خواطرهم، والعمل بقوله تعالى: {وأمرهم شُورَى بينهم} .
فحين أسقطت هذه المرأة جنينا ميتا غير تام، أشكل عليه الحكم في ديته. فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
فأخبره المغيرة بن شعبة أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية الجنين "بغرَّة" عبد أو أمة.
فأراد عمر التَّثبُتَ من هذا الحكم، الذي سيكون تشريعاً عاما إلى يوم القيامة.
فأكد على المغيرة أن يأتي بمن يشهد على صدق قوله وصحة نقله. فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري على صدق ما قال. رضي الله عنهم أجمعين.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن دية الجنين إذا سقط ميتا، بسبب الجناية، عبد أو أمة. أما إذا سقط حياً ثم مات بسببها، ففيه دية كاملة.
2- استشارة أهل العلم والعقل فى مهام الأمور ومستجدها، لطلب الحق والصواب.
3- التثبت في المسائل، وطلب صحة الأخبار فيها، وإلا فخبر الواحد كافٍ متى توفرت فيه شروط العدالة والحفظ.
4- قال (ابن دقيق العيد) : [وفى ذلك دليل على أن العلم الخاص قد يخفى على الأكابر ويعلمه من هو دونهم، وذلك يصد في وجه من يغلو من المقلدين إذا استدل عليه بحديث، فقال: لو كان صحيحا لعلمه فلان مثلا، فإن ذلك إذا خفي على أكابر الصحابة وجاز عليهم، فهو على غيرهم أخفى] .
5- في الحديث دليل على أنه لا اجتهاد مع النص.
ووجهته أن عمر أراد استثارة الصحابة وأخذ رأيهم في القضية. فلما علموا بالنص، لم يلتفتوا إلى غيره، وهو أمر معروف.
الحديث الثامن
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللَه عَنْهُ قالَ: اقتَتلَتِ امْرأتَانِ مِن هُذَيْل، فَرَمَتْ إحداهما الأخرى بِحَجَر فَقَتَلتهَا وَمَا في بَطنِهَا فاختصموا إلَى النبي صلى الله عليه وسلم. فَقَضَى النَّبي صلى الله عليه وسلم أنّ ديِةَ جَنِينهَا غُرَّة عبد أو وَليِدَة. وقضَى بدية المرأة على عاقلتها، وورَّثَهَا ولدَهَا وَمَن معهم.
فَقَامَ حَمَلُ بنُ النابغة الهُذَلُي فَقَالَ: يَا رسُولَ الله، كَيْفَ أغْرَمُ مَنْ لا شَرِبَ ولا أكَلَ، وَلا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ؟ فَمِثْلُ ذلك يُطَلُّ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا هُوَ مِن إخوان الكهَّان ". مِنْ أجْلِ سَجْعِهِ الذي سَجَعَ.(1/648)
الغريب:
جنين: مأخوذ من الاجتنان، وهو الاختفاء.
عاقلتها: العاقلة هم الأقارب الذين يقومون بدفع دية الخطأ عن قريبهم القاتل.
سموا (عاقلة) لأنهم يمنعون عن القاتل. فالعقل، المنع.
حَمَل: بفتح الحاء المهملة، ثم ميم مفتوحة أيضاً مخففة، هو ابن مالك بن النابغة.
ولا استهل: الاستهلال: رفع الصوت يريد: أنه لم تعلم حياته بصوت نطق أو بكاء.
يُطَلُّ: بضم الِياء المثناة التحتية، وفتح الطاء، وتشديد اللام، أي: يُهدرُ ويُلْغَى.
وروى بالباء الموحدة، على أنه فعل ماض. من البطلان.
قال عياض: وهو المروى للجمهور في صحيح (مسلم) .
قال النووي: وأكثر نسخ بلادنا بالمثنَّاهَ.
السجع: هو الإتيان بفقرات الكلام، منتهية بفواصل، كقوافي الشعر.
والمذموم: ما جاء متكلفا، أو قصد به نصر الباطل، وإخماد الحق، وإلا فقد ورد في الكلام النبوي.
المعنى الإجمالي:
اختصمت امرأتان ضرتان من قبيلة هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر صغير، لا يقتل غالبا، ولكنه قتلها وقتل جنينها الذي في بطنها.
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن دية الجنين، عبدا أو أمة، سوءا أكان الجنين ذكرا أم أنثى، وتكون ديته على القاتلة.
وقضى للمرأة المقتولة بالدية، لكون قتلها [شبه عمد] وتكون على عاقلة المرأة، لأن مبناها على التناصر والتعادل، ولكون القتل غير عمد.
بما أن الدية ميراث بعد المقتولة فقد أخذها ولدها ومن معهم من الورثة، وليس للعاقلة منه شيء.
فقال حمل بن النابغة-والد القاتلة: - يا رسول الله، كيف نغرم من سقط ميتا، فلم يأكل، ولم يشرب، ولم ينطق، حتى تعرف بذلك حياته؟ يقول ذلك بأسلوب خطابي مسجوع.
فكره النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، لما فيها من رد الأحكام الشرعية بهذه الأسجاع المتكلفة المشابهة لأسجاع الكهان الذين يأكلون بها أموال الناس بالباطل.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا الحديث أصل في النوع الثالث من القتل، وهو [شبه العمد] . وهو أن يقصد الجاني الجناية بما لا يقتل غالباً، كالقتل بالحجر الصغير، أو العصا الصغيرة.
فحكم هذا النوع من القتل، أن تغلظ الدية على القاتل ولا يقتل(1/649)
2- أن دية [شبه العمد] ومثله [الخطأ] تكون على عاقلة القاتل، وهم [الذكور من عصبته القريبون والبعيدون، ولو لم يكونوا وارثين] لأن مبنى العصوبة، التناصر والتآزر.
وهذه الجائحة وقعت عليه بلا قصد، فناسب مساعدتهم له ولو كان غنيا، ولكن تخفف عنهم، بتوزيعها عليهم حسب قرْبهم، وتؤجل عليهم مقسطة إلى ثلاث سنوات.
3- أن دية الجنين الذي سقط ميتا بسبب الجناية [غرة] عبد أو أمة.
قدر الفقهاء قيمة هذه الغرة بخمس من الإبل، تورث عنه كأنه سقط حياً.
ودية الجنين على القاتل لا على العاقلة، لأنها أقل من ثلث الدية. وما كان أقل من ثلث الدية فإن العاقلة لا تتحمله.
4- أن الدية تكون ميراثا بعد المقتول، لأنها بدل نفسه، وليس للعاقلة فيها شيء.
5- قال العلماء: إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم سجع حَمَل بن النابغة لأمرين:
الأمر الأول: أنه عارض به حكم الله تعالى وشرعه، ورام إبطاله.
الأمر الثاني: أنه تكلف هذه السجعات بخطابه لنصر الباطل كما كان الكهان يروجون أقاويلهم الباطلة بأسجاع تروق السامعين، فيستميلون بها القلوب، ويستضيفون بها الأسماع.
فأما إذا وقع السجع بغير هذا التكلف ولم يقصد به نصر الباطل، فهو غير مذموم.
وقد جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم فقد خاطب الأنصار بقوله: "أما إنكم تقلون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع".
وفي دعائه صلى الله عليه وسلم: [اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، وقول لا يسمع وقلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع] .
الحديث التاسع
عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْن رَضيَ اللَه عَنْهُ: أنَّ رَجُلا عَضَّ يَدَ رَجُل، فَنَزَعَ يَده مِنْ فِيهِ فوقعت ثِنِيَتَاهُ فَاخْتَصَمَا إلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَعَضُّ أحدكم أخَاهُ كَمَا يَعَضُّ الفحل؟ اذهَبْ لا دِيَةَ لَكَ".
المفردات:
يعض الفحل: يريد به الذكر من الإبل، ويطلق على غيره من ذكور الدواب.
المعنى الإجمالي:
اعتدى رجل على آخر فعض يده، فانتزع المعضوض يده من فم العاض، فسقطت ثنيتاه(1/650)
فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
العاض يطالب بدية ثنيتيه الساقطتين. المعضوض يدافع عن نفسه بأنه يريد إنقاذ يده من أسنانه.
فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المدعِي العاض، كيف يفعل مثل ما يفعله غلاظ الحيوانات فيعضُّ أحدكم أخاه، ثم بعد هذا يأتي ليطالب بدية أسنانه الجانية؟! ليس لك دية، فالبادي هو المعتدى.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من عض يد إنسان فانتزعها منه، فسقطت أسنانه أو بعضها، فلا قَودَ عليه ولا دِيَة.
2- هذا الحكم عام في كل من صال عليه إنسان أو حيوان، فدافع عن نفسه، أو عن عرضه، أو عن حرمه، أو ماله، فجرح الصائل، أو قتله، فلا شيء عليه لأنه يدافعِ عمَّا تجب عليه حمايته، وذلك هو المعتدى الباغي. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "من قُتِل دون نفسه فهو شهيد، ومن قُتِلَ دون أهله فهو شهيد".
3- قيد العلماء حكم هذا الحديث وأمثاله، بأنه يدافع عن نفسه بالأسهل فالأسهل من وسائل الدفاع.
قال العلماء: وهذا التقييد مأخوذ من القواعد الكلية العامة في الشرع.
الحديث العاشر
عَنِ الحَسَنِ بنِ أبي الَحسَنِ البصري قَالَ: حَدَّثَنَا جندب في هذَا الْمَسجِدِ (1) وَمَا نَسِينا منهُ حديثا، وَمَا نَخْشى أن يَكُونَ ُجندُب كَذَبَ عَلَى رسولِ الله صَلى الله عَليهِ وسَلَّمَ قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كَانَ فيمَن كَانَ قبلكم رَجُل بِهِ جرح، فَجَزع، فَأخَذَ سكينا فَحَزَّ بهَا يَدَهُ فَمَا رَقأ الدًمُ حَتى مَاتَ. قالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: عبدي بَادَرَني بِنَفْسِهِ، فَحَرمْتُ عَلَيْهِ الجَنةَ".
الغريب:
جندب: بضم الجيم، وسكون النون، وضم الدال وفتحها، بعدها باء. هو ابن عبد الله البجلي من قبيلة [بجيلة] .
قال الجوهري: [إنهم من العدنانيين] مساكنهم الآن بين مكة والمدينة.
_________
(1) قوله: [في هذا المسجد] إنما نقل الراوي أن الحسن أخذ عن الصحابي في المسجد، لأن أبا حاتم قال: لا يصح للحسن سماع من جندب. وهذا الحديث يرد عليه، وأيضا لتفخيم الحديث وتقويته في النفس.(1/651)
فحز بها يده: بالحاء المهملة، وبعدها زاي مشددة: أي قطعها.
فما رقأ الدم: بفتح الراء والقاف مهموز: أي ما انقطع دمه حتى مات.
المعنى الإجمالي:
روى العالم الصالح الزاهد العابد، الحسن البصري عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: أنه حدث في مسجد الكوفة بهذا الحديث الذي معنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن رجل كان فيمن قبلنا من الأمم الماضية فيه جرح جزع منه، فأيس من رحمة الله تعالى وشفائه، ولم يصبر على ألمه رجاء ثوابه، لضعف داعي الإيمان واليقين في قلبه، فأخذ سكينا فقطع بها يده، فأصابه نزيف في دمه، فلم يرقأ وينقطع حتى مات.
قال الله تعالى ما معناه: هذا عبدي استبطأ رحمتي وشفائي، ولم يكن له جَلدّ على بلاءي، فعجل إلى نفسه بجنايته عليها، وظن أنه قصر أجله بقتله نفسه، لذا فقد حرمت عليه الجنة، ومن حرم الجنة، فالنار مثواه.
فكان هذا الهارب من وجع الجرح إلى عذاب النار، كالمستجير من الرمضاء بالنار. فنعوذ بالله تعالى من سوء الخاتمة.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه تحريم قتل النفس بغير حق، وحرمتها، وعظم شأنها، وخطرها. وأنه أمر كبير، قال ابن دقيق العيد: الحديث أصل كبير في تعظيم قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره.
2- وجوب الصبر عند المصائب عما يسخط الله تعالى من قول، كالنياحة. أو فعل، كاللطْمِ والشق. وأعظم منه، قتل النفس.
3- أن الأحسن للمبتلي أن يقول -إذا كان لا بد من القول-: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي".
4- قوله: "عبدي بادرني بنفسه" ليس فيه منافاة لقضاء الله وقدره السابق. فالله مقدر الأشياء قبل وجودها. وأطلقت عليه المبادرة بوجود صورتها.
والذي قتل نفسه منُتهٍ أجله الذي كتب له بهذا السبب الذي فعله.
ولكنه استبطأ شفاء الله ورحمته، وقنط من روحه ورحمته، وهذا ذنب عظيم قدر عليه أن يكون قتل نفسه بيده عقابا له على فساد نيته، التي نوى بها تعجيل أجله قبل انتهائه.
والله سبحانه وتعالى لم يظلمه، فقد أعطاه الإرادة والقدرة على الفعل والترك، ولكنه تبع هواه فقتل نفسه.(1/652)
5- في هذا الحديث دليل على تحريم قتل الإنسان نفسه. لأنها ليست ملكه وإنما هي ملك خالقها، فلا يجوز له أن يتصرف إلا بما أذن فيه كالتداوي والحجامة.
وقد فشا في هذه الأزمنة [الانتحار] لأتفَهِ الأسباب، والعياذ بالله تعالى من سوء الحال.
فعندما تعاكسه الأمور، يعمد إلى قتل نفسه وتعجيلها إلى النار.
وهذا يرجع إلى ضعف في العزيمة، وضيق في الفكر، وجبن عند الخطوب، وضحالة في الإيمان.
ولو كان عنده شيء من إيمان بالله تعالى، أو يقين فيما عنده، لَرَََََجَا بمصيبته الثواب، ولَخَافَ من قتل نفسه العقاب، ولكن أكثرهم لا يفقهون.
6- قوله: "حرمت عليه الجنة" تقدم أن الأحسن في مثل هذه النصوص إبقاءها على تهويلها وزجرها بلا تأويل، وهو مذهب جمهور العلماء.(1/653)
كتابُ الحُدُود
الحدود: جمع (حَد) وأصل الحد، المنع، وهو ما يحجز بين شيئين، فمنع اختلاطهما، ومنه أخذ معنى هذا.
وأما الحدود -اصطلاحا- فهي عقوبات مقدرة شرعاً لتمنع من الوقوع، في مثل ما ارتكب من المعاصي.
والحدود ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع العلماء في الجملة، ويقتضيها القياس الصحيح، فهي جزاء لما انتهكه العاصي من محارم الله تعالى.
حكمتها التشريعية:
لها حكم جليلة، ومعان سامية، وأهداف كريمة.
ولذا ينبغي إقامتها، لداعي التأديب والتطهير والمعالجة، لا لغرض التشفي والانتقام، لتحصل البركة والمصلحة، فهي نعمة من الله تعالى كبيرة على خلقه.
فهي للمحدود طهرة عن إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي.
وهي له ولغيره رادعة وزاجرة عن الوقوع في المعاصي.
وهي مانعة وحاجزة من انتشار الشرور والفساد في الأرض.
فهي أمان وضمان للجمهور على دمائهم، وأعراضهم، وأموالهم.
وبإقامتها يصلح الكون، وتعمر الأرض، ويسود الهدوء والسكون، وتتم النعمة بانقماع أهل الشر والفساد.
وبتركها -والعياذ بالله- ينتشر الشر ويكثر الفساد، فيحصل من الفضائح والقبائح، ما معه يكون بطن الأرض خيرا من ظهرها.
ولا شك أنها من حكمة الله تعالى ورحمته. والله عزيز حكيم.
على أن الشارع الرحيم حين شرع الحدود، سبقت رحمته فيها عقابه.
فعفا عن الصغار، وذاهبي العقول. والذين فعلوا لجهل بحقيقتها.
وصعب أيضا ثبوتها، فاشترط في الزنا أربعة رجال عدول، يشهدون بصريح وقوع الفاحشة، أو اعترافاً من الزاني بلا إكراه وبقاء منه على اعترافه حتى يقام عليه الحد.
وفي السرقة لا قطع إلا بالثبوت التام، وانتفاء للشبهة، وتمام لشروط القطع. إلى غير ذلك مما هو مذكور في بابه.
وأمر بدرء الحدود بالشبهات، كل هذا لتكون توبة العبد بينه وبين نفسه. والله غفور رحيم.(1/654)
الحديث الأول
عَنْ أنس بن مَالِك رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قدِم نَاس مِنْ عكل -أوْ عَرينةَ- فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأمَرَ لَهُم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاح، وأمَرهم أن يَشربُوا مِنْ أبوالها وَألبَانِهَا، فَانطَلَقوا.
فَلَما صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم واستا قوا النَّعَمَ.
فَجَاءَ الْخَبرُ في أوَّلِ النَّهَار، فبعَثَ في آثارِهِمْ، فَلما ارْتَفَعَ النَّهَارُ، جيءَ بِهِمْ فأمَرَ بِهِمْ فقطعت أيديهمْ وأرجلهم مِن خِلافِ وَسُمرَت أعينهم، وَتُرِكُوا في الحَرةِ يستسقُون فَلا يُسقَون.
قالَ أبو قلابَةَ: فَهؤلاءِ سَرَقُوا وَقتلُوا بَعْدَ إيمانِهِمْ، وَحَارَبُوا الله وَرَسُولَهُ. أخرجه الجماعة.
اجتويت البِلاد: إذَا كَرِهتَهَا، وَإنْ كانَتْ مُوَافِقِةً. وَاستوْبَأتَهَا: إذَا لَم تُوَافِقْكَ.
الغريب:
عُكْل: بضم العين المهملة وسكون الكاف [قبيلة عدنا نية] .
عُرَيْنة: بضم العين، وفتح الراء وسكون التحتية وفتح النون [قبيلة قحطا نية] .
اجتووا المدينة: بالجيم الساكنة، وفتح التاء الفوقية، وفتح الواو أيضا، وضم الثانية. وهي فاعل: كرهوها لداء أصابهم في أجوافهم، يقال له: [الجوى] فاشتق منه هذا الفعل.
بلقاح: بكسر اللام، بعدها قاف، وبعد الألف حاء. جمع (لقحة) وهي الناقة الحلوب.
النَّعم: بفتح النون والعين، واحد الأنعام، وهي الإبل.
آثارهم: بالمد، جمع أثر
من خلاف: فتقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
سُمرت أعينهم: بضم السين وكسر الميم مبنى للمجهول، أي كُحلَتْ أعينهم بمسامير محماة بالنار.
الحَرَّة: بفتح الحاء والراء المشددة، هي الأرض التي تعلوها حجارة سود، وهي أرض خارج المدينة.
قلابة: بكسر القاف، هو عبد الله الجرمي.
المعنى الإجمالي:
قدم أناس إلى المدينة من البادية فأسلموا، وحين اختلف عليهم الجَو والمناخ، مرضوا، فضاقت أنفسهم بالمقام في المدينة.
فطيب الأديان والأبدان، عرف داءهم ودواءهم، فأمرهم أن يعودوا إلى ما ألفته أجسامهم، فيذهبوا إلى حيث الهواء الطلق، ويشربوا من ألبان الإبل وأبوا لها ففعلوا.
فلما صَحُّوا، طَغَوْا وَبَغَوْا، فقتلوا الراعي الذي مع الإبل بِسَمْلِ عينه، وارتدوا عن الإسلام، وهربوا بالإبل التي منحوا ألبانها.
فجاء خبرهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم من(1/655)
جاء بهم.
فلما أقدموا على هذه القبائح العظيمة التي هي كما قال أبو قلابة: - السرقة والخيانة، والقتل، والكفر بالله تعالى، ومحاربة الله ورسوله بقطع الطريق، فكان نكالهم عظيما، وتعزيرهم بليغا، فقطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف،
وفضخت أعينهم بالمسامير المحماة، وألقوا في الحرة يطلبون الماء فلا يسقون، فما زالوا في هذا العذاب حتى ماتوا.
فهكذا جزاء من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، وكفراً بأنعم اللَه، ليرتدع من خبثت نيته، فأراد أن يفعل مثل فعله.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا العقاب الذي صبه النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المفسدين، عقاب شديد ومثلة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وقد أمر أيضا بإحسان القتل والذبح.
فمن أجل هذا اختلف العلماء في حكم هؤلاء.
فبعضهم يرى أنه منسوخ بالنهي عن المثلة. وهؤلاء محتاجون إلى بيان تاريخ ناسخه، ولا بيان.
وبعضهم قال: هذا الحكم قبل أن تنزل الحدود.
وقال ابن سيرين: وفيه نظر، فإن قصتهم متأخرة.
وبعضهم قال: لم يسمل أعينهم، وإنما هم بها، وفيه نظر أيضا، فقد صح: [أنه سمل] [وأنه سمر أعينهم] .
وأجابوا بغيرِ ذلك، وكلها أجوبة، لا تستقيم لأصحابها.
والذي أرى: أن هذه العقوبة من باب التعزير.
والتعزير: هو التأديب، ومرجعه إلى اجتهاد الإمام ونظره، فقد يكون خفيفا، وقد يكون شديداً، فيؤدب بالعقاب والتأنيب، ويؤدب بالحبس، ويؤدب بما يراه من الجلد، ويؤدب بالقتل، ويؤدب بأخذ المال. وكلها لها سند من السنة الحكيمة.
وهؤلاء الأعراب عملوا أعمالا شنيعة، دلت على فساد قلوبهم وخُبْثِ طَوِيتهم.
فقد ارتدوا عن الإسلام، وجزاء المرتد القتل وقتلوا الراعي القائم بخدمتهم، وسملوا عينيه بغير حق. وسرقوا الإبل التي هي لعامة المسلمين، فهذا غلول وسرقة وخيانة. وحاربوا الله ورسوله، بقطع الطريق، والإفساد في الأرض، وكفروا نعمة الله تعالى- وهي العافية- بعد المرض، والسمن بعد الهزال. فكانوا بهذا مستحقين لعذاب يقابل فعلهم ليردع من لم يدخل الإيمان قلبه من الجفاة.(1/656)
أما حديث النهى عن المثلة، والأمر بإحسان القتلة والذبحة ونحو ذلك، فهو باق في حال من لم يرتكب مثل هذه الجرائم العظام. والله الموفق وهو العليم الحكيم. وقد سمل هؤلاء عيني الراعي ورموه في الشمس حتى مات عطشاً ففعل بهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك قصاصا، وقد مر بنا أن مذهب كثير من العلماء هو قتل الجافي بمثل ما قتل به لقوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} وسيأتي حديث الصحيحين "ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة".
2- في الحديث مشروعية التداوي وفعل الأسباب، وأن من العلاج، الرجوع إلى ما ألفته الأبدان، من المأكل، والمشرب والجو، والابتعاد عن الأراضي الموبوءة، والأهوية الرديئة.
3- طهارة أبوال الإبل، ووجهته أن التداوي بالنجس والمحرم لا يجوز.
ولو فرض أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم في ضربها للضرورة، فإنه لم يأمرهم بغسل أفواههم وأوانيهم. و (تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز) ويقاس على الإبل، سائر الحيوانات المباحة الأكل.
الحديث الثاني
عن عُبَيْد الله بن عُتْبَةَ بن مَسْعُود عَنْ أبي هريرة وَزَيد بنِ خَالِد الْجهَني رَضي الله عَنْهُمَا: أنَّهُمَا قالا: إنَّ رجلا مِن الأعراب أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يا رسول الله، أنْشُدُكَ الله إلا قَضَيْتَ بَيْنَنا بكتاب الله.
فَقَالَ الْخصم الآخر -وَهُوَ أفْقَه مِنْهُ: - نَعَمْ، فَاقْض بَينَنَا بِكِتابِ الله وائذن لي. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "قُل".
فقال: إن ابني كانَ عَسِيفاً عَلى هذَا، فزَنَى بامْرَأتِهِ، وَإنَي أخبرت أنَّ عَلى ابني الرَّجم، فَافْتَدَيت ِمنْهُ بمائة شَاة وَوَلِيدَةٍ، فسألت أهل الْعِلمِ فَأخبرونِي أنَّ ما عَلى ابني جلدُ مِائةٍ وتَغْرِيبُ عَام، وأنَ عَلى امْرَأةِ هذَا الرجمُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ لأقْضِيَنَّ بَينكُمَا بِكِتَابِ الله، الولِيدَةُ وَالغنم ُ رٌَّد عَلَيكَ، وَعَلى ابنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْريبُ عَام، وَأنَّ عَلى امرأةِ هذا الرجْمُ، واغدُ يا أنيس -لِرَجُل من أسْلَم- إلَى امْرَأةِ هذَا، فَإنِ اعْترفَتْ فارْجُمهَا"
فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْترَفَت.
فَأمَرَ بِهَا رَسولُ اللَه صلى الله عليه وسلم فرجِمَتْ.
العَسِيفُ: الأجِيرُ.
الغريب:
أنشدك الله: بفتح الهمزة وسكون النون، وضم الشين والدال، أي أسألك بالله.(1/657)
عسيفا: بفتح العين وكسر السين المهملة، وهو الأجر. مشتق من العسف، وهو الجور.
أنيس: بضم الهمزة وفتح النون، آخره سين مهملة، مصغر. وهو ابن الضحاك الأسلمي.
ما يستفاد من الحديث:
1- جفاء الأعراب، لبعدهم عن العلم والأحكام والآداب، حيث ناشد من لا ينطق عن الهوى أن لا يحكم إلا بكتاب الله تعالى.
2- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، حيث لم يعنفه على سوء أدبه معه.
3- أن حدَّ الزاني المحصن، الرجم بالحجارة حتى يموت.
والمحصن: هو من جامع في نكاح صحيح، وهو حر مكلف.
4- أن حد الزاني الذي لم يحصن، مائة جلدة، وتغريب عام.
5- أنه لا يجوز أخذ العِوَض لتعطيل الحدود، وإن أخذت فهو من أكل الأموال بالباطل.
6- أن من أقدم على محرم، جهلا أو نسيانا، لا يؤدب. بل يعلَّم. فهذا افتدى الحدَّ عن ابنه بمائة شاة ووليدة، ظانًّا إباحته وفائدته. فلم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أعلمه بالحكم، وردَ عليه شياهه ووليدته.
7- وفى الحديث، قاعدة فرعية عامهَ وهى: " أن من فعل شيئا لظنه وجود سببه، فتبين عدم وجود السبب، فإن فله لاغ لا يُعتد به، ويرجع بما ترتب على ظنه الذي لم يتحقق.
8- قال الحافظ ابن حجر: والحق أن الإذن بالتصرف مقيد بالعقود الصحيحة. قال ابن دقيق العيد: فما أخذ بالمعاوضة الفاسدة يجب رده ولا يملك.
9- أنه يجوز التوكيل في إثبات الحدود واستيفائها.
10- أن الحدود مرجعها الإمام الأعظم أو نائبه، ولا يجوز لأحد استيفاؤها غيرهم.
11- استدل بالحديث أنه يكفى لثبوت الحد وإقامته، الاعتراف مرة واحدة، ويأتي الخلاف في ذلك، إن شاء إن شاء الله تعالى.
12- قال (ابن القيم) في حكمة جلد الزاني: (وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء الشهوة يعم البدن) .
13- والحكمة في رجم المحصن وجلد غير المحصن، أن الأول قد تمت عليه النعمة(1/658)
بالزوجة، فإقدامه، على الزنا يُعَدُّ دليلا على أن الشر متأصل في نفسه، وأن علاجه عن تركه صعب، وأنه ليس له عذر في الإقدام عليه.
وأما غير المحصن، فلعل داعي الشهوة غلبه على ذلك، فخفف عنه الحد، مراعاة لحاله وعذره.
14- القسم لتأييد صحة المسائل المهمة.
وقد أمر الله تعالى نبيه في كتابه أن يقسم ثلاث مرات على أن البعث حق.
15- فيه دليل على صحة استفتاء أهل العلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفيما بعده، وعلى جواز سؤال المفضول مع وجود من هو أفضل منه.
16- في الحدث، حُسْنُ الأدب مع أهل الفضل والعلم والكبار، وأن ذلك من الفقه.
الحديث الثالث
عَنْ عبيد الله بن عَبْد الله بنِ عتبة بْنِ مسْعُودٍ عن أبي هريرة وَزَيِد ابن خالد الْجُهَنِي رَضِي الله عَنهمَا قَالا: سُئلَ النبُّي صلى الله عليه وسلم عَنِ الأمة إذَا زَنتْ وَلم تحصن؟ .
قالَ: "إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم ولو بضفير".
قال ابن شهاب: (ولا أدري، أبعد الثالثة أو الرابعة) والضفير الحبل.
المعنى الإجمالي
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن حد الأمة إذا زنت ولم تحصن، بحيث لم توطأ في نكاح.
فأخبر صلى الله عليه وسلم: أن عليها الجلد، وجلدها نصف ما على الحرة من الحد، فيكون خمسين جلدة.
ثم إذا زنت ثانية، تُجْلَدُ خمسين جلدة أيضا لعلها ترتدع عن الفاحشة.
فإذا زنت الثالثة ولم يردعها الحد ولم تتب إلى الله تعالى وتخشى الفضيحة حينئذ، فاجلدوها الحد وبيعوها، ولو بأقل ثمن وهو الحبل الرخيص، لأنه لا خير في بقائها، وليس في استقامتها رجاء قريب وبعدها أولى من قربها، لئلا تكون سبب شر في البيت الذي تقيم فيه.
ما يستفاد من الحديث:
1- حد الأمة إذا زنت ولم تحصن، الجلد، وهو نصف ما على الحرة.
والحرة حدها مائة جلدة وتغريب عام، فيكون حدُّ الأمة خمسين جلدة ولا تغرب، لأن تغريبها يضر بسيدها، وربما أغراها بمعاودة الفاحشة.(1/659)
2- أنه إذا تكرر منها الزنى وحدتْ ولم يردعها الجلد فَلْتُبَع ولو بأرخص ثمن، لأنه لا خِير في بقائها، ولا فائدة في تأديبها.
3- أن الزنا عيب في الرقيق، فإذا لم يعلم به المشترى فله الخيار في رده.
4- أن للسيد إقامة الحد في الجلد خاصة على رقيقه.
أما في القتل والقطع، فإقامته إلى الإمام.
وغير الرقيق، لا يقيم عليه الحد إلا الإمام، سواء في الجلد أو في غيره.
وهذا هو مذهب جهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي وأحمد.
الحديث الرابع
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّهُ قَالَ: أتَى رَجل مِن المسلِمِينَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ في المسجدِ، فَنَاداهُ: فَقَالَ يا رسول الله، إنِّي زَنَيْتُ. فَأعرضَ عَنْهُ. فتنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ: يا رسول اللَه إنِّي زَنَيْتُ، فَأعْرَضَ عَنْهُ. حَتى ثنى ذلِكَ عَلَيهِ أربَعَ مَرَّات.
فلما شَهدَ عَلى نفْسِهِ أربَع شهَادَاتٍ، دَعَاهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أبِك جُنُون"؟ قالَ: لا. قَالَ: "فَهَل أحصنت؟ " قال: نعم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه".
الحديث الخامس
قال ابن شهاب: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن: أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى.
فلما أذلقَتْه (1) الحجارة هرب، فأدركناه بالحرَّة فرجمناه.
الرَّجل هو، ماعز بن مالك. وروى قصته، جابر ابن سمرة وعبد الله بن عباس، وأبو سعيد الخدري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي (2) .
المعنى الإجمالي:
أتى ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فناداه واعترف على نفسه بالزنا.
فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لعله يرجع فيتوب فيما بينه وبين الله.
ولكن قد جاء غاضبا على نفسه، جازما محلى تطهيرها بالحد، فقصده من تلقاء وجهه مرة أخرى، فاعترف بالزنا أيضا.
فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، حتى شهد على نفسه بالزنا أربع مرات.
حينئذ
_________
(1) أذلقته بالذال المعجمة وبالقاف، أصابته بحدها فأجهدته وأوجعته.
(2) ما في الحديث من زيادات، من الصحيحين. كملنا بها القصة هذا الحديث وشروط الحد.(1/660)
استثبت النبي صلى الله عليه وسلم عن حاله، فسأله: هل به من جنون؟ قال: لا، وسأل أهله عن عقله، فأثنوا عليه خيرا.
ثم سأله: هل هو محصن أم بكر لا يجب عليه الرجم؟ فأخبره أنه محصن.
وسأله: لعله لم يأت ما يوجب الحد، من لمس أو تقبيل. فصرح بحقيقة الزنا.
فلما استثبت صلى الله عليه وسلم من كل ذلك، وتحقق من وجوب إقامة الحد، أمر أصحابه أن يذهبوا به فيرجموه.
فخرجوا به إلى بقيع الغرقد -وهو مصلى الجنائز- فرجموه.
فلما أحس بحر الحجارة، طلبت النفس البشرية النجاة، ورغبت في الفرار من الموت فهرب.
فأدركوه بالحرة، فأجهزوا عليه حتى مات. رحمه الله، ورضي عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الزنا يثبت بالإقرار كما يثبت بالشهادة، ويأتي: هل يكفي الإقرار مرة، أم لابد من الإقرار أربع مرات كما في هذا الحديث؟.
2- أن المجنون لا يعتبر إقراره، ولا يثبت عليه الحد، لأن اشرط الحد التكليف.
3- أنه يجب على القاضي والمفتي، فالتثبت في الأحكام، والسؤال بالتفضيل عما يجب الاستفسار عنه، مما يغير الحكم في المسألة.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأل المقر- هنا- عن عمله، حتى تبين له أنه فعل حقيقة الزنا.
