ليس الشديد بالصرعة
وعن أبي هريرة كما في الصحيحين أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة).
الصرعة فعلة وتطلق على فاعل الشيء.
فالصرعة: أي المصارع الذي يصرع الناس، ومثله أن يقال: فلان ضحكة، أي: إنسان يستهزأ به، فهو ضحكة يسخر به بين الناس.
ومثله قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة:1] فالهمزة الإنسان الذي يهمن في الغير ويطعن فيه، ليضحك عليه الناس.
واللمزة: الإنسان الذي يتكلم على غيره.
فالهمزة يتكلم أمامه، واللمزة يتكلم من ورائه ويلمز فيه، فاللمزة كأنه فاعل اللمز، والهمزة كأنه فاعل الهمز، والضحكة كأنه فاعل الضحك، والصرعة كأنه فاعل المصارعة وكل هؤلاء يطلق عليهم هذه الصيغة (فعلة).
فهنا قال: (ليس الشديد بالصرعة) يعني: ليس الشديد الذي يصرع الأبطال، (إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) فالذي يصرع غيره شديد وقوي، ولكنه ليس هو الذي له الشدة وله الأجر عند الله عز وجل، وليس هو الموصوف عنده أنه شديد في دينه، وإنما الشديد في دينه هو الذي يملك نفسه عند الغضب.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم والحلم وحسن الخلق، وأن يرزقنا الفردوس الأعلى من الجنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(50/17)
شرح رياض الصالحين - احتمال الأذى والغضب والانتصار لدين الله
لقد حض الشرع على الحلم والعفو والإعراض عن الجاهلين، واحتمال أذاهم، وقد كان قدوتنا في ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يغضب لنفسه، وإنما كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله سبحانه وتعالى، فينبغي للمسلم ألا يغضب لنفسه، وأن يكون غضبه لله تعالى، اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.(51/1)
ما جاء في احتمال الأذى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب احتمال الأذى.
قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم ما دمت على ذلك)، رواه مسلم].
هذا الباب يذكره الإمام النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) وهو عن احتمال الأذى وهو من جنس الأبواب السابقة التي فيها العفو والإعراض عن الجاهلين والتي فيها الحلم أيضاً.
وقد ذكر قوله سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، وقد قدمنا شرحها قبل ذلك.
وذكر حديثاً واحداً في هذا الباب وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني)، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المعاملة مع القرابة الذين يصلهم ويزورهم وهم يقطعونه.
قوله: (وأحسن إليهم ويسيئون إلي)، أي: أن هذا الرجل يتعامل بالإحسان مع أقربائه وهم يعاملونه بالإساءة.
قوله: (وأحلم عنهم ويجهلون علي)، أي: أنا أكتم غيظي عنهم وأصبر على أفعالهم القبيحة معي، ومع ذلك هم أهل جهل وأهل سخط معي، وكأنه ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له: عاملهم بالمثل، ولكن جواب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك بل قال: (لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل)، أي: كأنك تجعلهم يسفون الرماد الحار، فكأنهم يأكلون ناراً بهذا الذي يصنعون، وكأنك تضع في فمهم من النار أو من الرماد الحار.
إذاً: أمرنا بالإحسان إلى القرابة، فلا يدفعك كون هذا يجهل عليك إلى أن تجهل عليه أيضاً، ولكن أحسن إليه، وربنا سبحانه تبارك وتعالى يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فإذا أساءوا إليك فأحسن إليهم لعلهم يهتدون يوماً من الأيام.
وكثير من الناس أصبحوا في هذا الزمان يقولون: مثلما يعمل معي سأعمل معه؛ فهو ليس أحسن مني، إذا شتمني فإني سأشتمه، وينسى أمر الصبر، وينسى أمر العفو، وينسى أن الصلة بالمعروف تنافي هذا الشيء، وكذلك في أمر الزيارات يقول: كم مرة ستزورني سأزورك، نقول: ليست هذه هي الصلة المطلوبة وإن كانت نوعاً من الصلة، إنما الصلة الحقيقية أنك تصل أخاك ابتغاء مرضاة الله سبحانه، سواء أتى إليك في البيت أو لم يأت إليك، وتلتمس له الأعذار إذا لم يأت إليك.(51/2)
فضل صلة الرحم
لقد جعل الله عز وجل صلة الرحم زيادة لك في رزقك، وزيادة لك في عمرك، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن صلة الرحم تنسئ في الأجل، وتزيد في الرزق).
فعندما تصل رحمك تنال الأجر في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا زيادة في الرزق، ويبارك لك في عمرك، وإن كان العمر عند الله عز وجل معلوم مقسوم، ولكن الزيادة هنا هي البركة في العمر، أن تعمل أعمالاً صالحة ينميها الله عز وجل لك، بأن يجعل ما تعمله في عمرك كالذي يعمله آخرون في أعمارهم مجتمعين، فهنا المراد بالزيادة البركة في عمر الإنسان.
قوله: (ولا يزال معك من الله تعالى ظهير عليهم)، أي: لا يزال معك عون من الله سبحانه، ومنه قولهم: مظاهرة بين الدروع، وظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين، بمعنى: أنه لبس درعين صلى الله عليه وسلم يتقي بهما في القتال.
فقوله: (ولا يزال معك من الله ظهير) أي: يعينك الله سبحانه ويكون معك ولا يجعلك وحدك.
إذاً: مكسب عظيم أن يكون الله معك، فالذي ينبغي ألا تجعل أقل مشكلة مدعاة إلى أن تقطع الرحم ولا تزور أقرباءك، وإذا كان الأقرباء لا يأتون إليك فاذهب أنت إليهم، ولا تعاملهم بالمثل، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها)، أي: أن الواصل حقيقة هو الذي إذا قطعت رحمه ذهب ليصلها؛ فيكون له الأجر العظيم من الله سبحانه.(51/3)
ما جاء في الغضب إذا نتهكت حرمات الشرع
يقول الإمام النووي: [باب الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع والانتصار لدين الله تعالى].
يعني: الذي ينبغي للمؤمن ألا يغضب، إلا إذا كان الأمر يتعلق بدينه فيغضب انتصاراً لدينه، يغضب لله سبحانه تبارك وتعالى، أما إذا كان الغضب للنفس فإنه يعفو ويحلم ويصفح، وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم الصفح والحلم والتجاوز صلوات الله وسلامه عليه، أما إذا كان الأمر يتعلق بشرع الله وبحدود الله فإنه كان يغضب صلوات الله عز وجل عليه وسلامه، وغضبه لله سبحانه.
يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، وخير هنا أفعل تفضيل، أي: أخير له، وأفضل الخير أن تعظم حرمات الله وحدود الله، وشرائع الله عز وجل.
وقال تعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، أي: أن المؤمن يدافع عن دين الله فينتظر من الله أن يدافع عنه، ومن يكون مع الله فإن الله يكون معه.(51/4)
غضب الرسول من إطالة الصلاة بالناس
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا)، هذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غضب، وجاء في حديث أن معاذاً أطال بالناس في صلاة العشاء، لكن هذا الحديث كان في صلاة الصبح، وهو أن الإمام كان يصلي بهم ويطيل جداً في صلاة الصبح؛ لأن الرجل قال: (إني لأتأخر عن صلاة الصبح) أي: أتعمد أن أتأخر حتى تذهب ركعة، ومن ثم ألحق الركعة الثانية؛ لأنه يطول بنا جداً، فأتعب في الوقوف في الصلاة، قال أبو مسعود: (فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة).
هذه النصيحة العظيمة من النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن صلاة الجماعة المقصد منها أن يجتمع أهل الحي في مسجد، ويحدث التعارف فيما بينهم، وتحدث المحبة فيما بينهم، ويواظبون على جميع الصلوات الخمس مع بعض، ويحضرون الجنائز، ويعود بعضهم بعضاً إذا مرض.
إذاً: في صلاة الجماعة ألفة تجمع الناس، فإذا كان الإمام يطول بالناس فإنه ينفرهم فلا أحد يصلي معه فبدل أن يكون المسجد فيه عدد كبير يصبح فيه قلة من المصلين، فتزول الحكمة من صلاة الجماعة، وهي أن يجتمع الجميع يدعون الله عز وجل، وكلما زاد العدد كانت الصلاة أزكى عند الله عز وجل، وأكثر ثواباً.
وفي حديث معاذ رضي الله عنه: (أنه صلى بالناس صلاة العشاء بسورة البقرة، فتركه الرجل وصلى منفرداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: أفتان أنت يا معاذ! هلا قرأت بـ (سبح اسم ربك الأعلى)، (والشمس وضحاها)، و (هل أتاك حديث الغاشية))، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، فذكر سوراً من قصار المفصل يقرأ بها حتى لا يمل الناس.
إذاً: إذا صليت بالناس فصل صلاةً وسطاً مائلاً إلى القصر وليس إلى الطول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز)، وما سمعنا أحداً اشتكى من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي بهم صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فيقرأ بقدر سورة (ق)، وهي من طوال المفصل، وكان يقرأ بقدر سورة الرحمن، وسورة الواقعة، وكان يقرأ بقدر خمسين آية في صلاة الفجر أو بنحو هذا، وكان إذا صلى بهم في سفر صلى بقصار السور، بسورة الزلزلة، أو (قل أعوذ برب الفلق)، أو (قل أعوذ برب الناس).
فالإمام يراعي أحوال الناس الذين وراءه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن من ورائه الكبير والصغير وذا الحاجة)، أي: فيهم الطاعن في السن الكبير، وفيهم الصغير الذي لا يتحمل الصلاة الطويلة، لكن إذا صلى الإنسان لنفسه فليطول ما شاء، أما إذا كان يصلي بالناس فليراع المأمومين الذين خلفه، ولتكن صلاته كما كان يصلي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات، ومنها صلاة الظهر فقد كان يقرأ فيها بنحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، مثلاً أو بأكثر منها، ويطيل في الركعة الأولى حتى يدرك الناس، لكن الإطالة الزائدة لم يفعلها إلا على الندرة صلى الله عليه وسلم؛ لبيان الجواز، فمرة صلى بهم المغرب بسورة الأعراف.(51/5)
غضب الرسول مما يذهب الخشوع
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل)، السهوة: كأنها شباك في الحائط، أو شيء بداخل الجدار تضع داخلها حاجاتها، فهي وضعت على هذه السهوة قراماً، أي: ستاراً، وهذا الستار عليه تصاوير ورسوم.
قالت: (فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم هتكه وتلون وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: يا عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، أي: الذي يرسم بيده صوراً فيها الروح، وفاعل هذا من أشد الناس عذاباً يوم القيامة، فغضب لما رأى الستارة مرسوماً فيها تماثيل، أو صور حيوان.
وفي حديث آخر: (أن عائشة رضي الله عنها مزقتها، وقطعتها وجعلت منها وسادتين يتكئ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم)، فإذا جعلت هذه الصور في فراش على سرير، أو في فراش على الأرض يوطأ بالقدم فلا مانع، أما إذا كانت معلقة على وجه فيه شيء من الاحترام لها فهذا ممنوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غضب من ذلك.
قوله: (إن أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله)، أي: يقلدون ما خلقه الله عز وجل، فيصورونه ويرسمونه على هيئة تماثيل.(51/6)
غضب الرسول من الشفاعة في حدود الله
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟)، هذه امرأة مخزومية من بني مخزوم، وبنو مخزوم قبيلة عظيمة كبيرة من أهل الشرف من العرب من قريش، وكان العرب فيهم أهل شرف وفيهم أهل ضعة، فمثلاً: قبيلة طيء كانت مشهورة باللصوص، لكن قبيلة بني مخزوم كانوا من أعالي الناس، فهذه المرأة التي سرقت هي من بني مخزوم، فلما سرقت عرفوا أن الحد سيقام عليها وتقطع يدها وهي من هذه القبيلة الشريفة، فقالوا: نوسط أحداً يقوم بالشفاعة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قالوا: (من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زيد بن حارثة والد أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ربى الاثنين، فـ زيد كان عبداً وأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وأعتقه وتبناه، فكان ينسب إليه ويقال: زيد بن محمد حتى نهى الله عز وجل عن ذلك فرجع اسمه زيد بن حارثة رضي الله تبارك وتعالى عنه، وزوج النبي صلى الله عليه وسلم زيداً بـ أم أيمن وأنجبت له أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم.
فلما سرقت المخزومية رأوا أن أسامة له مع النبي صلى الله عليه وسلم علاقة قوية، والنبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فإذا جاءه وشفع فإنه سيقبل منه الشفاعة، فذهبوا إلى أسامة، وفعلاً ذهب أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشفع للمرأة، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟! ثم قام فاختطب صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
أي: إنما أهلك الله السابقين بظلمهم، والظلم ظلمات في الدنيا وفي الآخرة، فيستحق الإنسان العقوبة على ظلمه، وهؤلاء ظلموا وغيروا وبدلوا شرع الله سبحانه، فمن كان فيهم شريفاً وسرق تركوه، ومن كان فيهم ضعيفاً وسرق أقاموا عليه حد الله عز وجل، فأهلكهم الله سبحانه بذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
فيقسم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وايم الله)، وأصلها: وايمن الله، ايمن جمع يمين وهي أيمان الله، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم ورخم فقال: (وايم الله)، بحذف النون في نهايتها فتبقى الميم وهي مضمومة فتظل على ذلك؛ لأن الألف تتبعها والهمزة منقولة.
قوله: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت)، وحاشاها رضي الله عنها.
والمخزومية التي سرقت كان اسمها فاطمة، وهذه فاطمة بنت النبي صلوات الله وسلامه عليه ورضي الله عنها، فيقول: لو أن فاطمة ابنتي أنا -وحاشاها- فعلت ذلك لقطعت يدها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يجامل ولا يحابي أحداً، وإنما الشرع يقام على الجميع على الشريف وعلى الضعيف، على الإنسان الكبير في قومه، وعلى الحقير في قومه، فهنا غضب رسول الله لما شفع أسامة في حد من حدود الله سبحانه تبارك وتعالى.(51/7)
غضب الرسول لحرمات المساجد
وعن أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رئي في وجهه) أي: أنه دخل المسجد، فوجد نخامة في قبلة المسجد أمام الناس، فشق ذلك عليه حتى رئي الغضب والغيظ في وجهه.
قال: (فقام فحكه بيده صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أخرى: (أنه أخذ عوداً وحك به النخامة صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، وإن ربه بينه وبين القبلة) فأنت قائم تناجي ربك سبحانه تبارك وتعالى، وربنا يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، فالله أقرب إليك من حبل وريدك سبحانه تبارك وتعالى، فهو معك سبحانه تبارك وتعالى، ويعلم الكلمة قبل أن تنطق بها، فقد لا يسمعها الذي أمامك، لكن الله يسمعها ويعلمها سبحانه تبارك وتعالى.
قوله: اعلم أن الله عز وجل فوق سماواته سبحانه، كما جاء في القرآن: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، فهو في السماء، وترفع يديك إليه تدعوه، وينزل الملائكة من السماء، وينزل الكتب من السماء وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء قال: أعتقها فإنها مؤمنة).
فالله بينك وبين قبلتك أي: أقرب إليك من أقرب شيء إليك، فهو بسمعه وبعلمه وببصره أقرب إليك من كل شيء.
قال صلى الله عليه وسلم: (فلا يبزقن أحدكم قبل القبلة، ولكن عن يساره أو تحت قدمه)، أي: لا يتفل أحدكم جهة القبلة، لكن الآن لا نتخيل أن أحداً يعمل هذا؛ أما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان المسجد نفسه مفروشاً بالتراب وبالحصى، ولم يكن في المسجد سجاد ولا حصير؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا احتاج شيئاً يقول لـ عائشة: (ناوليني الخمرة)، وهي حصيرة على قدر ما يصلي فيفرشها ويصلي عليها.
أما المسجد في ذلك الزمان فلم يكن مفروشاً، ولعل أحدهم يعجله البصاق، فهذا الذي جعل أحدهم أعجله البصاق فبصق، ولم يكن معهم مناديل مثلنا، فالواحد منهم إما أن يخرج خارج المسجد، فتراه في كل وقت يخرج ويدخل، أو أن يبصق في أرض المسجد ويدفنها، فإذا احتاج فعل ذلك، لكن الأصل أنه لا يفعل؛ ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البصاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها)، فهذا الحديث فيه إشارة إلى أنه إذا احتاج إلى هذا الشيء فله ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن من بصق على أرض المسجد فعليه أن يدفنها ويغطيها بالتراب، ولا يتركها هكذا، وكأن هذا الرجل احتاج فتفل في القبلة ولم يعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو كان هذا قبل النهي عن ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولكن عن يساره أو تحت قدمه، ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ثم رد بعضه على بعض فقال: أو يفعل هكذا)، الرداء هو الذي يوضع فوق الكتف، فأخذ طرفه وتفل فيه، والآن لك أن تخرج منديلك وتتفل فيه، وترجعه إلى جيبك.
يقول الإمام النووي رحمه الله: والأمر بالبصاق عن يساره أو تحت قدمه هو فيما إذا كان في غير المسجد، أما في المسجد فلا يبصق إلا في ثوبه.
وهذا في زمن النووي؛ لأن المساجد كانت في زمن النووي مفروشة بحصير وسجاد، فلذلك لا يجوز أن يبصق إنسان في أرض المسجد، ولا يجوز أن يقذر أرض المسجد لا بنعله ولا بخفه ولا ببصاقه ولا بثوبه ولا بشيء من شحم أو غيره.
إذاً: فأرض المسجد طالما أنها ليست تراباً بل فيها حصير أو غيره، فالواجب عليك أن تحافظ على نظافتها لا أن تقذرها.(51/8)
مراعاة آداب المساجد
في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن غضبه لنفسه عليه الصلاة والسلام، وإنما كان غضبه لدين رب العالمين، أو غضبه لبيت رب العالمين، ولذلك نقول لإخواننا: إنه يجب عليهم أن يراعوا بيت الله سبحانه، فبيت الله ليس سوقاً، فلا ترفعوا أصواتكم فيه، أيضاً الباعة الذين يقفون خارج المسجد ويرفعون أصواتهم ويجعلون المسجد مثل السوق عليهم أن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك الإخوة الباعة الذين يشغلون التسجيلات ويزعجون الناس، عليهم أن يتقوا الله، كذلك الذين يتعاركون خارج المسجد عليهم أن يتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن الناس جاءوا لدراسة العلم الشرعي في المسجد، ولم يأتوا من أجل أن يسمعوا تسجيلات يعلو فيها الصوت، والعاقل يعجب لهذه التسجيلات! تلقى أحدهم يشغل قرآناً بصوت قارئ، ثم يشغل بصوت قارئ آخر، فهو لم يمش على سورة واحدة، كأن الغرض بيان أن عندي هذا وعندي هذا، تعالوا لشراء هذا وهذا، نقول لمن يعمل هذا: اتق الله، يكفي أن تعرض بطاقة البيع، فالذي يريد أن يشتري سوف يشتري والذي لا يريد أن يشتري فلن يشتري، فلا تجعلوا المساجد مثل السوق، واتقوا الله سبحانه تبارك وتعالى في أنفسكم.(51/9)
الأسئلة(51/10)
موقف المرأة في الصلاة مع محرمها
السؤال
إذا صلى رجل بامرأة من محارمه فقط فهل تقف بجواره أم خلفه؟
الجواب
إذا صليت ومعك زوجتك أو أختك فإنها تقف خلفك لا بجانبك.(51/11)
الفرق بين الصور الممتهنة وغير الممتهنة
السؤال
ما الدليل على التفريق بين الصور هذه ممتهنة، وهذه غير ممتهنة، مع أن علياً رضي الله عنه قال: (لا تدع صورة إلا طمستها)؟
الجواب
ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث الصورة التي كانت في الستارة التي كانت معلقة، فـ عائشة رضي الله عنها مزقتها وجعلتها وسادتين اتكأ عليهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صارت وسادة تركها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يغضب، وإنما غضب لما كانت معلقة.(51/12)
موضع الدعاء في صلاتي الاستخارة والتوبة
السؤال
متى يقال الدعاء في صلاة الاستخارة وفي صلاة التوبة هل في آخر التشهد أم خارج الصلاة؟
الجواب
الدعاء في صلاة الاستخارة الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم)، الحديث المعروف، وقد عبر فيه بـ (ثم)، وهو دليل على أن الدعاء يكون بعد الانتهاء من الصلاة، لكن إن أتى بالدعاء في آخر صلاته قبل الانتهاء من الصلاة فهو جائز، ولكن الأولى أن يكون بعد التسليم من الصلاة.(51/13)
حد العورة بين المحارم
السؤال
ما هي العورات بين المحارم الأم، الابن، الأخت، الأخ؟
الجواب
عورة الرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة إذا كانت في بيتها مع زوجها فليس فيه شيء، أما إذا كانت المرأة مع أولادها فلها أن تبقى في ثياب المهنة التي يبدو منها ذراعها وصدرها وقدمها وساقها وشعرها.(51/14)
وقوع النجاسة في البدن أو الثوب لا تبطل الوضوء
السؤال
لماذا الكلب ينقض الوضوء علماً بأن القط وما شابهها لا ينقض الوضوء؟
الجواب
من أين أتيت بهذا؟ فالكلب لا ينقض الوضوء، إنما ريق الكلب نجس، فإذا مس ثوبك فيجب عليك أن تغسله؛ للحديث: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهن بالتراب)، وفي رواية: (عفروه الثامنة بالتراب)، إذاً: فريق الكلب إذا وقع على الثوب، وتعمدت أن تصلي بهذا الثوب النجس، فصلاتك باطلة، لكن لا ينقض الوضوء.
أيضاً: من الأمور التي تثار ويجهلها بعض الناس أن يده لو وقعت عليها نجاسة من دم أو بول فإنه يعيد الوضوء، وهذا ليس بصحيح وإنما عليه أن يزيل النجاسة فقط.(51/15)
حكم لبس ما عليه تماثيل وصور
السؤال
ما حكم لبس الملابس التي عليها تماثيل؟
الجواب
الملابس التي عليها تماثيل وصور مرسومة عليها، إذا كان يلبس قميصاً عليه صورة إنسان يعظمه فهذا حرام، وإذا كان عليه صورة امرأة ممثلة أو غيرها فهذا أشد حرمة، وأشد منها حرمة أن يلبس هذه الثياب وعليها صورة امرأة عريانة ويدخل بها المسجد، وقد يدخل المسجد أحياناً ولا يصلي.(51/16)
حكم قول المأموم: سمع الله لمن حمده بعد الرفع من الركوع
السؤال
هناك مأموم يصر على أن يقول بعد الرفع من الركوع: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، فما حكم ذلك؟
الجواب
يجوز أن يقول ذلك، ولكن الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)، يعني: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال المأموم: ربنا ولك الحمد، لكن إن قال: سمع الله لمن حمده باعتبار قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فإنه يجوز أن يقول هذا ذلك.(51/17)
حكم استعمال الفرش التي فيها تصاوير على السرير
السؤال
أحياناً تكون التصاوير التي على ملاية السرير ليست في المكان الذي يوطأ، فما الحكم؟
الجواب
ليس شرطاً أن تضعها عند رجليك، فأنت إذا جعلتها عند رأسك فقد تدوسها برجليك في وقت ما، فهي ممتهنة مداسة، وكذلك أنت تقعد عليها.(51/18)
معنى الفترة وحكم أهلها
السؤال
ما معنى أن أم النبي صلى الله عليه وسلم ماتت في الفترة؟
الجواب
الفترة ستدرسونها في أصول الفقه في الكلام عن أصحاب الفترة، والمراد بالفترة الزمن الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين النبي الذي قبله، وما بين النبيين حين تندرس الشريعة اسمها: الفترة، والفترة عهد ليس فيه أنبياء، فهذا معنى أن أم النبي صلى الله عليه وسلم كانت من أهل الفترة، أي: من أهل الزمن الذي لم يأت لهم فيه نبي؛ لأنها ماتت قبل بعثة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وكل من مات قبل النبي صلى الله عليه وسلم هم من أهل الفترة، ولكن قد يخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن بعضهم أنه في النار، والذي نعتقده أن أهل الفترة يمتحنون يوم القيامة، فالله عز وجل يأتي بالإنسان الذي كان به صمم فلم يسمع دين رب العالمين، والإنسان الذي كان به كبر في السن فلم يفهم دين رب العالمين، فيأتي بهم يوم القيامة ويختبرهم؛ لأنهم يقولون: ما جاءنا من نبي، فيختبرهم الله عز وجل، فيأمرهم أن يردوا النار، فإذا وردوا النار كانوا من أهل الجنة، وإذا لم يردوا النار قال لهم: قد عصيتموني، فكيف برسلي! فيجعلهم في النار والعياذ بالله.
إذاً: أهل الفترة في يوم القيامة لهم اختبار، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بعضهم أنه رأى أباه في النار، وقال للرجل: (إن أبي وأباك في النار)، فهذا إخبار بما يئول إليه الحال، وأنه قد أخبره الله عز وجل عن ذلك، وهل يكون في النار دائماً، أو أنه الآن في النار بسبب شيء، ثم يوم القيامة يمتحن؟ الله أعلم بهذا الأمر، ولكن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.(51/19)
معنى إحفاء الشوارب وحكمه
السؤال
ما هي أدلة قص الشارب بهذه الكيفية وهي الجز الفاحش؟
الجواب
جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحفوا الشوارب)، والإحفاء بمعنى القص الشديد، فبعض أهل العلم قالوا: إنه يقصه بحيث لا ينزل الشارب على شفته، ولكن أهل اللغة يقولون: الإحفاء بمعنى إزالة الشيء من الأصل، ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى ذلك، وذهب الإمام مالك إلى أن حلق الشارب مثلة، وأن الذي ينهك شاربه من المثلة فلا يفعل ذلك، لكن جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحفوا الشوارب)، فالإحفاء معناه: القص الشديد الزائد، لكن إن لم يفعل فعلى الأقل لا يترك الشارب ينزل على فمه.(51/20)
حكم التسبيح باليد الشمال
السؤال
هل التسبيح باليد الشمال حرام؟
الجواب
لا، ليس حراماً، إنما سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن تسبح باليد اليمنى، هذه هي سنته.(51/21)
حكم تأخر المأموم عن إمامه بحجة قراءة الفاتحة
السؤال
ما حكم المأموم الذي لا يركع إلا بعد أن يرفع الإمام رأسه من الركوع ويقول: إنه لا يزال يقرأ الفاتحة مع أن الإمام لا يخل بأي شيء؟
الجواب
لا يجوز ذلك؛ لأن فيه مخالفة للإمام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)، ففيه الترتيب بالفاء، والفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، أي: أنك تفعل ذلك بعده مباشرة، فإذا ركع سواء انتهيت من قراءة فاتحة أو لم تنته فاركع، وفي الحديث: (من كان له إمام فقراءته له قراءة).
فإذا كبر الإمام ودخلت متأخراً عن الركعة، فبدأت في قراءة الفاتحة فركع الإمام، فلا تخالف الإمام؛ لأنه الآن في ركن وهو الركوع ويجب عليك أن تتابع الإمام فيه، بل يجب إذا دخلت في الصلاة على هيئة كان الإمام عليها أن تتابعه فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة والإمام ساجد فاسجدوا ولا تعدوها شيئاً، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الصلاة)، فإذا جئت للصلاة والإمام ساجد، فإنه يجب عليك أن تفعل ما أمرك به النبي صلى الله عليه وسلم، أو على الأقل يقال: يستحب ذلك ويتأكد الاستحباب.
إذاً: عليك أن تفعل كما يفعل الإمام، أما أن يكون الإمام قد ركع وأنت واقف، أو سجد ورفع من السجود وأنت ما زلت ساجداً بدعوى أنك تدعو، فهذا غير جائز.(51/22)
حكم مرور الطفل أمام المصلي
السؤال
هل مرور الطفل أمام المصلي يقطع الصلاة؟
الجواب
لا، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه مرت بين يديه صلى الله عليه وسلم شاة فتقدم حتى مرت خلف ظهره)، فالذي عليك أنت ألا تدع شيئاً يمر من أمامك، فلو مر الطفل من أمامك فإنه لا يبطل الصلاة، إنما الذي يقطع الصلاة ثلاثة أشياء، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقطع الصلاة المرأة الحائض -أي: المرأة البالغة- والكلب الأسود، والحمار)، وجاء في الحديث: (الكلب الأسود شيطان)، فهؤلاء الثلاثة يقطعون الصلاة على خلاف بين أهل العلم: هل قطع الصلاة بمعنى بطلان الصلاة، أو بمعنى نقصان الثواب؟ والذي نميل إليه أنه ينقص الثواب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها حتى لا يقطع الشيطان عليه صلاته).
فالذي يصلي إلى غير سترة يمر الشيطان من أمامه فيقطع صلاته، وهنا لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إنه يبطل الصلاة، فقطع الشيطان لها هو أن يختلس من صلاتك ويلهيك عن صلاتك، فينقص من أجرها ومن ثوابها.
إذاً: إذا مر طفل صغير فليس هناك إعادة للصلاة.(51/23)
حكم إظهار المرأة لثديها أمام النساء عند الإرضاع
السؤال
هل يجب على المرأة المرضع أن تغطي ثدييها عند النساء؟
الجواب
لا يجب عليها أن تغطي ثدييها عند النساء.(51/24)
حكم تقصير اللحية
السؤال
ما هو دليل الكراهية في تقصير اللحية؟
الجواب
يحرم حلق اللحية، وتقصير اللحية مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعفوا اللحى)، أو (اتركوا اللحى)، أو (أرخوا اللحى)، أو (وفروا اللحى)، ألفاظ الحديث كلها فيها الأمر بتركها طويلة، هذا هو معنى الإعفاء، والأمر هنا يدل على الوجوب، أي: وجوب ترك اللحية، فما زاد على القبضة إذا أخذها لفعل ابن عمر جاز له ذلك، وإذا تركها أيضاً فإنه يجوز، لكن الذي يحرم هو حلق اللحية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(51/25)
شرح رياض الصالحين - أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم
لقد أمر الإسلام ولاة الأمور بالرفق بالناس، والسهر على مصالحهم، وقضاء حوائجهم، لأنهم قد تولوا أمور المسلمين، فهم رعاة ومسئولون عن رعيتهم يوم القيامة، وكل من يتولى أمراً يجب عليه أن يؤديه كما أمر الله عز وجل.(52/1)
أمر ولاة الأمور بالرفق بالرعية وقضاء حوائجهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب أمر ولاة الأمور بالرفق برعاياهم ونصيحتهم، والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم والتشديد عليهم، وإهمال مصالحهم والغفلة عنهم وعن حوائجهم.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته) متفق عليه].
يقول الإمام النووي رحمه الله: (باب أمر ولاة الأمور بالرفق) أي: من يتولى أمور المسلمين من حكام ونحوهم يؤمرون بالرفق بالرعية، وبالنصح والشفقة عليهم، والنهي عن غشهم، والتشديد عليهم، أي: أن ينهوا عن أن يشددوا على الناس، وعن أن يغشوا الناس ويهملوا مصالحهم، أي: ينهون عن أن يهملوا مصالح الناس، وأن يغفلوا عنهم وعن حوائجهم.
ذكر قول الله سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو من هو! فهو بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ومع ذلك يأمره سبحانه حتى يقتدي به من يأتون من بعده، فهو يحكم المسلمين بشرع رب العالمين فيأمره سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
وخفض الجناح يعني: اللين والتواضع، وأن يكون فيك حنان على المؤمنين ومودة ورحمة بهم، تضمهم إليك كما يضم الطائر أفراخه إليه.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين.
كذلك كل إنسان يتولى أمراً من أمور المؤمنين كأن يكون عليهم حاكماً أو عريفاً، أو يكون على بعضهم أميراً فعليه أن يرفق بهم، وأن يكون رحيماً بهم، وأن يعلمهم وينصحهم ولا يهمل مصالحهم.
قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فالله يأمر عباده بالعدل بين أهليهم وبين أقاربهم وبين الناس، وما ولوا من ذلك شيئاً يأمرهم ربهم سبحانه وتعالى بالعدل، والعدل: أن تعطي كل إنسان حقه الذي شرعه الله سبحانه وتعالى.
والإحسان: أن تزيد رحمة وحناناً من عندك وأن تعطي من فضل ما عندك فتحسن إلى الناس، كما أن الله يأمر بإعطاء ذي القربى، والأقربون أولى بالمعروف، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك وابدأ بمن يليك).
قال تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] أي: الفحش في القول، والفحش في الفعل، فالله ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وهذه موعظة من الله سبحانه وتعالى، (يعظكم) أي: ينصحكم ربكم سبحانه، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90] أي: لعلكم تتذكرون مواعظ الله سبحانه فتعملون بمقتضاها.
من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) يعني: كل مؤمن هو راع فيما ولاه الله عز وجل عليهم سواء كان رجلاً أو امرأة، فإذا كنت ترعى شيئاً فقد جعلك الله عز وجل قائماً عليه، فأنت مسئول عنه أمام الله سبحانه، ثم فصل بعدما عمم، فقوله: (كلكم) من صيغ العموم، ثم خصص ونص صلى الله عليه وسلم على بعض أفراد هذا العام، قال: (الإمام راع ومسئول عن رعيته) الإمام هنا بمعنى: الحاكم، و (مسئول): بحيث يأتي يوم القيامة ويسأل: ما الذي فعلت مع الرعية؟ فبدأ بالقائد بالإمام.(52/2)
مسئولية الراعي عن رعيته
قال: (والرجل راع في أهله) أي: أنت راع في أهل بيتك وسوف تسأل يوم القيامة عن أهل بيتك ما الذي صنعته معهم؟ هل عدلت فيهم؟ هل أعطيتهم حقوقهم؟ هل علمتهم دين رب العالمين؟ هل أمرتهم بالمعروف ونهيتهم عن المنكر؟ هل قمت فيهم بحقوق الله سبحانه وتعالى؟ هل صبرت عليهم وعلى أذاهم؟ هل وعظتهم؟ فالرجل راع في أهله أي: راع لأمر أهله كالراعي مع غنمه، كذلك هذا مع أهل بيته يراعيهم ويتألفهم وينصحهم ويخاف عليهم من النار، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] فالله عز وجل يأمر كل إنسان مؤمن أن يراعي ذلك، وأن يقي نفسه ويقي أهله وولده ناراً وقودها الناس والحجارة.
فالإنسان في الدنيا إذا علم أن ابنه سيذهب لمكان ما ولن تحبس له حاجته وسيمر آمناً اطمأن لذلك، فإن خاف عليه أخذه في يده حتى لا يؤذى في هذا المكان، فكيف بنار جهنم؟ قال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فتقي نفسك وتقي أهلك، وتقي ولدك، تقيهم نار جهنم يوم القيامة بالموعظة، وبالمراعاة لأحوالهم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته) فأنت مسئول عن أهل بيتك، ويوم القيامة سوف يسألك الله عز وجل ما الذي صنعت معهم، هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ هل وعظتهم؟ هل علمتهم؟ هل نصحتهم بدين رب العالمين سبحانه؟ هل أخذت بأيديهم إلى الخير؟ هل أخذت على أيديهم فمنعتهم من الشر؟ ما الذي صنعته؟ فأنت مسئول يوم القيامة، والسؤال طويل بعدد سنين عمرك، بعدد أيامك، وبعدد ساعاتك وثوانيك.
يقول هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (والمرأة راعية في بيت زوجها) فليس الرجل وحده مسئولاً، بل المرأة في بيتها راعية ومسئولة عن رعيتها، ترعى أهل بيتها وتراعي أحوالهم، ومسئولة عن نفسها، هل حفظت نفسها؟ هل حصنت نفسها؟ هل منعت نفسها عن الخلق إلا عن زوجها؟ هل قامت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ فهنا طاعة الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي زوجها هل حافظت على مال زوجها أم أنها ضيعت مال زوجها؟ تأتي بعض الأسئلة من بعض النساء أنها تأخذ المال من وراء الزوج فهل هو حلال أو حرام؟ إذا كان الزوج ينفق بالمعروف مما أعطاه الله عز وجل فلا يحل للمرأة أن تأخذ من وراء زوجها شيئاً إلا بعلمه، فهذا لا يجوز لها طالما أن الزوج يعطيها طعامها وشرابها، وكسوتها ونفقتها هي وأهل البيت، وعلى ذلك ليس من حقها أن تأخذ، والبعض يحتج بقصة امرأة أبي سفيان عندما جاءت تسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأباح لها أن تأخذ من مال أبي سفيان، وينسون أنها قالت: (إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني)، فشكت له شح أبي سفيان وقالت: (إني آخذ من ماله بغير علمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) يعني: من طعام وشراب فقط، ليس من أجل أنها تدخر وتجمع وتنفق على الناس فليس لها ذلك.
فعلى ذلك المرأة راعية تصون مال الزوج، وتنصح الزوج بعدم الإسراف والتبذير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بحيث إنها تحافظ على بيتها، فالله سوف يسألها عن ذلك، عن القليل الذي أخذته، وعن الكثير الذي أنفقته، عما فعلت بهذا المال وعما فعلت مع أولادها، فلعلها أمام الزوج تظهر الرحمة والحنان بالأولاد، ومن ورائه على عكس ذلك، ولعلها أمامه تظهر التقوى، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولعلها من ورائه تعينهم على المنكر، وتتساهل في أشياء تغضب الله عز وجل بها، فالمرأة راعية في بيتها لا بد أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها وفي ولدها، وكم من امرأة تظهر التحشم أمام زوجها، فإذا خرج زوجها وقفت أمام النافذة تبدي شعرها وتبدي زينتها للأجانب، وهذا لا يحل لها، فالمرأة مسئولة يوم القيامة عما تصنع في بيت زوجها وعما تصنعه في مالها وفي نفسها، فهي مسئولة عن ذلك كله.
قال صلى الله عليه وسلم: (والخادم) أي: إنسان يأتي إليك لخدمتك، أو عبد كان عندهم في بيتهم يطعمونه ويسقونه ويملكونه، فالخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، والخادم سواء كان أجيراً خاصاً أو أجيراً مشتركاً مسئول عن مال سيده وراع في مال سيده، ويوم القيامة يسأله الله عن ذلك، فلا بد من النصح، وكم من إنسان يعمل عند إنسان ويجده مسرفاً في أشياء، مبذراً فيها أو مضيعاً، فيقول: أنا سآخذ أجرتي ولا شأن لي، فإنه مسئول يوم القيامة عن ذلك، سيسأله الله: لماذا لم تعظ؟ لماذا لم تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ وإذا وجدت من يسرق فانهه عن المنكر الذي هو فيه، وأخبر صاحب المكان أن فلاناً يسرق، وإذا لم ينته عن هذا الشيء الذي هو فيه فأنت مسئول يوم القيامة عن المكان الذي توليته، سواء كان هذا العمل عملاً قليلاً أو كثيراً وقد بدأ عليه الصلاة والسلام من الإمام والحاكم وانتهى إلى الخادم إذا كان عبداً أو كان أجيراً، ثم عمم بعد ما نص وخصص فقال: (وكلكم راع ومسئول عن رعيته) أي: الجميع راعون؛ فهذا راع في مال فلان، وهذا راع في مال فلان، والكل مسئول يوم القيامة، فأعدوا للسؤال جواباً.(52/3)
الوعيد الشديد لمن مات وهو غاش لرعيته
في الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) هذه مصيبة من المصائب! يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أننا كلنا عبيد لله سبحانه وتعالى.
فكل إنسان عبد لله سبحانه، سواء كان كبيراً أو صغيراً أو غنياً أو فقيراً، أو عالياً أو حقيراً، الكل عبيد لله سبحانه وتعالى، فكل إنسان يتذكر ذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فكل يقوم بحق العبادة في المكان الذي هو فيه.
فيقول: (ما من عبد يسترعيه الله رعية) أي: يعطيه رعية يرعاهم، ويقوم على أمرهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والوعظ، ويتملك أمرهم، هذا الإنسان الذي كان راعياً قد يكون من أعلى الرعاة، أو يكون حاكماً، أو عريفاً على قوم، أو على مجموعة صغيرة، أو أميراً على اثنين أو على ثلاثة، هذا الإنسان الذي تولى هذه الأشياء إذا غش فيها يأتي يوم القيامة قد حرم الله عليه الجنة، فاحذر من الغش، وكن مع الناس ناصحاً دائماً، وإذا كان عملك لله سبحانه أدام الله عز وجل هذا العمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس)، فالإنسان الذي يريد أن يحبه الناس وهو متول أمرهم فلا يجامل في الخطأ، ولا يظلم إنساناً من أجل أن يرضي إنساناً آخر، فالله يسخط عليه، ولن يحبك الذين أنت تجاملهم، بل لأنك تظلم الغير، فلن يحبوك أبداً، لأنهم يعلمون في أنفسهم أنك ظالم.
فالإنسان الذي يأخذ المال الحرام لينفع إنساناً به لن يحبه هذا الإنسان، فالذي يدفع الرشوة من أجل وظيفة هو في الظاهر يقول لك: جزاك الله خيراً، وأما في الباطن فهو يشعر أنك أخذت ماله، ويعرف أنك لا تستحق هذا المال حتى وإن قال: لقد أبحت لك ذلك، ويوم القيامة سوف تسأل عن هذا الذي أخذته، فإذا استرعاك الله أناساً فلا تظلم أحداً، يقول صلى الله عليه وسلم: (يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته) يغش الناس ويستدرجهم حتى يأخذ أموالهم، ويغش الإنسان في هذا الذي يفعله، فيأكل حراماً ويدخل إلى بيته حراماً، ويظلم أناساً، وقس على ذلك أعمالاً يقوم بها أناس فيغشون الناس ليأخذوا أموالهم، فهؤلاء يحرم عليهم هذا العمل ويحرم عليهم الغش في الرعية.
قال: (إلا حرم الله عليه الجنة)، وقال في رواية: (فلم يحطها بنصحه) أي: ما أحاط الرعية بنصحه، ففي المكان الذي تعمل فيه لابد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر قدر استطاعتك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا تخن أحداً ولا تغدر ولا تغش، ولا تقبل سحتاً أو رشوة، لا تمنع من الناس ما ينفعهم ولا تخدعهم.
ويقول في الرواية الأخرى: (ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل معهم الجنة)، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، هذه دعوة مستجابة من النبي صلى الله عليه وسلم، دعوة للإنسان الذي يتولى أمور الناس سواء كان موظفاً صغيراً أو كبيراً أو حاكماً، هذا الإنسان إذا كان رفيقاً بالرعية يحوطهم بنصحه ويعاملهم معاملة الأب لأولاده، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفق الله به، يرفق به في الدنيا وفي قبره، ويوم القيامة؛ لأنه كان رفيقاً برعيته.
والعكس من ذلك: الإنسان الظلوم الغشوم الجائر الذي يظلم الناس ويقسو عليهم دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بألا يرفق به ربه سبحانه وتعالى، وأن يشق عليه في الدنيا وفي الآخرة.
انظر: الإنسان الموظف إذا جاء إليه إنسان للمعاملة فيقول له الموظف: افعل كذا، واصنع كذا، واذهب إلى مكان كذا وأت بكذا، ونحن سوف نحقق لك ما تريده، ولا يحقق له ذلك إلا إذا أخذ عليه نقوداً، هذا الإنسان دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يشق الله عليه، ولن يذهب بعيداً، فالمال الذي يأخذه سيتلفه الله عليه، وكم قد رأينا من أمثال هؤلاء من يجمع المال ثم يموت ويترك ماله للورثة فيدعون عليه ويلعنونه بعد موته؛ لأنه جمع هذا المال من حرام، ونذكر قصة الرجل الذي كان يعمل في شركة حكومية، فكان يجمع الرشوات حتى بلغت مائة ألف جنيه، وجعلها في البنك من أجل أن يستنفع بها، فمات ولم يصرف منها شيئاً، فجاء الورثة يسألون: هل يجوز أخذ هذا المال أم لا؟ فقد كان المال كله حراماً وهم يعرفون، ولم يسلموه للشركة، وأخذوا أموالاً محرمة، فهذا المسكين ظلم نفسه في الدنيا وفي الآخرة وجمع مالاً ولم يستنفع به، وتركه في البنك وجاء الورثة بعد كذا فأخذوه من أجل أن يدعوا عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لذلك الإنسان المؤمن دائم التفكر في الغد هل سيكون في الدنيا أم سيكون في القبر، فعليك أن تعمل الخير حتى لا يضيق عليك قبرك، وحتى لا تندهش في قبرك وتتحير، ولا تقدر على الجواب، إياك والظلم فلا تظلم أحداً.(52/4)
واجب الرعية تجاه الولاة الظلمة
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي) يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، أي: تقوم بسياستهم وأمرهم، وهؤلاء القوم بنو إسرائيل كانوا أهل معصية وأهل نفور ولا يجتمعون أبداً على أحد إلا إذا كان هناك نبي من أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام.
فإذا كان النبي موجوداً يطيعونه فإذا ابتعد عنهم يعصونه، فإن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما كان معهم وأنجاهم الله من فرعون كانوا على الإسلام، ولما خرجوا من البحر ومروا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أي: نحن نريد أن نعبد إلهاً: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف:138]، فذهب موسى للقاء ربه سبحانه وصنع لهم السامري عجلاً فعبدوه من دون الله سبحانه وتعالى، فما احتاجوا إلى أن يكون الأنبياء موجودين معهم وفيهم، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا نبي بعده فضلاً عن أن يكون هناك رسول بعده صلوات الله وسلامه عليه.
قال (وسيكون بعدي خلفاء فيكثرون) أي: سيكون خليفة وراء خليفة وراء خليفة (قالوا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: أوفوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم) يعني: الخلفاء والملوك إذا طلبوا حقوقهم أعطوهم حقوقهم، (واسألوا الله الذي لكم) كأنه إشارة إلى أنه سيكون فيهم الظلم، فلم يقل: قاتلوهم، بل قال: (ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: لا تقتلوهم ولا تقاتلوهم طالما أنهم يقيمون فيكم الصلاة، قال: (واسألوا الله الذي لكم) أن تؤدي الحق الذي عليك وتسأل الله الحق الذي لك، قال: (فإن الله سائلهم عما استرعاهم) أي: اتركوهم لهم يوم عند الله عز وجل يجمعهم فيه ويسألهم عما استرعاهم عليه يوم القيامة.(52/5)
الوعيد الشديد للولاة الظلمة
وفي الصحيحين أيضاً من حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه دخل على عبيد الله بن زياد فقال له: أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة، فإياك أن تكون منهم)، وعبيد الله بن زياد كان أميراً من الأمراء، وكأنهم عرفوا فيه ظلماً، فذهب إليه هذا الصحابي عائذ بن عمرو رضي الله عنه ينصحه ويعظه، فقال له: (أي بني) وهذا يعني أنه كان صغيراً في السن وهذا الصحابي كان كبيراً رضي الله عنه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاء الحطمة) (الحطمة) على وزن: فعلة، وهي صيغة مبالغة، مثل قولك: هذا صُرعة هذا ضُحكة، هذا حُطمة، هذا هُمزة، هذا لُمزة، كلها من هذا الباب، والمعنى: أنه مبالغ في هذا الذي يفعله.
فالحطمة: هو الإنسان الذي يحطم ما تحته، كالراعي يرعى غنماً أو إبلاً ومعه عصا يضرب بها أغنامه أو إبله وينفرها ويقسو عليها، فهذا شر الرعاء، وكذلك الراعي الحاكم الذي يكون على الناس ويتولى أمرهم فتراه عنيفاً عليهم ويفرقهم من حوله، فقال: (إن شر الرعاء الحطمة) فقام ينصح هذا الأمير ويقول: (فإياك أن تكون منهم) أي: احذر أن تكون من هؤلاء الذين يفرقون الناس ولا يجمعونهم.
وفي الحديث عند أبي داود عن أبي مريم الأزدي أنه قال لـ معاوية رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة)، فجعل معاوية رضي الله عنه رجلاً على حوائج الناس، الحديث رواه أبو داود والترمذي بإسناد فيه ضعف، ولكن له شاهد كما في التحقيق، وفيه أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين فلابد أن يكون غير محتجب عنهم، طالما هو مسئول فلابد أن يكون أمام الناس حتى يجدوه ولا يحتجب عنهم، فإذا احتجب جعل من يسمع منهم ويبلغه هذا الشيء، فكأن معاوية رضي الله عنه احتجب في قصره فجاءه أبو مريم الأزدي يخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، والوالي سواء كان حاكماً كبيراً أو صغيراً هو مسئول أمام الله عز وجل، وقد لا يكون مسئولاً عن بلد من البلدان، بل يحكم الناس كلهم، فولاه الله أمورهم، فإذا احتجبوا عن الناس بحيث لا أحد يعرف أن يصل إليهم أبداً، وهم مسئولون عن مصالح الناس، قال: (فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم) أي: احتجب فلم يعط أحداً، ولم يقض لأحد حاجته، فهذا يحتجب الله دون حاجته وخلته وفقره يوم القيامة.
يأتي الإنسان عارياً ليس معه مال، وليس معه ثياب مثل المحتاج، فإذا بالله يمنعه ولا يجيبه ولا يرد عليه، والمعنى: أنه يصير إلى النار والعياذ بالله.
فاتعظ معاوية بذلك فجعل رجلاً على حوائج الناس، أي: جعل من يقوم بحوائج الناس، يصل إليهم ويصلون إليه ويبلغ معاوية رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ففيه أن الإنسان المسلم إذا كان في مكان وتولى أمور رعية سواء كانوا قليلين أو كثيرين فلابد أن يرأف بهم ويرحمهم، ويعظهم، وينصحهم ويحوطهم بشفقته، وينظر في حوائجهم، فالله عز وجل يكون في عونه طالما أنه في عون إخوانه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(52/6)
شرح رياض الصالحين - الوالي العادل
لقد أمر الله تعالى عباده بالعدل، ووضع الميزان بين عباده ليعدلوا فيما بينهم، وقد جاءت نصوص كثيرة في ترغيب الولاة في العدل في حكمهم، وتحذيرهم من الظلم والتعسف مع الرعية، فإنهم مسئولون عما استرعاهم الله تعالى أحفظوا أم ضيعوا.(53/1)
ما جاء في الوالي العادل
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، وقال تعالى: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)] متفق عليه.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوالي العادل].
الوالي: هو من يتولى أمور الناس سواء كان حاكماً أو أميراً أو قائماً على مجموعة من الناس يتولى أمرهم، فالإنسان الذي يتولى أمر الناس ويعدل فيهم فقد صدق ما أمر الله عز وجل به في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فأمر الله بالعدل، فكل إنسان يوليه الله عز وجل شيئاً صغر أو كبر فلا بد من العدل في ولايته، وهو يأتي يوم القيامة مغلولاً، فالعدل يفك هذا الإنسان أو يوبقه، سواء كان حاكماً أو قاضياً أو مسئولاً عن أناس، فيلزمه أن يعدل في حكمهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، فتتعامل مع الناس بمنطلق العدالة فبدأ بها، أو بالإحسان؛ فلعله يصعب أن يحسن الإنسان مع كل الناس فعلى الأقل اعدل مع الجميع.
فبدأ بما يقدر عليه كل إنسان وهو العدل ثم ثنى بالإحسان وهي الدرجة الأعلى والأعظم، فعليك أن تحسن مع الناس وتكسب أجر الله سبحانه، فبالإحسان إلى الناس تستجلب المحبة بينك وبينهم، ورضا الله سبحانه تبارك وتعالى فوق ذلك.
فأمرك الله بالإحسان، وبدأ بالعدل، فتعدل في أهلك، وتعدل في مالك، وتعدل فيما ولاك الله سبحانه تبارك وتعالى.
وقال: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] (أقسطوا) أي: اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، المقسط: اسم فاعل من الفعل الرباعي (أقسط)، فإذا حذفت منه همزته عُكس ما فيه من معنى، فقسط بمعنى: جار وظلم، قال الله سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14]، أي منهم العادلون الصالحون ومنهم القاسطون، {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن:14 - 15]، فيكون جزاءهم {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن:15].
فالله عز وجل أمر بالقسط أي: بالعدل، فيقسط المسلم في حكمه وفي أهله وفيما ولاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا صار مقسطاً كان قريباً من الله سبحانه، وإذا انعكس وصار قاسطاً ظالماً كان بعيداً عن الله يستحق العقوبة يوم القيامة.(53/2)
شرح حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، سبعة أصناف من الناس سواء من الرجال أو من النساء، لكن الإمام العادل لا بد أن يكون رجلاًن فشرط في الخليفة أن يكون ذكراً.
قوله: (إمام عادل) هذا منصب الرجال، إمام عادل يحكم الناس بشرع رب العالمين سبحانه، ويقسط في حكمه، فهذا من أوائل من يظلهم الله في ظله.
ويوم القيامة موقف عظيم بين يدي الله سبحانه، قال الله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
يقوم الناس كلهم بين يدي الله سبحانه، وتدنو الشمس من الرءوس، فإذا بالعرق يسيل من الناس في هذا اليوم الفظيع وينزل في الأرض، فمنهم من يبلغ إلى قدميه ويغطي قدميه، وهو واقف منقوع في عرقه، وإنسان آخر أفظع من ذلك عرقه يبلغ إلى ركبتيه، وإنسان ثالث عرقه يبلغ إلى حقويه، وإنسان رابع يصل إلى منكبيه، وإنسان خامس يغطي عرقه أذنيه، لم يتعب نفسه لله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، ولم يخدم دين الله سبحانه، كل تعبه كان في الدنيا، يجري ويذهب ويأتي لها، كان يسيل عرقه في أمور اللهو وفي الباطل، ولم يعرق ولم يتعب في الدنيا لله سبحانه، بخلاف المؤمن الذي يفني عمره كله في طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، كان يصلي ويذهب إلى بيت الله سبحانه في الحر أو في البرد، ويفعل الطاعات من أمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن حضور الجنازات وعيادة المرضى، ومعاونة من يحتاجون إلى معاونة وهكذا.
فالمؤمن ذو خلق ونفع لمن حوله، فهو يتعب نفسه ليستريح يوم القيامة، يتعب نفسه ليؤمنه الله يوم القيامة، يعرق في الدنيا حتى لا يعرق يوم القيامة ويغرق في عرقه.
يوم القيامة تدنو الشمس من الرءوس، والشمس الآن على بعد شاسع جداً عن الناس وضوءها يصل بعد ثمان دقائق، ويوم القيامة تكون الشمس قريبة من رءوس الناس على بعد ميل واحد، وهو ميل المسافة أو هو ميل المكحلة الذي يكتحل به، فالشمس تكون فوق رأس الإنسان يوم القيامة، فكم سيسيل من العرق من هذا الإنسان؟! والإنسان يخرج من قبره حافي القدمين لا ثياب عليه في هذا الموقف العظيم بين يدي الله سبحانه.
والمؤمنون ينفعهم إيمانهم وتقواهم لله سبحانه، ينفعهم أنهم بذلوا في الدنيا من العرق والدم والمال، وبذلوا من أوقاتهم لله سبحانه تبارك وتعالى، فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يوم لا ظل إلا ظل الله سبحانه تبارك وتعالى، ظل عرشه، وظل يخلقه الله سبحانه ويجعله للعباد، وظل الله أعلم به، نقول: هذه أرض الله، هذه سماء الله، هذا ظل الله، فهو شيء يختص به الله عز وجل.
قوله: (إمام عادل) بدأ بالإمام العادل لأنه أنفع الناس للناس، فالحاكم المسلم الذي يحكم الناس بشرع الله، الذي ينفع الناس، والذي يعدل بينهم، هذا الإنسان ينتفع به الكثير من الخلق، فاستحق أن يقدم على الجميع يوم القيامة فيبدأ به.
الثاني: (شاب نشأ في عبادة الله)، يفرح المؤمن أن الله عز وجل هداه لدينه فأقبل على طاعة الله وهو شاب صغير، وكم من الشباب يقترفون معاصي الله وقد يتوبون غداً ولكن بعدما يتوب أحدهم وقد جاءه المشيب يندم على ما فرط، وفرق بين من نشأ في العبادة وهو صغير يعبد الله سبحانه ويحفظ كتابه ويتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الآخر، فهو نشأ على دين الله من صغره، فاستحق هذه المكافأة يوم القيامة.
فيجب عليك أن تنشئ ابنك على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وهو صغير حتى ينفعك يوم القيامة، وأيضاً وأنت شاب تتعلم طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وتجتنب الهوى، وتبتعد عما يبعدك عن ربك سبحانه، وعما يبعدك عن ظل الله يوم القيامة.
وكذلك الفتاة التي نشأت في عبادة الله سبحانه تبارك وتعالى، فلها هذا الظل يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى.
قال: (ورجل قلبه معلق في المساجد)، إذا خرج منه فقلبه معلق به حتى يرجع إليه، يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى؛ لأنه يتقرب إلى الله بالصلاة في بيته وبالاعتكاف في بيته وبذكر الله ودعائه وقراءة القرآن وبحضور مجالس العلم، فقلبه معلق ببيت الله سبحانه تبارك وتعالى، وليس متعلقاً بالمسجد لأنه سيقابل فلاناً وفلاناً، وسيحضر النادي الذي في المسجد، ويتعرف على فلان وعلى فلان؛ بل هو معلق ببيت الله لطاعة الله سبحانه، ويضن بوقته أن يضيعه في غير طاعة ربه سبحانه.
ولذلك فالمعتكف الذي يلزم المسجد داخل تحت هذا الحديث، فهو يحب بيت الله سبحانه تبارك وتعالى، يعتكف ليصلي الصلوات الخمس في بيت الله سبحانه، وليطيع ربه وليقرأ القرآن ويتعلم العلم الشرعي.
قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)، وكذلك امرأتان تحابتا في الله اجتمعتا عليه وتفرقتا عليه.
والحب في الله شيء عظيم، يجتمعان على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى ويفترقان على ذكر الله سبحانه، فالمؤمن مع أخيه المؤمن، والمرأة المؤمنة مع أختها المؤمنة يجتمعان فيذكران الله سبحانه تبارك وتعالى، تسلم على أخيك وتقول له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، كان بعض الصحابة يسأل أحدهم أخاه فيقول له: كيف أنت؟ فيقول: الحمد لله، قال: لهذا أسألك، أنا أراك بخير، لكن أسألك لكي تقول: الحمد لله، فتذكر الله عز وجل فنؤجر على ذلك.
فالمؤمن يذكر الله سبحانه مستمتعاً بذكر الله، محباً لله سبحانه تبارك وتعالى، يذكر أخاه بالله سبحانه، وأخوه يدعوه للطاعة، ويأمره بالمعروف، وينصحه في الله سبحانه، فهو محب لأخيه لذلك، وفرق بين من يحبه لذلك وبين من يحبه لدنيا، ليذهب معه في حاجة، أو ليتمشى معه، أو ييذهب معه إلى محرم، فهذا يحب لأجل الدنيا، وسرعان ما يفترقان، فالدنيا لا تجمع شمل أحد أبداً.
فلتكن محبتكم على دين الله عز وجل، فاجتمعوا على دين الله وعلى طاعته، وتفرقوا على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وإذا حدث بينك وبين أخيك شيء فراجع نفسك وليراجع نفسه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحاب اثنان في الله ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)، اثنان تحابا في الله وفجأة إذا بهما يختصمان! فلا بد أن هذا أذنب ذنباً أو ذاك أذنب ذنباً.
أيضاً: الإنسان يحب إنساناً في الله سبحانه تبارك وتعالى، فأنت تحبه ليس لذاته وإنما في الله سبحانه، تحب الله الحب الأعظم في قلبك، وإذا مات هذا الإنسان فإن الله حي لا يموت سبحانه تبارك وتعالى، فحبه في قلبك لا يفارق قلبك، ولذلك المؤمن يحب ربه ويستغني بربه سبحانه ويستأنس بذكره سبحانه تبارك وتعالى، ويحب أخاه في الله ولله سبحانه تبارك وتعالى.
أيضاً: الحب له غاية وله كيفية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما)، فالحب في الله عز وجل له حدود، فيحب أخاه ولا يشغله فيقعد معه يوماً كاملاً لأنه يحبه! لا يعطله عما يحتاج إليه من أمر معاشه وأمر حياته وأمر دينه، ولكن يحبه لأنه يعينه على طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا أبغضت إنساناً فلا تبالغ في الكراهية، أبغض عمله الذي هو عليه، فقد يكون سارقاً، وقد يكون زانياً، وقد يكون عاصياً لله سبحانه بأي صورة من صور المعاصي، فتبغض هذا العمل، ولكن لا تجعل البغضاء حاجزاً بينك وبينه فلا تستطيع أن تدعوه إلى الله سبحانه، ولعله يتوب ويبقى في نفسه شيء منك لأجل البغضاء التي كانت بينك وبينه يوماً ما.
فالحديث يقول لك: إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تفرط (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما).
قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)، رجل دعته امرأة إلى المعصية، إلى فراشها، إلى الوقوع في الفاحشة؛ فإذا به يخاف الله سبحانه، وأي امرأة هذه المرأة؟ ليست امرأة قبيحة، ولا امرأة عجوزاً شمطاء، بل هي امرأة ذات منصب، فهي تستطيع أن تضره أو تنفعه بحسب ما ينظر الناس، وهي شديدة الجمال، ففي يدها الترغيب والترهيب، التخويف والتحبب إليه، فهذا الإنسان لم يخف منها؛ لأنه يخاف الله سبحانه تبارك وتعالى، ولم يرغب فيها لأن قلبه معلق بما عند الله، فعند الله الحور العين وجنات عدن، فقلبه معلق بالآخرة، وبالخوف من الله، وبالرجاء في الله، (ولذلك قال: إني أخاف الله)، لا أخاف منك، ولا أرجو منك شيئاً، إنما أخاف الله؛ فاستحق أن يكون يوم القيامة ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
(ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)، هذا رجل آخر تصدق بصدقة فأخرج المال وانتظر حتى جاء الليل وقل الناس وذهب للفقير فأعطاه، حتى إن الفقير لعله لا يعرف من الذي أعطاه هذه الصدقة فأخفى الصدقة، ومن شدة إخفائه لها يكاد يخفيها عن نفسه، فهو من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
والمؤمن ينفق ولا يستكثر ما ينفقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أدبه ربه وقال له سبحانه: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] لا تعطي المال مستكثراً هذا المال، فنهاه ربه سبحانه عن استكثار المال، فلا تنظر إلى أنك أعطيت الكثير، حتى وإن أعطيت مالاً كثيراً فالمال مال الله سبحانه، ومهما أعطيت فهو قليل من مال الله سبحانه.
والمعنى الآخر: لا تستكثر من أموال الناس بالعطية، لا تمنح مالاً وتنتظر ثواباً على هذا المال، وتريد أن يعطوك من أموالهم، فأنفق لله سبحانه ولا تنتظر مردوداً من أحد عليك فيما أنفقت.
قال: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، ورجل -وكذلك امرأة- كان في مكان وحده لا أحد معه، لعل الإنسان أمام الناس قد يبدو خشوعاً من الله سبحانه ومتأثراً بالموقف الذي هو فيه، وهذا حسن، ولكن الأحسن منه أن يبكي الإنسان فيما بينه وبين الله سبحانه تبارك وتعالى، يقوم الليل(53/3)
شرح حديث: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور)
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا) (إن المقسطين) أي: أهل العدالة الذين يعدلون، والمسلم يعدل مع من يحب ومع من يبغض، يعدل مع صديقه، ويعدل مع عدوه، يقول الله سبحانه تبارك وتعالى للمؤمنين: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، أي: لا يدفعنكم بغضكم لهؤلاء الكفار إلى عدم العدل، فاعدل مع كل الناس، كن عدلاً مع أقربائك ومع الغرباء عنك، مع أصدقائك ومع أعدائك، اعدل كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] لم يقل: كونوا قائمين، بل قال: (كونوا قوامين) أشد القيام وأعظم القيام أن تقوم في دين الله سبحانه، وتقوم لأمر الله، وتكون قائماً بالقسط تعدل بين الناس، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ} [النساء:135]، إذا طلبت منكم الشهادة فاشهدوا بالحق حتى ولو كانت هذه الشهادة تضركم أنتم، {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}، فتشهد بالعدل ليأخذ كل ذي حق حقه، ولا تقل: لو شهدت بالحق سيضيع هذا المال الذي عند أبي أو عند أمي وهو مال غصب أو مال سرقة، فاشهد بالحق ليرجع المال إلى صاحبه، ويكون لك الأجر عند الله.
ولا تقل: فلان هذا مسكين فقير، لو شهدت عليه فستضرر، الله عز وجل يقول لك: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} فالإنسان قد يحجم عن الشهادة ويقول: فلان غني، ويمكن بماله أن يضرني بعد هذا! أو يقول: فلان هذا فقير سيضيع بشهادتي عليه، ويصعب علي أن أشهد عليه، فمن أولى بهذه الرحمة أنت أم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ الله يقول: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، فأنت مأمور بطاعة الله سبحانه، فتشهد بالقسط وبالعدل والله أولى بهؤلاء وسيعاملهم سبحانه بما يريد.
قال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135]، فاحذر أن تتبع هواك فتترك العدل، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135]، {وَإِنْ تَلْوُوا}، أن يلوي الإنسان جانبه، ويبتعد عن دين الله سبحانه فالله خبير بما تصنع وتفعله، {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا}، إن تلووا هذه الشهادة أو تعرضوا عنها فالله أولى بذلك سبحانه وهو خبير ويعلم ذلك سبحانه.
قال عليه الصلاة والسلام: (المقسطون عند الله على منابر) المنابر هي الكراسي العالية، فيجعل الله عز وجل له منبراً يوم القيامة يجلس عليه، وهذا الكرسي من نور، فما صفاتهم؟ قال: (الذين يعدلون في حكمهم)، الولاة والأمراء والحكام الذين يحكمون فيعدلون بين الناس في حكمهم، لكن هل كل الناس حكام؟ لا، ولذلك قال: (الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم) رجل يعدل مع أولاده وبناته، فيعطي هذا ويعطي هذا، لا يميز البعض على الآخر، يعدل مع أولاده ومع أهله، يتزوج أكثر من واحدة فيعدل مع هذه وهذه، هذه لها ليلتها، وهذه لها ليلتها، يعدل مع أبيه ومع أمه، فيظهر المحبة لهذا ولهذا، ولا يميز بينهما فيغضبهما فيكون ذلك من العقوق، فهو يعدل مع أهله، ويعدل في حكمه، يعدل في ولايته، وفي كل ما تولى عليه فهو يعدل فيه.(53/4)
شرح حديث: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم)
عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويلعنوكم) أي: خيار حكامكم، فأفضل الحكام الذين يحبهم الشعب ويدعو لهم، (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم)، فهنا المحبة متبادلة، فهم يحبون الناس، والله عز وجل يجعل الناس يحبونهم، وإذا كانوا يبغضونهم فالله يجعل البغضاء في قلوب الناس فيبغضونهم.
قال: (وتصلون عليهم ويصلون عليكم) أي: تدعون لهم ويدعون لكم، وهذا سواء كان حاكماً كبيراً أو حاكماً صغيراً، الحاكم الذي يحكم الناس فيعدل يحبه الناس، والذي يحكم ولا يعدل يبغضه الناس، فالخيار في الدنيا هم الذين يعدلون فيحبهم الناس ويحبون الناس.
(وتصلون عليهم) أي: تدعون لهم بالرحمة، (ويصلون عليكم أي: يدعون لكم، فهؤلاء خيار أئمتكم).
وشرار الحكام هم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، فالناس يكرهونهم يكرهون الناس (وتلعنونهم ويلعنونكم) أي: تدعون عليهم ويدعون عليكم.
قال: (قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟)، إذا كان الحكام بهذه الصورة يبغضوننا ونبغضهم ويلعنوننا ونلعنهم، فلماذا نتركهم؟ قال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: إذا كانوا يقيمون الصلاة فلا تنابذوهم بالسيف، وكأن مصلحة وجودهم فوق المفسدة التي ينبني عليها ظلمهم، فيحصل اختلاف بين المسلمين، وقد يكون المسلمون أقوى وقد يكونون ضعفاء، فعندما يتحاربون معهم يسقط القتلى من المسلمين ويضيق على باقي المسلمين، ولم يكسبوا شيئاً، فإذا صبروا على أمر الله سبحانه كان لهم الأجر من الله، وخمدت الفتنة قال، ولهذا: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفي حديث آخر قال: (ما صلوا).(53/5)
شرح حديث: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط)
عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط موفق)، ليس المعنى أن هؤلاء فقط أهل الجنة، ولكن من أهل الجنة هؤلاء الثلاثة، أو أن هؤلاء من السابقين إلى الجنة الذين يستحقونها (ذو سلطان مقسط موفق) أي: حاكم مقسط يحكم بين الناس بالعدل، وهذا توفيق من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالإنسان لا ينسى فضل الله عز وجل عليه أنه هو الذي يلهمه الصواب ويوفقه للحكم بالعدل بين الناس، قال: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم)، قد يكون الإنسان رحيماً ورقيق القلب على أولاده فقط، وعلى بقية الناس يكون قاسي القلب متحجراً، لكن هذا قلبه رحيم بالناس جميعاً إلا أن يكون مع الكفار, فالله عز وجل ذكر من صفات المؤمنين: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، ففيهم الرحمة للمؤمنين، وفيهم القوة على الكافرين، فمن أهل الجنة من فيه رحمة وهو رقيق القلب يعني: قلبه يتأثر بسرعة، يرى إنساناً مسكيناً ضعيفاً محتاجاً فيتأثر سريعاً ويقوم لخدمته أو لإعطائه، فقلبه رقيق عكس صحاب القلب الصلب الجامد.
قال: (لكل ذي قربى ومسلم) فبدأ بالأقربين؛ لأنه يبعد جداً أن تكون رقيق القلب بالأبعدين وأنت قاسي القلب على الأقربين، فلا يوجد إنسان يشتم أباه وأمه ويكون رحيماً رقيقاً مع الجيران ومع الغرباء، هذا بعيد، والمؤمن رقيق ورحيم مع الجميع، فإنه (رجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم).
قال: (وعفيف متعفف ذو عيال)، إنسان عفيف لا يأخذ أموال الناس، ولا يمد يده إلى الناس، متعفف، ويستشعر في نفسه الغنى وإن كان فقيراً، وإن كانت حاجته كبيرة ولكن في قلبه الغنى، ربى نفسه على العفة، وعدم التطلع إلى الغير، فهو ليس محتاجاً إلى أحد، فإن الغنى غنى القلب، أغنى الله قلبه فهو متعفف، أي: مظهر لهذا الوصف من نفسه، فهو متعفف لا ينظر إلى مال أحد أبداً، ولا يطلب مال أحد.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل الجنة، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(53/6)
شرح رياض الصالحين - وجوب طاعة ولاة الأمر في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية
لقد أمر الله تعالى بطاعة ولاة الأمر في غير معصية، وفي ذلك صلاح للمجتمع عظيم، وخير للمسلمين كبير، وفي معصية ولاة الأمور أو طاعتهم في المعصية، فساد كبير، وشر مستطير.(54/1)
وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم) متفق عليه.
وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) رواه البخاري].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية وتحريم طاعتهم في المعصية.
المسلم يطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، ويطيع الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ويطيع من ولاه الله عز وجل عليه، وهذا من حكمة شرع رب العالمين سبحانه، فيسمع ويطيع كما أمر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
فولاة أمور المسلمين لهم السمع والطاعة ما حكموا بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو وقعوا في المعاصي، فالدين ينظر إلى مصلحة جماعة، ولا ينظر إلى مصلحة الأفراد واحداً واحداً بغض النظر عن مصلحة الجميع، بل النظرة لجميع المسلمين، ولو أن المسلمين مع ولاة أمورهم كلما حدثت معصية من ولاة الأمر قاموا بالإنكار والخروج عليهم بالسيف فلن تستقر بلاد المسلمين أبداً، وستكون دائماً في حروب؛ ولذلك الصحابة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، وفي رواية قال: (ما صلوا) أي: طالما أنهم يصلون ويقيمون الصلاة ويأمرون بها، ويؤذن للصلاة في البلاد، ولم تروا منهم كفراً بواحاً يخرجهم عن دين الله عز وجل؛ فلا تنابذوهم بالسيف، والمنابذة بالسيف فيها مصلحة، وتركها فيها مصلحة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)، وهذا إذا وجد المنكر مع آحاد الناس، أما مع ولي الأمر فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر أن يخرج عليهم بالسيف.
فولاة الأمور في كل زمان لهم من يتابعهم، فمعهم جيشهم، ومعهم قوتهم وسلاحهم، والذي يخرج عليهم وينابذهم بالسيف على شيء قد يكون يسيراً سوف يقتل الكثيرون من المسلمين على شيء قد يكون صغيرة وليس كبيرة.
فنظر الإسلام إلى أن مصلحة حقن الدماء أولى من أن تأمر بالمعروف فيقتتل الناس ويترتب على ذلك مفسدة عظيمة، ولذلك لما قالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، ولما أخبرهم عن ولاة الأمور الظلمة، وقال: (ويضربون أبشاركم، ويأخذون أموكم، قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا).
فالنبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى مصلحة حقن دماء المسلمين، حتى ولو ظلم البعض وضرب البعض، ولكن إذا خرج الجميع عليهم فسيحدث بين المسلمين اقتتال، وسيقتل الكثيرون، وفي خلال ذلك يدخل أعداء الإسلام إلى دار الإسلام فيتحكمون فيهم، فيكون المسلمون هم الذين ضيعوا أنفسهم بذلك، وقد جاء في صفة الإنكار على ولاة الأمور أنك تنكر بالمعروف، ولا تهن سلطان الله في الأرض، كما سيأتي في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله).
إذاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع آحاد الناس يكون على ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان مع ولاة الأمور فتنصح وتسمع وتطيع إلا أن ترى كفراً بواحاً عندك فيه من الله سلطان، ففي هذه الحالة تأمر وتنهى وتغير كما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى.(54/2)
السمع والطاعة لولاة الأمور بالمعروف
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59].
(أولي الأمر منكم) أي: من المسلمين، حكام المسلمين الذين يحكمونهم بشرع الله سبحانه حتى وإن كانوا عصاة.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة) أي: تلزمه طاعته طالما أنه في دار إسلام، وأنه تولى عليه من يقيم الصلاة ومن يحكمه بشرع الله عز وجل سواء كان براً أو فاجراً؛ فعليه أن يسمع وأن يطيع في المعروف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية).
إذاً: إذا أمر ولي أمر المسلمين بمعصية فلا سمع له ولا طاعة، فالمسلم يسمع لكتاب الله، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا أمر بالخير أطاع ونفذ، وإذا أمر بالكفر وبالخروج عن دينه، وبالمعاصي فلا سمع ولا طاعة لأحد.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم).
انظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين، هم يبايعونه وهو يأمرهم بطاعة الله عز وجل، يقولون: بايعناك على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، فيقول لهم: قولوا: فيما استطعنا، يعني: بقيد الاستطاعة، فقد يقدر الإنسان على أشياء فتلزمه، وقد تستحيل عليه، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، فكان يعلمهم أن يقولوا: فيما استطعنا.(54/3)
شرح حديث: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له)
عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).
قوله: (من خلع يداً من طاعة) هذا في ديار الإسلام، إذا كان الحكام مسلمين يحكمون المسلمين بشرع رب العالمين سبحانه، وسواء كان هؤلاء الحكام مطيعين أو عصاة وتولوا الأمر على المسلمين، فإذا حكموهم بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم فالواجب على المسلم السمع والطاعة، فإذا خلع اليد من الطاعة، وخرج على الحاكم الذي يحكم الناس بالمعروف، ويقول: أنا أولى بالخلافة من هذا، أنا أولى بالإمارة، ويخرج ومعه جيش، ثم كل إنسان يرى أنه أفضل من غيره، وأنه يستحق أن يملك الحكم دون غيره، ويقتتل المسلمون بعضهم مع بعض، ويتحكم أعداء المسلمين في المسلمين، فكلما تنازع المسلمون وجاءت الفتن من داخلهم قوي أمر أعدائهم، وزادت شوكتهم على المسلمين؛ فلذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من المناوشات فيما بينهم بسبب الطمع على الدنيا حتى وإن غلفوا ذلك بثوب الدين، وقالوا: نحن أفضل من هذا، ونحن لو نشكل حكومة سنعمل كذا، ونعمل كذا، ونكون أفضل من هذا، وما يدريك أن الله عز وجل يفتنك إذا كنت على هذا الأمر؟! فطالما أن الحاكم الموجود يحكمك بالمعروف بشرع الله عز وجل بدين رب العالمين، فليس لك أن تخرج عليه حتى وإن ظلمك، فإذا خرج الإنسان عليه وقال: لا طاعة، وكل إنسان قال: لا أسمع ولا أطيع، ويأتي الكفار إلى بلاد المسلمين فيقول للناس: اخرجوا جاهدوا! فيقول هذا: لا أجاهد معه، والآخر يقول: لا أجاهد معه، والثالث يقول: لا أجاهد معه، فلا يكون هناك جيش للمسلمين، فيدخل الكفار ديار المسلمين، وينتهكون حرمات المسلمين، ويأخذونهم عبيداً وأسرى عندهم، وينتهكون نساء المسلمين، وتضيع ديار المسلمين، وهذا بسبب هذا التفكير القاصر، وقوله: أنا الذي أصلح للخلافة، ولن أسمع ولن أطيع لهذا، فتضيع البلاد.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر المسلمين أن يكونوا جماعة، والإنسان الذي يخرج عن ذلك فكأنه خلع ربقة الإسلام من عنقه، خلع حبل الإسلام الذي يأمره أن يكون مع المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (من مات وليس في عنقه بيعة)، أي: في دار الإسلام، ووجود من يحكم المسلمين بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، براً كان أو عاصياً، فبره ينفع نفسه وينفع الناس، وعصيانه على نفسه، وإذا أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة في المعصية، وإذا أمر بالمعروف فله السمع والطاعة، لكن لا يفترق المسلمون، ولا يطلب كل منهم لنفسه رياسة أو حكماً، فإن من يطلب ذلك لا يعينه الله عز وجل عليه، يقول: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) أي: كميتة أهل الجاهلية.(54/4)
التحذير من مفارقة الجماعة والخروج عن الطاعة
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفِي لذي عهد في عهده؛ فليس مني ولست منه).
يقول الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث وما في معناه: أي كموت أهل الجاهلية، وليس معناه أنه كافر، ولكن مات كما يموت أهل الجاهلية، كل منهم يكون وحده لا إمام له، ولا له جماعة ينتمي إليها؛ لأنهم كانوا لا يعرفون ذلك فيموتون على الضلال، وليس المراد أنه يموت كافراً، بل يموت عاصياً، ويحتمل أن يكون التشبيه على ظاهره، ومعناه: أنه يموت مثل موت الجاهلي، وإن لم يكن هو جاهلياً.
وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة شبراً فكأنما خلع ربقة الإسلام من عنقه)، ذكر الحافظ ابن حجر عن ابن بطال قال: في الحديث حجة في ترك الخروج على السلطان، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجة جمهور العلماء هذا الخبر، بل أجمع الفقهاء على ذلك، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، الكفر الذي لا تأويل له، بحيث يحكم عليه أنه كفر وخرج من الملة، فلا تجوز له الطاعة، ويخلعه أهل الحل والعقد، ويقاتلونه إن أصر على ذلك.
ففي هذا الحديث أن على المسلمين أن يجتمعوا وألا يفترقوا، وألا يكونوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون، بل يجتمع الجميع، ويكون للدولة جيش يحمي هذه البلدة، ويجب على المسلمين أن يتعاونوا على البر والتقوى ما استطاعوا، ويتناهوا عن المعاصي ما استطاعوا، طالما أنهم يحكمون بشرع الله عز وجل، فإذا قال لهم حكامهم: لا نحكم بشرع الله، ولا نريد شرع الله، وسنحكم بغير ما أنزل الله، ففي هذه الحالة لا سمع ولا طاعة في مثل هذا، إنما السمع والطاعة في المعروف، فيما إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فيما إذا تمسكوا بكتاب الله عز وجل، والتمسك بكتاب الله عز وجل فيه العصمة للجميع حكاماً ومحكومين، فإذا خرجوا عن ذلك فلا سمع ولا طاعة.
جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] قال: نزلت في اليهود، يقصد أنها فيهم، وأيضاً فيمن كانوا مثلهم، فمن ألغى حكم الله عز وجل، وقال: أنا أحكم بغير شرع الله لأنه أفضل من حكم الله سبحانه، فهو كافر، لكن لو أن إنساناً عرف حكم الله عز وجل في شيء فلم يحكم به، مع إقراره أن هذا حكم الله سبحانه، ثم قال: لا أقدر أن أحكم به، وأخاف إن حكمت به أن يحدث كذا وكذا، وأنا مقر ومؤمن به، فهذا ليس كفراً أكبر مخرجاً لصاحبه من الملة، إنما الكفر المخرج لصاحبه من الملة أن يستبدل دين الإسلام بغيره، وأن يقول: شرع غير الله أفضل من شرع الله، أو يقول: يسعني أن أحكم بغير شرع الله سبحانه تبارك وتعالى، أما من يقر بذلك كله ثم يعصي، فهذا عاص، لقول ابن عباس: كفر، وهي دون كفر، وهي في مثل حالة المقر بشرع الله عز وجل الذي يقيمه أحياناً، ويترك أحياناً، ولكن لا يتركه بالكلية، فإن رماه وراء ظهره محتقراً له مستهيناً به، مفضلاً غير شرع الله عز وجل عليه، فهذا هو الكفر الصريح.(54/5)
شرح حديث: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها)
عن عبد الله بن عمرو قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره)، يعني: كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلوا في مكان، فبعضهم كان ينتضل أي: يرمي بالنبل، وبعضهم في جشره، أي: يرعى دوابه، قال: (إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة، فقال صلى الله عليه وسلم: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم)، ففيه نصيحة الأنبياء لمن أرسلوا إليهم، فيدلونهم على خير ما يعملونه، وينذرونهم من شر ما يعلمونه.
قال: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها) أي: في عهد الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
قال صلى الله عليه وسلم: (وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتن يرقق بعضها بعضاً) أي: يأتي على الناس فتن، (يرقق بعضها بعضاً) فيأتي بلاء على الناس فيقولون: هذه مصيبة ما حصل مثلها أبداً، ثم تذهب وتأتي بعدها مصيبة أشد منها فيقال: المصيبة الأولى يسيرة بجانب هذه، وهذه التي جاءت أشد وأشد وهكذا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (يرقق بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، يدلنا صلوات الله وسلامه عليه على الخير، فالذي يحب أن يموت على الخير، ويحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فليأته الموت وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحصل أصول الإيمان، (وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)، فما تحبه من الناس فافعله بهم، فأنت تحب من الناس أن يكونوا مخلصين معك فكن مخلصاً معهم، وتحب منهم أن يحبوك فأحبهم، وتحب منهم ألا يغدروا بك وألا يضايقوك فابدأ أنت بذلك فلا تغدر بهم ولا تضايق أحداً ولا تؤذ أحداً، فإذا أتتك منيتك وأنت كذلك فأنت من أهل الجنة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ومن بايع إماماً -أي: حاكماً من حكام المسلمين- فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع)، طالما أنه يستطيع الطاعة في المعروف فليطعه، حتى إذا كان حاكم هذه الدولة المسلمة يظلم ويفجر ويقع في المعاصي، ولكنه مسلم، يحكم المسلمين بكتاب الله سبحانه تبارك وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاء إنسان وقال: أنا خير منه، وأنا أفضل، وأنا أحكم بكل كتاب الله وبكل سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أفعل وأفعل ونحو هذا الكلام، وكل إنسان لا يعجز عن الكلام أن يقوله، لكن إذا صار هو السلطان فلعله ينسى هذا كله، وكم من إنسان كان من العباد ومن العلماء، فلما عرضت عليه الوزارة وعرضت عليه الرياسة إذا به يطلق هذا ويتركه! ذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء أن رجلاً اسمه ابن الزيات كان عالماً من العلماء، وكان يستفتيه الناس، وكان وكان، ثم عرضت عليه الوزارة في الدولة التي هو فيها، فلما جاءته الوزارة أخذ كتاب الله فطواه، وقال: هذا فراق بيني وبينك! فأي إنسان يقول: أنا أحسن، أنا أفضل، أنا أعمل، لا تصدقه حتى تراه في هذا المكان، وترى ما الذي سيصنعه، فعندما تراه في هذا المكان فبعد ذلك ثق أو لا تثق؛ لذلك لا تخرج على حاكم موجود بزعم أنك أفضل منه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)، اضربوا عنق الآخر حتى لو كان أحسن من الأول؛ لأنه لن يصل إلى الحكم إلا بقتال بين المسلمين، ولذلك كان سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه غاية في الذكاء وغاية في التقوى رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما تولى الخلافة ومعه جيش عظيم جداً، وخرج أهل الشام مع معاوية ومعه جيش عظيم جداً، قال الحسن بن علي: إذا تقاتلنا سيسقط قتلى كثيرون، وإذا انتصرنا وقد خسرنا هؤلاء القتلى جميعهم فما الذي نكسبه من هذا النصر؟! فكان رأيه أن مال إلى الصلح، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالسيادة وقال: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فتنازل عن الملك رضي الله تبارك وتعالى عنه لـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع، وفضل الدار الآخرة على هذه الدنيا، فانظر إلى حكمته ورحمته بالمسلمين تطبيقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فاضربوا عنق الآخر)، فلأن يقتل واحد أفضل من قتل جموع من المسلمين، وكأنه يحذر من تسول له نفسه بطلب الإمارة ومنازعة الأمر أهله إلا إذا رأى كفراً يعلم كل ذي عينين أن هذا كفر لا تأويل فيه، فإذا كان كذلك فمن حق أهل الحل والعقد أن يبايعوا إنساناً آخر، ويلغوا بيعة الأول الذي هجر كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(54/6)
شرح رياض الصالحين - النهي عن سؤال الإمارة
الإمارة أمانة، وهي أيضاً خزي وندامة، ولذلك فلا يتولاها إلا من كان قادراً عليها قائماً بشئونها قوياً فيها، ومن طلبها فلا يعطاها، وإن أعطيها لم يعنه الله عليها، ومن جاءته من غير طلب أعانه الله عليها، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن سؤال الإمارة.(55/1)
النهي عن سؤال الإمارة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن سؤال الإمارة، واختيار ترك الولايات إذا لم يتعين عليه أو تدع حاجة إليه.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وعن أبي سعيد عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك)، متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين ولا تولَّين مال يتيم) رواه مسلم.
وعنه قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)]، رواه مسلم.
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله النهي عن سؤال الإمارة، أي: أن المسلم لا يطلب أن يكون أميراً.
ويذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم العلة من ذلك فيقول: لا تطلب الرياسة، ولا تطلب الإمارة، فإذا أتتك فخير تعان عليها، وإذا لم تأتك لم تكن قد طمعت في شيء لم تصبه، ولعلك تطمع فيه وتصيبه ولا تعان عليه.(55/2)
الفائزون بالجنة هم الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً
قال الله عز وجل: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
فالجنة في الدار الآخرة يجعلها الله سبحانه وتعالى للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، لا يريدون أن يعلوا، لا يريدون أن يفسدوا، بل يريدون أن يتواضعوا، ومن تواضع لله رفعه الله، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، والتواضع من الضعف، فإن كان يجعل نفسه قليلاً شأنه، فيتواضع ويحقر من شأن نفسه، فقد عرف قدر نفسه، فهو عند الله عز وجل له منزلة عظيمة، ويرفعه الله سبحانه.
فالإنسان الذي يرى نفسه عظيماً ويرى أنه يستحق أن يعظم، يأبى الله إلا أن يضعه، فمهما ترفع على الخلق احتقره الخلق، حتى وإن أظهروا له المحبة، وإن أظهروا أنهم يشرفونه ويرفعونه، ولكن يأبى الله إلا أن يحقره، ويجعله حقيراً عند الخلق، فأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى معلوم، وذلك لما كانت العضباء وهي ناقة النبي صلى الله عليه وسلم سريعة جداً، ففي يوم من الأيام جاء أعرابي على قعود، أي: راكب على جمل فسابق العضباء فسبقها، فحزن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بذلك، ويطيب خاطرهم، ويخبرهم أن الله أن يرفع شيئاً من الأشياء إلا وضعه الله سبحانه وتعالى، والإنسان في الدنيا لا يزال يرتفع ويرتفع ويرتفع إلى حد معين، فينخفض بعد ذلك في هذا الحد إلى أن يرجع إلى أصله مرة ثانية، فيأبى الله أن يرفع شيئاً ويدوم له الارتفاع، فالله وحده له الكمال سبحانه، والله هو الخافض الرافع سبحانه وتعالى، يخفض ما يشاء، ويرفع ما يشاء.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه)، يعلم المسلمين أن يتواضعوا، وأنك مهما ارتفعت فلا تفرح بارتفاعك، ولا تفرح بغرور الدنيا، فالإنسان يفرح بشبابه، ويفرح بقوته، ويفرح بماله، فيأتي عليه زمان يفقد فيه المال، ويفقد فيه شبابه، وينتقل إلى الهرم والشيخوخة، ويأتي عليه زمان يفقد فيه قوته وهكذا.
فلا تفرح بشيء تبختراً، فلابد أن تستمع إلى النصح وإلى الحق من غيرك، ولا تظن أنك في غنى عن الناس؛ فإن الله يأبى أن يرفع شيئاً إلا ويضعه.(55/3)
ذكر ما جاء من إعجاب قارون بماله وغناه وإهلاك الله له
قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83]، هذا بعدما ذكر لنا كيف صنع بقارون، وكيف تعالى قارون على قومه.
فقد كان قارون من بني إسرائيل، وكان الأحرى بهذا الإنسان أن يأتسي بموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهو يعرف أنه نبي الله عليه الصلاة والسلام؛ ولكن لاختلاط قارون بفرعون، ولكثرة أموال قارون أعجب بنفسه، فوافق فرعون في شغله بملكه، وهامان شغلته وزارته، وقارون شغله ماله، وكل منهم أرانا الله سبحانه وتعالى فيهم الآيات.
فهذا فرعون أهلكه الله وأغرقه وهو يظن أنه يدرك موسى ومن معه ويأتي به، فإذا بالله عز وجل يملي له، ثم يهلكه.
وهذا موسى الذي كان مستضعفاً، وكان قومه مستضعفين، فآمنوا بالله سبحانه، فإذا بالله يمكن لهم في الأرض، ويجعلهم الوارثين ويفعل الله ما يشاء.
فقد كان قارون من قوم موسى فبغى عليهم، وآتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فنصحه قومه، وقالوا له: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فأبى إلا أن يكون مثل فرعون، ففرعون له ملكه وماله، فأراد أن يقلد فرعون فيما هو فيه، ولا يستمع لموسى ولا لنصحه، ولا ينظر إلى بني جلدته من بني إسرائيل، أنهم قوم مستضعفون فآمنوا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وحاول أن يعلو ظناً منه أنه أحسن منهم.
خرج قارون على قومه في زينته مفتخراً يريهم أمواله، ويريهم حلله، ويريهم قوته وشبابه وجماله، فإذا بالله يأمر الأرض فأخذته هو ومن معه، فضاع الرجل وضاع ماله، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، وعقب ذلك ربنا سبحانه بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، أي: هذه الجنة العظيمة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، فالذي يتقي الله له العاقبة الحسنة، والذي يكفر بالله سبحانه له ما رأينا من آيات الله سبحانه وتعالى فيه في الدنيا، ثم النار في الآخرة.(55/4)
شرح حديث: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة)
عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها)، أي: لا تطلب أن تكون أميراً على مجموعة صغيرة، أو أميراً على بلد صغير أو كبير، لا تطلب أن تكون أميراً، فإذا أُمَّرت فإن الله سبحانه سيعينك، فلا تطلب شيئاً لعلك لا تكون أهلاً له، أو لعله يكون فتنة لك، قال: (لا تطلب الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة، أعنت عليها)، يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن طالب الشيء قد لا يعان عليه، وهنا يقول الإمام النووي يقول في أول الباب: إذا لم يتعين عليك، إذاً: هناك فرق بين إن تعين عليك، وإن لم يتعين عليك ذلك، وتعين هنا بمعنى: صار فرض عين عليه، أي: لا يصلح لها إلا هو، إذاً: في هذه الحالة هو معذور أن يقول: أنا أصلح لها، ولكن إذا وجد غيره يقوم بهذا الأمر، فلا يطلبه وليتركه لله سبحانه وتعالى.
قال: أو تدع حاجة إليه، أي: إذا دعت الحاجة إلى ذلك، والناس لم يجدوا إلا هذا، فهو معذور في هذا الشيء، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن أعطيتها -أي: الإمارة فكنت أميراً على الناس- عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها)، وطالب الإمارة العادة أنه لا يعان عليها، ولهذا قال: (وكلت إليها) أي: تركت ونفسك إليها، أي: لن يعينك عليها.(55/5)
كفارة اليمين
قال صلى الله عليه وسلم له: (وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك)، هذا الجزء من الحديث فيه بيان أنك إذا حلفت على شيء، ومن ثم ووجدت الخير في عمل هذا الشيء فاعمله وكفر عن هذا يمينك.
كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة.
إذاً: تطعم عشرة مساكين، والسائل دائماً يقول: أو أصوم ثلاثة أيام، ونحن نقول لك: ليس لك أن تصوم ثلاثة أيام، إلا إذا لم تقدر على إطعام عشرة مساكين، فأنت معذور أن تصوم ثلاثة أيام.
فإذا كنت تستطيع أن تصوم ثلاثة أيام، وتقدر أن تطعم عشرة مساكين، فكفر بالإطعام، فإذا صمت لم يجزئ عنك، فإذا كنت تستطيع إطعام عشرة مساكين فيلزمك إطعام عشرة مساكين، ولا يجزئ عنك الصوم؛ لأن الله عز وجل لم يبدأ بصيام ثلاثة أيام، بل قال: {فَمَنْ لَمْ يجد فصيام ثلاثة أيام} [المائدة:89]، أي: أن الذي لا يستطيع إطعام عشرة مساكين هو الذي يلزمه أن يصوم ثلاثة أيام.
والآية فيها
الجواب
{ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة:89]، أي: الطعام الوسط الذي تطعمه أهلك، (من أوسط ما تطعمون أهليكم)، فمن أكلك الوسط الذي لك ولأسرتك تطعم عشرة مساكين، ولعلك قد تأكل وجبةً تكلفك عشرين جنيهاً، لكن لا يتكرر هذا الشيء، وقد تأكل وجبةً تكلفك نصف جنيه، لكن لا يتكرر ذلك، فالغالب أنك تأكل وجبةً تكلفك ثلاثة جنيهات، إذاً: تطعم المسكين من مثل هذه الوجبة.
ولا يجوز دفع المال كفارة؛ لأنك قد تدفع المال للمسكين فيأخذه فيشتري به شيئاً آخر غير الطعام الذي أمرت أن تطعمه، فقد يأخذ المال ويشرب به الدخان، فعلى ذلك أنت لم تطعم هذا المسكين.
وقد يأخذ المسكين المال منك ومن الثاني ومن الثالث ويذهب ويشتري به حذاء، أو يشتري بها ثوباً، والله أمر: كسوة عشرة مساكين، وليست بكسوة مسكين واحد، فعلى ذلك تطعم عشرة مساكين وليس واحداً.
فإذا قيل: هل من الممكن أن نطعم مسكيناً واحداً عشرة أيام؟
الجواب
إذا كان هناك ضرورة، ولم يوجد مساكين، ولكن لو فرضنا أن قيمة الوجبة خمسة جنيهات، فتكون خمسين جنيهاً للمسكين، فتعطيه خمسين جنيهاً فيشتري بها أحذية فهنا لم تأت بالكسوة المطلوبة منك، ولم تطعم الطعام الذي أمرت به.
ولذلك الشريعة أمرتك بإطعام عشرة مساكين، فإن قلت: قد أطعم عشرة مساكين فيأخذ المساكين الوجبات ويبيعونها، فهنا فعلت ما عليك، ولا تلزمك الشريعة بأكثر من ذلك.
إذاً: إذا أردت أن تطعم في كفارة اليمين عشرة مساكين فلا بد من عشرة، فإذا تعذر وجود عشرة مساكين أطعمت خمسة مساكين، كل مسكين يومين، والإطعام يكون من طعامك الوسط، وجبة لكل مسكين، فتطعم عشر وجبات، فإذا تعذر وجود العشرة جاز أن تطعم مسكيناً عشرة أيام.(55/6)
نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ألا يتأمر على أحد ولا يتولى على يتيم
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، هنا أبو ذر رضي الله عنه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً) وأبو ذر كان إسلامه قديماً جداً، أسلم وذهب إلى مكة وجهر بإسلامه، وخاف منهم فاختبأ في الكعبة رضي الله عنه تحت ستارها حتى انصرفوا عنه، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم معه، فخاف عليه صلى الله عليه وسلم وأمره أن يرجع، وقال له: (فإذا رأيتني ظهرت فأتني).
وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان يصدع بالحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، إذ كان أبو ذر صدوعاً بالحق، وكان ذلك سبباً في أن الناس يبتعدون عنه، وفي آخر حياته أمره عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه أن يكون في الربذة، وقال: أنت شديد على الناس، فـ أبو ذر كان شديداً على الناس، فكان يأمرهم، وكان مذهب أبي ذر أن من كان معه فائض من المال فيجب عليه أن يخرجه، وأن يتصدق به، أي: أن الفائض من المال ليس من حقك أن يبقى معك، ولم يعلم أن هذا يجوز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي في تحريم ذلك، ثم نزل الوحي بعد ذلك بالترخيص في ذلك، فـ أبو ذر اطلع على الأمر الأول فعلم أنه لا بد من المواساة بالمال، فلما نزلت الزكاة وتقدير الأنصبة في الزكاة، فكان للناس أن يدخروا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)، فدل هذا على أنه يجوز للإنسان أن يدخر من ماله حتى يترك للورثة بعده.
لكن أبا ذر رضي الله عنه لم يطلع على ذلك، فكان يخرج على الناس في مجالسهم وفي حلقاتهم، ويأمرهم بذلك، ويحدثهم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هذا الأمر يضايقهم، أنه كلما رآهم يأمرهم بأن يتصدقوا بجميع أموالهم، فتضايق الناس منه، فشكوه لـ عثمان رضي الله عنه، فلما رفض أن يسكت، وقال: طالما أنا بين الناس فسوف آمرهم بهذا، فلما أخبروه بأن الأمر فيه سعة، وهذا كان في وقت الضيق، أبى إلا أن يحدث بما سمع رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فأمره عثمان رضي الله عنه أن يعتزل الناس، طالما أنه يرفض أن يحدث إلا بذلك فليعتزل الناس.
إذاً: أبو ذر كان شديداً، وهنا قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً)، فالشدة شيء، والقوة على العمل شيء آخر، فالقوة على أداء الأمانة هذا هو شيء آخر تماماً، أن يكون الإنسان أميراً على الناس ويقيم فيهم شرع الله سبحانه وتعالى، ويؤلف الناس حوله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا ينفرهم، هذا هو الذي لا يقدر عليه أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أراك ضعيفاً).
فليست مهنتك الإمارة ولست أهلاً للإمارة، فإن الإمارة لها أهلها، وأنت لست أهلاً لها، وقال له صلى الله عليه وسلم: (وإني أحب لك ما أحب لنفسي)، يحب لنفسه صلى الله عليه وسلم الخير ويحب لـ أبي ذر ذلك، فأنت يا أبا ذر لا تطيق ما أطيقه أنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو القائم على أمر المسلمين عليه الصلاة والسلام، وهو الذي يأمرهم ويقيم فيهم شرع الله سبحانه، لكن أبا ذر كان ضعيفاً، لا يقدر على ذلك، فقوله: (أحب لك ما أحب لنفسي) أي: أحب لك الخير كما أحب لنفسي الخير، ولكن فرق بينه وبينه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قادر على أداء هذه الأمانة؛ ولذلك اختاره رب العالمين رسولاً للعالمين وللخلق كافة، إنسهم وجنهم عليه الصلاة والسلام.
وأبو ذر لا يقدر على ذلك، فقال له: (إني أحب لك ما أحب لنفسي)، أي: أحب لك من الخير ما أحب لنفسي، فأنصحك في ذلك.
قال: (لا تأمرن على اثنين)، أي: لا تكن أميراً ولو حتى على اثنين، فإذا كنتم مسافرين معاً فلابد من الإمارة وأنت لا تصلح لذلك.
