية والقومية ولا يتحركون لقرابة الإسلام. وأنا ممن يفهمون الشرك على معناه الواسع الوارد فى القرآن الكريم! فإذا رأيت امرأ يطوح الصلة بالله بعيدا جدا ويرجح عليها صلة أخرى من نسب أو مال، أو منفعة لم أستطع فهم كيف يكون موحدا. إنه أشرك بالله (شيئا ما). ونحن منهيون عن إشراك أى شىء مع الله: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا). ويكاد المسلمون يتفقون على هذا المعنى وإن تباينت مصطلحاتهم فى التعبير عنه. إنما يقع الاختلاف عند التطبيق، وعندما تقع تجاوزات أو انحرافات، وإذا افترضنا حسن القصد قائما بين جمهور المؤمنين، وأن حال المسلم تحمل على الصلاح أبدا فإن سبب الاختلاف يرجع إلى تفاوت العقول فى تقدير زاوية الانحراف، أو مدى التجاوز. إن هذا التفاوت العقلى قد يثير الدهشة والغضب. هذا رجل يكره المذهبية! حسنا.. لكن ألا أبالى بكفاح الأفغانى ضد الشيوعية لأنهم أحناف! هذا جنون. وألا أبالى بكفاح المصريين ضد الاستعمار لأنهم قبوريون، وألا أبالى بكفاح المغاربة ضد الصليبية لأنهم صوفيون! هذا وذاك لون من السفه لا يجوز أن يلبس ثوب التدين. وثم أمر آخر.. إن إيقاد البغضاء بين العوام بسبب خلاف فرعى جرم كبير لاسيما بين أتباع دين يأجر المخطئ والمصيب. استمعت إلى حديث عن أديب إنجليزى(1/80)
يكتب قصصا للأطفال كى يشبوا نافرين من الخلافات السخيفة. ص _083
قال الأديب لأطفاله: إن نزاعا نشب بين أهل مدينة كذا: هل تؤكل البيضة من أحد طرفيها المدببين، أم من وسطها العريض، وتألف حزبان أو مذهبان كل يدعو لرأيه، واستفحل النزاع فصار حربا انهزم فيها أحد الفريقين، فالتجأ إلى مدينة أخرى واستعان بأهلها لينتصر على خصمه، ونشب حرب عامة بين المدينتين.. الخ. قلت: ما أحوج الدهماء فى بلاد الإسلام إلى سماع هذا الدرس!. على أية حال.. إن المصلحين الكبار يترفعون عما يشغل العامة وأشباههم من قضايا. وهم يتجهون إلى الإصلاح من المنبع لا من المصب.. وهذا ما فعله جمال الدين، ومن سار تحت رايته. إنه نظر فى أحوال المسلمين على اختلاف العصور، وعرف الداء وبدأ العمل. وكان الرجل يتملكه إحساس لا ريب فى صدقه، أن الفكر الإسلامى متخلف عن الفكر العالمى مسافة طويلة! بل متخلف عن الإسلام نفسه وتاريخه البعيد. أترى جمال الدين كان واهما فى هذا الشعور؟ كلا، إن هذا الشعور لا يزال يتملكنا بعد مائة عام من وفاة الرجل، فإن الضغط على أمتنا شديد كيما تبقى فى الرغام، ولقد اجتمع عليها الخصوم من كل ملة وبقيت متفرقة الهوى متناحرة على الهباء. وقد قيل: إن الفساد يهبط من أعلى إلى أسفل وإن الإصلاح يصعد من أسفل إلى أعلى، وقد حاول جمال الدين أن يعمل بالمبدأين معا فحاول إسداء النصح إلى الحكام، وتعريفهم أنهم أجراء للشعوب وملزمون بالشورى، كما حاول استحياء الأمة الهامدة وتبديد الخمول العلمى والخلقى الذى ران عليها، وألغى وجوديها الأدبى والمادى فى السباق العالمى. وكان إيمانه عميقا بقدرة الإسلام على استئناف رسالته وتجديد حضارته. وعندما أصدر هو وصاحبه محمد عبده مجلة العروة الوثقى لم يكن صحافيا مهموما بالطبع والنشر! كلا، لقد مهد لذلك بتأليف جماعات أو شعب تتواصى بنصرة الإسلام وتقسم الأيمان المغلظة على جعل الولاء له فوق الولاء للأبوة والأمومة،(1/81)
وتتجمع على مدارسة المجلة كى تضع أسس الجامعة الإسلامية الجديدة وتعيد العافية للكيان المريض. وقد أصدرها فى باريس! والغريب أن عواصم الغرب لا تزال إلى يوم الناس هذا المكان الذى تصدر منه صحف إسلامية قوية. أما يدرس أولو الألباب هذه الظاهرة قبل أن يتهموا بالإلحاد الرجل الذى رد على الدهريين؟ وبالفوضى الرجل الذى أراد إلغاء القوميات الضيقة أو الواسعة ليقيم على أنقاضها الوحدة الإسلامية؟ ص _084
إن الجريمة الأولى والأخيرة لجمال الدين الأفغانى أنه اكتشف الروح الصليبية فى الاستعمار الغربى وحذر منها، ونبه إلى أن قلب بطرس الناسك لا يزال يخفق فى صدور الساسة الأوروبيين. والجريمة التى تتبعها أنه قدم إسلاما بلا مذاهب مفرقة، وداس بكبرياء ما انشغل به جلة علماء الدين من فروع الفقه وبحوث اللاهوت. وطبيعى أن تنطلق الأبواق لتطعن فى شرف الرجل وعلمه، وقد تكون هذه الأبواق خادعة، أو مخدوعة! بيد أن الاستماع إليها هزيمة إسلامية شائنة، ونصر مؤزر للصليبية الغازية وللسلطات العفنة التى عاشت وتعيش فى كنفها. وأوجه النصح إلى المسلمين المعاصرين بأن يستبينوا أمرين كانا من أهم ما دعا إليه جمال الدين وتلميذه العظيم محمد عبده. أولهما: أن دراسة العلوم الحديثة واجب إسلامى أول، وأن أى عقل نظيف يدرك أن هذه الدراسة امتداد محتوم لحديث القرآن الكريم عن الكون، وأن نتائج الجهود العقلية الذكية دعم للإيمان الصحيح، ودمغ للإلحاد. وعلماء الدين الذين يبتعدون عن هذه الدراسات عمدا هم أنصاف أميين، وربما أساءوا إلى الإسلام من حيث يبغون الإحسان إليه. وقد أشرنا فى كتبنا الأخرى إلى أن جهاز الجهاد الإسلامى سوف يتوقف كل التوقف بالجهل فى هذه الميادين، بل إن العقل الإسلامى نفسه سوف يضار من هذا القصور. والحق أن دراسة هذه العلوم أولى من التوفر على تفاصيل فقهية ما كان يعرفها الصحابة رضوان الله عليهم! بل أولى من الخوض فى بحوث لاهوتية وجدل كلامى(1/82)
لو خاض فيه سلفنا الأول ما قامت لهم دولة ولا شمخت لهم حضارة. أما الأمر الثانى فهو حسن معرفتنا لأنفسنا، أو بتعبير دقيق، التفريق بين دين الله وبين عملنا به وله فى الماضى والحاضر. دين الله مضبوط فى الكتاب والسنة، ومنهما تستمد الأحكام. أما التاريخ الإسلامى، فى الماضى والحاضر، فليس مصدرا للتشريع، ولا مؤشرا على الحلال والحرام! وأخطاء السلاطين أكثر من صوابهم، وعوج التقاليد أكثر من استقامتها. وعندما ينهض مصلح ـ فيغضب على تخلفنا، ويحاكمنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، ويلفتنا إلى سيرة القرون الخيرة الأولى، ويذكرنا بأمجاد حققناها لأسباب وفقدناها لأسباب فلا يجوز أن ننهش عرضه وننال منه. ص _085(1/83)
لماذا بقيت برية سيناء وشطوط الخليج مراعى للأغنام حتى جاء غيرنا فاستخرج منها النفط وأفاض منها الخير؟ آباؤنا الأوائل علموا أوروبا النظافة وإنشاء المدن المضاءة، والشوارع الممهدة للمشاة والركبان. وكان ذلك باسم الإسلام ومن الاصطباغ بحقائقه. فهل الإسلام ـ أم تخلفنا العقلى ـ سبب هبوط الاستعمار علينا واستخراجه دفائننا؟ إن بيننا من لا يزال يشتم الرجال الذين نشطونا للدراسات الحديثة وقالوا لنا: لابد من دراسة الفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء ولابد من الدراسات الإنسانية والكونية والفلكية. ولماذا يشتمونهم؟ لأنهم ينقلون الضوابط الحديثة للشورى (!) ويخاصمون الحكم الفردى؟ لأنهم يرفضون أن تؤخذ صورة الإسلام من تطبيقات القرون المنحطة ويرجعون بنا إلى المنبع الأول؟ مما يؤلمنى أن أرى بعض (المتدينين) يحب الهجاء أكثر مما يحب الثناء ويسارع إلى خطأ ليفضحه أكثر مما يسارع إلى جميل ليمدحه.. وهذا البعض مستهتر بتجريح الكبار وغمط فضلهم. وقد تلاقى هذا البعض مع الدكتور ( لويس عوض) فى التهجم على جمال الدين الأفغانى. والدكتور ( لويس) يرى أن (يعقوب حنا) الذى خان مصر وانضم إلى الحملة الفرنسية هو زعيم قومى عظيم القدر (!) وأن جمال الدين موقظ الشرق الإسلامى فى العصر الحديث جاسوس ملحد (!). وكما قلت.. لا عجب فى موقف الدكتور، وإنما العجب فى موقف الذين تلاقوا معه فى ضرب رجل الإسلام! والجنون فنون. *** ص _086(1/84)
أما تركد هذه الزوابع أتردد على تفسير المنار بين الحين والحين لأتعلم منه ما لم أكن أعلم وهو فى نظرى موسوعة ثقافية موارة بالأبحاث التى تشمل الدين كله. والشيخ رشيد، وأستاذه محمد عبده، وزعيمه جماد الدين من أعمدة اليقظة الإسلامية فى العصر الحديث. ولكنهم ومن فوقهم ومن دونهم من المفكرين الإسلاميين ما رزقوا العصمة ولا زعمت لهم يوما. ومَن مِن أئمتنا القدامى والمحدثين أصاب فلم يخطى، ومضى فلم يعثر؟ وهل وظيفتنا أن نمضغ الأخطاء، ونتتبع العثرات ونتعامى عن الحسنات ونشتم القمر لأنه كثيرا ما يقع فى المحاق؟ قال لى صديق يعمل مفتشا للوعظ والإرشاد بالقاهرة : إنه ذهب لإلقاء محاضرة عن أحمد بن حنبل بناد لجماعة تنتسب إلى السنة، وبعد أن أتم كلامه قام متحدث آخر ليلقى محاضرة موضوعها (أبو حامد الغزالى الكافر) (!). وفزعت لشناعة التهمة الموجهة إلى إمام ضخم من قادة الفكر الإسلامى، لقد كان أبو حامد عالما أديبا، وفقيها أصوليا، ومربيا فيلسوفا. وهو أذكى من أرسطو وأفلاطون وسقراط الذين تشمخ بهم اليونان وتعتز بهم أوروبا. لماذا يقوم امرؤ بتكفيره؟ وإذا كان للرجل أخطاء فى الأحاديث النبوية فقد استدركت عليه من أصحاب هذا الفن ليتيسر بعد ذلك الانتفاع بعلمه الغزير. يوم طغت الفلسفة اليونانية على العقل الإسلامى اجتاحها أبو حامد بكتابه (تهافت الفلاسفة) ليعيد إلى الأصول الإسلامية مكانتها. ويوم استهلك الترف أمتنا، حكومات وشعوبا، وأذهلها عن رسالتها الكبرى عمل على (إحياء علوم الدين). ص _087(1/85)
هذه العلوم كانت تحتضر، وكان المسلمون قد فقدوا جدارتهم بالحياة فعندما هجم الصليبيون على الشام، واستباحوا بيت المقدس لم يكن فى مواجهتهم أحد. إن هؤلاء الصليبيين الزاحفين لو قاومهم جيش من الكلاب لهزمهم فقد كانوا يجرون أقدامهم جرا من الإعياء والمجاعة ولكنهم لم يجدوا أمامهم أحد!! أين كنا؟ وجهد الغزالى فى الإحياء مشوب، وقد وقع فى أخطاء شتى بيد أن الكتاب من أخصب المؤلفات فى شرح آفات النفوس، وتقويم الطباع البشرية، واقتياد البشر إلى ربهم تبارك اسمه، فهل جزاء الرجل بعد ذلك أن يتهم بالكفر؟ إن المسارعة فى التكفير دأب الرعاع والحمقى! وهناك علماء مبرزون فى ميدان ومقصرون فى ميدان آخر يعطون أنفسهم حق إصدار أحكام علمية وتاريخية فى كلا الميدانين، وهم يعينون الجهلة على تكوين أفكار منحرفة ضد رجال أبرياء. ولو اتجهنا إلى البناء بدل الهدم، وإلى الإنصاف بدل الحيف لكنا أهدى سبيلا. أذكر أنه جمعتنى أيام طيبة بالمغفور له الدكتور محمد محمد حسين، وهو رجل خبير بالتيارات الأدبية الحديثة، وله غيرة مشكورة على الإسلام، وأكن له فى نفسى احتراما كثيرا، سمعت منه كلاما لم أتجاوب معه. قال: إن شعار الحرية والإخاء والمساواة اختراع يهودى! وإن اليهود هم صانعو الثورة الفرنسية عن طريق محافلهم الماسونية، وإن النظام الجمهورى نفسه يكاد يكون من صنع اليهود، وهؤلاء اليهود المكرة من وراء الثورة الشيوعية فى روسيا سنة 1917 قلت فى نفسى: ولعلهم كذلك صانعو هيئة الأمم المتحدة، ما أحقهم بالحياة إذا كانوا ـ مع قلتهم ـ بهذا الحجم الضخم، وبذلك الأثر العميق. واستطرد الحديث ليتناول مبدأ (الأمة مصدر السلطة) وكيف أنه مبدأ غير إسلامى، وتحدث الرجل عن جمال الدين ومحمد عبده حديثا مليئا بالسخط والزراية، وقال: إنهما ماسونيان. قلت: أحب أن أرجى الحديث عن الأشخاص، وأكترث بالحديث عن المبادئ، ليكن فلان شيطانا رجيما أو ملاكا كريما فذاك يعنيه عند ربه،(1/86)
وما تنفعه شهادتى له إذا كنت مخدوعا فيه. إذا كان شعار الحرية والإخاء والمساواة من صنع عباد الشيطان فماذا صنع عباد الرحمن؟ وإلى أين تتجه الطبقات التى تشعر بالعبودية والنبذ والظلم؟ ص _088
يا صديقى.. إن الشعار عظيم، قل: إن اليهود يتاجرون به، أما أن تعلن عليه حربا باسم الإسلام فلا، ولا.. لا تظلم الإسلام.. وقضية أن الأمة مصدر السلطات لا تعنى أكثر من وضع حد للحق الإلهى فى الحكم الذى زعمه ملوك أوروبا لأنفسهم، أى أنه لا حق لأبى بكر فى الخلافة لو لم تختره الأمة اختيارا عبر عن رغبتها الحرة وسلطانها فى التقريب والإبعاد. قال: المبدأ أوسع من ذلك فهو يعطى الأمة حق التشريع، والتشريع لله وحده. قلت: صيحة ( لا حكم إلا لله) معروفة فى تاريخنا. ونحن المسلمين نوقن بأن نصوص الكتاب والسنة واجبة التطبيق ومعترضها ينسلخ عن الدين، ودائرة النص محدودة الأبعاد، ومن ثم قام القياس والاستنباط والاستحسان، وقام النظر الحر فى شئون الدنيا، واستطاع المسلمون بالإرشاد الإلهى أن يشرعوا لأنفسهم على امتداد الزمان والمكان. ولا مجال للعب بالألفاظ كما فعل الخوارج. ولا مساغ لدعم الاستبداد السياسى وتقويض بنيان الأمة بتلبيس المعانى وتحريف الكلم عن مواضعه. وما أقوله هو ما كان يدعو إليه جمال الدين ومحمد عبده وهو علة ما لاقيا من عنت. وفهم بعض السامعين من هذا أنى أوثر نمط الحياة الغربية، وهو ما اتهم به الرجلان، فرأيت أن أشرح الموضوع بقليل من التفصيل. إن هواى مع الإسلام وحده، والميل إلى الشرق كالميل إلى الغرب انحراف عن الصراط المستقيم، وتقاليد العرب فى أمر ما ليس صورة الوحى الأعلى. قد تجلس إلى مائدة عربية، فيها جفنة الأرز يجللها خروف غليظ اللية مديد القامة، وقد تجلس إلى مائدة غربية عليها عدة أطباق فيها قطع من اللحوم وبعض الحبوب والبقول. لك أن تعجب بهذا النظام أو ذاك، فما ينقص هذا إيمانا ولا يزيد. ولك أن تبتدع فى نظام المائدة(1/87)
ما تراه أدنى إلى طبعك! المهم (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك). إن المائدة السياسية، أو الاجتماعية التى نجلس إليها، لا يحكمها شكل، وإنما يحكمها مبدأ، ومن حقى أن أرفض تقاليد كثيرة لا نسب لها مادمت متقيدا بالإسلام وهديه. ص _089
وأصارح بما عندى! إن أثقالا رهيبة من التقاليد العربية فى شتى الميادين تحكمنا باسم الإسلام، والإسلام لا يعرفها. على حين تسود أقطار الغرب فى الميدان السياسى خاصة تقاليد أقرب إلى ديننا وإن كان القوم لا ينسبونها إلى هذا الدين! من يدرى لعلهم يستريحون إلى الإسلام وإلى نبيه العظيم لو عرفوا هذه القرابة المعنوية. إننى أرفض، بل أزدرى، صياحا أبله ضد مبادئ هى من صميم الفطرة، ومن غايات الإسلام الاجتماعية، لا لشىء إلا لأنها غير ما نألف فى عاداتنا وتاريخنا، أعنى عادات أمتنا إبان هزائمها الثقافية والسياسية وما حواه تاريخها الأخير من تخلف وضياع. وقد كان الإمامان العظيمان جمال الدين الأفغانى، ومحمد عبده يسعيان لتجلية حقائق الإسلام، ونفض ما علاها من غبار! ويتنكران للتقاليد الدخيلة عليه أو التى تستمد حق البقاء من التصاقها به. ولما كان لهذه التقاليد سدنة يفيدون منها ويبنون وجاهتهم على حياطتها، فقد انطلقوا يصيحون فى كل فج مهددين بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويعلم الله أن هؤلاء الصائحين إما صديق جاهل بالإسلام، وإما عدو مضل مبين. وهنا سأل سائل: أمن خدمة الإسلام الانتساب إلى الماسونية؟ وقلت: إننى أكره هذا العمل، وهو خطأ بولغ فى تضخيمه! والماسونية نحلة ما كان أحد يدرى خباياها، كانت تخادع بشعار الحرية والإخاء والمساواة، فلما دخلها جمال الدين وأحس أن أعضاءها مزورون شن عليهم الحرب وفض محفلهم وأسس محفلا آخر يقول فيه ما يريد. ولو أنى دخلت حانة للخمر وجلست على إحدى موائدها لأعكر صفو الشاربين وأذم إليهم السموم التى يتناولونها، وأصف لهم مساخرهم فى غيبوبتهم، ما كنت ملوما. والدول(1/88)
الإسلامية الآن تنتمى إلى هيئة الأمم المتحدة، وتحرص على البقاء فيها ـ وهى ماسونية كبيرة إن صح التعبير ـ وليس ذلك عيبا، إنما العيب أنها نسيت حقوق الإسلام عليها ولم يكن حديثها فى هذه الهيئة ترجمانا لأهدافه الإنسانية الرفيعة، ودفاعا باسمه عن المظلومين وما أكثرهم فى ظلال هذه الحضارة. إن عالمية الإسلام تفرض علينا أن ننساح بين الناس ونغشى مجامعهم الشعبية والرسمية، ولكن (عالمية الإسلام) كلمة يلوكها المسلمون ولا يحسون تبعاتها. ص _090(1/89)
ومن الذى يقدر على حمل هذه التبعات؟ أعشى لا يبصر من حقائق دينه شيئا طائلا؟ كان ربعى بن عامر البدوى أبصر بغايات الإسلام من شيوخ كبار فى عصرنا عندما قال للفرس: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. لقد أبصر علل القوم وصاح ملوحا لهم بالدواء. الأوروبى المستنير المتحضر فى أوروبا متبرم بما ورث من عقائد، ويريد أن يعب من ينبوع التوحيد الخالص الذى يتفجر فى ديننا، وهو يسأل عن تعاليم هذا الدين فماذا يسمع؟ لا يسمع إلا ما يصده ويرده. هذا يقول له: الشورى لا تقيد الحكم الفردى ولمن شاء أن يستبد بالأمة وعليها الصبر. وهذا يقول له: يتكون المال عند من صادفه الحظ دون حرج فإن الله يريد أن يجعله دولة بين الأغنياء منكم. وهذا يقول له: العقل أعمى والتعويل على الشرع، أو الدنيا ضرة الآخرة ولا يمكن الجمع بينهما! أو الحديث الضعيف مقدم على القياس. وهذا يقول له: المرأة لا تخرج من البيت إلا إلى الزوج أو القبر ولا يصح أن تلى منصبا ما. فلو كان فى إنجلترا لقال للإنجليز: اعزلوا ملكتكم واطردوا رئيسة وزارتكم لكى يمكن قبولكم فى الإسلام. وعنده أن سليمان عليه السلام كان مخطئا عندما أقر وضع ملكة سبأ، وطلب منها أن تعتنق الإسلام. إن الرجال الثلاثة: جمال الدين ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا هم قادة الفكر الواعى الذكى فى القرن الأخير. والنقيق العالى الذى يثور ضدهم هو من أشخاص علمهم بالإسلام سطحى ودفاعهم عنه دفاع الدبة التى قتلت صاحبها. إن صاحب المنار استوعب مذهب المفسرين، من تفسير بالأثر إلى تفسير فقهى، إلى تفسير كلامى، ومن المختصرات إلى المبسوطات، ثم ضم إلى ذلك علما بآراء المذاهب الفقهية الكثيرة، إلى تقعيدات الأصوليين الذين نبغوا فى شتى العصور، إلى ما جد فى العالم الإسلامى بعد احتكاكه بالمجتمعات الحديثة. ص _091(1/90)
وقد روى أن أستاذه الشيخ محمد عبده طالع خمسة وعشرين تفسيرا ليستريح إلى معنى آية من آيات الأحكام، اضطربت فيها الأقوال. وكان الرجل صاحب فكر متميز ومقولة مدعومة فى هذه المعامع العلمية، فما غره بريق، ولا هالته كثرة، وكان بصيرا بعلل الضعف التى انتابتنا، ومداخل الشيطان فى حياتنا، وكان عميق الشوق إلى إحياء العقل الإسلامى والعودة به إلى نقاء السلف الأول. والذى أراه أن مدرسة المنار هى المهاد الأوحد للصحوة الإسلامية الحاضرة، وعلى الذين يرفعون القواعد من هذا المهاد أن يتجنبوا بعض الهنات التى فات فيها الصواب إمامنا الكبير، فما نزعم عصمة له أو لغيره. قال لى الأستاذ حسن البنا عليه الرضوان: إنه تناقش مع الشيخ رشيد فى إحدى القضايا الفقهية، واتسعت مسافة الخلف بينهما، ولم يصلا إلى وفاق. ثم رأيت الأستاذ البنا يصدر صحيفة الشهاب، ويبدأ فيها باب التفسير، فإذا هو يستفتح بسورة الرعد! قلت له: لم هذا البدء؟ قال: من حيث انتهى الشيخ الكبير محمد رشيد رضا. قلت فى نفسى: لا يعرف الرجال إلا الرجال. ثم جاء فى هذه الأيام غلمان فى ميدان المعرفة يريدون الاستطالة فى أعراض الأئمة. ويستحيل أن يهدى إلى الحق من يحرم أخلاق الإيمان، أعنى من همته البحث عن العيوب ورجم الناس بها. إن رب العالمين تبارك وتعالى جعل فى حسابه كفتين، واحدة للحسنات وأخرى للسيئات! وهؤلاء لا يعرفون إلا كفة واحدة تجسم فيها الشرور، صحيحة أو منحولة. وهل قتل الخلفاء الراشدون إلا بهذا المنطق الكفور؟ وهل جأر الأبرياء من قديم بالشكاة إلا من أناس.. أن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا عنى. وما سمعوا من صالح دفنوا! جهلا علينا، وجبنا عن عدو همو لبئست الخلتان الجهل والجبن! والمتدينون المصابون بهذه الآفات لا تنجح لهم حركة، ولا تتنزل عليهم رحمة، لأنه لا كرامة إلا لمن أتى الله بقلب سليم. وسمعت من هؤلاء أن الشيخ محمد عبده اتصل بالإنجليز وتعاون معهم، فقلت: إن كانت(1/91)
علاقته بالقوم من محبة لهم وولاء فقد ارتد عن دينه وحبط عمله، فهل كان ماضى الرجل ومستقبله يرشحانه لهذه التهمة؟ ص _092
إن الشيخ محمد عبده سهر فى الرد على وزير الخارجية الفرنسية (مسيو هانوتو) عندما هاجم الإسلام، فأتم كتابه (الإسلام والعلم) فى ليلة واحدة، حرمه الحماس الرقاد، فلم يسترح إلا بعدما جلا الحق. أين كان الشيوخ الحاقدون على الشيخ يومئذ؟ كانوا بين عاجز وجبان. وعاد الرجل إلى القاهرة بعد فشل الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر. وكان الخديوى قد أصدر أحكاما بإعدام وتشريد قادة الثورة، بيد أن الإنجليز خففوا هذه الأحكام، واستبدلوا بها النفى لمدد متفاوتة. فلما رجع محمد عبده وجد واقعا مرا، القصر الخائن والمحتل الكافر. ومن أيسر الأمور على رجل مهزوم أن يفر إلى بيته وينسحب من الحياة العامة، ولكن البطولة ليست فى هذا الفرار السهل، لقد آثر الطريق الطويل طريق التربية ورفع المستويات النفسية والفكرية. ويفرض عليه ذلك السعى لإصلاح الأزهر، وترقية اللغة والأدب والتدريس المتصل لعرض حقائق الدين وإنارة الطريق أمام التائهين، لقد فشلت الثورة العسكرية فليتخذ أسلوبا آخر. وهو أمام خيارين أحدهما مر، كيف يتقى الإنجليز، وكيف يتقى القصر؟ وكان محمد عبده شديد الاحتقار للعائلة الملكية، ويرى أنها أسرة وضيعة باعت دينها وعرضها فى سبيل الجاه الزائل.. وقد وصف كبيرها محمد على باشا فقال من حديث طويل: أخذ يقرب الأسافل كأنما يحن إلى عرق فيه. ولما اتجه إلى إصلاح الأزهر وجد مقاومة هائلة من شيوخه الذين يرون إدخال العلوم الحديثة كفرا! ويرون استبقاء الحصر القديمة، لأن أقدام الشيوخ المباركين وقفت عليها. وقد ذكرت فى حديث سابق أن عدة جماعات كانت تقام للصلاة الواحدة بأعداد المذاهب الفقهية، وكان الفكر الإسلامى فى غيبوبة لا تشبهها إلا غيبوبة الأدب العربى. لقد استمات الشيخ المصلح فى عمل شىء للإسلام فتحايل على سطوة الإنجليز،(1/92)
وعلى جمود الشيوخ، وعلى خصومة القصر، وعندما مرض مرضه الأخير ترجم عن آلامه النفسية بقوله: ولست أبالى أن يقال محمد أبل، أم التفت عليه المآتم! ولكن دينا قد أردت صلاحه أحاذر أن تقضى عليه العمائم! ص _093
ولم يكن غريبا أن يتهم محمد عبده بالكفر، وإنكار كرامات الأولياء، والخروج على آراء الفقهاء، بل لقد اتهم بترك الصلاة، وأحسبه كان سيتهم بأمور أخرى لو كان فى ريعان الشباب. ومع ذلك، فقد مضى الرجل فى طريقه بقوة، ونشأ عن حركته ازدهار علمى وأدبى وسياسى نقل الأمة الإسلامية إلى طور آخر من أطوار الحياة والكفاح لم تشهده من ألف عام. وما أحسب أن مدرسة المنار، ثم مدرسة محمد فريد وجدى، والعقاد، والخضرى، وأبى زهرة، ومحمود شلتوت، والمدنى، وغيرهم من الإسلاميين والمد الأدبى العظيم فى الشعر والنثر الذى تدافع سيله فى الأيام الماضية وارتقت به اللغة العربية ارتقاء باهرا ما أحسب أن ذلك كان سيتم لولا حركة محمد عبده وأستاذه جمال الدين. أكان الاستعمار الصليبى أو الشيوعى يترك هذا السيل إلى مداه؟ إن شتم جمال الدين، ومحمد عبده، ورشيد رضا، لا يعنينا لو كان تجريحا شخصيا، إنه محاولة للقضاء على نهضة أمة ورسالة دين؟ ماذا قلت؟ لماذا لا يعنينى تجريح رجالنا والنيل من مكانتهم؟ هذا خطأ كبير. إن الجهود المجنونة التى تستبيح قادتنا وكبراءنا فى ميدان العلم والأدب والسياسة لها غاية يجب فضحها، والتحذير من مغبتها، إنها تريد القضاء على تاريخ أمة، وعندما تكون أمتنا بلا تاريخ، فلن تكون أمة، ما قيمة أمة ليس لها رجال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالا على تراخى العصور؟ إنه لابد من استنقاذ تراثنا من أيدى المسعورين والهدامين، والواقفين على مبعدة ينبحون القوافل المارة. ص _094(1/93)
شائعات فى ميدان العلم ذكر الأستاذ (حفنى ناصف) فى كتابه تاريخ الأدب أن قبائل العرب كانت تتفاوت فى جودة الخط ودقة الإملاء ـ على عهد النبوة ـ قال: (وكانت ثقيف أبرع أهل الحجاز فى الكتابة! كما أن هذيلا كانت من أبرعهم فى الفصاحة). ولذلك لما عرضت المصاحف على (عثمان بن عفان) رضى الله عنه بعد كتابتها، ووجد فى رسمها بعض شذوذ عما يقتضيه القياس كزيادة الألف فى قوله تعالى: (لأذبحنه). وقوله: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة). وقواعد الإملاء تقضى بكتابة الكلمتين هكذا (لأذبحنه) (ولأوضعوا) . لما رأى عثمان ذلك قال: لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد هذه الحروف الزائدة! فارتبك الكتبة فى تدارك ذلك، فقال عثمان: اتركوها فإن العرب ستقيمها بألسنتها. والألفات الزائدة فيما نقلنا، وتشبهها واوات زائدة مثل: (سأريكم دار الفاسقين) القاعدة (سأريكم) ومثل الواو فى كلمة " الصلوة " ـ فيما نظمت ـ فالقاعدة " الصلاة ". وهذه الرواية التى نقلناها باختصار عن أديب العربية فى عصره (حفنى ناصف) موضع أخذ ورد، ومع التسليم بها فهى لا تعنى شيئا ذا بال! إن عثمان رضى الله عنه لم يهله هذا التفاوت الإملائى، فإن المصدر الأول للقرآن الكريم هو التلقى الشفوى، وهو الذى يستبقى القرآن متلوا على النحو الذى نزل به من عند الله تبارك وتعالى. ولنضرب مثلا لما نقع نحن فيه من تجاوز لقواعد الإملاء، أغلبنا يكتب "يقرأون" بهمزة فوق الألف والصحيح أنها بهمزة فوق الواو " يقرؤون " وهذا الاختلاف لا يؤثر فى النطق. ص _095(1/94)
ولم ير عثمان إعادة كتابة المصاحف اطمئنانا إلى أن ألسنة العرب ستتخطى هذا التفاوت الإملائى. إلى هنا والخطب سهل! وقد صدقت الأيام ظن عثمان رضى الله عنه. فالقرآن محفوظ بعناية الله ما سقط منه حرف، والتالون له ضابطون لكلماته واحدة واحدة، وإن تمنى البعض لو كتبت كلها وفق قواعد الإملاء. ولا نخوض الآن فى هذا البحث، وإنما ذكرناه لنسد الباب فى وجه بعض المفسرين الغافلين، وبعض رواة الغرائب السخيفة دون وعى، أولئك أعطوا المستشرقين والمبشرين فرصا للنيل منا، والافتراء على كتابنا، وجروا علينا متاعب ما كان أغنانا عنها. والعجب أن أولئك المفسرين والرواة ردوا على ما نقلوا وكشفوا بعض فساده. ولكن بعدما أعطوه وجاهة ما، وتدبر قول الخازن ـ غفر الله له ولمن خبط مثله ـ فى تفسير قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما). قال: (اختلف العلماء فى وجه نصبه! فحكى عن عائشة وأبان بن عثمان أنه غلط من الكتاب (!) ينبغى أن يكتب " والمقيمون الصلاة " (!) وقال عثمان بن عفان: إن فى المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها ـ يا غوثاه ـ قيل له : أفلا تغيره؟ قال: دعوه فإنه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا) (!). وقبل أن ننقل كلام الخازن فى الرد على هذه الحكاية السخيفة نقول إنه غفر الله له ولمن ضل مثل ضلاله ـ أخطأ من عدة وجوه: ( أ ) أعطى هذه الرواية قيمة لا تستحق عشر معشارها، وكان يجب عليه أن يضرب عن ذكرها أو يؤخرها عن مكان الصدارة. (ب) لم يتثبت من معناها حين نقلها، فهى على فرض صحتها تتعلق بقواعد الإملاء لا بقواعد الإعراب كما شرحنا، والفرق بعيد بين اللحن فى اللغة، وبين تجاوز قاعدة إملائية فى الكتابة. (جـ) من الكذب نسبة حكاية إلى عائشة أو غيرها تنال من قداسة القرآن وضبطه كما فعل البعض دون وعى. ص _096(1/95)
والمهم أن الخازن بعد أن قال ما قال شرع يناقشه مناقشة علمية : (... أجيب عما روى عن عثمان بأن هذا بعيد جدا لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والفصاحة فكيف يتركون فى كتاب الله لحنا يصلحه غيرهم؟ وما ينبغى أن ينسب هذا إليهم). قال ابن الأنبارى: ما روى عن عثمان رضى الله عنه لا يصح لأنه غير متصل! ومحال أن يؤخر عثمان رضى الله عنه شيئا فاسدا ليصلحه غيره ولأن القرآن منقول بالتواتر فكيف يقع اللحن فيه؟ إن استصحاب هذه المعانى يجعل حكاية اللحن فى القرآن من أبين الكذب! بل إن القول باللحن جهل شائن بقواعد اللغة العربية، فإن الطلاب فى المدارس يعرفون فى باب ( المفعول به) حكم (النصب على الاختصاص) ويستشهدون على وروده فى الآداب القديمة بقول الشاعر: لا يبعدن قومى الذين هم سم العداة وآفة الجزر! النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر! فهل إذا تحدث جهول باللغة عن وقوع خطأ فى قصيدة أو مقالة نصب فيها المفعول على الاختصاص استمعنا إلى جهالته؟ فكيف إذا اتصل الأمر بالقرآن الكريم؟ المؤسف أن عشقنا للمرويات يغلب أحيانا الحكمة والرشد، كأن كل سواد فى بياض يجوز أن نكترث به. وقرأت لابن كثير رحمه الله تفسيره لقوله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفورا رحيما). فرأيته ينقل كذلك شائعات علمية لا تثبت على التمحيص. وعيب التفسير الأثرى حفاوته أحيانا بالأخبار الواهية، وتركه للتحقيق الفقهى. قال غفر الله له: وروى عن سفيان الثورى أنه قال لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة (!) وإنما نهى عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن واستدل بقوله تعالى: (ونساء المؤمنين). نقول: وهذه رواية ساقطة من جهتين، فإن أهل الذمة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وحرمة دمائهم وأموالهم وأعراضهم ليست موضع ريبة. ص _097(1/96)
ثم إن غض البصر عن زينة النساء يرجع إلى تحصين المؤمن وتطهير قلبه كما جاء فى آية الغض: (ذلك أزكى لهم) فكيف بعد ذلك كله ينقل ابن كثير رواية تقول لك لا بأس بالنظر؟ وثم خطأ ثان فقد ذكر أن الأمة تنهى عن لبس الجلباب (!) لأن الإماء يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر.. أى أن الأمة التى تريد الاحتشام وستر محاسنها تمنع من ذلك. فعورة الأمة كعورة الرجل، وينبغى أن ترتاد الشوارع وتغشى الأسواق وهى متكشفة تقع الأعين على وجهها وصدرها وشعرها دون حرج. وروى الخازن فى هذا عن أنس بن مالك قال: مرت بعمر بن الخطاب جارية متنقبة فعلاها بالدرة! وقال: يا لكاع.. أتتشبهين بالحرائر! ألقى القناع! ـ النقاب ـ وكلمة لكاع تعنى الازدراء. وعندى أن هذه الروايات كلها مردودة، ولا يجوز الالتفات إليها. وأكتفى فى تزييفها بما قال ابن حزم فى المحلى: (.. أما الفرق بين الحرة والأمة ـ فى العورات ـ فدين الله تعالى واحد! والخلقة الطبيعية واحدة كل ذلك فى الحرائر والإماء سواء! حتى يأتى نص فى الفرق بينهما، فى شىء، فيوقف عنده. قال: فإن قيل إن قول الله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). يدل على أن الله تعالى أراد الحرائر قلنا: هذا هو الكذب بلا شك، لأن البعل فى لغة العرب يتناول السيد والزوج، وأيضا فالأمة قد تتزوج! وما علمنا قط أن الإماء لا يكون لهن آباء وأبناء وأخوال وأعمام كما للحرائر. وقد ذهب بعض من هؤلاء فى قوله تعالى: (يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين). إلى أنه إنما أمر الله تعالى بذلك لأن الفساق كانوا يتعرضون للنساء(1/97)
فأمر الحرائر أن يلبسن الجلابيب، ليعرف الفساق أنهن حرائر فلا يعترضونهن. ص _098
قال ابن حزم: ونحن نبرأ إلى الله من هذا التفسير الفاسد! فهو إما زلة عالم ووهلة فاضل عاقل، أو افتراء كاذب فاسق! لأن فيه أن الله تعالى أطلق الفساق على أعراض إماء المسلمين! وهذه مصيبة الأبد. وما اختلف اثنان من أهل الإسلام على أن تحريم الزنا بالحرة كتحريمه بالأمة، وأن الحد على الزانى بالحرة كالحد على الزانى بالأمة لا فرق، وأن التعرض للحرة ـ فى التحريم ـ كالتعرض للأمة، لا فرق. ثم قال ابن حزم ـ وكأنما يشير إلى ما روى عن عمر فى نهيه الأمة عن التنقيب ـ قال: ولهذا وشبهه وجب ألا يقبل قول أحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بأن يسنده إليه عليه السلام). وأنا أعلم أن هناك من يمقتون ابن حزم، ولكنى لا أعرف الحق بالرجال، ولكنى أعرف الرجال بالحق! وكلام الرجل هنا لا غبار عليه وإنما الغبار على غيره. ولست أعرف دينا يكره تطلع امرأة إلى الاستعفاف والاحتشام فكيف ينسب ذلك إلى الإسلام. ومع أن قصة الرقيق قد انتهت بخيرها وشرها! إلا أن الأحداث التاريخية والأحكام الشرعية لها دلالات لا تنتهى، ومن واجبنا أن ننصف ديننا من القصور الفقهى، وأن نصحح الأخطاء وإن شاعت. وخطأ ثالث وقع فيه إمامنا الكبير وهو يفسر آية: (يدنين عليهن من جلابيبهن) فقد نقل عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة. وهذا كلام مردود من ناحيتى السند والمتن كليهما! وابن عباس لا يجهل ما وقع لأخيه الفضل فى حجة الوداع عندما ثبت بصره على وجه امرأة حسناء، فأدار الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه ولم يقل للمرأة غطى وجهك أو أخفى عينا وأظهرى أخرى، والحديث فى الصحاح! وهو واحد من نحو عشرة أحاديث صحيحة تفيد سفور الوجه دون اعتراض من أحد.. ذكرها الألبانى كلها تقريبا فى كتاب(1/98)
(الحجاب). وحديث ابن عباس الذى أثبته ابن كثير واهى السند مخالف لما صح، فهو بتعبير علماء المصطلح منكر. والقرآن الكريم لا يفسر بحديث منكر! وقد قرأت لأحد الناس كلاما جاء فيه: ما يدرينا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر المرأة التى رآها الفضل بن العباس بالتنقب، ولكن الرواة لم ينقلوا لنا هذا (!). ص _099
وهذا تفكير عاجز، فإن إحرام المرأة فى وجهها ـ إذا كانت محرمة ـ ويستحيل أن يقول لها الرسول ذلك كما يستحيل أن يقول لرجل محرم غط رأسك. وإذا كانت متحللة من إحرامها، فإن تأخير البيان الشرعى عن وقته لا يجوز، وكتمانه من سامعيه خيانة، ولو فرضنا جدلا أن أولئك السامعين تواصوا بالنسيان، فهذا حديث من أحاديث كثيرة أقرت السفور، ولم تطلب من المرأة لا تغطية عين ولا عينين. فى حديث المرأة التى أفهمها النبى صلى الله عليه وسلم أن أكثر ما يدخل النساء النار كفران العشير قال الراوى فى صفتها إنها (سفعاء الخدين) أى حمراء الوجه حمرة مشوبة بسمرة. فهل عرف ذلك وهى تخفى عينا وتبدى أخرى؟ أم كانت المرأة سافرة دون اعتراض؟ وعندما يصف النبى صلى الله عليه وسلم امرأة بأنها سفعاء الخدين أتراه كان يصف عورة من العورات يجب تغطيتها؟ روى أبو داود عن عوف بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة ـ وأومأ بالوسطى والسبابة ـ امرأة آمت من زوجها ذات منصب وجمال، حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا ". الواقع أن آية الأحزاب لم تلغ آية النور: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا(1/99)
يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون). بل هى مكملة لها، وهى توجب على النساء إذا خرجن من بيوتهن لأمر ما أن يكن محتشمات سابغات الجلابيب ملتفات بها حتى لا يتكشف من أبدانهن قليل ولا كثير. والمرأة فى هذا السمت الكريم تعرف كل من يراها بأنها عفيفة متصونة فتنقطع وساوس الإثم عنها.. وقد تكون كذلك وهى سافرة أو متنقبة فلا نص فى آية الأحزاب ولا فى آية النور على ضرب النقاب، والمعروف فى اللغة أن الجلباب هو الثوب الخارجى الذى يشمل ما تحته من ثياب داخلية، ولا علاقة له بالخمار أو اللثام. وآية النور تستثنى الزينة فى الوجه واليدين من عموم ما يجب إخفاؤه من زينة المرأة، وقد رأيت للشيخ الشنقيطى كلاما يشبه التلاعب بالألفاظ فى تفسير الآية، يريد أن يقول إن الوجه ص _100(1/100)
ذات، والذات لا تستثنى من العرض ـ الذى هو الزينة ـ أى أن الآية لا تفيد كشف الوجه واليدين. وهذا هو اللعب بالألفاظ فإن الزينة المستثناة لا تنفك عن مواضعها من الوجه واليدين، وإظهار هذه الزينات إظهار لمواضعها يقينا، وعلى هذا جمهور الأئمة. وندع هذه القضية التى يكثر فيها اللجاج، منبهين إلى أن تقاليد المسلمين التى تستحق الاحترام والحفاظ ما اعتمد على المعروف المستيقن من الكتاب والسنة أما الشائعات الرائجة بين الأغمار فلا وزن لها. وهناك شائعة أخرى من أخبث ما انطلق فى آفاق المعرفة الدينية، وأحق بالاحتقار! تلك هى رغبة النبى صلى الله عليه وسلم المفاجئة فى الزواج من زينب بنت جحش كما يرجف الخراصون! والنبى عليه الصلاة والسلام أبعد العالمين عن هذا التطلع؟ ويستحيل أن يمر بخاطره هذا الوهم. والذى يظهر لى أن دسا يهوديا خفيا من وراء هذه الشائعة، يريد القوم ـ بعدما افتروا على نبى الله داود ـ أن يجعلوا بينه وبين نبينا شبها. وكان هذا الكيد قمينا أن يموت فى مكانه لولا حفاوة بعض الرواة بالغرائب دون وعى! ولولا أن بعض الكتاب لا يبالى بنسبة الأخطاء أو الخطايا إلى الكبار كى يعطى العذر لنفسه ولغيره فى ارتكابها. والخلاصة الصحيحة للقصة أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يحب متبناه ـ سابقا ـ زيد بن حارثة، وكان معجبا بخصائصه النفسية والعقلية، ويراه سيدا قائدا، وأهلا للإمارة والإدارة فى السلم والحرب وقد ولاه قيادة جيش مؤتة وولى ابنه من بعده قيادة الجيش المتوجه إلى الرومان، وذكر أن ذلك عن جدارة لا عن محاباة. ومن إعزاز رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد أنه اختار له ابنة عمته زينب ليتزوجها، وكان يعتقد أن زينب ستكشف خلال زيد وتستريح إليه وتسعد. إن فؤاد زيد من الملوك، وإن كان قد جىء به رقيقا إلى مكة، مخطوفا من أسرته وبيع كما بيع يوسف الصديق من قبل وذاك لا يضيره. لكن زينب قبلت هذا الزواج مرغمة، كان أملها، وهى من ذؤابة(1/101)