وسأل أهله عن عقله، وأعرض عنه حتى كرر الإقرار، وستثبت منه. قال في فتح الباري: فقد بالغ سلى الله عليه وسلم في الاستثبات غاية المبالغة، وهذا وقع بعد إقراره أربع مرات فهو يؤكد اشتراط العد، لأن هذا الاستثبات العجيب وقع بعده.
4- أن حد المحصن الزاني رجمه بالحجارة حتى يموت، ولا يحفر له عند الرجم.
5- أنه لا يشرط في إقامة الحد، حضور الإمام أو نائبه.
والأولى حضور أحدهما ليؤمن الحيف والتلاعب بحدود الله تعالى.
6- جواز إقامة الحدود في مصلى الجنائز.
وكانوا في الأول، يجعلون للصلاة على الجنائز مصلّى خاصا.
7- أن الحد كفارة للمعصية التي أقيم الحد لها، وهم إجماع.
وقد جاء صريحا في قوله عليه الصلاة والسلام: "من فعل شيئا من ذلك، فعوقب في الدنيا، فهو كفارته".
8- وأن إثم المعاصي يسقط بالتوبة النصوح، وهو إجماع المسلمين أيضاً.
9- إعراض الإمام والحاكم عن المقر على نفسه بالزنا، لعله فعل ما لا يوجب الحد، فظنه موجبا، والحدود تدرأ بالشبهات.(1/661)
10- هذه المنقبة العظيمة لماعز، رضي الله عنه، إذ جاء بنفسه، غضبا لله تعالى، وتطهيرا لها مع وجود الإعراض عنه، وتلقينه ما يسقط عنه الحد.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء: هل يشترط تكرار الإقرار بالزنا أربع مرات، أولا؟.
ذهب الإمام أحمد، وجمهور العلماء، ومنهم الحكم، وابن أبي ليلى، والحنفية: إلى أنه لا بد من الإقرار أربع مرات، مستدلين بهذا الحديث الذي معنا. فإنه لم يقم النبي صلى الله عليه وسلم على (ماعز) الحد إلا بعد أن شهد على نفسه أربع مرات. وقياسا على الشهادة بالزنا، فلا يقبل إلا أربعة شهود.
ولا يشترط أن تكون الإقرارات في مجالس، خلافا للحنفية.
وذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وابن المنذر: إلى أنه يكفي لإقامة الحد إقرار واحد لحديث "واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر إقرارات أربعة.
ورجم صلى الله عليه وسلم الجهنية، وإنما اعترفت مرة واحدة.
وأجابوا عن حديث ماعز، بأن الروايات في عدد الإقرارات مضطربة.
فجاء أربع مرات، وجاء مرتين، أو ثلاثا.
وأما القياس فلا يستقيم، لأن الإقرار في المال لابد فيه من عدلين، ولو أقر على نفسه مرة واحدة كفت إجماعا. والله أعلم.
الحديث السادس
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له: أنَّ امرأة منهم ورجلاً زنيا.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم"
فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
قال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها آية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها.
فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال له عبد الله بن سلام: (ارفع يدك) فرفع يده فإذا فيها آية الرجم.
فقال: صدق يا محمد.
فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرُجِما.
قال: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة (1) يَقِيهَا الحجارة.
قال رضي الله عنه: الذي وضع يده على آية الرجم هو عبد اله بن صوريا.
_________
(1) ينحني، وينكب عليها.(1/662)
الغريب:
عبد الله بن سلام: بتخفيف اللام، ابن الحارث الإسرائيلي، عند قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد له بالجنة، وهو من علماء بني إسرائيل في التوراة والأحكام.
يجنأ على المرأة: بفتح الياء التحتية وسكون الجيم، بعدها نون مفتوحة، بعدها همزة، أي يميل عليها وينكب.
قال ابن فارس: [هو العطف على الشيء والحنو عليه] .
صوريا: بضم الصاد، بعدها واو مخففة، ثم راء مكسورة، ثم ياء فألف.
المعنى الإجمالي:
زنا يهودي بيهودية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان اليهود يعلمون أن نبينا صلى الله عليه وسلم نبي حقا، ويعلمون أن شريعته جاءت باليسر والسماح، وفك الآصار والأغلال.
فجاءوا إليه بهذين اليهوديين الزانيين، ليحكم فيهما، لعل عنده حكما أخف مما عندهم في التوراة، فيكون لهم معذرة عند الله في عدم إقامة ما في التوراة من الحد.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم عالما بحكم الزاني المحصن في التوراة، إما عن طريق الوحي، أو من أحد علماء اليهود الذين أسلموا.
فسألهم صلى الله عليه وسلم عن شأن الرجم في التوراة، متحدِّياَ ومبينا لهم أن القرآن والتوراة متفقان على هذا الحكم، فحاولوا التبديل والتغير على طريقتهم، فقالوا: نفضح الزناة ونجلدهم.
وكان عبد الله بن سلام -الذي عنده علم الكتاب- حاضرا فقال: كذبتم. فيها آية الرجم.
فجاءوا بالتوراة، فنشروها ليبحثوا عن آية الرجم
فوضع عبد الله بن صوريا، يده على تلك الآية، وقرأ ما قبلها وما بعدها.
فقال عبد الله بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فوجدوا آية الرجم كما هي في الشريعة المحمدية.
فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عملا بقوله تعالى: "وأنِ احكم بَينهُمْ بما أنزل الله" فكان من شدة شفقة الرجل على المرأة، أنه ذكرها في تلك الحال الشديدة، فأخذ يقيها الحجارة بنفسه.
ما يستفاد من الحديث:
1- وجوب حد الذمي إذا زنى، وإقامة الحدود عليهم فيما يعتقدون تحريمه.
2- أن الإحصان ليس من شرطه الإسلام. وهو مذهب الشافعي وأحمد.
فإذا وطئ الكافر في نكاح صحيح في شرعه، فهو محصن، تجرى عليه أحكام المسلمين المحصنين، إذا ترافعوا إلينا.
3- أن شريعتنا حاكمة على غيرها من الشرائع، وناسخة لها.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن حكم التوراة في الرجم، ليقيم عليهم الحجة من كتابهم الذي أنكروا أن يكون فيه رجم المحصن، وليبيِّن لهم أن كتب الله متفقة على هذا الحكم الخالد، الذي فيه ردع المفسدين.(1/663)
4- أن حدَّ المحصن، إذا زنا، الرجم بالحجارة حتى يموت.
5- أن اليهود أهل تغيير وتبديل لكتاب الله الذي أنزله عليهم، تبعاً لأهوائهم وأغراضهم ومادِّيَّتِهمْ.
6- أن الكفار مخاطبون بالأحكام الفرعية، ومعاقبون عليها.
الحديث السابع
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلا -أو قال: امرءا- اطَّلع عليك بغير إذنك، فحذفته بحصاةٍ ففقأت عينه، ما كان عليك جناح".
الغريب:
حذفته: بالحاء والخاء وخطأ القرطبي رواية الحاء وجزم النووي أنه بالخاء المعجمة، ومعناها: رميته.
فقأت عينه: أفسدتها.
جناح: إثم.
المعنى الإجمالي:
للإنسان حرمة عظيمة ومقام كبير، وقد حظر الله تعالى ماله وعرضه ودمه.
ولكنه إذا اعتدى على غيره، زالت حرمته، وصَغُر مقامه، إذ أهان نفسه وقلل خطره.
فإذا اطلع على أحد بغير إذنه من وراء بابه أو من فوق جداره أو غيِر ذلك ففقأ عينه، فليس على هذا الفاقئ إثم ولا قصاص، لأنه أسقط حرمته، وأرخص عضوه، بجنايتها بالاطلاع على بيوت الناس وعوراتهم.
فهذا من باب القصاص، لا من باب المدافعة، فتكون بالأسهل فالأسهل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم الاطلاع على أحوال الناس في منازلهم، والنظر إليهم والاستماع إِلى كلامهم.
2- سقوط حرمة من فعل ذلك، وإهدار العضو الذي يطلع به على أحوالهم.
3- أن لصاحب البيت أن يفقأ عينه وليس عليه إثم ولا قصاص
4- ظاهر الحديث أن صاحب الدار لا يحتاج إلى إنذاره، ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في عدة أبواب من صحيحه "أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ صلى الله عليه وسلم مشقصا وجاء يختل الناظر بالمشقص" (فهذا من أبواب القصاص) ، لأن باب مدافعة الصائل هي التي تكون بالأسهل ثم الأصعب.(1/664)
باب حدِّ السَّرقة
الأصل في القطع، الكتاب، والسنة، والإجماع والقياس قال تعالى: {وَالسارق وَالسارقَةُ فَاقْطَعُوا أيدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كسَبَا نكالاً منَ الله وَالله عَزيزٌٌٌٌٌ حَكِيم} .
والسنة، ما يأتي من الأحاديث.
وأجمع عليه العلماء، استناداً إلى هذه النصوص.
والقياس والحكمة تقتضي إقامة الحدود كلها كما أمر الله تعالى، حفظا للأنفس والأعراض والأموال.
ولذا نرى البلاد التي عملت بحدود الله ونفذت حدوده، استتب فيها الأمن ولو كانت ضعيفة العُدة.
ونرى الفوضى، وقتل الأنفس، وانتهاك الأعراض، وسلب الأموال، في البلاد التي حكمت القوانين (رحمة بالجناة المعتدين، من جهلهم بالرحمة وموضعها، ولو كانت قوية متمدينة. فمضت حياتها ما ببن صلب ونهب.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَطَعَ مِجَنّ قِيمَتُهُ ثَلاَثة درَاهِمَ.
وفي لفظ: ثَمَنُهُ- ثَلاثَةُ درَاهِمَ.
الحديث الثاني
عَنْ عَاِئشَةَ رَضي الله عَنْهَا: أنَّهَا سَمِعَتْ رَسولَ الله يَقُولُ: "تُقْطَعُ الْيَدُ في رُبْعِ دِينَار فَصَاعِداً".
الغريب:
القطع: يراد به الأمر بالقطع.
قيمته: ما تنتهي إليه الرغبة من الثمن.
الثمن: ما يقابل به المبيع.
المجن: بكسر الميم وفتح الجيم، بعدها نون مشددة، هو الترس الذي يتقى به وقع السيف مأخوذ من الاجتنان والاختفاء، لأن الفارس يختفي به، وكسرت ميمه، لأنه اسم آلة.
المعنى الإجمالي:
أمن الله عز وجل دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، بكل ما يكفل ردع المفسدين المعتدين.
فكان أن جعل عقوبة السارق (الذي أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، قطع العضو الذي تناول به المال المسروق، ليكفر القطع ذنبه.
وليرتدع هو وغيره عن الطرق الدنيئة، وينصرفوا إلى(1/665)
اكتساب المال من الطرق الشرعية الكريمة"، فيكثر العمل، وتستخرج الثمار فيعمر الكون وتعز النفوس.
ومن حكمته تعالى، أن جعل النصاب الذي تقطع فيه اليد، ما يعادل ربع دينار من الذهب، حماية للأموال، وصيانة للحياة، ليستتب الأمن، وتطمئن النفوس، وينشر الناس أموالهم للكسب والاستثمار.
ما يستفاد من الحديث:
1- قطع يد السارق، والمراد بالسارق [الذي يأخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء] وليس منه الغاصب والمنتهب والمختلس.
قال القاضي عياض رحمه الله: (صان الله الأموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس، والانتهاب، والغصب، لان ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولأنه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الأمر، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنه تندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها.
وقد أجع المسلمون على قطع السارق في الجملة.
2- في الحديثين، أن نصاب القطع ربع دينار من الذهب " أو ما قيمته ثلاثة دراهم من الفضة، ويأتي- قريبا- مذاهب العلماء في بيان النصاب.
3- قال ابن دقيق العيد: القيمة والثمن مختلفان في الحقيقة، فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه لم تعتبر إلا القيمة.
4- للعلماء شروط في قطع يد السارق، تقدم بعضها:
وأهم الباقي أن يكون المسروق من حرز مثله، والحرز يختلف باختلاف الأموال والبلدان والحكام.
ومرجع الحرز، العُرْفُ. فلا قطع في سرقة من غير حرز مثلها.
وأن تنتفي الشبهة، فلا قطع من مال له فيه شبهة، كسرقة الابن من أبيه، أو الأب من ابنه، والفقير من غلة وقف على الفقراء، أو من مال له في شركة، وأن تثبت السرقة إما بإقرار من السارق معتبر، أو شاهدين عد لين.
5- لهذا الحكم السامي، حكمته التشريعية العظمى.
فالحدود كلها- على وجه العموم- رحمة ونعمة. فإن في المجموعة البشرية أفراد، أشْرِبَتْ نفوسهم حبَّ الأذى، وإقلاق(1/666)
الناس، وإفزاعهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وأنه إذا لم يجعل لهؤلاء المجرمين رادع من التأديب والعقوبة، اضطربت الأحوال، وخاف الناس، وتقطعت السبل
ومن رحمته تعالى، أن جعل عقوبات تناسب هذه الجرائم ليرتدع بها المجرم وليكف عن الجرائم من يحاول غشيانها.
ومن ذلك قطع يد السارق.
فهذا المعتدى الذي ترك ما أباح الله تعالى له، واستحسنه الناس من المكاسب الشريفة، التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالصالح العام، فأقدم على أموال الناس بغير حق، وأفزعهم وأخافهم، يناسبه في العقوبة أن تقطع يده، لأنها الآلة الوحيدة [لعملية الإجرام] .
ولكنا- مع الأسف- ابتلينا بهذه الطوائف المتزندقة، التي عشقت القوانين الأوروبية الآثمة، تلك القوانين التي لم تحجز المجرمين عن إفسادهم في الأرض، وإخافة الأبرياء في بيوتهم وسبلهم.
عشقوا تلك القوانين التي حاولت إصلاح المجرمين المفسدة بغير ما أنزل الله تعالى عليهم، من
العلاجات الشافية لهم، ولمن في قلبه مرض من أمثالهم، فلم تفلح، بل زادت عندهم الجرائم
والمفاسد. لأن عقابهم وعلاجهم السجن، مهما عظمت المعصية، وكبر الإجرام.
والسجن يلذ لكثير من المفسدين العاطلين، الذين يجدون فيه الطعام والشراب، وفي خارجه الجوع والبطالة.
وبالتجارب وجدنا حكومتنا [السعودية] وفقها الله، لما حكمت- ولله الحمد- بالشرع الشريف، خفت عندها أعمال الإجرام، لاسيما سلب الأموال.
بينما غيرها من الأمم القوية، تعج بالمنكرات، وعصابات المجرمين، وقطاع الطرق والمهاجمين. أعاد الله المسلمين إلى حظيرة دينهم، والعمل بما فيه من الخير والبركة.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في قدر النصاب الذي تقطع فيه يد السارق.
فذهب الظاهرية: إلى أنه في القليل والكثير، مستدلين بقول الله تعالى {وَالسارِقُ وَالسًارِقَةُ فَاقطَعُوا أيْديَهُمَا} وهى مطلقة في سرقة القليل والكثير.
وبما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده".
وذهب جمهور العلماء: إلى أنه لابد في القطع من نصاب السرقة مستدلين الأحاديث الصحيحة في تحديد النصاب.
وأجابوا عن أدلة الظاهرية بأن الآية مطلقة في جنس المسروق وقدره، والحديث بيان لها.
وأما حديث البيضة والحبل، فالمراد بذلك بيان سخف وضعف عقل(1/667)
السارق وخساسته ودناءته، فإنه يخاطر بقطع يده للأشياء الحقيرة التافهة.
فهذا التعبير نوع من أنواع البلاغة، فيه التنفير، والتبشيع، وتصوير عمل المعاصي بالصورة المكروهة المستقبحة.
ثم اختلف الجمهور في تحديد قدر النصاب الذي يقطع فيه، على أموال كثيرة، نذكر منها القوي.
فذهب مالك، وأحمد وإسحاق: إلى أن النصاب ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو عَرَض تبلغ قيمته أحدهما.
وذهب الشافعي إلى أن النصاب ربع دينار ذهبا، أو ما قيمته ربع دينار من الفضة أو العروض، وبه قال كثير من العلماء، منهم عائشة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزعي، والليث، وأبو ثور.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري: إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة أو ما يعادلها من ذهب أو عروض.
استدل الإمام أحمد، ومالك، بما رواه أحمد ومسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ".
وكان ربع الدينار يومئذ، ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما. رواه أحمد عن ابن عمر.
وكما في حديث الباب عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم "قطع في مجن قيمته ثلاثة در اهم".
واستدل الشافعي والجمهور بالحديث السابق " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا " فإنه جعل الذهب أصلاً يرجع إليه في النصاب.
ولا ينافي حديث ابن عمر، فإن قيمة الدراهم الثلاثة في ذلك الوقت ربع دينار، لأن صرف الدينار اثنا عشر درهماً.
واستدل أبو حنيفة واتباعه، بما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم قطع في مجن، وقد اختلف في قيمة هذه المجن، حتى جاء بما أخرجه البيهقى والطحاوي من حديث ابن عباس. أنه كان ثمن المجن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم.
وهذه الرواية وإن خالفت ما في الصحيحين من أن قيمته ثلاثة دراهم، فالواجب الاحتياط فيما يستباح به قطع العضو المحرم، فيجب الأخذ به وهو الأكثر.
وبما أخرجه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لاَ قطع إلا في عشرة دراهم " وضعف العلماء هذا الحديث.
واختلف العلماء في حقيقة اليد التي تقطع على أقوال: وأصحها، ما ذهب إليه الجمهور،(1/668)
بل نقل فيه الإجماع، من أنها الكف التي تبتدئ من الكوع، فالآية الكريمة ذكرت قطع اليد، واليد عند الإطلاق هي الكف فقط، ومع هذا فقد بينتها السنة، فإن الله تعالى قال: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} والنبي صلى الله عليه وسلم مسح على كفيه فقط. ثم إن الجمهور ذهبوا إلى أن أول ما يقطع اليد اليمنى وبه قرأ ابن مسعود {فاقطعوا أيمانهما} فإن سرق ثانيا قطعت الرجل اليسرى، ثم إن سرق قطعت اليد اليسرى، ثم إن سرق فالرجل اليمنى، هذا عند الجمهور. وذكروا أدلتهم في المطولات.
باب في إنكار الشفاعة في الحدود (1) والنهي عنها
الحديث الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة
عَنْ عَاِئشَةَ رَضي الله عَنْهَا: إنَّ قُرَيْشاً أهَمَّهُمْ شَأنُ الْمَخْزُومِيَّة التي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمَ فِيهَا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم؟.
فَقَالوا: وَمَنْ يَجْتَرِئ عَلَيْهِ إلا أسَامَةُ بْنُ زَيد حِبُّ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟.
فَكَلَّمَهُ أسَامَةُ، فَقَالَ " أَتَشفَعُ في حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله "؟.
ثَُم قَامَ فاختَطَبَ، فَقَالَ: " إنَّمَا أهلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنَّهم كَانُوا إذَا سَرقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكَوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأيْمُ الله، لَوْ أنَّ فَاطِمَةَ بِنْت مُحَمَّدٍ سرَقتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا".
وفي لفظ: كَانَت امْرأةٌ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتجْحَدُهُ، فَأمَرَ النبيُ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا.
الغريب:
أهمهم: جلب لهم هما، أو صيرهم ذوي هم.
المخزومية: هي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، بنت أخي أبي سلمة. وبنو مخزوم أحد أفخاذ قريش، وهم من أشراف تلك القبيلة الشريفة فيسمونهم ريحانة قريش.
من يكلم؟:. أي من يشفع فيها بترك قطع يدها.
حِِبُ رسول الله: بكسر الحاء، أي محبوبة.
وأيم الله: بفتح الهمزة وكسرها وضم الميم، وهو اسم مفرد، ولذا فإن همزته همزة قطع وإعرابه هنا: إنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: قسمي، أو يميني.
_________
(1) وضعت هذه الترجمة لهذا الحديث لأنها المقصود لأعظم منه، ولأهميتها والحاجة إلى معرفتها. اهـ- شارح.(1/669)
المعنى الإجمالي:
كانت امرأة من بنى مخزوم تستعير المتاع من الناس احتيالاً، ثم تجحده.
فاستعارت مرةً حُلِيًا فجحدته، فوُجِدَ عندها، وبلغ أمرها النبي صلى الله عليه وسلم فعزم على تنفيذ حد الله تعالى بقطع يدها، وكانت ذات شرف، ومن أسرة عريقة في قريش.
فاهتمت قريش بها وبهذا الحكم الذي سينفذ فيها، وتشاوروا فيمن يجعلونه واسطة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليكلمه في خلاصها، فلم يروا أولى من أسامة بن زيد، فإنه المقرب المحبوب للني صلى الله عليه وسلم. فكلمه أسامة.
فغضب منه صلى الله عليه وسلم وقال له - منكراً عليه: - "أتشفع في حدًٍّ من حدود الله"؟
ثم قام خطيبا في الناس ليبين لهم خطورة مثل هذه الشفاعة التي تعطل بها حدود الله، ولأن الموضوع يهم الكثير منهم، فأخبرهم أن سبب هلاك من قبلنا في دينهم وفي دنياهم: أنهم يقيمون الحدود على الضعفاء والفقراء، ويتركون الأقوياء والأغنياء، فتعم فيهم الفوضى وينتشر الشر والفساد، فيحق عليهم غضب الله وعقابه.
ثم أقسم صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- لو وقع هذا الفعل من سيدة نساء العالمين ابنته فاطمة- أعاذها الله من ذلك- لنفذ فيها حكم الله تعالى. صلى الله عليه وسلم.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم! الشفاعة في الحدود، والإنكار على الشافع، وذلك قبل أن تبلغ الحاكم. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على امتناع الشفاعة في الحد بعد بلوغه السلطان، وفيه تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى.
قلت في تقييد ذلك بـ (قبل بلوغها الحاكم) ليس مأخوذا من هذا الحديث الذي معنا، وإنما يؤخذ من نصوص أخر، مثل ما أخرجه أصحاب السنن، وأحمد، عن صفوان بن أمية: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر بقطع الذي سر ق رداء هـ فشفع فيه: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟.
أما قبل بلوغ الحاكم، فهل يرفعه أو يتركه؟.(1/670)
الأولى أن ينظر في ذلك إلى ما يترتب على ذلك من المصالح أو المفاسد.
فإن كان ليس من أهل الشر والأذى، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال"أقيلوا ذوى الهيئات زلاَّتهم".
فإن كان يترتب عليه شيء من المفاسد فمثل هذا، الأحسن عدم رفعه.
وإن كان في تركه مفسدة، وهو من أهل الأذى ونحو دْلك من دواعي الرفع، فالأولى رفعه.
2- أن جاحد العاريَة حكمه حكم السارق، فيقطع. ويأتي الخلاف فيه
3- وجوب العدل والمساواة بين الناس، سواء منهم الغني أو الفقر، والشريف أو الوضيع، في الأحكام والحدود، وفيما هم مشتركون فيه.
4- أن إقامة الحدود على الضعفاء وتعطيلها في حق الأقوياء، سبب الهلاك والدمار، وشقاوة الدارين.
5- القَسَمُ في الأمور الهامة، لتأكيدها وتأييدها.
6- جواز المبالغة في الكلام، والتشبيه والتمثيل. لتوضيح الحق وتبيينه وتأكيده.
7- منقبة كبرى لأسامة، إذ لم يروا أولى منه للشفاعة عند الني صلى الله عليه وسلم وقد وقعت الحادثة في فتح مكة.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في جاحد العارية: هل يقطع أو لا؟
فذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك والشافعي: إلى أنه لا يقطع، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه الخِرَقِي، وأبو الخطاب، و (ابن قدامه) صاحب الشرح الكبير، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على خائن".
وأجابوا عن حديث الباب بأنها ذكرت بجحد العارية للتعريف، لا لأنها قطعت من أجله، وقد قطعت لأجل السرقة، ولذا وردت لفظة [السرقة] في الحديث.
وأجابوا بغير ذلك، ولكنها أجوبة غير ناهضة.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يقطع، وهو المذهب.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سألت أبى فقلت له: تذهب إلى هذا الحديث؟(1/671)
فقال: لا أعلم شيئاً يدفعه.
وبهذا القول، قال إسحاق، والظاهرية، وانتصر له ابن حزم.
واستدلوا بهذا الحديث الذي جاء في قصة المخزومية، وجعلوا حديث "لا قطع على خائن " مخصصا بغير خائن العارية لحديث الباب.
والمعنى الموجود في السارق موجود مثله في جاحد العارية، بل. الأخير أعظم، لأنه لا يمكن التحرز منه.
والمعُيِرُ مُحْسِن، والجاحد ير يد قطع الإحسان والمعروف بين الناس، فهو مسيء من جهات.
تنبيه:
بإجماع العلماء أن الغاصب والمختلس والمنتهب لا يقطعون، وليس ذلك لأنهم غير مجرمين أو مفسدين، بل هم آثمون ويجب عليهم التعزير، وقد يكون تعزيرهم بليغاً ويجب عليهم ردّ ما أخذوه.
وإنما لم يقطعوا، لما نقلناه في أول الباب عن القاضي عياض ولِحكَمٍ أيضاً، لا يعلمها إلا الذي شرع للناس، ما يصلح حالهم.
بَابُ حد الخمْر
للخمر- في اللغةَ ثلاثة معان:
1- الستر والتغطية، ومنه: اختمرت المرأة إذا غطت رأسها ووجهها بالخمار.
2- والمخالطة: ومنه قول كثير عزة:
هنيئا مريئا غير داء مخامر....... أي: مخالط.
3- والإدراك، ومنه قولهم: خمرت العجين (1) وهو أن تتركه حتى يبلغ وقت إداكه.
فمن هذه المعانيْ الثلاثة أخذ اسم الخمرة، لأنها تُغطى العقل وتستره، ولأنها تخالط العقل، ولأنها تترك حتى تدرك وتستوى.
وتعريفها- شرعاً: أنها اسم لكل ما خامر العقل وغطَاه من أي نوع من
الأشربة لحديث "كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
_________
(1) لا يزال هذا اللفظ مستعملا لهذا المعنى- اهـ- شارح.(1/672)
وهو محرم بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {يَا آُيَّهَا الذِينَ آمَنُوا إنَمَا الْخمر وَالْميسِرُ والأنْصَابُ والأزْلامُ رِجْس مِنْ عَمَل الشيطَانِ فَاجَتَنِبُوهُ لعلَّكم تفلحون} فقرنه مع عبادة الأصنام، التي هي الشرك الأكبر بالله تعالى.
وأما السنة: فأحاديث كثيرة، منها ما رواه مسلم: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" وأجمعت الأمة على تحريمها.
حكمة تحريمها التشريعية: لا يحتمل المقام هنا ذكر ما علمناه ووقفنا عليه من المفاسد، التي تجرها وتسببها ويكفيك قوله تعالى: {إنَّمَا يُريدُ الشيطَانُ أنْ يُوقِعَ بَينَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغضَاءَ في الخَمْرِ وَالميسِرِ وَيَصُدَّ كم عَنْ ذِكْرِ الله وَعَن الصلاةِ فَهَلْ أنتمْ مُنْتَهُون؟} فذكر أنه سبب في كل شر، وعائق عن كل خير.
وقال صلى الله عليه وسلم: " الخمر أم الخبائث " فجعلها أما وأساسا لكل شر وخُبْثٍ.
أما مضرتها الدينية، والأخلاقية، والعقلية، فهي مما لا يحتاج إلى بيان وتفصيل.
وأما مضرتها البدنية، فقد أجمع عليها الأطباء لأنهم وجدوها سببا في كثير من الأمراض الخطيرة المستعصية.
لهذا حرمها الشارع الحكيم، وإنَ ما تجره هذه الجريمة المنكرة من المفاسد والشرور ليطول عَدُّه، ويصعب حَصْرُه.
ولو لم يكن فيها إلا ذهاب العقل لكفى سببا للتحريم فكيف يشرب المرء تلك الآثَمة التي تزيل عقله، فيكون بحال يضحك منها الصبيان، ويتصرف تصرف المجانين.
فَدَاء هذا بعض أمراضه، كيف يرضاه عاقل لنفسه؟!
ولِعظَمِ خطرها، وكثرة ضررها، حاربتها الحكومات في (الولايات المتحدة) وغيرها.
ولكن كثيرا من الناس لا يعقلون، فتجدهم يتهافتون عليها، فيذْهِبُونَ بها عقولهم، وأديانهم، وأعراضهم، وأموالهم، وشيمتهم، وصحتهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون
الحديث الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة
عن أنسَ بْنِ مَالِك رضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَّبيَّ صَلَّي الله عَلَيْهِ وَسَلَّم أتي بِرَجُلِ قدْ شَرِبَ الَخَمْرَ، فَجَلَدَهُ بِجَريِدِةٍ نَحْوَ أربعين.
قالَ: وَفَعَلَهُ أبُو بَكْر، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، اسْتَشَارَ النَّاسَ، فقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: " أخَفُّ الُحْدُودِ، ثَماَنُونَ ". فَأمَرَ به عمر رضي الله عَنْهُ (1) .
_________
(1) قال عبد الحق في جمعه بين الصحيحين: لم يخرج البخاري مشورة عمر ولا فتوى عبد الرحمن بن عوف.(1/673)
المعنى الإجمالي:
شرب رجل الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجلده بجريدة من سعف النخل نحو أربعين جلدة.
وجلد أبو بكر رضي الله عنه شارب خمر في خلافته مثل جلد النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما جاءت خلافة عمر، وكثرت الفتوحات، واختلط المسلمون بغيرهم، كثر شربهم لها.
فاستشار علماء الصحابة في الحد الذي يطبقه عليهم ليردعهم كعادته في الأمور الهامة، والمسائل الاجتهادية.
فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله مثل أخف الحدود، ثمانين. وهو حد القاذف، فجعله عمر ثمانين جلدة.
ما يستفاد من الحديث:
1- ثبوت الحد في الخمر، وهو مذهب عامة العلماء.
2- أن حده على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربعين جلدة، وتبعه أبو بكر على هذا.
3- أن عمر- بعد استشارة الصحابة- جعله ثمانين.
4- الاجتهاد في المسائل ومشاورة العلماء عليها، وهذا دأب أهل الحق وطالبي الصواب.
أما الاستبداد، فعمل المعجبين بأنفسهم، المتكبرين الذين لا يريدون الحقائق.
اختلاق العلماء:
اختلف العلماء في حد الخمر: هل هو ثمانون جلدة، أو أربعون، وما بين الأربعين والثمانيِن يكون من باب التعزير إن رأى الحاكم الزيادة وإلا اقتصر على الأربعين؟.
ذهب الأئمة أحمد، ومالك، وأبو حنيفة، والثوري، ومن تبعهم من العلماء: إلى أن الحد ثمانون، ودليلهم على ذلك إجماع الصحابة، لما استشارهم عمر فقال عبد الرحمن بن عوف: (اجعله كأخف الحدود ثمانين) فجعله.
وذهب الشافعي إلى أن الحد أربعون، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها جملة من أصحابه، منهم أبو بكر، وشيخ الإسلام (ابن تيميةَ) و (ابن القيم) وشيخنا (عبد الرحمن بن سعدى) رحمهم الله تعالى.
قال شيخ الإسلام (ابن تيميه) فيما نقل عنه في الاختيارات:
(والصحيح في حد الخمر إحدى الروايتين الموافقة لمذهب الشافعي وغيره أن الزيادة على الأربعين إلى الثمانين ليست واجبة على الإطلاق بل يرجع فيها إلى اجتهاد الإمام، كما جوزنا له الاجتهاد في صفة الضرب فيه) .(1/674)
وقال في المغنى (ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي ِ، وأبي بكر وعليّ، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزيز، يجوز فعلها إذا رآه الإمام) .
ويقصد بهذا، الرد على من قال: إن الثمانين كانت بإجماع من الصحابة.
وقد أجمعت الأمة على أن الشارب إذا سكر بأي نوع من الأنواع المسكرة، فعليه الحد، وأجمعت أيضا على أنه من شرب عصير العنب المتخمر، فعليه الحد، ولو لم يسكر شاربه.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف: إلى أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، من أي نوع من أنواع المسكرات، ويستوي أن تكون من عصير العنب، أو التمر، أو الحنطة، أو الشعير، أو غير ذلك. وهو مروى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عمر، وأبي هريرة، وسعد بن أبى وقاص، وأبي بن كعب، وأنس، وعائشة رضى الله عنهم.
وبه قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، والقاسم بن محمد، وقتادة، وعمر بن عبد العزيز.
وهو مذهب الأئمة الثلاثة: أحمد، والشافعي، ومالك، وأتباعهم، وذهب إليه أبو ثور، وإسحاق.
وأما أهل الكوفة فيرون أن الأشربة المسكرة من غير عصير العنب لا يحد شاربها ما لم تبلغ حد الإسكار.
أما مع الإسكار فقد تقدم أن الإجماع على إقامة الحد.
وليس لهؤلاء من الأدلة إلا أن اسم الخمر حقيقة لا يطلق- عندهم- إلا على عصير العنب أما غيره فيلحق به مجازا.
واستدلوا على مذهبهم بأحاديث.
قال العلماء- ومنهم الأثرم، وابن المنذر: إنها معلولة ضعيفة.
وأما أدلة جماهير الأمة، على أن كل مسكر خمر، يحرم قليله وكثيره. فمن الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، واللغة الفصيحة.
فأما الكتاب، فعمم تحريم الخمر، ونهى عنه.