قال: (ولا تولين مال يتيم)، أي: لا تتول مال يتيم خوفاً عليه من نفسه، وخوفاً عليه من مال اليتيم، ووقد رأينا أبا ذر رضي الله عنه حتى آخر حياته يصدع بالخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فليس هذا خوفاً عليه أن يفتن رضي الله عنه، ولكن لا يقدر أن يقوم بحق هذا المال.
وكم ترى من إنسان يموت وهو يعول اليتيم ويقول: لا تحط المال في مكان كذا، لكيلا يكون فيه ربا فيأخذه ويشغله، ولكنه يأكله، ويضيع على اليتيم ماله.
ولذلك نقول: إذا كان هناك أيتام فالأولى أن توضع أموالهم مع الدولة، حتى لا يضيع المال على الأيتام بدعاوى كثير من المدعين، وكم سمعنا وكم رأينا من ذلك، إذ يأخذ مال اليتيم ويشغله له، فإما أن يهرب، وإما أن يخسر فيضيع مال اليتيم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر أبا ذر، فأنت من باب أولى أن تبعد عن مال اليتيم، ولا تتدخل بمال اليتيم، ولا تقل: أشغله له، وإذا أردت أن تتصدق على اليتيم فأعطه صدقةً مما معك.
أما أن تأخذ مال اليتيم فاحذر من مال اليتيم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (ولا تولين مال يتيم).(55/7)
عدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر لضعفه
وعنه أيضاً قال: قلت: (يا رسول الله! ألا تستعملني)، كأن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله عاملاً عنده، ويعطيه ولايات على أشياء يفعلها، إما عرافة على قوم، وإما ولاية على أموال الزكاة، أو جمع الصدقات، أو توزيعها، أو ولاية على بلدة ونحو ذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على منكبه رضي الله تبارك وتعالى عنه ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف)، إذاً: ليس أي أحد يطلب الإمارة، ومن طلب الإمارة لا يعان عليها، حتى وإن كان قوياً لا يعان عليها، فكيف بالضعيف؟ قال: (إنك ضعيف وإنها أمانة - الإمارة أمانة - وإنها يوم القيامة خزي وندامة)؛ لأن الأصل فيها أن كل أمير في الدنيا يأتي بخزي وندامة يوم القيامة، ويقول: يا ليتني ما توليت شيئاً، قال: (إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها)، وكل الناس يزعم أنه لو كان الأمير أو الرئيس لفعل من الخير ما فعل، فهنا الإمارة ليست في التمني، إنما الإمارة في الحقيقة، فكم من إنسان تمنى ونال وضيع دينه وضيع أمانته وغرته الرياسة وغرته الأمانة، هل رأيتم الرئيس الذي كان مسلماً، ومن أجل أن يكون رئيساً على النصارى تنصر؟! وهو كارلوس منعم، كان مسلماً وتنصر حتى يكون رئيساً على الأرجنتين، الإنسان في الدنيا تراه في دين ربه سبحانه وتعالى، ولا يدري متى تأتيه الفتن، فتراه يجاري ويجاري مع الناس إلى أن يضيع هذا الإنسان في النهاية، ويتسمى بأسماء غير المسلمين طلباً للدنيا فخسر الدنيا والآخرة.
فتكون الأماني لكل من كان هذا مثاله، يقول: اليوم سأعمل وغداً سأتوب، ولا يأتي هذا الغد، ويفرح بما هو فيه.
وهذا هرقل عرف أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول حق، وكاد يسلم ويدخل في دين النبي صلى الله عليه وسلم، وفي النهاية لما قال لقومه: اتبعوا هذا النبي صلى الله عليه وسلم، وجدهم هاجوا، وكان قد أقفل عليهم الأبواب، فقال لهم: إنما أنا أمزح معكم، وأختبركم هل أنتم متمسكون بالدين أم لا؟ مع كونه سأل أبا سفيان عشرة أسئلة أو أكثر، والأسئلة كلها تدل على ذكاء خارق لهذا الإنسان، وعلى أنه فعلاً فاهم وواع ويعرف تماماً أن هذا نبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي أسئلته لـ أبي سفيان قال: قلت لك: هل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: هذا رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل يتبعه ضعفاء الناس أم أقوياء الناس؟ فذكرت أنهم ضعفاؤهم، وكذلك أتباع الرسل، وسألتك هل يكذب؟ فذكرت: أن لا، وقد أعلم أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يكذب على الله، وسألتك: هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه؟ فذكرت: أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فقد كان رجلاً واعياً حينما سأل أبا سفيان وأجابه بما أجابه، وفي النهاية كاد يسلم، وإذا به يطبع على قلبه فلا يسلم، ويظل على ما هو فيه من كفره.
فلذلك الإنسان لا يغتر بإمارته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرك أنك إذا كنت ضعيفاً فابتعد عن هذه الأشياء ولا تطلبها، فإذا أتتك من غير طلبك فسوف يعينك الله عز وجل عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها).
فقوله: (أخذها بحقها) أي: عمل بالحق وأدى الواجبات التي عليه، فيكون له ذلك نجاة يوم القيامة.
وقد عرفنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يطلب القضاء لا يعان عليه، قال: فكأنما ذبح بغير سكين، هذا الذي يطلب القضاء ويناله كأنما ذبح بغير سكين.(55/8)
شرح حديث: (إنكم ستحرصون على الإمارة)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ستحرصون على الإمارة) فهو ينهاهم ومع ذلك يقول: ستحرصون عليها، وكان بعده مباشرة صلوات الله وسلامه عليه، ومات صلى الله عليه وسلم فإذا بالبعض من الأنصار يريدون أن يكون فيهم الأمير، حتى بين لهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الخلافة في قريش ليست في غيرهم، ثم بعد ذلك صارت الخلافة على المنهاج الشرعي حتى حدث الطمع فيها والاقتتال، ففئة تتبع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقول، وفئة تخالف في ذلك، فكانت على الناس أزمة، وجرت سنون إلى أن أصبح طلب الرئاسة وطلب الإمارة للإمارة وللرياسة، وليس لإقامة شرع الله سبحانه، فصارت ملكاً عضوضاً، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة).
ويتخلى عن الإنسان يوم القيامة أتباعه وأشياعه وجنوده، ويأتي وحده ليسأل عن كل ما كان تحت يديه، ولذلك فالإنسان يتفكر أنه سوف يسأل عن نفسه، وعن أولاده، والذي يتولى زمام الأمور والذي يكون رئيساً على الناس سوف يسأل عن كل الناس الذين تحته، فيا ترى متى سينهي الله حسابه؟ ولذلك على المسلم ألا يطمع نفسه في ذلك، ولا يحرص عليها، فلا خير فيها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(55/9)
شرح رياض الصالحين - الحياء وفضله والحث على التخلق به
لقد جمع خلق الحياء وصاحبه الخير كله، فالحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير، وهو خلق ممدوح في السابقين واللاحقين، وليس من الحياء الامتناع عن إنكار المنكر وقول الحق، والحياء سمة الصالحين، ومورد المتقين، وبحر العاملين، ومن تخلق به فقد حاز الخير بحذافيره.(56/1)
الحياء وفضله والحث على التخلق به
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب الأدب: باب الحياء، وفضله، والحث على التخلق به.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعه فإن الحياء من الإيمان) متفق عليه.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الكتاب كتاب: الأدب، يعني: الأخلاق التي ينبغي للمسلم أن يتخلق بها، وتدعوه الشريعة إلى التجمل بها، فبدأ بالحياء وهو من أعظم أخلاق المسلم، فالإنسان الذي لا يستحيي يقع فيما شاء من المعاصي (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) بمعنى: أن الإنسان عديم الحياء لا يرتدع عن شيء يصنعه.
وقد أثر عن أحد الصحابة أنه قال في الحياء: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها) صلوات الله وسلامه عليه، وأما فضل الحياء: فقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إن الحياء كله خير).
ومن الأحاديث أيضاً: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، كأنه ينهاه عن الحياء ويؤنبه، فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤنبه في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعه، فإن الحياء من الإيمان)، فالإنسان الذي عنده حياء، قد يمنعه حياؤه من أشياء يريدها، لكن لا يضيع هذا الحياء عند الله عز وجل، فالحياء كله خير، والحياء من خصال الإيمان التي يرتفع بها العبد المؤمن عند الله سبحانه وتعالى.
وفي حديث متفق عليه عن عمران بن حصين يقول رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير)، حتى ولو فاتك شيء من الدنيا، ولكن الثواب الذي في الحياء عظيم عند الله سبحانه وتعالى، فمن أعظم أخلاق المؤمن اتصافه بالحياء، وكان حياء النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يمنعه أن يقول للإنسان: أنت شرير، فكان يدخل عليه الإنسان فيقول النبي صلى الله عليه وسلم قبل دخوله: (بئس أخو العشيرة)، فإذا دخل وجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يتبسم ويتكلم صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون: تبسمت له وقد قلت عنه كذا وكذا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (متى عهدتني فحاشاً؟) أي: إنني لا أفحش في الكلام، ولا أقع في خطأ في الكلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم تبسط وتبسم مع الرجل ولم يزجره لكون الحياء يمنعه من أن يقول له ذلك.
وقوله: (الحياء لا يأتي إلا بخير) وفي رواية: (الحياء كله خير)، يفهم من هاتين الروايتين: أن من فقد الحياء فقد فقد من الإيمان الواجب شيئاً كبيراً، فالإيمان هو الذي يمنعه من التبجح ويدفعه إلى الحياء.
وفي حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة) يعني: خصال الإيمان، أو أعمال من أعمال الإسلام والإيمان، فأفضل خصال الإسلام وأفضل خصال الإيمان: كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)، وأما أقل خصال الإيمان التي تدل على إيمان صاحبها فهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه من خصال الإيمان التي يدعو إليها هذا الدين العظيم، وهي إماطتك الأذى عن الطريق، فإذا وجدت أذى فأمطه وإن لم تكن أنت الذي وضعته حتى لا يتأذى به الناس، ويفهم من هذا كذلك: أن الإنسان الذي يترك الأذى في الطريق فقد قدراً لا بأس به من الإيمان الواجب، فكيف بمن يحط الأذى في الطريق بنفسه، فيقوم بصب القمامة أمام الناس، أو يضع أمام بيوت الناس القمامة وقت صلاة الفجر أو أمام المسجد؟! فهذا ليس عنده من الإيمان الواجب ما يمنعه من ذلك.
ومن خصال الإيمان المفقودة عند الناس: أذى الجار وأذى الناس بوضع الأذى في الطريق، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (والحياء شعبة من الإيمان) يعني: أن الحياء جزء من أجزاء الإيمان، أو خصلة من خصال الإيمان.
ومن الأحاديث كذلك حديث لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو متفق عليه أيضاً، يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها)، الخدر: الستر، وهو المكان الذي تستر فيه العذراء، يعني: الفتاة البكر التي لم تتزوج، فكان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من هذه العذراء المستورة في بيت أبيها وأمها.(56/2)
ضابط الحياء الممدوح ومتى يكون مذموماً
هناك فرق بين الحياء والخجل، فالخجل من الحياء، لكن الحياء لا يمنع من الحق، فلا يمنع الإنسان أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، أما الخجل فقد يفعل به الإنسان ذلك، فلا يفعل ما يلزمه دينه به من أمر بمعروف ونهي عن منكر، فيخجل الإنسان أن يراه الناس وهو يصلي، فهذا ليس بحياء، بل هو عيب موجود في ذات الإنسان لا يجب أن يمدح عليه، فالحياء هو: الحياء الذي يأمرك بالخير ويمنعك من التبجح، كأن يقول أحدهم للأعور: أنت أعور في عينك، فهذا إنسان قليل الأدب، ليس هو بإنسان حقاني كما يظن نفسه، ولكن الإنسان الحقاني هو الذي يقول الحق حيثما كان، فمالك وللأعور والأعمى؟ ولكن قل للمخطئ: أنت مخطئ، وقل للمصيب: أنت مصيب، ولا يمنعنك أن هذا غني وهذا فقير عن ترك قول الحق والعمل به، فالله عز وجل قد أمرك بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:135] ولو على نفسك، ولو على أبيك وأمك، ولو على أقربائك، وقد يكون هؤلاء فقراء فترحمهم، أو أغنياء فتخشى من سطوتهم وغناهم، قال الله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، فهو الذي أمرك أن تتكلم بالحق أينما كنت، ولكن مع الإتيان بخصال الإيمان، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولا يكون في كلامك منكر، فالحياء: هو قول الحق ثم بعد ذلك يأتي الحياء.(56/3)
حقيقة الحياء
يقول العلماء: إن حقيقة الحياء: خلق يبعث على ترك القبيح، فالإنسان صاحب الحياء لا يعمل القبيح، أو ما يستهجن به أمام الناس، ولا يفعل ما يجعل الناس ينظرون إليه مستقبحين وهو لا يهمه أن يمشي أمام الناس على هذه الصورة، فيقولون: هو خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، والقلب الممتلئ بالإيمان يدفع المؤمن إلى هذا الخلق، فقلبه وإيمانه يدفعانه للحياء، أما القلب الفارغ فإنه يجعل الإنسان يفعل ما يشاء، والحياء فارق رئيسي بين المؤمن والكافر، فليس يتخلق الكافر بهذه الخصلة؛ لأن الكافر لا يهمه ذلك، فهو يقول: أريد أن أعيش في هذه الدنيا للدنيا، وأريد أن أتحرر، والتحرر عنده أن يقص شعره بطريقة تجعل الناس يضحكون عليه، ويمشي في الشارع وهو خالع ملابسه فلا يهمه، وتجد الناس في بلاد الكفر عديمي الحياء، تمشي المرأة متغطية في الطريق للبرد، فإذا ظهرت الشمس وشعرت بالحر خلعت ملابسها في الشارع أمام الناس! فليس لهم خلق أو دين يردعهم، والعجب أنك ترى في بلاد المسلمين من يقلد هؤلاء ويريد أن يصل إلى ما وصل إليه هؤلاء من السفالة والقذارة والحقارة في أمر دنياهم؛ لأنهم تركوا الحياء وراء ظهورهم، فتراهم يصرخون ويرقصون ويعاشر الرجال منهم النساء في الطرقات؛ لأن الحياء قد انعدم فيهم.
أما دين الإسلام: فهو إيمان في قلب الإنسان يظهر على جوارحه، فيستحيي من أن يعصي الله سبحانه وتعالى، وكأنه يرى الله أمامه، وهذه مرتبة الإحسان وهو: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فإذا تشبه المسلم بهؤلاء وقال: أنا أعمل الذي أريده، أو أنا أريد أن أتحرر، فإننا نقول له: إن هؤلاء كفرة يريدون أن يتحرروا من الله ومن دينه سبحانه وتعالى، أما المؤمن فهو يعلم أنه مهما علا فهو عبد لله سبحانه وتعالى، فهو يقول: لا إله إلا الله، أي: أنا عبد لله سبحانه وتعالى، وانظروا إلى مقامات النبي صلى الله عليه وسلم التي علا فيها، فإنه كلما علا ازداد عبودية لله، يقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، وقد شرفه ربه سبحانه بهذا الوصف العظيم فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]، فرفعه إلى السماء صلوات الله وسلامه عليه، ومن ثم إلى سدرة المنتهى، فجاوز الملائكة، وجاوز جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومع ذلك يقول الله: هذا عبد لله، وقد عرف قدر جبريل وهو أعظم ملائكة الله سبحانه وتعالى وقدر خشوعه لما رآه كالحلس البالي يوم أن وصل إلى أعلى الدرجات فوقف عند قبره وجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (فنظرت إليه فإذا هو كالحلس البالي)، والحلس: هي الفرشة التي يجعلها الإنسان فوق الرحل ليجلس عليها، فهذا حال جبريل بين يدي ربه سبحانه، قال: (فعرفت فضل عبادته) أي: عرف فضل عبادة جبريل عليه السلام في ذلك الموقف العظيم، وكيف أنه يعبد ربه ويتواضع ويخشع بين يديه سبحانه.
ومن المواضع التي شرفه الله عز وجل بلفظ العبودية دعوته إلى الله سبحانه وتعالى، يقول سبحانه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن:19]، فالنبي صلى الله عليه وسلم في مقام الدعوة يعد عبداً لله سبحانه، وكذلك في مقام إنزال الكتاب عليه من السماء، قال سبحانه: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] صلوات الله وسلامه عليه.
فمقام العبودية هو مقام تشريف للعبد أن يكون فيه، فكلما ارتقى في مقام العبودية استيقن وعلم أنه عبد لله سبحانه وتعالى، إذاً فأنت عبد الله سبحانه ولست حراً، والإنسان إذا تحرر من عبودية الله وقع في أسر الشيطان وكان عبداً له، فيلعب به الشيطان كيفما شاء، فتجده يحلق شعره مثل الشيطان، ويمشي في الشارع والناس يضحكون عليه، ومع هذا يقول لك: إنها موضة! وما درى هذا أن الناس يصفونه بالحمق! وتجد هذا الغبي يقلد الغرب في كل ما يفعلون، فإذا لبسوا الشرت لبسه، وإذا لبسوا الفانيلات لبسها، فهو يقلد أسياده الذين عبدهم من دون الله سبحانه وتعالى.
ليس التحرر بأن تخرج من دينك، بل الحرية أن تعبد الله سبحانه، فيكون هو وحده الذي يحكمك سبحانه وتعالى، وهو وحده الذي يتحكم فيك، وهو وحده الذي يأمرك وينهاك، أما عباد غير الله سبحانه فهم يعبدون ملوك الموضة، فتراه يجري وراء المجلة في النهار بحثاً عن الموضة في الشعر والجزمة والشراب ونحو ذلك، فصاروا هم الذين يحكمونه، افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو متبع لطريقهم، والناس يضحكون عليه! إذاً: التحرر الحقيقي هو أن تتحرر من أغلال الشيطان ومن الطواغيت، وأن تعبد الله وحده لا شريك له، وما الحياء إلا دليل على إيمان الإنسان، وأنه يعبد الله في تحرر من كيد الشيطان ومن هواه إلى عبودية الرب سبحانه وتعالى، وقد سبق أن العلماء يقولون: إن حقيقة الحياء: هي خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، وبعضهم يستحي أن يؤدي الحقوق إلى أصحابها، وبعضهم يستحي من العمل مع أنه شاب قادر على العمل، ومع أن البيت خال من الطعام أو الشراب فهذا حياء مذموم، وإنما النافع للإنسان أن يعمل ليؤدي حق الله سبحانه، فإذا وجد المسكين وهو قادر على أن يعينه استحيى من الله فأعان هذا الإنسان، وإذا وجد ذا الحاجة وهو قادر على أن يوصلها إليه أعانه على ذلك، فهذا خلق الحياء.(56/4)
تعريف الجنيد للحياء
قال: وقال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء، أي: النعم، قال: ورؤية التقصير، فتتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
ومعنى كلام الجنيد رحمه الله: أن حياء الإنسان: أن يرى نعم الله العظيمة عليه، ويرى تقصيره فيستحيي من الله أن يجده مقصراً، وعلى المؤمن أن يتقي الله سبحانه وتعالى حيثما كان، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخوف منه، وحسن الحياء، وحسن الإيمان.(56/5)
تعريف الجنيد للحياء
قال: وقال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء، أي: النعم، قال: ورؤية التقصير، فتتولد بينهما حالة تسمى الحياء.
ومعنى كلام الجنيد رحمه الله: أن حياء الإنسان: أن يرى نعم الله العظيمة عليه، ويرى تقصيره فيستحيي من الله أن يجده مقصراً، وعلى المؤمن أن يتقي الله سبحانه وتعالى حيثما كان، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن).
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الخوف منه، وحسن الحياء، وحسن الإيمان.(56/6)
شرح رياض الصالحين - حفظ السر
إن من الخصال الحميدة التي حث عليها الإسلام حفظ السر، فالسر أمانة، وقد أمر الله عز وجل بحفظ الأمانات، وإفشاء الأسرار فيه الدلالة على سوء خلق فاعله، فإنه مدعاة إلى إفساد ذات البين وتخريب البيوت، وهذا ما لا يرضاه الله عز وجل لعباده ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.(57/1)
ما جاء في حفظ السر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب حفظ السر.
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة قال: لقيت عثمان بن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة، فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدى لي ألا أتزوج يومي هذا، فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إلي شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها) رواه البخاري.
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله حفظ السر، فالإنسان المؤمن مطالب شرعاً بأن يحافظ على الأسرار، سواء كانت أسرار بيته، أو أسرار الناس، وأنه إن اطلع على سر أو أسر إليه إنسان بسر فلا يجوز له أن يفشي هذا السر وأن يفضح صاحبه.(57/2)
معنى قوله تعالى: (وأفوا بالعهد)
قال الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، يدخل تحت العهد العقود والعهود وأسرار الناس التي يأتمنونك عليها، فكأنه عقد معك عقداً على أن يحدثك فتكتم عليه، فلا يجوز لك أن تفشي هذا السر، ولذلك لو أن الإنسان تكلم معك في شيء وهو يلتفت يميناً وشمالاً فهذا أيضًا من السر، ولذلك جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (من حدث حديثاً ثم التفت فهو سر) فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تفشي هذا السر، فهو هنا لم يقل لك: هذا سر، ولكن حاله يدل على ذلك، فهذا أمانة من الأمانات التي يأمرك الشرع أن تحافظ عليها وألا تفشيها على صاحبها.(57/3)
شرح حديث: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة)
يقول أبو سعيد فيما رواه مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها)، فهذا إنسان منزلته من شر المنازل في النار والعياذ بالله، والسبب أنه يتكلم الكلام في السر ثم يفشيه، فهنا الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها، فلا يجوز للرجل أن يأتي أهله ثم يصبح يخبر الناس بذلك، وقد شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالحمار، قال: (مثل ذلك كحمار لقي حمارة في الطريق فقضى حاجته منها) فالإنسان الذي يأتي امرأته ثم يصبح يحدث الناس بذلك إنسان ليس له أمان، وكذلك المرأة التي تفعل هذا الشيء، فتصبح تكلم صديقاتها بأن زوجها جامعها بالأمس، فهذا حرام، فليس لها أن تخبر صديقاتها، ولا تخبر أهلاً بهذا الشيء؛ لأن هذا من الأسرار التي بين الزوجين.(57/4)
شرح حديث حفظ أبي بكر لسر النبي بشأن رغبته في الزواج من حفصة
من الأحاديث في هذا المعنى حديث ابن عمر أن حفصة رضي الله عنها تأيمت، فالسيدة حفصة أم المؤمنين كانت تحت رجل ثم مات هذا الرجل عنها فتأيمت، والمرأة الأيم هي التي صارت بلا زوج، فـ عمر بن الخطاب محافظة على ابنته أراد أن ينتقي لها أفضل الأزواج، فأتى عثمان وأخبره أن حفصة تأيمت وقال له: إن شئت أنكحتك حفصة.
فهو لم يقل له: تعال تزوج حفصة، ولكن قال: إن شئت، يعني: يخيره، وكأنه يقول: الأمر إليك أنت، وابنتي موجودة ولن أجد أفضل منك، فقال له: سأنظر في أمري، فكأنه أراد أن يستشير ثم يرد عليه.
قال عمر: فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا، فـ عثمان لم يكن راغباً في الزواج ذلك الوقت، فلم يجد عمر في نفسه شيء على عثمان لهذا الأمر.
قال: فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: فصمت أبو بكر رضي الله عنه فلم يرجع إلي شيئاً.
فالأول عثمان رضي الله عنه لما عرض عليه هذا الشيء أخبره أنه سيرد عليه ورد عليه بعد ذلك بأنه غير راغب في الزواج، لكن أبا بكر رضي الله عنه لم يرد عليه لا الآن ولا بعد ذلك.
قال عمر: فكنت عليه أوجد مني على عثمان، يعني: إن كنت وجدت في نفسي شيئاً على عثمان فما وجدته على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أكثر منه.
قال: فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، وعمر لم يعرضها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن يطمع أن تتزوج ابنته من النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضها على عثمان، ثم عرضها على أبي بكر، فلما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم خطبها من عمر، تكلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال لـ عمر رضي الله عنهما: لعلك وجدت علي - يعني: لعلك حزنت وغضبت مني - حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها.
فهذا سر من النبي صلى الله عليه وسلم حيث تكلم أنه يريد أن يتزوج حفصة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متزوجاً بـ عائشة بنت أبي بكر الصديق، ولم يغضب أبو بكر الصديق لذلك، ولكنه سكت؛ لأنه لا يستطيع أن يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم يريدها؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه ولا يتزوجها.
وهذا فيه تأديب للمسلمين وتوجيه ليتخلقوا بهذا الخلق الفاضل، فإذا سمعت إنساناً يتكلم عن فلانة وأنه يريد أن يخطبها، فلا تذهب لصاحب الشأن وتقول: أنا سمعت فلاناً يتكلم أنه يريد أن يخطب من عندك فجئت أبشرك؛ لأنه يمكن أن يرجع في كلامه فتكون كاذباً أمام هؤلاء الناس، ويمكن أن ذاك الرجل غير جاد في كلامه وبسبب كلامك يضطر ويذهب ليخطبها.
فعلى ذلك إذا سمعت سراً من إنسان فلا تفش هذا السر.
وقول أبي بكر الصديق لـ عمر رضي الله عنه: لعلك وجدت علي، يدل على أنه أحس أن عمر من حقه أن يجد في نفسه من هذا الشيء، وأبو بكر يعلم أن هذا أهون من أن يفشي سر النبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف حال بعض الناس الذي يتساهل في أن يفشي سراً من الأسرار حتى لا يغضب فلاناً من الناس! إن السر أمانة والله عز وجل سيحاسبك على هذه الأمانة ويسألك: لم فرطت فيها؟ ثم إن أبا بكر قال لـ عمر: ولو تركها لتزوجتها، يعني: لو أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك ابنتك ولم يتزوجها لكنت أنا تزوجتها؛ لأن ابنتك ليست المرأة التي يفرط في مثلها.(57/5)
شرح حديث عائشة في مسارة النبي لفاطمة وكتمها لسره حتى مات
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما رآها رحب بها وقال: مرحباً بابنتي) يعني: كانت شديدة الشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى في مشيتها، فالسيدة عائشة وصفتها بأنها ما تخطئ مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: (فلما رآها رحب بها) فيه وصف حال النبي صلى الله عليه وسلم في بيته مع ابنته وكيف قابلها حين جاءت تزوره صلى الله عليه وسلم.
قالت: (ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله)، كان النبي صلى الله عليه وسلم من عادته إذا جاءت ابنته أنه يقوم لها ويقبلها صلى الله عليه وسلم ويجلسها بجواره، وإذا ذهب هو إليها قامت إليه وقبلته وأجلسته صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (ثم سارها فبكت بكاء شديداً) يعني: بعد أن قال لها السر بكت بكاءً شديداً، قالت: (فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت - رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين؟!) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم فضلك علينا كلنا وقال لك السر ثم أنت تبكين! وتعجبت من أنها ما رأت ضحكاً أسرع لبكاء من هذا اليوم، فلما قام رسول الله وسألتها عائشة عما قاله لها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت رضي الله عنها: (ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سراً) يعني: كون النبي صلى الله عليه وسلم يحدثني بيني وبينه فمعناه أنه لا يريد أن تسمعوا، ولو كان يريد أن تسمعوا لكان حدثني بصوت مرتفع، ولما كان سراً.
قالت عائشة: (فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لـ فاطمة - رضي الله عنها -: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت فاطمة - رضي الله تبارك وتعالى عنها -: أما الآن فنعم) يعني: الآن وبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم فيمكن أن أخبرك بهذا السر، أما في حياته فلا، قالت: (أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري) يعني: اعتاد النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضه القرآن كل سنة مرة، ومعنى المعارضة: أن يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم ويسمع جبريل، أو يقرأ جبريل ويسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فكل سنة كان يختم معه ختمة، أما هذه السنة فإنه ختم مرتين مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم استشعر أنه قد دنى أجله، قالت فاطمة رضي الله عنها: (وأنه عارضه الآن مرتين، وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت)، ففي المرة الأولى أخبرها بأن الأجل قد اقترب منه صلى الله عليه وسلم، قالت: (فبكيت بكائي الذي رأيت)، ثم قالت فاطمة: (فلما رأى جزعي - صلوات الله وسلامه عليه - قال: يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة، فضحكت ضحكي الذي رأيت).
إذاً: السر الأول: أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، أما السر الثاني فهو: أن السيدة فاطمة تكون سيدة نساء العالمين، وأيضًا أخبرها أنها تلحق به صلى الله عليه وسلم ولن تعيش بعده كثيراً، ففرحت بأنها تدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأن منزلتها في الجنة أنها ستكون نساء العالمين أو سيدة نساء هذه الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وفي هذا الحديث دلالة على أن الإنسان إذا استودعه إنسان سراً فلا يجوز له أن يفشيه.(57/6)
شرح حديث أنس في وصية أمه له بحفظ سر النبي صلى الله عليه وسلم
عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: (أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان) وأنس بن مالك رضي الله عنه هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ولـ أنس عشر سنوات، فخدمه حتى كان عمره عشرين سنة حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أنس بن مالك صحب النبي صبياً وشاباً، وفي أثناء خدمته له يقول أنس: (أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا فبعثني في حاجة فأبطأت على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ - أمه هي أم سليم رضي الله تبارك وتعالى عنها - فقلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟) يعني: تريد أن تعرف هل يستحق ذاك المشوار كل هذا التأخير؟ لكن ماذا كان جواب أنس الغلام الصغير؟ قال: (قلت: إنها سر).
يعني: لن أكشف عن حاجة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً)، انظر إلى الأم المطيعة لله سبحانه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، الأم الطيبة القانتة المؤمنة تعلم ابنها حفظ السر حتى عنها.
فكل أم يلزمها أن تعلم ابنها كيف يحافظ على السر، فإذا جاء الأب وقال للابن: خذ هذا المبلغ واذهب به إلى فلان ولا تقل لأحد، فلا يرجع ويقول لأمه: أبي بعثني لأفعل كذا في كذا، وإذا فعل فالواجب على الأم أن تقول له: لا يجوز لك ذلك، فهذا سر من الأسرار فلا تفش سر أبيك، وعلى الأم أن تعلم الابن ألا يكون كثير الكلام، وألا يفشي أسرار البيت، فإذا تربى الطفل على ذلك كانت هذه عادته عند الكبر، ويستحيل أن يستفيد منه الأعداء أو يحصلوا منه على أسرار بلده.
فـ أنس هنا لما قال لأمه ذلك قالت أمه رضي الله عنها: (لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، قال أنس - رضي الله عنه -: والله لو حدثت به أحداً لحدثتك به يا ثابت)، وثابت هذا هو تلميذ أنس، وهو من التابعين وليس صحابياً، فهو جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمان، ومع ذلك يقول أنس: إن سر النبي صلى الله عليه وسلم هذا ما أخبرت به أحداً إلى الآن، ولو كنت أحدث به أحداً لكنت حدثتك أنت، ومعنى هذا: أنه كتم السر حتى بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا يلزمه ذلك، وهذا ظاهر في حديث السيدة فاطمة رضي الله عنها، ولكن مع ذلك حافظ على سر النبي صلى الله عليه وسلم.(57/7)
أهمية حفظ السر والتحذير من التفريط بالأمانات
الأسرار أمانة، فإذا جاء إنسان يكلمك بصوت منخفض فلا ترفع صوتك بالكلام حتى لا تفضح هذا الإنسان الذي يخفض صوته، وإذا ائتمنك على سر فلا تخبر به أحداً، وإذا حدثك وهو يلتفت حتى لا يراه أحد، فمعنى هذا أن كلامه هذا سر فلا يجوز لك أن تضيع هذا السر أو أن تفشيه لأحد من الناس، ويجب عليك أن تعلم أبناءك أهمية حفظ السر، ولا تظهر الفرح إذا رجع ابنك يوماً من المدرسة وقال لك: إن رفيقي قال لي سراً وهو كذا وكذا، ولكن علم ابنك أن يتقي الله وأن يراقبه سبحانه ولا يحدث بسر استودعه إياه أحد من الناس.
وقد كان أهل الجاهلية يعرفون أن الأسرار لا ينبغي أن تنشر لأحد، وكانوا يعيبون على من يفعل ذلك، وقد روي أن شاعراً من الشعراء لما وجد أمه كثيرة الكلام وإذا ما تحدث أحد عندها بحديث تقوم وتفضحه بين الناس، فقال لها هذا الشاعر: تنحي فاقعدي مني بعيداً أراح الله منك العالمينا أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا فالإنسان المؤمن من خلقه أن يحافظ على السر، ودافعه إلى ذلك خوفه من الله، لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]، فهذه أمانة يجب أن تؤديها لأهلها، وذكر عن بعض الصالحين أنه ذهب إليه إنسان وقال له: أخبرك سراً فلا تحدث به أحداً، أخبرك بكذا وكذا وكذا، هل سمعت ماذا قلت لك؟ قال: لم أسمع شيئاً.
يعني: من مبالغته في حفظ السر كأنه لم يسمع شيئاً! فالمسلم إذا سمع سراً كان السر في باطنه لا يخرجه لأحد أبداً إلا أن يأذن له صاحب هذا السر.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على أداء الأمانات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(57/8)
شرح رياض الصالحين - الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد والمحافظة على ما اعتاده من الخير
الدين الإسلامي دين الأخلاق، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم متمماً ومرسخاً لمكارم الأخلاق، ومن المبادئ العظيمة التي حث عليها الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام: الوفاء بالعهد، وقد حذر النبي تاركها من أن يقع في النفاق والعياذ بالله.(58/1)
وجوب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد.
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:91]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي رواية لـ مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)].
إذا عاهد المسلم إنساناً على شيء نفذ الذي عاهد عليه.
وإنجاز الوعد أي: ينجز ويعجل ويفي بما وعد ولا يماطل، ولا يؤجل، والتنجيز عكس التأجيل، يقول: أنجز عمله سريعاً، فإذا وعد وعداً فقدر على أن ينجزه فلينفذ ما وعد به.
يقول الله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، على المسلم أن يستحضر هذه المعاني العظيمة: الوفاء بالعهد، الوفاء بالبيعة، الوفاء بالعقود، ومعنى يفي: يعطي الشيء وافياً، فإذا وعد وعاهد أو عاقد على شيء، فليوف بهذا الشيء على النحو الذي عاهد عليه؛ لأن الله سيسأله سبحانه، قال سبحانه: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] أي: مسئولاً عن عهده الذي عاهد عليه، والسؤال يكون عند الله عز وجل.
والغرور في هذه الدنيا يجعل الإنسان لا يوفي، فيغره المال الذي أخذه، ولا يعطي للناس الحقوق الواجب عليه أن يعطيهم إياها، فينسى أن هذا المال الذي في يده قد يكون شؤماً ووبالاً عليه؛ لأنه أخذه من صاحب حق، ولم يعط صاحب الحق حقه.
فأصبح الناس لا أحد يأتمن أحداً، فالإنسان يريد أن يتزوج فيأتي أهل العروسة فيكتبون له قائمة؛ لأنهم لا يأتمنونك.
وكذلك في عقود بيع الشقق، تجد الشقة بيعت لأكثر من واحد! وكل إنسان تزين له نفسه الخيانة والتفريط والتضييع ويظن مع ذلك أنه محق.
أوفوا بالعهود وأوفوا بالعقود ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تخونوا فإنكم مبعوثون يوم القيامة والله سائلكم عن ذلك.
فإذا تعاهدت مع إنسان وقطعت يمين الله فيلزمك أن تفي بذلك، فالله سائلك عن ذلك.
قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وهذه أول آية في سورة المائدة، وسورة الإسراء وسورة النحل مكيتان، وسورة المائدة سورة مدنية، وكأن الله يؤكد عليك في القرآن المكي والقرآن المدني أن تحافظ على وعدك، وألا تضيع على أحد شيئاً قد أخذ عليك العهد به.
يقول الله عز وجل في سورة الصف: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، لم تقول شيئاً لست تفعله؟ وتعطي الوعد بذلك وأنت تنوي ألا تفعل، أليس هذا من النفاق؟! ألست تستحق العقوبة في الدنيا وفي الآخرة، وأنت تخلف وعدك مع من أخذ عليك الوعد بذلك؟ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] أي: كبر ذنباً يغضب الله سبحانه، وكبيرة يمقتها الله سبحانه، والمقت هو أشد الكراهة، فالله يمقت أن الإنسان يقول شيئاً ولا ينفذ هذا الشيء الذي أعطى العهود عليه.
ولو علم الإنسان أن كلامه من عمله وأن الله سائله عن كلامه وعن أعماله لخاف واستحيى من الله حق الحياء، فلا يخلف في العهد.(58/2)
شرح حديث: (آية المنافق ثلاث)
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)، وفي صحيح مسلم: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم) فيحدثك بالشيء وهو كذاب فيما يقوله، وإذا وعد أخلف، فكم من الناس يعدون ويخلفون، وكثير منهم يقول: هات المال وغداً ستجد الحاجة عندك، فتأتي اليوم الثاني ولا تجد الحاجة ولا غيرها، وانتهى الأمر على ذلك.
ومنهم من يقول: أعطني مالك أشغله لك، فيأخذ المال يشغله ولا تراه بعد ذلك فذهب المال على الرجل، وبعد أن كان عزيزاً والمال في يده صار ذليلاً يجري شمالاً ويميناً يبحث عن ماله.
فعلينا أن نتقي الله تبارك وتعالى في كلامنا، وفي أموالنا، وأن نحرص على أن تكون من حلال من أجل أن تستجاب دعواتنا.
والمقصود بالنفاق في هذا الحديث نفاق العمل لا نفاق الاعتقاد، فإذا كان منافقاً نفاقاً عقدياً فهذا أشنع من ذلك، ولكن هذه الأعمال من نفاق العمل.
قوله: (وإذا اؤتمن خان) فيصرفها ويضيعها وصاحبها لا يلاقيها بعد ذلك، وكأن يؤتمن على الأسرار، فيفضح صاحب السر عند كل الناس، ويؤتمن على الفروج ويؤتمن على الأبضاع وعلى الأموال وعلى البيوت فلا أمانة عنده.
وفي رواية مسلم: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم)، فلو كان يستحل ذلك، وظن أنه حلال له أن يصنع ذلك فقد كفر ونافق نفاقاً أكبر يخرج صاحبه من الملة، وإذا كان يعتقد أن هذا حرام ولكنه يفعله كنوع من الشهوة والهوى، فهذا آثم واقع في مصيبة من المصائب، نسأل الله العفو والعافية، حتى وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم.(58/3)
شرح حديث: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في الصحيحين- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) أي: أربع من كن فيه امتلأ قلبه بالنفاق والعياذ بالله: (كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها) أي: كان منافقاً نفاقاً مؤقتاً إلى أن يترك هذه الخصلة.
قال: (إذا اؤتمن خان) كأن يؤتمن على الأعراض والأموال وعلى الدماء ويؤتمن على الأسرار فيخون ذلك كله.
و (إذا حدث كذب)، صارت له طبيعة فأصبح لا يحلي كلامه إلا بالكذب، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الكذاب: (لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، فلا تقع الخصومات في أي معاملة إلا وتجد الكاذب حاضراً، وكان أشد ما يعاقب عليه النبي صلى الله عليه وسلم أهله إذا رأى منهم الكذب.
قال عليه الصلاة والسلام: (وإذا عاهد غدر)، فإذا عاهد وأعطى العهد والميثاق غدر بمن أعطاهم ميثاقه.
(وإذا خاصم فجر)، الفجور في الخصومة.
وقد جاء في الحديث (وإن الكذب يهدي إلى الفجور) فالإنسان يكذب في شيء، ومن ثم في شيء ثان، ومن ثم في شيء ثالث، ومن ثم يفجر، فيظهر الفجور عند الخصومة، فتجد الإنسان الأمين في كل أوقاته على السواء، في وقت الخصومة مع الناس يطلب الحق، لا يريد أكثر من الحق، ولا يغلف كلامه بكلام منمق معسل.
والإنسان الفاجر يبدأ بالاحتيال والمغالطة، وتجده إذا خاصم فجر ولا حول ولا قوة إلا بالله، فأهل الفجور وأهل الكذب هم أهل النفاق.
فاحذر من ذلك، وإذا وجدت نفسك تريد الفجور في الخصومة فتذكر أنك ستقف أمام الله، ولن ينطق عنك لسانك، ستنطق عليك يدك وفخذك، وأول ما ينطق على الإنسان فخذه يوم القيامة، والإنسان يقول: بعداً لكن فعنكن كنت أدافع.
إذا كان للناس عليك حقوق فأد الحقوق من غير جدل، لا تجادل؛ لأنك ستدفع الحق إن عاجلاً أو آجلاً، وإن لم يكن في الدنيا فيوم القيامة، ولا ترم الخصم بذنب من أجل أن تحسن منظرك أمام الناس وتقدح فيه وهو مظلوم فتظلمه بذلك ظلمين، ظلماً بأن شوهت سمعته، وظلماً بأن أكلت ماله، فعلينا أن نتقي الله سبحانه تبارك وتعالى، ونحذر من خصال النفاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.(58/4)
شرح حديث: (لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يعد جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه إذا جاء مال البحرين سيعطيه هكذا وهكذا وهكذا أي: ملء الكفين، قال: (فلم يجئ مال البحرين حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه المنادي ينادي: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني، قال جابر: فأتيته، وقلت له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لي كذا وكذا، قال: فحثى لي حثية فعددتها، فإذا هي خمسمائة، فقال لي: خذ مثليها) متفق عليه.
فنفذ أبو بكر الصديق ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله.
ففيه أن أبا بكر راعى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخلف في موعدة وعدها أحد قط صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر بذلك مقامه صلوات الله وسلامه عليه.(58/5)
الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير
يقول الإمام النووي: الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير، إذا كان لك عمل من أعمال الخير فحافظ على هذا الخير دائماً ولا تنقضه ولا تبطله ولا تنقطع عنه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) أي: لا يقطع عنكم ثوابه حتى تنقطعوا أنتم عن العبادة، فيمل الإنسان أي: لهى وتعب من العبادة فيكون بذلك قد قطع عن نفسه الأجر والثواب من الله سبحانه، فطالما أنك تتقرب إلى الله بالعبادة فإن الله يعطيك، فكلما تقربت إليه شبراً يتقرب منك ذراعاً، وتتقرب منه ذراعاً يتقرب منك باعاً، وتأتيه تمشي يأتيك هرولة بفضله وثوابه ورحمته سبحانه.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11]، لا يغير ما في الناس من نعمة حتى يتغير الناس من شكر النعمة وتنقلب أحوالهم، فإذا بهم يكفرون بالله سبحانه، ويشركون به، ولا يحمدونه على شيء، فالله يقلب عليهم الحال، تسخطوا فاستحقوا من الله أن يسخط عليهم وأن يحرمهم، وإذا كانوا من أهل الطاعة وهم مستمرون على الطاعة؛ فالرحمة تأتيهم من عند رب العالمين سبحانه، وإذا كانوا من أهل المعصية وهم يدعون الله: يا رب يا رب وهم على معصيتهم، فإن الله لا يغير ما بهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فإذا تابوا إلى الله تاب الله عز وجل عليهم، وأعطاهم من فضله، فتغيير الحال بحسب ما يكون عليه قلب الإنسان أنه مستمر على باطله أم أنه أعرض عن الباطل ورجع إلى الحق.
وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] يحذر الله المؤمنين أن يكونوا بهذه الصفة، والذي يوعد الوعد ومن ثم يخلف ولا ينفذ، أو يعقد العقد ومن ثم يتحلل منه ولا يعطيه شبهه الله بامرأة خرقاء حمقاء كانت في الجاهلية تغزل غزلها إلى أن تعمل منه ثوباً، ومن ثم تنقض هذا الثوب، ومن ثم ترجع تغزله مرة أخرى، ومن ثم تنقضه! أتكون مثلها كلما عقدت عقداً نقضته، وكلما عاهدت عهداً غدرت به؟! فيقول لنا: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] من بعد ما كنتم أقوياء بالإيمان فارقتم ذلك بالمعاصي ورجعتم القهقري! وأنكاثاً جمع نكث وهو الغزل المنقوض.
وقال الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، ألم يأت الوقت بعد؟ ألم تأت الساعة التي تتوبون فيها إلى الله عز وجل وتعرفون حق الله سبحانه وتعتذرون إليه تائبين إليه؟ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16]، فأهل الكتاب طال عليهم الأمد من قبل، رفع المسيح عليه الصلاة والسلام، وطال عليهم الزمن، فتركوا ما أتى وبدلوا وغيروا.
واليهود بعد أن قبض موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وطال عليهم الأمد فغيروا، بل في حياته غيروا، فعندما غاب عنهم أربعين ليلة واعده الله عز وجل فيها عبدوا إلهاً آخر! فقال: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] كلما بعد الإنسان عن الإيمان شيئاً فشيئاً يقسو قلبه، فإذا بالذي كان يعرفه معروفاً صار منكراً، وإذا بالذي كان يعرفه منكراً صار معروفاً، وما أكثر هذا في الناس! فتجد الشيء الخاطئ الذي كان يشمئز منه الإنسان أصبح من كثر ما اعتاد عليه سهلاً لا يعبأ به! فعلى المسلم أن يعود نفسه على الخير، وعلى الصدق وإن كان الناس كذابين، ويعود نفسه على الوفاء حتى وإن كان الناس خائنين، وإن وقع الناس في الشرك والكفر بالله سبحانه تبارك وتعالى لزم الحق، ورحم الله الفضيل بن عياض حين يقول: الزم طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين.
الزم طريق الهدى، حتى وإن كان معك القليل من المؤمنين على هذا الطريق، واحذر طرق الضلالة والتي على رأس كل منها شيطان يأخذك إليها، ولا تغتر بكثرة الهالكين.(58/6)
شرح حديث: (لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله! لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل) أي: نافلة كان يفعلها، ومع ذلك نبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وعبد الله كان مجتهداً شديد الاجتهاد، قائم ليله، صائم نهاره رضي الله تبارك وتعالى عنه، فصار يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويقوم من الليل بعضه وينام بعضه، حين علّمه وأخبره أن خير الصيام صيام داود، وخير القيام قيام داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، واستمر عبد الله بن عمرو بن العاص على ذلك، وخشي عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمل فقال: (لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فتركه، فما ترك عبد الله بن عمرو بن العاص قيام الليل)، وقد تعب بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأرهقه القيام وأتعبه الصيام، وكانوا يقولون: أنت شيخ كبير، لماذا تفعل هذا الأشياء كلها؟! فكان يقول: فارقني رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء، وأكره أن ألقاه غداً على غيره، انظروا! الحياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه من ترك المحافظة على ما اعتاده.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا وأن يرحمنا وأن يجعلنا نلاقي النبي صلى الله عليه وسلم بما يحبه منا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(58/7)
شرح رياض الصالحين - من (استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء) إلى (إصغاء الجليس لحديث جليسه)
حث النبي صلى الله عليه وسلم على طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء، وجعل طيب الكلام سبباً من أسباب اتقاء النار، وهو دليل حسن الخلق، وقد أمر الله نبيه بخفض الجناح للمؤمنين، ومن ذلك الإصغاء لحديث الجليس.(59/1)
أهمية حسن الخلق مع الإخوان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والكلمة الطيبة صدقة) متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) رواه مسلم.
ذكر الإمام النووي رحمه الله: كتاب الأدب، وذكر تحته أبواباً منها: ما قدمنا قبل ذلك في الحياء وفضله والحث على التخلق به، ومنها: ما جاء في حفظ السر، ومنها: ما جاء في الوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، ومنها: الأمر بالمحافظة على ما اعتاده من الخير، وهذا باب في استحباب طيب الكلام وطلاقة الوجه، واستحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب، وفي إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام وغير ذلك.(59/2)
التعود على حسن الخلق
إن الإنسان المؤمن يتعلم الحياء من هذا الدين العظيم، ويتعلم الأدب وحسن الخلق، ويقيم ذلك في نفسه وفي أهله وبين الناس ويطبقه، وينتظر على ذلك الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالمؤمن يتعلم الحلم وحسن الخلق ليس ليقول عنه الناس: إنه إنسان طيب وإنه كذا! وإنه كان جيداً؛ لأن الأصل في ذلك أنه طاعة لله سبحانه، وأنه يريد بذلك الجنة، ولأنه يعلم أن أفضل الأعمال التي تدخل صاحبها الجنة بعد إقامة الفرائض حسن الخلق، فعلى الإنسان أن يحسن خلقه شيئاً فشيئاً، فكما أن العلم بالتعلم فكذلك الحلم بالتحلم، فالمرء يتعاطى أسباب العلم شيئاً فشيئاً حتى يصير عالماً، كذلك يحلم شيئاً فشيئاً حتى يصير حليماً، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا في الحديث: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) يعني: يحسِّن الإنسان خلقه بالتعود ويعتاد على العلم بالتعلم، والحلم يكون بالتعود على الحلم، وجاء بصيغة التفعل التي تقتضي التكرار والمواظبة والمداومة على الشيء.
وكذلك تحري الخير، فمن يتحرَّ الخير لم يزل يطلبه في مظانه حتى يصل في النهاية إليه، والذي يخاف من الشر ويتوقاه يكلفه ذلك أنه كلما رأى شراً يبعد عنه شيئاً فشيئاً حتى يقيه الله عز وجل الشر.
إذاً: جماع الأمر أن الإنسان يعود نفسه على العلم، وعلى الحلم، فيصبر على ذلك حتى يكون عالماً ويكون حليماً، ويكون حسن الخلق.
ومن الأخلاق الطيبة: طيب الكلام وطلاقة الوجه عند اللقاء، فلابد للإنسان أن يكون كلامه طيباً، فالإنسان الفاحش في الكلام يقول كلاماً غير مفهوم، وإذا جلس في مجلس تراه يهمز هذا ويلمز هذا ويطعن في عرض هذا ويعيب في الناس، فإن الناس تستقبح منه ذلك فلا يحبون مجالسته، حتى وإن أظهروا له أنهم يضحكون من كلامه أو يضحكون معه، لكن الحقيقة أن الله يلقي البغضاء في قلوبهم، فيبغض بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعصون الله سبحانه تبارك وتعالى.
لابد للإنسان المؤمن أن يعود نفسه على قول الخير ومجالسة أهل الخير، فيجالس الأبرار وأهل الطاعة فيتعود منهم حسن الخلق، لكنه إذا جالس سيئي الخلق يصير لسانه مثل لسانهم، فإذا قال أحدهم له نكتة رد عليه بنكتة، وإذا طعن أحدهم في عرضه رد عليه بمثلها، حتى يصير في النهاية إنساناً بذيء اللسان، والنبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الفحش والتفحش، لا تكن فحاشاً في كلامك ولا تتكلف ذلك، ولكن ابق على طبيعتك الطيبة، وإذا رأيت إنساناً فيه أخلاق غير طيبة فلا تقلده من أجل أن يخاف منك؛ لأن الله عز وجل هو الذي يلقي الهيبة في قلوب الناس، فأطع الله سبحانه تبارك وتعالى يعنك سبحانه تبارك وتعالى، فهذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يشتمه فقال له: يا هذا! دع للصلح موضعاً، فإنك إن عصيت الله فينا لا نفعل أكثر من أن نطيع الله فيك.
يعني: أنت تعصي الله فينا يشتمك لنا، لكن نحن نطيع الله فيك بالصبر عليك، فدع للصلح موضعاً.
والإنسان المؤمن لا يكون إمعة، فإذا جلس في مجلس يتكلم بلسان أهله، أو يعتاد أن يكون بذيئاً، أو يكون فحاشاً أو شتاماً، بل يحافظ على لهجته وعلى حلاوة منطقه ولسانه مع كل الناس.(59/3)
التبسم وسهولة المعاملة مع الإخوان
يستحب أن يكون الإنسان متبسماً، ولا يكون عابساً دائماً مكفهراً متضايقاً، ويظهر للناس الغضب والملل من كلامهم، وليكن المسلم متواضعاً سهلاً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عن المؤمن أنه إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، المؤمن إلف سهل مألوف يعتاد الناس عليه ويقبلون عليه من غير أن يهين نفسه، فمن الناس من يظن أن السهولة أن يكون مع الناس مثل ما هم عليه، يتكلم معهم ويمزح معهم ويضحك حتى يغلبوه على أمره فيسخروا منه، لا، ليس بهذه الطريقة؛ بل كن في نفسك وقوراً، واعرف قدر نفسك، واعرف الناس الذين معك، وعامل من هو فوقك بالاحترام والمودة، ومن هو دونك بالرفق والمحبة والمودة، ومن هو مثلك بالعطف والمودة، فالمؤمن يتعامل مع كل الناس، وإن كان بينك وبين الناس خيط فلا تقطعه، فلاتسخر من أحد فتلقاه يسخر منك يوماً من الأيام، ولا تتطاول على أحد، فقد يكون الذي تتطاول عليه أقل منك أو يخاف منك فيسكت، ولكن قد يسلط الله عز وجل عليك إنساناً سفيهاً يوماً من الأيام فتقول له شيئاً، فيرد عليك أكثر مما قلت، ولذلك كان العلماء يحرصون على هذه الأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أساء إليهم إنسان يسكتون ويتركونه؛ لأنه في يوم من الأيام قد يلاقي من هو سفيه فيسفه عليه.
كان الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، جاءه إنسان يوماً من الأيام وصفعه على وجهه فقال: لعلهم جعلوا لك جعلاً على ذلك، قال: نعم، قال الأحنف للرجل: لست بسيد القوم، ولن تكسب شيئاً، وإنما سيد القوم فلان فاذهب فاصفعه؛ حتى تحصل على الجعل، فذهب إلى فلان هذا فصفعه على وجهه، فقطع المصفوع يد الصافع، وهذا ما كان يريده الأحنف، فلا تدري إذا تطاولت على إنسان فقد يسخر الله إنساناً يتطاول عليك.
إذاً: عود نفسك على البشاشة مع الناس وعلى الحلم واللين والرفق معهم.(59/4)
التوسط في اللين مع الناس
ليس معنى أن تكون حليماً وليناً للناس أن تجعلهم يضيعون عليك وقتك وجهدك؛ لأن الناس من تفرغ لهم تفرغوا له وأخذوا ما يريدون وأنهكوه وأتعبوه، فمن الشيء المعروف أن الناس إذا تعودوا على فراغك معهم لن تتخلص منهم، لكن احرص على عبادتك، وعلى وقتك، واترك الذين لا يهتمون بدخولك الجنة أو النار أو تحل عليك مصيبة، هم لا يهتمون بك، إنما همهم أن يأخذوا الذي يريدون، فتراهم إذا جاء إمام المسجد وقعد ليقرأ القرآن تجد هذا يسأله: يا شيخ عندي مسألة، والثاني: عندي سؤال، والثالث عنده سؤال، فلا يتركونه يقرأ القرآن أو يسبح الله سبحانه وتعالى، لكن إذا حسم الأمر وحافظ على نفسه فالجميع سيخاف وسيسكت، لكنه إذا فتح للناس المجال لن يكمل الإجابة حتى يقف على باب الجامع، وقد يستمر على ذلك ساعتين لو أصغى للجميع! إذاً: ليس من اللين أن تتنازل فتضيع العبادة أو العلم الشرعي، ولكن أوسط الأمر أن تبسُط وجهك للناس، وتكون رقيقاً معهم، ولكن أيضاً اعتذر لهم حسب طاقتك، فرب العزة سبحانه يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، فالإنسان لا يكلف نفسه إلا ما يطيق؛ لذلك عود نفسك على المحافظة على وقتك وعلى وقت غيرك، وكن لطيفاً رقيقاً، وسلم على من عرفت ومن لم تعرف، ولا تكن مثل من لا يحب أن يسلم عليه أحد، فإذا أراد أن يرد السلام ردَّ بطريقة ساذجة، فيقول لك: أنت لا تستحق! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، شر الناس من كان الناس يخافونه، وهو سعيد أن الناس تخافه! فيفسحون له الطريق، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وصفه بأنه شر الخلق، وإذا كنت شر الناس في الدنيا، فمحلك يوم القيامة مع الأشرار في النار والعياذ بالله.
لذلك الإنسان المسلم إذا مر في الطريق سلم على إخوانه سواء سلم باليد أو سلم باللسان، ويلقي التحية عليهم ويكون بشوشاً في وجوه الناس، وإذا سلم عليك أخوك فلا توقفه نصف ساعة حتى لا تعطله وتضيعه عن عمله، أحياناً أخاف أن أسلم على الإخوة باليد مع أنني أحب أن أسلم عليهم باليد، لأنه يتساقط بسببها السيئات، ولكن إذا سلمت باليد على أحد الناس يقول: تعال يا شيخ أريدك، ويوقفني نصف ساعة، وكذلك الثاني وأما الثالث فيقول: سبحان الله! تمشي ولا تضحك لأحد ولا تسلم على أحد؟! فلابد أن تعلم أن الذي يحبك في الله سبحانه تبارك وتعالى يجب أن تكون محبته لك بأن يحافظ على وقتك وأن يعينك على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالسؤال قد يتأخر أما عبادة الله فلا تتأخر؛ لأنها مؤقتة بأوقات.
ومن الناس من يأتي الساعة الثانية عشرة في الليل ويدق الجرس فيقول: طلقت امرأتي، فابحث لي عن حل، ولا ينتظر الصباح، فنقول له: صلِّ معنا الفجر في جماعة، فيأتي على باب المسجد يريد أن يسأل سؤالاً فيقال له: الصلاة أولاً، فيقول: لا، أنا في عجلة من أمري، فلا يريد أن يصلي، ولكنه يريد أن يعرف جواب سؤاله! إذاً: نقول: إن الإنسان لابد أن يحافظ على وقته، وليس معناه أنه لا يراعي هذه الأحاديث لا، بل لابد أن يتبسم في وجوه الناس، وهذا يلزمنا شرعاً، لكن بالقدر الذي لا يضيقون به علينا عبادة ربنا سبحانه وتعالى.
فالإنسان المؤمن يكون إلفاً مألوفاً، لكن لا يعني ذلك التغاضي عن الواجبات العينية والمفروضة عليه، بل عليه أن يعرف القدر الذي أوجبه الله عز وجل عليه، فيؤدي العبادة كما أمره الله سبحانه وتعالى.(59/5)
أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بخفض الجناح
يقول الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88]، جناح الإنسان جانبه، والإنسان فيه جناح اللين وجناح الاعتزاز والشدة، والله يقول لنبيه: ((وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ))، أي: كن ذليلاً مع المؤمنين، كالطير يطير فيأتي على أفراخه ويظلهم بجناحه ويأخذهم بجواره، فكن مع المسلمين كذلك، لا تتعال عليهم، ولكن تواضع معهم، وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي ليس في قلبه غل لأحد، وقد عصمه الله تبارك وتعالى، ويقول له ذلك من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهذا فيه تعليم لكل المؤمنين أن يخفضوا أجنحتهم لبعضهم البعض.
وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} [آل عمران:159] الفظ هو الشديد السيئ الخلق، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران:159] أي: لا تلين لأحد، لو كنت كذلك، {لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ولكن الحال أنهم مجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم، فليس فيه ذلك، فعبر بلو، ولو حرف امتناع وقوع الجواب لامتناع وجود الشرط، ومستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غليظ القلب، ومستحيل أن ينفضوا من حوله صلوات الله وسلامه عليه.(59/6)
شرح حديث: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: لابد للإنسان المؤمن أن يتقي النار وأن يستحضر دائماً ذكر النار وذكر الجنة، فيرجو أن يكون من أهل الجنة ويتعوذ بالله من النار، وليكن على لسانه دائماً: اللهم إني أسألك الجنة، اللهم أجرني من النار.
إذا سألت الله عز وجل الجنة فإن الجنة تخاطب ربها: يارب، إن عبدك يسألك الجنة، يا رب أدخله الجنة، والنار تقول: يا رب أجره من النار، فقد جاء في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنه من سأل الله الجنة ثلاثاً وتعوذ بالله من النار أيضاً ثلاثاً، تقول الجنة لربها سبحانه: اللهم أدخله الجنة، والنار تدعو ربها أن يعيذه من النار).
وفي حديث آخر: (من قال في يومه سبع مرات ذلك) يعني: أنه يتكرر منه ذلك، كلما ذكر الجنة يقول: اللهم إني أسألك الجنة، سبع مرات، وكلما ذكر النار تعوذ بالله منها سبع مرات، فإذا كان الأمر كذلك كان الله عز وجل لك على حسب ظنك فيه سبحانه وتعالى.
والغرض من ذلك أنك إذا أكثرت من قولك: اللهم أجرني من النار، اللهم إني أسألك الجنة، مستحضراً لذكر الجنة ولذكر النار، فذكرك للنار يجعلك تخاف أن تدخلها فتقوم بالصدقة وبالبشاشة في وجه أخيك وبإعانة الناس على الخير.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة) أي: فمن لم يجد تمرة فبكلمة طيبة، وذلك بأن تقول لأخيك كلمة طيبة، كذلك المسكين الذي يأتي إليك أو الفقير أو المحتاج وليس معك شيء تعطيه فتقول له: أسأل الله أن يسهل لك ويعطيك، وإن أعطانا الله سنعطيك.
فبالكلمة الطيبة تصرف هذا الإنسان طالما أنه فقير أو مسكين، وليس إنساناً محتالاً أو مخادعاً أو سارقاً، فالتعامل مع هذا الفقير أو المسكين إما أن تعطيه شق تمرة فما فوقها وإما أن تعتذر إليه، قال تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28] أي: تقول قولاً سهلاً كريماً لهذا الإنسان السائل.(59/7)
شرح حديث: (الكلمة الطيبة صدقة)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والكلمة الطيبة صدقة).
ذُكر هذا في الحديث الطويل الذي فيه: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: يعدل بين الاثنين صدقة)، أي: أن ابن آدم فيه ثلاثمائة وستون سلامى، والسلامى هي العظمة التي بين المفصلين، فالإنسان فيه مفاصل تتحرك، فإذا قام من النوم تحرك مفصل من المفاصل، فحينها يحمد الله عز وجل على ذلك، ولعل الصحيح لا يعرف قيمة هذه المفاصل، لكنه إذا وقع وتأذت ركبته ولم يستطع أن يحركها عرف فضل الله عز وجل عليه، وإذا جرحت إحدى أصابعه وأراد أن يمسك القلم ولم يستطع أن يمسكه عرف فضل الله عز وجل عليه.
فكل نعمة من هذه النعم تحتاج إلى أن تشكرها وتتصدق عنها كل يوم، فإذا أردت أن يعطيك الله صحة كل يوم عليك بالصدقة بثلاثمائة وستين صدقة تتصدق بها على كل مفصل في جسدك.
والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيقول: (كل تسبيحة صدقة)، كأن تسبح الله في كل يوم بعد الصلاة أو غيرها، فكل تسبيحة من هذه التسبيحات صدقة، (وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة).
كذلك من الصدقة تبسمك في وجه أخيك، قال صلى الله عليه وسلم: (والكلمة الطيبة صدقة)، إذاً: على الإنسان أن يقول كلمة طيبة لأخيه المسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يجد فبكلمة طيبة).(59/8)
شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً)
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئاً)، لا تحقرن المعروف؛ لأن فيه أجراً وثواباً، فأي معروف تستطيع أن تعمله ولو كان هذا المعروف يسيراً أو أقل الأشياء فاعمله، فالله سبحانه وتعالى يضاعف هذا المعروف ولو كان مثقال ذرة أو وزن نملة أو أقل من ذلك.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) يعني: حتى ولو كان أقل المعروف، فلابد أن تقابل أخاك بوجه ليس متجهماً ولا مكفهراً ولا عابساً، ولكن كن متبسماً له في طريقك وفي بيتك وفي مسجدك، فالتبسم للأخ المسلم صدقة.(59/9)
استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك
يقول الإمام النووي: باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك.
تكلم مع الناس بكلام يفهمونه، فلا تكن سريع الكلام؛ لأن الذي يسمعك قد لا يفهم ما تقول، وقد يقول لك: أعده ثانية، فتظهره في مظهر الغبي الذي لا يفهم، فلا تسرع في الكلام، وإذا طلبت حاجة فاطلب على مهلك واجعل الذي يسمعك يفهم منك ما تقول، هذا في كلامك مع الناس، أما إذا كنت في الدرس أو في الخطبة فمن باب أولى ألا تقول للناس كلاماً لا يفهمونه، فقد يظن الناس أنك فاهم وهم ليسوا بفاهمين، فيقولون: هذا كلام كبير نحن لا نعرفه، ولكن أفهم الناس وخاطبهم على قدر عقولهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أوتي جوامع الكلم كان أفصح خلق الله صلوات الله وسلامه عليه، وأبينهم عليه الصلاة والسلام، يقول أنس: (كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً، حتى تفهم عنه صلوات الله وسلامه عليه)، هذا إذا أراد أن يفهمهم وظن أنهم لم يفهموا أو أراد أن يحفظهم ذلك، وليس معناه أنه كلما تكلم أعاد ثلاث مرات، وإلا لكان ذلك عيباً به صلى الله عليه وسلم، وحاشاه من ذلك.
فالمقصد أنه إذا كان الكلام لا يفهم إلا بتكرار كرره، كأن يلقي ذكراً من الأذكار ليحفظ، أو أمراً من الأمور أو يريد أن يعلمهم نصيحة يحفظونها فإنه يكرر ذلك مرة ومرتين وثلاث مرات صلوات الله وسلامه عليه، وأحياناً إذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً، وهذا إذا كانوا قوماً كثيرين، فلابد أن يكرر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حتى لا يحرم البقية من بركة التسليم عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم حين يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فكان من شفقته صلى الله عليه وسلم ألا يحرمهم من ذلك، فكان يكرر التسليم عليهم مرة ومرتين وثلاث مرات، فيردون عليه السلام صلوات الله وسلامه عليه، ورضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه)، والكلام الفصل له مقطع يقف عليه المتكلم ويسمعه السامع، ليس هو كلاماً له ذيول طويلة بحيث آخره ينسي أوله، ولكن كان كلامه كلاماً فصلاً.
وأنت حين تسمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أو تقرؤها تجدها واضحة بينة، سواءً كانت أحاديث طويلة أو أحاديث قصيرة، فحديثه صلى الله عليه وسلم كله جمل مفيدة، فـ عائشة رضي الله عنها تذكر أن كلامه كان كلاماً فصلاً يفهمه كل من يسمعه، بل قالت في حديث آخر: (لو أراد العاد أن يعده لعده)، فالكلمات التي يخرجها صلى الله عليه وسلم تنبثق من هدوئه، فهو عندما يتكلم صلى الله عليه وسلم يتبين ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: من الأدب في الكلام أن الإنسان يفهم جليسه ما يقول، ولا يتسرع في الكلام بحيث إن الذي يسمع لا يفهم، وقد تطلب منه أشياء وهو ليس بفاهم، فيقول لك: حسناً، ولا يستطيع أن ينفذ شيئاً من الذي تقوله.(59/10)
الحث على إصغاء الجليس لحديث جليسه
يقول الإمام النووي: باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام يعني: إذا تكلمت مع إنسان أفهمته ما تقول، والسامع لابد أن يسمع ويصغي إلى الذي تقول، إلا أن يكون كلاماً حراماً فلا ينبغي له أن يجلس في مجلس فيه كلام حرام، بل يأمر بمعروف وينهى عن منكر أو يترك المجلس وينصرف، ولا يجلس مع أناس يتكلمون في دين الله عز وجل باستهزاء وسخرية، أو يتكلمون في عرض فلان وفلان، أو يدبرون لسفك دم فلان أو لانتهاك عرض فلان أو لأخذ مال فلان، والأشياء المحرمة يجب عليه أن يوقف أصحابها، فإذا يئس فليترك المكان ولا يجلس معهم.
ولذلك يحذر ربنا سبحانه تبارك وتعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقعد مع أقوام يخوضون في آيات الله، فقال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68].
يعني: إذا نسيت وقعدت، ثم تذكرت، فاترك هؤلاء ولا تجلس مع القوم الظالمين، وانتق الجليس الذي تجلس معه بأن يكون إنساناً تقياً ينصحك وتنصحه، ويقبل منك النصيحة، ويدعو لك وتدعو له.(59/11)
من أدب السماع إصغاء الجليس إلى حديث جليسه
إن إصغاء الجليس إلى حديث جليسه من أدب السماع، فالإنسان له لسان واحد وله أذنان؛ حتى تسمع ضعف ما تتكلم، فلا تقعد في الجلسة لكي تتكلم كثيراً وإلا ستأخذ الجلسة كلها، ولكن الإنسان الذي يحبه الناس من يسمع أكثر مما يتكلم؛ لأن الإنسان الذي يكثر الكلام يجعل الناس يضجرون منه، فعود نفسك أن تسمع أكثر مما تتكلم إذا كنت مع الناس، فلا تتكلم حتى يشتهي الناس كلامك، فإذا أحب الناس أن يسمعوك تكلمت، فقد كانت نصيحة ابن عباس لـ عكرمة وكان عالماً بالتفسير رضي الله عنه أن قال له: إنك تعلمت هذا العلم فلا تمل الناس، ولا ألفينك تأتي الناس في حديثهم فتقطع عليهم الحديث، ولكن انتظر حتى يشتهوا كلامك، فإن اشتهوا كلامك فتكلم.
فالمسلم يعود نفسه على أن يستمع خاصة الكلام المفيد، ولا يكثر من الكلام.(59/12)
الحث على الإنصات ليتيسر وصول المسموع
يقول الإمام النووي: باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام، واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه.
يعني: إذا كان المجلس يكثر فيه اللغط والكلام فلابد من الاستنصات؛ حتى يعظ الواعظ أو يخطب أو يعطي درساً، فليس للناس أن يتكلموا وهو يتكلم، وليس من الأدب أن يتكلم الناس في الدرس، وإذا اقتضى الأمر أن يسكت الناس سكتوا.
يقول جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: استنصت الناس) يعني: كان هناك ناس كثير مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وكان عددهم مائة وثلاثين ألف رجل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعظهم ويخطب فيهم فقال لـ جرير: (استنصت الناس) يعني: مرهم بالسكوت، لكي يخطب فيهم النبي صلى الله عليه وسلم ويعظهم، ثم قال للناس موعظة عظيمة: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، الكفر العملي بأن يقاتل بعضكم بعضاً ويقتل بعضكم بعضاً، أما الكفر الحقيقي فهو بأن يستحل الإنسان دم المسلم فيقتله لكونه مسلماً، فهذا كفر حقيقي، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/13)
شرح رياض الصالحين - الوعظ والاقتصاد فيه
إن الموعظة سلاح يستخدمه الداعون إلى الله لاصطياد قلوب الغافلين من عباد الله؛ ليرجعوهم إلى المسار الصحيح والصراط القويم، ولكن لابد لمستخدم هذا السلاح لينتفع به من مراعاة حال الناس وأن تكون موعظته مشتملة على جوامع الألفاظ من كلام الله وكلام رسوله، وألا يطيل فيها حتى لا يسأم الناس وأن يتخير من الأوقات ما يكون فيه الناس مقبلون على قبول كلامه متعطشون إلى سماع نصحه وبيانه.(60/1)
ما جاء في الوعظ والاقتصاد فيه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوعظ والاقتصاد فيه.
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: (كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم.
فقال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) متفق عليه.
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة) رواه مسلم].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب الوعظ والاقتصاد فيه وهذا من الأبواب التي ذكرها الإمام النووي في كتاب الآداب.
ومما ذكر قبل ذلك: الكلام عن الحياء والحث عليه والتخلق به، وحفظ السر، والوفاء بالعهد وإنجاز الوعد، والمحافظة على ما اعتاده الإنسان من الخير، وطيب الكلام وطلاقة الوجه، واستحباب بيان الكلام وإيضاح الكلام للمخاطب، وإصغاء الجليس لحديث جليسه.(60/2)
الحث على أن تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
الاقتصاد في الموعظة أمر مطلوب، والكلام إذا كان كثيراً في مادة واحدة، كأن يكثر الإنسان من الوعظ والتذكير بالجنة والنار، فإن هذا يجعل الناس يملون، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليم الناس أن يقتصدوا في مثل ذلك.
يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].
فقوله: {بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] أي: أن تكون حكيماً، كذلك أن تكون الدعوة بالموعظة، وهنا قال: {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] أي: كأن المواعظ منها موعظة سيئة ومنها موعظة حسنة، فالله عز وجل يأمرك أن تعظ موعظة حسنة، والوعظ هو: التذكير والتخويف بالله تبارك وتعالى، ولكن أحياناً يأتي الإنسان لتذكير الناس وتخويفهم فيملهم، بسبب أنه يكثر من الترهيب حتى ييئس الناس، أو يكثر من ترغيب الناس حتى يجعلهم يرجئون الأعمال ويتراخون عن العمل الصالح، فعلى الإنسان أن يقتصد.
ومن أجمل ما يؤتى به في الموعظة القرآن الكريم وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم تجد في آياته التذكير بالله تبارك وتعالى، وذكر أسمائه وصفاته سبحانه، ففي السورة الواحدة تجد التذكير بأمور الآخرة من جنة ونار وغيرها، وتجد التذكير بالأحكام الشرعية التي يريدها الله عز وجل من عباده، والتذكير بمخلوقات الله سبحانه، والقصص عن الأمم السابقة، وتذكير الإنسان بالمواعظ والرقاق، فتجد القرآن يتحول من شيء إلى شيء، فلا يمل قارئ القرآن، كذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يمل منه، فقد أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فما كان يخوف الناس حتى ييئسهم صلى الله عليه وسلم، ولا كان يفتح لهم أبواب الرجاء حتى يجعلهم يتركون العمل، ولكن يأمرهم بالعمل بقوله: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له، فأما أهل السعادة فبعمل أهل السعادة يعملون، وأما أهل الشقاوة فبعمل أهل الشقاوة يعملون).
يقول الله سبحانه وتعالى: {ادْعُ} [النحل:125]، فيأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو الإمام في كل شيء، والقدوة الحسنة، فيقول له معلماً له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:125]، إلى طريق ربك تبارك وتعالى، {بِالْحِكْمَةِ} [النحل:125] بالآيات التي نزلت من عند ربك سبحانه بالكتاب الحكيم بالحكمة والموعظة الحسنة.(60/3)
شرح حديث ابن مسعود: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله يتخولنا بها مخافة السآمة علينا)
يوضح ابن مسعود رضي الله عنه ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم في موعظته، فيقول أبو وائل واسمه شقيق بن سلمة وكان من التابعين ومن تلامذة ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان ابن مسعود يذكرنا في كل خميس، يعني: كل خميس يخرج عليهم ويكلمهم ويعظهم، ويذكرهم بالله سبحانه، وابن مسعود كان من كبار فقهاء أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكان معلماً للناس، يعلمهم الفقه.
فكان رضي الله عنه يتخولهم بالموعظة، يعني: لا يأتي كل يوم يذكرهم بالجنة والنار؛ لأن الناس يملون من تذكيرهم بالجنة والنار كل يوم، ولكن ليكن ذلك مرة كل فترة، وليس كل يوم.
يقول هنا: كان يذكرنا في خميس، كل يوم خميس كان يذكرهم، فقال له رجل وقد أعجبته مواعظ ابن مسعود: يا أبا عبد الرحمن! لوددت أنك ذكرتنا كل يوم، يعني: ليتك تقول لنا كلامك الطيب وحديثك الجميل هذا كل يوم، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم.
إذاً: ابن مسعود خائف عليهم إن هو ذكرهم ووعظهم وخوفهم من النار ورغبهم بالجنة كل يوم أن يملوا، فإذا مل الإنسان فإن الكلام لا يؤثر فيه ولا يعينه على العمل، ولا يتشجع للعمل بسماعه، فيقول هنا: إني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، يعني: أحياناً يأتيهم بالموعظة وليس كل يوم.
فيقول: (وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا).
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول أصحابه عندما يذكرهم ويقص لهم القصص ويخوفهم من النار، ويذكرهم بالجنة، فكان يسكت مدة ثم يتكلم صلى الله عليه وسلم، وهذا أدعى أن يجمع الإنسان همته فيستوعب ما يقوله له من يذكره، فقال هنا: (كان يتخولنا بها مخافة السآمة علينا) يعني: يخاف أن نسأم وأن نمل من ذلك، فإن الإنسان إذا مل فلعله يستهين بالحديث الذي يلقى أمامه.
فعلى الإنسان أن يتكلم أحياناً ويسكت أحياناً، وأيضاً ينوع في كلامه وأسلوبه؛ لأن الكلام إذا كان مكرراً فإن الإنسان يمل منه ويزهد فيه، فلو جئت إلى رجل تارك للصلاة ودعوته إلى الصلاة فربما يستجيب لك، وربما لا يستجيب، فيمكن أن تذكره بالجنة وتخوفه من النار، لكن لا تأتي إليه في كل وقت وتخوفه من النار؛ لأنه لو تعود على سماع ذكر النار فإنه لن يتأثر حتى إننا نجد أن بعض الجهال إذا خوفته من النار قال لك: كلنا سندخل النار، ولا أحد سيدخل الجنة! وهذا من باب الاستهانة بالنار، فمثل هذا الفعل يوقع المستهين في الكفر، فبعدما كان في معصية أو كبيرة من كبائر الذنوب، أصبح واقعاً في الكفر بسبب الاستهانة بعذاب رب العالمين سبحانه.
فعلى الإنسان الذي يعظ ويذكر، وإذا أراد أن يدعو إنساناً إلى أن يحافظ على الصلاة فيبين له ما في الصلاة من فوائد للإنسان، وما في الصلاة من صلة بين العبد وبين ربه، وما في الصلاة من أجر نتيجة المشي إلى المسجد، وأن له بكل خطوة يخطوها رفع درجة ووضع سيئة، ويحرك في نفسه الغيرة من إخوانه الذين يصلون لينافسهم في هذا الخير، ويكون مثلهم، فعلى الداعية أن ينوع في الخطاب لعل الله عز وجل أن يهدي به من يشاء من عباده.
فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، فلو أن الواعظ أخذ يكرر كلامه، فإنه سيمل منه ويعرض عنه، لكن لو أنه غير من أسلوبه وغير من طريقته في الدعوة لهذا الإنسان فلعل الله تبارك وتعالى أن يفتح على يديه فيستجيب هذا الإنسان إلى الدعوة ويستجيب إلى المسجد فيصلي، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلين ممن كانوا قبلنا، كان أحدهما عابداً وكان الآخر عاصياً، فكلما مر العابد بذاك العاصي وجده على معصية، فيذكره بالله، ثم يمر عليه مرة ثانية ويجده على المعصية نفسها، فيذكره بالله، فلا ينتهي، وإذا بهذا العاصي لما مل من تكرار صاحبه لدعوته يتطاول على ربه تبارك وتعالى ويقول: دعني وربي، دعني وربي، فإذا بالعابد يقول له: والله لا يغفر الله لك! فهذا العابد مل من كثرة دعوة صاحبه وهو لا يستجيب، وفي النهاية نسي أنه عبد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليس له أن يحاسب العباد، وإنما هو يدعو إلى الله عز وجل، فإذا به يقسم على الله سبحانه، ومعنى كلامه: والله ما أنت بداخل الجنة، وكأنه يقرر عن الله سبحانه وتعالى أن فلاناً لن يدخل الجنة! فإذا بالله يقول: (من هذا الذي يتألى علي ألا أدخله الجنة؟ فقد غفرت له وأحبطت عملك) يعني: ما الذي يجعلك تحلف على الله تبارك وتعالى ألا يغفر لعبد من عباده؟! فالإنسان حين يكثر من الشيء فإنه في النهاية قد يمل هو مما يقوله للناس، فيدفعه ذلك لأن يتطاول على أمر الله تبارك وتعالى؛ لذلك الإنسان يتخول الناس بالموعظة، وخاصة في أمر الترغيب والترهيب، ولا يكون الكلام كلاماً مكرراً فيمل الناس من سماعه.(60/4)
شرح حديث: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)
من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنَّة من فقهه) فالصلاة تكون طويلة، وهذا مقيد بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (أفتان أنت يا معاذ؟ من صلى بالناس فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والمريض وذا الحاجة)، فهنا يشرع له أن يخفف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، فيقرأ بما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ما كان يقرأ، فكان مثلاً يقرأ في فجر الجمعة بسورة السجدة وسورة الإنسان، فهذا من تخفيفه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقرأ بهم بالبقرة، ومع ذلك يقول الفقهاء: على الإمام أن يراعي حال من وراءه، فإذا كان فيهم الضعفاء ومن لا يطيقون ذلك لم ينفرهم.
إذاً: يقرأ الإنسان بما لا يشق على الناس، ولكن يتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فيقرأ في صلاة الظهر بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وهذا من التخفيف، لكن لا يأتي في كل صلاة ويقرأ بالفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ويقول: أنا أخفف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتخفيف، فهذا -وإن صحت الصلاة- ليس من فعله صلى الله عليه وسلم، فلم يثبت عنه أنه كان يقرأ باستمرار الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، أو الفاتحة و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، فالذي قال للأئمة: (من أم بالناس فليخفف) فعله يبين ذلك.
فالإنسان عندما يصلي بالناس عليه أن يخفف عليهم، ويراعي أحوالهم فيقرأ بنحو ما قرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في صلواته، وذكر الفقهاء في هذا الباب أحاديث فيها بيان ما كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم فلتراجع في مظانها.
والمقصود هنا أنه قال: (فأطيلوا الصلاة، وأقصروا الخطبة)، فإطالة الصلاة هنا إطالة في تخفيف، فلا يقرأ بسورة البقرة بحيث يشق على الناس، ولا يقرأ قراءة خفيفة ويسيرة كصلاة سنة الفجر مثلاً، ولكن يتوسط ويفعل نحو ما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه في الصلاة.
قال: (واقصروا الخطبة) يأمر الخطباء هنا ألا يطيلوا الخطبة، فلا تقعد تخطب ساعتين وثلاث ساعات متعللاً بأن الناس لا يفهمون إلا بذلك، وهذا فيه تحقير لعقول الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت خطبه قصيرة صلى الله عليه وسلم، ويفهم بها الناس.
إذاً: على الخطيب أن يراعي في خطبته عدم الإطالة التي تشق على الناس وتملهم.
وأيضاً لا يتعمد أن تكون الخطبة كلها موزونة ومسجوعة ومليئة بشواهد الشعر؛ لأن الناس سيملون، إذ ليس كل الناس يفهمون ذلك، وليس كل الناس يريدون ذلك، ولكن لا مانع أن يكون في الخطبة من المحسنات البديعية الشيء الذي لا يدخله التكلف، بحيث لا يكون تحضير الخطبة كلها على نسق من السجع والشعر وينسى المضمون نفسه للخطبة.
إذاً: الخطبة هي تذكير وموعظة، وكل يوم جمعة يجتمع الناس ليسمعوا الخطبة، فلابد أن يكون فيها من القرآن ومن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تذكرة الناس بأخطاء قد يقعون فيها، ويراعي في هذا كله ألا يشق عليهم بالإطالة، فإطالة الخطبة ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس علامة على فقه الخطيب، فالفقيه يعرف ما الذي يقال، ومتى يقال، ويتخول الناس بالمواعظ، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، والأصل في الخطبة تذكير الناس وموعظة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: (وأطيلوا الصلاة) كان يوم الجمعة يقرأ في الركعة الاولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وفي الركعة الثانية كان يقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]، وقد يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بسورة المنافقون، وهذا ضابط الإطالة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ليس معنى قوله: (أطيلوا الصلاة) أن يقرأ الإمام بسورة من طوال القرآن، ولكن بالقدر الذي كان يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال هنا: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه)، (مئنة من فقهه) بمعنى: علامة على فقه هذا الخطيب، فمن فقه الخطيب ألا يطيل في الخطبة إطالة تمل الناس، وكذلك من فقهه أن يطيل في الصلاة شيئاً بحيث يستمع الناس للتذكرة في صلاة الجمعة وفي غيرها.(60/5)
شرح حديث معاوية بن الحكم: (بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم)
ومن الأحاديث الواردة في الباب حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم)، وكأن معاوية كان جديداً في إسلامه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأثناء ما كان يصلي عطس رجل فشمته معاوية، قال: (فقلت: يرحمك الله)، وهذا غير جائز، ولكن الرجل إسلامه جديد، وما كان يعرف الحكم الشرعي في ذلك وعذره النبي صلى الله عليه وسلم لجهله في ذلك، قال: (فرماني القوم بأبصارهم) يعني: أصبح الناس ينظرون إلي ويشيرون لي أن أسكت، قال: (فقلت: واثكل أمياه، واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي) الثكل: الفاجعة، والمرأة الثكلى التي فقدت ابنها، فهذه الكلمة تقال عند التوجع للنفس، فهو هنا تكلم بكلام لا ينبغي في الصلاة قال: (واثكل أمياه، ما شأنكم تنظرون إلي فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم)، فلاحظ أنه ما أحد منهم رد عليه بالكلام، فهم أولاً نظروا إليه من أجل أن يسكت فلم يسكت، فضربوا على أفخاذهم حتى يسكت، قال: (فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت) يعني: كأنه يقول: فلما رأيتهم يصمتونني، كنت سأرد عليهم، لكنني سكت، قال: (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني عليه الصلاة والسلام)، فهو كان ينتظر من النبي صلى الله عليه وسلم أن يضربه أو يشتمه، قال: (ما كهرني) يعني: لم ينهرني ولم يكلمني كلاماً غليظاً، (ولا ضربني، ولا شتمني)، وكأنه يرى في نفسه أنه يستحق ذلك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)، هذه حكمة النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة الحسنة التي أمر بها، (قال: إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن).
إذاً: لا ينبغي للإنسان أن يكلم من بجواره بأي كلام في الصلاة، ولا حتى بأن يقول له: يرحمك الله، فإذا خاطب أحداً بطلت صلاته بذلك، لكن معاوية هنا لم تبطل صلاته لكونه جاهلاً بالحكم، والنبي صلى الله عليه وسلم علم جهله، فعذره ولم يأمره بإعادة الصلاة، ولو أمره بذلك لذكره الراوي، يقول: (قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية)، يعني: إسلامي لا يزال جديداً، فهو هنا بعد الذي فعله في صلاته، وبعد موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه وكونه لم ينهره ولم يشتمه، جعله ذلك يتشجع ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، فقدم عذره أولاً وهو أنه قريب عهد بجاهلية، ثم قال: (وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكهان)، فهو قريب عهد بجاهلية، ومن قومه من لا يزال كافراً ويأتي الكهان ويسألهم قال: (فلا تأتهم) أي: أنت رجل مسلم فلا يجوز لك ذلك، قال: (قلت: ومنا رجال يتطيرون)، يعني: من قومه، سواء من المسلمين أو من غيرهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فالإنسان حين يكون قريب عهد بجاهلية فإن نزغات الشيطان لا تزال تراوده، فيتطير ويتشاءم بسبب جهله بدين رب العالمين، وكثير من الناس يقعون في التشاؤم من باب التقليد، فبعضهم يسمع أن الغرب يتشاءمون عند رؤية قطة سوداء تمشي من أمامهم، فيتشاءم هو منها كنوع من التقليد، فصار التقليد حتى في الكفر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومنهم من يرى البعض يتخذون التمائم فيقلدهم في ذلك، مع أن هذا الفعل حرام وهو من الشرك بالله سبحانه وتعالى، وبعض الناس يضعون في أيديهم حظاظة -وهي ما يلبس في اليد لجلب الحظ- وهذا من الشرك بالله سبحانه وتعالى، فمن اعتقد أن شيئاً ينفعه أو يضره مع الله فقد وقع في الشرك بالله سبحانه وتعالى، وفي الحديث قال: (ومنا رجالاً يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم) يعني: لقرب عهدهم بجاهلية، (فلا يصدنهم).
إذاً: الإنسان الذي اعتاد على هذا الشيء في جاهليته فإنه يكون من الصعوبة أن يتغير عنه بعدما يعرف الإسلام الصحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيء يجدونه في صدورهم)، فإذا حصل هذا قال: (فلا يصدنهم).
وأهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا أراد أن يسافر ذهب ينظر إلى الطير، فإذا طار الطير يميناً تيامن بذلك وتبرك بذلك، وقال: اليوم بركة سنسافر فيه، وإذا طار الطير شمالاً تشاءم من ذلك، فلما دخل الناس في الإسلام بقي أثر هذا الشيء في الصدور.
ومثل ذلك الحلف بغير الله سبحانه، فقد كانوا يحلفون باللات والعزى، فلما دخلوا في الإسلام كان فيهم بقية من ذلك، فلما يأتي الواحد منهم يتكلم يقول: واللات والعزى، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم من وقع منه مثل هذا أن يقول: لا إله إلا الله، فيتذكر أنه وقع في الشرك بهذا الشيء وإن كان هذا سهواً فيقول: لا إله إلا الله كلما صدر منه ذلك حتى يبطل عنده الحلف باللات والعزى والحلف بغير الله سبحانه.
وكذلك الذي اعتاد على أن يحلف بقوله: وحياة أبي أو وحياة أمي أو والنعمة، فهذا هنا حلف بغير الله وهذا من الشرك، فإذا وقع في ذلك فليقل وراءها: لا إله إلا الله، فإذا قال ذلك فإنه سيعتاد على أن يوحد ربه سبحانه وسيخرج من رأسه الحلف بغير الله.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فلا يصدنهم) يعني: لا يصدنك رؤية الطير عن أن تذهب إلى المكان الذي كنت تريد أن تذهب إليه.(60/6)
شرح حديث العرباض: (وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون)
من أحاديث الباب حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون)، وذكر الحديث، وهو حديث طويل وتقدم قبل ذلك، لكن الغرض من هذا الحديث أن موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة عظيمة، رقت لها قلوب أصحابه رضوان الله تعالى عليهم فبكوا من ذلك.
قال: (وجلت منها القلوب) أي: خشعت واقشعرت قلوب الناس وجلودهم.
(وذرفت منها العيون) يعني: بكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فقلنا كأنها موعظة مودع فأوصنا يا رسول الله! قال: أوصيكم بتقوى الله)، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله تبارك وتعالى، قال: (والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم حبشي كأن رأسه زبيبة، فإنكم سترون بعدي خلافاً كثيراً فعليكم بسنتي)، فأمرهم بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، ووعظهم صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالمحافظة على أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه.
والغرض: أن هذه الموعظة وصفها هذا الصحابي الجليل بأنها موعظة بليغة، فعلى هذا فينبغي للإنسان حين يعظ الناس أن تكون موعظته بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها أعظم المواعظ بعد كتاب الله عز وجل.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(60/7)
شرح رياض الصالحين - الوقار والسكينة والندب إلى إتيان الصلاة والعلم بهما
التواضع والسكينة والهدوء من الخصال التي ينبغي أن يتصف بها المؤمن، وخاصة في أماكن الصلوات وعند المشي إليها، وفي حلقات العلم، وغيرها من الأماكن التي تعظم فيها شعائر الله.(61/1)
من صفات عباد الرحمن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الوقار والسكينة.
قال الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى ترى منه لهواته، إنما كان يتبسم) متفق عليه.
باب الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا) متفق عليه].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين باب الوقار والسكينة، ضمن الآداب والأخلاق التي ينبغي على المسلم أن يتخلق بها.
والوقار أصلها من القر، ويقر الشيء بمعنى: يثبت مكانه، وكأن المقصد أن المؤمن يكون حاله فيه الوقار والسكينة وعدم الرعونة والتهور والاندفاع، فيكون وقوراً في جلوسه وقيامه ومشيه، من غير تكلف أو تصنع أو رياء.
قال الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
فذكر الله عز وجل من صفات عباد الرحمن صفات جميلة وجليلة بدأها بأنهم: {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] أي: بوقار وسكينة، فهم هينون في مشيهم، يتصفون بالوقار والتؤدة والطمأنينة، فليسوا مندفعين، والمقصد أن التواضع من صفاتهم سواء مشوا على الأرض وهم مبطئون، أو مشوا مسرعين، فالإنسان لا يستطيع أن يمشي دائماً بطيئاً في مشيته أو سريعاً، ولكن بحسب حاجته وحاله، فقد يحتاج إلى الشيء فيسرع، وقد يجري من أجله وقد يمشي، ولكن في كل الأحوال لا يوجد فيه أي نوع من الكبر، فعباد الرحمن هينون لينون متواضعون لا يستكبرون على الخلق، ولا يتعالون عليهم، ولا يظهرون قوتهم على الغير، إذا مشى أحدهم في الشارع يمشي بتواضع، فلا يظهر للناس أنه قوي، وأنه ليس أحد مثله.
وأيضاً: ليس المعنى أنه يستذل نفسه حين يمشي فالذي ينظر إليه يقول: إنه مريض لا يستطيع أن يمشي، أو ضعيف في مشيه، فلم يقصد ذلك ربنا سبحانه، إنما يمشي هوناً على الأرض بمعنى: متواضعاً، حتى ولو كان يسرع في مشيته، ولذلك جاء: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي مع أصحابه صلوات الله وسلامه عليه لا يحب أن يكون أحد منهم وراءه عليه الصلاة والسلام ويقول: دعوا ظهري للملائكة)، لا يمشي أحد وراءه صلى الله عليه وسلم، ولكن يمشون بين يديه أو بجواره عليه الصلاة والسلام، وكان إذا مشى يسرع في مشيه، والناظر إليه لا يرى هيئة الإسراع عليه صلى الله عليه وسلم.
الإنسان إذا أسرع يبدو من حركة يديه وأكتافه أنه مسرع، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس كذلك، وإنما يمشي هوناً عليه الصلاة والسلام، وعليه الوقار والسكينة حتى ولو كان مسرعاً، ولعل البعض من أصحابه يجري ويسرع بجواره وهيأته صلوات الله وسلامه عليه لم تتغير في مشيه.
إذاً: المقصد: أنهم في مشيتهم يمشون بالتؤدة والطمأنينة، وليس فيها ما يدل على غرور أو تكبر، أو رفع الجناح على الخلق.
قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان:63]، فلو أن إنسان جاهلاً أحمق فيه تهور اندفع عليهم فوبخهم بشيء ليسوا أهلاً له، ولم يجيبوه إلا بما هم أهل له.
فردهم عليه: (سلاماً) أي: قولاً سليماً خالياً من العيوب، ليس فيه اندفاع وطيش وتهور، خال من المعاملة بالمثل، وإنما يقولون قولاً يسلمون فيه من هذا الإنسان، أو فيه تسليم منهم عليه، يعني: قول فيه متاركة، فكأنهم يقولون: نحن لسنا سفهاء مثلكم، فيقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].(61/2)
شرح حديث: (ما رأيت رسول الله مستجمعاً قط ضاحكاً)
روى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط ضاحكاً حتى ترى منه لهواته إنما كان يتبسم).
اللهوات: جمع لهاة، وهي اللحمة الواقعة آخر سقف الحنك، والنازلة من آخر الحلق المدلاة على القصبة الهوائية.
فهناك أناس طبيعتهم الضحك بصوت عال وقهقهة، يفتح أحدهم فمه إلى آخره! وهذا لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وغاية ما كان أنه لو ضحك قد يبدو نابه صلى الله عليه وسلم، فلم تكن عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يقهقه، (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً قط)، وكلمة مستجمعاً معناه: المبالغة، وكأن الإنسان عندما يقهقهه يجمع نفسه فيضحك ضحكة يزلزل بها الدنيا أمامه! فالقهقهة لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم، إنما كان يتبسم عليه الصلاة والسلام، وكان لا يرى عبوساً أمام الناس عليه الصلاة والسلام، وإنما كان يتبسم لأصحابه وهم يضحكون، فكانوا يجلسون إلى شروق الشمس يذكرون الله عز وجل فيما بين طلوعها وبين أن يصلوا الضحى، ولعل بعضهم يتكلم مع الآخر، ويتحدثون عن الجاهلية وما كانوا يفعلونه، فيحكون أنهم كانوا يصنعون التماثيل من العجوة ويعبدونها، فإذا جاع أحدهم أكلها، فيحكون أمثال ذلك ويضحكون على أنفسهم، أما هو صلى الله عليه وسلم فكان يتبسم ولم يكن يضحك ويقهقه.
فمن الأدب أن المؤمن يتبسم عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، ولا يكثر من العبوس، وأيضاً: لا يكثر من الضحك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإياك وكثرة الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)، فكثرة الضحك تبعد خشية الله عز وجل من قلب الإنسان، فيموت قلبه من كثرة الضحك.
فيجب على المؤمن ألا يُفْرط ولا يُفَرِّط، والإفراط أن يمسك الإنسان نفسه عن الابتسامة، فيكون ثقيل الظل عند الناس، فالناس يحبون من يتبسم ويضحك لهم، فعلى الإنسان أن يكون قريباً من الناس، والمؤمن كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
ولو كان الإنسان عبوساً أمام جميع الناس لنفروا منه ولن يبقى له أصدقاء ولا أصحاب بين الناس، وأما لو كان الإنسان ضحاكاً ثرثاراً فيمكن للناس أن يحبوه من أجل أنه يضحكهم فقط، فعندما يريدون أن يضحكوا قالوا: ادعوا لنا فلاناً، فهو يذكرهم بالدنيا لا بالآخرة، فقد يحبه الناس ولكنه بغيض إلى الله عز وجل، فالمؤمن إذا سمع ما يضحك تبسم، وقد يضحك ولكن لا تكون له عادة فيتكلف الضحك ويقهقه حتى ولو سمع شيئاً لا يضحك، فيضحك مجاملة بدون وجود ما يضحك! والمجاملة لا تكون على حساب دين الله سبحانه وتعالى، ولا على حساب قسوة القلب، فالمطلوب من المسلم أن يضحك إذا رأى ما يضحك، أما من غير شيء فلا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تكثر الضحك)، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: لا تضحك؛ لأن هذا شيء عسير على الإنسان الالتزام به، فالدين عظيم وجميل وفيه ما يطيقه الإنسان ويتحمله، والإكثار من التبسم لا مانع منه لكن لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الضحك.
فالإنسان حتى يقبل على الله عز وجل يحتاج إلى أن يتذكر ويتفكر، والضاحك لا يتفكر في شيء إلا في النكت التي يسمعها، أما أن يتفكر في خلق السماوات وخلق الأرض، وفي خلق الإنسان، ويتفكر في نعم الله عليه فلا؛ لأن هذه الأشياء التي يتفكر فيها تمنعه أن يضحك، ولو أن الإنسان يتفكر في نعم الله في مطعمه ومشربه وملبسه، وأعظم من ذلك كله أن يتفكر في نعمة الهداية، فكثير من الناس حرموا هذه النعمة، فلو تفكر في ذلك لما وجد مكاناً ولا وقتاً يضحك ويقهقه فيه، إن ضحك الإنسان يبعده عن أن يتفكر في آلاء الله وفي نعم الله وفي خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكثر الضحك)، لأن كثرة الضحك تميت القلب.(61/3)
الأمر بالسكينة والوقار في الذهاب إلى الصلاة
يقول الإمام النووي رحمه الله: باب: الندب إلى إتيان الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار.
فالكلام هنا عن صفة تكون فيمن يأتي الصلاة، وفيمن يذهب لطلب العلم، وإلا فالصلاة فريضة لابد وأن يصليها المسلم، لكن المندوب أن يأتيها وعليه السكينة والوقار؛ لأنه مقبل على الله سبحانه، فقد أخرجه الله من بيته وأنعم عليه بأن هداه إلى أداء الصلاة دون باقي الناس الذين يجلسون في الطرقات، فليتفكر في هذه النعمة التي أنعم الله بها عليه دون غيره، وكيف أن الله كتب له وهو ذاهب إلى المسجد بكل خطوة حسنة والأخرى تكفر سيئة، وهذه نعمة من نعم الله عز وجل.
أيضاً: إذا دخل في الصلاة تتساقط بعض الذنوب، فإذا ركع تساقطت بعض الذنوب، فإذا سجد تساقطت بعض الذنوب كذلك حتى يخرج من الصلاة ولا ذنب عليه.
أما إذا خرج من بيته ضاحكاً لاهياً فلن يتفكر في هذه النعم، وإذا دخل في الصلاة فمشغول في الدنيا وهكذا دخل في الصلاة وخرج منها من غير ما تفكر.
وفرق بين من يدخل في الصلاة وهو يخاف من الله سبحانه وتعالى، وهو يؤمل أن يخرج منها نظيفاً من الذنوب طاهراً من العيوب ليس عليه دنس من بقايا الذنوب، فهذا إنسان له فضل عند الله سبحانه، فالله يتفضل عليه ويعطيه، وبين إنسان آخر يأتي وعقله مشغول فإذا دخل في الصلاة سرح عنها.