قريش، أن تتزوج كفئا لها فى النسب وما عساها تصنع إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام قد ضغط عليها وعلى أخيها؟ وشعر زيد بأن امرأته تراه دونها، فثار إباؤه، واكفهر الجو فى البيت الذى سعى الرسول صلى الله عيه وسلم فى بنائه. ص _101
ومع تدخل الرسول عليه الصلاة والسلام الكثير لإصلاح ذات البين، وحرصه على بقاء الزوجية فإن الفجوة لا تزيدها الأيام إلا اتساعا. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يعجب لنفور زينب من شاب ماجد عظيم، ويقول: سبحان مقلب القلوب. وفى ساعة شموخ وغضب طلق زيد امرأته، واستعلن الفشل الذى كان الرسول صلى الله عليه وسلم يداريه.. لقد حار: ماذا يصنع؟ ثم فوجى بأن الله يطلب منه أن يتزوج هو نفسه زينب! وفزع لهذا الطلب وتمثل أمامه كلام الناس وهم يقولون: تزوج محمد امرأة ابنه ـ أى متبناه ـ وبدلا من أن ينفذ مراد الله منه تراخى! بل ذهب إلى أبعد من ذلك وقال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله.. أى راجع زوجتك. بيد أن الوحى نزل حاسما يطلب من الرسول صلى الله عيه وسلم قبول الأمر الواقع، وإقرار الطلاق الذى تم وتنفيذ الأمر الإلهى الذى صدر إليه بالزواج من زينب بعد انقضاء عدتها فلا معنى لإخفائه ولا معنى للوجل من كلام الناس، فشأن الأنبياء ارتبط بالخالق لا بالخلق.. نعم ما يجوز هذا الإخفاء بعد أن علم مراد الله بوضوح. ونحن نفهم سر الألم الذى خامر قلب النبى عليه الصلاة والسلام لفشل الزواج الذى أراد به إسعاد زيد، ونفهم كذلك سر القلق الذى استولى عليه لما صدر إليه الأمر بالتزوج من امرأة ابنه ـ أو بالتعبير الصحيح ـ متبناه. وشاء الله أن يتولى هو سبحانه هذا العقد كى يبطل قانون التبنى الذى شاع بين العرب. وتفسير الآيات الواردة فى سورة الأحزاب يتضح كل الاتضاح بعد هذا الشرح. ولكن بعض المغفلين قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب فجأة وهى عند زيد فأحبها من أول نظرة كما يقول مؤلفو الأغانى! وقال: " سبحان(1/102)
مقلب القلوب "! وأن ما كان يخفيه هو التدله فى حبها. وهذا كلام بادى الكذب والإسفاف، فإن زينب بنت عمة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان يعرفها جيدا عندما زوجها زيدا، فما هذا الحب المفاجئ إنه خيال سمج. وكلمة " سبحان مقلب القلوب " قيلت فى التعليق على كره زينب لرجلها الجدير بالقبول! كما أوضحنا آنفا. وتسويف الرسول صلى الله عيه وسلم للزواج منها بعدما طلقها زيد كان كرها لهذا الزواج وخشية من أقاويل الناس، ولو كان الأمر إليه ما تزوجها قط. غير أن القضاء الإلهى أعلى وأحكم، فعوتب النبى عليه الصلاة والسلام على تريثه أو تردده. ص _102
ونزل قرآن يلومه على ذلك! قالت عائشة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتم شيئا من الوحى لكتم هذه الآيات: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا). فأين مكان الغرام، والعشق فى هذا السياق الصارم؟ على أن الله تبارك وتعالى ـ وهو الخبير بالعباد ـ واسى نبيه صلى الله عليه وسلم بعدما اجتاز هذه المحنة البشرية عظيما جليلا، فمدحه مدحا لم يذكر مثله فى سورة أخرى فقال له: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا). ثم قال فى أعقاب قصة زينب والزواج الذى نقلها بعد إلى أمهات المؤمنين : (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما). ومع هذه الحقائق العلمية فإن بعض الكتابات المعاصرة عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تتحدث عن عشق أخذ بمجامع القلوب (!) لأن للشائعات، أو للأساطير المروية سوقا بين أهل الغفلة. وما أشد مصاب الإسلام من أولئك الرواة البله. *** ص _103(1/103)
المعالم الأولى فى عظمة محمد صلى الله عليه وسلم ملكتنى الدهشة وأنا أقرأ كيف أسلم عكرمة بن أبى جهل وصفوان بن أمية، وكيف استقبل النبى الكريم بمشاعر الحفاوة والفرحة هذا الإسلام الذى تأخر كثيرا، وسبقته عداوات رهيبة. أما صفوان فأبوه أمية بن خلف الذى تولى تعذيب بلال وكاد يزهق روحه تحت وطأة الصخر واللهب، والذى لم يدع بابا لإيذاء الإسلام ونبيلا إلا ولجه! ولذلك لما رآه بلال فى (بدر) أسيرا صاح: أمية رأس الكفر! لا نجوت إن نجا! وأجهز عليه. وأما عكرمة فأبوه فرعون الوثنية، وموقد العداوة والبغضاء ضد عقيدة التوحيد ومعتنقيها، وقد سماه المسلمون أبا جهل بدل أسمه القديم أبى الحكم لشدة ما يلقون من بطشه. ولم يكن ابنه ـ حتى فتح مكة ـ خيرا منه! بل إن عكرمة وصفوان وآخرين من ذوى الشراسة والتعصب رفضوا السلام الممنوح لأهل مكة وقرروا المقاومة لآخر رمق. فلما يئسوا من النتيجة تركوا جزيرة العرب فارين بكفرهم إلى أرض أخرى. ولكن لله قدرا آخر، وهو أعلم بخلقه! إن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ المنتصر لم يكن طالب ثأر، ولا ناشد قصاص، كانت الرغبة المستولية عليه أن يفتح أقفال القلوب، وأن ينقذ التائهين الحيارى، وأن يعالج الأخطاء القديمة بالرفق، وأن يلقى الأحقاد بالعفو، وأن يحبب الناس فى الإسلام، وأن تقر عيناه برؤيتهم يدخلون فيه أفرادا أو أفواجا. إنه رحمة مهداة، إنه رسول يقود العباد إلى ربهم وليس بشرا ينزع إلى التسلط والجبروت، ما انتقم لنفسه قط، ولا طلب لها علوا فى الأرض. ولنسرد الشواهد على ذلك من أحداث التاريخ.. جاء عمير بن وهب إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول له: يا رسول الله.. صفوان بن أمية سيد قومى خرج هاربا ليقذف بنفسه إلى البحر وخاف ألا تؤمنه! فأمنه فداك أبى وأمى، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " قد أمنته ". ص _104(1/104)
لكن صفوان لم يطمئن، وطلب من عمير علامة تشعره بالأمان! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمير: " خذ عمامتى ـ التى كانت على رأسه يوم الفتح ـ فأره إياها ". ورجع صفوان ، وحضر معركة حنين مع المسلمين، ورآه النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند توزيع الغنائم يرمق بإعجاب واديا مليئا بالإبل والغنم! فقال له النبى الكريم: " يعجبك ذلك "؟ قال: نعم! قال: " هو لك ". فقال صفوان: ما تطيب نفس أحد بمثل هذا العطاء إلا نفس نبى.. أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ى ن الرجل كأ ريبة!ن أمره، لعله كان يحسب محمدا عد!هبئ طالب ملك أو عاشق مال وجاه! فلما رأى نفس النبى عل!هنجم لا تطلع فيها ولا تعلق لها بشىء جل أو هان من هذا الحطام، أدرك أنها النجوة فأعلن للفور تصديقه بها. يقول بعض المستشرقين: لم لم يعامل زعماء اليهود بهذه السماحة؟ ونجيب بأن صفوان وأشباهه كانوا فى عماية من أمرهم، وما انشرحت صدورهم للإيمان إلا بعد فترة طويلة أو قصيرة، أما زعماء اليهود فكانوا يعرفون النبى عن!هجس كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك فقد ظاهروا عليه الوثنيين مفضلين الشرك على التوحيد، ومرجحين مصالحهم الجنسية على الا!رض والسماء، فكيف يترك هؤلاء؟ * * * أما قصة إيمان عكرمة فهى أجدر بالتأمل الطويل، جاءت امرأته (أم حكيم) وكانت قد أسلمت يوم الفتح- فقالت: يا رسول الله.. هرب عكرمة، خائفا أن تقتله فأمنه! فقال: "هو آمن ". وأدركت المرأة زوجها عند الساحل، وقد ركب سفينة يريد الإبحار بها بعيدا فنادته قائلة: جئتك من عند أوصل الناس، وأبر الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك، وعد معى فقد استأمنت لك رسول الله. قال ابن عساكر: فلما دنا من مكة قال رسول الله علصهنجم لا!صحابه: " يأتيكم عكرمة ابن أبى جهل مؤمنا، فلا تسبوا أباه! فإن سب الميت يؤذى الحى ولا يبلغ الميت ". ولما أقبل عكرمة وثب إليه النبى عد!هنجم، متعجلا ليسى عليه رداء، من فرحه بمقدمه! وعرض(1/105)
عليه الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلا إلى الحق، وإلى كل أمر حسن جميل، قد كنت والله فينا- قبل دعوتك هذه- أصدقنا حديثا وأبرنا برا. ص _105
وأعلن الرجل إسلامه فى مشهد نابض بالصدق، كاشف عن مستقبل عامر بحب الله ورسوله. وكان مطأطئا رأسه حياء من النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: يا رسول الله.. استغفر لى كل عداوة عاديتكها، أو مركب أوضعت فيه أريد إظهار الشرك والصد عن سبيلك. فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له.. فقال عكرمة: أما والله ما أدع نفقة كنت أنفقتها فى الصد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها فى سبيل الله، ولا قتالا قاتلت فى الصد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه فى سبيل الله. *** بهذا الخلق العظيم كان صاحب الرسالة الخاتمة يصنع السلف الأول إنه لم يصنعهم على هذا الغرار ليؤمنوا به وحسب، إنه يريد أن يؤمنوا وأن يحملوا إلى غيرهم الإيمان وأن يزيحوا من أمامه العوائق، إنهم بناة تاريخ مديد، ودعائم رسالة تستوعب الزمن كله. إن صحابة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تشدهم إليه جاذبية معنوية كهذه الجاذبية المادية التى تربط الشمس بكواكبها وأقمارها، وتنظم ما أودع الله فيها من طاقة وضوء. فلننظر كيف وفى عكرمة بعهده لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال التاريخ : عندما التقى الروم والعرب فى معركة اليرموك وضع خالد خطته على أن يتحمل قلب الجيش الإسلامى عبء المعركة، وأن يحتفظ هو بالجناحين ليلتف بهما حول الروم فى الوقت المناسب. والروم أضعاف المسلمين أربع مرات، فكيف إذا تصدى لهجمتهم القلب وحده؟ كان الموقف صعبا جدا، وتهشمت صفوف أمام وطأة الرومان، وزلزلت أقدام البعض. وهنا صاح عكرمة: قاتلت رسول الله فى مواطن كثيرة وأفر اليوم؟ ثم نادى: من يبايع على الموت؟ فانضم إليه أربعمائة من طلاب الشهادة، ومن وجوه المسلمين وفرسانهم، فقاتلوا قدام فسطاط خالد حتى أثبتوا جميعا جراحا، وقتل منهم خلق كثير. بيد أن قلب الجيش صد(1/106)
الهاجمين حتى مكن خالدا من الإطباق عليهم بجناحيه فهزموا هزيمة محت دولة الروم من الشام كله. ألا ترى التربية النبوية فى موقف عكرمة والرجال الذين آزروه؟ وانظر أثر هذه التربية فى موقف آخر، روى الطبرانى أن أبا بكر رضى الله عنه استنفر المسلمين لقتال أهل الردة، فساروا إلى اليمامة وكذابها مسيلمة وكانوا فى منعة وعدد وأهبة، فهزموا المسلمين ثلاث مرات. ص _106
فقال ثابت بن قيس، وسالم مولى أبى حذيفة: " ماهكذا كنا نقاتل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلا لنفسيهما حفرة فدخلا فيها وكان ثابت يحمل راية المهاجرين، ولم يترك الصاحبان العظيمان مكانهما حتى قتلا فيه. أما عباد بن بشر من الأنصار فقد نادى فى قومه: احطموا جفون السيوف ـ اكسروا أغمادها ـ وتميزوا عن الناس، وأخذ يصيح أخلصونا أخلصونا. فأحاط به أربعمائة من الأنصار ما يخالطهم غيرهم ، وزحفوا إلى الحديقة التى تحصن بها مسيلمة وأتباعه واقتحموا بابها، وتتابع أهل الفداء حتى احتلوها، وقتلوا الكذاب الذى أثار هذه الفتنة، ثم غسلوا الجزيرة غسلا من هذه الأقذار. إن أعدادا كبيرة من أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذهبوا شهداء فى معارك الجهاد ضد الوثنيين والكتابيين، ولكن فناء فى الحق هو عين البقاء. والدارس المحايد الذى يرى آثار النبوة فى شمائل أولئك الرجال الشجعان، إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مات يقينا غير أن روحه بقيت يتحرك بها أصحابه فما غرسه فى دمائهم لم يذهب سدى. لقد أشربوا منه حب الله، وطلب رضاه، والتمهيد للقائه، والشوق إلى جنته، فأقدرتهم هذه العواطف الجياشة على تهديم أسوار الباطل وكانت عالية. وتلاشت إمبراطوريات استعصت على الفناء قرونا متطاولة. وتميز أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمرين لم يعرفا فى تاريخ النبوات الأولى. لقد نقلوا الوحى السماوى كله فما سقط منه حرف، ونقلوا السنة المحمدية كذلك، وربوا من الأتباع من عمل عملهم، فإذا الإسلام(1/107)
يبقى فى أصوله النظرية مصونا من كل شائبة. وظل هذا التواتر للقرآن الكريم كلمة كلمة، وللسنة فى الجملة، فتوفرت للرسالة الخاتمة عناصر الخلود، وظلت وسوف تظل كلمة الله الأخيرة للخلائق أجمعين حتى انتهاء الدنيا. أما الأمر الآخر، فإن الصحابة رضى الله عنهم هم الذين جعلوا عالمية الرسالة حقيقة واقعة فإن النبى عليه الصلاة والسلام لحق بالرفيق الأعلى ودينه لم يتجاوز حدود جزيرة العرب، وقد علم الأصحاب الكرام أنه مبعوث للعالم كله، فشرعوا ينساحون فى الأرض مبشرين ومنذرين. ولم يكن الطريق سهلا، فإن رعاع العرب داخل الجزيرة العربية حاولوا إعادة الليل المدبر وإحياء الجاهلية المسحوقة، كما أن مجوس الفرس وصليبيى الرومان اعترضوا بالعنف مسار الدعوة. ص _107
غير أن الجيل الذى رباه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان صلب المعدن، شديد البأس، جمع بين الصرامة والكرامة، فلم تلن قناته، ولم يضرع أمام قوى الباطل! إنه نازلها كلها حتى كسر شوكتها وأسقط دولتها.
إن تربية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا الجيل معجزته الكبرى بعد القرآن الكريم، إنى أحس فى أولئك الأصحاب ذوب نفسه عليه الصلاة والسلام، ونبل شمائله، وعمق عبادته وحبه الجارف لذات الله واستعلائه الفذ على مآرب الدنيا.
وصحبة العظماء نعمة جليلة، إن ساعة مع جليس صالح تنفحك من خلائقه ما ينفحك حامل المسك، كما ذكر ذلك النبى الكريم، نعم.. قد تستفيد فكرة نيرة أو خلة طيبة، أو قدوة حسنة ذاك فى لقاء عابر، فكيف إذا طال اللقاء ودامت العشرة؟
ذكر مطعم بن جبير أن قلبه كاد يطير من الرغبة والرهبة والخشوع وهو يسمع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ بسورة الطور فى صلاة المغرب.
فكيف بمن صلى وراءه بالقرآن كله آلاف الركعات؟ وخالطه فى شئون حياته وتقلبه بين الناس؟
إنه جيل لا نظير له فى تاريخ الرسالات، وتعرف ذلك بالموازنة العادلة.(1/108)
فـ (بطرس) أحد الحواريين الكبار، وقد صحب عيسى بن مريم طويلا ومع ذلك فعندما تعرض هذا النبى الكريم للاضطهاد، وشرع خصومه من اليهود والرومان يقاومون تعاليمه بغضب، وصدرت الأوامر للشرطة بمطاردة النصرانية واعتقال أتباعها وتعرض عيسى لحرج شديد!.. فى هذه الآونة ألقى القبض على (بطرس) وسئل: أتعرف عيسى بن مريم؟ قال: لا ! وأنكر عدة مرات أن ليس له به صلة.. لقد آثر النجاة بنفسه.
أذكر هذا الموقف الغريب وأقرأ هذه القصة، أسر المشركون زيد بن الدثنة، وساقوه إلى ساحة القتل، وأحاطوا به فى لحظاته الأخيرة ليشمتوا ويشتفوا! قال له أبو سفيان ـ والرمح موجه إلى بطن زيد ليغرس فى أحشائه ـ أنشدك بالله يا زيد.. أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك، ونضرب عنقه، وأنك سالم فى أهلك؟
قال زيد: والله ما أحب أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ الآن فى مكانه الذى هو فيه، تصيبه شوكة تؤذيه، وإنى جالس فى أهلى.
قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كما يحب أصحاب محمد محمدا.
ص _108(1/109)
وقتل الصحابى الوفى المحب لله ورسوله، وهو الآن يمرح فى بحبوحة الجنة! جمعنا الله به، منة وكرما. الفرق بين بطرس وزيد، هو الفرق بين أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسائر الناس، إنهم طراز آخر من البشرية الزاكية، ومن ثم قلنا: إنهم جزء من حياة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهاده وزكاته ومجلى لأمجاد إنسان ضخم شاء الله أن يخرج العالم على يديه من الظلمات إلى النور. والرجولة الجادة التى تميز بها أصحاب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حصنت دينه من التحريف، إن حاخاما مثل شاول تظاهر بالنصرانية، واستطاع أن يجعل التوحيد تثليثا، وأعجز الأتباع الذاهلين عن الاحتفاظ بما لديهم فضاع ولم يعثر له على أثر. أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد يئس الشيطان أن يعبد فى أرضهم، أو يغير كلمة من وحيهم، كانوا أشداء فى صون الحق ودمغ الباطل! كانوا تلامذة أذكياء لنبى المرحمة ونبى الملحمة ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بث فيهم روحه فأضحوا وكأنهم صور مصغرة له. من أجل ذلك غار عليهم ودفع عنهم وحمى أعراضهم، روى الترمذى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " الله الله فى أصحابى، لا تتخذوهم غرضا بعدى! فمن أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم! ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله! ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ". والتعبير بالإيذاء ناضح بفظاعة الجريمة قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا). ولست أزعم ولا زعم غيرى أن الصحابة معصومون ولا أنهم فى الفضل سواء، وإنما أقرر أنهم صناعة سماوية عالية، وقد نجحوا فى تبليغ رسالة غيرت تاريخ العالم، وأن نظامهم الأخلاقى يضارع فى دقته القوانين العلمية. وأن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا غير هو الذى قدر ـ بفضل الله ـ على إحكام هذا الجيل، وإبداعه على هذا النحو. والآيات الأخيرة من سورة الفتح أوضحت هذه المعانى بإيجاز: (هو الذي أرسل رسوله(1/110)
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا). ص _109
والإظهار المذكور يقوم على البرهان، وتجلية الحقائق وكشف الشبهات قبل أى شىء آخر. فإذا استنسر الضلال، واحتقر البرهان قامت الحرب.. والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم! ثم يقول تبارك اسمه: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم). لابد من الشدة فى وجه محاولات التحريف والكيد وإذلال الدعاة! لا عزة للفرعنة والإفساد! من الخير ألا تبقى جراثيم الحميات القاتلة حرة فى الفتك والاغتيال. وإلى جانب هذا المسلك يجب أن يكون المرء حلو الشمائل دمث الأخلاق مع البرآء، والأخيار، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد حياء من العذراء فى خدرها فإذا انتهكت لله حرمة لم يقم لغضبه شىء.. وكذلك ربى أمته. ويطرد وصف المؤمنين فيقول تعالى: (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود). الإنسان الصادق الشريف تبدو فى أساريره سيماء الصدق والشرف وتنطبع فى وجهه فسحة من أدب وخشوع، وتدبر قول الشاعر: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى، عصمة للأرامل! وبياض الوجوه وسوادها ليسا انتماء إلى جنس أبيض أو أسود، وإنما هما نضج الطوايا الطيبة أو الخبيثة، وما يكسوها من تهلل أو خزى. والأمة الإسلامية أمة عبادة لله، ودعوة إلى هذه العبادة، وانشغال بتكاليفها بالغدو والآصال، وتوكل على الله، ورجاء فى بره وارتقاب دائم لفضله ورضاه. قال تعالى: (ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل). لا مكان هنا لذكر ما ورد من إرهاصات عن النبوة الخاتمة فى الكتب السابقة، بل نحن لا نعول عليها فى شىء! وإنما نتأمل فى ختام الآية، وكيف بدأت الأمة الإسلامية ضعيفة العود ص _110(1/111)
كالنبتة الخضراء الطرية لو داسها حيوان بظلفه لأماتها، ثم كيف نما هذا الزرع، وتحولت الساق الغض إلى شجرة باسقة وانضم إليها غيرها فإذا الحقل المتموج يتحول إلى غابة من الأشجار الباسقة، لو صعد الرجال على أغصانها لحملتهم. هكذا كنا وهكذا صرنا ( كزرع أخرج شطأه ـ فسائله وسلالاته ـ فآزره ـ انضم إلى جواره مثيله ـ فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع). فى صحراء الجزيرة المنقطعة عن الحضارات كلها صنع محمد عليه الصلاة والسلام أمة عجبا، قال العدو فى وصف مقاتليها: إنهم رهبان بالليل فرسان بالنهار. هذه الكلمة تشير إلى طبيعة البناء الذى قامت عليه أمتنا. إنه من الداخل تعاون على البر والتقوى، تآخ فى السراء والضراء، ومن الخارج رباط مستديم لمؤازرة الخير ومدافعة الشر. وميزة الرسالة التى اضطلعت بها أمتنا أنها لا تسكت عن معروف ولا تسكت على منكر، وأنها تشتبك باسم الله مع شياطين الإنس والجن لتكف بأسهم وتكسر عدوانهم. ولولا ظهور الإسلام لبادت حقائق وفضائل، وصارت الإنسانية قطيعا آخر من الوحوش الضارية لا تتحرك إلا بغرائز السوء. إن الأمة التى رفعت علم التوحيد هى وحدها التى قلمت أظافر القياصرة والأكاسرة والفراعنة، واحتضنت سواد الجماهير وقال نبيها لمن يريد طلبه: "ابغونى فى ضعفائكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " . أين هذه الأمة الآن؟ وأين صوتها فى المجامع العالمية؟ وأين النماذج التى تقدمها لديننا العظيم؟ لا أقدر على الجواب! إننا نحاول بشق الأنفس جمع الشتات وإحياء الموات.. وما ندرك سهما من نجاح إلا إذا أرينا الله من أنفسنا الصدق. ص _111(1/112)
الشرق المحمدى لا يحجبه دخان وإن كثرت المداخن فى أقل من ربع قرن كانت الخطة قد وضعت لتغيير مسار العالم، ورسم أهداف جديدة لحركاته وسكناته، وكانت نماذج من التنفيذ الدقيق قد تمت على صحراء الجزيرة بين يدى الرسول الخاتم ـ صلى الله عيه وسلم ـ وتحت إشرافه وتوجيهه. وكما يصنع العلماء مركبة لغزو الفضاء، ويحكمون آلاتها وصماماتها ومفاتيحها ومغالقها ووقودها وأغذية من بها وتراتيب الذهاب والإياب ثم يطلقونها لتأخذ مدارها المرسوم، كذلك أعدت الأقدار الأمة العربية لتجديد عقل العالم وضميره، والعصف بفلسفات وطرائق طائشة فى سياسة النفس والحكم والمال، وإمداد الناس كلهم بدين يحترم الحق وحده، وينشئ مناهج أخرى تمحض العبادة لله، وتقيم الحكم على العدل، وتجعل الأمراء حملة أمانات يسألون عنها فى الدنيا والآخرة، وتقسم حقوقا معلومة للفقراء فى أموال الأغنياء، وتقرر الأخوة العامة بين أجناس البشر. أبعاد التغيير: ماذا كانت عليه الدنيا بعد بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ماذا شرعت تستقبله بعد لحاقه بالرفيق الأعلى وانطلاق تلامذته فى العالم يمدون رواق الرحمة المهداة! ويكسرون القيود التى طالما رسفت فيها الشعوب؟ إن النقاد المنصفين والمؤرخين العدول يقررون أنه لم يتح لبشر قبل محمد عليه الصلاة والسلام أو بعده أن أحدث مثل هذا التغيير الشامل فى أحوال العالم أجمع وليس المهم التغيير! المهم طبيعته ووجهته إنه بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم أخذت الحضارة طريقها صعدا إلى أعلى وكانت من قبل قد أسفت ولصقت بالحضيض.. لما قرأت كتاب (القمم المائة الأولى) رأيت المؤلف يذكر كأنه مضطر إلى جعل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أول هذه القمم، وإن لم يكن على دينه! لأن الدلائل كلها إلى جانبه.. قلت: إن هذا الرجل الذكى لمح أحد جوانب العظمة فى شخصية محمد عليه الصلاة والسلام إنه لمح التغيير الجذرى الذى أحدثه الرسول فى العرب فانطلقوا به ليحدثوا(1/113)
تغييرا جذريا فى آفاق ص _112
الأرض، تغييرا ذاهبا إلى الطول والعرض والعمق، تغييرا إن فترت بواعثه حينا أدركها من ذاتها ما تستمر به سائرة، كما تنطلق المولدات التى تستمد طاقتها من الشمس. لكننا نحن المسلمين نرى هذا التغيير أثرا لشىء آخر فى شخصية محمد العظيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنه الاصطفاء الذى هيأ روحه لاستقبال القرآن، والاصطباغ بتعاليمه، ثم تحويل هذه التعاليم إلى سيرة نابضة وسنة هادية. إن الكمال البشرى الذى صب فى قالبه خاتم الأنبياء يجعل المرء يهتف بإعجاب : سبحان من أبدع محمدا صلى الله عليه وسلم . * * * حضنته العصمة الإلهية: ما من عظيم إلا رأيت فى مسلكه كبوة، أو فى شمائله جفوة، أو فى حسامه نبوة إلا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن العصمة الإلهية حصنته فما يخبو له سنى أو يلحق خطوه عثار..! وقد يكون الرجل عبقرى الذكاء شفاف الروحانية، وحسبه أن يحتفظ بوهجه ونقائه فى الجو البارد المتعكر.. بيد أن الأمر بالنسبة إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ له صورة أخرى، إنه نفث من روحه النقى وفكره الثاقب فى مردة الصحراء، وظل يصقل معادنهم بجلد غريب، وهم يقاومون بعناد رهيب حتى نجح آخر الأمر فى إنشاء جيل كان أصلب عودا وأضوأ بصيرة من حواريى عيسى عليه السلام. إن أولئك الحواريين الصالحين عجزوا عن حماية التوحيد بعد وفاة نبيهم فتحول على مر الأيام إلى ثالوث، أما رجال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد تحولوا إلى حصون سامقة تكسرت أمواج الردة عند أقدامهم، ثم مضوا قدما إلى الأمام يمنعون شعار التوحيد أن تطويه الخرافة. أترى نفاسة المعدن فى هذا الإيمان الصلب؟ إنه مقتبس من عزم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومضائه! ولا يزال هذا الاقتباس متاحا لكل من آمن بالنبى الخاتم واتبع النور الذى أنزل معه، وذاك بعض أسرار ختم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ للنبوات ففى سيرته والاقتباس منها ما يكفى ويغنى إلى آخر الدهر. فى سورة الفرقان(1/114)
معان تريثت عندها وأدعو القارئين أن يتريثوا معى ليتدبروها.. فى الآية الأولى من السورة إعلان من الله تبارك اسمه عن رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى العالمين جميعا. وخلال السياق الطويل نرى الوحى قد ردد الشبهات التى أثارها خصوم الرسالة الخاتمة، ودحضها دون عناء! ويخيل إلى أن المكذبين لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فى الماضى والآتى لن يقولوا أكثر مما قال هؤلاء الذين كشفت السورة صفحتهم وردت تهمتهم. ص _113(1/115)
وهناك سبعة مواضع من السورة تحكى أقاويل الكافرين، وتعقب عليها بما ينسفها: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ). (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا). (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق). (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا). (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة). (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا). (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا). * * * مقارنة باطلة: والإجابة على هذه التساؤلات ميسورة، وقد أومأ إليها الوحى الأعلى فى هذه السورة وفى غيرها من المواطن التى دحضت شبهات المعترضين، لكنى أحب أن أقف أمام الأسئلة الثلاثة الأولى وقفة تفسير وتنديد! هل صحيح أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ استمد عقيدته فى الله الواحد من العهد القديم؟ إن العهد القديم نسب إلى الله أنه ندم على خلق آدم ثم ندم على إغراق الأرض بالطوفان! وماذا يصنع بعد أن تم خلق آدم! فليرض بالواقع المؤسف! أما إغراق الأرض بطوفان آخر فلا يجوز! وحتى لا ينسى ويغرق الأرض مرة أخرى صنع قوس قزح يظهر بألوانه البهيجة بعد المطر فيتذكر الرب، ويمنع تكرار الطوفان! هذا هو الإله كما تصفه التوراة! أما الإله كما يصفه الكتاب الذى أنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا). (وإليه يرجع الأمر كله). (إنه بكل شيء بصير). (ن الله على كل شيء شهيد). ص _114(1/116)
(قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون). (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله). إله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائم على كل نفس بما كسبت! العالم بما كان ويكون من بدء الخليقة إلى يوم يبعثون! هذا الإله مسروق أو منقول من إله العهد القديم، الذى لا يعى ما يفعل! والذى يندم على ما صنع والذى يحتاج إلى ما يذكره لأنه ذاهل؟ إن التوراة التى أثبتت هذا اللغو لا يعرفها موسى عليه السلام، لأن موسى كان يعرف الله معرفة حسنة وقد أسند إليه القرآن الكريم هذا الوصف النقى لله سبحانه عندما سأله فرعون: (قال فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ). إن الله نزه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن افتراءات الكذبة ونزه أنبياءه عن ظنون الجهلة والقول بأنه نقل علمه عن العهد القديم كالقول بأن أرسطو نقل فلسفته عن (جارسون) صبى فى إحدى الخمارات بلندن، والغريب أن بعض المستشرقين يروجون لهذه الخرافة! لأنهم ليسوا طلاب علم فى واقع الأمر، وإنما هم كهنة يرتدون ثياب البحث العلمى لينفسوا عن ضغائنهم ضد الإسلام. * * * صعاليك الأعراب: إن ما يقولون من أن القرآن أملاه رجل من أهل الكتاب ترديد صغير لما قاله صعاليك الأعراب من قرون وقرون. ما اسم هذا المملى العبقرى؟ ومن أين كان يجىء بمعانيه وقضاياه وفصائحه؟ ولماذا لم ينفرد دون محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدعوة النبوة؟ وما سر ملازمته ليلا ونهارا؟ وهل عجز العرب عن القبض عليه وحرمان عدوهم من مصدر وحيه؟ إن القرآن الكريم يذكر هذه التهمة بغير اكتراث ثم يجيب عليها إجابة جديرة بالتأمل: ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما ). ص _115(1/117)
إن القرآن الكريم هو الأساس الخلقى والفكرى لصاحب الرسالة العظمى.. والجواب المذكور يفيد أن منزله عالم الأسرار فى العالمين فما العلاقة بين علم أسرار الكون ، وإلهام آيات الكتاب؟ إن الكتاب ـ الذى هو معجزة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزل وصفا لآيات الله فى الأنفس والآفاق من أزل الدنيا إلى أبدها، فاتحا البصائر عليها لتعرف عظمة الله من دراستها ومطالعتها، وهو فيما وصف من آيات كونية، وفيما سجل من أحداث إنسانية يتسم بالصدق المطلق ويستحيل أن يكون فى هذا الكلام السماوى ظل لريبة أو وهم، ونحن نتحدى. لقد سقطت فى مجال البحث العلمى كتب كان لها قديما قداسة! وظل القرآن وحده فيما يصف ويروى ينبوعا جياشا بالحق. (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). وثم جواب آخر ـ ينضم إلى هذه الحقيقة ـ أن الإجمال هنا، ذكر لشىء من التفصيل آخر السورة عند قوله سبحانه: (تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا * وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا). يعنى أن الذكر والشكر مرتبطان بمر الليل والنهار، وهما مرتبطان بحركتى الشمس والقمر، والمؤمن لا يحيا داخل قوقعة فالعالم أجمع محرابه الذى يعبد الله بالكدح والتأمل فيه. وعندما ألهم الله محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الكتاب كان يعلمه رسالة الإنسانية جمعاء بين الأرض والسماء. * * * الشبهة الثالثة: وننتقل إلى الشبهة الثالثة! إن الناس يضايقهم أن يكون رسولهم بشرا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق! فما الذى يضايقهم؟ هل هم يضنون بالرسل على متاعب القضم وهموم العيش وطلب الرزق؟ لو كان الأمر كذلك لقلنا: رأفة فى نفوسهم يشكرون عليها، ثم نعرفهم حكمة ما جهلوا. الحقيقة أن هؤلاء المكذبين، كجميع أصحاب المواهب المتخلفة، يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله. ص _116(1/118)
والطعن فى بشرية الرسل شنشنة قديمة كشف عنها قوم نوح عندما قال لهم: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين). فى هذا الرد لجاجة محقورة يغطى بها أصحابنا مشاعر النقص والضعة التى تعمل داخل أنفسهم.. ومن الناس من إذا رأى ميزة رفيعة أعلن الحرب عليها واشتهى دمار صاحبها! والساقط يسره أن يرى الكل ساقطين. والواقع أن الناس لا يصلح لتربيتهم إلا واحد منهم، يجوع فى أزمات الحصار فيعلمهم التسامى من أجل المعتقد. أو يستعف عن الكسب الحرام وهو يتقلب فى الأسواق فيتعلم الأتباع منه كيف يتجملون فى طلب الرزق، ماذا يفعله ملك فى هذه الأحوال. إن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صعد بالناس فى درج الكمال مرتبة تلو مرتبة حتى بوأهم الأوج بهذه الإنسانية الرفيعة، هذه حقيقة سيرته. إن المعترضين القدامى والجدد على صاحب الرسالة الخاتمة يحاولون بأكفهم تغطية الشمس، ولكن الشروق المحمدى لن يدركه أفول، ولن تحجبه مداخن تنفث سوادها، هنا وهناك، فسوف يغلب الشعاع كل دخان. ص _117(1/119)
اليوم أكملت لكم دينكم فى يوم عرفة من السنة العاشرة للهجرة كان أكثر من مائة ألف مسلم يحجون مع النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحجة التى عرفت فى التاريخ بحجة الوداع! وأنصت الأصحاب إلى خواتيم الوحى الذى وصل جزيرة العرب بالملأ الأعلى وهى تنهى إليهم هذا النبأ المثير: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). لقد تمت الرسالة التى بدأت آياتها تتنزل من ثلاث وعشرين سنة! نعم، فعلى بعد عشرين ميلا من عرفة، كان الوحى يرف على غار حراء ببواكيره الندية، يقول للرسول الخاتم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). لقد قرأ وقرأ وظل يقرأ ويقرأ، وها هو ذا اليوم يسمع أن الختام أوشك وأن الدين اكتمل. بعد ثلاث وعشرين سنة ليس لها نظائر فى أعمار البشر، ولا أشباه فى تواريخ الأمم تم نزول الوحى، وتمت تربية الأمة التى ستحمله للعالمين أشرف على صنعها الإنسان الذى أفرده القدر بهذه الميزة فلم يشركه فيها واحد من المرسلين. ألم يلبث نوح عليه السلام تسعة قرون ونصفا ليصلح قومه دون جدوى؟ ألم يخلف موسى عليه السلام فى قومه نحو ثلاثمائة نبى ظلوا كذلك ألف عام ليصلحوا بنى إسرائيل فلما تعذر صلاحهم تحولت رسالات السماء عنهم إلى الأبد؟ لكن " محمدا " ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعناية الله استطاع أن يغير الجزيرة العربية تغييرا حاسما، وخلال ربع قرن أو أقل تبدلت الأرض غير الأرض فإذا البقاع التى غبرت دهرا عطشى إلى أثارة من علم تفيض بحضارة موارة بالحياة والعطاء والعدالة والمرحمة، وإذا أبناء البوادى يعلمون أبناء روما وأثينا والمدائن حقوق الإنسان، ومعالم الحضارة، وضوابط المعرفة. إن ما أحدثه نبى القرآن فى دنيا الناس معجزة فوق ما يعرف الناس من خوارق وعادات، والمائة ألف التى استمعت إليه فى حجة الوداع وهو يهدر بآيات الحق كأنما انسكب فى روعها قبس من هذا الإنسان الهادى فإذا هى تتحول إلى شهب فى الليل المخيم على الإنسانية، فلا ص(1/120)
_118