والخمر: - ما خامر العقل وغطاه من أي نوع.
وأما السنة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وقال صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليله حرام " رواه أبو داود والأثرم.(1/675)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه [نزل تحريم الخمر وهي من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير والخمر ما خامر العقل] متفق عليه.
وأما اللغة، فقد قال صاحب القاموس (الخمر: ما أسكر من عصير العنب، أو هو عامَ) والعموم أصح لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب، وكان شرابهم البسر والتمر) .
وقال الخطابي: (زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غيرِ المتخذ من العنب خمرا، عرب فصحاء. ولو لم يكن هذا الاسم صحيحا، لما أطلقوه) .
ومن أحسن ما ينقل من كلام العلماء في هذه المسألة، ما قاله القرطبي: (الأحاديث الواردة عن أنس وغيره- على صحتها وكثرتها- تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إ لا من العنب، وما كان من غيرهْ لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر.
وهو قول مخالف للغة العرب، وللسنة الصحيحة، وللصحابة، لأنهم- لما نزل تحريم الخمر- فهموا من الأمر بالاجتناب، تحريم كل ما يسكر.
ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره. بل سووا بينهما، وحرموا كل ما يسكر نوعه.
ولم يتوقفوا، ولم يستفصلوا ولم يشكل عليهم شيء من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، رهم أهل اللسان، وبلغتهم نزل القرآن
فلو كان عندهم تردد، لتوقفوا عن الإراقة حتى يستفصلوا ويتحققوا التحريم.
ثم ساق القرطبي الأثر المتقدم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذا كلام جيد، يقطع شبهة المخالف، والله الموفق.
بَابُ التعزير (1)
التعزير- لغة- هو مصدر (عزَّر) وأصل العز ر: المنع، فأخذ منه، لأنه يمنع من الوقوع في المعصية.
وشرعاً: - التأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة، كالاستمتاع من المرأة بما دون الفرج، أو السرقة من غيرِ حرز، والقذف بغير الزنا، والمعاصي التي لم يقدر لها حدود، هي الكثرة الغالبة.
أما ما فيه حدّ مقدر من الشارع، فهو القليل المحصور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على مقدار هذه العقوبة والخلاف فيه.
_________
(1) وضعت هذه الترجمة، لأنها المقصودة من هذا الحديث- اهـ- شارح.(1/676)
أما حكمته التشريعية: - فهو من جملة الحدود التي تقدم الكلام في فوائدها ومنافعها.
وحكمه ثابت، في الكتاب، والسنة، والإجماع. ونصوصه كثيرة مشهورة.
الحديث الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة
عَنْ أبي بُرْدَةَ هانئ بْنِ نِيَار البلويِّ رَضي الله عَنْهُ: أنَّهُ سَمِع رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
" لا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أسْوَاطٍ إلا في حَدٍّ مِنْ حدود الله".
المعنى الإجمالي:
يراد بحدود الله تعالى، أوامره ونواهيه. فهذه لها عقوبات رادعة عنها، إما مقدرة، كالزنا والقذف أو غيره مقدرة، كالإفطار في نهار رمضان، ومنع الزكاة، وغير ذلك من قِبَلِ المحرمات، أو ترك الواجبات.
وهناك تأديبات وتعزيرات للنساء والصبيان، لغير معصية الله..
وإنما تفعل لتقويمهم وتهذيبهم. فهذه لا يزايد فيها على عشرة أسواط، ماداموا لم يتركوا واجبا من دينهم، أو يفعلوا محرما عليهم من ربهم.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن حدود الله تعالى، التي أمر بها، أو نهى عنها، لها عقوبات تردع عنها، إما مقدرة من الشارع، أو راجع وتقديرها إلى المصلحة التي يراها الحاكم. وهى أنواع كما يأتي.
2- أن تأديب الصبيان والنساء والخدم ونحوهم، يكون خفيفا بقدر التوجيه والتخويف، فلا يزاد فيه على عشرة أسواط
والأولى تهذيبهم بدون الضرب، بل بالتوجيه، والتعليم، والإرشاد، والتشويق، فهو أدعى للقبول واللطف في التعليم.
والأحوال في هذا المقام تختلف كثيراً، فينبغي فعل الأصلح.
3- ظاهر هذا الحديث تحريم الزيادة على عشرة أسواط، لأن الحديث جاء بصيغة النَهْي ويقتضي التحريم.
اختلاق العلماء:
اختلاف العلماء في المراد من معنى قوله " إلا في حَدٍّ من حدود الله " فذهب بعضهم: إلى أن المراد (بالحدود) هي التي قدرت عقوباتها شرعاً كحد الزنا، والقذف، والسرقة، والقصاص(1/677)
في النفس، وما دونها من الأطراف والجروح.
فعلى هذا، يكون ما عداها من المعاصي، هو الذي عقوبة مرتكبه التعزير، وهو من عشرة أسواط فأدنى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
على أن الأصحاب يريدون بالتعزير المقدر، لمن كان قد فعل المعصية.
أما المقيم عليها، فيُعزَّر حتى يُقلع عنها، ولذا قال شيخ الإسلام: (والذين قدروا التعزير من أصحابنا، إنما هو فيما إذا كان تعزيرا على ما مضى من فعل أو ترك.
فإن كان تعزيرا لأجل ترك ما هو فاعل له، فهو بمنزلة قتل المرتد والحربي، وقتال الباغي. وهذا تعزير ليس يقدر، بل ينتهي إلى القتل، كما في الصائل لأخذ المال، يجوز أن يمنع ولو بالقتل) وله بقية.
وعنه أن كل معصية لها مثل المقدر، لا يبلغ بها حدًا المقدَر، كأن يزني بجارية له فيها شرك، فيجلد مائة سوط إلا واحداً.
ومذهب أبي حنيفة، والشافعي: أنه لا يبلغ بالتعزير، الحدود المقدرة.
وذهب بعض العلماء: إلى أن معنى قوله "إلا في حد من حدود الله" أن المراد بحدود الله، أوامره ونواهيه، وأنه مادام التعزير لأجل ارتكاب معصية بترك واجب أو فعل محرم، فيبلغ به الحد الذي يراه الإمام رادعاً وزاجراً من ارتكابه والعودة إليه، وذلك يختلف باختلاف المكان والزمان، وباختلاف الأشخاص، وباختلاف المعصية.
فللأزمنة: والأمكنة، حكم بالتحفيف أوالتشديد في عقوبة العصاة، وكذلك الأشخاص، لكل منهم أدبه اللائق والكافي لردعه.
فبعضهم يكفيه التوبيخ، وبعضهم الضرب والجلد. وبعضهم الحبس. وبعضهم أخذ المال.
والذين يندر أن تقع منهم المعاصي _ وهم ذوو الهيئات _ فينبغي التجاوز عنهم.
وبعضهم مجاهرون معاندون، فينبغي النكاية بهم.
والمعاصي تختلف في عِظَمِها وخفتها.
فينبغي للحاكم ملاحظة الأحوال، والظروف، والملابسات، ليكون على بصيرة من أمره، ولتكون تعزيرا ته وتأديباته واقعة مواقعها، وافية بمقصودها، وهو راجع إ إلى رأي الحاكم، فقد يكون بالتوبيخ، وقد يكون بالهجر، وقد يكون بالجلد، وقد يكون بالحبس، وقد يكون بأخذ المال، وقد يكون بالقتل.
وكل هذه العقوبات، لها أصل في الشرع. وإليك كلام العلماء في هذا الباب.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى- فيمن شرب خمراً في نهار رمضان، أو أتى شيئاً نحو هذا-: (أقيم عليه الحد وغلظ عليه، مثل الذي يقتل في الحرم، ودية وثلث دية)
وقال أيضاً: (إذا أتت المرأة المرأة، تعاقبان وتؤدًبان) .(1/678)
وقال أيضاً- فيمن طعن على الصحابة-: (إنه قد وجب على السلطان عقوبته، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة) .
وقد أطال الناقل عن شيخ الإسلام في " الاختيارات " في هذا الباب فنجتزئ من ذلك بفقرات تُبيِّن رأيه، وتنير الطريق في هذه المسألة.
قال رحمه اللَه: (وقد يكون التعزير بالعزل والنَّيْلِ من عِرْضِه، مثل أن يقال: يا ظالم، يا معتدى، وبإقامته من المجلس) .
وقال: (والتعزير بالمال سائغ، إتلافاً، وأخذا، وهو جار على أصل أحمد، لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها) .
وقول الشيخ أبى محمد المقدسى (ابن قدامه) : (ولا يجوز أخذ مال المعزر) ، إشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة.
وقال: (ويملك السلطان تعزير من ثبت عنده أنه كتم الخبر الواجب. كما يملك تعزير المقر إقراراً مجهولا حتى يفسره، أو من كتم الإقرار) .
وقد يكون التعزير بتركه المستحب كما يعزر العاطس الذي لم يحمد الله، (بترك تشميته) .
وقال: (وأفتيت أميرا مقدماً على عسكر كبير في الحربية، فإذا نهبوا أموال المسلمين ولم ينز جروا إلا بالقتل، أن يقتل من يَكفون بقتله ولو أنهم عشرة إذ هو من باب دفع الصائل) .
وقال (ابن القيم) : (الصواب أن المراد بالحدود هنا، الحقوق التي هي أوامر الله ونواهييه. وهي المرادة بقوله تعالى: {وَمَنْ يتعدَّ حُدودَ الله فأولئكَ هُمُ الظالمون} وفي أخرى (فَقَدْ ظَلَمَ نَفسَهُ) وقال: {تِلْكَ حُدُوُد الله فلا تَقرَبُوها} فلا يزاد على الجلدات العشر، في التأديبات التي لا تتعلق بمعِصية، كتأديب الأب ولده الصغير) .
وقال أبو يوسف- صاحب أبي حنيفة-: (التعزير على قدر عظم الذنب
وصغره، على قدر ما يرى الحاكم من احتمال المضروب، فيما بينه وبين أقل من ثمانين) .
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (التعزير على قدر الجرم. فإن كان جرمه أعظم من القذف، ضُرِبَ مَائة أو أكثر) .
وقال أبو ثور: (التعزير على قدر الجناية وتسرعِ الفاعل في الشر، وعلى قدر ما يكون أنكل وأبلغ في الأدب، وإن جاوز التعزير الحد، إذا كان الجرم عظيما، مثل أن يقتل الرجل عبده، أو يقطع منه شيئاً، أو يعاقبه عقوبة يسرف فيها، فتكون العقوبة فيه على قدر ذلك. وما يراه الإمام إذا كان عدلا مأمونا) .(1/679)
وقال شيخنا (عبد الرحمن بن سعدى) رحمه الله تعالى: و (الصحيح جواز الزيادة في التعزير على عشر جلدات بحسب المصلحة والزجر) . فهذه أقوال الأئمة وآراؤهم في التعزير رحمهم الله تعالى.
والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلا في حَد من حدود الله) : أن المراد به المعصية، وأن الذي لا يزاد على ذلك، تأديب الصغير، والزوجة، والخادم، ونحوهم في غير معصية.
فوائد منقوله عن شيخ الإسلام:
الأولى: كان عمر بن الخطاب يكرر التعزير في الفعل إذا اشتمل على أنواع من المحرمات فكان يعرز في اليوم الأول مائة، وفي الثاني مائة، وفي الثالث مائة، يفرق التعزير لئلا يفضى إلى فساد بعض الأعضاء.
الثانية: الذي عنده مماليك وغلمان يجب عليه أن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وإذا كان قادرا على عقوبتهم فينبغي له أن يعزرهم على ذلك إذا لم يؤدوا الواجبات ويتركوا المحرمات.
الثالثة: الاستمناء باليد حرام عند جمهور العلماء، وهو أصح القولين في مذهب أحمد، وفي القول الآخر هو مكروه غير محرم، وأكثرهم لا يبيحونه لخوف العنت ... ونقل عن طائفة من الصحابة والتابعين أنهم رخصوا فيه للضرورة، مثل أن يخشى الزنا، فلا يعصم منه إلا به، ومثل إن لم يفعله أن يمرض، وهذا قول أحمد وغيره وأما بدون الضرورة فما علمت أحدا أرخص فيه. والله. أعلم.(1/680)
كِتاب الأيمَان والنذور
الأيمان- لغة- بفتح الهمزة جمع (يمين) . واليمين خلاف اليسار، وأطلقت على الحلف، لأنهم كانوا إذا تحالفوا، أخذ كل منهم يمين صاحبه.
وتعريفه شرعاً: تحقيق الأمر المحتمل أو تأكيده، بذكر اسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ الله باللغو في أيمانكم} الآية. وقوله تعالى: {ولا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها} .
والسنة، شهيرة بذلك، ومنه ما يأتي من الأحاديث إن شاء الله.
وقد أجمعت الأمة على مشروعيه اليمين، وثبوت أحكامها.
ولا ينبغي الإكثار من الحلف، ويشرع مع الحاجة لإزالة شبهة، أو نَفْى تهمة، أو تأكيد خبر.
فقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من القرآن {ويستنبؤنك أحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إي وربِّى} {قُلْ بلَى وربِّى لتبْعَثنَّ} {قلَ بَلَى وربِّى لَتَأتِينَّكم} وأقسم صلى الله عليه وسلم لمناسبات كثيرة.
والحلف أنواع، جاء في الأحاديث التي ذكرها المؤلف (اليمين الغموس) و [اليمين التي تدخلها الكفارة] وسيأتي الكلام عليهما.
ولم يذكر المؤلف [لَغوَ اليمين] وأحسن ما فسر به نوعان:
الأول: أنها اليمين التي لا يقصدها الحالف، بل تجرى على لسانه من غير تعقيد ولا تأكيد، كما جاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته، " لا والله "و "بلى والله". وجاء عنها هذا الأثر موقوفا أيضاً.(1/681)
الثاني: أن يعقد الحالف اليمين ظانًّا صدق نفسه، ثم يتبين بخلافه.
فهذان النوعان من لَغْوِ اليمين، ليس على صاحبها إثم ولا كفارة.
الحديث الأول
عِنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ بْن سَمُرَةَ، لا تسأل الإمَارَةَ، فَإنَّك إن أعطيتها عَنْ مَسْألةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإنْ أعطيتها عَنْ غَيْر مَسْألةٍ أعنْتَ عَلَيْهَا. وإذا حَلَفْتَ على يِمِين فَرَأيْتَ غَيرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الًذِي هُوَ خَير".
الحديث الثاني
عَنْ أبي مُوسىَ رَضيَ الله عَنْهُ قَال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني والله- إنْ شَاءَ الله- لا أحْلِفُ على يَمِين فَأرى غيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إلا أتيت الًذِي هُوَ خَير، وَتَحَلَّلْتُهَا".
المعنى الإجمالي:
يرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة، وهذا النصح والإرشاد للأمة عامة.
فيقول: لا تطلب الإمارة، والولايات والوظائف عامة، وتحرص عليها وعلى تحصيلها بالوسائل والوسائط.
فإن وليتها عن هذا الطريق، فإنك ستُوكَلُ إلى جهدك وقوتك.
وأنت- بلا عَوْنِ الله تعالى وتوفيقه- ضعيف قاصر. ولذا فإنك ستخفق في عملك.
وذلك إنك اتَّكَلْتَ على جهدك، وجئت العمل عن غرور وعجب بنفسك، ولم يكن- لطلب العون من الله والتوفيق- محل في نفسك. فحريٌّ إن يخذلك.
ولأنك غالبا ما طلبتها إلا لأغراضك الخاصة.
وستكون أغراضك من مال أو جاهٍ، أو غيرهما، هي مقصود ك وهدفك، ولن تعطى العمل حقه، فيكون ذلك سبباً لإخفاقك وعدم نجاحك أيضاً.
أما إن جاءتك من غير مسألة ولا طلب، فالغالب أنك- حين لم تستشرف لها- ستكون مهتما للقيام بها، والاجتهاد فيها.
وهذا سيدعوك إلى الالتجاء إلى الله تعالى بطلب مدده وعونه وتسديده، وستحرص على القيام بها، وبهذا تعان عليها فتنجح فيها.
ثم ذكر أنه قد يفرط منك يمين، بسبب الامتناع عن الإمارة أو قبولها، فأمرك أنك إذا حلفت على أمر لتفعله أو لِتَدَعَهُ، فإن كان لا يترتب على حلفك شيء، فأنت مخيَّر بين المضي فيها أو التكفير.
وإن كان الأحسن هو فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله فَائتِ الذي(1/682)
هو خير، وكفرْ عن يمينك.
وكما أن هذا أمره، فهو فعله الرشيد أيضاً، كما بينه في الحديث الثاني، حيث أقسم صلى الله عليه وسلم: أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيراً إلا أتى الذي هو خير، وتحلل من يمينه بكفارة.
ما يستفاد من الحديثين
1- كراهة طلب الإمارة، والمراد بها، الولايات والوظائف كلها، والحرص عليها لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو "من ابتغى القضاء وسأله وكل إلى نفسه، ومن كره عليه أنزل الله ملكاً يسدده" ولما في ذلك من تعريض نفسه لعمل قد لا يقوم بحقوقه فيكون مُعَرِّضاً نفسه للخطر، ولما في ذلك- غالباً- من العجب والغرور، فإنه ما طلبه إلا معتدا بنفسه وقوته، وناسيا إعانة الله تعالى وتوفيقه، ولما فيه غالبا من سوء القصد، فإنه لن يطلبها مع وجود من يقدم بها غيره إلا لغرض مال، أو جاهٍ أو غير ذلك من المقاصد الدنيئة.
2- أن من جاءته الولاية بلا طلب ولا استشراف، فَسَيُعَانُ عليها، لأنه يرى القصور بنفسه، ويخاف العجز عنها، وحينئذ سيلتجئ إلى الله تعالى، فتأتيه الألطاف الإلهية بالعون والتسديد.، وسيحرص على عمله ويخلص فيه، فيكون سبباً لنجاحه وقيامه به.
3- مناسبة هذه الفقرة في الحديث لما بعدها، ولعلها تكون ما بينه الزركشى بقوله [لاحتمال أن يؤديه الامتناع عن الإمارة] إلى الحلف، وتكون المصلحة في القبول] .
4- أن من حلف أن لا يفعل كذا، أو أن يفعله، ثم رأى الخير في غير الذي حلف عليه، إما الفعل وإما الترك، فَليَأتِ الذي هو خير، ولْيكَفِّر عن يمينه. ويختلف هذا، باختلاف المحلوف عليه.
فقد يكون الحنث واجباً، وقد يكون مستحبا، وقد يكون حراماً، وقد يكون مباحاً. فيخَير بين البقاء على يمينه، أو الحنث مع التكفير.
5- عند جمهور العلماء أن الكفارة رخصة شرعها الله تعالى لحل ما عقدت اليمين، ولذلك تجزئ قبل الحنث وبعده، وذكر عياض أن الذين قالوا بتقديم التكفير من الصحابة أربعة عشر صحابيا، كما قال به قبل الحنث ربيعه والأوزاعي والليث ومالك وأحمد وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي.(1/683)
6- أن هذا التشريع، كما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو- أيضا- فعله. فقد أخبر أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير، وكفر عن يمينه.
وهذا هو عين المصلحة، وهو تخفيف من ربنا ورحمة.
وكانت الأمم السابقة، ليس عندهم تحليل وتكفير، فلا بد من الوفاء بأيمانهم.
ولذا فإن أيوب عليه السلام، لما حلف أن يضرب زوجته، وترك عزمه. لم يجد لقضاء يمينه إلا أن يضربها بِضِغْثِ (1) فيه عدد الجلدات المرادة.
الحديث الثالث
عَنْ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله ينهاكم أنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ".
ولـ"مسلم ": "فَمَنْ كَانَ حَالِفاً (2) فَلْيَحْلِفْ بِالله أوْ لِيَصْمُت".
وفي رواية: قالَ عُمَرُ: فوالله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِراً وَلا آثِراً (يعني: حَاكِياً عَنْ غَيْرِي انَّهُ حَلَفَ بِهَا) .
الغريب:
ليصمت: بضم الميم وكسرها.
ذاكراً: يعني عامداً.
آثرا: بهمزة ممدودة، فثاء مثلثة مكسورة. يعنى حاكياً عن غيري: أن حلف بها. ومنه الزيادة ثابتة في صحيح (البخاري) أيضا من حديث ابن عمر، فتوجه فيها نقدان:
أحدهما: كونها ليست من أفراد (مسلم) .
الثاني: أنها ليست من سند عمر.
المعنى الإجمالي:
الحلف: معناه تأكيد الفعل أو الترك، بذكر المعظم في النفس، المرهوب السطوة والانتقام، والتعظيم المطلق، والخوف والخشية من الأعمال التي لا تكون إلا لله.
وصرفها لغيره، أو صرف بعضها، شرك. لهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا، ينهانا أن نحلف بشيء غيره كآبائنا، تلك العادة الجارية في الجاهلية، وأمرنا- إذا حلفنا- أن لا نحلف إلا بالله تعالى، لأنه المستحق للتعظيم، وهو القادر- وحده- على الانتقام من الكاذب، وهو
_________
(1) الضغث: هو عثكال النخل بشماريخه، أو القبضة من القضبان.
(2) هذه الرواية التي عزاها لـ (مسلم) ليست من هذا الوجه الذي أورده بل أوردها من رواية ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت.
وهذه الزيادة ثابتة في صحيح "البخاري" أيضا من حديث ابن عمر، فتوجه فيها نقدان:
أحدهما: كونها ليست من أفراد "مسلم".(1/684)
الضار النافع.
وإن لم نكن حالفين بالله فَلْنَصْمُتْ وَلنسكتْ عن الحلف بغيره، فإنه شرك كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، والحاكم، من حديث ابن عمر: (من حلف بغير الله كفر)
ولما علم الصحابة رَضي الله عنهم بالنهي عن ذلك، انتهوا عنه واجتنبوه. فكانوا لا يحلفون إلا بالله، أو بصفاته العلية.
ولذا قال عمر رضى الله عنه: (فو الله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهى عنها، لا عامدا، ولا حاكيا، أي ناقلا كلام غيري) .
كل هذا احتراز من الوقوع في المحظور وابتعاد عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الحلف بالآباء، لأنه الأصل في النهي. والنهي عن الحلف بالآَباء عام لكل شيء.
فلا يحل لمخلوق- كائنا ً من كان- أن يقسم ويحلف بغير الله جل وعلا.
أما الله سبحانه وتعالى فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
ولهذا، فلا يحلْ الحلف بغير الله تعالى وصفاته، مهما كان عظم المحلوف به، كالنبي صلى الله عليه وسلم، والكعبة المشرفة، وغيرها.
2- أن من أراد الحلف بغير اللَه فليلزم الصمت، فإنه أسلم له.
3- وعلة النهى: أن الحلف يراد به التأكيد بذكر أعظم شيء في نفس الحالة وأشد عقاب وانتقام. وهذا لا يكون إلا لله تعالى وحده.
وصرفه لغيره كفر كما جاء في حديث ابن عمر. ولكنه كفر لا يخرج من الملة، فإن الكفر أنواع وأقسام.
4- وأما ما وقع مما يخالف هذا النهى من قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبوه إن صدق) فقيل بعدم صحتها. قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة. وقيل: إن " وأبيه " مصحفة عن (والله) قال ابن حجر: هو محتمل. وقيل إن هذا اللفظ مما يجرى على الألسنة بغير قصد القسم به وذكر النووي أنه ربما كان جائزا ثم نسخ.
5- فضيلة عمر رضي الله عنه، بسرعة امتثاله وحسن فهمه وتورعِه. فلم يحلف بغير الله بنفسه، ولم يحك قَسَمَ غيره بغير الله، امتثالا وابتعاداً، لئلا يتعود لسانه عليه، فيخف عليه ويعتاده.(1/685)
6- إنما خصَّ النهي عن الحلف بالآباء، مع أنه عامُّ في كل ما سوى الله تعالى، لأن هذه عادة جاهلية، فنص عليها بعينها، مع فهم المراد العام منها.
فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب مع رَكب فسمعه يحلف بأبيه، فذكر الحديث.
الحديث الرابع
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضي الله عَنْهُ عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهمَا السلام: لأطُوفَنَّ الّليلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأةٍ مِنْهُنً غلاماً يُقَاتِلُ في سَبِيلِ الله.
فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ الله. فَلَمْ يَقُلْ. فَطَافَ بِهنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُن إلا. امْرَأة وَاحِدَة نِصْفَ إنْسَانٍ.
قَالَ: فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " لَوْ قَالَ: إنْ شَاء الله لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ ذلِكَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ ".
قوله: " قيل له: قُلْ: إنْ شَاءَ الله " يَعْني قال لَهُ المَلَكُ.
الغريب:
لأطوفن: اللام واقعة في جواب قسم مقّدر محذوف، كأنه قال: (والله لأطوفن) والنون للتأكيد.
وطاف بنسائه: ألَم بِهنَّ وقاربهن، والمراد به المجامعة.
دَرَكاً لحاجته: بفتح الدال المهملة والراء، اسم مصدر لـ (أدرك) والمراد به: اللحاق والوصول إلى الشيء.
والملك: بفتح الميم واللام، أحد الملائكْة.
المعنى الإجمالي:
سليمان عليه السلام نبي من أنبياء الله تعالى إلى بنى إسرائيل، وقد أعطاه الله من الملكً ما لم يعطه أحدا.
وكان من حرصه ورغبته في الخير وإعلاء كلمة الله بجهاد أعدائه، أن أقسم بالله تعالى أن يجامع تسعين امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاما يشب ويقوى، حتى يجاهد في سبيل الله وأتى إلى شهوته بهذه النية الصالحة، لتكون عبادةً تقربه من ربه تبارك وتعالى، جاء واثقاً بربه، مخلصاً في مقصده، جازماً في تحقق مراده فأذهله ذلك، وأنساه عن الاستثناء بيمينه بأن يقول: (إن شاء الله) مع تذكير الملك له ذلك.
فطاف بهن، فلم تلد له منهن إلا واحدة جاءت بنصف إنسان، تأديبا من الله تعالى، وعظة لأوليائه وأصفيائه، وليرجعهم إلى كمالهم بالتعلق به وإدامةْ ذكره ومراقبته، فيما يأتون وما يذرون، وليعلم الناس أن الأمر لله وحده، وأنه المدبر المتصرف بالأمور.
فليس لنبي ولا لملك ولا لغيرهما مشاركة معه في ملكه وتصرفه، فهو القادر على كل شيء(1/686)
والمدبر لكل شيء.
فلو أن سليمان عليه السلام، استثنى في يمينه بمشيئة الله تعالى، لأدرك حاجته، ونال مطلوبه. ولكن الله قدر هذا، ليكون تشريعاً لخلقه، وعِظَة وعبرة للناس أجمعين.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الاستثناء في اليمين، وهو قول الحالف (إن شاء الله) نافع ومفيد جداً لتحقيق المطلوب، ونَيْلِ المرغوب، فاٍن مشيئة الله تعالى نافذة على كل شيء، وبركة ويمن.
2- أن المستثنى لا يحنث في يمينه، إذا علقه على مشيئة الله تعالى.
3- في هذا الحديث، عبرة وعظة وقعت لنبي من أنبياء الله تعالى، صمم في أمره بلا مشيئة الله، فلم يشفع له قربه من الله جلا وعلا أن يحقق طلبه إلا أن يذكره فلا ينساه، فكيف بمن هو دون الأنبياء رتبة ومنزلة؟! فسبحانك من مرب حكيم.
4- أن عادات أنبياء الله وأوليائه، تكون بسبب نيا تهم الصالحة عبادات.
فهم يجامعون- مثلا- ليحصنوا فروجهم وأعينهم عن الحرام، وليحصنوا زوجاتهم أو ليرزقوا أولاداً صالحين، أو ليحصل كل هذا. فتكون العادة عبادة بسبب هذه النية الصالحة، والمقاصد السامية.
أما الغافلون فعباداتهم كعاداتهم. فهم يأتون المساجد للصلاة، جَرْياً على العادة المتبعة عند المسلمين، وليس لذكر الله في قلوبهم مقام. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
5- يُجْرِى الله تعالى ويُقدر مثل هذه الأمور على الكَمَلَةِ من عباده لِيرىَ الناس أن الأمر له وحده، وأنه المتفرد بالتدبير والتصريف، وأن ليس له مشارك في حكمه وأمره.
6- قال ابن دقيق العيد: وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء بناء على الظن، فإن هذا الإخبار من سليمان لم يكن عن وحي، وإلا لوجب أن يقع ما أخبر به.
الحديث الخامس
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينِ صَبْرٍ، يَقتَطِعُ بها مال امرئٍ مسلم، هُوَ فِيها فاجر، لقي الله وٍهُوَ عَلَيْهِ غضبانُ " و َنَزَلَت {إنَّ الَذِيَنَ يَشتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمنا قلِيلا} إلى آخر الآية.(1/687)
الغريب:
يمين صبر: بإضافة يمين إلى صبر، و (صَبْر) هو بفتح الصاد وسكون الباء الموحدة،
والصبر: الحبس. وصفت اليمين بالصبر تجوُّزاً، لأنَّ الحبس وقع على الحالف المصبور عليها، الملزَم بها.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث وعيد شديد لمن اقتطع مال امرئ بغير حق.
وإنما اقتطعه وأخذه بخصومته الفاجرة، ويمينه الكاذبة الآثمة.
فهذا يلقي الله وهو عليه غضبان، ومن غضب اللَه عليه فهو هالك.
ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، مصداقاً لهذا الوعيد الأكيد الشديد من القرآن الكريم.
وبيانها: أن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله عليهم وبأيمانِهم الكاذبة الآثمة، أعراض الحياة الدنيا، ليس لهم نصيب من الآخرة، وليس لهم من لطف الله ورحمته في ذلك اليوم العظيم، حظ ولا نصيب، ولا يطهرهم من ذنوبهم وأدر انهم، ولا يذكرهم في الملأ الأعلى بما يَسُرهم، ومع هذا، فلهم عذاب أليم لما في عملهم من مخادعة اللًه ورسوله وإيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة، وأكلهم أموال الناس بالباطل، والتضليل في الخصومات والدعاوى.
وهذه صفات اليهود، الذين يتهالكون على المادة بكل طريق ولو بالسفالة والمهانة والنذالة.
فمن أحب أن يتصف بصفاتهم، ويتلطخ بأخلاقهم، ويسلك مسلكهم، ليحشر معهم، فَلْيَعْمَلْ عملهم، فليس عند الله محاباة.
فالناس مراتبهم عنده بأعمالهم. نسأل الله تعالى سلوك الطريق السَّوِيِّ إلى مرضاته.
ما يستفاد هن الحديث:
1-تحريم أخذ أموال الناس بالدعاوى الفاجرة والأيمان الكاذبة، وهو من كبائر الذنوب، لأن ما ترتب عليه غضب الحليم- جل وعلا- كبيرة.
2- التقييد (بالمسلم) من باب التعبير بالغالب، وإلا فمثله الذّميُّ والمعاهد.
3- شرط العقاب على مرتكب هذه اليمين، ما لم يتب ويتحلل من الإثم.
فإن تاب، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهو إجماع العلماء.
4- قوله: - (هو فيها فاجر) ليخرج الناسي والجاهل، فإن الإثم والجزاء لا يستحقهما إلا العامد.
5- إثبات صفة الغضب لله تعالى على وجه يليق بجلاله تعالى {ليْس كَمِثلِهِ شيء وَهُوَ السَمِيعُ البصير} .(1/688)
6- تفسير هذه الآية الكريمة بهذه القضية، وهو تفسير مرفوع، فيكون الحديث مبينا لمعناها، موضحاً للمراد منها.
7- ملخص معنى الآية الكريمة: أن من استبدل بأيمانه- بالله ورسوله ونكث بما أخذ عليه من الإيمان الوثيقة- الحياة الدنيا وأعراضها، فقد خاب
وخسرت صفقته. لأن عوضه ولو كان الدنيا كلها، هو قليل فجزاء هذا الحرمان من الآخرة والهجران من كلام اللطف والعطف ونظر الرحمة والحنان من الكريم الحنان وسيبقى في آثامه وأرجاسه فلن يطهر. ومع هذا فلن يترك. فإن له عذاباً أليماً أعاذنا الله من ذلك ووالدينا وأقاربنا ومشايخنا
وٍ إخواننا المسلمين. آمين.
الحديث السادس
عَنِ الأشْعَثِ بْن قَيْس قَالَ: كَانَ بيني وَبَيْنَ رَجُل خُصُومَةٌ في بِئر، فاخْتَصَمْنَا إلى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ ".
قُلْتُ: إذن يَحْلِفَ ولا يُبَالي.
فَقاَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يِمِيِنِ صبْرٍ يقتطع بِهَا مَالَ امْرِئ مسلم هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
ما يستفاد من الحديث:
المعنى المقصود في هذا الحديث، تقدم شرحه في الحديث السابق، ويبقى استخراج الفوائد والأحكام، ونجملها هنا:
1- أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، هي القاعدة الإسلامية في الخصومات، وهي من فصل الخطاب المشار إليه في قوله تعالى {وآتيناه الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
2- ثبوت الحق بالشاهدين. فإن لم توجد البينة عند المدعِي، فعلى المدعى عليه باليمين.
3- تحريم اليمين (الغموس) وهي الكاذبة، التي تقتطع بها حق غيره، وأنها من الكبائر، التي تعرض صاحبها لغضب الله وعقابه.
4- أن حكم الحاكم يرفع الخلاف الظاهر فقط، أما الباطن، فلا يزال باقياً فعلى هذا لا يحل المحكوم به، ما لم يكن مباحا للمحكوم له.(1/689)
5- أن يمين الفاجر تُسقطُ عنه الدعوى وأن فجوره في دينه، لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك، لم يكن لليمين معنى.