فعلى المسلم أن يستعد للصلاة من البيت فيتوضأ فيحسن الوضوء؛ لأنه إذا أسبغ الوضوء تمحى عنه الذنوب، فإذا غسل وجهه ويديه ورجليه تساقطت الذنوب مع الماء الذي ينزل من أعضائه.
وفي الحديث: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر)، فإذا دخل الإنسان في هذه الصلاة بهذه الصورة ثم خرج منها فلينو ألا يعود إلى الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
فهذه الصلاة بهذه الكيفية تنهاه عن التفكير في الذنوب والمعاصي، وتدفعه إلى طاعة الله، وإلى أن يحب بيت الله، فيكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
فإذا أتى الإنسان إلى الصلاة أو ذهب ليطلب العلم في المسجد فليمش وعليه السكينة والوقار، حياء من الملائكة التي تحفه بأجنحتها وتتواضع وتستغفر له، وسوف تحفه إذا جلس في حلقة العلم، قال تعالى عن الملائكة: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الشورى:5]، قائلين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7]، يا ربنا هؤلاء جاءوا إلى بيتك فاغفر لهم.
فالذي يخرج لطلب العلم الشرعي ينبغي عليه أن يكون متواضعاً مقبلاً على الله سبحانه وتعالى، وليتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فلعله في هذا الطريق يجد فيها من يزاحمه ويتعرض له، لكنه لا يأبه لذلك؛ لأن الله سيسهل له به طريقاً إلى الجنة.
فطريق الدنيا ممتلئ بالصعوبات والعقبات، والذي يطلب العلم لا بد أن يصبر ويستسهل طريقه فيه؛ لأنه دين رب العالمين، وإذا لم يتعلمه فمن سيتعلمه؟ لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر وسوف يكون الجزاء من جنس العمل، فالله سيقبل عليه ويذلل له العقبات التي في طريق الجنة، ففي يوم القيامة سيسهل له المرور على الصراط فيمر إلى الجنة، وكما أنه سهل له في الدنيا طريق العلم فسوف يسهل له في الآخرة طريق الجنة، والمحروم من حرمه الله سبحانه تبارك وتعالى.
فعلى من يخرج إلى المسجد للصلاة أو طلب العلم أن يتفكر في هذه الأمور كلها، حتى يمشي بسكينة ووقار، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، والشعائر جمع شعيرة، وشعائر الله: دين الله سبحانه، والمعنى: يعظم الشريعة ويعظم الكتاب والسنة، ويعظم العلم الشرعي الذي به يعرف كيف يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا عظم هذه الشعائر كان ذلك دليلاً على تقوى قلبه، ((فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ)).
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، فهذا الحديث يعلمنا كيف نصلي، وكيف نأتي إلى بيت الله سبحانه، فلا تنشغل حتى تفوتك الصلاة ثم تذهب وتجري إلى المسجد، وإنما استعد قبل ذلك، ولا تأت الصلاة جرياً.
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون)، عندما تخرج من بيتك إلى الصلاة فلتكن هيئتك هيئة الإنسان المصلي عليك الوقار والسكينة.
ولا تجري إلى الصلاة إذا سمعت الإقامة، سواء كنت في الطريق أو في المسجد، ولكن امش إليها؛ لأنك في صلاة، والصلاة ينافيها الجري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم بالسكينة) أي: الوقار والهدوء، والطمأنينة.
وقوله: (فما أدركتم من الصلاة مع الإمام فصلوا) أي: ما تدركونه مع الإمام صلوه، وقوله: (وما فاتكم فأتموا) أي: وما فاتكم من الصلاة فافعلوها ولكم أجر نيتكم في المجيء إلى بيت الله سبحانه.
وزاد مسلم في رواية: (فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة)، وهذا فضل عظيم من الله علينا، فمن حين يخرج الإنسان من البيت فهو في صلاة، هذا إذا اجتنب الحدث وكان على وضوء.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة) فيوم عرفة خرج النبي صلى الله عليه وسلم عند غروب الشمس من عرفة متوجهاً إلى المزدلفة، وهذا هو الدفع، قال: (فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجراً شديداً وضرباً للإبل) أي: رأى الناس يضربون ويشدون ويحثون الإبل على الجري؛ من أجل أن يذهبوا إلى المزدلفة، (فأشار إليهم بسوطه -وهي عصاه التي يوجه بها الناقة- وقال: أيها الناس! عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع) يعني: اسكنوا واهدءوا؛ لأنه كانت عادت الأعراب في الجاهلية عندما يمشون يضجون ضجة كبيرة لكي تجري الإبل، فيعلق فيها أجراس، أو شيئاً له صوت عال، فالنبي صلى الله عليه وسلم منعهم من ذلك وقال: (أيها الناس عليكم بالسكينة) يعني: الزموا السكينة، (فإن البر ليس بالإيضاع)، والبر أن تبر في عملك، والحج المبرور ليس بالإيضاع، أي: الجري فالبر ليس بالجري، كأن تجري للصلاة أو تجري متوجهاً من عرفة إلى مزدلفة، إنما البر أن تتق الله سبحانه وتعالى، ولا تزاحم الناس.
وعن أسامة رضي الله عنه حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم وغيره قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى، فسألوه كيف كان يسير؟ قال: كان يسير العنق) أي: معنقاً، يعني: على مهله صلى الله عليه وسلم، (فإذا وجد فجوة نص) أي: فإذا لقي مكاناً خالياً نص أي أسرع صلوات الله وسلامه عليه فيه، فكان يسير العنق مع الزحمة، وإذا لم تكن هناك زحمة أسرع صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض أن الإنسان إذا مشى في طريقه متوجهاً إلى بيت الله، أو متوجهاً إلى طلب العلم، أو متوجهاً إلى حاجة من حوائجه يسير كما يسير عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، حتى لو أسرعوا في مشيهم بسبب حاجة من حوائجهم فإسراعهم فيه الهدوء والسكينة، إلا أن يكون الإسراع إلى الصلاة فلا يجوز لا خارج المسجد ولا داخله، فيكره ذلك ويمنع منه، وليلزم الهدوء والسكينة، ويتفكر في نعم الله سبحانه وتعالى عليه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(61/4)
شرح رياض الصالحين - إكرام الضيف واستحباب التبشير والتهنئة بالخير
إن الإنسان بطبعه ميال إلى من يدخل الأنس والسرور إلى قلبه، ويتجه بالمحبة إلى من يصنع معه ذلك، ولذا راعى الإسلام في تشريعه هذا الجانب النفسي في الآدميين فشرع لأتباعه فعل ما يحببهم إلى الآخرين وما يدخلون به البهجة والسرور إلى قلوب الناس، ومن ذلك تشريعه إكرام الضيف عند نزوله على إخوانه، واستحبابه البشارة بالخير في أمور الدنيا والآخرة.(62/1)
إكرام الضيف(62/2)
إكرام إبراهيم عليه السلام للضيوف
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: باب: إكرام الضيف.
قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:24 - 27].
وقال تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه.
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله إكرام الضيف.
يقول: باب: إكرام الضيف.
وقد علمنا الله سبحانه وتعالى كيف يكون إكرام الضيف بما ذكر من آيات، وما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث ومن أفعال.
فمن الآيات قول الله عز وجل: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24].
و (ضيف): اسم جنس، ولذلك يطلق على المفرد وعلى الجمع، ويجوز أن تقول: ضيوف، ويجوز أن تقول: أضياف.
فإذا أردت الجنس قلت: (ضيف) كما قال الله سبحانه وتعالى هنا.
وهنا المراد الجمع؛ لأنه وصفهم بأنهم مكرمون، حيث قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:-24 - 25]، فهم ضيوف كرام كرمهم الله عز وجل، وهم من الملائكة على الحقيقة.
دخلوا على إبراهيم عليه السلام: {فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فسلموا عليه عليه الصلاة والسلام، فرد السلام وقال: (قَوْمٌ مُنكَرُونَ) يعني: أنتم قوم غرباء، منكرون لا نعرفكم، وإذا كنتم غرباء فإنكم تستحقون علينا أن نضيفكم.
قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] أي: فأسرع إلى أهله عليه الصلاة والسلام، {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]، وفي الآية الأخرى قال: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69].
وهنا قال تعالى: (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) أي: كبير وسمين، ليس هزيلاً صغيراً ضعيفاً، والعجل: ولد البقرة، يعني: لم يحضر بقرة كبيرة لحمها يتقطع ولا يؤكل، بل جاء بعجل، والعجل: الصغير في السن، وهو كبير في الحجم، ولذلك وصفه بأنه سمين، فانتقى للضيوف أطيب ما عنده عليه الصلاة والسلام.
وفي الآية الأخرى: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] أي: ذبح العجل وشواه على النار، وجاء به لهؤلاء الأضياف، وقد كانوا ثلاثة.
لقد ذبح عجلاً سميناً لثلاثة من الضيوف، وشوى لهم العجل وقربه إليهم، ولما قربه إليهم إذا بهم لا يأكلون، أي: كانوا جالسين معه، لكن لا يمدون أيديهم، {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] أي: خاف منهم، قال لهم: {أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] وعندما يأتي إنسان غريب ويدخل بيتك فتقدم له طعامه ويرفض أن يأكل فإنك تتوجس منه الشر، فما دام أنه لا يريد أن يأكل الطعام فهذا معناه أنه ينوي الشر.
قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:28] فطمأنوه فقالوا: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود:70] وبذلك عرف إبراهيم عليه السلام أن هؤلاء ملائكة من عند الله سبحانه، ولكن قام بما وجب عليه عليه الصلاة والسلام، ولذلك فإن كرمه العظيم في الضيافة أضفى عليه لقب أبي الضيفان، أو أبي الضيوف؛ لأنه لا ينزل عليه ضيف إلا ويذبح له ويكرمه أعظم الكرم صلوات الله وسلامه عليه.(62/3)
خبر لوط عليه السلام مع ضيوفه
ثم إن هؤلاء الضيفان بأعينهم خرجوا من عند إبراهيم وتوجهوا إلى قرى قوم لوط، ولما أخبر بنات لوط أباهن أنهن رأين رجالاً غاية في الجمال، ويُخشى عليهم من قومه، خرج إليهم وأخذهم وخبأهم في بيته، لأنه يخاف عليهم من قومه أهل النجاسة، وأهل الوقوع فيما حرم الله سبحانه.
فلما عرف قومه من امرأته أن عنده ضيوفاً أتوا إليه وقالوا: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر:70 - 71] يعني: عندكم البنات، والنبي أب لبنات قومه وأب لرجالهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم)، فكل نبي أب لقومه ووالد لهم، فقوله: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي) يعني أن بنات قومه نساء كثيرات، فتزوجوا، وما الذي يجعلكم تفعلون هذه الفاحشة وهذه المصيبة العظيمة؟! قال الله عز وجل: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود:78].
فالمقصود هنا من إكرام الضيف الدفاع عنه، لأن المضيف لا يسلم الضيف، ولا يؤذي الضيف، ويمنع عنه من يؤذيه، فهؤلاء لم يكونوا قادمين نازلين عليه، وما قالوا له: نحن ضيوف عندك، بل خاف عليهم لكونهم مروا بالقرية؛ لئلا يؤذيهم أهل هذه القرية، لذلك أخذهم واستضافهم في بيته، مع أنه يرى نفسه وحيداً، ويرى نفسه لا جيش معه يحميه، وسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يقدر على أن يجمع من يقوم معه ويدافع، وأما لوط عليه الصلاة والسلام فإنه استشعر أنه ضعيف وأنه في بلده وحيد، ولم يكن له أولاد ذكور، بل كان أولاده بناتاً، فلذلك قال الكلمة التي تعجب لها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى عنه: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] كل هذا من أجل حماية الضيوف، حتى لا يتمكن منهم هؤلاء المجرمون.
فالغرض هنا بيان ذكر الله عز وجل إكرام الضيف من فعل إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ومن فعل لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.(62/4)
شرح حديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)
عن أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) فعلامة الإيمان أن المؤمن يكرم الضيف، والإيمان يزيد وينقص، يزيد بطاعة الله عز وجل، وينقص بمعصية الله سبحانه.
فمن خصال الإيمان التي يقوى بها إيمان الإنسان: إكرام الضيف، فعندما ينزل عليه ضيوف لا يتأذى بضيوفه، ولكن يفرح بمجيء الضيوف، ويكرم الضيوف بحسب ما يسر الله عز وجل لهذا الإنسان.
والإنسان الكريم لا يتركه الله عز وجل أبداً، وكلما كان كريماً مع الخلق فإن الله تعالى يكرمه ويعطيه، والبيت الذي يأكل فيه الضيوف ويكثر أصحابه من الصدقة إذا كان أصحابه فقراء يكرمهم الله تعالى ويشعرهم بالغنى، وإنك قد تجد الإنسان فقيراً ينزل عليه الضيف فيفرح بذلك الضيف الذي عنده، ويتكلف للضيف ويطعمه ويسقيه ويكرمه حتى يخرج من عنده، فهذا الإنسان الكريم إيمانه قوي، وهذا الإكرام للضيف دليل على قوة الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) وصلة الرحم هي أن يزور الإنسان أرحامه ولا يقطعهم، فيزور أباه، ويزور أمه، ويزور أخاه، ويزور أخته، وعمه، وخالته، وأبناء أعمامه، وأبناء أخواله وهكذا.
وقد جعل الله عز وجل عباده شعوباً وقبائل للتعارف، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فالإنسان المؤمن يحب أن يعرف المؤمنين، وأن يصاحبهم، فيرى الخير في ذلك، فإنهم ينفعونه في دينه، وينفعونه في دنياه، وينفعونه في أخراه.
ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)، فيمشي الإنسان المؤمن مصاحباً إنساناً مؤمناً آخر, فينتفع به في الدين والدنيا.
وقال: (لا يأكل طعامك إلا تقي)، فالضيف الذي أنزله في بيتي لا بد أن يكون إنساناً تقياً، لا إنساناً شرساً غبياً، ولا إنساناً فاجراً شقياً، فالمؤمن يصاحب التقي الذي ينتفع به.
فالتقي إذا نزل عندك في بيتك فقدمت له ما وجدت، فأكل وحمد الله سبحانه وتعالى، ولم يستقل ما قدمته، بل يستكثره، ويخرج من عندك وهو يمدحك ويشكرك، ويكن لك الجميل، ويقول لك: أكلنا مع بعضنا العيش والملح، ولا يقول: أكلنا كذا وكذا، وأقل شيء تقدمه له يرتاح له، ويشكرك على ذلك.
وأما الإنسان السيئ الشرير الشرس في أخلاقه الفاجر فإنه يدخل بيت الإنسان فيطلع على عوراته، ويأكل فلا يعجبه طعامه، فإذا خرج من عنده ذمه وقدح فيه، ويقول: رأيت كذا ورأيت كذا، وبيته فيه كذا، وبيته ينقصه كذا.
فمثل هذا لا تصحبه، ولا تدعه إلى بيتك.
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن كان يؤمن بالله واليوم فليقل خيراً أو ليصمت)، قوله: (أو ليصمت) معناه: يسكت، فإما أن تتكلم بخير، وإما أن تسكت، فراقب كلامك دائماً، فإن كان في خير فقل الخير ولا تمل الناس، وإذا كان الكلام في شر فكف لسانك وروض نفسك على ألا تتكلم في كل ما تشتهي، واللحظات تمضي والعمر يمضي ويفوت، فمن قال: أنا لا أستطيع أن أمسك لساني، نقول له: جرب ذلك، فأمسك لسانك عندما تجد أنك تتكلم وأنك تذم وتشتم وتغتاب، وقل للسانك: اسكت قليلاً.
ولتمض هذه الساعة، وبعد ذلك فكر، فإذا مرت ساعة وراء ساعة فإنك في الأخير سوف تنسى؛ لأن الزمن يمضي والإنسان نسّاء، فإذا اعتدت على ذلك تعود لسانك على أن لا يتكلم كل وقت في كل شيء، فما كان من خير فقله، وما كان من شر فاسكت عنه، واعلم أن الشر يؤذيك في الدنيا وفي الدين، ويوم القيامة ينطق عليك لسانك شاهداً عليك بما قلته وبما آذيت به غيرك، ولذلك فإن المؤمن يخطم نفسه ويكتم لسانه، ويسكت إلا في الخير، فينطق بغير أن يمل من الخير.(62/5)
بيان جائزة الضيف ومدة إكرامه
من الأحاديث حديث لـ خويلد بن عمرو الخزاعي وكنيته أبو شريح رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) وكأن كلمة: (فليكرم) هنا ضمنت معنى: (يعطي) ولذلك نصبت مفعولين، فكأن الأصل: فليعط ضيفه جائزته، والأصل أن (يكرم) تنصب مفعولاً، فلما ضمنها هذا المعنى نصبت مفعولاً آخر، كأنه يقول لك: أعط الضيف على وجه الإكرام جائزته، وكأن كلمة (الجائزة) معناها ما يجازى به الإنسان.
قال: (قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام)، فكأن الجائزة للضيف أن تتكلف له يوماً واحداً وليلة، خاصة إذا كان غريباً آتياً من مكان بعيد ونزل عندك ضيفاً، وإذا كان في مكان ليس فيه فنادق، وليس فيه محلات للأطعمة، فإما أن تطعمه وإما أن يبيت في الشارع، فدليل إيمانك بالله واليوم الآخر أن تكرم هذا الضيف الذي نزل بك.
والواجب الذي عليك في هذه الحالة هو إكرامه يوماً وليلة، والمستحب ثلاثة أيام ولياليهن، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، وكأن ذلك إشارة للضيف ألا تثقل، فهل تريد أن تكون مثل السائل الذي يسأل فيُتصدق عليك في هذه الأيام؟ فإذا نزلت على إنسان فإنه يكفيك يوم وليلة، وإذا زاد ذلك فثلاثة أيام ولياليهن، وما زاد على ذلك فمعناه أنك تستجدي منه، فتطلب منه أن يعطيك صدقة فوق الثلاثة الأيام، فلا تحرج الذي نزلت عنده.
وجاء في رواية في صحيح مسلم: (لا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه)، فهذا مسلم أتى إليه ضيف، فأطعمه وسقاه، وأحضر له الأشياء الغالية، فأعجبه ذلك فمكث في البيت، وفي اليوم الثاني لم يرحل، وفي الثالث لم يرحل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لك أن تؤثمه.
قيل: وكيف يؤثمه؟ قال: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به)، إذاً: فهو ينزل على إنسان ضيفاً، ويعلم أنه مسكين وذو عيال، وقد يكون طعامه على مقدار عياله، ثم يظل عنده قاعداً لا يرحل، فيحرج أهل البيت ولا شيء عندهم يقدمونه لهذا الضيف.
وقد ذكر لنا بعض إخواننا أنه نزل عليه أناس من أقاربه قادمون من الصعيد، ولم يكن لديه شيء، وكان يقدم لهم العدس الذي يملكه ولا يعجبهم، فقالوا: كل يوم تقدمون لنا عدساً، قدموا لنا شيئاً آخر! فهؤلاء ضيوف لئام؛ إذ من لؤم الطبع أن ينزل إنسان ضيفاً ويعترض على صاحب البيت في نحو ذلك.
فالإنسان يجود بالشيء الموجود عنده ولا يتكلف، وقد يتكلف في اليوم الأول، وهذا يمدح عليه، أما أكثر من ذلك فلا، وعلى الضيف أن يأكل من طعام البيت، ولا يحل للضيف أن يثوي عند إنسان حتى يؤثمه.
وقد ينزل ضيف على شخص وهو يعرف أن بيته مكون من غرفتين، أو من ثلاث غرف تسعه وأولاده، فأين سيذهب بأولاده، وأين سيذهب بزوجته إذا كنت ستنزل عنده؟ وإذا كان المرء في مدينة وفيها فنادق، والضيف غني له مال، فإنه لا يجب عليك مع هذا الحال أن تضيفه، فلا يلزمك أن تقول له: تعال فبت عندي وبيتك على قدرك، وطعامك وشرابك قليل.
بل أطعم الضيف بما جاد الله عز وجل عليك به، ولينصرف هو فليبت في أي مكان، أما الوجوب - كما قال كثير من الفقهاء - فإنه يكون فيما إذا نزل الضيف على أهل قرية ليس فيها فنادق، وليس فيها طعام يباع، وهو فقير ليس له شيء، وإذا كان هذا حاله فإنه سيقضي الليل في الشارع فهذا الإنسان يلزمك أن تضيفه، وكان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الأمر على ذلك، حيث لا فنادق، ولا مطاعم ونحوها، فالذي ينزل على الناس إما أن يضيف، وإما أنه لا يجد مكاناً ينزل فيه، والذين كانوا ينزلون على النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزلهم في المسجد، وأما بيته صلى الله عليه وسلم فهو غرفة لكل امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام، فكان ينزل أضيافه في المسجد، أو ينظر في مَن يضيف النازلين به من أصحابه، ويعده بالأجر عند الله، فيضيفه من يشاء الله عز وجل من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض أن الإنسان إذا نزل ضيفاً على إنسان فلينظر في حاله، فلا يحل له أن يقيم عنده حتى يؤثم صاحب المكان، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم سبب التأثيم بقوله: (يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) والقرى هو طعام الضيف.(62/6)
البشارة بالخير والتهنئة
أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى: باب استحباب التبشير والتهنئة بالخير، واستحباب التبشير يعني: أن يحب المسلم لأخيه الخير، فإذا وجد شيئاً يسر به أخوه المسلم يسبق إليه ويقول له: حصل كذا.
فلو أن شخصاً دخل الامتحان وظهرت النتائج وعرفنا أنه نجح فإنه يستحب للواحد منا أن يسبق إليه قائلاً: أبشرك بأنك نجحت اليوم.
فإنه بذلك يفرح ويستبشر بوجودك وبكلامك.
فالمراد هنا البشارة بالخير، والإنسان يفرح عندما يقول له شخص: جزاك الله خيراً؛ حيث فعلت الشيء الفلاني.
أو: أهنئك بكذا.
فإذا جاء العيد فهنأته به، أو جاءته مناسبة من المناسبات السعيدة - كأن ولد له مولود - فإنه يفرح عندما يحس أن الناس بجواره يهنئونه على ذلك، فالدين جاء ليحثنا على ذلك، فهنئ أخاك إذا حصل له ما يسره.(62/7)
البشارة في القرآن الكريم
يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]، فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهد على الأمة، ومبشر يبشر بالخير الذي عند الله سبحانه تبارك وتعالى، فالبشارة: الإخبار بالخير، وقد تكون البشارة بغير ذلك، أي: قد تكون البشارة الإخبار بغير الخير، ولكن إذا جاءت البشارة مع النذارة فتكون البشارة خاصة بالخير والنذارة بغير ذلك.
وقد قال تعالى هنا: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17 - 18]، فالمؤمن الصالح الصادق يستمع وينفذ، ويسارع إلى الخيرات، والله تعالى يبشر عباده بجزائهم عند الله عز وجل، فيقول: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:21 - 22]، فالله سبحانه وتعالى يبشر الصالحين.
وقال سبحانه: {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
وقال سبحانه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات:101].
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} [هود:69]، وهؤلاء الرسل هم الرسل الثلاثة الذين أكرمهم إبراهيم، فردوا له ذلك الكرم بكرم آخر، وهو البشارة له على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود:71] فهو - عليه السلام - جاء لهم بالطعام، وامرأته كانت تخدمهم وهي قائمة، فهم أهل بيت كرماء، فبشر امرأة إبراهيم بأنه سيأتي لك إسحاق، وإسحاق سيأتيه من ولده يعقوب أيضاً، فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى ذكرها لنا في القرآن.
وقال سبحانه: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39]، فسيدنا زكريا على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما دعا ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى} [آل عمران:39] فجاءت البشارة من عند رب العالمين سبحانه وتعالى.
وكذلك جاءت البشارة لمريم عليها السلام، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران:45] هذه بشارة.(62/8)
تبشير خديجة رضي الله عنها بصفة بيتها في الجنة
عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، فقد جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يبشر خديجة لأجل ما صنعت في الإسلام رضي الله تبارك وتعالى عنها وأرضاها، فقد فعلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأفعال العظيمة الجليلة الكريمة التي تليق بها رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فقد كانت له زوجاً، وكانت له صلوات الله وسلامه عليه كالأم في برها وحنانها وإنفاقها عليه وإكرامها له صلى الله عليه وسلم، وكان يستشيرها فتشير عليه بأفضل الآراء رضي الله تبارك وتعالى عنها.
فهنا جاء جبريل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
وهذا البيت هو قصر في الجنة من قصب، وليس المراد القصب الذي في الدنيا، بل القصب هو اللؤلؤ، أي: قصر من لؤلؤ في الجنة، لا صخب فيه ولا نصب؛ إذ الإنسان في الدنيا يزعجه الصخب والنصب، فقد تكون جالساً في بيتك فتسمع أحداً يطرق الباب فتنزعج ولا تستطيع النوم، وقد تسمع صخباً وصراخاً وأصواتاً فلا تستطيع أن تنام ولا أن تستريح، أما الجنة فإنها راحة على الدوام، ولا تحتاج فيها إلى النوم أصلاً، فليس في الجنة نوم، بل فيها الراحة والنعيم المقيم.
فبشرها جبريل عليه السلام ببيت من لؤلؤ في الجنة لا صخب فيه، أي: لا أحد يصرخ ويؤذيها فيه، ولا نصب، وكأنها عانت الكثير من كفار قريش، فالسيدة خديجة لم تهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل ماتت في مكة في سنوات الإيذاء، واشتد أذى الكفار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موتها وموت أبي طالب؛ فالاثنان ماتا في عام واحد، ولذلك سمي ذلك العام عام الحزن.
فـ خديجة رضي الله عنها وأرضاها سمعت كثيراً مما صنعه الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم من إيذاء ومن تكذيب، وسمعت صراخهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وأقوالهم الكاذبة عليه، فربنا تبارك وتعالى بشرها بأنها ستستريح من هذا كله، حيث ستدخل الجنة في قصر من لؤلؤ لا صخب فيه، أي: لا أذى من أصوات الناس، ولا نصب، أي: لا تعب في الجنة.(62/9)
تبشير النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعثمان بالجنة
من الأحاديث في البشارة حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه (أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقال: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا) يريد أن يتقرب إلى الله عز وجل بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم، (فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: وجه هاهنا - أي: توجه إلى ذلك المكان - قال: فخرجت على أثره أسأل عنه عليه الصلاة والسلام، حتى دخل بئر أريس - بئر في المدينة - فجلست عند الباب حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته وتوضأ، فقمت إليه فإذا هو قد جلس على بئر أريس) وكأنه كان في يوم حار، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يتبرد بجلوسه على البئر، قال: (وتوسط قفها وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر، فسلمت عليه ثم انصرفت)، وذلك لأنه لم يأت ليجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء ليخدمه، فاشتغل ذلك اليوم بباب المكان، حيث جلس فيه يتشرف بخدمة النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب النبي صلى الله عليه وسلم اليوم)، وهذه المهنة يراها الإنسان حقيرة إذا كانت لأحد غيره صلى الله عليه وسلم، أما للنبي صلى الله عليه وسلم فإنها شيء عظيم جداً، حيث يكون خادماً للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فجاء أبو بكر رضي الله عنه فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر.
فقلت: على رسلك) أي: أنا اليوم بواب، فلا تدخل حتى أستأذن لك أولاً، قال: (فقلت: يا رسول الله! هذا أبو بكر يستأذن.
فقال: ائذن له وبشره بالجنة) فالله عز وجل بشر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لأن أبا بكر هو الرجل العظيم رضي الله عنه، وأعماله في الإسلام مشهورة ومعلومة، وفضائله جمة كثيرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (ائذن له وبشره بالجنة، قال: فأقبلت حتى قلت لـ أبي بكر: ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة.
فدخل أبو بكر حتى جلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم معه في القف) يعني: أنه جلس على طرف البئر، ودلىَّ رجليه في البئر كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: (ثم رجعت وجلست، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني) أي: أن أبا موسى الأشعري ترك أخاه يتوضأ وكان يتمنى أن يأتي لعل النبي صلى الله عليه وسلم يبشره أيضاً بالجنة، قال: (فقلت: إن يرد الله بفلان - يريد أخاه - خيراً يأت به.
فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلت: على رسلك.
ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وقلت: هذا عمر يستأذنك.
فقال: ائذن له وبشره بالجنة.
قال: فجئت عمر فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلىَّ رجليه في البئر، قال: ثم رجعت، فجلست، فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً - يعني: أخاه - يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، قال: فقلت: على رسلك.
وجئت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه.
فجئته فقلت: ادخل، ويبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة مع بلوى تصيبك.
فدخل فوجد القف قد ملئ، فجلس وجاههم من الشق الآخر) يعني: أن المكان الذي جلس فيه النبي صلى الله عليه وسلم لم يتسع لغير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما دخل عثمان جلس في الناحية الثانية من البئر كما جلس النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: سعيد بن المسيب راوي الحديث: فأولتها قبورهم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس وبجانبه أبو بكر وعمر، بينما قعد عثمان في الناحية الأخرى، فلذلك دفن عثمان في غير المكان الذي دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر.
والغرض من الحديث بيان أن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر من شاء سبحانه، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بما قاله له ربه سبحانه وتعالى.(62/10)
تبشير النبي صلى الله عليه وسلم بدخول الجنة من استيقن بكلمة التوحيد من أمته
من الأحاديث في البشارة حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا، فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع دوننا وفزعنا فقمنا).
فانظر إلى مدى حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جالساً معهم، فقام ليقضي حاجته، فلما تأخر عنهم فزعوا.
قال: (فكنت أول من فزع) أي: أول من قام يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار لبني النجار، فدرت هل أجد له باباً فلم أجد).
وذلك لأن الإنسان عندما يكون في وقت أزمة وفي وقت ضيق يذهب تفكيره، ويمكن ألاَّ يرى الشيء وهو موجود، فـ أبو هريرة رضي الله تعالى عنه دار على الحائط، والحائط هو الحديقة، والحديقة لها سور حولها وليس من المتصور أن يكون هناك سور ليس له باب، ولكن أبا هريرة مع شدة فزعه وبحثه عن النبي صلى الله عليه وسلم دار حول الحديقة، فلم ير لهذه الحديقة باباً.
قال: (فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة).
والربيع: الجدول، أي أن البئر كان يخرج منها جدول ماء يدخل إلى الحائط.
قال: (فاحتفزت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ومن الضرورة أن يكون الحائط له باب دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل منه أصحاب الحائط، ولكن مع شدة فزع أبي هريرة لم يجد هذا الباب، ولم ير هذا الباب، فدخل من المدخل الذي يدخل منه الجدول.
قال: (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو هريرة؟ فقلت: نعم يا رسول الله.
قال: ما شأنك؟ قال: قلت: كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) يعني: لم أر له باباً، فدخلت من ثقب يدخل منه الجدول، قال: (وهؤلاء الناس ورائي) أي: أن الناس قادمون كلهم فزعين يبحثون عنك قال: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! اذهب بنعلي هاتين، فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ النعلين لتكونا علامة على أن الذي بعثه إليهم هو النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما خرج أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وجد أمامه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: إلى أين يا أبا هريرة؟ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا.
فقال: ارجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ودفعني دفعة وقعت منها، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبكي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فذكر ما فعله عمر، وكان عمر على أثره رضي الله عنه، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقي يشهد أن لا إله إلا اله مستيقناً بها قلبه يبشره بالجنة؟ قال: نعم.
قال: فلا تفعل؛ فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فخلهم).
أي: صحيح أنك تحبهم وهم يحبونك، ولكن إذا بشرتهم بهذا فسوف يتكلون على ما قلت، وسيتركون الصلاة والصوم والعبادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلا إذاً).
فحبه صلى الله عليه وسلم لهم جعله يأمر أبا هريرة بأن يبشرهم، ولكن حرصه عليهم جعله يستمع لمشورة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في ذلك.
وهنا بيان الشورى، فـ عمر أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء فيه رأي، وكان هذا الرأي من عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه خوفاً وحرصاً على الصحابة، ولكن مع حرص عمر، ومع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فلا إذاً) وصل إلينا هذا الخبر، وعرفنا ما قاله، ولكن عرفناه مقروناً بقوله: (يتكلوا)، فالإنسان قد يغتر فيقول: أنا أقول: (لا إله إلا الله)، فأنا داخل الجنة، فيتكل فيكون من أهل النار في النهاية والعياذ بالله، فليحذر الإنسان من أن يغتر بكونه على الإسلام وأنه يقول: (لا إله إلا الله) فيترك العمل فيقع في معصية الله، فيكون من أهل النار.(62/11)
استحباب تبشير المحتضر برحمة الله تعالى وتذكيره بصالح عمله
ومن الأحاديث في البشارة ما ذكره ابن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص رضي الله عنه وهو في سياقة الموت، وعمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه كان من الأذكياء ومن الفطناء في الجاهلية وفي الإسلام.
ولولا ذكاؤه ما أرسله الكفار إلى النجاشي ليأتي بالمسلمين المهاجرين هنالك، وقد كاد للمسلمين كيداً حتى إن عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة الذي كان معه خشي عليهم، وقال: إن بيننا وبينهم أرحاماً، فالشر الذي غلب عليه في الجاهلية جعله يريد أن يوقع بين النجاشي وبين المسلمين، وكاد يفعل، لولا أن الله سبحانه تبارك وتعالى منع حصول ذلك بإيمان النجاشي أما البطارقة فرفضوا ما يقوله المسلمون، وذلك أن عمرواً قال: هؤلاء يقولون: إن عيسى ليس الإله.
فابعث إليهم واسألهم.
فلما أتى بهم وسألهم خاف المسلمون، ومع خوفهم لم يقولوا إلا الحق، فقالوا: المسيح عيسى بن مريم عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم البتول.
فقالوا كما قال الله عز وجل وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فصدقهم النجاشي، ونخرت البطارقة، ولم يعجبهم ذلك، فقال: وإن نخرتم، هو عيسى بن مريم كما قال هؤلاء، وإن هؤلاء على الحق.
ثم رجع عمرو بن العاص، وبعد سنين مَنَّ الله عز وجل عليه فأسلم، وبعدما أسلم شهد له النبي صلى الله عليه وسلم ولأخيه بالإيمان فقال: (عمرو بن العاص وأخوه مؤمنان)، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم تولى إمارات، وكان أميراً رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم بعد ذلك جاءته الوفاة، فلما حضرته الوفاة بكى طويلاً، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا.
فهنا يستحب إذا كان الإنسان في سياقة الموت أن يبشره من حوله، حتى يقدم على ربه وهو يحسن الظن به سبحانه وتعالى.
فـ عبد الله بن عمرو بن العاص كان يبشر أباه بقوله: أليس النبي صلى الله عليه وسلم بشرك بكذا، وبشرك بكذا.
قال: فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
أي: أفضل شيء أعددناه لهذا اليوم كلمة التوحيد، والشهادة لله عز وجل بأنه الإله وحده.
ثم قال: إني قد كنت على أطباق ثلاث يذكر عن نفسه أن أحواله كانت ثلاثة أحوال: قال: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني - يعني: في الجاهلية -، ولا شيء أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فانظر إليه في الجاهلية! كان يتمنى أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك.
فبسط يمينه، فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قال: قلت: أن يغفر لي أي: إني عملت مصائب من قبل، فشرطي لأبايعك على الإسلام أن يغفر الله تعالى لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)، وهنا فرح بذلك وبايع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني من إجلاله.
فانظر إلى حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبهم، وإجلال النبي صلى الله عليه وسلم! فكان لا يستطيع النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يطيق هذا الشيء، وهو من هو رضي الله تبارك وتعالى عنه في جاهليته وإسلامه؟ قال: فلو سئلت أن أصفه ما أطقت.
أي: لو أن أحداً قال: صف لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني لا أطيق أن أصفه صلى الله عليه وسلم؛ وذلك من شدة حيائه وإجلاله له، فما كان يطيل النظر في وجهه عليه الصلاة والسلام.
قال: لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.
إذاً: ما الذي حصل؟ قال: ثم ولينا أشياء - يعني الإمارة ومفاسدها - ما أدري ما حالي فيها! أي: عملنا أشياء ونحن أمراء اجتهاداً، وظننا ذلك الصواب، فقد يكون هو الصواب وقد لا يكون هو الصواب، والآن جاء وقت الندم، فما أدري ما حالي فيها.
قال: فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور يعني: لا تتركوني وتذهبوا بسرعة، ولكن اصبروا، وقفوا عند القبر وادعوا لي قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها، أي: بمقدار ذبحكم جملاً وتقسيمكم لحمه، قال: حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي.
ومن السنة أن الإنسان يقف على قبر المتوفى زمناً قل أو كثر يدعو فيه لهذا المتوفى، ويكون الدعاء في السر، لا كما يصنع اليوم عند المقابر، حيث تجد أحدهم يدعو والناس يؤمنون حوله؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وإنما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم على القبر ويقول: (سلوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل)، ولو كان يدعو والصحابة يؤمنون لورد عنه أنه كان يقول: اللهم ثبته وهم يقولون: آمين.
ولكن هذا لم يرد.
والغرض من الحديث بيان أن المؤمن يحب البشارة وتعجبه، ولو عند الوفاة، فهي تثبته وتطمئنه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المحسنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل - اللهم - وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(62/12)
شرح رياض الصالحين - وداع المسافر والدعاء له وطلب الدعاء منه
إن من السنة توديع المسافر، والدعاء له، وطلب الدعاء منه؛ لأن السفر من مواطن قبول الدعاء، كما أن المسافر محتاج للوصية والدعاء من غيره، والسفر قد يكون من بلد إلى بلد، وقد يكون من دار الدنيا إلى دار الآخرة.(63/1)
وصايا الأنبياء عند وداعهم وسفرهم إلى الآخرة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: باب وداع الصاحب ووصيته عند فراقه لسفر وغيره والدعاء له وطلب الدعاء منه.
قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133].
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: وأهل بيتي أذكركم، الله في أهل بيتي) رواه مسلم.
إن الإنسان إذا كان مسافراً أو مفارقاً الفرقة الكبرى فرقة الموت فإنه يودع ويوصي، فيدعو للمسافر ويطلب من المسافر أنه يدعو له.
والوصية من الدين وكذلك النصيحة، فالإنسان يوصي أهله بتقوى الله سبحانه وتعالى، {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].
لقد شرع لنا ربنا سبحانه وتعالى هذا الدين الذي وصى به نوحاً على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وأولي العزم من الرسل، وصاهم بهذا الدين، {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى:13] أي: أقيموا دين الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وبين الناس وفي مجتمعكم، وكونوا مجتمعين على أمر الله ولا تختلفوا ولا تتفرقوا.(63/2)
وصية إبراهيم ويعقوب لأبنائهما
قول الله سبحانه وتعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132]، وصى بها أي: بكلمة التوحيد فإنه وصاهم بأن يديموا إقامة دين رب العالمين وشرعته ومنهاجه سبحانه وتعالى، قال: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} [البقرة:132] أي: اختار لكم دين الإسلام، فهو نعمة عظيمة وهدية من الله {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
ودين الإسلام هو دين الرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد اختار الله عز وجل للخلق هذا الدين العظيم (الإسلام)، اختار لهم أن يسلموا وجوههم وأن يسلموا قلوبهم وأبدانهم لله سبحانه وتعالى ليحكم فيهم بما يشاء فقال: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وأخبر أنه دين الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأنهم كانوا يوصون أبناءهم به: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
ووصى بها إبراهيم بنيه، ووصى بها يعقوب الذي هو: أبو يوسف على نبينا عليه الصلاة والسلام وصاهم أن يموتوا على هذا الدين العظيم، {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة:132 - 133]، غيعقوب أبو يوسف الذي لقبه إسرائيل، لما حضرته الوفاة: {قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي} [البقرة:133]، وأبناؤه فيهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فجمع أبناءه وأحفاده وأوصاهم بتقوى الله سبحانه، وسألهم: من الذي ستعبدونه من بعدي؟ إنكم كنتم تعبدون الله وحده لا شريك له، فهل ستتمسكون بهذا الدين أم تتركون هذا الدين؟ وهو يعلم
الجواب
{ قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ} [البقرة:133]، الإله الواحد سبحانه، {وَإِلَهَ آبَائِكَ} [البقرة:133]، الذين هم: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحد لا نشرك به شيئاً سبحانه، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133].
فهذه الوصية ينبغي لكل مسلم أن يوصي بها نفسه وأن يوصي بها أهله وبنيه وغيرهم بأن يديموا عبادتهم لله سبحانه وأن تأتيهم الوفاة وهم متمسكون بهذا الدين.
وإذا أردت أن تأتيك الوفاة وأنت على هذا الدين فتمسك به من الآن؛ لأنك لا تدري متى تأتيك الوفاة، فالمسلم مستحضر أنه ربما يموت الآن أو بعد قليل، فيكون متمسكاً بالدين لا يتركه أبداً إلى الموت.(63/3)
وصية النبي بكتاب الله وأهل بيته
ومن الأحاديث ما رواه زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر)، وكانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم كلها مواعظ، فقد كان يعظ المؤمنين ويذكرهم بالله سبحانه وتعالى ويعلمهم.
ثم قال: (أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب)، وهذا فيه التذكير بالموت، وقد قال له ربه سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، وقال له سبحانه وتعالى وللمؤمنين: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
فأخبر عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه ميت كما أنهم ميتون، وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنكم تزعمون أني آخركم موتاً بل سأموت قبلكم عليه الصلاة والسلام، ومات قبلهم صلوات الله وسلامه عليه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام أن يخبر بأمر غيبي أخبره به الله عز وجل فكان على ما أخبر به عليه الصلاة والسلام.
وطالما أنه ميت عليه الصلاة والسلام فكان يوصيهم بذلك، وكان من المواعظ ما يذكره أصحابه رضوان الله عليهم فقد قالوا: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، (قلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا).
فالصحابة كانوا يفهمون من مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد اقترب أجله عليه الصلاة والسلام فكان يعظهم ويذكرهم عليه الصلاة والسلام، إني مفارق لكم فاحذروا أن تفرطوا واحذروا أن تضيعوا قد تركت فيكم الثقلين، قال: (إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، كتاب الله وأوصيكم بأهل بيتي)، وكتاب الله يأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته عليه الصلاة والسلام، فهو وصى بالشريعة التي هي: كتاب وسنة، وأيضاً: وصى بأهل بيته، أي: لا تظلموهم ولا تبخسوهم حقوقهم، فلعل الناس يجاملونه في حياته صلى الله عليه وسلم، فإذا توفي نسي الناس أهل بيته وأزواجه صلى الله عليه وسلم، فيذكرهم أن يتقوا الله فيهم.
فعرف الصحابة قدرهم وعرفوا قدر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يذهبون إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلمون منهن ما كان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وغير ذلك من أحكام هذه الشريعة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وصى بالقرآن يعني: بشرع الله الذي هو: كتاب وسنة، ووصى الناس بأهل بيته ألا يظلموهم، قال صلى الله عليه وسلم: (كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به)، فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: (وأهل بيتي) يعني: أذكركم بأهل بيتي فلا تظلموا أهل بيتي، والغرض من الحديث أنه وصى صلوات الله وسلامه عليه الناس بكتاب الله وبأهل بيته عليه الصلاة والسلام.(63/4)
وصية النبي لمالك بن الحويرث وأصحابه
عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة قال: وكان رسول صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا!)، والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكره الله عز وجل {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وكل إنسان يحافظ على نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم أكثر محافظة عليكم منكم على أنفسكم فهو: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، عليه الصلاة والسلام.
ونجد هذا في وصاياه وتأديبه لأصحابه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، فيقول لهم: (قولوا: ما استطعنا)، فيأخذ عليهم البيعة وهو أرحم بهم من أنفسهم فيقول: (قولوا: ما استطعنا) أي: لعلكم لا تقدرون على بعض هذه الأشياء فيكون لكم عذر عند الله سبحانه وتعالى.
وهنا كذلك فإن مالك بن الحويرث ومعه أقارب له قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وهم شببة متقاربون، أي: شباب قد تركوا أهلهم وتركوا بلادهم وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ليتعلموا منه، ومكثوا عنده عشرين ليلة، فلما أقاموا عنده كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيماً رفيقاً خلقه الرحمة والرفق، قال: فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا أي: فظن صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون الرجوع؛ لذلك لم يتركهم حتى يقولوا: نريد أن نرجع، ولكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم جعلته هو الذي بدأ فسألهم عمن تركوا وراءهم، فكأنه يذكرهم ارجعوا إلى أهليكم يكفيكم ما قد تعلمتم، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بهؤلاء وبغيرهم.
قال: فأخبرناه فقال: (ارجعوا إلى أهليكم)، أي: الذي تعلمتموه هنا اذهبوا وعلموه أهليكم؛ ليكون لكم الثواب في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم وأمروهم، وصلوا صلاة كذا!) في حين كذا! وربما أنه ظن أنهم غير متقنين لمواقيت الصلاة فعلمهم صلاة كذا! في حين كذا! وصلاة كذا في حين كذا، قال: (وصلوا كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم).
يجوز (وليؤُّمكم أكبركم) ويجوز (وليؤَّمكم أكبركم) والأولى أوجه في اللغة لأن أصلها من أممه ففيها ميمان يأمم والجازم وقع على الثانية والأولى ما زالت مرفوعة فلذلك حركتها أولى بالبقاء هنا، فإن قيل: لماذا يؤمهم أكبرهم والمعروف أنه يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله؟ لماذا لم يقل: يؤمكم أعلمكم بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا يصح هذا في هذه الحالة؛ لأنهم مكثوا عشرين يوماً مع النبي صلى الله عليه وسلم ولو حفظوا سيحفظ جميعهم مثل بعض، ولم يحاول أن يحفظ أحدهم أكثر من الثاني، فلم يبق تفاضل بينهم إلا بالسن، فطالما أنهم كلهم ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد وأخذوا العلم وحفظوا من القرآن خلال عشرين ليلة مثل بعض فلم يبق إلا (وليؤمكم أكبرهم)، وهذا لا يعارض ما جاء في أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإذا كانوا فيها سواء فأقدمهم هجرة).
فيقدم الأحفظ لكتاب الله ثم الأعلم والأفقه بدين رب العالمين ثم الأقدم هجرة والأكبر سناً، لكن إذا لم يوجد إلا خيار واحد بأن يكونوا متساويين في القرآن والسنة والهجرة لم يبق إلا بالسن، قال: (وصلوا مثلما رأيتموني أصلي)، والغرض هنا بيان وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التوديع للمسافر وقد وصاهم حين ودعهم وأمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم بالصلاة وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم فإن آخر ما سمعوا منه: (الصلاة وما ملكت أيمانكم) أي: الزموا الصلاة، واحرصوا على الصلاة، لا تتركوا الصلاة، (الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وملك اليمين هم: العبيد أي: احذروا أن تفرطوا في حق العبيد فإن الله عز وجل يقتص لهم يوم القيامة.(63/5)
مشروعية طلب الدعاء من المسافر
روى الإمام الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف قال: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن وقال: لا تنسنا يا أُخيّ من دعائك، قال عمر: فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا)، في رواية قال: (أشركنا يا أخي في دعائك) يا أُخيَّ تصغير يا أخي، قال الترمذي: حسن صحيح، وفي إسناده عاصم بن عبد الله العمري، قال الحافظ ابن حجر: ضعيف، فإسناد هذا الحديث ضعيف، لكن يجوز للإنسان إذا كان يودع إنساناً مسافراً أن يطلب منه الدعاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة المسافر، ودعوة الصائم، ودعوة الوالد على ولده أو لولده)، ومن هذا الباب نقول للمسافر: لا تنسنا من دعائك.(63/6)
دعاء المقيم للمسافر
روى سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم جميعاً كان يقول للرجل إذا أراد سفراً، وكان من أشد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحاول أن يقتدي به في كل شيء لآية: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
حتى إنه إذا علم بالمكان الذي نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وتبول فيه ينزل في هذا المكان أيضاً ويتبول فيه، يريد أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم راكباً على ناقته فجذب زمامها في مكان في الطريق لتقف أو لوى رقبتها لتقف فـ ابن عمر كان يفعل هذا الشيء ولو كان غير محتاج إليه، فقد كان يفعله اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكان من أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اتباعاً للنبي صلى الله عليه وسلم واقتداءً به.
فـ عبد الله بن عمر كان يقول للرجل الذي يريد أن يسافر: ادنو مني حتى أودعك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعنا.
فكان ابن عمر رضي الله عنه يأتسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في توديع الإنسان المسافر ويعلمه السنة في ذلك، ويقول: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).(63/7)
شرح حديث: (أستودع الله دينك)
كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للمسافر: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)، وهذا الحديث العظيم معناه جميل جداً لمن يتدبره يقول صلى الله عليه وسلم: (أستودع الله) يعني: أجعل هذه الأشياء التي تخصك وديعة عند الله أي: أسأل الله وأدعوه أن يحافظ لك على هذه الأشياء كما يحافظ المودع الأمين على الوديعة التي عنده، ولله عز وجل المثل الأعلى.
(أستودع الله دينك) يعني: ما أنت عليه من دين الإسلام والمعنى: أدعو الله ألا يضلك وأن تظل ثابتاً على هذا الدين.
(وأمانتك) سواء كانت الأمانة مع الله أو مع الخلق، فأسأل الله عز وجل أن يحافظ لك على أمانتك جميعها فتؤدي التكاليف الشرعية ولا تضيعها، فتحافظ على الصلوات في وقتها، وتحافظ على صومك، وتحافظ على ما تؤديه من أمانة الله وكذلك أمانات الخل.
، (وخواتيم عملك)، وفي الحديث: (الأعمال بالخواتيم)، فقد يكون الإنسان على عمل صالح وفي آخر حياته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، والعياذ بالله.
وقد يكون على عمل غير صالح وفي آخر حياته يسبق عليه كتاب الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، فكأنه يودع هذا الإنسان ويسأل من الله عز وجل أن يحافظ له على هذا العمل حتى يختم له به.
فتدعو للإنسان المسافر وتوصيه بتقوى الله لأنه سيكون غريباً في بلاد أخرى لست فيها، وليس هناك من يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر؛ لذلك توصي الإنسان حين يسافر إلى مكان بقولك: اتق الله سبحانه وتعالى، واحذر الفتن، واحذر النساء، واحذر أهل الفسق وأهل الضلال، واحذر الكفار؛ فلعله يرجع ولعله لا يرجع فتدعو له بقولك: (استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).(63/8)
ما يقال في توديع الجيش
عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يودع الجيش قال: استودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم)، حتى الجيش الذي يسافر مجاهداً في سبيل الله يحتاج لهذه النصيحة ويحتاج لهذه الوصية ولهذا الدعاء، وهذا أولى من أن يذهب الإنسان إلى المسافر فيقول له: أعطني كذا وكذا! انتبه لنفسك من كذا! فأنت تجعل الله سبحانه وتعالى هو الذي يرعاه حين تدعو لهذا الإنسان المسافر، ولا مانع من أن تقول للإنسان المسافر: أعطني كذا وكذا! ولا مانع إن كان متهوراً أن تقول له: انتبه من نفسك، ولكن لا تنسى أن تدعو له بهذا الدعاء العظيم (أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك).(63/9)
شرح حديث: (زودك الله بالتقوى)
روى الإمام الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أريد سفراً فزودني) أي: أعطني زاداً في هذا السفر، والله يقول: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، يعني: أعطني ما أستعين به في هذا السفر من نصيحة، فقال صلى الله عليه وسلم: (زودك الله بالتقوى)، زودك يعني: أسأل الله عز وجل أن يعطيك التقوى ويجعل التقوى زادك، ففرح بذلك وقال: زدني أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (وغفر ذنبك).
قال الرجل: زدني قال: (ويسر لك الخير حيثما كنت)، وهذا دعاء جامع لخير الدين والدنيا والآخرة، ماذا تريد بعد التقوى؟ وإذا كان زادك التقوى فاعمل أي عمل لله عز وجل، فإن الله يتقبله منك؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وإذا كنت قد زودك الله التقوى فكل الأعمال الصالحة لن يدخلها رياء، فكلها ستكون لله وكلها يقبلها الله عز وجل، وإذا زودك الله التقوى سييسر لك الخير في كل مكان؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].
والتقوى رأس مال المؤمن، وهي عظيمة جداً وهي تفتح لك أبواب السعادة في الدنيا وفي الآخرة، وإذا زودك الله التقوى تقبل منك عملك ورزقك من حيث لا تحتسب وجعل لك مخرجاً، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:2 - 3]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5]، وتقوى الله جمعت كل خير في الدنيا وفي الآخرة.
قال: (وغفر ذنبك)، فدعا له بالمغفرة، فإذا غفر الله عز وجل له انتظر الجنة من رب العالمين.
قال: (ويسر لك الخير حيثما كنت) يعني: في أي مكان تكون أسأل الله أن ييسر لك الخير.
وهنا ما قال له: الله يعطيك الذي تتمناه مع أن الإنسان يتمنى لنفسه خيراً كثيراً لكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وقد يتمنى الشيء ويأتي بغير حينه، فلا يكون له عند الإنسان منزلة، والإنسان قد يتمنى المال فحين يأتيه المال يفرح به، وقد يأتيه المال فتكون تعاسته هي أن يأتي له المال! والإنسان الذي كان مسافراً في الصحراء ثم ضلت ناقته فظل في الصحراء تائهاً لا يعرف أين يذهب وعطش عطشاً شديداً وأخذ يبحث عن ماء وحفر بئراً وحصل على كنز في الداخل فهل ينفعه هذا الكنز الآن؟ لا ينفعه بشيء، فهل هذا الكنز خير في مكان لا ينتفع به؟! يقول هذا الإنسان: أريد من زمني ماءً فيمنحني مالاً فما ذلك التنغيص يا زمن أينفع المال والإنسان في غصص تأتي عليه فلا قبر ولا كفن لا ينفع المال عند الموت صاحبه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فجاءت له الريح بالذي لا يشتهيها ربان السفينة.
فهذا الإنسان في مكان لعله في غيره قد يطلب المال ويكون خيراً عظيماً له، فكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يسر لك الخير حيثما كنت، أي: الخير الذي يناسبك في هذا المكان ييسره الله عز وجل لك، ولذلك ينبغي على المسلم أن يسأل الله عز وجل الخير في سفره، وأن يدعو للمسافر: (زودك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسر لك الخير حيثما كنت).
نسأل الله عز وجل أن يزودنا التقوى في سفرنا للآخرة، وأن ييسر لنا الخير حيثما كنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(63/10)
شرح رياض الصالحين - الاستخارة والمشاورة
لقد قرر الإسلام في عدد من الآيات والأحاديث مبدأ: ما خاب من استخار ولا خسر من استشار، فبهذين الأمرين يكون الإنسان مطمئن النفس سالي الخاطر قرير العين، والخيرة فيما اختاره الله.(64/1)
ما جاء في الاستخارة والمشاورة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الاستخارة والمشاورة.
قال الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: يتشاورون بينهم فيه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري].
باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمة الله عليه يذكر فيه الاستخارة والمشاورة، والاستخارة على وزن استفعال أي: طلب شيء، فهنا استخار أي: طلب الخير واستدعاه، والمشاورة على صيغة مفاعلة وتكون في مجموعة بين اثنين فما فوقهما، وهي بمعنى طلب الشورى ممن حوله من أهل الخبرة ومن أهل العلم والصلاح، فيطلب رأيه في الأمر الذي يريد أن يفعله، وكذا ينبغي أن يكون المؤمن، فعليه أن يستخير ويستشير، فيستخير ربه سبحانه بأن يطلب منه تقدير الخير له وإرشاده إليه، ويستشير بأن يطلب من الناس آراءهم.
فالله عز وجل أمرك بالاثنين فقال في المؤمنين مادحاً لهم: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فأمر المؤمنين فيه مشاورة، ولا يوجد أحد يستبد برأيه عن الباقين ولكن يستشير الإنسان في قراره أو فيما يريد تدبيره من أمره، ويستشير أهل العلم والصلاح والتقوى وأهل الخبرة في المسألة التي يريد عملها.
فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، أمره الله بذلك مع أنه المؤيد بالوحي من السماء عليه الصلاة والسلام، ولا شك أن رأيه فوق آرائهم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الله يقرر مبدأً من المبادئ العظيمة وهو مبدأ الشورى، فلو كان كل أمر منه صلى الله عليه وسلم يعطي رأيه فيه دون استشارة، لكان الأمر على من بعده صعباً.
فلو جاء بعده خليفة أو أمير لقالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم في الأمر ويعطي رأيه وينفذ دون استشارة، فأنا أيضاً الملك أفعل هذا الشيء، فبدأ الله عز وجل بنبيه عليه الصلاة والسلام وأمره بالمشاورة بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، فكان يستشيرهم وينزل على رأيهم حتى وإن خالف رأيهم رأيه صلى الله عليه وسلم، فطالما اجتمعوا على شيء وكانت الأكثرية في رأيهم فالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ بآرائهم ويعمل بقولهم، وقد يكون الرأي الذي يراه الأكثرون ليس هو الذي يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يترك رأيه ويأخذ آراءهم ليعلِّم من بعده عليه الصلاة والسلام.
وينبغي على المؤمنين أن يكون أمرهم شورى، فالشورى تجعل في الرأي أكثر من عقل واحد، فالإنسان المؤمن يتعلم من القرآن أن استشر من حولك من أهل الخبرة وإذا بلغت برأيك الصواب مرة، فلن تصيب كل مرة.
وفي المشاورة تنقيح الآراء، انظر إلى إنسان يؤلف كتاباً مثلاً ويظن أنه أبدع في الكتاب، وعندما يراجع كتابه بنفسه يجد أشياء أخرى غفل عنها، وبالآراء يجد أموراً غفل عنها ونسيها؛ لذلك لا تحتقر آراء الرجال ولا تحتقر آراء الآخرين، بل خذ بآرائهم وانظر فيها حتى ولو لم تعمل بها، لكن قد تنفعك بعض آرائهم في يوم من الأيام، وهذا مبدأ الشورى الذي علمه لعبادة المؤمنين، فيتواضع الإنسان ويتجنب التهور.
وعلى الإنسان أنه كما يحسن الظن بنفسه أن يحسن الظن في غيره؛ لذلك تجد العلماء حين يؤلفون كتبهم كالإمام الشافعي يؤلفه ثم يعطيه للبعض ويقول: خذ هذا الكتاب وأنا أعلم أن فيه أخطاء فأصلحها وأنا لا أعرف مكانها! كيف لا تعرف مكانها وأنت تقول: أعرف أن فيه أخطاء؟ قال: مستدلاً بكتاب الله وما أجمل ما يستدل به الإمام الشافعي من الكتاب والسنة، فقد كان عالماً عظيماً فقيهاً إماماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، توفي وعمره أربع وخمسون سنة، ووصل إلى العلم الذي لم يصل إليه إلا الندرة من العلماء أمثاله من الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، يقول رحمه الله: قال الله عز وجل في كتابه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فأي كتاب من عند غير الله لابد أن يكون فيه خلاف، ولابد أن يكون فيه خطأ، فالذي يؤلف شيئاً لا يمكن أن يكون كله صواباً، وهذه من طبيعة البشر، فلابد من الخطأ فهو مقتضى البشرية، ولذلك قال الشافعي رحمه الله ذلك.
فعندما يستشير الإنسان غيره فهم يدلونه على أخطاء نفسه، وهو بذلك يمحص كتابه ورأيه ويستفيد من آراء غيره من الناس، لذلك قالوا: ما خاب من استشار، لا يخيب الإنسان الذي يشاور غيره، إن وصل للصواب في مسألة وعمل بما قالوه، فوجد النتيجة حسنة فرح بهذا الشيء، وإذا وجد النتيجة على غير ما توقعه فلا يلوم إلا نفسه.
وهذا الحافظ ابن حجر العسقلاني وهو من هو رحمة الله عليه يذكر في آخر حياته أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما كان ألف هذه الكتب، وأنه وجد في كتبه أخطاء كثيرة، فقد ألف وصنف كثيراً ولكن في نهاية الأمر راجع نفسه، وعلم أن هناك أشياء تحتاج لتنقيح، ولعله تسرع في بعض المسائل، هذا وهو أمير من أمراء المؤمنين في علم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعالم من علماء المسلمين! فالغرض أن كل إنسان في نفسه أشياء صحيحة وأشياء قد تكون خلاف الصحيح، فحين يقدم على الشيء وحده لعله يندم في يوم من الأيام، ومهما ادعى الإنسان أنه لا يندم فهذا خطأ، وسيأتي زمن يصف نفسه بالجنون وأن كلامه كان خطأ، وسيعرف أنه كان مغروراً عندما قال ذلك.
ولذلك المؤمن يجب أن يأخذ بكتاب الله مسلماً، قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] حتى لو اعتقدت أنهم أقل منك رأياً، ولعل الأقل منك رأياً قد يوفقه الله للشيء الذي لا يوفقك إليه وقد تكون نتيجة رأيه حسنة.
فالمؤمنون أمرهم شورى بينهم، وكذلك يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وهذا الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره بالتبع.(64/2)
شرح حديث: (كان رسول الله يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن) أي: حديث الاستخارة لابد أن تحفظه كما تحفظ السورة من القرآن، وكان يحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث كما يحفظهم السورة من القرآن، يقول لهم عليه الصلاة والسلام: (إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة)، إذا أراد أحدكم أمراً من الأمور التي ينتفع بها في الدنيا أو في الآخرة وهو محتار في أن يعمله أو يتركه فعليه أن يستخير ربه سبحانه.
فالاستشارة تكون من الخلق بأن يشيروا عليك بآرائهم، والاستخارة: طلب الخير وهو ما لا يملكه إلا الله سبحانه تبارك وتعالى، فتطلب الخير منه أن يهديك ويوفقك للصواب، والأفضل أن تجمع الأمرين.
قال هنا: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، فلابد أن تكون ركعتي نافلة، ولا يصح أن يكونا من الفريضة، فيصح أن أصلي سنة الفجر وأنوي أن أستخير ربنا بعد هاتين الركعتين، لكن لا ينفع أن أصلي صلاة الصبح وبعدها أستخير، فقد قال: (ركعتين من غير الفريضة)، ويستحسن أن تكون الركعتان قائمتين بذاتهما، وأن تكونا ركعتين مخصوصتين للاستخارة، ويجوز أن تدخلها مع أي نافلة من النوافل، كأن تصليها مع سنة الظهر أو سنة العشاء أو سنة المغرب وتدخل معها نية الاستخارة.
قال صلى الله عليه وسلم: (فليركع ركعتين من غير الفريضة)، بأي ركعتين: (ثم ليقل)، الدعاء الذي ينبغي أن تحفظه كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أستخيرك بعلمك) يعني: أطلب منك الخير الذي تعلمه بعلمك وأطلب منك أن تعلمني وأن تدلني على ما لا أعلم، وفي هذا اعتراف الإنسان بجهله.
(وأستقدرك)، السين للاستدعاء على صيغة استفعال، فالمقصد أني أطلب منك أن تقدرني، فأستقدرك بمعنى أطلب منك بقدرتك أن تقدرني على الصواب في هذا الشيء.
(وأسألك من فضلك العظيم)، فأنا أطلب من فضلك، ولا أطلب فرضاً عليك أنك تعطيني، ولكني أعترف بعجزي وبجهلي، وأني عبد لك وأنت المتكرم المتفضل، وهذا من التواضع بين يدي الله عز وجل، وهذا يجعل سؤالك محل جواب من الله سبحانه تبارك وتعالى، والمستكبر لا ينظر الله عز وجل إليه، ولكن المتواضع هو الذي يعترف بالعجز وبالتقصير والجهل، ويقر لله عز وجل بالقدرة بالعلم والفضل، فهذا جدير أن يستجيب الله عز وجل له.
قال: (أستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم)، أطلب من فضلك فإنك كريم وفضلك كثير عظيم.
(فإنك تقدر وأنا لا أقدر)، أنت تقدر على كل شيء وأنا لا أقدر إلا على ما تقدرني عليه.
(فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم)، وهنا يكون الاعتراف بالجهل، (تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب)، تعلم ما ظهر وما خفي.
(اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسمي الأمر)، أي: الأمر الذي سيقدم عليه فيقول مثلاً: أن هذا الزواج الذي أقدم عليه، أو سيقدم على شراء شيء فيقول: هذه البضاعة التي أشتريها، فيذكر الشيء الذي يستخير الله به.
ثم يقول: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)، وبهذا لا يضيع ديني، وخير في معاشي وفي حياتي ونفقتي ومعيشتي في هذه الدنيا، ثم العاقبة يوم القيامة، وهذا صالح ونافع لي في الدين، ونافع لي في معاشي وحاجتي في الدنيا، ونافع لي في قبري ويوم القيامة، وبهذا الدعاء يكون قد جمع الخير كله.
قال: (أو قال: عاجل أمري وآجله)، وهو نفس المعنى: عاجل الأمر ما كان فيه منفعة دينية أو دنيوية، وآجل الأمر ما كان يوم القيامة، فيجوز لك أن تقول أي من الصيغتين: (إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري)، أو تقول: (خير لي في عاجل أمري وآجله)، قال: (فاقدره لي ويسره لي)، أي: اجعلني قادراً عليه واكتب لي أن أفعله واجعلني أفعل هذا الشيء بتيسيرك لي.
ويمكن أن يقدرك على شيء هو في الأصل خير ولكن الإنسان بسفاهته يستخدمه في غير الخير.
قال: (ثم بارك لي فيه) أي: تقدرني عليه فإذا قدرتني عليه اجعل لي من وراء ذلك: البركة في العمل، والبركة في النماء، والبركة في الأجر والثواب، فجمعت خيراً عظيماً باستخارتك ربك، ويكفي هذا الدعاء العظيم الذي دعوته.
قال: (وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري) أي: الأمر الذي أستخيرك به وأطلبه سيكون فيه شر، وكم من أمر ينظر الإنسان إليه على أنه خير فيحرص على أخذه، وبعد ذلك يجد فيه الشر فيتركه ويزهد فيه، فبدلاً من أن تجرب اطلب من ربك سبحانه أن يرشدك إلى الصواب.
قال صلى الله عليه وسلم: (أو قال: عاجل أمري وآجله)، إذا كان شراً قال: (فاصرفه عني واصرفني عنه)، فأريد عملاً في المكان الفلاني وأنا أسعى لهذا الشيء، وصليت صلاة استخارة ثم أقدمت عليه ولكنه ضاع، فلذلك كان الدعاء الكامل أن تقول: اصرف هذا الشيء عني واصرفني أنا أيضاً عنه، فلا أندم عليه ولا أحزن إذا لم أحصل عليه.
قال: (واقدر لي الخير حيث كان) أي: قدر لي الخير في أي مكان يكون، واجعلني أتوجه إليه وأحصله.
(ثم أرضني به)، قد يقدر لك الخير الذي يراه وقد لا ترضى عنه، والرضا شيء عظيم جداً، إن ترضى فلك الرضا من الله عز وجل ولك الرضا من الخلق، مهما سخطوا عليك فهم يرضون عنك برضا الله عز وجل عنك.
وشيء عظيم أن يعيش الإنسان راضياً مستريح النفس قرير العين، يحس أنه ملك، يقول: الله وقد أعطاني الله أعظم شيء، فقد يتزوج امرأة فقيرة ولا تكون جميلة وقد تكون مريضة ولكن أرضاه الله عز وجل بها، فرضي بها ويفرح بها ويستريح إليها، ويستشعر أنه ملك من الملوك.
وقد يتزوج امرأة غنية وامرأة جميلة وامرأة ذات منصب وجمال، وإذا به يكون في ذل عظيم، يراها شيطانة أمامه لا يطيقها، فهنا يطلب الخير ويطلب من الله أن يرضيه به، فيجعل نفسه راضية بهذا الذي هو فيه، لا ينظر إلى غير ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) أي: الذي يرضى عن الله سبحانه تبارك وتعالى فالله يرضيه، ويرضى عنه ويعطيه ما يرضى به، حتى ولو كان قليلاً من متاع الدنيا القليل، ولكن تجده فقيراً وتجده راضياً عن الله سبحانه، وكم من إنسان تراه فقيراً ولكنه فرحان؛ لأن الله ملأ قلبه بالإيمان الذي يجعله راضياً عن الله.
ويقول: يمكن لو أخذت المنصب ضللت وضعت وتركت دين الله عز وجل ورائي، وهكذا المؤمن يحمد الله عز وجل وهو راض عن قضائه وقدره سبحانه تبارك وتعالى، ورضاه يمنعه من التطلع، فلا ينظر إلى ما أغنى الله جاره أو فلاناً من الناس، فيبدأ يتسخط على أمر الله سبحانه، لكن المؤمن الذي يرضى عن الله سبحانه تبارك وتعالى، يرضيه الله عز وجل.
لعل هذا الفقير يمرض مرضاً فيضع يده على مكان المرض ويدعو الله سبحانه فيذهب الله هذا المرض عنه دون تعاطي دواء، ولعل الغني يصاب بمثلما أصيب به الفقير فيصرف أمواله كلها عليه! وكم من طالب شيء لا يناله، فكم رأينا من أناس يطلبون مناصب في الدنيا ويسعون إليها، ولكن الله لا يقدرها لهم! وكل هذا حكمة من الله عز وجل، فقد تحصل على منصب ويضيع به دينك، وتفسد فيه أخلاقك، لهذا الله يصرفه عنك.
فالمؤمن يستخير الله عز وجل في كل أمر هو مقدم عليه، ولا يطلب المؤمن إلا رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ويطلب من الله أن يرضيه ويصبر على أمر الله سبحانه، فيرضى بما قسمه الله عز وجل له كما جاء في حديث أبي هريرة الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)، فالغنى غنى القلب، والله يجعل قلبك غنياً، والفقر فقر النفس وفقر القلب، وقد تجد إنساناً لديه من الأموال الكثيرة ولكنك تجده يتكفف الناس ويطلبهم، وهذا هو فقر القلب بعينه، وتجده يخاف بشكل كبير على أمواله، وقد تجد إنساناً لا يوجد في جيبه ما يكفي قوت يوم أو أقل من ذلك، ومع ذلك يكون مسروراً لا يحتاج لأحد، فهذا هو الرضا بالله عز وجل.
فخذ بالأسباب، وتستشير وتستخير فالله يقدر لك الخير، فما خاب من استخار ولا استشار.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(64/3)
شرح رياض الصالحين - تغيير الطريق عند الذهاب إلى مواطن العبادات والعودة منها وتقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم
من الأمور المستحبة في الشرع: إذا خرج المسلم إلى صلاة العيد أن يذهب من طريق ويعود من آخر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتكثيراً لمواضع العبادة، وحتى تشهد له الملائكة في الطريقين، ويلتقي بعدد كبير من المسلمين.
كذلك من الأمور المستحبة في الشرع: تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، كالوضوء، والغسل، والمصافحة، والطعام، والشراب، والأخذ، والعطاء، وغير ذلك مما هو في معناه، ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كدخول الخلاء، وخلع الخف، والاستنجاء، وأشباه ذلك.(65/1)
ما جاء في تغيير الطريق في الذهاب إلى صلاة العيد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج والغزو والجنازة ونحوها من طريق والرجوع من طريق آخر لتكثير مواضع العبادة.
عن جابر رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق) رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وإذا دخل مكة دخل من الثنية العليا، ويخرج من الثنية السفلى) متفق عليه].
غرض الإمام النووي رحمه الله تعالى من ذكر هذا الباب أن العبد وهو يسير على هذه الأرض في عبادة لله سبحانه، فإنه تكتب له خطواته ومشيه إلى الطاعة.
فمثلاً: الذهاب إلى الصلاة، فكلما كثرت خطوات العبد إلى بيت الله عز وجل كان له أجر عظيم بسبب هذه الخطوات.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى صلاة العيد ورجع منها، يذهب من طريق ويرجع من طريق آخر.
ويسن التكبير عند ذهابه وإيابه، وفي أيام التشريق الثلاث، وهذا في عيد الأضحى، وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من تكبير الله عز وجل، ويعلم المسلمين أن يكثروا من ذلك، لأنه كلما أكثروا من ذكر الله تشهد لهم الأرض التي يمشون عليها، وتشهد لهم الملائكة في الطرقات، ويمر المسلم على أكثر عدد من المسلمين، فيسلم على أخيه المسلم ويسلم عليه، ويدعو لأخيه المسلم ويدعو له، فإن تيسر للمسلم أن يذهب من طريق ويرجع من طريق أخر فحسن، وإذا لم يتيسر فعلى الأقل ذكر الله عز وجل في كل مكان يمشي فيه.
وأما حديث ابن عمر المتفق عليه: فهو في حج النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان يدخل من طريق ويخرج من طريق آخر، فإذا خرج من المدينة خرج من طريق الشجرة، ويدخل من طريق المعرس، وإذا دخل مكة يدخل من الثنية العليا، أي: من الحجون، ويخرج من الثنية السفلى صلوات الله وسلامه عليه.
والغرض: أن الحج عبادة لله تعالى، فيدخل عابداً لله تعالى، ويخرج ذاكراً لله سبحانه، فيخالف في الطريق، يعني: في الخروج وفي الدخول.(65/2)
ما جاء في استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، كالوضوء والغسل والتيمم] يستحب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم، يعني: اليد اليمنى للأشياء التي يكرمها، وأما اليد اليسرى فتكون للأشياء الأخرى التي فيها إزالة قذارة ونحو ذلك كالوضوء، فيبدأ فيه باليمين ثم بالشمال، والغسل، والتيمم، فيبدأ كذلك بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وقد ذكرنا في أبواب الوضوء والغسل والتيمم أن البدء باليمين سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلو أنه خالف في الوضوء، فبدأ بالشمال قبل اليمين فهل يصح وضوءه أم لا؟
الجواب
يصح وضوءه، لكن خالف السنة.
قال النووي: [ولبس الثوب] فيدخل يده اليمنى ثم يده اليسرى.
قال النووي: [والنعل] أي: كذلك يبدأ باليمين ثم بعد ذلك باليسار.
قال النووي: [والخف، والسراويل، ودخول المسجد] أي: يستحب عند لبسك للخف أو للسراويل أو عند دخولك إلى المسجد أن تبدأ باليمين.
قال النووي: [والسواك] أي: إذا تسوك أخذ السواك بيمينه، وبدأ بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر.
وقال: [والاكتحال] أي: إن احتاج للاكتحال، ووضع الكحل في عينيه، بدأ باليمنى، وكذلك ما كان مثلها من قطرات للعين فيبدأ بالعين اليمنى قبل اليسرى، والأنف اليمنى قبل اليسرى وهكذا.
قال: [وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس] فهذا كله يبدأ فيه باليمين قبل اليسار، وهو من باب النظافة التي أمر بها الإسلام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حلقه وهو في الحج يبدأ بالجانب الأيمن قبل الجانب الأيسر، فيقاس عليه ما كان من إزالة شعر الإنسان.
قال: [والسلام من الصلاة] أي: عند التسليم من الصلاة يبدأ باليمنى قبل اليسرى.
قال: [والأكل، والشرب، والمصافحة] أي: يأكل بيمناه، ويشرب بيمناه، ويصافح بيمناه.
قال: [واستلام الحجر الأسود، والخروج من الخلاء] أي: يستلم الحجر الأسود بيمينه، ويخرج من الخلاء بيمينه، لكن الخلاء موضع قذارة يستقذر منه الإنسان، فإذا دخله بدأ باليسرى وليس باليمنى؛ لأنه مكان للشياطين، وإذا خرج فليكن باليمنى.
قال: [والأخذ، والعطاء] أي: يأخذ ويعطي بيمينه.
قال: [وغير ذلك مما هو في معناه، ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك، كالامتخاط] أي: إنسان سيمتخط في أثناء الوضوء مثلاً، فيدخل الماء إلى فمه وإلى أنفه ثم يستنثر بيده اليسرى وليس باليمنى.
قال: [والبصاق عن اليسار] أي: إذا كان يتفل فليتفل في منديل أو نحوه إن احتاج، وإن تفل على الأرض في مكان يغطى بتراب ونحوه تفل عن يساره.
قال: [ودخول الخلاء، والخروج من المسجد، وخلع الخف، والنعل، والسراويل، والثوب، والاستنجاء، وفعل المستقذرات، وأشباه ذلك].(65/3)
تكريم اليمنى في الدنيا والآخرة
يقول الإمام النووي: [قال الله عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] فشرف الله عز وجل اليمنى بأخذها الكتاب يوم القيامة، ليكون من الناجين، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، فيقبض ويأخذ كتابه بيمينه فيقول: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:19 - 21].
هذا الذي أخذ كتابه بيمينه هو في عيشة راضية، وانظروا إلى الإنسان الذي ينجح في دراسته، كيف أنه يفرح فرحاً شديداً، لكن أعظم نجاح للإنسان عندما يأخذ كتابه بيمينه، فهذا هو النجاح الأبدي والحقيقي.
ولذلك المؤمن يقول فرحاً مسروراً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] أي: تعالوا اقرءوا كتابي، فرح عظيم يوم القيامة لا يساويه فرح أبداً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:19 - 20] أي: كنت خائفاً من أن عملي لا يدخلني الجنة، ولكن الله تكرم عليَّ ومنّ عليَّ.
ثم قال الله عز وجل: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:21 - 24].
قال الله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة:25 - 26] أي: لم أكن متوقعاً هذا الحساب، ولم أدر ما هو الحساب: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27] أي: يا ليت هذه الموتة التي متها كانت آخر موتة لي، وما حييت بعدها أبداً: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29].
كلام فيه الحسرات والعياذ بالله، فيتحسر على نفسه، حيث لا ينفعه شيء يوم القيامة.
والمقصود: أن اليمين كرمت في الدنيا وفي الآخرة، بأن يأخذ بها الإنسان كتابه من الله سبحانه تبارك وتعالى يوم القيامة.
قال الإمام النووي: [وقال الله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة:8] فكرمها {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة:8 - 9] ففرق بين هؤلاء وهؤلاء!(65/4)
استحباب التيمن في الطهور والترجل والتنعل
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله: في طهوره، وترجله، وتنعله) متفق عليه].
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، أي: يلبس النعل اليمنى قبل اليسرى، وفي طهوره، أي: في وضوئه وغسله، وترجله، أي: تسريح شعره، فيبدأ بالجهة اليمنى قبل اليسرى عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام النووي: [وعنها قالت: (كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه) أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل يده اليمنى في طهوره وفي تناول طعامه.
(وكانت اليسرى لخلائه) أي: للاستنجاء وتناول الأحجار لإزالة الأقذار.
(وما كان من أذاه) أي: وكذلك لما كان من أذى، نحو بصاق ومخاط وغيرهما.(65/5)
استحباب البدء بالميامن عند غسل الميت
قال النووي: [وعن أم عطية رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته زينب رضي الله عنها: ابدأن بميامنها وبمواضع الوضوء منها) متفق عليه.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أم عطية ومن معها أن يغسلن ابنته زينب رضي الله عنها فقال: (ابدأن)، أي: يعلمهن النبي صلى الله عليه وسلم: (بميامنها).
فهذه هي السنة في الغسل، فيبدأ الإنسان الذي يغسل الميت بإزالة النجاسة من المخرجين، ثم يبدأ بمواضع الوضوء، فيبدأ بالأيمن قبل الأيسر، ثم الغسل لجميع أجزاء الجسم.(65/6)
استحباب التنعل باليمين والنزع بالشمال
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمنى أولهما تنعل، وآخرهما تنزع).
فهذا أمر إرشاد منه عليه الصلاة والسلام يدل على الاستحباب، فإذا لبس الإنسان نعله بدأ باليمنى لشرفها، والإنسان مادام أنه منتعل كأنه راكب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما زال الرجل راكباً ما انتعل) أي: مادام هو منتعل كأنه راكب.
إذاً: إذا لبس فليبدأ باليمنى، وإذا نزع فليبدأ باليسرى، وكأنه يؤخر اليمنى فتبقى أطول وقت وهي لابسة قبل غيرها، قال صلى الله عليه وسلم: (لتكن اليمنى أولهما تنعل) أي: إدخال الرجل اليمنى أولاً في النعل وبقاؤها فيه كرامة: (وآخرهما تنزع) أي: آخر الرجلين تنزع منها النعل.(65/7)
استحباب اليمين للطعام والشراب والثياب
قال النووي رحمه الله: [وعن حفصة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه) أي: يجعل يمينه ليوصل بها الطعام والشراب إلى فيه، ويدخل اليد اليمنى في القميص عند ارتدائه.
(ويجعل يساره لما سوى ذلك)، أي: ويجعل اليسرى لما سوى ذلك، كإزالة مخاط وغائط وبول ونحوه.
قال: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا لبستم، وإذا توضأتم فابدءوا بأيمانكم)] أي: إذا لبست ثيابك فابدأ باليمين، وإذا أردت الوضوء فابدأ باليمين.(65/8)
جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله: [وعن أنس رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر).
أي: لما حج النبي صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة الكبرى، ثم أتى منزله بمنى فنحر، ولم ينحر عن جمرة العقبة الكبرى، ثم أتى الحلاق فأمره أن يحلق جانبه الأيمن ثم جانبه الأيسر: (ثم قال للحلاق: (خذ) وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس) متفقه عليه].
وفيه دليل على جواز التبرك بآثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه لما حلق له الحلاق الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وزع شعره على الناس صلوات الله وسلامه عليه.
وفي رواية: (لما رمى الجمرة، ونحر نسكه وحلق: ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه فأعطاه إياه) أي: أن أبا طلحة أخذ شعر الجانب الأيمن كله له، وهذا يدل على أن له منزلة كبيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: (احلق) فحلقه، فأعطاه أبا طلحة فقال: اقسمه بين الناس) فأخذوا شعر النبي صلوات الله وسلامه عليه يتبركون به، ويستشفون به، ولعلهم يضعون شعرات للنبي صلى الله عليه وسلم في ماء، ثم بهذا الماء يغتسل إنسان مريض أو يشربه إنسان مريض فيشفيه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهنا
السؤال
هل يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم غيره؟
الجواب
لا، سداً للذريعة.
والغرض من هذا الحديث" بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم حتى في حلقه بدأ بالجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، وفيه رد على الأحناف الذين يقولون: يستحب في الحلق أن يبدأ بالأيسر؛ لأنه من باب الإزالة، يعني: الترفه وإزالة الشيء الذي يؤذيه، والصواب: أنه يبدأ بالجانب الأيمن للحديث المتفق عليه الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(65/9)
شرح رياض الصالحين - التسمية في أول الطعام والحمد في آخره
حاجة الإنسان إلى الطعام ناشئة عن جبلته الآدمية التي فطره الله تعالى عليها، وداعية الشهوة في نفس الآدمي ترد به موارد الطمع في تحصيل حاجته من الطعام، وقد جاء الإسلام ليهذب النفوس بآدابه الحكيمة، ومن ذلك الآداب العظيمة المتعلقة بأكل الطعام، فشرع للآكل ذكر الله تعالى على طعامه، وحمد الله تعالى عند الفراغ منه، إلى جانب بعض الآداب الأخرى؛ ليهذب نفسه، ويطرد الشيطان عن طعامه، ويحصل رضا الله تعالى عنه ومغفرته له.(66/1)
الآداب النبوية في أكل الطعام
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [كتاب آداب الطعام.
باب التسمية في أوله والحمد في آخره.
عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء.
وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت.
وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء) رواه مسلم.
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، فبعدما ذكر كتاب الآداب ذكر أدب الطعام.
ويعني بذلك: ما ينبغي على المؤمن إذا أكل أن يصنعه من ذكر الله عز وجل، ومن طريقة معينة في الأكل يقتدي فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن ترك أذية من يأكل معه، ومن ترك الجشع والنهم في طعامه وغير ذلك.
ذكر الإمام النووي هنا باب التسمية في أوله والحمد في آخره، يعني بذلك أن السنة أنك تسمي الله عز وجل عند أول طعامك، وكلنا يعرف ذلك، وفي آخر الطعام يحمد المؤمن ربه سبحانه على ما أعطاه من فضله سبحانه.
وأورد من الأحاديث حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه، وراوي هذا الحديث هو عمر بن أبي سلمة، وأبوه هو أبو سلمة، وأمه أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فـ عمر بن أبي سلمة كان حينها صبياً صغيراً، ولذلك جاء في رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا غلام! سم الله، وكل بيمينك وكل مما يليك)، وكان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فتطيش يده في الصحفة أو القصعة التي فيها الطعام، أي: يأكل مرة من أمامه ومرة من وسط الصحفة ومرة من آخرها، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأدب في الطعام، فهذا ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صبي صغير، ومع ذلك لا بد من التعليم والتعويد على الآداب في الطعام والشراب وغير ذلك؛ لأن الإنسان إذا شب على شيء شاب عليه، فإذا شب على أنه يأكل بيده الشمال، أو على أن يده تطيش في الصحفة، أو على أنه لا يحترم الذي أمامه في الأكل، أو على أنه يمد يده إلى الذي أمام غيره فيأخذه ويأكله، فإنه يصير هذا دأبه وطبعه بعد ذلك، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعود أصحابه من صغرهم على أن يتأدبوا بالآداب الشرعية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا أدب عظيم في الطعام، وهو تسمية الله سبحانه وتعالى، أي: تذكر اسم الله بقولك: (باسم الله) أو: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فتسمي ربك في أول الطعام.
قال: (وكل بيمينك) أي: لا تأكل بشمالك، وإنما كل بيمينك.
(وكل مما يليك) هذا أدب ثالث، وهو أنك تأكل من أمامك، ولا تمد يدك إلى جهة غيرك، ولكن كل من أمامك ليبارك لكم في الطعام، ولا يكون في نفس بعضكم شيء على الآخرين.(66/2)
الأدب المتعلق بمن نسي ذكر الله تعالى على طعامه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى) أي: يبدأ بتسمية الله سبحانه، ولعل الإنسان ينسى حين يأكل فيمد يده ويطعم، فيذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله فليقل: باسم الله أوله وآخره).
يعني: إذا نسي وبدأ في طعامه فحين يذكر يستدرك فيقول: (باسم الله أوله وآخره) يعني: في أول الطعام على اسم الله سبحانه نأكل، وفي آخر الطعام على اسم الله أيضاً نأكل.(66/3)
فضل ذكر الله تعالى في طرد الشياطين عن الأكل والمبيت
عن جابر كما في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء).
هذا الحديث يفسر ما قبله، ويبين الحكمة من تسمية الله سبحانه وتعالى في أول طعامه، فتسمي الله تبركاً باسمه سبحانه وتعالى، وتسمي الله سبحانه وتعالى فيحدث الخير والزيادة والبركة في طعامك، وتسمي الله عز وجل فيطرد عنك الشياطين التي تريد أن تأكل معك وتذهب بالبركة من الطعام الذي تأكله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء)، فحين تدخل البيت تقول: باسم الله.
وتعلم أطفالك ذلك، وتعلم الزوجة ذلك عند دخول البيت، وكذلك أنت حين تدخل بيت غيرك، فحين تدخل تقول: (باسم الله)، ولا تكن مصاحباً للشيطان في الدخول إلى بيتك أو بيت غيرك، فالداخل بغير ذكر الله عز وجل يدخل معه الشيطان تابعاً له، فتعود على أنك لا تدخل الشياطين بيتك بأن تدخل فتقول: (باسم الله)، وعود أولادك حين يدخلون البيت أن يقولوا: (باسم الله) فلا يأتي الشيطان ولا يدخل بيتك طالما أن الداخلين إلى البيت يقولون: (باسم الله).
قال صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم ولا عشاء) فلا ينال منك شيئاً، لن ينقص لك طعامك، ولن يذهب بالبركة الموجودة في هذا الطعام، ويقول لأصحابه: لا مبيت لك، فستنامون في الشارع، ولن تناموا داخل البيت، ولن تدخلوا مع هذا الإنسان بيته، ولا طعام لكم، فستبيتون جوعى ليس لكم طعام عند هذا الإنسان؛ لأنه ذكر الله عز وجل على طعامه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت)، فحين يدخل المرء البيت يكون الشيطان واقفاً له بالمرصاد، ليرى هل سيدخل ويسمي أم لا، فإذا لم يسم الله سبحانه وتعالى يفرح الشيطان ويقول لأتباعه: أدركتم المبيت، أي: ستبيتون الليلة في هذا البيت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: (وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)، فالشيطان يهنئ نفسه بالإنسان الذي لا يذكر الله سبحانه وتعالى، فيدخل معه بيته، ويأكل معه طعامه، فيصبح وليس هناك بركة في هذا البيت.
ولذلك فإن الإنسان الذي يعتاد على ألا يذكر الله سبحانه وتعالى تجده مبتلى بالوساوس، ومبتلى بعدم البركة، ومبتلى بأنه ينام فيرى الكوابيس؛ لأنه يدخل ويدخل الشيطان معه إلى بيته، والحل للتخلص من ذلك يسير، وهو أنه حين يدخل بيته يسمي فيقول: أبدأ مستعيناً بذكر اسم الله سبحانه تبارك وتعالى.(66/4)
استحلال الشيطان للأكل مما لم يذكر اسم الله عليه
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا إذا حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامه لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده) فهنا بيان أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم، حيث اعتادوا على أن الذي يبدأ هو النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدأ ويسمي ثم يأكلون هم معه صلى الله عليه وسلم، وفي مرة من المرات حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاماً، قال حذيفة: (فجاءت جارية كأنها تدفع) أي: جاءت طفلة صغيرة كأن أحداً دفعها، جاءت تجري إلى الطعام ومدت يدها إلى الطعام، قال (فذهبت لتضع يدها في الطعام) فيا ترى ماذا عمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنها طفلة صغيرة، فهل قال: دعوها لتأخذ من الطعام ما في نفسها؟! إنه لم يقل هذا، بل أمسك يدها صلى الله عليه وسلم، ومنعها من أن تأكل؛ إذ لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، والأعراب فيهم غلظة في أخلاقهم وصعوبة وشدة، فهم أجلاف، فجاء هذا الأعرابي، وما استأذن، ومد يده إلى الطعام ليأكله، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيده هو الآخر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يستحل الطعام ألا يذكر اسم الله تعالى عليه)، فالشيطان يريد أن يأكل من هذا الطعام، ويريد أن يمنع البركة في هذا المكان، فلأجل أن يأكل وسوس لهذه الجارية بأن: اذهبي وضعي يدك في الأكل.
فحين تمد يدها يمد هو يده مع يد هذه الجارية، ووسوس لهذا الأعرابي بأن: مد يدك بغير إذن ومن غير ذكر الله عز وجل.
ويده مع يد هذا الأعرابي، أمسك النبي صلى الله عليه وسلم بيدي الاثنين، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها) أي: لأجل أن يستحل هذا الطعام: (فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما ثم ذكر اسم الله تعالى وأكل).
فالذي يمنع الشيطان ويدفعه عن ذلك الطعام هو ذكر اسم الله تعالى عليه.
فالشيطان لا يزال وراء الإنسان يوسوس له، فإذا لم يقدر عليه يسلط عليه غيره، فالإنسان في حاله قد يذكر الله عز وجل، فيأتي الشيطان إلى هذا الإنسان ويحاول أن يوسوس له ليبعده عن ذكر الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا لم يستطع الوسوسة والخداع لهذا الإنسان فإنه يسلط عليه من بجواره، فيأتي ويلهيه بقوله: أتذكر الشيء الفلاني؟ أتذكر القصة الفلانية؟ أتذكر العمل الفلاني؟ فيخرجه عن ذكره لله سبحانه وتعالى.
ولذلك فإن المؤمن يعتصم بالله عز وجل، ويلجأ إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمي الله عز وجل عند دخوله بيته، وأكله طعامه وغير ذلك.(66/5)
تأذي الشيطان من ذكر الله تعالى على الطعام
روى أبو داود والنسائي عن أمية بن مخشي الصحابي رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يأكل) أي: في مرة من المرات كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وأمامه رجل يأكل، فهذا الرجل لم يقل: (باسم الله) قال: (حتى لم يبق من طعامه إلا لقمة) يعني: مضى يأكل، ولم يبق إلا لقمة واحدة في الطعام، قال: (فلما رفع اللقمة إلى فيه قال: باسم الله أوله وآخره.
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) فهو يرى ما لا نرى صلوات الله وسلامه عليه، حيث أطلعه الله عز وجل على أشياء من الغيب، فهنا رأى الرجل يأكل والشيطان يأكل معه من هذا الطعام، فلما تذكر الرجل في آخر لقمة وقال: (باسم الله أوله وآخره) استقاء الشيطان ما في بطنه، فلم يهنأ بهذا الطعام، ولم يستقر في جوفه، وإنما استقاء بسبب ذكر الله سبحانه وتعالى.(66/6)
محق بركة الطعام بترك ذكر الله تعالى عليه
أخرج الترمذي عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاماً في ستة من أصحابه) أي: كان في مرة من المرات جالساً ومعه ستة من أصحابه يأكلون من قصعة فيها طعام يكفي هؤلاء الستة، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه معه، وكانوا في بداية الطعام، قالت (فجاء أعرابي وجلس فأكل الطعام كله بلقمتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه لو سمى لكفاكم) أي: لو أن هذا الأعرابي الجاهل قال: (باسم الله) لكفاكم هذا الطعام.
فذكر الله عز وجل يجعل البركة تحصل في الطعام، ويجعل الإنسان يخاف من الله عز وجل، فالأكل موضوع، والذي يمنع الإنسان من أن يمد يده فيأكل ما أمامه إلا أن يتذكر ربه سبحانه، فيخاف من الله أن يحاسبه على ذلك، فلو أن هذا الأعرابي قال: (باسم الله) فذكر الله لاستحيى من كونه يقصر الأكل كله على نفسه ويأخذه كله من أمام النبي صلى الله عليه وسلم ومن أمام أصحابه، ولأكل على تؤدة، ولكفى الطعام الجميع.
ولكن الإنسان الذي لا يذكر الله يزين له الشيطان شهواته، ويقول له: كل لكي تشبع، فلن تجد أكلاً مثل هذا بعده.
فيمد يده ويأكل الطعام كله، ويترك من أمامه لا يجدون شيئاً! فالتسمية تحدث البركة في الطعام، وبها يجعل الله عز وجل في قلب الإنسان التقوى التي بها يحافظ على نفسه وعلى غيره، بل يؤثر غيره على نفسه، فحين يأكل ويرى غيره لا يأكل يقول: هو أولى مني بهذا الشيء.
فيعطي الطعام لغيره وحينئذٍ يكفي الجميع.
ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة أو الأربعة)، فإذا أكل الإنسان بمعدة كاملة أكل الطعام كله، وإذا أكل وترك شيئاً لنفسه وشيئاً لشرابه أمكن أن يأكل آخر معه فالطعام الهنيء الطيب يكفي عدداً من الناس.
فإذا قال الإنسان: (باسم الله) حدثت التقوى في قلبه، فآثر غيره على نفسه، وأشبعه الله عز وجل بالذي أكله وجعل في الطعام بركة، وأبعد الشيطان عنه.(66/7)
ما يقال عند الفراغ من الطعام
روى البخاري عن أبي أمامة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنىً عنه ربنا)، فهذا الحديث العظيم فيه أن الإنسان يقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيعرف حق المنعم سبحانه وتعالى الذي أنعم على العبد بالطعام، وأنعم عليه بالشراب، وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعَمْ سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يكفيك وهو غير مكفي سبحانه وتعالى، فهل أحد يكفي الله عز وجل؟ أما نحن فكل منا يقول: أنا أحتاج إلى من يكفيني، وأحتاج إلى من يؤويني، وأحتاج إلى من يطعمني ويسقيني.
فكلنا نحتاج إلى ذلك، أما ربنا سبحانه وتعالى فلا أحد يكفيه، فهو مستغنٍ عن العالمين سبحانه وتعالى، ولا يحتاج إلى أحد.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله) يعني: أثني على الله سبحانه بالثناء الجميل الذي يستحقه سبحانه على أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وعلى ما أنعم به علينا من فضل ونعم.
وقوله: (حمداً كثيراً طيباً) أي: يطيب هذا الحمد على لسان المؤمن، فيكون المقصود به الحمد الكثير، الحمد الذي يقوله الإنسان مع تنزيهه ربه سبحانه عن أي نقص.
وقوله: (مباركاً فيه) يعني حمداً يزداد كلما زادت نعم الله سبحانه وتعالى.
قوله: (غير مكفي) يعني: لا أحد يطعمه سبحانه، ولا أحد يسقيه حاشاه سبحانه وتعالى، فلا يحتاج إلى أحد، بل هو الذي يُطْعِمُ ولا يُطْعَمْ سبحانه وتعالى.
(ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا) يعني: لا نودع ولا نستغني عن ربنا سبحانه وتعالى، ولا نودع هذا الطعام بحيث يكون آخر طعام، فربنا سبحانه يعطي ويعطي، كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فنحن غير مستغنين عن طعام يطعمناه ربنا سبحانه، ولا عن شراب يسقيناه ربنا سبحانه وتعالى، فقوله: (ولا مودع) يعني: غير متروك الطلب.
وكأن المعنى أن ربنا سبحانه وتعالى غير محتاج إلى أحد سبحانه، ولا نودعه سبحانه وتعالى، بل نحتاج إليه أبداً سبحانه وتعالى، ولا نستغني عنه، وهذا الذكر يقال بعد الطعام.
وفي حديث آخر رواه أبو داود والترمذي من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكل طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه).
فانظر إلى كرم ربنا سبحانه وتعالى، فهو كريم عظيم سبحانه وتعالى، أعطى، وأطعم، وسقى، ثم يقول: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فإذا أكل المرء وحمد الله تعالى أو شرب وحمد الله تعالى غفر له ربه سبحانه وتعالى بالشيء القليل الذي يقوله، وهو قوله: (الحمد لله).
فقول المرء: (الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة) معناه أن ربنا هو الذي أطعمني، وهو الذي رزقني هذا من غير حول مني، أي: من غير حيلة مني، ولكن الرزق بيد الله سبحانه، فهو الذي وجهني، وهو الذي جعلني أكسب هذا الشيء بفضله ورحمته، فهو الذي يوفق العبد للكسب الهنيء الطيب، فلا حول للعبد ولا قوة له إلا بالله سبحانه وتعالى، فإذا قال ذلك غفر الله عز وجل له ما تقدم من ذنبه.
نسأل الله عز وجل أن يغفر لنا ذنوبنا، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل -اللهم- وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(66/8)
شرح رياض الصالحين - مدح الطعام وعدم عيبه وما يقوله من حضر طعامًا وهو صائم
إن النبي الكريم عليه الصلاة والسلام هو حامل لواء الآداب والأخلاق العظيمة وقد جاء متمماً لها، ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط قدم إليه لعلمه أنه إن عابه فستتأثر نفسية صاحب الطعام، وهذا كله من كرم أخلاقه عليه الصلاة والسلام.(67/1)
ما جاء في استحباب مدح الطعام وكراهة إعابته
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب لا يعيب الطعام واستحباب مدحه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه) متفق عليه.
وعن جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يأكل ويقول: نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل) رواه مسلم.
باب: ما يقوله من حضر الطعام وهو قائم إذا لم يفطر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم)، قال العلماء: معنى (فليصل) أي: فليدع، ومعنى (فليطعم) أي: فليأكل].
باب من أبواب الآداب في الطعام يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين منها: لا يعيب الطعام واستحباب مدحه.
فالسنة أن المسلم إذا قدم له طعام سواء كان طعاماً غالياً عالياً، أو كان طعاماً رقيقاً على قدر ضعيف يسير ألا يعيب الطعام ويأكل منه، ويستحب أن يمدحه فهو نعمة من الله سبحانه تبارك وتعالى، وله أن يعيب الطعام لكونه معيباً أي: إذا كان ناقص الملح أو زائد السكر فلا بأس أن يقول: هذا ناقص كذا، هذا محتاج لكذا، ويعلم الطابخ الأدب في الطبخ، فهذا ليس عيباً للطعام.
فالطعام خلقه الله سبحانه تبارك وتعالى، فمهما قدم له من طعام قبله وأكله، ولكن من الممكن أن يتكلم عن الطبخ نفسه كأن يقول: هذا طبخ رديء، أو طعام محروق، وهذا ليس عيباً للطعام كطعام ولكنه عيب في الصناعة والطبخ، فالصانع نفسه رديء في صناعته، لذلك البعض يخلط، المرأة تطبخ طعاماً سيئاً ومحروقاً وتقدمه لزوجها فيقول لها: هذا طعام غير جيد، طعام محروق، فتقول له: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط!) وهذا غير المقصود من الحديث.