ترى فيهم إلا مجاهدا يهوى التضحية، أو فقيها يهوى المعرفة، أو ناسكا تزينه التقوى أو شهيدا يعلم الناس الكبرياء على الدنيا وأهوائها. سبحان الله، من صب هذه النفوس فى قوالبها الجديدة؟ ثم نشرها نشرا فى آفاق الدنيا لتسمع الناس الأذان من انفلاق الصبح إلى ما بعد الغروب. إنه الإنسان المصطفى الذى اكتنفته الأحزان والمتاعب منذ قيل له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). إلى أن تنزل عليه بعد ثلاث وعشرين سنة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). كان كل يوم من هذه السنين الطوال عمرا كاملا من أعمار الآخرين لما حفل به من شئون وشجون. فى قراءاتى لسير الأنبياء قررت أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعبد الأولين والآخرين وشرحت ـ فى كتبى ـ كيف أن أديم الأرض لم يشهد مثله تاليا للوحى، قواما به آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه! ولم يشهد مثله ساجدا يستشعر أمجاد الألوهية ويحيى ربه بفنون ناضرة من التسبيح والتحميد، ولم يشهد مثله منتصبا فى ميادين الجهاد كادحا لإعلاء كلمة الله، مخليا الطريق من الجبابرة والفتانين. من حب الله والتحاب فيه بدأت قافلة الإسلام مسيرتها، بدأت أفرادا يعدون على أصابع اليد الواحدة، ثم أخذت تنمو ببطء شديد لكنه مطرد موصول الأواصر التى تشدها وتنبع من فؤاد صاحب الرسالة المفعم بالشوق والصدق والتسامى، ولقد عرف خصوم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك، واعترفوا بأنه ليس فى الدنيا أحد يحبه صحبه كما يحب أصحاب محمد محمدا. أين ذلك مما رواه الإنجيليون أن بطرس فى إحدى المحن التى مرت بعيسى بن مريم قبض عليه رجال الشرطة، وسألوه عن صلته بعيسى فغلبه الخوف على حياته وأنكر أنه يعرفه، بل أن يؤمن به. فى هذه البيئة الصخرية البالغة الجفاف كانت مشاعر الود والإيثار وافتداء الغير ـ لله وحده ـ ومن أجل دينه تنفجر من نبى الإسلام وتضع الأسس لبناء الأمة الأمينة على وحى الله، المسئولة عن(1/121)
حفظه وتبليغه إلى آخر الدهر. ولعل ذلك كان السر فى تماسك المسلمين أمام العداوات المرة التى ووجهوا بها فى كل مكان، كأن شياطين الأنس والجن تقاسمت ألا يرفع للإسلام علم، وألا ينتظم له صف. ص _119
أهل الكتاب من يهود ونصارى لا يكتمون سخطهم على الدين الجديد وتبرمهم بعقائده وسعيهم فى تخريب مساجده! ولقد رأيتهم إلى يوم الناس هذا تربد وجوههم عند سماع الأذان، وتضيق بهم الأرض. ماذا يريدون؟ إننا لن ندع تكبير الله وتوحيده والإقرار بالجميل للنبى الذى عرفنا هذه الحقائق. وقد سجل القرآن الكريم مشاعر القوم، ونبهنا إلى ما يجب بإزائها عندما قال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير). وأما الكافرون وراء دائرة الكتابيين ففى ضلال وسعر، لا يهادنون الإسلام ولا تبرد لهم خصومة، هم كما قال الله: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). فى وجه هذه المقاومات العنيدة نشأ الإسلام، نشأ يقيم الصلوات ويختمها بإفشاء السلام يمنة ويسرة، ونشأ يعود أتباعه على إلقاء السلام فى المجالس والطرقات، لأن السلام تحية المسلمين على امتداد الزمان والمكان. ومشت قافلة الإسلام بخصائصها النفسية والاجتماعية، متغلبة على أنواع الحصار التى فرضت عليها، ومجتذبة بعظمة قائدها كل من فى قلبه بقية من خير أو شرف، ومتخطية أحقاد الأعداء فما وضعت السيف إلا حيث لا يجدى الندى ولا ينجع وئام. وها هى ذى بعد ثلاث وعشرين سنة تحج البيت العتيق بعدما طهرت جوانبه من الأصنام، وتنصت إلى قائدها الجليل وهو يخطبها فى حجة الوداع يزودها بنصائحه ويعلن انتهاء الجاهلية وتقاليدها البالية.. ويطرق آذانها هذا الخبر الإلهى الذى له ما بعده: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). كيف تم فى هذه الفترة الوجيزة نقل أمة من التعصب(1/122)
الشديد للباطل إلى التعصب الشديد للحق؟ إن مسافة الخلف بين العرب فى جاهليتهم والعرب بعد إسلامهم بعيدة بعيدة.. كيف طويت هذه المسافة مع انعدام وسائل الإعلام الحديثة وطول المشقة بين القلوب والأفكار؟ ص _120
إن الشيوعية فى عصرنا مع استعانتها بأحدث ما وصل إليه العلم لم تستطع بعد خمس وستين سنة أن تستقر فى أرضها إلا بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية لأن جو الحرية قاتلها يقينا.. أما العرب فإن الإسلام غيرهم فى فترة قصيرة، ثم غيروا العالم بعد ذلك تغييرا جذريا ولم تكن لهذا التحول الشامل أداة إلا الأسوة الحسنة. قال مالك بن أنس: بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضى الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين. والواقع أن الإجهاز على الاستعمار الرومانى ومحو مظالمه وظلماته ما كان يقدر عليهما أبدا إلا هذا الجيل الذى رباه محمد عليه الصلاة والسلام، إن القوتين النفسية والعقلية على المحو والإثبات انتقلتا من صاحب الرسالة العظمى إلى الرجال الذين تبعوه، فإذا هم يغسلون الأرض من أدرانها لتنشأ عليها أمم من طراز جديد. وقد روى الشيخان حديثا يضرب المثل لهذه القدرة الفائقة، فعن أبى سعيد الخدرى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: " يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس - فيقال لهم - فيكم من صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم! فيفتح لهم. ثم يأتى على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم ". والحوار كما قلنا من باب التمثيل، لإبراز القدرات العارمة على التغييرين الاجتماعى والسياسى اللذين انتقلا إلى الصحابة والتابعين من حامل الرسالة الخاتمة، هذا النبى الذى دفع القرون أمامه بعدما نفخ فيها من روحه، فإذا اليابس يخضر، والكدر يصفو، وإذا تراثه فى أوائل القرن الخامس عشر لا يزال - من(1/123)
الناحية النظرية - سيد الموقف وإن جار عليه الأقربون والأبعدون، وتنكر له كثيرون. وقد كانت الحكمة القرآنية هى التى تولت صياغة المسلمين على النحو الذى بلغوه، وأعنى بالحكمة الموازين النفسية والفكرية التى ضبطت الفرد والجماعة. وإليك هذا المثال بعد صفحتين من الآداب التى انتظمت العقائد والأخلاق تقرأ قوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا * كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها * ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا). ص _121(1/124)
هذه الحكمة التى ألهمها صاحب الرسالة هى التى جعلت أتباعه ربانيين يدخلون البلاد لحساب السماء لا جريا وراء الحطام، ويحيون لله لا لطبائع الأثرة والاستعلاء. وقد جاءت الحكمة فى سورة الإسراء بعد تفصيل لبعض مفرداتها ولكنها فى سورة لقمان جاءت سابقة ثم لحقها التفصيل والإيضاح. (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد). ثم شرع لقمان يعرض حكمته ويؤدب ابنه ويرفع مستواه. ومن فقهائنا من يرى الحكمة هى السنة الشريفة، وربما استأنس لذلك باقترانها بالكتاب عادة، ونحن نعرف أن السنة نصف الدين ومجلى العظمة المحمدية بيد أننا لا نفسر الحكمة بها ونرى الأليق بالكلمة ما ذكرنا. والحكمة فى المصحف الشريف سطور منثورة وعظات حية، لكنها تتحول من شخص النبى العظيم إلى سيرة مرموقة وبطولة معجبة ومنهج دقيق، إن الفضائل المتجسدة فى سيرة محمد عليه الصلاة والسلام جعلته شمسا لا يلحقها أفول، ومكنت الألوف من الأخذ عنه والاقتباس منه دون زحام. وغريب أن تلتقى فى سيرة هذا الإنسان العالى أطراف متباعدة من شئون الناس فيؤديها كلها بدقة لا ترى فيها تفاوتا، إنه يعلم امرأة كيف تنقى بدنها، ويعلم رجلا كيف يرجل شعره، وفى الوقت نفسه يرسى العلاقات الدولية، ويخطط للحرب والسلام. والسر فى ذلك أنه ترجمة عملية للقرآن الكريم، فهو مدد شعوره ولب تفكيره، وأساس سلوكه ونظام أخلاقه فى البيت والطريق والخلوة والجلوة والصداقة والخصام والقرب والبعد. كان العرب أفرادا مبعثرين لا يجمعهم شىء، وكان تركيبهم النفسى يستعصى على كل رباط، وقد قال الله فيهم: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم). فما الذى حول الجزيرة الفوضوية إلى مستودع رتيب تخرج منه الجيوش موحدة الهوى والهدف؟ وتنساق إلى غاياتها مرصوصة الصفوف تحنى أصلابها فى الصلاة على تكبير واحد! وتتسابق إلى لقاء الله بيقين واحد؟ إن صاحب الرسالة العظمى(1/125)
بكتابه الكريم هو الذى أتم هذا الإعجاز. ص _122
بدأت المسيرة بنفر يعدون على الأصابع، وها هم أولاء فى يوم عرفة يبلغون عشرين ومائة ألف.. يستعدون لإصلاح العالم بعدما أصلحوا بلادهم، ويحسون أن رحلة جديدة توشك أن تبدو فى تاريخهم وهم ينصتون فى خشوع وأدب للوحى الإلهى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). اكتمل الدين، وتمت النعمة، وارتضى الله لنا الإسلام دينا. أى شرف باذخ عمم القدر به هاماتنا؟ لقد أصبح صبغتنا الثابتة ووظيفتنا العالمية فمن جحد هذا القدر، وارتخص هذه النعمة فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق. لا أزدرى أحدا من الناس كما أزدرى امرأ شرفه الله بالإسلام فخلع عنه ثوبه، وترك لواءه، وقرر السير فى الدنيا عريانا تحت لواء الجاهلية الأولى. ما تقول فى عربى يهجر دينه وينسى ربه العظيم ويستقبل فى أرضه هندوكيا يقدس بقرته أو سيخيا يقدم خرافته، أو يهوديا يعظم أرومته، أو صليبيا يوقر ثالوثه، كل أولئك يغالون بعقائدهم وألسنتهم.. وهو وحده بارد الأنفاس بإزاء مواريثه من دين ولغة. ماذا ينتظر هذا الشقى إلا البوار والعار؟ إن المسلمين إذا فقدوا مودة الرحمن لم يبق لهم على ظهر الأرض صديق، وإذا أضاعوا شرائع الإسلام فلن يكون لهم من دون الله ولى ولا نصير. أقول ذلك والأنباء الموجهة تكتنفنا فى الصباح والمساء تحكى كيف يعربد اليهود حولنا، وكيف استنسر البغاث بأرضنا، وكيف تجرأت علينا الخالية والعاطلة، وكيف باءت قضايانا بالخذلان فى محافل العالم الكبرى؟ هل توقظنا التجارب اللاذعة فنعود إلى الإسلام عودة تزكى السرائر وتبنى الأخلاق وتصلنا بالحكمة القرآنية الهادية، وتشعرنا بشرف الانتماء إلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودينه وضرورة العمل الجاد برسالته؟ إن الله بعث من العرب خاتم رسله، وجعل فى أرضهم قبلة الصلاة، وجعل من لغتهم لسان الوحى، وأودع فى تراثهم السنة(1/126)
المطهرة واستبحارا فقهيا لم يعرف مثيله فى حضارة بشرية. ص _123
وبعد هذا الإنعام الغامر- قال للعرب: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون). فهل نذكر ونشكر، ونعيد البعث الإسلامى مرة أخرى ليحيى الموات وينشر الأموات؟ ذاك ما يجب علينا فى عيد اكتمال الدين وتمام النعمة. ص _124
حقائق عن الهجرة سألنى طالب علم عن قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم). قال: هل نزلت تلك الآية وصفا لرحلة الهجرة وتعقيبا على أحداثها؟ قلت: لا، إنها نزلت بعد الهجرة بتسع سنين استرجاعا لعبر لا تمحوها الا!يام ولا الا!عوام. أما سيل المهاجرين فقد أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بوقفه فى السنة الثامنة بعد أن تم فتح مكة! وقال: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا " . يعنى إذا طلبتم لحماية الدعوة، ونصرة الدولة الإسلامية، فلبوا ولا تكسلوا. قال: فلم التذكير بالهجرة بعد هذا الأمد الطويل؟ قلت: هذه الآية بعض ما نزل فى مقاتلة الرومان الذين اغتالوا الدعاة المسلمين واعترضوا طريقهم وهم يبلغون رسالة التوحيد. كان الروم يومئذ يمثلون الدولة الأولى فى العالم، صحيح أن الفرس ضالعوهم فى القوة، ونازعوهم السيادة! غير أن حربا نشبت بين القوتين العظميين انتهت بانهزام الفرس انهزاما ساحقا، فانفرد الرومان بالسطوة فى أرجاء العالم كله، وأغراهم ذلك بمطاردة الدعاة الإسلاميين ومنعهم من البلاغ. فلما قرر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ محاربة الروم والتصدى لعدوانهم فزع الكثيرون! وتثاقلوا عن الخروج! وقال بعضهم لبعض: أنى لنا مقاومة هذه الدولة العظمى؟ ما لنا قبل بهؤلاء. ونزل الوحى الأعلى يقطع دابر الضعف، ويستأصل روح الهزيمة ويطلب إلى(1/127)
المؤمنين أن يسارعوا إلى النفير، وأن يسيروا إلى الروم حيث كانوا دون أى تهيب. وذكر المتثاقلين عن الجهاد بأن النصر من عند الله وحده، لا تمنعه قلة عدد أو عدة. ص _125
وساق إليهم درسا من الهجرة النبوية، وكيف أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو فرد مستوحش مستضعف فى عرصات مكة خرج مع صاحبه أبى بكر وأويا إلى غار يخفيهما عن أعين المطاردين، وكان العزاء الوحيد بإزاء هؤلاء الأعداء المتربصين " لا تحزن إن الله معنا ". فماذا كانت النتيجة؟ إن الله لم يخذل من تعلق به واستند إليه، وها هو ذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبلغ المدينة، ويبقى بها سنين معدودة ثم يعود إلى مكة فاتحا، كاسرا دولة الأصنام ورافعا راية الحق. إن الذى دبر هذا الفوز قادر على أن يصنع مثله لدولة فتية ناشئة تشتبك مع أعتى دول الأرض وأوسعها سلطانا، قادر على أن ينصر المسلمين وهم قلة تعتز بالإيمان على الروم وهم كثرة تريد الطغيان بباطلها. المهم أن يتم المسلمون استعدادهم، ويأخذوا أهبتهم كلها تاركين ما يبقى فوق طاقتهم لعون الله. إن الله لا ينصر المفرطين! وإذا تكاسلت عن أداء ما عليك وأنت قادر فكيف ترجو من الله أن يساعدك وأنت لم تساعد نفسك؟ هذا درس من الهجرة يساق إلى المتواكلين الذين ينتظرون من الله أن يقدم لهم كل شىء، وهم لم يقدموا له شيئا. بل لم يقدموا لأنفسهم إلا ما تيسر! فليس لهم طموح أصحاب الهمم وجهاد الحراص على السبق، وغضب الثائرين على الضيم، وشوق الراغبين فى الجنة. ومر بخاطرى تساؤل لطيف؟ لقد نزلت سورة الأنفال فى أعقاب " بدر " ونزل النصف الثانى من سورة آل عمران فى أعقاب " أحد "، ونزلت سورة الأحزاب بعد غزوة الخندق! فلم لم تنزل سورة للهجرة بعد نجاح رحلتها؟ والهجرة هى بدء التاريخ الإسلامى والحد الفاصل بين مرحلتين متميزتين فى السيرة النبوية؟ وجاء الجواب سهلا! إن هذه المعارك استغرقت أياما قليلة، أما الهجرة فشأن آخر لقد ظلت أفواج(1/128)
المهاجرين متصلة سنين عددا، وتطلب التعليق عليها مواضع عديدة. ومن ثم ذكرت الهجرة فى سور البقرة وآل عمران والنساء والأنفال والتوبة والنحل والحج والممتحنة والتغابن والحشر.. وكان التعليق فى كل سورة إبرازا لمعنى مقصود. ص _126
ولاحظت أن سورة النحل مكية، وقد جاء فيها قوله تعالى: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون). ترى من أولئك المهاجرون؟ أهم الذين فروا بدينهم إلى الحبشة بعدما تعرضوا لإرهاب الوثنية الطاغية فى مكة؟ ربما.. أم هى إرهاص لانتقال المسلمين إلى المدينة كى يقيموا دولة الإسلام بها؟ ربما. على أن هناك فرقا كبيرا بين الهجرتين! فالذين ذهبوا إلى الحبشة كانت لهم أوبة، طالت الغربة أم قصرت، قد يعودون إلى مكة أو إلى المدينة وفق الظروف التى تواجههم. أما المهاجرون إلى المدينة فقد قطعوا صلتهم بالماضى كله، ونزلوا إلى الأبد عن بيوتهم وأموالهم وذكرياتهم فلا عودة أبدا إلى شىء منها. لقد تركوها لله، وربطوا أنفسهم بالوطن الجديد للدين الذى آمنوا به! وكأن على لسان كل مهاجر قول الشاعر: إذا انصرفت نفسى عن الشىء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل! وكان صاحب الرسالة مثلا أعلى فى الوفاء للبلد الذى أحسن استقباله، فقد مات فى ترابه. وقبل أن نشرح آيات الهجرة فى بعض السور المدنية نقدم بين يدها جملة من الحقائق التى تغرب عن بال المسلمين المعاصرين! فالظن السائد بينهم أن المرأة لم تشتغل بالدعوة أو ذادت عنها، ولا ضحت فى سبيلها، وهذا خطأ بعيد. ما روى أحمد بن حنبل عن أنس رضى الله عنه أن أبا طلحة خطب أم سليم ـ وذاك قبل أن يسلم ـ فقالت له: يا أبا طلحة.. ألست تعلم أن إلهك الذى تعبد نبت من الأرض؟ قال: بلى! قالت: أفلا تستحى تعبد شجرة؟ إن أسلمت فإنى لا أريد منك صداقا غير الإسلام. قال: حتى أنظر فى أمرى! فذهب ثم جاء فقال: أشهد(1/129)
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله... فقالت لابنها أنس بن مالك: يا أنس.. زوج أبا طلحة. فزوجها ابنها منه، وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم . ومن الطرائف ما رواه مسلم عن هذه السيدة المؤمنة الداعية.. ص _127
قال أنس: اتخذت أم سليم يوم حنين خنجرا، فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله.. هذه أم سليم معها خنجر! فقال لها رسول الله: ما هذا الخنجر؟ فقالت: اتخذته، إن دنا منى أحد من المشركين بقرت به بطنه! فجعل رسول الله يضحك. لعمرى إن هذه المرأة أشجع من رجال! وقد تفقد المسلمة السلاح الذى يسعفها فى أثناء المعركة، فهل تستسلم؟ كلا. روى الطبرانى عن مهاجر أن أسماء بنت يزيد بن السكين ـ بنت عم معاذ بن جبل ـ قتلت يوم اليرموك تسعة جنود من الرومان بعمود خيمتها. وأسماء هذه حضرت بيعة العقبة الكبرى مع سيدة أخرى هى نسيبة بنت كعب رضى الله عنهما. هل يفكر المسلمون المعاصرون فى إعادة التعاليم والتقاليد التى صنعت هذا الجيل؟ والسياق يفرض علينا أن نذكر بيت أبى سلمة حين قرر الهجرة. قالت أم سلمة: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل إلى بعيره ـ وضع الرحل على ظهره ـ ثم حملنى عليه وأخذت ابنى فى حضنى ثم خرج يقود بنا البعير. فلما رآه رجال بنى المغيرة ـ قبيلتها ـ قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها! أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها فى البلاد؟ قالت: ونزعوا خطام البعير من يده وأخذونى منه! وعلم بنو عبد الأسد ـ قبيلة أبى سلمة ـ بما كان فقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا. قالت: فتجاذبوا ابنى سلمة بينهم حتى خلعوا يده، ثم انطلق به بنو عبد الأسد وحبسنى بنو المغيرة عندهم، وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، تاركا زوجته وابنه.. لا يدرى مصير كليهما. وكانت السيدة أم سلمة تخرج كل غداة إلى الصحراء ترمق الأفق وتبكى حتى غبرت عليها سنة وهى تعانى ما تعانى. ورق(1/130)
أهلها آخر الأمر لها بعد أن تشفع لها رجل من بنى عمومتها، فقالوا لها: الحقى بزوجك إن شئت، فاستعادت ولدها، وولت وجهها شطر المدينة، وانضمت إلى زوجها فى الدفاع عن الإسلام، بعد رحلة لا مكان لسردها هنا. ص _128
ما سقناه آنفا من قصص أولئك النسوة الفضليات، المجاهدات المهاجرات كان تمهيدا لابد منه قبل شرح آيات الهجرة فى سورتى آل عمران والنساء. ففى السورة الأولى دعا أولو الألباب ربهم هاتفين: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار * ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد). وبعد هذه الضراعة استمع أولو الألباب إلى الإجابة: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). تفصيل للنوعين معا، إن الذكورة والأنوثة هما الأقدام التى تمشى بها الإنسانية، أو الأجنحة التى تعلو بها، ما يستغنى أحدهما عن الآخر. (بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار). هل ذلك الوعد للرجال وحدهم؟ كلا فإن إسلام أبى طلحة بعض حسنات أم سليم التى أوتيت العلم والإيمان من قبله. وإسلام عكرمة بن أبى جهل، وجهاده واعتراضه الرومان يوم اليرموك اعتراضا كسر حدتهم.. ثم استشهاده آخر الأمر كل ذلك يوضع فى كفة حسنات زوجته (أم حكيم) التى أغرته بالإسلام إغراء واجتذبته إليه اجتذابا.. ولا ينقص ذلك من أجر الشهيد العظيم شيئا. وهل يقل أجر أم سلمة عن أجر زوجها؟ إن هذه الحقائق التاريخية هى التى جعلت الوحى الأعلى يفصل عند تقسيم الجزاء، فيذكر الجنسين معا: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى). وما دعانى إلى هذا الشرح إلا أن بعض الناس يزدرى الأنوثة، ولا يوارب فى تحقيره لها، ثم يزعم كاذبا أنه ينفذ تعاليم الإسلام. وإن(1/131)
المرأة العظيمة تعين الرجل على الجهاد وعلى الاستشهاد، وقد فعلت ذلك أسماء بنت أبى بكر كما فعلت ذلك الخنساء فى معركة القادسية. ص _129
والإسلام الذى صنع هذه المواقف قديما قادر على صنعها الآن. وبديه أنه لا كل الرجال ولا كل النساء قادر على تسلق هذه الذرى. وذلك يعود إلى ضعف الأخلاق وقوتها لا إلى ذكورة أو أنوثة. وقد حكى القرآن الكريم قصة رجال تقاعسوا عن الهجرة، ومالوا إلى البقاء مع أهليهم وأولادهم فى مكة، فلما استعلن الإسلام، والتقوا بالسابقين الأولين عرفوا أنه فاتهم خير كثير، وفضل عظيم، فندموا على تفريطهم! وما يجدى ندم. وفى هذا نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم). وروى الترمذى عن ابن عباس أنها نزلت فى رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا الهجرة، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون النبى ـ صلى الله عليه وسلم. فلما أتوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ متأخرين رأوا الناس قد فقهوا فى الدين! فهموا أن يعاقبوا زوجاتهم على هذا التثبيط. وهذا ضرب من التنصل لا مساغ له، فاللوم مشترك بين الفريقين. وقد ذكر القرآن الكريم أن هناك نساء عافت الشرك، ورفضت البقاء فى داره، وقررت اللحاق بدار الإسلام، فتركن مكة وأزواجهن. وهاجرن إلى المدينة المنورة! وفيهن نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار). إن التفاوت بين البشر عظيم! وصدق شوقى: ومن النفوس حرائر وإماء فإذا انتقلنا إلى حديث سورة النساء عن الهجرة وجدنا ملحظا آخر وجدنا الإسلام يحرم الاستخذاء على أمته، ويحظر عليهم قبول الدنية والإقامة على الضيم. فمن سهل عليه الهوان ولان ظهره للأوزار فهو بذلك يرشح نفسه للنار، وبئس القرار: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن(1/132)
أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا). ص _130
والابتلاء قد يكون شديدا على رب الأسرة الذى يسام الخسف لأنه أسلم، ويعجزه عن الانتقال عدد من البنين والبنات يقيدون خطاه! ويحضر فى ذهنه قول الشاعر: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض! لكان لى مضطرب واسع! لامتنعت عينى عن الغمض! وإنما أولادنا بيننا..! أكبادنا تمشى على الأرض! لو هبت الريح على بعضهم فى الأرض ذات الطول والعرض! بيد أن الإسلام ـ مع تقديره لكل المتاعب الإنسانية ـ يأبى على أتباعه كل الإباء أن يرسموا سياستهم القريبة والبعيدة على قبول الواقع السيئ. لا.. إن عز عليهم التحول! اليوم بيتوا النية لغد ولا يستكينون أبدا.. ومن ثم عذر الإسلام أصنافا بأعيانهم: (إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم). فمن وجد حيلة أو سبيلا فلا عذر له، وعليه أن يشد الرحال إلى المدينة ليدعم دولة الإسلام فيها، رجلا كان أو امرأة. إن المجتمع لا يعدو أن يكون رجلا أو امرأة أو ذرية، والدولة الجديدة تتطلب أولئك جميعا، فأما الذرية فهم الجيل الناشئ! هم مستقبل الإسلام! فليهاجروا مع ذويهم، وأما الرجال والنساء، فقد صنعوا بعد الهجرة سياجا للإيمان احتمى به الدين المطارد من الحاقدين والمتعصبين، حتى انتصر عليهم آخر الأمر. فى السنة الرابعة من القرن الخامس عشر أرى العواصف العاتية تهب بعنف تريد اجتياح الإسلام، والإتيان عليه من القواعد! فهل نستحضر من معانى الهجرة ما يخزى أعداء الله، ويرد كيدهم فى نحورهم! وما يساعدنا على استئناف رسالتنا، ودعم حضارتنا؟ إن الضميرين الفردى والدولى يترنحان فى هذه الآونة الكالحة من التاريخ! والدواء عندنا وحدنا! فهل ننصف أنفسنا وننقذ العالمين؟ ص _131(1/133)
تأملات وخواطر فى مناسك الحج فى معركة الخبز التى تسود الأرجاء، وترهق الأعصاب! وفى زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة! كان هناك أشخاص آخرون يخلصون بأنفسهم بعيدا، ويصغون إلى نداء آخر يجىء من وراء القرون، ويتردد صداه على اختلاف الليل والنهار! إنه نداء قديم جديد! قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله حين قال له: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق). وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله ـ صلى الله عيه وسلم ـ ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبين ما رصد الله له من جوائز، وربط به من منافع.. وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهى تصيح إليه فى حجة الوداع يزودهم بأحر وصاياه، وأحفلها بالخير والبر. إن وفود الحجيج وهى تنطلق صوب البيت العتيق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصوات خاشعة: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك.. لا شريك لك، إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعا لله سبحانه وتعالى، من طاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر وتوحيد وتمجيد. هل العالم يتذوق هذه المعانى؟ ويستشعر حلاوتها؟ كلا، فما أكثر التائهين عن الله، والمتمردين على حقوقه! ما أكثر العابدين بغير ما شرع، والحاكمين بغير ما أنزل! إن هؤلاء العاصين نغمة شاذة فى كون يسبح بحمد ربه: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون). دع هؤلاء التائهين، وأرمق الوفود المنطلقة صوب مكة تجأر بالتلبية، ويسيل بها البر والبحر والجو! إن جؤارها بالتلبية يصدقه كل شىء فى البر والبحر والجو! فالملبى حين يرفع عقيرته مناجيا ربه، ومصدقا أخاه، ومقررا أشرف حقيقة فى الوجود، يتجاوب مع الملكوت الساجد طوعا وكرها! أو يتجاوب مع الملكوت الذى يبارك رحلته ويحترم حجته. ص _132(1/134)
وفى ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عيه وسلم ـ: "ما من ملب إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا عن يمينه وشماله " . ما هذا التأويب الذى يصحب سفر الحاج ومتقلبه بالليل والنهار؟ لقد ذكرت غناء داود بأمجاد الله، وكيف كانت ترانيمه تملأ الوهاد والنجاد، وتردد الجبال صداها تكاد ترق لخشوعها! وتصغى إليها الطير الغاديات الرائحات تكاد تهبط لعذوبتها. يقول الله سبحانه فى ابتهالات داود: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب). كذلك ترجع الأرض عن يمين وشمال هتاف الحجيج وهم يهتفون من أعماق قلوبهم: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ". إنه هتاف ينفرد به أتباع محمد ـ صلى الله عيه وسلم ـ ، وحملة راية التوحيد! أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك وجاحد منحرف.. إن لهم هتافا آخر يمثل عبوديتهم للتراب ولما فوق التراب من دنايا وخزعبلات. وبعد أسفار تطول وتقصر يبلغ الحجيج مكة المكرمة ليطوفوا بالبيت العتيق، إنه المسجد الذى يستقبلونه فى كل صلاة، فيرونه ببصائرهم وإن لم يروه بأبصارهم! ولماذا يستقبلونه؟ لا!نه أول بقعة وضعت فى الأرض ليعبد فيها الركع السجود ربهم وحده، مهدها الخليل إبراهيم عليه السلام بعد عراك طويل مع الوثنية المستكبرة العنيدة! كان إبراهيم ـ عليه السلام ـ رجلا أعظم من ألوف الرجال أعلن الحرب على هذه الحجارة المقدسة، واشتبك فى خصام مر مع المتعصبين لها وهم كثير! فى طليعتهم أبوه وقومه! وأشرف على الموت فى هذا الصراع لولا أن الله أبقاه ليكمل رسالته.. فلما جاء إلى مكة بنى هذا البيت الشامخ، ودعا أن يحفه الله بالأمان، حتى لا يساور العباد القلق وهم بين يدى الله! ودعا أن يطهر الله القلوب من ظلال الوثنية. ودعا أن يكون من ذريته نبى يحرس الوحدانية وينشر العلم والتقوى، وأن يقود أمة تسلم لله وجهها وتخلص(1/135)
قلبها.. كيف لا يجىء المسلمون هنا وتاريخهم المادى والروحى يرتبط بهذا المكان، وذكريات الوحى الأول والخاتم ترف فى ربوعه كلها؟ إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم، ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى، لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق إلى أوكارها، يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه: ص _133
(ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب). وليس للطائفين بالبيت نجوى إلا مع الله وحده، شغلهم الشاغل ترديد الباقيات الصالحات، والتقدم بضعف العبيد إلى القوى الكبير أن يجيب سؤالهم ويحقق رجاءهم! ماذا يقولون؟ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر.. ثم يدعون: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). إننا نهدى هذه الكلمات الجليلة، وهذا الدعاء الرقيق إلى المستشرقين والمبشرين الذين يشيعون أن المسلمين يعبدون الكعبة! شاهت الوجوه! وبئسما افتريتم، إن المسلمين ما يعبدون إلا الله وحده ويرون ما فى الكون من ناطق وصامت عبدا لله وحده. وفى أداء مناسك الحج يقول الله سبحانه: (فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). إن الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد، وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة، وهى تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية! ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف باسم الله وحده، لا ذكر هنا إلا لله! ولا جؤار إلا باسمه! ولا تعظيم إلا له! ولا أمل إلا فيه! ولا تعويل إلا عليه. إن المسافات تقاربت، بل انعدمت، بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة، وبين ذكر لله يدوى كالرعد القاصف من أفواج تتدافع إلى غايتها لا تلوى على شىء، ولا يعنيها إلا إعلان ولائها لله الذى جاءت لتزور بيته. لقد رأيت فى العواصم الكبرى تظاهرات(1/136)
تطلب كذا، وتهتف لكذا! أين هذه من تلك؟ أين الثرى من الثريا؟ أن أولئك الحجيج المكرمين يحيون رب الأرض والسماء، ويوثقون علاقة العالم بسيده، ويؤكدون الوظيفة الحقيقية للإنسانية، وهل خلق الناس إلا لعبادة الله وطلب رضاه..؟ وفى يوم معين من السنة، ومكان مخصوص من الأرض، تلتقى الوفود المقبلة من المشارق والمغارب، تلتقى وفود الرحمن فى صحراء عرفة، فى ملابس لا تصلح لخيلاء ولا موضع فيها لزينة أو امتياز، الناس شعث غبر! تكسوهم سيماء العبودية والتجرد والافتقار إلى الله. ص _134(1/137)
لقد حطوا الرحال هتا ليتفرغوا لتمجيد الله وتوحيده، وطلب مغفرته ورحمته! فى مكان وزمان معينين فرض الله على المسلمين من شاطئ الأطلسى إلى شاطئ الهادى أن يتلاقوا هنا ليعلنوا أساس حضارتهم وسياستهم، إنه التوحيد الذى جاهد المرسلون كلهم من أجله! فلا عجب إذا كان الشعار المرفوع سحابة النهار، وزلفا من الليل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شىء قدير" العرب والعجم والترك والهنود والزنوج وغيرهم وغيرهم من خلق الله يصرخون بهذا الشعار! إن الأصنام القديمة سقطت، بيد أن أصناما أخرى ظهرت وسرقت أفكار الناس ومشاعرهم، وربما رأيت أفرادا وشعوبا يزحمون أرجاء الدنيا، ويحيون ويموتون ما يرفع أحدهم بصرا إلى السماء، ولا يرفع كف ضراعة إلى خالقه، لأنه لا يعرفه..! إن الأمة الإسلامية وحدها هى التى ورثت الحقيقة، وعرفت العقيدة الصحيحة، وهاهى ذى ترسل وفودها إلى الأرضى المقدسة معلنة فى المكان والزمان اللذين فرضهما الله، أنه لا إله إلا الله.. عليها نحيا، وعليها نموت، وفى سبيلها نجاهد، وعليها نلقى الله. ويوم عرفة فريد فى معناه ومظهره، لا تسمع فيه إلا تأوهات التائبين، وأنين الخاشعين، وضراعة المفتقرين، إنها الإنسانية المستجيرة بربها، النازلة بساحته مؤملة فى خزائن لا تنفد، وعطف لا يغيض. ولقد جاء فى السنة الشريفة: "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيباهى بأهل الأرض أهل السماء، يقول: انظروا إلى عبادى جاءونى شعثا غبرا ضاحين ـ أى بارزين للشمس ـ جاءوا من كل فج عميق يرجون رحمتى ولم يروا عذابى.. فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة" . وفى حديث آخر: " ما رئى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فى يوم عرفة! لما يرى فيه من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام " . إن إثراء الجانب الروحى هدف ظاهر من أعمال الحج وأقواله حتى(1/138)
تعود وفود الرحمن جياشة العواطف بحب الله وخشيته ، متآخية على تنفيذ وصاياه وإعظام حقوقه.. ولكن الجانب السياسى لا يمكن إهماله أبدا، إذ ما يصنع الحجيج عندما يعودون إلى بلاد اعتدى ص _135
عليها المجرمون واستباحوا حرماتها؟ أو عندما يعودون إلى بلاد كثرت فيها الفتن وماج خلالها المستضعفون؟ إن الله سبحانه منح الأقوياء المعتدين فرصة التوبة إليه والإفراج عن عباده المأسورين! فإذا أبى أولئك انتهاز الفرصة فما العمل؟ (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). من أجل ذلك نزلت سورة براءة، وشاء الله أن تقرع مسامع الحجاج فى السنة التاسعة للهجرة كى يحددوا موقفهم ممن حاربوا الإسلام وظلموا أمته ودنسوا شعائره، ولم يحترموا يوما كتابه وسنته لقد قيل لأولئك الحجيج: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله). نعم لا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع تلقى به خصومها. صحيح أنهم فى محاريب ذكر، وساحات تسبيح وتحميد! وأوقات تبتل إلى الله ونشدان لرضاه! لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمته ليس تهجدا؟ إن صيحة الله أكبر تفتتح بها الصلاة لينأى بها المؤمن عن مشاغل الدنيا، ويفتتح بها الجهاد لتكون كلمة الله هى العليا، ولتجف بها دموع البائسين وآلام المستضعفين! ومن هنا نفهم قول الله سبحانه للمحتشدين فى عرفات، ولمن وراءهم من جماهير المؤمنين فى كل مكان: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم). الواقع أن آلام المسلمين قديما وحديثا متشابهة، والأحداث التى تنزل بهم شرقا وغربا تدل على أفئدة خربة ونفوس مظلمة! ويجب أن تتوحد(1/139)
جبهة الدفاع بعد أن اتفق المهاجرون على الكيد والتحدى. الحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيد مجاهدة، فهل نحسن الحج؟ أم نذهب ونعود ونحن لا ندرى؟ *** ص _137
رحلة من العلم إلى الإيمان العقل المستقيم لابد أن يصل إلى الله، وتفكيره الجيد لن يبعده عن الله أبدا مهما طال المدى. لقد بدأت الدراسات العلمية فى الغرب بعيدة عن الدين بل كافرة به لأن الدين الذى ورثته يجافى المنطق، وينأى عن العقل، فلا غرو إذا بدأ العلم ملحدا. وأخذ العلماء طريقهم فى بحث المادة وخصائصها وقواها، ينقبون فى فجاج الأرض وآفاق السماء فبوغتوا بما يقودهم قودا إلى الله، ويدلهم على عظمته ومجده. إن الفكر الصائب يستحيل أن يباعد عن الله! إنه يسوق إليه سوقا لطيفا! لماذا؟ (إن ربي على صراط مستقيم). إذا كان هدف ما على بعد ميل، فإنك بالغه حتما إذا سرت متجها إليه، المهم أن تسير فى اتجاه صحيح! إن العوج والشرود لا يقرران حقيقة، ولا يوصلان إلى غاية. وقد اختلفتُ مع بعض أصدقائى فى جملة قضايا جادة!، ولم أغضب منهم مع خطورة الموضوع، فقال لى أحد الناس: لماذا لم تقاطع أولئك الأصدقاء الشاردين؟ فقلت: إنهم أخطئوا مخلصين، ولهم فكر حسن، وسوف يقودهم فكرهم السليم إلى الحقيقة يوما ما. العقل الجيد مادام يلتزم منهجه فسيعرف ربه إن قريبا وإن بعيدا. (إن ربي على صراط مستقيم). وقد قرأت لنفر من أساطين العلم المادى كلمات صادقة فى هذا المجال أنقلها هنا مع تصرف يسير يضبط معناها. يقول الفلكى الإنجليزى (سير جيمنس جينز): (أما الآن فالآراء متفقة إلى حد كبير ـ فى الجانب الطبيعى مع العلم ـ اتفاقا يقارب الإجماع، على أن نهر المعرفة أخذ يتجه نحو حقيقة غير مادية، وغير آلية! وبدأ الكون يلوح ص _138(1/140)
أشبه بفكرة عظيمة منه بآلة عظيمة! ونحن واجدون فى الكون دلائل تنبىء عن وجود قوة مدبرة مسيطرة، بينها وبين عقولنا الفردية شىء مشترك). هذا آخر ما يمكن أن يقوله عن الله ـ الحى القيوم المحيط المهيمن ـ باحث فى الكون لا يعرف الإسلام. كانت بيئة هذا العالم الفلكى تتوارث أن الكون ركمت مادته جزافا بل إنها نشأت كذلك.. فإذا التأمل الطويل يكشف عن قوانين بالغة الدقة، يشرف عليها عقل فردى واسع الذكاء. ولو عرف هذا الرجل الاسم لقال كلاما آخر يستند إلى وحى أعلى وتصور أحكم! وأنى له أن يعرفه؟ وهذا باحث مشغول عن اليوم الآخر، لا يفكر فى حياة بعد الموت، إنه (آرثر كومبتون) الحائز على جائزة نوبل فى (فيزياء الذرة)، وتخصصه لا علاقة له بالروح فإن العلم يرى أن المادة وحدها موضوعه، وأن ما وراءها لا يسمى علما.. يقول ذلك الباحث: (إننى فى معملى لا أعنى بإثبات حقيقة الحياة بعد الموت.. ولكننى أصادف كل يوم قوى عاقلة تجعلنى أحس إزاءها بأنه يجب على أن أركع احتراما لها). إن الرجل تروعه حكم شتى تتراءى له وهو يعمل، متحدثة كلها عن بديع السموات والأرض، الذى خلق كل شىء بقدر، وهدى أجزاء الذرة إلى الانتظام فى فلكها دون اعوجاج أو استرخاء. إنه يرى لزاما عليه أن يركع أمام ذلكم المليك المقتدر! ولطافة الصنعة تبعث على الدهشة والإعظام. والقرآن الكريم يلفتنا إلى ذلك عندما يحدثنا عن اخضرار الأرض السوداء تحت مواقع المطر: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير). اللطافة والخبرة صفات الخالق العظيم، وإنها لصفات غريبة الآثار عندما تنشىء الحياة وتحيى الموات وتفتق الثرى الهامد عن حبوب وفواكه وخيرات لا حصر لها.. ألا يستحق صاحب هذه الصفات أن نركع له؟ واللطف فى ذلك الإيجاد يعادله اللطف فى تصريف الأقدار بين الناس، وقد استولى هذا ص _139(1/141)