6- البداءة بسماع الحاكم من المدعى، ثم من المدعى عليه: هل يقر أو ينكر؟ ثم طلب لمبينة من المدعى إن أنكر المدعى عليه، ثم توجيه اليمين على المدعى عليه إن لم يجد بينة.
7- فيه موعظة الحاكم للخصوم، خصوصاً عند إرادة الحلف.
8- تغليظ حقوق المسلمين، في قليل الحق وكثيره.
9- أن اليمين الغموس ونقض العهد، لا كفارة فيهما لأنهما أعظم وأخطر من أن تحلهما الكفارة.
فلا بد من التوبة النصوح والتخلص من حقوق العباد.
الحديث السابع
عَنْ ثَابِتِ بن الضَّحَّاكِ الأنصَارِي ِّ: أنهُ بايَعَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَاًنَّ رَسُولَ الله قالَ: "مَنْ حَلف عَلَى يِمِين بمِلَّةٍ غَيْرِ الإسلام، كَاذِباً، مُتَعمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمن قَتَلَ نفسَه بشيء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَليسَ عَلَى رجل نذر فِيمَا لا يملُك".
وفِى رواية " وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ ".
وفي رواية " مَن ادَّعَى دَعْوَى كَذِبةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ الله إلا قِلَّةً".
المعنى الإجمالي:
روى ثابت بن الضحاك الأنصاري- أحد المبايعين تحت الشجرة (بيعة الرضوان) يوم " الحديبيِة "، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما معناه: من حلف على يمين بغير شريعة الإسلام: كأن يقول: هو يهودي (1) أو نصرانيّ، أو هو مجوسي، أو هو كافر أو برئ من الله ورسوله متعمداً كاذباً في يمينه، فهو كما نسب نفسه إليه من إحدى هذه الملل الكافرة.
ومن قتل نفسه بشيء، كسيف، أو سكين، أو رصاص، أو غير ذلك من آلات القتل، عُذب به يوم القيامة.
وذلك لأن نفسه ليست ملكا له، وإنما هي ملك للَه تعالى، وهو المتصرف بها، فهي عنده وديعة وأمانة خان فيها بانتحاره.
فالجزاء من جنس العمل، فاستحق العذاب والقصاص، بمثل ما فعل.
ومن لعن مؤمنا،
_________
(1) يريد أنه نسب نفسه إلى تلك الملة في يمينه وذلك بضمير المفرد المتكلم 0.إذا فعل ذلك فهو كما قال، وإن كان كاذبا في يمينه.(1/690)
فكأنما قتله، لاشتراك اللاعن والقاتل، بانتهاك حرم الله تعالى، واكتساب الإثم، واستحقاق العذاب.
ومن تكبر وتكثر بالدعاوى الكاذبة، التي ليست فيه، من مال أو علم، أو نسب، أو شرف، أو منصب، مريداً بذلك التطاول، لم يزده الله إلا ذلَّةً وحقارة، لأنه أراد رفع نفسه بما ليس فيه، فجزاؤه من جنس مقصده.
وأعظمها أن يقصْد بدعاويه الحيلة لأكل أموال الناس بالباطل، أو تضليلهم ومخادعتهم.
ومن نذر شيئاً لم يملكه- كأن ينذر عتق عبد فلان، أو التصدق بشيء من مال فلان، فإن نذره لاغ لم ينعقد، لأنه لم يقع موقعه، ولم يحل محله.
ما يستفاد من الحديث:
1- تغليظ التحريم على من حلف بشريعة غير الإسلام.
وقد اختلف العلماء. هل لها كفارة أم لا؟.
فالمشهور من مذهبنا أن فيها الكفارة، وهو مذهب الحنفية وغيرهم. ومذهب مالك، والشافعي: ليس فيها كفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها (ابن قدامه) و (ابن دقيق العيد) وغيرهما، وهي أصح.
2- تحريم قتل الإنسان نفسه، فإن إثمه كإثم القاتل لغيره، ويعذًب بما قتل به نفسه، فإن الجزاء من جنس العمل.
3- وأن لعن الإنسان كقتله في المشاركة في الإثم، وإن لم يستويا في قدره.
4- تحريم ادعاء الإنسان ما ليس فيه، من علم، أو نسب، أو شجاعة، أو غير ذلك. خصوصاً لمن غَر بها الناس، أو يدعي معرفته لعمل، ليتولى وظيفته. كل هذا حرام.
ومن فعله رياء وتكبرا، لم يزده الله تعالى إلا ذِلة، فالجزاء من جنس القصد الدنيء.
5- أن النذر لا ينعقد فيما لا يملكه الناذر، فإن النذر طاعة وقربة. ولا يتقرب فيما لا يتصرف فيه، وإذا نذر، فليس عليه في نذره شيء.
6- ظاهر قوله في الحديث: (فهو كما قال) أن الحالف بغير ملة الإسلام يخرج من الإسلام، وأن قوله (لعن المؤمن كقتله) أن إثم اللاعن والقاتل سواء. وتقدم الكلام على مثل هذه النصوص.
ولشيخ الإسلام " ابن تيميه " في مثل هذه الأحاديث مسلك، وهو: أنه لابد في وقوع الوعيد من وجود أسبابه وانتفاء موانعه.
فإذا رتب الوعيد على فعل شيء، كان فعله سبباً من أسباب الوعيد الموجب لحصوله.
فإن انتفت الموانع من ذلك وقع، وإن عارض السبب مانع اندفع موجب السبب بحسب قوة المانع وضعفه، وهذه قاعدة نافعة.(1/691)
بَابُ النَّذر
النذر لغة: الإيجاب.
وشرعا: إلزام المكلف نفسه عبادة لم تكن لازمة بأصل الشرع.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يُوفُونَ بالنَّذرِ} {وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ} .
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ الله فيطعه وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصىَ الله فَلاَ يَعْصِهِ" رواه البخاري.
وقد أجمع المسلمون على صحته في الجملة.
وقرن العلماء بين اليمين والنذر، لأنهما متقاربان في الأحكام، فكل منهما يقصد به التأكيد.
لكن موجب اليمين البِر بيمينه أو الكفارة.
وأما موجب النذر، فهو الوفاء بما نذره، ما لم يقصد بالنَذر الحثَّ أو المنع، فيكون حكمه ومجراه مجرى اليمين، تحله كفارة اليمين.
وأما الفروق التي بينهما، فمجملها ما يأتي:
1- ما تقدم من أن النذر الشرعي لابد من الوفاء به ولا يقوم غيره مقامه.
وأما اليمين فتحله الكفارة.
2- أن النذر يقصد به مجرد التقرب وقد يكون الحاملُ حصولَ مطلوبٍ أو زوال مكروه.
وأما اليمين فيقصد به الحث على فعل شيء، أو المنع منه.
3- أن عقد النذر مكروه، وأما اليمين فمباح، وقد يشرع إذا دعت إليه الأسباب.
4- أن النذر يجب الوفاء به، وأما اليمين ففيه تفصيل يرجع إلى ما يترتب عليه.
فقد يكون التحلل منه مباحا، أو مكروها، أو مستحبا، أو واجباً، أومحرماً، حسب المصالح أو المفاسد المترتبة عليه.
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عَنْهُ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إني كُنْتُ نَذرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً.
وفي رواية: يَوْماً- في الْمَسْجِدِ الْحَرَام؟
قالَ: " فَأوْفِ بِنَذْرِكَ ".
ما يستفاد من الحديث:
تّقدم شرح هذا الحديث في (باب الاعتكاف) .(1/692)
ونجمل- هنا- ما فيه من الأحكام بما يأتي: -
1- أن الاعتكاف عبادة لله تعالى، ولذا وجبت بالنذر.
2- أنه لا يشترط في الاعتكاف الصيام، إذ أمره أن يوفي بنذره اعتكاف ليلة، والليل ليس محلا للصوم، الجمع بينهما أكمل.
3- وجوب الوفاء بالنذر المطلق، وهو نذر الطاعة الذي لم يعلَّق على شيء. بل قصد به مجرد التبرر.
4- أن النذر من الكافر صحيح منعقد، يجب عليه الوفاء به.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ عمر رضي الله عَنْهُما عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهَى عَنِ النَذْرِ وَقَالَ: " إنَ النَذْرَ لا يأتي بِخَيْر، وإنما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ".
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وعلل نهيه بأنه لا يأتي بخير، وذلك لما يترتب عليه من إيجاب الإنسان على نفسه شيئاً، هو في سعة منه، فيخشى أن يقصر
في أدائه، فيتعرض للإثم، ولما فيه من إرادة المعاوضة مع اللَه تعالى في التزام العبادة معلقة على حصول المطلوب، أو زوال المكروه.
وربما ظن- والعياذ بالله- أن الله تعالى أجاب طلبه، ليقوم بعبادته.
لهذه المحاذير وغيرها، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، إيثاراً للسلامة، وطمعاً في جود الله تعالى بلا دالَّةٍ ولا مشارطة، وإنما بالرجاء والدعاء.
وليس بالنذر فائدة، إلا أنه يستخرج به من البخيل، الذي لا يقوم إلا بما وجب عليه فعله وتحتم عليه أداؤه، فيأتي به مكرها، متثاقلا، فارغاً من أساس العمل، وهي النية الصالحة، والرغبة فيما عند الله تعالى.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن النذر، وأصل النهْى للتحريم، والذي صرفه عن التحريم، مدح الموفين به.
2- العلة في النهي (أنه لا يأتي بخير) لأنه لا يَرُد من قضاء الله شيئاً، ولئلا يظن الناذر أنه عوض حصول مطالبة.
والله تعالى غنيُّ عن الأعواض، وعن الخلق أجمعِن، فهم الفقراء، وطاعتهم لا تزيد في ملكه شيئا.
3- والله تبارك وتعالى قدًر الواجبات على العباد، بقدر طاقَتهم، وجعل لزائد نوافل، لأنها(1/693)
خارجة عما يحتملونه من العبادات.
والناذر خافت هذه الحكمة والتقدير، ولعله يعجز عن القيام بما نذر، فيكون آثماً مسَبباً في الإثم.
4- فائدة النذر، أنه يستخرج به من البخيل، الذي غايته القيام بالواجب ويثقل عليه ما عداه.
فالنذر وسيلة لقيامه بما لم يجب عليه بأصل الشرع.
5- هذا الباب من غرائب العلم.
فالأصل أن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا النذر، فالوفاء به واجب، وعقده مكروه، فيكون مخالفاً لغيره. والحكمة ظاهرة كما تقدم.
6- يكره النذر إذا كان طاعة لله تعالى.
فأما النذر الذي يقدم للموتى والقبور، ويوفي به عند الأضرحة والقباب، أو يرضى به ويستخدم الشياطين، فهذا هو الشرك الذي كان يفعله المشركون لأصنامهم، ويقربونه لأوثانهم. وحكمه معروف. نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
7- ذكر الصنعاني أن هذا باب واسع، من تتبعه عرف أن العبد إذا أولج نفسه فيما لم يوجبه الله عليه كان معرضا لعدم الوفاء بتقصيره وتثبيط الشيطان له، وأنه لا يفي به إلا القليل، وهم المشار إليهم بقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} .
الحديث الثالث
عَنْ عقبة بْنِ عامر قَالَ: " نَذَرَتْ أخْتِي أنْ تَمْشىَ إلى بَيْتِ الله الْحَرَام حَافِيَةً (1) فأمرتني أن استفتي لَهَا رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فَقالَ " لتمَشي وَلْتَرْكَبْ ".
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر المَشْيَ إلى المسجد الحرام، أو أحد المسجدين ماشياً، لا يجب عليه الوفاء به، لأن هذا ليس نذر عبادة مقصودة، وإنما هو نذر مباح، ونذر المباح، إن لم يَفِ به فعليه الكفارة.
2- أنه إذا اشتمل النذر في أمر مباح وعبادة، فلكل حكمه، فيؤمر بالعبادة، لأنها التي يجب الوفاء بها، إذ قد اشتمل أداؤها على المصلحة.
_________
(1) لفظ (حافية) ليس في (البخاري) كما نبه عليه (عبد الحق) في (الجمع بين الصحيحين) .(1/694)
3- ومنها: - أنه لا يتعبد بما إلا شرعه الله تعالى من الطاعات.
فالأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع إلا ما شرعه الله ورسوله. ومن زاد في الشرع، فقد أراد الاستدراك على الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
4- في الحديث بيان لبعض العلل في كراهية الشارع للنذر، وهو العجز عن القيام بالمنذور.
فالظاهر أن هذه المرأة لما نذرت المشي، علمت من نفسها عدم القدرة، فاضطرت إلى الخروج من هذا المأزق.
الحديث الرابع
عَنْ عَبدِ اللَه بن عباس رَضي اللَه عَنهمَا: أنَّهُ قالَ: "اسْتَفْتى سَعْدُ ابْنُ عبادَةَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في نَذْر كان عَلَى أمه، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقضِيَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَه صلى الله عليه وسلم: " فاقضه عَنْهَا ".
ما يستفاد من الحديث:
1- أن النذر عبادة، يجب الوفاء بها، وأداؤها.
2- أن من مات وعليه ننر، قضاه عنه وارثه.
3- لم يذكر في هذا الحديث نوع النذر: هل هو بدنيٌ أو مالٌي؟.
فأما المالي- ومنه الحج- فتدخله النيابة عند جمهور العلماء.
وقد تقدم أن الصحيح في الصيام أن النيابة تدخل البدني أيضاً، لحديث عائشة في الصحيحين مرفوعا: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
ونذر أم سعد قيل، كان صوما. وقيل: عتقا، وقيل: صدقة، وقيل: نذراً مطلقاً. وكل من هذه الأقوال استدل أصحابها عليها بأحاديث.
وحديث الصوم والعتق، قد تكلم فيهما العلماء.
وأما حديث الصدقة، فليس صريحاً أنها نذرت ذلك.
وقال القاضي عياض: (والذي يظهر، أنه كان نذرها في المال أو مبهما) .
وقال ابن حجر: (بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عن سعد) .
4- وفي الحديث بر الوالدين بعد وفاتهما.
وأعظم برهما وفاء ما عليهما من الديون أو الحقوق والواجبات، سواء كانت لله تعالى أو للآدميين.(1/695)
الحديث الخامس
عَنْ كَعْبِ بْن مَالِكٍ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إنَّ مِنْ تَوبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالي صَدَقَةً إلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أمْسِكْ عَلَيكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَير لَكَ"
المعنى الإجمالي:
كان كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن " غزوة تبوك " بلا نفاق ولا عذر.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة، هجرهم، وأمر أصحابه بهجرهم.
ومازالوا مهجورين، حتى نزلت توبتهم ورضي الله عنهم، فرضي الرسول والصحابة.
فكان من شدة فرح كعب برضا الله عنه وقبول توبته، أن أراد أن ينخلع من كل ماله، ويخرج منه صدقة لوجه الله تعالى، فيكون إنفاقه فيما يرضى الله ورسوله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك، فالله تعالى لما علم صدق نيتك وحسن توبتك، غفر لك ذنبك، وتجاوز عنك.
ولو لم تفعل هذا، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وقد أنفق بعض ماله، فرحا برضا الله تعالى، وليجد ثوابه مُدَّخراً عنده وأبقى بعضه، ليقوم بمصالحه ونفقاته الواجبة من مؤونة نفسه، ومؤونة من يعول. والله رؤوف بعباده.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر الصدقة بماله كله، أبقى منه ما يكفيه ويكفي من يعول، وأخرج الباقي.
والمذهب عند الحنابلة، يخرج الثلث، ويمسك الباقي.
واستدلوا بأبي لبابة حين انخلع من ماله كله، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمك الثلث. رواه أحمد.
والقول الأول: أولى وأقرب إلى مفهوم الشارع في قصة كعب.
ولأنه لما نذر كل ماله، صار الذي بقدر نفقاته الواجبة، كالمستثنى شرعا، فلا يجوز التصرف فيه، كما لو نذر صيام سنة، فلن يدخل في نذره ما يجب فطره كالعيدين.
2- أن الأولى والأحسن، أن لا ينهك الإنسان ماله بالصدقات، لأن عليه نفقات واجبة، والني صلى الله عليه وسلم يقول " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
3- أن النفقة على النفس والزوجة والقريب، عبادة جليلة، وصدقة عظيمة مع النية الحسنة.
فالأحسن أن يتصدق بنية التقرب، وأن لا تطغى نية قضاء الشهرة والشفقة المجردة والمحبة، على نية العمل.
4- أن الصدقة سبب في مَحْوِ الذنوب، لما فيها من رضا الرب تبارك وتعالى والإحسان إلى الفقراء والمساكين، واستجلاب دعائهم.(1/696)
كِتَابُ القَضَاء
القضاء بالمد لغة: إحكام الأمر والفراغ منه. قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سبْعَ سَموَات فى يَوْمَيْن} يعنى أحكمهن وفرغ منهن.
وفى الشرع: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات.
وا لأصل في القضاء ومشروعيته، الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب: فمثل قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ الناس بِالْحَق ولا تَتَّبع الْهَوَى} وقوله: {وأنِ احكم بَيْنَهُمْ بما أنزل الله} وغيرهما.
وأما السنة، فكثيرة، ومنها: - ما جاء في الصحيحين عن عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فاخطأ فله أجر".
وأجمع المسلمون على مشروعيته.
ويقتضيه القياس، فلا تستقيم ًالأحوال إلا به، وهو فرض كفاية.
قال في (المعنى) : [وفيه فضل عظيم لِمن قَوِىَ على القيام به، وأداء الحق فيه، ولذلك جعل الله فيه أجراً مع الخطأ، وأسقط عنه حكم الخطأ، ولأن فيه أمرا بالمعروف، ونصرة للمظلوم، وأداء الحق إلى مستحقه وردعاً للظالم عن ظلمه، وإصلاحا بين الناس، وتخليصا لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القرب.
ولذلك تولاه النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله، فكانوا يحكمون لأممهم.
وبعث صلى الله عليه وسلم عَلِيا إلى اليمن قاضيا، وبعث مُعَاذاً قاضيا.
وقد روى عن ابن مسعود أنه قال: لأنْ أجلس قاضيا بين اثنين، أحب. إلى من عبادة سبعين سنة.(1/697)
وفيه خطر عظيم ووزر كبير، لمن لم يؤدِّ الحق فيه. ولذلك كان السلف رحمة الله عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره] .
أما حكمته التشريعية: فيكفيك منها ما ذكره (صاحب المغنى) .
ولا يمكن حصر ما فيه من حِكَمٍ وأسرار.
وقال الإمام أحمد: [لابد للناس من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟] .
ولولا القضاء وفصل الخصومات، ورد المظالم، وتبيين الحق، لصارت الحياة فوضى. فيكفى أنه ضرورة من ضرورات الحياة:
الحديث الأول
عَنْ عائشَةَ رضي الله عَنْها قَالَت: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ أحدَثَ فِي أمْرِنَا هذا ما ليسَ مِنْهُ فهُوَ رَدٌّ".
وفي لفظ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيسَ عليه أمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ ".
المعنى الإجمالي:
هذا حديث جليل، وأصل عظيم في الشريعة، وقاعدة من قواعد الإسلام العظمى.
فقد أبان أن كل أمر ليس من شرع اللَه تعالى، وكل عمل لا يقوم على أمر الله، فهو مردود باطل، لا يعتد به ولا بما يترتب عليه، فهذا من جوامع كلمِهِ صلى الله عليه وسلم، جعله مقياساً لجميع الأمور والأعمال
فما كان منها على مراد اللَه وشرعه، فهي المقبولة. وما كان على غيرِ أمره ولا شرعه، فهي المردودة.
ما يستفاد من الحديث:
1- قال النووي: " وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، ومن جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
2-وقال أيضاً: فإنه (أي: الحديث) صريح في رد كل البدع والمخترعات (1) .
3- وقال أيضاً: " وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليين إن النهي يقتضي الفساد ".
4- وقال أيضا: "وهذا الحديث ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به ".
_________
(1) يقصد بذلك، البدع المخالفة للدين والأخلاق الفاضلة، وليس منه العادات والعلوم والفنون المباحة النافعة-اهـ -شارح.(1/698)
5- وفيه دليل على أن الأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع منها ولا يزاد فيها إلا ما شرعه الله ورسوله.
6- قال النووي أيضاً: (فيه دليل على أن المأخوذ بالعقد الفاسد يجب رده على صاحبه ولا يملك) .
ويدل عليه أيضا حديث (وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة) .
فقال عليه الصلاة والسلام: " الوليدة والغنم رَدُّ عليك ".
7- قال النووي أيضا: " وفيه دليل على من ابتدع في الدين بدعة لا توافق الشرع فإثمها عليه، وعمله مردود عليه، وأنه يستحق الوعيد ".
8- قال شيخنا "عبد الرحمن بن سعدي": [ووجه مناسبة هذا الحديث لهذا الباب: أنه لو تبين أن حكم القاضي مخالف لأمر الرسول فإنه يرد، وأن القضاء يترتب على أحكام الشرع، فلا يلتفت إلى ما يحدثه القضاة] .
9- قال الصنعاني: يفيد أن كل عمل ليس عليه أمره صلى الله عليه وسلم مردود، والذي عليه هو كل ما دل عليه الكتاب والسنة، وليس محدثاً مبدعا في الدين، فإنه مردود على فاعله وكل أمر كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم فإنه مقبول. فإن هذا الحديث نصف العلم، بل العلم كله، إذ منطوقه دال على رد كل عمل لم يكن عليه أمره صلى الله عليه وسلم، ومفهومه أفاد أن كل عمل كان عليه أمره صلى الله عليه وسلم مقبول.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:
دعاوى التهم مثل القتل أو قطع الطريق أو السرقة والعدوان على الخلق بالضرب وغيره (تنقسم) إلى ثلاثة أقسام:
1- إن كان المتهم برا لم تجز عقوبته بالاتفاق.
2- أن يكون مجهول الحال لا يعرف ببر أو فجور، فهذا يحبس حتى تنكشف حاله عند عامة علماء الإسلام والحبس ليس هو السجن، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء في بيت أو بتوكيل نفس الخصم عليه.
3- أن يكون المتهم معروفا بالفجور، فإذا جاز حبس المجهول فحبس المعروف بالفجور أولى، وما علمت أحدا من أئمة المسلمين قال: إن المدعى عليه في جميع هذه الدعاوى يحلف ويرسل بلا حبس ولا غيره. ومن زعم أن هذا على إطلاقه وعمومه هو الشرع فهو غالط غلطاً فاحشاً مخالفاً لنصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم ولإجماع الأمة، وبمثل هذا الغلط(1/699)
الفاحش استجرأ الولاة على مخالفة الشرع واعتدوا حدود الله في ذلك، وتولد من جهل الفريقين بحقيقة الشرع خروج الناس عنه إلى أنواع من البدع السياسية.
الحديث الثاني
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قالت: دَخَلَتْ هِنْدُ بِنْت عتْبَةَ امرأة أبي سُفْيَانَ، عَلى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يا رسول الله، إنَ أبَا سُفيَانَ رجل شَحِيح، لا يعطيني مِنَ النفَقَةِ مَا يكفيني وَيَكْفِى بَنىَّ، إلا ما أخَذْتُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، فَهَلْ عَلَيَّ في ذلكَ مِن جُنَاح؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " خُذِي منْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَكْفِيكِ ويَكْفي بَنِيكِ ".
ما يستفاد من الحديث:
يؤخذ من هذا الحديث فوائد وأحكام، سألخصها من شرح الإمام النووي على صحيح مسلم وأزيد عليها ما تيسر نقله أو فهمه، وبالله التوفيق:
1- وجوب نفقة الزوجة والأولاد الفقراء والصغار.
2- أن النفقة تقدر بكفاية المنفق عليه وحاله.
3- جواز سماع كلام الأجنبية للحاجة. والله المستعان.
4 جواز ذكر الإنسان بما يكره للشكوى والفتيا، إذا لم يقصد الغيبة.
5- فيه [مسألة الظفر] وهى أن من كان له على إنسان حق فمنعه منه وتمكن من أخذه منه بغير علمه فهل له ذلك أو لا؟ المذاهب فيها ثلاثة:
1- المنع مطلقاً.
2- والجواز مطلقاً.
3- والتفصيل: وهو أنه من كان حقه ظاهرا كالنفقة جاز أن يأخذ بقدر حقه وإن كان سبب حقه خفيا، كوديعة، لم يجز له أن يأخذ شيئا لقوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تخن من خانك" وفيه فتح باب للشر، وسد الذرائع مطلوب. وهذا التفصيل هو الصحيح من الأقوال.
6- اختلف العلماء: هل هذا الحكم من الني صلى الله عليه وسلم لهند قضاء أو فتوى؟ فيترتب عليهما ما يأتي؟:(1/700)
إن كان قضاء، ففيه الحكم على الغائب، وإن كانت فتوى فليس فيه دليل.
إن كان قَضاء، ففيه أنه لا يجوز لغير هند أن تستقل بنفقة أولادها إلا بإذن القاضي، وإن كانت فتوى فيجوز الإنفاق لكل امرأة أشبهتها.
والصحيح أنها فتيا من النبي صلى الله عليه وسلم لا قضاء، ومذهبنا أنه قضاء.
7- وفيه اعتماد العرف في الأمور التي ليس فيها تحديد شرعي، فقد جعل لها من النفقة الكفاية، وهذا راجع إلى ما كان متعارفا في نفقة مثلها وأولادها.
الحديث الثالث
عَنْ أم سَلَمةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ فَقَالَ: "ألا إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلكُمْ وَإنَّمَا يَأتيني الْخَصْمُ، فَلَعَلِّ بَعْضَكُم أن يَكُونَ أبْلَغَ مِنْ بَعْض، فَأحْسَبُ أنهُ صَادِقٌ فَأقْضي لَهُ، فمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَق مسلم، فَإنَّمَا هِي قِطْعَةٌ مِنَ النًارِ فَلْيَحْمِلْهَا أوْ يَذرْهَا".
الغريب:
جلبة: بفتح الجيم واللام والباء الموحدة، وهي اختلاط الأصوات.
لِيَذرْهَا: ليتركها، و [أو] ليست للتخيير، بل للتهديد والوعيد.
المعنى الإجمالي:
سمع النبي صلى الله عليه وسلم أصوات خصوم مختلطة، لما بينهم من المنازعة والمشاجرة عند بابه فخرج إليهم ليقضي بينهم فقال:
إنما أنا بشر مثلكم، لا أعلم الغيب، ولا أخبر ببواطن الأمور، لأعلم الصادق منكم من الكاذب، وإنما يأتنيي الخصم لأحكم بينهم، وحكمي مبني على ما أسمعه من حجج الطرفين وبيِّناتهم وأيْمَانِهِم، فلعل بعضكم يكون أبلغ وأفصح وأبينَ من بعض فأحسب أنه صادق مُحِق، فأقضي له.
مع أن الحق- في الباطن- بجانب خصمه، فأعلموا أن حكمي في ظواهر الأمور لا بواطنها، فلن يحل حراما، ولذا فإن من قضيت له بحق غيره وهو يعلم أنه مبطل، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليحملها إِن شاء، أو ليتركها. فعقاب ذلك راجع عليه، والله بالمرصاد للظالمين.
ما يستفاد من الحديث
1- فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب والأمور الباطنة إلا بتعليم الله له، ونبه على ذلك بقوله: [إنما أنا بشر] .
فلا يجوز أن يرفع فوق قدره الرفيع، الذي جعله الله له، صلى الله عليه وسلم.(1/701)
2- أنه يجوز عليه صلى الله عليه وسلم في أمور الأحكام، ما يجوز على غيره. فإنه إنما يحكم بين الناس بالظاهر، والله يتولى السرائر، فهو يحكم بالبينة واليمين ونحو ذلك من أحكام الظاهر، مع إمكان كونه في الباطن خلاف ذلك.
3- إنما كلف بالحكم بالظاهر، مع إمكان إطلاع الله إياه على الباطن، فيحكم بيقين نفسه من غير حجة أو يمين، ليكون قدوة وتشريعا لأمته.
4- فيه تسلية وعزاء للحكام.
فإنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد يظن غير الصواب لقوة حجة الخصم فيحكم له، فإن غيره من باب أولى وأحرى.
5- اتفق الأصوليون على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقَر على خطأ. في الأحكام. فكيف التوفيق بين هذا الإجماع وهذا الحديث؟
قال النووي: والجواب: أنه لا تعارض، لأن مراد الأصوليين فيما حكم فيه باجتهاده.
وأما الذي في الحديث، فمعناه إذا حكم بغير اجتهاد كالبينة، فهذا إذا وقع منه ما يخالف ظاهره باطنه لا يسمى الحكم خطأ، بل الحكم صحيح بناء على ما استقر به التكليف، وهو وجوب العمل بالشاهدين مثلا، فإن كانا شاهدي زور أو نحو ذلك، فالتقصير منهما، بخلاف ما إذا أخطأ في الاجتهاد، فإن هذا الذي حكم به ليس هو حكم الشرع.
6- أن حكم الحاكم لا يحيل ما في الباطن، ولا يحل حراما، وهو مذهب جماهير علماء المسلمين، وفقهاء الأمصار، ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد.
فإذا حكم له الحاكم بالزوجة التي يعلم أنه ليست له زوجة، فلا تحل له، أو بالمال الذي يعلم أنه مبطل في دعواه، فلا يحل له، ونحو ذلك.
7- التقييد ب (المسلم) خرج مخرج الغالب، وإلا فمثله الذمي والمعاهد.
8- قوله: "فليحملها أو ليذرها" فيه تهديد شديد ووعيد أكيد على من أخذ أموال الناس بالدعاوى الكاذبة والحيل المحرمة، فهذا التعبير شبيه بقوله تعالى {اعملوا ما شئتم} .
9- قال شيخ الإسلام: الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول صلى الله عليه وسلم عن خطئهم وخطأ غيرهم كما قال ابن مسعود في المفوضة: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله. ورسوله بريئان منه وكذلك روي عن الصديق في الكلالة، وكذلك عن عمر.(1/702)
الحديث الرابع
عَنْ عَبْد الرَّحْمنِ بن أبي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أبي وَكَتَبْتُ لهُ إلى ابنه عُبْد الله أبى بَكْرَةَ- وَهُوَ قَاض بِسِجِسْتَانَ-: أن لا تَحْكُمْ بَيْنَ اثْنَينِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإني سَمعْتُ رسوُلَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا يحَكُمْ أحد بَيْنَ اثْنَيْن وَهُوَ غَضْبَانُ".
وفي رواية: "لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْن وَهُوَ غَضْبَانُ".
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه أنه يحرم على القاضي أن يحكم بين الخصمين وهو غضبان. قال في [العدة شرح العمدة] : لا نعلم بين أهل العلم خلافا في ذلك.
2- علة النهي أن الغضب يشوش على القاضي فيمنعه من سداد النظر في الدعوى، واستقامة الحال.
3- ألحق العلماء- لهذا المعنى- كل ما يمنع القاضي من حسن النظر في القضية ويشوش فكره من جوع مُقلِق، أو شبع مُفْرِط، أو هم مزعج، أو برد، أو حر شديدين، أو نحو ذلك مما يشغل الخاطر.
4- أنه إذا حكم في بعض هذه الأحوال فأصاب الحق، صح حكمه ونفذ.
5- في الحديث، النصح للمسلمين، لاسيما ولاة الأمر الذين- بصلاحهم واستقامة أحوالهم- يصلح المسلمون.
فنصحهم بالطرق الحسنة من أفضل القرَبِ والطاعات، ومن أرجى الوسائل لإصلاحهم.
الحديث الخامس
عَنْ أبى بَكرْ رَضيَ اَلله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبِّئُكُمْ بأكبرِ الْكبائِرِ"؟ ثَلاثاً: قُلْنَا: بَلَى يا رسول الله.
قَال: " الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوق الْوَالِدَيْنِ " وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ فقال: " ألا وَقَوْلُ الَزُورِ؛ وشهادة الزُّورِ " فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.
المعنى الإجمالي:
يعظ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، مبينا لهم مهلكات الذنوب وموبقات المعاصي بطريق التنبيه، ليستعدوا لتلقي العلم وتتفتح أسماعهم لقبوله فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ يكرر ذلك عليهم ثلاثا، ليشتاقوا إليه فيعلق بأذهانهم(1/703)
قلنا: بلى يا رسول الله. فابتدأ بأعظم الذنوب وأشدها خطرا، وهو الشرك بمن أسبغ عليك أنواع النعَم ودفع عنك أصناف النقَم.
فهل جزاؤه أن يشرك معه في عبادته غيره؟ فمن أشرك فجزاؤه الخلود في النار وبئس القرار.
ثم يُثَنَّى بحق أعظم الناس عليك مِنَةً. وأكبرهم حقاً، وهما الوالدان اللذان جعلهما الله السبب في وجودك في هذه الحياة، وأولياك من البر والعطف واللطف في ضعفك وصغرك، مالا تقدر على مكافأته.
فمن أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب، جحد حقهما، وتناسى فضلهما، ومقابلة هذا الإحسان الكبير بالعقوق والكفران.
يحدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه المواعظ وهو متكئ.
فلما أراد أن يحذرهم من شهادة الزور، اهتم وتحفز، فاعتدل في جلسته لعظم الأمر وجلل الخطب فقال: "ألا وقول الزور، وشهادة، الزور".