إذاً: هناك فرق بين المرأة التي تجيد الطبخ وتقدم الطعام بحسب المستوى الموجود، الإنسان يحمد الله تبارك وتعالى عليه، سواءً كان أكلاً غالياً أو رخيصاً.
إذاً: هذا شيء، وأمر أن الطعام رديء في الصناعة نفسها، فعلى الرجل أن يقوم بتقويم الطباخ أو الطباخة التي تقوم بطباخته هذا شيء آخر، كأن يذهب إلى المطعم فيقدموا له طعاماً فاسداً منتهي الصلاحية، وهذا ينبغي له أن يكلم صاحب المطعم أو الطابخ بهذا الشيء، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه التواضع وأنهم مهما وجدوا من شيء كان غالياً أو رخيصاً أكلوا منه وحمدوا الله سبحانه تبارك وتعالى.(67/2)
شرح حديث: (ما عاب رسول الله طعاماً قط)
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه).
هذا من حسن خلقه عليه الصلاة والسلام، فقد كانوا فقراء وكان الطعام قليلاً، وكسرة الخبز كانت شيئاً كبيراً جداً بالنسبة لهم، وما أكل النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات طعاماً مرققاً من عيش قط صلى الله عليه وسلم، إنما كان يخبز للنبي صلى الله عليه وسلم الخبز والدقيق بنخالته، فقد كانوا يأخذنه وينفخون في الدقيق، حتى يذهب منه بعض نخالته، ويخبز بباقيها، أما أنه يعمل له منخل وينتخل فيه الدقيق مثلما يحصل الآن، فلم تكن مثل هذه الأشياء موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان عليه الصلاة والسلام يدعى إلى طعام فمع فقر الداعي يعطي للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بسيطاً من طعام، فمرة دعاه خياط إلى خبز وإهالة سنخة، والإهالة شيء مثل الزيت أو الدهن وكان قد تغير، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الذي دعي إليه ولم يعب الطعام.
إذاً: الطعام قد يكون خلقة طعاماً جميلاً، وقد يكون له فترة طويلة وبدأ يتغير شيئاً، فلا مانع لمن استساغ ذلك أكله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجد في كل حين الطعام، بل كان يبيت الليالي ذات العدد من غير طعام عليه الصلاة والسلام، وكان يضع على بطنه الحجر من شدة الجوع لكي يقيم صلبه صلى الله عليه وسلم ويستطيع المشي في الطريق، فإن وجدوا أكلوا، وإن لم يجدوا حمدوا الله سبحانه وصبروا على هذا الأمر.
فيقول أبو هريرة: (ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط، إن اشتهاه أكله)، عندما كان يوضع الضب على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يشتهيه، والضب نوع من الحيوانات الصحراوية وشكله مثل التمساح ولكنه بري، فالتمساح حيوان برمائي، وهذا يوجد في الصحاري ونحوها، وأراضي الحجاز ونجد مليئة بالضباب، وفي غيرها من المناطق الصحراوية، وهو صغير في الحجم، فكانوا يشوونه ويقدمونه لحماً يأكل، فكان العرب يشتهون ذلك، والضباب لم تكن موجودة في مكة أو المدينة، فلذلك كان يعافه، وأيضاً كان يخاف أن يكون مسخاً مسخه عز وجل من البشر على هذه الهيئة، فخشي صلى الله عليه وسلم وأخبر أن أمة من الأمم فقدت فهو يخشى أن تكون مسخت على هذه الهيئة.
وعلمنا من حديث آخر للنبي صلى الله عليه وسلم أن الممسوخ لا يعيش فوق ثلاثة أيام، فبني إسرائيل عندما مسخهم الله إلى قردة وخنازير، لم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، ولا يكون للمسوخ نسل، فهو صلى الله عليه وسلم علمنا ذلك وعرف ذلك، ولكنه لم يحرمه صلى الله عليه وسلم ولكن قد يكون من الناس من مسخ على هذه الهيئة فعافه النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه) أي: أجدني لا أشتهيه، وأكل على مائدة خالد بن الوليد وقد كان جالساً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أحرام هو؟! قال: لا، ليس حراماً) فأكله خالد، وخالد رضي الله عنه كانت زوجة النبي صلى الله عليه وسلم السيدة ميمونة خالة خالد بن الوليد، فدخل عند النبي صلى الله عليه وسلم واجتره من على المائدة، وأكله خالد ولم يأكله النبي صلوات الله وسلامه عليه.(67/3)
شرح حديث جابر: (أن النبي سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا الخل)
من الأحاديث حديث لـ جابر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم، فقالوا: ما عندنا إلا خل).
الأدم جمع إدام، ويقال: إدام، ويقال: أدمة أيضاً في المفرد.
وهذا حديث رواه مسلم من حديث جابر ورواه أيضاً من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالطريق فوجد جابراً رضي الله عنه تحت ظل بيت وكأنه استشعر أن جابر جائعاً، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبعه، فتبع النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم عند أهله، فسألهم عن الإدام، فقالوا: ما عندنا إلا خل، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم به ليأكل، وقال: (نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل) والإدام: هو الشيء الذي تغمس الخبز فيه، والإدام شيء يساعدك على ابتلاع الطعام واستساغته من زيت أو دهن أو غيره، فأكل النبي صلى الله عليه وسلم الخل وقال: (نعم الأدم الخل).
وأخبر جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه لم يزل يحبه منذ رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكله، وقد غمس الخبز بالخل فأكله صلى الله عليه وسلم ومدحه أيضاً، فيستحب مدح الطعام فقد خلقه الله سبحانه وتعالى، وهو من فضله ومن رحمته على خلقه.
والمدح للخل يبين أن هناك فائدة كبيرة في الخل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يمدحه إلا وهو يعلم فوائده، فقال: (نعم الأدم الخل) فأكله النبي صلى الله عليه وسلم وأكله جابر رضي الله عنه وبحث العلماء في ذلك.
يقول الخطابي والقاضي عياض: معنى مدح النبي صلى الله عليه وسلم: الاقتصاد في المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، فالإنسان يربي نفسه ويعود نفسه على القليل، وليس ضرورياً دائماً أن يكون ما يغمس فيه الإنسان خبزه شيئاً فاخراً عالياً، ولكن فليكن من الخل أحياناً كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقال تقديره: ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤنته ولا يعز وجوده، أي: عود نفسك على أن تأكل من الطعام الموجود عند الناس فلو عودت نفسك على الغالي وعلى الفاخر فلعله يعز في زمن من الأزمان فلا تجد هذا الطعام، فعود نفسك على الشيء القليل حتى لا تظل متعلقاً بالشيء الغالي وقد لا تجده فيحدث في نفسك شيء، لا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين، مسقمة للبدن.
ويقول العلماء أيضاً أن في هذا الحديث مدح للخل سواء عرفنا السبب في مدحه أم لم نعرف، لكن العلماء الذين بحثوا في أمر الخل الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم وقال أنه نعم الأدم، قالوا: إنه لا بد أن يكون هناك فائدة للخل فقد ذكر في موسوعة من موسوعات الصيدلة وهي موسوعة مارتن بل الصيدلانية، ذكر فيها فوائد عديدة للخل، فقد قالوا: إن الخل له فوائد يدفعنا أن نأكل منه كما أكل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يستعمل كعلاج في معالجات حالات التسمم من المواد القلوية، وهو يفيد في علاج الحمى، فالإنسان الذي أصيب بحمى عاليه يساعد على أن ينزل درجة حرارته، وإذا استخدمت كمادات من ماء الخل على رأس الإنسان أو على جسده، وقالوا: إن الإنسان يستخدم أحياناً مضادات حيوية كثيرة فتتسبب في ظهور طبقة سوداء على اللسان لا تذهب، فقالوا: إن الخل يفيد في إزالة هذه الطبقة فإذا أخذ الخل ووضع على ماء وشرب ومسح به اللسان مرة أو مرتين في اليوم لمدة أسبوع يزيل ذلك.
وقالوا: إنه مفيد في التهاب المفاصل إذا وضع على هيئة كمادات فيضاف الخل إلى الماء ويسخن ويوضع على المفاصل فيريحها.
وقالوا: إن لدغات النحل ولدغات السمك الهلامية في البحر إذا عولجت بوضع الخل عليه مخلوطاً بملح فإن الألم يخف ولا يبقى شيء.
وقالوا: في الخل وخاصة الخل المصنوع من التفاح شفاء العديد من الأمراض: التهابات المفاصل، والتهاب الأنف، وحساسية الأنف، والربو، واضطرابات الأمعاء، وأنواع من الرشوحات موجودة في الجسم، وهو الآن يستخدم للتخسيس، (نعم الأدم الخل).
وذكر الدكتور سيرلس كود وموريس هانس في كتاب عن فوائد الخل يقول: يمنع الإسهال لاحتوائه على مواد قابضة، وينشط عملية الهضم لأي إنسان؛ لأنه حامضي فيزيد من حموضة المعدة فينشط الهضم والاستقلاب في الجسم وتحويل المواد الغذائية.
قالوا أيضاً: يستخدم كمضمضات ليمنع التنخر في الأسنان، كما أنه يقتل الطفيليات الموجودة في الأمعاء، ويمكن استعماله لتحسين الهضم عند مرضى عسر الهضم، إذا كانت المعدة لا تفرز الحامض المعوي بكمية كافية، وهو مطهر للأمعاء، ويذكر صاحب الكتاب أن الخل له فوائد كثيرة فيقول: لا أقول: إنه شفاء من كل داء، ولكن فيه شفاء لأدواء كثيرة تكون في البدن.
فصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين يقول: (نعم الأدم الخل).
هذا ما وصل إليه العلماء من الأبحاث ومن الممكن أن تأتي أبحاث جديدة تثبت أشياء أكثر من هذا الذي ذكر ولكن على كل نرجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه مدح الطعام وإن كان شيئاً يسيراً قليلاً بحسب الموجود، فيمدح الإنسان الموجود من الطعام، ويحمد ربه سبحانه تبارك وتعالى عليه وعلى نعمه، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، فالمؤمن إذا أكل وحمد الله سبحانه شكر الله سبحانه فإن الله سيعطيه المزيد من فضله سبحانه.(67/4)
ما يقوله من حضر الطعام وهو صائم إذا لم يفطر(67/5)
شرح حديث: (إذا دعي أحدكم فليجب)
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل، وإن كان مفطراً فليطعم).
وهذا أدب من الآداب في الدعوة، فقد يدعوك إنسان إلى طعام وليمة أو غيرها من الطعام فتجيب دعوته مجاملة له، وأداء لما أمرت به شرعاً، فإذا كنت صائماً فهل يلزمك أن تفطر طالما أنك أجبت الدعوة وذهبت إليه؟ فالحديث هنا لا يلزمنا بذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائماً فليصل) يعني: يحضر الوليمة ويدعو لصاحب الوليمة بما يفتح الله عز وجل عليه ثم ينصرف، (وإن كان مفطراً فليطعم)، لعل الإنسان يحضر الوليمة ويكون مفطراً، فيتأنف ويقول: لا أريد أن آكل، أنا شبعان، فيؤذي صاحب الوليمة، والذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: (يتكلف لك أخوك ثم تقول: إني صائم!)، إذاً: هنا لعل الامتناع عن طعام هذا الإنسان يتسبب له في شيء من الحرج، ويقول في نفسه: لماذا لا يريد أن يأكل طعامي، هل يظن أن مالي حرام، هل يظن كذا ويتحرج من ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نأكل مع هذا الإنسان من طعامه طالما أنك مفطر، سواءً أكلت كثيراً أو يسيراً لكن المهم أن تجامله، فإن كان صائماً ولا يريد أن يفطر فليصل، وليبين عذره؛ لأن الإنسان أحياناً قد يتكلف في إحضار الطعام فيحضره لإنسان فيرد عليه ويقول: ليس لي رغبه في الطعام وهو صائم ويخشى أن يقول: أنا صائم؛ لكي لا يحبط عمله، ولكن هذا خطأ، فكونه يخاف على نفسه الرياء شيء جيد، ولكن ليس في كل وقت، إذا حضرت عند إنسان وبدأت تتهرب في الكلام وهو أعد لك أكلاً فسيسيء بك الظن، أو يظن أنك تعاف طعامه، أو أنك مستكبر عليه ولا تريد أن تأكل عنده، فأهون من هذا كله أن تقول من البداية: أنا صائم، وأجمل من ذلك أن تقول: أنا صائم وإن شئت أفطرت، ولكن أحب أن أصوم، فإذا صمت تم صومك، وإذا وجدت أن الرجل يتأذى بهذا الشيء وقد تكلف وعمل لك أكلاً وبعد ذلك تقول له: أنا صائم، وهذا كله في غير رمضان ففي رمضان شيء آخر، لكن هذا الصوم إن لم يكن في رمضان وإن لم يكن صوم فريضة واجبة كالنذر، فإذا أصر عليك فكل ولك أجر صومك ولك أجر على أنك أدخلت الفرح والسرور على قلب هذا الإنسان، إذا كان الأمر لا يؤثر معه ولكنك لا بد أن تبدي عذرك وتقول: أنا صائم، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصائم (إذا سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم)، والحكمة من قول ذلك أنه تذكرة لنفسه، أي: يا نفس! لا تردي على هذا الإنسان بنفس ما يقول، وتذكرة للآخر، فلا تؤذ إنساناً صائماً، فالله عز وجل يدافع عن الذين آمنوا.
إذاً: يجوز للإنسان أحياناً أن يقول: إني صائم، حتى لا يسيء الإنسان فيه الظن.(67/6)
ما يقوله من دعي إلى طعام فتبعه غيره(67/7)
شرح حديث أبي مسعود البدري: (دعا رجل النبي لطعام صنعه)
في الصحيحين عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: دعا رجل النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه له خامس خمسة، أي: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت معزوم وأربعة معك، فتكونون خمسة على الطعام، فتبعهم رجل فأصبحوا ستة، وعرفنا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الآخر أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة، فجاء معهم سادس والرجل أعد طعاماً لخمسة، وفي هذا الموقف لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: طعام الخمسة يكفي الستة، ففي هذا تأديب لأصحابه وهم القدوة الذين يأتسى بهم وتأديب لمن يأتي بعدهم، أن يستنوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فبيوت الناس حرمات، فإذا جاءك ودعاك لوحدك أو دعاك أنت والثاني فلا تدخل عليه شخصاً آخر، فلعله لا يحب هذا الإنسان، ولعله يفسد عليه طعامه، ولعلك عندما تأخذ هذا الإنسان معك وتدخل معه البيت تحصل بينك وبينه مشكلة عند صاحب الطعام الذي لم يدعه أصلاً، فلا تؤذ صاحب الطعام بإنسان حضر معك لم يدعه، ولكن إن اضطررت لذلك فعند دخولك عليك أن تفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تبعهم رجل فلما بلغ الباب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا تبعنا) أي لم ندعه نحن، هو الذي أتى لوحده، (فإن شئت أن تأذن له، وإن شئت رجع) فهنا لا يوجد مزاح في هذا الشيء، فهذا البيت لصاحبه، وصاحبه يدخل من يريد إلى بيته، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي).
إذاً: فعند اختيار الأصحاب يجب اختيار المؤمن وعندما أدخل بيتي إنساناً فأنا أدخل من أريد، فالإنسان الذي في ظني أنه تقي له أن يدخل البيت، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا تبعنا) أي: نحن لم ندعه هو الذي أتى بنفسه، (إن شئت أذنت له، وإن شئت رجع) أي: لن نتوسط له ولن نشفع له ولكن حسب ما تريد، فالرجل قال: بل آذن له يا رسول الله! فأذن له.
إذاً: الأدب في ذلك أن الإنسان لا يتبع إنساناً خاصة إذا كان في طعام، فلا يفعل هذا الشيء، فإذا فعل فإنه يستحق هذا الجواب الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يستهين بعض الناس بهذا الشيء، يعرف أن فلاناً داعي إنسان للطعام، فيقول له: خذني معك نأكل عنده، فيذهب معه ظاناً أن له محبة عند صاحب الطعام، وأنه يحب حضوره، فليس كل إنسان يحب هذا الشيء، فلعل إنساناً يتأذى من إنسان ويكتفي بأنه صاحبه في المسجد فقط، أو في الطريق فقط، أو في الكلية فقط، أو في المدرسة، لكن لا يريد أن يدخل بيته، لذلك لا يفرض المسلم نفسه على أحد أبداً، فإذا لم يدعه أحد لا يذهب، إلا أن تكون دعوة عامة في مسجد، أو وليمة زواج، وإذا كانت الدعوة مفتوحة للجميع، فعلى ذلك لم يحجر على أحد، أما البيوت فالبيوت حرمات لأصحابها، فقد يحب الإنسان إنساناً يدخل عليه بيته، وقد يتأذى من إنسان آخر، لذلك لا يدخل إنسان بيت أحدٍ إلا بإذنه.
وعلّم الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في إجابة الدعوة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأذى أن يأتي إليه البعض من أصحابه من غير أن يدعوهم أو يأتوا إليه ويجلسون لفترة طويلة، فغيرهم كذلك يتأذى من هذا، فعلّم الله عز وجل الجميع هذا الأدب القرآني.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على التأدب بآداب القرآن، والتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.(67/8)
شرح رياض الصالحين - من (الأكل مما يلي الآكل) إلى (كراهية الأكل متكئًا)
تكمن عظمة الإسلام في تشريعه العام الشامل الذي يهذب النفوس في صغائر الأمور وكبارها، ومن ذلك تشريع جملة من الآداب العظيمة في تناول الطعام، من حيث جلسة الأكل وما يتناول به، والجهة التي يؤكل فيها، وغير ذلك من الآداب التي ينبغي أن يراعيها الكبار ويربى عليها الصغار.(68/1)
الآداب النبوية في أكل الطعام(68/2)
الأمر بالأكل مما يلي الآكل
عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك) متفق عليه.
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كل بيمينك.
قال: لا أستطيع.
قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر.
فما رفعها إلى فيه) رواه مسلم.
باب النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل جماعة إلا بإذن رفقته.
عن جبلة بن سحيم قال: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير فرزقنا تمراً، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل، فيقول: لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران، ثم يقول: إلا أن يستأذن الرجل أخاه) متفق عليه.
أورد الإمام النووي - رحمه الله - في كتاب رياض الصالحين في كتاب آداب الطعام، في باب الأكل مما يليه ووعظه وتأديبه من يسيء أكله حديث عمرو بن أبي سلمة، والمعنى واضح، وهو أن المسلم إذا أكل من طعام فإنه يأكل من الطعام الذي يليه، دون أن تطيش يده في الصحفة فيأكل مرة مما يليه ومرة من آخر الصحفة! فيأكل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وعلمهم.
ومما ورد من تعليمه صلى الله عليه وسلم أصحابه حديث عمر بن أبي سلمة قال: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وذلك لأنه كان ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ أمه أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة، وكان مع أبيه ومع أمه في الحبشة رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
ثم قدم مع أبيه وأمه إلى المدينة عند النبي صلى الله عليه وسلم، ومات أبوه أبو سلمة رضي الله تبارك وتعالى عنه، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، وطلب من أم سلمة رضي الله عنها أن تسأل الله عز وجل أن يخلفها خيراً من أبي سلمة، وعلمها أن تقول: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها).
ولم تكن تدري ما هو الخير من أبي سلمة، فقالت: ومن خير من أبي سلمة؟! ولم يخطر على بالها أن النبي صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، وإنما نظرت في الصحابة لترى من هو خير من أبي سلمة، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يخطبها بعد انقضاء عدتها! وتصير أم سلمة أماً للمؤمنين وزوجة للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ويصير ابنها هذا في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه يتيم في حجر النبي صلى الله عليه وسلم يرعاه ويحوطه وينظر في أمره، وهو في بيته عليه الصلاة والسلام، فكان ربيب النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان وهو صبي صغير يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد تعود آداب الطعام بعد، فكانت يده - كما يقول -: تطيش في الصحفة، يعني: إذا أكل يضع يده في أي مكان، ويغمسها في الصحن الذي يلي النبي صلى الله عليه وسلم.
فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يا غلام! سم الله تعالى)، يعني: قل: (باسم الله) حين تأكل، (وكل بيمينك، وكل مما يليك).
وهذه آداب من آداب الطعام عظيمة جداً، فعلى الإنسان أن يعود أولاده على آداب الطعام وهم صغار لتبقى تلك الآداب عادة للصبي سواءٌ أكان وحده، أم مع أقربائه، أم مع الغرباء عنه، فلا ينتقد أمام الناس حين يأكل.
وكم من إنسان يكون كبيراً وإذا جلس ليأكل يقوم الناظرون فينظرون إليه بنظرة انتقاد لأنه لا يعرف كيف يأكل، فيده تطيش في الطعام، ويأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويقذر المائدة؛ إذ ليس عنده من آداب الطعام شيء.
وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يفعلوا ذلك، فقال: (يا غلام! سم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، وهذا تأديب، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الكبار والصغار ويؤدب الجميع عليه الصلاة والسلام.
ثم إن عمر بن أبي سلمة صار بعد ذلك رجلاً كبيراً، وشهد مع علي رضي الله عنه يوم الجمل، واستعمله علي رضي الله عنه على فارس، واستعمله على البحرين، فاستحق أن يتولى أمر الناس ويكون أميراً على بلاد فارس وعلى بلاد البحرين، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وعاش زمناً طويلاً، حيث مات في حدود سنة ثلاث وثمانين رضي الله تبارك وتعالى عنه، أي أنه عمر أكثر من خمسة وثمانين عاماً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض هنا: بيان تعليم الأطفال كيف يأكلون، حتى لا يمد الصبي يده إلى طعام ليس له.
ولعلنا نذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى تمرة من تمر الصدقة مد الحسن أو الحسين يده إليها فأخذها ووضعها في فمه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرفه الله عز وجل عن ذلك، وكذلك آل بيته عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة؛ إذ تحرم عليهم الصدقة، فلا يجوز لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلوا من الصدقة.
بل شرف بذلك موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العبيد الذين أعتقهم النبي صلى الله عليه وسلم فانتسبوا إليه بالولاء.
فلما أخذ الحسن أو الحسين تمرة من الصدقة ووضعها في فمه رآه النبي صلى الله عليه وسلم، فأخرجها صلى الله عليه وسلم من فمه، وقال: (كخ كخ.
أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟).
والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو أرحم خلق الله بالخلق عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك يعود هذا الصغير على أن لا يأكل هذه التمرة ولو كان قد وضعها في فمه.
ولو أن أحدنا رأى ابنه يفعل ذلك، فهل - يا ترى - سيفعل مثلما فعل النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه كحال الكثير سيقول: ليس في ذلك شيء، فهذا ولد صغير لا يعرف، وسأدفع ثمنها؟! ولم يقل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخرج التمرة من فمه، لأنه لا يحل له أن يأكلها، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: (كخ) لطفل عمره سبع سنين، بل قال ذلك لولد عمره سنتان أو نحوهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك ويردفه بقوله صلى الله عليه وسلم: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟)، وقد يفهم الصبي وقد لا يفهم هذه الكلمة.
ولكن ليفهمها الكبار الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم، فيتعلمون كيف يربون أبناءهم على ذلك، وهو أنه ما يحرم عليك لا يجوز لك أن تمد يدك إليه.
وقد نجد اليوم العكس، فالأب يأخذ ابنه ويذهب به إلى السوق، ويمد الولد يده إلى تمرة فيأكلها وأبوه ساكت كأنه لا يعنيه هذا الأمر، ويمد يده إلى خيار أو نحوها ويأكل، والأب والأم لا يتكلمان بشيء.
بل قد يقول: ليس في ذلك شيء! وهذا ليس من الأدب، وإنما هو أكل حرام بغير إذن من صاحب الطعام، فليس لك أن تمد يدك إلى طعام إنسان إلا بعد أن يأذن لك في ذلك، فإذا قال لك: ذوق فلتذق وحدك دون أن تدع أحداً معك يمد يده إلى هذا الطعام.(68/3)
الأمر بالأكل باليمين
عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: كل بيمينك)، فهذا رجل أكل مستكبراً بيده الشمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمه، والفرض على كل مسلم إذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بشيء أن يقول: سمعنا وأطعنا؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
وكذلك قال الله عز وجل مقسماً: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، فعلى كل مؤمن أن يسلم بما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو إن إنساناً كان أعسر يأكل بيده الشمال، وهو متعود على ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك)، فالخير أن يأكل بيمينه، لكن بعض الناس فيهم استكبار، فهذا الرجل يستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (لا أستطيع) مع أنه يحرك يديه، فلما قال ذلك وعلم النبي صلى الله عليه وسلم قدرته وعلم استكباره قال: (لا استطعت).
يعني: إذا كان الأمر كذلك فلا استطعت أن تأكل بها.
قال: (فما رفعها إلى فيه) يعني أنه كان قد رفع اللقمة بشماله من أجل أن يضعها في فمه، فلما قال: لا أستطيع أن آكل باليمين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا استطعت)، فلم يرفعها إلى فمه.
وقد كان في قدرته أن يأكل بيمينه مع سلامة شماله، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فشلت يده التي رفعها فما استطاع أن يرفعها.(68/4)
النهي عن القران في الأكل مع الجماعة
في الحديث الآخر النهي عن القران بين تمرتين ونحوهما إذا أكل المرء في جماعة إلا بإذن رفقته، فهنا تعليم الصغار والكبار آداب الطعام، فإذا كان الطعام فيه تمر أو نحوه مما يؤكل واحدة واحدة، وكان معك أحد يأكل فالأدب أن تأكل واحدة واحدة، كما يأكل هو، إلا أن يكون الأمر الجاري هو الاتفاق على تأكلا اثنتين اثنتين أو ثلاثاً ثلاثاً، أو استأذن أحدكما صاحبه، لكن لا تعود نفسك على هذا الشيء.
فهنا يقول جبلة بن سحيم: (أصابنا عام سنة مع ابن الزبير).
فقوله: (عام سنة) يعني: عام جدب وقحط وشدة، قال: (فرزقنا تمراً) يعني: قسم علينا تمراً، قال: وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يمر بنا ونحن نأكل.
وذلك في عام مجاعة لم يصيبوا فيه إلا التمر فكانوا يأكلون التمر، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (لا تقارنوا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران) يعني: لا تأكلوا اثنتين اثنتين، ولا يمد أحدكم يده ليأخذ تمرتين تمرتين، بل ليأخذ كل منكم واحدة واحدة من الطعام الذي أمامكم.
وذلك ليعلم المرء أنه كما أن له حقاً في الطعام فللذي يأكل معه - أيضاً - حق في الطعام، فإذا كان سيأكل أكثر من واحدة فإنه سيقول: اسمحوا لي بأن آكل اثنتين اثنتين.
وهذا صعب على نفس الإنسان، وحينئذ سيستأذن مرة وسيستحي بعد ذلك فلن يستأذن، وحينئذ سيأكل واحدة واحدة.
فهذا أدب يؤدبنا به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تأكل طعام غيرك، وإلا فإن الجميع سيقومون وفي نفوس بعضهم شيء على الآخرين، فتسمع بعضهم يقول: فلان هذا لا أحب أن آكل معه؛ لأنه يقعد ليأكل معنا فيمد يده ليأكل الطعام كله، كما جاء الأعرابي وأكل الطعام الذي أمام النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكفي ستة أفراد، فأكله هو كله، ولم ير أن غيره محتاج إلى أن يأكل، بل نظر إلى نفسه فقط! فهذا الذي يكون بهذا المنظر يكون بغيضاً عند الناس، فالناس لا تحبه ولا تحب أن تأكل معه، وفي النهاية سيحصل أن الطعام سيُخفى عن هذا الإنسان، ومما يذكر في ذلك أنه في الاعتكاف كان الطعام يوضع في الدور الأرضي من المسجد، وكان الأكل مباحاً لمن شاء، وكان الناس يراعي بعضهم بعضاً، ثم إذا بناس من الشارع يدخلون ليأكلوا فكان أحدهم يمد يده أول الأمر إلى اللحم فيأكله ويترك المعتكف في المسجد ليل نهار من غير أن يصيب حاجته، فكان الحاصل في النهاية أن منع هذا الأمر، وصار الأكل في الدور الثاني أو الدور الثالث بعيداً عن الناس، وصار ممنوعاً أن يأكل أحد إلا المعتكفين، فانظر إلى هذا الجاني كيف مُنع من الطعام ومنع غيره؛ لأنه أكل شيئاً ليس له، أكل طعام غيره ولم يعرف أن هذا معتكف وأن هذا طعامه، وهذا الداخل ممن يأكل ويخرج ويذهب إلى بيته ليأكل، فلما مد يده إلى أشرف الطعام الموجود عوقب بعد ذلك بأن يحرم منه.
وكذلك كل إنسان طماع، لو أنه اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى وراعى غيره في طعامه وعرف آداب الطعام؛ فإن الناس سيحبون أن يأكلوا معه؛ لأنه طيب؛ ولأن قعدته فيها بركة للناس.
وأما الإنسان الطماع فإنه لا أحد يحب أن يأكل معه، ولسان حال الآكل معه: سأترك لك طعامي، لكن ليس في كل يوم أترك لك الطعام؛ لأني محتاج إلى أن آكل لأقوم للصلاة وللعمل، فلن تأكل طعامي كل يوم.
فهنا تعلمنا الشريعة آداب الطعام.
والتسمية عظيمة جداً؛ فإنها تمنع الشيطان من أن يجلس معك على الطعام، وتمنعك شر نفسك، فالإنسان إذا كان في نفسه شيء من الشر فنوى أن يأكل الطعام طمعاً فإنه يذرك الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحيي ويتأدب بآداب الطعام حين يأكل.(68/5)
الحث على الاجتماع على الطعام رجاء حصول بركته
من الأبواب المتعلقة بآداب الطعام هنا: [باب ما يقوله ويفعله من يأكل ولا يشبع] فإذا كان الإنسان يأكل ولا يشبع، ويريد أن يأكل كثيراً فإنه يعمل بما رواه الإمام أبو داود بإسناد فيه ضعف وله شواهد بمعناه عن وحشي بن حرب رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! إنا نأكل ولا نشبع)، وطعامهم كان قليلاً، ومع قلة الطعام كان كل واحد يأخذ نصيبه ويقعد ليأكل، فلا يكيفهم الطعام.
لما قالوا ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلعلكم تفترقون)، فقالوا: نعم.
قال: (فاجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه)، فالجواب من النبي صلى الله عليه وسلم كان متعلقاً بأمر ليس على بالهم فلماذا كانوا يأكلون متفرقين؟ إن العادة أن كل واحد يقول: أريد نصيبي؛ إذ الطعام قليل، فلو قعدت آكل مع الناس سيأكلون نصيبي، فكان واحد يأخذ نصيبه من أجل أن لا يأخذ أحد حق الآخر، وكان الطعام لا يكفيهم، وكان أحدهم يأكل ولا يشبع من قلة الطعام، فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم على عكس ما توهموه، ومع الإيمان وتقوى الله سبحانه وتعالى يحدث ما ليس في حسبانك، فالبركة تنزل من عند رب العالمين سبحانه.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يأكلوا جميعاً فقال: (فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله)، فإذا حصل ذلك جاءت البركة من عند رب العالمين، ويبارك في هذا الطعام، فكان الأمر على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
والبركة شيء لا يراه الإنسان، بل شيء يستشعره بقلبه ويستشعره بما يكفيه من هذا الطعام الذي دخل في فيه.
فالطعام هو هو، وقد كان كل واحد يأخذ نصيبه لوحده ويأكل ولا يكفيه الطعام، ولما وضعوا الطعام كله وجلسوا جميعاً، جاءت البركة من عند ربنا سبحانه، فأكلوا وشبعوا، فما هو الذي حصل هنا؟ لقد زاد الطعام وإن لم يزد أمامهم في النظر، ولكن جاءت البركة من عند الله سبحانه.
فعلم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة وعلم من بعدهم الاجتماع على الطعام؛ حتى تأتي البركة من عند الله سبحانه.
وقد كانوا أحياناً يرون هذه البركة أمامهم شيئاً حقيقياً، وأحياناً تكون شيئاً مدركاً في النفس.
ومن ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد جاءه ضيوف في يوم من الأيام، وقد كانوا ضيوف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم طعام يطعمه هؤلاء الضيوف، فأخذهم أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ونادى ابنه عبد الرحمن ليطعم هؤلاء الضيوف، ثم تركهم وانصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسهر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم رجع فوجد الضيوف لم يأكلوا، فلما سألهم عن سبب ذلك قالوا: انتظرناك! فقال: والله لا آكل من هذا الطعام.
فقالوا: والله لا نأكل.
أي: ونحن - أيضاً - لن نأكل.
وهذا تعنت من الضيوف، حيث وضع الطعام، وإذا وضع فما هو المعنى لانتظارهم إلى أن يأتي أبو بكر ليأكل معكم؟ فلذلك غضب أبو بكر وأقسم أنه لا يأكل هذا الطعام، ولما وجد أن الضيوف لن يأكلوا رجع في يمينه؛ فاليمين يسهل أن أكفرها، ولا داعي لأن أحرج الضيوف، ولا داعي لانصرافهم من غير أن يأكلوا.
فلما قالوا ذلك قال: إنما كانت هذه من الشيطان.
وجلس وأكل، وأكل الضيوف، وإذا بالطعام يزيد، فقد كان ما في الصحفة يربوا من أسفله، وحين قاموا عنها كانت أكثر مما وضعت أمامهم! فهنا شيء ملحوظ محسوس كانوا يرونه أمامهم.
فإذا به يأخذ الصحفة ويذهب إلى امرأته فيقول: ما هذا يا أخت بني فراس؟! أي: ما هو الذي حصل في الطعام؟ فقالت: والله لهي الآن أكثر مما وضعناها.
فأخذها وذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبره أنها بركة من عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
وليست هذه هي المرة الوحيدة، بل حدث ذلك مرات ومرات، فقد خرجت البركة من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم في ماء قليل يسقي به جيشاً كاملاً صلوات الله وسلامه عليه في يوم الحديبية وفي غيره.
ووضع صلى الله عليه وسلم سهماً في عين ماء بالحديبية كان الماء فيها قليلاً وإذا بالعين تجيش بالماء، ويشرب منها الجيش، ويسقون إبلهم وما معهم من هذه العين.
فالبركة هنا شيء حقيقي يراه الإنسان زائداً أمامه، وقد لا يرى زيادة، ولكن يعلم أنهم كانوا عشرة أنفار يقعدون على مثل هذا الطعام فلا يكفيهم، فصار يكفيهم، فهذه بركة لم ترها، ولكن الله سبحانه وتعالى جعلها في الطعام.(68/6)
الأمر بالأكل من جانب قصعة الطعام دون وسطها
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب الأمر بالأكل من جانب القصعة والنهي عن الأكل من وسطها].
وأورد الحديث الذي يرويه أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه).
وقد جرت عادة الناس بأن الأكل من وسط الطعام يقذره في أنفسهم ويجعل شكله غير لائق.
وهذا صحيح، إلا أن هناك أمراً أهم، وهو أن ربنا سبحانه وتعالى - إذا تعلمنا آداب الطعام - ينزل بركة من السماء في وسط الصحفة، فإذا بالطعام يزيده الله سبحانه وتعالى ويبارك فيه.(68/7)
الجلسة المستحبة في الأكل
روى أبو داود عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: (كان للنبي صلى الله عليه وسلم قصعة يقال لها: الغراء)، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمي ما يملكه، فيسمي الفرس الذي يركبه، ويسمي الحمار الذي يركبه، والناقة التي يركبها، ويسمي القصعة التي يأكل فيها عليه الصلاة والسلام.
فهذه القصعة كان يقال لها: الغراء، وكأنها كانت بيضاء، أو لما يوضع فيها من لحوم وغيرها، قال: (يحملها أربعة رجال) فهذه القصعة كان لا يقدر على حملها إلا أربعة رجال، وهذا من كرمه صلوات الله وسلامه عليه، فكان يملأ هذه القصعة ويضعها لأصحابه ليأكلوا قال: (فلما أضحوا وسجدوا الضحى أتي بتلك القصعة) أي: كان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الفجر ويجلس في مصلاه يذكر الله سبحانه إلى وقت الضحى، فلما صلوا الضحى أتي النبي صلى الله عليه وسلم بتلك القصعة، قال: (وقد ثرد فيها) يعني أنه موضوع فيها خبز عليه اللحم، قال: (فالتفوا حولها، فلما كثروا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فالقصعة كان يحملها أربعة رجال، فحجمها قد يكون مثل الطست، فإذا جلسوا حولها وهم مجموعة لن يسعهم المكان، فكان لابد أن كل إنسان يأخذ ويبتعد عنها قليلاً لتتسع الدائرة ويكفي المكان للجميع، فلما وجدهم قد كثروا جثا عليه الصلاة والسلام أي: اعتمد على ركبتيه، أي: جلس على ركبتيه على هيئة القاعد للتشهد في الصلاة، فرآه أعرابي فقال: (يا رسول الله! ما هذه الجلسة؟) ولم يكن الأعرابي متعوداً على ذلك؛ إذ تلك الجلسة جلسة إنسان خاشع في صلاة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً)، فهو عبد لله سبحانه، كرمه الله بهذه الرسالة العظيمة.
وأما الجبابرة والملوك وأشباههم، فإن أحدهم يجلس ليأكل لوحده، وحوله الحراس قائمين يحرسونه، أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجلس مع غيره ويأكل كما يأكل غيره، ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد)، فعليه الصلاة والسلام.
وكان يمنعهم أن يمدحوه بما ليس فيه عليه الصلاة والسلام، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله فقولوا: عبد الله ورسوله)، عليه الصلاة والسلام.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يأكل: (كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يبارك فيها)، فالقصعة كانت كبيرة يحملها أربعة رجال، ولكن مع ذلك كان عددهم كبيراً، ويمكن أن تنفذ بسرعة، فأمرهم بأن يتأدبوا بأدب الطعام، فكل واحد يأكل مما يليه ولا أحد يمد يده إلى وسط الصحفة.
والعادة أنه في وسط الصحفة يوضع لحم أو نحوه فيصبر الإنسان حتى يبلغ هذا المكان فيأخذه منه، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأدب، وعلمهم تلك الجلسة، فلم يجلس متكئاً، وهذا الأدب يجيء في الباب الآتي، حيث يقول الإمام النووي: [باب كراهية الأكل متكئاً].
والمراد بذلك التمكن من الأرض، وقد جاء في ذلك حديث رواه البخاري عن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا آكل متكئاً) والمتكئ إذا كان قاعداً متربعاً على الطبلية أو على الأرض فمعنى ذلك أنه سيأكل كثيراً.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فما كانت هذه عادته، وليس بحرام أنك تجلس متربعاً من أجل أن تأكل، إنما قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أعمل هذا ففيه بيان أن ذلك خلاف الأولى، ولم يحرم ربنا علينا ذلك، بل قال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أدباً من الآداب، وهو أنك إذا أكلت أن تأكل شيئاً وتدع شيئاً، فاجعل في معدتك الثلث لطعامك والثلث لشرابك والثلث لنَفَسِك، فإذا جلست متكئاً فمعنى ذلك أنك ستأكل كثيراً، ولعلك تتخم بهذا الطعام.
يقول الخطابي: المتكئ هو الجالس المعتمد على وطاء تحته قال: أراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد كفعل من يريد الإكثار من الطعام.
وهذا ليس بحرام، ولكنَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا أعمل هذا الشيء.
فلا يجلس جلسة تدعو للإطالة، وكذلك النوم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينام على سرير من حبال، فيوضع له عليه شيء عليه الصلاة والسلام، كثوب مثني ثنيتين، فينام عليه وتؤثر حبال السرير في جنبه صلى الله عليه وسلم.
وفي مرة ثني ما يوضع على السرير أكثر مما كان يثنى، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم تلك النومة مريحة زيادة على ما يلزم، ومعنى ذلك أن الإنسان لن يقوم ليصلي صلاة الليل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثنى كما كان.
ونحن اليوم ننام على قطن لم يره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نام عليه عليه الصلاة والسلام، ولم يحرم ذلك، ولكن يعلمنا أن مثل هذا الشيء يعود الإنسان على الراحة، فإذا تعود على الراحة يبقى دائماً يريد أن ينام على السرير الوثير من أجل أن يستريح، فإذا أراد أن يصلي بالليل وجد السرير ممتعاً فيقول: لا أريد أن أقوم، ويضيع الفجر، ثم يقوم في الضحى وقد فاته الصبح.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد خلق الله عليه الصلاة والسلام في نومه، وكذلك إذا قعد كان يقعد على الأرض صلى الله عليه وسلم، ولا يجعل تحته وسادة، ولا يجعل تحته شيئاً، خاصة عند الأكل، وإن كان في غير الأكل قد يجلس على وسادة عليه الصلاة والسلام.
يقول الخطابي هنا: بل يقعد مستوفزاً لا مستوطئاً، ويأكل بلغة، وأشار غيره إلى أن المتكئ هو المائل على جنبه، وهذا أشد فالمتكئ يقعد متربعاً، وهذا ليس حراماً، ولكن لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؛ خوفاً من كون هذه الجلسة تدعو للإكثار، بحيث يقعد فيأكل فترة طويلة فيمتلئ، فما كان يفعل ذلك، إنما كان يجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وهي جلسة الجاثي يجثو على ركبتيه، أو أنه يقعد على رجل وينصب الأخرى ويضع عليها يده صلى الله عليه وسلم، وهي جلسة الذي لا ينوي أن يقعد طويلاً؛ لأنها جلسة متعبة، فكان في طعامه يجلس كذلك عليه الصلاة والسلام.
وقال البعض ممن فسر الحديث: المتكئ الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم جلسته أن يجلس متكئاً على أحد جنبيه، كما يحصل أحياناً أن يكون الإنسان متكئاً على الأرض على مرفقه ويأكل بيده الثانية وهو على هذه الحال، فهو قاعد مستريح همه في الطعام، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل هذا، بل قال: (لا آكل متكئاً)، وفي حديث لـ أنس رواه مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مقعياً يأكل تمراً) أي أنه جالس على مقعدته.(68/8)
شرح رياض الصالحين - من (استحباب الأكل بثلاث أصابع) إلى (استحباب إدارة الإناء عن يمين المبتدئ)
الطعام والشراب نعمتان من نعم الله تعالى، ويجب أن نشكر الله على ذلك، ومن الشكر أن نتأدب بآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم عند الأكل والشرب فمن ذلك: التسمية، والأكل مما يلي، والأكل بثلاث أصابع، ولعقها بعد الأكل، ولعق الصحفة، وعدم التنفس في الإناء، والشرب ثلاثاً، والتيامن عند سقي الآخرين.(69/1)
أحاديث في آداب الطعام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الأكل بثلاث أصابع، واستحباب لعق الأصابع وكراهة مسحها قبل لعقها، واستحباب لعق القصعة وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها، ومسحها بعد اللعق بالساعد والقدم وغيرهما.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها) متفق عليه.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها) رواه مسلم.
وعن جابر رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) رواه مسلم.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها، ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة) رواه مسلم].
هذا باب آخر من أبواب آداب الطعام ذكر فيه الإمام النووي جملة من الآداب، منها: استحباب الأكل بثلاث أصابع، واستحباب لعق الأصابع، فالإنسان بعد الانتهاء من أكله لو بقي شيء من الإدام في أصابعه فإنه يلحسها بلسانه.
وكراهة مسحها قبل لعقها وهذا فعل الإنسان المترف المستغني فإنه بعد ما أكل يمسح يده في فوطة أو في شيء وما زال عليها بقايا من الأكل.
واستحباب لعق القصعة فإذا أكلت طعاماً فليكن الطعام في الطبق أو الصحن الذي تأكل فيه، فإذا انتهيت فالعق ما تبقى في الصحن من الإدام الباقي لعلة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخذ اللقمة التي تسقط منه وأكلها، وجواز مسحها بعد اللعق بالساعد والقدم وغيرهما، فإذا سقطت على الإنسان اللقمة على الأرض فالمستحب أنه يأخذها ولا يتركها، وكذلك إذا انتهى من طعامه وبقي شيء بعد ما لعق يده جاز أن يمس يده في يده الأخرى إذا لم يجد ماء ومناديل يمسح بها، فعلى ذلك جاز مسح يده في يده الأخرى أو في ساعده أو في رجله.
والدين الإسلام دين عظيم، ودين فيه يسر، والإنسان الناظر إلى هذا الدين يجد فيه الذوقيات والأخلاق العظيمة الراقية، ومراعاة الجميع الغني والفقير، ومراعاة الأحوال، فقد تكون غنياً اليوم وفقيراً غداً فراع النعمة التي منحك الله سبحانه تبارك وتعالى، وحافظ عليها، وتأدب بآداب تنفعك في وقت غناك وفي وقت فقرك.
فهنا يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم المحافظة على نعمة الله سبحانه، فالمحافظ على النعمة جدير أن يحفظه الله عز وجل وأن يحفظ له النعمة التي في يده.
ولو زالت عنك هذه النعمة لا تلوم نفسك بأنه كانت عندي النعمة، وكنت أستكبر وأقعد آكل وأنا مضايق وآكل وأنا شبعان، وأرمي الأكل وإذا وقع مني ما يهمني، والآن أنا محتاج لهذا الشيء! ما تضيع النعم حتى لا تندم يوماً من الأيام على ما فاتك من نعم الله سبحانه أو على تقصيره في شأن هذه النعم.
والإنسان إما غني واجد، أو فقير فاقد، فعد نفسك أنك اليوم واجد، وغداً فاقد، فاعمل لهذا اليوم الذي سيأتي، تأدب بالأدب مع الله عز وجل ومع الخلق، فاليوم أنت موظف وغداً قد تفقد الوظيفة.
وعامل الخلق المعاملة التي سيدوم لك أثرها بعد ذلك من أنك في حياتك محبوب عند الناس وبعد وفاتك يدعون لك، كذلك مع نعم الله سبحانه، فحافظ على النعمة، فالنعمة موجودة فكل واشرب ولا تسرف، وتعود الآداب التي علمتك الشريعة كيف تصنع معها.
فنحن تركنا الآداب الشرعية وبدأنا ننظر للذوقيات الذي اخترعها الأجانب وإن كانوا قد يأخذون هذه الذوقيات من ديننا ومن أفعال النبي صلوات الله وسلامه عليه، فنحبها بعد ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها؛ ولأن الغرب أخذوا بها وعملوا بها فنعمل بها! فالأولى أن نعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم اتساءً واقتداء به صلى الله عليه وسلم، لنؤجر على هذا الشيء في اقتدائنا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليحفظ الله لنا هذه النعم التي معنا.(69/2)
شرح حديث: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها)
من الأحاديث التي جاءت حديث لـ ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها).
حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانت فيها ضيق وشدة، فكان يجد أحياناً وكثيراً لا يجد عليه الصلاة والسلام، وليس وحده بل وأصحابه كذلك قد يجدون أياماً وقد لا يجدون.
ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من شدة الجوع وقد عصب الحجر على بطنه عليه الصلاة والسلام، فيمشي في الطريق حتى لا يشعر بالجوع، بل كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة، وأعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع).
والإنسان الجائع لا يستطيع أن ينام من شدة الجوع، وحين يأتي علينا شهر رمضان ونجوع في النهار فإننا نهرب من الجوع بالنوم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يتخلص من الجوع بالمشي؛ لأنه غير قادر أن ينام من شدة الجوع، فيمشي في الطريق عليه الصلاة والسلام، وقد يجد من كبار أصحابه من حالهم كحاله صلوات الله وسلامه عليه كـ أبي بكر، وعمر رضي الله عنه.
فهو عليه الصلاة والسلام يعلم المؤمنين أن يتذكروا أنهم في يوم من الأيام قد جاعوا فلا يبطروا بالطعام بأن يأكلوا ويتركوا أكلاً قليلاً في آخر الطعام، فإن البركة تنزل في الطعام، ولا يدرون في أي طعامهم البركة.
وقد تكون هذه البركة في آخر جزء من طعامك الذي رميته في كل ذرة من ذرات طعامك قد تكون فيما تركت.
فحين تغرف لنفسك الطعام اغرف على قدر ما أنت آكله بحيث تأكل جميع ما في الصحن ولا تترك شيئاً بعد ذلك لئلا تضيع منك بركة هذا الطعام.
وقد تكون البركة في كمية قليلة جداً في الشيء الذي بقي على يدك، فالعق أصابع يدك بعد الطعام ولا تمسحها بالمنديل فيتوسخ، وبعد لعقها امسح بالمنديل أو اغسل يديك.
فتعلم أدب الطعام من النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحوالك، فهذه عادة المسلم في كل وقت، فهي ملزمة للمسلم، فيعود نفسه ويربيها بأدب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فيفعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا يفعل أفعال المستكبرين.(69/3)
شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل بثلاث أصابع)
يقول كعب: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع)، الآداب عند الغرب أن الإنسان لا يأكل بيده كلها وإنما يأكل بثلاث أصابع ولا يملأ يده بالطعام، ولا يقعد أبداً على الطاولة أو يحط مرفقه عليها بأن يتكأ والطعام موضوع عليها.
فهذه آداب إسلامية من عندنا وليست من عندهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع صلوات الله وسلامه عليه، فإذا فرغ من طعامه لحسها أو لعقها صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يأكل متكئاً، وكان الصحابة يتأسون به فيفعلون مثل فعله، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].(69/4)
شرح حديث: (أن الرسول أمر بلعق الأصابع والصحفة)
في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وعلل الحكمة في ذلك فقال: (إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)، فأنت تقول: يا رب بارك لي فيما رزقتنا وأعطيت وقنا عذاب النار، فينزل الله البركة على الطعام ثم في آخر الأكل نرمي الباقي في القمامة وكان فيه البركة! فيعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن تلعق أصابعك بعد الأكل؛ لأن البركة قد تكون في هذا الشيء الباقي الذي أنت ستغسله أو ستمسحه أو سترميه، كذلك الصحن الذي أمامك العق آخر لقمة فيه وكلها فلعل أن يكون فيها البركة فتنال من بركة رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى.(69/5)
شرح حديث: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى)
وحديث آخر أيضاً لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وقعت لقمة أحدكم فليأخذها فليمط ما كان بها من أذى وليأكلها).
اللقمة التي وقعت من الإنسان إما أن تقع في مكان نظيف أو في مكان فيه تراب أو شيء آخر، فإذا وقعت في مكان نظيف فخذها وكلها مرة ثانية، وإن وقعت في مكان فيه أذى فأمطه وإذا لم يمكن إماطة الأذى منها فاتركها.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)، فالذي يترك الطعام الواقع منه فكأنما يترك تلك اللقمة للشيطان، وكأنه يدعو الشيطان ليأكل معه، فتضيع البركة لإنه ترك الشيطان يأكل معه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل)، المنديل من المندلة والتمندل بمعنى: إزالة الوسخ، فالمنديل يعني: الشيء الذي تزيل به الوسخ عن يدك أو جسدك، فالمنديل كلمة عربية.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة).
فيأكل الطعام الذي أمامه ولا يترك منه شيئاً للشيطان إذا وقع منه، فإذا كان لم يصبه أذى أخذه فأكله، وإذا أصابه أذى أماط عنه الأذى وأكل الباقي ولا يترك منه شيئاً للشيطان فإنه لا يدري في أي طعامه البركة.
وفي حديث آخر أيضاً عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى)، كأن حرباً بينك وبين الشيطان مباشرة في بيتك، وفي مسجدك، وفي صلاتك، وعند وضع طعامك، وعند أخذ شرابك، وعند نومك، فالشيطان يحاربك لكي يمنعك من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنت لا ترى ذلك والذي يرى ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تحذر من الشيطان فإنه واقف لك بالمرصاد فلا تضيع بركة الطعام، فإن الشيطان منتظر للقمة التي ستقع لكي يأخذها، فلا تتعود أن ترمي ما تبقى من الطعام فإن هذا فعل المتكبرين وفعل الأغنياء المترفين.
فأنت لا تدري كيف يأتي عليك الزمان فأنت الآن واجد للطعام، لكن قد يأتي عليك زمان لا تجد هذا الشيء، وجرب هذا الأمر الذين دخلوا السجون ووضعوا لهم الأكل ليأكلوا غصباً عنهم، وقد يؤتى لهم في اليوم برغيفين أو بثلاثة أرغفة محروقة! وقد يوضع الطعام في صحن ثم يسكب على الأرض ثم يأكلونه وهو على الأرض! فرب نفسك على الأدب الشرعي الذي علمك النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضيع نعمة ربنا، فأنت اليوم واجد وغداً لا تجد، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، فقد تكون غنياً ثم يحال بينك وبين مالك فلا تقدر أنْ تتصرف في هذا المال.
وبعض الصحفيين المصريين تكلموا عن اليابانيين بأنهم بخلاء جداً، وذلك لما رأوا مجموعة من اليابانيين الذين هم من أغنى الناس في العالم، ولكن تربوا على آداب معينة، فوضع أمامهم الدجاج فأكلوها مع عظامها! فاستهزءوا بهم، فلماذا لم تتكلموا على الذي يرمي نصف الطعام في القمامة؟! فارجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لك: كل العظم، ولكن قال لك: كل الشيء الطيب وخذ على قدر ما تأكله ثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك.
وهذا الذي تأكله من الطعام لا ترميه ولا تضيعه ولا تبطر فيه، فكل منه ما اشتهيت، ودع منه ما لا تشتهيه، وإذا أكلت فكل بهذه الآداب التي يذكرها صلى الله عليه وسلم.
ويقول أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث).
وقال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان)، ومعنى يمط أي: يزيل.
وأمرنا أن نسلت ما تبقى في الصحن من الإدام ولا نرمه، فإما أن نأكله وإما أن نطعم غيرنا كجار محتاج أو حيوان يأكله، فلا نرم طعاماً طالما أنه صالح لأن يؤكل.(69/6)
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يدعها للشيطان)، فالذي يترك الطعام الواقع منه فكأنما يترك تلك اللقمة للشيطان، وكأنه يدعو الشيطان ليأكل معه، فتضيع البركة لإنه ترك الشيطان يأكل معه.(69/7)
معنى المنديل
وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل)، المنديل من المندلة والتمندل بمعنى: إزالة الوسخ، فالمنديل يعني: الشيء الذي تزيل به الوسخ عن يدك أو جسدك، فالمنديل كلمة عربية.
قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة).
فيأكل الطعام الذي أمامه ولا يترك منه شيئاً للشيطان إذا وقع منه، فإذا كان لم يصبه أذى أخذه فأكله، وإذا أصابه أذى أماط عنه الأذى وأكل الباقي ولا يترك منه شيئاً للشيطان فإنه لا يدري في أي طعامه البركة.
وحديث آخر أيضاً لـ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت لقمة أحدكم فليمط ما كان بها من أذى)، كأن حرباً بينك وبين الشيطان مباشرة في بيتك، وفي مسجدك، وفي صلاتك، وعند وضع طعامك، وعند أخذ شرابك، وعند نومك فالشيطان يحاربك لكي يمنعك من طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، وأنت لا ترى ذلك والذي يرى ذلك هو الله سبحانه تبارك وتعالى، ويعلمك على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن تحذر من الشيطان فإنه واقف لك بالمرصاد فلا تضيع بركة الطعام، فإن الشيطان منتظر للقمة التي ستقع لكي يأخذها.
فلا تتعود أن ترمي ما تبقى من الطعام فإن هذا فعل المتكبرين وفعل الأغنياء المترفين.
فأنت لا تدري كيف يأتي عليك الزمان فأنت الآن واجد للطعام، لكن قد يأتي عليك زمان فلا تجد هذا الشيء، جرب هذا الأمر في الذين دخلوا السجون ووضعوا لهم الأكل ليأكلو غصباً عنهم، وقد يؤتى لهم في اليوم برغيفين أو بثلاث أرغفة محروقة.
وقد يوضع الطعام في صحن ثم يسكب على الأرض ثم يأكلونه وهو على الأرض.
فرب نفسك على الأدب الشرعي الذي علمك النبي صلى الله عليه وسلم فلا تضيع نعمة ربنا، فأنت اليوم واجد وغداً لا تجد، واشكر نعمة الله عز وجل عليك، فقد تكون غنياً ثم يحال بينك وبين مالك فلا تقدر أنْ تتصرف في هذا المال.(69/8)
عادة بعض اليابانيين في الطعام
وبعض الصحفيين المصريين الذين تكلموا عن اليابانيين بأنهم بخلاء جداً، وذلك لما رأوا مجموعة من اليابانيين الأغنياء الذين هم من أغنى الناس في العالم، ولكن تربوا على آداب معينة فوضع أمامهم الدجاج فأكلوها مع عظامها فاستهزءوا بهم، فلماذا لم تتكلموا على الذي يرمي نصف الطعام في القمامة؟ فارجع لحديث النبي صلى الله عليه وسلم فما قال لك كل العظم، ولكن قال لك كل الشيء الطيب وخذ على قدر ما تأكله ثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك.
وهذا الذي تأكله من الطعام لا ترميه ولا تضيعه ولا تبطر فيه، فكل منه ما اشتهيت، ودع منه ما لا تشتهيه، وإذا أكلت فكل بهذه الآداب التي يذكرها صلى الله عليه وسلم.
ويقول أنس: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاثة).
وقال: (إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الأذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان)، ومعنى يمط أي: يزيل.
وأمرنا أن نسلت ما تبقى في الصحن من الإدام ولا نومه، فإما نأكله وإما نطعم غيرنا كجار محتاج أو حيوان يأكله، فلا نوم طعاماً طالما أنه صالح لأن يؤكل.(69/9)
سؤال في حكم الوضوء مما مست النار
وقد كان الحكم الشرعي أن ما مسته النار يجب فيه الوضوء ونسخ هذا الحكم، وكان الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مسته النار.
وسأل سعيد بن الحارث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار فقال: قد كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً، الطبيخ الذي يوضع تضعوه على النار والخبز فإذا وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، يعني: ما كان كلهم كان معهم مناديل إلا القليل منهم، ولم يكن عندهم.
الماء الكثير، وكانوا يستعذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ماء من بعض الآبار البعيده عن المدينة والتي فيها مياه عذبة طيبة، وكان يدخل إلى بستان لـ أبي طلحة رضي الله عنه به ماء عذب يشرب منه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمياه التي يغسلوا فيها أيديهم كانت قليلة، فلم يجدوا ماء يغسلوا فيها أيديهم، فمن انتهى من الأكل لحس يده ثم مسح اليدين بعضها مع بعض أو مسح يده في المنديل، ثم يصلي ولا يتوضأ.
فالدين يكون لجميع الناس لمن يجد ولمن لا يجد، ويعلم الجميع الاقتصاد وأداء العبادة.(69/10)
الوضوء مما مست النار
قد كان الحكم الشرعي أن ما مسته النار يجب فيه الوضوء ونسخ هذا الحكم، وكان الأمر في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم عدم الوضوء مما مسته النار.
وسأل سعيد بن الحارث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن الوضوء مما مست النار فقال: قد كنا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نجد مثل ذلك الطعام إلا قليلاً، الطبيخ الذي يوضع تضعوه على النار والخبز فإذا وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا، يعني: ما كان كلهم كان معهم مناديل إلا القليل منهم، ولم يكن عندهم، الماء الكثير، وكانوا يستعذبون للنبي صلى الله عليه وسلم ماء من بعض الآبار البعيدة عن المدينة والتي فيها مياه عذبة طيبة، وكان يدخل إلى بستان لـ أبي طلحة رضي الله عنه به ماء عذب يشرب منه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالمياه التي يغسلوا فيها أيديهم كانت قليلة، فلم يجدوا ماء يغسلوا فيها أيديهم، فمن انتهى من الأكل لحس يده ثم مسح اليدين بعضها مع بعض أو مسح يده في المنديل، ثم يصلي ولا يتوضأ.
فالدين يكون لجميع الناس لمن يجد ولمن لا يجد، ويعلم الجميع الاقتصاد وأداء العبادة.(69/11)
البركة في الطعام
من سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي علمها للناس أن يأكلوا جميعاً حتى يبارك في الطعام، وقد شكا الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم قلة الطعام وأنه لا يكفيهم، فقال: (لعلكم تأكلون متفرقين؟ قالوا: نعم، قال: فاجتمعوا على طعامكم يبارك لكم فيه)، فأمرهم أن يجتمعوا على الطعام حتى تنزل البركة على هذا الطعام.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب تكثير الأيدي على الطعام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) متفق عليه.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية).
رواه مسلم.
فالحديثان يدلان على أن طعام الواحد يكفي الاثنين، فإذا كنت ستأكل ببطن كاملة فكل بنصف بطن واترك النصف الآخر لزميلك، وسيكفي لكما وستبيتان وأنتما لستما جائعين.
والثلاثة سيأكلون من طعام اثنين وما يشعروا بفرق كبير، وطعام الثلاثة كافي الأربعة.
وفرق بين من يأكل نصف طعامه، أو ثلاثة أرباع طعامه أو ثلثي طعامه بحسب الحاجة الموجودة، فالطعام لو كان قليلاً فإن فيه بركة، فلو قل ثلثه أو نصفه فإنه سيكفيك، فعود نفسك على أن تأكل ما تجد، وإذا وجدت محتاجاً ادعه ليأكل معك فتنتفع وينتفع وما تتأثر وستأخذ ثواباً من الله سبحانه تبارك وتعالى، فالدين ما ترك شيئاً إلا وتكلم فيه ودلنا على الخير من ورائه.(69/12)
من آداب الطعام
من آداب الطعام أن تأكل مما يليك، فلا تأكل من أمام الذين أمامك مثلاً.
وتسمي الله سبحانه تبارك وتعالى عند الطعام.
ومن أدب الطعام أن الإنسان لا يجمع بين فاكهتين في آن واحد، ولكن يأخذ واحدة واحدة.
كذلك يحمد ربه في آخر الطعام، وألا يأكل حتى يمتلئ جوفه فإن هذا تعب على الإنسان.
ولعله في البداية لا يستشعر بهذا التعب وهذه أشياء تراكمية عليه، فتتراكم حتى يستشعر الإنسان بالآلام وبالتعب في المعدة أو في الاثني عشر أو في القولون أو في قلبه بسبب كثرة ما يأكل من طعام.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)، فثلث المعدة اجعلها لأكلك، والثلث الثاني للشراب، والثلث الثالث للنفس.
فلو أن الإنسان ملأ معدته، فإنها تضغط على الحجاب الحاجز فيضغط على الرئة فيصعب عليه التنفس؛ فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.(69/13)
آداب الشرب(69/14)
النهي عن التنفس في الإناء
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [أدب الشرب واستحباب التنفس ثلاثاً خارج الإناء.
عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس في الشراب ثلاثاً) متفق عليه].
يعني: في أثناء شرابه كان يتنفس خارج الإناء ثلاثاً أي: يشرب قليلاً من الماء ثم يبعد الإناء عن فمه ويتنفس، ثم يرجع الإناء مرة ثانية ويكمل شرابه ثم يتنفس خارج الإناء ثم يشرب للمرة الثالثة، فلو أنه مسك الإناء ووضعه على فمه وشربه دفعة واحدة؛ لأنه قد يكون عطشان عطشاً شديداً، فتنفس فيه فالذي يشرب من بعده قد يتقذر منه فيمتنع من الشرب وقد يكون الماء قليلاً، وقد يكون الإنسان في سفر مع أناس ومعه ماء قليل فيجب عليه أن يسقيهم إذا كانوا عطشى لئلا يموتوا من العطش.
فعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تقذر الناس في الشرب، فلا تتنفس في الإناء حتى لا تؤذي غيرك بهذا الذي فعلته.
وهذا أدب طبي عظيم جداً أنك لا تتنفس في الإناء، فإن نفس الإنسان قد يكون فيه جراثيم عظيمة تؤذي غيره، وقد لا تكون تؤذيه، وقد يكون حاملاً لمرض من الأمراض غير متأثر به، فإذا نزل في الإناء شرب غيره فتأثر غيره بهذا الشيء لضعف مناعته.(69/15)
النهي عن شرب الماء دفعة واحدة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشربوا واحداً كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا إذا أنتم شربتم، واحمدوا إذا أنتم رفعتم) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن أي: لا تتشبه بالجمل فإنه يشرب مرة واحدة، ولكن اشرب مثنى وثلاث، يعني: على مرتين أو على ثلاث مرات.
وسم الله سبحانه تبارك وتعالى عند الشرب فقل: باسم الله.
والحديث إسناده ضعيف ولكن معناه صحيح كما في الأحاديث الأخرى عنه صلى الله عليه وسلم الذي فيها الأمر بتسمية الله عز وجل عند البدء في الطعام وغيره، كذلك الحمد عند الانتهاء منه.
وعن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء) متفق عليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء حتى لا يقذر الماء، وأحياناً بعض الناس تكون رائحة فمه غير طيبة خلقة، أو بمرض موجود في فمه أو في رئتيه ونحو ذلك، فإذا تنفس في الإناء فغيره يشرب فيشم رائحة قذرة فيفضل أنه يبقى عطشان ولا يشرب أبداً.(69/16)
البدء بالأيمن فالأيمن عند سقي القوم
عن أنس رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر رضي الله عنه، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: الأيمن فالأيمن) متفق عليه.
اللبن كان قليلاً فزيد عليه ماء، إما لقلة اللبن أو لتبريده وخلط اللبن بالماء جائز للشرب والتهادي وليس للبيع.
وجلس عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي وعن شماله أبو بكر الصديق، ولا شك أن أبا بكر الصديق أفضل من الأعرابي ومن كل الخلق إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللبن لـ أبي بكر لأنه عن شماله، فالأدب إذا كان معك شيء وتريد أن تهديه لشخصين فابدأ بمن عن يمينك ثم بمن عن شمالك.(69/17)
التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
عن سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب، فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟)، هذا الغلام هو ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، كان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن شماله الأشياخ كـ أبي بكر وغيره من كبار الصحابة.
فيعلمنا أدباً آخر وهو: أنه إذا كان على اليمين طفل صغير فليعط الذي عن الشمال بعد ما يستأذن هذا الصغير، والأفضل للطفل الصغير أن يقدم الكبار على نفسه ليعتاد احترام الكبار.
ولكن ابن عباس لم يفعل ذلك لعلة أخرى وهو أنه يريد أن يتبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم.
فرفضه لذلك ليس من عدم إجلاله لـ أبي بكر وغيره، ولكن ليتبرك بأثر فم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإناء.
وهذا بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، فكان فقيهاً رضي الله عنه وعنده فهم وعلم وحكمة رضي الله عنه، وهذا من أثر النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: (لا والله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً).
والمفهوم من هذا الأثر عن ابن عباس: أنه لو كان هذا من غيرك فلا بأس بالإيثار، قال: (فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) أي: وضعه في يده.
فإذا أردت أن تشرب فافعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فسم الله تعالى في بداية الشرب وإذا انتهيت من طعامك أو من شرابك فاحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، والله يرضى عن عبده إذا حمده على الطعام وعلى الشراب.
بل إنه إذا أنعم عليك نعمة فحمدت الله سبحانه وشكرته على هذه النعمة كان حمدك له وشكرك له أحب إليه من هذه النعمة التي أعطاك، فيدعك على ذلك الفضل ويحب منك ذلك ويجعل لك ذلك ذخراً.
نسأل الله عز وجل أن يعلمنا ديننا، وأن يفقهنا فيه، وأن يجعلنا نقتدي بالنبي صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(69/18)
شرح رياض الصالحين - من (كراهة الشرب من فم القربة ونحوها) إلى (النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة)
وضح شرعنا الحنيف جملة من الآداب التي تواجه الفرد المسلم في حياته اليومية، ومنها: آداب الأكل والشرب، والنهي عن الشرب من فم القربة ونحوها، والنهي عن النفخ في الشرب؛ حتى لا يؤذي الإنسان غيره بنفسه، ومنها: الجلوس أثناء الشرب والأكل، وعدم استخدام أواني الذهب والفضة فيهما.(70/1)
حكم الشرب من فم القربة ونحوها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، وبيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية يعني: أن تكسر أفواهها، ويشرب منها) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من فيّ السقاء أو القربة) متفق عليه.
وعن أم ثابت كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت رضي الله عنه وعنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائمة، فقمت إلى فيها فقطعته) رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].
هذا باب يذكره الإمام النووي من أبواب الآداب في الطعام والشراب، وذكر هنا كراهة الشرب من فم القربة ونحوها، والقربة سقاء يكون من جلد، يملؤه صاحبه بماء كثير، وقد تكفي القربة أياماً يشرب منها.
فلو أن الناس تعودوا على الشرب من فم القربة وهي ستمكث معهم أياماً فإن رائحة النفس ستكون بداخلها مما يؤذي بعضهم بعضاً بذلك.
فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر، وأرشد إلى إفراغ الماء المطلوب من القربة على شيء آخر ثم الشرب من هذا الشيء الآخر.
ويمكن أن تكون هناك حكمة أخرى وهي أن الشارب من في السقاء يمكن أن يؤذي نفسه بأن يرفع السقاء وهو كبير إلى فيه فينزل الماء متدفقاً على وجهه وفيه وأنفه مما يؤدي به إلى أن يغص نفسه بالماء، فينهاك الشارع لهذه العلة أيضاً.
أمر آخر وهو أن أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة فنزلت حية إلى فمه، وكأن القربة ما كانت مربوطة بإحكام مما أدى إلى دخول الحية فيها، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب من فم القربة.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية)، الأسقية: جمع سقاء، وهي القرب والأوعية التي يوضع فيها الماء، وتكون متخذة من الجلد غالباً.
ومعنى: (اختناث الأسقية) أي: أن تكسر أفواهها ويشرب منها.
وهذا الحكم يجري كذلك في كل إناء كبير يوضع فيه الماء.
واكتشف حديثاً في الأبحاث الطبية أن على فم الإنسان آلاف بل ملايين من أنواع الجراثيم، فلو أن إنساناً فيه مرض معين في فمه، أو معدته، أو أمعائه، ثم صعد ميكروب إلى فمه، فلعله إن شرب من في السقاء ينزل الميكروب في هذا فيؤذي غيره، ولعله يكون حاملاً للمرض فقط، وما يكون هذا الإنسان مريضاً به، فعندما يشرب من فم القربة ينتقل هذا المرض لغيره، مما يؤدي إلى إيذاء أناس كثيرين بهذا الشيء؛ فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
ولكن قد يحتاج الإنسان إلى الشرب من فم السقاء، أو قد يكون الماء في القربة قليلاً فيشربه كاملاً من فم القربة، فعند ذلك لا بأس بهذا الأمر، ولذلك فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مرة.
وقول أبي هريرة: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشرب من في السقاء) أي: من فم السقاء، فكلمة في بمعنى: فم.
وقوله: (من في السقاء أو القربة) القربة هي السقاء.(70/2)
كراهة الشرب من فم القربة وكراهة الشرب قائماً
عن أم ثابت واسمها كبشة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من في قربة معلقة قائماً)، وهذه الصحابية بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من فم القربة وكأن القربة، كان فيها ماء قليل فشرب النبي صلى الله عليه وسلم منها، أو ليبين أن النهي عن ذلك مع عدم الحاجة إليه، ومع الحاجة إليه إنما هو للتنزيه لا للتحريم.
ولذلك الإمام النووي قال تفقهاً: بيان أنه كراهة تنزيه لا تحريم، يعني: المنع بقولنا: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، الأصل فيه أنه على التحريم، لكن كونه نهى عنه وفعله صلى الله عليه وسلم دل على صرف هذا النهي من التحريم إلى الكراهة فقط.
وهنا شرب النبي صلى الله عليه وسلم من فم القربة وهو قائم عليه الصلاة والسلام.
فدل على أن الأحاديث التي جاءت في النهي عن الشرب من فم السقاء إنما هي للكراهة فقط، ومثله النهي عن الشرب قائماً فهو للكراهة أيضاً.
قالت: (فقمت إلى فيها فقطعته) وهي إنما فعلت ذلك لأن أثر فم النبي صلى الله عليه وسلم كان على تلك القربة، فهي تريد أن تحتفظ بهذا الشيء لنفسها فقط، فقطعت فم القربة حتى يبقى أثر النبي صلى الله عليه وسلم معها فتشرب منه كلما أرادت الشرب، ولتحظى من ذلك ببركة من أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا قبل ذلك أنه يجوز التبرك بآثار النبي صلوات الله وسلامه عليه، والراجح في ذلك أنه لا يلحق به غيره، فلا يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره في ذلك.
يقول النووي رحمه الله: [إنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبرك بها، وتصونه عن الابتذال] يعني: أن تصون هذا الموضع من احتمال وقوعه على الأرض ووطئه بالأقدام، وهذا نوع من أنواع إكرامها للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النووي رحمه الله: [هذا الحديث محمول على بيان الجواز] أي: محمول على بيان جواز الشرب من فم القربة إن احتاج إلى ذلك، أو الشرب قائماً إن احتاج إلى ذلك.(70/3)
حكم النفخ في الشراب
ذكر المصنف باب كراهة النفخ في الشراب، سواء كان الإنسان وحده أم مع جماعة؛ وذلك حتى لا يعتاد الشخص على النفخ، فإن كان الشراب ساخناً فإنه ينتظر برده ثم يشربه.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء) أي: يريد الشخص أن يستفسر عن حكم النفخ عند وجود علة أو ضرورة على الإناء، كأن تكون عليه عشبة أو قذى معين، فهنا يرشده النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدم النفخ حتى لو أدى الأمر إلى صب الشراب كاملاً، ولذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقها) أي: أرقها وصبها.
والقصد من ذلك الخوف على الإنسان من أن يعتاد على النفخ في الإناء، فينفخ فيه وهو بحضرة جماعة فيؤدي إلى تأذيهم من هذا العمل واستقذارهم له، فيتركون الأكل والشرب لذلك، فيكون بهذا قد أدى إلى الإضرار بالناس؛ ولهذا نهي عن هذا العمل.
يسأل الرجل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فيقول: (إني لا أروى من نفس واحد)، يريد بذلك أن يتعلل للتنفس في الإناء، وكأنه يقول: إني إذا شربت من الإناء لا أستطيع أن أشرب بنفس واحد، بل أحتاج إلى التنفس في الإناء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فأبن القدح إذاً عن فيك) أي: إذا أردت أن تتنفس فأبعد القدح عن فمك، وهذا محمول على الشرب الكثير، وإلا فمن الممكن أن يشرب الإنسان ماءً قليلاً ولا يحتاج معه إلى التنفس.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو أن ينفخ فيه)، وهذا الحديث راجع إلى نفس المعاني السابقة، من النهي عن التنفس في الإناء أو النفخ فيه في كل حالة من الأحوال.(70/4)
حكم الشرب والأكل قائماً
ذكر المؤلف باب جواز الشرب قائماً، وبيان أن الأكمل والأفضل الشرب قاعداً.
قد مر حديث سابق معنا في جواز الشرب قائماً وهو حديث أم ثابت حيث ذكرت (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب عندها وهو قائم عليه الصلاة والسلام).
وهنا حديث لـ ابن عباس رضي الله عنهما قال: (سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم) عليه الصلاة والسلام.
وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عند بئر زمزم وشرب وهو قائم عليه الصلاة والسلام مما يدل على الجواز؛ لأنه لن يفعل الشيء المحرم عليه الصلاة والسلام.
وحديث آخر للنزال بن سبرة رضي الله عنه قال: (أتى علي رضي الله عنه باب الرحبة فشرب قائماً)، والرحبة: موضع في الكوفة.
فـ علي بن أبي طالب لما وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ليدل على الجواز، شرب هو أيضاً في الكوفة رضي الله عنه، وقال: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت)، الحديث في البخاري والذي قبله في الصحيحين.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام)، الحديث رواه الترمذي، وإسناده حسن أو قريب من ذلك، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وهذا محمول على الحاجة لا على السبيل العادة لهم؛ إذ لا يعقل أنهم كانوا لا يأكلون إلا وهم ماشون في الطريق، وإنما الأمر محمول على سبيل الحاجة كما قلنا، كأن يكونوا في جهاد، أو استعجال من أمرهم، فيضطرون إلى الأكل وهم يمشون.
وقوله: (ونشرب ونحن قيام) يعني: إذا احتجنا إلى ذلك.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب قائماً وقاعداً)، لكن كان أكثر أحواله صلى الله عليه وسلم الشرب قاعداً عليه الصلاة والسلام، والحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب جملة أحاديث، بعضها في إسناده شيء، لكن يشهد بعضها لبعض أنه شرب وهو قائم.
وفي حديث لـ أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (نهى أن يشرب الرجل قائماً)، وهذا نهي منه صلى الله عليه وسلم، وبدأ الإمام النووي بتقديم أحاديث شربه قائماً صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يظن أن النهي على التحريم.
فقال هنا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرب الرجل قائماً.
قال قتادة: فقلنا لأنس: فالأكل؟ قال: ذلك أشر أو أخبث)، هذا في صحيح مسلم.
والذي قال ذلك هو أنس بن مالك رضي الله عنه، وأنس هو خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وله اختصاص بخدمة النبي صلى الله عليه وسلم ورؤيته صلى الله عليه وسلم كثيراً؛ لأنه خادمه منذ أن قدم النبي المدينة إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم، فخدمه وعمره عشر سنوات إلى أن بلغ عمره عشرين سنة وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عندما يشرب أو يأكل عليه الصلاة والسلام، وهو روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائماً، فقيل له: والأكل قائماً؟ فقال تفقهاً: (ذاك شر وأخبث)، فهذا من قول أنس وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: (زجر -بمعنى نهى- النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائماً).
حديث آخر في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يشربن أحد منكم قائماً، فمن نسي فليستقئ) رواه مسلم.
وهذا الحديث فيه النهي عن الشرب قائماً، وفيه أيضاً شيء من التعزير وهو أنك إذا نسيت وفعلت هذا الشيء فاستقئ، وليس محمولاً على الوجوب، ولكنه كنوع من التأديب حتى يعود الإنسان نفسه على أدب الشرب قاعداً، وكذلك علماء الطب يقولون: إن الشرب قاعداً أفضل من الشرب قائماً، قالوا: لأن الإنسان إذا شرب قاعداً نزل الشراب من فمه نزولاً خفيفاً هيناً، أما إذا كان قائماً فإنه ينزل متدفقاً ومندفعاً نحو المعدة.
أضف إلى ذلك أنه إن كان التخيير للإنسان في الشرب قائماً أو قاعداً إلا أنه يقال لك: لا تشرب وأنت واقف.
وإن كان الأطباء في الماضي يقولون: يستوي فعل هذا وهذا.
وذلك نظير ما كانوا يجهلونه من الطب.
ولقد كان يقال سنة ألف وتسعمائة ونيف وخمسين: ليس على الإنسان حرج في جماع المرأة وهي حائض، وإنما النهي عنه موجود في الشرائع السماوية فقط، أما طبياً فليس فيه شيء! وهذا دليل على جهلهم، حيث قد نهانا الله عز وجل عن ذلك فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
وتمر خمسون سنة على هذا الأمر ثم يغير الأطباء قولهم، حيث يكتشفون أن دم الحيض دم متعفن، وأنه مليء بالميكروبات، فلو جامع الرجل امرأته في هذا الحال لتأذى الرجل يقيناً بهذه الميكروبات الموجودة في هذا الدم، حيث تدخل إليه عبر القضيب فضلاً عن أن المرأة تتأذى بهذا الشيء أيضاً؛ لأنها إذا جومعت وقت حيضها وكان منها اندفاع أدى ذلك إلى زيادة في ضغط الدم؛ لأجل أن يخرج هذا منها، فيؤدي إلى طروء التهابات في أعضائها، فتتأذى من الرجل إذا جامعها وهي على هذه الحال.
وأحياناً تكون هناك بعض الميكروبات موجودة في المرأة وهي ساكنة، وبسبب جماع المرأة تنشط هذه الميكروبات فتؤذي المرأة وتظهر أثرها عليها.
فهذه أبحاث جديدة اكتشفوا بعد فترة من جهلهم، فكانوا لا يعرفون شيئاً عنها! فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرنا بشيء إلا وفيه الخير لنا، ولا ينهانا عن شيء إلا وفيه الشر لنا.
ولذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائمين في حالة الاختيار، وأرشدنا إلى جواز ذلك حالة الحاجة والضرورة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عند زمزم، وعند أم ثابت حيث شرب وهو قائم صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤدب المسلم ويربيه على ذلك، حتى يعود نفسه عليه.
ولقد كان يؤدب أصحابه أحياناً ببعض العقوبات عليهم، ومن ذلك الأمر بإهراق الشراب إذا حل فيه قذى، فهو ليس محمولاً على الوجوب، وإنما هو أمر إرشاد منه وتأديب للرجل.
ومن ذلك أيضاً وجد أصحابه مرة قد طبخوا القدور وفيها لحم الحمير، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أهرقوها واكسروا آنيتكم) أي: صبوا اللحم ومرقه، واكسروا الأواني التي طبختم بها، (قالوا: أو نغسلها؟ قال: اغسلوها).
فنلاحظ هنا أن الأمر الأول بكسر هذه الآنية محمول على الإرشاد والتأديب لهم، وإلا فلو كان أمراً واجباً لأصر على ذلك، ولكنه أراد تأديب أصحابه فعمد إلى هذه العقوبة التعزيرية.(70/5)
ما يستحب لساقي القوم
يقول أبو قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ساقي القوم آخرهم شرباً) وكان يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذ كانوا يأتونه بلبن صلى الله عليه وسلم فيعطي أصحابه إلى أن يشرب الجميع، ثم يبقى الفضل فيشرب هو صلوات الله وسلامه عليه منها.
فعلى الإنسان أن يعود نفسه على الشرب آخر الناس إن كان هو ساقيهم؛ وذلك حتى لا يساء فيه الظن ويتهم بالطمع، وحتى لا يؤدي ذلك إلى جشعه أيضاً، بأن يشرب في أول أمره مرة فإذا اعتاد شرب مرات ومرات، فتتكون لديه صفة الجشع والطمع، وهذا هو الأدب الذي يسميه غير المسلمين (الإتيكيت)، وهو أدب قد سبقهم الإسلام إليه قبل مئات السنين.(70/6)
ما يجوز استعماله من الأواني وما يحرم
ذكر المصنف باب جواز الشرب من جميع الأواني الطاهرة غير الذهب والفضة، وجواز الكرع: وهو الشرب بالفم من النهر وغيره، بغير إناء ولا يد، وتحريم استعمال إناء الذهب والفضة في الشرب والأكل والطهارة وسائر وجوه الاستعمال.
جاء في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار إلى أهله، وبقي قوم، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، فالناس كانوا موجودين مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولما حضرت الصلاة قام من كان قريب الدار إلى أهله ليتوضأ، إذ لم تكن لديهم في ذاك الزمان دورات للمياه، بل كان الصحابة يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم ليعلمهم ويؤدبهم عليه الصلاة والسلام، فلما قرب وقت الصلاة، قاموا من عنده صلى الله عليه وآله وسلم ليتوضئوا، ثم يرجعون للصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وبقي قوم معه صلى الله عليه وسلم (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخضب من حجارة)، والمخضب يطلق على الإناء المصنوع من الحجر، فأوانيهم كانت تصنع إما من الحجر أو النحاس ونحو ذلك.
قال: (فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه) عليه الصلاة والسلام، والمعنى: أنهم أتوا له بإناء من حجر صغير الحجم، عجزت كف النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل فيه.
قال: (صغر المخضب أن يبسط فيه كفه، فتوضأ القوم كلهم)، وهذا بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، حيث كان القاعدون معه صلى الله عليه وسلم يريدون أن يتوضئوا من ذلك الإناء، والإناء صغير لا يكفي لأكثر من واحد، ومع ذلك توضئوا منه جميعهم.
قال: (قالوا: كم كنتم؟) يسألون أنس: (كم كنتم؟ قال: ثمانين وزيادة) أي: كانوا ثمانين رجل توضئوا من إناء لا يكفي إلا أن يتوضأ منه واحد، وهذه بركة من بركات ربنا سبحانه جعلها في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وإنائه.
والشاهد من الحديث: أنه يجوز الوضوء في أي إناء من الأواني: كما يجوز استعماله في الأكل أو الشرب إلا أن يكون من ذهب أو فضة فذلك ممنوع.
وفي رواية له ولـ مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء، فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء)، أي: قدح متوسط، ليس بالكبير ولا بالصغير، ولكن فيه ماء قليل.
وذكر في الحديث السابق أنه لا يكفي النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع فيه كفه ويبسطها فيه عليه الصلاة والسلام.
قال في رواية مسلم هنا: (فيه شيء من ماء، فوضع أصابعه فيه.
قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) عليه الصلاة والسلام، وليست بأول بركاته، بل بركاته عظيمة عليه الصلاة والسلام، وآيات معجزاته التي جعلها الله عز وجل له ومعه آيات عظيمة جداً عليه الصلاة والسلام.
قال: (فحزرت من توضأ؟) أي: خمنت عدد المتوضئين منه (ما بين السبعين إلى الثمانين).
حديث آخر في صحيح البخاري عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجنا له ماءً في تور من صفر فتوضأ)، أي: أخرجوا له إناء من صفر أي: من نحاس، فتوضأ منه صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز الوضوء من الأواني الطاهرة، والأكل والشرب فيها، إلا أواني الذهب والفضة.(70/7)
بيان حكم الكرع ومعناه
روى البخاري عن جابر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ومعه صاحب له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة وإلا كرعنا) رواه البخاري.
والشنة: هي القربة، والمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن يكون الماء بايتاً في القربة، ومعلوم أنك إن ملأت قربة من الماء وتركتها إلى أن تبيت، فإن كان الماء متعكراً بالتراب فسيصفى وينقى، حيث ينزل التراب إلى أسفل القربة، أما إذا ملئت القربة قريباً ولم يبت الماء فيها فسيبقى فيها أثر التعكر بالتراب، وهذا هو مقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (وإلا كرعنا)، وهذه وإن كان ليست عادة النبي صلى الله عليه وسلم إلا كأن ذلك كان مراعاة للحال، حيث لم يجد عند الرجل شيئاً أمامه، وكأنه وجد ماء في إناء كبير ومرتفع، ولم يجد كيزاناً ليشرب، ولعل يده كانت متسخة أو فيها قذى معين، فيلجأ إلى الكرع: وهو أخذ الماء بفمه من ذلك الإناء.
ويحتمل أن يكون قال ذلك تواضعاً منه صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه يقول لصاحب الدار: إنا لن نثقل عليك، ولن نكلفك بأن تشتري لنا كيزاناً، أو تأتي بها من جيرانك، بل إذا لزم الأمر سنكرع من هذا الإناء كرعاً، وفيه دلالة على أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه الجم.(70/8)
حكم استعمال الحرير والديباج والذهب والفضة
عن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة وقال: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة) متفق عليه.
والحرير: هو ما كان ثوباً خالصاً من حرير، فإن كان الحرير رقيقاً سمي بالسندس، وإن كان غليظاً سمي بالإستبرق، وقد يكون مخلوطاً بغيره فيسمى بالديباج، وذلك كأن يكون الثوب الحرير فيه بعض الصوف، إلا أن الغالب عليه أنه حرير.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى الرجل أن يلبس ثوباً خالصاً من حرير، أو ثوباً أكثره حرير.
ويجوز أن تكون بعض الخيوط في الثوب الذي تلبسه حريراً، لكن بمقدار أصبع أو أصبعين، أو ثلاث أو أربع كأقصى حد، فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة) أي: لا يجوز لك أن تشرب أو تأكل في آنية الذهب والفضة؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا المستكبرون، وأنت عبد مؤمن متواضع لله عز وجل، ومن فعل ذلك فقد حرمه الله عز وجل من الجنة، وكان مصيره إلى النار، فلا تفعل هذا الشيء، فيكون مصيرك النار.
قال: (هي لهم في الدنيا) أي: الكفار في الدنيا يستخدمونها ويستكبرون بها، أما أنتم فهي لكم في الجنة، ومن ذا الذي يضيع الجنة بأن يأخذ حظه في الدنيا، فيبدل الشيء العظيم بالشيء التافه الحقير الذي لا قيمة له؟ قال صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا، وهي لكم في الآخرة).
فإذاً: لا يجوز للإنسان أن يأكل ويشرب في آنية الذهب والفضة، فإن كانت أواني الذهب والفضة محرمة في العبادة حيث لا يجوز للإنسان أن يتوضأ من إناء ذهب أو فضة، فهذا من باب أولى في النهي عنه.
عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) متفق عليه.
وفي رواية لـ مسلم: (إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الفضة والذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم)، والمعنى: كأن من يشرب في إناء الذهب والفضة يعجل على نفسه نار جهنم والعياذ بالله.
ومن هذا الحديث نعرف لم قذف حذيفة دهقان الفرس بإناء الذهب أو الفضة، وذلك أن حذيفة رضي الله عنه عطش ذات مرة وكان أميراً في المدائن رضي الله عنه، فطلب ماءً فإذا بالدهقان يأتي له بإناء من ذهب أو فضة فيه ماء، فأخذه وقذفه به؛ وذلك لأن هذا الرجل عرف نهي النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان يستهين بهذا النهي، ولذلك التفت لمن معه وقال: أما إني لو لم أنهه مرة ولا مرتين ولا ثلاثة، يعني: أنا نهيته كذا مرة، إلا أنه متعمد لمخالفة ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحق أن يقذفه بهذا الإناء ليؤدبه، والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(70/9)
شرح رياض الصالحين - استحباب الثوب الأبيض واستحباب القميص وصفة طوله
ما ترك النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً ينفعنا إلا وعلمنا إياه، ولا شيئاً يضرنا إلا حذرنا منه، حتى في أمور اللباس، فقد رغب في لبس الثوب الأبيض، وبين جواز لبس جميع أنواع الثياب من القطن والكتان والصوف، وحرم لبس الحرير للرجال دون النساء.(71/1)
استحباب الثوب الأبيض
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب اللباس.
باب: استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر والأخضر والأصفر والأسود، وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها إلا الحرير.
قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} [النحل:81].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم) رواه النسائي والحاكم وقال: صحيح.
وعن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً، ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) متفق عليه].
هذا كتاب آخر من كتب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، ويتكلم فيه عن اللباس، بعدما تكلم عن آداب الطعام والشراب يتكلم هنا عن الثياب التي يلبسها الإنسان، والأدب في ذلك.
قال في الباب الأول: استحباب الثوب الأبيض وجواز الأحمر، والأخضر، والأصفر، والأسود.
المعنى: أن أي لون من ألوان الثياب جائز، سواء للرجال أو للنساء، والمستحب الثوب الأبيض، وغيره جائز.
قال: وجوازه من قطن وكتان وشعر وصوف، يعني: أي نوع من الأنواع إلا أن يكون محرماً مثل الحرير يحرم على الرجال، فلا يجوز للرجل أن يلبس ثوب حرير.
والأدلة على ذلك: قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، الله عز وجل أنزل على العباد ما يلبسونه، والله سبحانه تبارك وتعالى خلق لهم ذلك، فجعل لهم ثمانية أزواج من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، وذكر أننا نستفيد من هذه الأشياء فنأخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين، فالله عز وجل أنزل ذلك وخلقه في الأرض للناس لينتفعوا به.
فالإنزال من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، ومجيء الخير من عنده، وهو الذي خلق الإنسان، وهو الذي رزقه سبحانه تبارك وتعالى، ينزل المطر من السماء على الأرض، فيخرج منها الزرع للإنسان من كتان، ومن قطن ونحوهما، أنزل الله من السماء مطراً فأخرج الله عز وجل به النبات للعباد، فكان منه ثياب العباد: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، الريش والرياش الثياب التي يتجمل بها الإنسان، فقد يواري سوأته بثوب يكون قبيحاً، ولكن الثوب الجميل الذي يتزين به الإنسان هو الريش.
قال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] يعني: من وراء ذلك ما هو خير لكم وأفضل لكم مع كونكم تنتفعون بذلك، فلا تنسوا أن الله عز وجل قد أعطاكم ما هو خير وأفضل لكم من ذلك، وهو أن تتجملوا بلباس التقوى فهو زادكم كما قال: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197]، وهو لباسكم الذي تتجملون به، فالإنسان زاده طعامه وشرابه وتقوى الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا عمر ظاهره وباطنه بتقوى لله عز وجل حصل خير مقصود له، وهو جنة الله سبحانه، وإنما ينالها من اتقى الله سبحانه تبارك وتعالى كما قال الله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ:31 - 32]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر:54]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر:45]، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} [الطور:17]؛ فنالوا بتقواهم جنات رب العالمين نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وقال سبحانه: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} [النحل:81] سرابيل: قمص تلبسونها، يلبس الإنسان هذا السربال ويتسربل به الإنسان، ويلبس العباية ويتسربل بها الإنسان.
قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81] في الصيف تلبسون ثياباً تقيكم الحر، وفي الشتاء تلبسون ثياباً تقيكم البرد، وتلبسون ثياباً تقيكم بأسكم يعني: تقيكم من أعدائكم، وهو لبس الزرود ولبس الدروع، ولبس الخوذات.(71/2)
شرح حديث: (البسوا من ثيابكم البياض)
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم).
هذا الحديث جاء عن ابن عباس وجاء عن سمرة رضي الله عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر اللون الأبيض من الثياب قال: (البسوا البياض) واللون الأبيض فيه جمال، وفيه طهارة، حيث إن الثوب الأبيض إذا كان عليه شيء من تراب أو من وسخ أو من نجاسة تظهر فيه، ولذلك عندما تدعو تقول: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) يعني: لا تترك علي خطيئة لا ظاهرة ولا باطنة، حتى لا يكون علي شيء منها يوم القيامة، والثوب الأسود قد يغسله الإنسان وعليه بعض الكدرات فلا تظهر عليه، فيغسل أدنى غسل ويتنظف الثوب، أما الثوب الأبيض فلا بد أن تغسله جداً من أجل ما يبقى عليه أي أثر من الدرن أو الوسخ.
قال: (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) من السنة تكفين الميت بالكفن الأبيض، ولبس الحي للثوب الأبيض، وعلل الأمر بلبس البياض فقال: (فإنها أطهر وأطيب)، فالثوب الأبيض أطهر للإنسان، فإذا وقع فيه شيء من الوسخ يبدو له فيغسله بسرعة، فهو أطهر وأطيب للإنسان، كما أنه لون جميل.
قال: (وكفنوا فيها موتاكم) الأمر هنا: للرجال والنساء.(71/3)
شرح حديث: (كان رسول الله مربوعاً)
عن البراء رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً) المربوع الوسط، لا هو طويل طولاً بائناً، ولا قصيراً قصراً بائناً، لكنه كان وسطاً وإلى الطول أقرب عليه الصلاة والسلام.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مشى مع أصحابه ومنهم الطويل ومنهم القصير، فالناظر إليهم لا يجد أحداً يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربعة من الرجال ومع ذلك كان إذا مشى مع إنسان طويل فكأن النبي صلى الله عليه وسلم أطول من هذا الذي يمشي معه عليه الصلاة والسلام! قال: (ولقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً قط أحسن منه) كان أجمل الخلق عليه الصلاة السلام، فنظر إليه البراء بن عازب وهو لابس حلة حمراء، قال بعض العلماء: يعني: كلها حمراء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: فيها لون غير الأحمر؛ لأنه يرى أن لبس الرجل للون الأحمر ممنوع منه، ويحرم على الرجل أن يلبس الثوب الأحمر القاني الذي ليس معه لون آخر.
ودليل ابن القيم رحمه الله على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن المعصفر من الثياب) المعصفر: هو الذي لونه أحمر، والصواب: أن اللون الأحمر ليس محرماً؛ لأنه ثبت في حديث البراء وفي حديث أبي جحيفة أيضاً: أنه لبسه النبي صلى الله عليه وسلم، ومسألة أن فيه لوناً آخر غير الأحمر هذا يحتاج إلى دليل ونقل من اللغة العربية أن البرد لا يكون إلا لونين، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المعصفر يخص الذي صبغ بنبات العصفر، وهو يصبغ لوناً أحمر، فهذا هو الأحمر المحرم دون غيره؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الأحمر غير المعصفر، فعن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السوائي قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وهو بالأبطح في قبة له حمراء من أدم) والأبطح مكان في مكة مأخوذ من البطحاء، والبطحاء الحصباء وهي الحجارة الصغيرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من مناسك حجه صلى الله عليه وسلم انتقل إلى البطحاء، فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبة حمراء من أدم، والقبة هي الخيمة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وكانت من جلد ولونها أحمر.
قال: (فخرج بلال بوضوئه) يعني: بالماء الذي توضأ به صلى الله عليه وسلم، قال: (فمن ناضح ونائل) يعني: كل يأخذ منه ليتبرك بأثر النبي صلى الله عليه وسلم، فيأخذ منه شيئاً فينضح على ثوبه من الماء الذي توضأ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه حلة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه) يعني: كان لابساً عليه الصلاة والسلام لحلة حمراء، وما كانت مجرجرة على الأرض؛ لأنه رأى بياض ساقي النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت تخفي الكعبين لما قال: (رأيت ساقيه، فقد كانت حلته صلى الله عليه وسلم مرفوعة عن الكعبين قليلاً بحيث يبدو الساق.
قال: فتوضأ وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح ثم ركزت له عنزة) كان بلال يؤذن ويقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة حي على الفلاح؛ ليسمع الجميع.
قال: (ثم ركزت له عنزة) يعني: ركزت للنبي صلى الله عليه وسلم، والعنزة عكازة صغيرة، وكان يحمل العنزة أحد أصحابه عليه الصلاة والسلام، فإذا أراد أن يصلي في صحراء ونحوها ولا توجد له سترة، فكان يركز له العنزة في الأرض.
إذاً: من السنة أن المصلي لا يصلي إلى الفراغ، ولكن يصلي إلى شيء قدامه مثل عمود، أو إنسان جالس أمامه، أو أي شيء يجعله سترة من نحو عكاز ونحوه، فالنبي صلى الله عليه وسلم ركزت له هذه العنزة فتقدم فصلى عليه الصلاة والسلام إليها.
قال: (يمر بين يديه الكلب والحمار ولا يمنعه) يعني: من وراء السترة، فإذا صليت وأمامك سترة ثم مر شيء من أمام السترة فلا شيء في ذلك.
ولماذا قال: (يمر بين يديه الكلب والحمار)؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن مما يقطع الصلاة الكلب والحمار والمرأة الحائض، ومعنى يقطع أي: ينقص من صلاة المصلي، فكان يمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من وراء العنزة، فطالما السترة موجودة فلا يضر ما مر من ورائها.
وهذا الحديث متفق عليه.(71/4)
شرح حديث: (رأيت رسول الله وعليه ثوبان أخضران)
عن أبي رمثة رفاعة التيمي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أخضران) فيه: بيان أنه يجوز أن تلبس الثوب الأبيض والثوب الأحمر والثوب الأخضر، وفي حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء، فيجوز أن تكون العمامة حمراء أو بيضاء أو خضراء، ويجوز أن تكون سوداء، وكان لبسها النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة كما في صحيح مسلم.
وعن أبي سعيد عمرو بن حريث رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه عمامة سوداء قد أرخى طرفيها بين كتفيه).
وفي رواية: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء).
الراوي هنا أبو سعيد عمرو بن حريث يقول: (كأني أنظر) والمعنى: أنا ما نسيت هذا، وأنا متخيل كأني أرى النبي صلى الله عليه وسلم أمامي، ومعناه: أنه مستحضر الحال، وهذا دليل على عدم النسيان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لبس عمامة سوداء وهو يخطب صلوات الله وسلامه عليه.(71/5)
شرح حديث: (كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة) (ثلاثة أثواب بيض سحولية) مأخوذة من سحول وهي قرية في اليمن اسمها سحول تنسب إليها هذه الثياب، كانوا يصنعون فيها الثياب من القطن، والنبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيضاء.(71/6)
شرح حديث: (خرج رسول الله وعليه مرط مرحل من شعر أسود)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود) يعني: خرج في الصباح (وعليه مرط) المرط هو الكساء.
(مرحل) مأخوذ من الرحل، والرحل هو الذي يوضع على ظهر البعير مثل الكرسي، ويجلس عليه الجالس، فكان هذا الثوب فيه أعلام، يعني على الثوب رسوم، وهذه الرسوم على هيئة الرحل الذي يوضع فوق ظهر الجمل، وليس هو الذي صنعها، فإما أنه اشترى الثوب، أو أهدي له صلى الله عليه وسلم فلبسه، وفيه دليل على جواز لبس مثل هذه الثياب.