الشعور على فؤاد يوسف الصديق عندما وازن بين ماضيه وهو صبى مختطف رقيق وبين حاضره وهو ملك مهيب عزيز وكيف رتب القدر الأحداث التى تمخضت عن تلك النتائج؟ فما ملك نفسه آن يقول: (إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم). ص _140
الله هو الحقيقة إن عملنا ـ نحن البشر ـ قليل فى الكون، أما العمل الأعظم فهو لله الكبير. ماذا صنع الفلاح فى مادة القطن الذى جناه؟ أو فى جسم التفاحة التى قطفها؟ إن ما لنا فى هذا الحصاد تافه، أما ما لله فهو الحقيقة كلها. ونحن قد نحسن أو نسىء فى استخدام المفاتيح التى يسرت لنا، أما الخزائن وما فيها، بل المفاتيح نفسها فليست من صنعنا. ولست أنا الذى أردد هذه المعانى، إنه (اينشتين) أكبر عالم كونى فى الأعصار الحديثة، فلنسمع إليه وهو يقول: (إن الشعور الدينى الذى يمتلك الباحث فى الكون هو أقوى حافز على متابعة البحث العلمى ودينى هو إعجابى ـ فى تواضع ـ بتلك الروح السامية التى لا حد لها، تلك التى تتراءى فى التفاصيل القليلة الضعيفة العاجزة.. هو إيمانى العميق بوجود قدرة عاقلة مهيمنة تتراءى حيثما نظرنا فى هذا الكون المعجز للأفهام.. "ذلك هو فهمى لمعنى الألوهية "). وهذا العالم الكونى صادق الحس فيما يعبر عنه، وإن جاءت عبارته دون ضوابط النقل التى حفظناها. وحسبه فى أفقه البعيد عن الوحى أن يتذوق هذه المعانى ويجليها. إنها المعانى الناضجة من قوله سبحانه: (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض). (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون). وهى المعانى التى لخصها الفلاسفة فى طبيعة العلاقة بين الممكنات كلها وبين واجب الوجود، فإن العوالم كلها ليس لها من ذاتها وجود، وإنما يفاض عليها كيانها الذى تظهر فيه من موجد أعلى، فلا وجود فى الحقيقة إلا منه. ص _141(1/142)
وقد يبالغ بعضهم، أو تغلبه نشوة إيمان رفيع فيقول: لا وجود فى الحقيقة إلا له.. وليس المراد إنكار العالم المحسوس، وإنما المراد إنكار أى دور إيجابى له فى قصة الحياة، فهو منفعل لا فاعل. والحقائق الدينية والعلمية والفلسفية تتساوق كلها إلى هذا القرار. ومن الخير على أية حال أن نضبط عباراتنا حتى لا توقع فى لبس، ومن الخير كذلك أن نحسن ظنوننا حتى لا نتهم أولى الألباب. ويمتاز الإسلام بأنه بنى الإيمان الوثيق على ملاحظة آيات الله فى الكون وتتبع العلامات التى بثها الله هنا وهناك لتدل عليه وتسوق إليه. وفى تعريف الناس بربهم من خلال هذا المنهج قد ترى تساؤلات مثيرة، وتقريرات معجبة. وكم أشعر بالرقة والإعظام وأنا أسمع المولى الجليل يحدث عباده عن نفسه: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا). إنه استعمل ضمير الغيبة حتى إذا فتح الأجفان المغلقة لتعرفه استعمل ضمير الحضور: (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا * ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا). ويتكرر الأسلوب نفسه بعد قليل: (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون). وملاحظة قيام الله على خلقه وتدبيره لأمرهم وهيمنته على أحوالهم هو الطريق إلى ولايته واجتبائه، ولعل ذلك هو الذى جمع بين الآيتين المتعاقبتين فى قوله سبحانه: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين * ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). نعم.. وما يكون وليا لله إلا الحاضر بقلبه معه تبارك اسمه، المشاهد لآثار أسمائه وصفاته فى ملكوته. ص _142(1/143)
وعندما ترجع إلى شهادات العلماء الكونيين الأجانب التى ذكرناها بين يدى هذا البحث تشعر بأن هؤلاء العلماء لم يسكروا بخمر إلهية كما يعبر الصوفيون عندنا، بل كانوا فى درجة عالية من الصحو العقلى أمكنتهم من رؤية المكون وهم يبحثون فى الكون. على أن العلم النظرى لا يكفى، ذلك أن الكون مسخر للإنسان ولن يكون طوع بنانه إلا إذا اكتشف قواه وسننه، وطوعه لخدمته أو ـ بالتعبير الأدق ـ لخدمة رسالته التى من أجلها خلق. * * * * مفهوم المادة الواسع: إنه لا تنافى البتة بين استعمار الإنسان فى الأرض، وارتفاقه لخيرها وبين أنه خلق لعبادة الله.. فليست العبادة انعزالا فى صومعة، وترك الحياة بعد ذلك تسير كيفما اتفق لها. العبادة أن تعرف ربك من خلال دراستك لكونه الكبير، ثم تجعل نفسك والكون المسخر لك فى خدمة دين ربك وتثبيت تعاليمه فيما تحت يدك. لا تنافى أبدا بين قوله تعالى: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب). وقوله سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). ومن هنا جاءت السنن تعلم أن الكدح فى الأرض جهاد، وأنه يجب المضى فى الزراعة ولو قامت الساعة. ويوجد الآن تدين وضيع الرتبة محقور الثمرة، لأنه مبتوت الصلة بالكون، بادى العجز فى عرصات الأرض، وهذا الصنف من المتدينين مسخر فى الأرض، وليس شىء من الأرض مسخرا له. وعباد المادة يستطيعون دعم الإلحاد بالأقمار المصنوعة، أما هو فأعجز من أن يدعم إيمانه المزعوم بشىء طائل، إلا العصا التى تساق بها الدواب، لأنه لا يعلو كثيرا عن هذا المنطق. ص _143(1/144)
وندع الحديث فى هذا الموضوع لأنه ذو شجون، وشجونه تنقض الظهر! بيد أنه لابد من لفت النظر إلى أن الهواء النقى لا تفيد منه إلا رئة سليمة، وأن الشعاع المضىء لا تفيد منه إلا عين بصيرة، وأن السيادة فى الكون وظيفة لا يطيقها المعلولون والمشلولون. وجمهور كبير من المنتمين إلى الدين يحملون جراثيم أمراض مادية وأدبية لا حصر لها، تجعل انتماءهم إلى الدين قليل الجدوى. وقد قسم علماؤنا النعم إلى حسية ومعنوية، وجعلوا الأخيرة أشرف، فالعلم خير من المال والخلق خير من الانحلال.. وهكذا. والحق أن الانتفاع من الماديات لا يستطيعه إلا من له حظ من المعنويات، وأنه إذا كان لابد من فقد شىء فخسارة بعض الملذات الحسية واجب فى سبيل استكمال المعنويات والحفاظ عليها. وقد آثر الرجال الصالحون التضحية برغائب كثيرة كى يسلم لهم دينهم وشرفهم. وقد أنعم الله على العرب حديثا بالنفط، وأنعم عليهم قديما بالوحى، فكانت المنة عليهم برسالة السماء أرجح فى موازينهم وأضوأ فى تاريخهم. أما النفط الذى فجر المال أنهارا تحت أقدامهم فما تتم نعمه إلا إذا أحسنوا استغلاله، ودعموا به القيم وسدوا به الثغر. * * * * العمل لله يسبقه العلم به: والناس فى هذه الحياة لا تصح إنسانيتهم ولا يحققون الحكمة من إيجادهم إلا إذا جعلوا نشاطهم مقسوما بين معاشهم ومعادهم، وعملوا لله كما يعملون لأنفسهم أو أكثر. والعمل لله يسبقه العلم به، والعلم به لا يتم تحصيله بترديد أسمائه ألوف المرات كما يوصى البعض، أو كما يفعلون. العلم بالله يجىء من تتبع آياته فى الأنفس والآفاق، ومن الصلاة له فى المراصد، والمعامل الحافلة بالتجارب والملاحظات. ويسرنى أن بعض المتصوفين قد شرع يدرك هذه الحقائق! ترى هل وصل بعد قيام القطار؟ ص _144(1/145)
يقول الشيخ بهى الخولى رحمه الله: (معرفة الله تبدأ من شهود العقل لمعنى "الخالقية" التى تسند وجود الكائنات إلى الحق وحده ـ تبارك اسمه ـ فلا يكون فى الكون إلا ما هو سلب مطلق، ليس له من أمر نفسه أو غيره شىء، وخالق له الإيجاب المطلق فى كل شىء..) ثم تعلو مرتبة المعرفة رويدا رويدا بأن يلحظ الفكر فى الكائنات معنى النفع أو معنى أنها نعمة من المنعم جل شأنه. وفى هذه المرتبة من حسن الصلة بالله يذهب الفكر إلى شعاب من النظر تجلو الكثير من الصفات العليا، والأسماء الحسنى، ويعظم حظ المرء من الحكمة والمعرفة والعبر ويزدحم ضميره بوجدانات الجلال والجمال ثم يقول رحمه الله: (ولعلنا ندرك الفرق بين مفهوم النعم الحسية والنعم المعنوية حين نقلب النظر بين هذين النوعين فى قوله تعالى: (والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون). وقوله سبحانه: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). ولسنا نجيز المقارنة بين النظم البلاغى لكلا النصين، فكلام الله فى درجة سواء من الإعجاز. ولا ندعى أن هناك فرقا بين النوعين فى معنى الإنعام. فكلاهما فضل الله ومظهر امتنانه.. وحسب النعمة شرفا أن يكون المنعم بها هو الله.. إنما نريد الفرق بين الأثر الذى يحدثه كل منهما فى حياة الإنسان وضميره). ولا ريب أن النبوات أنمى أثرا وأبرك عقبى من الآلاء الأخرى. وإلى هذا الملحظ جاء الأمر الإلهى: (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى). ومع ذلك كله فلا نزال نؤكد أن المقارنة هى بين دنيا مقطوعة عن ربها الذى أسداها وبين عبادة تصل المؤمن بربه وتبصره برسالته فى هذه الحياة. لكن الدنيا التى تكون عونا على الدين، وسياجا يحميه ليست قسيما يقابل التقوى والإحسان، بل إن تحصيلها والذود عنها من صميم التقوى(1/146)
والإحسان. ص _145
التعليم الأصلى وهل وَفّى أهله له معاهد التعليم الأصلى ـ كما تسمى فى عصرنا ـ أو الجوامع والمدارس التى احتضنت ثقافتنا الذاتية كلها، جزء مشرق من تاريخنا وجانب مثمر جليل من حضارتنا، ورسالتنا الكبرى. بل هى الأساس لوحدة أمتنا على اتساع رقعتيها المكانية والزمانية، فإن ما قدمته هذه الجوامع من زاد روحى وفكرى ربط الخلف بالسلف وربط شرق الأمة بغربها وأمحت الفروق بن الأعصار والأمصار فإذا المسلمون جميعا يلتفون حول كتاب ربهم وسنة نبيهم، ويحكمون الارتباط بأخلاقهم وتقاليدهم وأهدافهم، ويحسنون التفاهم والتعبير العالى بلغتهم وآدابهم، ويثبتون الملامح الوسيمة لأمتهم، فهى واضحة الشخصية معروفة الغاية، مأنوسة الصورة للصديق والعدو على سواء . ولنعد إلى الوراء قليلا، لقد نجح الأتراك منذ خمسة قرون تقريبا فى الاستيلاء على (القسطنطينية) واشتبكوا فى حروب عوان مع الصليبية الغربية، ومع أنهم عجزوا عن حماية الأندلس فقد استطاعوا وقف الزحوف الصليبية على العالم الإسلامى بضعة قرون.. لكن الأتراك الذين أصابوا سهما من التوفيق فى سياستهم الخارجية وقدرتهم العسكرية فشلوا فشلا بينا فى سياستهم داخل العالم الإسلامى الذى حكموه دهرا.. فإذا الحضارة الإسلامية المتفوقة تتراجع، وإذا الثقافة العربية ـ وهى شريان الحياة الإسلامية ـ تذبل، وتلفت المسلمون من المشارق والمغارب، فإذا الأزهر، وبعض المعاهد المشابهة هى التى بقيت وحدها تمد الإسلام والمسلمين برشفات المعرفة التى تحتاج إليها الأمة الكبيرة كى تحيا. والواقع أن الجامع الأزهر هو المستقر الذى أوت إليه علوم الدين واللغة، وأضحت القاهرة به العاصمة الثقافية للعالم الإسلامى أجمع، وهرع الطلاب إليه من شواطئ المحيطات الهادى والهندى والأطلسى. وإلى أن طلبت العلم فى الأزهر كان لى زملاء من الصين واليابان وإندونيسيا شرقا، ومن المغرب والسنغال والجزائر غربا..! وفى الغارة(1/147)
الصليبية المعاصرة على العالم الإسلامى كان لابد من وضع خطط خبيثة لإنزال الأزهر عن هذه المكانة، ومنعه من تأدية وظيفته الخطيرة، وتجفيف الينبوع الذى يستقى منه ص _146
المشارقة والمغاربة أصول دينهم ومعالم وحدتهم وعناصر وجودهم المادى والأدبى، وبذلك يمكن الإجهاز على أمة أحاطت بها الذئاب. ونحن نعتقد أن القرآن باق ما بقيت الحياة على هذا الكوكب! وأن المسلمين باقون ما بقى القرآن! وأن الأزهر باق ما ظل ولاؤه للإسلام حيا وجهاده له قويا..! ولنقل فى صراحة إن الاستعمار العالمى لا يسوءه أن ينبغ فى القاهرة طبيب يسبق زملاءه فى مستشفيات لندن أو موسكو مادام هذا الطبيب ملحدا أو مقطوع الصلة بالإسلام، فالعبقرى الملحد يمكن أن يعمل تحت أى راية، وأن يستأجر فى أى ميدان، إنه كالجندى المرتزق يشترى بالثمن الغالى أو بالبخس. ومن ثم فالجامعات المدنية البحتة لا تخيف الاستعمار، بل قد يعينها ويشجعها! إن الاستعمار يخاصم بعنف كل عمل له صبغة إسلامية، ويشتد غضبه إذا رأى الثقافة الإسلامية تملك زمام التوجيه، أو رأى الأزهر يخرج علماء أوفياء لدينهم، مشربين روحه، متابعين فتوحه العقلية والأدبية. وهذا الموقف الحقود يفرض علينا مزيدا من الحذر فى حماية أنفسنا وتحصين قلاعنا واكتشاف ما يبيت حاضرنا ومستقبلنا، ويفرض علينا قبل ذلك كله أن نصحح أخطاءنا ونسد الثغور التى اقتحمنا منها، وتسلل العدو منها إلى حمانا. إن التعليم الأصلى فى صدر الإسلام ـ ولم يكن ثم غيره ـ لبى حاجات الأمة التربوية والتشريعية والأدبية، وقدر قدرة تامة على تكوين أجيال ناضجة، وجعل المسلمين ـ عالميا ـ أمة تعطى أكثر مما تأخذ، بل جعلها تدفع ولا تندفع، تغزو ولا تغزى نعم.. كان المسلمون بازدهارهم العلمى الأمة الأولى فى العالم..! ثم حدثت بعد ذلك أمور ليس هنا مكان متابعتها، فلنقفز قفزة واسعة لنرى هذا التعليم من نصف قرن فقط. وسأجعل نفسى ومراحل دراستى منطلق التعليق الذى(1/148)
لابد منه! فى الصف الثانى من المرحلة الابتدائية درسنا تاريخ الدولة العثمانية حسنا، إن دراسة أى شعب إسلامى أمر واجب ، فالمسلمون أمة واحدة غير أنى أتممت دراستى الأزهرية التى استغرقت خمسة عشر عاما، دون أن أدرس حرفا عن المسلمين جنوب شرقى آسيا وجنوب آسيا نفسها، وشمال أفريقيا وغربها فى العصر الحديث! لم نعرف حرفا عن الاستعمار الهولندى لجزر إندونيسيا، ولا الأسبانى لجزر سولو ومندنا وسائر الجزر التى سميت بعد (الفليبين)، لم نعرف كيف استعمر الفرنسيون الهند الصينية ولا ما حدث للمسلمين فى فطانى والملايو وسنغافورة.. الخ. ص _147(1/149)
وما يقال عن هؤلاء يقال مثله عن جهلنا المطبق بمسلمى التركستان الصين! والروسية وبقية الشعوب الإسلامية التى ابتلعها التنين الروسى. أما القارة السوداء ـ والإسلام هو الدين الأول فى أقطارها ـ فالوضع أدهى وأمر ، وقد أنشئت فيها الآن خمسون دولة وزع المسلمون عليها بخطة بالغة الخبث كى يذوبوا على عجل أو على مكث! المهم أن يذوبوا على مر الأيام. لقد تبين نى أن دراستنا للتاريخ الإسلامى ضحلة، وأن دراستنا للتاريخ الإنسانى فوق الصفر بقليل. كيف هذا؟ إن رسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقارات كلها، فكيف نجهل هذه القارات ولا نعرف ما يعمرها من أجناس ومذاهب وفلسفات؟ ولماذا نلوك بألسنتنا أن رسالتنا عالمية، دون أى سعى للاتصال بهذا العالم الرحب؟ ولماذا انتظرنا حتى اكتشف غيرنا الأمريكتين وأستراليا ووضع عليها طابعيه المادى والأدبى، ثم جاء يطرق أبوابنا وهو يجرر أذياله خيلاء واستعلاء ليعلمنا ما لم نكن نعلم؟ إن القرآن الكريم يجعل السياحة من خلال الفضل، ويجعل دراسة التاريخ كله من مكونات العقل! (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون). الحق أن المشرفين على التعليم الأصلى من أمد طويل فرطوا فى حقوق الأخوة الإسلامية حين فرطوا فى دراسة الأجناس التى اعتنقت الإسلام، وعموا عن قضاياها المصيرية، ونسوها على هذا النحو الشائن. وأساءوا إلى عالمية الرسالة المحمدية حين انطووا على أنفسهم وانشغلوا بمشكلاتهم تافهة كانت أو جليلة، فكانت عقباهم هذا البلاء الذى نزل بهم من كلاب الأرض وذئابها. وقفت ـ وأنا أزور البحرين ـ أمام بقايا قلعة برتغالية لا تزال جاثمة على أرضنا، وغصت فى أعماقى أنبش معلوماتى التاريخية، متى وصل القراصنة هنا؟ ولم أستطع الإجابة! وسكت وأنا محزون. ولأترك تقصيرنا فى دراسة التاريخ الإسلامى، وتقصيرنا فى الإلمام بمعالم تاريخ الإنسانية قديما وحديثا، ولانتقل إلى موضوع(1/150)
آخر.. إن التشريع الإسلامى أنفس مواريثنا الحضارية. ص _148
والقانون الرومانى إذا قيس بفقهنا الرحب كان كالكوم التافه إلى جوار جبل أشم. وعلم أصول الفقه هو كما قال الشيخ مصطفى عبدالرازق آية العبقرية العربية وهو أدل على فكرنا وأصالة بحثنا من الفلسفة الإسلامية لأنه نتاج إسلامى خالص رائع. غير أن علم الأصول فى دراساتنا الأخيرة أمسى علما أثريا هامدا يحفل بالأقوال والمناقشات الحرفية، ولا صلة له بتشريع خاص أو عام، وقد جدد الشاطبى منهجه فى الموافقات، كما أن لبعض المذاهب الفقهية قواعد أصولية جديرة بالحفاوة! ولكن ذلك كله مهجور فى دراستنا. والمادة العلمية لا تعدو التلخيص أو التمطيط، والاطلاع النظرى على مخلفات الماضين. أما الفقه الإسلامى الذى استبحر قديما وحكم العلاقات الدولية كما حكم الروابط العائلية فهو يحيا الآن على هامش المجتمع الإسلامى ريثما يتم رميه بعد حين فى سلال المهملات. فقه لا يستفتى فى الشئون العمالية أو الدستورية أو الدولية، وقد يسمع قوله أحيانا فى بعض الشئون، أو لا يسمع. ورجال التعليم الأصلى مسئولون عن هذا المصير الكابى، فنحن ندرس الفقه على نحو عقيم أو قليل الجدوى، وأذكر أنى فى الحادية عشرة من عمرى بدأت أدرس فقه العبادات على المذهب الحنفى وكان زملائى الآخرون يدرسونه على مذاهب أخرى. وفى ظنى أن الفقه المذهبى نوع من التخصص العلمى، التخصص المبكر الذى لا معنى له. ووددت لو تعلمنا العبادات من خلاصات سهلة من الكتاب والسنة ثم بعد فترة نتوزع على الفقه المذهبى، ولا بأس أن يدرس الطالب أكثر من مذهب فقهى إذا كان سيتجه إلى هذا الميدان. ويجب أن تدرس المذاهب على أنها وجهات نظر متساوية القيمة وأن تناقش الأدلة وتوزن الاتجاهات بحياد علمى وصدر مفتوح لا مكان فيه للخصومة والجفاء وتفريق الأمة. وأرى أن يوضع حد للتقطع القائم بين آراء الفقهاء الكبار، وأن يدرس الأزهر ابن تيمية، وابن حزم وغيرهما إلى(1/151)
جانب الأئمة الأربعة.. إننا نواجه طوفانا من الأفكار والموازين الشائعة للحقوق والمصالح ولا مساغ لمقابلة هذا الطوفان بفكر إسلامى واحد، بل يجب أن يقابل بجميع المدارس الفقهية عندنا. ص _149
ثم إن الخلود لكتاب الله وسنة رسوله لا لاجتهاد بشر، ويعنى هذا ألا نتحرج من وزن الاجتهادات القديمة وأن ننفض يدنا من بعضها إذا بدا أن لا مجال لبقائه. ألا ترى ابن تيمية عد الطلاق الثلاث واحدا، لما رأى أن اجتهاد عمر فى إمضائه ثلاثا أدى إلى نتائج سيئة؟ لقد عاد به إلى الأصل على عهد النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعهد أبى بكر.. وهناك اجتهادات كثيرة ينبغى أن يتوفر الراسخون فى العلم على وزنها وإعادة تقويمها حتى لا يجىء امرؤ يخدم الاستبداد السياسى بدعوى أن الشورى لا تلزم حاكما.. مثلا.. والقضايا الاجتهادية كثيرة، وقد نستبدل اجتهادا باجتهاد، أو نأتى بجديد تحتاج إليه الأمة وتقره النصوص والقواعد. وأحسب أن فقه العبادات سوف يبقى على حاله. أما الفقه الإدارى والدستورى والدولى فإن تياراته الراكدة يجب أن تتحرك، وأرى لفيفا من المسئولين عن التعليم الأصلى كانوا باسترخائهم وتقاعسهم سببا فى انهزام الشريعة وهجوم قوانين دخيلة على دار الإسلام، أى أننا أزرينا بأفضل مواريثنا، ومكنا لتشريعات وضعية معيبة أن تتسلل وتحتل أرجاء المجتمع، مع الغنى التام عنها. وأعود إلى ذكريات تعليمنا الثانوى، كانت الشهادة الثانوية قسمين أولا وثانيا، وكان مفروضا فى القسم الأول أن ننال من علوم الكون والحياة والرياضة ما يناله زملاؤنا من طلاب التعليم المدنى، لا نقل عنهم إلا معرفة اللغات. ثم شكا بعض قصار الباع من هذا الوضع فإذا لجنة تتكون لتحذف كثيرا من علوم الأحياء والرياضة والطبيعة والكيمياء بحجة ضعف الطلاب فى العلوم الأصلية! والحجة مفتعلة! وقد نشأ عن هذا الحذف تخرج علماء لا يدرون من العلوم المهمة فتاتا خفيف الوزن. وأحب أن أنبه إلى أن كل قصور فى(1/152)
العلوم المدنية لا يزيد دارسى الدين إلا خبالا، إن الإسلام دين لا ترسخ قواعده ولا تنضج معارفه إلا فى جو علمى واسع الآفاق، ولا أدرى كيف يفهم عظمة القرآن الكريم رجل لم يدرس علوم الأرض والسماء وما بينهما. إننى شعرت بخجل حين استبعد عالم دينى الوصول إلى القمر، وقال فى التعليق على ما أذيع: إنه خبر آحاد! وشعرت بخجل أشد عندما ألف بعض المنسوبين إلى العلم الدينى، بل البارزين فيه كتابا ينكر فيه دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس وساق آيات من الكتاب لم يفهمها ليدعم رأيه. إن عقيدة التوحيد تضار حين يعرضها أولئك القاصرون! وهم معذورون لأنهم لم يعرفوا من العلوم الكونية شيئا، وجل ما يحفظون مرويات تتضمن الغث والثمين، وتعرقل سير الدعوة بل تلقى ظلمات على الفكر الدينى كله. ص _150(1/153)
والواقع أن تكوين العقل الدينى لا يتم إذا كان فى عزلة عن الاستبحار العلمى الحديث، وأهل الذكر لا تستقيم لهم فتوى إذا كانت معرفتهم بالحياة لا تعدو الأبجديات القديمة. وأرى ضرورة تنظيم محاضرات فلكية وطبية وجغرافية وجيولوجية وفيزيائية وكيمائية.. الخ على المشتغلين بالعلم الدينى حتى بعد تخرجهم، فإن التخلف فى هذا المضمار مصيبة. ونلاحظ أن هناك وحشة بإزاء عدد من العلوم الإنسانية مثل علم النفسى والتربية والأخلاق والاجتماع.. الخ. والواجب أن تدرس هذه العلوم وأن توضع فى إطار إسلامى صلب. وعندى أننا لو غربلنا التراث الصوفى وقدرنا جهود ابن القيم وابن الجوزى والغزالى وابن عطاء الله السكندرى وغيرهم لأمكننا أن نخرج بحصيلة رفيعة القدر فى مجال الخلق والتربية والسلوك ولأمكننا أن نصوغ نصف العلوم الإنسانية فى قالب إسلامى جميل ونافع. لقد رفض كثير من الموجهين اعتبار التصوف علما، وتركوه للجماهير تتبع فيه آثار شيوخ لا يحسنون التربية والقيادة، بيد أن هؤلاء القاصرين كانوا أقدر على اقتياد العامة من فقهاء جافين مكروهين فقدوا صفاء النفس وسماحتها وطيبتها. فإلى متى يبقى هذا الموقف الرافض؟ وماذا كسبنا منه؟ كسبنا أن الدين عند العوام وأشباههم جملة من الأحكام الجزئية، والمعارف المبتورة، من ورائها طباع لم تهذب، وأهواء قد تعلن عن نفسها بمكر فى صور الطاعات وقشور العبادات، أما الضمير فميت! إن الدين يفقد جوهره حين تضعف علاقته بالقلب، وعلم القلوب أو علم السلوك وجد فى التصوف الإسلامى خواطره ومراحله، والمهم هو ضبطها بتعاليم الشريعة، ومنع العواطف السائلة الرجراجة من الانطلاق دون حدود. وإنه لمما يعين على إدراك هذا الهدف الاستعانة بالعلوم الإنسانية خصوصا بعدما هجرت منهجها الفلسفى وخطت لها مجرى علميا يحترم الحقيقة ويلتزم بها. والعلماء فى هذا المجال ليسوا سواء، ففيهم المخطئ والمصيب، بل فيهم المؤمن والكافر، فلنغص معهم فى أغوار(1/154)
النفس ولنتقلب معهم فى أرجاء المجتمع، ولنكتشف معهم أسرار البشرية ثم لدينا بعد ذلك كله مهاد من حقائق ديننا نستطيع معه أن نبنى ونعلى البناء. من حسن حظنا أننا نشأنا فى غمار يقظة للغة العربية وقواعدها وآدابها، وفى أيام كان الخطأ في اللغة يعد نقيصة، والبيان الردىء يحسب عجزا، ورزقت اللغة بشعراء فحول وكتاب ص _151
عباقرة، حتى ليمكن القول إن هذه اليقظة عوضت ما أصابنا من جمود طوال العصر التركى، وردت للغتنا شبابا لم تعرفه إلا فى أيام الأمويين والعباسيين. ولا ريب أن الاستعمار العالمى انتابه قلق بالغ لهذا الازدهار فهو يبغى القضاء على اللغة العربية تمهيدا لردم ينابيع الإسلام الثقافية، وجعله رفاتا لا حياة فيه. وقد بلغ الاستعمار كثيرا من أهدافه فى ضرب الشعر والنثر وقواعد النطق ولون الأداء، وذهب (سعد زغلول) الذى لا يقع فى خطاباته السياسية لحن ولا إسفاف! وذهبت المدرسة التى ألفها وجاء أغيلمة يخطبون بالعامية فتسمع لهم بغاما مؤذيا، ورطانات قبيحة. وكان المفروض أن يتحرك رجال التعليم الأصلى لحماية اللغة والدين والدفاع عن العلم والأدب، واستنقاذ التراثين الروحى والعقلى من هذا الطنين السخيف! بيد أن الألسنة خرست لغير سبب. ومن ثم تتابعت الهزائم على لغتنا فى كل ميدان. والذى أنبه إليه أن الأزهر يجب أن يستيقظ ويوقظ التعصب للغة العربية، ويستعجل كل ما يوفر لها الحماية، ويتعاون مع المؤسسات الفنية لمواجهة التخلف الرهيب فى مصطلحات العلوم وألفاظ الحضارة، ويبنى حصونا جديدة تحرس لغة التخاطب من لهجات الرعاع، ومواريثنا الأدبية من فوضى التغريب والتقليد الأعمى. إن الجرأة على اللغة العربية وصلت إلى حد الفحش، والسكوت على هذا الوضع طريق إلى الارتداد عن دين الله. لقد وقعت ـ فى ميدان التعليم الأصلى ـ هنات وهنات، ثم ظلت تنميها وتزيدها سنون كالحات فماذا كان؟ كان أن فقد هذا التعليم تلبيته لمطالب الإسلام وحاجات الأمم، ولم(1/155)
تعد له هيمنة على الحياة العامة، بل عجز عن التماسك أمام زحف التعليم المدنى القادم فى موكب الاستعمار. ونحن نأبى أن نفرط فى هذا التعليم لأن التفريط معناه الانتحار ونريد أن نوفر له أسباب العافية والاكتمال حتى يؤدى رسالته العتيدة، ويستحيل أن ينقه هذا التعليم مما عراه إلا أن يعود كما كان صورة سليمة وسيمة لتعاليم الإسلام فى كل مجال. كنت أقرأ مذكرات تقدم آيات الأحكام لإحدى كليات الشريعة فى العالم الإسلامى، فوجدت الكاتب الفاضل يفسر آية قوامة الرجل على المرأة فيقول: دلت الآية على أمور: ص _152
ا ـ تفضيل الرجل على المرأة فى المنزلة والشرف. 2 ـ أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج. 3 ـ أن له حق الحجر على زوجته فى مالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه.. والمالكية يقولون بهذا المبدأ.. الخ). قلت: فى هذه الكلمات عوج يتصل بالموضوع والعبارة وما يسوغ عرضه على هذا النحو فإن الأخطاء كثيرة..! ومنذ أيام سمعت فتوى بأن المرأة يحرم عليها أن تقود سيارة فقلت: ما علاقة ذلك بأحكام الحلال والحرام! إن عرض الإسلام فى قضايا المرأة من خلال هذه الأفهام المستغربة يهز أركان التعليم الأصلى من الأسس. إن سلفنا عرضوا الإسلام من مصادر نقية ذكية، وجعلوا ثقافته ترجح غيرها بالفقه الواعى فى شتى الميادين. فهل يستيقظ رعاة التعليم الدينى قبل أن يفوت الأوان؟ ص _153(1/156)
أسرار وراء تخلفنا بدأت صناعة الطيران فى مصر والهند فى سنة واحدة، كما بدأت بحوث الذرة تقريبا فى السنة نفسها، وأكب علماء البلدين على القيام بأعمالهم، والاستفادة من التقدم الأوروبى فى هذا المجال. وبعد ربع قرن نجح الهنود فى إنتاج طائرة هندية، كما نجحوا فى صنع قنبلة ذرية! أما عندنا.. فقد توقف مصنع الطيران بعد سنوات معدودة، وتجمد العمل فى وكالة الطاقة الذرية، وإلى الآن لم نخط إلى الأمام خطوة مقدورة! ما سبب هذا الفشل؟ هل العقل الهندى أذكى من العقل المصرى؟ لم يقل ذلك أحد من المعاصرين أو الغابرين! السبب أن استقرار الحريات فى الهند أتاح لكل ذى كفاية أن يعمل وأن ينجح.. وأن النظام الديمقراطى السائد أقام سباقا لا حواجز فيه بين أصحاب المواهب، فانطلقوا بين عوامل التقدير والتشجيع يخدمون أمتهم ويتبارون فى إعلاء شأنها. والنظام الديمقراطى فى الهند (المتخلفة) جعل الحكومة المستولية على السلطة تجرى الانتخابات، فتسقط فيها، وتأتى بالسيدة المعارضة (أنديرا غاندى) لتحكم، وكذلك يتكرر الأمر مع السيدة نفسها فتضع مقاليد الحكم فى أيد أخرى لان الأمة رأت ذلك. إن امرأة تحكم ومعها جهاز شورى دقيق أقرب إلى الله، وأحنى على الناس من مستبد يقف الغراب على شواربه، ويزعم أنه أحاط بكل شىء علما، وهو لا يدرى شيئا. لقد وصف القرآن الكريم المرأة التى حكمت فى نطاق الشورى، وسجل كلمتها لقومها: (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون). إنها تستفيد من كل خبرة، وتناقش القضايا على رؤوس الأشهاد لا بالهمس الجانبى والتآمر المريب. ص _154(1/157)
وبهذا المسلك لا تقبر فكرة، ولا يتوارى رأى، بل تستفيد الشعوب من كل قدرة نفسية أو عقلية. أما فى ليل الحكم الفردى فإن الكلمة للقادرين على الزلفى، والساعين وراء مآربهم الخاصة. وقد استغربت كيف نشأ عالم من الأكاذيب فى دخان هذا الحكم المشئوم.. عندما كانت الصناعة لدينا تتعثر، وأهل الدربة والتجربة يطاردون، وأصحاب الحناجر والمباخر يتصدرون، فى هذا الوقت وقف الرجل المسئول يخطب فى استعلاء وزهو يقول: إننا أصبحنا قادرين على صنع الإبرة والصاروخ! وظهرت فى الصفحات الأولى لجرائدنا ومجلاتنا صور لصاروخى الظافر والقاهر.. فلما جد الجد تبين أن الحكاية كلها هوس، نسج خبالها الطيش والكذب، ودفعنا الثمن من دمائنا وأشلائنا، وسمعتنا وكرامتنا. كان الذى يعترض يطوى ذكره ويمحى أثره! ولقد حدثت مذبحة فى ميدان القضاء عصفت بعشرات من الرجال العدول ذوى الصلابة والنزاهة، فكيف عرض الخبر على الناس؟ عرض على أنه أكبر حركة إصلاح بين رجال القضاء! إن الحكم الفردى يملك دائما أكبر جهاز للأكاذيب. وانتقلت الأوهام من ميدان الصناعة إلى ميدان الزراعة، ومنذ ربع قرن سمعت دق الطبول لكشف لم يسبق له مثيل، أن هناك واديا آخر للنيل تم العثور عليه فى الصحراء، واتخذت الإجراءات لبدء استغلاله.. وانتظرت مع المنتظرين (دون جدوى)! ثم قرأت كلمة لنقيب الزراعيين السابق (شكرى أيوب) كشف فيها عن حقيقة ما يقال فى هذا المجال. قال : إن الرقعة الزراعية فى مصر حسب آخر الإحصاءات هى خمسة ملايين وتسعمائة ألف فدان. ولكن فى السنوات الأخيرة حدثت مزايدات حول المساحة التى يمكن أن تنضاف إلى هذه الرقعة بدأت على هذا النحو. ثلاثة ملايين فدان فى الوادى الجديد ذكرت أيام الرئيس الراحل عبد الناصر! ثم ستة ملايين فدان فى الجنوب الغربى لمصر تزرع من مياه جوفية لا نهاية لها! ثم خمسة عشر مليون فدان تتم زراعتها فى سيناء بجرة قلم..! ثم ثلاثة ملايين فدان فى الساحل الشمالى "مطروح(1/158)
وما ص _155
جاورها"..! ثم خمسة وعشرون مليون فدان تتم زراعتها فى الصحراء الغربية (بالتكنولوجيا) الأمريكية ..الخ. والحقيقة أن الرقعة الزراعية التقليدية تنكمش، وأنها تنقص نحو سبعين ألف فدان كل عام، وإذا لم نستصلح ما يعوض العجز فستكون المساحة المزروعة أقل من خمسة ملايين فدان..! الغريب أن حبل الكذب قصير، ولكنه فى مصر يطول ويطول حتى يباغت الناس بأنهم على الحضيض! أكان ذلك يحدث لو سمح لكل لسان أن يقول، ولكل تعقيب أن يظهر؟ إن كبت الرأى الآخر جريمة، واستغناء الحاكم بنفسه وحواشيه فتنة كبرى وفساد عريض.. والاستبداد السياسى قديم قدم التاريخ البشرى، بيد أنه اتخذ أشكالا جديدة فى هذا العصر، كان (جنكيز خان) أو (هولاكو خان) معروفين بالجبروت، وكما يعرف الذئب بأنه ذئب، والنمر بأنه نمر يعرف الحاكم المستبد بأنه صاحب سطوة لا يعترضها شىء، وأن فى مقدوره اجتياح الأموال، وإزهاق الأرواح دون مساءلة. واللون الدينى للاستبداد لا يغير من طبيعته، هناك فرد مصاب بجنون العظمة، وعبادة نفسه، واتته أسباب القوة بطريقة لما فانطلق يهلك الحرث والنسل، وهو قادر على تطويع الدين لهواه إذا كان ينتمى إلى دين ما، وإلا فدينه الأثير الاستعلاء والاستعباد..! ومع جهود الإنسانية فى مقاومة طغيان الحكم الفردى تغيرت أساليب المستبدين فى إشباع نهتهم وفرض سلطتهم. وقد رأينا الشخص يستولى على الحكم بانقلاب عسكرى مثلا، وخلال أمد محدود يتحول حكمه العسكرى إلى حكم مدنى مهدت له انتخابات مزيفة. ثم تسمع هذا الشخص يقول: إن الشعب منحنى ثقته! إن شعبى حملنى مسئولية قيادته! إن هتاف الجماهير لى يزيدنى حرصا على إجابة رغبتها فى تولى الحكم. ثم يمضى هذا الحاكم فى طريقه يبغى تحويل كل شىء فيتدخل فى الإعلام وفى القضاء وفى الجامعات والمجامع، وفى الأمن والتموين وفى ميادين التجارة والتعمير وفى كل ما أمكن من شئون الحياة الخاصة والعامة، حتى يضمن بقاء الأمور فى(1/159)
يده، واستخفاء المعارضين من طريقه، واستقرار اليوم والغد له ولأذنابه..! ثم تنشأ عندئذ عواصف عاتية تقتلع الأخلاق الشريفة والتقاليد النبيلة، فيعلو السفلة والإمعات، ويتضعضع أهل الفكر وتركد ريحهم وترفض عملات ذهبية، وتروج عملات لا رصيد لها، لأن إمضاء الحاكم عليها..! ص _156
وهذا الحاكم عالم بكل شىء، وقدير على أى شىء، وربما يكون عاجزا عن حل معادلة جبرية عادية، ثم يعرض عليه ملف (اينشتين) فينظر فيه بازدراء، ثم يقول: هذا الشخص معارض لنا، أو هذا الشخص لم يسمع منه ثناء علينا! كان يجب طرده من وظيفته، ولكن ـ عطفا منا عليه ـ ينقل إلى العمل بإدارة المخازن! ثم تنشر الصحف نبأ ترقية (اينشتين)، وعطف الرئيس عليه..!! والاستبداد بأساليبه الجديدة سبق الاستبداد القديم بمراحل، فعندما أراد الملك فاروق قتل حسن البنا دس عليه من اغتاله فى جنح الليل بعيدا عن دائرة القانون. أما الرئيس الحر قائد الأحرار فعندما أراد قتل زعماء الإخوان المسلمين شكل محكمة علنية قتلت ستة منهم بجرة قلم. وباركت الصحافة (الحرة) هذا العمل، وحيت القضاء العادل!! ومعروف أن الاستبحار العلمى سمة هذا العصر، وأن الأمم تتنافس فى استكشاف أسرار الأرض والفضاء، وتستغل حصائل هذا السباق فى دعم كيانيها المادى والأدبى. غير أن انعدام التقدير واختلال الموازين يرميان الهمم بالتعود ويحملان الرجال على اليأس فكثير من العلماء لا يعمل فى مجال تخصصه، وكثير من العاملين لا يلقى الحفاوة الواجبة. وفى حديث للدكتور إبراهيم بدران نشر أخيرا قرأت أنه فى كل سنة يحصل 400 مصرى على الدكتوراه من مصر والخارج وفى كل سنة يهاجر من مصر 400 مصرى من حاملى شهادة الدكتوراه (!) وأن هناك 80 حاملا للدكتوراه فى صناعات الغزل والنسيج لا عمل لهم فى ميدانى الغزل والنسيج! فى أى ميدان يعملون؟ ثم هناك شكوى تشبه الأنين من تجاوز الكفايات وإهمالها وتفضيل غيرها عليها..! لقد فوجئت بترشيح طبيب(1/160)
مصرى لجائزة نوبل، لم أسمع باسمه من قبل، كنت أسمع بأسماء الأطباء المشتغلين بتحديد النسل، أو المسبحين بحمد الرؤساء. غير أن الذين يقدرون العلم المجرد ـ من وراء حدودنا ـ وضعوا أيديهم على اسم الطبيب النابه وقرروا تكريمه. إن الأوضاع السياسية فى عالمنا العربى تتأخر عن الأوضاع السياسية فى العالم الحر عدة قرون. وأثر الاستبداد السياسى فى تعويق العمران وتخدير النشاط الإنسانى معروف، ومن ص _157
خمسين عاما أو يزيد والدمار الحضارى يجتاح العالمين العربى والإسلامى، ويبعثر العلل فى نواحيهما المختلفة إلا أن هناك أثرا آخر لذلكم الاستبداد يجب فضحه، فإن الاستعمار لما اشتبك مع المسلمين فى أقطار كثيرة، وشرع تحت ضغط المقاومة الدائمة ينسحب من هنا وهناك رأى أن يغطى انسحابه بحكومات تحقق مآربه، هان كان عنوانها قوميا بحتا. وتأكدت هذه الخطة بعدما ظهر أن النظام (الديمقراطى) منح الإسلام فرص الحياة، وأتاح للشعوب أن تتمسك به وأن تعود إليه. عندئذ بدا أن (الانقلابات العسكرية) أفضل أداة لسحق التعلق بالإسلام وتدويخ المطالبين ولن تعدم القوى المعادية للإسلام بعض الشباب العابد لنفسه، المحتبس فى مطامعه، المفتون بنزعات مستوردة من الشرق أو الغرب، ليقوم بهذا الدور الخئون. وانتشرت بدع الحكم العسكرى فى أغلب الأرجاء، وأمكن تغطية أظافره وحوافره بقفازات من المظاهر الديمقراطية الكاذبة، ودخلت الجماهير المؤمنة فى صراع رهيب مع حكام يرنون بعيونهم إلى الشيوعية أو الصليبية، ويطوون صدورهم على كره شديد للإسلام وأهله. وبهذا الاستبداد الجديد زاد التأخر الحضارى للمسلمين كما ازداد التفلت من قيود العقائد والأخلاق، وتضاعفت العلل التى تعمل فى كياننا. وجاءت من الخارج نجدات لدعم اقتصاد منهار، أو تخلف مخز! ولكن شرط استمرار هذه النجدات هو الاستمرار فى سحق الإسلام والبعد عن مناهجه ولو أن إحصاء دقيقا نشر عن الخسائر الإسلامية بدءا من مصطفى(1/161)