فما زال يكررها ويحذر منها حتى اشتد به الأمر وتمنى الصحابة أن يسكت، لما حصل عنده من التأثر والتحمس عند ذكرها، لما في هذه الشهادة [الآثمة] من الأضرار الكثيرة والمفاسد الكبيرة، من تضليل الحكام عن صواب الحكم، ومن قطع حق المحق، ومن إدخال الظلم على المبطل، ومن الكذب عند القضاة وفي مقام الحكم، إلى غير ذلك من المفاسد التي يطول عدها، ولا يمكن حصرها. نسأل الله العافية منها.
ما يستفاد من الحديث:
1- تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر، ويدل له أيضاً قوله تعالى: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّر عَنْكُم سيِّئاتكم} .
2- اختلف العلماء في تمييز الكبيرة من الصغيرة.
وأحسن ما حدت به الكبيرة ما قاله شيخ الإسلام (ابن تيميه) : (إنها مافية حَد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو ختم بلعنة، أو غضب، أو نفي إيمان، أو دخول جنة) فهو الكبيرة.
3- أن أعظم الذنوب الشرك بالله، لأنه جعله صدر الكبائر وقد قال تعالى {إن الله لا يَغْفِرُ أن يشرَكَ به وَيَغْفِرُ مَادونَ ذلِكَ لِمَنْ يشَاء} وهل هنا أشد من جحد نعم الرب تبارك وتعالى، بصرف شيء من عبادته إلى غيره؟!
4- عظم حقوق الوالدين، إذ قرن حقهما بحق الله تعالى.
وقد ذكر الله تعالى حقهما مع حقه في كثير من مواضع القرآن الكريم {أن اشكر لي وَلِوَاِلدَيْكَ} {وَقَضَى ربكَ أن لا تَعْبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} إلى غير ذلك من الآيات.(1/704)
5- خطر شهادة الزور وقول الزور وتحريمه، فقد اهتم بهما النبي صلى الله عليه وسلم باعتدال هيئته، وتكرير التحذير منهما، لما فيهما من المفاسد العظيمة، من قطع حق صاحب الحق، وإدخال الظلم على المشهود له، والكذب، والبهتان، وتضليل القضاة، فيحكموا بما هو خلاف الحق في الباطن، إلى غير ذلك من المفاسد العظمى.
6- اهتم (1) النبي صلى الله عليه وسلم لشهادة الزور، لأن الناس يتساهلون فيها فيجترئون عليها أكثر مما يجترئون على غيرها من المعاصي.
7- نصح النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغه لأمته كل ما ينفعهم، وتحذيره مما يضرهم. فصلوات الله وسلامه عليه.
8- حسن تعليمه صلى الله عليه وسلم حينما ألقى عليهم هذه المسائل المهمة بطريق التنبيه، ليكون أعلق في أذهانهم، وأرسخ في قلوبهم.
9- يراد بعقوق الوالدين، كل ما يكرهان من الأقوال والأفعال. والنهىُ عن عقوقهما، يستلزم برهما، وهو القيام بما يحبانه- غير معصية الله- والبر بهما في الحياة وبعد وفاتهما.
وجاء النَهيُ عن عقوقهما بأقل مراتبه- وهو التأفف- إشارة إلى ما فوقه من أنواع الأذى.
الحديث السادس
عَنْ ابْنِ عباس رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: لو يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رجال وأموالهم وَلكِنَّ الْيَمِين عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ".
المعنى الإجمالي:
يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ادَّعى (2) على أحد، فعليه البينة لإثبات دعواه.
فإن لم يكن لديه بينة، فعلى المدَّعَى عليه اليمين لنفي ما ادُّعِىَ عليه من حق الدعوى، وصارت اليمين في جانبه، لأنها تكون مع الأقوى جانباً.
وقوى جانبه، لأن الأصل براءته مما وُجه إليه من الدعوى.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في- كون البينة على المدعى واليمين على من أنكر، وهى أنه لو أعطي كل من ادعى دعوى ما ادعاه، لادَّعى من لا يراقب الله ولا يخشى عقابه- وما أكثرهم-
_________
(1) اهتم: حزن.
(2) استكملنا معنى هذا الحديث عن رواية البيهقي بإسناد صحيح "البينة على المدعى واليمين على من أنكر" لتتم الفائدة - اهـ- شارح.(1/705)
على الأبرياء، دماء وأموالا يبهتونهم فيها.
ولكن الحكيم العليم جعل حدودا وأحكاماً لتخف وطأة الشر، ويقل الظلم وا لفساد.
ما يستفاد من الحديث:
1-قال ابن دقيق العيد: (الحديث دليل على أنه لا يجوز الحكم إلا بالقانون الشرعي، الذي رتب، وإن غلب على الظن صدق المدعى.
2- أن اليمين على المدعى عليه. وفي رواية البيهقى: أن البينة على المدَّعى.
3- كون اليمين في جانب المدعى عليه لأنه أقوى، لأن الأصل براءة ذمته، فاكتفى منه باليمين.
4- الحكمة في عدم قبول دعوى المدعى إِلا بالبينة والاكتفاء من المدعى عليه باليمين ما نبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لو يعطى الناس بدعواهم لادًعَى رجال دماء رجال وأموالهم ".
5- بهذا تعلم أن هذا الحديث قاعدة عظمى من قواعد القضاء، فعليها يدور غالب الأحكام.
6- البينة: اسم لكل ما أبان الحق وأظهره، من الشهود وقرائن الحال، ووصف المدَعَى في نحو اللقطة.
قال ابن رجب: (كل عين لم يدً عِهَا صاحب اليد، فمن جاء فوصفها بأوصافها الخفية فهي له) . وفي هذه البيِّنات حيازة اليد.
فإن نازعه أحد ما في يده، فهي لصاحب اليد بيمينه، ما لم يأت المدعِى ببينة أقَوى من اليد.(1/706)
كِتَابُ الأطعمة
الأصل في الطعام والشراب واللباس، الحل.
فلا يحرم منها إلا ما حرمه الله ورسوله لأنها داخلة في عموم العادات المبنية على الحل، والمحرم منها معدود مما يدل على بقاء المتروك على أصله وهو العفو.
الحديث الأول
عَنِ النُعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُول- وَأشارَ (وفي رواية- وأهوى) النُّعْمَانُ بإصبعيه إلَى أذنيه: - "إنَّ الْحَلالَ بيِّن، وإنَّ الْحَرَامَ بَيِّن. وبينهما أمور مُشْتَبهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ الناس".
فَمَنِ اتَقى الشبهات استبرأ لِدِينهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشبهَاتِ وَقَعَ في الْحَرام، كَالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ.
ألا وَإنً لِكلٌ مَلِكٍ حِمىً، ألا وإن حِمَى الله مَحَارِمُهِ.
ألا وَإنَّ في الجسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُه ألا وَهِي القلب".
الغريب:
مُشْتبهات: بضم الميم وسكون الشين.
استبرأ: بكسر الهمزة- من البراءة، أي حصل له البراءة من الذم الشرعي، وصان عرضه عن ذم الناس.
الحمى: بكسر الحاء وفتح الميم المخففة مقصور، أطلق المصدر على اسم المفعول.
يوشك: بضم الياء وكسر الشين، بمعنى: يسرع ويقرب.
يرتع: رتعت الماشية، أكلت وشربت ما شاءت في خصب وسعة. توسع به، فأطلق على المتدرج من المشتبه إلى المحرم.
مضغة: بضم الميم وسكون الضاد المعجمة، بعدها غين معجمة، بعدها تاء، هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الماضغ، والمضغ: العلك.
المعنى الإجمالي:
سمع النعمان بن بشي رضي الله عنهما النبي صلى الله عليه وسلم يقول وأكد سماعه منه بإشارته إلى أذنيه: إن(1/707)
الحلال بين حكمه، واضح أمه، لا يخفى حِلهُ، وذلك كالخبز، والفواكه، والعسل، واللبن، وغير ذلك من المأكولات، والمشروبات، والملابس، وغير ذلك من الكلام، والمعاملات، والتصرفات.
وأن الحرام بين حكمه، واضح تحريمه، من أكل الخنزير، وشرب الخمر، ولبس الحرير والذهب للرجل، والزنا، والغيبة، والنميمة، والحقد، والحسد وغر ذلك.
فهذان القسمان بينا الحكم، لما ورد فيهما من النصوص الواضحة القاطعة، وإن هناك قسما ثالثا مشتبه الحكم، غير واضح الحل أو الحرمة، وهذا الاشتباه راجع إِلى أمور.
منها: تعارض الأدلة، بحيث لا يظهر الجمع لا الترجيح بينها، فهذا مشتبه في حق المجتهد الذي يطلب الأحكام من أدلتها.
فمن انبهم عليه الحكم الراجح، فهو في حقه مشتبه، فالورع اتقاء الشبهة ومنها تعارض أقوال العلماء وتضاربها، وهذا في حق المقلد الذي لا ينظر في الأدلة.
فالورع في حق هذا، اتقاء المشتبه.
ومنها: ما جاء في النهى عنها حديث ضعيف، يوقع الشك في مدلوله.
ومنها: المكروهات جميعها، فهي رقية (أي: سُلَّم يوصل) إلى فعل المحرمات والإقدام عليها.
فإن النفس إذا عصمت عن المكروه، هابت الإقدام عليه ورأته معصية فيكون حاجزا منيعا عن المحرمات.
ومنها: المباح الذي يخشى أن يكون ذريعة إلى المحرم، أو يجر- في بعض الأحول- إلى المحرم، ومثله الإفراط في المباحات فتسبب مجاوزته إلى الحرام، إما عند فقده، أو للإفراط فيما هو فيه.
وقد كان السلف رضي الله عنهم، يتركون المباحات اليسيرة، خوفاً من المكروه والحرام.
ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلا للمحرمات، بالحمى الذي يتخذه الخلفاء والملوك مرعى لدوابهم.
ومثَّل المُلمَّ بالمشتبهات، بالراعي الذي يسيم ماشيته حول الحمى، فيوشك ويقرب أن ترعى ماشيته فيه، لقربه منه، كذلك الملم في المشتبهات، يوشك أن يقع في المحرمات، وهو تصوير بديع، ومثال قريب.
ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أن في الجسد لحمة صغيرة لطيفة، بقدر ما يمضغ، وأن هذه القطعة من اللحم، هي القلب، وأن هذا القلب، هو السلطان المدبر لمملكة الأعضاء وما تأتي من أعمال، كما أن عليه مدار فسادها وما تجره من شر.
فإن صلح هذا القلب، فإنه لن يأمر إلا بما فيه الخير وسيصلح الجسد كله.
وإن فسد، فسيأمر بالفساد والشر، وتكون الأعمال معكوسة منكوسة والله ولى التوفيق.
وبالجملة، فهذا حديث عظيم جليل، وقاعدة من قواعد الإسلام، وأصل من أصول الشريعة، عليه لوائح أنوار النبوة ساطعة، ومشكاة الرسالة مضيئة، فهو من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.(1/708)
ويحتاج استيفاء الكلام عليه إلى مصنف مستقل طويل.
وهذه نبذة تفتح الباب أمام طالب العلم، ليراجع ويتدبر، ويفكر، وسيجد فيه من كنوز المعرفة، الخير الوفير.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
فوائد:
قال القحطاني: كل ما شككت فيه فالورع اجتنابه، والذي شككت فيه هو محل الريبة، فإن الريبة الشك والتردد، وحديث "دع ما يريبك" أفاد أنك إذا شككت في شيء فدعه، واترك ما تشك فيه.
قال الغزالي: الورع أقسام: ورع الصديقين: وهو ترك ما يتناول لغير نية القوة على العبادة. وورع المتقين: وهو ترك مالا شبهة فيه، ولكن يخشى أن يجر إلى الحرام. وورع الصالحين: وهو ترك مالا يتطرق إليه احتمال التحريم بشرط أن يكون لذلك الاحتمال موقع فإن لم يكن له موقع فهو ورع الموسوسين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه: الفرق بين الزهد والورع أن الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخاف ضرره في الآخرة. قال ابن القيم: إن هذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها. وقال أيضاً: التحقيق أنها (أي النعم) وإن شغلته عن الله تعالى فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكراً فيها فحاله أفضل، والزهد فيهِا تجريد القلب عن التعلق بها والطمأنينة إليها.
قال الصنعاني: واعلم أنه يجمع الورع كله قوله صلى الله عليه وسلم " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه والحديث يعم الترك لما لا يعنى من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي وسائر الحركات الباطنة والظاهرة فهذه الحكمة النبوية شافية، في الورع كافية.
الحديث الثاني
عَنْ انس بن مَالِكٍ رضيَ الله عَنْة قَالَ: أنفَجْنَا أرنباً بمر الظَّهران فَسَعَى القَوْمُ فَلغَبُوا، وَأدركتُهَا فَأخَذْتُهَا، فَأتَيْتُ بِهَا أَبَا طَلْحَةَ، فَذَبَحَهَا وَبَعَثَ إلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِوَرِكِهَا أو فَخِذِهَا فَقَبِلَهُ.(1/709)
الغريب:
أنفجنا أرنباً: بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الفاء، وسكون الجيم، أي أثرناها.
بمر الظهران: بفتح الميم والظاء المعجمة، موضع شمال مكة، على طريق المدينة حين كان السفر على الدواب، ويبعد عن مكة بنحو 2 كيلو، ويسمى الآن [وادي فاطمة] .
فلغبوا: قال الزركشي: بفتح الغين المعجمة، وفي لغة ضعيفة كسرها، حكاه ابن سيده، والجوهري، ومعناه: أعيوا، والمصدر: اللغوب، بضم اللام.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه حل الأرنب، وأنها من الطيبات، وعلى حلها أجمعت الأمة.
2- قبول النبي صلى الله عليه وسلم للهدية، قليلة كانت أو كثيرة.
3- أن التهادي من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، لما فيه من التوادد والتواصل. فينبغي أن يشيع هذا بين المؤمنين، خصوصا الأقارب والجيران.
الحديث الثالث
عَنْ أسْماء بنْتِ آبي بَكر رضي الله عَنْهُمَا قالت: نَحَرنا عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرَساً فأكلناه".
وفي رواية: "وَنَحْنُ في المَدِينَةِ".
ما يستفاد من الحديث:
1- الحديث دليل على حل أكل لحوم الخيل، إذ أكل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأقر عليه.
وقد جاء الحديث في الصحيحين وغيرهما بلفظ "ذبحنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه، نحن وأهل بيتهط ويأتي ذكر من خالف في حِله.
2- جاء في بعض الألفاظ "الذبح" وفي بعضها "النحر" والنحر: هو الضرب بالحديدة في اللبة حتى يفرى أوداجها وهو الإبل. والذبح- هو قطع الأوداج، وهو لغير الإبل من الحيوانات، ولعله حمل النحر على الذبح توسعا ومجازا.
3- قولها. "ونحن في المدينة" يرد على من قال: إن حلها نسخ بغرض الجهاد، بسبب الاحتياج إليها.(1/710)
الحديث الرابع
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّ النَبي صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُحُوم الْحُمُرِ الأهلية وأذِنَ في لحوم الخيل.
ولـ"مسلم" وحده قال: أكَلْنَا زَمَنَ خيبر الخيل وَحُمُرَ الْوَحْش، وَنَهَى النَّبي صلى الله عليه وسلم لا عَنِ الْحِمَارِ الأهْلي.
الحديث الخامس
عَنْ عبد الله بن أبي أوفَي قَال: أصابتنا مَجَاعَةَ ليالي خيبرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيبرَ وقعنا في الحُمُر الأهَلِيَّةِ فَانتحَرناهَا، فلَما غَلَتْ بهَا الْقُدُورُ نادى مُنَادِى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن أكفئوا القدور- وَربَّمَا قَالَ: (وَلا تَأكُلُوا مِنْ لُحُوم الحمر الأهلية شَيْئا) .
الحديث السادس
عَنْ أبي ثَعْلَبَةَ رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لُحُومَ الحمر الأهليةِ.
الغريب:
الحمر الأهلية: بضم الحاء والميم، نسبت إلى الأهل لكونها مستأنسة مع الناس. حمر الوحش. سميت وحشا لكونها متوحشة مبتعدة عن الناس، وهي صيد، وفيه من صفات الحمار الأهلي، إلا أنه أقل منه خلقة ويسمى الآن [الوضيحي] .
أكفئوا القدور: بهمزة القطع (من أكفأ) الرباعي. وبعضهم رواه بهمزة الوصل من (كفأت) الثلاثي، ومعناه القلب.
ما يستفاد من هذه الأحاديث الثلاثة:
شرحنا هذه الأحاديث جميعا لكونها متفقة المعاني وهي:
1- النهي عن لحوم الحمر الأهلية وتحريم كلها.
قال ابن عبد البر [لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمها] وكانت قبل تحريمها والأمر بإراقتها من القدور، باقية على أصل الحل.
2- أن العلة في تحريمها كونها رجساً نجسة مستخبثة، وقد جاء في الحديث "فإنها رجس" فيكون بولها وروثها ودمها نجساً.(1/711)
3- حل لحوم الخيل لأنها مستطابة طيبة، ويأتي- إن شاء الله- ذكر من خالف في حلها.
4- حِلُّ الحمر الوحشية، لأنها من الصيد الطيب، وهن الوضيحيات.
اختلاف العلماء:
ذهب أبو حنيفة، ومالك في بعض أقوالهما، إلى تحريم لحوم الخيل، وفِى بعضها الآخر، إلى الكراهة، وذهب بعض أصحابه إلى التحريم وبعضهم إلى الكراهة- واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- قوله تعالى: {والخيل وَالبِغَالَ والحَمِيرَ لتر كَبُوهَا وزينَة} .
ووجه الدلالة من الآية أنها قرنت مع البغال، والحمير، وهى محرمة.
وأيضاً فإن [اللام] في قوله {لتركبوها} للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير
ذلك، لأن العلة المنصوص علها تفيد الحصر، فحل أكلها يقتضي خلاف الظاهر من الآية.
وأيضا فإن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الأكل، لكان الامتنان به أعظم.
2- ما رواه الطحاوي، وابن حزم عن جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الخيل والبغال) .
وما رواه أصحاب السنن عن خالد بن الوليد: (أن الني صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل) .
3- ما بين الخيل والحمر من شبه قوي، يوجب إلحاق الخيل بالحمر.
وذهب الشافعي، وأحمد، والليث، وحماد، وأبو ثور، إلى حِلها. وروى عن ابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والأسود، وابن المبارك.
واحتجوا بالأحاديث والآثار المتواترة بحلها، فهي داحضة لكل حجة، رادة لكل دليل.
واستدلوا بأنه عمل الصحابة جميعاً، فقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الصحيحين، عن عطاء قال لابن جريح: (لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريح: قلت: الصحابة؟ فال: نعم.
وأجابوا عن أدلة الحنفية والمالكية بما يأتي:
أما الآية الكريمة فليس فيها دليل، لأنها مكية(1/712)
إجماعا، وهذه الأحاديث مدنية إجماعا، فيكون الإذن بحلها بعد نزول السورة.
وهذه المحاولات في الاستدلال لا تكفى دليلا، لأنا لو سلمنا أن [اللام للتعليل] فلن نسلم إفادتها للحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل نمو غيرهما اتفاقا، وإنما ذكر في الآية أغلب المنافع.
وأما دلالة العطف والاقتران، فهي ضعيفة لا يحتج بها، خصوصاً وأنها في مقابلة هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
وأما الامتنان، فقد ذكر باعتبار الغالب عند العرب بحبهم لذلك في السرور بالنظر إلى حسنها في غدوها، ورواحها، وركوبها للصيد، الذي هو أكبر اللذات، وعند الغارات، ومجابهة الأعداء في الكر والفر.
ولا يلزم أن تذكر نعم الله تعالى في مقام واحد، فله- تبارك وتعالى- النِّعَم العظيمة، والآلاء الجسيمة، وهي معروفة.
أما قياس الخيل على الحمر، فلا يلتفت إليه مع النص.
وأما الحديث الذي رواه الطحاوى، ففيه عكرمة بن عمار عن يحي ابن أبي كثير.
قال الطحاوى: وأهل الحديث يضعفونه.
قال ابن حجر: لاسيما في يحي بن أبي كثير.
وقال يحي بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحي بن أبي كثير، ضعيفة.
وقال البخاري: حديثه عن يحي، مضطرب وكلام أئمة الحديث فيه كثير.
وأما الحديث المنسوب إلى خالد بن الوليد، فقد قال العلماء: إنه شاذ منكر، لأن في سياقه أنه شهد خيبر، وهو خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها.
الحديث السابع
عَنِ ابْنِ عَبَّاس رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: دَخَلْتُ أنا وَخَالِدُ بْن الوَلِيدِ مَعَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ مَيْمُونَةَ، فَأتي بضب مَحْنُوذٍ، فأهوى إلِيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
فَقَالَ بَعْضُ النسْوةِ اللاتي في بيت مَيْمُونَةَ: أخْبرُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِمِا يُرِيدُ أنْ يأكل. فَقلْتُ: تأكُلُهُ؟ هُوَ ضب!
فَرَفَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَهُ فَلَمْ يَأكُلْ، فَقُلتُ: يا رسول الله، أحرام هُوَ؟
قال: "لا. وَلكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأرْض قَوْمي، فأجدني أعَافُهُ".
قَالَ خَالِد: فاجتررته فَأكَلْتُهُ وَالنَّبي صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إلَيَّ.
المحنوذ: المشوي بالرضيف (وهي الحجارة المحمَّاة) .(1/713)
الغريب:
بضب: بفتح الضاد وتشديد الباء. هو دابة فيه شبه بالحر بلا. وهو معروف، في الصحراء مسكنه.
محنوذ: بفتح الميم وسكون الحاء وضم النون، وبعدها واو، ثم ذال معجمه هو المشوي بالحجارة المحماة، ولا تزال البادية تفعل هذا.
ويقال له في الحجاز: [مضبي] وهو استعمال فصيح، قال ابن فارس [ضبته النار إذا شوته] .
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على إباحة أكل الضًب من سؤالهم وجوابه: (حرام هو يا رسول الله؟ قال: لا) . ومن تقريره خالد بن الوليد على أكله مع علمه بذلك.
ويفهم من حال أهله أن حِلًه متقرر لديهم، لأنهم طبخوه وقدموه للأكل.
فإنهم لم يخبروه أنه ضب ليسألوا عن حكم أكله، وإنما لإعلامه، فيجتنبه إن كانت نفسه لا تقبله وأجمع العلماء على حِل أكله.
2- وفيه دليل على أن الكراهة الطبيعية من النبي صلى الله عليه وسلم للشيء لا تحرمه لأن هذا شيء ليس له تعلق بالشرع، ومرده النفوس والطباع.
3- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يعب الطعام. وهذه عادته الكريمة، إن طاب له الطعام أكل منه، وإلا تركه من غر عيبه.
4- وفيه أن النفس وما اعتادته، فلا ينبغي إكراهها على أكل ما لم تشتهه ولا تستطيبه، فإن الذي لا ترغبه لا يكون مريئا، فيخل بالصحة.
الحديث الثامن
عَنْ عَبدِ الله بن أبي أوفَى قَالَ: غَزَوناَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَبعَ غَزَوَاتٍ نأكُلُ الجَرَادَ.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حِل أكل الجراد. قال النووي رحمه الله تعالى: وهو إجماع.
2- وهو حلال بأي سبب صار موته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان مما فأما الميتتان، فالجراد والسمك، وأما الدمان، فالكبد والطحال".(1/714)
الحديث التاسع
عَنْ زَهْدَم بْنِ مُضَرِّبٍ الْجَرْمي قالَ: كُنا عِنْدَ أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ، فَدَعا بِمَائِدَةٍ وَعَلَيها لَحْمُ دجاج، فَدَخَلَ رَجُل مِنْ بَني تَيْم الله أحْمَرُ شبيهٌ بالموالي، فقَالَ لَهُ: هلمَّ! فتلكأ.
فَقَالَ لَهُ: هلمَّ! فَإني رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَأكُلُ مِنْهُ.
الغريب:
زهدم بن مضرب الجرمي: بصري ثقة [زهدم] بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الدال المهملة و [مضرب] بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، وكسر الراء المهملة المشددة و [الجرمي] بفتح الجيم وسكون الراء المهملة، منسوب إلى (جَرَم بن زيان) قبيلة مشهورة من العرب من قضاعة، من القحطانية.
تيم الله: بفتح التاء، بعدها ياء، ثم ميم. منسوبة إلى اسم الجلالة، هم بطن من إحدى قبائل العرب.
هلم: بفتح الهاء، بعد لام مضمومة، ثم ميم مشددة. هي كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء. فأما الحجازيون فينادون بها بلفظ واحد، المفرد، والمثنى، والجمع. وبهذه اللغة جاء القرآن {وَالقَائِلِينَ لإخوانهم هَلُم إلَيْنَا} وأما النجديون فيلحقونها الضمائر، فيقولون: هلم، للمفرد، وهلما، للمثنى، هلموا للجمع، وهلمي، للمؤنثة.
فتلكأ: بمعنى تردد وتوقف.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حل أكل لحم الدجاج لأنه من الطيبات.
2- كون أكثر أكلها النجاسة لا يحرمها، وإنما يكون لها حكم الجلالة (1) .
3- جواز الترف في المأكل والمشرب والملبس، وأن هذا غير مناف للشرع.
ومن تركه- تدينا- فليس على حق {قُلْ مَنْ حَرم زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيباتِ مِنَ الرزْقِ؟} .
ولا ينبغي اتخاذ الترف عادة دائمة، لئلا يألفه، فلا يصبر عنه.
الحديث العاشر
عنْ ابْنِ عباس رَضي الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا كَلَ أحدكم طعَامَاً فَلا يمسح يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا".
_________
(1) هي الناقة التي تأكل الخرء.(1/715)
ما يستفاد هن الحديث:
1- لعق الأصابع، ومثله الإناء، لما فيه من التماس بركة الطعام التي لا يعلم: هل هي في أوله أو آخره؟ وتعظيم نعم الله، قليلها وكثيرها، وعدم التكبر عنها.
2- وفيه صون نِعَمِ الله وحفظها، لئلا تقع في موضع قذر نجس، أو تهان فيه.
بَابُ الصَّيْد
الصيد: يطلق على المصدر، أي التصيد. ويطلق: على اسم المفعول وهو المصيد.
قال ابن فارس: وهو ركوب الشيء رأسه ومُضِيُّه، غير ملتفت ولا مائل.
واشتقاق الصيد من هذا، وذلك أن يمر مراً لا يعرج.
وتعريفه شرعاً: هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعاً، غير مملوك ولا مقدور عليه.
والأصل في إباحة الصيد، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وإذَا حَلَلْتُم فَاصطادوا} وقوله تعالى: {أحِلَّ لَكُم صَيدُ البحر} . وغيرهما من الآيات.
وأما السنة فشهيرة، ومنها الأحاديث الآتية في الباب:
وأجمع العلماء عليه.
وهو من الهوايات المحببة، وكان العرب مولعين به، ويعدونه من اللذات التي يتنافس عليها ملوكهم وأمراؤهم.
ولكن لا ينبغي جعله مَلْهَاةً، لأن طلبه لهذا القصد ضياع لأوقات العمر الثمينة، التي تدرك بها طاعة الله تعالى، وما ينفع الإنسان في حياته، وينفع مجتمعاته.
وإزهاق نفس الحيوان لغير قصد كله أيضاً، لا يجوز، لأنه إتلاف له بلا مسوغ، وقد جعل الله تعالى في بقائه فوائد ومنافع كثيرة.
الحديث الأول
عَنْ أبى ثَعْلَبَةَ الخُشَنيِّ رضي الله عَنْهُ قَال: أتَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يا رسول الله، إنَّا بأرض قَوْم أهْلِ كِتَاب، أفَنَأكُلُ في آنيتهِمْ؟ وَفي أرْضِ صَيْدٍ، أصِيدُ بِقَوسي وبكلبي الَّذِي لَيْسَ بِمُعَلَّمٍ وبكلبي الْمُعَلّمِ، فما يَصْلُحْ لي؟.
قَالَ: "أمَّا مَا ذَكَرْتَ- يعني- مِنْ آنية أهْلِ الْكِتَاب فإن وَجَدْتُمْ غَيْرَهَا فَلا تًأكُلُوا فِيهَا، وَإن لَمْ تَجِدوا فَاغْسِلُوهَا وَكُلُوا فِيهَا، وَمَا صِدْتَ بِقَوْسِكَ فَذَكَرْتَ اسْم الله عليه فَكُلْ، وَمَا صدت بِكَلْبِكَ الْمُعَلَّمِ فَذَكَرتَ اسْمَ الله عَلَيْهِ(1/716)
فَكلْ، وما صدت بِكَلْبِكَ غَيْر المعلم فَأدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَكُلْ".
الغريب:
الخشني: بضم الخاء المعجمة وفتح الشين، بعدها نون ثم ياء، منسوب إلى خشينه بطن من قضاعة قبيلة قحطا نية.
بقوسي: آلة رمي قديمة معروفة، وهي بفتح القاف، وسكون الواو، وكسر السين، بعدها ياء المتكلم.
كلبي المعلم: وهو المدرب على الصيد، وتأتي كيفية تعليمه.
المعنى الإجمالي:
ذكر أبو ثعلبة للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم مبتلون بمجاورة أهل الكتاب- والمراد بهم، اليهود أو النصارى.
فهل يحل لهم أن يأكلوا في أوانيهم مع الظن بنجاستها؟
فأفتاه بجواز الأكل فيها، ومن باب أولى، استعمالها في غير الأكل بشرطين
1- أن لا يجدوا غيرها. 2- وأن يغسلوها.
وذكر له أنهم بأرض صيد، وأنه يصيد بقوسه وبكلبه المعلم على الصيد وآدابه، وبكلبه الذي لم يتعلم. فما يصلح له ويحل من صيد هذه الآلات.
فأفتاه بأن ما صاده بقوسه فهو حلال، بشرط أن يذكر اسم الله تعالى عند إرسال السهم.
وأما ما تصيده الكلاب، فما كان منها معلماً وذكر اسم الله عند إرساله فهو حلال أيضاً.
وأما الذي لم يتعلم، فلا يحل صيده إلا أن يجده الإنسان حياً ويذكيه الذكاة الشرعية.
ما يستفاد من الحديث:
1- إباحة استعمال أواني الكفار، ومثلها ثيابهم، عند عدم غيرها، وذلك بعد غسلها.
2- هنا تعارض الأصل الذي هو [الأصل في الأشياء الطهارة] بغلبة الظن، الذي هو- هنا-[عدم توقيهم النجاسة] فرجح غلبة الظن حيث قويت.
3- إباحة الصيد بالقوس: وبالكلب المعلم بشرط ذكر اسم الله عند إرسالهما.، فإن تركها عمدا أو سهوا لم يبح، وإن تركها سهوا أو جهلا أبيح. وهذا هو المشهور. من المذاهب.
والصواب: أنه إن تركها سهوا أو جهلا أبيح. وهو رواية عن الإمام أحمد.
4- ظاهر الحديث حِل أكل ما صيد، سواء أقتله الجارح بجرحه أم بصدمه وهو مذهب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه، ابن حامد، وأبو محمد الجوزي، وهو ظاهر كلام الخرقي لعموم الآية.
أما المشهور من المذهب، فلا يحل إذا مات الصيد بخنقه أو صدمه.(1/717)
5- أن صيد الكلب الذي لم يعَلم، لا يحل إلا إن أدركه الإنسان فذكاه قبل موته.
6- صفة تعليم الجارح على مذهب الحنابلة، إن كان الجارح كلباً، أو فهداً ونحوهما من ذوات الناب فبثلاثة أشياء:
1- أن يسترسل إذا أرسل.
2- وينزجر إذا زجر.
3- وأن لا يأكل إذا أمسك.
وإن كان ذا مخلب، كالصقر، والبازي، فبشيئين.
1- يسترسل إذا أرسل.
2- وينزجر إذا زجر، ولا يشترط الثالث.
وبعض العلماء جعل مرد التعليم وتحديده إلى العرف، فما عده الناس متعلماً عارفاً لآداب الصيد، فهو المتعلم، ويكون حلال الصيد، ومالا، فلا وهو قول جيد لأن الشارع أطلق تعليمه، وما أطلقه،. فالذي يحده، العرف.
7- فضل العلم على الجهل، إذ أبيح صيد الكلب المعلم دون الكلب الذي لم يعلم فقد آثر العلم حتى في البهائم، قاله (ابن القيم) رحمه الله.
الحديث الثاني
عَنْ هَمَّام بْنِ الحارِثِ عَنْ عَدِي بْنِ حاتِمٍ قَال: قُلْتُ، ْ يا رَسُولَ الله: إني أرسل الْكلابَ الْمُعَلًمَةَ فيمْسِكْنَ عَلَىَّ وَأذْكرُ اسْمَ الله.
فَقَالَ: "إذَا أرسلتَ كَلْبَكَ المعلم وَذَكَرتَ اسمَ الله عَليهِ فَكُل ما أمسَكَ عَليكَ".
قُلتُ: وَإنْ قَتَلنَ؟ قَالَ: "وإنْ قتَلنَ، مَا لَم يشركهَا كَلْب لَيس منها".
قلتُ: فَإني أرمِي بالمعراض الصيد فَأصِيبُ؟.
فَقَالَ: "إذَا رَمَيْتَ بِالمَعرَاض فَخَرَقَ فَكُلْهُ، وَإنْ أصابه بِعرْضِهِ فَلا تأكُله".