قولها: (من شعر أسود) يعني: هذا الثوب مغزول من شعر أسود.(71/7)
شرح حديث: (وعليه جبة شامية ضيقة الكمين)
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير فقال لي: (أمعك ماء؟ قلت: نعم.
فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى) يعني: كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وفي ليلة من الليالي قال للمغيرة بن شعبة: أمعك ماء؟ كأنه يريد صلى الله عليه وسلم أن يقضي حاجته ثم يتوضأ عليه الصلاة والسلام، فـ المغيرة قال: نعم، قال: (فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى في سواد الليل ثم جاء) يعني: ذهب فقضى حاجته صلى الله عليه وسلم ثم رجع، قال: (فأفرغت عليه من الإدواة) أي: من الكوز الذي فيه ماء، (فغسل وجهه وعليه جبة من صوف) كان النبي صلى الله عليه وسلم لابساً جبة من صوف.
(فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة) كأن ذراع الجبة كان ضيقاً فما استطاع أن يخرج يديه منها حتى يتوضأ ويغسل يديه، وفي رواية أخرى: (وعليه جبة شامية ضيقة الكمين) وذكر في رواية: (أنها كانت في غزوة تبوك) يعني: في سنة تسع.
قال: (فغسل ذراعيه ومسح برأسه)، فهذا دليل على وجوب غسل اليدين إلى المرفقين حتى ولو كان الثوب ضيقاً، فلا يكسل الإنسان ويقول: أنا ما سأرفعه، ولكن يخلع الثوب حتى يستطيع أن يتوضأ أو يرفع الكم حتى يخرج يده فيغسل يديه إلى المرفقين.
قال: (فغسل ذراعيه ومسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه) وهذا أدب من هذا الصحابي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان لابس خفين، وفرق بين خلع النعل والخف، فالنعل سهل الخلع، لكن الخف فحتى يزيله لا بد أن يفك الخف، والمغيرة ظن أنه يجب أن ينزع الخف من أجل أن يغسل رجليه صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان مسافراً، والمسافر له أن يمسح على الخفين طالما أدخل رجليه وهما طاهرتان في الخفين إلى ثلاثة أيام ولياليهن.
قال: (ثم أهويت لأنزع خفيه) يعني: انحنى بسرعة من أجل ألا يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) وفيه أنه يجوز لك أن تمسح على الخفين بشرط أن تكون قد لبستهما على طهارة كاملة، يعني: توضأت ولبست الخفين.
وفرق بين الخف والنعل، فالخف رقبته عالية تغطي الكعبين وهما العظمان اللذان في جانب الساق.
وكذلك الجورب له نفس حكم الخف، فإذا لبس الجوربين وأحب أن يتوضأ فطالما لبسهما على وضوء فله أن يمسح على الجوربين كما يمسح على الخفين.
قال: (ومسح عليهما) يعني: مسح على الخفين صلى الله عليه وسلم.(71/8)
استحباب القميص
قال المؤلف رحمه الله: باب استحباب القميص.
يعني: يستحب للمسلم لبس القميص، وقد كان من أحب الثياب التي يلبسها رسول الله، فهو يستر الإنسان، قالت أم سلمة فيما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن: (كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص) وكان عادة العرب أنهم يلبسون الحلة وهي ثوبان: إزار ورداء، والإزار هو الذي يستر ما بين السرة إلى الكعبين، كذلك يلبس الرداء، والرداء فوق المنكبين يستتر بها.
فلبس النبي صلى الله عليه وسلم الإزار والرداء، وكذلك كان يلبس القميص، وكان أحب اللباس إليه؛ لأنه أستر فكان يحبه صلى الله عليه وسلم.
ومن لبس القميص لا يجره على الأرض، وكثير من الناس يفعل ذلك حتى بعض المشايخ، ويتقدم يصلي إماماً بالناس وثوبه إلى الأرض! فهذا غير جائز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون القميص فوق الكعبين ولا يكون دون ذلك.(71/9)
صفة طول القميص الشرعية
قال المؤلف رحمه الله: صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء.
يعني: إذا كان الإنسان يسبل الثوب فهذا حرام، وإذا كان لا يقصد الإسبال، لبس الثوب وتعاهد ثوبه، ولكنه ارتخى منه فلا شيء عليه.
عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت: (كان قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ) رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن.
كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ، ولم يكن طويلاً يغطي أصابعه، وهذا لا يليق، فيكون كم الإنسان إلى الرسغين فقط.(71/10)
شرح حديث: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة
روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) الذي يجر ثوبه خيلاء مثل من يقول للخياط: فصل لي ثوباً طويلاً يجرجر على الأرض، كأنه يريد أن يتعاظم بهذا الثوب، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أن من يفعل ذلك يدخل النار، قال: (لم ينظر الله إليه يوم القيامة، فقال أبو بكر: يا رسول الله! إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده) أبو بكر الصديق كان إزاره يسترخي إلا أن يتعاهده، وقد كان نحيفاً رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلذلك كان يسترخي إزاره منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لست ممن يفعله خيلاء).
إذاً: الإنسان الذي يفعل ذلك عجباً واستكباراً، ومن أجل أن يري الناس أنه غني ويمشي وثوبه على الأرض هذا داخل في ذلك، أما إنسان لم يقصد ذلك، مثل أن تشتري ثوباً فعندما لبسته إذا هو يصل إلى الأرض، فأنت معذور حتى تقصر هذا القميص الذي لبسته.
إذاً: هنا فرق بين من تعمد ذلك، واختار أن يجرجر ثوبه على الأرض، وبين من لم يتعمد ذلك، فالأول ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينظر الله إليه يوم القيامة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً) البطر فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غمط الحق واحتقار الناس، فيضيع حقوق الناس، ويكون مستكبراً على الخلق.
وفي حديث آخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) وليس الإزار هو الذي سيدخل النار، ولكن الذي سيدخل النار صاحب الإزار الذي تعمد ذلك، يلبس قميصاً أو بنطلوناً مجرجراً على الأرض، ويغضب إذا قيل له: ارفع البنطلون إلى فوق الكعب، ويمشي متابعاً الموضة، وإذا انعكس الأمر وكانت الموضة أن يمشي لابساً بنطلوناً قصيراً؛ يمشي به في الشارع! ولا يغضب إلا إذا ألقيت عليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يأمرك بكذا أو ينهاك عن كذا!(71/11)
شرح حديث: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة)
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) هؤلاء الثلاثة لا يكلمهم الله بكلام طيب يوم القيامة، وهؤلاء إذا دخلوا النار يقول الله لأهلها: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فلا ينالهم شيء من الكلام الطيب يوم القيامة، ولا يرد عليهم ربنا سبحانه، ولا ينظر إليهم سبحانه، ولا يزكيهم، هؤلاء مستحقون هذا العذاب الأليم، ولما قالها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر: خابوا وخسروا يا رسول الله! فمنهم؟ فذكر منهم الذي يجرجر ثوبه على الأرض ومثله من يلبس عمامة يطيلها من وراء ظهره أو يطول الأكمام من أجل الموضة.
إذاً: أحد الثلاثة الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم المسبل.
والثاني المنان وهو: الذي يمن على الناس، يعطي ثم يمن، يهب ثم يمن، يزجي معروفاً ثم يمن بهذا الشيء.
إذاً: المنان الذي يمن على الخلق بذلك، وكأنه صار خلقاً له، كلما يعمل معروفاً يمن به، فهو يستحق هذه العقوبة من الله عز وجل، فاحذر أن تعمل معروفاً لإنسان ثم تمن عليه بهذا المعروف الذي أسديته له.
والثالث المنفق سلعته بالحلف الكاذب، إذا كانت السلعة لم يشترها أحد يروج لهذه السلعة بالحلف، فيحلف ويقول: والله إني اشتريها بكذا وأبيع بأرخص، وفيها كذا من أشياء غير موجودة فيها، فيمدح السلعة بالكذب، ويقسم على ذلك، وهو كذاب يريد أن يروج السلعة بالحلف الكاذب، فهو من هؤلاء الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
نسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(71/12)
شرح رياض الصالحين - تحريم إسبال القميص والكم والإزار وطرف العمامة على سبيل الخيلاء وكراهته من غير خيلاء
لقد تهاون الناس في قضية قد تكون هينة عندهم لكنها عند الله عظيمة: وهي قضية الإسبال في الإزار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شدد في النهي عن ذلك، وقد عده بعض أهل العلم من الكبائر؛ لأنه تضمن الوعيد الشديد لفاعله، فيجب على المسلم ألا يتساهل في هذه القضية، فإنها جد خطيرة.(72/1)
باب صفة القميص(72/2)
حرمة الإسبال على سبيل الخيلاء وكراهته بدون ذلك
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
وعن أبي جري جابر بن سليم رضي الله عنه قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه لا يقول شيئاً إلا صدروا عنه.
قلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول الله -مرتين- قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى، قل: السلام عليك، قال: قلت: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك، وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال: قلت: اعهد إلي، قال: لا تسبن أحداً، قال: فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة، قال: ولا تحقرن من المعروف شيئاً، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف، وارفع إزارك إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه) رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح].
هذه الأحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب صفة طول القميص والكم والإزار وطرف العمامة، وتحريم إسبال شيء من ذلك على سبيل الخيلاء، وكراهته من غير خيلاء.
والمقصد من الباب: أن المسلم إذا لبس ثيابه فعليه أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن يطبق شرع الله عز وجل في ذلك، وألا يجري وراء الموضة والهوى، ووراء تقليد المشركين والكفار في أفعال يضلون بها الناس، ولكنه ينظر إلى ما كان يصنعه النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ما جرت عليه العادة في الأقوام في لباسهم فيلبس كما يلبسون مقتدياً بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، فإن كان شيئاً من أفعال أهل الباطل من موضات ونحوها يوافق زي المشركين بحيث تظهر المرأة مفاتنها أو يظهر الرجل عورته وغير ذلك، أو تكون الثياب مما يستعمله المشركون في شعائر دينهم، فلا يجوز له أن يفعل ذلك.
ويجب أن تكون الثياب طويلة للمرأة حتى تسترها أثناء سيرها، أما الرجل فلا بد أن يكون الإزار أو القميص أو البنطلون الذي يلبسه إلى فوق الكعبين (عظمتي الساقين) ولا يجوز أن يزيد عن ذلك، فإن فعل ذلك فإما أن يفعله خيلاء وإما أنه يسترخي منه بغير قصد، فإذا استرخى بغير قصد فقد يتركه وقد يرفعه، فإذا رفعه فقد أحسن وإذا تركه كره منه ذلك، أما إذا تعمد أن يصنعه طويلاً بأن طلب من الخياط أن يجعله مجرجراً في الأرض باعتبار أن هذه هي الموضة، أو ليمشي بين الناس على أنه إنسان غني فهذا هو المحرم.
إذاً فعلى قول النووي أنه إذا فعل ذلك على سبيل الخيلاء فقط فهو حرام، فإن قيل: كيف يكون هذا التحديد بين الخيلاء وغير الخيلاء؟ الآن لو جئت إلى أكبر المغرورين على الأرض وقلت له: أنت مغرور وتلبس الثياب خيلاء، لقال لك: لست مغروراً ولا ألبسها خيلاء، فلا يوجد إنسان يذم نفسه.
إذاً فكونه يذكر ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم (من جر ثوبه خيلاء) فكأنه تعمد أن يصنع الثوب على هذه الصورة، كما أن الذي لا يصنعه خيلاء تعمد أن يصنع الثوب على ما جاء في شرع النبي صلى الله عليه وسلم بأن يكون أقصاه إلى الكعبين، وهذا الذي صنع ثوبه أو بنطلونه على طول الكعبين قد يسترخى منه، فهل جر ثوبه خيلاء؟ ف
الجواب
أنه لم يتعمد ذلك لا في صنعه ولا في لبسه، فهذا ليس خيلاء، لكن يكره له أن يمشي على هذه الحال.
وهذا سيدنا عمر وهو في مرض الموت يأتيه شاب من الأنصار إزاره مجرجر على الأرض، فقال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك.
فلو أنا مشينا على ما يعتقده كل إنسان في نفسه، فسنلغي كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فكل إنسان يلبس القمصان طويلة أو البنطلونات طويلة مجرجرة على الأرض ويزعم أنه لا يلبسها خيلاء.
فهنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صلاة المسبل) وقال: (ما أسفل من الكعبين فهو في النار) فيعذب عليه صاحبه في النار لأنه تعمد ذلك.
ومن الأحاديث التي أتت عنه صلى الله عليه وسلم قوله: (الإسبال في الإزار، والقميص، والعمامة، من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) قال: (من جر شيئاً خيلاء) يعني: من الإزار أو القميص أو العمامة.
وذكرنا قبل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، فقال أبو ذر بعد أن قالها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: خابوا وخسروا! من هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: المسبل) الذي يطول هذه الأشياء؛ لكي يتحدث الناس عنه بأنه أشهرهم وأعتاهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والمنان) يعني: الذي يعطي الهدية والصدقة ويهب الهبة ثم يمن على من أعطاه ذلك.
قال (والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) أي: الذي يبيع السلعة فيكذب على المشتري فيقول: إنها أفضل ما يكون، وهو يبيعها برخص لحاجته إلى ثمنها وهو كاذب فيما يقول.(72/3)
نباهته صلى الله وسلم في قرع أبواب القلوب وتقريبها نحو خالقها جل في علاه
ثم ذكر حديثاً يرويه أبو داود والترمذي عن أبي جري واسمه جابر بن سليم رضي الله عنه قال: (رأيت رجلاً يصدر الناس عن رأيه) وكأنه كان في أول إسلامه، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، فوجد أنه صلى الله عليه وسلم الناس يسألونه ويعملون بما يقول عليه الصلاة والسلام، (فسأل الناس: من هذا؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: عليك السلام يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فلما قال ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحية الموتى) وكانت عادة أهل الجاهلية حينما يذكرون فلاناً الذي مات يقولون: عليك السلام يا فلان، ومنه قول من قال: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما فقال له ذلك لأنه قد مات.
ويقول الشماخ: عليك سلام من أديم وباركت يد الله في ذاك الأديم الممزق فيقول له: عليك سلام الله، لكن الحي لا يقال له: عليك سلام الله، إنما يقال للحي: السلام عليك.
بل علمنا النبي صلى الله عليه وسلم إذا جئنا عند القبور أن نسلم على الأموات بذلك: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون).
فإذا سلمنا على الأحياء أو أصحاب القبور فإننا نقول: السلام عليكم.
ثم يقول هنا: (قلت: أنت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك).
وهذا الكلام العظيم جميل من النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل عربي وقد جاء يأخذ جمله وإبله وارداً إلى عين الماء ليشرب الجمل من البئر ثم يصدر، كما يصدر الصحابة عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يرويهم بكلامه العظيم وبأحكامه العظيمة عليه الصلاة والسلام فيصدرون عنه وقد شبعوا مما قال صلى الله عليه وسلم منفذين ما يقوله عليه الصلاة والسلام.
فعظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه فقال: (أنت رسول الله؟!) معجباً ومتعجباً ومنبهراً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبطاعة أصحابه له، فإذا به يتواضع عليه الصلاة والسلام ويقول: (أنا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- الذي).
ولم يقل هنا: أنا صفتي كذا وكذا، فطالما أنت منبهر ومندهش بذلك فاذكر نعم الله سبحانه عليك.
قال: (أنا رسول الله سبحانه تبارك وتعالى الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك).
قال: (وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك) فالله الذي ينبت لك الأرض حين يصيبك عام سنة، يعني: عام جدب، أو عام ليس فيه ماء، فلا سحاب نازل ولا مطر موجود ولا عيون ماء تروي بها الأرض، فإذا به يدعو الله عز وجل، فيفرج الله هذا الكرب عن العباد وينبت لهم سبحانه.
قال: (وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك) وانظروا إلى جمال كلامه صلوات الله وسلامه عليه! فهذا الرجل يتكلم في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم (أنت رسول الله؟) عليه الصلاة والسلام، فإذا به يتواضع مبيناً أن الذي يفعل هذه الخيرات كلها، ويسديها إليك هو الرب القادر الذي يفعل ويفعل سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك وإذا أصابك عام سنة فدعوته أنبتها لك، وإذا كنت بأرض قفر أو فلاة فضلت راحلتك فدعوته ردها عليك، قال الرجل: قلت: اعهد إلي)؛ لأنه أعجب بكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فبدأ الرجل يدخل في هذا الدين ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني وقل لي مثلما قلت لهؤلاء فصدروا عن رأيك وقولك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبن أحداً) أي: إياك أن تسب أو تشتم أحداً، فإذا بالرجل يطيع رضي الله عنه، ويقول: (فما سببت بعده حراً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تحقرن من المعروف شيئاً) واحتقار المعروف يمنع الإنسان من فعله، فإذا وجد مسماراً على الأرض لنجار مثلاً لم يعطه بحجة أن عنده كثيراً من المسامير فلا يحتاج إليه، فقد تستهين بشيء يكون فيه نفع لصاحبه الذي تعطيه إياه، وكذلك إذا وجد ثمرة تردد في إعطائها للمسكين وتعلل بقلتها مدعياً بأنه سيحرجه، ولو أعطاه لكان خيراً له حتى لو كان قليلاً فستجد له طالباً يطلبه، فافعل المعروف وأعن عليه ولا تحتقر منه شيئاً، قال: (وارفع إزارك إلى نصف الساق) أي: بين الركبة والكعبين.
قال: (فإن أبيت)؛ لأن الإنسان يمكنه أن يقول: أريد لإزاري أن يكون طويلاً.
قال: (فإن أبيت فإلى الكعبين) إذاً فآخر حدك عند الكعبين: وهي العظمتان اللتان في آخر الساقين.
قال: (وإياك وإسبال الإزار) أي: أحذرك أن تطول الإزار عن الكعبين؛ ثم قال: (فإنها من المخيلة) إذاً فكون الإنسان يفعل ذلك ويطلبه فهذا هو الخيلاء، الذي منع منه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فإنها من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة).
ثم نصحه صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (وإن امرؤ شتمك وعيرك بما يعلم فيك فلا تعيره بما تعلم فيه) وهذا أدب عظيم من آداب الإسلام، فإنك مأمور بالستر على عيوب الخلق وعيبوك.
قال: (لو أن إنساناً عيرك) قال هنا: (بما يعلم فيك)، وقال في حديث آخر: (بما لا يعلم فيك) يعني: قد يعيرك بشيء موجود فيك أو بشيء ليس عندك لكنه يفتري عليك، فأنت إذا كنت تعرف فيه عيوباً فلا ترد عليه؛ ليكون وباله عليه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فلا تعيره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه).
إذاً فاتركه يأخذ جزاءه يوم القيامة، ولا تعتد على سب الناس أو فضحهم، بل عليك أن تكون كاتماً لأسرار الناس ساتراً على عيوبهم، حتى وإن أرادوا فضيحتك، فإن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، فالله يدافع عنك ويجعل الناس يحتقرون هذا الذي يتكلم عنك ويريد أن يفضحك بشيء فيك أو ليس فيك ويتكفل بالستر عليك، فلا تأبه لهذا الإنسان ولا تجاوبه بمثل ما قال.
والمقصد من الحديث هو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة) فهو يعلم المسلمين التواضع وعدم تقليد أحد من الخلق، فإذا أردت أن تقتدي فإمامك وقدوتك والأسوة الحسنة لك هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21]، وليكن حياؤك من الله عز وجل أعظم في قلبك من حيائك من الناس.(72/4)
رضا الله تعالى فيه السعادة والنجاة
المؤمن ينظر في شرع الله بتمعن فينفذ ما أمره به الله ولا يستحيي من أحد، فإذا كان أهل المعاصي لا يستحيون من معاصيهم التي يفعلون، فتجده يعمل شعره بصورة معينة كالشيطان، ثم يمشي في الشارع ويقول: هذه موضة، ولا يستحيي من ذلك.
وتجد المسلم يستحي أن يقصر القميص؛ لأن الناس سيقولون علي كذا وسيفعلون، فهنا أنت تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فمالك وللناس؟ فلو نظرت لكلام الناس فلن تذهب ولن تأتي، فمن الصعب أن ترضي الناس؛ لأن رضا الناس غاية لا تدرك، ورضا الله غاية تدرك فلا تترك هذه الغاية، ثم ما الذي يجعلك تعرض عن رضا الله إلى رضا الناس؟! وقد طمأنك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أرضيت الله بسخط الناس رضي الله عنك وأرضى عنك الناس)، فرضا الله تبارك وتعالى هو أعظم الغايات وأجلها، قال: (ومن أرضى الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس)، أرضى الناس بالنفاق والكذب والمعصية ثم بعد قليل يقول الناس: أليس هذا الذي كان يعمل المعصية وكان يعمل كذا وكذا لكي يجامل من حوله؟ إذاً فغضب الله على هذا الإنسان جعل الناس يغضبون عليه ولم يرضهم بذلك.
فليكن لك طريق واضح هو طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فالذي ترضيه بالمعصية قد يتوب يوماً من الأيام، ثم بعد ذلك يسخط عليك ويقول: كنت تغويني وتضلني، وكنت تنافقني وأنت تعمل هذا الشيء، فتسقط من عينه في يوم من الأيام، فما الذي يجعلك ترضي الناس بمعصية الله سبحانه؟! وهنا قال: (إياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله سبحانه تبارك وتعالى).
فلا تتعاظم على الناس، ولا تفعل شيئاً تحس فيه أنك أعلى من الناس، حتى إنك تجد بعض الناس يلبس نظارة معينة، ويضع على رأسه شيئاً معيناً كطرح النساء ثم يربطها ويمشي بها تقليداً للغرب في هذه الأشياء، ويظن أنه أصبح أعلى من الناس، وفي الغرب يعملون هذه الأشياء بداعي الحرية؛ لأنهم يشعرون في أعماق قلوبهم بشيء من الذلة والحقارة، فيريدون طرد هذا الشعور بهذه الأشياء العجيبة! حتى إنهم يعملون اجتماعات لأنفسهم في أماكن معينة؛ ليعمل كل واحد منهم ما يشاء، فهذا يغني بصوت مرتفع أوحش من صوت الحمار والآخرون يسمعون وهذا يرقص ويتمطط بزعم الحرية، وفي الحقيقة هم يريدون أن يهربوا من شيء لا يعلمون ما هو؛ لأن الشيطان سكن قلوبهم، ثم يحلو لهم الانتحار في النهاية، وهم بعكس المؤمن تماماً، فالمؤمن قد يبيت جائعاً تارة ومريضاً تارة أخرى إلا أنه راض بالله سبحانه وتعالى، والكفار يحسدون المؤمنين على هذا الرضا والطمأنينة بالله سبحانه كما يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فلا يستطيعون أن يصلوا إلى هذا الشيء، وفي الآخر ينتحرون ليتخلصوا بزعمهم من هذه الدنيا، كفر في الدنيا ونار في الآخرة والعياذ بالله، ومع هذا كله تجد المسلم في النهاية يقلد هؤلاء ويجعلهم أئمة يتبعهم في دينه ودنياه، ويظل ماشياً وراءهم في شذوذهم وغرورهم في لباسهم وأفعالهم وكفرهم بالله سبحانه تبارك وتعالى، فأين عقل الإنسان المسلم؟! فالمسلم دينه الإسلام، وغايته واحدة وهي رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا أرضى الله رضي الله عنه وأرضاه، وليس شرطاً أن يعطيك في الدنيا ليكون راضياً عنك، بل يرضيك الله بأن يجعل الطمأنينة في قلبك كما جعلها في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يبيت الليلة والثانية والثالثة لا يجد في بيته طعاماً، ولا يوقد في بيته الشهر والشهرين نار عليه الصلاة والسلام، وقد كان يعصب الحجر على بطنه من شدة الجوع، ففي رضا الله عز وجل يهون كل شيء.
فالإنسان المؤمن ينتظر رضا الله عز وجل عنه بأن يرضيه، وأن يجعل قلبه ممتلئاً بالإيمان، وأن يجعل في قلبه حب الله سبحانه تبارك وتعالى، فيستشعر أنه غريب في هذه الدنيا، وأنه كالإنسان المسافر المرتحل عن دار الغربة إلى دار الإقامة الأبدية، فلا يتوقف ولا يستريح إلا بعد أن يبلغ منيته وهدفه وهو الفوز بالجنة والنجاة من النار.
فعلى المسلم أن يستشعر قصر وقت الدنيا، فيعمر دنياه بالطاعة والعبادة، ويجعل الموت نصب عينيه، فلو جاء ملك الموت لقبض روح الإنسان لتمنى أن يصلي ركعتين فقط لله عز وجل، وما هو بفاعل ذلك، ولو تركه يصلي ركعتين بمقابل ثمن معين يدفعه لدفع كل شيء في سبيل ذلك، والآن يستطيع أن يصلي ألف ركعة بل مليون ركعة فلم لا يفعل ذلك؟ ولم يغتر بهذه الدنيا ويترك طاعة الله ورضاه سبحانه تبارك وتعالى؟(72/5)
هل يعيد المسبل صلاته؟
قال المؤلف رحمه الله تعالى: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بينما رجل يصلي مسبل إزاره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال: اذهب فتوضأ، فقال له رجل: يا رسول الله! مالك أمرته أن يتوضأ ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل) رواه أبو داود، قال النووي بإسناد صحيح على شرط مسلم، لكن الإسناد نفسه فيه ضعف.
وجاء في حديث آخر قوله: (من أسبل إزاره في صلاته خيلاء فليس من الله في حل ولا حرام).
فالمعنى قريب، لكن الأمر بالوضوء من ذلك لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فالغرض: أن هذا الذي يصلي وهو مسبل إزاره -إن صح الحديث- فيكون أمر من النبي صلى الله عليه وسلم له بإعادة الصلاة من باب التأنيب له فحسب، وليس المعنى أننا نحكم عليه ببطلان صلاته، ولكن الحديث في إعادة الصلاة من إسبال الإزار لم يصح عنه صلوات الله وسلامه عليه، وإنما يكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة مسبل) فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم هذا الحكم.
فلذلك احذر أن تصلي وأنت مسبل إزارك أو قميصك أو عمامتك أو بنطلونك، فلعل الله عز وجل لا يقبل منك هذه الصلاة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(72/6)
شرح رياض الصالحين - من (تحريم الإسبال) إلى (استحباب التوسط في اللباس)
لقد حث الإسلام على المحافظة على الوقت؛ لأن ابن آدم فيه لحظات، إذا ذهبت لحظة ذهب بعضه، وليس من المحافظة على الوقت ألا تخالط الناس أو تسمع منهم، إلا إذا كانت مخالطتك إياهم ستؤدي بك إلى بحر من المفاسد لا ساحل له، فالذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.(73/1)
شرح حديث سهل بن الحنظلية: (لا بأس أن يؤجر ويحمد)
قال الإمام النووي رحمه الله: [وعن قيس بن بشر التغلبي قال: أخبرني أبي -وكان جليساً لـ أبي الدرداء - قال: كان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له سهل بن الحنظلية، وكان رجلاً متوحداً قلما يجالس الناس، إنما هو صلاة فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، فمر بنا ونحن عند أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك.
قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت، فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو، فحمل فلان وطعن، فقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري، كيف ترى في قوله؟ قال: ما أراه إلا قد بطل أجره.
فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً، قال فتنازعا حتى سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد وذكر الحديث) رواه أبو داود.
قال النووي: بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا في توثيقه وتضعيفه، وقد روى له مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وحديث قيس بن بشر التغلبي قال فيه الإمام النووي: رواه أبو داود بإسناد حسن، لكن العلماء اختلفوا في تحسينه وتضعيفه، فضعف هذا الحديث الشيخ الألباني رحمه الله، وحسنه النووي كما سبق، وقد اختلفوا في توثيق رجل من رواة هذا الحديث وهو قيس بن بشر، فمن حسنه قال: إنه من رجال مسلم، ومن ضعفه أخذ بتضعيف من ضعفه من العلماء، والحديث رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
إذاً: فإسناد الحديث محتمل للتحسين، وقيس بن بشر التغلبي هنا يروي عن أبيه وهو بشر التغلبي، وكان رجلاً من التابعين وجليساً لـ أبي الدرداء رضي الله عنه.
وكان أبو الدرداء في الشام بدمشق، وكان بدمشق رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له: سهل بن الحنظلية، وقد ذكر الحديث أنه كان رجلاً متوحداً، يعني: منفرد عن الناس لا يخالطهم كثيراً، فكان رجلاً متوحداً مشغولاً بالصلاة والقيام وأعماله الصالحة.(73/2)
خالط الناس إذا أمنت على دينك وإلا فلا
وهنا اختلف العلماء في أيهما أفضل: مخالطة الناس أم عدم مخالطة الناس؟ فهذا الصحابي أخد بعدم المخالطة والبعد عن الناس، فطالما غيره موجود فسيكفيه مئونة الناس، وأبو الدرداء كان يجالس الناس عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) وقد جاء عنه أيضاً (أمر المؤمن باعتزال الناس إذا وجد شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وأعجاب كل ذي رأي برأيه).
والراجح أن الاختلاط بالناس إذا كان مصحوباً بالفتن والأذى فالبعد عنهم واعتزالهم أفضل من الاختلاط بهم، أما إذا كان بمخالطته لهم سيدعوهم إلى الله عز وجل ويسمعون ويطيعون لما يأمر به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالأفضل أن يخالطهم، والله أعلم.
فالقصد: أن هذا الصحابي الفاضل كان رجلاً متوحداً يعني: قليل الاختلاط بالناس.
قال: إنما هو صلاة يعني: أن حاله دائماً في صلاة أو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله، قال: فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير.
والإنسان الذي يعلم أنه ملاق ربه سبحانه لا يشغله الناس عن طاعة الله سبحانه، فمن المستحيل على الإنسان أن يرضي كل الناس؛ لأن رضا الله غاية لا تدرك؛ ورضا الناس غاية لا تترك، فلأجل رضا الله سبحانه ينشغل الإنسان بما يرضي ربه سبحانه، فينشغل الإنسان بطاعة الله ولا يشغله أحد أبداً عن طاعة الله سبحانه، ولو أنك أعطيت للناس وقتك كله فلن يكفيهم، ولن يهمهم أن يضيعوا وقتك واستفادتك أبداً، فمن احتاج إلى شيء معين أراد تحصيله ولو كان في ذلك ضرر على الآخر، وهذا هو حال الناس في الغالب، لكن المؤمن الفطن الذكي يعرف أن وقته أغلى وأثمن شيء عنده فيعطي للناس ما فاض عن ذلك، أما أصل وقته فإنه لا يفرط فيه، فهو يعلم أن من المفروض عليه أن يمضي هذا الوقت في الصلاة والصوم وطلب العلم الشرعي وغيره، فهو لا يفرط في ذلك ولا يتلهى عنه بشيء مهما كانت الأعذار التي أمامه، وحتى لو غضب الناس عليه، فلا يهمه ذلك طالما أنه يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى.
وإذا كان الإنسان على ذلك فإن الله يرضى عنه ويرضي الناس عنه يوماً من الأيام، لكن الإنسان الذي يظل يعطي الناس وقته لكي لا يحزنوا منه، فلا يحفظ شيئاً في النهار، ولا يقرأ شيئاً، ولا يذاكر ولا يلقي درساً فسيضيع في النهاية، فعلى المؤمن ألا يستحي من رده إذا كان في شغل يشغله عنهم فهو أولى باستغلال وقته من غيره، وقد علمنا الله ذلك في كتابه فقال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
وللأسف فنحن في زمن يحزن فيه الناس إذا قيل لهم: ارجعوا، ويظن من هذا القول أنك تترفع عليه، ولم يدر هو نفسه أنه يقطع عليك عبادتك ووقتك الثمين، فهو لا يهتم بذلك بل يريدك أن تكون حلاّلاً لمشاكله فقط، وإن لم يعبر عن ذلك بقوله فحاله يدل على ذلك، بل قد تجد إنساناً يأتيك بعد صلاة العشاء ليسهر معك ويضحكك وأنت تنتظر رحيله عنك بفارغ الصبر، ولم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المسامرة بعد العشاء.
وهذا لا يعارض أن بعض أصحابه كانوا يسهرون معه مثل أبي بكر وعمر؛ لأنهم كانوا يسهرون معه في مصالح المسلمين، فلا يسهروا لأجل أن يعطلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وليس كل إنسان يصلح للكلام في مصالح المسلمين.
أنت عندما تجلس مثلاً تختم الصلاة بعد الصلاة ثم تقرأ آية الكرسي، وأنت تعلم أنك إذا قرأتها ليس بينك وبين الجنة إلا أن تموت، فيأتي فلان ليعطلك عن هذا الذكر، فيريد منك كذا ويسألك في كذا، وهل هذا الإنسان يستحق أنك تضيع الجنة لأجل خاطر كلامه؟ ثم ألا يصبر هو على هذا الشيء؟ وغالباً تكون الأسئلة بعد الصلاة فارغة لا معنى لها، وغالباً ما يلقيها الشيطان ليضيع الذكر عليهما جميعاً، إذاً فالجلوس للناس مضيعة للوقت، إلا أن يكون لأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو لأشياء يحتاج إليها الناس.
وفي رمضان مثلاً تجد البعض يدخل ليصلي، ثم يخرج في نصف التراويح إلى الشارع واقفاً لا يعمل شيئاً، فمن الصعب عليه أن يكمل صلاة التراويح، وهو واقف في الحالين لكن سبحان الله! ما الذي جعل هذه الوقفة أحلى من تلك التي في المسجد؟ إنه الشيطان، يضحك على الإنسان ليخدعه فيضيع وقته.(73/3)
حال الصحابة مع الوقت
كان الصحابة أحرص ما يكونون على أوقاتهم، حتى إنهم ليحتسبوا لعبهم في النهار لأجل التمرن على الجهاد، فكانوا يجرون بين الأغراض، والجري هو: العدو بين الأغراض، فإذا جاء الليل كانوا رهباناً، فلم يضيعوا صلاة النافلة مع أنها نافلة؛ لأنه ثمين لن يعوض أبداً.
فلذلك احرصوا على عدم تضييع أوقاتكم، فعمرك الذي يضيع لن يرجع إليك مرة ثانية، فالله يتوفى الأنفس ويقبضها وافية، فكأن عمرك دين يتقاضاه الله عز وجل شيئاً فشيئاً، فلا تضيع عمرك فيما لا ينفع.
فهذا الصحابي (كان متوحداً قلما يجالس الناس، إنما هو صلاة) يعني: شغلته الصلاة.
(فإذا فرغ فإنما هو تسبيح وتكبير حتى يأتي أهله) يعني: حتى وهو في الشارع يقول: سبحان الله، والحمد لله؛ لأنه يعلم أنها غراس الجنة: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ويقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ويقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] عشر مرات فيبني له بيت في الجنة، فشغله الشاغل في تحصيل هذه المعاني والدرجات.(73/4)
تعلم العلم ولو ممن هو دونك فيه
كان هذا الصحابي رضي الله عنه منشغلاً بهذه الأذكار، قال: (فمر بنا -ونحن عند أبي الدرداء -فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك) وأبو الدرداء رجل فاضل، وصحابي عظيم رضي الله عنه، وعالم من علماء المسلمين فيقول له: كلمة، يعني: اجلس وقل لنا كلمة أو حدثنا حديثاً ينفعنا ولا يضرك.
ولم يقل له: تعال اجلس معنا لنضيع الوقت مع بعضنا، فجلس لهم هذا الرجل الفاضل رضي الله عنه وقال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فقدمت فجاء رجل منهم فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حين التقينا نحن والعدو فحمل فلان وطعن وقال: خذها مني وأنا الغلام الغفاري).
يعني: أنه ضرب كافراً برمحه وقال له: خذها وأنا الغلام الغفاري، فانتسب لقومه، فهل جهاده صحيح أم لا؟ فقال أحد الجالسين: (ما أراه إلا قد بطل أجره)؛ لأنه افتخر بنسبه فبطل أجره.
قال: (فسمع بذلك آخر فقال: ما أرى بذلك بأساً) فتنازع الاثنان إلى أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (سبحان الله! لا بأس أن يؤجر ويحمد).
ففي موضع القتال لا مانع من التنافس؛ لأنه في النهاية نصر للإسلام ونصر لدين الله عز وجل، فجاز للمجاهد أن يظهر القوة أمام الكافر ولو بالخيلاء، حتى يرهب عدو الله سبحانه تبارك وتعالى.
فقال الراوي: (فرأيت أبا الدرداء سر بذلك وجعل يرفع رأسه إليه ويقول: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، فيكرر عليه: أنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: نعم، قال: فما زال يعيد عليه حتى إني لأقول ليبركن على ركبتيه).
يعني: من شدة فرح أبي الدرداء بهذا الحديث وأن الرجل لم يبطل عمله، وكأنه شاهد الكثيرين يفعلون ذلك، فلما سمع ذلك فرح أن هؤلاء لم تحبط أعمالهم رضي الله عنهم فقال ذلك.
قال: (فمر بنا يوماً آخر) أي: في يوم آخر.
(فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك) أي: مثل الكلمة السابقة، وهل أبو الدرداء لم يكن يحفظ أحاديث يحدث بها؟ فهذا دليل على أن العلم مطلوب للعالم والمتعلم، فقد روى أبو الدرداء أحاديث كثيرة جداً أكثر مما روى ابن الحنظلية رضي الله عنهما، لكنه مع ذلك أحب أن يستفيد علماً إلى علمه من علم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: قل لنا كلمة تنفعنا ولا تضرك.(73/5)
سرعة استجابة الصحابة لأمر الله ورسوله
(فقال الرجل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل خريم الأسدي) وخريم هذا صحابي فاضل ويكفي في فضله أن يمدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (نعم الرجل) إلا أنه قال: (نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره).
فلولا طول شعره -وهو جمته- وإسبال إزاره إلى تحت الكعبين لكان من أفضل الرجال.
قال: (فبلغ خريماً) وكان الصحابة يحبون الخير، فبسرعة قالوا لـ خريم: إن النبي صلى الله عليه وسلم مدحك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ينصحك بكذا، فبمجرد أن سمع الرجل ذلك: (أخذ شفرة فقطع بها جمته إلى أذنيه).
فلم يقل سأذهب إلى الحلاق، بل أخذ ينفذ وصية النبي صلى الله عليه وسلم حالاً بيده، قال: (ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه).
وهذا هو التنفيذ لأمر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد:21].
فالمؤمن يسارع بالتنفيذ، فهذا الرجل الفاضل لم ينتظر الذهاب إلى لحلاق، ولم يبحث عن مقص يقص به شعره، بل أخذ السكين وقطع بها شعره حتى يرضي الله سبحانه تبارك وتعالى بطاعة نبيه عليه الصلاة والسلام.(73/6)
ليس من الكبر تحسين المظهر
قال: (ثم مر بنا يوماً آخر - يعني: ابن الحنظلية - فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش).
وهذا تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) وقد صح هذا في حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم، فالفحش يقع في كل شيء، في خلق الإنسان، في كلام الإنسان، في أفعال الإنسان، في هيئة الإنسان، فلا يحب الله عز وجل ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هنا في الحديث: (إنكم قادمون) وكأنهم كانوا في سفر فقاربوا من المدينة التي سيدخلونها، فقال لهم: (إنكم قادمون على إخوانكم).
إذاً: فعندما تدخلوا عليهم ادخلوا ومناظركم جميلة، سرح شعرك، والبس ثياباً حسنة، بحيث إن الناس لا يرونك في هيئة المسافر الأشعث الأغبر الذي لا يسر منظره، بل أصلح شأنك عندما تدخل المدينة.
قال: (فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس) والشامة الحسنة: هي التي تكون في جسد الإنسان، فهو يقول لهم: كونوا في الناس كمثل الشامة في الجسد، شيئاً طيباً معروفاً في وسطهم ليس شيئاً منكراً.
قال: (فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش) فكأن من الفحش والتفحش أن الإنسان يلبس الملابس القذرة، فيترك شعره في حالة رثة، ويمشي في الطريق وهو على هيئة منكرة، فلا ينبغي له ذلك بل لا بد أن يصلح من نفسه.
ولذلك (لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يوماً رجلاً قد هاش شعره، - أي انتفش وارتفع- فقال: أما يجد هذا ما يرجل به شعره؟) يعني: ألا يجد مشطاً يسرح به شعره؟ فيجب على المؤمن ألا يبالغ في الشيء ولا يفرط في تركه، فالمبالغة كأن يجلس الإنسان مع مشطه طول النهار يسرح شعره، فهذا ليس بمطلوب شرعاً، لكن الواجب عليه أيضاً ألا يترك هذا الأمر لئلا يبقى منظره مزرياً وهيئته رثة.(73/7)
شرح حديث: (إزرة المسلم إلى نصف الساق)
روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق) ومثله القميص ونحوه.
قال: (ولا حرج فيما بينه وبين الكعبين) يعني: إلى الكعبين (العظمتين اللتين في آخر الساق)، فلا بأس أن يكون إزاره إلى هنا.
قال: (فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار) أي: أن صاحبه في النار.
قال: (ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله إليه) أي: جر الإزار، والإنسان إما أن يجر إزاره معذوراً، كأن يكون نحيفاً فاسترخى عليه الثوب من تحت حزامه فهذا معذور، أما الإنسان الذي يذهب إلى الخياط فيفصل له ثوباً مجرجراً طويلاً في الأرض بطلبه فهذا هو الخيلاء والبطر الذي نهى عنه النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء فقال: يا عبد الله، ارفع إزارك).
وعبد الله بن عمر هنا لم يكن متعمداً في ذلك، ولكن الإزار استرخى منه وهو يمشي فتركه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارفع إزارك، قال: فرفعته).
قال: (ثم قال: زد، فزدت، فما زلت أتحراها بعد).
وعبد الله بن عمر إذ ينصحه النبي صلى الله عليه وسلم فإنما ينصح رجلاً مشهوراً بالعبادة، فهو يعطيه ما يليق به، فلذلك (قال بعض القوم: إلى أين؟ فقال: إلى أنصاف الساقين).
فهنا دله النبي صلى الله عليه وسلم على المستحب وليس على الواجب، وإلا فالواجب أن يكون إلى العظمة التي في الساق وهي الكعبين، لكن المستحب أن يكون الإزار أو القميص ما بين الركبة والساق، أي: في نصف الساق، وهو المكان الذي كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يلبس إزاره إليه.
وروى أبو داود والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، وإسناد الحديث صحيح، وهو من حديث ابن عمر أيضاً مرفوعاً (من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) ومعنى أن الله لا ينظر إليه: أي أنه غضبان منه، فإذا لم ينظر الله عز وجل إليه، فهل سينتظر منه رحمة يوم القيامة؟(73/8)
كيف تكون إزرة النساء
قال: (فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن، قال: يرخين شبراً.
قالت: إذاً تنكشف أقدامهن.
قال: فيرخينه ذراعاً لا يزدن).
فكأن المرأة لابد لها أن تستر قدميها أثناء سيرها؛ لأنها قد تلبس خفاً أحياناً أو نعلاً يظهر قدميها غالباً.
فالسيدة أم سلمة رضي الله عنها تسأل النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (كيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبراً) أي: هل النساء مثل الرجال؟ فالرجل مستحب له إلى نصف الساق، قال: تنزل عن ذلك شبراً، فترخي شبراً من موضع الاستحباب من الرجل، أي: من نصف ساقها، فقالت: (إذاً تنكشف أقدامهن) يعني: أنه لو كان شبراً من نصف الساق المستحب للرجال فستنكشف القدم أثناء سيرها، قال: (فيرخينه ذراعاً) يعني: فمن نصف الساق يكون بمقدار ذراع فقط.
والمقصود منه: جعل الثوب يغطي القدمين، وخصوصاً إذا كانت القدم حافية أو كانت تلبس شيئاً يكشف القدمين، أما إذا كانت تلبس حذاء أو خفاً أو نعلاً يستر قدميها فلا يلزمها حينئذ أن تدني إزارها بقدر الذراع، ولكن بالشيء الذي تمشي به بحيث لا تنكشف قدمها ولا ينكشف ساقها.
وإذا كانت المرأة تمشي وعليها ثوب طويل يستر قدميها، فأصاب هذا الثوب شيئاً نجساً في الأرض فكيف يتم تطهيره؟ ف
الجواب
قد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن الأرض كفيلة بتطهيره، فإذا أصاب ثوبها شيء من النجاسة في مكان ثم تابعت مشيها فإن الأرض تطهر ما تنجس في المرة الأولى، ولا يجب عليها أن تغسله بل تصلي فيه، والله أعلم.(73/9)
استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استحباب ترك الترفع في اللباس تواضعاً].
ينبغي للإنسان إذا لبس ثوباً أن يتواضع لله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يبحث عن أرفع الأشياء ليكلف نفسه ووالديه، فإنه يكون في النهاية مدعاة للخيلاء وكسراً لقلوب الفقراء، فلا داعي لهذا الشيء، فقد تقدر أنت على هذا الشيء ولكن غيرك لا يقدر عليه، ويكون أبناؤك ذاهبين إلى المدرسة أو مكان آخر وملبسهم أفخر الأشياء وأضخمها وبجوارهم تلامذة فقراء لا يجدون هذا الشيء، وقد تعطيه أجود أنواع الطعام والذي بجواره ينظر إليه، فإما أن يحقد عليه، وإما أن ينكسر قلبه بذلك، فيحس بأن أباه لا يأتي له بشيء، فأظهر التواضع حتى ولو كان معك ما كان.
ذكر هنا حديثاً رواه الترمذي من حديث معاذ بن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله).
يعني: من ترك اللباس الفاخر والثياب الغالية، وإن كانت حلالاً، ولكنه تركها تواضعاً لله ليس بخلاً على نفسه، فلا يريد أن يأتي بالحذاء الذي ثمنه مائة جنيه أو مائتين بل يأخذ حذاء ثمنه عشرة جنيهات أو خمسة فيلبسه تواضعاً لله سبحانه تبارك وتعالى.
فإذا لبس الثوب الرخيص متواضعاً وهو قادر على الغالي فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها).
فالجزاء من جنس العمل، فأنت تركت الثياب الفاخرة، فتعال يوم القيامة واختر إذاً أعلى وأغلى وأعظم الثياب ونقي الذي تريده، والآن تجد الإنسان يريد أن يظهر أنه غني، فيذهب مع مجموعة إلى أفخم دكان فيدخل فيه وينقي أغلى الأشياء أمام من حوله ليقال عنه كذا، فلعله يحرم من هذا المال في الدنيا بسبب فخره وخيلائه، أما يوم القيامة فهو يوم النتيجة والفلاح الأعظم نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المفلحين، فيأتي ربنا بهذا الإنسان ويقول له: تعال واختر أفضل شيء تريده من أي أنواع ثياب الإيمان التي يلبسها أهل الإيمان، واختر أفخر حلة تريد أن تلبسها في هذا اليوم.
قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها).(73/10)
باب استحباب التوسط في اللباس
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب استحباب التوسط في اللباس ولا يقتصر على ما يزري به لغير حاجة ولا مقصود شرعي].
يعني: أنك إذا تواضعت ولبست الثياب العادية، فلا يشترط فيها أن تكون مرقعة أو قذرة، ليس هذا بمطلوب شرعاً، بل تلبس ثياباً نظيفة مثل غيرك من الناس.
ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -أيضاً رواه الترمذي - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يُرى أثر نعمته على عبده).
وفي رواية: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
وسببه: (أن رجلاً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم وكان لابساً ثياباً رثة، تدل على أنه فقير محتاج، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أنعم الله عز وجل عليك من أنواع المال؟ فقال: من كل أنواع المال قد أنعم الله علي) يعني: أن الله أعطاني من كل شيء، من الإبل والبقر والغنم.
قال: (إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه) فالله عز وجل إذا أعطاك من النعم، فلماذا تمشي في ثياب الفقراء؟ فمن المحبب أن تظهر آثار نعم الله عز وجل عليك.
فلا يجوز أن يكون الإنسان متواضعاً بحيث يصل إلى درجة البخل، فيلبس الثوب المرقع، أو الثوب غير النظيف، ولا أنه يختال ويفتخر على الناس، بل لا بد من التوسط، فيلبس الثياب الطيبة النظيفة التي يلبسها سائر الناس، ولا يترفع على الناس ولا يتعالى بل يلبس الثوب الذي إذا رآه الفقير أحب أن يأتي إليه ويكلمه ويستشعر فيه أنه متواضع؛ لأنك إذا لبست بدلة غالية الثمن خاف الفقير أن يقرب منك معتقداً أنك ذو منصب عالٍ فلا يكلمك، وأنعم بذلك أن يستشعر الفقير أنك مثله، ولو بتواضعك وحسن خلقك، فلعلك تحشر مع المساكين يوم القيامة، الذين تمنى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحشر معهم فقال (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين).
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(73/11)
شرح رياض الصالحين - من (تحريم لباس الحرير على الرجال) إلى (ما يقول إذا لبس ثوبًا أو نعلاً أو نحوه)
لكل جنس من المخلوقات خصائص اختصه الله بها، وقد ميز الله الرجال بخشونة القول والفعل، لذا كان تحريم لبس الحرير والذهب واستعمالها أنسب في حقهم، ورخص في ذلك بقدر الحاجة، وجاء النهي عن لبس جلود السباع وافتراشها.(74/1)
حرمة لبس الحرير على الرجال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء.
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير؛ فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه.
وعنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) متفق عليه.
وعن علي رضي الله عنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي)].
هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين في باب تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه، وجواز لبسه للنساء.(74/2)
الحكمة في تحريم الحرير على الرجال
خلق الله سبحانه تبارك وتعالى ما يباح للخلق كلهم، وخلق الله عز وجل ما يشرع للبعض من عباده وما لا يجوز للبعض الآخر، فالذي يملك أن يشرع ويأمر وينهى هو الله سبحانه، وله الحكمة العظيمة في كل شيء، الله عليم حكيم، فالله خلق للناس اللباس، وأنزل للناس ريشاً يستمتعون به، وكسوة يستدفئون بها، ويلبسونها ويتزينون بها، وقد أباح لهم على العموم أن يلبسوا، وقال لهم: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:31 - 32].
إذاً: ما أباحه الله عز وجل واستمتع به المؤمن في الدنيا من نعم فهي خالصة له، وهي حلال له، ويوم القيامة لا يحاسب عليها، ولن يقال له: لم لبست كذا وقد أباحها الله عز وجل؟ ولكن حرم أشياء على العباد إما لكونها لا تليق بهم أن يلبسوها، أو لخبثها ونجاستها فهي لا تلبس.
أما الذي حرم وليس مستقذراً أو نجساً كالحرير فقد حرمه الله سبحانه على الرجال، وحرم مثله الذهب لحكمة منه سبحانه، وجعله ابتلاء يبتلي به العباد، وإن هذه محرمة عليكم في الدنيا وسوف تلبسوها في الجنة، فإذا لبستموها الآن في الدنيا فيحرم عليكم أن تلبسوها في الجنة، والجنة لا يحرم الله عز وجل على أهلها شيئاً فيها، إذاً: فسوف يحرم من دخول الجنة من لبسه في الدنيا؛ لكونهم فعلوا ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى عليهم.
فأباح الذهب والحرير للنساء، وحرم الذهب والحرير على الرجال لحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى.(74/3)
النهي عن تشبه الرجال بالنساء في الزينة
جعل الله الرجل ليس محل الزينة ولا يهتم بمظهره، وإن كان قد أمره بأخذ شيء من الزينة فقال: {خُذُوا زِينَتَكُمْ} [الأعراف:31] ولكن في حدود ما أباح الله سبحانه، وليس بالمبالغة بحيث يصير الرجال كالنساء في التزين مثلاً، ولكن قال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، فمن احترامك لبيت الله وللصلاة التي تصليها أن تتزين لها، ومستحيل أن هذا الذي يتزين ليعبد الله سيلبس شيئاً حرمه الله ويعبد الله فيه، أو أن يتزين كما تتزين المرأة لبعلها، ولكن زينة الرجال زينة تليق بهم وبرجولتهم وفحولتهم وعبادتهم لربهم سبحانه تبارك وتعالى.
وأما إذا انسلخ الإنسان من جلده فصار يلبس لبسة المرأة فلا، وما الذي يجعل الرجل يلبس لبسة المرأة؟ ما هو إلا شيء باطن في داخله من اعتراض على الله سبحانه، أو فاحشة موجودة بداخل هذا الإنسان يريد أن يواقعها، فربنا جعل للرجال لباساً، وللنساء لباساً، جعل للرجال زينة وللنساء زينة، وحرم خلط الأمرين معاً، فلعن المرأة تلبس لبسة الرجل، ولعن الرجل يلبس لبسة المرأة، لعن المرأة المترجلة التي تلبس مثل الرجل، وتمشي مشية الرجل، ولعن الرجل المخنث الذي يلبس لبسة المرأة، ويمشي مشية المرأة.
الفواحش إنما دخلت على أهل الفواحش؛ لأن النساء تتزين بزينة الرجال، فإذا بالمرأة تستغني بالمرأة عن الرجل، والرجال يتخنثون، فإذا بالشرور والفواحش توجد بين الرجل والرجل والعياذ بالله.
أما المجتمع المسلم فمن المفروض أنه مجتمع طاهر نقي تقي، يعرف العبد فيه حدود الله عز وجل، فلا يقع فيما حرم الله، ولا يتجاوز ما أحل الله سبحانه تبارك وتعالى.
وهذه البدايات: أن ينتهكوا المحارم فيواقعوها شيئاً فشيئاً حتى يواقعوا كل ما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى.(74/4)
تحريم الحرير في الآخرة على من لبسه في الدنيا
في الحديث عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير؛ فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)، فمن يلبس الحرير من الرجال ليتزين به في الدنيا فلن يحل له يوم القيامة، ولن يدخل الجنة التي فيها الحلي والحرير.
كذلك الذهب مثل الحرير قال: (إنما يلبس الحرير من لا خلاق له) الخلاق: بمعنى: النصيب والحظ، والمعنى: أن هذا لا حظ له في الجنة، ومحروم من دخولها الذي يلبس الحرير في الدنيا، أو يجلس على الحرير، أو يتكئ على الحرير، كله واحد ممنوع منه.(74/5)
استواء لبس الحرير بالجلوس عليه والاستناد إليه في الحرمة
قال الإمام النووي رحمه الله: [تحريم لباس الحرير على الرجال، وتحريم جلوسهم عليه، واستنادهم إليه]، مثل: كرسي أو مكتب مكسو من حرير، الشنطة يكسوها من حرير، وسادته التي يتكئ عليها تكون من حرير.
هذا حرام كله، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير، وقال: (هذان حرام -الذهب والحرير- على ذكور أمتي)، هذا حرام بأي منفعة من المنافع، فمن لبس الحرير ونام به، أو افترشه أو تغطى به، أو اتكأ عليه، فهو ممنوع عليه أن يصنع ذلك إلا بالقدر الذي أباحه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو شيء لا يكون مثله لباساً، وإنما قد يكون زينة بشيء، كما جاء أنه أباح قدر الأصبعين أو ثلاثة أو أربعة، قد يكون في الثوب الذي يلبسه الرجل شيء من الحرير في الخيوط، ولكن ليس كله، ولا نصفه بل الشيء القليل الذي هو كنسبة الأصبع والاثنتين والثلاث والأربع إلى باقي الثوب، فإذا كان شيئاً يسيراً لا يذكر ولا يقال: إن فلاناً يلبس حريراً، جاز هذا الشيء بمثل هذا القدر، أما ما زاد على ذلك فقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: يلبس الحرير في الدنيا من الرجال من لا خلاق له في الآخرة، يعني: من لا نصيب له في الآخرة، وليس له حظ في الجنة، وإنما حظه في النار والعياذ بالله.
كذلك في حديث علي بن أبي طالب قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في يمينه، وذهباً فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي) وهذا الحديث صحيح، ذكر الإمام النووي أنه رواه أبو داود بإسناد حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود.
الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذين -الذهب والحرير- حرام على ذكور أمتي)، فدل الحديث على أنهما حل للإناث.
وفي حديث لـ أبي موسى الأشعري رواه الترمذي وقال: حسن صحيح قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم) هذا الحديث الصحيح نص أن الحرير والذهب حل للإناث حرام على الذكور.
إذاً: المرأة لها أن تلبس الحرير والذهب، والرجل يحرم عليه لبس الحرير والذهب.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نشرب في آنية والذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه).
الجلوس أو الاتكاء على الحرير أو الديباج -وهو نوع من أنواع الحرير- لا يجوز، سواء تبطن به أو تجعله ظاهراً على الفرش مثلاً ونحو ذلك، فلا يجوز لك أن تلبس أو تجلس على الحرير، ولا أن تلبس الذهب، ولا أن تستعمله في أكل أو شرب ونحو ذلك.(74/6)
ما جاء من الرخصة في لبس الحرير للرجال
قد يرخص ما حرمه الله سبحانه وتعالى لسبب ما، ولكن الرخصة لا تأخذ حكم الإنسان في حالته العادية، ولكن الرخصة تقدر بقدرها، والعزيمة أنه يحرم عليك أن تلبس الذهب أو الحرير.
قال النووي: [باب جواز لبس الحرير لمن به حكة]، والحكة: المرض الجلدي، مأخوذ من الاحتكاك، وغالباً ما يطلق على مرض الجرب.
هذا الشيء الوحيد الذي ممكن أن يلبسه ويكون خفيفاً على الجلد، ولا يسخن جلد الإنسان، وكانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الدواء صعب لمن عنده جرب، فرخص النبي صلى الله عليه وسلم مع هذه الضرورة في لبس الحرير.
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: (رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير لحكة بهما) يعني: الله ابتلاه بهذا المرض الجلدي، والصوف والقطن لا يناسبهما، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لهما في لبس الحرير.
هذا ما جاء في باب الرخصة، ولا يؤخذ به في عموم الأحوال، ولكن يؤخذ به في وقت الاحتياج فقط.
كذلك الذهب يرخص فيه لاستبدال عضو من الأعضاء كعظم من العظام كالمفاصل ونحوها، ولذلك جاء في حديث عرفجة أنه قطعت أنفه في يوم كلاب -حرب من الحروب الجاهلية- فاتخذ أنفاً من فضة فأنتنت عليه، يعني: كأن عظام أنفه اقتطعت أو أنفه كلها قطعت، فوضعوا له فضة بدلاً عنها فأنتنت عليه وما نفعته، فاستبدلها بذهب وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ففيه أنه قد يستخدم الذهب في عظم الإنسان يستبدل به إذا كان يصلح في ذلك كمفصل ونحوه، أو كالأسنان، وكان الصحابة يشدون أسنانهم بالذهب رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويرون أن هذا من باب التطبب، وأنهم يحتاجون إلى ذلك طباً، فهذا جائز ولا شيء فيه، أما من يلبسه على وجه الزينة فهو غير جائز.
إذاً: منعنا النبي صلى الله عليه وسلم من الذهب والحرير للرجال، كما أنه نهى صلى الله عليه وسلم عن جلود السباع، وقد اختلف الفقهاء فيما يطهر منها، فذهبوا إلى أن المأكول من بهيمة الأنعام يجوز أنك إذا ذبحتها أن تأخذ جلدها وتدبغه وتلبسه وتفترشه.
وإذا ماتت بهيمة الأنعام فأيضاً الجمهور على الجواز، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلا أخذتم إيهابها فدبغتموه.
فقالوا: إنما هي ميتة، قال: إنما حرم لحمها).
إذاً: جلود الأنعام التي ماتت كالبعير والبقرة والغنمة يجوز أن تؤخذ وتسلخ وتدبغ وينتفع بها، لكن إذا كانت سباعاً فهذا غير جائز، لعله إذا ذبحه يأتي أناس يأكلوه، فيستحلون ما حرم الله عز وجل، فمنعنا ابتداءً من ذلك، لا جلد السبع وهو مذبوح ولا وهو غير مذبوح.
وهل جلد السبع نجس أم لا؟ لا شك أنه إذا كان ميتة أو مأخوذ منه سواء ذبح أم لم يذبح فهو نجس، ولكن قد يدخل في عموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما إيهاب دبغ فقد طهر)، ففرق بين أنه دبغ وطهر، وبين أن يأخذه الإنسان فيستعمله، هذا الذي منع منه النبي صلوات الله وسلامه عليه.(74/7)
النهي عن افتراش جلود السباع
النمار: هي جلود النمر، وقس عليه غيره كجلد السبع الأسد والكلب وغيره من الجلود، فإذا دبغت فلا يجوز للمسلم أن يجلس عليها، أو أن يركب عليها.
ففي حديث معاوية الذي رواه الإمام أبو داود بإسناد حسن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تركبوا الخز ولا النمار) الخز: الصوف أو الوبر المختلط بالحرير، يعني: مثل شعر البعير أو الأرانب ونحوه فلا شيء فيه وهو جائز، ولكن كأنه غالب في حالهم أنهم كانوا يخلطونه بالحرير، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إذا كان الخز مخلوطاً بالحرير، بحيث يظهر أنه كله حرير، أو أنه واضح الحرير الذي فيه، فهذا ممنوع منه.
وفي حديث أبي المليح: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع)، ليس النمر فقط بل كل السباع، ويطلق السبع على كل من عدا بنابه وقتل به وعقر، مثل الكلب والأسد والنمر وكل شيء من السباع الذي يأكل الحيوان ويعقر بنابه، هذا سبع فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراش جلودها.
وفي النهي عن علة أكلها يقول العلماء: إن أكل هذه الأشياء تجعل الإنسان يتطبع بطبيعته ويصبح مثل الوحش يأكل لحوم الأسد أو النمر، أو الكلاب، وتصير أخلاق الإنسان مثله، ولذلك ترى الأسد في حديقة الحيوان عندما توضع له قطعة اللحم يأكلها وكأنه يفترس فريسة! فهذه طبيعة فيه، كذلك الذي يأكل من لحومها يصير كهيئتها في الطبيعة الوحشية، فيأكل اللحوم ولا يهتم، في النهاية ممكن يأكل الإنسان لحم البشر ولا يهتم لذلك.
فلذلك قال من يتكلم عن هذه الأشياء من العلماء: إن أكل لحوم هذه الوحوش تعطي الإنسان طبيعة الوحش نفسه، فلا يمنع أن يكون استخدام جلود هذه الأشياء يطبع الإنسان بهذه الطبيعة التي عليها، فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن نفترش جلود النمار، أو جلود السباع.(74/8)
ما يقوله من لبس ثوباً جديداً
يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه].
عندما ينعم الله على العبد بنعمة من نعمه سبحانه ويكسوه ثوباً أو حذاءه ماذا يقول العبد؟ روى أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً) إذا لبس ثوباً جديداً صلى الله عليه وسلم (سماه باسمه) هذا قميص هذه عمامة هذا نعل (سماه باسمه -عمامة أو قميصاً أو رداء- يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه)، ولعله سماه باسمه هنا في قوله: كسوتنيه يعني: يقول: اللهم لك الحمد أنت كسوتني هذا القميص، أنت كسوتني هذا الرداء، أنت كسوتني هذا الإزار، فيسميه باسمه: (أسألك خيره وخير ما صنع له)، هذا الدعاء الطيب الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمن أن يشكر نعمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ولا يحتقر نعمة الله عليه، فيشكر الله بخصوص هذه النعمة التي أنعمت عليه، أعطيتني هذا القميص، هذا البنطلون، فتذكر الشيء باسمه وأن الله أنعم به عليك سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (أسألك خيره) يعني: خير هذا الثوب، الثوب فيه خير وفيه شر، خير الثوب: أن تلبسه ويكون واسعاً عليك فضفاضاً يكسوك ويستر عورتك ويقيك الحر ويقيك البرد.
هذا من خير الثوب.
وشر الثوب: أن يكون على الإنسان ضيقاً، يدعو الإنسان للخيلاء فيستكبر على الخلق ويرى أنه أفضل منهم، وأنه أحسن منهم بهذا الثوب، أو بهذا النعل الذي لبسه.
(أسألك خيره وخير ما صنع له) مصنوع لماذا؟ لأني ألبسه أتدفأ به أم أفتخر به على الناس؟ (وأعوذ بك من شره) شر الثوب ما فيه إذا كان ضيقاً أو يؤذيه أو لباس شهرة أو لباساً محرماً (وشر ما صنع له) أي: صنع من أجله للخيلاء والغرور أو للكيد للناس، أو لإظهار المفاتن والعورات، فيتعوذ بالله من شر ما صنع له هذا الثوب.
فينبغي على المسلم إذا وهبه الله ورزقه رزقاً أن يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى ويشكره، قال سبحانه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7]، ووعد من الله سبحانه تبارك وتعالى أنك كلما شكرت زادك الله سبحانه ولم يحرمك: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7]، فإذا كفر العبد بالله سبحانه أو جحد النعمة نزعها منه، كمن يقال له: احمد الله وتذكر نعمه عليك، فيقول: لماذا فلان يلبس كذا؟ كأنه يستكثر نعمة الله سبحانه عليه؟ ولا يعرف الحق لصاحبه سبحانه تبارك وتعالى، فهذا يجحد نعمة الله، ويستحق عذاب الله، لذلك مهما أنعم الله عز وجل عليك من نعمة، قد رأيتها في الماضي كبيرة أو صغيرة كل نعم الله عز وجل على عبده كبيرة، والعبد قد يعرف الفضل في هذا الشيء وقد لا يعرفه، ولكن الله يعلم سبحانه تبارك وتعالى، فاشكر الله سبحانه واحمده على ما آتاك من نعمة، فبذلك تدوم عليك النعمة بحمدك وشكرك لله سبحانه، ويعطيك خيراً منها.
نسأل الله من فضله ورحمته؛ فإنه لا يملك ذلك إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم على محمد.(74/9)
شرح رياض الصالحين - ما يقوله عند النوم
شرع الله تعالى ورسوله للمؤمن أذكاراً معينة في حياته؛ ليكون دائم الذكر له سبحانه، وذلك كأذكار الصباح والمساء، وأذكار دخول المنزل والخروج منه، وغيرها، ومن جملة هذه الأذكار: أذكار النوم، فهي حصن حصين من الشيطان، وتجعل صاحبها في قرب من الله، وتواصل دائم معه، وللنوم آداب شرعية أخرى ينبغي الحرص عليها.(75/1)
فضل أذكار النوم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب آداب النوم والاضطجاع.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت) رواه البخاري.
وعنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل)، وذكر الحديث، وفيه: (واجعلهن آخر ما تقول) متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) متفق عليه].
كتاب آخر من كتب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله وفيه آداب النوم والاضطجاع، أي: ما ينبغي على المسلم إذا أراد أن ينام أن يصنع عند نومه.
والنوم كما هو معروف هو الموتة الصغرى، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] فالمسلم حين يضع جانبه على فراشه يتخيل أن تكون هذه آخر نومة ينامها، فيمكن أن يقبضه الله عز وجل خلال هذا النوم، فيختم حياته ويختم يومه بذكر الله سبحانه وتعالى، ويكون هذا آخر شيء كان عليه، فإذا توفي على ذلك مات على شيء عظيم من ذكر الله سبحانه، وخاصة إذا كان ختم بقراءة قل يا أيها الكافرون، فيموت على براءة من الكفر، فتبرأ من الكفر، وتبرأ من الشرك وأهله، فيموت على خير حال إذا كان يختم له بذلك.(75/2)
وجوب التمسك بلفظ النبي في الأدعية المتعبد بها
هناك الأحاديث الكثيرة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية نومه عليه الصلاة والسلام والأذكار التي كان يقولها وقت منامه.
فهنا يقول: عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال: اللهم أسلمت نفسي إليك)، وهذه رواية، وفي رواية أخرى أنه قال: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذين أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت).
فأخذها البراء بن عازب من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظها وكان حفظهم عجيباً، فحفظهم كان حفظاً متقناً، فإنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم مرة فرددها بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحفظها، ويصعب علينا أن نسمع هذا الحديث مرة بل كذا مرة ونحفظه منها.
فلما قالها النبي صلى الله عليه وسلم أعادها أمام النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت).
قال هكذا البراء رضي الله عنه، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوقفه ويقول: (وبنبيك الذي أرسلت)، فهو بدل كلمة واحدة، ولعل في ظنه أن تبديل هذه الكلمة بما هو أحسن منها أمر حسن، فإن الرسول أعلى من النبي، فكل رسول لابد أن يكون نبياً عليه الصلاة والسلام، وليس كل نبي رسولاً، فالنبي نبئ من عند الله عز وجل، وأوحي إليه من الله والرسول كذلك، والرسول أطلعه الله على شيء مغيب لا يعرفه غيره، وكان معه للناس ما يتحداهم به من عند ربه ليثبت أنه نبي من عند الله سبحانه، فالنبي يدعو الناس إلى التوحيد، ويحكم بشرع من قبله، لكن إذا أوحي إليه برسالة وأمر أن يبلغها فهذا رسول.
فكان البراء بدل لفظة بما هو أعلى منها في ظنه، فقال: (آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبرسولك الذي أرسلت)، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (وبنبيك الذي أرسلت)، يبين له أنه ما كان من أذكار يتعبد بها فليس لك أن تبدل مبانيها ولا معانيها ولا ألفاظها، وليس لك الترجيح فيها، فأي لفظ قاله النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد عليك أن تقوله أنت أيضاً بلفظه.
وهناك فرق بين قولك: (آمنت بنبيك الذي أرسلت)، وقولك: (برسولك الذي أرسلت).
فإن قولك: برسولك الذي أرسلت تحصيل حاصل، لكن إذا قلت: بنبيك أعطيت وصفاً معيناً وهو وصف النبوة، فإذا قلت: الذي أرسلت زدت على الوصف وصفاً آخراً فكانت أجمل.(75/3)
سنن النوم
الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن، وهذه سنة من السنن وهي أنك في بدء نومك تنام على شقك الأيمن، فإن كبد الإنسان في الشق الأيمن منه، والمعدة في الوسط ومائلة إلى الشق الأيسر.
فإذا نام على جانبه الأيسر وخاصة إذا كان شابعاً يقوم الكبد والثقل يضغط على معدة الإنسان فلعله في أثناء النوم يتعبه ذلك، ويساعد على صعود العصارة المعدية إلى فمه وهو نائم؛ فلذلك تبدأ النوم على الشق الأيمن فهو أيسر عليك من أن تنام على شقك الأيسر.
فهذا من السنن وليس من الفرائض.
قال: ثم قال: (اللهم أسلمت نفسي إليك)، وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للبراء: (إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)، فعلمه سنة أخرى من السنن وهي أن تتوضأ كوضوئك للصلاة، ومعلوم أنه ليس هناك وضوء ثان غير وضوء الصلاة، ولكن كأن المعنى اللغوي عندهم من معاني الوضوء التنظف، أو غسل اليدين، فهنا حتى لا يشكل عليه ذلك ويظن أن المقصود التنظف أو غسل اليدين قال: (توضأ وضوءك للصلاة) يعني: كما تتوضأ للصلاة توضأ أيضاً حين تذهب للنوم.
قال: (ثم اضطجع على شقك الأيمن) أي: عندما تنام ابدأ النوم على جانبك الأيمن، وقل هذا الذكر العظيم واجعله آخر ما تقول، حيث قال: (واجعلهن) أي: هذه الكلمات (آخر ما تقول).
قال: ثم قل وذكر الحديث: (اللهم أسلمت)، أو تقول: (إني أسلمت)، فكله جائز.
وقوله: (أسلمت نفسي إليك) أي: مسلماً نفسي لله سبحانه يحكم فيها بما يشاء، ويتحكم فيها بما يريد سبحانه وتعالى، فأنا أسير مستسلم لك يا رب.
وقوله: (ووجهت وجهي إليك).
أي: أنا على دينك حيثما توجهت كما قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] فإن كنت نائماً على شقك الأيمن سواء كان السرير في هذه الناحية إلى القبلة أو لم يكن، وإن كان الأفضل أن يكون إلى القبلة، فيكون وهو نائم متوجهاً إلى القبلة ولكن لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم البراء بذلك.
وقوله: (قل ذلك: وجهت وجهي إليك) أي: أتوجه إليك بعبادتي، في صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، وقيامي ونومي، فأنا متوجه إلى الله عز وجل، عابد لله في كل أحوالي.
وقوله: (وجهت وجهي إليك) أي: أن وجه الإنسان إلى الله سبحانه، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا توجه الوجه صار البدن أيضاً متوجهاً إلى الله سبحانه، فمعنى: وجه الوجه، أي: انقاد بكليته إلى طريق الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (وفوضت أمري إليك) أي: أني أفوض الأمور إلى الله، فلا حول لي ولا قوة، ففيها التبرؤ من الحول والقوة، والاعتراف بالعجز والتقصير، وأن الذي يدبر أمري هو ربي سبحانه وتعالى، فأفوض أمري إليه، وأتوكل عليه سبحانه، وأكل إليه جميع أموري، فهو الذي يدبرها وليس أنا، وإنما أنا آخذ بالأسباب والذي يدبر الأمر هو الله سبحانه، والذي يصرف الأمور هو الله سبحانه، والذي يقلب القلوب هو الله سبحانه.
قوله: (وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك)، الإنسان يلجأ إلى الشيء؛ لأنه يجد من يهاجمه ويؤذيه فيحتاج إلى من يكون ظهيراً له.
فكأنه يوجه ظهره إلى الله سبحانه وتعالى، فهو ناصره، وهو يحميه سبحانه وتعالى، فالإنسان في الحرب يقول لزميله: أنا سأتقدم وأنت احم ظهري، فأنت هنا وأنت نائم تقول: (ألجأت ظهري إلى الله)، ملجأي وملاذي ومعادي إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (ألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك) أي: أن هذا الذي أفعله كله تحت هذين الصنفين: الرغبة والرهبة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يدعون ربهم رغباً ورهباً، رغبة فيما عند الله، ورهبة مما عند الله سبحانه، وكذا العبادة لا تقوم إلا على أن ترغب فيما عند الله فتطمع في جنته، وقد أمرت أن تسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو، وتستعيذ بالله من ناره وعذابه.
فهنا رغبة طالب راغب فيما عند الله سبحانه من فضل، ورهبة راهب خائف مما عند الله من عذاب ومن نار، فقوله: (رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) أي: أنا هنا توجهت إليك، وألجأت ظهري إليك، واستعذت بك، فأنت الذي تعصمني وتنصرني وتحميني، وأنا لا ملجأ لي إلا عندك.
فملجأ الإنسان هو المكان الذي يلجأ إليه ليتعوذ به، وأنت ملجأك إلى الله سبحانه وتعالى، ومنجاك أي: مهربك الذي تهرب وتفر إليه هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يحميك وينصرك سبحانه، فإذا أخطأ الإنسان أو أساء لم يذهب إلى ربه سبحانه، وكأنك تقول: إني وإن أخطأت أو أسأت أو قصرت ووقعت في المعاصي: (لا ملجأ لي ولا منجا منك إلا إليك)، وهذا مثل الحديث الآخر الذي جاء فيه: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك).
فإذا تعوذت طلبت المعاذ والملاذ والملجأ والمهرب الذي تهرب إليه، ومن هذا الذي يعيذك من الله، وتلوذ به من الله سبحانه وتعالى؟! لا أحد، ولكن معاذك الله سبحانه، فهو الذي يعيذك وينجيك، فتقول لله سبحانه وتعالى: (لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك) أي: أهرب من عذابك إلى رحمتك، وأهرب من نارك إلى جنتك، فالكل بيد الله سبحانه وهو الذي يدبر أمر الكون سبحانه.
وقوله: (آمنت بكتابك الذي أنزلت).
يعني: أنا مؤمن يا رب، وأنت كريم تعفو وتغفر، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] فكأنك تقول: أنا لست مشركاً، بل أنا مؤمن بك يا رب فاغفر لي، وكن ملجئي ومعاذي.
وفيه الثقة بالله عز وجل، والعقيدة القوية في قلب المؤمن التي يعبر عنها بلسانه بقوله: آمنت بكتابك الذي أنزلته على نبيك من السماء، ونبيك الذي أرسلته إلينا، فقد صدقت وأيقنت وعلمت وتوجهت فتقبل مني ذلك، فإذا قال العبد ذلك، وجعل ذلك آخر ما يقول فمات فلا يرجو إلا الخير من رحمة رب العالمين سبحانه.(75/4)
من هدي المصطفى قيام الليل
من الأحاديث حديث متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يجيء المؤذن فيؤذنه) متفق عليه.
فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم قيام الليل عليه الصلاة والسلام دائماً، فمن أول ما أنزل الله عز وجل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2] قام صلى الله عليه وسلم قياماً طويلاً لله سبحانه؛ لأنه قال: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:2] فكان يقوم أكثر الليل، بل قد يقوم كل الليل، وكان المؤمنون على هذه الحالة أيضاً إلى أن نزل التيسير على النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم الله بضعف هؤلاء، وعلم أنهم سيلهيهم قيام الليل عن أشياء من جهاد في سبيل الله، وطلب للرزق، فإذا بالله سبحانه وتعالى يخفف ذلك ويقول: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20].
فبدلاً من قيام الليل كله كما أمرهم الله بقوله: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:3 - 4] خفف الله سبحانه وتعالى على نبيه وعلى المؤمنين، ولكن مع ذلك كان يقوم ليلاً طويلاً عليه الصلاة والسلام، فيصلي من الليل إحدى عشرة ركعة، فإذا طلع الفجر صلى ركعتين، ولم تكن هذه الإحدى عشرة ركعة يصليها متتابعة، بل كان يصلي ثم يستريح حتى يقوم لمثلها عليه الصلاة والسلام، فيصلي أربعاً تقول السيدة عائشة عنهن: (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن).
فينام صلى الله عليه وسلم ثم يقوم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم ينام ويقوم فيوتر بثلاث صلوات الله وسلامه عليه.
تقول: (فإذا طلع الفجر صلى ركعتين خفيفتين)، فهنا ليل طويل يصليه صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا طلع الفجر وأذن المؤذن لصلاة الفجر صلى سنة الفجر ركعتين خفيفتين، وما كان يطول في سنة الفجر، بل كان يقرأ قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد بعد الفاتحة، بل إنه مع سرعته في الركعتين تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لا أدري أقرأ فيهن بفاتحة الكتاب أم لا) يعني: سنة النبي صلى الله عليه وسلم الإطالة في قيام الليل والتقصير في سنة الفجر.
ولا يستحب أن يزاد على ركعتين، ولو استحب ذلك لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كان يصلي سنة الفجر في بيته عليه الصلاة والسلام، ثم يضطجع ويستريح من عناء الليل والقيام الطويل لكن بدون نوم، فكان إذا وجد امرأته مستيقظة في هذا الوقت كلمها صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت نائمة اضطجع صلى الله عليه وسلم، ثم يقوم ليصلي صلوات الله وسلامه عليه، بل كان ينهى عن صلاة فوق الركعتين بعد الأذان، فيقول: (لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتين).
فإذا كنت في المسجد وأذن المؤذن للفجر الصادق، فصل ركعتين فقط، وليس من السنة أن تصلي ركعتين في ركعتين، بل ذهب بعض أهل العلم كالحنابلة إلى أنه يحرم الزيادة على الركعتين.
لكن لعل إنساناً دخل المسجد فصلى تحية المسجد ولم ينو سنة الفجر فله أن يقوم ويصلي سنة الفجر بعد ذلك، ولك إذا دخلت أن تنوي الاثنتين صلاة تحية المسجد وسنة الفجر، وتسرع فيها وتجلس تنتظر إقامة الصلاة.
قالت: (ثم اضطجع على شقه الأيمن)، وهذا الشاهد من الحديث وهو أنه نام على شقه الأيمن وإن كان لم ينم حقيقة، وقولها: (حتى يجيء المؤذن فيؤذنه)؛ لأنه كان في غرفته صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في المسجد سرج ولا أشياء يضيئون بها المسجد، فكان بلال ينتظر حتى يكتمل عدد المصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم على وقته المعتاد فيذهب عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذنه بأنه سيقيم الصلاة، ومعنى يؤذنه أي: يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيقيم الصلاة.(75/5)
من سنن النوم وضع اليد تحت الخد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده، ثم يقول: اللهم باسمك أموت وأحيا، وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) رواه البخاري.
وخلاصة السنن أن تتوضأ لتنام وأنت على وضوء، وتضع يدك تحت خدك الأيمن، وتنام على شقك الأيمن، وهذا في أول نومك، ثم تقول: (اللهم باسمك أموت وأحيا) هذه رواية، وفي رواية أخرى: (باسمك اللهم أموت وأحيا).
فالنوم أخو الموت، والمعنى: أضع جنبي فلعلي أموت، والنوم نفسه جزء من الموت أو شيء من الموت كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42].
والتوفي القبض، وهذا شيء أنت لا تشعر به، بل أمر من أمر الله سبحانه تبارك وتعالى، وقد حاول العلماء أن يبحثوا في ذلك، وأتوا برسام المخ الكهربي، لكي يرسم مخ الإنسان وهو نائم، فلاحظوا عليه أشياء نذكرها في موضعها إن شاء الله في التفسير؛ لكن الغرض أن أحد العلماء من الإنجليز وصل في نهاية بحثه إلى أن هناك شيئاً يقبض من هذا الإنسان، وهو لا يعرف ما هذا الشيء الذي يقبض من هذا الإنسان، لكن الله قد ذكر ذلك سبحانه حيث يقول: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42].
أي: أن روح الإنسان يقبضه الله قبضاً معيناً، لا نعلم كيفيته، فهو يقبض روح الإنسان بشيء الله أعلم به ثم يرده مرة ثانية، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ من منامه يقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور).
يعني: قبضنا في هذا النوم ثم رد علينا الروح، بل عبر عنه في حديث آخر بقوله: (ورد علي روحي، وأذن لي بذكره)، فالذي اكتشفه العالم الإنجليزي كان قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم من الماضي.
وكان عند منامه يقول: (إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ بها عبادك الصالحين)، ويقول: (الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور) أي: أمر البعث موكول إلى الله، يتصرف ويحكم فيه بما يشاء سبحانه.(75/6)
ما يكره من الكيفيات في النوم
روى أبو داود بإسناد صحيح عن يعيش بن طخفة الغفاري رضي الله عنه قال: قال أبي: (بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجل يحركني برجله) فهنا يعيش بن طخفة يروي عن أبيه طخفة الغفاري، أنه كان نائماً في المسجد على بطنه أي: على وجهه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رآه هكذا فحركه برجله صلى الله عليه وسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الضجعة يبغضها الله) أي: أن الذي ينام على بطنه قد ارتكب أمراً يكرهه الله ويبغضه سبحانه.
فالرجل انتبه فقال: (فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: نظر من الذي يوقظه ويقول له هذا الشيء، فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم.(75/7)
ذم من ترك أذكار النوم
وحديث آخر يذكره الإمام النووي رواه أبو داود وقال: بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة)، والترة: الحسرة، وأصلها الوتر، والوتر: الانفراد، فكأن الإنسان يصير موتوراً أي: حزيناً مفرداً، وهذا يطلق فيمن قتل قريبه كأبيه أو ابنه أو أخيه، فوتر أي: صار موتوراً بمعنى وحيداً بعد أن كان معه هذا الآخر.
فكذلك حزن الإنسان الذي يجلس في مجلس لا يذكر الله عز وجل فيه، يصاب يوم القيامة بحزن كحزن الذي قتل له قتيل، يقول: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه، كانت عليه من الله تعالى ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة).
أي: كان عليه حسرة، وكان عليه نقص، وكان عليه تبعة يوم القيامة بذلك، فإذا نمت لابد أن تذكر الله سبحانه وتعالى بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أذكار كثيرة كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم عند نومه.
منها أنه كان يرقي نفسه بقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثلاث مرات ويمسح بدنه صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقرأ آية الكرسي، ويقرأ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} [البقرة:285].
وكان يقرأ سورة تبارك عند منامه مع سورة السجدة، وكان أحياناً يقرأ سورة سبحان وسورة الإسراء وغيرها من السور قبل نومه عليه الصلاة والسلام، وينصح بأن يكون آخر ما تقرؤه سورة قل يا أيها الكافرون؛ لتكون على براءة من الشرك والكفر.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ومن الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(75/8)
شرح رياض الصالحين - جواز الاستلقاء على القفا وما جاء في أدب المجلس والجليس
إن الإسلام جاء ليؤدب المسلمين ويهذب أفعالهم، ويرتقي بهم في سلم المثالية، حتى يكونوا مثلاً يحتذى به، ومما جاء به الإسلام من الآداب ما يتعلق بالجلوس والاضطجاع خاصة في المسجد، فبين ضوابط الاضطجاع وحذر من انكشاف العورة أثناء ذلك، كما بين ضوابط الجلوس، وبين الجلسات المنهي عنها.(76/1)
ما جاء في جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين: [باب جواز الاستلقاء على القفا ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة وجواز القعود متربعاً ومحتبياً.
عن عبد الله بن زيد رضي الله عنهما: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) متفق عليه.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء) حديث صحيح رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا ووصف بيديه الاحتباء: وهو القرفصاء) رواه البخاري.
وعن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق) رواه أبو داود والترمذي].
هذه الأحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم رياض الصالحين في باب: جواز الاستلقاء على القفا، يعني: النوم على الظهر.
فللإنسان أن ينام على ظهره ويضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا لم يخف انكشاف العورة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذه الهيئة، فكأن نهي النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الإنسان ينكشف وهو نائم، كأن تكون ثيابه عبارة عن قميص ليس تحته شيء، فإذا وضع رجلاً فوق الأخرى انكشفت عورته، فإذا كان الإنسان قد استطرأ وضع إحدى الرجلين على الأخرى من تعب أو من مرض ونحو ذلك، ولن ينكشف منه شيء جاز له أن يفعل ذلك، فهنا يذكر الإمام النووي رحمه الله القيد وهو إذا لم يخف انكشاف العورة.
كما ذكر في الباب جواز القعود متربعاً أو محتبياً، والمرء له أن يجلس أي جلسة كجلسة التشهد أو أي جلسة أخرى طالما أنه ليس منهياً عنها، فإذا جاء النهي نقف عند حدود النهي، فلا يجوز للإنسان أن يضع إحدى رجليه فوق الأخرى بحيث تنكشف عورته وهو على هذه الهيئة.(76/2)
شرح حديث عبد الله بن زيد: (أنه رأى رسول الله مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى)
الأدلة على ما ذكر في هذا الباب منها ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: (أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقياً واضعاً إحدى رجليه على الأخرى) صلوات الله وسلامه عليه.
فهو رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرة من المرات، فكأنه صلى الله عليه وسلم تعب فنام على ظهره في المسجد ووضع إحدى الرجلين على الأخرى صلوات الله وسلامه عليه.
ففعله صلى الله عليه وسلم لذلك مع نهيه عنه يدل على أن النهي ينزل على حال، والفعل على حال أخرى، فنهيه عن ذلك إذا كان الإنسان تنكشف عورته عند فعله ذلك، أما إذا كان الإنسان متعباً ووضع إحدى الرجلين على الأخرى ولا يخاف التكشف فله أن يفعل ذلك.(76/3)
شرح حديث: (كان النبي إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)
من الأحاديث حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء) وهذا الحديث يقول عنه النووي: صحيح، وقد رواه الإمام أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة.
والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر تربع في مجلسه، فكانت عادة عنده صلى الله عليه وسلم أو كثيراً ما يصنع ذلك، إلا إذا انشغل بشيء عليه الصلاة والسلام، فكان يجلس متربعاً، وجلسة التربع جلسة معروفة، فكان يجلس على هذه الهيئة صلى الله عليه وسلم حتى تطلع الشمس حسناء، وهذه الهيئة فيها أدب، فمن يجلس متربعاً غير الجالس وقد مدد رجليه، وغير النائم على ظهره واضعاً إحدى رجليه على الأخرى، فحال النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر جلس متربعاً صلى الله عليه وسلم، فهل يا ترى نقدر الآن أن نجلس هذه الجلسة من بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس؟ هذه المدة تقدر بحوالى ساعة وربع إلى ساعة ونصف، فيقول الراوي هنا وهو جابر بن سمرة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء)، والمعنى: أنه لا يصلي بمجرد أن تطلع الشمس؛ لأن هذا وقت يحرم فيه الصلاة؛ لكن بعد أن يبدو قرص الشمس ثم ترتفع شيئاً فوق الأرض، وهذا يكون بعد حوالى ثلث الساعة من طلوع قرصها كاملاً فعندها يجوز لك أن تصلي صلاة الضحى، فكان صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وقد جاء فضل ذلك في حديث رواه الترمذي وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الغداة في جماعة - يعني: صلاة الفجر في جماعة - ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة قال: تامة، تامة، تامة).
فيمكن للإنسان أن يحصل كل يوم أجر حجة وعمرة، وإن كان هذا لا يغني عن حجة الإسلام، ولا عن عمرة الإسلام، ولكن الأجر يساوي أجر حجة، وأجر عمرة، وكم نفرط في مثل ذلك من غير سبب! وعلى المؤمن أن يحاول أن يكسب الثواب قدر المستطاع، وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الإنسان لا ينظر في العبادة إلى من هو دونه، ولكن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فافعل ما فعله صلى الله عليه وسلم، إذا رأيت غيرك يفرط في مثل هذا الأجر فالتمس له العذر، فلعل لديه ما يشغله أو أنه لم ينم بالليل ويحتاج لأن ينام الآن، فأنت عليك بنفسك، فإذا كان عندك الوقت لتفعل هذا الشيء فلا تفرط في هذا الثواب، ففي الحديث: (من صلى) و (من) من ألفاظ العموم أي: أي أحد سواء كان رجلاً أو امرأة (الغداة في جماعة ثم قعد) فهذا يصلي صلاة الفجر في جماعة في المسجد في بيت الله سبحانه، وحتى لو كان في مكان لا يوجد فيه مسجد والناس اجتمعوا في بيت من البيوت وصلوا الجماعة فله نفس الحكم؛ لأنه لم يقل: لا بد أن يكون في مسجد بحيث لو لم يكن في مسجد فإنه سيضيع هذا الأجر، فإذا صلوا في جماعة وجلسوا حتى تطلع الشمس ثم صلى الواحد منهم ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة، ومن فضل الله سبحانه وتعالى على المؤمن أنه يعطيه الأجور العظيمة على أعمال يسيرة، فحين يتذكر الإنسان ما في الحج من مشاق ويعلم أنه يمكن أن يدرك هذا الأجر عندما يصلي صلاة الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله حتى تشرق الشمس، فإنه عند ذلك لن يفرط في مثل هذا الثواب، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله يجلس في مجلسه حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين.
قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين) يعني: انتظر في مكانه الذي هو فيه حتى يصلي الركعتين كان له من الأجر العظيم كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
والحديث مختص بمن صلى في جماعة، فلو أن المرأة صلت ببناتها في بيتها جماعة وجلسن يذكرن الله سبحانه حتى ذلك الوقت وصلين ركعتين لكان لهن مثل هذا الأجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على النساء الصلاة في المسجد: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدها) فعلى ذلك يكون لهن نفس هذا الأجر إن فعلن ذلك.
لكن صلاة الرجل لا بد أن تكون في المسجد حيث ينادى بالصلاة، ويجلس في المسجد يذكر الله سبحانه، أما إذا كان البلد لا يوجد فيه مسجد فله العذر في أن يصلي مع الجماعة في أي مكان ثم يجلسون حتى تطلع الشمس فينالون ذلك الأجر.
والغرض من الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس هذه الفترة متربعاً صلى الله عليه وسلم، وهذه من الجلسات الفاضلة في الجلوس، فالإنسان عندما يجلس جلسة التشهد فهذه جلسة عظيمة وجلسة التربع تليها.(76/4)
فضل المكث في المسجد بعد الفجر حتى تشرق الشمس وصلاة ركعتين
إن الإنسان المؤمن يحاول أن يكسب الثواب قدر المستطاع وكما ذكرنا قبل ذلك فإن الإنسان لا ينظر في العبادة إلى من هو دونه، ولكن الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فافعل ما فعله صلى الله عليه وسلم، إذا رأيت غيرك يفرط في مثل هذا الأجر فالتمس له العذر فلعل لديه ما يشغله أو أنه لم ينم بالليل ويحتاج لأن ينام الآن، فأنت عليك بنفسك فإذا كان عندك الوقت لتفعل هذا الشيء فلا تفرط في هذا الثواب، ففي الحديث: (من صلى) و (من) من ألفاظ العموم أي: أي أحد سواء كان رجلاً أو امرأة (الغداة في جماعة ثم قعد) فهذا يصلي صلاة الفجر في جماعة في المسجد في بيت الله سبحانه، وحتى لو كان في مكان لا يوجد فيه مسجد والناس اجتمعوا في بيت من البيوت وصلوا الجماعة فله نفس الحكم؛ لأنه لم يقل أنه لا بد أن يكون في مسجد بحيث لو لم يكن في مسجد فإنه سيضيع هذا الأجر، فإذا صلوا في جماعة وجلسوا حتى تطلع الشمس ثم صلى الواحد منهم ركعتين كان له أجر حجة وعمرة تامة، تامة، تامة، ومن فضل الله سبحانه وتعالى على الإنسان المؤمن أنه يعطيه الأجور العظيمة على أعمال يسيرة، فحين يتذرك الإنسان ما في الحج من مشاق ويعلم أنه يمكن أن يدرك هذا الأجر عندما يصلي صلاة الفجر في جماعة، ثم يجلس يذكر الله حتى تشرق الشمس، فإنه عند ذلك لن يفرط في مثل هذا الثواب، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله يجلس في مجلسه حتى تطلع الشمس ثم يصلي ركعتين.
قال: (من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين) يعني: انتظر مكانه الذي هو فيه حتى يصلي الركعتين كان له من الأجر العظيم كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
والحديث مختص بمن صلى في جماعة، فلو أن المرأة صلت ببناتها في بيتها جماعة وجلسن يذكرن الله سبحانه حتى ذلك الوقت وصلين ركعتين لكان لهن مثل هذا الأجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط على النساء الصلاة في المسجد: (صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجدها) فعلى ذلك يكون لهن نفس هذا الأجر إن فعلن ذلك.
لكن صلاة الرجل لا بد أن تكون في المسجد حيث ينادى بالصلاة، ويجلس في المسجد يذكر الله سبحانه، أما إذا كان البلد لا يوجد فيها مسجد فله العذر في أن يصلي مع الجماعة في أي مكان ثم يجلسون حتى تطلع الشمس فينالون ذلك الأجر.
والغرض من الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس هذه الفترة متربعاً صلى الله عليه وسلم، وهذه من الجلسات الفاضلة في الجلوس، فالإنسان عندما يجلس جلسة التشهد فهذه جلسة عظيمة وجلسة التربع تليها.(76/5)
شرح حديث ابن عمر: (رأيت رسول الله بفناء الكعبة محتبياً)
ومن الجلسات أيضاً: الاحتباء أو القرفصاء، وسواء كان الاحتباء بأن يحيط ركبتيه بيديه أو يلف عليها ثوباً من وراء ظهره، فكان النبي يجلس على هذه الهيئة وكأنه يستريح ما بين التربع وبين هذه الجلسة، فجاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة محتبياً بيديه هكذا) ووصف بيديه الاحتباء فأمسك إحدى يديه بالأخرى وأحاط بهما ركبتيه عليه الصلاة والسلام، وفسرها البخاري على أنها القرفصاء، وهو أحد التفاسير التي جاءت في معنى جلسة الاحتباء، وقالوا: بل هي جلسة الإنسان الذي يتهيأ للقيام فكأنها تدخل تحتها في اللغة، ولكن الإمام البخاري اختار هذه الجلسة لأنها قد تكون طويلة، فيستريح على هذه الهيئة.(76/6)
شرح حديث قيلة بنت مخرمة: (رأيت النبي وهو قاعد القرفصاء)
عن قيلة بنت مخرمة رضي الله عنها قالت: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء) يعني: جلسة الاحتباء، فهذه المرأة لما نظرت للنبي صلى الله عليه وسلم أخذها المنظر، وكأنها تقول: هذا رسول الله الذي نسمع عنه الرسول العظيم يجلس هذه الجلسة على الأرض بينما كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم من الملوك يجلسون على العروش فقالت هنا: (فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق) أرعدت لهيئة النبي صلى الله عليه وسلم، أي: من الخوف من الله سبحانه، ومن إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذه الهيئة عليه الصلاة والسلام.
وجاءت رواية لهذا الحديث عند الطبراني بإسناد لا بأس به وذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح قالت: (فجاء رجل فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله، وعليه أسمال مليتين) يعني: هذه كانت هيئة النبي صلى الله عليه وسلم والأسمال جمع سمل: وهو الثوب البالي، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس إزاراً ورداء باليين.
قالت: (وعليه أسمال مليتين كانتا بزعفران فنفضتا) يعني: كأن الملايتين اللتين كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسهما كانتا في الماضي عليهما لون الزعفران، ولكن مع القدم والبلى ما عاد عليها شيء من هذا اللون، قالت المرأة: (وبيده عسيب نخلة مقشرة قاعداً القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال له جليسه: يا رسول الله! أرعدت المسكينة) يعني: المرأة صارت ترتعش لما رأت النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئة وهو لم ينظر إليها صلوات الله وسلامه عليه، فالرجل الذي معها يقول: المرأة أرعدت من هيئتك يا رسول الله، عليه الصلاة والسلام فقال: (أرعدت المسكينة فقال ولم ينظر إلي: يا مسكينة عليك السكينة) فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا مسكينة عليك السكينة قالت: فذهب عني ما أجد من الرعب)، وإنما كان رعب المرأة حين رأت النبي صلى الله عليه وسلم يجلس جلسة إنسان متواضع لله سبحانه في غاية الخشوع وغاية السكينة عليه الصلاة والسلام، فهيئته صلى الله عليه وسلم جعلت المرأة تخشع لله سبحانه، وتخاف وتهاب النبي صلى الله عليه وسلم وتجله.(76/7)
ذكر قصة قيلة بنت مخرمة في دخولها على النبي وهو جالس القرفصاء برواية أحمد من حديث الحارث البكري
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث الحارث بن حسان البكري في قصة طويلة فيقول الحارث: (خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها) هذا الرجل خرج يشكو عاملاً للنبي صلى الله عليه وسلم عنده، وهذا العامل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه حدث بينه وبينهم شيء، فهذا الرجل ذهب يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها فقالت: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله حاجة فهل أنت مبلغي إليه؟) فالعجوز كانت من بني تميم وهو من قوم أعداء لبني تميم، ولكنه أشفق على المرأة، وأنها كانت تريد أن تذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وما من أحد من قومها يذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله) يعني: لما وصل الحارث وجد المسجد قد غص بأهله فلما سأل عن ذلك علم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيبعث بعثاً مع عمرو بن العاص رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال: (فدخل النبي صلى الله عليه وسلم منزله فاستأذنت عليه فأذن لي) دخل الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حصل بينك وبين بني تميم شيء فقال: (نعم.
وكانت لنا الدبرة عليهم) يعني: حصل بيننا وبينهم حرب ونحن الذين غلبنا قال: (ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم) فهو عمل خيراً في العجوز التي من بني تميم لما أرادت أن تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزاً فاجعل الدهناء)، والدهناء أرض معشبة فيها مرعى للإبل ويحتاج إليها الجميع، فهو يقول: اجعل بيننا وبين بني تميم حاجزاً يمنعهم من أن يعتدوا علينا أو نعتدي عليهم، فلما قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فكأنه لم يعرف أرض الدهناء وظنها أرضاً فيها رمال ولذلك وافق النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وكانت العجوز قد دخلت وسمعت هذا الكلام، قال: (فحميت العجوز واستوفزت) يعني: هاجت وحميت على هذا الذي قاله فقالت: (يا رسول الله! فإلى أين تضطر مضرك؟) يعني: كيف يفعل الناس إذا استفرد هذا وقومه بالأرض المعشبة.