كامل إلى أنور السادات لكانت الحقائق مفزعة، والغريب أن الإسلام لا يزال حيا برغم ما كابد ويكابد من إهانات وجراحات، وبرغم ما قدم ويقدم من ضحايا وشهداء. لما كنت أحد الذين يعملون فى الميدان الإسلامى فقد لفتت نظرى أمور أجد من الإثم كتمانها، لقد ظهر لكل ذى عينين أن الاستبداد السياسى هو قاتل الإسلام، ومغتال رجاله، والماكر الأخبث بقضاياه وآماله، ومع ذلك فإن عصابات كبيرة من المنتمين للدين باردة المشاعر بإزائه، كسول أو جبانة فى التصدى له. وربما استرسلت فى حديث عن حمل المسبحة أو سنة حمل العصا (!) وربما التهبت مشاعرها فى حديث عن شعر المرأة أهو عورة مغلظة أم مخففة؟ وربما اشتبكت فى صراع قاس حول تلاوة القرآن قبل صلاة الجمعة.. إلى غير ذلك من القضايا الثانوية أو الثالثية! أما حقوق الإنسان، وضمانات القضاء العادل، وتوفير الحريات الأساسية وكسر كبرياء ص _158(1/162)
الجبابرة، وتحريم الحبس أو الاعتقال الإدارى ومراقبة المال العام تحصيلا وإنفاقا.. إلى آخر ما يضبط العلاقات بين الحاكم والمحكوم فهذا شىء كأنه خارج عن نطاق الفقه الإسلامى. وقد لاحظت بحزن أن الأقليات السياسية التى تولت الحكم بطريق التزوير هى التى قتلت حسن البنا، وطوحت بنا فى المنافى البعيدة، ومع ذلك فإن لفيفا كبيرا من المتدينين لم يخاصم مزيفى الانتخابات، ولم يبال بغياب الحريات السياسية. الحقيقة أن هذه العصابات البليدة لا تعرف الدين ولا تؤمن عليه، بل إننى أطلق القول دون حذر، إنه حيث يخف الفكر ويرجح الهوى فارتقاب الإسلام عبث! نعم.. لا دين مع ضعف العقل، وغش القصد، وإن طال الصيام والقيام. هؤلاء الناس امتداد فى تدينهم للجيل السابق، الجيل الذى سقطت فيه الخلافة، وخان العرب الترك، وظلم الترك العرب، وانقطع ما أمر الله به أن يوصل، ووجد الاستعمار فيه المجال ليعبث بنا كيف شاء. وهذا الجيل الذى ورثناه أثر لجيل سبقه احتوى من أسباب الانحراف ما شرد به بعيدا عن الصراط المستقيم. إن بغاة الإصلاح لا يرتبطون بمفاهيم أو تقاليد قريبة وإنما يرتبطون بالمنبع الأول، والتطبيق الراشد المأثور عن سلفنا العظيم، ولم يكن فيهم من تفرعن فى الحكم أو افتات على الأمة، أو أراد الحياة الدنيا وزينتها. وقد وقعت أزمة الحكم فى أيدى أشخاص ليس لهم تقوى أو شرف، فأسفوا واعوجوا كما أن أمتنا برحت بها على طول التاريخ علل مقعدة، فسقطت دون المكانة المأمولة لها. ومن المتدينين من يعجز عن إدراك شىء من هذا كله، فهو يتعلق بالإسلام على ضرب من السذاجة والقصور، ولو قيل له: حدثنا عن تصورك للإصلاح السياسى لرجع إلى (الأحكام السلطانية) للماوردى يستفتيها فيما كان ويكون. وقد راعنى ما وقع من بعض علماء الدين فى هذه الأيام! أننا فى أوائل القرن الخامس عشر وأعقاب القرن الرابع عشر للهجرة نرزح تحت سلطات مبيرة، أهلكت الحرث والنسل. وقد كادت تزول مدن(1/163)
إسلامية من ضراوة الاستبداد السياسى. وما وقع لـ (حماة) أنكى مما وقع لى (بيروت) العربية المسلمة، وقد تواطأ الإعلام العربى على الصمت المهين بإزاء هذا البلاء المبين. فى هذا الوقت الذى أكل فيه الاستبداد أمتنا تسأل عمامة كبيرة عن حكم الشورى فى ص _159
الإسلام فيكون الجواب: يحسن بالحاكم أن يستشير، وعلى أهل الرأى أن يقولوا ما عندهم، وللحاكم بعدئذ أن ينظر فيه (!) فإما قبله، وإما رده، وله أن يمضى على ما يرى وحده (!). هذا الكلام لو قاله أحد الغوغاء فى قطر آخر لضرب على فمه، واستبعد من عداد أهل الرأى والثقة، ولكنه فى ميدان الغش الدينى والعبث بالإسلام يقال على أنه دين. إن هذا الكلام قاله بعض الأقدمين دعما لحاكم بأمره أيام انهيارنا التاريخى، فبأى عقل يقال فى هذه الأيام؟ وإذا كان الحكم الفردى قد وجد قديما من يصطنع الفتوى له، أفما يستحى من يرى أمته تحت أقدام الطغاة ثم يرسل هذا اللغو؟ والاستبداد السياسى فى أقطار كثيرة يمهد لفرية استعمارية خبيثة، تقوم على أن الأديان كلها وجوه مختلفة لحقيقة واحدة، وأنه لا فرق عند التعمق بين التوحيد والتعديد والمجوسية واليهودية والإسلام والنصرانية! وأنه يجب تجاوز الخلافات السطحية بين هذه الملل جميعا. وقد وجدت هذه القالة السخيفة رواجا لها بين زعماء (إندونيسيا) واستطاع التبشير العالمى أن يخلق لها قدمين تمشى بهما فى الناس. ثم تبنى هذه الأكذوبة من لا وزن له فى ميدان الفكر، أهواؤه تغلف حياته الظاهرة والباطنة، وفى لحظة هوس قرر أن يبنى مجمعا للأديان فى سيناء (!) وزمرت الصحافة وطبلت لهذه الخاطرة المخبولة،، وفى عيد من الأعياد رأيت صورة لهذا المسئول فى (وادى الراحة) قريبا من المكان المعد لبناء المجمع الموعود. لم أجد حاخاما معه ولا كاردينالا، ولا كاهنا بوذيا أو هندوكيا. الشىء الوحيد الذى وجدته مع هذا الشخص واحد من الشيوخ الأذلة يتبع سمسار التبشير العالمى، ويقدم موافقة(1/164)
الإسلام على المجمع المقترح! إن الحكم الفردى فعل بنا الكثير، وأصاب ديننا فى مقاتله، ولولا أن الله كتب البقاء لهذا الدين لأمسى رفاتا تحت الثرى، لشدة ما يلقاه من كيد الجبابرة والفراعنة. ومع ذلك تجد رويبضة يتحدث فى الإسلام، فيصدر الفتوى بأن للحاكم أن يمضى على رأيه، غير متقيد بأجهزة الشورى، ولا خاضع لتوجيهها. والعالم كله يعرف عن الحكام فى دار الإسلام ما تسود له الوجوه، ويلحق الشين بتراث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووحيه ومكانته. ص _160
إن أخطاء كثيرة، بل خطايا فاحشة تخالط اليوم التقاليد والتعاليم الإسلامية وتكاد تفقد الإسلام وجاهته ومكانته. وما سقته آنفا مثل وحيد من أمثلة شتى، وقد أخذ الله علينا الميثاق أن نبين ولا نكتم. ولذلك ألفت وأؤلف، وأنا راغب إلى ربى بهذه الصحائف، رجاء أن تكون تكفيرا لسيئاتى، ونورا يسعى بين يدى يوم الحساب. ص _161(1/165)
حول مجزرة بيروت تابعت مجزرة بيروت بصدر منقبض يرين عليه القنوط! ولم أكن أكتم قراءة خبر أو سماعه لأن أوائل الكلام تدل على نهايته، ولا طاقة لى على مزيد من الأسى. قال الأوربيون: القتلى دون الألف، وقال العرب: فوق الألف، واتفقوا أن بطونا بقرت واندلقت أحشاؤها، وأن وجوها شوهت وذهبت محاسنها، وأن أطفالا طاحوا وأمهاتهم يدفعن عنهم فجمعت بينهم أكوام الجثث، وأن رجالا ضربوا بالرصاص وهم موجهون إلى الجدران، وآخرين ضربوا وهم يحاولون الهرب، وأن أسرا أبيدت وهى تتناول الطعام فى أمان، وأسرا أخرى أبيدت وهى تسمع الإذاعة.. الخ. واختلف رواة المأساة من القتلة؟ قال اليهود: هم نصارى الكتائب اللبنانية. وقال الناس: اليهود مهدوا الطرق وفتحوا أبواب المخيمات وأشرفوا على المجزرة فى رضا وسكون. وقال بعض المنصفين: نكون لجنة تحقيق تحدد المجرم! وقال اليهود: لا، إن تكوين لجنة تحقيق يوحى بأن هناك جريمة وأننا مساءلون عنها! وتحركت دول عظمى لتمنع المزيد من القتلى، أما من سفكت دماؤهم فقد انضموا إلى أسلافهم فى (دير ياسين) و (كفر قاسم) و (قبية) و (تل الزعتر) الخ.. ما أرخص دماءنا نحن المسلمين، وما أشد ما نزل بنا من هوان. وتحركت عواطف الأخوة فى قلبى، وقلت: على الأهل والأقارب وإخوان العقيدة فى كل مكان أن يتعرفوا ما يفعلون، وأن يتحركوا لمواجهة غد مظلم مشئوم. ومن المصادفات أن تقع مجزرة بيروت قبل عيد الأضحى بأيام معدودات فقلت: لابد أن أحدث المسلمين أن السرور حرام، وأن ملاهى العيد يجب إلغاؤها، وأن مشاعر الحزن والغضب ينبغى أن تستوعب العالم الإسلامى كله، بين المحيطات الهادى والهندى والأطلسى. ثم تذكرت أن صعود المنابر محرم على وعلى أمثالى من الموجهين الأحرار.. فاحتبست نيتى فى صدرى وأخذت أدور بها هنا وهناك لا أدرى ما أفعل!. إننا معاشر المسلمين فى أوضاع متردية مهينة تجعل الأوغاد يركبوننا وهم آمنون، فنحن نضرب ولا نضرب، وينال منا ولا(1/166)
ننال من أحد!. ص _162
ورمقت صورة أمامى فى إحدى الصحف لعظماء القوم فى موقف احتجاج على ما حدث، لقد قرروا الوقوف دقيقة صمت وحداد.. نظرت إلى القامات المنتصبة فى تظاهرة الرياء والخسة، ثم أعرضت عنها وأنا أشعر بالازدراء. إن ما يفعله أولئك العرب هو هو ما فعله الغاضبون للهوان الإنسانى فى عواصم العالم الأخرى.. أهذا كل ما نقدمه من عمل فى مجزرة بيروت؟ وأدركت أن ما أرتقبه من غضب وألم وهم واهم، إن المسلمين شغل بعضهم عن بعض، وانقسموا إلى قوميات شتى لها فى عالمى السياسة والاقتصاد مذاهب، ولها فى شعاب الدنيا منازع ووجهات. إنهم على ضفاف الأردن وفى قطاع غزة مضربون لأن الرحم ماسة واصلة قريبة، أما فى وادى النيل والشمال الأفريقى، أما فى شبه الجزيرة وآسيا الصغرى فالإحساس أضعف والآلام أخف، ويتلاشى كل شىء وراء ذلك من دار الإسلام. ولمت نفسى كيف ارتقب حقوق الأخوة الإسلامية إذا كان الإسلام نفسه فى محنة؟ إن اليهودى فى (أمريكا) يغضب لمصاب أخيه فى (روسيا) لأن اليهودية موجودة! والولاء السياسى لها قائم! والتنادى باسمها مسموع! أما فى بلادنا فإن رئيسا عربيا يواجه هذه الحقيقة بقوله: لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين، إنه يقول ذلك للمسلمين وهو يرى أن السياسة أقامت لليهود دولة على أنقاضنا، وجعلت الانتماء لها يتجاوز الحدود الإقليمية، والأوضاع الدولية. فإذا حاول داعية استثارة الشعور الإسلامى ضد مذبحة يهودية وقعت بالمسلمين، استنكر كلامه واقتيد إلى السجن أو المعتقل. لأن السياسة ـ التى أقامت لبنى إسرائيل دولة ـ محظورة على المسلمين المستضعفين.. والرئيس الذى قال هذا الإفك يريد ترضية المسلمين بواقعهم الممزق ووجودهم الصورى، فهو يفخر بصداقة (بيجين) وهو يريد كسر حاجز الخوف بين العرب واليهود.. ولقد نوم الناس كما طلب منه، وأتاح لليهود أن ينفردوا بالفلسطينيين واللبنانيين ويقتلوا منهم عشرات الألوف. إن عبادة (الذات) أو(1/167)
عبادة الدنيا مرض قديم أو هى خمرة أسكرت نفرا من الحكام فدارت برؤوسهم وأدارت شعوبهم معهم، فإذا الكيان الإسلامى يتقطع فى مواضع كثيرة، وإذا الأعداء ينفردون قديما بالقدس أو بأنطاكية أو ببغداد، أو الفليبين أو نيجيريا، ويذيقون أهلها الحتوف، وبقية المسلمين فى المدائن والقرى جاهلون أو عاجزون..! أمس كنت أتابع الاستماع إلى آخر الأنباء عن مجزرة الفلسطينيين فى بيروت، وسمعت أن رفات الموتى لا يزال متناثرا فى أنحاء ص _163(1/168)
المخيمات، وأن عفونة الجثث بدأت تغير رائحة الجو، وأن رجال (الصليب الأحمر) شرعوا يحفرون مقابر جماعية ليخفوا آثار المأساة أو ليمنعوا انتشار الأوبئة. وحولت مؤشر (الراديو) لأسمع كلاما آخر فإن روحى يكاد يزهق من الحزن! وصدمت أذنى إذاعة القاهرة وهى تقدم للمستمعين فى فترة الظهيرة من 21 سبتمبر سنة 1982 ـ أو أيلول الأسود كما يسميه البعض ـ أغنية عبد الوهاب ( ليلنا خمر..)!! ورأى أحد جلسائى تغير وجهى.. وهمست وأنا مستغرب: كان من الممكن أن تقدم الإذاعة للمغنى نفسه، وللمؤلف نفسه قصيدة (أخى جاوز الظالمون المدى) فما هذا العمى؟ إن قصيدة (ليلنا خمر) ما يجوز أن تذاع أبدا.. فالإسلام يحرم الخمر ليلا ونهارا.. وعندما كانت الخمر مباحة فى الجاهلية العربية حرمها العرب على أنفسهم عندما يضامون ويكون لهم ثأر، حتى لا تنسيهم الخمر ألمهم وتسليهم عن مصابهم. فكيف يسمعون الآن من يغنيهم بصوت رخيم ( ليلنا خمر)!. لكن واضعى البرامج والمشرفين على الإعلام فى واد آخر، إنهم ينادون من مكان بعيد..! ويظهر أن العرب أصبحوا الآن بعرا على صعيد هذه الأرض، فهم يتلقون الأذى سكارى أو طلاب سكر!.. وفى الوقت الذى يمكن فيه قادة اللهو من تنويم الأيقاظ نمنع نحن من إيقاظ النيام! ماذا يطلب صانعو المذبحة أكثر من تخدير المشاعر وتدويخ الأفكار والحيلولة دون كل إحساس بالفاجعة وطلب للقصاص وأخذ بالثأر؟ لكن لماذا تهدر دماء المسلمين عالميا على هذا النحو الشائن؟ هناك سببان قائمان لهذه المجازر، أولهما يرجع إلى تعاليم حرب الإبادة التى حواها العهد القديم، ولا يزال يعتنقها كثير من اليهود والنصارى، وقد شرحناها فى مكان آخر من كتبنا. أما السبب الآخر فيعود إلى طبيعة الحكم فى البلاد الإسلامية، والفجوات العميقة بين الشعوب وأصحاب السلطة ووقوع أزمة الأمور عادة بين جلادين لا يرحمون. إننى ـ وأنا أكتب هذه السطور ـ أقرأ وأسمع عن الإضراب العام الذى أعلنه العمال(1/169)
فى إنجلترا احتجاجا على سياسة الأجور. الألوف المؤلفة تحدت الحكومة هناك، وانتهى اليوم العاصف دون أن تسفك قطرة دم أو يخدش ظفر عامل أو شرطى!.. لقد حسدت هذه الأمة! أيمكن أن نرتفع إلى مستواها؟ وراقبت الصراع فى (بولندا) بين الحكومة الشيوعية والشعب الكاثوليكى ونقابة (التضامن) ص _164
التى ينتمى إليها جمهور العمال، لقد ظلت الإضرابات نحو أسبوع، وطال الصراع بين الجيش والعمال، وكانت الحكومة شديدة الغضب عالية الوعيد! وانتهت الأزمة وقالت الحكومة: قتل ثلاثة، وقال الشعب: قتل خمسة. وقلت فى نفسى: لو وقع مثل ذلك لدينا لقتل مئات! بل إن أحداث بيروت أعقبتها تظاهرات صاخبة ـ من الغاضبين للإنسانية المجردة ـ فى بعض مدن أوروبا.. أما العواصم العربية الكثيرة فإن التظاهرات فيها ممنوعة. الواقع أن حقوق الإنسان وكرامات الشعوب والضمانات المادية والأدبية الموفورة للفرد والمجتمع تسود أغلب عواصم الأرض، أما العرب الأشاوس فلهم تقاليد أخرى وشئون وشجون. وعندما تهون الرعايا على الرعاة فكيف لا يغلبها الأعداء؟ إن أغلب الرؤساء لدينا يتولون السلطة بأساليب غير طبيعية، ثم يحاولون إضفاء الصبغة الشرعية عليها بعد ذلك وفى قطيعة تامة بين الأمة والحكام يتم الصلح مع اليهود، وتصدر قرارات يرفضها الإسلام جملة وتفصيلا. ويمكن استئجار أعداد من الغوغاء للتصفيق، ونفر من حملة الأقلام للتسويغ، أما جماهير الخاصة والعامة فلا علاقة لها بما يكون. وقد تكشفت هذه الخبايا للعالم غداة مقتل السادات، فقد توافد رؤساء الصليبية والصهيونية لتشييع الجنازة، ولم يكن غيرهم حول النعش تقريبا. أما سواد المصريين فكان يشجع قافلة الموت ببرود غريب، ونظرات عابرة كأن الأمر لا يعنيه أو كأن شيئا لم يحدث. وتأملت الوفود القادمة أبناء القاهرة وهم مستغرقون فى حياتهم اليومية لا يلفتهم أحيانا إلا تبادل النظرات الصامتة وراء الجنازة وتساءل كثيرون أين الكثرة الساحقة التى(1/170)
كانت تؤيد الصلح مع إسرائيل؟ لقد اختفى الأجراء! وصعب استئجارهم مرة أخرى ولو ليستروا موكب الموت..! والحكام من طراز السادات إذا وقعت بينهم وبين شعوبهم نفرة وشجار كان الموت الذريع هو الفيصل الحاكم. خرست لعمر الله أنفسنا لما تكلم فوقها القدر أما السوريون فإن البعث العربى المتسلط أوقع بهم مجازر رهيبة وجدد ذكرى (نيرون) عندما دمر (حماة) كما دمر الإمبراطور الهالك مدينة (روما). ص _165
والذين شهدوا فاجعة (حماة) يؤكدون أن مصاب بيروت دونها، وأن ألوف المسلمين من رجال ونساء وأطفال بادوا فى هذه الغارة البعثية. ولقد سمع الإرهابى (بيجين) يعتذر بما وقع فى (حماة) عما أوقعه هو ورفاقه بالعرب فى بيروت وغير بيروت. بيد أن فساد الحاكمين فى بعض الأقطار، ومصاب الأمة بهم حينا من الدهر لا يخففان من الفظائع التى تخلفها الحروب الفاجرة، ولا يقللان من غضب الناس عليها، خصوصا عندما يصحب هذه الفظائع توحش شاذ، يقول الأستاذ مصطفى أمين: (سوف يحتاج الرأى العام العالمى لمائة عام، قبل أن ينسى مذبحة اللاجئين الفلسطينيين فى بيروت فى مخيمى صابرا وشاتيلا ولن تكفى مياه الأنهار فى الدنيا كلها لغسل أيدى المجرمين الملوثة بدماء الأبرياء الذين ذبحوا الأطفال وخنقوا النساء وصلبوا الرجال. الذين دفنوا المدنيين العزل تحت التراب أحياء. الذين أرسلوا البلدوزر ليهدم البيوت بمن فيها، ويحول السكان الآمنين إلى أنقاض.. الذين فرشوا شوارع بيروت بدم الأبرياء، وعلقوا جثثهم على الأشجار بعد أن كانت تعلوها الورود والأزهار. لم يحدث فى تاريخ العالم أن ذبح غزاة الأطفال فى أسرتهم والعجائز فى مخادعهم. لم يحدث أن الجثث شوهت بعد قتلها، والسكاكين بقرت البطون بعد ذبحها وجماجم القتلى ديست بالأقدام بعد اغتيالها. هذه الوحشية لم نشهد لها مخيلا فى جيلنا. سمعنا عن هولاكو وهتلر وستالين، ولكننا رأيناهم بأعيننا فى بيروت. صراخ الثكالى واليتامى والأبرياء يصل حتى(1/171)
الآن إلى آذاننا، يحول الصامتين إلى صارخين، والمسالمين إلى غاضبين والمتفائلين إلى متشائمين، وأنصار السلام إلى منادين بالانتقام. إن القبر الهائل الذى حفرته إسرائيل لن يتسع لشعب فلسطين كله، وسيبقى مفتوحا يضم الذين دبروا الجريمة البشعة والذين حرضوا عليها). وهنا سؤال: من الذى يقتص من (بيجين)؟ ويعاقب الإرهابى الكبير وصحبه المجرمين؟ حاكم عربى يقول له مدللا: أيها الصديق العزيز (بيجين)؟ حاكم عربى ينظر خلفه فيجد شعبا يتربص به ويتمنى الخلاص منه؟ حاكم أمريكى يقلب الحقائق ويتهم المكافحين الفلسطينيين بالإرهاب؟ حاكم شيوعى يبيع السلاح للمدافعين بأغلى سعر، ويخذلهم فى الساعات الحرجة؟ إذا لم يعتنق العرب الإسلام وينتموا إليه ظاهرا وباطنا فلينتظروا خسفا ومسخا ومذابح أخرى! ص _166(1/172)
من طوى هذه الصفحة ونشر غيرها المؤسسات التى تشتغل بالتنصير لا تخفى أغراضها، ولا تلتزم النزاهة فى وسائلها! ويسكت عنها فى أغلب الأحوال إذا كان عملها بين المسلمين مهما أسفت فى سلوكها! وربما تعرضت للنقد إذا كان نطاق نشاطها بين قوم آخرين. وقد قرأت فى صحيفة الجمهورية ـ المصرية ـ غضبة للرأى العام فى بريطانيا على هيئة (وورلد فيجن) التى تقوم بالتنصير فى أقطار أفريقيا الوسطى والجنوبية وأمريكا اللاتينية. وتحت عنوان (معونات اقتصادية للضغط الدينى) قالت الجريدة: (إن من بين الاتهامات الموجهة للهيئة المذكورة لجوءها المتكرر إلى التهديد بقطع المعونات الغذائية لإرغام الفقراء الذين يتلقونها على حضور الأنشطة الدينية، وتعاونها مع قوى الأمن القمعية فى هذا المجال وفشلها فى الدفاع عن حقوق الإنسان بين اللاجئين الذين تقوم برعايتهم. وأرى أن هذه التهم يتضاءل كل ما فيها من شر إذا وزنت بما وقع أو يقع للمسلمين الذين يتعرضون للحملات التنصيرية ويذوبون فى صمت تحت وهج حقد لا يفتر! * * * * أحوال المسلمين فى الفليبين: نشرت مجلة (رابطة العالم الإسلامى) مقالا من كتاب لمؤرخ غربى منصف يصف أحوال المسلمين فى الفليبين، والمقال تحت عنوان (عذراء ماليزيا) والمترجم المعلق هو الدكتور مصطفى مؤمن. وأنقل هذه العبارات من المقال الكبير: إن لجنة تنمية (مينداناو) وضعت خطة لتطوير الصناعات هناك، غايتها إقصاء المسلمين وإحلال العمال الصليبيين محلهم، بحجة أن المسلمين لم يتلقوا تدريبات! ومن ثم كانت نسبة العمال المسلمين فى هذه الصناعات واحدا فى الألف. ص _167(1/173)
وجزيرة (مينداناو) يسودها المسلمون، وهم كثرتها الكبرى بيد أن التنظيم الإدارى للبلاد كان همه تشتيت الجماعات الإسلامية، وتفتيت كتلتها وإلحاق الفئات الإسلامية المهشومة بمناطق يسودها النصارى، وذلك لإفناء وطمس الشخصية الإسلامية. ثم يتحدث المؤلف عن الثروات المعدنية فى البلاد فيقول: لعل وجود الذهب فى (مينداناو) والفحم فى (زامبوانجا) وهما منطقتان إسلاميتان ما يفسر الرغبة فى إخراج المسلمين وإحلال المهاجرين من النصارى محلهم. ويقول المؤلف: إن جماعة (ايجلاس) أو الفئران هى أخطر الجماعات الكاثوليكية وأشدها تعصبا ضد المسلمين، ولها تنظيم سرى هدفه الأول الاستيلاء على الأرض الإسلامية، وإبعاد أهلها عنها. ويتدرب أفراد هذا التنظيم فى إسرائيل! تسعيرة للتنكيل: وحفزا للهمم فى إلحاق الأذى بالمسلمين والتنكيل بهم وضعت تسعيرة بالمكافآت التى تصرف لمن يصيب مسلما بإحدى هذه العاهات: ا- أذن المسلم ثمنها 100 بيزوس. 2- أنف المسلم ثمنه 100 بيزوس. 3- إصبع المسلم ثمنها 50 بيزوس. 4- كف المسلم أو ذراعه ثمنها 250 بيزوس. 5- عين المسلم ثمنها ألف بيزوس، أى: ما يوازى خمسة وثلاثين جنيها إسترلينيا. ما أرخص المسلمين! وتشن هذه العصابة حرب إبادة على المسلمين لإخلاء الأرض منهم، وتوريثها للصليبيين.. وذلك تحت سمع الحكومة وبصرها، ورضاها وتأييدها. يقول الدكتور (مصطفى مؤمن): إن الرئيس (ماركوس) يؤمن بالمثل القائل: (فم يسبح ويد تذبح) ! ص _168(1/174)
فهو طالما أعلن للمسلمين: أنه مدين بحياته لجندى مسلم، أنقذه من الموت، إبان القتال مع اليابانيين. وبرغم هذا فأصابع الاتهام كلها تشير إليه، بل لا تشير إلا إليه فى جميع المجازر والجرائم وحمامات الدم التى تسبح فيها جثث الضحايا من المؤمنين الموحدين. والرئيس (ماركوس) أنموذج عادى لأسلافه من الكاثوليك الأسبان الذين غزوا جزيرة سولو، وسائر الجزر الإسلامية المجاورة، ونشروا فيها النصرانية بالسيف، وأطلقوا عليها اسم (الفلبين) نسبة إلى ملكهم فيليب، أحد الذين أطاحوا بالوجود الإسلامى فى الأندلس. وقد بدأ غزو هذه البلاد فى القرن السادس عشر، وإبرازا للغاية المنشودة منه، فقد رصت جثث المقاومين الشجعان على نحو هيئة صليب وذلك سنة 15 ص ، ويقول المؤلف : إنه أول صليب صنع بأجساد المسلمين، ونرجو أن يكون آخرها!! ترى هل تحقق هذا الرجاء؟ * حملة صليبية: على أية حال لقد أخذت الحملة الصليبية مسارها المرسوم فى هذه الجزر النائية عنا (!) ففى هذه السنة أصدر الحاكم الأسبانى العام (فرانسيسكو دى ساندى) أمرا لقائد الحملة المغيرة على أرض الإسلام هذا نصه: (إننى آمرك بسد أفواه الدعاة إلى دين محمد، إذ هو دين شرور وآثام! وليس هناك من بديل عن النصرانية عقيدة ودينا، ولما كان الدعاة القادمون من "بورنيو" مثلهم ـ يعنى إخوانهم فى جزر سولو ومينداناوا وغيرها ـ فواجبك مصارحتهم بأن غرضنا هو تعميم النصرانية! ولدى اعتناقهم لها فسنتركهم يعملون فى أرضهم دون أن يصيبهم أذى من جانب سادتهم النصارى الأسبان، وترصد بقوة من يدعو لدين محمد، وألق القبض عليه، ثم سقه إلى مكبلا مخفورا). وظلت هذه الحرب الصليبية ثلاثة قرون، اعتمد المدافعون على أنفسهم فى كسر تيار الفتنة، ورصد العدوان الهاجم من وراء البحار، على حين كان الأسبان يتقدمون نحو هدفهم بثبات ويضعون خططهم بتؤدة، وأوروبا كلها مسرورة بالثغرة التى أنشئوها فى جنب الأمة الإسلامية ويرتقبون تعميقها(1/175)
والنفاذ إلى ما بعدها. ص _169
وفى مطالع القرن العشرين هبط عدد السكان المسلمين إلى الثلث فى الجزر التى غلبت عليها التسمية الجديدة (الفليبين). * عذراء ماليزيا: ووقع تغيير جديد فى تاريخ الجزر المحروبة ففى 13 آب ـ أغسطس ـ 1898 نزل الأمريكيون (بعذراء ماليزيا) فقد اشتروا (بمائتى مليون دولار) هذه البلاد من مستعمريها القدامى، أخذها الأسبان (خلو رجل) كما يقول المترجم. وأعلن الشعب المسلم الثورة ضد الغزاة الجدد، واستعر القتال ثلاث سنين انهزم المسلمون بعدها! وماذا يستطيعون؟ فى آذار ـ مارس ـ عام 1901 تألفت لجنة من الكونجرس الأمريكى لوضع تشريعات أخرى للفليبين. * الحرب البكتيرية: قال المؤلف: لقد حاولت صرف المسلمين عن دينهم دون جدوى، ولما يئست من تنصيرهم اتجهت إلى عمل آخر فقد رأى الأمريكيون أن خير علاج للمسلمين هو اجتثاث جذورهم بشن الحرب (البكتيرية) عليهم وعلى ماشيتهم، فاجتاحت أوبئة الكوليرا والجدرى والطاعون البانوبى جزيرة مينداناو ثم جزيرة سولو سنة 1903. وبلغ ضحايا حرب الأوبئة حسب تقدير لجنة (تافت) مائتى ألف أو يزيدون، ونفقت مئات الألوف من الدواب بأوبئة الجمرة وطاعون الماشية. وهكذا خسر المسلمون أنفسهم وأموالهم بالخسيس المزرى من الغدر، كما تعرضت للهلاك آلاف مؤلفة من الدواب العجماء التى لا تعرف قبيلا ولا دبيرا. * * * * حملات الإفناء: ثم استقلت الفليبين عقب الحرب العالمية الثانية، بعدما وضعت خطة للقضاء الأخير على المسلمين فى ظل حكم متعصب قذر! ص _170(1/176)
إن الغارة التى شنت على أرض الإسلام كانت من السعة بحيث شملت أغلب قارة آسيا ولنعترف بأنها نجحت فى إنزال رايات الإسلام عن بقاع كثيرة، بدءا من شرق الأورال إلى أودية تركستان الخصبة إلى فيافى سيبيريا، إلى أعماق الهند، وسنغافورة، وتايلاند، والملايو، وإندونيسيا. ومن مئات السنين ونيران المقاومة تشتعل، ومع تلاحق الهزام فإن الجماعات المجاهدة لم يلحقها بأس، ولم تلق السلاح. وقد لبس الأعداء أقنعة شتى، وجربوا خططا ماكرة، واستعانوا بالتقدم العلمى، واستفادوا من الخطأ والصواب، ومع ذلك فالقتال ناشب، والنتائج إن استقرت فى ناحية فلن تستقر فى أخرى؟ وهنا أسائل نفسى: أين نحن من هذه الحقائق المذهلة؟ لقد درسنا ونحن طلاب تاريخ العالم القديم، وتاريخ العصور الوسطى، ونبذا كبيرة من التاريخ الحديث، فلم يذكر لنا شىء من هذه الحقائق! أكان آباؤنا وأجدادنا يعرفونها؟ ما أظن، وما أظن طرفا من هذه الأحداث الهائلة درس فى الأزهر أو الزيتونة أو القرويين أو الحرمين الشريفين، أو الأموى فى دمشق، أو الإمام الأعظم فى بغداد. إذا كان هذا الجهل عن غفلة فهو جريمة يستحق مقترفوها العقاب وإذا كان الأمر هو تجاهل العارف، فالمتجاهلون هنا أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان. إن الإسلام يقيم بين أتباعه أخوة تناصر وتساند، ويفرض على الجسد كله السهر إذا أصيب جزء منه، ويعتد موالاة المعتدين على حرماته نفاقا وارتدادا، فأين الأجهزة الثقافية والسياسية فى الأمة الإسلامية؟ وأجنحتها فى الشرق الأقصى تحطم، وقلبها يهدد وهى لائذة بالصمت. * * * * فوضى.. وجاهلية! لقد وقع تغير كبير داخل الأمة الإسلامية ووراء حدودها. كان عصر الإحياء ابتداء من القرن السادس عشر الميلادى يرقى بالأوربيين رويدا رويدا من الظلمات إلى النور.. من الخرافات إلى الحقائق. ص _171(1/177)
أما المسلمون فإن الفوضى الهائلة كانت تنحدر بهم إلى الحضيض، فوضى سياسية جعلت مناصب الحكم بعيدة عن كل موازين الشرف والكفاية. وأمسى العمل السياسى سوقا لاصطياد المغانم والأسلاب، واختفى منه تقريبا الوفاء بحقوق الله والناس!، والسهر على مصالح الأمة الدينية والمدنية. كانت جاهلية من طراز آخر تعصف بالمسلمين شرقا وغربا، وتوهى صلاتهم برسالتهم الخالدة ودعوتهم الكبرى، وجريهم وراء شهواتهم سكارى وما هم بسكارى. * * * * اهتمامات.. بعض المسلمين: وفساد الإدارة السياسية يعطى حق الحياة لنوع معين من العلم الدينى، إن الحديث عن الحلال والحرام والمعروف والمنكر مرفوض. هناك حديث آخر يمكن التوسع فيه والحماس له وشغل الغوغاء بقضاياه، مثل الصلاة بالنعل أفضل أم مع الحفاء؟ الحج مع التمتع أفضل أم مع الإفراد أو القران؟ مس إحدى السوءتين ينقض الوضوء أم لا ينقضه؟ التراويح ثمانى ركعات أم عشرون؟ القنوت فى الفجر بدعة أم سنة؟.. الخ. ومع الاستبحار فى هذه القضايا هناك قضايا أخرى يجب الانتهاء فيها إلى رأى زائغ (الحاكم لا تقيده الشورى) (الحاكم المغتصب للسلطة لا يقاوم) (الانحراف عن الحاكم فتنة) (اعتزال الفتن إيمان) (تطليق الدنيا أساس التقوى). ثم تشد خيمة الغيبيات السماعية لتنسحب على مساحات كبيرة من عالم الشهادة، فإذا التدين أحاجى وسحر وطلسمات غامضة، وقصور شائن فى ميدان الفكر والاجتهاد وشئون الدنيا. وبهذا التخلف الإدارى والعمرانى، وبهذا العجز العقائدى والأخلاقى، استقبل المسلمون الاستعمار الحديث، فكانوا يصابون بهزيمة تلو أخرى، وتسقط بلادهم بلدا بعد بلد، وبعضهم لا يعرف شيئا عن الآخر ولا عما يلاقيه. ص _172(1/178)
* العرب.. والمسئولية الضخمة: والعرب خاصة يحملون مسئولية ضخمة لا يحملها شعب آخر، فإن أصول الإسلام والتراث الإسلامى من الكتاب والسنة اكتمل بلغتهم، ونهر المعرفة الدينية والأدبية تفجر من منابعهم، وامتد مع التاريخ بلسانهم. فما مبلغ قيامهم بالدعوة الإسلامية؟ وما مدى جهدهم المعنوى فى نقلها من قارة إلى أخرى؟ صحيح أن الإسلام سوى بين الأجناس كلها فى الحقوق والواجبات العامة، وهذه التسوية هى التى مكنت الفرس والترك وغيرهما أن يحكموا العرب، ويأخذوا منهم الخلافة. ولكن ذلك لا يغير من حقيقة أن العرب هم دماغ الإسلام وقلبه! وأن نزول الوحى بلغتهم يجعلهم ـ حكاما كانوا أو محكومين ـ قادة الفكر والفقه والأدب والتربية. وقد حكم الترك، وسقطت الخلافة الأخيرة وهى فى ربوعهم، وكان فساد بعضهم الإدارى وعوجه السياسى وراء المأساة الفادحة. لكن الحكم الفردى المستبد لم يكن اختراعا تركيا، بل امتدادا لشبيه له فى دمشق وبغداد. * * * * الغزو الثقافى: إن الثقافة الجيدة الغنية هى صورة الأمة، وأمارة عظمتها، والسلطة مهما قويت لا تعد شيئا طائلا ما لم تكن جزءا من حضارة الأمة ومعرفتها وتفوقها. وقد رأينا الدول الاستعمارية تسحب جيوشها وتترك أقطارا احتلتها، غير أنها وكلت إلى ثقافتها الغلابة أن تحتفظ لها بكل شىء، فإذا الغزو الثقافى أنكى من الغزو العسكرى، وإذا احتلال العقول أقسى من احتلال الأراضى. إنه لا يستهين بأثر الثقافة إلا أحمق، ومذ أفلح الجهال فى بلادنا، وعبثت أصابعهم بقيادنا، واضمحل العلم وانزوى أهله شرعنا ننهزم فى كل ميدان. وماذا يفعل العقل الإسلامى فى مواجهة خصومه إذا كان فى ميدان العلاقات الإنسانية يرخص الشورى وحقوق الإنسان وأشواق الفطرة وضمانات العدالة وحرمة المال، ويعطى فى ذلك توجيهات ناقصة أو غامضة أو هيابة لأن سطوة الحكم الفردى تعقل لسانه؟ ص _173(1/179)
* الثقافة الإسلامية فى محنة: إن الثقافة الإسلامية فى محنة محزنة! وقد ورثنا خليطا هائلا من المعارف الدينية والمدنية يحتاج إلى نظر فاحص واختيار لبيب. وتعجبنى كلمة الأستاذ (عمر عبيد حسنة) أنه يجب إعادة ترتيب العقل الإسلامى من جديد. أساس هذا الترتيب فيما أرى: تنسيق شعب الإيمان فى سلم يكشف أدناها وأعلاها، وبإحصاء شئون الدنيا التى لا يقوم الإيمان إلا بها، وتوزيع قوى الجماعة عليها، والتعريف بالقطعيات والظنيات فى آفاق التشريع ومواطن التقليد والاجتهاد، والمحاكمة المستمرة لأعمال السلطات الإسلامية وتبيين الخطأ والصواب فى مسيرتها، والمراجعة الواعية لأرباحنا وخسائرنا طوال القرون الماضية. وينضم إلى ذلك كله درس مستمر لأحوال العالم من حولنا، ومبلغ تأثرنا به وتأثيرنا فيه. فإننا لم نحتكر الحياة على ظهر هذا الكوكب، ويستحيل أن نؤدى رسالتنا فيه ونحن جهال به. ولا أزال أؤكد الكلمة الحكيمة: دين الله أشرف من أن يؤخذ من أفواه الحمقى.. لابد من محو هذه الفوضى الفكرية، وإعادة الرشد إلى حياتنا الثقافية، وتمكين أولى الألباب من عرض الإسلام دون تحريف ولا مغالاة دون قصور ولا فوضى. وعودا إلى صدر هذا الحديث ـ على ما به من كآبة ـ أريد أن أعرف: إلى متى يبقى إحساسنا ضعيفا بآلام إخواننا فى العقيدة، وشركائنا فى المبدأ والمصير؟ * * * ص _174(1/180)
وظيفتنا العالمية الإسلام أمة ورسالة.. أما الرسالة فهى الهدى الإلهى الذى يخط لنا الصراط المستقيم، ويدعونا إلى السير فيه. وأما الأمة فهى الجماعة التى تنقل التوجيه الإلهى من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، أى تفهم الوحى وتنفذه وتدعو الآخرين إلى اعتناقه. والمفروض أن تكون الأمة صورة حسنة لرسالتها، صورة لا تفاوت فيها ولا تشويه. ولكن البشر لم يرزقوا العصمة، ولابد أن يقع منهم خطأ فى الإدراك أو السلوك. وهنا ينهض جهاز عتيد بالتنبيه إلى الخطأ والتحذير من بقائه، جهاز الدعوة والأمر والنهى، إن هذا الجهاز يقوم بعمل (الكرات البيضاء) فى الدم عندما تتصدى للجراثيم الغازية فتردها أو تموت دون الاستسلام لها. إنه جهاز يمثل خصائص المناعة ضل العلل المغيرة، ومهمته إبقاء الرسالة والأمة معا على الدرجة المطلوبة من السلامة والاستقامة. وبقاء هذا الجهاز ـ شعبيا ورسميا ـ يؤدى وظيفته يعنى أن الإسلام بخير، وأن أمته تستجيب للأمر الإلهى. وتعميم الخير، وحراسة المعروف، ومقاومة المنكر، ليست وظائف محلية ينهض بها المسلمون داخل بلادهم فقط، ولكنها واجبات عالمية يتصايح بها المسلمون شرقا وغربا ليعرف الناس: من هم؟ وماذا يريدون؟ على أن صلاحية الداخل رصيد لابد منه للدعاية الناجحة فى الخارج، ولا يقبل من امرئ رث الملابس أن يدعو إلى الأناقة. ثم إن القضية الأولى ـ قبل نجاح دعاية ما ـ هى أن تكون الأمة صورة لرسالتها، ووعاء نقيا طهورا لما تحمل من تعاليم وقيم. وواضح أن جهاز الدعوة والأمر والنهى، وهو الخاصة الأولى للرسالة الخاتمة، ولعله سر ص _175(1/181)
خلودها إلى آخر الدهر، فهو يجدد كيانها ويصون حقائقها، ويغنى عن رسالات أخرى تحل محلها. والنشاط الشعبى فى هذا الميدان كان ـ فى تاريخنا ـ أبقى وأنمى وأجدى. وقد سد الثغرات التى أحدثها تخلخل الحكم فى التاريخ الإسلامى المديد، أو رتق الفتوق الرهيبة التى وقعت. فعندما سقط الخليفة الأعظم فى بغداد، وتهاوت الدولة العجوز تحت مطارق التتار، استيقظت أسباب المناعة فى الأمة الجريح وتحركت طوائف الدعاة هنا وهناك، ووقع حدث من أعجب الأحداث فى تاريخ الدنيا! فقد أسلم التتار. وفشلت الأجهزة الرسمية للكنيسة فى اجتذابهم وعاد المندوب الباباوى إلى إيطاليا يجر أذيال الفشل. وتم قريب من ذلك فى مطاردة صليبيى العصور الوسطى، فإن الدعاة اعترضوا روح الهزيمة عند بعض الحكام، وتوارثوا إشعال نار المقاومة وزودوا صلاح الدين بجيش من الفدائيين ينشدون الشهادة فى البر والبحر. وبعد تسعين سنة تحررت القدس، وبعد قرن آخر كان كل شبر من أرض الإسلام قد غسل غسلا من آثار الهمج المغيرين. يقول التاريخ: أن هناك رجالا لم نعرف أسماءهم ولكننا رأينا آثارهم هم الذين أقالوا العالم الإسلامى من عثرته وأنهضوه من كبوته. إنهم الدعاة الربانيون المتجردون الذين عرفوا الحق، واستشعروا السعادة فى نصرته. إنهم العلماء الذين يوزن مداد أقلامهم بدماء الشهداء. إنهم جنود مجهولون فى هذه الدنيا، ولكنهم ـ غدا ـ أعلام شامخة فى ربى الخلد. ومضى العالم الإسلامى إلى الأمام وهو يحمل فى طياته أسباب دائه ودوائه، ولم تكن القوى المتربصة به غافلة عما يجرى فوق أرضه، بل لعلها كانت أعرف بذلك من بعض أبنائه الناعمين. وما حدث فى القرون الأخيرة جدير بالدرس العميق إذ إن الفجوة بين الأمة ورسالتها اتسعت اتساعا مكن الأعداء المتربصين من توجيه ضربات هائلة إلى الكيان المهتز.. فلننهض بواجبنا ليبدأ من جديد جهاد الدعوة. ص _1 ص(1/182)
ليست الدعوة إلى الله عاطفة ساخنة يتحرك بها شخص أو يستفز بها جمهور، فربما كان فساد الأديان ناشئا عن مشاعر حارة وراء أفكار مرفوضة. يجب أن يكون الحق محور سلوكنا العام والخاص على سواء. وشرف أمتنا يجىء من توافق هواها مع هدايات الله، ومن تطابق عملها مع أوامر الله ونواهيه. وقد استبان لى أن الخطأ لا يولد ضخما يوم يولد، إنه يبدأ عوجا محقورا، أو انحرافا طفيفا ثم يستفحل شره على مر الأيام. والمتأمل فى علل المسلمين الاجتماعية والسياسية يجد أن جراثيمها قديما ولدت، وإنها لم تبلغ مبلغها اليوم إلا وسط ظروف معقدة لا مكان هنا لشرحها. والمقياس الفذ العاصم من الزلل أن نتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن نستصحب معنا فى هذه المحاكمة سيرة الخلفاء الراشدين والفقهاء الأئمة، فإن الحق قلما يفوت هؤلاء الكبار فى مجالى السياسة والثقافة. ثم إن الفقه الإسلامى لم ينشأ من فراغ، إن له أصولا محترمة من جهلها وجب الحذر منه، بل هو فى نظرى ليس أهلا للعمل فى ميدان الدعوة. إننى أقول ذلك لإحساسى بالأزمات العصيبة التى يمر بها ديننا، فالأمة الإسلامية تحارب بقسوة فى مراحل التربية وساحات القضاء وتقاليد المجتمع! إنها محنة لم يمر الإسلام بمثلها خلال القرون الماضية. وجهاز الدعوة الذى قام قديما برأب الصدع وجمع الكلمة يجب أن يستأنف نشاطه، بيد أنه لن يقدر على ذلك إذا فاته حسن الفقه وصدق البصيرة وخلوص الغاية، فإنه حين يفقد هذه الخصال لن يقدم للناس الإسلام الصحيح. ولقد ضربنا مثلا قضية الشورى إنها فى الكتاب والسنة أساس مجتمع، ولكن الحكم الفردى الطائش استبعدها، فجاء من يعدها من مواد الترف! ثم جاء من يعدها لمن قبلها غير ملزمة، بل يمضى على ما يرى هو. ثم تاهت أجهزتها فى دوامة الاستبداد الأعمى فما يدرى كيف يتم لها تكوين. ثم أطبقت ذئاب الأرض من كل فج على أمة أكلها كبراؤها!! ولا يزال البعض شديد الحرص على أن تكون الشورى وأجهزتها(1/183)
ونتائجها فى مهاب الريح. وتعجب لسلفى يتشاجر مع حنفى هل لمس المرأة ينقض الوضوء أم لا؟ وكلاهما يوجل من كلمة الشورى. ص _177