الحديث الثالث
وَحَدِيثُ الشعْبي عنْ عدي نَحْوَهُ، وفِيهِ: "إلا أنْ يأكل الكَلْبُ، فَإن أكَلَ فَلا تأكل، فَإني أخَافُ أن يَكُونَ إنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ. وإن خَالَطَهَا كلاب مِنْ غيْرِهَا فَلا تَأكُلْ فَإنَّما سَمَّيتَ عَلى كَلْبِكَ وَلَم تسَمِّ عَلى غَيرِهِ".
وفيه: " إِذَا أرسَلتَ كَلْبَكَ المكَلَّبَ (الْمُعَلَمَ) فَاذْكرِ اسْمَ الله عَليهِ، فَإن أمْسَكَ عَلَيْكَ فأدركته حَيًّا فاذبحه، وَإن أدركته قدْ قُتِلَ وَلَم يَأكُل مِنْهُ فَكُله، فَإنً أخذَ الكَلْبِ ذَكَاتُهُ".
وفيه أيضاً: "إذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فاذكر اسمَ الله عَلَيْهِ".
وفيه: "وإنْ غَابَ عَنْكَ يَوْماً أوْ يَوْمين - وفي رواية: اليومَيْنِ وَالثلاثَةَ فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إلا أثَر سَهْمِكَ فَكُلْ إن شِئتَ. وَإنْ وَجَدْتَهُ(1/718)
غريقاً في المَاءِ فَلا تَأكُلْ، فَإنَّكَ لا تدري، الْمَاءُ قَتَلَهُ أوْ سَهمُكَ".
الغريب:
المعراض: بكسر الميم وسكون العين، وبعد الألف ضاد معجمة.
قال الشيخ: عصاً رأسها مَحْنية. والذي ذكره أهل اللغة: أنه سهم لا ريش عليه، وجمعه، معاريض.
فخرق: قال ابن فارس: الخاء والراء والقاف أصل، وهو يدل على نفاذ الشيء المرمي به، فالمراد- هنا- أصاب الرمية ونفذ فيها.
الشعبي: بفتح الشين وسكون العين، عامر بن شرا حيل المحدث الراوية المشهور.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على حل ما صاده الكلب ونحوه، كالفهد، أو الصقر، ونحوه كالبازي، إذا كان معلما وذكر اسم الله تعالى عند إرساله، ويستوي فيه أن يدرك صاحبه الصيد حياً أو ميتاً.
2- تحريم الصيد الذي اشترك فيه الكلب المعلَّم وغير المعلم، لأنه اجتمع فيه مبيح- وهو المعلم- وحاظر- وهو غير المعلم- فيترك من (باب ترك الأمور المشتبهة) .
3- أنه لابد من التسمية عند إرسال السهم، والمراد بالسهم، السلاح الذي صنع للرمي من البنادق بأنواعها وأسمائها، وتسقط التسمية سهوا وجهلا وتقدم.
4- لكون التسمية مشترطة، فإنه لا يحل الصيد الذي اشترك في قتله المعلم وغيره، لأن غير المعلم لم يُذكَرُْ اسم الله عند إرساله.
5- لكون النية والتعليم مقصودين في الجارح، فإنه لا يحل الصيد الذي أكل منه، خشية أن يكون صاده لنفسه ولم يصده لصاحبه.
6- أن ما أدركته من صيد السلاح، أو الجارح حيا، فلا بد من تذكيته، وإن كان ميتاً فرميه أو قتل الجارح إياه، هو ذكاته.
7- إذا جرحت الصيد فوقع في ماء، واشتبه عليك: هل مات من سهمك أو من الماء؟ فهو حرام، خشية أن يكون مات من الغرق وهذا إذا كان فيه اشتباه قَوِي.
أما إذا غلب على الظن أنه مات من السهم، لكون الماء قليلا، والجرح موحيا فهو حلال.
وهذا الحكم عام في كل ما اجتمع فيه مبيح وحاظر.
8- أن المعراض وغيره من السلاح، إن قتل الصيد بحده ونفوذه، فهو مباح، لأنه مما أنهر الدم. وإن قتله بصدمه وثقله، فلا يباح، لأنه من الميتة [الموقوذة](1/719)
الحديث الرابع
عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عَنْ أبيهِ رَضي الله عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اقْتَنَى كَلْباً- إلا كَلْبَ صَيْد أوْ مَاشِيَةٍ - فإنَّهُ يَنْقصُ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَومٍ قيراطان".
قَالَ سالم: وَكَانَ أبو هريرة يَقُولُ: أوْ كَلْبَ حَرْثٍ وَكَانَ صَاحِبَ حرث.
المعنى الإجمالي:
الكلب من البهائم الخسيسة القذرة، ولهذا نهى الشرع الشريف الطاهر عن اقتنائه لما فه من المضار والمفاسد، من ابتعاد الملائكة الكرام البررة، عن المكان الذي هو فيه، ولما فيه من الإخافة والترويع والنجاسة والقذارة، ولما في اقتنائه من السفه.
ومن اقتناه نقص من أجره كل يوم شيء عظيم [قرب معناه بالقيراطين والله أعلم قدر ذلك] لأن هذا عصى الله باقتنائه وإصراره على ذلك.
فإذا دعت الحاجة إليه لبعض ما فيه من منافع ومصالح كحراسة الغنم التي يخشى عليها من الذئب والسارقين، ومثل ذلك اقتناؤه للحرث، وكذلك إذا قصد به الصيد- فلهذه المنافع يسوغ اقتناؤه وتزول اللائمة عن صاحبه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم اقتناء الكلب، ونقص أجر صاحبه كل يوم قيرِاطين، وهما قدر عظيم، عند الله تعالى علمه ومبلغه.
2- ومنع اقتناؤه لما فيه من المفاسد والمضار الكثيرة من بُعْدِ الملائكة عن المكان الذي هو فيه، ولما فيه من الإخافة والترويع فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، ولما فيه من النجاسة الغليظة التي لا يزيلها إلا تكرير الغسل وغسله بالتراب.
3- أنه يباح اقتناؤه لمصلحة، وذلك بأن يكون لحراسة غنم، أو حرث، أو لأجل صيد، فهذه منافع، تسوغ اقتناءه.
4- بهذا تعلم مبلغ ما لدى الغربيين من السفاهة وقلة البصيرة، إذ فتنوا باقتنائها لغير فائدة، ويطعمونها أحسن مأكول، ويعتنون بها بالتغسيل والتنظيف وغير ذلك، ويلابسونها، ويقبلونها، فهل بعد هذا من سفه؟.
والعجب أن مثل هذه العادات والأعمال القبيحة سرت إلى المستغربين منا، من الإمًعات المقلدين، الذين عبدوا الغربيات، وتدينوا بأعمالهم، وعشقوا كل سفالة عندهم. فإنا للَه وإنا إليه راجعون.(1/720)
الحديث الخامس
عَنْ رَافِعِ بن خَدِيج قَالَ: كُنَّا معَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِذِي الحُليفَةِ مِنْ تِهَامَةَ، فَأصَاَبَ النَّاسَ جوعٌ فأصابوا إبلا وغنما، وَكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم في أخريَاتَ القوم،، فَعَجِلوا وَذبَحُوا وَنصَبُوا القدورَ.
فَأمَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِالقُدُورِ فأكفئت-، ثُمَّ قَسمَ، فَعَدَلَ عشرة مِنَ الغنم بِبَعِير، فَنَدَّ مِنْهَا بَعِير، فطلبوه فَأعْيَاهمْ.
وَكَانَ في القوم، خَيل يَسِيرَة، فَأهوَى رَجُل مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَحَبَسَه الله.
فَقَالَ: "إنَّ لِهذِهِ البَهَائِم أوَابِدَ كَأوَابِدِ الوَحْش، فَمَا نَدَّ عليكم مِنْهَا فَاصنعُوا بهِ هكَذَا".
قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إنَّا لا قُو العَدوَّ غَداً، وَليس مَعَنَا مُدً ى، أفنذبح بالقصب؟.
قَالَ: "مَا أنهر الدمَ وذكر اسْمُ الله عَلَيْهِ فكُلُوهُ، ليسَ السن وَالظفر".
وسأحدثكم عَنْ ذَلِكَ، أما السنُ فعظم، وَأما الظفُرُ فَمُدَى الحَبَشَةِ".
الغريب:
الحُليفة: بضم الحاء المهملة وفتح اللام، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة، ثم تاء تصغير (حلفة) نبت معروف، سميت به، لأنها من منابته.
تِهَامة: بكسر التاء المثناة، وهي ما تصوب من جبال الحجاز إلى البحر.
نَد: بفتح النون، وتشديد الدال، بمعنى: هرب على وجهه شارداً.
فأعياهم: بفتح الهمزة، وسكون العين، بعدها ياء، بمعنى: أعجزهم.
أوابد: بفتح الهمزة، بعدها واو، ثم ألف، بعدها باء موحدة مكسورة، ثم دال. جمع (آبدة) بالمد وكسر الباء، وهي: الغريبة المتوحشة. والمراد أن لها توحشا ونفوراً.
مدَى الحبشة: بضم الميم جمع (مدية) مثلث الميم (1) ، وهى: السكين.
والأصل: أن هذه المادة تدل على الامتداد والغاية، فلعلها سميت بذلك لأن المذبوح بها ينتهي مداه: وهو أجله.
أنهر الدم: بمعنى فتح الدم وأساله.
ليس السن والظفر: السن والظفر، منصوبان بالاستثناء.
ما يستفاد من الحديث:
نأتي بفوائد هذا الحديث، مرتبة حسب ما جاء ت فيه:
1- إن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الجميلة أن يكون في آخر الجيش، رفقا" بالضعيف والمنقطع.
_________
(1) يعني أن ميمها تفتح وتكسر وتضم، وأن كل ذلك جائز.(1/721)
فكذا ينبغي للقواد والأمراء، وهكذا ينبغي ملاحظة الضعفاء العاجزين في كل الأحوال، في إمامة الصلاة وغيرها.
2- تأديب الإمام لرعيته وجنده فقد أدبهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه العجلة والتصرف، قبل أخذ إذنه، فكان جزاؤهم حرمانهم مما أرادوا.
3- اختلف في السبب الذي أمر من أجله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور وذكر القاضي عياض أنه ربما كان سبب ذلك أنهم انتهبوها. ونقل ما أخرجه أبو داود عن رجل من الأنصار قال: "أصابت الناس حاجة شديدة وجهد، فأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدرونا لتغلى بها إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل من الميتة".
4- مشروعية التعزيز بالمال إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد قوية، أخذ بها كثير من أصحابه. منهم شيخ الإسلام (ابن تيميه) وتلميذه (ابن القيم) .
والقصد من التعزير، الردع، ولعل التعزير بأخذه يكون لبعض الناس أنكى وأردع من غيره.
أما المشهور من المذهب، فإنه لا يعزر بالمال وهو ضعيف، لأنه مخالف لكثير من الأحاديث التي لم يثبت نسخها، لتحريقه متاع الغال وتغريم السارق من غير حرز ضعف ما سرق، وتغريم جانٍ على اللقطة قيمتها مرتين، وغير ذلك.
5- العدل، لاسيما في موطن جهاد الأعداء والكفار، لأنه من أسباب النصر والظفر بالأعداء.
والنبي صلى الله عليه وسلم قسم بينهم، فجعل مقام البعير عشرةً من الغنم.
وهذا تقدير قيمة، فليس فيه دليل على أن البعير يجزئ عن عشرة من الغنم في الأضحية، لأن ذلك تقدير مرجعه الشارع، وهذا مرجعه القيمة.
6- أن من هرب ولم يمكن إدراكه من الإبل، أو البقر، أو الغنم أو من الحيوانات المستأنسة فليحبس أو ليقتل برميه، فإن مات، فالرمي ذكاته، لأنه صار حكمه حكم الوحش النافز.
7- جواز التذكية بكل ما أنهر الدم وأساله، من حديد، أو حجر، أو قصب أو غيرها.
8- اشتراطْ التسمية، وتقدم أنها تسقط سهواً وجهلا.(1/722)
9- أنه لا يجوز الذبح بالسن والظفر.
[والحكمة في ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أن السن عظم، وأما الظفر فلمخالفة الكفار، لم يجز الذبح به.
10- من هذا التعليل يفهم أنه لا يجوز التذكية بجميع العظام وهو الصحيح، وهو رواية عن الإمام أحمد.
أما المشهور من المذاهب فيختص بالسن فقط.
ويؤخذ منه عدم جواز مشابهة الكفار وتقليدهم، ومتابعتهم بشيء من أعمالهم.
وأما العلوم والصناعات، فلا تدخل هنا، لأنه حق مشاع مشترك بين الناس، فالأفضل أن لا يسبقونا إليها.
بَابُ الأضاحي
الأضاحي جمع أضْحِيَة، بضم الهمزة، وسكون الضاد، وكسر الحاء، بعدها ياء، ثم تاء. ْ مشتقة من اسم الوقت الذي شرع ذبحها فيه.
وهى- شرعا-: ما يذبح في أيام النحر بسبب العيد، تقربا إلى الله تعالى.
والأصل في مشروعيتها، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِربِّكَ وَانحَرْ} قال بعض المفسرين: المراد به الأضحية بعد صلاة العيد
وأما السنة، فما روى أنس، وسيأتي الحديث والكلام عليه إن شاء الله تعالى.
وأجمع المسلمون على مشروعية الأضحية.
حكمة مشروعيتها: في الأضحية، التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، لأنها من أفضل الطاعات وأجمل العبادات.
وقد قرنها الله تعالى مع الصلاة في آيات من القرآن الكريم. منها قوله تعالى: {إن صلاتي ونسكي ومحياي وَمَمَاتي لله رَبِّ العَالميَن}
وقوله سبحانه: {فصل لِرَبكَ وَانحَرْ} والأضحية التي تقع في ذلك اليوم العظيم، يوم النحر الأكبر، فيها الصدقة على الفقراء والتوسعة عليهم.
وفيها القيام بشكر الله تعالى على توالى نعمه بسلامة العمر والعقل والدين، واقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قدَّم ولده قربانا لله تعالى، طاعةً ورضا بأمر الله، ففداه الله تعالى بكبش، فكانت سنة من بقبة أبينا إبراهيم، جددها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(1/723)
وفيها الفرح والسرور والتوسعة على النفس، والأهل، في هذا العيد الإسلامي الكبير.
وفيها حِكَمٌ وأسرار لله تعالى، تدرك منها الأفهام والعقول بقدر طاقتها.
والأصل في الأضحية أنها للأحياء.
ويجوز أن تجعل صدقة عن الموتى، وفيها ثواب وأجر لهم.
لكن يوجد في بعض البلاد، أنهم لا يكادون يجعلونها إلا للموتى فقط.
فكأنهم يظنون أن الأضحية خاصة للموتى، ولذا فإن الحي منهم يندر أن يضحي عن نفسه.
فإذا كتب وصية، أول ما يجعل فيها أضحية أو ضحايا، على حسب يُسْره وعسره.
ويندر أن يوصى الموصى بغير الأضحية وتقسيم الطعام في ليالي الجمع من رمضان. أما غيرها من أنواع البر فقليل.
وهذا راجع إلى تقصير أهل العلم الذين يكتبون وصاياهم، لا يذكرونهم، ولا يعلمونهم أن الوصية ينبغي أن تكون في الأنفع من البر والإحسان.
والأضحية وإن كانت فضيلة وبرًا وإحساناً، إلا أنه يوجد بعض جهات من البر ربما تكون أحسن منها. والله ولى التوفيق.
الحديث الثامن والثمانون بعد الثلاثمائة
عَنْ أنس بْنِ مَاِلكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: ضحَّى النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين امْلَحَيْن أقْرَنينِ، ذَبحَهُمَا بِيَدِهِ وَسَمَّى وَكبَّر وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلى صِفَاحِهِمَا.
الغريب:
كبشين: الكبش هو الثَنيُّ إذا خرجت رباعيته، وحينئذ يكون عمره سنتين، ودخل في الثالثة.
أملحين: الأملح من الكباش، هو الأغبر الذي فيه بياض وسواد، وبياضه أكثر من سواده.
صفاحهما: بكسر الصاد والحاء المهملتين.
قال في (النهاية) صفحة كل شيء وجهه وجانبه، والمراد هنا صفاح أعناقهما.
المعنى الإجمالي:
من تأكد الأضحية أن النبي صلى الله عليه وسلم مع حثه عليها فعلها هو، صلى الله عليه وسلم فقد ضحى بكبشين، في لونهما بياض وسواد ولكل منهما قرنان.
فذبحها بيده الشريفة لأنها عبادة جليلة قام بها بنفسه، وذكر اسم الله تعالى عندها استعانة بالله لتحل بها البركة ويشيعها الخير، وكبر الله تعالى لتعظيمه وإجلاله، وإفراده بالعبادة، وإظهار الضعف والخضوع بين يديه تبارك وتعالى.(1/724)
بما أن إحسان الذبحة مطلوب- رحمة بالذبيحة، بسرعة إزهاق روحها- وضع رجله الكريمة على صفاحهما، لئلا يضطربا عند الذبح، فتطول مدة ذبحهما، فيكون تعذيباً لهما، والله رحيم بخلقه.
ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية التضحية وقد أجمع عليها المسلمون. قال شيخ الإسلام: والأضحية أفضل من الصدقة بثمنها، فإذا كان له مال يريد التقرب به إلى الله كان له أن يضحي.
2- أن الأفضل أن تكون الأضحية من هذا النوع الذي ضحى به النبي صلى الله عليه فلعله قصد هذا الوصف لمعنى فيه والله أعلم.
3- أن الأفضل لمن يحسن الذبح، أن يتولاه بنفسه، لأن ذبح ما قصد به القرب عبادة جليلة.
4- أن يقول عند الذبح: [باسم الله والله أكب] ومناسبتها هنا ظاهرة.
5- أن يضع رجله على صفحة المذبوح لئلا يضطرب، وليتمكن من إرهاق روحه بسرعة فيريحه.
6- أن الأفضل في ذبح الغنم، إضجاعها، ويكون على الجانب الأيسر لأنه أسهل.
فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تنمية:
الأولى: تجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه والصدقة عنه
الثانية: يتصدق بثلث الأضحية، ويهدي ثلثها، وإن أكل أكثرها أو أهداه أو طبخه ودعا الناس إ ليه جاز.
الثالثة: إن ضحى بشاة واحدة عنه وعن أهل بيته أجزأ ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد، فإن الصحابة كانوا يفعلون ذلك.(1/725)
كتاب الأشربة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا: أنَّ عُمَرَ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم: أمَّا بَعْدُ أيُهَا النَّاسُ، إنَّهُ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهِيَ مِنْ خَمْسَةٍ، 1- مِنَ الْعِنَبِ، 2- وَالتَمْرِ، 3- وَالْعَسَلِ، 4- وَالْحِنْطَةِ، 5- وَالشَعِيرِ- وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.
ثلاث وَدِدْتُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ عَهِدَ إلَيْنَا فِيهِنَّ عهدا نَنْتَهِي إلَيْهِ: 1- الْجَدُّ، 2- والكلالةُ. 3_ وأبواب مِنْ أبوَابِ الرِّبَا.
ما يستفاد من الحديث:
تقدم الكلام عن الخمر، وتعريفه، واختلاف العلماء في حده. وتقدمت الإشارة- أيضاً- إلى هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه.
وأن الصحيح: أن الخمر كل ما خامر العقل من أي شراب، وأن ما أسكر كثيره، فقليله حرام، وفيه فوائد زائدة نجملها فيما يأتي:
1- أن الخمر التي أنزل تحريمها وفهمها الصحابة عند النزول، هي كل ما خامر العقل، وأنه يوجد منها في ذلك الوقت أنواع من العنب، والتمر،
والعسل، والحنطة، والشعير. وكلها من مسمى الخمر، وما حدث بعدها فهو خمر، وإن تعددت أسماؤه.
2- أن العالم مهما بلغ من العلم، فإنه لا يحيط به، ويخفى عليه أشياء.
وليس في الصحابة أعلم من عمر بعد أبي بكر، ومع هذا أشكلت عليه هذه المسائل الثلاث وتمنى أنه استوثق في علمه بهن من النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس معنى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبينهن، فقد أتم الرسالة، وأدى الأمانة، وبلغ عن الله ما هو أخفى وأقل شأنا منهن.
ولكن ليس أحد يحيط بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
3- المسألة الأولى توريث الجد مع الإخوة الأشقاء أو لأب.(1/726)
فزيد بن ثابت، وجمهور العلماء، ومنهم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، يشركونه مع الإخوة بتفصيل مذكور في بابه.
وأبو بكر الصديق، وتبعه أبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد، واختيار شيخ الإسلام وأتباعه يسقطون الإخوة به ويجعلونه بمنزلة الأب.
4- الثانية الكلالة ومعناها، الذي يموت، وليس له ولد ولا والد، وهذا هو نص الآية التي في آخر سورةْ النساء في انتفاء الولد.
ويظهر منها عند التأمل، انتفاء الوالد، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد قال تعالى في الآية: {إنِ امرؤ هَلَكَ لَيسَ لَهُ وَلَدٌ ولَهُ أخْتٌ فلَهَا نِصْفُ ما ترك} .
وهذا التفسير للكلالة، وهو تفسير أبي بكر الصديق، وعليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة، في قديم الزمن وحديثه، والفقهاء السبعة، والأئمة الأربعة رضي الله عن الجميع.
5- الثالثة أبواب من الربا، ولعل هذا من المسائل التي اختلف العلماء فيها.
فحرمها بعضهم، لاعتقاده أنها من الربا، وأحلها بعضهم، لاعتقاده أنها ليست منه.
وبالجملة فالنبي صلى الله عليه وسلم توفي وقد تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها.
ولكن أفهام العلماء تختلف، ويبلغ بعضهم من السنة مالا يبلغ الآخر.
فمن هنا وأشباهه من الأعذار، ينشأ الخلاف بينهم، وكل منهم ذو مقصد حسن. رحمهم الله تعالى أجمعين.
الحديث الثاني
عَنْ عَائِشَةَ رَضي الله عَنْهَا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن البِتْعِ فقَالَ: "كُلُّ شَرَابٍ أسكر فَهُوَ حرام".
قَالَ رضي الله عَنْهُ: البتعُ: نَبِيذُ العَسَلِ.
المعنى الإجمالي:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب البتع (1) الذي هو نبيذ العسل، فأتى صلى الله عليه وسلم بجوانب عام شامل.
مفاده أنه لا عبرة باختلاف الأسماء، ما دام المعنى واحداً، والحقيقة واحدة.
فكل شراب أسكر، فهو خمر محرَّم، من أي نوع أخذ.
وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وحسن بيانه عن ربه.
وبهذا جاء من العلم في مدة بعثته بما يسعد البشرية في الدنيا والآخرة.
_________
(1) البتع: بكسر الباء وسكون التاء، هو نبيذ العسل.(1/727)
الحديث الحادي والتسعون بعد الثلاثمائة
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَبَّاس رَضيَ الله عَنْهُما قَال: بَلَغَ عُمَرَ أنَّ فُلاناً بَاعَ خَمْراً، فَقَالَ: قاتَلَ الله فلاناً، ألَمْ يَعْلَمْ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: قَاتَلَ الله الْيَهُودَ، حُرمت عَلَيْهِمُ الشحموم فَجَمِلُوهَا فَبَاعُوهَا ".
المعنى الإجمالي:
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا أراد التحيُّل على الانتفاع بالخمر من غير شربها فباعها.
وهذه حيلة مكشوفة محرمة، ولذا فإن عمر رضي الله عنه دعا عليه دعاء كدعاء النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود المتحيلين فقال:
قاتله الله، ألم يعلم أن التحيل حرام؟ لأنه مخادعة اللَه ورسوله، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، لما حرم الله عليهم الشحوم، عمدوا إلى الانتفاع بها بالحيلة، إذ غَيَّروا الشحم عن صفته، فأذابوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه وقالوا- تحيلا وخداعا-: "لم نأكل الشحم المحرم علينا" وهم يخادعون الله وهو خادعهم.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم المعاملة بالخمر، ببيع، أو شراء، أو عمل، أو إعانة، بأي نوع كان.
2- تحريم الحيل، فإن الله تعالى لما حرم الخمر، حرم ثمنه الذي هو وسيلة إليه.
3- من باعه فقد شابه اليهود الذين- لما حرمت عليم الشحوم- أذابوها وباعوها، وكلوا ثمنها، حيلةً ومخادعة.
4- أن كل محرم ثمنه حرام، لأنه لا يباح التوصل إليه بأي طريق.
فالوسائل، لها، أحكام المقاصد، وهي قاعدة نافعة.(1/728)
كِتابُ اللبَاس
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخطابِ رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَلْبَسُوا الحريرَ، فَإنَّهُ مَنْ لَبِسَهُ في الدُّنيا لَم يلبسه فِي الآخِرَةِ".
الحديث الثاني
عَنْ حُذَيفَةَ بنِ اليَمَانِ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: سمعتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لا تَلْبَسُوا الحَرير، وَلا الديباج، وَلا تَشربُوا في آنيَة الذَّهَب وَالفِضةِ، وَلا تَأكلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإنهَا لهم في الدنيا ولكم في الآخرة".
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال عن لُبس الحرير والديباج، لما في لبسهما- للذكَر- من الميوعة والتأنث، والتشبه بالنساء الناعمات المترفات.
والرجل يطلب منه الخشونة، والقوة، والفتوة.
كما نهى كُلا من الرجال والنساء عن الأكل والشرب في صِحَاف الذهب والفضة وآنيتهما، لما في ذلك من السرف، والفخر، والخيلاء، وكسر قلوب الفقراء الذين لا يجدون رخيص النقد لقضاء الضروري من حاجاتهم، ولما فيه من تضييق النقدين على المتعاملين.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: إن الأكل فيهما في الدنيا للكفار الذين تعجلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا. واستمتعوا بها.
وهي لكم- أيها المسلمون خالصة- يوم القيامة إذا اجتنبتموها خوفاً من الله تعالى وطمعا فيما عنده.
كما أن من لبس الحرير من الرجال في الدنيا، فقد تعجل متعته، ولذا فإنه لن يلبسه في الآخرة.
(ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه) والله شديد العقاب.
ما يستفاد من الحديثين:
1- تحريم لبس الحرير والديباج على الذكور، والوعيد الشديد على من لبسه.(1/729)
2- يباح للنساء لبسُه، لكونهن في حاجة إلى الزينة للأزواج. وحِله للنساء، وتحريمه على الرجال، بإجماع العلماء.
3- تحريم الأكل والشرب في صحاف الذهب والفضة وآنيتهما، للذكور والإناث، لكونهما للكفار في الدنيا، وللمسلمين في الآخرة، ولما ذكرنا من العلل في الشرح.
4- الحق العلماء بالأكل والشرب سائر الاستعمالات، وجعلوا ذكر الأكل والشرب في باب التعبير بالغالب، كقوله تعالى: {إن الذِين يَأكُلُون أمْوَالَ اليَتَامَى ظُلماً إنما يأكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارا} وهو عام لجميع الاستعمالات والاستيلاء.
5- يجرى في هذا الوعيد ما تقدم من كلام شيخ الإسلام (ابن تيميه) من أن الأشياء لا تتم إلا باجتماع شروطها وانتفاء موانعها، وإلا فإن ظاهر الحديث الخلود في النار للابس الحرير.
الحديث الثالث (1)
عَنْ عُمَرَ بن الْخَطاب رَضيَ الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ لُبس الحَرِيرِ إلا هَكَذَا. (وَرَفَعَ لَنَا رَسُولُ اللَه صلى الله عليه وسلم إصْبَعَيْهِ السبابةَ وَالوسطَى) .
ولـ (مسلم) : نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ لُبس الْحَرِير، إلا مَوضِعَ إصبعَينِ أو ثَلاثٍ أو أربع.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه تحريم لبس الحرير، على الرجال دون النساء.
2- فيه استثناء قدر الإصبعين أو الثلاث أو الأربع، إذا كان تابعا لغيره.
أما المنفرد، فلا يحل منه، قليله ولا كثيره كخيط مسبحة، أو ساعة أو نحو ذلك.
الحديث الرابع
عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: مَا رَأيْتُ مِنِ ذِي لِمَّةِ في حُلَّةٍ حَمْرَاءَ أحَسَنَ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، له شَعَرٌ يَضْرِبُ إلَى مَنْكِبَيْهِ، بَعِيدُ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، لَيْسَ بِالْقَصِيِرِ وَلا بِالطَّوِيلِ.
_________
(1) هذا الحديث- حسب ترتيب المصنف- هو " 397 " وقدمته لأنه كالاستثناء من الحديثين السابقين، فالأولى أن يليهما- اهـ- شارح.(1/730)
الغريب:
اللمة: بكسر اللام قال في الصحاح: اللمة- بالكسر- الشعر يتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغ المنكبين فهو (جُمة) سميت (لمة) لأنها ألمت بالمنكبين.
ما يستفاد من الحديثين:
1- فيه جواز لبس الأحمر، وقد ورد النهي عنه، فحمله العلماء على محامل.
أحسنها ما قاله (شمس الدين بن القيم) : [إن المراد بالأحمر الذي لبسه النبي صلى الله عليه وسلم، الحبرة. وهو الذي فيه أعلام حمر، وأعلام بيض، وليس المراد الأحمر الخالص الذي نهى عنه] .
2- وفيه دليل على حسن توفير الرأس حتى يبلغ المنكبين أو فوقهما أو تحتهما قليلا، ففيه جمال واقتداء، وليس منه ما يفعله بعض الشباب اليوم برؤوسهم بقص بعضه وترك البعض الآخر، تلك المثلة التي يسمونها
[التواليت] فهذه بدعة مستقبحة ومثله مستبشعة، وهو القزع المكروه. ولكنه عمل الفرنج والمتفرنجة، وكفى بهم قدوة عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقِه وخُلُقِه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
3- في الحديث بيان خلْقِ النبي صلى الله عليه وسلم الظاهر من حسن الشعر ورحابة الصدر، وحسن القامة.
وحسن الْخَلْقِ عنوان حسن الْخلُق، وقد كمله الله تعالى بهما، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
الحديث الخامس
عَن البَرَاءِ بن عَازِبٍ رَضي الله عنهُ قَالَ: أمَرَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِسَبْع، ونَهَانَا عَنْ سَبْع: 1- أمَرَنَا بعِيَادَةِ المَرِيض، 2- واتباعِ الْجَنَازَةِ، 3- وَتَشمِيتِ العَاطِس، 4- وَإبرارِالقسم (أوالمُقسم) ، 5- وَنَصْرِ المَظْلُوم، 6- وَإجَابَةِ الداعِي، 7- وَإفشَاءِ السلام.
وَنَهَانا: 1- عَنْ خَوَاتِمِ (أوْ عَنْ التَّخَتَّم) بِالذهَب، 2- وَعَنْ الشربِ بِالفِضةِ، 3- وَعَن المَيَاِثرِ، 4- وَعَن القسِّيِّ، 5- وَعَنْ لبس الحَرِيرِ، 6- والإستبرق، 7- والدِّيباج.(1/731)
الغريب:
تشميت العاطس: بالشين المعجمة. قال ابن فارس في (مقاييس اللغة) [الشين والميم والتاء] أصل صحيح، ويشذ عنه بعض ما فيه إشكال وغموض. فالأصل فرح عدو ببلية تصيب من يعاديه. والذي فيه إشكال وغموض، تسميتهم تشميت العاطس، وهو ما يقال عند عطاسه (يرحمك اللَه) تشميتا. قال الخليل: تشميت العاطس، دعاء له. وكل داع لأحد بخير فهو مشمت له. هذا أكثر ما بلغنا في هذه الكلمة، وهو- عندي- من الشيء الذي خفي علمه. ولعله كان يعلم قديماً، ثم ذهب بذهاب أهله. اهـ. كلام ابن فارس.
وقال ثعلب: [معناه- بالمعجمة- أبعد الله عنك الشماتة] .
المياثر: بفتح الميم بعدها ياء، ثم ثاء مثلثة، جمع (مثيرة) بكسر الميم، مأخوذ من الوثار، قلبت الواو- لسكونها وانكسار ما قبلها- ياء. وهي مراكب تتخذ من الحرير والديباج. وسميت (مياثر) لوثارتها ولينها.
القَسى: بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، ثياب خز، تنسب إلى (القس) قرية في مصر.
وبعض المحدثين، يكسر القاف، ويخفف السين. قال الخطابي: وهو غلط لأنه جمع قوس، وإنما هي ثياب مضلعة، يؤتى بها من مصر والشام.
الإستبرق: بكسر الهمزة: ما غلظ من الديباج، كلمة فارسية نقلت إلى العربية.
المعنى الإجمالي:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتم مكارم الأخلاق، ولذا فإنه يحث على كل خلق وعمل كريمين، وينهى عن كل قبيح.
ومنْ ذلك ما في هذا الحديث من الأشياء التي أمر بها وهي، عيادة المريض التي فيها قيام بحق المسلم، وترويح عنه، ودعاء له. واتباع الجنازة، لما في ذلك من الأجر للتابع والدعاء للمتبوع، والسلام على أهل المقابر، والعظة والاعتبار.
وتشميت العاطس، إذا حمد الله فيقال له: يرحمك الله.
وإبرار قسم المقسم، إذا دعاك لشيء وليس عليك ضرر، فتبر قسمه، لئلا تحوجه إلى التكفير عن يمينه، ولتجيب دعوته، وتجبر خاطره، وتتم دالته عليك.
ونصر المظلوم من ظالمه، لما فيه من رد الظلم، ودفع المعتدى، وكفه عن الشر، والنهي عن المنكر.