فقال: (يا رسول الله! إنما مثلي ما قال الأول: معزاء حملت حتفها)، وهذه قصة معروفة عند العرب، وهي أن رجلاً كان معه معزاء وكان يمشي في الطريق ويفكر ماذا يعمل بتلك المعزاء فإذا بها تحفر في الأرض وأخرجت سكيناً فأخذها وذبحها بها، فالرجل يقول: مثلي كمثل هذه المعزاء، فقال: (حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصماً! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد)، وهنا يظهر أدب النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه حيث كان يعرف قصة وافد عاد لكنه سأله عن قصة وافد عاد، ومن أدب المجلس أن الإنسان إذا سمع من آخر حديثاً وهو يعرفه فلا يقاطعه ويخبره أنه يعرفه، قال: (هيه، وما وافد عاد؟ وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه، قلت: إن عاداً قحطوا فبعثوا وافداً لهم يقال له: قيلة فمر بـ معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً) وعاد هؤلاء عصوا الله سبحانه، وكذبوا رسول الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فإذا بالله سبحانه يتوعدهم بالعذاب، ويأتي هذا العذاب من حيث لا يشعرون، وكان عذابهم بأن منع الله عز وجل عنهم المطر فاشتد الحر عليهم واحتاجوا للماء، وكانت العادة عندهم أن يرسلوا إلى أرض مكة من يدعو الله هناك فأرسلوا وافداً لهم يقال له: قيل فمر بملك من الملوك واسمه معاوية بن بكر فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان وبعد ذلك تذكر مهمته وخرج إلى جبال تهامة بالحجاز فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيه.
وهذا المكان كان له حرمة عند عاد وغيرهم، وهذا قبل إبراهيم بكثير، فموضع البيت كان له حرمة، ولكن الذي رفع قواعد البيت هو إبراهيم بعد ذلك الحادث بزمان طويل، فالرجل يقول: أنا ما جئت لمريض، ولا جئت من أجل أسير، لكن أنا جئت أستسقي فاسق عاداً ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر سحابة، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، وظن أن هذه السحابة السوداء أكثر ماء، فنودي من هذه السحابة: خذها رماداً رمدداً، لا تبقي من عاد أحداً، أي: خذها رماداً وناراً تنزل على عاد تحرق الجميع، قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:41 - 42] فهو اختار السحابة التي تليق بهم فاختار أسود سحابة فكانت أسود الأيام عليهم.
الغرض من الحديث: أن الرجل قص هذه القصة على النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بها، ففيها الإقرار لمثل هذا، وفيه أدب النبي صلى الله عليه وسلم في جلوسه الخاشع المتخشع المتواضع صلوات الله وسلامه عليه.
وفيه أيضاً: أن الإنسان بسمته قد يكون دعوة لغيره، فلما ينظر إليه الغير يعجبه سمته فيكون له قبول عنده، فالسمت الحسن جزء من أجزاء النبوة كما جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.(76/8)
شرح حديث الشريد بن سويد: (مر بي رسول الله وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري)
من الأحاديث التي فيها النهي عن جلسة معينة، حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه قال: (مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس هكذا وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي)، هذا الرجل كان قاعداً على الأرض وقد وضع يده اليسرى وراء ظهره، وألية اليد هي راحة اليد من ناحية الكوع.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتقعد قعدة المغضوب عليهم) يعني: نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه القعدة، وعلل ذلك أن هذه جلسة من غضب الله تبارك وتعالى عليهم.
والمغضوب عليهم هم اليهود وغيرهم من الكفار، فكأنها هنا على العموم، وإن كان في سورة الفاتحة المقصود بالمغضوب عليهم اليهود ومن شاكلهم، ولكن هنا كأنها جلسة المتكبرين الذين يغضب الله عز وجل عليهم من يهود ونصارى وغيرهم من أعداء الله سبحانه، فلا ينبغي للمسلم أن يجلس هذه الجلسة التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما نرى إخواننا في المجلس يجلسون هذه الجلسة عند انتظارهم للصلاة!(76/9)
ما جاء في آداب المجلس والجليس(76/10)
شرح حديث: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه)
من الأحاديث الواردة في آداب المجلس والجليس، حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه) متفق عليه.
هذا الحديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أدب من آداب المجلس، فليس لأحد أن يقيم رجلاً من مجلس ليجلس مكانه، بل نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجلس بين اثنين إلا بإذنهما.
إذاً: على المسلم أن يتأدب حين يجلس فلا ينازع أحداً في مجلسه ولا يضايق أحداً في مجلسه وإنما يستأذن فإن أذن له جلس بجواره، وإن لم يأذن له فليجلس حيث يوسع له ولا يضايق أحداً في مجلسه.
فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا) فأحياناً تكون المجالس واسعة، وفيها من يجلس ماداً رجليه بحيث لا يبقي مكاناً لأحد، فإذا جاءه من يقول: تفسحوا وتوسعوا ويستأذن للجلوس فيقول له: هذا المكان لي ابحث لك عن مكان آخر، كثير من الناس يفعلون هذا الشيء! وللأسف نرى مثل هذا حتى في الحرم، فإذا جاء من يطلب منه أن يفسح له قال: أنا أعتكف هنا، اذهب وابحث عن مكان آخر! فيفعل هذا في بيت الله الذي يفترض أن يكون الإنسان فيه أخشع ما يكون، لعظم هذا المكان.
فالإنسان المؤمن يتعلم الأدب الشرعي من النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية جلوسه وفي أمره لنا بالتفسح، بل ربنا سبحانه قالها في القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] فإذا كنت جالساً في مجلس وكان بجانبك مكان يسع إنساناً فأجلس هذا الإنسان، وتصور أنك في مكانه وجئت تقول للناس: تفسحوا، فهل ترضى أن يمنعك أحد من الجلوس؟ فما لا ترضاه لنفسك لا ترضه لغيرك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن توسعوا وتفسحوا، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلس لم يجلس فيه) فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا جاء ليجلس وقام رجل من أجل أن يجلس مكانه فإنه لا يرضى أن يجلس فيه ليعلم الناس ويؤدب نفسه، فيعلم الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الآتي أن يقيم غيره لذلك هو لم يقم أحداً، وهم مع احترامهم لـ عبد الله بن عمر يفعلون ذلك، ولكن هو يخاف على نفسه من الغرور.
فلا تفرح أيها المسلم إذا قام الناس لك ولا تطلب مثل ذلك، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، فالذي يفرح بقيام الناس له يحضر نفسه للنار والعياذ بالله.
فالإنسان المؤمن إذا قام له الناس فلا يفرح بذلك، ولكن إذا قاموا له من مجلس فلا يجلس فيه كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، ولو فرضنا أنه جلس فهل عليه إثم؟ لا، ليس عليه إثم، فصاحب المجلس أذن له فيه فلا مانع من أن يجلس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل على السيدة فاطمة في بيتها قامت له وقبلته صلى الله عليه وسلم وأجلسته مكانها، وكان هو يفعل ذلك مع ابنته صلوات الله وسلامه عليه، فهذا من باب المحبة لكن إذا كان من باب الترفع على الناس وأنه أولى من غيره بأن يكون خلف الإمام أو حتى مكان الإمام فهذا الذي جاء فيه الوعيد.
والنبي صلى الله عليه وسلم حدد مواصفات الإمام فقال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإذا كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإذا كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) إذاً: لا يأتي إنسان يتعدى على الإمام ويتقدم عليه في مكانه.
كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يكون خلف الإمام: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) فإذا كان الإمام في الصلاة وجاء إنسان وراءه فلا بد أن يكون حافظاً للقرآن فلعل الإمام يحدث في الصلاة فيكون وراءه من يتقدم فيصلي بالناس مكان الإمام، ولعل الإمام يخطئ في الصلاة فيكون من هؤلاء من يرد الإمام عن ذلك الخطأ الذي وقع فيه.
إذاً: على الإنسان إذا وقف في هذا المكان وجاء من هو أولى منه فالأولى له أن يفسح له، وإذا كان الإنسان يعرف أن هذا المكان ليس مكانه فلا يقف فيه حتى لا يحرجه أحد في ذلك، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمن أن يتواضع وألا يطلب من أحد أن يقوم له إلا أن يكون لأمر شرعي، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(76/11)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في أدب المجلس والجليس
إن ذكر الله عز وجل من أفضل العبادات عنده سبحانه، وهو من أيسرها، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى سنن مستحبة يؤجر الإنسان عليها إذا فعلها، ومن هذه السنن آداب المجالس سواء الآداب الفعلية أو القولية، فينبغي للإنسان أن يتحلى بها، ويعمر وقته بطاعة الله ورسوله وبذكره سبحانه وتعالى.(77/1)
ما ورد في آداب المجلس
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في آداب المجلس والجليس.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قام أحدكم من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به) رواه مسلم.
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
وعن أبي عبد الله سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) رواه البخاري].
هذا باب من أبواب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي بعض آداب المجلس والجليس، وآداب المجلس كثيرة، والإنسان إذا جلس في مجلس فتأدب بالأدب الشرعي في هذا المجلس كان خارجاً منه وقد غفر الله عز وجل له ما كان من ذنوبه، فيكفر الله عنه من سيئاته ويغفر له ذنوبه.
جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
فهذا مجلس من المجالس فيه ذكر لله سبحانه تبارك وتعالى، يجتمع فيه العباد، فتنزل السكينة من عند الله سبحانه، وتحف الملائكة هذا المجلس، وتتغشاهم الرحمة أي: تغطيهم رحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، ويذكرهم الله سبحانه فيمن عنده.
فكلما التزم المؤمن بالأدب في المجلس كان أحب إلى الجالسين، وكان قريباً من ربه سبحانه، وغفر الله له ذنبه، فمن هذه الآداب أن الإنسان إذا جلس في مجلس لا يفرق بين اثنين، وهذا قدمناه قبل ذلك، أي: أن يوسع الثاني ليجلس هو بين الاثنين، وإنما يستأذن ويقول: تفسحوا وتوسعوا، فيفسح له الناس في المكان الذي يفسحون له فيه فيجلس في هذا المكان، قال الله: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة:11] إذا أردت أن تجلس فتأتي حيث ينتهي المجلس وتقول: تفسحوا، يفسح لك الناس من الجانب هذا فتجلس حيث وسعوا لك.
أيضاً ذكرنا قبل ذلك حديث ابن عمر: (لا يقيمن أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا) يعني: لا يليق بإنسان أن يقيم أحداً من أجل أن يجلس مكانه، وأيضاً لا يجلس مكان أحدهم، وإنما يتوسعون ويتراحمون فيما بينهم، ويفسح بعضهم لبعض.(77/2)
صاحب المجلس أحق به
من الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم من المجلس ثم رجع إليه فهو أحق به)، صاحب المكان أحق به سواء كان هذا المكان مجلساً يجلس فيه في المسجد على الأرض أو في مجلس من مجالس العلم كأن يجلس على كرسي مثلاً أو على تختة فهو أحق بمكانه.
فإذا قام ليقضي حاجة ثم يرجع فهو أحق بهذا المكان، لكن إذا قام منصرفاً انتهى حقه في المجلس؛ لأنه انصرف عن المجلس فيجلس فيه غيره، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم: (إذا قام أحدكم من المجلس ثم رجع إليه فهو أحق به).(77/3)
الجلوس حيث ينتهي المجلس
روى أبو داود والترمذي وحسنه عن جابر بن سمرة رضي الله عنه: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي به المجلس)، جلس حيث ينتهي به المجلس، وآخر المجلس في المكان الأخير حيث ينتهي بآخر إنسان.
أما أن يخترق الصفوف، ويتخطى الرقاب، ويضايق الناس لأجل أن يأتي قدام ويجلس؛ فهذا ليس من أدب المجالس، إنما يجلس حيث ينتهي به المجلس، وإذا وجد فرجة في مكان جلس فيها من غير أن يؤذي أحداً.
وكون الإنسان يؤذي أحداً في المجلس فهذا أذية، والنبي صلى الله عليه وسلم مر على المنبر ووجد إنساناً يخترق الصفوف يتخطى الرقاب، فقطع خطبته صلى الله عليه وسلم وقال لهذا الرجل: (اجلس فقد آذيت وآنيت).
الخطبة عظيمة جداً، والناس منشغلون بالخطبة، ولكن عندما يدخل شخص يتخطى الرقاب فيؤذي كل الناس استحق أن يقطع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته ويزجر الذي آذى الناس، فقال: (اجلس) أي: اقعد مكانك (فقد آذيت)، آذيت الناس بتخطيك الرقاب، (وآنيت) أي: تأخرت.
فهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الإنسان أمام الناس، يؤدبه حتى لا يفعل غيره مثل فعله، فاستحق هذا أن يؤدب ويقال له: اجلس مكانك ولا تتخط رءوس الناس ولا تؤذيهم.
فقال لنا جابر بن سمرة: (كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي به المجلس)، فهم تأدبوا بأدب النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلموا أن الواحد إذا جاء إلى المجلس يجلس حيث ينتهي في آخر المجلس.(77/4)
من آداب المجلس عدم التفريق بين الاثنين
روى البخاري من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى).
صلاة الجمعة هي عيد المسلمين في كل أسبوع، فهذا يوم عظيم جداً، يستجيب الله عز وجل فيه الدعوات، فيه ساعة إجابة يستجيب الله عز وجل فيها لعبده، والمؤمن يهيئ نفسه ليستجيب الله عز وجل له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص أن يصلي الفجر في هذا اليوم فيقرأ بسورة السجدة وسورة الإنسان؛ لما فيهما من ذكر بدء الخلق، ومن ذكر القيامة، ومن ذكر الجنة والنار.
ويوم الجمعة هو اليوم الذي خلق فيه آدم، وأنزل فيه آدم من الجنة، واليوم الذي تقوم فيه الساعة، ما من مخلوق إلا وهو يشفق من يوم الجمعة إلا الإنس والجن، فيوم الجمعة يذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من أول صلاة الفجر بهذا اليوم، وما في هذا اليوم من ذكر الساعة وغير ذلك.
يوم الجمعة فيه الذهاب إلى بيت الله سبحانه، فتذهب مبكراً إلى صلاة الجمعة ولا تتأخر عنها، وكلما أتيت مبكراً قبل أن يأتي الإمام كتب اسمك في صحف الملائكة، فالملائكة يجلسون على أبواب المساجد يكتبون الداخلين الأول فالأول، فإذا حضر الإمام وبدأ بالخطبة جلست الملائكة يستمعون الذكر، فلا تحرم نفسك من أن تكتب في الصحف التي بأيدي الملائكة بأن تتواجد في صلاة الجمعة قبل حضور الإمام.
كذلك هنا أدب من الآداب، يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر)، فيه تأكيد على الاغتسال يوم الجمعة، وهي سنة مؤكدة ليوم الجمعة ولصلاة الجمعة، فتحرص على ذلك، ثم تتطهر ما استطعت من طهر، وتدهن من دهن، بمعنى: يضع الطيب وهو في بيته إذا وجد أو يمس من طيب بيته.
قال: (ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين)، إذا جاء يوم الجمعة ودخل المسجد لا يفرق بين الناس، فإذا أراد أن يجلس انتظر حتى يوسع له الناس، فإذا لم يوسع له أحد يجلس وراء الناس حيث ينتهي إليه المجلس.
قال: (فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي)، وهذه سنة أخرى من السنن، أنك إذا أتيت إلى بيت الله سبحانه لا تنشغل بأمر من أمور الدنيا، ولكن انشغل بالصلاة وبالذكر والتسبيح في هذا اليوم قبل حضور الإمام، فيقول لنا هنا: (صلى ما كتب له) يعني: ما يعلم الله عز وجل من صلاة، وليس معناه أنه صلى فريضة، ولكن ما كتب له عند الله أن يصلي، يعني: ما شاء الله له أن يصلي من صلاة، فيصلي الضحى ركعتين أو أربع أو ثمان أو ما كتب له ثم بعد ذلك يجلس.
قال: (ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام)، إذا حضر الإمام وبدأ يخطب ينصت ويصغي بسمعه ليستمع إلى الإمام بتفهم وتعقل، ولا يلتفت عما يقوله الإمام أو الخطيب، لا ينشغل بشيء من الأشياء ولا حتى بمس الحصى، فلا يقعد يلعب بيديه في الأرض في حصى أو في غيرها، فالذي يمس الحصى هذا من اللغو الذي نهينا عنه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مس الحصى فقد لغى).
قال هنا: (ثم ينصت إذا تكلم الإمام)، فكل هذه الأشياء من يفعلها يكون له ما قال صلى الله عليه وسلم: (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى) يعني: الله عز وجل يغفر له ما حصل منه خلال الأسبوع! الله كريم وغفور رحيم سبحانه! جعل المكفرات للذنوب كثيرة من فضل الله ورحمته، فالصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة والعمرة إلى العمرة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينها من صغائر الذنوب بشرط أن تجتنب الكبائر، بأن لا يسرق المؤمن ولا يزني ولا يأكل الرشوة لا يتعامل بالربا ولا يأخذ السحت ولا يختلس ولا ينتهب ولا يسفك دماً حراماً ولا يعق والديه ولا يقع فيما حرم الله عز وجل من كبائر الذنوب؛ فيستحق أن يغفر الله عز وجل له ما تقدم من صغائر الذنوب.
وترك الصلاة من الكبائر، فلو أن الإنسان ترك الصلاة طوال الأسبوع وصلى الجمعة إلى الجمعة فلا يظن أنه بذلك سيكفر عنه ما حصل منه خلال الأسبوع! بل لابد أن يتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، ويأتي بما أمره الله عز وجل أن يأتيه، فيتوب توبة نصوحاً، ويصلي لله كل الأسبوع فتكون الجمعة كفارة له، أما كما يعمل كثير من الناس اليوم يترك الصلاة فلا تراه في المسجد إلا يوم الجمعة وباقي الصلوات يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويظن أنه بصلاة الجمعة يمحو الله عز وجل هذا الماضي؛ فهذا لم يقل به أحد.
قيد النبي صلى الله عليه وسلم هذا في الحديث الآخر فقال: (ما اجتنبت الكبائر)، ومن الكبائر: أن يترك الإنسان الصلاة، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).(77/5)
من آداب المجلس عدم التفريق بن الاثنين إلا بإذنهما
روى الترمذي وأبو داود -وهو حديث حسن صحيح- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما).
وفي رواية أبي داود: (لا يجلس بين رجلين إلا بإذنهما)، فهذا أدب مفقود عند كثير من الناس، تجد الإنسان يأتي ثم يجلس في المكان الذي يعجبه وإن فرق فيه بين الاثنين ولا يبالي، فهذا من سوء الأدب والجهل بالعلم الشرعي، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بقوله: (لا يحل) لا يحل لك هذا الشيء، لكن قف وراء الاثنين وقل: تفسحوا، فهما إما سيوسعان لك أو أن أحدهما يريد أن يجلس إلى جنب أخيه فلا تفرق أنت بينهما.
لا يحل للرجل أن يفرق بين اثنين، وليس لأحد أن يقيم أحداً من مكانه فيقول: قم من أجل أن أقعد أنا، ولا أريد أن أقعد هنا! ليس لك أن تفعل ذلك، ولكن طالما أنت الذي تأخرت فاجلس حيث يفسحا ويوسعا لك.(77/6)
من آداب المجلس عدم الجلوس وسط الحلقة
روى أبو داود عن حذيفة وإسناده رجاله ثقات ولكنه من رواية أبي مجلز عن حذيفة، وأبو مجلز لم يلق حذيفة، ففيه انقطاع بين أبي مجلز وحذيفة ولكن رجاله كلهم ثقات إلا الانقطاع الذي في هذا الحديث.
عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن من جلس وسط الحلقة)، إذا كان المسلمون متحلقين حلقة في طلب العلم فليس لواحد منهم أن يجلس في وسط الحلقة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليهم بأصابعه: أن تحلقوا، يعني: اجلسوا حلقة.
فليس لأحد أن يجلس في وسط الحلقة، وإنما يجلس الناس حول هذه الحلقة، وإذا كان الناس في مجلس علم جالسين لا يسع المكان أن يتحلقوا حلقة فلا بأس أن يقتربوا من الشيخ.
فالمؤمن قدر المستطاع يفعل ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم به، فمن آداب المجلس ألا يجلس أحد في وسط الحلقة.(77/7)
من آداب المجلس توسيع المجلس
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير المجالس أوسعها) هذا حديث صحيح عنه صلى الله عليه وسلم، فإذا كان المجلس ضيقاً يكون مملاً في آخر المجلس، ويضيق الناس من الجلوس فيها، فلا ينتبهوا لما يكون في هذا المجلس من درس علم ونحوه.
لكن إذا كان المجلس واسعاً ويجمع الناس كانت الرحمة أقرب من هؤلاء، لكن (خير المجالس أوسعها) معناه: الذي يسع أصحابه، بحيث يكون الكل مستريحاً في المكان، فهذا خير المجالس؛ فيؤدب الذي يأتي إلى المجالس فيضيقها على الناس.
كذلك أن يدخل الشخص في الصف أثناء الصلاة فيضيق على الناس في الصف فيزاحمهم حتى ربما يسقطون وهم واقفين! فنقول لهذا: من أجل الرحمة لا يجوز لك مضايقة المصلين في الصف، وضابط الصف حسب ما يسع من العدد من الناس دون أن يؤذي بعضهم بعضاً، ولا يكون في الصف بين الإنسان والإنسان فرجة كبيرة فيسمح للشيطان بالدخول فيها، ولا ينبغي للشخص أن يضيق على أخيه حتى يزهقه حال وقوفه، وإذا وجد فرجة في الصف وقف فيها، فإن لم يجد فليصل في الصف الذي يليه.
هذا الحديث الذي جاء عن أبي سعيد الخدري في رواية له عند البخاري في الأدب المفرد وعند ابن أبي شيبة أيضاً أنه أوذن أبو سعيد بجنازة في قومه، فكأنه تخلف حتى أخذ الناس مجالسهم، يعني: قالوا له: توجد جنازة فتعال من أجل أن تصلي عليها، فـ أبو سعيد رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له فضل رضي الله عنه، والناس يعرفون فضله، ولذلك عندما سيذهب للجنازة سيوسعون له، فهو خشي من ذلك، فتأخر أبو سعيد رضي الله عنه حتى جلس الناس في أماكنهم ثم جاء فلما رآه القوم تشذبوا، يعني: لما رآه القوم الذين هم قاعدون أخذوا يوسعون لـ أبي سعيد فهم سيضيقون على أنفسهم من أجل أن يجلس معهم أبو سعيد، وقام بعضهم ليجلس في مجلسه، فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير المجالس أوسعها)، ثم تنحى فجلس في مكان واسع، كأنه ابتعد ونظر مكان آخر واسعاً فجلس فيه.
فهذا أدب الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، يجلسون في مكان ويأتي إنسان يضيق عليهم حتى ولو كان هو أفضل هؤلاء الموجودين ليس له أن يضيق على الناس، ولكن يجلس حيث ينتهي به المجلس في مكان واسع حتى لا يضيق عليهم ولا يؤذيهم.(77/8)
من آداب المجلس دعاء كفارة المجلس
من الأحاديث التي جاءت حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه) يعني: كان فيه لغو كثير وكلام كثير، وليس معناه: أنهم قاعدون يشتمون الناس أو يعصون الله، قال: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك).
فالله عز وجل يغفر له ما كان في مجلسه ذلك من اللغط أي: من كثرة الكلام فيما يعني وفيما لا يعني، والإنسان يحاسب نفسه على ما يتكلم به، فإذا جلس في مجلس مع الناس فالأصل أن المؤمن يعلم أنه ما خلق إلا لعبادة الله سبحانه، والأصل أن يذكر الله سبحانه، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإذا جلس في المجلس فضحك كثيراً وكثر كلامه ناسياً، ثم تذكر في آخر مجلسه فليقل: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك) إذا جلس العبد في مجلس ولم يذكر الله سبحانه فليقل: سبحانك! أسأنا في حقك! نقدسك يا ربنا! نجلك أن نجلس في مكان ولا نذكرك فيه، أخطأنا بذلك، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك.
أي: أسبحك وأقدسك وأحمدك يا رب، أشهد أن لا إله إلا أنت -كلمة التوحيد- أستغفرك وأتوب إليك، قال: (إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك).
حديث آخر عن أبي برزة في المعنى نفسه، يقول رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس)، (يقول بأخرة) في النهاية، وكأنه في الأول بعدما هاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه مكث فترة فيها لم يكن يقول ذلك، وفي النهاية قرب آخر حياته صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الذكر، فهذا معنى (بأخرة) يعني: في آخر عمره صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)، وهل يعقل أن النبي صلى الله عليه وسلم سيجلس في مكان يكون فيه ذنوب؟! مستحيل أن يجلس في مجلس كهذ، ولكنه كان يجلس مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحب أن يذكرهم بذلك، فهو إذا جلس في مجلس إما أن يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى في سره أو يذكر الله عز وجل مع أصحابه، ويعودهم أن يقولوا ذلك في ختام المجلس.
فقالوا: (يا رسول الله! إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى؟)، ما هو الذي حصل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك كفارة لما يكون في المجلس).
قد تكون أنت في المجلس ولم تسئ، ولكن أحد الجالسين أساء فيلزمك أن تنهى عن المنكر، فإذا تجاوزت وسكت يكون ذلك الذكر كفارة لسكوتك، وكفارة لهذا المجلس الذي شهدته.(77/9)
ذكر دعاء (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك) في آخر المجلس
حديث آخر رواه الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات)، يعني: قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يقول -يعني: كثيراً- في مجالسه التي كان يجلسها: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك)، هذا لفظ الترمذي، والذي ذكره الإمام النووي هنا: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك)، ولعلها في نسخة أخرى عند الإمام النووي رحمه الله، ثم قال: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك).
فهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، إذا جعل الله عز وجل في قلبك الخشية حال بينك وبين معاصيه سبحانه وتعالى فقوله: (اللهم اقسم لنا من خشيتك)، يعني: أعطنا من الخشية، وقد يعطيك خشية لا تقدر معها على الصبر على شيء قد يكون؛ ولذلك المعنى: أعطنا خشية نقدر عليها، وقد يجعل الله عز وجل في قلب العبد خشية حتى يكون مرعوباً من الله، ويشتد خوفه من الله حتى ييئس من رحمة الله سبحانه وتعالى، فهنا يقول: أعطنا من الخشية ما يحول بيننا وبين المعاصي، أي: الخشية التي تمنعنا من المعاصي، وليس الخشية التي تيئسنا من روح الله ورحمته تبارك وتعالى.
قوله: (ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك) أعطنا الطاعة التي تبلغنا جنتك، فيفتح لك أبواب الطاعة فتطيع الله سبحانه وتعالى في كل أمر من الأمور الطاعة التي تبلغك جنته.
ثم قال: (ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا)، ذكر الإمام النووي في اللفظ هنا: (ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا)، وهو نفس المعنى، اليقين: قوة الإيمان الذي هو التصديق والثقة بالله سبحانه وتعالى، فيمتلئ قلب العبد باليقين والثقة بالله سبحانه، وبالإيمان فإذا به تهون عليه الدنيا وتهون عليه مصيبته فيها.
والنبي صلى الله عليه وسلم أصيب بمصيبات في هذه الدنيا! وابتلي صلوات الله وسلامه عليه بمصائب من هذه الدنيا وصبر عليها صلوات الله وسلامه عليه! انظر كيف مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته في العام نفسه الذي مات فيه عمه! فهذا بلاء شديد جداً على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو إلى الله والناس يكذبونه.
والله لو كان الناس مصدقين للنبي صلى الله عليه وسلم ويواسونه لكان سهل عليه الأمر، أما أن يكذبه كل الناس فهذا لا يحتمله إنسان ثم إن عمه الذي كان يدافع عنه مات كافراً فهذه مصيبة شديدة جداً على قلبه صلوات الله وسلامه عليه، وفي العام نفسه ماتت زوجته خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها فأي مصيبة أفظع من هذه المصيبة؟! وإذا به صلوات الله وسلامه عليه يخرج من مكة إلى الطائف وهو مهموم يبحث عن أحد هناك يستقبله صلى الله عليه وسلم ويقبل دعوته ويأمن معه صلوات الله وسلامه عليه؛ فيستقبله أوباش القوم وسفلتهم يقذفونه بالحجارة حتى جرحوه صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك صبر صبراً عظيماً يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى، ويأتي إليه ملك الجبال ويقول له وهو في كرب عظيم صلوات الله وسلامه عليه: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين)، إذا أردت أن أطبق عليهم جبال مكة فعلت، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، ولكن أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً).
فكافأه الله سبحانه تبارك وتعالى على هذا الصبر بالإسراء والمعراج، فعرج به صلوات الله وسلامه عليه إلى السماء ليزداد طمأنينة وإيماناً مع إيمانه صلوات الله وسلامه عليه، ويرجع إلى هذه الأرض حيث يصبر على ابتلاء الله سبحانه.
ويهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه ويموت أولاده الواحد وراء الآخر، ويأتي الأعداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقاتلهم ويجاهد في سبيل الله، ويجرح صلوات الله وسلامه عليه ويصبر، فهذه مصائب من مصائب الدنيا.
وكان صلى الله عليه وسلم قل أن يقوم من مجلس إلا وهو يدعو بهذا الدعاء: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا).
فيدعو النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه أن يمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا، فالإنسان عندما يكون له سمعه وبصره وقوته فهو في عافية عظيمة من الله سبحانه وتعالى، فلو فقد الإنسان سمعه فسيقول: أصرف مالي كله على العلاج من أجل أن يرجع لي السمع مرة ثانية.
والبصر كذلك والقوة والعافية، فهو يقول: متعنا بهذه الأشياء، حتى نعبدك سبحانك فيكون المعنى: أعطني السمع لأسمع أوامرك وأستمع إلى كتابك وأستمع إلى ما تريد مني أن أسمعه، كذلك البصر! فأنظر في كتابك وأنظر في أحوال المسلمين وأنظر فيما ينفعني في ديني ودنياي.
ثم قال: (واجعله الوارث منا)، وكأن هذه الأشياء بمقام الورثة من الإنسان، كأنه يقول: اجعل ما تأخذه منا عند موتنا وتسلبنا هذه الأشياء عند موتنا بمقام الوارث أنها تظل معنا حتى تتوفانا يا ربنا، واجعله الوارث منا.
قوله: (واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا)، لا تجعل الثأر على المظلومين ولا على المطيعين ولكن اجعل الثأر والبأس على الظلمة لنأخذ بحق الدين منهم.
قوله: (وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) كل مصيبة تهون إلا أن تكون في الدين فالمصيبة في الدين فظيعة وعظيمة، والإنسان الذي يبتلى في دينه ويضيع دينه لا يدري لعله يموت على ذلك فيصير إلى النار أبداً والعياذ بالله.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا)، فالله هو الذي يجعل حب الدنيا في القلب، وهو الذي ينزع ذلك من قلبه، فهو يدعو ربه سبحانه ألا يجعل حب الدنيا في قلبه: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولكن أكبر الهم هو هم الدين، فالذي يهمك ويشغلك ويجعلك تفكر ليل نهار في كيفية إقامة هذا الدين، وفي كيفية طاعة الله سبحانه، فحين يكون هذا هو أكبر الهم عندك، فإن الله يهون عليك كل هم سواه.
قوله: (ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)، يوجد أناس علمهم لا يتجاوز الدنيا، يعرف الحساب يعرف العربي يعرف كذا يعرف كذا ولا يتجاوز علمه ذلك، فلا يذكر الموت وليس على باله، وليس على باله الآخرة، وليس على باله الحساب والجزاء والجنة والنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا تجعل الهم الذي نحن فيه هو هم الدنيا: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا)، ولا تكون هذه الدنيا مبلغ علمنا، تجد بعض الناس يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى ولا يفهم ما الذي يعبده، يعبد صنماً! يعبد وثناً! وهو ربما في الدنيا معه شهادة دكتوراه ولكنه لا يفهم شيئاً من أمور دينه! فهذا دكتور سافر ليأخذ الدكتوراه من اليابان، ولما وصل هناك وجد الناس يذهبون إلى المعابد ليتعبدوا، أناس كبار وأساتذة ودكاترة في الجامعة يأخذون معهم أجراساً وهم ذاهبون إلى المعبد، فسأل أحدهم: ماذا تعمل بهذا الجرس؟ فقال: أذهب لأوقض الإله في المعبد! أي إله هذا الذي ستوقظه؟! يعني: الإله نائم لا يدري ماذا تعمل فأنت توقظه في المعبد؟! ومع هذا هو لا يريد أن يفكر في هذا الشيء.
فهو انشغل في أمر الدنيا ووصل إلى مراحل عظيمة جداً في علوم الدنيا كعلوم الطب وعلوم التكنولوجيا والصناعات وغيرها، لذلك فهو لا يفكر في أمر الدين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا)، ولكن يكون هم الإنسان الآخرة، وليس معناه أنه لا يطلب الدنيا، بل الله يقول: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ويقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60]، فالمؤمنون يلزمهم أن يأخذوا بأسباب التقدم والنهضة في الدنيا، وأسباب إقامة هذا الدين العظيم، ولكن لا يغفل العبد عن دين الله سبحانه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)، لا تجعل علينا والياً ممن يعادينا، أو ممن يداهن الأعداء؛ لأنه إذا تسلط على المؤمنين وتولى عليهم من يرحمهم فهذا حسن، أما إذا تولى أمورهم من لا يرحمهم فهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى بما جنت أيدي الناس.
وعلى هذا فيستحب للمؤمن إذا قام من مجلسه أن يقول هذه الأذكار: الذكر الأول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك).
الذكر الثاني: (اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا).(77/10)
أحاديث في التحذير من الغفلة عن ذكر الله في المجالس
كذلك من الأحاديث ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة)، هذا لفظ أبي داود، ولفظ الإمام أحمد (وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة).
والحديث الذي رواه الترمذي ولفظه: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).
والحديث الثالث كذلك بمثل هذا المعنى عند أبي داود وفي مسند الإمام أحمد ذكر فيه: (من قعد مقعداً لم يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة).(77/11)
فضل ذكر الله تعالى
لقد أمرنا الله عز وجل بذكره فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فالمؤمن دائماً يجعل اللذة والمتعة في أنسه بالله سبحانه، وفي طاعته لله وذكره له، ويتذوق حلاوة طعم الذكر فيذكر الله سبحانه عند طعامه وشرابه، وعند خروجه من بيته ودخوله، وعند خروجه من المسجد ودخوله فيه، وعند دخوله الخلاء، وعند نومه وقيامه في الليل ونحو ذلك، فيذكر الله سبحانه تبارك وتعالى ذكراً كثيراً، وقد أمر الله بذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42]، فإذا كان الإنسان ماشياً في طريق ولم يذكر الله سبحانه، وإنما يذكر الدنيا فهو مشغول بأمر الدنيا، والكثير منا للأسف على هذه الحال حتى ولو ذكروا لا يتذكرون.
فالإنسان قد يسمع الأذان فيردد الأذان، ولكن تجد الكثير منا يسمع الأذان ولا يبالي بترديده وراء المؤذن، وقد يكون جائياً إلى بيت الله سبحانه، ولكن أخذه الحديث في الدنيا، وكثير من الإخوة نمشي معهم على هذه الصورة، المؤذن يؤذن وهو يتكلم مشغول بأمر الدنيا! فهنا يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا قمت من المجلس ولم تذكر الله سبحانه، كان عليك حسرة وإذا أخذت مضجعك ولم تذكر الله، كان عليك ترةً يوم القيامة، وترة بمعنى: حسرة يتحسر الإنسان يوم القيامة، فيقول: يا ليتني ذكرت الله، لو كنت ذكرت الله سبحانه تبارك وتعالى لكان رفعني أعلى من الدرجة التي أنا فيها الآن؛ ولذا يوم القيامة يسمى بيوم التغابن، اليوم الذي يرى كل إنسان فيه نفسه مغبوناً منقوصاً من حقه، من الذي نقصه؟ ليس هو الله سبحانه وتعالى، وإنما نفسه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46].
فالإنسان خدع نفسه في الدنيا، يسوف في الطاعة، ويسوف في التوبة، فإذا به يغبن في هذه الدنيا، فيوم القيامة يتذكر ويقول: يا ليتني! عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله تعالى فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة).
ورواه أحمد بلفظ: (وكان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة)، فإذا جاء يوم القيامة تذكر هذا المجلس وكان حسرة عليه، وفي الدنيا يقومون عن مثل جيفة حمار! كأنه وليمة، والوليمة هذه الذي يدعي إليها الناس يكون فيها طعام طيب، فهذه الوليمة التي كان فيها هذا الكلام الخبيث كأنهم جلسوا ليأكلوا حماراً منتناً، فقاموا عن مثل هذا المجلس، كيف يكون عليهم يوم القيامة؟! فيكون عليهم حسرة يوم القيامة.
وفي الحديث الآخر قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم فيه إلا كان عليهم ترة)، فاحرص على أن تذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه، وأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون عليك حسرة يوم القيامة.
ثم قال: (إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) إذا أخذتم المجلس كله في اللهو وفي ذكر الناس بالغيبة والنميمة وأتيتم على ذكر الله فامتنعتم يكون ترة على أصحابه، إن شاء الله غفر لهم، وإن شاء عذبهم بذلك.
الحديث الأخير فيه: (من اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه)، فهنا ذكر الاضطجاع والجلوس، وجاء في مسند الإمام أحمد أيضاً أن من مشى في طريق لم يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى فيه إلا كان عليه ترة.
والمؤمن عندما يتذكر الثواب المترتب على ذكر الله ويقارن عندما نقعد نتكلم في سيرة فلان أوعلان، ونتكلم عن عملنا في هذا اليوم، وماذا سنعمل غداً وكذا أين الثواب الموجود في هذه الأشياء؟ قد يكون كلاماً نحتاج إليه ولكن لو خلط هذا الكلام بذكر الله عز وجل لكان لنا عند الله عز وجل منزلة.
فلو أنك ذكرت الله ولو بقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، اللهم صل على محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتذكر الله سبحانه، وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ كان لك الأجر العظيم عند الله، وكنت يوم القيامة في منازل الصالحين.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(77/12)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في الرؤيا وما يتعلق بها
الرؤيا الصالحة من مبشرات النبوة، يعطيها الله للمؤمن تثبيتاً له وتبشيراً له بالخير، ومن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقاً فسيراه حقيقة يوم القيامة، فالشيطان لا يتمثل به، وليس شرطاً أن كل مؤمن يرى رؤيا صالحة، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقص الرؤيا الصالحة على من نحب، وإن كانت رؤيا تكرهها فلا تقصها على أحد، بل انفث ثلاثاً عن يسارك واستعذ بالله من شرها.(78/1)
الرؤيا الصالحة من المبشرات وهي جزء من أجزاء النبوة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الرؤيا وما يتعلق بها.
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم:23].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري.
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه.
وفي رواية: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً).
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة -أو كأنما رآني في اليقظة- لا يتمثل الشيطان بي) متفق عليه.
هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله في باب الرؤيا وما يتعلق بها، والرؤيا: ما يراه الإنسان في منامه فإما أن يرى الإنسان في منامه خيراً، أو يرى شراً، فالذي يريده يجده وهو في منامه، أو أنه يرى شيئاً من تفكير ويحدث نفسه بها، أو تكون هذه الرؤيا من الله سبحانه وتعالى نوعاً من البشارة لهذا المؤمن، ولذلك في الحديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) فذكر أن المبشرات هي الرؤيا الصالحة.(78/2)
النوم من آيات الله
يقول الله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [الروم:23].
ويقوله سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} [الروم:22].
فالعالم يرى هذه الآيات العظيمة العجيبة من آيات الله سبحانه، فمن الآيات اختلاف ألسنتكم وألوانكم، هذا أبيض، هذا أحمر، هذا أسود، هذا كذا، تختلف الألوان والخالق واحد سبحانه وتعالى، واختلاف ألسنتكم، هذا يتكلم بالعربية، وهذا الإنجليزية، وهذا فرنسية، هذا لسان عربي مبين، وهذا أعجم، والذي خلقهم هو الله الواحد الذي يسمع جميع الكلمات بجميع اللغات، ويستجيب لجميع الدعوات سبحانه وتعالى، فهذه آية من آياته سبحانه.
ومن آياته المنام بالليل والنهار، والكل ينام ولا يوجد أحد لا ينام، إلا أن يكتب الله عز وجل عليه الأرق والمرض ليريكم آية من آياته سبحانه وتعالى، وأنكم محتاجون إلى هذا النوم، ولو مرت عليه أيام وليالٍ لا ينام يحدث فيه شيء فيجن في النهاية، ومنهم من يتعب ويموت إذا حرم من هذا النوم الذي يحتاجه، وهذا ينام بطريقة معينة، وهذا نومه بطريقة معينة، وهذا يرى رؤيا، وهذا لا يرى، والذي يجعل هذا كله هو الله سبحانه وتعالى، فهو يدبر كونه سبحانه ويريكم اختلاف الأشياء، فهو الله الواحد سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق هذا كله، فآية من آيات الله سبحانه، هذا ينام ويرى رؤيا، وهذا ينام ويرى حلماً من أحلام الشيطان، وهذا ينام ويرى كذا، وهذا ينام ولا يرى شيئاً، والكل يجمعهم النوم، وهذا يقوم مفزوعاً من النوم، وهذا يقوم مسروراً من النوم، وهذا يقوم وكأنه لم ينم، وهكذا.
فالله عز وجل يريكم آيات من آياته سبحانه وتعالى، والإنسان يحتاج إلى هذا النوم، فإذا استيقظت من نومك حمدت الله سبحانه على أن جعلك تنام وتستريح، ثم أحياك بعدما أماتك وإليه المصير سبحانه، وإليه النشور سبحانه وتعالى، فمن آياته منامكم بالليل والنهار، وتحتاجون إلى هذا النوم، وتعرفون قدرة الله وقوته وغناه سبحانه وتعالى، وهو سبحانه لا يحتاج إلى شيء، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
وهو سبحانه لا يحتاج إلى النوم وفي الحديث: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) سبحانه وتعالى، ويذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن النوم أخو الموت، ولذلك أهل الجنة لا ينامون، ولا يحتاجون إلى النوم؛ لأنه لا تعب في الجنة ولا مشقة، فلا ينام أهل الجنة، بل يستمتعون في كل الأحيان وفي كل الأوقات، وبكل شيء يستمتعون، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته.
يقول لنا ربنا سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255].
السِنَة: الخفيف من النعاس، والنوم: الثقيل من النعاس، فلا تأخذ الله سبحانه وتعالى سنة ولا نوم، ولا يعتريه ذلك سبحانه وتعالى، فالله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، بيده القسط والميزان يخفض ويرفع سبحانه وتعالى.(78/3)
شرح حديث: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات)
يقول أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لم يبق من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) هذا الحديث جاء في رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر (لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: ما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له) إذاً: ترى أنت في منامك رؤيا صالحة، أو إنسان من المؤمنين يرى لك رؤيا طيبة صالحة، فتفرح أنت وتسر بهذا الشيء.
وفي الحديث الآخر: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) متفق عليه، يعني: اقتربت مدة انتهاء هذه الدنيا، وهذا من رحمة الله عز وجل بعباده، فكلما يقترب زمان الآخرة يبتعد الناس عن زمان النبوة، ويكثر الكفر ويكثر الفسوق، ويكثر التكذيب بآيات الله سبحانه، وبأحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فيجد المؤمن نفسه غريباً في الدنيا فيحتاج إلى ما يثبته، فالله عز وجل يجعل هذه الرؤيا بشارة له، وتثبيتاً له فيطمئنه بذلك، ويثبت قلبه بهذه الرؤيا الصالحة الصادقة التي يراها، وكلما كان الإنسان صادقاً كانت رؤياه صادقة حقيقية، وكلما كثر كذبه كان بعيداً عن الرؤيا الصالحة الصادقة.
يقول في الحديث: (إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب) أي: لم يكد يرى الرؤيا إلا وتتحقق كما رأى، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، أو جزءاً من ستين جزءاً منه، أو من سبعين أو من تسعين جزءاً أو من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة، والمعنى: أن النبوة أجزاء، والرؤيا من صفات النبوة، يكون فيهم كذا ويكون فيهم كذا، فمن ضمن صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الرؤيا الصادقة الصحيحة، لا يعتريهم الوساوس؛ لأنهم معصومون قد عصمهم الله، فالمؤمن كلما ازداد صدقاً اقترب من هذه الصفة، وليس معناه: أنه يصير نبياً، وليس كل من يرى الرؤيا الصادقة يصير إنساناً مؤمناً، ليس شرطاً هذا الشيء، ولكن الغالب ذلك، وقد يرى الكافر رؤيا صادقة صحيحة، ولكن المقصد هنا: أن الله يطمئن المؤمنين بمثل ذلك، ويكثر فيهم ذلك كلما اقترب الزمان؛ تثبيتاً من الله عز وجل لهم، وتبشيراً لهم، فيرى المؤمن رؤيا صالحة ويسر بها في هذا الزمن الذي يرى الإنسان نفسه أنه يعيش وحيداً، وأنه يعيش غريباً في وسط الناس، فالله سبحانه وتعالى يؤنسه بهذه الرؤيا، فقال: (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) أي: جزء من أجزاء النبوة أو صفة من الصفات التي فيها الرؤيا الصالحة، فهذا الإنسان كلما ازداد صلاحه اقترب من هذه الصفة التي عند الأنبياء, وهي صفة الصدق في الرؤيا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً) الإنسان الذي يريد أن يرى رؤيا صادقة، لا بد أن يصدق في الحديث، فقد يكون صادقاً في كلامه، فالله عز وجل يمن عليه بذلك، والإنسان الكذاب نادراً ما يرى الرؤيا الصحيحة، وليس معناه: يستحيل أن يرى، بل الكافر يرى الرؤيا الصادقة أحياناً فكيف بالإنسان المسلم؟! ولكن المعنى في الحديث: أن الإنسان الصادق كثيراً ما يرى الرؤيا الصادقة من الله سبحانه وتعالى ويحدث فيها ما رآه، أو تكون فيها بشارة لهذا المؤمن على ما رآه.(78/4)
رؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام
من أعظم الرؤى التي يراها المؤمن أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ففي حديث لـ أبي هريرة متفق عليه: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو كأنما رآني في اليقظة) من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فهذا دليل على الإيمان في قلبه، فالإنسان المؤمن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بصفاته صلوات الله وسلامه عليه التي كان عليها في الدنيا، سواءً رآه صغيراً في السن أو كبيراً في السن، شاباً أو شيخاً، فهي مراحل مر بها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولها تأويلات عند علماء الرؤى.
فالغرض: أن الذي يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، يبشره النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيراه يوم القيامة، يعني: لن يكون بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل يكون قريباً منه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
والأمر الثاني: أنها رؤيا حق، رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدقاً في هذا المنام، قال: (فسيراني في اليقظة)، وليس معناه: في الدنيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي، وانتهى أمر الدنيا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الآن في البرزخ في حياة برزخية، ليست لها صلة بالدنيا في شيء، لكن الذي رآه في المنام فسيراه، يعني: يوم القيامة يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون إمامه النبي صلوات الله وسلامه عليه، (من رآني في المنام كأنما رآني في اليقظة، لا يتمثل الشيطان بي) فجعل الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم خصيصة ومزية من المزايا أن الشيطان لا يتمثل به، فالشيطان لا يتشكل بشكل النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الشيطان يقدر على التشكل بصور بني آدم، يتشكل في صورة امرأة، ويتشكل في صورة رجل، ويتشكل في صورة فلان أو فلان، ويتشكل في صورة ثعبان، فالشيطان أعطاه الله عز وجل القدرة على ذلك ليفتن العباد، وخاصة في المنام يفعل ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يتشكل في هيئة النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يقول للإنسان في منامه: أنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فعلى ذلك الذي يرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رأى الحق، وأنه سيرى النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يوم القيامة.(78/5)
شرح حديث: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله تعالى، فليحمد الله عليها، وليحدث بها، وفي رواية: فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها، ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره) في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن إذا رأى الرؤيا الطيبة التي يفرح بها، فهي من الله سبحانه وتعالى، فليحمد الله سبحانه وتعالى عليها، وليحدث بها، ولكن يحدث من يحب، فالناس إما محب لك الخير، وإما مبغض لك يكره لك الخير، ويحسدك على ما أنت فيه من نعمة، فهذا لا تقص عليه مثل ذلك، إذا قصصت عليه ذلك ازداد حسداً وازدادت غيرته، فلعله يؤولها بشر ويكون ما يؤوله لك حقيقة، فلذلك لا تقص الرؤيا إلا على إنسان يحبك، والذي يحبك إذا عرف بهذه الرؤيا شيئاً من الشر قال: خيراً، خيراً لنا وشراً لعدونا، وإذا وجد فيها خيراً بشرك بهذا الخير الذي فيها، هذا إذا كان يفهم تأويل الرؤيا، وإذا كان لا يفهم تأويلها سيقول: خيراً من الله سبحانه، ويقول: من ورائها الخير، فيخبرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تقص الرؤيا على الإنسان الذي يحبك، وليس على الإنسان الذي لا يحبك، هذا في الرؤيا الصالحة الطيبة.
لكن الرؤيا السيئة التي تسوء المؤمن وهي الحُلْم فلا يحدث بها؛ لأنه إذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره، وأحياناً يرى الإنسان كابوساً وهو نائم، فيقوم من النوم مفزوعاً، فيرى أشياء قد يكون من ورائها شر لهذا الإنسان، والرؤيا التي يراها في المنام غيب، ونحن لا نفهم في أمر الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يدلنا على أشياء فلنتمسك بما قال، فأخبر صلوات الله وسلامه عليه أننا لن نطلع على الغيب، ولا نعرف ما الذي يكون في الغد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حذرك من شيء فلتحذر ولتلتزم الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإن الخير من ورائه.
وجاء في الحديث: (الرؤيا على رجل طائر، فإذا عبرت وقعت) وليس هناك شيءٌ يستقر على قدم الطائر، فالطير إذا كان واقفاً على الأرض وجعلت فوق رجله شيئاً، فإذا طار الطائر سقط هذا الشيء، فكأن الرؤيا معلقة في مكانها تنتظر من يؤولها، فإذا قصصتها على إنسان يحبك حدثك بخير فكان خيراً من ورائها إذا شاء الله سبحانه، ولعلك تقصها على جاهل لا يفهم، أو إنسان يبغضك فيؤولها على شر ما يراه، فيقلب لك الشيء، وقد يكون هذا الذي قاله، فقد تعلَّق حوادثُ على كلمة يتلفظ بها إنسان، والله يفعل ويقضي في ملكه ما يشاء سبحانه وتعالى، لذلك يعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا رأيت الرؤيا الصالحة أن تقصها على من تحب ومن يحبك، وإذا رأيت غير ذلك فلا تكلم بها أحداً، فإنها لا تضرك، وكان من الصحابة من يرى الحُلمُ في منامه فيرى الكوابيس التي تفزعه، فلا يستطيع أن ينام أياماً وليالي ويحزن ويبقى متشائماً من هذا الذي يراه، حتى حدث النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه من تهاويل الشيطان ومن أضغاث الأحلام، ولا يلتفت إليها، وعلمهم ما يقولون إذا استيقظ أحدهم من منامه، فذهب عن الرجل ما كان يجده من جراء هذه الكوابيس.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا أنه إذا رأيت الرؤيا الصالحة فلتقصها على من تحب أو يحبك، وإذا رأيت غير ذلك فلا تحدث بها أحداً لا الذي يحبك ولا الذي يكرهك، ولعلها تكون من تلاعب الشيطان بك.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقص عليه رؤيا في زعمه، وظن أنها رؤيا يراها فقال: رأيت رأسي تجري أمامي وأنا أجري وألحق بها! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به؟) وهل هناك أحد يحكي مثل هذا الشيء؟ فلا يتحدث أحدكم بتلاعب الشيطان به، فلا تجعل نفسك سخرية أمام الناس، بأن تحكي شيئاً من التهاويل والأضغاث، فلا تقصها على أحد، ولكن تقص الرؤيا الصالحة، وليس معنى هذا: أنك كلما ترى رؤيا تصبح الصبح فتبحث عن أناس لتخبرهم بها، مثل كثير من إخواننا كل يوم يخبروننا برؤى! نحن نشرح أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أنت رأيت رؤيا صالحة، فقصها على من تحب ممن يفهم تأويل الرؤى، فلا داعي أن نجد في الصباح الكثير من الإخوة يقص علينا الرؤى!(78/6)
شرح حديث: (الرؤيا الصالحة من الله)
عن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرؤيا الصالحة -أو الرؤيا الحسنة- من الله) إذاً: الله سبحانه وتعالى يجعل ملكاً من الملائكة يلقيها عليك وأنت في منامك فترى شيئاً منه سبحانه وتعالى.
قال: (والحلم من الشيطان) وفرق بين الحُلُم والحِلم، الحِلم بمعنى: الصبر، وهي صفة من صفات الصبر في الإنسان، لكن هنا قال: (والحُلُم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره) فالإنسان الذي يرى حُلُماً من الأحلام إذا استيقظ من منامه يتفل عن يساره ثلاث مرات، وينفث يعني: يتفل من دون ريق، أو بِرِيق خفيف جداً عن يساره ثلاثاً كما ذكر هنا، وليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها لا تضرك، وصدق النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلتفعل ما قاله صلى الله عليه وسلم إذا رأيت ما يضايقك في المنام.
وفي حديث لـ جابر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً) يعني: يتفل بريق خفيف، وليستعذ بالله من الشيطان، وزاد شيئاً قال: (وليتحول عن جنبه الذي كان عليه)، فإن كنت نائماً على الجنب اليمين فلتتحول عنه إلى الجنب اليسار، وإن كنت نائماً على الجنب اليسار فلتتحول عنه إلى الجنب اليمين وهكذا؛ لأن الشيطان يقعد لك فيه، فحين تغير مكانك يذهب عنك الشيطان.(78/7)
شرح حديث: (إن من أعظم الفرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه)
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (إن من أعظم الفِرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه) أن يدعي أو يدعى فيقبل بهذا الشيء (أو يُرَيَ عينه ما لم ترَ)، والفرية: أشد أنواع الكذب، إنسان يفتري أي: يختلق كذباً وزوراً، فمن أعظم الفرى ومن أعظم الكذبات العظيمة الشنيعة أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، يعني: يقول الإنسان: أنا فلان بن فلان، ويتسمى باسم رجل غير أبيه، مثل كثير من الممثلين وغيرهم، تجد أحدهم له اسمان: اسم في البطاقة، واسم أمام الناس! فمن أعظم الكذب أن الإنسان يتسمى لغير أبيه، قال صلى الله عليه وسلم: (أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يري عينه ما لم ترَ) هذا من أعظم الكذب.
وجاء في حديث آخر أن هذا الإنسان يعذب في النار، الذي يكذب فيؤلف أنه رآى بالبارحة وهو لم يرَ شيئاً يكلف أن يعقد بين شعيرتين في النار من أجل أن يخرج منها، والمعنى: أنه لن يخرج من النار والعياذ بالله؛ لأنه يكذب على الله سبحانه.
والرؤيا وحي من الله، والذي يختلق شيئاً في منامه فإنه يكذب على مقام النبوة، وعلى مقام الوحي من الله سبحانه وتعالى، فلذلك أخبر أنه من أرى عينيه ما لم ترياه يكلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وما هو بعاقد، يعني: يقال له: أنت داخل النار، وإذا أردت أن تخرج منها فاربط بين شعيرتين، ومن يربط شعيرة في شعيره أخرى؟! يستحيل هذا الشيء، إذاً: يعذب دائماً والعياذ بالله بسبب كذبه، فاحذر أن تكذب في الرؤيا، أو أن ابنك يكذب عليك ويقول: أنا رأيت في البارحة كذا وكذا، فعليك أن تحذره من أن يكذب في المنام.
فالمنام من الله سبحانه وتعالى، له ملك مخصوص يجعل هذا الإنسان يرى أشياء، والنوم هو الموتة الصغرى، والموت هو روح الإنسان تتجول في أنحاء الكون بحسب ما يشاء الله سبحانه وتعالى في وقت نوم الإنسان.
لذلك من يحدث فيكذب فيها فإنه يستحق العذاب يوم القيامة على كذبه، وحتى تكون الرؤيا رؤيا صالحة وصادقة وبشارة للإنسان المؤمن فإن شرطه أن يكون صادقاً، أتريد أن تكون لك رؤيا صالحة تراها ومبشرات؟ كن صادقاً في حديثك ولا تكذب على أحدٍ من الناس، فإذا كنت كذلك أراك الله سبحانه وتعالى الرؤيا الصالحة، ومن أعظم ما ترى أن ترى النبي صلوات الله وسلامه عليه في المنام.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه أول ما بدأ به الرؤيا الصادقة، وكان ذلك قبل أن تنزل عليه الرسالة، كان يرى الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وكان الكفار يلقبونه الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام، فكان يرى هذه الرؤى الصالحة فإذا أصبح تحقق الذي رآه، ففي الحديث المتفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي من السماء).(78/8)
أنواع الرؤيا
عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وما كان من النبوة فإنه لا يكذب) يعني: الشيء الذي هو من خصال ومن صفات الأنبياء لا يكون فيه شيء من الكذب.
يقول ابن سيرين: وكان يقال: الرؤيا ثلاث، يعني: السابقون قبلنا من الصحابة كانوا يقولون ذلك، الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله.
فالنوع الأول حديث نفس، كأن يكون الإنسان مهموماً بشيء يفكر فيه فنام في الليل فرأى ذلك الشيء الذي كان يفكر فيه في النهار، وهذه ليست رؤيا، ولكن حديث نفسي كان مشغولاً به، أو عادة من العوائد يراها الإنسان في النهار فتتحقق في الليل.
والنوع الثاني: أن تكون تخويفاً من الشيطان وتهويلاً منه، وهي أضغاث أحلام تحدث لإنسان نائم والشيطان يبدأ يريه أشياء ويخوفه من أشياء، فيفزع الإنسان خائفاً من النوم والشيطان يفرح بهذا الشيء، لكن هذا من تهويل ومن كذب الشيطان.
والنوع الثالث: بشرى من الله، أي: رؤيا تكون بشارة من الله، فإن رأى شيئاً يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل، وهذه زيادة كانوا يفعلونها، نقلها ابن سيرين عن الذين قبله، وهو تابعي رضي الله عنه، كأنه يذكر أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك، إذا رأى أحدهم الرؤيا التي يكرهها يقوم ويصلي لله سبحانه وتعالى، حتى يذهب الله سبحانه وتعالى ذلك.(78/9)
علم تأويل الرؤى
قال ابن سيرين: كانوا يكرهون الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، هذا في تأويل الرؤى، وتأويل الرؤى علم من العلوم، وليس كل واحد يؤول الرؤى، وليس كل إنسان عنده كتاب تفسير الأحلام للنابلسي أو لـ ابن سيرين معناه أنه قد فهم تعبير الرؤى ويعبر الرؤى، ويجلس حوله الناس فيحكون له وهو يفسر لهم! هذه موهبة من الله سبحانه وتعالى، وهي علم من العلوم يجعله الله في قلب الإنسان، وهي فطنة وذكاء معين يتعلق بذلك، فإذا به يقارن الأشباه بأشباهها، وينزل الأشياء على مواضعها فيفهم الشيء، وكثير ممن يفسر الرؤى اليوم لا يفهم الفرق بين إنسان رأى القيد، وإنسان رأى الغل! يقال: القيد: ما يربط في قدم الإنسان، يقال: فلان مقيد، وقيدت الدابة، إذا ربطت رجلها بسلسلة في عمود في الأرض، قيدتها لأمنعها من الحركة، والغل يُفْعل بالأسير، بحيث تجمع يداه إلى عنقه وتربط في رقبته بسلسلة، هذا هو الغل، فكانوا يحبون القيد؛ فيؤول القيد على أنه ثبات في الدين، وكانوا يكرهون الغل؛ لأن فيه الذل وفيه الصغار للإنسان، وفيه أنه شكل أهل النار يوم القيامة والعياذ بالله، فعلى ذلك يقول لنا ابن سيرين: كانوا يكرهون الغل في النوم، وكان يعجبهم القيد، ويقال: القيد ثبات في الدين.
وأحياناً بعض الرؤى يمكن للإنسان أن يراها على شيء معين ويكون لها تفسير معين، ويرى آخر نفس الذي رآه الأول، ويكون لها تفسير آخر! فليس شرطاً أن آتي بكتاب تفسير الأحلام وأرى فيه وأطبقه على شيء؛ وأقول: أنا أفهم في هذا العلم، العلم هذا له أهله، فالذي يعرف فيه هذا الذي يجوز له أنه يفسر، فالبقرة إذا رآها الإنسان في المنام يمكن أن يقول: بقرة فيها لبن وفيها خير، وفيها كذا، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم البقرة في يوم أحد، ولم يعجبه أنه رأى هذه البقرة في المنام، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (بقر في أصحابي) يعني: تبقر بطونهم، وبقرت بطن حمزة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم ولم تعجبه أنه يرى في المنام ذلك.
فقد يرى الإنسان شيئاً ولكنه لا يعرف المعنى الذي فيها، وإنسان آخر يؤولها له على خلاف الواقع، والذي يعبِّر الأحلام ينظر إلى الإنسان الذي يحدثه، فيأتي إنسان لـ ابن سيرين ويقول له: أنا رأيت رؤيا معينة فيها كذا وكذا، فنظر ابن سيرين وقال له: كذبت، أنت لم تر هذه الرؤيا، وهي ليست لك، يقول: صدقت حدثني بها فلان، فلان هذا من أولاد الأمراء، والرؤيا تعبيرها أنه سيكون أميراً، والذي يحكي لـ ابن سيرين هو شيخ ليس من أهل الإمارة، ولا يصلح أن يكون أميراً، فالذي يعبر الرؤى لديه فطنة.
وهذا إنسان يأتي لـ ابن سيرين ويقول له: أنا رأيت شيئاً سيئاً في المنام، رأى هذا الإنسان أنه يطأ بقدمه على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فالرجل فزع، ومعروف عنه أنه من المؤمنين الصالحين، فـ ابن سيرين نظر إليه وعرف أنه من أهل الصلاح فقال: نمت في خفك؟ قال: نعم قال: اخلعه، فخلع الحذاء ووجد فيه ورقة مكتوباً فيها اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لصقت في رجله، وكان ما قاله ابن سيرين حقيقة! فلو أن إنساناً يجهل تفسير الأحلام وتعبير الرؤى لقال له: أنت ستموت كافراً، لذلك لا تحكي الرؤيا لإنسان جاهل لا يفهم في تعبيرها، لا تقص رؤياك على أي إنسان، ولكن إذا كانت رؤيا صالحة فقص على من تحب، أو من يفهم في ذلك، وإذا كانت رؤيا تكرهها فلا تقصها على أحد.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(78/10)
شرح رياض الصالحين - فضل السلام والأمر بإفشائه وكيفيته
من خصال الإسلام التي حث عليها الشارع الحكيم: إفشاء السلام بين المسلمين، وذلك لما له من أثر عظيم على تماسك هذه الأمة المجيدة، فهو سبيل إلى تقوية أواصر المحبة والألفة والأخوة بين المسلمين، وللسلام آثار نفسية وإيجابية عظيمة، فهو يبعث الأمان في نفس المسلم عليه، وينشر المحبة والمودة بين الناس، ويعمق الروابط الاجتماعية بين الفرد وأخيه بصورة خاصة، وبين المجتمع بصورة عامة.(79/1)
فضل السلام والأمر بإفشائه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب السلام: باب فضل السلام والأمر بإفشائه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، وقال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، وقال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) متفق عليه].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم: (رياض الصالحين) كتاباً عن السلام، ذكر فيه باباً في فضل السلام والأمر بإفشائه، وذكر ما يتعلق بذلك من آيات من كتاب الله عز وجل وأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم.(79/2)
من معاني السلام وآدابه
السلام مما ميزت به هذه الأمة، فقد أمروا بأن يسلم بعضهم على بعض، وأمروا بإفشاء السلام بينهم حتى تكثر المحبة بين المؤمنين بسبب هذا السلام العظيم.
وقد علم الله سبحانه السلام آدم وهو في الجنة، فتعلمه من الملائكة وتعلم رده، وأخبره أن هذا السلام هو تحيتك وتحية أمتك من بعدك عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والسلام: من أسماء الله الحسنى سبحانه وتعالى، فالله هو السلام سبحانه وتعالى.
وللسلام معان كثيرة منها: أولاً: السلامة من العيوب.
ثانياً: ما جاء فيه من الطمأنينة والأمن والسلامة والخير من وراء ذلك.
ثالثاً: أنه اسم من أسماء الله الحسنى، فالله هو السلام ومنه السلام، فهو يحيي أهل الجنة بالسلام، وتحييهم الملائكة بالسلام، بل وسمى الجنة دار السلام فقال: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:23].
وقد حسدت اليهود المؤمنين على هذا السلام، وأنهم يحيون بعضهم بعضاً بالسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين)، والتأمين: أن تقول: آمين، وذلك عندما يدعو أحدكم ويؤمن الآخرون، أو عندما يقرأ الفاتحة فتقول: آمين، ويقول الإمام: آمين، ويوافق تأمينكم وتأمين الإمام تأمين الملائكة فيغفر الله عز وجل لكم ما تقدم من ذنوبكم.
قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، فقوله: (حتى تستأنسوا) من الأنس: ضد الوحشة، فإذا أردت أن تدخل بيتاً غير بيتك فعليك أن تستأنسه؛ لكي يستشعر أهل البيت منك الطمأنينة والأمان فيأنسون بك، هذا قبل الدخول، فلا تهجم على باب البيت لتفتحه وتدخل حتى وإن قلت السلام عليكم قبل ذلك، قال تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور:27]، أي: يستأنس بك أهل البيت، وتستأنس أنت من هؤلاء.
ولذلك جاءت عن المفسرين بذلك أقاويل مضمونها: أن تطمئن أهل البيت بنحنحة عند الدخول، أو بذكر الله عز وجل بصوت مرتفع، حتى يستشعر من بالداخل أن هناك إنساناً بالخارج يريد أن يستأذن ويدخل، ثم تقول: السلام عليكم أأدخل؟ فتطمئن أهل البيت أنك ما جئت إلا لخير بهذا الإيناس، ثم تطمئن أهل البيت ثانية بأن تقول: السلام عليكم، فتستأنس وتسلم على أهل البيت.
وقد كان العرب في الجاهلية يتركون التحية إذا قويت العلاقات فيما بينهم، فلعل الرجل يأتي إلى أقربائه فيفتح الباب ويدخل ويجلس، ثم بعد ذلك يقول: قد دخلت! وقد أرادوا أن يفعلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الرجل أن يخرج وأن يسلم ويستأذن من عند الباب ثم قال لمن معه: (هلا علمتم هذا السلام؟ فخرج الرجل وسلم على النبي صلى الله عليه وسلم واستأذن قبل أن يدخل).
إذاً: لا يوجد شيء اسمه: أنا متعود عليك وأنت متعود، بل لا بد من الاستئذان مهما كانت العلاقة بيني وبينك، يقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب:6]، ومع هذه العلاقة القوية أمروا أن يستأذنوا قبل دخولهم على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو أيضًا صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كان إذا ذهب إلى بيت سعد بن عبادة وقف خارج البيت وقال: (السلام عليكم أأدخل؟) فيرد أهل البيت على النبي صلى الله عليه وسلم سراً؛ لأنهم يريدون أن يستكثروا من سلامه ودعائه وتحيته صلوات الله وسلامه عليه، فيسلم المرة الثانية وهم يردون عليه في سرهم، ثم سلم عليهم المرة الثالثة صلى الله عليه وسلم ولم يدخل البيت، فخرج أهل البيت ونادوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنما أردنا الاستكثار من سلامك والبركة من وراء ذلك، فأخبرهم بأن الاستئذان ثلاث مرات فقط، وأن الإنسان ينصرف بعد ذلك.
وهنا يقول الله تعالى عن التسليم: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وليس التسليم راجعاً لهوانا، أو أن كل واحد منا يختار السلام الذي يعجبه، وإنما علم آدم هذا التسليم وجعله تحيته وتحية ذريته من بعده، قال الله عز وجل {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} [النور:61]، وبيوتاً هنا: نكرة، فإذا دخلتم بيوتاً فليسلم بعضكم على بعض، وهذا معنى قوله سبحانه: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النور:61]، إذاً: فالسلام ليس تحية من عندك أنت، بل الله علم آدم وعلم بني آدم هذه التحية، تحية من عند الله من ورائها البركة والشيء الطيب العظيم، قال: {مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور:61]، فالسلام دعاء بالحياة الطيبة والحياة المباركة.
وقال سبحانه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فالله يعلمك أنه إذا حياك إنسان بتحية أن تحييه بأحسن منها أو أن ترد هذه التحية، فإذا قال: السلام عليكم، فرد عليه بأفضل منها: وعليك السلام ورحمة الله، أو مثلها: وعليك السلام، فإما أن تزيد وإما أن تردها كما هي بلا زيادة.
والسلام على المؤمن سنة، وهو شيء مستحب عظيم، أما رد السلام ففرض عليك طالما لا يوجد غيرك يرد السلام، فإذا كنتم مجموعة وحياكم شخص معين فإن رد السلام حينئذ يكون فرضاً كفائياً، أي: أنه إذا رد البعض سقط الإثم عن الجميع، ويؤجر هذا الذي رد، وإذا رد الجميع كلهم أخذوا الأجر على ردهم.(79/3)
خصال موصلة إلى الجنة
قوله سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24]، فقد وصف الله أضياف إبراهيم بأنهم مكرمون كرمهم الله، وكانوا ثلاثة من الملائكة، قال: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا} [الذاريات:25]، فسلموا على إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، {قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فكأنه رد عليهم السلام ثم قال في نفسه: هؤلاء قوم منكرون، فأول مرة أرى مثل هؤلاء الشبان، وكانوا حسان الوجوه، فعجب من أمرهم وأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة، فقال في نفسه ذلك، قال سبحانه: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:24 - 25].
ثم قال المؤلف رحمه الله: [ومن الأحاديث: ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الإسلام خير؟) - يعني: أي خصال الإسلام خير؟ وكأنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: خصال الإسلام كثيرة وأنا أحاول أن أعمل بها، فما هي الخصال التي أتمسك بها؟ وما هي أفضل هذه الخصال؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تطعم الطعام)، ففيه دلالة على الكرم، وكأنه يقول: كن كريماً، لكن كل إنسان يرى الكرم من منظوره الخاص فيقول: أكون كريماً بأن أعامل الناس معاملة حسنة، أكون كريماً بأن أفعل كذا وكذا، فهو يقول هنا: (تطعم الطعام)، فإذا كان الإنسان يبذل ماله وطعامه فمن باب أولى أن يبذل الندى للناس وحسن الخلق.
قال صلى الله عليه وسلم: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وهذه من الخصال العظيمة المفقودة في كثير من المسلمين، وهي: أن تقرأ السلام بمعنى: أن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف، فقد صار الحال الآن أن الإنسان يسلم على من يعرفه فقط، أما الذي لا يعرفه فإنه لا يقول له أي شيء! مع أنه قد يكون صلى معه في المسجد، ولكن الحديث يعلمنا أن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف من المسلمين راجياًً الأجر من الله عز وجل، وليس شرطاً أنك إذا سلمت عليه فسيكون صاحبك أو سينتفع بك وتنتفع به، لكنك تبتغي الأجر من الله سبحانه، فكل كلمة في السلام فيها عشر حسنات، بل إن خيرهم الذي يبدأ بالسلام.(79/4)
بدء السلام
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله تعالى آدم - صلى الله عليه وعلى نبينا - قال: اذهب فسلم على أولئك - نفر من الملائكة جلوس -)، فالله عز وجل يعلم آدم كيف يسلم وكيف يرد السلام، فقال: اذهب إلى هؤلاء الملائكة فسلم عليهم وانظر بماذا يردون عليك، قال: (فاستمع ما يحيونك فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فقال: السلام عليكم، فقالوا: السلام عليك ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله)، فتعلمنا من الملائكة الزيادة في سلامنا.(79/5)
حق المسلم على المسلم
عن البراء بن عازب رضي الله عنه -وهو حديث متفق عليه- قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ونصر الضعيف، وعون المظلوم، وإفشاء السلام، وإبرار المقسم) هذا لفظ إحدى روايات الإمام البخاري.
في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة بسبع خصال من خصال هذا الدين العظيم، فقد أمر صلى الله عليه وسلم: (بعيادة المريض)، ولعيادة المريض آداب كما قدمنا قبل ذلك.
قال: (واتباع الجنائز)، لكي تؤجر على اتباعك الجنائز بقيراطين من الأجر كل قيراط مثل جبل أحد، فإذا اتبعت الجنازة حتى تصلي عليها كان لك قيراط من الأجر، فإذا اتبعتها حتى تدفن الجنازة ويوارى صاحبها في التراب كان لك قيراط آخر، فيصير لك قيراطان من الأجر والثواب، كل قيراط مثل جبل أحد.
قال: (وتشميت العاطس) يعني: إذا عطس المؤمن فحمد الله فقل له: يرحمك الله.
قال: (ونصر الضعيف)، فمن خصال الإسلام: أن تكون مع الضعيف على من استقوى عليه كمن ظلم وأخذ منه حقه ولم يعطه حقه.
قال: (وإفشاء السلام) هذا هو الشاهد من الحديث، فإنه لا يكفي أن تلقي السلام فحسب، بل لا بد أن تفشيه، والإفشاء أكثر وأبلغ من إلقاء السلام فقط، فالإلقاء قد يكون مرة أو مرتين ثم تتركه، لكن إفشاء السلام يدل على الكثرة حتى يصير سمة من سمات المسلمين، ويكون علامة على أن هذا المجتمع مجتمع إسلامي، وليحصل الأجر الكثير بذلك، ثم تكون من وراء ذلك البركة العظيمة من الله عز وجل، تدخل على إنسان فتقول: السلام عليكم، فيحصل الثواب بهذه الكلمة، ثم إذا سلمت على إنسان بيدك تساقطت الخطايا من بين يدك ويده, وتحصل البركة بعد ذلك في الشيء الذي تريده منه، ويأمنك بتسليمك عليه، لكن لو جئت إلى إنسان فبدأت حديثك معه دون سلام لما حصلت البركة، بل ربما لا يرد عليك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين الأدب فقبل أن تبدأ وتطلب من إنسان شيئاً عليك أن تسلم عليه، وأن تدعو له وتحييه بهذه التحية المباركة الطيبة، لتحصل من وراء ذلك على البركة في كلامك وكلامه، ومعاملتك له ومعاملته لك.
قال: (وإفشاء السلام، وإبرار المقسم) فإذا أقسم عليك أي مؤمن بشيء فبر قسمه، طالما أنك تستطيع أن تفعل ما أقسم به عليك.(79/6)
أفشوا السلام بينكم
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم)، فهذا الحديث العظيم يدل على أنك لن تدخل الجنة إلا وأنت تحب إخوانك المؤمنين، والحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، والعروة: المكان الذي تربط فيه الزرار، أو: المكان الذي ستربط فيه الحبل من أجل أن تشده، كالشيء الذي ستدقه في الأرض لتربط فيه الخيط أو الحبال التي ستقيد بها الجمل، فأوثق هذه العرى الحب في الله والبغض في الله، فتحب المرء لا تحبه إلا لله، ليس لعرض بسيط من هذه الدنيا، وتبغض المرء كذلك في الله؛ لأنه يعصي الله؛ ولأنه يكفر بالله سبحانه.
قال: (ولا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا)، فلن تدخل الجنة حتى يدخل الإيمان في قلبك.
(ولا تؤمنوا حتى تحابوا) يعني: لن يكتمل هذا الإيمان في قلبك حتى تحب المؤمنين جميعهم لإيمانهم وإسلامهم.
قال: (ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم يدل المؤمنين على العلاج الناجح والدواء الناجع الذي إذا فعله المؤمنون واستخدموه تحابوا.
قال: (أفشوا السلام بينكم)، فليكن السلام والتحية الإسلامية بينكم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هي السمة الغالبة على المجتمع، فيسلم المؤمن على أخيه ويسلم أخوه عليه.
ثم إن كثرة هذا السلام تزيد المحبة بين المؤمنين، وترفعهم عند الله سبحانه وتعالى، ويتعارفوا فيما بينهم، فإن المرء إذا أكثر من السلام على الناس عرفوه، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، فإذا كان الإنسان لوحده لا يعرف الناس ولا يعرفونه - كما تدعو لذلك الصحافة اليوم - فمن سيصلي عليك إذا مت؟ ومن سيشيع جنازتك؟ فإذا لم تكن بينك وبين الناس محبة أو معرفة أو سلام فلن تجد من يقف على قبرك يدعو لك ويسأل الله عز وجل أن يرحمك وأنت في قبرك، فلتفشوا السلام بينكم كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
حديث آخر: رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فهذه خصال سمعها عبد الله بن سلام من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان عبد الله بن سلام يهودياً في ذلك الوقت ولم يكن قد أسلم، وكان من أحبار اليهود وقتها، وقد كان يعرف أن هذا الوقت وقت خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب لينظر إليه وجد نور النبي صلوات الله وسلامه عليه، ووجد وجهه وجهاً لا يأتي بالكذب أبداً، فوقف يستمع إليه، فكان أول ما سمعه حين دخل الإيمان في قلبه رضي الله عنه هذا الحديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام)، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ورباهم وأدبهم، فكان من أوائل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم به في المدينة قوله: (يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، فإذا أردتم الجنة بغير تعب أو نصب أو مشقة أو حساب أو عقاب، فافعلوا ما أمر الله عز وجل به على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أول هذه الأشياء: إفشاء السلام، قال: (أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).(79/7)
إفشاء ابن عمر للسلام في الأسواق
حديث أخير في هذا الباب للطفيل بن أبي بن كعب: (أنه كان يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله على سقاط، ولا صاحب بيعة، ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه)، هذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج مع تلميذه الطفيل بن أبي بن كعب إلى السوق، فيسلم ابن عمر على الناس في السوق، فلا يمر على سقاط - وهو: بائع السقط الذي هو الرديء من المتاع - إلا سلم عليه، فهو لا ينظر إليه على أنه يبيع أشياء حقيرة، بل يسلم على بياع الأشياء الحقيرة والأشياء الغالية.
قال: (ولا صاحب بيعة) أي: يبيع أشياء غالية وعظيمة، قال: (ولا مسكين، ولا أحد إلا سلم عليه)، فهو يسلم على الجميع، على المساكين والفقراء والبائعين.
قال الطفيل: (فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق -يعني: أخذني معه- فقلت له: ما تصنع بالسوق -أي: ولا حاجة لك فيه من بيع أو شراء أو مساومة ونحوها- قال: (ما تصنع بالسوق وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟)، ثم قال: (وأقول: اجلس ها هنا نتحدث، فقال عبد الله بن عمر له: يا أبا بطن! - وكان الطفيل ذا بطن - إنما نغدو من أجل السلام فنسلم على من لقيناه)، هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما، فهو يريد أن يفشي السلام ويطبق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو يخرج إلى السوق ليسلم على المساكين والفقراء والبائعين، فهو يسلم على الجميع ثم يرجع وقد كسب من السوق وربح منه الحسنات الكثيرة، هذا فعل ابن عمر رضي الله عنهما ليطبق ما أمر به النبي صلوات الله وسلامه عليه.(79/8)
كيفية السلام
فقد قال الإمام النووي رحمه الله: [باب كيفية السلام، يستحب أن يقول المبتدئ بالسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيأتي بضمير الجمع حتى وإن كان المسلم عليه واحداً، ويقول المجيب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فيأتي بواو العطف في قوله: وعليكم].
والسبب في إلقاء السلام ورده بصيغة الجمع: أن هناك عالماً آخر ممن لا تراهم، من الجن والملائكة الكرام، فأنت تلقي السلام بصيغة الجمع فتعم هؤلاء كلهم، أما فائدة الواو في رد السلام عندما تقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فهي: التوكيد، فكأن الرادّ يدعو لنفسه ولك فيقول: علينا وعليكم، فيكون بذلك قد كسب مرتين: فهو دعا لنفسه، ورد على الآخر السلام فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
حديث آخر: رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه ثم جلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر -يعني عشر حسنات للذي سلم- ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فرد عليه فجلس، فقال: عشرون - عشرون حسنة في كلمتي السلام والرحمة - ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه - صلى الله عليه وسلم - فجلس فقال: ثلاثون)، إذاً: هذا الذي ألقى السلام كاملاً أصاب ثلاثين حسنة بهذا الذي قال، واقتصر الذي قبله على كلمتين فكان له عشرون حسنة، واقتصر الذي قبله على كلمة السلام فكان له عشر حسنات.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يقرأ عليك السلام - أي: يسلم عليك - قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، وقالت: ترى ما لا نراه) أي: أنك ترى الذي لا أراه وهو جبريل عليه السلام.
وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا محمول على ما إذا كان الجمع كثيراً، أو أنه أراد صلى الله عليه وسلم منهم أن يحفظوا ما يقول، فإذا تكلم بكلمة وأراد أن يحفظوها كررها مرة واثنتين وثلاث حتى يحفظوا منه ذلك.
إذاً: إذا أتى شخص على مجموعة من الناس فليقل: السلام عليكم، فإذا لم يسمع البعض كرر سلامه عليهم لكي يسمعوه، يفعل ذلك ثلاثاً كما فعل صلوات الله وسلامه عليه، وليس معناه: أن الإنسان يأتي على اثنين وثلاثة فيسلم ثلاث مرات، ولكن المعنى: أن يكرر إذا ظن أن البعض لم يسمعوه، وذلك حتى يسمع الجميع فيجيبون، ويشترك الجميع في البركة.(79/9)
من آدابه صلى الله عليه وسلم في كيفية السلام
عن المقداد رضي الله عنه في حديثه الطويل قال: (كنا نرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه من اللبن، فيجيء من الليل، فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان) وهذا أدب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن الأدب: أن الإنسان إذا جاء إلى مكان فيه من هو نائم ومن هو مستيقظ، وأراد أن يسلم فليسمع اليقظان فقط، من غير أن يزعج الإنسان النائم.(79/10)
الجمع بين نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإشارة بالسلام وفعله له
عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوماً، وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم)، صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء عنه: النهي عن التسليم بالإشارة، وكل محمول على معنى، فالنهي محمول على أن الإشارة تكون عادة في المسلم مثل اليهود والنصارى، لكن يجوز له إذا سلم على إنسان بعيد منه أن يقرن بين السلام والإشارة، وألا يكتفي بالإشارة فقط، كذلك إذا رد البعيد على من يسلم عليه فإنه يقول: وعليك السلام ويشير بيده؛ ليبين أنه سمعه وأنه أجاب بذلك، فالجمع بين حديث النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الإشارة بالسلام وفعله صلى الله عليه وسلم في الإشارة: أنه جمع بين القول وبين التسليم بالإشارة.
وعن أبي جدي الهجيمي رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: عليك السلام يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى) يعني: لا يليق بالأحياء أن يسلم بعضهم على بعض بقوله: عليكم السلام، فإن قولك: عليك السلام رد وليس بدءاً في السلام، وقد كانت هذه تحية الموتى عند العرب في أشعارهم.
قال أحدهم: عليك سلام الله قيس بن عاصم ورحمته ما شاء أن يترحما لكن تحية الأحياء والأموات في الإسلام أن تقول: السلام عليكم، فإذا ذهبت إلى المقابر فلتقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية)، فتحيي الأحياء وتحيي الأموات بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليكم، فإذا زدت: ورحمة الله وبركاته كان خيراً كثيراً.
وللحديث بقية إن شاء الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(79/11)
(شرح رياض الصالحين - من (آداب السلام) إلى (استحباب السلام إذا قام من المجلس)) للشيخ: (أحمد حطيبة)
(عدد القراء 56)
عناصر الموضوع
1(80/1)
شرح رياض الصالحين - آداب الاستئذان والتشميت والعطاس والتثاؤب
حثنا الإسلام على التزام الآداب التي تقوي رابطة الأخوة وتراعي مشاعر الناس، فللاستئذان آداب ينبغي أن يتحلى بها المسلم عند طلبه الإذن من صاحبه بالدخول، كما أن العطاس يحبه الله ويكره التثاؤب، وللعطاس والتثاؤب آدابٌ لا بد للمسلم أن يتحلى بها.(81/1)
آداب الاستئذان
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الاستئذان وآدابه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27]، وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاث، فإن أُذِنَ لك وإلا فارجع) متفق عليه.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر) متفق عليه].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين، ويذكر فيه الإمام النووي رحمه الله الاستئذان وآدابه.
قد عرفنا قبل ذلك أن الله سبحانه وتعالى نهانا أن ندخل بيوتاً حتى نستأنس ونسلم على أهلها، تستأنس فيأنسون منك، وتستأذن وتسلم على أهل هذه البيوت، فقال هنا سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
والاستئناس فيه الاستئذان، إذ تستأذن فيستشعرون منك بالأنس ضد الوحشة، وتشعرهم بوجودك وتستأذن ثم تدخل وتسلم عليهم، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور:27]، أيضاً قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59]، يعلمنا هذا الأدب في بيوتنا، وأننا نعلم صغارنا ونعلم من يدخل علينا في بيوتنا أن يستأذنوا وأن يسلموا، فالله سبحانه يأمرنا أننا لا ندخل بيوتاً غير بيوتنا حتى نستأنس ونسلم على أهلها، قال تعالى: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور:58].
والإنسان في بيته يدخل أي غرفة من الغرف ويطوف عليها، وطالما أن الغرفة مفتوحة فيستحب له أن يستأذن، لكن إذا كانت مغلقة لا بد أن يستأذن في الدخول، حتى لا يطلع على عورة، والمسلم يعلم أولاده في بيته، قال تعالى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} [النور:58] أي: الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وإن كان مرفوعاً عنهم القلم والتكليف، فهم لا يأثمون، ولكن مع ذلك يعودون ذلك، فتعود ابنك أنه لا يفتح غرفة في البيت ويدخل مباشرة، ولكن يدق الباب ويستأذن قبل أن يدخل، فإن أذن له فتح ودخل، وإن لم يؤذن له رجع ولم يدخل، فإذا كان صغيراً اعتاد على ذلك، وإذا بلغ الحلم صارت له عادة أنه لا يدخل أبداً غرفة مغلقة حتى يستأذن من فيها.
فرجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن أمه معه في البيت هل يستأذن حتى يدخل على أمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن تراها عريانة؟)،
و
الجواب
لا، ليس هناك من يحب هذا الشيء، ولعلها قد خلعت ثيابها، لعلها تغير ثيابها، لعلها في حاجة من حوائجها داخل غرفتها، وأنت لا تحب أن تطلع على ذلك، ولا يحل لك ذلك، فلا تحب ذلك؛ لأنك ممنوع منه شرعاً وممنوع منه عادة أيضاً.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم علمهم هذا الأدب، أنه لا بد أن تستأذن قبل أن تدخل على الغرفة، ولا تقل: هذه الغرفة فيها ابنتي، هذه فيها أمي، هذه فيها أختي، بل لا بد أن تستأذن؛ لأنك إن رأيتها على غير الحالة التي اعتدت أن تراها عليها حدث في نفسك شيء ووقعت في الإثم بسبب ذلك.
يقول الله عز وجل: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور:59]، إذا صاروا بالغين فيستأذنون وجوباً كما استأذن الذين من قبلهم.
قال الله سبحانه وتعالى يأمر العباد بهذا الاستئذان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:58]، ففي هذه الآية إثارة الإيمان في قلب الإنسان وتهذيب روح الإيمان، يا من تقول: أنا مؤمن! نفذ أمر الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:58]، فاصغِ السمع لما يقوله الله سبحانه، وقل: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة:285].
من علامة هذا الإيمان: أن تسمع وتطيع، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51].
فالمؤمن والمفلح والفائز هو الذي يسمع كلام الله عز وجل، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويطيع لله والرسول عليه الصلاة والسلام.
من الأحاديث في هذا الباب: حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع).
أبو موسى الأشعري ذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان أرسل إليه عمر فاستأذن ثلاث مرات، وعمر انشغل في أمر من الأمور وكأنه عرف أن أبا موسى موجود، ولكن انشغل في شيء فلم يرد، مرة واثنين وثلاثة، فـ أبو موسى رجع، فلما رجع إذا بـ عمر يسأل: ألم يكن هنا أبو موسى؟ فقالوا: انصرف، قال: ائتوني به، فجاءوا له بـ أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسأله: ما الذي جعلك تنصرف وأنا أريدك في حاجة؟ فقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع).
فـ عمر بن الخطاب قال: لتأتيني على ذلك ببينه وإلا أوجعتك؟ ويكفي أبو موسى أنه يحدث بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة لمحدث آخر وهل لـ عمر ألا يقبل الحديث إلا من أكثر من واحد؟ لا، بل عمر يقبل الحديث من أبي موسى ومن غيره، ولكن خشي أن يكون في الناس من يحدث فيكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فشدد على أبي موسى تخويفاً لغيره ألا يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بثبات ويقين.
وأبو موسى له مقام وله منزلة عند الناس، كما كان ربنا سبحانه وتعالى يعلم المؤمنين بالبدء من النبي صلى الله عليه وسلم، يأمره بشيء عليه الصلاة والسلام، يقول: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
وحاشا له أن يشرك عليه الصلاة والسلام، ولكن من باب إياكِ أعني واسمعي يا جارة يعني: اسمع هذا الشيء، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ومستحيل أن يشرك بالله، فاسمعوا أنتم أيها المؤمنون! إن قيل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65].
وهو من هو عليه الصلاة والسلام، فغيره أولى، فكل إنسان يخاف على نفسه من الشرك، فكأن عمر رضي الله عنه خشي أن يتساهل الناس بالتحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فخوف أبا موسى ليخاف غيره في تحديثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب أبو موسى إلى الأنصار فوجد أبا سعيد الخدري ومجموعة من الأنصار فاستغاث بهم، وطلب أن يذهب معه واحدٌ منهم إلى عمر حتى يحدث عمر به، فقال له أبي رضي الله عنه: لا نبعث معك إلا أصغرنا.
فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وحدن عمر بذلك، وجاء أبي بعد ذلك ينتهر عمر رضي الله عنه فقال: هذا أصغر من علم ذلك، وأنت لم تعرفه يا عمر! فلا تكن حرباً على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: لا تشدد عليهم حتى لا يستهين الناس بأصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وكلهم ثقات وكلهم عدول، فقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتناصحون فيما بينهم، وكان يشدد بعضهم على بعض في النصيحة في إطار المحبة في الله سبحانه وتعالى.
هذا عمر أمير المؤمنين! وهذا أبي بن كعب سيد القراء، وعمر سماه بذلك، ويجيء أبو موسى الأشعري ليحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر يطلب منه أن يأتي ببينة، ويشهد له أبو سعيد بذلك، ويأتي أبي بن كعب فيقول لـ عمر: لا تكنْ حرباًَ على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عمر حرباً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما كان مقصد عمر رضي الله عنه ألا يتساهل الناس في التحديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
الغرض من الحديث: بيان أن الإنسان إذا استأذن عل(81/2)
ما يقول المستأذن إذا قيل له: من أنت؟
يقول الإمام النووي: [باب بيان أن السنة إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ أن يقول: فلان، فيسمي نفسه بما يعرف به من اسم أو كنية، وكراهة قوله: أنا ونحوها].
العادة أن الإنسان حين يطرق الباب فأهل البيت يسألونه من؟ فهنا تخبر عن نفسك فتقول: فلان، أو تقول: أنا فلان، بالشيء الذي تشتهر به عندهم، سواء كان اسماً لك أو كنية أو لقباً، كي يعرفوك ويستأنسوا فيفتحوا لك، ويكره أن يقول المستأذن: أنا أنا؛ لأنه مجهول لا يعرف من هو؛ فلذلك في حديث لـ أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثم صعد بي جبريل إلى السماء الدنيا، فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل)، هذا جبريل رسول رب العالمين عليه السلام إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه.
يصعد بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتح السماء فأهل السماء يسألونه: من؟ فيقول: جبريل، فيقولون: من معك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: وقد أذن له؟ يقول: نعم، قال: ثم صعد إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة كل سماء يصعد إليها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم لتكريمه في السماء عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك في كل سماء يستأذن جبريل فيسأل: من؟ فيقول: جبريل، يقولون: ومن معك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم، يقولون: وقد أذن له؟ يقول: نعم، فيفتح له ويرحب به أهل السماء والأنبياء الذين في هذه السماء.
حديث آخر لـ أبي ذر رضي الله عنه قال: (خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده، فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت إلي فرآني)، النبي صلى الله عليه وسلم خرج بالليل لحاجة من حاجاته صلى الله عليه وسلم، فـ أبو ذر وجده، وقد كان حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم يدفعهم إلى أن يكونوا معه، ولكن أيضاً لعله في حاجة من الحوائج لا يريد أن يزعجه أبو ذر، فمشى وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم وكان قليل الالتفات، ما كان يلتفت وهو ماشٍ بالطريق، فلما شعر أن هناك أحداً يتتبعه التفت وقال: (من هذا؟ فقال: فقلت: أبو ذر) يعني: أنا أبو ذر فذكر اسمه، ففي هذا الحديث والذي قبله أن الإنسان إذا سُئل: من؟ يقول: فلان أو أنا فلان.
وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل وفاطمة تستره، فقال: (من هذه؟).
هذا في مكة لما فتح الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم مكة، فدخل في بيت وكانت فاطمة معه تستره في هذا البيت وهو يغتسل صلى الله عليه وسلم، فجاءت أم هانئ وهي بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم، واسمها: أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، فقال: (من هذه؟ فقالت: فقلت: أنا أم هانئ).
فيجوز للإنسان أن يقول: أنا فلان أو فلان مباشرة ويذكر اسمه، ويكره أن يقول: أنا فقط من غير أن يذكر اسمه.
وهذه الأحاديث كلها متفق عليها، وفي حديث آخر في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدققت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أنا)، هذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم ويدق الباب فقال: (من ذا؟ فقلت: أنا فقال: أنا أنا) يعني: كأنه ينكر عليه ذلك، يعني: ما عرفنا أنت من؟ وكأنه يقول له: أخبر أنا فلان! قال: (كأنه كرهه).
فيكره للإنسان إذا سئل من؟ أن يقول: أنا، أو أنه يحيل (من)، مثل البعض يدق الباب، فعندما يقال له: من؟ يقول: ليس عليك افتح، كذلك في جهاز التلفون، بعض الناس يتصلون بالتلفون فعندما تقول: من؟ يقول لك: أنا، أنت من؟ فالإنسان يتواضع، ويُعَرَّف باسمه.
وهذا مخالف لهذه الأحاديث التي ذكرناها عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، بل هو نفسه عليه الصلاة والسلام لما ذهب إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج من الأنصار، فسلم النبي عليه الصلاة والسلام عليه والرجل يجيب من الداخل: وعليكم السلام؛ كي يكثر النبي صلى الله عليه وسلم من السلام، فسلَّم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وانصرف، فلما انصرف كأنهم تحرجوا من ذلك فجرى سعد وراء النبي صلى الله عليه وسلم يقول: والله يا رسول الله! كنت أسمعك ولكن أردت أن تزيدنا من السلام، فنلنا البركة بهذا الشيء، فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستئذان ثلاثاً.(81/3)
آداب العطاس والتثاؤب
يقول الإمام النووي: [باب استحباب تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وكراهة تشميته إذا لم يحمد الله تعالى، وبيان آداب التشميت والعطاس والتثاؤب].
هذه أحوال تحصل للإنسان فتراه يعطس، أو يتثاءب مع قلة النوم، فالإمام النووي يقول: استحباب تشميت العاطس، يعني: تقول له: يرحمك الله، بقيد أنه إذا حمد الله سبحانه وتعالى.
فإذا عطس الإنسان وحمد الله استحق التشميت، وكلمة تشمته معناها: أن تقول له: يرحمك الله.
واختلفوا في نطقها بالسين أو بالشين، ولكليهما معنى، فتقول بالسين: سمت الإنسان يعني: دعوت له أن يكون على سمت حسن، وتقول: شمت الإنسان؛ من الشماتة هذا من معانيها، كأنك تشمته في الشيطان، فالشيطان لا يريد لابن آدم أن يعطس، فأنت عندما تقول له: يرحمك الله، تدعو له بالرحمة، فتشمته هو في الشيطان، ولا تشمت الشيطان فيه.
إذاً: هنا من الشماتة بمعنى: الفرح بما يسوء الغير، فكأنك تفرحه بما يسوء الشيطان، ويسوء الشيطان أن تدعو له وتقول: يرحمك الله، فأنت تشمت أخاك كأنك تشمته في الشيطان، أو تسيء للشيطان بذلك أن تقول لأخيك: يرحمك الله، أو من الشوامت، والشوامت تطلق على القوائم، كأنك تشمته يعني: تدعو له بالبقاء قائماً، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطس، والعطسة تخرج من هواء يدخل بضغط عالٍ جداً، ولعل الإنسان في خلالها ينحل بدنه مع العطسة ومع شدة هذا العطاس، أو تنفجر بعض العروق الموجودة بداخله.
فإذا عطس الإنسان تقول له: يرحمك الله، أي: تدعو له بالرحمة، ويجعله باقياًَ على سمت حسن، وقائماً على شوامته، أي: قوائمه، وعلى ذلك فإن العطسة لا تضره، هذا من معاني التشميت.
من الأحاديث التي في هذا الباب: حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب العطاس).
العطاس: مصدر، ومعنى الله يحب العطاس ليس العطاس نفسه، ولكن يحب صاحبه؛ لأن العاطس يحمد الله سبحانه وتعالى، فيحب منه أن يعطس ويحمد الله سبحانه.
قال: (ويكره التثاؤب)، وهنا الكراهة لصاحبه الذي يتثاءب، وإما أن يكون الإنسان مضطراً بذلك فهو معذور لا شيء عليه، ومثل الإنسان مع سهره الليل ويحرص على صلاة الفريضة فيتثاءب فيها من السهر.
فهنا الكراهة للتثاؤب إذا كان دليلاً على كسل صاحبه، والتثاؤب دليل على كسل الإنسان في الغالب، وإن كان في بعض الأحوال دليل على أنه سهر في قيام الليل أو في غيره، ولكن إذا كان دليلاً على الكسل فهو في هذه الحالة مكروه.
ويكره التثاؤب؛ لأن الشيطان يحب هذه الهيئة، يحب من المسلم أن يكون كسلان أو أن يكون نائماً أو بعيداً عن العبادة، ويحب أن يضحك عليه، فإذا تثاءب الإنسان وقال: هاه، يضحك الشيطان ويتفل في فمه وهو على هذه الحالة ويسخر منه؛ لذلك يكره الله ما يحبه الشيطان.
فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله).
إذا عطس المؤمن بقيد أن يقول: الحمد لله، فحق عليك أن تشمته، هذا حق ضد الهزل وضد الباطل، حق على كل مسلم، فهو سنة مؤكدة وفرض فرض كفائي، فإذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لكن يستحب للجميع أن يشمتوا هذا الإنسان الذي يعطس ويقول: الحمد لله.
فقال: (إذا عطس أحدكم وحمد الله تعالى كان حقاً على كل مسلم سمعه أن يقول له: يرحمك الله، وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان).
لذلك يكره الله عز وجل التثاؤب؛ لأن الشيطان يفرح بهيئة المسلم وهو يتثاءب دليلاً على الكسل ودليلاً على قبح هيئته في هذه الحال.(81/4)
قول العاطس: الحمد لله، وقول صاحبه له يرحمك الله، ورده بقوله: يهديكم الله ويصلح بالكم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله! فليقل: يهديكم الله ويصلح بالكم).
فالعاطس يقول: الحمد لله، والمستمع يرد عليه يقول: يرحمك الله، فهو يجيبه على ذلك ويقول: يهديكم الله ويصلح بالكم.
والدين يعلمنا الدعاء بالرحمة، ويدعو بعضنا لبعض، وبالدعاء يحب بعضنا بعضاً، فإذا قلت: يرحمك الله، دعوت له برحمة الله عز وجل، وهو يدعو لك بالهداية، ويدعو لك بأن يصلح الله بالك، أي: حالك.(81/5)
كراهة تشميت العاطس إذا لم يحمد الله تعالى
في حديث آخر لـ أبي موسى الأشعري وهو في صحيح مسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه)، يعني: قولوا له: يرحمك الله (فإن لم يحمد الله فلا تشمتوه).
من الأدب أن الإنسان إذا عطس يقول: الحمد لله، فإذا قال ذلك استحق أن يقول له المؤمن: يرحمك الله، فيدعو له بذلك.