الأول لا يسأل نفسه: كيف جلد ابن حنبل؟ وكيف اختير الحاكم الذى جلده؟ وما وقع له من عقوبة على تعديه؟ وكيف توقى الأمة مستقبلا أمثال هذا الحاكم؟ إن هذه أسئلة لا يجوز إيرادها. والآخر لا يسأل نفسه: كيف مات أبو حنيفة فى سجنه؟ من الذى سجنه؟ وفى أى تهمة؟ وما مصير من عذبه؟ وكيف يحمى الخاصة والعامة من بطش أولئك الجبارين؟ هذه أسئلة لا يجوز إيرادها. الذى يجب قوله: إن الشورى تفضل من عظمة الحاكم قد يلتزمها إذا شاء، وقد يرفضها إذا شاء، وهذا هو الإسلام. والغريب أن سياسة الحكم عند بعض الدعاة لا تتعدى هذا المفهوم الذى طبقه المأسوف على شبابه المعتضد بالله، وتبعه السلطان مراد والسلطان الغورى! وقد جاءنى أحدهم متعالما يقول: بلغنى أنك ترى تعدد الأحزاب السياسية. قلت: نعم مادام هناك داع للتعدد. قال: ما هذا الداعى؟ قلت: فى شئون الدنيا هم أعلم بها وتختلف وجهات نظرهم كيف شاءوا. وفى شئون الدين لهم أن يجتهدوا ـ حيث لا نص ـ وهم على اختلاف آرائهم مأجورون. قال: أكانت هناك أحزاب على عهد الصحابة؟ قلت: نعم، وحلوا خلافاتهم فى معركتى الجمل وصفين، ونريد حلها الآن، وحل كل ما يعرض من خلاف فى مناظرات كلامية ومجادلات سلمية تحت قبة مجلس حر! قال: إنك تريد تقليد ديمقراطية الغرب. قلت: بل أريد منعكم من جعل الإسلام سورا يحمى الهرقلية والكسروية والفرعونية.. إنكم مساكين تريدون إعادة الجاهليات القديمة باسم الإسلام. الحق أن عالمنا الإسلامى المحروب المغلوب على أمره لن يحل مشكلات الحرية فيه دعاة يعيشون فى طبائع العبيد، بل إن هؤلاء الدعاة أنزل رتبة من أن يحلوا مشكلات أنفسهم. وننظر إلى العالم من حولنا فماذا نرى؟ إنه فى أثناء عدة شهور تغيرت الأحزاب الحاكمة فى ثلاث من الدول الكبرى تغيرا حاسما، لأن رجل الشارع يفرض(1/184)
رقابة صارمة على حكامه. ص _178
ويقول: لا.. فتتوقف مواكب! ويقول: نعم.. فتنطلق أخرى. كيف نعرض الإسلام على هؤلاء الناس؟ أنرسل لهم أولئك الدعاة العجاف يقولون لهم: خذوا عقيدة التوحيد مقرونة بنظام الحزب الواحد، وبأن الشورى لا تلزم حاكما؟ إن الشعوب سترد أولئك الحمقى محشوة أفواههم بالتراب! ويوم تقوم الساعة يحاسب أولئك على أنهم فتانون يصدون عن سبيل الله. إننى ألفت الأنظار إلى أن العقل الإسلامى كان قبل ثلاثين سنة أنضر منه الآن، لأن الأغبياء يومئذ ما كانوا يستطيعون هذه الثرثرة. كان اختصاصهم لا يعدو فقه (دورة المياه) فما الذى جعلهم الآن يضعون للأمم الدساتير؟ * * * *الفقه الذكى قبل الدعوة الحماسية: إن الفتوى الجاهلة، والبدعة المحدثة، والحديث الموضوع، والخرافة المقدسة، كل ذلك لون من تزوير الوحى، وتحريف الكلم عن مواضعه، والشهادة على الله بما لم يقل. من أجل ذلك أطلب ـ فى ميدان الدعوة ـ أن تعرض الحقائق المسلمة الثبوت، وأن تطوى جانبا خلافات الفقهاء ووجهات النظر العائمة، وقبل ذلك كله أن تطرح المرويات الشاذة، والسخافات العلمية. ما معنى أن تعرض عقيدة التوحيد مقرونة بأن الأرض لا تدور، أو أنها محمولة على قرن ثور أو أن الحكم فى الإسلام يجعل الحاكم فوق الشورى. لحساب من يتم هذا العرض الغبى؟ ولحساب من يتم عرض قضية المرأة على أن وجهها عورة، وأن ذلك موقف الإسلام القاطع مع أن جمهرة الفقهاء على غير هذا؟ قلنا: إن الإسلام رسالة من السماء، وأمة تطبقها على ظهر الأرض وقد أجمع علماء الأصول على تعريف الحكم الشرعى بأنه خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين. ومعنى ذلك أن الحكم لا يكون شريعة إلا إذا كان له سناد إلهى. والتراث الإسلامى مضبوط الاستدلال فى هذه الميادين، وهو يتحدث بجلاء عن المقطوع والمظنون والواجب والمندوب والمحرم والمكروه وعما سكت الوحى عنه لنتصرف نحن بعقولنا فيه: (وما كان ربك نسيا). ص _179(1/185)
وأرئ أن الأوان قد آن لإقصاء الدعاة الذين لا فقه لهم، أو الذين يريدون إلباس الإسلام عقالا بدويا أو تقليده سيفا تركيا، ثم يعرضونه فى عواصم الغرب والشرق التى ازدحمت بأذكى المبادئ وأمكرها. ولو عرضوا فطرة الله فى الأنفس، وكشفوا عن طبيعة الوحى الأعلى فى مثل قوله سبحانه: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). لكان أقوم وأجدى. ومأساة الدعاية الإسلامية ترجع إلى قرون خلت، فإن العطب فى أجهزتها الرسمية كان فادحا، وأظن الأمر بلغ حد الخيانة. وقد تساءلت فى أحد كتبى: لماذا لم ينعقد مجمع علمى إسلامى لبحث الضياع الإسلامى فى الأندلس؟ أو الجزر المسماة بـ (الفليبين)؟ أو السقوط الأول (لبيت المقدس) فى أيدى الصليبيين.. أو سقوط بغداد فى أيدى التتار وانتقاض النصارى يومئذ على الكثرة المدحورة.. الخ. والأمثلة التى مرت بنا ولا تزال تمر كثيرة، وأقلها شأنا يحتاج إلى وقفات طوال لإعادة النظر والتوجيه، فكيف بأدهاها؟ هل انحلال عروة الحكم من قديم سبب هذا البلاء؟ لا نسارع بالإجابة! من المؤكد أن ولاء الحكام الأقدمين كان للإسلام، فقد كان شعارهم المرفوع ومنطلقهم المعلن وملاذهم عند المفاخرة والمنافرة. وإذا كانوا قد تولوا الحكم بطرق غير إسلامية فقد حرصوا على تطبيق الإسلام وإقامة معالمه وحراسة حدوده، واستمدوا وجاهتهم من بذل الجهد فى ذلك المضمار. يستوى فى ذلك الملوك والأمراء ممن حكموا فى ظل استبداد سياسى بين. فعبد الملك بن مروان الذى قضى بالسيف على خصوم الحزب الأموى مهد لابنه الوليد حركة الفتوح التى بلغت الهند والصين شرقا، وفرنسا وسويسرا غربا. بيد أن العوج الفقهى أو الطريق غير الشرعى الذى جاء به أولئك الخلفاء الملوك أو الملوك الخلفاء ترك طابعه على المعاملة التى لقيها قادة هذه الفتوح من عباقرة الحرب، ورجال المبادئ. ص _180(1/186)
فما مصير محمد بن القاسم فاتح السند؟ وما مصير طارق بن زياد؟ وموسى بن نصير؟ وقتيبة بن مسلم؟ وغيرهم وغيرهم. إن الحكم الفردى كالمرأة الغيور لا يطيق رؤية العظماء، ولا يزن أقدار العلماء. ولذلك أخذ أولئك النابغون يتناقصون فى تاريخنا، ومن يظهر منهم لأمر ما يحيا مستوحشا منغصا. واستطاعت القوى المعادية للإسلام أن تستغل هذه الفوضى الضاربة فى شئوننا كلها، فشنت غاراتها فى القرون الأخيرة، واستولت على العالم الإسلامى كله، وصيرته موزعا على سبعين قومية خاصة، وشرعت تجهز على الإسلام فى كل قومية على حدة. وتحركت أسباب المناعة فى الكيان الذى هاجمته علل هائلة وقام الدعاة فى كل بلد ينافحون عن التراث المنهوب. إلا أن هناك ناسا يشتغلون بالدعوة ثقافتهم مغشوشة قرءوا كتبا ألفت فى عهود الاضمحلال، أو حفظوا آراء قالها قوم عديمو الفقه. وقد يتعصبون لأوضاع جرت على الإسلام البلاء، أو تمر بهم أحداث حافلة بالعبر فما يفيدون منها عبرة. وقد يعرفون من الحق بعضه ويجهلون أو يجحدون البعض الآخر. أما علمهم بما جد فى أرجاء العالم من أطوار، وما يستتبعه ذلك من أقضية ذكية فصفر. إننا نطلب إلى هؤلاء أن يصلحوا أنفسهم أو يتركوا مواقعهم، فلسنا بحاجة إلى علل أخرى. ص _181(1/187)
السلبية لا تخلق بطولة أكره فتنة الغنى كما أكره فتنة الفقر، الغنى قد يطغى والفقر قد يذل، والمؤمن يأبى أن يكون طاغيا كما يأبى أن يكون ذليلا!. هل هذه كل آفات الغنى والفقر؟ كلا ، إن الكثرة قد تعين على إنجاح العقائد ومساندة أصحابها.. والقلة ربما خذلت الحق، وجرأت عليه! ومن هنا يسعى أهل الإيمان إلى دعم أنفسهم ومبادئهم بالمال الكثير والتمكين فى الأرض، وفى أدبنا العربى طرائف فى هذا المعنى تستحق الذكر يقول عروة بن الورد. دعينى أطوف فى البلاد لعلنى أفيد غنى فيه لذى الحق محمل! أليس عظيما أن تلم ملمة! وليس علينا فى الحقوق معول؟ فإن نحن لم نملك دفاعا لحادث تلم به الأيام فالموت أجمل! ويخيل إلى أن الشافعى كان يتأوه وهو يرى المال قد فقد وظيفته الاجتماعية عند بعض الناس فهو يقول ضائقا محزونا: وأنطقت الدراهم بعد صمت أناسا طالما كانوا سكوتا فما عطفوا على أحد بفضل! ولا عرفوا لمكرمة بيوتا! لكن هل الحياة لا تعرف إلا غنى طاغيا وفقرا ذليلا؟ كلا.. فما أكثر الأغنياء الشاكرين وما أكثر الفقراء المستعفين! ما أكثر الذين ملكوا فدنوا وخدموا وأعانوا، وما أكثر الذين حرموا فتماسكوا وانتصبت قاماتهم وعاشوا كراما. ويظهر أن بعض المفسرين، وجامعى السنن فاتهم تسجيل هذه الحقائق فأساءوا من حيث لا يحتسبون إلى الأمة الإسلامية، والى مسارها الحضارى، وإلى موقفها أمام أعدائها.. مما يجعلنا نستنجد بالفقهاء كى يضعوا الأمور فى مواضعها الصحيحة. فتحت عنوان (الترغيب فى الفقر، وقلة ذات اليد، وما جاء فى فضل الفقراء والمساكين والمستضعفين وحبهم ومجالستهم) ذكر الحافظ المنذرى رحمه الله أكثر من مائة حديث لا ينتهى المرء من قراءتها حتى يقرر تطليق الدنيا بينونة كبرى. وماذا يكسب الإسلام عندما يطلق المسلمون الدنيا ويتزوجها غيرهم؟ وكيف تسير الأمة إذا ص _182(1/188)
كان غنى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف قيدا يئودهما فلا يدخلان الجنة إلا زحفا؟ على حين تطير الصعلكة بأصحابها فيسبقون إلى النعيم المقيم. إن هذه الآثار تحتاج إلى مراجعة أسانيدها ومتونها وعناوينها والحشود التى أقبلت فيها. وأعلم أن جمهور الناس قد جرفتهم الطبيعة المادية للعصر الحديث، ولكن الشباب الذى يريد العودة إلى ربه والاستقامة على طريقه يقرأ هذه المرويات فتغلبه الحيرة ويزيغ عن الصراط، ومثل هذا الاضطراب فى ضبط القيم الدينية تجده فى بعض التفاسير الشائعة. فى تفسير سورة الصافات عند قوله تعالى: (قال قائل منهم إني كان لي قرين * يقول أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرآه في سواء الجحيم). ذكر ابن كثير فى تفسيره حكاية إسرائيلية عجيبة، كان هناك شريكان فى عمل رأسماله ثمانية آلاف دينار، أحد الشريكين بار والآخر فاجر، وانفضت الشركة لأن الشريك الفاجر ضاق بصاحبه، فهو لا حرفة له بينما الفاجر محترف. ونسأل: لماذا لا يكون المؤمن صاحب حرفة؟ وفى الحديث: "إن الله يحب المؤمن المحترف ". وأخذ كل شريك نصيبه فاشترى الفاجر لنفسه دارا بألف دينار. وتصدق البار بألف من عنده لتكون له دار فى الجنة! ونسأل: لماذا لا تكون للرجل الصالح دار فى الدنيا؟ ثم تزوج الفاجر بألف دينار، فتصدق الرجل بألف دينار لتكون له زوجة من الحور العين فى الآخرة! ونسأل: لماذا لا يتزوج هذا التقى بامرأة ينفق عليها ويعف نفسه ويعفها وتكتب له أجور وحسنات فى الجنة لا حصر لها؟ واشترى الفاجر بساتين بالألفين الباقيتين عنده، على حين تصدق البار بألفيه نظير بساتين فى الدار الآخرة، وبقى صعلوكا محسورا.. وهذا التصرف مرفوض شرعا. ولكن الطبرى، وابن كثير حكيا القصة، على أن سياقها يشهد لقراءة أخرى: (أئنك لمن المصدقين). بتشديد الصاد أى المتصدقين! وأسهب ابن كثير فى شرح هذه القصة على نحو مثير ذكرت معه(1/189)
قصة الصوفى الذى وصف حظه من هذه الدنيا بقوله: ص _183
ليس لى والد ولا مولود لا ولا حزت مذ عقلت عيالا! أجعل الساعد اليمين وسادى ثم أثنى ـ إذا انقلبت ـ الشمالا! وهذا منطق يجتث الحياة من جذورها! إننى بهذا القول لا أريد أن أصوغ قصيدة غزل فى جمال الحياة، والإقبال عليها، فأنا رجل مسلم أعلم أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، وأعلم أن تداعى الأمم علينا سببه حب الدنيا وكراهية الموت. إننى أريد إفهام المؤمنين أن الحياة فى سبيل الله كالموت فى سبيل الله جهاد مبرور! وأن الفشل فى كسب الدنيا يستتبع الفشل فى نصرة الدين! وأن الواجد الذى ينزل عما عنده خير من المفلس الذى لا ينزل عن شىء، لأنه لا يملك أى شىء.. إن السلبية لا تخلق بطولة، لأن البطولة عطاء واسع ومعاناة أشد. ص _184(1/190)
هل نواجه هذه الحقائق يخطىء من يحسب الدعوة إلى الله عظة منبر حارة الأنفاس أو باردتها، إن هذه العظات جليلة القدر عندما تذكرنا بالله وتدفعنا إلى مرضاته وتصدنا عن سخطه، ولكنها بعض أساليب التعليم والتربية، ولا تمثل إلا جزءا يسيرا من النشاط الإسلامى الرحب. إن الدعوة تعنى عرض الإسلام كله، وشرح كتاب جعله الله تبيانا لكل شىء، وتقريب نبوة جعلها الله ريادة إلى ميادين الكمال الإنسانى كله. ومن هنا فلابد أن يكون الداعى مستكمل الزاد من جميع العلوم الشرعية والإنسانية والأدبية حتى يقدر على تحمل هذا العبء واجتياز الدروب الشاقة به. والمسلمون فى هذا العصر يواجهون حقيقتين مرتين.. الأولى أن خلافتهم غاربة، ووحدتهم الكبرى معتلة، وشرائعهم معطلة، وأخوتهم العامة منكورة، ومنابعهم الفكرية كدرة، وأخطاءهم القديمة باقية، وأمانيهم فى المستقبل مشوشة، والقوى التى هزمتهم من الخارج لا تزال مكشرة الأنياب، والجراثيم التى هدتهم من الداخل لا تزال تسرح فى كيانهم دون وجل. ما أشبههم بشركة تجارية أفلست تحت وطأة فوضى إدارية، ومنافسات أجنبية، فلما أرادت تجديد ذاتها واستئناف نشاطها أتت بجهاز يريد استحياء ذات الأساليب الأولى وتجديد نفس الظروف القديمة. أريد أن أسائل كل غيور: لماذا لا ندرس أخطاءنا ببصيرة وأناة وشجاعة. لقد وصف الله الحق بخصائصه العظيمة عندما قال: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). إن الحق يرفع أصحابه وينفع الإنسانية كلها، وبالحق ساد سلفنا وأنشئوا حضارة أجدت على العالم واستظل بها الأعداء والخصوم. ص _185(1/191)
فما الذى فقدناه نحن من عناصر هذا الحق الغالى فى مجالات الخلق والحكم والعلم والحضارة والقانون، حتى هبطنا من الأوج إلى القاع؟ ألا ندرس بتواضع وإخلاص ما عرانا حتى نحسن الخلاص من عللنا؟ يؤسفنى القول إننا نتعمد إهمال هذه الدراسة، ونحاول الاستشفاء من أدوائنا بأدواء أخرى، وعندما ألقى نظرة سريعة على رجال الدعوة وما يشغلهم من قضايا أشعر بالأسى. أما الحقيقة الأخرى التى تواجه المسلمين المعاصرين، فهى فى العالم الكبير الذى يبدأ مباشرة وراء دار الإسلام. إن هذا العالم أضحى أشد منا قوة وأعز نفرا، حتى عبيد الأصنام فجروا الذرة ومازلنا نحن نفكر ونؤمل! لماذا لا نعرف هذا العالم معرفة دقيقة صحيحة؟ إن هناك نشاطا بشريا موارا يدور فى جوانبه، وأعنى أن نشاطه يتناول الخصائص العليا والغرائز الدنيا فى الإنسان، العقل يفكر بقوة والشهوة تنطلق بحدة، والموازنة بينهما متروكة للفرد والمجتمع. ويبدو أن التقدمين العلمى والصناعى يتابعان طفراتهما دون عائق كما أن التراتيب الإدارية فى كل أفق يسودها نظام صارم. ومع عرام النزوات الفردية والمظالم العرقية فإن كفة الإنسانية الأرقى لا تزال أرجح. بيد أن ذلك لا يحمل صفة الدوام، فقد تنتحر هذه الحضارة بسبب التناقضات التى تنشر فيها، أو بسبب تنكرها لله رب العالمين ورفضها الاعتراف به والاستعداد للقائه. على أن تناحر الأقوياء لا يجدى الضعاف إذا بقوا صرعى عللهم، وعلى المسلمين أن يستشفوا أولا مما نزل بهم، وأن يحسنوا الإفادة من آثار الفطرة السليمة فى كل شبر من أرض الله ليمكن أن يرثوا الأرض. إن أمامنا ـ نحن الدعاة المسلمين ـ مصدرين للمتاعب يجب التغلب عليهما. الأول: أسباب الهبوط الموروثة من تقاليد فكرية واجتماعية وسياسية تتبخر عندما تعرض على كتاب الله وسنة رسوله. والثانى: أمواج الغزو الثقافى التى انتهزت فرصة انحلال الشخصية الإسلامية وحاولت جعل الهزيمة العسكرية ارتدادا عاما عن الإسلام.(1/192)
الحق أن المقاومة الإسلامية صمدت بنجاح، بل إنها استعادت بعض المراكز التى فقدتها، وهى ماضية إلى غايتها بعزم شديد. ص _186
لكن الهجوم متتابع، ودواعى القلق تزيد ولا تنقص، والأمر لا يغنى فيه كفاح فرد، ومنذ أربع سنين انعقد فى المدينة المنورة مؤتمر عالمى لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة تمت فيه مقررات حسنة، والسؤال الآن: هل انتهت مشكلات الدعوة والدعاة، واستغنى المسلمون عن عقد مؤتمر آخر؟ الواقع أن الحال تتطلب مزيدا من الدراسات، ومزيدا من المقررات التى تجد طريقها إلى النور.. والمهم أن نصدق فى تشخيص عللنا، وتتبع جذورها فى الماضى القريب والبعيد. إن أحدا غيرنا لن يدفع ثمن المغالطة والخداع، إننا وحدنا المسئولون. ص _187(1/193)
مراجعة لا رجوع لا أزال ألح على مراجعة تفكيرنا الدينى، وأساليب حكمنا على الأشياء والأشخاص. لقد سقطت الخلافة العثمانية من ستين سنة، وانفرط عقد الأمة الكبيرة على الصعيد العالمى، وكانت خسائر (الرجل المريض) قد تلاحقت قبل وفاته، ثم تقاسم الأقوياء تركته، وأمست الأمة الإسلامية بلا أبوة روحية ولا ثقافية ولا سياسية فهل وقفت الأمة اليتيمة وقفة تأمل واعتبار فيما أصابها؟ وهل تساءل العقلاء عن أسرار نكبتها؟ كم كتابا ألف فى أسباب تخلفها الحضارى؟ كم كتابا ألف فى تشريح العوج السياسى، والقصور العلمى، والانهيار اللغوى، الذى عرا هذه الأمة؟ كم كتابا ألف فى طبيعة التركيب الجنسى، والخلافات العرقية التى كانت تكون الدولة الغاربة؟ كم كتابا ألف فى تطور العلاقات الدولية مع جمود الفقه عندنا، أو فى تطور النهضات الإنسانية مع عكوفنا على الصور والأشكال الجوفاء؟ بم شغلنا؟ وبماذا نشتغل الآن؟ إن مراجعة تفكيرنا الدينى ضرورة ماسة ولا أعنى بتاتا رجوعا عن أصل قائم أو فرع ثابت، فهذا والعياذ بالله ارتداد مقبوح. هناك فرق بين الرجوع والمراجعة. إننى أعنى بالمراجعة: الحساب العقلى الشديد على مواقفنا من أنفسنا وديننا، وماذا فعلنا، وماذا تركنا، وماذا قدمنا، وماذا أخرنا؟ وكل محاولة للنهوض دون هذه المراجعة الواجبة ـ قد تكون تكرارا للمأساة. ص _188(1/194)
وهذه المراجعة سهلة مادمنا ننطلق من قواعد معصومة، أساسها الكتاب والسنة. على أنه لابد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنة، ولابد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تروج أقوال الأئمة والعباقرة، وأهل الذكر، وتستخفى أقوال المعلولين وأذناب السلطات وأشباه العوام. أؤكد أننا لا نبدأ من فراغ، فالعلماء الراسخون كثيرون فى تاريخنا الطويل، وإن كان فساد الحكم قد طوى أسماءهم، وأهان تراثهم وقدم عليهم من لا يساوى قلامة أظافرهم. والآن ـ بعدما دفعنا ثمن هذه الخيانات ـ يجب أن نراجع ثقافتنا وسياستنا. إن الحق يدعم صاحبه وينفعه، والذى يعيش وفق جملة من الحقائق العقلية والخلقية والاجتماعية غير الذى يعيش فى عالم من الترهات والأباطيل. والاستيحاش من الحق أو الاستكبار عليه لا يتركه القدر دون عقاب عاجل أو آجل.. فإن حافظ السموات والأرض لا يترك أصحاب الهوى يفسدونهما كيف شاءوا. (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن). والمهم عندما نتيه عن الحق ألا يطول شرودنا عنه، وأن نعرف بدقة ما الخطأ الذى ارتكبناه؟ وما الصواب الذى نتشبث به؟ وفى تراب الهزيمة التى حلت بنا ماديا وأدبيا وقف مسئول مخبول يقول: إن الصلاة والصيام هما علة ضعف الإنتاج. وقلت، وقال أهل الرشد كلهم: إن الطريقة التى وليت بها الحكم أيها المستبد الأعمى هى سر تخلفنا العام. وقال أحد الزهاد: إن حب الدنيا وكثرة المال هما.... وقبل أن يتم حديثه، قلت: الأمريكيون أكثر من العرب مالا وأعز نفرا.. وهم خير من العرب حالا. وقال آخر كلاما لا أثبته!! إن علاج أمة ظلت قرابة ألف عام رفيعة القدر ثم هوت من حالق دائخة الفكر، مضطربة الخطو، لا يمكن أن يتم بكلمات مرتجلة وأحكام نزقة. أولى الخطوات الشجاعة أن نعترف بأغلاطنا، وهى كثيرة ومفزعة ومتغلغلة فى ماضينا.. ثم نبدأ حركة التصحيح بتؤدة وعزم ومضاء. ص _189(1/195)
ويحزننى أن أقول: إن جيشا من الدهماء يملأ آفاق العمل الدينى لا يحسن درس القضايا ولا إصدار الأحكام. والجنون مراتب، هناك جنون مطبق يسقط عن صاحبه التكليف، ويريح المجتمع من محاسبته، ولا شأن لنا بهذا. وهناك جنون جزئى يجمع بين المتناقضات دون حرج! وإلى هذا النوع من الجنون يشير القرآن الكريم عندما يقول لنفر من أهل الكتاب: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون). نعم أين العقل فى هذا التصرف؟ فى هذا الميدان رأيت نوعين من الناس، نوعا لا يستطيع الرؤية لعجز فى حاسته، ونوعا يرى ولكنه مشدود بالهوى إلى شىء آخر مسيطر عليه، كلا النوعين لا يصلح لعمل إسلامى محترم، لأن الإسلام لا يصلح له إلا أولو الألباب. والواقع أن سلامة التفكير واستقامة الخطو هما لباب الدين، وأين تجد الدين مع الغباء المستحكم والعوج الغالب؟ الدين عندئذ مراسم مجلوبة على فراغ، ولا قيمة للتاج على رأس مجنون. هناك آيتان تتحدان موضوعا وإن تغايرتا أداء.. قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين). وقوله تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم): أى تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذى لا يجور فى حكمه، فإنه على صراط مستقيم، روى الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أيفع بن عبد الكلاعى أنه قال: قال: يأخذ بنواصى عباده، فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الولد لولده، يقول: ما غرك بربك الكريم؟ وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاء به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التى لا تنفع ولا تضر ولا توالى ولا تعادى، وإنما يستحق إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، الذى بيده الملك وله التصرف، وما من شىء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه. ص _190(1/196)
وينظر صاحب المنار إلى الآية من جهة أخرى فيقول: (إن ربي على صراط مستقيم): أى على طريق الحق والعدل، لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ومتبعيهم من أوليائه! ولا يضيع حقا ولا يفوته ظالم. وما يقوله الشيخ رشيد يقع بعد الاختبار المحتوم بين الحق والباطل وهو اختبار قد يتعرض فيه الحق للهوان، وقد يملك الباطل فيه السلطان ولكن إلى حين! ثم تكون العاقبة للمتقين. إن كلا المفسرين الكبيرين وضح طرفا من الآية، والذى أريد إبرازه أشمل وأخصر. إن الذى يتحرى الحق ويلتزم منهجه، ويحرص عليه ويتجنب الانحراف والزيغ لابد أن يصل إلى الله، وذلك معنى قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين). قال مجاهد: (طريق الحق.. على الله) أى يدل عليه ويبلغ إليه حتما ويؤيد ذلك ابن كثير فيقول: أخبر سبحانه وتعالى أن ثم طرقا تسلك إليه فليس يصل منها إلا طريق الحق، وهى الطريق التى شرعها ورضيها وما عداها فطرق مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال: (ومنها جائر). أى حائد مائل.. والحائد عن الصراط المستقيم لا يصل إلى الله أبدا. وعندما تبجح إبليس، وظن أنه قادر على إغواء البشر، أخبره رب العزة أن الطريق إليه لا يتطلب عبقرية خارقة، ولا يكلف مشقة بالغة، إنه طريق سهل قريب ممهد. (قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان). والمقارنة بين خلال ـ صفات ـ المحققين والمبطلين تكشف عن طبائعهم وتحدد وظائفهم الاجتماعية، فالبعداء عن الله لا يعرفون الحق ولا يقولون به؟ مواهبهم البشرية مطموسة وقدراتهم مشلولة، ومن هنا فإن مجتمعاتهم طافحة بالشرور، مشدودة إلى الوراء، لا تقدر أن تقدم لنفسها ولا لغيرها خيرا، وتدبر قوله تعالى يصف أولياءه وأعداءه: (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم). إن الأمة المسلمة(1/197)
حقا بريئة من الصفات الأولى، معروفة بالصفات الأزكى والأرقى، فهى ص _191
مشهورة بالعدل آمرة به، وهى فى الأسرة الدولية قوامة بالقسط فى كل مجال، وهذا القيام ناضج من إقساطها فى حياتها الداخلية وبناء شعوبها على المعروف والحق. أمر المسلمين لا يقوم على دعاية كذوب ومزاعم جوفاء، وماتقوم أمة على هذا الهزل. الذى يرى أنه يداوى الجهل بالعلم، والخطأ بالصواب، وإنه بالتربيتين النفسية والعقلية يعرف المرء به، وباستقامة اللب والقلب يلتقى المرء مع مولاه. وإن التدين مع العوج الفكرى والنفسى نوع من الخبال تتجاور فيه المتناقضات، وقد تضيع فيه الحقيقة ويبقى الشكل الذى لا وزن له. وهذه الحقائق تشمل الأفراد والجماعات، بل لعل آثارها السلبية والإيجابية تكون أكثر وضوحا فى تاريخ الأمم منها فى تاريخ الآحاد من الناس. إن الارتقاءين العقلى والخلقى لمجتمع ما قد يغطيان القصور لدى بعض الناس، ولكن الارتقاء الجزئى لا يغطى قصور الجماعات ولا يوارى سوءاتها. التقيت بالأستاذ الإمام حسن البنا قبل يوم من استشهاده، وعانقته وأفزعنى أنى عانقت عظاما معلقة عليها ملابس، كانت الهموم قد اخترمت جسد الرجل فلم تبق منه إلا شبحا يحمل وجهه المغضن العريض. وشرع يحدثنى كما يحدث أى تلميذ له. قال: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى أيام (المأثورات). واستبنت ما يعنى، لقد واجهت قلة من المؤمنين طوفانا من المتاعب والمآسى نما مع الليالى السود! أين الناس؟ أين المسلمون؟ وهؤلاء المصلون الخارجون من المساجد! أما يهتمون بدينهم الموشك على الغرق؟ إنهم كثيرون لكن لا وعى ولا حراك! إن القصور الفقهى والقصور الأدبى حولاهم إلى غثاء لا خير فيه.. إن السواد الأعظم يحتاج كل الاحتياج إلى إحياء تربوى طويل، والمعركة قبل ذلك قليلة الغناء! نعم سيضرب الدعاة جند أشبه بالآلات، وسيقف الجمهور يتفرج ويتسلى كأن الأمر لا يعنيه. ألا نعيد النظر فى تفكيرنا ووسائلنا؟(1/198)
ص _192
تذكروا الإسلام يا عرب أريد أن أسأل العرب ـ وهم أمتى الكبيرة وعشيرتى الأقربون ـ هل درسوا علاقتهم بالعالم الإسلامى خلال هذا القرن، أو حتى القرون الماضية؟ إن هذه الدراسة مطلوبة، وإن الغفلة عن عبرها جريمة دينية وتاريخية ضخمة! إن هذه الدراسة ليست عمل الساسة والحكام، بل هى شغل الدعاة والفقهاء والأدباء، وتكاد تكون فى هذا العصر فريضة كذلك على الاجتماعيين والاقتصاديين.. لقد أفزعنى أن هناك نزعة مجنونة تشغل العرب بقضاياهم الخاصة، وتصرفهم عن مشكلات العالم الإسلامى الواسع، وتحبس التفكير والاهتمام فيما يمس المصلحة العربية وحدها، أما ما وراء ذلك فالاشتغال به من فضول البحث أو لغو الكلام، وظهرت هذه النزعة دميمة الوجه محقورة الفكر عندما أغارت الشيوعية على أفغانستان المسلمة، فإن دولا وجماعات عربية رأت أن هذه الغارة لا تقلق الضمير!! ولا ينبغى أن تشغلنا عن قضية المسلمين مثلا..!! الحق أن هذا الموقف يجعلنى أميط اللثام عن خيانات فاجرة اقترفها عرب كثيرون ضد الإسلام وضد المنتمين إليه فى شتى القارات فإن السكوت عن ذلك طعنة نافذة تصيب الإسلام فى يومه وغده وتهدد أمتنا الإسلامية الكبرى بأفدح التمزق والخسران. إن المسلمين فى أوغندا ـ وفى مقدمتهم قبيلة الرئيس السابق عيدى أمين ـ يتعرضون لحرب إبادة، ولا أحد يتحدث عن مصابهم. وكذلك المسلمون فى زنجبار وتانجانيقا والمسلمون فى الحبشة وأريتريا والصومال، أولئك كلهم يفنون فى صمت! وإذا تجاوزنا التبشير المكتسح فى وسط القارة، قارة أفريقية، وجنوبها وغربها وشرقها، وذهبنا إلى قارة آسيا وجدنا المسلمين فى (تايلاند) تطاردهم مذابح البوذيين، وهم أكثر من أربعة ملايين مسلم لا نعرف عنهم شيئا! ووجدنا كذلك حرب الاستئصال تجتاح جنوب الفليبين، أما مذابح المسلمين فى الهند فهى أمراض متوطنة أو أمطار موسمية! والتبشير الصليبى يأكل إندونيسيا، والغول الشيوعى قبل أن ينشب أظافره فى(1/199)
أفغانستان كان يغتال مائة مليون مسلم فى روسيا والصين! وعندما نتوجه إلى أوروبا نرى مسلمى (ألبانيا) وهى الدولة الإسلامية الوحيدة على شاطئ الأدرياتيك يهلكون دون ضجة أو صريخ وعلى غرارهم ضاع المسلمون فى دول البلقان كلها، وذبحوا كقطعان غنم لا رعاة لها! يحدث ذلك ص _193
كله والعرب مشغولون بشئونهم الخاصة، وقضاياهم التى لن تظفر بذرة من عناية السماء ما داموا بهذه الأثرة السمجة. كان الشيخ محمد رشيد رضا إذا أصبح مكتئب النفس مقطب الجبين قالت له أمه: مالى أراك حزينا؟ هل حدث شىء لمسلم فى الصين؟.. كان الرجل مهموما بأمور المسلمين كلهم لأنه "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم " كما جاء فى الحديث الشريف. ماذا كسب العرب من ترك التناصر بالإسلام؟ وماذا كسبوا من الانحصار فى جنسية ضيقة؟ لقد ضلوا وأضلوا، وضاعوا وأضاعوا، ثم جاء يهودى من بولندا اسمه (مناحم بيجين) لينزل بأرض فلسطين ويقول لعربها: باسم التوراة هذه أرضى وأرض آبائى، لا مكان لكم هنا. لقد هتف باسم التوراة عندما قرر العرب أن ينسوا أو يتناسوا اسم القرآن! وباسم التوراة طرد القضاة والعمد والخاصة والعامة والرؤساء والمرءوسين.. ترى أيقول واحد من أولئك التائهين عن وطنهم المغصوب: لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض! إن البكاء على رباط العقيدة التى أوهيناها أول علائم اليقظة، وأظن العرب قد آن لهم أن يستيقظوا فليس من بديل لليقظة إلا الموت المحقق وخزى الأبد!! العرب وغير العرب سواء فى أنهم خلقوا لعبادة الله وأداء حقوقه والاستعداد للقائه.. لكن العرب وحدهم أولى الأجناس بمعرفة الله والتزام حدوده، إذ إن حاجتهم إلى الدين تفوق حاجة غيرهم وفرص التسامى التى تتاح لهم يوم يتقون الله أضعاف الفرص التى تتاح لغيرهم. إن العرب جنس حاد المشاعر جامح الغرائز، عندما يطيش يفقد وعيه وعندما يعقل يبلغ الأوج.. ولقد قرأت رأى ابن خلدون فى العرب، وترددت فى تصديقه ثم انتهيت أخيرا إلى أن(1/200)
العرب لا يصلحون إلا بدين ولا يقوم لهم ملك إلا على نبوة، وأن العالم لا يعترف لهم بميزة إلا إذا كانوا حملة وحى، فإذا انقطعت بالسماء صلتهم ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وغشيهم الذل من كل مكان. وتاريخ العرب الأقدمين مع الدين مثار عبرة! لقد قرأت سير الأنبياء العرب مع أقوامهم وعجبت لضياع رسالتهم أمام عواصف التكذيب التى هبت عليهم من كل مكان! فى جنوب الجزيرة العربية كانت عاد وسبأ وفى شمالها كانت ثمود ومدين وقرى المؤتفكة.. إن الرسل الكرام أعجزتهم الطباع المستكبرة والرذائل المتمكنة، فمضت سنن الله تحصد المجرمين وتؤدب العاتين. وجاء فى سورة هود ـ وهى نموذج لهذا التاريخ فى القرآن الكريم ـ قوله سبحانه: ص _194(1/201)
(فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون). وشاء الله أن يتجدد العرب مع الرسالة الخاتمة، إن الأوائل الذين بادوا فى حريق الجحود جاء من بعدهم من أخذ الكتاب بقوة، وخدم الإيمان بعزم، وانتصب لحرب الجبابرة ببأس شديد! والواقع أن الجيل الذى رباه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان من طراز فذ، لقد ألان القلوب لله حتى بلت دموعها المحاريب، وأخلص النيات فما بقى هوى ولا غش، وتمهدت الميادين لنصرة الحق. وقيل يا خيل الله اركبى! فاندكت صروح للباطل ما ظن أحد أنها تزول، وتلاشت أوهام وخرافات طالما حقرت الإنسانية وأزرت بها ونشأت حضارة إسلامية أسهم فيها العرب وغيرهم فى ظل إخاء عام وفطرة سليمة. ولكن العرب نسوا معقد شرفهم وعروة مجدهم، وظنوا أنهم بغير الإسلام يمكن أن يكونوا شيئا.. وقوى هذا الشعور أو ضعف حسب انكماش الإيمان وامتداده. وجاء دور الهزيمة العامة فى تاريخ العرب الأخير، والعرب يفخرون بأصلهم لا بدينهم، ويتحدثون عن دمهم لا عن نسبهم الروحى الثاقب. ولعل أغرب مفارقة فى تاريخ الحياة كلها أن يقبل اليهود فى موكب تقوده التوراة على حين ينسى العرب قرآنهم، بل تستعجم لغتهم على أفواههم فما يحسنون النطق بها. وبديه أن تتلاحق المخازى فى شئون العرب السياسية والاجتماعية، وألا يبدو لهم نصر فى أفق من الآفاق. كيف؟ وقد تيقظت الشهوات، وصرخت الأثرة وشرع العرب المعاصرون يحيون كما كانت عاد وثمود، يبطشون بطش الجبابرة ولا يروى لهم عطش إلى الملذات الحرام.. لقد قرأت فى إحدى الصحف خبرا يذكر بمرور سبعين عاما على مأساة دنشواى أيام الاستعمار الإنجليزى، وقلت فى نفسى: ما تكون مأساة دنشواى إلى عشرات ومئات القتلى الذين أودى بهم الاستعمار الداخلى. إن العرب ـ بعيدا عن الإسلام ـ لن يكونوا إلا حطب(1/202)
جهنم! ذاك فى الدار الآخرة أما فى ص _195
هذه الدنيا، فإن العرب بعيدا عن الإسلام سيأكل بعضهم بعضا، ثم يأكل بقيتهم اليهود والنصارى! إذا كان الدين ضرورة إنسانية لرشد الناس، وقيامهم بحقوق خالقهم، فإن الدين للعرب هو الهواء الذى يبقى حياتهم، أو الغذاء الذى يمسك كيانهم، فليروا رأيهم، إن شاءوا الحياة أو شاءوا الممات. ص _196
دنيا وآخره التعريف بالآخرة حق، وهو شىء آخر غير التجهيل فى الدنيا! كما تحدث إنسانا عن مستقبله وضرورة الإعداد له ولا يعنى ذلك بداهة لفته عن حاضره وصرفه عن مواجهته. لكن بعض المربين والدعاة تغيب عنه هذه الحقيقة فيسىء أكثر مما يحسن، ويترك فى النفوس انطباعا بأن الدين عدو الدنيا، وإن أحدا لا يبلغ حقيقة التقوى إلا إذا عاش وهو يعانى كآبة المنظر فى الأهل والمال، أو إلا إذا عاش وهو جاهل بحقائق الحياة وقوانين المادة وسنن الله فى كونه. واختلال الميزان العقلى فى هذه النظرة السيئة أنشأ أجيالا من المسلمين لا تفقه دينا ولا تملك دنيا، بل لعله من أهم الأسباب فى التخلف الحضارى الذى أهان المسلمين فى المشارق والمغارب.. نحن لا ننكر أن الدين أطال الحديث عن الدار الآخرة، وبث فى النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار، لكن هذا الإسهاب فى الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها، ومنع طغيان العاجلة على الآجلة، وإخراج المرء من القوقعة الأرضية التى يحتبس داخلها غالبا. وفتح بصيرته على آفاق أوسع وحياة أخلد. أما القصور فى فهم الدنيا، والغربة على سطح الأرض، والعجز عن امتلاك زمام الحياة، فهذا كله لا يدل على تقوى، بل يدل على طفولة فكرية يضار بها الدين وتنكس بها ألويته وتتقهقر بها تعاليمه. وليت شعرى ماذا يفيد الإسلام من رجل مكن الله له فى الأرض فلم يتمكن، أو جعلها له ذلولا ليركبها ويبلغ بها غايته، فإذا هى تجمح به، وتسقطه من فوق ظهرها، وإذا هو طريح الثرى والعجز؟ وما(1/203)
العمل إذا استطاع ملاحدة ومخرفون امتلاك أسرار الحياة ثم طوعوا ما يملكون لدعم كفرهم وتغليب أهوائهم؟ إننى أشعر بالأسى لأن نفرا من المتحدثين فى الدين ليس على مستوى هذا الحديث، وقد قال علماؤنا: إنه لكى يصح العمل ويقبل لابد من صدق النية وسلامة الطريق! ويعنى سلامة الطريق، أو صحة الطريق بعبارة أجلى، أن يتم العمل وفق العقل أو النقل فلو أن امرأ صام عن الكلام لا عن الطعام ما قبل صومه، ولو أن امرأ صلى بغير ركوع ولا سجود ما قبلت صلاته، لابد من موافقة الشارع فيما رسم، كذلك لابد من موافقة العقل فيما وكل إلينا شكله وموضوعه، فلا يقبل جهاد بالعصا فى وجه الدبابة، ولا جهاد بالخيل فى وجه التفجير الذرى! ص _197(1/204)
والغريب أن الأعمال الصالحة فى هذا الميدان العقلى أضعاف مثيلاتها فى الميدان النقلى! والمسلمون المعاصرون فى كلا الميدانين زائغو البصر مضطربو الخطى، والخلخلة التى تسود أجواءهم العلمية تثير الفزع، وتجعلنا نخشى على المستقبل. وسمعت خطيبا يشرح سورة (التكاثر) ويزهد الناس فى الدنيا ويسوق نصوصا أكثرها مقبول بيد أنى شعرت بحيرة، وكنت أقرب إلى الضيق منى إلى الرضا.. إن النهى عن الأكل فى صحاف الذهب والفضة وارد، غير أن سوق هذا إلى الخدم والعمال لا مساغ له! والأمر بالعدل بن الزوجات مطلوب، وتوجيه هذا الكلام إلى نزلاء السجون شىء مضحك وما أزعم أن عامة المسلمين أحسنوا مواقفهم من الدنيا واستغنوا عن النصح الطيب. فأغنياء المسلمين وفقراؤهم سواء فى الحاجة إلى فهم طبيعة الحياة، سواء قل نصيبهم منها أو كثر.. إن كلمة (ألهاكم التكاثر) بالغة الدقة فى تصوير رذائل الحياة، وهناك تنافس مجنون على جمع الحطام شغل أصحابه عن الوظيفة الصحيحة للمال، ذلك أمر مذموم يقينا، لأنه عبادة للدنيا وذهول عما وراءها. أما الأموال التى قال الله فيها: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) فإن جمعها وتنميتها حق، والمفروض أنها لا تلهى مؤمنا عن واجباته، بل هى صون لهذه الواجبات وتحصين لها، محور هذه السورة هو التعريف بالآخرة لا التجهيل فى الدنيا ولا التزهيد فيها.. إن هذا الإعلام بحقائق الآخرة تكرر ثلاث مرات فى قوله تعالى: (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون). والتعريف بالآخرة ليس تجهيلا بالدنيا أو صرفا عنها كما يتصور البعض فربما أوجب عليك الإسلام أن يكون لك مال قارون، على ألا يكون لك كبره أو شحه أو فساده. إن الصعلكة لا تقيم جهازا للجهاد ولا تبنى جامعة للمعرفة، إنما ينشئ ذلك كله كثرة لا تلهى وسعة لا تطغى ودنيا يسخرها مالكها لخدمة الدين. ص _198(1/205)