وإجابة من دعاك لأن في ذلك تقريبا بين القلوب، وتصفية النفوس، وفي الامتناع، الوحشة، والتنافر.
فإن كانت الدعوة لزواج، فالإجابة واجبة، وإن كانت لغيره، فمستحبة.(1/732)
وإفشاء السلام، وهو إعلانه وإظهاره لكل أحد، وهو أداء للسنة، ودعاء للمسلمين من بعضهم لبعض، وسبب لجلب المودة.
فقد جاء في الحديث "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام ببينكم".
أما الأشياء التي نهى عنها في هذا الحديث، فالتختم بخواتم الذهب للرجال، لما فيه من التأنث والميوعة، وانتفاء الرجولة التي سيماها الخشونة.
وعن الشرب بآنية الفضة، لما فيه من السرف والبطر، وإذا منع الشرب مع الحاجة إليه فسائر الاستعمالات أولى بالمنع والتحريم.
وعن المياثر، والقسي، والحرير، والديباج، والإستبرق، وأنواع الحرير على الرجال.
فإنها تدعو إلى اللين والترف اللذين هما سبب العطالة والدعة.
والرجل يطلب منه النشاط والصلابة والفتوة، ليكون دائماً مستعداً للقيام بواجب الدفاع عن دينه وحرمه ووطنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- استحباب عيادة المريض وتجب إذا كان يجب بره. كالوالدين، أو كان يترتب على تركه مفسدة.
2- استحباب اتباع الجنائز للصلاة عليها ودفنها، وهو فرض كفاية: يسقط مع قيام من يكفى، وإلا أثم من علم بحاله وقدر عليه فتركه.
ومن تبعها حتى يصلى عليها فله قيراط من الأجر، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان.
ْتشميت العاطس إذا حمد الله بقوله: (ورحمك الله) وهو واجب إلى نهاية ثلاث مرات، وبعدهن يدعو له بالشفاء.
4- إبرار قسم المقسم، وهو من مستحب، لما فيه من جبر القلب وإجابة طلبه في غير إثم.
5- وفيه وجوب نصر المظلوم بقدر استطاعته، لأنه من النهي عن المنكر. وفيه رد للشر، وإعانة المظلوم، وكف الظالم.
6- إجابة الدعوة. فإن كانت لعرس وجبت الإجابة إن لم يكن ثَمَّ منكر لا يقدر على إزالته وإن كانت لغيره من الدعوات المباحة استحبت.
وتتأكد بما يترتب عليها من إزالة ضغينة، أو دفع شر.
7- إفشاء السلام بين المسلمين، لأنه دعاء بالسلامة، وعنوان على المحبة والإخاء.
8- النهي عن تختم الرجال بخواتم الذهب، فهو محرم.
وقد ابتلى به كثير من الشباب المائع.(1/733)
9- النهي عن الشرب بآنية الفضة، وأعظم منه الذهب، وألحق به سائر الاستعمالات، إلا للسلاح.
10- النهي عن لبس القسي والحرير، والإستبرق، والديباج للرجال.
ومثله جعل المياثر للجلوس، وكذلك جعلها ستورا للأبواب أو الحيطان ونحو ذلك. فهو محرم. وكذا ما فيه صور الحيوانات والصلاة باطلة بلبس الحرير للرجل وبلبس ما فيه صور، للرجال والنساء.
الحديث السادس
عَنِ ابْن عُمَرَ رضيَ اللَه عَنْهمَا: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اصْطَنَعَ خَاتِماً مِن ذهب، فَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ في بَاطِنِ كَفِّهِ إذَا لَبِسَه، فَصَنَعَ النَاسُ
مِثْلَ ذلِكَ. ثُم إَّنهُ جَلَس عَلَى المِنبرِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ: "إني كُنْتُ ألبِس هَذَا الْخَاتِمَ وَأجْعَلُ فصه مِن داخِل" فرَمَى بِهِ ثُمَّ قَالَ: "والله لا ألْبَسُهُ أبَداً".
فَنَبَذَ النَّاسُ خَواتِيمَهُمْ؛ وفي لفظ "جَعَلَهُ في يَدِهِ اليمنَى".
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على استحباب التختم، وأنه من زينة النبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن يجعل فصه من قبل الراحة ليقبض عليه في المحال القذرة، إذا كان فيه اسم الله تعالى.
3- أن التختم بخاتم الذهب كان مباحاً للرجال أولا، ثم نسخ.
4- تحريم التختم بخاتم الذهب للرجال، ونزع النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم الذهبي ورميه به وقسمه ألا يلبسه أبداً.
5- فضل الصحابة، وسرعة اقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، إذ نزعوا خواتيمهم ساعة نزع خاتمه صلى الله عليه وسلم.
6- أن يكون التختم باليد اليمنى، لأن اليمين لكل طيب، والشمال معدة لمباشرة الأشياء غير المسَتطابة.
7- في هذا وأمثاله من الأحاديث المتقدمة وغيرها، الزجر عن لبس خواتم الذهب، وبيان أن عمل كثير من الناس اليوم بتختمهم بالذهب مناف للشرع.(1/734)
كِتابُ الجِهَاد
الجهاد: بكسر اليم، أصله- لغة- المشقة، يقال: جاهدت جهاداً، أي بلغت المشقة.
وشرعاً: بذل الجهد في قتال الكفار والبغاة، وقطَّاع الطريق.
ومشروعيته بالكتاب، والسنة، والإجماع.
وقد تكاثرت النصوص في الأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه. وسيأتي شيء منها إن شاء الله تعالى.
وهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي، سقط عن الباقين، وإلا أثموا جميعا مع العلم والقدرة، إلا في ثلاثة مواضع فيكون فرض عين.
الأول: إذا تقابل الفريقان، تعين يحرم الانصراف.
الثاني: إذا نزل العدو البلد وحاصرها، تعينت مقاومته.
الثالث: إذا استنفر الإمام الناس استنفارا عاماً، أو خص واحدا بعينه، لقوله تعالى: {يا أيُّها الذين آمَنُوا مَا لكم إذَا قِيلَ لَكُمُ انْفروا في سَبِيلِ الله اثَّاقلتم إلَى الأرض} .
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنفرتم فانفروا".
قال العلماء: ويطلق الجهاد على مجاهدة النفس والشيطان والفساق، فأما مجاهدة النفس، فعلى تعلم أمور الدين، ثم على العمل بها، ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات، وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد واللسان والمال والبدن وأما مجاهدة الفساق فباليد ثم اللسان ثم بالقلب.
طبيعة الحرب في الإسلام:
ذهب بعض الغربيين المبشرين: إلى أن الإسلام قام على العنف والعسفِ، وانتشر بالسيف وإراقة الدماء، واعتمد على القسر والإكرا5 في الدخول فيه.
والجواب: أن نقول: هذا زعم خاطئ، وهو ناشئ، إما من جهل في الدين الإسلامي وفتوحاته وغزواته ونصوصه، وإما ناشئ عن عصبية وعداء لهذا الدين. فهم يريدون تبشيعه والتنفير منه.(1/735)
والحق أنه ناشئ من الأمرين جميعاً، لاًن الدين الإسلامي قام على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ونادى بالسلام، ودعا إليه، فإن السلام مشتق من الإسلام.
ومن تتبع نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي منها وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأمراء جيوشه، ومنها سيرته صلى الله عليه وسلم في الغزوات، علم أن الإسلام جاء بالحكمة، وللرحمة، والسلام، والوئام، وأنه جاء بالإصلاح لا بالإفساد.
اقرأ قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدينِ قَدْ تبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغيِّ} وقرأ قوله تعالى: {وَلَو شَاء ربُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرْض كُلهم جَمِيعاَ. أفأنتَ تُكرِهُ النَّاسَ حَتىَّ يَكُونُوا مُؤمِنِينَ} ؟.
واقرأ قوله تعالى: {لا ينهَاكُمُ الله عَنِ الَذِينَ لَمْ يقاتلوكم فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دياركم أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ الله يُحِب الْمُقْسِطِينَ} وقوله تعالى: {قَاتِلُوا في سَبِيلِ الله الَذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تعتدوا} .
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة.
وأما السنة فكل أعمال النبي صلى الله عليه وسلم في الحرب، ووصاياه لقواده، ناطقة بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم في حديث بريده الذي في (مسلم) كان إذا أمَّر أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا.
ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، من كفر بالله ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ".
ونهى صلى الله عليه وسلم: " عن قتل النساء والصبيان " متفق عليه.
وقال صلى الله عليه وسلم: " اخرجوا باسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ". وقال: "ولا تقتلوا شيخاً فانياً".
وأوصى أبو بكر الصديق يزيد بن أبي سفيان، حين بعثه أميرا على ربع من أرباع الشام بقوله:
" إنِّي موصيك بعشر خلال:1- لا تقتلوا امرأة. 2- ولا صبياً.
3- ولا كبيراً هرماً. 4_ ولا تقطع شجرا مثمرا. 5_ ولا تخرب عامراً. 6- ولا تعقرن شاة.(1/736)
7- ولا بعيراً إلا لمأكله. 8- ولا تغرقن نخلا ولا تحرقه. 9- ولا تغلل. 10- ولا تجبن " رواه مالك في الموطأ.
وقال ابن الأنبارى- عند قوله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدينِ} معنى الآية: ليس الدين ما يدين به من الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، فتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المعتقد في القلب.
ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، تبين له أنه لم يكره أحداً على دينه قط. وأنه إنما قاتل من قاتله.
وأما من هادنه فلم يقاتله مادام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده. بل أمره الله تعالى أن يفي لهم بعهدهم ما استقاموا له، كما قال تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكم فاستقيموا لَهُم} .
ولما قدم المدينة، صالح اليهود وأقرهم على دينهم.
فلما حاربوه، ونقضوا عهده، غزاهم في ديارهم، وكانوا هم يغزونه قبل ذلك، كما قصدوه يوم (أحد) ويوم (الخندق) ويوم (بدر) أيضاً هم جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه، لم يقاتلهم.
والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم لم يكره أحداً على الدخول في دينه البتة. وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعاَ.
فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقا. وقال ابن كثير عند قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام، فإنه بَين واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه.
بل من هداه الله للإسلام، وشرح صدره، ونور بصيرته، دخل فيه على بينة.
ومن أعمى اللَه قلبه، وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً.
وكلام العلماء المحققين في هذا الباب كثير، وهو الذي يفهم من روح الإسلام ومبادئه ومقاصده.
ولكن أعداء الإسلام يأبون إلا أن يصفوه بما يشوهه ويشينه، للتضليل والتنفير.
وغزواته صلى الله عليه وسلم، التي فتحت القلوب والعقول، وحمل عليها الدفاع عن العقيدة المهددة، ومعاملاته، ومعاهداته، ودعوته بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، تدحض تلك المزاعم فإن ربك أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
وقد بين ذلك ابن القيم في كتاب زاد المعاد حيث قال:
فصل: في ترتيب سياق هديه مع الكفار والمنافقين من حين بعث إلى حين لقي ربه عز وجل.(1/737)
أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق، وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بالتبليغ.
ثم نزل عليه {يا أيها المدثر قم فأنذر} فنبأه بقوله: {اقرأ} وأرسله بـ {يا أيها المدثر} ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حوله من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ... ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذن له في الهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. اهـ.
قلت: ويعلم من المرحلة الأخيرة في القتال وجوب قتال الكفار ومهاجمتهم
بعد دعوتهم والأعذار إليهم حتى تكون كلمه الله هي العليا، وإن قتال الكفار في الإسلام ليس مدافعة فقط، بل هو حركة جهادية حتى يكون الدين كله للَه.
نسأل الله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، إنه قوي عزيز.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ أبى أوْفَى رَضي الله عَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في أيامه الَّتي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوَّ، انتظَرَ حَتَّى إذَا مَالتِ الشَّمس قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ:
{يا أيها النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، واسألوا الله الْعَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِروُا وَاعْلَمُوا أنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السيوفِ} .
ثُمَّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم: "اللهم مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اِهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ".
المعنى الإجمالي:
ينهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن تَمَنى لقاء العَدُوِّ، لما في ذلك من العجب والغرور واحتقار الأعداء وازدرائهم، الذي هو انتفاء للحيطة والحزم المطلوبين.
وأمرهم أن يسألوا الله تعالى العافية، وهي السلامة من مكروهات الدنيا والآخرة، ومنها لقاء الأعداء.
ثم بيَّن أسباب النصر- إذا ابتلوا بعدوهم- وهي الثبات والصبر وتَحرى القتال في أوقات البرد بعد الزوال، فإنَِّّه وقت هبوب الرياح وفي ذلك تنشط الأجسام ويحين وقت النصر، وأن لا يتكلوا على قُوَّتِهم وعدتهم، بل يسألوا الله تعالى العون والنصر وَخَذلَ الأعداء.
ثم ذكر دعاء مناسباً لذلك الموطن، فتوسل إلى الله تعالى بكونه مُنْزِلَ الكتاب الذي سن القتال، لإظهار شعائره وأحكامه، وهو توسل بنعم الدِّين،(1/738)
وإجرائه السحاب الذي هو نعمة الدنيا فيها شاملا به لنعم الدنيا والآخرة، وكما أنعمت بنصرنا وَهَزْم أعدائنا يوم الأحزاب، فانصرنا، فنحن نقاتل اليوم على ما نقاتل عليه في ذلك اليوم، فاهزمهم وانصرنا عليهم.
فهذه أسباب النصر- ببيان الوقت المناسب، والدعاء المناسب، ودفع الشر، بتركه والصبر عند حلوله- أرشد إليها القائد الأعظم صلى الله عليه وسلم.
ثم بين فضيلة من فضائل الجهاد، وهى أنه من أقرب الأسباب لدخول الجنة، لأنه إرخاص للنفس والنفيس في سبيل الله تعالى.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحين مناسبة الوقت للقتال.
والأولى أن يكون في أول النهار، فإن لم يمكن، فبعد الزوال. كما جاء في حديث آخر (كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تهب الرياح وتحضر الصلاة) .
2- كراهة تَمنِّى القتال ومصادمة الأعداء، لأنَّ المتمنِّي ما يدرى ما عاقبة الأمر، وأيضاً دليل الغرور والعجب، وهو عنوان الخذلان، ودليل احتقار العدو وهو عنوان قلة الحزم والاحتياط،
3- سؤال العافية، وهي شاملة لعافية الدين والدنيا والأبدان.
4- الصبر عند لقاء العدو، لأنه السبب الأكبر في الظفر والانتصار.
5- فضيلة الجهاد، وأنه سبب قريب في دخول الجنة.
وفي قوله: [ظلال السيوف] إشارة إلى الإقدام والدنو من العدو، حتى تظلله سيوفهم ولا يُوَلًى عنهم. قال القرطبي: هو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من المبالغة مع الو جازة وعذوبة اللفظ.
6- الدعاء بهذه الدعوات المناسبات، عند لقاء الأعداء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
الحديث الثاني
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عَنْهُ: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " رِبَاطُ يَوْم، في سَبِيلِ الله خير مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيْهَا، وموضع سَوْطِ أحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيا وَمَا عَلَيْهَا، والروحة يروحها العَبْدُ في سَبِيلِ الله أوِ الغدوة، خير مِنْ الدنيا وَمَا فِيهَا ".(1/739)
الغريب.
رباط يوم في سبيل الله: الرباط: بكسر الراء، وفتح الباء الموحدة الخفيفة، هو ملازمة المكان الذي بين المسلمين والكفار، لحراسة المسلمين منهم.
سَوْط: بفتح السين وسكون الواو، أداة ضرب، فوق القضيب،: ودون العصا.
الروحة: بفتح الراء، السير من الزوال إلى الليل. ويراد بها المرة الواحدة.
الغَدْوَة: بفتح الغين، السير في أول النهار إلى الزوال، ويراد بها المرة الواحدة.
المعنى الإجمالي:
يبيِّن النبي صلى الله عليه وسلم فضل المرابطة في سبيل الله، بأن ثواب مرابطة يوم، خير من الدنيا وما فيها، لما في ذلك من حراسة المسلمين والإقامة في وجوه الأعداء، الذين يتربصون الدوائر والفرص بالمسلمين، فيهجمون عليهم،: لما فيها من المخاطرة بالنفس لحفظ المسلمين وصيانتهم من عدوهم.
ثم يبين صلى الله عليه وسلم حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة ليزهدهم فيها، رغبهَ فيما عنده، فيرخصوا أنفسهم في سبيله وفي سبيل إعزاز دينه.
فموضع السوط فيها، خير من الدنيا وما فيها، لأن هذه فانية، وتلك باقية، ولأن هذه منغِّصة، وتلك منعِّمة، ولأن ما في المتاع والنعيم، لا يقارن بنعيم تلك الدار، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وثواب الروحة أو الغدوة في سبيل الله مرة واحدة، خير من الدنيا وما فيها، لما للمجاهد من عظيم الأجر وجزيل الثواب، لأن المجاهدين باعوا أنفسهم الغاليةْ لله تعالى بثواب الجنة، وأرخصوها في ابتغاء مرضاته، إعلاءً لكلمته، وإظهاراً لدينه، ليغفر لهم ذنوبهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- فضل الرباط في سبيل الله، لما فيه من المخاطرة بالنفس، بصيانة الإسلام والمسلمين.
لذا فإن ثواب يوم واحد، خير من الدنيا وما فيها.
2- حقارة الدنيا بالنسبة للآخرة، لأن موضع السوط من الجنة، خير من الدنيا وما فيها.
ولو لم يكن بينهما إلا أن هذه فانية، وتلك باقية، فإن الرغبة في الباقي، وإن كان خزفاً، خير منْ الفاني، وإن كان صدفاً.
كيف والفاني هو الخزف، والباقي هو الصدف.(1/740)
3- فضل الجهاد في سبيل الله، وعظم ثوابه، لأن ثواب الروحة الواحدة أو الغدوة، خير من الدنيا وما فيها.
4- رتب هذا الثواب العظيم على الجهاد لما فيه من الخاطرة بالنفور، طلباً لرضا الله تعالى، ولما يترتب عليه من إعلاء كلمة الله ونصر دينه، ونشر شريعته، لهداية البشر، فهو ذرْوَةُ سنام الإسلام، كما في حديث (مُعاذ بن جبل) .
الحديث الثالث
عَنْ أبي هريرة رضي الله عَنْهُ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "انتدَبَ الله (ومسلم: تَضمَّنَ الله) لِمَنْ خرج في سَبِيلهِ، لا يُخْرِجُهُ إلا جهاد في سَبِيله، وَإيمَان بي، وَتَصْدِيق بٍرَسُولي، فَهُوَ عَلَىَّ ضَامِن أنْ ادْخِلَهُ الْجنَّة أوْ أرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِه الَذِي خَرَجَ مِنْهُ، نَائِلا مَا نَالَ مِنْ أجْر أو غَنِيمَةٍ.
الغريب:
إلا جهاد: مرفوع، هو وما بعده. وقد جاء منصوباً في (صحيح مسلم) على أنه مفعول لأجله، أي لا يخرجه الخروج إلا للجهاد. وأما كونه منصوباَ، فلأنه معطوف على قوله (أن أدخله الجنة) من أجر أو غنيمة: (أو) بمعنى (الواو) . وقد رواها أبو داود (بالواو) وفي بعض طرق (مسلم) أيضاً.
ضامن: بمعنى مضمون، نحو عيشة راضية، أي مرضية، فهو فاعل بمعنى مفعول.
أو أرجعه: بفتح الهمزة، وكسر الجيم، ونصب العين. لأن ماضيه ثلاثي، بدليل {رب ارجعوني} بوصل الهمزة. وعليه فيكون الغازي القائم، يرجع بالأجر أيضاً.
انتدب الله: قال ابن الأثير: ندبته فانتدب، أي بعثته فانبعث، ودعوته فأجاب.
المعنى الإجمالي:
ضمن الله تعالى والتزم- كرماً منه وفضلا- أن من خرج يقاتل في سبيله مخلصاً نيته عن الأغراض الدنيوية، من غنيمة، أو عصبية، أو شجاعة، أو حُب للشهرة، أو الذكر. بل لمجرد الإيمان بالله تعالى الذي وعد المجاهدين بالمثوبة، وتصديقا برسله الذين بلغوا عنه وعده الكريم،(1/741)
فاللَه ضامن له دخول الجنة، إن قتل أو مات في سبيله. أو يرجعه إلى مسكنه وأهله نائلا الأجر العظيم، أو حاصلا له الحسنيان، الأجر والغنيمة. والله لا يخلف الميعاد.
ما يستفاد من الحديث:
1- جود الله تعالى وكرب، إذ ألزم نفسه بهذا الجزاء الكبر للمجاهدين.
2-. فضل الجهاد في سبيل الله، إذ تحقق ربحه العظيم.
فإما الشهادة العظمى التي تنيل صاحبها المقامات العالية مع النبيين والصد يقين.
وإما الرجوع إلى مسكنه بجزيل الحسنات، وتكفير السيئات.
وإن كان معه غنيمة، فذلك فضل الله، يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
3- قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على أنه لا يحصل هذا الثواب إلا لمن صحت نيته وخلصت من شوائب إرادة الأغراض الدنيوية.
وقال الطبري-: إذا كان أصل الباعث هو إعلاء كلمة الله فلا يفره ما عرض له بعد ذلك.
الحديث الرابع
ولـ (مسلم (1) مَثَلُ المجاهدين في سَبِيل الله- والله أعْلمُ بَمنْ يُجَاهِدُ في سبِيله- كَمَثَلِ الصَّائِمِ القَائِمِ. وَتوَكَّلَ الله لِلْمُجَاهِدِ في سَبِيِلهِ- إن تَوَفَّاهُ- أنْ يدْخِلَهُ الجَنَّةَ، أو يَرجِعَهُ سَالِماً مَعَ أجْرٍ أو غَنيمَةٍ ".
المعنى الإجمالي:
بيَّن صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد الخالص لوجه الله تعالى، بأن من جاهد في سبيله لقصد الجهاد وإعلاء كلمة الله تعالى- والله مطلع على سرائره فيعلم المخلص من غيره- فأجره كأجر الذي أحيا ليله بالقيام، ونهاره بالصيام، لأن المجاهد لا يزال في عبادة في قيامه وقعوده، وسره وإقامته، ويقظته ونومه. فهو في عبادة مستمرة، لا يدركه إلا الذي شغل وقته كله بالعبادة، مع فرق ما بين العبادة القاصرة، كالصلاة، والصيام، والعبادة المتعدى نفعها، كالجهاد.
فهذا الذي خرج مجاهداً في سبيل الله بإخلاص، قد كفل الله له الجنة، إن قتل أو مات في سبيله، أو الرجوع بالأجر والغنيمة.
_________
(1) قوله: ولمسلم إلخ هذه الزيادة التي عزاها لمسلم ليست فيه وإنما هي في البخاري بطولها في "باب افضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله ".(1/742)
الحديث الخامس
عَنْ أبي هُريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِن مَكْلُوم يُكلَمُ في سبيل الله إلا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلمُهُ يَدْمَى، الَلونُ لونُ الدم، وَالريحُ ريحُ المِسكِ".
الغريب:
مَكْلُوم: بفتح الميم وسكون الكاف، اسم مفعول من (كَلَمَ) و (الكلم) الجرح. فمعناه: مجروح.
المعنى الإجمالي:
يُبَينُ النبي صلى الله عليه وسلم فضل الجهاد في سبيل الله تعالى وما ينال صاحبه، من
حسن المثوبة، بأن الذي يجرح في سبيل الله فيقْتَلُ أو يبرأ، يأتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بِوِسَام الجهاد والبلاء فيه، إذ يجيء بجرحه طَريّاً، فيه لون الدم، وتتضوع منه رائحة المسك،
فقد أبدله الله تعالى بِهَوانِ أذَى الأعداء شرف الفخر والعزة على أنظار الأولين والآخرين، وبإراقة دمه أن أبدله مسكا، يتأرَّج شذاه، وتفوح ريحه الزكية. والله ذو الفضل العظيم.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه فضل الجهاد، وقد كثرت فضائله، وتعدد ثوابه، لما فيه من عز الإسلام.
2- فضل الشهادة في سبيل الله، وكيف يجازي صاحبها، وفيه فضل الجراحة في سبيل الله، فهي أثر من طاعته ومجاهدة أعدائه.
3- هذا الفضل والفخر، الذي يتميز به المجروح يوم القيامة.
الحديث السادس
عَنْ أبي أيوب الأنصاري رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "غَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ الله أوْ رَوْحَة خَير مِما طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمسُ وَغرَبَتْ".
الحديث السابع
عَنْ أنس بْنِ مَالِكٍ رَضَي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "غَدْوَةٌ في سبيل الله أوْ رَوْحَة خَيرٌ منَ الدُّنيا وَمَا فِيهَا".(1/743)
المعنى الإجمالي:
تقدم معنى هذين الحدثين اللذين أبانا فضل الجهاد القليل في سبيل الله، فكيف بالكثير، ومصابرة الأعداء؟!.
وينبغي أن يعلم أن طلب العلم الشَّرعي نوع عظيم من الجهاد في سبيل الله، وأن الانتصار للحق، ودحض حجج الزنادقة والملحدين والغربيين المبشرين الذين يحاربون الإسلام، ويريدون القضاء عليه، هو من أعظم الجهاد في سبيل الله.
فالقصد من الجهاد، إظهار الإسلام ونصره، فكَبتُ هؤلاء، من الجهاد الكبير العظيم. اللهم وفق المسلمين لنصر دينهم، وإعلاء كلمتك. إنك قريب مجيب.
الحديث الثامن
عَنْ أبي قَتَادَة الأنصاري رضي الله عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن (ويذكر قصة) فَقَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ قَتيلاً- لَهُ عَلَيْهِ بينة- فَلَهُ سَلَبهُ" قالها ثلاثاً.
الحديث التاسع
عَنْ سَلَمَةَ بْن الأكْوَعِ رَضَي الله عَنْهُ قَالَ: أتىَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَين مِنْ المشرِكِين- وَهُوَ في سَفر- فَجَلَسَ عِنْدَ أصْحَابِهِ يَتَحَدَّثُ، ثُمَّ انفَتَلَ. فَقَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: "اُطلْبوهُ، واقْتلوهُ" فَقَتَلْتُهُ، فَنَفلَني سَلَبَهُ.
وفِى روايِة فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ الرَجُلَ؟ " فَقَالُوا: ابنُ الأكْوَعِ. فَقَالَ: "لَهُ سَلبه أجْمَع".
الغريب:
سَلَبَهُ: بفتح السين واللام والباء، وهي ثياب المقتول، وسلاحه، ودابته التي، قاتل عليها.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه أن من قتل قتيلاً وأقام على قتله إياه بَينةً، فله سبله الذي تقدم تعريفه
2- أن السلب للقاتل، سواء قاله قائد الجيش قبل القتال أو بعده.
3- إعطاء القاتل سلب قتيله من باب التشجيع والتحمس على قتال الأعداء.
4- قتل العن الذي يبعثه الأعداء ليخبر المسلمين، ويتعرف على أحوالهم، لأن في تركه ضرراً على المسلمين بالإخبار عن حالهم، ومكان الضعف منهم، والدلالة على(1/744)
ثغراتهم
بخلاف الرسل، فإنهم لا يُؤذوْن، لأنهم دعاة سلام وصلة التئام، وهذا من محاسن الإسلام.
الحديث العاشر
عَنْ عَبْد الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: بَعَثَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَرِيةً إلى نَجْدٍ، فخَرَجْتُ فِيهَا، فَأصبْنَا إبلا وَغَنَماً، فَبَلَغَتْ سهماننا اثني عَشَرَ بَعِيراً وَنَفَّلَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بعيِراً بَعِيراً) .
الغريب:
سَريَّةً: بفتح السن المهملة، وكسر الراء، وتشديد الياء: هي القطعة من الجيش. قال في (القاموس) من خمسة إلى أربعمائة.
سُهمَانُنَا: بضم السين المهملة، جمع (سهم) وهو النصيب.
نَفلنا: النفل، بفتح النون والفاء: هو الزياة يعطاها الغازي، زيادة عن سهمه.
ما يستفاد من الحديث:
1- بعث السرايا لإضعاف العدو، ومفاجأته إذا رأى الإمام ذلك مصلحة.
2- حل الغنيمة للغازين الغانمين، وهذا مما خصت به هذه الأمة المحمدية.
3- أن السرية إذا كانت مستقلة، ليست تابعة للجيش، فغنيمتها لها وحدها.
4- جواز تنفيل الغانمين زيادة على أسهمهم، إذا رأى الإمام ذلك مصلحة.
ويكون النفل من الخمس، وبعضهم يرى أنه من أصل الغنيمة.
الحديث الحادي عشر
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رضيَ الله عَنْهُمَا عَنْ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا جَمَعِ الله الأولين والآخرين، يُرْفَعُ لِكل غَادِر لِوَاء، فيقَالُ: هذِهِ غَدرة فُلانِ بن فلانٍ".
المعنى الإجمالي:
من ائتمنك على دم، أو عرض، أو سر، أو مال، فخنته فيه فقد غدرته.
وأعظم الغدر أن يقع من قائد الجيش حي يؤمن عدواً، ثم يأخذه على غِرَّة وغفلة.
ولذا فإن على الغادر الخائن، الذي أخفى خيانته، هذا الوعيد الشديد، إذ يجاء به يوم القيامة، وقد رفع له لواء غدرته، فينادى(1/745)
عليه: هذه غدرة فلان، فينشر خزيه، وفضيحته على رءوس الخلائق جزاء ما أخفى من غدر، ومن خيانة.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الغدر بالمهادَن والمعاهَد.
وأعظم الغدر أن يقع من قائد الجيش، لأن غدرته تنسب إلى الإسلام، فتشَوهُهُ، وَتُنَفر عَنه. بخلاف غدر الأفراد، فهي منسوبة إليهم.
فإن كان بينه وبين الكفار عهد فخاف نَكْثهم، أنذرهم بأنه لا عهد لهم، كما قال تعالى: {وَإما تخافن مِنْ قَوْم خيانة فَانْبِذْ إليهم عَلَى سَوَاءٍ إن الله لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} .
2- ويشمل الغدر المتوعَّد عليه، كل من ائتُمنك على دمٍ، أو عِرْضٍ، أو سِرٍّ، أو مالي فخنته، وأخلفت ظنه في أمانتك.
3- هذا الخزي الشنيع والفضيحة الكبرى للغادر يوم القيامة، لأنه أخفى غدرته وخيانته، فجوزي بنقيض قصده، وعوقب بتشهيره، وهو أعظم من خيانة من ائتمنك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تخن من خانك".
الحديث الثاني عشر
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا: أنَّ امْرَأةً وُجِدَتْ فِي بَعْض مَغَازِي النَّبي صلى الله عليه وسلم َمقْتوُلَةً، فَأنْكَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبيَانِ.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الذي عليه القتل والمقاتلة، هم الرجال المقاتلون من الكفار.
2- أن من لم يقاتل من النساء، والصبيان، والشيوخ الفانين، والرهبان، لا يقتلون، لأن القتل والقتال لدفع أذى الكفار ووقوفهم في وجه الدعوة إلى الإسلام، ما لم يكن هؤلاء النساء والشيوخ، أصحاب رأي ومساعدة على قتال المسلمين فإذا كانوا كذلك فإنهم يقتلون.
وما لم يقتض الرأي رميَ الكفار بما يهلكهم عامة، كالمدافع، وفيهم نساؤهم وصبيانهم، ولا يمكن تمييزهم عنهم، فيرْمَوْنَ وَلو انقتل منهم هؤلاء الضعفاء.(1/746)
الحديث الثالث عشر
عَنْ أنس بْن مالك رضي الله عَنْهُ: أنَّ عَبْدَ الرَّحْمن بنَ عَوفٍ وِالزُّبير بْن العَوام شَكَيَا الْقَمْلَ إلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ لَهُمَا، فرَخَّصَ لهما في قَمِيص الْحَرِيرِ، فَرَأيتهُ عَلَيْهِمَا.
ما يستفاد من الحديث:
1- يؤخذ من قوله: [فرخص] ما تقدم من تحريم الحرير على الذكور.
2- جواز لبسه للحاجة، كالتداوى به عن الحِكَّة أو القمل. وكذلك للتعاظم على الكفار، وإظهار الخيلاء، والعزة والقوة أمامهم، لما فيه من مصلحة توهينهم، فيكون مستثنى مما تقدم من التحريم في الأحاديث السابقة.
الحديث الرابع عشر
عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ أمْوَالُ بَنيِ النَّضِيرِ مِمَّا أفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا لَم يُوجِفِ المسلمون عَلَيْهِ بِخَيْل وَلا رِكَابٍ، وَكَانَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم خَالِصاً.
فَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَعْزِلُ نَفَقَةَ أهلِهِ سَنَةً، ثم يَجْعَلُ مَا بقِي فِي الكُرَاع والسِّلاح عدة في سَبِيلِ الله عَزَّّ وَجَل.
الغريب
بني النضير: بفتح النون وكسر الراء المعجمة، بعدها مثناة تحتية: إحدى طوائف اليهود الذين سكنوا قرب المدينة، فوادَعَهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد قدومه، على أن لا يحاربوه، ولا يعينوا عليه. فنكثوا العهد كما هي عادة اليهود، فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء، على أن لهم ما حملت إبلهم غير السلاح.
مما أفاء الله: الفيء: الرجوع، سمى به المال الذي أخذ من الكفار بغير قتال، لأنه رُدَّ لمصالح المسلمين.
لم يوجف: الإيجاف: الإسراع في السير.
رِكاب: بكسر الراء: هي الإبل.