أيضاً ذكروا من الأدب في العطاس: أنك لا تعجل عليه، لا تعجل على العاطس إذا عطس، لعله يعطس مرة، ويعطس مرة ثانية، ويعطس مرة ثالثة، فبعض الناس عنده حساسية، إذا عطس يعطس مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً، فأنت إذا بادرت بسرعة وقلت: يرحمك الله، فيه تعجيز، لكن اصبر حتى إذا سكت تقول له: يرحمك الله، فيجيبك: يهديكم الله ويصلح بالكم.
أيضاً من أدب العطاس: عدم رفع الصوت به.
كذلك من أدب العطاس: أنك تغطي فمك إما بثوبك أو بمنديل، حتى لا تؤذي الناس بعطاسك، وقد ذكروا أنه عند العطس يخرج الرذاذ من فم الإنسان وقد يصل إلى سبعة أمتار.
فالإنسان الذي يعطس قد يكون مريضاً فيقدر الله عز وجل أن يعدي غيره بذلك، فلا بد من الأخذ بالأسباب حتى لا تؤذي أحداً بالعطاس، وحتى لا ينتقل المرض منك إليه، ومثل ذلك نهانا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننفخ في الإناء، حتى وإن كان ساخناً؛ لأن فيه إيذاء للناس الذين يشربون بعدك أو يأكلون.
يقول أنس: (عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر)، واحد عطس فقال له: يرحمك الله، والثاني: لم يقل له: يرحمك الله، فهذا الثاني سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (عطس فلان فشَّمتَّه، وعطست فلم تشمتني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله).
فالتأديب للإنسان بالقول وبالفعل، فهنا الرجل عطس فقال: الحمد لله، فشمته النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يرحمك الله).
والآخر عطس ولم يقل: الحمد لله، فلم يقل له شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فهذا تأديب له، وبيَّن له النبي صلى الله عليه وسلم لماذا لم يشمته وقال: (هذا حمد الله، وإنك لم تحمد الله)، هذا حديث متفق عليه.(81/6)
خفض العاطس صوته عند العطاس
حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي وفيه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض -أو غض- بها صوته)، فمن أدبه عليه الصلاة والسلام أنه لا يعطس بصوت عالٍ يزعج من أمامه، حاشا له عليه الصلاة والسلام وإنما يغض صوته بها، وطبعاً بحسب ما يقدر الإنسان، فليس معناه: أنه يكتمها، لكن يخرجها ولا يزعج غيره، خاصة إذا كان بجواره إنسان نائم، أو إنسان مشغول بشيء، فلا يزعج الناس برفع الصوت بذلك، لذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه وخفض أو غض بها صوته، وهذا من الآداب في ذلك.(81/7)
اعتراف اليهود بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتعاطسهم عنده لنيل دعائه لهم بالرحمة
حديث آخر لـ أبي داود والترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم) واليهود قوم فيهم العجب العجاب، فهم كفرة مجرمون يخونون ويخدعون، حتى إنهم ليخادعون الله سبحانه وتعالى، فيعملون المكر والحيل حتى على ربهم سبحانه وتعالى، وهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، واستيقنوا بذلك، قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146].
ويقسم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله سبحانه الذي أرسل موسى وأنزل عليه التوراة فيقول: تعلمون أني نبي الله؟ يقولون: نعرف أنك نبي، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: لم لا تؤمنون بي؟ فكونهم قالوا: أنت نبي ليس لهم شأنٌ في دينه عليه الصلاة والسلام، فبعضهم يقول: نخاف أن تقتلنا يهود، فيضنون بأرواحهم على هذا الدين العظيم، والكثيرون منهم يتغابون في ذلك، ويقولون: لا نعرف أنك نبي، أنت نبي للأميين فقط، لست نبياً للمؤمنين، وهذا الكلام كلام متناقض، إذ من يقول: إنه نبي، معناه: هو معصوم وأنه لا يكذب، والنبي يقول: أنا نبي أرسلت إليكم وإلى الناس كافة، فكونهم يقولون له: لا، أنت نبي الأميين فقط! فيه تناقض، إذ كيف يقول: أنت نبي، يعني: أنت معصوم وأنت لا تكذب ثم يقول: لا، أنت نبي للأميين، هذا من تناقضهم وكذبهم وخداعهم.
فاليهود عرفوا أنه نبي، وكان يتحداهم صلوات الله وسلامه عليه ويقول لهم: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، ولو تمنوا الموت لماتوا حالاً وعرفوا ذلك، فلما تحداهم قالوا: انصرف يا أبا القاسم! لا نريد أن نتمنى الموت، والله عز وجل يقول ذلك في كتابه سبحانه: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة:6]، ويسألهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار؟ يقولون: ندخل فيها سبعة أيام ثم تخلفونا فيها أنتم بعدنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا! والله لا نخلفكم فيها أبداً) أي: يدخل اليهود النار ويخلدون فيها ولا يخرجون منها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسألهم وهم يكذبون، فهم يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18] إذاً: تمنوا الموت إن كنتم صادقين، فالذي يقول: أنا ابن الله وأنا حبيب الله، والله سيدخلني الجنة، إن كان صادقاً فليتمن الموت كي يدخل الجنة التي يزعمها، قال تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة:7].
فهم عرفوا أن القرآن حق، وعادة الإنسان الذي يتحدى يأبى التحدي، فاليهودي لا يقدر أن يقول: يا رب خذني! يا رب خذني! لكن الكفار من قريش قالوا ذلك، فأماتهم الله عز وجل في يوم بدر، وقتلوا شر قتلة، وكانوا من أهل النار، أما اليهود قالوا: لن نتمنى الموت، وربنا أخبر بذلك، قال تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة:7]، وقال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:95].
فهم يعلمون أن الله سبحانه لن يمهلهم إذا تحداهم النبي صلى الله عليه وسلم فطلبوا الموت، فإن الله سيميتهم فلم يفعلوا هذا الشيء.
وتعجبت حين قرأت قبل أشهر قليلة في جريدة أخبار اليوم أن رجلاً من كندا كان كافراً لا يؤمن بوجود الله فقال له شخص هناك: يا أخي! آمن واعرف دين ربك، فقال: ليس هناك إله أصلاً، وتبجح عليه وقال له: لو كان هناك إله فاجعله ينزل علي صاعقة تأخذني من السماء، يقولون: وحالاً تلبدت السماء بالغيوم وإذا بصاعقة تأتيه فتصعقه! فهذه قصة عجيبة جداً للإنسان الذي يتحدى ربه سبحانه، يظن أنه لا يفعل به ذلك، فاليهود لم يقبلوا وتحدوا وقالوا: لا، لن نتمنى الموت، فكانوا يذهبون رجاء أن يرحمهم الله على كفرهم، فيقولون: هذا نبي، ودعوة النبي مستجابة، فلنذهب إليه ونطلب منه أن يدعو لنا بالرحمة، فكان لا يدعو لهم بالرحمة صلى الله عليه وسلم، إنما يدعو لهم بالهداية، كيف يرحمهم وهم لم يدخلوا في الدين، فإذا لم تدخلوا في الدين لا تستحقون إلا أن ندعو لكم بالهدى، فكانوا يتعاطسون، والكبر يمنعهم أن يقولوا: يا رسول الله! ادع لنا، فكان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويعطس ويقول: الحمد لله، وينتظر أن يقول له النبي صلى الله عليه وسلم يرحمكم الله، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (يهديكم الله ويصلح بالكم).
فكان يدعو لهم بالهدى ولا يدعو لهم بالرحمة صلوات الله وسلامه عليه، قال: يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله فيقول: (يهديكم الله ويصلح بالكم)، يدعو لهم بالهدى وصلاح الحال.(81/8)
وضع المتثائب يده على فيه عند التثاؤب
حديث آخر لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل).
قلنا: إن الشيطان يحب التثاؤب، والله عز وجل يكره التثاؤب، والتثاؤب دليل على كسل الإنسان، وخاصة إذا رفع صوته بالتثاؤب، وإذا فتح فمه وهو يصلي ويقول: هاه، فالشيطان يضحك عليه ويدخل في فمه، فيقول لك النبي صلى الله عليه وسلم: إذا تثاءبت أمسك بيدك على فيك، وخاصة إذا كنت في الصلاة، قال: (إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه) أي: على فمه (فإن الشيطان يدخل) يعني: يفعل ذلك حتى يمنع الشيطان أن يدخل فمه.
والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(81/9)
شرح رياض الصالحين - استحباب المصافحة عند اللقاء وجواز تقبيل يد الرجل الصالح لفضله وتقبيل الأبناء
وردت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بجواز التقبيل والمعانقة، لكن لا على وجه العادة، وإنما تكون على وجه الندرة، وقد ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم فعل ذلك، وجاء في الأحاديث مشروعية المصافحة وفضلها، ففيها مغفرة الذنوب وتساقطها عن المتصافحين، وأول من جاء بها أهل اليمن، وذلك حين قدم وفد الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم.(82/1)
ما جاء في استحباب المصافحة والتقبيل لليد والمعانقة للقادم من سفر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: (باب استحباب المصافحة عند اللقاء وبشاشة الوجه، وتقبيل يد الرجل الصالح، وتقبيل ولده شفقة، ومعانقة القادم من سفر، وكراهية الانحناء.
وعن أبي الخطاب قتادة قال: قلت لـ أنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة) رواه أبو داود.
وعن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) رواه أبو داود.
هذا آخر باب من كتاب السلام يذكره الإمام النووي في كتابه العظيم (رياض الصالحين).
وفيه استحباب المصافحة عند اللقاء، والمصافحة مأخوذة من الصفحة، أي: صفحة اليد وراحة اليد ووجه اليد، بمعنى أنه تلتقي صفحة يدك مع صفحة يد صاحبك حين تسلم عليه.
فيستحب المصافحة، وجاء في القرآن: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] والتحية: هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتحيي بأحسن منها وتردها، سواء تسلم دون أن تمد يدك أو تسلم وتمد يدك، والأفضل أن تمد يدك وتصافح؛ لأن هذا فيه ثواب كما جاء في هذه الأحاديث.(82/2)
شرح حديث قتادة: قلت لأنس: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله؟ قال نعم)
سئل أنس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم) أي: أن من عادة العرب عدم المصافحة والتسليم باليد، وإنما كان الواحد منهم يسلم فيقول: أنعم صباحاً أنعم مساءً، فيأتي على القوم فيسلم بعضهم على بعض من غير مصافحة باليد.
وكان العرب يظنون أن مد اليد والمصافحة من أخلاق العجم، ولذلك جاء عن البراء (أنه سلم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فمد يده مصافحاً) فـ البراء رضي الله عنه يقول: كنت أظنها من أخلاق العجم، يعني: أنا كنت أظن هذا من أدب العجم؛ لأنه لم يكن عند العرب هذا الشيء أو لم يكن مشهوراً عند العرب أنه كلما قابل الرجل أخاه مد يده وصافحه، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح أصحابه ويسلم عليهم صلوات الله وسلامه عليه، فهنا يقول أنس وقد سئل: (أكانت المصافحة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم).(82/3)
شرح حديث: (قد جاءكم أهل اليمن وهم أول من جاء بالمصافحة)
هذا حديث آخر لـ أنس رواه أبو داود ورواه أيضاً الإمام أحمد في مسنده قال أنس رضي الله عنه: (لما جاء أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أول من جاء بالمصافحة) هذه الكلمة (وهم أول من جاء بالمصافحة) ذكرها الإمام أبو داود في الحديث كأنها مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن في مسند الإمام أحمد بين أن أنساً هو الذي قال ذلك، فهذا يوضح ويبين أن الحديث المرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: (جاءكم أهل اليمن) كأن هذا كان قبل مقدمهم وقبل مجيء أهل اليمن، كأنه قال لهم: غداً سيزوركم أهل اليمن أو وفد من أهل اليمن وذكر أنس رضي الله عنه هذا الحديث وقال: (وهم أول من جاء بالمصافحة) يعني: أنهم عندما جاءوا جعلوا يسلمون ويصافحون، فكانوا أول من فعل ذلك، والأمر ليس كذلك، بل كان هذا موجوداً عند العرب، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ولكن كان قليلاً ولم يكن كثيراً، فهؤلاء جاءوا وفعلوا ذلك، فسلموا على من لقيهم، فكانت هذه سنة من سننهم التي هي انتشار هذا السلام.
ففي مسند الإمام أحمد عن أنس أيضاً: قال: (لما أقبل أهل اليمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد جاءكم أهل اليمن، وهم أرق قلوباً منكم) يعني: يذكر لهم أن الوفد الذين جاءوا من أهل اليمن هم أرق قلوباً منكم.
وفي حديث آخر: قال: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) فمدح النبي صلى الله عليه وسلم أهل اليمن الذين قدموا، وكانوا وفد الأشعريين، ومنهم: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، فهؤلاء الذين مدحهم النبي صلوات الله وسلامه عليه وقومهم الذين من ورائهم هم أرق قلوباً وأرق أفئدة رضي الله تعالى عنهم، وأكثر قبولاً لهذا الدين من غيرهم.
وفي مسند الإمام أحمد أيضاً عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيقدم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) كأنه يقول لهم: أنتم لما دعوتكم في مكة إلى الإسلام بقيت فيكم ثلاث عشرة سنة، ومع ذلك لم يسلم إلا عدد قليل جداً، لكن أهل اليمن مجرد ما سمعوا بهذا الدين دخلوا في دين الله، وجاءوا بشوق للنبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي مسند الإمام أحمد يذكر لنا ذلك فيقول أنس رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيقدم عليكم قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم) يعني: أسرع استجابة لدين الله عز وجل من أهل مكة وأهل المدينة، قال أنس: (فقدم الأشعريون منهم أبو موسى الأشعري) فلما قدم وفد الأشعريين على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقربوا من المدينة، فهم مع تلهفهم وشوقهم للقاء النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون الرجز، وهو نوع من الشعر، فكانوا يرتجزون ويقولون: غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه من شدة شوقهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللقائه ولقاء أصحابه.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أحدثوا المصافحة، فهم عندما جاءوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصافحون، فكأنهم نشروا هذا الشيء الذي كان قبل ذلك قليلاً، كان موجوداً ولكنه قليل، فهم نشروا المصافحة، فيقول أنس رضي الله عنه: (وكانوا هم أول من جاء بالمصافحة)(82/4)
شرح حديث: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما)
روى أبو داود عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما) هذا الحديث في المصافحة، يعني: تمد يدك وتسلم على أخيك وتصافحه، فيقول: إن في ذلك غفراناً للذنوب، أي: أن الله عز وجل يغفر بهذه المصافحة، فكونك تمد يدك لأخيك فهذا دليل التواضع ودليل المحبة، فبالمصافحة تنتشر المحبة بين المؤمنين، بالتسليم وبالمصافحة فيقول: (ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا) يعني: عند أن يضع المرء يده في يد الثاني ويسلم عليه ويقول: السلام عليكم ورحمة الله، فهو يدعو له، فالله عز وجل يستجيب لدعاء أحدهما لصاحبه ويغفر للاثنين، قال: (إلا غفر لهما قبل أن يفترقا).
وفي رواية لهذا الحديث من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله أن يحضر دعاءهما، ولا يفرق بين أيديهما حتى يغفر لهما) هنا حق على الله عز وجل أن يحضر الدعاء، والله سبحانه وتعالى لا يغيب عنه شيء، فكل إنسان سواء كان مسلماً أو كافراً يقول شيئاً أو يفعل شيئاً فالله عز وجل يشهد ذلك، ولكن هنا كأن الحضور له معنى آخر، يعني: إما حضور لرحمة هؤلاء، وإما حضور لتعذيب هؤلاء، أو شهادة على هؤلاء، فهنا أن حضور الله سبحانه وتعالى يكون على المعنى الخصوصي لهؤلاء بمغفرته وبرحمته، فهو شاهد يشاهد كل شيء، ويحضر مع كل واحد، والله سبحانه أقرب إلينا من حبل الوريد، وأقرب إلينا بفعله سبحانه وبقوته وقدرته، فحضوره سبحانه وتعالى هنا برحمته، فهو سبحانه وتعالى يرحم ويغفر، ويستجيب لدعاء أحدهما لصاحبه، ولا يفرقا بين أيديهما حتى يغفر لهما.(82/5)
شرح حديث: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال: لا)
هذا حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: لا) كأن العجم إذا لقي أحدهم صاحبه يسلم عليه وينحني له، فهذا يسأل ويقول: هل نفعل كما يفعلون حين نسلم ويصافح بعضنا بعضاً؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: لا، أي: يكره هذا الشيء، فقال له الرجل: (أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم).
يعني: أن من السنة أنك إذا لقيت أخاك أن تسلم عليه، إما أن تقول: السلام عليكم وأنت مار، وإما أن تقف وتسلم عليه: السلام عليكم وتصافحه بيدك، فهذا أفضل.
ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن ينحني الرجل لصاحبه، فلا ينحني أحد لأحد إذا قابله.
كذلك الالتزام والتقبيل هذا ليس من السنة، وهذا كثير بين المسلمين، فتجد الآن كلما يقابل صاحبه يقبله، هذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، الالتزام والمعانقة هذا يكون إذا كان الإنسان مسافراً وقدم من سفره، فهذا تلتزمه وتقبله، لكن الذي تقابله بين فترة وأخرى كلما قابلته قبلته وعانقته، ليس ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا نقول: يحرم ذلك ولكن يكره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك قال له: لا تفعل هذا الشيء، فهو قال: يلتزمه ويقبله؟ قال: لا، أينحني له؟ قال: لا، فماذا يعمل؟ أيصافحه؟ قال: نعم.
إذاً: السنة إذا قابلت أخاك المصافحة، ولا نزيد شيئاً ليس له أصل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك، حتى لا تصير بين الناس عادة من العادات التي يمكن أن يعملها الإنسان، فقد يلقى أخاه ويسلم عليه ويقبل شماله ويمينه وقد لا يكون في القلب محبة؛ ولكن لأنه قد تعود على هذا الشيء، ولأنه إذا ما عمل كذا فسيقول: هذا يكرهني.
إذاً: السنة أن تسلم وتصافح، والإسلام ليس فيه تمثيل، ولا داعي للمبالغة في الشيء، فإذا قابلت أخي أسلم عليه وأصافحه باليد أو ألقي عليه السلام، وهذا هو الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمبالغة في الشيء تؤدي إلى البدع في دين الله سبحانه وتعالى، فترى الناس يفعلون الشيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك يخترعون شيئاً جديداً غير ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مثل ما ورد في الحديث: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) فيفشي المسلمون السلام؛ لأن إفشاء السلام يغيظ أعداء الإسلام، ويحسدون المسلمين على ذلك، لكن اليوم لا يسلم المسلم على أخيه إلا إذا كان يعرفه، وتراه يزهد في السلام على أخيه كلما لقيه! والتسليم باليد فيه ثواب عظيم وفيه مغفرة وحب، فأنا حين أسلم عليك وأقول: السلام عليكم، فهذا فيه مغفرة من الله عز وجل.
كذلك بعض الناس يخترعون شيئاً في أمر السلام، فبدل أن يسلم بعضنا على بعض عند الافتراق، يقول الأول: لا إله إلا الله، ويردد الثاني ويقول: محمد رسول الله، نقول: الشهادتان هما أعظم كلمة في دين الله عز وجل، لكن ليس هذا وقتها، هذا من البدع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخرى) أي: إذا لقيت أخاك فسلم عليه، فإذا افترقتما فسلم عليه؛ فليست الأولى بأحق من الآخرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسلم حين الافتراق، أن أدعو لك وتدعو لي بالسلامة وبالحياة الكريمة الطيبة وبالبركة من الله، فلا داعي للبدع التي كثرت بين الناس.(82/6)
شرح حديث: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي)
من الأحاديث حديث لـ صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فذكر الحديث إلى قوله: فقبلا يده ورجله، وقالا: نشهد أنك نبي) رواه الترمذي وغيره بأسانيد صحيحة.
ورواه الإمام أحمد في مسنده، وإسناد الحديث رجاله ثقات، غير التابعي الذي روى هذا الحديث فالحافظ ابن حجر ذكر أنه صدوق، ولكنه تغير حفظه أو ساء حفظه، فعلى ذلك يكون فيه ضعف يسير.
والقصة التي ساقها الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن سلمة، وعبد الله بن سلمة هو الذي قال عنه الحافظ: صدوق، ولكن كبر فتغير حفظه، وحدث عن صفوان بن عسال وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]).
وفي رواية أخرى يذكر أنه قال: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فنسأله عن هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101] فقال الآخر للأول: لا تقل: إنه نبي؛ فإنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء:101]، وهنا الظاهر أن راوي الحديث حصل له شيء من الخلط في تفسير الآية مع ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل آتى موسى تسع آيات بينات منها: اليد والعصا، لكن الحديث ذكر أشياء أخرى، فكأن راوي الحديث ظن أنهما أرادا أن يذهبا ويسألا النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات، مع أنهما سألاه عما حرم الله عز وجل على بني إسرائيل، فاختلطت عليه الآية مع الحديث فذكر ذلك.
ولكن القصة أنهما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم ليبين لهما ما آتى الله عز وجل لموسى من أوامر ونواه لبني إسرائيل، فاليهوديان لما ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم فسألاه، قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله).
كأن هذه الأمور من الشريعة التي جاءت لموسى نزلت ليأمر بني إسرائيل بها، وليس في الحديث تفسير التسع الآيات التي جاء بها موسى على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، فقد آتاه الله عز وجل تسع آيات قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] هذه خمس آيات، وآتاه الله عز وجل اليد والعصا، اليد تخرج بيضا، والعصا تصير كالحية تسعى، هذه من الآيات التي آتاها الله عز وجل لموسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
ولما نجى الله بني إسرائيل من فرعون، أنزل الله عز وجل على موسى آيات بينات واضحات مثل هذه الآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه، ذكر بعضها في آية وبعضها في آية أخرى، وبعضها مما جاء أو فهم من القرآن، لكن هنا كأن السؤال عما أَمر موسى بني إسرائيل به من الشريعة التي هم تركوا منها أشياء، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى أمرهم وقال: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله) كأنه كان فيهم هذا الشيء، من أنهم يذهبون بالبريء ويشهدون عليه زوراً فيقتله السلطان وغير ذلك مما ذكر في الحديث.
ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: (وأنتم يا يهود، عليكم خاصة ألا تعملوا في السبت) أي: أن مما أمر الله عز وجل موسى أن يبلغ بني إسرائيل عقوبة لهم ألا يعملوا في السبت يعني: لا تعتدوا في السبت، ولا تعملوا عملاً في يوم السبت، كان عقوبة من الله عز وجل لهم؛ لأن الله سبحانه جعل لهم يوم الجمعة فقالوا: لا نريد الجمعة بل نريد يوم السبت، فقال لهم: يوم السبت هو عيدكم وممنوع عليكم أن تعملوا فيه، بخلافنا نحن أهل الإسلام فإن الله عز وجل جعل يومنا الجمعة ورضينا وقبلنا ذلك، وأباح لنا في هذا اليوم كل شيء، إلا ما هو حرام علينا في غيره من أيام الأسبوع، لكن اليهود رفضوا الجمعة فجعل عيدهم السبت وحرم عليهم أشياء.
كذلك النصارى رفضوا الجمعة وطلبوا الأحد، أما المسلمون فرضوا بعيد الله سبحانه وتعالى يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم، وأنزل فيه آدم إلى الأرض، وتقوم الساعة في هذا اليوم، فكان عيداً لأهل الإسلام.
فنحن الآخرون ولكن يوم القيامة نحن السابقون؛ لأننا قبلنا دين الله سبحانه وتعالى كما أمر، ولم يبدل المسلمون ولم يغيروا، بل أخذوا دين الله على ما أراد الله سبحانه وتعالى.
الغرض في هذا الحديث لما قال اليهودي لصاحبه: (اذهب بنا إلى هذا الذي يزعم أنه نبي، فقال الآخر للأول: لا تقل: نبي؛ لأنه إن سمعك صارت له أربعة أعين) يعني: كأنه يقول: إنه تقر عينه ويفرح بهذا القول، وحين تقول: فلان هذا حار العين، فهذا يعني: أن عينه حارة من الحزن ومن الغيظ، أما لو قلت: فلان بارد العين، فهذا يعني: أن عينه قارة باردة راضية، كأنه تقر عينه وتفرح.
فاليهود يحسدون النبي صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله عز وجل من فضله، فلما سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأجابهما قبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا: (نشهد أنك نبي قال: فما يمنعكما أن تتبعاني؟) هناك فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وبين أن يقول: أشهد أنك نبي، كأنهما قالا له: نحن صدقنا أنك نبي، لكن لا نسلم ولا ندخل في دينك، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم ما قالا، فقال لهما: (فما يمنعكما أن تتبعاني؟) يعني: ما دام أنكما عرفتما أني نبي فلم تتركان اتباعي؟ فقالا يتمحلان لعدم الدخول في هذا الدين، مع أنهما يعرفان أنه الخاتم صلوات الله وسلامه عليه ولا نبي بعده، وعلى فرض أنهما لا يعرفان أنه الخاتم، مهما قالا: نشهد أنك نبي فالنبي معصوم وصادق، فإذا شهدا له بالنبوة فقد شهدا له بالعصمة وأنه لا يكذب، فهو يقول لهما ولغيرهما: أنا رسول إليكم فالواجب عليهما أن يؤمنا بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وأنه رسول رب العالمين، وأن يدخلا في دينه، ولكن اليهود عرفوا أنه نبي وقال له بعضهم: نشهد أنك نبي ومع ذلك لم يدخلوا في دينه، فتمحلا بهذا القول وقالا: (إن داود عليه السلام دعا ألا يزال من ذريته نبي) لكن بعد ذلك أظهرا حقيقة الأمر وقالا: (إنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا اليهود) يعني: الذي منعهما من الدخول في دين الله سبحانه تبارك وتعالى الخوف من أن تقتلهما اليهود.
الشاهد في هذا الحديث أنهما قبلا يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجله، ولم ينكر عليهما صلوات الله وسلامه عليه ما فعلا، فلذلك ذكر الإمام النووي جواز مثل ذلك.(82/7)
شرح حديث: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده)
عن ابن عمر رضي الله عنهما في قصة قال فيها: (فدنونا من النبي صلى الله عليه وسلم فقبلنا يده) عليه الصلاة والسلام هذه قصة ساقها الإمام أبو داود في سننه، والقصة إسنادها فيه ضعف، ولكن جملة الروايات تعطي المعنى المقصود أنه يجوز تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أهل الصلاح ومن أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، ولكن لا يكون عادة؛ لأنه لم تكن عادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقوا النبي صلى الله عليه وسلم يقبلون يده ورجله عليه الصلاة والسلام، ولكن هذا حدث على وجه الندرة، فإذا كان فليكن مثل ذلك.
هنا الحديث رواه أبو داود والترمذي من حديث يزيد بن أبي زياد، ويزيد بن أبي زياد ضعيف، وهو أن عبد الرحمن بن أبي ليلى حدثه أن عبد الله بن عمر حدثه (أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص) يعني: يذكر عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في غزوة من الغزوات في سرية من السرايا فحاص الناس حيصة كأن الأعداء كانوا كثيرين والصحابة كانوا قلة، فحاص الناس أي: رجعوا وهربوا، قال: وكنت فيمن هربت مع الذي هربوا، فـ ابن عمر رضي الله عنه هذا الرجل الصحابي الفاضل لم يقل: الناس هربوا وأنا ثبت، لا، حاشا له رضي الله عنه أن يكذب، ولكن يخبر ويقول: حاص الناس فكلنا هربنا ورجعنا للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن وهم في الطريق راجعين قال: (فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] فقالوا: ندخل المدينة ونختبئ فيها، ننظر في أمرنا، قال: فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كانت لنا توبة أقمنا، وإن كان غير ذلك ذهبنا، قال: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون) قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن هربنا وجئنا تائبين لله عز وجل، نحن الفرارون، فماذا كان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمؤمنين رءوف رحيم؟ قال: (فأقبل إلينا فقال: لا، بل أنتم العكارون) يعني: أنتم لستم فرارين بل أنتم العكارون، ما هو الفرق بين الفرار والكرار والعكار، الفرار هو الذي فر وهرب من المعركة، والكرار هو الذي يقدم على العدو وهو شجاع، أما العكار فهو الذي يقدم ثم يخاف ويرجع ثم يكر مرة ثانية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم الأمل بأنهم سيرجعون ويقاتلون مرة ثانية، فقال: (بل أنتم العكارون) فإذاً: العكار هو الذي قد يولي دبره في المعركة ثم يرجع فيكر مرة أخرى، هذا العكار فقال: (لا، بل أنتم العكارون، ففرحوا بذلك بعد ما كادوا ييئسون، قال: فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة كل مسلم) فهذا الحديث فيه بيان أنهم قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت أحاديث أخرى في هذا المعنى لا يخلو بعضها من مقال، ولكن بمجموعها تفيد جواز تقبيل اليد، ومنها: ما جاء عن أبي لبابة وكعب بن مالك أنهما لما تابا وتاب الله عز وجل عليهما، ذهب أبو لبابة فقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كعب بن مالك وصاحباه ذهبا للنبي صلى الله عليه وسلم وقبلا يده.
وأيضاً جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضهم فعل مع بعض مثل ذلك، منهم: أبو عبيدة فإنه لما قدم على عمر قبل يد عمر رضي الله تعالى عنه، وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة.
كذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه قبل يد عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فـ زيد بن ثابت الذي كان يكتب القرآن العظيم رضي الله تعالى عنه، وهذا عبد الله بن عباس الذي كان يفسر القرآن العظيم كلاهما عالم من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل زيد وهو أكبر من ابن عباس يد ابن عباس رضي الله عنهما، والسبب في ذلك أن زيداً أراد أن يركب الفرس فـ عبد الله بن عباس نظر إلى زيد فقال في نفسه: هذا كاتب وحي النبي صلى الله عليه وسلم وأكبر مني سناً، فتقدم إليه ابن عباس وأمسك بركابه من أجل أن يضع زيد رجله في الركاب، هذا ابن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما، فلما فعل ذلك إذا بـ زيد يأخذ يده ويقبلها رضي الله تعالى عنهما، فهذا تواضع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض.
وجاءت آثار كثيرة ذكرها الحافظ ابن حجر في فتح الباري بهذا المعنى: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوا ذلك معه صلى الله عليه وسلم، فقبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك من بعدهم، فقد جاء عن علي أنه قبل يد العباس عمه رضي الله تعالى عنهما، وجاء عن ثابت أنه قبل يد أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وجاء عن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لـ ابن أبي أوفى: ناولني يدك التي بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فناولنيها فقبلتها.
يقول الإمام النووي رحمه الله: تقبيل الرجل لزهده وصلاحه أو علمه أو شرفه أو صيانته أو نحو ذلك لا يكره، بل يستحب إذا كان لأمر من الأمور الدينية، فإن كان لغناه أو لشوكته أو لجاهه عند أهل الدنيا فمكروه كراهةً شديدة.
وقال أبو سعيد المتولي: لا يجوز إلا إذا كان على وجه التقرب إلى الله عز وجل.
لكن لا يكون على وجه العادة، كلما قابل واحداً من أهل العلم أو من كبار السن قبله، لا، يجب ألا يكون مثل النصارى، ولأنه قد يقوم الخسيس ويقابلهم ويمد لهم يده ويقول: قبلوا يدي.
إذاً: يجب ألا يكون هذا منتشراً بين المسلمين، ولكن الذي كان لو عددنا هذه القصص بأنها قليلة بجنب عمر النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ظل مع الصحابة ثلاث وعشرين سنة في الدعوة إلى الله عز وجل، فلو كان هذا يحدث كل يوم لجاءت أحاديث كثيرة في ذلك، ولكن الأحاديث منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فعلى ذلك يقول أهل العلم: إن ذلك يجوز، ولكن لا يكون عادة.
إذاً: الإنسان يقبل يد أمه وأبيه هذا جائز، ويقبل يد من يعلمه، لكن على وجه الندرة، ولا تزكوا أنفسكم، فالله عز وجل أعلم بمن اتقى.(82/8)
شرح حديث: (قدم زيد بن حارثة المدينة فأتى النبي فقام إليه النبي يجر ثوبه فاعتنقه وقبله)
من الأحاديث حديث لـ عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه، فاعتنقه وقبله) هذا زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، فـ زيد بن حارثة كان مسافراً وقدم فلما قرع زيد الباب خرج النبي صلى الله عليه وسلم إليه يجر رداءه ويلبس إزاراً يستر من السرة إلى أسفل الركبتين، والرداء الذي يوضع على المنكب فالنبي صلى الله عليه وسلم من شوقه لـ زيد رضي الله عنه ومن حبه له خرج واستقبله واعتنقه وقبله صلوات الله وسلامه عليه، والرداء في يده، فذكر هنا في الحديث أنه اعتنقه وقبله.(82/9)
شرح حديث: (لا تحقرن من المعروف شيئاً)
جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) من المعروف أن تعطي أخاك، وأن تعين أخاك، وأن تفعل معه الخير، حتى في أقل الأشياء، كأن تتبسم في وجهه، وهذا الحديث رواه مسلم.(82/10)
شرح حديث: (أن الأقرع بن حابس قدم على النبي ورآه وهو يقبل الحسن بن علي)
حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه وهو متفق عليه، وفيه: (أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقبل الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال الأقرع بن حابس: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً) الأقرع بن حابس كبير ورجل زعيم في قومه، فكأنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت كبير في القوم ولست مثلك، ومع ذلك ما قبلت واحداً، أنت رسول الله تفعل هذا الشيء؟! فهو ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فاستحق أن يجاوبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، ويقول: (من لا يرحم لا يرحم) يعني: كون الإنسان يقبل ابنه هذا من الرحمة التي يجعلها الله عز وجل في قلوب عباده.
وفي رواية أخرى قال: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك) يعني: أنت تفرح بأنه لا توجد رحمة في قلبك.
هذا الحديث فيه أنه يجوز أن يقبل الإنسان أولاده، وأن هذا مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله مع ابنته فاطمة، كان يذهب إليها فتقوم له صلى الله عليه وسلم وتقبله وتجلسه في مكانها، وهي حين تأتي إليه صلوات الله وسلامه عليه كان يقوم لها ويقبلها ويجلسها بجواره عليه الصلاة والسلام.
ففيه تقبيل الأب لأولاده ولبناته، وتقبيل الإنسان للقادم من السفر بأن يعتنقه وأن يقبله، لكن لا يكون هذا مع من يلتقي معه في كل صلاة أو في كل يوم، يعني: ينبغي ألا تكون هذه عادة لا بين الرجال بعضهم مع بعض، ولا بين النساء بعضهن مع بعض، إلا على ما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
نكتفي بهذا القدر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(82/11)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في عيادة المريض
إن للمسلم على أخيه المسلم حقوقاً وضعها الشرع الحنيف؛ لتتم الألفة والرابطة الوشيجة بين المؤمنين، فينتج من ذلك مجتمع قوي متحاب متماسك، ومن هذه الحقوق: اتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وفك العاني، وعيادة المريض، وإبرار المقسم، وغيرها.(83/1)
من حقوق المسلم على أخيه المسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [كتاب: عيادة المريض، وتشييع الميت، والصلاة عليه، وحضور دفنه، والمكث عند قبره بعد دفنه.
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس) متفق عليه].
هذا باب من كتاب (رياض الصالحين) يذكر فيه الإمام النووي عيادة المريض، وتشييع الميت، والصلاة عليه، وحضور الدفن، والمكث عند القبر بعد دفنه، وهذه من حقوق المؤمن على أخيه المؤمن، وقد جاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بأمره صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب، وأيضاً بذكره أنها من حق المسلم على أخيه المسلم.
فمن الأحاديث في ذلك حديث البراء رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس) إلى آخر ذلك.
وما يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فيه الخير كله في الدنيا وفي الآخرة، فهو يأمرنا بما يؤلف قلوبنا، وبما يجعل المؤمن يحب أخاه المؤمن، فقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)، وهذه من خصائص المجتمع المؤمن المسلم، فالمؤمنون يحب بعضهم بعضاً، والمؤمنون يجمعهم الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، والتعاون على البر والتقوى، وتجمعهم الألفة التي في القلوب، ويجمعهم العمل لدار الآخرة، فالمؤمن يحب أخاه المؤمن ولا ينتظر منه أن يعطيه على هذه المحبة أجراً في الدنيا، بل إن المؤمن إذا بذل المال والعون قال: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]، وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9].
إن المؤمن يبذل ما عنده من نفع لغيره ابتغاء وجه الله سبحانه، والمؤمن مستريح في الدنيا، ولو أنه يبذل نفعه وماله وطعامه وينتظر عليه أجراً من الآخرين لتعب جداً، ولو جلس يتذكر: أعطيت لفلان كذا ولم يعمل لي شيئاً، وزرت فلاناً وما زارني، وأعطيته من مالي ولم ينفعني بشيء، لو تذكر ذلك لتعب الإنسان بذلك، ولكن المؤمن يستريح؛ لأنه ينتظر الأجر من الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9]، ولا حتى الشكر، فلا ننتظر منكم الشكر على ذلك، وإنما ننتظر الأجر من الله سبحانه، فالمؤمن قلبه معلق بالجنة يريد أن يدخلها بأي عمل من الأعمال، ولو أنه علق قلبه بالدنيا لأخذته الدنيا، فالدنيا تفتن الإنسان وتغره، وكلما طلب الدنيا ابتعدت عنه هذه الدنيا، ولن ينال منها إلا ما قسمه الله عز وجل له فيها، لذلك فالمؤمن يستريح لأنه يطلب الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا، ولكن لا يجعل قلبه متعلقاً بها، وإذا تعلق بها فلعله ينالها ولعله لا ينالها، لكنه يتعلق بالدار الآخرة، {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ} [القصص:83] والآخرة، والعاقبة الحسنة، والجزاء الحسن للمؤمن عند الله {لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
إن المؤمن حين يطيع ربه سبحانه، وحين يطيع رسوله صلوات الله وسلامه عليه لا يبتغي بذلك إلا الدار الآخرة، فإذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض فإنك تعود المريض ابتغاء وجه الله سبحانه، وانتظار الأجر من الله سبحانه.(83/2)
اتباع الجنازة
تتّبع الجنازة ابتغاء الأجر من الله سبحانه، ولا تنظر إلى غيرك وتقول: الناس لم يزوروا المرضى فأنا أيضاً ما سأزورهم، والناس لم يمشوا في الجنازة فأنا أيضاً لا أمشي، فلا تنظر إلى غيرك، بل عد المريض، وامش وراء الجنازة، وشمت العاطس ابتغاء الأجر من الله سبحانه، فإذا زرت المريض فإنه يحبك إذا زرته الزيارة الشرعية التي أمرت بها شرعاً.
وكذلك إذا اتبعت الجنازة فإنك تؤجر من الله سبحانه، وتدخل على قلب أهل الميت السلوى، وتسليهم بذلك، تعزيهم، وينظرون إليك بأنك وقفت بجانبهم في يوم الجنازة، فيفرحون بذلك أنك بجوارهم ويحبونك، فيحب المؤمن أخاه المؤمن لما يبذله له من نفع في الدنيا؛ فيؤجر على ذلك في الآخرة.(83/3)
تشميت العاطس
قوله: (تشميت العاطس)، فإذا عطس الإنسان وقال: الحمد لله فإنك تشمته، وذكرنا معنى التشميت قبل ذلك وقلنا: هو إما من الشماتة، وإما من الشوامت، والشوامت: القوائم، فكأنك ترفعه وتقيمه، فهذا دليل على أنه تعب في هذه العطسة، فالإنسان حين يعطس فبحسب قوة العطسة، فقد يؤذي هذا الإنسان، ولكنه إذا عطس فإنه يحمد الله أنه أبقى عليه بعدما عطس، فأنت تقول له: يرحمك الله، فتشمته، أي: لا زلت قائماً على قوائمك ما وقعت، فتدعو له بأنه يظل قائماً ولا يقع في مرض ولا في غيره، فتدعو له بذلك، فهذا إذا كان مأخوذاً من الشوامت.
أو من الشماتة كأن تقول له: لا شمت الشيطان فيك، فالشيطان يريد منك أن تقع، وأنا أدعو لك أن يرحمك الله سبحانه تبارك وتعالى ولا يشمت فيك الشيطان، وتشميت العاطس هنا مقيد بأن يحمد الله سبحانه.(83/4)
إبرار المقسم
قوله: (وإبرار المقسم) أي: من البر، فتسدي له خيراً ولا تجعله يحنث في يمينه، فإذا قال: والله إني أريد منك كذا، فتعطيه هذا الشيء طالما أنت قادر عليه، وطالما أنه غير متكلف، فبعض الناس يتكلف ذلك ويستحليه، ففي كل حين يطلب حاجة ويقول: والله أعطني كذا، فمثل هذا لا يستحق الجواب طالما أنه متكلف لذلك وكلما أراد شيئاً حلف عليه، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب أصحابه إذا أقسموا وأحياناً لا يجيبهم، فـ أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمع إنساناً رأى رؤيا من الرؤى فقال: (والله يا رسول الله! اجعلني أعبرها -أعبر لك هذه الرؤيا التي قالها فلان- فقال: عبرها، فذكر أبو بكر رضي الله عنه التفسير لهذه الرؤيا، وكان من أعبر الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم عليه: هل أصبت أم أخطأت؟ فقال: أصبت في أشياء وأخطأت في أشياء، ثم أقسم عليه مرة ثالثة وقال: ما الذي أخطأت فيه؟ فقال: لا تقسم، ولم يخبره).
وبهذا الحديث يظهر لنا أن الإنسان المقسم من السنة أن تبره، إلا إذا كان يستحلي ذلك ويستمر عليه، ففي كل وقت يحلف الشيء ويأخذه، فهنا لا يقسم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبو بكر رضي الله عنه، وكما قالها لغيره عليه الصلاة والسلام، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة الكلام، ونهى عن الإلحاح في السؤال وهو من هذا الباب، فالإلحاح في المسألة ليس من صفات المؤمنين الطيبين كما قال الله تعالى: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273]، فهؤلاء هم المتعففون، وعكسهم الذين يلحفون في السؤال ويبقى أحدهم يسأل: أريد وأريد وأريد، وبالله عليك أريد كذا، فإذا كان الإنسان ملحاً فلك أن تعطيه ولك أن تمنعه؛ تأديباً له.(83/5)
نصر المظلوم
قال: (ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام) متفق عليه.
قوله: (ونصر المظلوم)، فمن حق المسلم على المسلم أن ينصره، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فنصر المظلوم بأن تأخذ له حقه وتعينه على ذلك، ونصر الظالم أن تنصره على نفسه وعلى هواه وعلى شيطانه، وتمنعه من ظلم الغير.(83/6)
إجابة الداعي
قوله: (وإجابة الداعي) هذا من حقوق المؤمن أيضاً، فإذا دعاك إنسان لحفل عرسه، أو إذا دعاك لوليمة، أو إذا دعاك لغير ذلك وأنت تقدر على ذلك وليس عندك عذر فافعل ما طلب منك، فهذا من حق الداعي عليك.(83/7)
إفشاء السلام
قوله: (وإفشاء السلام)، هذا من حقوق المسلمين، وقال صلى الله عليه وسلم: (أفشوا السلام بينكم)، ولم يقل: سلم وكفى، ولكن يفشي السلام، فعادة المسلمين أنه إذا التقى المسلم مع أخيه فإنه يسلم عليه، فنعلم بذلك أن هؤلاء تحابوا في الله، فإذا سلمت عليه وردّ عليك فأنت تؤجر وهو يؤجر، وتنزل المحبة على قلبك وقلبه، فلذلك يحسد اليهود المؤمنين على التأمين في الدعاء وفي الصلاة، وعلى التسليم، فلا يحبون أن يسلم المسلمون بعضهم على بعض؛ ولذلك يطلق الناس النكت على كثرة السلام بينهم، ومصادر هذه النكت هم أعداء دين الله سبحانه من اليهود والنصارى والكفار والمنافقين والمقلدين الإمعات من المسلمين، فيقول بعضهم: ما لك تسلم مرة واثنتين وثلاثاً؟ فالإكثار من السلام يقل المعرفة! وهذا عكس ما يقوله النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد قال: (أفشوا السلام بينكم) صلوات الله وسلامه عليه، والمصيبة أن يجهل المسلمون دين الله ويعرفون ويرددون النكت التي يقولها أعداء دين الله سبحانه! إذاً فهذه من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء، وفي حديث أبي هريرة جعلها حقوقاً للمسلم على المسلم فقال: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس).(83/8)
عيادة المريض
من الأحاديث في الباب: عن أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يابن آدم مرضت فلم تعدني!)، وهل يعقل أن الله يمرض سبحانه؟ لا، ولكن المعنى الذي يريده هنا هو ما فسره سبحانه لعبده يوم القيامة فقال: (مرض عبدي فلان فلم تعده)، لذلك قبل التفسير يعجب العبد فيقول: (يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟!) فقال: (أما علمت أن عبدي فلان مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟)، فالمقصود: أن الإنسان إذا مرض فالله سبحانه عنده، مع أن الله فوق سماواته، بائن من خلقه سبحانه، وهو عند هذا الإنسان بسمعه وبصره وقدرته ورحمته وإجابة الدعوة، فإذا ذهبت وجدت رحمة الله سبحانه، ووجدت ملائكة الله سبحانه، ووجدت الأجر العظيم من الله سبحانه.
فيعاتب العبد يوم القيامة: أنت قادر أن تعود فلاناً فلماذا لم تعده وقد كان مريضاً؟ والمريض كما هو معروف قد يحتاج للعواد وهذا الغالب، وقد يكون ممنوعاً من العيادة وهذا في بعض الحالات، وذلك إذا كان الإنسان في حالة حرجة، فهنا يكفي أن تسأل عنه، فيعلم أنك قد سألت عن هذا الإنسان.
وإذا عدت المريض فلا تثقل عليه ولا تمله، فالمريض قد يحتاج إلى أهل بيته أن يكونوا حوله، فإذا جاءه الضيف فلعله يمله، إذاً فالعيادة تكون بقدر، وإن كانت لا تصح مرفوعة للنبي صلى الله عليه وسلم ولكنها حكم ومعاني، فقد جاء أن العيادة بقدر فواق الناقة، يعني: بقدر أن يسلم الإنسان وينصرف، فلا يمكث عند المريض فيمله.
إذاً فزيارة المريض تكون بقدر ما تسلم عليه وتنصرف، فلا تمكث عند المريض إلا إن احتاج إليك، فإن احتاج إليك في شيء فإنك تجلس عنده بقدر حاجته إليك، ولا تمل المريض حتى لا يمل من العيادة.
قوله: (يقول الله عز وجل: يا بن آدم! استطعمتك فلم تطعمني) أي: طلبت منك طعاماً فلم تفعل ذلك، (قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! فيقول الله عز وجل: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟).
إذاً طلب منك إنسان محتاج الطعام وهو جائع فأطعمه، فإذا جئت يوم القيامة ولم تفعل عاتبك الله، ويعاتبك إذا كنت قادراً على ذلك.
يقول: (يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني! فيقول: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟! يقول: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه! أما علمت أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي؟) رواه مسلم.
ومعنى ذلك: أنك تبذل ذلك ابتغاء وجه الله، والله يحاسب العبد يوم القيامة فيعاتبه على تقصيره في أداء الواجبات، وأيضاً على حرمان نفسه من الثواب.
وعيادة المريض قد تجب على الإنسان وقد تستحب للإنسان، فهذا يعاتب وهذا يعاتب، فالإنسان الذي وجبت عليه يقال له: لم لم تفعل هذا وهو واجب عليك أن تصل الرحم؟ فهذا أبوك مريض وأنت لم تذهب إليه، وتشاغلت بالعمل، وتشاغلت بالسفر، فيجب عليك أن تبر أباك، وأن تبر أمك، وأن تبر رحمك، فإن لم تفعل هذا الشيء فإنك ستجازى عليه يوم القيامة.
والإنسان الغريب ليس واجباً عليه أن يعود إنساناً غريباً لا يعرفه، ولكن لا يقصر في طلب الثواب، فكيف تفرط في هذا الثواب: أن يستغفر لك سبعون ألف ملك؟ ولو استغفروا لك فإن ذلك ينفعك يوم القيامة، ويثقل ميزانك، وتدخل الجنة بذلك، فتعاتب على التقصير في الواجب والفرض، وتعاتب على التقصير في حرمان نفسك من الثواب بالمعاتبة.
وفي حديث رواه البخاري عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني).
فقوله: (عودوا المريض) أي: اذهبوا للمريض فعودوه طالما أنه يحتاج إليكم، وطالما أن العيادة ترفع من روحه المعنوية، وعيادة المريض تذكره بالآخرة، فأنت تتذكر أن هذا كان سليماً مثلك ثم صار الآن مريضاً، وهذا الأمر -أمر المرض- ليس لإنسان واحد ولكن يدور على الناس، وهو مريض اليوم وأنت مريض غداً، ولا تدري لعل مرضه أخف مما سيأتيك أنت بعد ذلك، فاعمل للمستقبل، واعمل لما يكون أمامك، وإذا ذهبت إليه فإنك تنفس له في الأمل وفي الحياة وتقول له: ربنا يشفيك وترجع أفضل مما كنت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمريض: (لا بأس طهور إن شاء الله)، فتنفس له في العمر وفي الأمل، ولعلك تعرف من حال هذا المريض أنه سيموت قريباً، فالأطباء قد عجزوا فلا تقل له: أنت لن تعيش؛ فالأطباء قالوا: إنك في آخر حياتك، كما سمعنا من بعض إخواننا عندما ذهب يزور مريضاً قال له: أنت في آخر حياتك فتب إلى الله عز وجل!! لا تقل له هذا الشيء بل نفس له في العمر، ولا مانع أن تأمره بالتوبة، ولكن لا تقل: ستموت في النهار، وانظروا إلى الشيخ المريض الذي يعلم أنه سيموت في هذا المرض فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس طهور إن شاء الله)، فلما قال الرجل: لا، وما أعجبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (بل حمى تفور، على شيخ كبير، تورده القبور، فقال: فنعم إذاً)، فلم يقل له ذلك إلا لما قال هذا المريض هذا القول، لكن العادة في زيارة المريض أن تدعو له: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشفيك، فلا تجعل المريض يائساً، فيأس المريض يجعله ينسى أمر دنياه وأمر أخراه، ولكن نفّس له، ولا مانع أن تدعوه إلى التوبة إلا إذا دخلت عليه وهو يغرغر ففي هذه الحالة تلقنه الشهادة: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فالأصل في عيادة المريض أنك تسلي عليه، وتواسيه، وتدخل السرور عليه، حتى لو كنت عارفاً أنه سيموت الآن فدع أمره إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، وإذا دعوته إلى التوبة أو لقنته الشهادة فعليك بالأسلوب الطيب الذي يقبله المريض، لذلك ينبغي أن الذي يزور الإنسان الذي في مرض الوفاة أن يكون حكيماً حليماً رحيماً عاقلاً، فالإنسان العاقل ينفع، وأما الإنسان الأحمق فإنه يؤذي، فبعضهم يجلس عند المحتضر يقول له: قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله، قل: لا إله إلا الله حتى يجعله يضجر من ذلك، ولكن تقول أمامه: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا سمع ذلك ردد وراءك فانتفعت وانتفع هو، وإذا قالها وتكلم بعدها بشيء من كلام الدنيا فاعرضها عليه مرة ثانية، حتى يقولها فيختم له بهذه الكلمة: لا إله إلا الله.(83/9)
إطعام الجائع
قوله: (وأطعموا الجائع) أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الغرفات العالية في الجنة: (يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، قال: لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله في الليل والناس نيام، ويقال له يوم القيامة: ادخل الجنة بسلام).
إذاً إطعام الجائع من أسباب دخول الجنة.(83/10)
فك الأسير
قوله: (وفكوا العاني)، العاني: هو الأسير، والمعنى: أن المؤمن إذا أسره الأعداء وأنت تقدر على فكه فإنك تسعى إلى ذلك، ويلزمكم ذلك، ولا يجوز للمسلمين أن يتركوا أسراهم بأيدي الكفار فضلاً عن أن يعينوا الكفار على أن يأخذوا المسلمين من عندهم فيأسرونهم، فالواجب على المسلمين أن يحرروا الأسارى من المؤمنين الذين أسرهم الكفار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وفكوا العاني) أي: ادفعوا أموالكم حتى تخرجوه وتحرروه.
ومن الأحاديث في ذلك حديث لـ ثوبان رضي الله عنه -والحديث رواه مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، فقيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: جناها)، والجنى: هو الثمار الناضجة، فالثمرة إذا نضجت فهي الخرفة، وهذا الإنسان في مخرفة، يعني: في بستان فيه ثمار، فأنت إذا عدت المريض فأنت في بستان مثمر من بساتين الجنة.
وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة -أول النهار- إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عادة عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) أي: كان له بستان في الجنة، فهذا شيء عظيم جداً.
الحديث رواه الترمذي، وهو حديث حسن.
وعن أنس رضي الله عنه، قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده).
أي: أن اليهود يعرفون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أرسله أبوه كي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فأبوه يعرف أنه رسول ومع ذلك لم يسلم! قال: (فقعد عند رأسه)، وهذا يدل على {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك عندما مرض زاره النبي صلى الله عليه وسلم، (فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم الغلام، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار).
فلم يسلم اليهودي الأب، وأمر ابنه بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن مَنَّ على هذا بالإسلام، فأنقذه الله عز وجل من النار، ففي هذا عيادة الإنسان المريض سواء كان مسلماً أو كافراً، فإذا كان كافراً عُرض عليه الإسلام كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(83/11)
شرح رياض الصالحين - ما يدعى به للمريض
يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده بالأمراض والأدواء، وفي ذلك تطهير لذنوبهم وتكفير لسيئاتهم، وقد شرع الإسلام لمن زار المريض أن يدعو له بجملة من الأدعية النبوية رقية وطلباً للشفاء، كما شرع للمريض نفسه أن يدعو بأدعية يطمع بها في رحمة الله تعالى، وشرع له أن يذكر ربه ببعض الأذكار النافعة التي يحرم بها على النار إن مات في مرضه، وذلك دليل الخير للمسلمين.(84/1)
ما يدعى به للمريض
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب ما يدعى به للمريض.
عن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا - ووضع سفيان بن عيينة الراوي سبابته بالأرض، ثم رفعها - وقال: باسم الله تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا)، متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يعوذ بعض أهله: يمسح بيده اليمنى ويقول: اللهم رب الناس! أذهب الباس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً)، متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لـ ثابت رحمه الله: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: (اللهم رب الناس! مذهب البأس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاءً لا يغادر سقماً)، رواه البخاري.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)، رواه مسلم].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله ما يدعى به للمريض، وقد ذكرنا قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بعيادة المريض، وهي سنة عظيمة متأكدة خاصة إذا كان قريباً لك، والله سبحانه يسأل العبد يوم القيامة عن تركه لزيارة المريض، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن الله سبحانه يقول للعبد يوم القيامة: مرضت فلم تعدني.
فيقول: وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول: مرض عبدي فلان فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده)، فالله سبحانه وتعالى عند المريض باستجابته لدعاء المريض، فملائكة الله عز وجل عند الإنسان المريض تصلي على الزائر العائد للمريض، وتدعوا له، فيدعو له سبعون ألف ملك، فإذا كان في أول النهار دعوا له حتى آخر النهار، وإذا كان في آخر النهار دعوا له حتى الفجر، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى في عيادة المريض.
ولذا يستحب أن تزور المريض، ويستحب أن تدعو للمريض، وأيضاً: أن تطلب من المريض أن يدعو لك، فالله عز وجل يستجيب لدعائه، وخاصة إذا كان من إنسان مضطر، كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
فهذا مريض محتاج إلى ربه سبحانه وإلى رحمته، ويستشعر الضعف، فلتطلب من المريض أن يدعو لك، وأنت أيضاً تدعو له.(84/2)
شرح حديث عائشة في رقية المريض
أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى أحاديث عن عائشة وعن أنس وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم فيها دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للمريض، ورقيته أيضاً للمريض عليه الصلاة والسلام، فحديث عائشة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كان به قرحة أو جرح، أي: إذا اشتكى الإنسان الشيء - سواءٌ كان به جراحة، أو قرحة بجسده - فيعوده النبي صلى الله عليه وسلم، ويضع إصبعه صلى الله عليه وسلم على التراب على الإرض، وكان سفيان راوي الحديث يضع سبابته على الأرض، ثم يضعها على المريض فيقول: (باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا)، فيرقي النبي صلى الله عليه وسلم المريض بهذا الدعاء الجميل، فالإنسان مخلوق من تراب، وطعامه في هذا التراب، وشفاؤه أيضاً في هذا التراب، فالنبي صلى الله عليه وسلم ينفث بريقه الكريم، ويضع يده على هذا التراب الذي خلق منه الإنسان، ويدعو ربه أن يشفي هذا المريض، ويقول: (باسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى به سقيمنا، بإذن ربنا).
وجاء في دعائه أنه كان يقول: (اللهم رب الناس! أذهب الباس)، فقوله: (اللهم رب الناس) يعني: يا رب الناس.
(أذهب الباس، واشف، أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك) أي: أن الشفاء بيد الله سبحانه وتعالى، ويخطئ من يتوهم أن الشفاء بيد الطبيب، وأنه إذا ذهب إلى الطبيب شفاه الطبيب، فالذي يشفي هو الله، والطبيب سبب من الأسباب، وقد أمرنا بالتداوي، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أي عباد الله! تداووا؛ فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله) فالشفاء بيد الله سبحانه، فهو الذي ينزل الداء، وهو الذي ينزل الشفاء سبحانه وتعالى، والطبيب سبب من الأسباب، والعلاج سبب من الأسباب، والرقية بكتاب الله وبأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سبب من الأسباب، ثم إذا شاء الله عز وجل شفى المريض بسبب ما أخذ من أسباب، وقد يُعلق الشفاء على دعوة، أو على تداوٍ، أو على غير ذلك، فالله يفعل ما يشاء تبارك وتعالى.
فمن الدعاء: (اللهم رب الناس! أذهب الباس) والبأس: المرض، (واشف، أنت الشافي) أي: أنت وحدك ليس غيرك، (لا شفاء إلا شفاؤك)، فالشفاء بيد الله سبحانه وتعالى، ولا شفاء بيد أحد من خلقه سبحانه، وإذا شفى إنساناً شفاه شفاءً لا يغادر سقماً، ولا يترك أثراً، وهذا شفاؤه سبحانه وتعالى في خلقه.(84/3)
شرح حديث أنس في الرقية
وجاء عن أنس أنه علم ثابتاً تلميذه دعاءً يدعي به للمريض، وأنس كان صحابياً فاضلاً، وهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خدمه عشر سنوات، إذ لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أنس صبياً صغيراً، فأتت به أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه، فخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنوات، ودعا له النبي صلوات الله وسلامه عليه، فـ أنس يعلم تلميذه ثابتاً دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بلى.
فقال: (اللهم رب الناس مذهب الباس) وفي حديث السيدة عائشة (أذهب الباس) فهو رجاء وطلب من الله عز وجل، وأما (مُذهِب) فهو اسم فاعل، فهنا يقول: يا مذهب البأس! (اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاءً لا يغادر سقماً).(84/4)
شرح حديث سعد في الدعاء للمريض بالشفاء
وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم عاده، وقد كان سعد مرض مرضاً شديداً، وظن أنه سيموت من هذا المرض، فذهب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال (اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً)، فشفاه الله سبحانه وتعالى، وهذا من أقصر ما يكون من الدعاء، أن تقول: اللهم اشف فلاناً، اللهم اشف فلاناً.(84/5)
شرح حديث عثمان بن أبي العاص في رقية الألم
ومن الأحاديث أيضاً حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثاً) وهنا الإنسان يرقي نفسه، ويدعو ربه تبارك وتعالى، فيضع يده على ما يؤلمه من جسده ويقول: باسم الله، باسم الله، باسم الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذ) فيكرر ذلك سبع مرات حتى يأتي الشفاء من عند الله سبحانه وتعالى.
فأنت تأخذ بالأسباب، والله يعلق النتيجة على سبب من الأسباب، وقد لا يكون الأمر كذلك، فإن شفاك الله فالحمد لله، وإن لم يفعل ذلك فلحكمة منه سبحانه وتعالى، فالذي علينا هو أن نأخذ بالأسباب كما أمرنا النبي صلوات الله وسلامه عليه.(84/6)
شرح حديث ابن عباس في الدعاء للمريض
ومن الأحاديث حديث رواه الترمذي ورواه أبو داود أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عاد مريضاً لم يحضره أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلا عافاه الله من ذلك المرض) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهل - يا ترى - كل مريض يكون كذلك؟
و
الجواب
هذا مقيد بمشيئة الله سبحانه وتعالى، فإذا شاء الله أن يموت هذا الإنسان من هذا المرض مات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لم يحضره أجله) حتى لا يقول قائل: أنا حضرت ودعوت ولكن الله تعالى ما عافاه فقيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بمن عاد مريضاً لم يحضره أجله، وبعض المرضى قد يكون مرضه آخر مرض ويموت بعده، فادع لهذا الإنسان، وادع لكل مريض، فإن لم يستجب الله عز وجل كان الدعاء عبادة لله سبحانه، وتؤجر أنت على هذه العبادة، فإذا قدر الله عز وجل أن هذا لا يموت في هذا المرض فإنه يشفيه الله ببركة هذا الدعاء، فنقول: (أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك) سبع مرات.(84/7)
شرح حديث ابن عباس: (لا بأس طهور إن شاء الله)
ومن الأحاديث حديث عن ابن عباس في صحيح البخاري (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على من يعوده قال: لا بأس، طهور إن شاء الله) وهذا - أيضاً - من الدعاء الذي يدعى به للمريض، أن تقول: طهور إن شاء الله.
أي: يطهرك الله عز وجل بهذا المرض من الذنوب، ويطهرك من خطاياك، ومعنى: (لا بأس): لا شدة عليك ولا ضياع ولا هلاك عليك من هذا المرض.(84/8)
شرح حديث أبي سعيد في رقية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم
وفي حديث آخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم.
قال: باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، باسم الله أرقيك).
ففي هذا الحديث أن النبي صلوات الله وسلامه عليه اشتكى وطال مرضه من سحر يهودي وهو لبيد بن الأعصم لعنة الله عليه وعلى أمثاله، فاشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فترة، والله عز وجل له حكمة في أن يمرض النبي صلى الله عليه وسلم وأن يطول مرضه، فنقتدي به، فإذا مرض الإنسان منا فإنه يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيصبر كما صبر صلوات الله وسلامه عليه.
فلما اشتكى صلى الله عليه وسلم دعا له جبريل ليرقيه بهذا الدعاء، فقال: (باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك) وهذا دعاء جامع، فقوله: (من كل شيء) معناه: من أي شيء صغير أو كبير، قريب أو بعيد، خطير أو غير خطير، من كل شيء يؤذيك أرقيك باسم الله، أي: باسمه سبحانه وتعالى الذي لا يذكر على شيء إلا وكان من وراء ذلك الخير.
(باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك،) فدعا له بأن يشفيه الله من شر كل إنسان حاسد أو عين حاسدة أو نفس شريرة.
فهذه سنة من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد رقاه بها جبريل عليه السلام فصارت لنا سنة.(84/9)
حكم طلب الرقية
وهل للمريض أن يقول لإنسان: تعال ارقني؟
و
الجواب
يجوز ذلك، والأفضل ألا يفعل؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث في شأن السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: (أنهم لا يسترقون)، أي: ليست لهم عادة بأن يقول المرء منهم لواحد: تعال ارقني.
بل إذا مرض صبر على ذلك، وإذا أراد الرقية رقى هو نفسه؛ لأنه إذا قال: يا فلان تعال ارقني لا يؤمن عليه أن يظن بفلان أن بيده شيئاً، فيشرك بالله سبحانه تعالى، ويعتقد أن فلاناً هذا لو رقاه فسيشفيه الله تعالى، وكأنه ينسى فضل الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، ويقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
فلماذا تذهب إلى فلان؟ ولماذا لا تسأل الله تعالى مباشرة؟ فهنا الخوف على الإنسان من أنه يعتقد أن الشفاء من وراء فلان، وينسى فضل الله سبحانه وتعالى، فالسبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب من صفاتهم أنهم يتوكلون على الله سبحانه، ومن توكلهم على الله أنهم لا يطلبون من أحد أن يرقيهم، وإنما يرقي الإنسان منهم نفسه، فإذا مرضت فارق نفسك بفاتحة الكتاب وبـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين، وبهذه الأدعية الجميلة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا داعي لأن تقول: يا فلان! تعال ارقني.(84/10)
شرح حديث أبي سعيد فيما يقوله المريض في مرضه
ومن الأحاديث التي جاءت في الباب حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه، فقال لا إله إلا أنا وأنا أكبر)، وهذا حديث عظيم جداً، وتظهر فائدته في آخره، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده قال: يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال الله عز وجل: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا إنا ولا حول ولا قوة إلا بي)، فهذه أربع جمل إذا قالها العبد أجابه الله تعالى مصدقاً له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار)، فمن كان لا يريد أن تأكله النار فليقل هذا الحديث، فلتحفظ - أيها المسلم - هذا الحديث، وتشبث به وأنت مريض، ولتقله ليلاً ونهاراً.
و (لا إله إلا الله) كلمة التوحيد، فإذا مت مت على هذه الكلمة، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فإذا وفق الله العبد وهو يموت لأن يقول كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) استحق الجنة، فتقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فتفرده وحده بالعبادة، ولا تشرك به شيئاً، ولا تشرك معه أحداً سبحانه وتعالى، وتقول: (لا إله إلا الله له الملك وله الحمد)، فتثبت لله الغنى سبحانه، وتثبت لله ملك كل شيء سبحانه وتعالى، وتثبت لله أنه وحده الذي يستحق الحمد ويستحق الثناء الحسن بأفعاله الجملية، وصفاته الجليلة سبحانه وتعالى، وتقول: (لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله)، فتبرأ من الحول ومن القوة، وتثبت كل شيء من القوة لله عز وجل، قائلاً: الملك لله سبحانه، والحمد لله، وأما أنا فلا أملك شيئاً، ولا حول ولا حيلة ولا قوة لي على شيء، إلا أن يعينني الله سبحانه وتعالى، فأثبت لله الوحدانية، وأثبت له العبادة، وأثبت له الربوبية بمقتضياتها، وأثني على الله سبحانه وتعالى، وأتبرأ من الحول ومن القوة، وبذلك تستحق من الله أن يكرمك، ولا تطعمك النار، ولا تدخل النار.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(84/11)
شرح رياض الصالحين - سؤال أهل المريض عن حاله وذكر ما يقوله من أيس من حياته
للمريض آدابٌ لا بد أن يلتزم بها، وكذلك لمن يزور المريض آداب، فلا بد للمريض أن يحفظ الذكر الخاص به الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك آية الكرسي.
ولزيارة المريض فضل عند الله سبحانه، ولا بد أن يكون الزائر خفيفاً رقيقاً غير مثقل على المريض في جلوسه، ويدعو له بالشفاء، ويبعث في قلبه الأمل بشفاء الله، وللمستأذن آداب لا بد أن يلتزم بها مبسوطة في مظانها، فينبغي أن تعلم.(85/1)
استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، وذكر ما يقوله من أيس من حياته
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله: عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً)، رواه البخاري.
باب ما يقول من أيس من حياته: عن عائشة رضي الله عنه قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إلي يقول: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى).
وعند أحمد زيادة: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) الحديث متفق عليه.
وعنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت)، رواه الترمذي].
إن كل إنسان يعتريه المرض، وقد يصح من مرضه وقد يموت فيه، فالإنسان يتمسك بهذا الذكر العظيم الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرض في حديث لـ أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله عز وجل: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال الله: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي، وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله.
فلا بد من حفظ هذا الذكر العظيم، وليقله الإنسان المؤمن في مرضه لعله يتوفى في هذا المرض ويكون له أجر عظيم جداً، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يقولها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار).
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ذكر معين إذا كان آخر شيء قلته وختم لك به دخلت الجنة، كقول: لا إله إلا الله، فهذا ذكر، وقراءة آية الكرسي بعد الصلوات، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر الصلوات المكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت).
فأنت إذا انتهيت من الصلاة وقرأت آية الكرسي، لو أنك مت في نفس اللحظة لدخلت الجنة، والمؤمن لما يجد مثل هذه الأحاديث فإنه يحرص عليها، ويحرص على أنه يقولها، ويذكِّر بعضنا بعضاً بذلك، فلما تجد إنساناً متعجلاً بعد الصلاة لحاجة ذكِّره وقل له: اقرأ آية الكرسي واختم الصلاة بها، فليس هناك شيءٌ يمنعك عن ذكر الله عز وجل، وإن كان وراءك قضاء حاجة فاقضها، لكن لا تنس أن تقول هذا الذكر العظيم آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255].
وكذلك هذا الذكر العظيم تقوله في مرضك: (لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا الله له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله) فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قالها في مرضه ثم مات من هذا المرض لم تطعمه النار)، فاحرصوا على هذا الذكر.
ومن الآداب أيضاً: استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، واستحباب عيادة المريض، وجاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض كقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: (إن المسلم إذا عاد أخاه لم يزل في خرفة الجنة -أي في بستان من بساتين الجنة وفي جنى الجنة- حتى يرجع).
وأيضاً في حديث علي رضي الله عنه ذكر: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشياً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة) أي: كانت لك بزيارتك له بستان في الجنة.
فعيادة المريض لها آداب، من ذلك: استحباب سؤال أهل المريض عن حاله، فقد يكون المريض لا يقدر أن يقابل العائد؛ لأن الأطباء منعوا من زيارته، أو منع الأهل من زيارته، فأنت أخذت الأجر بذهابك، وتسأل أهل المريض عن حال المريض، وكان الصحابة يفعلون ذلك مع أهل النبي صلى الله عليه وسلم، ففي مرض النبي صلى الله عليه وسلم يصعب عليه صلى الله عليه وسلم زيارة المسلمين جميعاً له ويشق عليه ذلك؛ لذلك كان أدب المسلمين أنهم يسألون الأقارب، فهذا علي بن أبي طالب كانوا يدخلون عليه فيسألونه رضي الله تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري: (أن علياً رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه -في مرض وفاته عليه الصلاة والسلام- فقال الناس: يا أبا الحسن -يسألون علياً رضي الله عنه- كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصبح بحمد الله بارئاً) يعني: نرجو له أن يبرأ وأن يشفيه الله سبحانه وتعالى، وقال ذلك بحسب ظنه أنه أصبح في النهار وصحته جيدة فنرجو له أن يبرئه الله عز وجل من هذا المرض، ولكن لم يحدث، وكان هذا المرض الذي فيه وفاة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو مستند إليَّ يقول: اللهم اغفر لي وارحمني)، والمريض يدعو إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم اغفر لي) وقد قال له ربه سبحانه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، ومع ذلك يدعو بالمغفرة، فالمؤمن إذا كان مريضاً يدعو من باب أولى، فقال: (اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى).
إذاً: فدعاء الإنسان وهو مريض لعل هذا المرض مما يرجى برؤه، فعلى ذلك قد يصح هذا الإنسان من هذا المرض، وقد يموت، فليحرص على ذكر الله عز وجل، والدعاء بالمغفرة والرحمة، ويدعو بالشفاء، ويرقي نفسه، ويحسن الظن بالله سبحانه وتعالى.(85/2)
ذكر ما يقوله المريض إذا اشتد عليه المرض
وإذا كان المرض قد اشتد على الإنسان المريض حتى أتعبه فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن ييأس، أو يدعو على نفسه بالموت، فإن كان لابد فاعلاً فليدعُ بخير ويقول: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، إذاً: فهنا أرجعت الأمر والعلم إلى الله سبحانه وتعالى، ولعل الإنسان يعيش وهو مبتلى وتكون الحياة شراً له، مع أن المرض يكفر الله عز وجل به من سيئاته، ويرفع به في درجاته، فلعله لا يصبر، ولعله يتضجر من هذا المرض، أو ينعي حظه أنه كيف هو الذي مرض وغيره من الناس صحتهم سليمة، وبذلك ينتقد قضاء الله عز وجل وقدره، فإذا وصل الإنسان إلى القنوط واليأس ضيع ثوابه في هذا المرض الذي قدره الله عز وجل له ليرحمه به.
إذاً: فيدعو بقوله: (اللهم أحيني ما علمت الحياة خيراً لي)، إذا كانت الحياة زيادة في الذكر، وزيادة في العمل الصالح، وزيادة في الخير، وزيادة في الصبر فأحيني طالما أن الحياة خير لي.
(وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)، فإذا كانت حياتي شراً لي بحيث إني لا أقدر على هذا المرض ولا أصبر عليه وأتضجر منه، وأموت على غير ما أحب فتوفني، (إذا علمت الوفاة خيراً لي).
وإذا كان الإنسان في السياق في آخر حياته وعرف أنه يموت فيقول الدعاء الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى)، والرفيق: جنس، والرفيق من الرفقاء، والرفقاء في أعلى عليين عند الله عز وجل، وهذا الحديث في صحيح البخاري ومسلم بهذا الوصف.
في زيادة عند الإمام أحمد تبين من هم الرفقاء قال: (مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، إذاً: فهؤلاء هم الرفيق الأعلى عند الله عز وجل الذين طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه ربه سبحانه بهم.
ومن الأحاديث الذي جاءت هنا في رياض الصالحين: ما رواه الترمذي بإسناد ضعيف عن عائشة رضي الله عنها قالت: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت عنده قدح فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت).
إذاً: فهذا دعاء من الأدعية التي يقولها الإنسان: يا رب أعني على غمرات الموت وسكرات الموت، وكأن الغمرات: المقدمات وشدائد الموت، وسكرات الموت مقدماته التي تقوى على الروح حتى تغيبها عن إدراكها، فيدعو ربه سبحانه أن يعينه على ذلك.
فالإنسان في مرضه يستشعر لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنَّ الله هو الذي يعينه ويقويه، وأن الله هو الذي يمكنه من أن ينطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيدعو ربه سبحانه أن يعينه على ذلك.(85/3)
آداب عيادة المريض
جاء حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه البخاري ومسلم قال: (لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا) يعني: كفانا كتاب الله عز وجل فيه شرع ربنا سبحانه، لماذا نتعب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك؟ قال: (فاختلفوا)، وهنا لا ينبغي أن يختلف عند النبي صلى الله عليه وسلم، بل لا ينبغي أن يحصل عند المريض خلاف أبداً؛ لأن في ذلك مضايقة للمريض وإزعاج له، قال: (فاختلفوا فيما بينهم، فلما اختلفوا وكثر اللغط -يعني: الكلام الكثير- قال: قوموا عني، فقاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ولا ينبغي عندي التنازع) وعلى ذلك رضي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون فيهم كتاب الله وسنتُه صلى الله عليه وسلم.
وابن عباس رضي الله عنه يقول: (إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه) يعني: يا ليتنا كنا صبرنا وسكتنا حتى يكتب لنا ذلك الكتاب، والله أعلم ماذا يكون في هذا الكتاب، وهي وصية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه وتعالى قد اختار لنا كل خير في كتابه وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يحجب عنا خيراً أبداً، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية يلخص لنا أشياء مما جاء في الشريعة، ولعله كان ينص بكلام واضح على أن الذي يأتي بعده هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد أشار إلى ذلك في أحاديث.
لكن الغرض: أنه يستحيل أن يكون شيء من شرع الله عز وجل قد كتم في هذه اللحظة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هاتوا أكتب لكم كتاباً) يعني: بمضمون هذه الشريعة وبما أتيتكم به، وأذكركم بأشياء، ولذلك عمر رضي الله عنه قال: (حسبنا كتاب الله) عندنا كتاب الله وعندنا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هناك زيادة أصلاً في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما سينبه على أشياء عليه الصلاة والسلام مما هو في هذه الشريعة، ومستحيل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقد نقص شيئاً من الشرع لم يقله للناس عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: يؤخذ من هذا الحديث أن الأدب في العيادة ألا يطيل العائد عند المريض حتى يضجره.
فالإنسان الذي يعود المريض لا يجلس عنده فترة طويلة حتى لا يتعبه ويضايقه، وخاصة إذا كان الكلام والخلاف كثيراً بين الناس.
قال: وألا يتكلم بما يزعجه.
إذاً ينبغي في الزيارة ألا ينشغل الزائر بأحاديث جانبية مع أحد الجالسين؛ لأن في ذلك مضايقة للمريض، وهذا لا يليق أبداً، وهذه من الآداب التي تجدها مفقودة كثيراً بيننا، ولذلك تجد أحياناً زيارة المريض تكون ثقيلة على نفس المريض.
ومن الناس من يزو المريض فيشكو له همومه من اختلافٍ أو مرض ونحوه، فيزيد المريض همَّا إلى همِّه؛ ولذلك قال ابن حجر: وألا يتكلم عند المريض بما يزعجه.
وذكر جملة آداب العيادة منها: ألا يقابل الباب عند الاستئذان، وإنما يكون على يمين الباب أو شماله، وهذا من الأدب سواء في عيادة مريض أو في زيارة أي إنسان.
وأن يدق الباب برفق، وأن يدق الباب ثلاث مرات فقط، وكذلك الجرس ونحوه.
فأنت تذهبُ لتزور إنساناً في الله سبحانه وتعالى، إذاً: فترجو الثواب من وراء ذلك، وليس الإثم والعقوبة على ذلك، إذاً: فطرق الباب أو قرع الجرس يكون ثلاث مرات، ولا تزد على ذلك إلا إذا كان الذي تريده ينتظرك وهو الذي استدعاك لتأتي إليه.
وينبغي لمن يطرق الباب ألا يبهم نفسه، وذلك حين تدق الباب فيقال له: من؟ فتقول: أنا، فأنت أبهمت نفسك بقولك: أنا، ولكن قل: فلان أو أنا فلان، وإن لم يسمح لك بالدخول أو قيل لك: ارجع فارجع ولا ضير في ذلك؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
والصحابة كانوا يحبون تطبيق القرآن كله، وكان أحدهم يمر من عمره سنين يتمنى شخصاً أن يقول له: ارجع حتى يطبق هذه الآية: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28].
والغالب أن قوله لك: ارجع صعب على نفسك، وقد تقول: هذا متكبر وهذا مغرور، وهذا لا يجوز، لكن أحسن الظن في الإنسان المسلم، فلعل له عذراً منعه من استقبالك، فلا بد أن تقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم لما ذهب إلى سعد بن عبادة إلى بيته وقال: السلام عليكم، فردوا عليه السلام سراً، ولم يفتحوا للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى: السلام عليكم فردوا عليه السلام سراً ولم يفتحوا له، ثم قالها مرة ثالثة فلم يفتحوا له الباب، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، فأدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا رسول الله! أردنا أن نستكثر من سلامك ومن بركاتك، فعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الاستئذان ثلاث مرات فقط ثم ينصرف، ولم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ في نفسه شيئاً منهم، بل طلبوا منه أن يدخل فدخل وأكل عندهم صلوات الله وسلامه عليه، ودعا لأهل البيت عليه الصلاة والسلام.
يقول لنا الحافظ ابن حجر: أيضاً من الآداب: ألا يحضر في وقت يكون غير لائق بالعيادة، لعلك تزور إنساناً مريضاً والطبيب يداويه وينظف له جرحه، أوتزوره وقت المتابعة، فليس من اللائق أن تزوره في مثل هذا الوقت، فاطْلب من أهل بيته أن يبلغوه السلام وانصرف.
ومن آداب زيارة المريض: أن يخفف الجلوس إذا دخل عند المريض ولا يطيل، وأن يغض البصر، ويقلل السؤال، وأن يظهر الرقة، يعني: الرحمة للإنسان المريض، ولعل العائد يكون به مرض أشد مما في هذا المريض من مرض، لكن جاء ليعود مريضاً لا ليشكو همومه، إلا إذا سألك المريض عن حالك وهو يستأنس بذلك.
ومن الآداب أيضاً: أن يخلص له في الدعاء، وأن يوسع له في الأمل، ويشير عليه بالصبر.
ومن الآداب أيضاً أن يجتنب البدع في زيارته للمريض، فلا يقول شيئاً ليس من السنة، ولا يخترع دعاء مخالفاً للسنة، أو يعتبر أوقاتاً للزيارة ويقول: هذه من السنة، إلا إذا ثبت بها أحاديث عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول لنا ابن الحاج في المدخل: ينبغي له أن يحترز من هذه البدعة، فقد كان في زمانهم بدعة، وهي: المنع من العيادة يوم السبت، وشاعت هذه البدعة على كثير من المسلمين، حتى ذكر أن بعضاً من أهل العلم قالوا: ليس من السنة العيادة في يوم السبت، وحاولوا أن يجد لها أصلاً من الأحاديث، ولما رجعوا لأصلها وجدوا أنها ليهودي قالها وانتشرت بين المسلمين.
قال ابن الحاج: أصلها أن يهودياً كان طبيباً لملك من الملوك، فمرض الملك مرضاً شديداً، وكان اليهودي لا يفارق عيده، وكان عيده يوم السبت، وكان هذا اليهودي يطبب الملك، فجاء يوم الجمعة فأراد اليهودي أن يمضي إلى سبته، فمنعه الملك فمكث بجوار الملك، فأخذ يؤلف أحدوثة تجعله يهرب يوم السبت من هذا الملك، فقال للملك: إن المريض لا يُدخَل عليه يوم السبت ولا ينبغي أن يدخل عليه، فقد يحصل للمريض شيء، فتركه الملك، فنشر اليهودي هذه البدعة حتى قالها بعض المسلمين، ثم شاعت بعد ذلك هذه البدعة وصار كثير من الناس يعتمدونها، حتى إني رأيت بعض الفضلاء ممن ينسب إليه العلم والصلاح ينسبها إلى السنة.
ومن الآداب ما ذكره الإمام القاسمي في جوامع الآداب في أدب عيادة المريض يقول: خفة الجلسة، وقلة السؤال، وإظهار الرقة، والدعاء بالعافية، والأحسن في العيادة أن يستخبر من أهله، وأن يجتمع بهم وحدهم أو يهدي إليه السلام.
أيضاً من الآداب: أنه لا يثقل على الإنسان المريض في الجلوس، حتى ولو كان المريض يقول له: اجلس، فقد يقولها أدباً، والزيارة تكون قصيرة وينصرف.
يقول الشعبي: عيادة حمقاء القراء أشد على المريض من مرضه.
أي: أن الإنسان الأحمق عيادته للمريض أشد على المريض من مرضه، قال: يعودونه في غير وقت عيادة، ويطيلون الجلوس عنده.
ويقول ابن سيرين: إذا أتيت منزل قوم فلم ترض بما يأكلون، وسألتهم ما لا يجدون، وكلفتهم ما لا يطيقون، وأسمعتهم ما يكرهون فإن لم يخرجوك فهم لذلك مستأهلون.
فالغرض: أن الإنسان الذي يزور المريض لا يكون ثقيلاً عليه، ولا يضايقه بكثرة السؤال، لكن يسأل عن حاله وينصرف، وإذا قيل له: ارجع، فليرجع، والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(85/4)
شرح رياض الصالحين - من (جواز توجع المريض ما لم يتسخط) إلى (ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت)
لقد أحل الله لعباده أموراً إحساناً وتكرماً منه لهم، وحرم عليهم أموراً أخرى رأفة وشفقة بهم، ومما أحل الله لعباده وأجازه لهم إظهار التوجع والألم للآخرين، ليعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضاً، لا على وجه التسخط.
فإذا مات منهم أحد استحب لمن يحضره أن يلقنه الشهادة عند احتضاره، وأن يغمض عينيه عند موته، وأن يدعو له بالرحمة والمغفرة، ثم يتبع دعائه للحاضرين من الأحياء، وأن يخلف الميت في أهله وأولاده خلفاً حسناً.(86/1)
حكم إظهار التوجع والألم للغير
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز قول المريض أنا وجع، أو شديد الوجع، أو موعوك، أو وارأساه ونحو ذلك، وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على التسخط وإظهار الجزع.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً.
فقال: أجل.
إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: بلغ بي ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، وذكر الحديث.
متفق عليه.
وعن القاسم بن محمد قال: قالت عائشة رضي الله عنها: (وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه!) وذكر الحديث.
رواه البخاري].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله، وفيه جواز قول المريض: أنا وجع، أو شديد الوجع.
يعني: أن الإنسان في مرضه يتألم ويتوجع.
وكان بعض الصالحين من السلف لا يحب أن يظهر التوجع ولا يرفع صوته لإظهاره، وكان البعض يرى ذلك مباحاً جائزاً.
فهنا الإمام النووي يقول: هذا لا كراهة فيه، فلا بأس بقول الإنسان: آه، أو أنا وجع، أو أنا أتألم لكن بشرط ألا يكون ذلك من باب التسخط على الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان الذي يتسخط على قضاء الله وقدره يضيع أجره في ذلك، ولا يملك لنفسه شيئاً إذ قد نزل المرض، ووقع البلاء، ولا يرفعه إلا الله سبحانه وتعالى.
فمن صبر ورضي فله الرضا والأجر، ومن تسخط على ذلك فاته الأجر على ذلك، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.(86/2)
صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله للأذى
ورد في هذا الأمر حديث ابن مسعود وهو حديث متفق عليه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك يعني: في مرض موته صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد مرض مرضاً شديداً، وارتفعت حرارته صلى الله عليه وسلم، فكانت الحمى شديدة عليه عليه الصلاة السلام، يقول ابن مسعود: (فمسسته) أي: مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينظر حرارته، فوجد حرارته عالية جداً عليه الصلاة والسلام، قال: فقلت: إنك لتوعك وعكاً شديداً، أي: الحمى بلغت بك أمراً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أجل) يعني: نعم.
(إني أوعك كما يوعك رجلان منكم) وسبحان الله! كم عانى النبي صلوات الله وسلامه عليه في هذه الدنيا فلقد ابتلي مدة حياته صلوات الله وسلامه عليه بلاءً صعباً منذ دعا إلى ربه سبحانه، فكان يتعرض للأذى من القوم الذين كانوا يؤذونه صلى الله عليه وسلم، ويؤذون أصحابه عليه الصلاة والسلام، فيؤذونه ويحاربونه صلوات الله وسلامه عليه، ويحاربون دعوته وهو يصبر على ذلك كله صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد تعرض للأذى صلى الله عليه وسلم في كل يوم ومع ذلك يصبر على الأذى صلوات الله وسلامه عليه، ويكفي ما يتعرض له النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة من إيذاء له من أقربائه، فقد كان عمه أبو لهب يسير وراءه صلى الله عليه وسلم ليكذبه وهو يدعو القوم لدين الله، فيقول: نحن أعلم به، إنه يكذب عليكم.
وينفر الناس ويصدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أبناء عمه صلوات الله وسلامه عليه من آذاه، فمنهم من تزوج بابنة النبي صلى الله عليه وسلم وأرغمه أبوه أن يفارقها ويطلقها حتى يكيد للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وآذاه أهل مكة حتى خرج إلى الطائف يرجو أن يفتح الله عز وجل له هناك، فاستقبلوه استقبالاً قبيحاً حيث خرج أوباش القوم واصتفوا له صفين يرمونه بالحجارة صلوات الله وسلامه عليه حتى أدموا قدميه عليه الصلاة والسلام، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة والقوم في غيض منه عليه الصلاة والسلام، وظل يدعوهم إلى الله وهم يأبون ذلك، ويؤذونه ويؤذون أصحابه، فيمر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يعذبون في مكة كآل ياسر مثلاً فلا يملك لهم شيئاً عليه الصلاة والسلام، ويرى أتباعه وهم يعلقون ويضربون ويجلدون ويقتلون فلا يملك أن يفعل لهم شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، ولقد اجتمع عليه الكفار ذات يوم، وقاموا له قومة رجل واحد يريدون ضربه وقتله صلى الله عليه وسلم، فلم يجرؤ أحد أن يخرج إلى هؤلاء إلا أبا بكر رضي الله تعالى عنه حيث خرج قائلاً: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله؟! فيدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فيضربونه ضرباً شديداً حتى يقع مغشياً عليه رضي الله تعالى عنه، فانظروا! فعلوا ذلك في أبي بكر، فما كانوا ليصنعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم؟! فحمل أبو بكر إلى بيته وغدائر شعره تسقط في يده من شدة الضرب، فحمل إلى البيت وهو يسبح ربه سبحانه وتعالى، ويتعجب لصنيع الكفار بالنبي صلى الله عليه وسلم وبه رضي الله تعالى عنه.
فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من شدة الأذى والبلاء وبعد التكذيب العظيم الذي وجده في مكة ابتلي في المدينة صلوات الله وسلامه عليه بالكفار اليهود، والمنافقين، وبضعاف الإيمان ممن كانوا معه عليه الصلاة والسلام، وخاصة بالمفتونين منهم، ومات أولاد النبي صلى الله عليه وسلم وماتت بناته صلوات الله وسلامه عليه واحدة تلو الأخرى وهو يصبر، وقبل ذلك مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة، وهذا كله كان في مكة والمدينة، وأما بناته صلى الله عليه وسلم فمتن كلهن قبله عدا فاطمة رضي الله عنها، إذ ماتت بعده بستة أشهر صلوات الله وسلامه عليه، وصبر صبراً عظيماً، وفي يوم بدر في هذا اليوم الصعب الشديد الذي كان عدد المؤمنين فيه عدداً قليلاً وأسلحتهم قليلة جداً، وكان الكفار عددهم ثلاث أضعاف المسلمين، وكانوا مجهزين بالأسلحة وقاصدين قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يتصبر بربه سبحانه، ويقاتل ويجاهد فينصره الله سبحانه، وهو في هذا النصر يأتي إليه خبر وفاة ابنته صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: فهذا النصر الذي يفرح به المسلمون لم يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً كاملاً، فقد ماتت ابنته صلوات الله وسلامه عليه.
فكتم أحزانه ودارى شعوره صلوات الله وسلامه عليه، وأظهر الفرح مع المسلمين؛ حتى لا يغمهم في هذا اليوم الذي فرحوا فيه بنصر الله سبحانه وتعالى، فأذى بعد أذى للنبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عز وجل له، فلما فتح له صلوات الله وسلامه عليه إذ به ينزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2] أي: فاستعد للآخرة فإنا سنقبض روحك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]، فكم عانى وكم ابتلي صلوات الله وسلامه عليه، فمن ابتلاه الله عز وجل وأراد أن يتصبر فليقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو الأسوة الحسنة، والقدوة العظيمة الطيبة صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد ظل به البلاء حتى في مرض وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا من درجاته العظيمة عند الله سبحانه، حيث أراد له أعلى الدرجات، ولن ينالها إلا بالمشقة والتعب صلوات الله وسلامه عليه، فلما كان في مرض وفاته شدد عليه في المرض عليه الصلاة والسلام، فوعك وابتلى بمرض يبتلى به رجلان صلوات الله وسلامه عليه، فكان يقول: (إني أوعك كما يوعك رجلان منكم)، فكان يتألم من المرض ويصبر عليه صلوات الله وسلامه عليه.(86/3)
نماذج من إظهار النبي والصحابة التوجع للغير
جاء في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي، فقلت: (بلغ بي ما ترى وأنا ذو مال) فهو يشكي للنبي صلى الله عليه وسلم ما بلغ به من المرض، وقد ظن سعد بن أبي وقاص أنه سيموت في هذا المرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبره بأنه لن يموت في ذلك المرض، بل سيعمر فوق ذلك، وحدث ما قاله صلوات الله وسلامه عليه.
فـ سعد بن أبي وقاص شكى للنبي صلى الله عليه وسلم وجعه فلم ينكر عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه تلك الشكوى، فلما اشتكى وجعه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (بلغ بي ما ترى وأنا ذو مال) أي: عندي مال، (ولا يرثني إلا ابنتي) وكان في ذلك الحين يظن أنه سيموت، فأراد أن يتصدق بماله كله، فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: النصف، فقال: (لا، قال: الثلث، قال: الثلث والثلث كثير) أي: لك أن توصي بالثلث والثلث أيضاً كثير، وقال له: (لعل الله سبحانه وتعالى أن يمد لك في عمرك)، وكان ما قال، حيث عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمناً طويلاً.
ومن الأحاديث حديث جاء فيه أن عائشة قالت في يوم من الأيام: وارأساه! حيث اشتكت صداعاً أصابها رضي الله تعالى عنها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم راجعاً من جنازة عليه الصلاة والسلام وهو أيضاً يشتكي من رأسه عليه الصلاة والسلام، حيث أصابه صداع في رأسه، وكان ذلك هو بدء مرض وفاته عليه الصلاة والسلام.
فالسيدة عائشة تشكو من الصداع وتقول: وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (بل أنا وارأساه) أي: أنا أتألم أكثر منك، ثم قال: (ما ضرك لو أنك مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك) وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم إخبار بأحكام شرعية وهي أن السيدة عائشة رضي الله عنها لو ماتت قبل النبي صلى الله عليه وسلم لقام هو عليها فغسلها وكفنها وصلى عليها.
وكونه يقول ذلك فيه جواز أن يغسل الرجل امرأته بعد وفاتها، فالنبي صلى الله عليه وسلم لن يتكلم إلا بوحي من الله عز وجل، ولن يفعل إلا ما يجوز، فيقول: (ما ضرك أن لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك) فهذا قاله صلى الله عليه وسلم وبدأ به الوجع من ذاك الحين.
فالشاهد من الحديث: أن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (وارأساه!) متوجعه من الصداع ولم ينكر عليها النبي صلى الله عليه وسلم، بل قال هو أيضاً: (بل أنا وارأساه) عليه الصلاة والسلام، ففيه جواز قول المريض: إني أتوجع، أو رأسي يؤلمني، أو بي مرض، أو الألم شديد بي، بشرط ألا يكون على وجه التسخط، بل الإخبار عما به مع عدم المبالغة في ذلك.(86/4)
استحباب تلقين المحتضر: لا إله إلا الله
باب آخر: يقول الإمام النووي: [باب تلقين المحتضر لا إله إلا الله].
والمحتضر: هو الذي تحضره الملائكة، أو هو الذي يحضره أجله.
المقصد منه: أنه في سكرات الموت.
عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) حديث صحيح، رواه الإمام أبو داود والحاكم.
والحديث فيه: أن من كانت آخر كلمة قالها قبل وفاته هي قول: لا إله إلا الله، دخل الجنة.
وهذه بشارة عظيمة للإنسان المؤمن، وهي من علامات حسن الخاتمة.
وقول: لا إله إلا الله هي علامة على شهادة التوحيد كلها، فتقول عند الاحتضار: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله، وهذا كقولنا سورة الحمد، فالمقصود بها سورة الفاتحة وليست آية الحمد فقط، فكذلك قوله: (من قال: لا إله إلا الله) يعني: من قال كلمة التوحيد التي يدخل بها الإنسان الإسلام فيقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) أي: أن يقول: لا إله إلا الله، ذكرنا قبل ذلك: أن الإنسان المريض يستحب له أن يقول هذه الكلمة ويكثر منها مع كلمات غيرها حيث إن الله عز وجل يرد عليه في ذلك الذي يقول، فإنها مناجاة بين العبد وبين ربه، فإذا قال: لا إله إلا الله والله أكبر، رد عليه ربه إن هذا الذي تقوله صحيح، لا إله إلا أنا وأنا أكبر، فإن قال: لا إله إلا الله وحده، يرد عليه ربه: لا إله إلا أنا وحدي، وإن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يرد عليه ربه سبحانه: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، فإن قال المريض: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد أجابه ربه بذلك، وإن قال: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أجابه ربه بذلك.
إذاً: فيستحب للمريض في مرضه أن يكثر من ذلك، فإنه إذا قال ذلك ومات عليه كان له الجنة عند ربه.
فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حث من يَحْضر محتضراً أن يلقنه: لا إله إلا الله، وأن يحرص على أن يكون آخر ما يقول هذه الكلمة، فإذا قال بعدها شيئاً آخر غير لا إله إلا الله يستحب أن يلقن مرة أخرى بحيث يكون آخر ما يقوله لا إله إلا الله، وذلك من غير إزعاج للمريض في هذه الحالة.
وقد جاء أناس إلى عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وهو في مرض وفاته فقالوا له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا إله إلا الله، وهو إمام عظيم من أئمة المسلمين، وله السبق على غيره في الحديث، والفقه والجهاد في سبيل الله سبحانه، والكرم والتقوى، والورع فرضي الله تعالى عنه.
فقالوا: قل لا إله إلا الله، ثم قالوا له ثانية: قل لا إله إلا الله، ولم يزالوا به على ذلك حتى أضجروه، فقال يعلمهم رضي الله عنه: إذا قال الإنسان لا إله إلا الله فلا تعد عليه حتى يقول غيرها.
فعلمهم وهو الفقيه رضي الله عنه وهو في حالة الاحتضار.
ومن هذا تعلم أن المحتضر إذا قال: لا إله إلا الله فلا يعاد عليه إلا إن غير وأنشأ كلاماً آخر غيرها فيستحب أن يكرر عليه ثانية إلى أن يقول هذه الكلمة.
أما أن يكرر عليه وإن لم ينشئ كلاماً آخر حتى يمل وينزعج فهذا لا ينبغي؛ إذ لعلك تقول له ذلك فيقول: شيئاً آخر، أو يسكتك مغضباً، أو يتلفظ بغيرها، فيموت على ذلك، ولذلك نقول: لا ينبغي التكرار عليه، بل يمكن أن يعرض له بذلك تعريضاً.(86/5)
بيان فضل كلمة التوحيد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) وهذه الكلمة كلمة سهلة جداً على المؤمنين، وهي أصعب ما تكون على المنافقين والفجار في وقت الوفاة، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] أي: يثبتهم الله وهم في سياق الموت فيقولوا: لا إله الله، فيفرحوا وتنشرح صدورهم بها، ويثبتهم وهم في القبر حين يأتيهم الملائكة فيسألون أحدهم من بربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيثبته الله عز وجل ويجيب الملائكة بأن ربه الله، وأن دينه الإسلام، وأن نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه.
وهذه الكلمة كلمة عظيمة جداً، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)، وكان أعظم الذكر في أعظم المواقف وهو يوم عرفة قول: لا إله إلا الله، بل اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء؛ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) وأخبر أن: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وذكر في حديث آخر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه).
فمفتاح الجنة هو: لا إله إلا الله، بشرط أن تأتي بهذه الكلمة العظيمة وبشروط هذه الكلمة، فما من مفتاح إلا وله أسنان، فباب الجنة يفتح بلا إله إلا الله، وأسنان هذه المفتاح هي شروطها، بأن تقولها وأنت موقن بذلك، وأن تعلم معناها؛ إذ لا يكفي أن يقولوها الإنسان ولا يدري ما معناها ولا يأبه لها، أو يقولها ويشرك بالله سبحانه وتعالى، أو يقولها نفاقاً ورياء بل لا بد من العلم، واليقين، والقبول، والانقياد، والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فإذا أتى الإنسان بلا إله إلا الله وشروطها تامة استحق أن يكون من أهل الجنة.
وأما إذا قصر في شيء فأخر عن دخول الجنة فهو بسبب تقصيره، والله أعلم.(86/6)
بيان ما يستحب لمن حضر ميتاً
باب ما يقوله بعد تغميض الميت.
إذا مات الإنسان وعنده أحد فيستحب له أن يغمض عينيه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الروح إذا خرجت تبعها البصر؛ إذ الميت ينظر إلى روحه وهي تخرج وتصعد إلى السماء، فالسنة في هذا تغميض عين الميت؛ حتى لا يبقى منظره مفجعاً وغير حسن.
فإذا أغمضت عينيه فادع له بخير، ففي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره، فأغمضه عليه الصلاة والسلام، ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، فضج ناس من أهله) وكأنهم كانوا غير عالمين بموته، فلما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ضج ناس من أهله ورفعوا أصواتهم بالبكاء، فقال: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير) أي: احذروا ولا تدعو على أنفسكم إلا بخير عند قبض روح الميت؛ لأن الملائكة موجودة، فإذا دعا الإنسان على نفسه بالويل والثبور، أو دعا على نفسه بالمصيبة فإن الملائكة تؤمن على ما يقول.