عبادة يستغربها العصر الحديث أظن الحضارة الحديثة تكره الصوم وتنكر فلسفته! فهى ـ بشقيها الغربى والشرقى ـ تعبد الجسد، وتلبى رغباته وتستغرب اعتراضها، ثم هى لا تمد البصر إلى أبعد من هذه الحياة الدنيا، فما بعد الموت وهم لا مساغ لتصديقه ولا للإعداد له! ويعنى ذلك إشباع النهمة إلى هذه الحياة العاجلة، وانتهاز الفرصة للوجود هنا كى ننال كل شىء، إذ لا شىء بعد. وقد صور القرآن الكريم هذا الإحساس المادى المغرق بقوله: (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). والتشبع من الحياة قبل أن تنتهى، وينتهى معها الوجود كله هو تفكير الجاحدين للألوهية، المستبعدين لليوم الآخر، المعولين على أعمارهم فوق هذا التراب وحده! وربما كان ذلك مسلكا شاذا أو نادرا بين الأقدمين، ولكنه الآن مسلك شائع بين جماهير من الضائقين بالأديان سقيمها وسليمها.. وهؤلاء يقينا هم المعنيون بقوله سبحانه: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم). إن أحدا من هؤلاء لا يفرط فى تناول طعامه، بل لا يفرط فى تناول سيجارته من أجل ثواب يتخيل، إنه عبد يومه وحسب.. وقد نتساءل: كيف يوصف أولئك (المثقفون) بأنهم يأكلون كما تأكل الأنعام مع أنهم يحسنون التفكير والإنتاج؟ والجواب أن الأكل عند هؤلاء مصدر الطاقة اللازمة للبدن والرفاهة المطلوبة للحياة فهو غاية تقصد لذاتها، ولا يقبل إرجاؤها أو انتظار بديل عنها فى عالم الغيب. إن المتعة فى هذه الدار وحدها، وذاك ما شرحته آيات أخرى: (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون). أو قول الله فى تحديد الدائرة التى يحيا الكافر داخلها: (إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا). وشريعة الصيام لها محور آخر تدور عليه، وأشواق أخرى ترنو إليها، وهى تناقض مناقضة ص _199(1/206)
تامة قصة أن الحياة جسد لا روح، ودنيا لا آخرة.. إننا نحن المسلمين نعتقد أن الوجود الإنسانى طويل ذاهب فى الطول، وأن الموت ليس نهاية له كما يتصور البعض، إننا بالأسلوب الذى نحيا به هنا، نصنع المستوى الذى نحيا به هناك، فإذا عرفنا ربنا فى هذه الأرض نضر وجوهنا يوم لقائه، وكان لنا عنده مهاد صالح. أما عبيد التراب فالويل لهم! (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين). بيد أن الأمر يحتاج إلى مزيد من الشرح، فإن بعض المتدينين ظن ذكر الآخرة إضاعة للدنيا، وظن ترجيح الروح توهينا للجسد، وحسب أن التسامى الروحى وكسب نعيم الآخرة إنما يتمان على حساب عافية واهنة، ودنيا غلبها الذبول! والحق أن هذا جهل بالإسلام وظلم لتعاليمه، فإن الدين لم يطلب أكثر من إحكام الرقابة على الغرائز البشرية حتى لا تطغى وتزيغ، والمرء إذا استجاب لكل رغبة، وسارع لكل شهوة فقد كرامته وأدبه لا محالة! ويعجبنى قول الشاعر العربى: إذا الحلم لم يغلب لك الجهل لم تزل عليك بروق جمة ورواعد! إذا أنت لم تترك طعاما تحبه! ولا مقعدا تدعى إليه الولائد! تجللت عارا لا يزال يشبه سباب الرجال نثرهم والقصائد نعم.. فلابد من ضبط النفس وكبت شهوات كثيرة تهدم ولا تبنى وتقعد ولا تقيم... وهذا معنى الصوم، وأثره المنشود. ولا شك أن قمة الكمال فيه أن يتم إيمانا واحتسابا، فإن الفضائل كلها تتهاوى وتفقد رصيدها السماوى عندما يقارنها الرياء أو الغش ونسيان الله.. والدين يضع الدنيا موضعها الصحيح، فلا يبخسها ولا يغالى بها، لو كان عمر الآخرة عشرة أضعاف عمر الدنيا لوجب توزيع الاهتمام على شئون الدنيا والآخرة بهذه النسبة! فكيف والآخرة أخلد وأجدى؟ ومع ذلك فإن الدين ما استهان بالدنيا، وإنما رفض الاغترار بها والتكاثر فيها والاحتباس فى مآربها (والله عنده حسن المآب). ص _200(1/207)
فهل نفهم هذه الحقائق العالية من رمضان ومن فريضة الصيام فيه والقيام فى لياليه؟ إن سعارا ماديا محرقا يجتاح المدن والقرى ليباعد الناس عن ربهم، وعلى المؤمنين أن يطفئوا هذا السعار، وأن يحموا حقيقة الشهر المبارك وأن يجعلوا من الصيام المفروض مجلى للروحانية المقبلة على الله المؤملة فى رضاه. ص _201
فى ترتيب السور أحيانا أشعر ـ وأنا أتلو القرآن ـ ببعد المسافة الزمنية بين سورة وسورة، أو آية وآية، وأتساءل: هل إشعار القارئ بهذه المسافة البعيدة مقصود فى سوق الآيات وترتيب السور؟ ولأضرب مثلا لما أعنى، فى الجزء الأخير من المصحف الشريف تعقب سورة النصر سورة الكافرين، وسورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة المنورة وسورة الكافرين من أول ما نزل بمكة المكرمة، أى أن بين السورتين أكثر من عشرين سنة يطويها القارئ فى لحظات سريعة وهو ينتهى من هذه ويبدأ فى تلك. السورة الأولى نزلت فى غربة الدين وعناء الدعاة وعناد الكافرين نزلت لترسى دعائم التوحيد العملى، وتمهد له الطريق مهما فدح الثمن وازدادت العوائق. والسورة الثانية نزلت وبشائر النصر تلوح فى كل أفق والقبائل التى نفرت من التوحيد أول أمرها أخذت تثوب إليه وتقبل عليه، وصاحب الرسالة العظيم يستعد للعودة إلى ربه بمزيد من التسبيح والاستغفار بعدما قضى العمر فى جهاد يضنى الأبطال ويوهى الجبال. كلتا السورتين تقابل الأخرى كأن الأولى تصور البذر والأخرى تصور الحصاد! وأتساءل مرة أخرى: هل هذا الشعور مقصود فى ترتيب السور؟ ويعود السؤال على نحو آخر عندما نتدبر سورة ق المكية بعد سورة الحجرات المدنية. إن السورة المدنية تبرر طائفة من الآداب المطلوبة فى مجتمع مستقر، له قيادة يجب توقيرها وإحسان التلقى عنها، مجتمع له مشكلات يجب التلطف فى حلها كى تبقى الأمة موحدة الصفوف واضحة الهدف.. أما السورة المكية فإن الكلام فيها طال عن البعث والجزاء، وعن قمع الطبائع المتمردة بأهوال النار وشدة(1/208)
الحساب، أو استهواء النفوس النائية بالخيرات الحسان والمغفرة الشاملة. وبين السورتين قرب معنوى وإن فصل بينهما مكان وزمان. فإن الأخلاق الزكية والسير الطاهرة إنما تنبجس من قلب مؤمن، يعرف الله ويتهيأ للقائه ويرجو وعده ويخشى وعيده. إن الإيمان بالله واليوم الآخر هو العدو الأول للإباحة والفوضى والعنصر الأول للتسامى والأدب! وكأن مجىء سورة ق بعد سورة الحجرات تذكير بمصدر الطاقة الروحية وراء كل تربية ناجحة واتجاه سليم. ص _202(1/209)
إن القرآن الكريم كتاب تدور معانيه على محاور متقاربة وغايات متشابهة. وتوضيح هذا قد تعنى به التفاسير المطولة، وإنما نلفت النظر هنا إلى شىء ذى بال! إن الموضوعات الكثيرة التى يستعرضها الكتاب العزيز تتعاون كلها على تكوين عقل مؤمن أو قلب بصير يستطيع الاستقامة فى الدنيا والانتصار على همومها وعقدها.. ذاك ما يصنعه القرآن وهو يصف الكون، أو حين يروى تاريخ الأولين، أو حين يعرض مشاهد الحساب والثواب والعقاب، أو حين ينشىء العبادات ويقوم الأخلاق ويزجر عن الآثام. إن هذه القضايا القرآنية تتساوق كلها على بناء إنسان سوى المواهب العقلية. والخلقية، مأمون الحكم، محترم الفطرة، معتدل المنهج محيط بأطراف الدين مدرك للنسب القائمة بين فى فروعه وأصوله. ومن ثم فإننى لم ألق بالحفاوة رجلا يشتغل بالدعوة كان قليل التلاوة للقرآن، قليل التدبر فى معانيه، وهو فى الوقت نفسه كثير الاشتغال بالأحاديث، طويل الانكباب على بعض أبوابها.. قلت: إن الإسلام يقوم يقينا على الكتاب والسنة، وقد اتفق العلماء على أن الكتاب الكريم هو الأصل الأول، وأن السنة مبينة ومفصلة.. وقد يحتاج الصيادون إلى كل ما ورد فى الصيد من سنن، وقد يحتاج اللحادون إلى كل ما ورد فى الأكفان والأغسال من سنن. أما الصورة العامة للإسلام ورسالته العظمى فلهما شأن آخر ينبغى أن يعرفه عارضو الإسلام فى هذا العصر بشتى الفلسفات والنزعات. وعلاقة المسلمين بقرآنهم هى أسمى العلاقات وأرسخها، ولذلك يجب أن ندع نفوسنا للقرآن الكريم يشكلها بتوجيهاته وهداياته ويضبط اهتمامها بشعب الإيمان فلا يطغى فرع على أصل ولا يموت فرع بإزاء أصل.. إن الموظف فى ديوان المحاسبة قد يحيا فى عالم من الأرقام، ولكن هل العالم كله أرقام؟ إن الإسلام دين تحدث فى شئون الحياة كلها، بيد أن القرآن الكريم هو الكتاب الذى أعطى الخطة العامة والملامح الرئيسية ومجموعة الظلال والأضواء التى تكشفها. ص _203(1/210)
طبيعة لم تغيرها القرون قديما، لما مس بنى إسرائيل الضر وطالت عليهم الأيام النحسات تحت حكم الفراعنة، قالوا لنبيهم الكبير موسى عليه السلام: (قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون). واستمع موسى إلى شكوى قومه، وهو بهم خبير، وتساءل فى أعماقه: ترى ماذا تكون حالهم إذا ملكوا أزمة السلطة واستطاعوا تصريف الأمور؟ أيكونون خيرا من الفراعنة وأدنى إلى مرضاة الله؟ أم يكونون شرا من الفراعنة وأقبح سيرة وخلقا؟ ولم يصارح موسى قومه بما يدور فى نفسه، واكتفى بأن قال لهم هذه الكلمات: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) وهى كلمات لها دلالات بعيدة تحمل قدرا غير قليل من الريبة فى مستقبل بنى إسرائيل لو حكموا ووقعت فى أيديهم مصاير الآخرين.. وشاء الله أن تزول دولة الفراعنة، وشاء أن تقوم لبنى إسرائيل ـ فى التاريخ القديم ـ دولة! ونظر الناس إلى المستضعفين القدامى وقد أصبحوا سلاطين ينهون ويأمرون. وعجبت الدنيا لأن لوقا آخر من الفراعنة قد برز، وصورة أخرى من الجبروت قد ظهرت. إن اليهود لما حكموا تنفست فيهم غرائز الشر والجور، وسيطرت نوازع الأثرة والقسوة، وقطعت رؤوس أنبياء كرام، ورجال عدول! وأصبح لكلمات الشرف والوفاء رنين النقود المزيفة فاختفى التعامل بها على حين شاع الربا والخنا.. أكان موسى يخشى ذلك كله من قومه عندما قال لهم وهم تحت أقدام الفراعنة: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) على أية حال أذن القدر لدولة بنى إسرائيل الأولى أن تقوم، وانتشى القوم بخمرة القوة فعربدوا ما شاءوا، وملأوا الأرض بالأزمات الروحية والخلقية ومفاسد الاستعلاء والهوى، ثم طويت رايتهم كما طويت راية الفراعنة من قبل، مصداق القانون الإلهى الصارم: ص _204(1/211)
(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين). وتوارث الناس بعدئذ أن اليهود إذا ملكوا اختفت من الأرض العدالة والبركة، وأن عواقب نقضهم لعهد الله تتبعهم حيث كانوا. نعم.. لقد أخذت عليهم المواثيق أن يؤمنوا فلا يكفروا وأن يصلحوا فلا يفسدوا وأن يعدلوا فلا يظلموا، والغريب أنهم يقترفون شر الآثام ثم يرتقبون جزاء المؤمنين والمصلحين الأوفياء..! وتقوقع اليهود عمدا فى الحارات التى اختطوها لأنفسهم داخل المدن الأوروبية الكبيرة. وذلك كيلا تذوب شخصيتهم وسط الشعوب التى عاشوا بين ظهرانيها، وبقى لهم طابعهم الفذ المنحرف الذى يدعى الأصالة، أو الطريد الذى يدعى أنه المختار! ومنذ حاولوا قتل عيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ظلت جراثيم الفتك بكل مصلح تسرح فى دمائهم، وتغريهم بأقبح الفعال. ولم يكن مستغربا أن تتنكر الدول الأوروبية كلها لهم على امتداد الأعصار والأمصار.. وإنما كان موضع الغرابة أن يستدير بنو إسرائيل إلى العرب فيبطشوا بهم، وينالوا منهم، ويمحوا معالمهم، ويدكوا قراهم، ويشتبكوا معهم فى صراع فناء! والغرابة تجيء من أن العرب أحسنوا إلى اليهود، ولم يحاول حاكم عربى إبادتهم طوال القرون الماضية على حين حاول ذلك الأوربيون جيلا بعد جيل! قال لى صديق ـ بعد أن ضرب اليهود المفاعلات الذرية ببغداد ـ : ليس هذا أول غدر للقوم ولن يكون الآخر! إن اليهود قتلوا عددا من علماء الذرة العرب، الرجال والنساء، قتلوهم فى معاهد العلم أو فى الفنادق التى ينزلون بها. وهم سيغيرون على أية عاصمة عربية أو إسلامية تخاصمهم دون رعاية لأى عهد دولى أو محلى! وصوت اليهود يعلو عن القيم والأخلاق أيام ضعفهم وحسب فإذا ملكوا القوة تحركوا فى كل اتجاه، وضربوا بكل سلاح.. وما دامت العصا التى تردع غائبة فلا شىء يمنع(1/212)
الغزو والسوط والتبجح والصياح. إن القرآن وصف هذا المسلك الخسيس بأنه ليس سلوك بشر طيبين وإنما هو سلوك حيوانات شرسة: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون). ص _205
وعلاج هذه القطعان الخئون لا يكون بالهوادة والرفق، بل ارقبهم واستعد لهم فإذا تحركوا للغدر فاضرب من ظفرت به ضربة يطير لها قلب البعيد، وتنقض بها جموع الخونة: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون * وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين). فى المأساة التى تمر بالعرب الآن لا ألوم إلا اليد العزلاء بين المخالب المفترسة، والعين الهاجعة بين العيون الخائنة، والصف المختل أمام جبهة متساندة من الجزارين العتاة. قلنا إنه عندما يتحول التدين إلى حركات بدن، وإتقان شكل، فإن حقيقته تضيع وغايته تبعد أو تتلاشى. المعنى الأصيل للتدين أن يكون حركة قلب، ويقظة فكر، أما المراسم الجوفاء والصورة الشاحبة فلا دلالة لها على شىء، ومن عجز عن تصحيح قلبه ولبه فهو عما سواهما أعجز، ويوم يتولى عملا ما فى المجتمع فسوف يكون نموذجا للفشل لأنه لن يدفع تيارات الحياة إلى حيث يجب، بل ستدفعه هذه التيارات إلى حيث تشاء. وهنا الهزيمة الشنعاء للدين والدنيا. والتدين المغشوش يبدأ بعقد صلح بين الهوى الخاص والتوجيه الأعلى، وبطريقة ما يبلغ المرء غرضه مع حسبان أنه لم يغضب الله! كذلك فعل اليهود عندما وجدوا السمك يجىء كثيرا يوم السبت ـ والصيد فيه حرام عندهم ـ ويكاد يختفى بقية الأسبوع. وهكذا اختبرتهم الأقدار، فكيف يحتالون لصيد السمك الكثير دون العدوان على السبت؟ صنعوا حاجزا وراء السمك المقبل، وتركوه فى الماء وديعة محفوظة ثم استخرجوه يوم الأحد. (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم(1/213)
كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون). والحيلة مكشوفة، ولكن الشهوة الغالبة يعنيها فقط أن تمضى فى طريقها. وقد جاء الإسلام بجملة من الضوابط الخلقية والفكرية لتبرئة التدين من هذا العوج، ولاستبقائه نقاوة فى الصدر وشرفا فى القصد واستقامة على النهج واستشرافا للرضوان الأعلى. ص _206
ويتجلى ذلك فى تصحيحه للمفاهيم الشائعة، أو فى تجلية معان قد يذهل عنها الجمهور الكبير لأنه مرتبط ذهنيا بالمعانى القريبة. فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأعراضهم، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.. والغنى غنى النفس والطمع هو الفقر الحاضر.. إنك تلمح فى هذه التوجيهات كيف يتحول التدين من كمال نفسى إلى كمال اجتماعى، وكيف تنضح التقوى على البيئة فتملؤها بالنظام والعفة والأمان. ولما كان العرب تجارا يكرهون الكساد والإفلاس، فقد استغلت هذه الغرائز فيهم ليطلبوا الأشرف والأزكى، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم). وجاء فى الحديث الصحيح هذا التساؤل الذى يحول الإيمان إلى سلام وشرف وخلق رفيع: "أتدرون ما المفلس. قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، ويأتى وقد شتم هذا، وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا". إنه مفلس، لأن عبادته كلها طاشت فلم تغن عنه شيئا بعدما اقتص رب العباد منه. إن التدين ليس شقشقة لسان، أو عادات أعضاء تلتوى وتنفرد، إنه قبل كل شىء قلب سليم وفكر مستقيم، ينشأ عنهما مجتمع كريم. على هذه الطريقة فى تحديد المفاهيم الصحيحة، ولفت البصائر إلى حقائق أثمن. تأملت فيما ذكره البيهقى مرويا عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هل تدرون ما الشديد؟ قلنا: الرجل يصرع الرجل! قال: إن الشديد كل الشديد الرجل الذى يملك نفسه عند الغضب. أتدرون ما الرقوب؟ قلنا: الرجل الذى لا يولد له! قال:(1/214)
إن الرقوب الرجل الذى له الولد ولم يقدم منهم شيئا ـ يعنى فى سبيل الله ـ قال: أتدرون ما الصعلوك؟ قلنا: الرجل الذى لا مال له. قال: إن الصعلوك كل الصعلوك الذى له المال لم يقدم شيئا ـ لله تعالى ـ ". إن الشكليات التى أولع بها نفر قليل أو كثير من المتدينين لا تزيدهم من الله إلا بعدا، ولا تزيدهم للإسلام الحنيف إلا ظلما. فهل نعود إلى الحقائق المجردة نهتم بها ونعول عليها؟ ص _207
حديث مظلوم حديث يعطى معناه للوهلة الأولى حكما لم يقل به الفقهاء، ومن ثم فإن قبوله مطلقا أو رفضه مطلقا لا يجوز! والواجب استبانة معناه الحقيقى كما قرره الراسخون فى العلم. والحديث من رواية البخارى: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها".. مصدر الخطأ فى الفهم كلمة "أقاتل الناس " فقد طارت أذهان إلى أن كلمة "الناس " تعنى البشر كلهم! وهذا غلط بإجماع العلماء فإنهم اتفقوا على أن الحديث لا يتناول أهل الكتاب من يهود ونصارى. لماذا؟ لأن المعتدين من هؤلاء إذا ضربت الحرب بيننا وبينهم. ونسوا منطق الإيمان والحلال والحرام فى تصديهم لنا! لم نقاتلهم حتى ينطقوا بالشهادتين بل إذا كسر الله شوكتهم، بقوا على أديانهم، وجردناهم من أسلحة العدوان، وتولينا نحن الدفاع عنهم إذا هاجمهم أحد. وعليهم ـ والحالة هذه ـ أن يسهموا فى نفقات الحرب. وهذا ما أبانته سورة براءة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون). فليست الغاية من القتال إذن أن يقولوا: لا إله إلا الله، كما جاء فى الحديث. فإذا كان أهل الكتاب مستثنين من الحديث المذكور، فهل هو يتناول الوثنيين كلهم؟ والجواب: لا ففى حديث آخر صحيح إلحاق للمجوس بأهل الكتاب "سنوا بهم سنة أهل الكتاب ". الحق أن الحديث فى مشركى العرب الذين(1/215)
ضنوا على الإسلام وأهله بحق الحياة، ولم يحترموا معاهدة مبرمة، ولا موثقا مأخوذا. ص _208
وقد منح هؤلاء أربعة شهور يراجعون أنفسهم ويصححون موقفهم، فإن أبوا إلا القضاء على الإسلام وجب القضاء عليهم. وقد فصلت سورة براءة هذه القضية فى أوائلها: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين). أما من نصبوا أنفسهم لحرب الله ورسوله وعباده إلى آخر رمق فلا يلومون إلا أنفسهم. وقد يتساءل البعض: لماذا جاءت كلمة الناس عامة فى الحديث: "أمرت أن أقاتل الناس "؟ والجواب أن "الـ" كما يقول علماء اللغة للعهد، تأمل قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). فكلمة الناس الأولى: تعنى بعض المنافقين، والثانية: تعنى بعض الكفار وهذا هو المعهود فى أذهان المخاطبين وتأمل قوله تعالى: (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا). الناس هنا ليسوا البشر جميعا، إنهم العرب وحسب. رأيت فريقا من الناس يخدعه الظاهر القريب فى هذا الحديث فيتوهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام يشن حربا شاملة على البشر. ولا يزال يحرجهم حتى ينطقوا بالشهادتين. وهذا فهم ـ كما أسلفنا ـ لم يقل به فقيه، ولا يستقيم مع مرويات أخرى فى غاية الصحة والوضوح. ولم يؤثر عن تاريخ المسلمين وهم يقاتلون (الإمبراطوريات) الاستعمارية التى أظلم بها وجه الحياة قرونا عدة. ورأيت ناسا آخرين يسارعون إلى تكذيب الحديث، دون وعى، ويتخذون منه ذريعة إلى ص _209
مهاجمة شتى الأحاديث الصحيحة دون تمحيص سند أو متن، ودون تقيد بقواعد اللغة أو مقتضيات السياق. وقد رأيت لأولئك القاصرين أفهاما فى كتاب الله لابد من محاربتها وإهالة التراب عليها. ص _210(1/216)
هل الفاعل مجهول فى دراساتنا لعلوم الكيمياء والفيزياء والأحياء كنا نستعرض خواص المادة وقوانينها أو مظاهر الخلايا الحية وأطوارها، ثم نمر مر الكرام على ذلك كله، فلا نعرف له صاحبا ولا نذكر له مصدرا ونكاد نقرر بلسان الحال أو بلسان المقال أن الفاعل مجهول. والسبب فى هذا الجحود السائد أن نشأة تلك العلوم كانت فى بيئات مادية تكره الدين وتضيق بمنطقه وترفض أغلب أحكامه! ومعروف أن نزاعا داميا نشب بين الكنيسة والتقدم العلمى، جعل جمهور المفكرين يعد الدين،مرادفا للجمود والوهم! والحقيقة أن الكنائس فى العصور الوسيطة حاربت المنطق العقلى وبحوثه المنتجة لأنها اعتبرت ذلك تأثرا بالإسلام واستجابة لتوجيهه. ومن ثم عالجت اليقظة العلمية بالحديد والنار، وخشيت أن تكون هذه الحركة طليعة لتقدم إسلامى مدنى يسبق تقدمه العسكرى، فلم تهادن مكتشفا ولا باحثا وسفكت الدم بغزارة. ورأت بهذا المسلك أنها تخدم الدين ! وما درت أنها تخدم الإلحاد، وتمهد أمامه الطريق، وأن العلم لما انطلق إلى غاياته كفر بالدين كله، وتحدث عن المادة ناسيا ربها، وعن قوانينها ناسيا من أحكمها. وغفا المسلمون غفوتهم الكبرى، وتأخرت بلادهم تأخرا مخزيا، ثم استيقظوا يطلبون العلم من مظانه، فإذا النقلة والمترجمون يعرضون الدراسات الكونية والحيوية مبتوتة العلاقة بمبدع الكون والحياة، لا تذكر له اسما، ولا تنبى له عن وصف، كأن العالم لا صانع له ـ أو بتعبير العصر ـ كأن الفاعل مجهول. وهذه سوءة فكرية يلزمنا عارها إن لم نتداركها بالإيمان العاقل، أو العقل المؤمن، فنربط الكون بخالقه وفق المنهج الذى رسمه القرآن الكريم ومشت فيه ثقافتنا الصحيحة وقامت عليه حضارتنا الأولى. إن بعض الناس يظن الدين نوعا من الأدبيات الحالمة أو الوجدانات العائمة! وهذا كلام ينطبق على الأديان الوثنية أو نصف الوثنية، ولكنه لا ينطبق أبدا على الإسلام الذى تدعمه الحقائق، ويسانده البرهان فى كل مجال،(1/217)
والذى يرفض كل ما يأباه العقل ويناقض أدلته. ص _211
كنت أقرأ قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير). فتوقفت قليلا ثم أعدت النظر فيما قبل الآيتين وما بعدهما فوجدتنى أمام سبعة عشر اسما أو صفة لله تعالى، جاءت مع الحديث عن الكون والحياة والمكان والزمان وكأنها تقول للناس: ما ترون فى كل أفق هو صنع الله، إن الفاعل غير مجهول عند أصحاب العقول! وتدبرت صفتى اللطف والخبرة مقرونتين باخضرار الأرض وسريان الحياة فى كيانها بعد هطول المطر، ثم قلت لنفسى: ما أحرانا نحن المسلمين بتصحيح منهج الدرس لعلوم الكون والحياة، وتأليف كتب أدق فى علوم الكيمياء والفيزياء والنبات والحيوان وسائر العلوم الأخرى، كتب تزيل الإبهام والريب عن أسرار الحياة، وخلق العالم. إننا بهذا التصحيح الواجب نؤدى رسالة الإسلام ونستحيى حضارتنا الأولى، ونرفض الفكر المادى فى صوره القديمة والحديثة على سواء، ونعقد الصلح الواجب بين الإيمان والعلم، ونقطع الطريق على التدين المغشوش حين يحاول فرض نفسه على العالم، بالكهانة والتهويم. ص _212(1/218)
الأمانة فى نقل التراث بعض الأمم يكون تراثها وساما على صدرها أو حلية فى معصمها، فهى تزهى به كما يزهى امرؤ عادى بشىء يزينه! لكن العرب لهم شأن آخر، إذ أن التراث بالنسبة لهم ضرورة حياة وأساس بقاء. التراث بالنسبة للعرب وجودهم المادى والأدبى كله! ونعنى بالتراث ماضيهم الفكرى والأدبى والحضارى، وما أسدوه للعالم ونالوا به درجة الأستاذية. والإسلام ولى هذه النعم، وينبوع ذلك العطاء، الإسلام لا غير. إنه خلد لسانهم لما نزل به الوحى، وشرف جنسهم لما اصطفاهم الله للرسالة الخاتمة، وابتعث منهم محمدا صلى الله عليه وسلم ـ، وكرم أرضهم لما جعل قبلة المصلين إليها، وكعبة الحجاج فيها. ونحن العرب نرى أنفسنا فى تراثنا، ونثبت وجودنا بالحفاظ عليه، ونحترم شخصيتنا حين نتحاكم إلى شرعه، ونستبقى شرفنا حين نقدم للعالم هذا التراث رحمة عامة وإنسانية متجردة، وانعطافا إلى الله تعالى وزلفى إليه. والهجوم شديد فى هذه الأيام على تراثنا، فأعداء الله يريدون تحويل الهزائم العسكرية للإسلام إلى انسحاب عام من كل ميدان، بل إلى اندحار شامل يقطع يومنا عن الأمس الزاهر، ويجعل المسلمين أمما مقطعة محسورة، تجهل كل قطعة منبتها ومصيرها وتفقد القدرة على الحركة الذاتية، فلا يبقى أمامها إلا أن تلتحق بقطار آخر يجرى ذات اليمين أو ذات الشمال، ولا يستقر أبدا على الصراط المستقيم. كذلك يريد الغزو الثقافى، وبهذا يتحرك سماسرته فى الصحف وسائر مجالات الإعلام، ولكننا لهم بالمرصاد. سنقاومهم ونهزمهم بإذن الله، ونستنقذ الإسلام من هذه المآزق المرسومة له. ص _213(1/219)
ونحن نعرف أن أمة سلخت أكثر من أربعة عشر قرنا وهى تحمل رسالة كبيرة لابد أن تكون لها سلبيات وإيجابيات! وهزائم وانتصارات. وأرى ألا نفر من أخطائنا، بل نحاسب أنفسنا عليها، فذلك أحرى ألا نقع فيها، إن اليهود استنوا لأنفسهم البكاء عند حائط فى المسجد الأقصى، ومن العبرات المراقة كتبوا لهم تاريخا آخر. أما نحن.. فما أكثر ما فقدنا، وما أكثر البلاد التى عمرناها بالإسلام ثم طردتنا الأقدار منها بعد أن فقدنا أهلية البقاء فيها! ليت شعرى لماذا لا نبكى على خطايانا ـ كما أمرنا نبينا ـ لا بكاء اليائس بل بكاء التائب الذى يأسى على صفحة سيئة ليكتب صفحة مضيئة. إن دراستنا للتراث قاصرة، بل لعلها جزء من الغيبوبة التى نالت منا ولا تزال. وقد كنا إلى أمد قريب نحارب الاستعمار الثقافى الذى يريد اقتلاعنا من جذورنا، ويشدنا إلى ملل ونحل لا نعرفها ولا نريد أن نعرفها. حتى فوجئنا بمن يغوص فى تراثنا ليحرف الكلم عن مواضعه، ويبرز لنا سلفنا الأول أقزاما ملتاثين، أو سباعا تتهاوش على أعراض الدنيا ومآربها الخسيسة. ومن ثم يمكن الالتواء بزماننا كى نلتحق بفلسفة أخرى ونستبدل بوحى السماء سوس الأرض. إن القاصى والدانى والذكى والغبى يعرفون أنباء الفتنة الكبرى التى وقعت فى صدر الإسلام. ولما كانت دراسة الماضى تقع للعبرة لا للتجريح، وللبناء لا للهدم، فإن أئمة الفقه والتاريخ والتوجيه العام قالوا: دماء طهر الله أيدينا منها فلا نلوث أفواهنا بها! وقد حكمت كثرة المسلمين بأن فلانا أصاب وفلانا أخطأ، وكان ذلك عن اجتهاد يعرف علام الغيوب ما وراءه من قصد وسيحكم بينهم فى اللقاء الأخير. ونحن ننظر إلى ما حدث ونقرأ قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون). ولما كان الأمر شديد التعقيد فقد وضعت فى كتابى (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) مقترحات أولية لتقريب الفوارق بين أهل السنة والشيعة، وحاولت تجفيف(1/220)
أو تخفيف المنابع التى ترشح بالحقد وتفيد أعداء الإسلام وحدهم، وإذا الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى ينشر ص _214
سلسلة مقالات بعنوان (على إمام المتقين) ينكأ بها الجروح القديمة ويحيى بها الطائفية الهامدة، ويشحن السلسلة بأخطاء وأهواء توقظ الفتنة وتشغل المسلمين المعاصرين عن مواجهة خصومهم إلى محاكمة الموتى، ونسبة جرائم كاذبة إلى رجال ونساء أبرياء. لقد أدركت منذ مدة أن الكاتب ميال إلى الشيوعية، وانه مع نفر من رفقائه ألفوا ما سموه باليسار الإسلامى. وكان عرض التاريخ الإسلامى من زاوية الفلسفة المادية نصيب الأستاذ الشرقاوى، فألف كتابه (محمد رسول الحرية) على أساس أن الإسلام مظهر للصراع بين الطبقات (!) وأن الأصنام تم نصبها حول الكعبة لأسباب مادية، وتم هدمها كذلك لأسباب اقتصادية. وقد اعترض الأزهر تداول الكتاب ، وكتب مفندا ما جاء به؟ ولكن الكتاب بقى لأن رجال الثورة يريدون بقاءه. ومضى الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى فى طريقه يفسر الوقائع بمعايير الفكر اليسارى ، ويقرأ كتب التاريخ غير مميز بين حقيقة وشائعة، وبين صحيح وموضوع، وغير مدرك لمكانة الرجال الذين يتحدث عنهم فجاءت مقالاته بعيدة كل البعد عن المنطق العلمى، كما جاءت بعيدة الأثر فى الإساءة إلى الإسلام والصحابة.. وإلى الآمال المرجوة فى الصحوة الإسلامية، وجمع الشمل. وهاك نماذج من المقالات القليلة التى وقعت بين يدى. قال: إن على رضى الله عنه خطب الناس: إنما أنا بشر مثلكم فإن قلت حقا فصدقونى، وإن قلت باطلا فردوا على! أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبض وأنا أولى الناس به، وبالناس من بعده (!) قالوا: اللهم نعم! قال: فعدلتم عنى وبايعتم أبا بكر رضى الله عنه، فأمسكت ولم أحب أن أشق عصا المسلمين وأفرق بين جماعتهم، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر رضى الله عنهما من بعده فكففت ولم أهج الناس، وقد علمت أنى كنت أولى الناس بالله ورسوله ومقامه(1/221)
فصبرت! ولما قتل عمر رضى الله عنه وجعلنى سادس ستة لم أحب أن أفرق بين المسلمين.. الخ. نقول: هذه خطبة مكذوبة على علىّ رضى الله عنه، وهى تعنى أمورا هائلة، تعنى أن الخلفاء الثلاثة الأوائل كانوا مغتصبين حقا ليس لهم، وأنهم طلاب دنيا وعشاق رياسة، وأن جمهور الصحابة جبن عن مناصرة على رضى الله عنه صاحب الحق المقرر، وباع كذلك دينه إرضاء لأبى بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم. أى أن نبى الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فشل فى إنشاء جيل يصون الأمانات ويؤديها لأصحابها، وأن أركان دولة الخلافة كانوا خطافين. ص _215(1/222)
هذا هو المحور الذى يدندن حوله الكاتب، ومن اليسير بعد ذلك طعن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار! وما قيمتهم إذا كان أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم اغتصبوا ما ليس لهم؟ وعندى أن الإسلام كله سوف ينهار إذا تقرر أن جمهور الصحابة على النحو الهابط الذى أبرزه به الشرقاوى. وكذبة أخرى! روى الشرقاوى أن امرأة جاءت إلى أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها بعد معركة الجمل وسألتها: يا أم المؤمنين 00 ما تقولين فى امرأة قتلت ابنا لها صغيرا؟ فأجابت عائشة رضى الله عنها: وجبت لها النار! قالت المرأة ـ وكان لها ولدان قتلا فى المعركة كما يحكى الشرقاوى ـ : فما تقولين يا أم المؤمنين فى امرأة قتلت من أولادها المؤمنين الكبار عدة آلاف؟ فصرخت عائشة رضى الله عنها: خذوا بيد عدوة الله، ثم بكت وتشنجت وغشى عليها. إن إدخال عائشة رضى الله عنها النار امتداد لتفسير رافضى متداول بين أصحابه جاء فيه أن عائشة بنت أبى بكر وحفصة بنت عمر رضى الله عنهما هما المرأتان اللتان عنتهما الآية الكريمة: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) .. الخ. وأن الله أشار إلى حال المرأتين وعاقبتهما عندما قال فى آخر السورة: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين). وهكذا، بعد القضاء على سمعة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، يقضى على ابنتيهما، وهما من أمهات المؤمنين، ليتوهم القراء أنهما من أهل النار. وقال: الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى فى أرض فدك التى طالب على وفاطمة رضى الله عنهما بامتلاكها ميراثا عن النبى صلى الله عليه وسلم ـ إن فدك ملكها اليهود من بنى النضير من زمن ص _216(1/223)
بعيد (!) حتى إذا كانت السسنة السابعة من الهجرة جاءوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ودخلوا فى الإسلام طائعين بدون حرب، فطلب المسلمون أن تقسم عليهم أرض فدك كغيرها من الغنائم، فنزل قوله تعالى: (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير). وهذا كلام ينطوى على فوضى وجهالة! فلو فرضنا زورا أن فدك لبنى النضير، وأن بنى النضير أسلموا فلماذا تؤخذ منهم أرضهم؟ وهل يعنى ذلك إلا أن المسلمين قطاع طرق؟ والصحيح أن فدك ليست لبنى النضير، وأن بنى النضير لم يسلموا، ولم يفكروا يوما فى إسلام! وأنهم حاولوا قتل النبى عليه الصلاة والسلام عندما كان بينهم فى بعض الشئون التى تفرضها المعاهدة المعقودة معهم، وكان ذلك فى السنة الثالثة من الهجرة، فلما أحس غدرهم انسحب وأعلن عليهم الحرب وحاصرهم حتى أوقع فى صفوفهم الفزع وأخيرا جلوا عن المدينة، ونزلت فيهم سورة الحشر أو سورة بنى النضير. وفى هذه السورة يقول الله سبحانه وتعالى فى وصف يهود بنى النضير: (ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار * ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار * ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب). فكيف يوصف هؤلاء بأنهم أسلموا؟ أما فدك فتقع شمالى المدينة على طريق خيبر. وقد كانت العلاقات بين المسلمين واليهود تسوء سنة بعد أخرى، وكان اليهود لا يفتأون يكيدون للرسالة الخاتمة، ويبيتون الشر للرسول وصحبه، فرأى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يجهز على وجودهم العسكرى، وأن يهدم حصون خيبر التى يستندون إليها، فسار إليها فى السنة السابعة وتمكن من الاستيلاء عليها، وكانت خيبر أغنى وأقوى مستعمرات اليهود(1/224)
فى الجزيرة العربية، فلا عجب إذا استسلمت فدك وتيماء ووادى القرى. وبذلك زال الخطر اليهودى وتفرغ المسلمون لتأديب الوثنية التى طالما لقوا منها الويل. ص _217
وهناك قضية وهب لها الأستاذ الشرقاوى فكره ونشاطه، ويريد أن يجر الإسلام إليها جرا دون هوادة! هل للمسلم أن يدخر، أو يكتنز بعد أن يؤدى الحق المقرر عليه فى ماله؟ أم يجب أن يمسك عنده شيئا فوق حاجته؟ الأستاذ الشرقاوى يؤكد أنه لا يجوز استبقاء شىء لصاحبه فوق نفقته العادية، وما زاد ينبغى توجيهه إلى الأمة الإسلامية الممتدة شرقا وغربا.. أى أنه ميال إلى نظرية كارل ماركس (لكل حسب حاجته). ولكنه يصور الرأى الذى ارتآه بأنه فقه الكتاب والسنة (!) وأن الرأى الآخر هو مذهب عثمان ومعاوية وكعب الأحبار رضى الله عنهم. فهل هذا التصوير صحيح، وهل حقا يرفض الإسلام أن تكون للأفراد مدخرات شخصية بعدما أدوا الحق المعلوم؟ أو بتعبير أصرح هل حق التملك واهى الأركان على هذا النحو، وأن مبدأ الملكية ليس له عند الله سند أو وجاهة؟ الذى نعرفه، ويعرفه جمهور المسلمين أن مبدأ الملكية له احترامه التام بشروط: ا- أن يكون التملك من وجوه الحلال فلا تقبل ملكية من طريق محرم أو مشبوه. 2- أن يؤدى المالك الزكوات المفروضة عليه فى أصناف المال التى يملكها. 3- أن يلبى مطالب الدولة فيما تفرضه من ضرائب ـ أو خراج بالتعبير القديم ـ لصيانة المجتمع مدنيا وعسكريا. وغنى عن البيان أن الدول فى عصرنا الحديث قد تبلغ بضرائب الدخل حد الإرهاق، لضمان التماسك الاجتماعى، وتأمين القدرة الحربية، وذلك كله مع بقاء مبدأ الملكية قائما. ولو أن الشروط التى ذكرناها تحققت أو قامت أجهزة دقيقة لتقييد حركة المال بها، ما كانت هناك شيوعية ولا إلحاد ولا تطرف ولا محاولة لتزييف الوحى. ولكن الخلل الرهيب فى طرائق الكسب وأساليب الإنفاق تبعه خلل مثله فى مقترحات العلاج، وجعل البعض ـ لجهله بالإسلام ـ يتخيل أن الإسلام دين(1/225)
شيوعى أو يمكن جعله كذلك. وعيب الأستاذ الشرقاوى وأمثاله أنهم يريدون تطويع النصوص لمذهب ردىء، وتفسير الوقائع لخدمة فلسفات شرها أضعاف خيرها، كأن الله أرسل رسله كى يمهدوا لكارل ماركس. ص _218
وهو يحاول أن يجعل على بن أبى طالب رضى الله عنه ضد رأس المال مهما أدى ما عليه من حقوق، فلماذا طالب وطالبت زوجته فاطمة رضى الله عنهما بامتلاك فدك، وهى بتعبير عصرنا (عزبة) كبيرة رأى أبو بكر رضى الله عنه تنفيذا لأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تكون صدقة على المسلمين، ورأت فاطمة وزوجها رضى الله عنهما أن تعود لهما ملكا شخصيا؟ وهو يحاول أن يجعل عثمان رضى الله عنه كأحد الباشوات أو اللوردات الذين يشبعون شهواتهم ويرجمون المجتمع بفضول أموالهم! وقد كان عثمان رضى الله عنه غنيا واسع الثروة، ولم يزعم خصم أو صديق أن الرجل كان بخيلا أو أنه ضن على مصالح المسلمين بدرهم، وكذلك كان عبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير رضى الله عنهم، لقد كانت لهم أموال ممدودة، فما قصروا فى عطاء، ولا فكروا فى استعلاء، ولا استكبروا على الجماهير. اللهم إلا أن يكون الغنى من الحلال المحض جريمة لا تغتفر، وأن يكون الإنفاق السمح فى وجوه البر عوجا لا يقبل. ونرى هنا أن نفسر مسالك وأعمالا تحتاج إلى زيادة إيضاح. أكان أبو ذر يحرم الكنز ويتجه إلى ما نسميه اليوم (الشيوعية) على عكس عثمان رضى الله عنه الذى كان (رأسماليا) مترفا كما يزعم البعض؟ فال ابن تيمية: كان أبو ذر رجلا صالحا زاهدا، وكان مذهبه أن الزهد واجب، وأن ما أمسكه الإنسان فاضلا عن حاجته فهو كنز يكوى به فى النار، واحتج لذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة، ولما توفى عبد الرحمن بن عوف وخلف مالا جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذى يعاقب عليه، وقد ناظره عثمان رضى الله عنه فى ذلك، حتى دخل كعب الأحبار ووافق عثمان رضى الله عنه فضربه أبو ذر! وكان قد وقع خلاف قبل ذلك بين أبى ذر ومعاوية فى الشام.(1/226)