الكُراع: بضم الكاف، وفتح الراء، بعدها ألف، ثم عين: اسم للخيل.
قال ابن فارس: فأما تسميتهم الخيل كُرَاعاً فلأن العرب تعبر عن الجسم ببعض أعضائه.
المعنى الإجمالي:
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجراً، وجد حولها طوائف من اليهود، فوادعهم وهادنهم، على أن يبقيهم على دينهم، ولا يحاربوه، ولا يعينوا عليه عَدُوا.
فقتل رجل من الصحابة يقال له(1/747)
(عمرو بن أمية الضمرى) رجلين من بنى عامر، يظنهما من أعداء المسلمين.
فتحمل النبي صلى الله عليه وسلم دية الرجلين، وخرج إلى قرية بنى النضير يستعينهم على الديتين.
فبينما هو جالس في أحد أسواقهم ينتظر إعانتهم، إذ نكثوا العهد وأرادوا اهتبال فرصة قتله.
فجاءه الوحي من السماء بغدرهم، فخرج من قريتهم مُوهِماً لهم وللحاضرين من أصحابه أنه قام لقضاء حاجته، وتوجه إلى المدينة.
فلما أبطأ على أصحابه، خرجوا في أثره فأخبرهم بغدر اليهود- قبحَهُمُ الله تعالى- وحاصرهم في قريتهم ستة أيام، حتى تم الاتفاق على أن يخرجوا إلى الشام والحِيرَة وخَيبَرَ.
فكانت أموالهم فَيْئاً بارداً، حصل بلا مشقة تلحق المسلمين، إذ لم يُوجِفُوا عليه بخيل ولا ركاب.
فكانت أموالهم لله ولرسوله، يَدَخِّرُ منها قوت أهله سنة، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين العامة.
وأولاها في ذلك الوقت عُدةُ الجهاد من الخيل والسلاح، ولكل وقت ما يناسبه من المصارف للمصالح العامة.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن أموال بنى النضير صارت فيئا لمصالح المسلمين العامة، إذ حصلت بلا كلفة ولا مشقة تلحق المسلمين المجاهدين.
فكل ما كان مثلها مما تركه الكفار فزعا من المسلمين، أو صولحوا على أنها لنا، والجزية والخراج، فهو لمصالح المسلمين العامة.
2- يكون للإمام منه ما يكفيه ويكفي من يمون. والله المستعان.
3- وأن يتحرى الإمام في صرف الفيء وبيت مال المسلمين المصالح النافعة.
ويبدأ بالأهم فالأهم، ولكل وقت ما يناسبه.
4- جواز ادّخار القوت، وأنه لا ينافى التوكل على الله تعالى فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى المتوكلين، وقد ادخر قوت أهله.
الحديث الخامس عشر
عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قَالَ: أجْرَي النَّبي صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيل مِنَ الْحَفيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأجْرَى مَا لمْ يُضَمرْ مِنَ الثنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَني زُريقٍ.
قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَنْ أجْرَى.
قَالَ سُفْيَان (1) : مِنَ الْحَفْيَاءِ إلَى ثَنيةِ الْوَدَاعِ خَمْسَة أمْيَالٍ أوْ سِتَّة، وَمِنْ ثَنِيه الوَدَاعِ إلَى مَسْجِدِ بني زُريقٍ، مِيل.
_________
(1) قوله: قال سفيان، الخ (لم يخرجه مسلم) .(1/748)
الغريب:
ما ضُمِّر: بضم الضاد وكسر الميم المشددة، مبنى للمجهول. و (المضمرة) هي التي أعطيت العلف، حتى سمنت وقويت، ثم قلل لها تدريجيا، لتخف وتضمر، فتسرع في العدو، وتقوى على الحركة.
الحفْيَاء: بفتح الحاء، وسكون الفاء، ثم ياء، فألف ممدودة: مكان خارج المدينة.
ثنية الوداع: سميت بذلك لأن المسافر من المدينة، يخرج معه إليها المودعون و (الثنية) هي: الطريق في الجبل.
زُرَيْق: بضم الزاي المعجمة، ثم راء مهملة، فياء، ثم قاف: هم بطن من الأنصار.
خمسة أميال: الميل نحو (كيلو مترين) إلا سدساً، وتقدم في مواقيت الإحرام.
المعنى الإجمالي:
كان النبي صلى الله عليه وسلم مستعداً للجهاد، قائماً بأسبابه، عملا بقوله تعالى: {وَأعِدوا لهم مَا استطعتم مِنْ قوةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيلِ ترْهِبُونَ بِهِ عَدُو الله وعدوكم} فكان يضمر الخيل ويمرن أصحابه على المسابقة عليها ليتعلموا ركوبها، والكرّ والفَرّ عليها، ويقدر لهم الغايات التي يبلغها جَرْيُهَا مُضَمرَة وغير مضمرة، لتكون مُدَرَّبة مُعَلَمة، وليكون الصحابة على الأهبة مُدَرَّيِينَ. ولذا فإنه أجرى المضمرة ما يقرب من ستة أميال، وغير المضمرة، وهي التي أثقلها السمَنُ ميلا.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه أحد شباب الصحابة المتعلمين على فنون الحرب.
ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية التمرن وتعلم الفنون العسكرية، والعلوم الحربية، استعدادا لمجابهة العدو.
وهو يختلف باختلاف الأزمنة، فلكل زمن سلاحه وأدوات قتاله. وآلاته وتعالميه.
2- يحتمل أن تكون المسابقة بِعِوَض أو بغيره، وهى جائزة على كلا الأمرين، وإن كانت مع العوض نوعا من القمار، ولكن لما كانت مصلحتها عظيمة أبيحت، فإن القاعدة الشرعية تقول: إذا ترجحت المصلحة على المفسدة وغمرتها، اغتفرت المفسدة لذلك.
3- لا يتقيد هذا بإجراء الخيل، فكل ما أعان على قتال الأعداء من الأسلحة والمراكب، فالمغالبة عليه بِعَوَض جائزة، لحديث (َلا سَبَقَ- أخذ عوض- إلا في نصل أو خف أو حافر) وهذا مذهب جمهور العلماء.
وألحق شيخ الإسلام (ابن تيميه) بها مسائل العلم، فتجوز المراهنة عليها وأخذ العوض، لأنه من الجهاد، ولقصة أبي بكر مع المشركين.
4- أن مثل هذه المسابقة من الرياضة المحمودة التي تنشط الجسم وتقويه، وتعين على الجهاد والقتال، مشروعة محبوبة، لأنها نوع عبادة مع النية الصالحة، لا ما فتِنَ به(1/749)
الشباب اليوم من هذه الرياضات العديمة النفع، العقيمة الخير من [ألعاب الكرة] ونحوها، من التي لا يجنى منها مرونة ولا علم، مع ما فيها من إضاعة للوقت، وترك للواجبات، وأكل لأموال الناس بالباطل.
5- أن يُجعل للمسابقة على الخيل والرمي بالبنادق وغيرهما، أمد مناسب لهما. ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للخيل المضمرة الخفيفة القويهَ، نحو ستة أميال، وللخيل السمان الثقال، ميلا.
الحديث السادس عشر
عَن عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: عُرِضْتُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ (أحُد) ٍ وَأنا ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَة فَلَمْ يُجِزْني في المقاتلة، وَعُرِضْتُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأنا ابْنُ خَمس عَشْرَةَ، فَأجازَني.
ما يستفاد من الحديث:
1- غزوة (أحد) سنة ثلاث من الهجرة، و (غزوة الخندق) سنة خمس فكان ابن عمر في (غزوة أحد) ابن أربع عشرة سنة، صغيراً لم يبلغ، فلم يره يطيق القتال، وفي الخندق ابن ست عشرة سنة، فهو كبير مطيق، فرده في الأولى، وقبله في الثانيَة.
2- أن البلوغ يحصل في تمام الخامسة عشر، أو بإنزال المَني، أو بنبات عانته، وهو الشعر الخشن حول القبل. هذا للذكر.
وتزيد الأنثى بالحيض، فهو علامة البلوغ أيضا، عندها.
3- أنه ينبغي للقائد والأمير، تفقُّدُ رجال جيشه وسلاحهم، لأنه أكمل للأهبة والاستعداد، وهو من الحزم المطلوب في القائد.
فيرد من لا يصلح من الرجال، كالضعفاء والمرجفين، وما لا يصلح من أدوات القتال، كالأسلحة الفاسدة، ويقبل الصالح من ذلك، ويقيم استعراضا لهذا القصد.
الحديث السابع عشر
وَعَنْهُ (يَعْنى ابْنَ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا) أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قسم ني النَّفَلِ لِلْفَرَس. سَهْمَيْنِ وَلِلرجُلِ سَهْمَاً.(1/750)
ما يستفاد من الحديث:
1- النَّفَل: بفتح النون والفاء- يطلق على الغنيمة- كما في قوله تعالى: {يسألونك عَنِ الأنفال، قُلِ الأنفَالُ لله والرسول} والمراد به الغنيمة.
ويطلق على ما يزيده الإمام بعض الغزاة على سُهْمَانِهم. والمراد به، في هذا الحديث، الغنيمة.
2- أن يجعل للفارس من الغنيمة ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه. ويجعل سهم واحد لغير الفارس، وهو الماشي، أو الراكب على غير فرس، من بعير، وبغل وغيرهما.
3- هذا التقسيم بعد إخراج ما يلحق الغنيمة من رَضْخ لغير ذوى الأسهم ونوائبها، وبعد إخراج الخمس منها.
الحديث الثامن عشر
وَعَنْهُ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُنَفِّلُ بَعْضَ مَنْ يبْعَثُ مِنَ السََّراَيَا لأنفُسِهِمْ خاصة، سِوَى قَسْمِ عَامَّةِ الْجَيْش.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا التنفيل هو غير أسهم المجاهدين، بل زيادة يعطونها نافلة لهم على أسهمهم، حسب ما يرى الإمام والقائد من المصلحة. قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دلالة على أن لنظر الإمام مدخلا في المصالح المتعلقة بالمال أصلا وتقديرا على حسب المصلحة.
2- إعطاء بعض الجيش زيادة على أسهمهم أو تخصيص بعض السرايا بزيادة على غيرهم، لقصد المصلحة والترغيب والتشجيع.
3- أن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على أنه لا يخل في إخلاصهم، ولا ينقص من أجرهم، مادام أن المقصد الأول من الجهاد والمخاطرة، هو إعلاء كلمة الله تعالى.
4- قال ابن دقيق العيد: وللحديث تعلق بمسائل الإخلاص في الأعمال وما يضر من المقاصد الداخلة فيها ومالا يضر، وهو موضع دقيق المأخذ، ووجه تعلقه به أن التنفيل للترغيب في زيادة العمل والمخاطرة والمجاهدة، ومن ذلك مداخلة لقصد الجهاد لله تعالى، إلا أن ذلك لم يضرهم قطعاً لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لهم، ففي ذلك دلالة لا شك فيها على أن بعض المقاصد الخارجة عن محض التعبد لا تقدح في الإخلاص، وإنما الإشكال في ضبط قانونها، وتمييز ما يقر مداخلته من المقاصد، وتقتضي الشركة فيه المنافاة للإخلاص، وما لا تقتضيه ويكون تبعا لا أثر له ويتفرغ عنه غير ما مسألة.(1/751)
وقال الصنعانيى: وقد أجمع العلماء على جواز الجمع بين الحج والتجارة، والجمع بين إرادتهما، ونزل في ذلك قوله تعالى: {لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم} .
وذكر أن أصرح من ذلك قوله تعالى: {ومن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنةْ} وبين أنه إذا أراد بذلك الثناء فهو مما يقبح، إلا أن يكون العمل في أصله لله، ثم أحب بعد ذلك أن يثني عليه، فأظهر الاحتمالين أنه لا بأس بذلك ولا حرج فيه.
الحديث التاسع عشر
عَن أبى مُوسَى (عَبْدِ الله بْنِ قيْس) عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَمَل علينا السلاح فَلَيْسَ مِنَّا".
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين إخوة يتألم بعضهم لألم بعضهم الآخر ويفرح لفرحه، وأن كلمتهم واحدة فهم يد على من عاداهم.
فيلزمهم الاجتماع والطاعة لإمامهم، وإعانته على من بغى وخرج عليه، لأن هذا الخارج. شق عصا المسلمين، وحمل عليهم السلاح، وأخافهم.
فيجب قتاله، حتى يرجع ويفئ إلى أمر الله تعالى.
لأن الخارج عليهم والباغي عليهم، ليس في قلبه، لهم الرحمة الإنسانية، ولا المحبة الإسلامية، فهو خارج عن سبيلهم فليس منهم، فيجب قتاله وتأديبه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الخروج على الأئمة، وهم الحكام، ولو حصل منهم بعض المنكر، ما لم يصل إلى الكفر، فإن ما يترتب على الخروج عليهم من إزهاق الأرواح، وقتل الأبرياء، وإخافة المسلمين، وذهاب الأمن، واختلال الِنظام، أعظم من مفسدة بقائهم.
2- إذا كان محرما في حق من يحدث منهم بعض المنكرات، فكيف بحال المستقيمين العادلين؟.
3- تحريم إخافة المسلمين بالسلاح وغيره، ولو على وجه المزاح.
الحديث العشرون
عَن أبى مُوسَى قَالٍ: سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَة، وَيُقَاتِلُ حمِيَّة، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً: أي ذلِكَ فِي سَبِيل الله؟.(1/752)
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَة الله هِي الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الله عَزَّ وَجَل) .
المعنى الإجمالي:
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل اًعداء الدين، ولكن الحامل له على القتال هو إظهار الشجاعة والإقدام أمام الناس.
ويقاتل الآخر حمية لقومه، أو لوطنه.
ويقاتل الرجل رياء أمام أنظار الناس أنه من المجاهدين في سبيل الله المستحقين للثناء والتعظيم.
فأي هؤلاء الذي في سبيل الله قتاله؟.
فأجاب صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة وأجمع معنى، وهي: "أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو الذي في سبيل الله، وما عدا هذا، فليس في سبيل الله، لأنه قاتل لغرض آخر".
والأعمال مترتبة على النيات، في صلاحها وفسادها، وهذا عام في جميع الأعمال فالأثر فيها للنية، صلاحاً وفسادا، وأدلة هذا المعنى كثيرة.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الأصل في صلاح الأعمال وفسادها، النية. فهي مدار ذلك.
2- لذا فإن من قاتل الكفار لقصد الرياء، أو الحمية، أو لإظهار الشجاعة، أو لغير ذلك من مقاصد دنيوية، فليس في سبيل الله تعالى.
3- أن الذي قتاله في سبيل الله، هو من قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى.
4- إذا انضم إلى قصد إعلاء كلمة الله قصد المغنم، فهل يكون في سبيل الله؟.
قال الطبري: لا يضر، وبذا قال الجمهور، مادام قَصْد المغنم قد جاء ضمن النية الصالحة الأولى، وهذا جار في جميع أعمال القرب والعبادات.
قال تعالى: {لَيْسَ عليكم جناح أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ ربكم} يعنى التجارة في سفر الحج.
والصحابة رضي الله عنهم، خرجوا يوم بدر ورغبتهم في عير قريش {وَتَوَدُّونَ أنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكم} .
5- مدافعة الأعداء عن الأوطان والحرمات، من القتال المقدس. ومن قتل فيه، فهو شهيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من قُتِلَ دون ماله فهو شهيد.. الخ".(1/753)
كِتابُ العِتق
العِتق- لغة-: بكسر العين، وسكون القاف.
قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عَتَق الفرس إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ طار واستقل، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء.
وشرعاً: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق، وتثبيت الحرية لها.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.
فأما الكتاب، فمثل قوله تعالى: {فَتَحْرير رَقَبَةٍ مُؤمِنَةٍ} .
وأما السنة، فكثيرة جداً، ومنها ما في الصحيحين عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {من أعتق رقبة مسلمة، أعتق الله بكل عضو منه عُضْواً من النار، حتى فرجه بِفَرْجه} وأحاديث الباب الآتية.
وأجمعت الأمة على صحة العتق وحصول القربة به.
وهنا مبحثان أحدهما- في فضله، والثاني: - في موقف الإسلام من الرق والعتق.
أما فضله، فيكفيك فيه هذا الحديث الصحيح، وما رواه الترمذي عن أبي أمامه وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرئ مسلم أعتق امرءاً مسلما كان فكاكه من النار".
والأحاديث والآثار الحاثة على العتق والمُرَغبة فيه كثيرة.
وقد جعله الله تعالى أول الكفارات لما فيه من مَحْوِ الذنوب، وتكفير الخطايا والآثام، والأجر العظيم، بقدر ما يترتب عليه من الإحسان.
وليس إحسان أعظم من فكاك المسلم من غلِّ الرق، وقيد الملك فبعتقه تكمل إنسانيته بعد أن كان كالبهيمة في تصريفها وتدبيرها.
فمن أعتق رقبة، فقد فاز بثواب اللهْ، والله عنده حسن الثواب.
المبحث الثاني: نعى بعض أعداء الدين الإسلامي إقرار الشريعة الإسلامية الرق الذي هو- في نظرهم- من الأعمال الهمجية جملة.
لذا نحب أن نُبين حال الرق في الإسلام وغيره، ونبين موقف الإسلام منه بشيء من الاختصار، لأن المقام لن يخصص لهذه البحوث.
فالإسلام لم يختص بالرق، بل كان منتشرا في جميع أقطار الأرض.
فهو عند الفرس والروم والبابليين واليونان، وأقره أساطينهم من أمثال (أفلاطون)(1/754)
و (أرسطو) .
وللرق- عندهم- أسباب متعددة في الحرب، والسبي، والخطف، واللصوصية.
بل يبيع أحدهم مَنْ تحت يده من الأولاد، وبعضهم يعدون الفلاحين أرِقاء.
وكانوا ينظرون إلى الأرقاء بعين الاحتقار والازدراء، فكانوا يمتهنونهم في الأعمال القذرة، والأعمال الشاقة.
فـ (أرسطو) من الأقدمين، يرى أنهم غير مخلدين، لا في عذاب، ولا في نعيم، بل هم كالحيوانات.
والفراعنة استعبدوا بني إسرائيل أشع استعباد، حتى قتلوا أبناءهم، واستحيوا نساءهم.
والأوربيون- بعد أن اكتشفوا أمريكا- عاملوا الأمريكيين أسوأ معاملة.
هذا هو الرق بأسبابه وآثاره، وكثرته في غير الإسلام.
ولم نأت إلا على القليل من شنائعه عندهم.
فلننظر الرق في الإسلام.
أولاً: إن الإسلام ضيَّق مورد الرِّق، إذ جعل الناس كلهم أحراراً لا يطرأ عليهم الرق إلا بسبب واحد: (وهو أن يؤسروا وهم كفار مقاتلون مع أن الواجب على القائد أن يختار الأصلح من الرق، أو الفداء، أو الإطلاق بلا فداء، حسب المصلحة العامة.
فهذا هو السبب وحده في الرق، وهو سبب؟ جاء في النقل الصحيح، فإنه يوافق العقل الصحيح أيضاً.
فإن من وقف في سبيل عقيدتي ودعوتي، وأراد الحدَّ من حريتي، وألب عليَّ وحاربني، فجزاؤه أن أمسكه عندي، ليفسح المجال أمامي وأمام دعوتي.
هذا هو سبب الرق في الإسلام، لا النهب، والسلب، وبيع الأحرار واستعبادهم كما هو عند الأمم الأخرى.
ثانياً: أن الإسلام رفق بالرقيق، وعطف عليه، وتوعد على تكليفه. وإرهاقه: فقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله وما ملكت أيمانكم"؟.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضاً: "للمملوك طعامه وقوته؛ ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " رواه مسلم.
بل إن الإسلام رفع من قدر الرقيق حتى جعلهم إخوان أسيادهم.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، ولْيُلْبِسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"، متفق عليه.
ورفع من مقامهم عند مخاطبتهم حتى لا يشعروا بالضَّعَة. ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم عبدي وأمتي(1/755)
وليقل فتاي وفتاتي".
كما أن المقياس في الإسلام لكرامة الإنسان في الدنيا والآخرة، لاِ يرجع إلى الأنساب والأعراق، وإنما يرجع إلى الكفاءات والقيم المعنوية {إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أتْقَاكُمْ} .
وقد بلغ شخصيات من الموالى- لفضل علمهم، وقدرتهم- ما لم تبلغه ساداتهم، إذ قادوا الجيوش، وساسوا الأم، وتولوا القضاء والأعمال الجليلة بكفاءتهم التي هي أصل مجدهم.
ومع ما رفعه الشارع من مقام المملوك، فإن له تشوفا وتطلعا إلى تحرير الرقاب، وفك أغلالهم.
فقد حث على ذلك، ووعد عليه النجاة من النار، والفوز بالجنة، وقد تقدم بعض من ذلك.
ثم إنه جعل لتحريرهم عدة أسباب، بعضها قهرية وبعضها اختيارية.
فمن القهرية، أن من جرح مملوكة عتق عليه.
فقد جاء في الحديث: أن رجلاً جدع أنف غلامه، فقال صلى الله عليه وسلم. "اذهب فأنت حُر".
فقال: يا رسول الله فمولى من أنا؟ قال: "مولى الله ورسوله".
ومن أعتقْ نصيبه من مملوك مشترك، عتق نصيب شريكه قهراً، في الحديث "من اعتق شركا له في مملوك، وجب عليه أن يعتق" رواه البخاري على تفصيل فيه يأتي.
ومن ملك ذا رحم مَحْرم عليه عق عليه قهراً حديث "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" رواه أهل السنن.
فهذه أسباب قهرية تُزِيل ملك السيد عن رقيقه خاصة في هذا الباب، لما له من السراية الشرعية، والنفوذ القوِي الذي لم يجعل في عنقه خيارا ولا رجعة.
ثم إن المشرع- مع حثه على الإعتاق- جعله أول الكفارات في التخلص من الآثام، والتحلل من الأيْمان.
فالعتق هو الكفارة الأولى في الوطء في نهار رمضان، وفي الظهار، وفي الأيمان، وفي القتل.
دين العزة والكرامة والمساواة:
فكيف- بعد هذا- يأتي الغربيُّون. المستغربون فيعيبون على الإسلام إقراره الرق، ويتشدقون بالحرية والمناداة بحقوق الإنسان، وهم الذين استعبدوا الشعوب، وأذلوا الأمم، واسترقوهم في عقرِ دارهم؟ وأكلوا أموالهم، واستحلوا ديارهم؟!
أفيرفعون رؤوسهم، وهم(1/756)
الذين يعاملون بعض الطبقات في بلادهم أدني من معاملة العبيد؟
فأين مساواة الإسلام مما تفعله أمريكا بالزنوج، الذين لا يباح لهم دخول المدارس، ولا تحل لهم الوظائف، ويجعلونهم والحيوانات سواسية؟!
وأين رفق الإسلام وإحسانه، مما يفعله الغرب بأسارى الحرب الذين لا يزالون في المجاهل: المتاهات والسجون المظلمة؟
وأين دولة الإسلام الرحيمة، التي جعلت الناس على اختلاف طبقاتهم وأديانهم وأجناسهم- أمة واحدة في مالَهَا وما عَليها، مما فعلته (فرنسا) المجرمة بأحرار الجزائر، في بلادهم وبين ذويهم؟! إنها دعاوى باطلة.
بعد هذا، ألم يَأنِ للمصلحين ومُحِبِّي السلام أن يبعدوا عن أعينهم الغشاوة، فيراجعوا تعاليم الإسلام بتدبر وإنصاف، ليجدوا ما فيه من سعادة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها؟!
اللهم انصر دينك، ووفِّق له الدعاة المصلحين.
الحديث الأول
عن عَبْدِ الله بْنِ عُمَرُ رَضي الله عَنْهُمَا أنَّ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ أعْتَقَ شِركاً لَهُ في عَبْدٍ - فَكَانَ لَهُ مَا يَبْلُغُ ثَمَن الْعَبْدِ- قُوِّمَ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَليْهِ الْعَبْدُ، وإلاَّ فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ ".
الغريب:
شِرْكاً له: بكسر الشين، وسكون الراء: أي جزءاً ونصيباً.
عَدْل: بفتح العين، وسكون الدال: أي من غير زيادة في قيمته، ولا نقصان.
المعنى الإجمالي:
للشارع الحكيم الرحيم تشوُّف إلى عتق الرقاب من الرق، فقد حث عليه، ورغَب فيه، وجعله أجل الكفارات وأعظم الإحسان، وجعل له من السِّرَايَة والنفوذ، ما يفوت على مالك الرقيق رقة بغير اختياره في بعض الأحوال، التي منها ما ذكر في هذا الحديث، وهي أن من كان له شراكة، ولو قليلة، في عبد، أو أمة، ثم أعتق جزءاً منه، عتق نصيبه بنفس الإعتاق.
فإن كان المعتق موسرا- بحيث يستطيع دفع قيمة نصيب شريكه عتق العبد كله، نصيبه ونصيب شريكه، وقوم عليه نصيب شريكه بقيمته التي يساويها وأعطى شريكه القيمة.
وإن لم يكن موسرا- بحيث لا يملك قيمة نصيب صاحبه- فلا إضرار على صاحبه، فيعتق نصيبه فقط، ويبقى نصيب شريكه رقيقا كما كان.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز الاشتراك في العبد والأمة في الملك.(1/757)
2- أن من أعتق نصيبه عتق عليه، وعتق عليه أيضاً نصيب شريكه إن كان موسراً، وقُومت عليه حصة شريكه بما يساوى، ودفع له القيمة.
3- إن لم يكن الشريك المعتق موسراً، فلا يعتق نصيب شريكه.
وبعضهم يرى أنه يعتق، وينسعى العبد بالقيمة، ويأتي الخلاف فيه.
4- أنه إن ملك بعض قيمه نصيب شريكه، عتق عَليه بقدر ما عنده من القيمة.
5- تشوُفُ الشارع إلى عتق الرقاب، إذ جعل للعتق هذه السراية والنفوذ.
الحديث الثاني
عَن أبي هُرَيرةَ رَضي الله عَنْهُ عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم- قَالَ: " مَنْ اعتَقَ شِقْصاً مِنْ مَمْلوكٍ فَعَلَيْهِ خَلاَصُهُ كُلّهُ فِي مَالِهِ، فَإن لَمْ يَكُنْ لَهُ مالٌ قُوِّمَ الْمَمْلُوكُ قِيمَةَ عَدْلٍ ثُمَّ استُسْعِىَ العَبْدُ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ ".
ما يستفاد من الحديث:
معنى هذا الحديث تقدم في الذي قبله، إلا أنه زاد تسعية العبد عند إعسار المعتق، وإجمال معناه ما يأتي:
1- أن من أعتق شركا له في عبد، وكان له ما يبلغ ثمن العبد عتق عليه كله وقُومَ عليه حصة شريكه بقدر قيمته.
2- فإن لم يكن له مال، عتق العبد أيضاً- وطُلِبَ من العبد السعيُ ليحصل للذي لم يعتق نصيبه مباشرة، قيمة حصته، ولا يشق عليه في التحصيل، بل يقدر عليه أصحاب الخبرة قدر طاقته.
3- ظاهر الحديثين، هذا والذي قبله، الاختلاف في عتق العبد كله، مع إعسار مباشر العتق واستسعاء العبد.
الجمع بين الحديثين:
دل الحديث الأول- في ظاهره- على أن من أعتق نصيبه من عبد مشترك، عتق نصيبه.
فإن كان موسراً عتق باقيه- وغرم لشريكه قيمة نصيبه.
وإن كان معسراً لم يعتق نصيب شريكه، وصار العبد، مُبَعَّضاً، بعضه حر، وبعضه رقيق.
ودل الحديث الثاني على أن المباشر لعتق نصيبه، إن كان معسراً عتق العبد كله أيضاً، ولكن يستسعى العبد بقدر قيمة نصيب الذي لم يعتق وتعطى له.
ذهب إلى الأخذ بظاهر الحديث الأول، الأئمة، مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبه، وأهل الظاهر.
ودليلهم، ظاهر- الحديث وجعلوا الزيادة في الحديث مدرجة، وهي قوله: "فإن لم يكن له مال قوِّم المملوك قيمة عدل ثم استسعى العبد غير مشقوق عليه".(1/758)
قال ابن حجر في "بلوغ المرام": [وقيل: إن السعاية مدرجة] .
قال النسائى: [بلغني أن هماماً رواه، فجعل هذا الكلام- أعنى الاستسعاء- من قول قتادة] وكذا قال الإسماعيلي [إنما هو من قول قتادة، مدرج على ما روى همام] .
وجزم ابن المنذر، والخطابي بأنه من فتيا قتادة.
ولكن قال صاحب شرح البلوغ: [وقد رد جميع ما ذكر من إدراج السعاية باتفاق الشيخين على رفعه، فإنهما في أعلى درجات الصحيح] .
ولذا فإنه ذهب إلى الأخذ بهذه الزيادة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، واختارها بعض أصحابه، ومنهم شيخ الإسلام (ابن تيميه) و (ابن القيم) وشيخنا (عبد الرحمن آل سعدي) رحمهم الله تعالى، وجع بين الحديثين.
وصفة الجمع ما قاله شارح بلوغ المرام: [أن معنى قوله في الحديث الأول (وإلا فقد عتق منه ما عتق) أي بإعتاق مالك الحصة حصته، وحصة شريكه تعتق بالسعاية، فيعتق العبد بعد تسليم ما عليه، ويكون كالمكاتب وهذا هو الذي جزم به البخاري.
ويظهر أن ذلك يكون باختيار العبد لقوله: (غير مشقوق عليه) .
فلو كان ذلك على جهة الإلزام، بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك، لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة ذلك عند الجمهور، ولأنها غير واجبة، فهذا مثلها.
وإلى هذا الجمع ذهب البيهقي، وقال: لا تبقى معارضة بين الحديثين أصلاً.
وهو كما قال، إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرقُّ في حصة الشريك إذا لم يختر العبد السعاية اهـ.
بَابُ بَيْع المدبَّر
المدبَّر: - اسم مفعول، وهو الرقيق الذي علق عتقه بموت مالكه.
سمي بذلك، لأن عتقه جعل دُبُرَ حياة سيده. أو يكون مشتقا من التدبير وهو في اللغة النظر في عواقب الأمور.
الحديث العشرون بعد الأربعمائة
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: دَبَّر رَجُلٌ مِنَ الأنصَارِ غُلاَماً لَهُ.
وفي لفظ: بَلَغَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رَجُلاً مِنْ أصْحَابهِ أعْتَقَ غُلاَماً لَهُ عَنْ دُبُرٍ- لَمْ يَكنْ لَهُ مَالٌ غَيرهُ، فَبَاعَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ، ثُم أرْسَلَ بِثَمَنهِ إلَيهِ.
الغريب:
دُبُر: بضم الدال المهملة، وضم الباء الموحدة، وهو نقيض القبُل، من كل شيء، والمراد- هنا- بعد موته.(1/759)
المعنى الإجمالي:
علق رجل من الأنصار عتق غلامه بموته، ولم يكن له مال غيره.
فبلغ ث لك النبي صلى الله عليه وسلم، فَعَدَّ هذا العتق من التفريط، وتضييع النفس.
فردَّه وباع غلامه بثمانمائة درهم، أرسل بها إليه، فإن قيامه بنفسه وأهله أولى له وأفضل من العتق، ولئلا يكون عالَةً على الناس.
ما يستفاد من الحديث:
1- فيه دليل على صحة التدبر، وهو متفق عليه بين العلماء.
2- أن المدبَّر يعتق من ثلث المال، لا من رأس المال، لأن حكمه حكم الوصية، لأن كلا منهما لا ينفذ إلا بعد الموت، وهذا مذهب جمهور العلماء.
3- جواز بيع المدبر مطلقا للحاجة، كالدَّين والنفقة، بل أجاز الشافعي وأحمد بيعه مطلقا للحاجة وغيرها، استدلالاً بهذا الحديث الذي أثبت بيعه في صورة من جزئيات البيع، فيكون عاماًّ في كل الأحوال، وقياسا على الوصية، التي يجوز الرجوع فيها.
4- أن الأولى والأحسن لمن ليس عنده سَعَةُ في الرزق أن يجعل ذلك لنفسه ولمن يعول، فهم أولى من غيرهم، ولا ينفقه في نوافل هذه العبادات من الصدقة والعتق ونحوها.
أما الذي وسَّعَ الله عليه رزقه، فلْيحرِصْ على اغتنام الفرص بالإنفاق في طرق الخير {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ تَجِدُوُه عِنْدَ الله} .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله " أصحابه السابقين إلى الخيرات.
وبعد فقد تم هذا الشرح المبارك- بعون اللَه تعالى وحمده في ليلة الجمعة المباركة الموافقة ليلة الثامن من شهر رجب المبارك، من عام تسعة وسبعين وثلاثمائة وألف، من هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة.
وقد شرعت في تصنيفه، في اليوم الخامس من شهر رمضان المبارك عام 1376هـ
ويتخلل عملي فيه فترات من مشاغل وإجازات أقضيها في عنيزة.
قاله وكتبه " عبد الله بن عبد الرحمن بن الشيخ صالح بن حمد بن محمد بن حمد ابن إبراهيم بن عبد الله بن الشيخ أحمد آل البسام" وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد فقد أنهيت تصحيح هذا الجزء وتحقيقه وإلحاق الفوائد به، لإعداده للطبعة السادسة في عصر يرم السبت التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 400 اهـ في مدينة الطائف، مصيف المملكة العربية السعودية، وكنت أقضي فيها فترة الصيف والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/760)