قال ابن تيمية: إن الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والتابعين على غير ما يقول أبو ذر ـ فالكنز المحرم هو المال الذى لم تؤد حقوقه، وقد قسم الله المواريث فى القرآن الكريم، ولا يكون ميراث إلا من مال مدخر، وفى الحديث: "لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس " . ومع رواية ابن تيمية ورأيه فى وصف أبى ذر فنحن نحسب أن أبا ذر لا يحرم الكنز، ولا يحارب فضول الأموال. فمتى نبت هذا الرأى فى دماغ أبى ذر؟ ص _219(1/227)
لقد عاش مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والناس بين مكثر ومقل فلم يعترض هذا التفاوت، وعاش فى عهد أبى بكر رضى الله عنه فما هاجم الأغنياء أو طالب بتقسيم ثرواتهم! وعاش فى عهد عمر رضى الله عنه فما نبس ببنت شفة ضد من وسع الله عليهم. الحق أن أبا ذر هاجه الترف المقبل، والتوسع فى النعم، فتحرك ضد ما رآه من تغير فى سير الجماعة الإسلامية ، وتطير من نتائجه، وشرع يهاجم أصحابه ففهم الناس من كلامه ما فهموا، والرجل فى نظرى لم يتوهم أن الغنى جريمة، وأن من أخرج حقوق المال يعتبر عدوا للشعب. وأبو ذر رجل معروف بالصراحة، وملكاته النفسية تعجزه عن المناصب الإدارية، وقد أوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يتولى عمالا، لأنه لا يطيق توجيه الناس وحياطة أمورهم، ومن هنا فإنه آثر العزلة فى مكان قريب من المدينة اسمه (الربذة). ويكذب على عثمان رضى الله عنه من قال إنه نفاه برغمه إلى هذه الضاحية فقد روى البخارى عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية فى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم). فلما قدمت المدينة كثر على الناس حتى كأنهم لم يرونى من قبل ذلك! فذكرت ذلك لعثمان رضى الله عنه، فقال لى: إن شئت تنحيت فكنت قريبا.. فذاك الذى أنزلنى هذا المنزل، ولو أمروا على عبدا حبشيا لسمعت وأطعت. وقال الأستاذ الشرقاوى إن عثمان رضى الله عنه نفى عليا رضى الله عنه إلى ينبع! ولا أعرف من أين جاء بهذا الخبر؟ وقد شعرت ـ بعد طول تأمل فى سيرة عثمان رضى الله عنه ـ أن الرجل جنى عليه نبله الغريب، وحياؤه الشديد، وإيثاره ترك حقوقه عن التعرض لطلبها ممن يطمع فيها، ولو كان فى ذلك فقدان الحياة! وتستطيع معرفة هذه النفس الزكية من مسلكه عندما واجه القتلة المحيطين به، قال صاحب سبل السلام: (صح أن عثمان رضى الله عنه منع عبيده أن(1/228)
يدفعوا عنه، وكانوا أربعمائة مسلحين ـ وقال: من ألقى سلاحه فهو حر..)! لقد سمع الحديث المعروف: "تكون فتن فكن فيها عبد الله المقتول. ولا تكن القاتل ". ص _220
ولو كان أحدنا مكان الرجل النبيل، لأمر أنصاره أن يقتلوا كل هاجم ولو زهقت أرواح الألوف! لكن هذه الفلسفة العثمانية أمست علما على نوع من السلوك يفضل لقاء الله مع تحمل الأذى على سفك قطرة من دم. والناس يحبون فى معاملة رجل مثل عثمان رضى الله عنه أن يستدينوا منه، لأنهم موقنون أنه لن يخاصمهم على وفاء! ويحبون أن يعملوا معه لأنهم سيظفرون فى ظله بما يشاءون دون أن يبطش بهم. كان ينبغى أن يكون مع عثمان رضى الله عنه وزير صدق يحميه من نبله المفرط وينفع الناس بجوانبه الدميثة وخلائقه الرفيعة، لكن العرب فتحوا على أنفسهم أبواب شر لم تغلق حتى الساعة من جراء تقصيرهم هذا. واستطالت ألسنة السوء فى عثمان رضى الله عنه وذكر الأستاذ الشرقاوى ـ لا أدرى لماذا؟ ـ وصفا لما كان بينه وبين عروسه نائلة، اخلعى كذا..، ثم اخلعى كذا..، ثم.. على نحو ما تفعله الراقصات التى تتعرى للنظارة فى المسارح الأوربية القذرة. أكان المؤرخ الكبير ينظر من ثقب الباب؟ أم كان يثبت بهذا المجون أن عليا رضى الله عنه إمام المتقين؟ إن عثمان رضى الله عنه كما قال رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ رجل تستحى منه الملائكة، وقد ظلم حيا وميتا، وهو على أية حال ممن تتناولهم الآية: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم). وقد حكى الأستاذ الشرقاوى أمورا تنال من مكانة عدد من الصحابة عندما تولوا مناصب كبيرة، وهم أبرياء كل البراءة مما قذفوا به. وقبل أن نناقش التهم المزعومة نذكر مقدمة تنير الطريق للباحثين. عندما تولى أبو بكر رضى الله عنه شئون المسلمين هم أن يظل تاجرا يأكل من كدحه فى ماله،(1/229)
ولا يأخذ من المسلمين شيئا على تدبيره لشئونهم! بيد أن المسلمين أبوا ذلك، وقدروا لأبى بكر رضى الله عنه مرتبا دون ما كان يكسب لقاء عمله للأمة. ص _221
وقبل أبو بكر رضى الله عنه ما فرض له وهو يقول: لقد علم قومى أن حرفتى لم تكن تعجز عن نفقة أهلى! وقد شغلت بأمر المسلمين فسيأكل آل أبى بكر رضى الله عنه من هذا المال، ويحترف للمسلمين فيه. على أن الرجل الكبير رأى قبل مماته ألا يمسه من مال المسلمين شىء وإن كان حلالا فأوصى ابنته عائشة رضى الله عنها أن تبيع عقارا كان يملكه وأن ترد إلى بيت المال كل الرواتب التى صرفت له، حتى تكون إدارته صدقة على المسلمين! إن الله لم يكلف بهذا أبا بكر رضى الله عنه، ولا غيره من الناس وحسب الرئيس أن يخلص وينصب للحفاظ على مصالح الأمة الدينية والدنيوية، وعلى الأمة أن تكفل له معيشته على نحو كريم.. ومع ذلك فإن أبا بكر رضى الله عنه رغب إلى الله بما صنع، وخرج من الدنيا دائنا لا مدينا لأحد. ونحن نقدر مسلك الخليفة الأول، ولا نراه سنة تتبع، بل نرى أن الموظف فى أى منصب كبير أو صغير يأخذ ما فرض له، دون تزيد، ويؤدى واجبه كاملا. وضمان المصلحة العامة إنما يتم بهذه السياسة! وقد جاء فى الحديث: "من استعملناه على عمل، فرزقناه رزقا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ". فلما تولى عمر رضى الله عنه الخلافة، وكان محبا لأبى بكر رضى الله عنه ومعجبا به قال: أنا فى مال المسلمين كولى اليتيم إن استغنيت استعففت، وان افتقرت أكلت بالمعروف. وإنه كان يحمل أسرته على مستوى قاس من الإنفاق. وحاول عمر رضى الله عنه أن يكون الولاة وكبار الرؤساء على هذا النسق، فلا يأخذون مرتبات كافية. وإن كانت لهم أجور مجزية على أعمالهم، وأمكنهم اقتصادها فليتركوها لبيت المال. وقد رفض معاذ بن جبل هده السياسة، ورفض أن يعطى عمر رضى الله عنه مدخراته من رواتبه لما طلبت منه. ولكن عمر رضى الله عنه أخجل أبا هريرة وغيره حين قاسمهم(1/230)
أموالهم وحكم برد شطرها لبيت المال. إن أحدا من هؤلاء الولاة لم توجه له أى تهمة باستغلال سلطته، أو التوسع فى المال ص _222
العام.. كل ما حدث أن عمر رضى الله عنه أراد أن يحمل رجاله على خطة ما كلفه الله بها، فسلك معهم كما سلك مع نفسه هذا المنهج الناشف الغليظ. فكيف يجىء مخبول فيصف أبا هريرة بأنه لص، وأنه ضبط متلبسا بأخذ مال الأمة، وأن عمر رضى الله عنه استرد منه ما أخذه؟ إن عمر رضى الله عنه حاكم عبقرى، ورجل من رجالات الإسلام الأوائل، وقد يعجب الكثيرون بزهده ويرمقون الأفق الذى يفكر فيه بإكبار.. لكن الواقع الذى لا محيص من مواجهته هو أن الأمور لا تساس بنسق من الترفع تعجز الخاصة عنه فكيف بالجماهير؟ وعندى أن عمر رضى الله عنه فى اقتدائه بأبى بكر رضى الله عنه واقتفائه أثره نسى توجيها نبويا يبت فى هذه القضية، فقد صح عن عبد الله بن عمرو السعدى أنه قدم على عمر رضى الله عنه فى خلافته فقال له عمر رضى الله عنه: ألم أحدثك أنك تلى من أعمال المسلمين أعمالا فإذا أعطيت العمالة كرهتها ـ العمالة: الأجر قال عبد الله: بلى! فقال عمر رضى الله عنه: ما تريد إلى ذلك؟ قال: إن لى أفراسا وعبيدا وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتى صدقة على المسلمين! قال عمر رضى الله عنه: فلا تفعل، فإنى كنت أردت الذى أردت، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطينى العطاء فأقول: أعطه أفقر إليه منى! حتى أعطانى مرة مالا، فقلت: أعطه أفقر إليه منى، فقال النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير المسألة ولا أشراف ـ أى طمع ـ فخذه! وما لا فلا تتبعه نفسك ". وربما كان عمر رضى الله عنه يريد من كبار الصحابة الذين ولاهم أن يكونوا مثله فى النظر إلى مال المسلمين عندما قال كلمته الآنفة: "أنا كولى اليتيم: إن استغنيت استعففت.. وإن افتقرت أكلت بالمعروف ". ونقول: هو لزوم ما لا يلزم! وتكليف أرباب المناصب(1/231)
الكبرى بجعل أعمالهم صدقة اتكالا على تقواهم وإخلاصهم لا تصلح به الأوضاع. وننصح أخيرا من يتلمسون العيوب لأشراف الناس أن يستحوا، وعلى أية حال فإن أقدار الرجال لا تهدم بهذا الغباء، فلا أبو هريرة ولا أبو موسى ولا سعد بن أبى وقاص ولا غيرهم افتاتوا على مال الأمة أو نالوا منها ما ليس لهم بحق. وتزكية على بن أبى طالب رضى الله عنه لا تتم بشتم هؤلاء الأكابر ولا بغمزهم من بعيد. ص _223
وثم أمر ذو بال! إن محمدا عليه الصلاة والسلام هو إمام المتقين فى الأولين والآخرين، ثم يجىء بعده فى الفضل الرجال الذين حملوا معه الرسالة وأدوا الأمانة ونشروا الإسلام فى المشارق والمغارب، وجعلوا عالميته حقيقة ملموسة، وتصدوا بالنفس والنفيس لطواغيت الأرض فكسروا شوكتهم وسحقوا دولتهم، وأعنى بهؤلاء صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفى طليعتهم الخلفاء الراشدون ، ومن بينهم على بن أبى طالب رضى الله عنهم أجمعين. وقد حدثت مآس مؤلمة فى جيل الصحابة، ترجع إلى بساطة العرب فى فن السياسة، وعدم تقديرهم لمؤامرات عدوهم، وثأر المهزومين لأنفسهم. أليس مما يثير الدهشة أن تكون المدينة مفتوحة لمن هب ودب من المجوس واليهود وأتباع الملل التى اجتاحها الإسلام، فإذا هم يملكون فى داخلها حرية الكيد والفتك! وإذا الخلفاء الثلاثة بعد أبى بكر رضى الله عنهم أجمعين يقتلون وكأنهم ذهبوا ضحايا أحقاد شخصية أو ثورات محلية. كيف يقتل مجوسى عمر رضى الله عنه بهذه السهولة؟ وكيف يزعم كعب الأحبار أنه وجد مقتله فى التوراة؟ أى توراة؟ أليس ظاهرا أن المجوس واليهود تظاهروا على ارتكاب جريمتهم فى جو البراءة السائد بين المسلمين. وكيف قتل سعد بن عبادة زعيم الأنصار قبل أن يقتل عمر رضى الله عنه! ثم يشاع أن الجن قتلته! أى جن؟ ألم يفكر أحد أن الرجل قتل لإحداث وقيعة بين المهاجرين والأنصار؟ وكيف اقتحمت وفود مجلوبة من أقاصى البلاد دار الهجرة، وأصبحت سيدة الشارع(1/232)
الإسلامى، وصاحبة السطوة فيه لتقتل الخليفة الثالث بكل هدوء؟ إن كتب التاريخ عندنا حافلة بالعجائب، ومن المحدثين من يراها من الناحية العلمية ساقطة القيمة! ونحن نراها كتبا جمعت الغث والسمين والخير والشر والحق والباطل. وهى كتب تحتاج إلى أمناء يستخلصون منها الحق بالنزاهة والمثابرة والمقارنة. ونحن نقرر بقوة أن روايات جورجى زيدان، وكتابات عبد الرحمن الشرقاوى لا تحكى تاريخا إسلاميا محترما، فالأول صليبى ينفث ضغائنه على الإسلام بلؤم، والثانى يسارى يريد جعل الإسلام وتاريخه مصبوغين باللون الأحمر والتفكير المادى، ويسوق الحوادث سوقا لخدمة هذا الغرض. هل صحيح أن الصراع بين التوحيد والوثنية كان صراعا طبقيا كما يقول الأستاذ الشرقاوى ص _224(1/233)
(الأغنياء يدافعون عن وجودهم! والفقراء عن حقهم فى الحياة الكريمة وعن أحلامهم فى عالم أفضل) أى أحلام هذه؟ وأين طلب الآخرة؟ وهل صحيح أن موسم الحج كان (ليستثمر هؤلاء الأغنياء أموالهم فى البيع والشراء والربا فيربحون ويربحون! وهذه الأصنام هى التى تمنحهم كل سلطاتهم على الأجراء والمعدمين والعبيد وأبناء السبيل! وواجه محمد عليه الصلاة والسلام هذا كله بأن الأصنام ضلال مبين فهو يلعن الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله). هكذا يقول الشرقاوى فى تصوير الرسالة الإسلامية! صراع بين الغنى والفقر لا وجود له إلا فى دماغ المؤلف. وآية عدم اكتناز الذهب والفضة نزلت بعد اثنتين وعشرين سنة من بدء الرسالة أى قبل وفاة الرسول بسنة تقريبا، ولا صلة لها بعبادة الأصنام، أو الحرب التى شنها الإسلام على الوثنية من أول يوم. حتى الهجرة إلى المدينة المنورة جعل لها الأستاذ الشرقاوى أسبابا اقتصادية فإن المرابين فى المدينة كان ضغطهم أقل، والهوان الذى يتعرض له المدينون كان أخف! تأمل قوله: هنا مجتمع آخر أكثر تقدما من مجتمع مكة! هنا علاقات اجتماعية أخرى أكثر قابلية لتعاليم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالمرابى اليهودى لم يكن قادرا على استعباد المدين العربى إذا عجز عن الوفاء كما كان يحدث فى مكة (!) ولم يكن له الحق فى أخذ امرأة المدين أو ابنته لإكراههما على البغاء كما كانت تفعل قريش (!) وأجير الأرض فى المدينة أعلى درجة من عبيد مكة الذين كانوا يحرسون القوافل والمصارف.. الخ. ليس فى هذا الكلام كله ذرة من صدق، والقول بأن العرب كانوا يسترقون المدين المعسر، ويستوفون ديونهم من ارتهان امرأته وابنته وإرغامهما على الزنا، كلام مكذوب، ما كان شائعا لا فى مكة ولا فى المدينة، وبالتالى فلا صلة للهجرة بهذه الأوضاع المختلفة. إن هذا الكلام ليس تشويه تاريخ، بل هو تزوير تاريخ، أو كما يقال فى مصر: سمك لبن تمر هندى. وليس فى(1/234)
القرآن الكريم، ولا فى السنة المطهرة، ولا فى السيرة المؤلفة عن صاحب الرسالة ما يترك مثل هذا الانطباع الغريب، عن الجو الذى بدأت فيه تعاليم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ (!) كما يصف عبد الرحمن الشرقاوى الإسلام ونبيه وما نزل عليه من وحى وما أنشأه من وعى وما تمخض عنه من حضارة. إنها تعاليم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أما الوحى الإلهى الأعلى فلا يكاد يتبين. ص _225
حسب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكون بشرا عظيما.. ! منذ ربع قرن عرفت قضية التقريب بين المذاهب الإسلامية ونصرتها بقلبى وعقلى جميعا، وقلت: إن اليهود والنصارى طووا مسافة الخلف بينهم وتجمعوا علينا، واغتصبوا أرض فلسطين، وهم الآن يعدون لجعل المسجد الأقصى هيكل سليمان، ومحو شارات الإسلام فى تلك الأرضين كلها!! هل الخلاف بين أهل السنة والشيعة أعظم من الخلاف بين اليهود والنصارى، هل يتعاون هؤلاء وأولئك فى الهجوم علينا ونفشل نحن فى الدفاع عن أنفسنا، والتساند لرد المعتدين؟ من أجل ذلك أيدت قضية التقريب واقترحت لها أسسا فقهية وعملية! وما فهمت ولا فهم غيرى من رجال الشيعة أن التقريب تذويب للفوارق المذهبية وإدماج لهذا فى ذاك! إنه تجميد لأسباب الفتنة القديمة، وحبس لآثارها فى الماضى البعيد، وتعاون فيما اتفق عليه، وتلطف فيما اختلف فيه، وجعل موازين الأمور تقع بين أهل الذكر من الخاصة، ونزعها من أيدى العيابين والشتامين من الدهماء. والتقريب اعتبار بأحداث التاريخ، وتعريف على ما أصاب الأمة كلها من مد وجزر، وتجنب لأسباب الهزيمة والزيغ. إن ساسة اليهود لما غاظهم تجمع الأوس والخزرج فى ظل الأخوة الإسلامية أرسلوا إليهم من ينشد أشعارا تضمنت أخبار المعارك القديمة، والخصومات الغابرة، فكادوا يشعلون الحرب بين الفريقين لولا تدخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ. وقد عجبت لما رأيت الأستاذ الشرقاوى يقص أخبار الفتنة الكبرى على نحو يحرك الحزازات، ويهيج جمهور(1/235)
أهل السنة! لقد جعل العشرة المبشرين بالجنة مبشرين بالنار ما عدا على بن أبى طالب. حتى عمر بن الخطاب! كاد يهلك لولا فضل على عليه! أما البقية فأغنياء تكويهم ثرواتهم يوم القيامة..!! * نموذج من تجريح الصحابة فى مسلسل الشرقاوى...! هل يجد أعداء الإسلام أفضل من هذا الكلام فى النيل من الإسلام! أن يوصف طلحة والزبير وعائشة وغيرهم بأنهم أشخاص متآمرون على السلطة الشرعية، ومندفعون بأحقاد ص _226
شخصية! وأن طلحة والزبير نالا من عثمان أموالا طائلة، بنيا بها القصور واشتريا الإماء حتى أصبح لكل منهما ألف أمة وألف فرس (!)، وأنهما خافا أن يستقر الأمر لعلى بن أبى طالب فينتزع ما بأيديهما ويرده إلى بيت مال المسلمين كما هى سياسته مع غيرهم من الأغنياء ـ هكذا يقول الأستاذ الشرقاوى ـ ومن أجل ذلك أثارا هذه الحرب المشئومة، حفاظا على أموالهما، وخشية على دنياهما، ثم توسلا إلى غرضهما بالتآمر مع عائشة التى كانت تكره عليا لموقف قديم منها... أهذا كلام يقال أو ينقل؟ إننى أعرف من دراستى الأولى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمى الزبير بن العوام حوارى رسول الله، ونقل ذلك البخارى ومسلم، فهل يكون الحوارى حراميا على النحو الذى وصف الشرقاوى؟ وعدت إلى صحيح البخارى أتعرف ثرة الزبير فوجدت هذه القصة أنقلها بلغة العصر الحاضر دون أن أميل قيد أنملة عن الوقائع المثبتة فى صحيح أبى عبد الله وشروحه! قبيل التقاء الفريقين فى موقعة الجمل نادى الزبير ابنه عبد الله قائلا: يا بنى أظننى سأقتل اليوم مظلوما ـ إنها الساعة التى يشعر المرء فيها باقتراب أجله ـ والهم الثقيل الذى أشعر به هو ما على من ديون! ما أحسب ديونى تبقى من ثروتى شيئا (!) بع كل ما أملك واقض ما علىَّ من ديون... فإن بقى شىء فإنى أوصى فيه بكذا وكذا.. وكان للزبير تسعة بنين وتسع بنات.. قال عبد الله: وجعل أبى يوصينى بقضاء ديونه، ويقول: يا بنى.. إن عجزت عن الوفاء لأحد من(1/236)
الدائنين فاستعن عليه مولاى (!) قال عبد الله: فما دريت قصده! أله مولى أعتقه أمسى موسرا؟ فسألته يا أبت من مولاك الذى استعينه؟ قال الزبير: مولاى الله..!! واغتيل الزبير بمكان يسمى وادى السباع، قتله وغد يسمى ابن جرمور. قال البخارى: لم يدع وراءه دينارا ولا درهما إلا أرضين منها قطعة ثمينة تسمى الغابة فى عوالى المدينة..! وشرع عبد الله فى سداد الديون المطلوبة بعدما قتل أبوه، فوجد ما عليه يبلغ ألفى ألف ومئتى ألف! وجاء الصحابى الجليل حكيم بن حزام، وهو من كبار التجار ـ فسأله: كم على أخى الزبير من الدين؟ قال عبد الله: فكتمته وأردت أن استبقيه سرا فى نفسى، فقلت. مائة ألف! فقال حكيم: ما أظن أموالكم تسع هذا الدين! وإن عجزتم عن شىء فاستعينوا بى..! ص _227(1/237)
ولكن عبد الله لم يستعن ببشر، لقد تذكر وصية أبيه آن يستعين بالله وحده، قال عبد الله: فوالله ما وقعت فى كربة من دين أبى إلا قلت: يا مولى الزبير.. اقض عن الزبير دينه! فيهون العسير. ويبدو أن النجدة أتت من ارتفاع طرأ على سعر الأرض! جعل ثمنها يتضاعف؟ ومكن عبد الله من أن يوفى بكل درهم كان على أبيه ، رافضا معونات الناس ، متوكلا على مولى الزبير! الذى كان الزبير يثق فيه. وذاك ما جعل البخارى يترجم لهذه القصة بعنوان (باب بركة الغازى فى ماله)! وذكر الشراح أن الزبير وهو من السابقين الأولين لم يل منصبا، ولا كان عاملا على خراج، كان تاجرا شريفا يعمل فى الأسواق بجهده. هذا الرجل الغنى الفقير، المهموم بديونه وهو على أبواب الآخرة، الواثق من أن الله سوف يؤدى عنه ما عليه من حقوق تجارية. هذا الرجل يقول فيه الشرقاوى إن لديه قصورا على شواطئ البحار وضفاف الأنهار وقمم الجبال، وكل هذا الثراء الضخم مما كان يهبه له عثمان من بيت المال ! وبتلك العبارات المسعورة يريد أن يهدم كرامة نفر من أكابر الصحابة، ومن العشرة المبشرين بالجنة!! إن المصادر المريبة التى يتعامل معها الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى حافلة بأعجب الأوهام، تأمل فيما يحكيه عن طلحة، إنه يملك ضياعا فى العراق خراجها ألف دينار ذهبا فى اليوم (!) وعلى مرابطه ألف فرس، وفى قصوره ألف أمة (!) وذلك كله مما نهبه من بيت المال أيام عثمان! إن طلحة من أشراف الناس خلقا وخلقا وقد شلت يده فى معركة (أحد) وهو يحمى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السهام المصوبة إليه، وجاء فى إحدى الروايات عن الترمذى أنه "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشى على الأرض فلينظر إلى طلحة"! وهو من السابقين الأولين ومن العشرة المبشرين، ومن بناة الإسلام المتواضعين، فهل يتفق هو وعثمان بن عفان رضى الله عنهما على أكل أموال المسلمين بهذه الصورة المنكرة؟ بأى منطق تحشر هذه المفتريات فى تاريخ الإسلام(1/238)
ورجاله؟ والأستاذ الشرقاوى قرأ حديث الإفك فى كتب التفاسير، وفى كتب السنة ففى أى مصدر محترم قرأ أن على بن أبى طالب لما رأى الرسول مهموما للشائعة المحقورة ضد زوجته قال له: هى شسع نعلكم، طلقها فالنساء غيرها كثير!! ص _228
هل على وضيع الخلق فيصف امرأة مظلومة بهذا الوصف؟ ومن قال له: إن عائشة كانت ترهق الرسول وتسئمه وتضايقه؟ الصحيح الثابت فى السيرة الشريفة أن عائشة كانت أحب أهله إليه، وكانت هى شديدة التعلق به، ولقد جاء فى الصحاح أن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: "أنا أعرف متى تكونين راضية، ومتى تكونين غاضبة! إذا كنت غاضبة قلت: ورب إبراهيم، وإذا كنت راضية قلت: ورب محمد". قالت: والله يا رسول الله.. ما أهجر إلا اسمك، تعنى أنه فى قلبها.. فلماذا يجئ امرؤ متطفل ثقيل الظل بادى السخف ليتدخل فى شئون لا تعنيه ويزعم أن عائشة كانت متعبة للرسول، ثم ماذا؟ ثم إنها كانت تكره الأقباط فى مصر، لأنها كانت تكره مارية!! وكأن الأستاذ الشرقاوى يريد أن يطبق عليها عقوبة إثارة الطائفية، وتهديد الوحدة الوطنية!! كل ذلك ليكون على إمام المتقين! وعلى رضى الله عنه أكبر من هذه التفاهات، إن أبا الحسن كرم الله وجهه لا يبنيه هدم الآخرين فهو من السابقين الأولين، والخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، والشرقاوى يسئ إليه بهذا الأسلوب المنكر. يتهم الشرقاوى الخليفة الراشد عثمان بن عفان بأنه انحرف بنظام الخلافة وحوله إلى ملك عضوض وجعل أقاربه وعماله جبارين على رقاب الناس، وأعانهم على اتخاذ القصور والضياع من مال الأمة.. الخ. ونحن نناقش هذه الدعاوى بهدوء، لافتين النظر أولا إلى أمور: إن الطريقة التى جاء بها عثمان إلى الحكم تشبه ـ ولعلها أوسع ـ من الطريقة التى جاء بها عمر! أى أن لونا من الشورى كان يضبطها، فليست وراثة ملك ولا ولاية عهد، وإنما هو بحث عن أقرب الناس سمتا وهديا وتأسيا برسول الله عليه الصلاة والسلام، ورعاية(1/239)
لشئون الناس.. (ب) إن الطعن فى خلافة عثمان لم يكن بدعة محدثة، فإن بعض الفارغين الجالسين على المصاطب قال ـ لما استخلف أبو بكر عمر ـ نعم، رشحه عام أول فرد إليه الجميل بترشيحه هذا العام! وقائلو هذا اللغو يحسبون الخلافة مصلحة شخصية، وما دروا أن أبا بكر وعمر خرجا منها وقد أعياهما حمل الأعباء، وتعريا من كل مال يملكانه! ورأى عمر ألا يرشح ابنه عبد الله لها، وقال: بحسب آل الخطاب أن يحاسب منهم رجل واحد عن المسلمين! ص _229(1/240)
(جـ) إن عثمان لما ولى الخلافة كان أحب إلى الناس من عمر لليونته وسهولة نفسه حتى كأن المرأة تدلل وليدها بهذا الكلمات: أحبك، والرحمن! حب قريش عثمان! وزعم الشرقاوى بأن عثمان أخذ الناس بسياسة الملك العضوض، باطل من أساسه. ونحن نتساءل: هل وقعت مظالم اقتصادية جعلت الناس يثورون لما حل بهم من ضوائق؟ هل وقعت اضطهادات سياسية جعلت الناس يضيقون لغياب الحريات وخنق الآراء؟ هل كانت لعثمان خاصة ملكية جعلت الجماهير تغضب لما حصل عليه من ميزات على حسابهم؟ إن شيئا من هذا كله لم يقع، لقد كان الرخاء عاما، والمال وافرا، والضروريات والمرفهات تملأ البيوت. وتدبر ما يقوله الحسن البصرى فى وصف الحالة الاقتصادية أيام عثمان رضى الله عنه: (شهدت عثمان وهو يخطب، وأنا يومئذ قد راهقت الحلم، فما رأيت قط ذكرا ولا أنثى أصبح وجها، ولا أحسن نضرة منه! سمعته يقول: أيها الناس.. اغدوا على أعطياتكم؟ فيأخذوها وافية! أيها الناس.. اغدوا على كسوتكم! فيغدون فيجاء بالحلل فتقسم بينهم! حتى والله سمعت أذناى: يا معشر المسلمين.. اغدوا على السمن والعسل، فيغدون، فيقسم بينهم السمن والعسل. ثم يقول: يا معشر المسلمين.. اغدوا على الطيب! فيغدون فيقسم بينهم الطيب والمسك والعنبر وغيره! والعدوان والله منفى والأعطيات دارة، والخير كثير، وما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا..). ما يريده الشعب أكثر من ذلك؟ ما الذى يغضب الجماهير من هذا العهد الخصيب المغدق؟ حتى العطور توزع على الناس! (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله). أكان عثمان حاكما مستبدا يصد أصحاب الرأى أن يقولوا ما يرون؟ من الذى شكا من المفكرين العباقرة أن عثمان كبت فكرة؟ يقولون: رفض رأى أبى ذر ألا يملك مسلم فوق حاجته! ونقول: ومن من المسلمين وافق أبا ذر على ما نسب إليه من رأى؟ إن مبدأ الملكية محترم فى الإسلام، وإن كان مثقلا بالحقوق، وإنكار الملكية الفردية ليس من الإسلام فى شىء، وإنما(1/241)
الكلام فى الحقوق التى ترتبط به! ص _230
فهل جاع مسلم على عهد عثمان وأتخم آخر؟ أم إن الوفود المسيرة ضد الخليفة المفترى عليه كانت تسيرها مآرب أخرى؟ سنرى ذلك بعد حين. ونحب أن نشرح جانبا من سيرة عثمان لنرى أكان الرجل حاكما مستغلا لمنصبه أم كان رجلا مترفعا على الدنيا ملتزما نهج الخلافة الراشدة. يقول الأستاذ أحمد محمد الصديق: إنه لم يستأثر بالمال لنفسه ولم يحتجنه أثرة على غيره! وقد نقل الأستاذ العقاد فى عبقرياته اتفاق المؤرخين على أن عثمان ترك الدنيا، وماله أقل مما كان لديه يوم ولى الخلافة. وقد روى شرحبيل بن مسلم أن عثمان كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت! وسئل الحسن عنه فأجاب: رأيت عثمان بن عفان يقبل فى المسجد، وهو يومئذ خليفة، ويقوم وأثر الحصى بجنبه! فنقول: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين! وكان فى شيخوخته المجهدة إذا استيقظ من الليل ليصلى ما كتب الله له، يأبى أن يوقظ أحدا من خدمه كى يعد له وضوءه، ويتحامل على نفسه فى إحضار الماء وإسباغ الوضوء. والإجماع معقود على أن عثمان كان دمث الأخلاق، شديد الحياء، واسع الجود، بذالا فى وجوه الخير، محبوبا من عارفيه كلهم! يؤثر السلام ويكره الخصام، ويرفض العنف ويفضل فقدان حقوقه على نيلها بقطرة دم. وقد ضارته هده السيرة الرفيعة ـ أو بتعبير آخرـ استغلتها القوى المعادية للإسلام على أوسع نطاق.. ونحن نعيب على أهل الحق نوعا من السلبية التى تغلبهم، وتتيح لأهل الباطل التسلل إلى صميمهم! وتوجيه الضربة القاتلة إليهم. وقد نبه عمر إلى خطورة ذلك فقال للمسلمين: (إذا وليتم واليا، فأحسنوا مؤازرته وأعينوه ) إن الحاكم ليس كادحا يسعى على قاصرين! أو معصوما يعمل لخطائين! إنه واحد منا يجب أن يحاط بالمشيرين الأمناء، والمساعدين المتجردين! والشورى التى تقدم لعمر غير الشورى التى تقدم لعثمان! كان عمر صارما شامخا تفر شياطين الإنس والجن من طريقه،(1/242)
وقد هابه الناس، لا تهيب خشية وكره، بل تهيب إجلال وإعزاز. وقد رآه الناس أو عرفوا عنه أنه كان يحمل على منكبه القوت لامرأة تضع، أو لأهل بيت فقراء.. ص _231
وكان عهد عمر مزيجا من بأساء ونعماء، شعر الناس فيه بالجوع وشعروا بالشبع، وكانوا موقنين بأن أمير المؤمنين يجوع ويشبع معهم! أما عهد عثمان فإن الرخاء كثر فيه حتى أبطر السوقة! وكان عثمان نفسه حييا سمحا، والناس على الحيى أجرأ، وقد يأخذون مال السمح ولا يشكرونه، ويمرحون فى رفده ويرون أنفسهم أحق به منه ! وفى ذلك يقول الأستاذ أحمد محمد الصديق: (ظاهر أن الخليفة عثمان لما أدر الأرزاق لم يخص بها أقرباءه ـ كما يزعم الأفاكون ـ بل كانت تشمل المسلمين عامة، وربما كان لين عثمان وحياؤه هما اللذين أطمعا بعض الناس فيه! وما كانوا لينكروها عليه لو أخذهم بالصرامة والحزم كما فعل سلفه عمر بن الخطاب..! يقول عبد الله بن عمر: لقد عيبت على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عيبت عليه، ويقول الحسن البصرى:... ثم أنكر الناس على عثمان أشياء أشرا وبطرا!! وقد عجب عثمان نفسه من هذا الموقف المتناقض فقال فى خطبة له: أما بعد.. فإن لكل شىء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه الملة قوم عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون! أما والله يا معشر المهاجرين والأنصار لقد عبتم على أشياء ونقمتم أمورا، قد أقررتم لابن الخطاب مثلها ولكنه وقمكم أى قهركم وقمعكم ـ أى وقفكم عند حدودكم ـ ولم يجترىء أحد أن يملأ بصره منه أو يشير بطرفه إليه!! إلى أن قال: أتفقدون من حقوقكم شيئا؟؟ فسكت الجميع! لأنه ليس لأحد حق ضائع أو ظلامة يشكو منها..! إذن.. ما سر الفتنة التى اندلعت، والوفود التى استقدمت، والتهم التى وجهت؟؟ سنعرف ذلك عندما نتحدث عن المؤامرات الأجنبية على الأمة الإسلامية، ولكن قبل هذا الحديث لابد من كلمة مستفيضة عن مصادر الأخبار التى تكون حكما على أمر ما، فقد رأيت(1/243)
الأعاجيب فيما سمعت ورأيت وقرأت هذه الأيام. من مراسم الكهان القدامى أنهم يقولون فيسمع لهم! ويحكمون فلا يعترض عليهم! لماذا؟ لأنهم هم الذين قالوا وحكموا.. حتى تعلمنا فى أدب البحث والمناظرة هذه الكلمة الغالية: (فإن كنت ناقلا فالصحة، أو قائلا فالدليل) ـ أى لا يقبل من ناقل كلام إلا إذا بين لنا مصدره، فعرفنا أن كلامه عن طريق الثقاة.. ص _232
كما لا يقبل من مدع رأى إلا إذا دعمه بالبرهان، فإن عجز سقط رأيه:( أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم). كتب الأستاذ الشرقاوى ـ على طريقته فى تجريح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان طلحة والزبير يتطلعان إلى الخلافة) وهذا باطل، فإن الرجلين الكبيرين انسحبا من ترشيح نفسيهما فى اجتماع لجنة الستة التى كلفها عمر بن الخطاب باختيار الخليفة بعده، وقد أعطى الزبير صوته على بن أبى طالب، وأعطى طلحة صوته عثمان بن عفان. فأين هذا التطلع؟ ثم مضى يقول: (وكانت عائشة تريد الخلافة لطلحة، وإنما هو الملك ما يطلبون) ـ يعنى عائشة وطلحة والزبير ـ (!). ومضى الأستاذ فى طريقه مناجيا على بن أبى طالب: (إن أم المؤمنين قد صرحت من قبل بأنها تفضل أن ترى السماء تنطبق على الأرض ولا تراك يا عليا أميرا للمؤمنين) ـ يقصد يا على ولكن المطبعة نصبت المرفوع ـ ثم يمضى فى تجريح عائشة والافتراء عليها: (... هى تعرض مهج المؤمنين للسيف لكى تنزع الأمر منك، وتعطيه طلحة زوج أختها أم كلثوم). ونقول من باب السخرية: ولماذا لا تعطيه زوج أختها أسماء؟ هذا النقل كله كذب، والتعليق عليه هزل، وعائشة لا تعطى أحدا الخلافة ولا ما دونها، ولكنها الرغبة فى تجريح الصحابة الكبار! ونريد أن نذكر للأستاذ الشرقاوى تجربتين عرضتا له أخيرا ليعرف منهما قيمة المرويات المخطوفة والاستنتاجات العجلى، فعندما أخذ عليه الأستاذ الشيخ عبد القادر العمارى تفسيره المادى للتاريخ قال: والشيخ العمارى مصرى أزهرى يشغل أرفع المناصب(1/244)
الدينية فى دولة قطر... ثم ألمح إلى أن دخله الكبير يجعله من المدافعين عن مصالحهم! والشيخ الفاضل ليس مصريا ولا أزهريا ولا يحتل أرفع المناصب ولا ينال أكبر الدخول، إنه قاض قطرى يحمد الله على نعمة الستر! والتجربة الأخرى معى أنا، فعندما رفضت أحكامه على الصحابة، وطريقته فى القصص قال: والذى حاضر ضدى فى جامعة قطر كان شاهد ملك فى قضايا الإخوان المسلمين، أدخل من شاء السجون ومن شاء القبور! ص _233
فلما علم أنه كاذب قال: لم أذكر الاسم المعنى، وها أنذا أنشر التكذيب!! - حتى لا يتدخل القانون ضده -. لكن الافتراء على الصحابة لا يؤاخذ عليه قانون فلننسب إلى عائشة ما نشاء، ونحن فى حماية الفن القصصى، وغيبة الضمير النزيه! من أين يستقى الكاتب الكبير أخباره؟ إن عائشة ليست كليوباترا، ولا اليصابات حتى يتلقف تاريخها من الحكايات الطائرة، والخيالات الجائرة... وأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ليسوا من دهماء الخلق ولا سقط المتاع، إنهم أشرف أصحاب احتفوا بنبى أرسله الله من بدء الخليقة إلى انتهاء الوحى.. إنهم امتداد لكيان محمد صلى الله عليه وسلم الروحى، ومجلى لإعجازه التاريخى، حملوا معه العبء وأحسنوا البلاغ وكافحوا المظالم الراسية على الثرى قرونا طويلة، وصانوا التراث السماوى على حين بادت مواريث أخرى وشانها التحريف والتشويه.. ثم هم هادمو الطواغيت فى المشارق والمغارب وناقلو الوحى من صحراء الجزيرة إلى أودية الحضارات، أى أنهم المنفذون العمليون لعالمية الرسالة والدعائم المستخفية تحت طباق الوجود الإسلامى الحاضر!! إنهم كما قلت فى كتاب لى: جزء من حياة محمد عليه الصلاة والسلام نفسه، فالنيل منهم نيل منه، والاستخفاف بهم استخفاف به - نستعيذ بالله -. وقد روى الترمذى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "الله الله فى أصحابى! الله الله فى أصحابى! لا تتخذوهم غرضا بعدى! فمن أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فببغضى أبغضهم، ومن(1/245)
آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه ". وروى أصحاب السنن أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "لا تسبوا أحدا من أصحابى، فإن أحدكم لو أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ". وعن الترمذى: "إذا رأيتم الذين يسبون أصحابى فقولوا: لعنة الله على شركم "!. والأستاذ عبد الرحمن الشرقاوى كما قلنا جرح العشرة المبشرين ماعدا عليا، ونسب إلى بعضهم تهما شائنة، وترك الآخرين يكتوون فى النار بما خلفوا من أموال، لأنهم كانوا أغنياء كبارا، وتلك جريمة كبرى! والتحصن بعلى بن أبى طالب لضرب بقية الأصحاب خطة قديمة لضرب الإسلام ذاته، وتقويض قواعده الأولى، وإذا كانت هذه الخطة قد نجحت قديما فلن يلدغ المؤمن من جحر مرتين. ص _234(1/246)
لقد ظهر القرامطة واشتدت وطأتهم خلال القرنين الرابع والخامس واستطاعوا مع ضعف الدولة العباسية أن يستولوا على أقطار كبيرة، بل لقد اقتلعوا الحجر الأسود من مكانه بعدما ملئوا الحرم المكى بالجثث وظل فى حوزتهم أكثر من ربع قرن!! والقرامطة نحلة فوضوية خبيثة تكره الإسلام وتبيت له الويلات، بيد أنها أبطنت ذلك مظهرة الولاء لأهل البيت، والغلو فى على إمام الأئمة، والأسى لمصارع الطالبيين!! وقال قادتها: نستطيع هدم السلف كلهم تحت راية الولاء لعلى، والغضب لما أصابه وأصاب بنيه ! ومع هدم السلف، وضياع كرامة الصحابة يبقى الإسلام بلا قاعدة يعتمد عليها، وبلا تاريخ يجدد مساره! وقد شرح أبو حامد الغزالى ذلك فى كتابه (فضائح الباطنية).. والغريب أن من العرب فى هذا العصر من يغالى بالقرامطة، ويملأ فمه بالانتماء إليهم! ويعدهم طليعة اشتراكية محترمة، سبقت عصرها، وحمت مصالح الطبقات الكادحة من فلاحين وعمال!! ولا أظن الأستاذ الشرقاوى يجدد هذا المذهب مهما كان خطه الفكرى، لكنى أحب أن أسأله: لقد أبرزت عمرو بن العاص طالب دنيا، زاهدا فى الدين، ألعبانا ينافق ويداور! فما يكون دينك لو لم يفتح عمرو مصر؟ ومن تخدم عندما تستورد من الشائعات التاريخية ما يسقط مكانة عمرو ويضيف إليه مثالب لا تحصى..؟ ولحساب من تنفخ التراب عن هذه القضايا المطمورة، وتشغل الأمة بمآسيها القديمة بدل أن تشغل بتهويد فلسطين وهدم المسجد الأقصى، واستيلاء الروس على أفغانستان؟؟ إن هذه المقالات المنشورة فى الأهرام على حلقات متصلة، أساءت إلى ديننا وتراثنا، ووددت لو شغل الكاتب نفسه بشىء آخر.(1/247)