وإذا دعا بخير له وللميت فإن الملائكة تؤمن على ما يقول أيضاً، فاختر لنفسك، فالإنسان العاقل يعلم منذ أول الوقت أن الملائكة حاضرة، وأنها ستؤمن على ما يُدعى به، فيستغل الفرصة ليدعو بالخير والرحمة للميت، ثم يدعو بالرحمة للأحياء، ويدعو أيضاً بالخير لنفسه ولغيره في هذا الوقت.
فهنا لما ضج الناس من أهل أبي سلمة رضي الله عنه قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) ثم علمهم صلى الله عليه وسلم ودعى فقال: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين! وأفسح له في قبره، ونور له فيه) فيستحب في الدعاء للميت هذا الدعاء الجميل العظيم الذي قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فتدعو للميت بقولك: اللهم اغفر لفلان، أو للميتة بقولك: اللهم اغفر لفلانة، وارفع درجته في المهديين، أي: فيمن هداهم الله وجعلهم أصحاب الدرجات العلى، واجعله معهم في الدرجات العلى، أي: مع هؤلاء الذين هديتهم ورفعت درجاتهم، فهديتهم يا ربنا بالإسلام، وبالهجرة إلى رسولك عليه الصلاة والسلام.
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واخلفه في عقبه في الغابرين) هذا دعاء لله عز وجل بأن يخلف أولاد هذا الميت.
وإنك مهما تختار من رجل ليخلفك على أولادك فلن يكون رجلاً كاملاً؛ إذ كل إنسان فيه نقص، أو لعله يقوم بالأمر الذي تريده ولعله لا يقوم، وأما أن يكون الله هو من يخلفك على أولادك فإنه يكفيك سبحانه، وكفى بربك سبحانه حافظاً ووكيلاً وخليفة على أهلك سبحانه وتعالى.
قال: (واخلفه في عقبه من الغابرين) يعني: كن أنت الخلف في عقبه ولا تحوج عقبه إلى أحد، فأنت يا رب وكلناك بأن تقوم بأمر أولاده وأهله، وتلبي أمورهم.
وقوله: (في الغابرين) من غبر بمعنى: من بقي في عقبه، أي: فكن أنت يا ربنا الوكيل والمتكفل بأمرهم، والمدبر لشئونهم، والحافظ والراعي لهم.
ثم تقول: واغفر لنا وله يا رب العالمين! فالإنسان لا ينسى نفسه من الدعاء أن يغفر الله له في وقت الموت؛ لأن الملائكة تؤمن على الدعاء فادع لنفسك بالخير.
قال: (واغفر لنا وله يا رب العالمين؛ وأفسح له في قبره) يعني: وسع له في قبره.
ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن القبر إما أن يوسع لصاحبه، وإما أن يضيق على صاحبه.
إذاً: فالقبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، فالإنسان يدعو للمتوفى أن يفسح الله له في قبره، فهذا القبر الذي تراه ضيقاً يوسعه الله على عبده المؤمن مد بصره، فإذا حط المؤمن في هذا القبر، وذهب من عنده المشيعون إذا بالله عز وجل يضم عليه قبره، ثم يوسع له بفضله ورحمته سبحانه، فيصير القبر واسعاً جداً، حيث: يمد له مد بصره، ويصير له روضة من رياض الجنة، أو أنه يكون عذاباً على الكافر والفاجر فيكون حفرةً من حفر النار، والعياذ بالله.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي سلمة أن يفسح الله له في قبره.
وقال: (ونور له فيه) أي: اجعل فيه النور، ولا تجعله مظلماً عليه.
فهذا مما يقال في الدعاء للميت وقت خروج روحه أو بعد طلوعها.(86/7)
استحباب الدعاء للميت ولمن مات له ميت
باب ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت.
هذا باب آخر وفيه حديث عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حضرتم الميت أو المريض فقولوا خيراً؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون) ومعنى يؤمنون: يقولون آمين، وآمين معناه: اللهم استجب، (فلما مات أبو سلمة قالت أم سلمة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن أبا سلمة قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولي: اللهم اغفر لي وله، وأعقبني منه عقبى حسنة) أي: أخلف علي من ورائه الخلف الحسن أو العقبى الحسنة، وهو بمعنى: عوضني عنه عوضاً حسناً.
قالت: فأعقبني الله من هو خير لي منه، وقد كانت متعجبة: مَن خير من أبي سلمة؟ وما كان يخطر ببالها أن يتزوجها النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك لما نظرت في الصحابة رأت زوجها أفضل شخص فيهم، ولم يخطر ببالها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قالت ذلك كان الزوج الذي بعد أبي سلمة هو سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فأعقبني الله من هو خير لي منه: محمداً صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
وفي رواية: (إذا حضرتم المريض أو الميت) وفي رواية: (الميت بلا شك)، ففيها أنه يستحب ذلك.
وفي رواية أخرى عنها: (أنها قالت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن لله وإنا إليه راجعون) أي: أن هذه الكلمة أيضاً تقال وقت المصيبة، فـ أم سلمة هي رواية هذا الحديث والحديث السابق، فهي تقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أؤجرني في مصيبتي) أي: أعطني الأجر في هذه المصيبة (واخلف لي خيراً منها، إلا أجاره الله) أي: أعطاه الأجر في مصيبته (وأخلف له خيراً منها.
قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم) هذا الحديث رواه مسلم، وفيه زيادة قول: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وهي كلمة تطمئن العبد وتجعل نفسه هادئة غير مثارة، وهي تعني: أننا لله سبحانه، فهو يملكنا سبحانه، وهو الذي أخذ هذا وسيأخذني كما أخذه، فكلنا راجعون إليه سبحانه.
فإذا تذكر الإنسان هذا اطمأنت نفسه بالرجوع إلى الله عز وجل وبذكر الله كما قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
نسأل الله العفو العافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(86/8)
شرح رياض الصالحين - ما يقوله من مات له ميت وجواز البكاء على الميت بغير ندبة ولا نياحة
بالصبر ينال العبد عند الله المنازل العالية في الآخرة، والعوض في الدنيا بما هو خير مما فاته، وبالجزع يفوته كل ذلك، ويزداد عقوبة وندامة.
نعم تحزن النفس وتدمع العين ولكن اللسان لا يلفظ إلا بالشكر، ولا ينطق إلا بالفضل ورجاء العوض والخلف من الله تعالى.(87/1)
شرح حديث (إنا لله وإنا إليه راجعون)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ما يقال عند الميت وما يقوله من مات له ميت: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، إلا أجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيراً منها).
قالت أم سلمة رضي الله عنها: (فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد، قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
ذكرنا في الحديث السابق: أن الإنسان إذا حضر من يحتضر أنه يستحب له أن يلقنه لا إله إلا الله، ولا يمله بذلك، ولا يكثر عليه، فإن وجده تكلم بغير ذلك أعاد عليه مرة ثانية ليذكره أن يقول: لا إله إلا الله، والحاضرون عند الميت إذا قبضت روحه استحب لهم أن يدعوا له ولأنفسهم بالخير، ويحذروا من أن يدعوا على أنفسهم، فإن الملائكة تؤمن على ما يقول الإنسان في هذه الحال، فإذا دعوا على أنفسهم أمنت الملائكة.
ويستحب أيضاً لمن يبتلى بمصيبة من مصائب الدنيا كموت أو غيره أن يقول كما قالت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي) تعني: أعطني الأجر في هذه المصيبة، (واخلف لي خيراً منها)، وهذا الدعاء علمه صلى الله عليه وسلم لـ أم سلمة فدعت به، فكان الذي هو خير من أبي سلمة وهو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فأخلف الله لي خيراً منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فمن المستحب عند المصيبة أن تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها، تسلية للنفس بذلك قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذه الكلمة ذكرها الله عز وجل في كتابه، فقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ورتب على ذلك الأجر والثواب فقال: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157].
وقد تلاها عمر رضي الله عنه فقال: (نعم العدلان ونعمت العلاوة).
العدلان هما ما يحملان فوق البعير من أمتعة ويعادل وزنهما بين الجانبين حتى لا يكون شق الجمل مائلاً، والعلاوة ما فوق الاثنين، فقال عمر رضي الله عنه في ثواب الله سبحانه: نعم العدلان ونعمت العلاوة، فأنعم به من شيء ما تفضل الله وتكرم على عبده فأعطاه من هداية ومن فضل منه سبحانه ومن صلاة عليه {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، فيصلي عليهم ويثني عليهم ويرحمهم ويهديهم سبحانه وتعالى.
قوله: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، تأمل هذه الكلمة: فهذا الإنسان قد توفي، وهذه النعمة سلبت وأخذت، وهذا المال قد ضاع، ونحن أيضاً سنلقى نفس المصير (إنا لله)، فنحن ملك لله سبحانه، والله خلقنا وهو يملكنا، ونحن عبيده سبحانه تبارك وتعالى، ثم المرجع إلى الله سبحانه، ولا بد وأن نذوق جميعاً الموت فنرجع إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم يدعو المصاب والمبتلى بما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها)، ولينتظر الخير من وراء ذلك.(87/2)
شرح حديث (أقبضتم ولد عبدي؟)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟)، فلله سبحانه أن يبتلي من يشاء من عباده بما يشاء سبحانه، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا غالب لأمره تبارك وتعالى، والأصل أن الإنسان لا يتمنى المصيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فاثبتوا)، لكن إذا نزلت المصيبة فعلى الإنسان أن يتصبر {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
ففي الحديث: أن العبد إذا ابتلاه الله فمات له ولد -ابنه أو ابنته- فالله عز وجل يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه تبارك وتعالى، ويريد أن يباهي بعبده هذا أمام الملائكة، وأن هذا العبد يستحق الرحمة، ويستحق المدح، فأنتم قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟} [البقرة:30]، لكن انظروا ما ردة فعله؟ فالله يسأل الملائكة وهو أعلم سبحانه، يقول: (قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم.
فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟)، فأغلى شيء عند الإنسان هو ثمرة قلبه وفؤاده، أقبضتموه؟ فتقول الملائكة: نعم.
فيقول الله وهو أعلم سبحانه: (فماذا قال عبدي؟) وهو أعلم سبحانه، ولكن أراد سبحانه أن يباهي بعبده هؤلاء الملائكة، فتقول الملائكة لله تبارك وتعالى: (حمدك واسترجع) يعني: قال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون، فيقول الله سبحانه تبارك وتعالى: (ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد)، وهذا علامة على حمد هذا العبد وعلى صبره، فيجعل الله عز وجل له بيتاً يليق بصبره على هذه المصيبة العصيبة، وليس أي بيت ولكن بيت في الجنة ومن قصور الجنة العظيمة، بل ميزوا هذا البيت بهذه التسمية: بيت الحمد، فمن يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى والله يعطيه الأجر العظيم.
فإذا أنعم الله عز وجل على عبد بنعمة فحمده العبد كان هذا الحمد من العبد أحب إلى الله من النعمة التي أعطاها لعبده، وهذا كله من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه نعمة وهذه نعمة، وكله من الله، فالله هو الذي رزق العبد المال والطعام والشراب والولد والإيمان، وهو الذي وفق العبد لهذه الكلمة، ودله عليها، وهداه إليها، فإذاً نعمتان من الله: نعمة الرزق، ونعمة الحمد.
فالعبد يقول: الحمد لله، فينسب الله عز وجل ذلك للعبد، وإن كان هو صاحب هذا التوفيق سبحانه تبارك وتعالى، ويقول: هذا الذي من العبد أحب إلي من هذه النعمة التي أعطيتها له، فإذا كان الحمد لله سبحانه تبارك وتعالى له هذه المزية العظيمة، فكيف يكون ثواب الحمد ببيت يسمى بيت الحمد عند الله؟! إن (الحمد إذا قورن بثواب الذكر كان الحمد أعلى في الثواب، فالعبد يقول: سبحان الله، فيؤجر عشرين حسنة، ويقول: الله أكبر، فيؤجر عشرين حسنة، ويقول: الحمد الله، فيؤجر ثلاثين حسنة.
فإذا مات للإنسان ولد أو حبيب وقال: الحمد لله، إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فإن الله عز وجل يجعل لهذا الذي توفي ابنه بيتاً في الجنة ويسميه بيت الحمد، ويباهي الملائكة بهذا العبد الذي حمد الله واسترجع.(87/3)
شرح حديث: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه)
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة).
فالصفي المقصود به: الذي تحبه وتصطفيه من الناس، سواء كان ابنك، أو أباك، أو أخاك، أو صديقك، أو امرأتك، الصفي هو الذي يقربه الإنسان إلى قلبه، فيحبه ويحزن ويجزع عليه، فإذا قبضه الله تبارك وتعالى وصبر العبد على ذلك.
واحتسب وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا العبد له عند الله الثواب العظيم، فله الجنة، فلا يعطيه مالاً أو رزقاً في الدنيا، فهو يستحق أعظم من ذلك، (ليس له عندي إلا الجنة)، فإذا قورنت جميع أنواع الإثابة من الله عز وجل كان أعظم ما يكون ما جعله الله في الدار الآخرة، الجنة والنظر إلى وجهه سبحانه تبارك وتعالى ورضاه.
إذا ابتلي الإنسان المؤمن بمصيبة من مصائب الدنيا فليصبر وليتصبر وليتسلى في ذكر الله سبحانه، وذكر صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(87/4)
شرح حديث: (إن لله ما أخذ وله ما أعطى)
في الصحيحين من حديث أسامة رضي الله عنه قال: (أرسلت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً في الموت)، وهذا ابن بنت النبي صلى الله عليه وسلم، والإنسان ابنه غال عليه، وابن ابنه وابن ابنته كذلك، ولا شك أن الإنسان إذا علم أن ابن ابنته يموت فإنه يذهب إليها سريعاً، فيواسيها فيما هي فيه من المصيبة، لكي تصبر وتتصبر، فهي ترسل للنبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها لكي يأتي يصبرها فيما هي فيه من موت ابنها على يديها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن جاء إليه: (ارجع إليها فأخبرها أن لله تعالى ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب)، أرسل إليها ليعودها على الصبر، فاصبري ولا تنتظري من أحد أن يقف بجوارك، ثم أرسلت إليه تحلف عليه صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليها، فذهب إليها وصبرها بقوله صلى الله عليه وسلم: (لله ما أخذ وله ما أعطى)، فالعطاء من الله، وإذا أخذ الله فقد أخذ ما يملكه سبحانه تبارك وتعالى، فلله كل شيء، فما أخذه فهو له، وما أبقاه أيضاً فهو له سبحانه، وكل شيء عنده بأجل مسمى، والمعنى: كوني موجوداً لن يزيد في عمر هذا الغلام ولن ينقصه، فكل شيء بكتاب وأجل مكتوب عند الله سبحانه تبارك وتعالى، (وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب).
ثم ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وحمل الغلام ونفس الغلام تخرج، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه، وتعجب له الصحابة، قالوا: ما هذا يا رسول الله! أنت تنهانا عن النواح على الميت وأنت تبكي عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنها رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده)، إذاً: كونه يبكي وتسيل دموعه صلى الله عليه وسلم هذا لا ينافي أنه يصبّر صلى الله عليه وسلم، ويصبر ابنته على ما ابتلاها الله عز وجل به، فالبكاء وحزن القلب لا ينافي الصبر، وإنما الذي ينافيه هو الصراخ والنواح والعويل.(87/5)
جواز البكاء على الميت بغير ندب
يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز البكاء على الميت بغير ندب ولا نياحة].
أي: يبكي من غير أن يندب الميت، ويذكر محاسنه، وينوح عليه، ويرفع صوته بالبكاء عليه، فهذا لا يجوز لا من رجال ولا من نساء.
والنياحة محرمة، وقد أتت فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً البكاء على الميت بعضه يدخل في الحرام، وهو البكاء بطريقة النياحة، أو بشيء فيه اعتراض على قضاء الله عز وجل وقدره، وأما البكاء الذي لا يتجاوز دموع العين فلا شيء في ذلك.
عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد سعد بن عبادة ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال صلى الله عليه وسلم: (ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه)، صلوات الله وسلامه عليه.
عاد النبي صلوات الله وسلامه عليه سعد بن عبادة، وكأنه أخبر بشيء فبكى صلى الله عليه وسلم، فقالوا له في ذلك، وجاء في حديث أسامة السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الدموع التي سالت على ابن ابنته صلوات الله وسلامه عليه، قال: (هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
أيضاً: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفنان)، فهذا ابن النبي صلى الله عليه وسلم مات والنبي صلى الله عليه وسلم قد جاوز الستين من عمره صلى الله عليه وسلم، وابنه صغير له ثمانية عشر شهراً أو دون السنتين، فالنبي صلى الله عليه وسلم بكى، وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: (وأنت يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم أتبعها بأخرى)، يعني: نزلت دموع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
هذا منه صلوات الله وسلامه عليه بيان أنه رحيم القلب، وأنه يتجلد ويصبر ولكنه لا يمثل عليه الصلاة والسلام، فالإنسان الذي يبكي ليس مطلوباً منه أن نقول له: لا تبك واضحك، فهذا ليس مطلوباً منه في هذا الموقف، وإنما المطلوب أنه لا يجزع، وأن يكون رحيماً، ولكن لا يصل إلى درجة أنه يرفع صوته ويتضجر أو يصرخ على الإنسان المتوفي، إذاً: فتحرم النياحة على الميت من رجال أو نساء.(87/6)
من أمور الجاهلية
في الباب أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي مالك الأشعري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
يعني: أربع خصال مما كان عليها أهل الجاهلية لا تتركها الأمة، والمقصود بعض الأمة أو كثير منهم لن يتركوا ذلك، وهذه من أمور الجاهلية المحرمة.(87/7)
الفخر بالأحساب
(الفخر بالأحساب) أي: أن الإنسان يفخر بحسبه، وحسب الناس إما أنسابهم أبي فلان وجدي فلان، أو أموالهم أنا أغنى منك، وأنت أصلك فقير، فالإنسان يفخر بحسبه وبنفسه على الخلق، وربنا يذكر لنا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فالإنسان المؤمن يرى أنه واحداً من الناس، ولا فرق بينه وبينهم، وكرمه إنما يظهر يوم القيامة إن قبل الله عز وجل عمله، وأما في الدنيا فلا تفتخر بشيء؛ فلا تدري من الذي يقبله الله عز وجل أنت أم هو؟ وإنما تعلم ذلك يوم القيامة، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].(87/8)
الطعن في الأنساب
(والطعن في الأنساب) أي: أن الإنسان يشتم الآخر ويطعن في نسبه: أنت لست ابن فلان، أنت أبوك كان كذا وكان كذا، فيطعن في نسب الإنسان، وكان أهل الجاهلية يعير بعضهم بعضاً بذلك، وأهل الجاهلية كان الزنا عندهم مباحاً، والزنا قسمان: قسم علانية: فهناك فاجرات معروفات في أماكن عليها أعلام ويذهب إليها الرجال، وهذا أمر عادي جداً عندهم، وقسم في السر، وكأنهم كانوا يرون أن زنا العلانية شيء قبيح، وزنا السر يسمونه نكاح السر، ويستبيحونه ويعتبرونه أفضل من العلانية، ثم جاء الإسلام فحرم هذا كله.
وكان أهل الجاهلية يذهب الرجل منهم إلى المرأة يواقعها، ويذهب إليها غيره وغيره وغيره، وبعد أن تلد تنسبه إلى من تريد منهم، ولا يستطيع أن ينكر نسبته، ثم لما يكبر الأولاد يشتم بعضهم بعضاً، ويرمي بعضهم بعضاً بما كان معلوماً في الجاهلية.
فيشتم الإنسان الآخر بمثل ذلك، فيكون قد رجع لما كان في الجاهلية، وربما أهل الجاهلية كانوا يعلمون أن فلاناً ليس أباً لفلان فيشتمونه بهذا الشيء، لكن أنت في الإسلام قد حرم الله عليك ذلك، والأصل في المسلم أنه طاهر عفيف، فكيف تستبيح أن تشتم آخر وتطعن في نسبه؟ لا يحل لمسلم أن يصنع ذلك، فهذا من أمر الجاهلية.(87/9)
الاستسقاء بالنجوم
(والاستسقاء بالنجوم)، يقول: في اليوم الفلاني ستأتي نجمة كذا وسيأتينا المطر، وكأنه ينسب المطر إلى الأنواء، وهناك فرق بين أن يقال: مطرنا في نوء كذا، وأن يقال: مطرنا بنوء كذا، مثلما تقول: مطرنا في شهر أكتوبر أو يناير، فهذا زمن، ومعروف عند الناس أن في الزمن الفلاني ستمطر، وهذا لا شيء فيه، أما أن يقول: إن الإبراج والنجوم أتت لنا بالمطر فهذا لا يجوز لمؤمن أن يقوله.
والاستسقاء بالنجوم هو: طلب السقيا من النجوم، فلما ينزل النجم الفلاني في المكان الفلاني سيأتي المطر.(87/10)
النياحة
(والنياحة)، النياحة من النوح، وهي: رفع الصوت بالبكاء على الميت، فتصيح المرأة ويصيح الرجل وينوح ويترنم بالصوت؛ بكاءً على الميت.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)، فالمرأة النائحة ضعيفة، ومع ذلك لو ناحت تأتي يوم القيامة على هذا الحال، وكذلك الرجل لو ناح فهذه أشد مصيبة، فلما يعبر بالمرأة في الحديث فإن الرجل أشد في ذلك، فالمرأة النائحة تأتي يوم القيامة وعليها سربال، والسربال هو الجلابية التي تلبسها المرأة وتتسربل بها، وهذا السربال يكون من قطران تحترق به يوم القيامة، وهذه المرأة وهي في نار جهنم -والعياذ بالله- يكون سربالها من قطران، وترتدي فوقه رداء من جرب، والجربان لا يطيق نفسه، فيحك جسده في الجدران وفي الأرض وبأظافره، وبأي شيء أمامه، فهذه المرأة النائحة تأتي يوم القيامة على هذه الصورة القذرة تعذب في النار.
روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان من الناس هما بهم كفر -هذان خصلتان في الناس كفر-: الطعن في النسب، والنياحة على الميت).
وعن أبي هريرة فيما رواه ابن حبان وقال الألباني: إسناده حسن: لما مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاح أسامة بن زيد رضي الله عنه، أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب آل بيته عليه الصلاة والسلام، وقد كان أبوه ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو وأبوه من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فـ أسامة يظهر المحبة للنبي صلى الله عليه وسلم فناح على ابنه ورفع صوته بالبكاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس هذا مني) بكى النبي صلى الله عليه وسلم بالدمع، وأما أن ترفع صوتك بالصياح فلا (ليس هذا مني)، وليس بصائح حق، بل هذا الصياح باطل، وقال: (إن القلب ليحزن، والعين تدمع، ولا نغضب الرب) يعني: كون العين تدمع والقلب يحزن فلا تغضب ربك بكلام أو بشيء لا يليق ولا يجوزه الرب سبحانه.(87/11)
عذاب الميت ببكاء أهله عليه
جاء عنه صلى الله عليه وسلم فيما رواه عمر رضي الله عنه، قال: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله).
وهذا فيه قصةً وهي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه الملعون أبو لؤلؤة المجوسي ما كان من السيدة حفصة رضي الله عنها مع عظيم المصيبة إلا أن رفعت صوتها بالبكاء، فقال عمر رضي الله عنه: يا حفصة! أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المعوَّل عليه يعذب)، وعول صهيب رضي الله عنه ورفع صوته بالبكاء على عمر رضي الله عنه يقول: وأخاه واصاحباه! فقال عمر: يا صهيب! أما علمت أن المعول عليه يعذب؟ وفي رواية: (إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه)، وفي رواية: (يعذب في قبره)، وفي رواية: (يوم القيامة بما نيح عليه).
ففيه: أن الإنسان الذي يرفع صوته بالبكاء والصياح والعويل على الميت يتسبب في عذاب الميت في قبره، وفي عذابه يوم القيامة.
والجمهور على أن ذلك في الإنسان الذي يوصي بذلك، أو يعلم من حال أهله أنهم يفعلون ذلك فلا ينهاهم عنه، فهو يعذب؛ لأنه لم ينههم في حياته، وهو يعلم أن ذلك من خصالهم.
فيجب على المسلم أن يوصي أهله بألا ينوحوا عليه ولا على غيره، ويحذرهم من ذلك.
والمحمل الثاني: أن الميت يعذب ويتألم بسبب ذلك، فإذا مات إنسان مؤمن وناحت عليه امرأته، وقد نهاهم عن ذلك فلا عذاب عليه في قبره، ولا في يوم القيامة، ولكن الميت يتألم ببكاء أهله، وبصياح الحي عليه، فيكون هذا عذاباً معنوياً ونفسياً للميت.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(87/12)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في النهي عن النياحة وما جاء في حسن الخاتمة
جاءت الشريعة الإسلامية كاملة شاملة لكل نواحي حياة الإنسان، من بداية حياته إلى أن يغيب في قبره، وحتى بعد دفنه، فرتبت الشريعة أحكاماً على ما يتبع ذلك، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النعي المذموم للميت وبين حرمته، وأوضح الجائز منه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن علامات يستدل بها على أن الميت من أهل الخير، وأيضاً علامات تدل على حسن الخاتمة لهذا الميت، من غير قطع بالغيب، فليدع المسلم ربه بحسن الخاتمة.(88/1)
عذاب الميت ببعض بكاء أهله عليه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقد ورد أنه يجوز البكاء على الميت إذا كان بدمع العين، ولا يجوز النواح والصراخ وندب الحظ ورفع الصوت في ذلك.
وقد جاءت في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيها أن الميت قد يعذب ببعض بكاء أهله عليه.
فالميت إذا توفي وبكي عليه فإن بعض هذا البكاء لا يتأذى به الإنسان المتوفى، وقد يتأذى به إذا كان من باب الصراخ والعويل.
والأذى إما أن يكون عقوبة من الله يعاقب به هذا المتوفى، وإما أن يكون بإيلام نفس هذا الإنسان بما يسمعه من بكاء أهله عليه.
فإذا كان هذا الميت وسط بيئة تفعل ذلك كما كان يفعله أهل الجاهلية، أو كان يعلم من حال أهله أنهم يندبون ويصوتون -أي: يرفعون أصواتهم بالصراخ على الميت- فلم ينههم عن ذلك قبل وفاته فإنه يعاقب على ذلك؛ لأنه لم يأمرهم بالمعروف ولم ينههم عن المنكر في حال حياته.
وأما إن كان هذا المتوفى لا يعلم من حال أهله ذلك فإنه يعذب ببكاء أهله عليه بما يجد من الألم بسبب هذا البكاء.
والميت قد يشعر بأشياء كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنها: انصراف أهل الميت عن القبر، وإنه ليسمع قرع نعالهم.
فكما أن ربنا سبحانه وتعالى يسمعه هذا الشيء، فقد يسمعه صراخهم عليه سماعاً يليق بمثل هذه الحالة، فيسمع ويتأذى ببكائهم.
ولذلك فإنه مما ينبغي على المسلم أن لا يؤذي الميت أبداً بصراخ أو بعويل أو بندب، أو نحو ذلك.(88/2)
حكم لطم الخدود وشق الجيوب جزعاً على الميت
مما حرمت الشريعة لطم الخدود وشق الجيوب، وقد بينت أنها من أفعال أهل الجاهلية، فإنهم كانوا إذا مات لهم ميت صرخوا عليه وندبوه ورفعوا أصواتهم، ثم تلطم النساء وجوههن، وقد يلطم الرجال كذلك، وقد يضع بعضهم التراب على رأسه وهذا كله حرام، ويعذبون عليه يوم القيامة.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه-: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).
فهؤلاء ليسوا من أهل الإسلام الذين هم على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى دينه وسنته، فكأنه عليه الصلاة والسلام يبرأ من هؤلاء، وأنهم لا يستحقون أن ينسبوا إليه.
فيقول: (ليس منا من لطم الخدود)، وهذا عام في الرجال والنساء، وأيضاً شق الجيوب عام في الرجال وفي النساء.
ومعنى شق الجيوب: تمزيق الثياب، وجيب القميص هو: المكان الذي فيه أزرار، أو الذي تدخل منه رأسك في القميص، فأن يشق هذا الجيب أو يمزق الثوب، مما لا يحل لأحد أن يفعله في مصيبة تنزل به.(88/3)
النهي عن العصبية وبيان قبحها
جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، ودعوى الجاهلية: هي التمييز بين الناس بعناصرهم، فهؤلاء من قبيلة كذا، وهؤلاء من قبيلة كذا، ودعوى الجاهلية هذه هي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة).
وقد حصل شجار بين رجل أنصاري وآخر مهاجري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، أي: أن هذا يستنصر بمن هم معه من المهاجرين، وذاك يستنصر بمن هم معه من الأنصار.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوها فإنها منتنة).
فالإنسان المؤمن لا ينتصر لصاحبه لكونه من أهله أو من قبيلته أو من بلده، فإن هذه من دعوى الجاهلية.
وإنما ينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً، فإذا كان له الحق أخذ له، وإذا كان عليه الحق أخذه منه؛ فيكون مع الحق دائماً، ولا يكون مع فلان لأنه من بلده، أو قبيلته أو حيه، أو شارعه، فإن هذه من دعوى الجاهلية؛ لأنه ينصر صاحبه ولو كان على الباطل؛ دائماً المهم كونه من قبيلته أو بلده.(88/4)
البراءة من الصالقة والحالقة والشاقة
ومن الأحاديث التي جاءت في هذه المسألة حديث أبي بردة بن أبي موسى في الصحيحين قال: (وجع أبو موسى - يعني: مرض- قال: وجع وجعاً فغشي عليه -يعني: أغمي عليه- ورأسه في حجر امرأة من أهله، فصاحت امرأة من أهله فلم يستطع أن يردها أو أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة).
فـ أبو موسى لما غشي عليه ظنوا أنه مات، فصوتت واحدة من نسائه، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن فعلت هذا الشيء، وممن برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة).
والصالقة أو السالقة بالصاد أو بالسين بمعنى: رافعة الصوت، أي: التي تصوت وترفع صوتها بالبكاء والنحيب والصراخ.
والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، فتمزق شعرها، أو تحلقه عند نزول المصيبة.
والشاقة: هي التي تمزق ثيابها عند نزول الموت، أو نزول المصيبة بها.(88/5)
النهي عن خمش الوجوه والدعاء بالويل وشق الجيب ونشر الشعر
وفي بيعة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء المهاجرات والأنصار قالت امرأة من المبايعات: (كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذ علينا نعصيه فيه، وألا نخمش وجهاً، ولا ندعو ويلاً، ولا نشق جيباً، وألا ننشر شعراً) فهذا مما أخذ عليهن في البيعة.
وهذه أشياء خطيرة جداً تقع بسببها المرأة في رد قضاء الله سبحانه، وتقع في الكفر بسبب ذلك، والعياذ بالله! فتقع في كفر العمل، وربما كفر الاعتقاد إن اعتقدت أن هذا يحل، وأنه يلزمها أن تصنع ذلك لميتها ولغيره مع نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكأنها ترد القضاء والقدر ولا ترضى به فتقع في ردة والعياذ بالله؛ لأنها تسخط على ربها بذلك.
وقولها: (ألا نخمش وجهاً)، يعني: ألا تمزق وتدمي وجهها بأظفارها.
وقولها: (ولا ندعو ويلاً)، أي: كأن تقول: يا ويلي! فكأنها تنادي المصيبة وتقول: يا مصيبة احضري، ويا عذاب احضر، فهي تنادي العذاب، والملائكة تقول: آمين، فقد يحضر لك عذابك، وتستحقين أن تعذبي عند الله عز وجل؛ لأن الملائكة تؤمن على ما يدعو الإنسان به على نفسه أو لنفسه في مثل هذه الحالة.
وقولها: (ولا نشق جيباً)، يعني: ألا تشق المرأة ثيابها، ولا تنشر شعرها، وتظهره أمام الناس بدعوى أنها حزينة على المتوفى عندها.(88/6)
بيان حكم النعي
كذلك مما منع النبي صلى الله عليه وسلم منه: النعي الجاهلي، فقد كان أهل الجاهلية إذا مات منهم الميت قام إنسان فينادي في وسط الناس، ويمر على القبائل وينادي ويقول: نعائي فلان، نعائي فلان.
أي: أنعي فلاناً الذي توفي، وأظهر خبر وفاته، وقد يزيد على ذلك بأن فلاناً من صفاته كذا وكذا، فيمدح فلاناً هذا.
فهذا هو نعي الجاهلية، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
والنعي لغة: هو الإخبار عن موت إنسان؛ وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن موت بعض أصحابه، فقد أخبر عن موت النجاشي، وأخبر عن موت الثلاثة الأمراء الذين كانوا في غزوة مؤتة، فنعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة، وقال: أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم أخذ الراية فلان فقتل، ثم ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام، فهو كان يدعو لهم ويخبر أصحابه حتى يستغفروا ويدعوا لهم، ويعلمهم بما آل إليه خبرهم.
فنعي النبي صلى الله عليه وسلم هنا بمعنى الإخبار، ومثل هذا جائز، فإنه إذا توفي إنسان فذكرنا في المسجد أنه توفي فلان من أجل أن يجتمع الناس في صلاة الظهر، أو في صلاة العصر فيصلون عليه، فلا مانع من ذلك.
أما النعي بأن يخرج المنادي وينادي في الناس: بأن فلاناً الذي توفي هو الذي قريبه فلان، والذي صفته كذا، والذي فيه كذا، والذي كان كذا، ويذكر له من المدائح أشياء، لعل أكثرها يكون كذباً، وقد يكون صادقاً، ويظهر أن له منصباً وله أهمية ما، وماذا سينفعه المنصب والأهمية عند الله عز وجل؟ وإنما الذي سينفعه أن يدعو له المسلمون، ويصلي عليه الموحدون الذين يعرفون الله سبحانه فيشفعهم الله عز وجل فيه.
أما الذين يذكرون فلاناً الذي كان كذا والذي كان كذا، فإن المنصب لا ينفعه عند الله، بل يكون أدعى لشدة الحساب على هذا الإنسان عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فنعي الجاهلية هو: الإظهار في كل مكان -في الأسواق وفي غيرها- موت فلان من الناس؛ من أجل تكثير الناس، كمظهر من المظاهر.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسل عن ذلك، فأما إخبار المسلمين بذلك بغرض أن يترحموا عليه، ويدعوا له، ويستغفروا له، وأن يحضروا لصلاة الجنازة عليه، فهذا هو النعي الجائز الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.(88/7)
علامات حسن الخاتمة
هناك علامات لحسن خاتمة الإنسان ذكر شيئاً منها الشيخ العلامة الألباني رحمه الله في كتابه: أحكام الجنائز، فقد ذكر عدداً من العلامات التي إذا حدثت للإنسان فلعل ذلك يكون من حسن خاتمته، من ذلك:(88/8)
النطق بالشهادتين عند الموت من علامات حسن الخاتمة
النطق بالشهادتين في حال السياق أو في حال خروج الروح، وهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة).
فالإنسان المؤمن الذي يقول هذه الكلمة في حياته ويكثر من قولها تكون سهلة على لسانه في حال وفاته، أما الإنسان الذي يكون بعيداً عن ذلك فلا يقدر أن يقولها إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن موت الفجأة أنه قال فيه: (موت الفجأة أخذة أسف) وفي رواية: (للفاجر)؛ لأن الإنسان الفاجر يقبضه الله عز وجل فجأة فيموت على فجوره، وقد لا يقول: لا إله إلا الله، فموت الفجأة قد يكون راحة للإنسان المؤمن، وأما الفاجر فإنه لا يمهل حتى يتوب إلى الله سبحانه، وحتى ينطق بهذه الكلمة.
ومن الأحاديث التي جاءت في ذلك: حديث طلحة بين عبيد الله رضي الله عنه وذلك أنه رأى عمر طلحة بن عبيد الله ثقيلاً، فقال: ما لك يا أبا فلان؟! لعلك ساءتك امرأة عمك! قال: لا، وأثنى على أبي بكر، إلا أني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ما منعني أن أسأله عنه إلا القدرة عليه حتى مات.
طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله تبارك وتعالى عنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فأشكل عليه، فكان يريد أن يسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فمات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأله طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ثقل ذلك على طلحة، فسأله عمر: ما هو هذا الأمر؟ فقال: سمعته يقول: (إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند موته إلا أشرق لها لونه، ونفس الله عنه كربته) فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني أعرف كلمة) والمعنى: اسألوني عنها، ففي هذا نوع من التشويق للناس، فـ طلحة قال: يا ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال عمر: إني لأعلم ما هي، هي: لا إله إلا الله، فقال طلحة: صدقت؛ هي والله! الكلمة التي أنا ما سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم ووفقك الله عز وجل لمعرفتها.(88/9)
الموت بعرق الجبين
من علامات حسن الخاتمة أيضاً ما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (موت المؤمن بعرق الجبين) رواه الإمام أحمد في مسنده، فكأنه يشدد على الإنسان المؤمن في حال وفاته، وهذه من رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
فيتصبب المؤمن عرقاً من شدة كرب الموت، وهذا ليس عذاباً من الله عز وجل له، وإنما تكفير لخطايا قد تكون على الإنسان لم يبلغ عمله أن يكفرها، أو رفع لدرجات لم يبلغ عمله أن يصل إليها.
ولذلك شدد على النبي صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته، فكان أمر الموت عليه ثقيلاً، وكان عليه الصلاة والسلام يكرب كرباً شديداً ويقول لابنته: (لا كرب على أبيك بعد اليوم) -يعني: هذا هو آخر كرب في هذه الدنيا، ولا كرب على أبيك -صلوات الله وسلامه عليه- بعده.
وجاء عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه كان بخراسان فعاد أخاً له وهو مريض، فوجده في حال الموت وإذا هو يعرق جبينه عرقاً شديداً، فقال: الله أكبر! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (موت المؤمن بعرق الجبين).
وهذه الأشياء عندما نقول: إنها من علامات حسن الخاتمة فليس المعنى: أنا نشهد لصاحبها بأنه في الجنة؛ لأنه لا يجوز أن نشهد لإنسان بعينه بأنه في الجنة أو في النار، فهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولكن غاية ما نقول: نحسبه على خير، ونحسب أنه من حسن خاتمته أن فعل الله به كذا وكذا.
فيبقى رجاء الخير وحسن الظن في صنع الله عز وجل بعبده.(88/10)
الموت ليلة الجمعة ونهار الجمعة من علامات حسن الخاتمة
أيضاً من علامات حسن الخاتمة: الموت ليلة الجمعة أو نهارها، فالموت ليلة الجمعة يجعل الله عز وجل فيها مزية لصاحبه إذا كان مؤمناً، أما الفاجر والكافر فلا ينفعه شيء سواء مات في يوم الجمعة أو يوم الأحد أو في أي يوم، ولكن هذا للمؤمن زيادة فضل من الله عز وجل.
وقد جاء في الحديث: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر) فالذي يموت في هذا الوقت فإن الله عز وجل يقيه فتنة القبر.
وليس معنى هذا أن الذي لا يموت في هذا الوقت فقد ساءت خاتمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات في يوم الإثنين، وإنما معنى هذا: أنه من زيادة فضل الله عز وجل على من يشاء من عباده؛ ليقيه من فتنة القبر عذابه.(88/11)
الشهادة في سبيل الله عز وجل
أيضاً من علامات حسن الخاتمة: أن يموت الإنسان شهيداً في سبيل الله عز وجل؛ فإن من علامات حسن خاتمة الإنسان أن يتوفاه الله عز وجل شهيداً على أي صورة من صور الشهادة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، وأعظم الشهادة: الشهادة في ساحة القتال، فإذا قاتل الإنسان في سبيل الله مقبلاً غير مدبر، يكر ولا يفر، محتسباً يطلب الأجر من الله لا يبتغي بذلك المنظر عند الناس أو الثناء منهم ثم قتل فإن هذا من علامات حسن الخاتمة.
قال الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه) أي: مجرد ما يُصاب في مقتل تخرج أول دفعه من الدم فيرى أن ربه سبحانه قد غفر له.
قال: (ويرى مقعده من الجنة) أي: يريه الله سبحانه منزله في الجنة.
قال: (ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر) أي: يجيره الله عز وجل من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر يوم القيامة، فيفزع الخلق والشهيد لا يفزع.
قال: (ويحلى حلية الإيمان) أي: يحليه الله عز وجل بحلية الإيمان.
قال: (ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) فهذا هو فضل الشهيد عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله عز وجل أن يبلغنا منزلته.
أيضاً مما جاء في فضل الشهادة في سبيل الله ما رواه النسائي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا رسول الله! ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) أي: تكفيه الفتن التي كان فيها وهو في القتال، فإن الشيطان كان يحدثه: أن الأعداء سيقتلونك، أو سيضيع مالك، ولن ترجع إلى أهلك، أو سيحصل لك كذا.
وهو مع ذلك يقاوم هذا كله، ويقبل غير مدبر، وغير راجع عن أمر الله تبارك وتعالى، هذا فيما لو قتل في المعركة، أما لو أن إنساناً قاتل في سبيل الله ولم يصبه ذلك ورجع فمات على فراشه فقد جاء في ذلك حديث جميل عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صحيح مسلم عن سهل بن حنيف قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
أي: أن الإنسان الذي يسأل الله عز وجل الشهادة وهو صادق فيها، وليس مجرد مظهر أمام الناس، ويسأل الله دائماً بأن يجعله شهيداً وأن يرزقه إياها، ويصدق ذلك في قلبه، ويرجو هذه المنزلة العظيمة، فهذا يبلغه الله عز وجل منازل الشهداء حتى ولو مات على فراشه.
فإن فضل الله عز وجل عظيم، فالإنسان الذي يتمنى الشهادة ويحاول أن يصل إليها ولا يصلها فإن الله بفضله يوصله وإذا أراد الإنسان أن يتصدق بصدقة ثم وجد أنه محتاج لهذا المال فإنه يؤجر عليها صدقة كاملة، فإذا أمضاها ودفعها فإنها تضاعف له إلى عشر حسنات، وإلى ما يشاء الله من فضله.
ولو حدث نفسه بمعصية ثم استغفر الله منها، فإنه تكتب له حسنة إذا امتنع عنها من خوف الله تبارك وتعالى.
فهذا هو فضل الله يوصل الإنسان بنيته وبخوفه منه إلى مرتبة عظيمة، وإلى أجر كريم منه سبحانه.
ولذلك من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه.(88/12)
أنواع الشهداء
ومن الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشهيد، فيمن هو؟ الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي عن عمر وغيره قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله! من قتل في سبيل الله فهو شهيد.
فقال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل -يعني: أن الشهداء في الأمة قليلون إذا كان الشهيد هو شهيد المعركة فقط- قالوا: فمنهم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد).
أي: أن القتيل الذي يقتل في سبيل الله هذا شهيد، والإنسان الذي أراد الجهاد ولكن لم يتمكن من الجهاد فمات وهو مع الجنود فلم يقتله الأعداء وإنما مات موتاً فهو شهيد.
أيضاً قال: (ومن مات في الطاعون فهو شهيد) يعني: إذا وقع وباء على بلد فمات فيها الناس بالطاعون -مثلاً: بالكوليرا- أو بغير ذلك من الأوبئة التي تأتي على الناس فيموتون فهم أيضاً شهداء.
قال: (ومن مات في البطن فهو شهيد)، فمن مات بداء البطن -أي: بداء استسقاء- كأن يمرض ويتضخم بطنه ويظل على ذلك إلى أن يموت فهو شهيد.
قال: (والغريق شهيد)، أي: أن الذي يموت في البحر غريقاً فهذا أيضاً شهيد.
وكذلك جاءت أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون؟ فأخبرها صلى الله عليه وسلم: (أنه كان عذاباً يبعثه الله عز وجل على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين).
فكان الطاعون عذاباً على الأمم السابقة، أما على المؤمنين فجعله الله عز وجل رحمة لهم، قال: (فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد).
وكل ما كان من مرض فيه وباء فكذلك، فإذا صبر الإنسان في مكانه إلى أن يقضي الله عز وجل أمره فهذا إن مات فيه فهو شهيد.
وقال صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي في مسند الإمام أحمد -: (يأتي الشهداء والمتوفون بالطاعون يوم القيامة، فيقول أصحاب الطاعون: نحن شهداء، نحن شهداء، فيقال: انظروا! فإذا كانت جراحهم كجراح الشهداء تسيل دماً وريحهم ريح المسك فهم شهداء، فيجدونهم كذلك).
فهذا الإنسان المطعون -أي: الميت بالطاعون- يأتي يوم القيامة كالشهيد ينزف دماً، اللون لون الدم والريح ريح المسك، يأتي على هذه الهيئة، فيكون مع الشهيد.
وكذلك ما رواه النسائي عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صرد وخالد بن عرفطة فذكروا أن رجلا ً توفي ببطنه، -يعني: بداء الاستسقاء أو داء الكبد أو داء البطن- فإذا هما يشتهيان أن يكونا شهداء جنازته؛ لأن الإنسان الصالح الذي وفاته فيها كرامة من الله عز وجل يستحب حضور جنازته، فهؤلاء أحبوا أن يحضروا جنازة هذا.
فقال أحدهم للآخر: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يقتله بطنه فلن يعذب في قبره)؟ وهذا فيه بشارة للإنسان الذي يمرض بمرض من الأمراض الباطنة، -أي: التي تأتي له في بطنه فينتفخ بطنه ويتألم حتى يموت على ذلك، فهذا لا يعذب في قبره كما جاء في هذا الحديث.
فقال الآخر: بلى.
وفي رواية: صدقت.
فهذا من علامات حسن الخاتمة أيضاً، أي: أن الإنسان يموت بداء البطن.
أيضاً الموت بالغرق والموت بالهدم جاءت فيه أحاديث، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الشهداء خمسة: المطعون -يعني: الميت في الطاعون- والمبطون، -الميت بداء البطن- والغرق، -الميت غريقاً- وصاحب الهدم -يعني: الإنسان إذا انهدم عليه البيت فهذا أيضاً شهيد- والشهيد في سبيل الله) فهؤلاء من الشهداء.
وكذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن المرأة التي تقتل في الولادة شهيدة فقال: (والمرأة يقتلها ولدها جمعا شهيدة) أي: المرأة إذا ماتت في أثناء الولادة فهي شهيدة، وفي رواية: (يجرها ولدها بسررها -يعني: إلى الجنة) أي: أن ابنها هذا المولود يجي فيأخذها بسررها إذا مات معها إلى الجنة.
فهذه من الشهادة أيضاً.
كذلك الإنسان الذي يحرق في النار فهو ممن يأخذ أجر الشهادة عند الله.
كذلك الموت بذات الجنب، وقد ذكروا أنه مرض يكون في أضلاع الإنسان كأنه خراريج داخلية في أضلاعه، فهو كالورم يعرض في الغشاء المبطن لأضلاع صدر الإنسان فيموت بسببه.
كذلك الموت بالسل، فقد جاء في الحديث: (القتل في سبيل الله شهادة، والنفساء شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة).
كذلك الإنسان الذي يدافع عن ماله وعن عرضه فيقتل في ذلك فقد نص النبي صلى الله عليه وسلم أنه شهيد.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا أجر الشهداء وأن يجعلنا معهم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(88/13)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في حسن الخاتمة وما جاء في تغسيل الميت والستر عليه وتشييع الجنازة
لقد كتب الله على الناس أن يبعثوا على ما ماتوا عليه، فمن مات على عمل سيئ بعث عليه، وكان علامة على سوء خاتمته، ومن مات على عمل صالح بعث عليه، وكان علامة على حسن خاتمته، ومثله من يثني عليه الناس عند موته بالخير أو الشر، فكل هذه علامات وأمارات على سوء الخاتمة وحسنها.
وإذا مات الميت وجب على الأحياء غسله، واستحب لغاسله الستر عليه، وله وللناس اتباع جنازته والصلاة عليه ودفنه؛ لينالوا من الله الأجر العظيم.(89/1)
علامات حسن الخاتمة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فإن الإنسان في حالة وفاته يرى عليه أحياناً أشياء تدل على حسن خاتمته.(89/2)
قول كلمة التوحيد عند الموت
من أفضل ما يدل على ذلك قول: لا إله إلا الله عند وفاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) فهذه من علامات حسن الخاتمة.(89/3)
الموت على عمل صالح
ومما ذكره العلماء أيضاً من علامات حسن الخاتمة أن يموت الإنسان على عمل صالح، وفي ذلك حديث رواه الإمام أحمد رحمه الله من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة)، أي: ختم الله له بهذه الكلمة فيدخل الجنة بسببها.
قال: (ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة) والمقصد أن يختم له بعمل صالح، كأن يكون صائماً في رمضان أو تطوعاً أو غير ذلك فيموت وهو كذلك فهذا عمل صالح، فإذا توفي عليه وختم له به فيدخل الجنة بذلك.
قال: (ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله، ختم له بها، دخل الجنة) وقس على ذلك سائر الأعمال الصالحة.
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم نص هنا على بعض أفراد العام، أي: أفراد العمل الصالح، ولم يذكر جميع الأعمال الصالحة، ولكن عندما يذكر البعض فإنه يدل على الباقي.
إذاً: أي عمل من الأعمال الصالحة التي يقوم بها الإنسان ويتوفى عليها فسيدخله الله عز وجل الجنة بسبب ذلك العمل، وسواء كان العمل صياماً، أو صدقة زكاة أو حجاً أو عمرة، أو إصلاحاً بين الناس، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، فكل عمل صالح يكون الإنسان فيه ويختم له به فهو من علامات حسن الخاتمة.
ومن علامات حسن الخاتمة أيضاً: أن يموت الإنسان مجاهداً في سبيل الله، أو مرابطاً في سبيله، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الإمام مسلم عن سلمان مرفوعاً: (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه) والرباط: حراسة الثغور، وحراسة حدود بلاد المسلمين ابتغاء وجه الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان) أي: هذا الذي يحرس بلاد المسلمين وثغورهم من الكفار إذا مات على هذا العمل وختم له به كان أيضاً من أهل الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأمن الفتان) يعني: في قبره.
وفي حديث آخر رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً) أي: من كان يحرس ثغور بلاد المسلمين من الكفار، فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: (إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله فإنه ينمى له عمله) أي: لا يبقى عمله على حاله، ولكن لا يزال ينمى له هذا العمل إلى يوم القيامة ويأمن الفتنة في قبره.(89/4)
ثناء الناس على الميت
ومن علامات حسن خاتمة الإنسان أيضاً أن يثني عليه الناس -من أهل الخير والإحسان- بالعمل الصالح والخير، والثناء هنا هو المدح بالصفات الصالحة التي كانت فيه، وليس معنى الثناء أن يمدحوه بأشياء هي بين الناس لطيفة وظريفة، ولكنها ليست عند الله عز وجل كذلك، ومثال ذلك: أن إنساناً توفي وكان الناس يحبون كلامه حيث كان يمزح كثيراً، ويضحك كثيراً، وكثير الشغب، وكثير المعاكسة للناس، فيضحكهم، فعندما يموت يفتقدون فيه ذلك، فهذا إذا أثنى عليه الناس فليس هذا الثناء هو المقصود من الحديث، ولكن الثناء المقصود: هو أن يثنى على الإنسان بعمل صالح كان يعمله، كأن يقال: فلان كان خيراً كان طيباً كان لا يؤذي جيرانه فلان كان يميط الأذى عن الطريق وكان يعود المرضى ولا يتكبر على أحد، فيثني عليه الناس والجيران والأقربون بصفات الخير التي كانت.
وفي ذلك حديث رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة، فأثني عليها خيراً)، أي: مدحه الناس بخير.
(وتتابعت الألسن بالخير)، أي: تمر الجنازة فيمكن أن رجلاً أو اثنين من الجالسين يعرفونه، ويمكن أن مجموعة كبيرة تعرفه، فهنا (تتابعت الألسن)، أي: كل شخص قال شيئاً، وأثنوا عليه بخير، فهذا يدعو له، وهذا يشكر له صنيعه في كذا، وهذا يحمد له صفات جميلة فيه.
فقالوا: (كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، أي: على ما نعلم منه، وربنا يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
ومن هذا يؤخذ أنك إن أردت أن تمدح شخصاً وتثني عليه فقل: أحسبه كذا، أو أظنه كذا، ويكون ذلك على وجه الظن لا على وجه الجزم.
قال: (فقالوا: كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ومر بجنازة فأثني عليها شرا) أثني: أي ذكر بشر، فتكلم الناس عنه أن هذا لم يكن إنساناً صالحاً، بل كان سيئاً، منافقاً، مرائياً.
قال: (وتتابعت عليه الألسن بالشر) أي: يذكرونه بشر.
(فقالوا: بئس المرء كان في دين الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، وجبت، وجبت) كررها ثلاثاً، وذكرها كذلك في الأولى، فقال عمر رضي الله عنه: (فداك أبي وأمي! مر بجنازة فأثني عليها خيراً، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت، ومر بجنازة، فأثني عليها شراً، فقلت: وجبت، وجبت، وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً، وجبت له النار) ولكن ليس بكلامهم تجب له الجنة، وبكلامهم تجب له النار، وإنما بفعله هو، ففعل الإنسان هو الذي يدفع الناس؛ لأن يثنوا عليه خيراً أو شراً، فقال صلى الله عليه وسلم: (الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض).
قال: (من أثنيتم عليه خيراً، وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً، وجبت له النار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، وأنتم شهداء الله في الأرض، وأنتم شهداء الله في الأرض).
وفي رواية: (إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر)، فنلاحظ من هذا الحديث: أن الذين كانوا يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على بالهم أن فلاناً مات هذا اليوم أو لم يمت، ولم يكن على بالهم شيء، بل فجأة مُر بجنازة، فعرفوا صاحبها فقالوا: هذا كان سيئاً، هذا كان شريراً، هذا كان كذا وكذا، فكل واحد قال عنه شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجبت) أي: وجبت له النار؛ لأنه بلغ من شره أن ذاع وشاع وانتشر بين الناس، فعلم الأقصى والأدنى أن فلاناً هذا كان سيئاً، فأثنوا عليه شراً.
والآخر انتشر منه الخير وذاع، وعرفه الناس بالخير، فلذلك أثنى عليه كل منهم بما عرف منه من خير، وهؤلاء قالوا في المؤمن: (كان ما علمنا يحب الله ورسوله)، وقالوا في الفاجر: (كان ما علمنا منافقاً) أي: كان يبغض دين الله عز وجل، فالذي أثنوا عليه خيراً وجبت له الجنة بعمله الخير وبثناء المسلمين عليه؛ لأن خيره ذاع بينهم وانتشر، فكان كأنه سن للناس سنناً حسنة يعملون بمثل هذا الخير الذي كان عليه، والآخر العكس من ذلك.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر ليس تأليفاً، أو أنه طلب من الناس أن يثنوا على صاحبهم خيراً لكي يدخل الجنة، بل الأمر هو أن الله سبحانه وتعالى ينطق الشخص بما يتكلم به ملك على لسانه، فالإنسان وهو غير منتبه يتكلم أن هذا الرجل كان إنساناً جيد، يرحمه الله كنا نراه يصلي معنا، وكان يدفع الزكاة، وكان يعمل كذا فينطق الله على لسان بني آدم ملائكة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر) فيجب لهذا الجنة بعمله وبثناء المؤمنين خيراً عليه، وللآخر النار بعمله وإساءته ووصم المؤمنين الشر به.(89/5)
الحد المعتبر للناس الذين يثنون على الميت
روى البخاري من حديث أبي الأسود الديلي قال: أتيت المدينة وقد وقع بها مرض وهم يموتون موتاً ذريعاً، -وكان هذا في عهد عمر رضي الله تعالى عنه- قال: فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت جنازة فأثني خيراً فقال عمر: وجبت.
فقلت: ما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال: قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة) فهذا يستحق الجنة بما شهدوا له من خير، (قلنا: وثلاثة، قال: وثلاثة.
قلنا: واثنان، قال: واثنان، قال: ولم نسأله عن الواحد).
إذاً: ليس شرطاً أن يشهد للميت كل الناس، بل يصح من بعض الناس أيضاً، فقد يكون حال هذا الإنسان غائباً عن الكثير، ولكن بينه وبين الله خير كثير، والأقربون يرون منه هذا الخير، فيرون أنه كثير التقوى كثير الصلاة كثير الصدقة لكن لا يشتهر عنه ذلك، وإنما عرف الأقربون ذلك فأثنوا عليه خيراً، فينطق الله على ألسنتهم ملائكة حتى يستوجب جنة الله عز وجل.
حديث آخر رواه الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني بشواهده، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تبارك وتعالى: قد قبلت قولكم -أو قال: شهادتكم- وغفرت له ما لا تعلمون) فالله عظيم وكريم سبحانه وتعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) فكل إنسان فيه أخطاء يفعلها من صغائر وكبائر، ومن ستر على نفسه وتاب إلى الله، فالله يتوب عليه، ومن فضح نفسه واستهان بعمله استحق العقوبة من الله سبحانه.
فهنا الإنسان الذي يموت فيثني عليه الأقربون من جيرانه، وذلك لخلقه الحسن معهم، ولذا تجد الأقربين يحبونه، ويثنوا عليه بالطيب، وأنه لا يتعرض لأحد، ولا يؤذي أحداً، فيثني عليه جيرانه الأقربون بخير، فإذا وجد أربعة من أهل جيرانه يثنون عليه بذلك استحق من الله عز وجل الجنة والثواب، والله سبحانه يقول: (قد قبلت قولكم) أي: قبلت منكم هذه الشهادة.
قال: (وغفرت له ما لا تعلمون) أي: أنتم لا تعلمون أخطاءه، والله يعرفها فيغفر له ذلك؛ لأنه كتم على نفسه، وستر نفسه، ولم يجاهر بالمعصية بين الناس، فكانت سيئته بينه وبين ربه، فهذا جدير بأن يغفر الله له؛ لأنه ستر، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من ستر نفسه ستره الله)، وبالمقابل: من فضح نفسه استحق العقوبة من الله.(89/6)
بيان ما يستحب لمن يغسل ميتاً
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الكف عما يرى في الميت من مكروه].
أي: إذا توفي إنسان واطلعت منه على شيء مكروه فلا تفضحه بهذا الذي اطلعت عليه، وفي ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث أبي رافع واسمه أسلم وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: كان عبداً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأعتقه النبي صلى الله عليه وسلم- فيقول صلى الله عليه وسلم في حديثه: (من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة).
فهذا الحديث العظيم فيه أن الذي يغسل الأموات له أجر عظيم، ولكن بشرط أن يكتم عنه، أما أن يحكي ويقول مثلاً: كنا نغسل الميت وكانت ريحته سيئة جداً، أو الميت له أكثر من يوم وريحته صارت كريهة، أو الميت ينزل دماً، أو الميت كان فيه غائط، أو بول، أو كان فيه كذا ويفضح هذا الإنسان فلا يستحق ذلك الأجر.
ولذا فعليك أن لا تفضحه، بل استر عليه، فكما أنك تحب أن يستر عليك الناس في حياتك ومماتك فكذلك استر عن أخيك ولك هذا الأجر العظيم عند الله، بأن يغفر الله لك أربعين مرة، وهذا من كرم الله وفضله سبحانه وتعالى.
ولكن من أثني عليه شراً، أليست فضيحة لهذا الإنسان؟! الفرق هنا بين أن تغسل ميتاً فترى شيئاً من الأشياء العادية التي ترى من أي إنسان كأن يخرج منه ريح، أو بول، أو غائط، أو دم كثير، أو أنه يتعب الناس في تغسيله، بأن كان ثقيل الجثة، فثقل أن يقلبوه ويعدلوه، أو يحدث أشياء في أثناء التغسيل لعلها تضايق من يقف ويغسل فيها، فتكتم هذه الأشياء وتسترها ولا تحكيها بين الناس، أما الإنسان الذي يكون شريراً، كأن سب دين الله عز وجل، ثم جاءت سيارة وصدمته فمات، فهذا إنسان يستحق أن يفضح بذلك؛ حتى يكون عبرة للخلق، أو يكون قد استهان بالمصحف فقصمه الله وفعل به كذا، فهذا يستحق أيضاً أن يفضح حتى يكون على ألسنة الناس، فيثنوا عليه شراً.
إذاً: التحديث بما يحدث للظلمة من انتقام الله عز وجل وكسره إياهم جائز، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة ذلك.
ولكن عندما يرد الأمر بذكر محاسن الموتى، فهذا يراد به الإنسان المؤمن، أو الإنسان الذي ستر نفسه ولم يفضحها، أما الفاسق صاحب المعاصي الذي يموت على ذلك، فيحذر الناس من عمله، كأن نجد رجلاً يرقص ويشرب الخمر والحشيش بالليل ثم يصبح ميتاً، فهذا يخبر الناس عنه؛ حتى يتعظوا من هذه النهاية الأليمة الذي حصلت لهذا الإنسان فلا يفعلون فعله.
إذاً: هنا فرق بين أن تستر على ميت بأشياء عادية تحدث منه ومن غيره ولكنها قد تكون شيئاً من الأذى، بحيث أنه يتأذى بها الحي أن يذكر عن ميته، فهذا شيء، وأن يكون الميت إنساناً مجرماً ظالماً فاسقاً كافراً يعصي الله عز وجل، ويحارب دين الله سبحانه، فيجعله الله عبرة حتى يتحدث الناس بآية من آيات الله عز وجل نزلت به فهذا شيء آخر وهو جائز.
وليس الأجر العظيم مقصوراً على تغسيل الميت فقط، ولكن الحديث طويل رواه الإمام الحاكم والبيهقي من حديث أبي رافع وصححه الحاكم والذهبي، وكذلك الشيخ الألباني رحمة الله على الجميع.
وفيه: (من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله أربعين مرة، ومن حفر له فأجنه) أجنه أي: أخفاه وواراه بمعنى: دفنه، قال: (جرى عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة)، فالمقبرة التي تجعلها للناس كلما دفن فيها شخص كان لك أجر ذلك، وكأنك أجرت له منزلاً إلى يوم القيامة، والأجر عند الله عز وجل ولا يتحول إليك إلا يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن حفر له فأجنه) أي: دفنه في القبر وستره بالتراب، (جرى عليه كأجر مسكن أسكنه إياه إلى يوم القيامة).
قال: (ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة) أي: من كفن ميتاً كساه الله سبحانه وتعالى من سندس وإستبرق الجنة، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى.
وانظر عندما يكون الناس يوم القيامة عرايا حيث يقومون من قبورهم حفاة عراة غرلاً، فإذا بالله يكسو هذا الإنسان في يوم تعرى فيه الخلق؛ لكونه كفن إنساناً مؤمناً توفي.(89/7)
فضل الصلاة على الميت، وتشييعه، وحضور دفنه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب في الصلاة على الميت، وتشييعه وحضور دفنه، وكراهة اتباع النساء للجنائز].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط) أي: من حضر الجنازة وذهب إلى بيت الله عز وجل ليصلي عليها، أو في أي مكان يصلى فيه على الميت، وشهد الميت حتى صلى عليه فله قيراط من الأجر.
قال صلى الله عليه وسلم (ومن شهدها حتى تدفن) أي: من شهد الجنازة من أول ما يصلى عليها حتى تدفن، قال: (فله قيراطان.
قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين).
أي: جبلين من الأجر والثواب عند الله عز وجل.
ولذلك يحرص العبد المؤمن على حضور الجنائز، خاصة جنائز المؤمنين الصالحين، فيصلي عليهم، ويدعو لهم، ويشهد الجنازة حتى يدفنها؛ وذلك ليرجع بهذا الأجر العظيم، فإذا تعذر عليه ذلك صلى على الميت؛ ليكون له نصف هذا الأجر.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً) وهذا شرط وقيد.
فقوله: (إيماناً) أي: مصدقاً مؤمناً بأن هذا الاتباع فيه أجر من عند الله سبحانه وتعالى ومصدقاً لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
(واحتساباً) أي: يرجو الأجر من الله.
فمن حضر الجنازة حرجاً من الناس الذين يأتون ويشهدون الجنازة، فلا أجر له.
ولذا فعليك أن تصلح نيتك حال حضور الجنازة، وأن لا تهتم بالناس من حولك، فتحسن صلاتك لأنهم يرونك، فهنا الشيطان قد دخل عليك، وسوف يضيع عليك أجر الصلاة، فغير نيتك، واستغفر ربك، وأخلص لله سبحانه، وتعوذ بالله أن تعمل عملاً لغيره سبحانه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه).
فإذاً: لابد أن تغير النية في الحال، واحضر الجنازة ولا تتركها، ولا تكن نيتك الحضور لأن الناس حضروا، ولكن اجعل نيتك أن تحضر اتقاء غضب الله سبحانه وتعالى، وابتغاء مرضاته.
ولو كان نيتك حضور الجنازة لكي يراك فلان ويفرح لحضورك هذه الجنازة، فهذه نية طيبة حيث تطيب قلب أصحاب الميت وأهله، وهذا من باب ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم لما قام على القبر وقال للحافر: (وسع من هاهنا، وسع من هاهنا) يقول له: حسن القبر والتفت لمن حوله وقال: (أما إنه لا يفعل بالميت شيئاً) يعني: من توسيع القبر أو تضييقه، لن يفعل بالميت شيئاً ولكن يطيب بذلك قلوب الأحياء، حيث يرون النبي صلى الله عليه وسلم مهتم بميتهم، ويقول: أوسع القبر واحفر جيداً، اعمل كذا مع أن هذا لا يعمل للميت شيئاً، فالميت ينضم عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ثم يفرج الله عز وجل عنه بعد ذلك، نعوذ بالله من ضيق القبر، ومن حفر النيران في القبور.
فالقبر إما روضة من رياض الجنة واسعة فسيحة، وإما حفرة من حفر النيران على صاحبه.
فإذا حضرت الجنازة واستحضرت نواياك، وآمنت بالثواب، واحتسبت الأجر عند الله، ونويت بحضورك إلى جانب تلك النية إفراح أهل الميت بوجودك معهم، فلا مانع من مثل هذا الشيء، طالما أنك لا تبتغي الرياء والسمعة بذلك وإنما تبتغي تطييب قلوب الناس بمثل هذا الشيء.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.(89/8)
شرح رياض الصالحين - من (الصلاة على الميت) إلى (ما يقرأ في صلاة الجنازة)
ينقضي أجل الإنسان في الحياة الدنيا بالموت، وتنطوي بذلك صفحة عمله، وبذلك ينتقل إلى الدار الآخرة، فيعرض على الله تعالى بعمله حسناً كان أو سيئاً، ويجد من الأهوال ما الله تعالى به عليم، وعندها يكون المرء بحاجة شديدة إلى ما يرحمه الله تعالى به، وقد شرع لنا أن نصلي على الميت صلاة مقصودها الدعاء له والاستغفار بجملة من الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبالكيفية المعلومة في صلاة الجنازة، عل الله تعالى أن يرحم الميت ويقبل فيه شفاعة المصلين عليه.(90/1)
فضل الصلاة على الميت وحضور دفنه
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان.
قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين).
وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)، متفق عليه.
باب استحباب تكثر المصلين على الجنازة، وجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه)، رواه مسلم].
هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه: رياض الصالحين، فيما جاء في الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة اتباع النساء الجنائز.
وقد ورد عند البخاري: (من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً)، والجنازة بالفتح، ويقال: جنازة بالكسر، وقد يفرق بينهما بأن الجنازة إذا كان الميت فوق النعش، وفي غير ذلك يسمى جنازة.
والغرض هنا: أن في الحديث من يتبع جنازة الإنسان المؤمن فإنه ينال ذلك الأجر إذا كان فعله ذلك إيماناً واحتساباً، أي: مؤمناً بأن هذا مما افترضه الله عز وجل فرض كفاية على المسلمين، وأن في ذلك الأجر من الله، ويحتسب هذا الأجر عند الله تعالى.
فإذا حضر فصلى عليها وبقي معها حتى يفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، والقيراط مثل أحد، أي: مثل جبل أحد.
قال صلى الله عليه وسلم: (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن)، يعني: جاء للصلاة على الميت ثم رجع (فإنه يرجع بقيراط)، وهذا الحديث رواه البخاري، وأصله متفق عليه.(90/2)
نهي النساء عن اتباع الجنائز
وفي حديث آخر لـ أم عطية رضي الله عنها قالت: (نهينا عن اتباع الجنائز)، أي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز، قالت: (ولم يعزم علينا)، ففهمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى وما عزم عليهن في ذلك.
وقد جاء في حديث آخر: (لعن الله زوارات القبور)، و (زوارات) صيغة مبالغة، ومعناه: أنها تبدأ بزيارة ثم تثني بزيارة، وفي كل وقت تذهب إلى المقابر، فإذا لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعلة ذلك فإن منع النساء من الذهاب إلى المقابر إنما هو من باب سد الذرائع، وخاصة في مثل زماننا الذي كثر الفساد فيه، حيث ترى المرأة إذا توفي زوجها تخرج إلى القبر وراء الناس وقد كشفت شعرها، وتمشي وهي تصرخ وتندب وتنوح، وهذه ملعونة في هذا كله، أولاً: في كونها تخرج متبرجة، وثانياً: كونها تنوح على الميت، وثالثاً: كونها يراها الناس في الطريق.
حيث شغلت الناس عن ذكر الله سبحانه وتعالى وتذكر الآخرة، وكذلك من يساعدها على مثل ذلك، فإذا فتح الباب لواحدة خرجت النساء جميعهن، فالأصل أن تمنع المرأة من ذلك؛ لما في زماننا من الفساد الموجود في النساء من تبرج وغير ذلك.
وإننا لنرى حيث تأتي جنازة إلى المسجد لنصلي عليها أن في الشارع الكثيرين الذين لا يصلون من الرجال، ونجد فيهم النساء المتبرجات يودعن المرأة الميتة أو الإنسان المتوفى وهن في الطريق.
فلو رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لمنع النساء من ذلك، فقد منع صلى الله عليه وسلم نساء الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهن وعليهم، وكن غاية في التزام أحكام الله سبحانه وتعالى.
فكيف بمثل هؤلاء الذين في زماننا، والأصل هنا في مثل هذا الزمان المنع من ذلك؛ للفساد الحاصل، ويكفينا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لعن الله زوارات القبور).
وإذا كانت المرأة التي تتردد على القبور ملعونة فإنها لن تكون مكثرة للتردد إلا بأصل الذهاب، فتذهب مرة، وتذهب ثانية وثالثة، ثم تعتاد ذلك كما تفعله الكثيرات من النساء.(90/3)
استحباب تكثير المصلين على الجنازة
ومن الأبواب التي أوردها الإمام النووي رحمه الله تعالى استحباب تكثير المصلين على الجنازة، بحيث يكون فيها عدد كبير يصلون على الجنازة، وتجعل صفوفهم ثلاثة فأكثر، فالصلاة على الجنازة ليست كغير من الصلوات، فهي صلاة لا ركوع فيها ولا سجود ولا تحيات، وإنما هي قراءة الفاتحة والدعاء للميت بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء للمسلمين، والتسليم.
فالمستحب في هذه الصلاة أن يكون فيها عدد كبير من الناس يصلون على الميت، لكن إذا لم يتيسر إلا العدد القليل فإنه يقسم هذا العدد حتى يكونوا ثلاثة صفوف.
حتى لو وصل الأمر إلى أن يكون الإمام صفاً وخلفه إنسان في صف وخلفه إنسان في صف ثالث.(90/4)
حاجة الميت إلى إخلاص المصلين عليه وشفاعتهم فيه
وقد أورد الإمام النووي رحمه الله تعالى حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه).
الشفاعة مصدر (شفع) ومعنى (شفع): أنه جاء مع غيره، كما يقال: صليت شفعاً، أي: أن تضم ركعة إلى ركعة، فتصير ركعتين شفعاً، وعكس الشفع الوتر.
فكأن الميت يجيء وحده إلى ربه سبحانه وتعالى، فأنت تأتي شفيعاً مع هذا الميت فتدعو لهذا الميت، فتكون الثاني معه في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو محتاج إليك، فأنت تشفع في هذا الإنسان وترجو من الله عز وجل أن يغفر له.
ولذلك فإن الصلاة على الميت تحتاج إلى الإخلاص، فمن يصلي على الميت عليه أن يخلص في دعائه، فيدعو الله سبحانه وتعالى للميت ويتخيل نفسه في مثل هذا الموقف، فحين تدعو للميت تخيل نفسك أنك أنت هذا الميت، وحينئذ ادع للميت بالشيء الذي تريد أن يدعى لك به، ولا تقل: هذا قريب، أو: هذا غريب، أو: هذا صغير، أو: هذا كبير، بل هذا ميت، وغداً ستكون أنت مكان هذا الإنسان.
والمقام ليس مقام رياء، ليس مقام من يتقدم ليصلي على الميت المجرد التقدم والإمامة، بل هو مقام إخلاص، فنخلص في الدعاء للميت جميعنا، سواء أكنا أئمة أم مأمومين، فنحن نصلي على الميت وندعو له، وهذا المسكين في هذه الحالة محتاج للدعاء، ومحتاج للتثبيت، ومحتاج لأن تدعو ربك بأن ينور له قبره، فالقبور مظلمة على أصحابها، والله ينورها سبحانه عليهم بالصلاة على نبيه صلى الله عليه، وكذلك ينورها بأعمالهم، وبشافعة من يقبل شفاعتهم في هذا المتوفى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة)، فالمقصود هنا أمة من المؤمنين، لا أن يأتي نصارى فيصلوا عليه، فقوله: (أمة من المسلمين) كأن المقصود به الإسلام الحق الخالص، أن تسلم وجهك وقلبك لله سبحانه وتعالى، وأن تسلم نفسك لله سبحانه، ولذلك جاء في بعض الروايات: (لا يشركون بالله شيئاً).
فالمقصود: إنسان مسلم على الحق يلتزم بدين الله سبحانه وتعالى، ويرضى بالله سبحانه، ويصبر على قضائه وقدره، فهذا المسلم الذي يسلم نفسه لله ويسلم أمره له ويفوض أمره إليه سبحانه يصلي على هذا الإنسان المتوفى، وكله يقين بأن الله رحمن رحيم، وأن الذي شرع هذه الصلاة ما شرعها إلا ليخفف عن هذا الميت، وليقبل شفاعة الشافعين في هذا الإنسان، وتراه وقت الصلاة على الجنازة لا يسلك سبيل الجدل، كما يحصل في الجنائز من كثير من الناس، همهم الجدل، حيث يكون الميت قد مات قبل فترة، فيتركونه، حتى إذا أتوا المسجد قالوا: أسرعوا بالجنائز، ويأتون بالأحاديث في هذا الباب، والميت في بيته منذ البارحة، فما قالوا في الليل: أسرعوا بالجنائز.
ولكن حين يأتون إلى المسجد يقوم الشيطان فيركب عقولهم.
إن الصلاة صلة بينك وبين الله عز وجل، والإنسان المؤمن يحب المسجد ويحب الصلاة، فيقبل على صلاته، ويحرص على حضور تكبيرة الإحرام في المسجد.
وكم من أناس تفوتهم تكبيرة الإحرام بسبب هؤلاء المتعجلين، فإذا أردت أن تصلي ركعتين يقول لك أحدهم: أقم الصلاة.
وإذا لم يكن الإمام قد دخل بعد قالوا: لا يهم حضوره؛ فأي واحد يمكن أن يتقدم ويصلي، وبعضهم قد يتبرع بنفسه فيقيم الصلاة لوحده من أجل أن يصلي الناس معه.
فهؤلاء حمقى ومغفلون وأغبياء بعيدون عن دين الله سبحانه وتعالى، فإذا مات الميت كان همهم رميه في المقبرة، وليس همهم أن يحضر الكثيرون من المصلين حتى يصلوا على هذا المسكين المحتاج لصلاتهم، بل هم الواحد منهم أن يفرغ من هذا الميت وكأنه يجامل أهل الميت بالكلام الذي يقوله، وكم من إنسان يشكو من ذلك ويقول: إني مواظب على تكبيرة الإحرام ثلاثين يوماً، وأرغب في إكمال أربعين يوماً، ثم جاءت جنازة في المسجد، فضاعت علي تكبيرة الإحرام، وكل ذلك بسبب هؤلاء المتعجلين.
والأصل في الإنسان المؤمن أن يخلص لله تعالى في الصلاة على الميت، وأن يتصور نفسه مكان الآخرين، فحين تجد مظلوماً ضع نفسك مكانه، فالمظلوم محتاج إلى من يدافع عنه، فأنا سأدافع عن هذا الإنسان المظلوم ما دام في قدرتي أن أفعل ذلك، وإذا وجدت إنساناً ميتاً والناس منتظرون ليصلوا عليه فلا تقل: هؤلاء أناس كثيرون سيصلون عليه، فأنا سأذهب، ولكن قل: لو كنت الميت فسأتمنى أن الكثيرين يصلون علي، إذ يمكن أن واحداً منهم مستجاب الدعوة، فيستجيب الله عز وجل دعوته لي.
ففي وقت الصلاة على الميت نحتاج إلى الإخلاص تبارك وتعالى، ولا يهم من يتقدم ليصلي على الميت.(90/5)
مخالفات في صلاة الجنازة
إذا أحب الناس تقديم واحد منهم ليصلي فليصل، ولكن لا يبتدع في الصلاة، كما يحدث من كثيرين، حيث يقول الواحد منهم للناس: اعملوا كذا وقولوا كذا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كذا.
وهو ما قال.
وبعض الناس يرى نفسه أحق بالإمامة من غيره، وليس بقريب للميت، فإذا به يتقدم ليؤم الناس، والأصل في المساجد أن يصلي الإمام على المتوفى، إلا أن يستأذنه من هو أولى ومن يستحق ذلك.
فإذا إذا كان للميت أب أو أخ أو زوج للميتة يريد أن يصلي عليها فإنه يستأذن ويصلي، ولا مانع من مثل ذلك، لكن الممنوع هو في حق ذلك الذي يرى نفسه أنه أحق، وأنه مشهور في الشارع، فيأتي المسجد ويتقدم الصف قائلاً: استووا.
وبعض الناس يتقدم للصلاة على الجنازة، وكأن هذا الميت هو الوحيد في الدنيا، فيقف يصلي عليه ويدع الناس تتكسر أقدامهم، وتجده يكرر الدعاء الذي يقوله، أو أنه يحفظ ما لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم.
فهنا لا بد من الرحمة بالناس وبالمصلين، وإذا كان الميت قريبك فليس معنى ذلك أن تقف فتدعو له ساعة وتنسى الناس خلفك، لأنهم سيدعون قليلاً ثم سيسكتون، أو قد يدعو الواحد منهم لنفسه، فأنت تدعو لقريبك الميت وهو يدعو لنفسه، ولن يدعو لميتك، فلا تشق على الناس، ولا تؤذهم، وإذا كنت تصلي إماماً فاحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم -وهي أحاديث قليلة- في الدعاء للميت، وإذا حفظتها فإنك ستقف لتدعو للميت في نحو دقيقتين أو ثلاث أو أربع فلا داعي للإطالة بالناس.
وورد حديث لـ ابن عباس رضي الله عنه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه).
فإذا كان مائة يصلون على الميت ويشفعون فيه فإن ذلك فيه الترغيب في تكثير العدد، والمهم أن يصلي على الميت أكبر عدد موجود، فإذا كان بعض الناس قد فرغوا من صلاة الفريضة وما زال أناس يصلون فينتضر حتى يفرغ المسبوقون ليصلي على الميت أكبر عدد يشفع فيه.(90/6)
السنة في تقسيم صفوف صلاة الجنازة
ورد في حديث لـ مرثد بن عبد الله اليزني قال: كان مالك بن هبيرة رضي الله عنه إذا صلى على الجنازة فتقال الناس عليها جزأهم عليها ثلاثة أجزاء، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب).
الحديث رواه الإمام أبو داود، ورواه الترمذي، ورجاله ثقات، إلا أن فيه محمد بن إسحاق وقد عنعن فيه، ومحمد بن إسحاق صدوق، ولكن إذا عنعن يخشى من تدليسه، فلذلك الحديث المرفوع فيه ضعف، لكن الموقوف على مرثد بن عبد الله من فعله صحيح.
ويشهد للمعنى المرفوع أحاديث جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى، وهو تقسيم المصلين ثلاثة صفوف على الميت إذا كان العدد قليلاً، فـ مالك بن هبيرة كان إذا صلى على الجنازة فتقال الناس، أي: وجد العدد قليلاً، قسمهم ثلاثة صفوف خلف الجنازة.
وفي حديث آخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ومعه سبعة نفر، فجعل ثلاثة صفاً واثنين صفاً وواحداً صفاً).
فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم في تقسيم الصفوف خلف المتوفى، فإذا كان الصف في المسجد يسع ستين أو سبعين أو واحداً وكان العدد قليلاً، فإنا نقسم العدد القليل على ثلاثة صفوف، حتى لو وصل الأمر إلى أن يكون وراء الإمام ثلاثة وخلفهم اثنين وخلفهما واحد.
وبذلك تحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصر المرء على أن يكون في الصف الأول، بحيث يقوم الناس ويحصل بينهم مشاحة مشاكل والميت بين أيديهم.
وفي حديث مالك بن هبيرة: (ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب)، وفي رواية: (إلا غفر له)، فكان مالك إذا استقل أهل الجنازة جزأهم ثلاثة صفوف.
وإذا لم يوجد مع الإمام غير رجل واحد فإن الإمام يقف وخلفه هذا الواحد فيصليان على الجنازة.
وذلك بخلاف الصلاة العادية، فإذا كان المصليان اثنين فإنه يقف الإمام وعن يساره الآخر.(90/7)
الأحق بالإمامة في الصلاة على الميت
والذي يصلي على المتوفى -في قول أهل العلم- هو الوالي أو نائبه، فإذا كان هناك إمام للمسلمين أو أمير لهم في بلد من بلاد الإسلام فهو الأولى بالإمامة؛ لحديث أبي حازم قال: إني لشاهد يوم مات الحسن بن علي رضي الله عنه فرأيت الحسين بن علي قال لـ سعيد بن العاص: تقدم، فلولا أنها سنة ما قدمتك.
فالـ الحسين هو وأخوه سيدا شباب أهل الجنة، ومات الحسن رضي الله عنه والحسين موجود، ومع ذلك قدم الحسين الوالي، وقال له: تقدم، فلولا أنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما قدمتك، فالوالي أحق من غيره.
قال أبو هريرة رضي الله عنه وذكر مثله: (أتنفثون على ابن نبيكم بتربة تدفنونه فيها؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني؟).
وهذا إذا كان يوجد أحد من أهل الإمارة في بلدة إسلامية فيها إمام أو أمير وهو يصلي بالناس، فهو أحق.
فإذا لم يكن كذلك فإمام المكان هو الأولى بذلك، فإذا كان في المسجد إمام فهو أولى بذلك، ولكن لا مانع من أن يقدم من يريد، دون أن تحصل الفوضى على مثل هذا الشيء، ومن أراد أن يتقدم من أهل الميت فليقدمه، وليس هذا هو الأصل، وإنما الأصل أن لا يتقدم أحد على ذي سلطان في سلطانه، ولا على صاحب مكان في مكانه إلا بإذنه، ولكن في مثل هذه الأمور قد يحب أهل الميت أن يتقدم أحدهم، فلا مانع من مثل ذلك، طالما أن الإخلاص موجود، فليصل الإنسان إماماً أو مأموماً.(90/8)
ما يقال ويفعل في صلاة الجنازة
وأما ما يقال في صلاة الجنازة فإنه يكبر المصلي أربع تكبيرات، يتعوذ بعد الأولى، ثم يقرأ فاتحة الكتاب، وأما في الصلاة العادية فإنك تبدأ بعد تكبيرة الإحرام بالاستفتاح في الصلاة بنحو قولك: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك).
أو: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) إلخ.
لكن صلاة الجنازة ليس فيها ذلك، فصلاة الجنازة صلاة سريعة، تبدأ فيها بعد التكبير بقولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ثم تقرأ الفاتحة، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجنازة استفتاح.
ثم يكبر الثانية، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعدها، سواء أرفع اليدين في كل تكبيرة أم اكتفى برفع اليدين في التكبيرة الأولى فقط، فهذا كله واسع، والأمر جائز في ذلك وواسع.
لكن الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أنه كبر ورفع في التكبيرة الأولى، ولم ينقل الرواة أنه رفع بعد ذلك، بل سكتوا عن التكبير الذي بعد ذلك، فمن قال: الأصل أن كل فعل في الصلاة يحتاج إلى دليل فإنه يقول: أتوقف في ذلك فلا أرفع في غير التكبيرة الأولى.
ومن قال: إن بعض الصحابة ثبت عنه أنه رفع اليدين في كل تكبيرة مثل عبد الله بن عمر فإنه يقول: إن الصحابي فعل ذلك، فنأخذ بفعله.
ولذلك قلنا: الأمر واسع، فإن شئت رفعت اليدين وإن لم تشأ لا ترفعهما؛ إذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في أنه رفع في غير تكبيرة الإحرام.
والحاصل: أنه يتعوذ بعد الأولى ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مذكور في آخر التشهد، فيقول: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، ثم بعد ذلك يكبر ويدعو للإنسان المتوفى.
يقول لنا النووي رحمه الله: ولا يفعل ما يفعله كثير من العوام من قراءتهم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب:56]؛ لأنه كان الاختراع والابتداع في زمن الإمام النووي كثيراً، وفي كل زمان تجد أشياء من ذلك.
فكانوا يفعلون ذلك في عهد الإمام النووي، فنبه على أن هذه آية في القرآن، لكن لا تفعل ما يفعله هؤلاء؛ فإن هذا ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النووي رحمه الله تعالى: فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه.
أي: أن بعض الناس بدلاً من أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد يقول: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
فهنا لم يأت بالأمر: (صلوا) ولم ينفذه، مع أن المطلوب هنا التنفيذ، بأن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فتقول: (اللهم صل على محمد).
ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت وللمسلمين بما سنذكره من الأحاديث إن شاء الله، ثم يكبر الرابعة ويدعو، ومن أحسنه: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله)، فهذا دعاء قصير جداً، والمقصود: أن تخلص في الدعاء، فإذا أخلصت في الدعاء فادع بما شئت.
يقول رحمه الله: والمختار أن يطول الدعاء في الرابعة، خلاف ما يعتاده أكثر الناس.
يعني: أن بعض الناس يرى أنه بعد التكبيرة الرابعة يسلم، وهذا يختاره بعض أهل العلم، فيكبر التكبيرة الرابعة ويسلم، فالإمام النووي يقول: المختار أنه يدعو ويطيل الدعاء بمثل هذا الذي ذكره، وهو: (اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله).(90/9)
دعاء مأثور في الصلاة على الميت
فأما الأدعية المأثورة بعد التكبيرة الثالثة فمنها: ما جاء عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار).
هذا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كلمات يسيرة يعتبرها النووي رحمه الله تعالى طويلة، يقول: يدعو بمثل ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ويطيل في الدعاء.
يعني: بمثل هذا الذي جاء في هذا الحديث، وأجمل ما يكون وأوعى ما تقوله وأجمعه هو ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو أرحم الخلق بأمته عليه الصلاة والسلام، وقد أمرنا بالإخلاص في الدعاء وأن ندعو للمتوفى، وهو كان يدعو بذلك، فلنحفظ أحاديثه صلى الله عليه وسلم في الدعاء للميت، ولندع للميت بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ودعا به.
ففي هذا الحديث قوله: (اللهم اغفر له وارحمه)، فجمع له بين المغفرة والرحمة، فقوله: (اغفر له) أي: امح عنه الخطايا، أو استر الخطايا؛ لأن الغفر هو الستر، ومعنى التكفير المحو، فهنا كأننا نقول: اغفر لهذا المتوفى واستر خطاياه، وإذا سترت خطاياه فارحمه.
وقوله: (وعافه واعف عنه)، الدعاء بالعافية في الآخرة بمعنى رحمة الله سبحانه وتعالى، أي: أن ينقذك من عذاب النار.
فالمعافاة هنا من العقوبة في القبر ومن العذاب في النار.
وقوله: (واعف عنه) يعني: فلينله عفوك يا رب العالمين، وتجاوز عن هذا الإنسان وسامحه.
وقوله: (وأكرم نزله)، النزل هو الضيافة، أي: يا رب! قد نزل هذا ضيفاً عندك، فأكرم نزله وأنت أكرم الأكرمين، أكرم هذا الإنسان الذي نزل ضيفاً ضعيفاً عندك يا رب العالمين.
قوله: (ووسع مدخله)، القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار، والقبر يوسع على صاحبه أو يضيق عليه، فتدعو للمتوفى بأن يوسع الله عز وجل له في قبره.
قوله: (واغسله بالماء والثلج والبرد)، هذا من التوكيد، فإذا غسل الإنسان بالثلج وغسل بالماء وغسل بكل شيء طاهر ينزل من السماء فإنه ينقى، والمعنى: نقه من الذنوب ليلقاك ولا شيء عليه.
وتكون التنقية في الدنيا من الذنوب بالابتلاءات.
وأما القبر فليس فيه إلا العذاب أو الرحمة، فكأنه يقول: يا رب! ارحمه واغسله بفضلك وبرحمتك، وطهره من هذه الذنوب؛ ليلقاك يوم القيامة ولا شيء عليه.
قوله: (ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس)، أي: اجعله كالثوب الأبيض الذي لا دنس فيه ولا نجاسة عليه، والله على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، فكما أن هذا الثوب يصير أبيض بفضل الله سبحانه تبارك وتعالى، كذلك نقول: اجعل هذا الميت في بياض هذا الثوب، وأنت الذي تفعل به ذلك يا رب العالمين.
قوله: (وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه)، أي: ندعوا بأن يبدله الله عز وجل داراً خيراً من داره، فهذه الدار الدنيا التي لا قيمة لها ضيقة على أصحابها، منغصة على أهلها، لكن الدار الآخرة هي رياض الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
قوله: (وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه)، هذا توكيد، فندعو للميت بأن يبدله الله تعالى زوجاً خيراً من زوجه، وهذا إذا كان رجلاً، أما إذا كان الميت امرأة فلا يستحب ذلك، فالرجل يتزوج بالحور العين، وتكون زوجته معه في الجنة أيضاً، وهي من أجمل نساء أهل الجنة.
لكن المرأة تكون لآخر أزواجها، فلا ينبغي أن يدعى بمثل ذلك للمرأة فيقال: أبدلها زوجاً خيراً من زوجها، لا يقال ذلك، ولكن يقال هذا للرجل فقط، وإن كان بعض أهل العلم حمله على معنى له وجه، وهو أن قوله: (أبدلها زوجاً خيراً من زوجها)، المراد به نفس الزوج، وحين يكون من أهل الجنة يكون خيراً لها مما كان لها في هذه الدنيا، فإذا قال الإنسان ذلك فلينو هذا المعنى، وإلا فلا يقله.
قوله: (وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر)، هذا دعاء له بكل الخير من تكفير للخطايا ومن غفران للسيئات، ومن نيل للرحمات، وأن ينقيه الله سبحانه وتعالى، وأن يغسله من ذنوبه، وأن يدخله الجنة، وأن يجيره من عذاب القبر، ومن عذاب النار.
ومن جمال هذا الدعاء الجامع الشامل أن الصحابي راوي الحديث -وهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنه- يقول: حتى تمنيت أن أكون أنا هذا الميت.
أي: كان يتمنى أنه ذلك الميت الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء الجميل كله.
وهناك أدعية أخرى نرجئها للحديث القادم إن شاء الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(90/10)
شرح رياض الصالحين - ما يقرأ في صلاة الجنازة وما جاء في الإسراع بالجنازة
لقد جاء الإسلام شاملاً كاملاً مستوعباً لجميع نواحي حياة الإنسان، مشرعاً له في كل شأن من شئون حياته، وفي كل مرحلة من مراحل عمره من يوم ولادته إلى يوم وفاته، وحتى بعد وفاته فلم يترك شيئاً عبثاً.
وإن مما شرعه الإسلام بعد وفاة هذا الإنسان الصلاة عليه وغسله ودفنه وقضاء ديونه، وغير ذلك.(91/1)
الدعاء في صلاة الجنازة وكيفيته
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: ما يقرأ في صلاة الجنازة عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار قال عوف: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت) رواه مسلم].
وأما كيفية صلاة الجنازة: فإنه يقرأ في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الأولى: بفاتحة الكتاب.
وبعد التكبيرة الثانية: يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، قائلاً: اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
وبعد التكبيرة الثالثة: يدعو للميت.
ثم بعد التكبيرة الرابعة: يدعو لنفسه، ويدعو للميت، ويدعو للمؤمنين.
فالدعاء يكون بعد التكبيريتين الثالثة والرابعة.
وقد جاءت أحاديث جامعة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الدعاء في صلاة الجنازة، فمن حفظها ودعا بها للميت فقد قال شيئاً عظيماً، وأتى بخير كثير في الدعاء لهذا المتوفى.
ومن ذلك: حديث عوف بن مالك الذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء الميت: (اللهم! اغفر له، وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيرا ًمن داره، وأهلا خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار).
يقول عوف بن مالك رضي الله عنه راوي الحديث: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت؛ وذلك من جمال هذا الدعاء، فبسبب أنه دعاء كامل وجامع فقد تمنى رضي الله عنه أن لو كان هو هذا الميت، فقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة، وبالرحمة، والعفو والمعافاة في الدنيا فاسأل الله العفو والعافية، بأن يعافيك في بدنك، وفي دينك، وفي أهلك ومالك.
وأما في القبر فقد انتهى التكليف الذي كان في الدنيا، إذاً المعافاة في القبر هي: النجاة من أثر الذنوب وعقوبتها، والنجاة من العذاب في القبر، والنجاة من العذاب يوم القيامة، فهذه هي المعافاة للميت، ومن عافاه الله سبحانه فقد فاز فوزاً عظيما.(91/2)
شرح ألفاظ دعاء الميت في حديث عبد الرحمن بن عوف
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله)، أي: المكان الذي نزل فيه، وكأن المقصود الضيافة؛ لأن النزل هو: الضيافة، فكأن هذا الميت ضيفاً على الله عز وجل، فكأنك تقول لله عز وجل: هذا ضيف نزل عندك، فأكرم هذا الضيف، كما أمرتنا أن نكرم الضيوف في الدنيا، فتفضل عليه بأن تكرمه، وقد نزل عندك.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وأكرم نزله ووسع مدخله)، فلأن القبر إما أن يضيق على صاحبه، فيكون ضيقاً جداً، وإما أن يوسع لصاحبه فيكون كمد البصر، وذلك بحسب عمل صاحب القبر، الذي عمله في الدنيا.
وكذلك إما يكون القبر روضة من رياض الجنة، أي: جنة عظيمة، ورياض واسعة، وإما أن يكون حفرة -والعياذ بالله- من حفر النار.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس) أي: نقه من الخطايا، واغفرها له، واغسلها وامحها عنه، بحيث يصير نقياً كالثوب الأبيض ناصع البياض الذي ليس فيه شيء من آثار الدنس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأبدله داراً خيراً من داره)؛ لأن داره كانت في الدنيا بكدرها وضيقها، فدعا له صلى الله عليه وسلم بأن يبدله داراً هي أفضل منها، وهي: الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه) يعني: من الحور العين في الجنة، إذا أدخله الله عز وجل جنته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)، فيه عظم هذا الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم في معافاة هذا الإنسان في كل أحواله، من وقت ما يقدم على ربه وهو في قبره إلى أن يبعث، ويدخل الجنة.
ولذلك فإن الصحابي راوي الحديث تمنى أن يكون هو هذا الإنسان المتوفي، ولا يوجد أحد يتمنى الموت، ولكن مع هذا الدعاء العظيم من النبي صلى الله عليه وسلم -ودعاءه مستجاب عليه الصلاة والسلام- فقد تمنى أن يكون هو هذا الميت.(91/3)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للميت في حديث أبي قتادة
ومن الأدعية الواردة في صلاة الجنازة: ما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم كما ورد عند الترمذي من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي قتادة، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا).
فهذا هو الذي تدعو به للميت ثم تدعو لنفسك وللمسلمين أيضاً، فبعد التكبيرة الثالثة تخص الميت بالدعاء، وإن شئت جعلت الدعاء له في التكبيرتين الثالثة والرابعة ولا تحرم نفسك والمسلمين من الدعاء، فلعل الله عز وجل أن يستجيب، ولعلك أن تستحضر في هذا الوقت الإخلاص والخشوع والخوف من الله عز وجل، فيستجيب الله دعاءك، فلا تحرم نفسك من أن تدعو لنفسك وتدعو للمؤمنين.
ولكن بجوامع الدعاء التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد دعا بقوله: (اللهم! اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وذكرنا وأنثانا، وصغيراً وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا اللهم! من أحييته منا، فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) فهذا دعاء شامل كامل من النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، صلوات الله وسلامه عليه.
فيدعو ربه سبحانه بقوله: اللهم! اغفر للجميع، ويخصه، وإن كان حقيقة التخصيص فيه التعميم، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (لحينا) يخص كل الأحياء والإنسان إما حي وإما ميت، وقد قال في الدعاء: اغفر لحينا وميتنا، فحقيقته هي: التعميم فقد عم النبي صلى الله عليه وسلم الجميع بقوله: (اغفر لحينا وميتنا).
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وشاهدنا وغائبنا) فإن الناس إما شاهد، وإما غائب، فالشاهد هو الموجود، والغائب إما أن يكون غائباً الآن، وإما أن يكون تحت التراب، فكأنه جمع الجميع بقوله.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (وذكرنا وأنثانا)؛ لأن الناس إما ذكور وإما إناث، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم للجميع.
وكذلك قوله: (وصغيرنا وكبيرنا) نفس الأمر أي: أن الناس إما صغار وإما كبار، فكأن هذا الدعاء هو الأولى؛ لأنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه من التأكيد الشيء الكثير، وقد تفنن في الانتقاء صلوات الله وسلامه عليه.
فكأنه يقول: اللهم! اغفر للجميع.
ولكن بتفنن جميل في الدعاء.
فشمل دعاؤه صلى الله عليه وسلم الجميع.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم! من أحييته منا فأحييه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان) أي: أن الله إما أن يقدر لنا الحياة، وإما أن يقدر لنا الموت، فيقول: إذا قدرت لنا الحياة فأحيينا على الإسلام، وثبتنا عليه، وإن قدرت لنا الموت فتوفنا على الإيمان.
ثم قال: (اللهم! لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) أي: هذا الإنسان الذي توفي وفارقنا، اللهم! لا تحرمنا أجر أن صلينا عليه وشيعناه ودعونا له.
وكذلك لا تفتنا بعده؛ فقد مات هذا الإنسان، ومددت لنا في أعمارنا، فلا تجعلنا فتنة للناس بعد موته، ولا تفتنا بغيرنا في هذه الحياة الدنيا.(91/4)
الأمر بإخلاص الدعاء للميت
مما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في أمر الجنائز ما رواه أبو داود، وحسنه الشيخ الألباني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء) وهذا الأمر مهم جداً وليس الأمر من الذي يصلي عليه، ولكن من الذي يؤم، والمهم أن يخلص الجميع في الدعاء للميت.
وإذا كانت الصلاة على الميت في المسجد فأولى الناس بالصلاة عليه هو إمام المسجد، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه)، وأما إذا كانت الصلاة خارج المسجد كأن يصلون عند المقبرة، أو في المصلى، أو في غيرهما، فليتقدم وصي الميت إن كان أوصى أن فلاناً يصلي عليه، وإن كان الأفضل في الإمامة على كل الأحوال في أي صلاة جماعة سواء كانت صلاة على الميت أو غيرها أن يؤم القوم أحفظهم لكتاب الله، وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فهذا هو المقدم في الإمامة، إذ قدمته الشريعة، ولا يؤخر من قدمته الشريعة.
وقد تجد أحياناً بعض الناس يظن أن المسألة من باب التزين والتجمل، فتجد أن أولياء الميت وأهله يتخاصمون فيما بينهم فيمن سيصلي على هذا المتوفى، والأهم من ذلك هو الإخلاص في الدعاء، سواء كنت إماماً أو كنت مأموماً، فإذا أخلصت في الدعاء استجاب الله سبحانه وتعالى، ولن يكون هناك فرق سواء كنت إماماً أو مأموماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أخلصوا له الدعاء).
فالمطلوب إذاً: أن تستحضر النية الصالحة، وتستحضر أنك ستكون مكانه في يوم من الأيام، ولا تدري هل سيصلي عليك مجموعة كبيرة أو عدد قليل، وهل سيخلصون لك في الدعاء أم لا؟ فلذلك عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، فإنك إذا كنت في هذا الموقف فإنك تحب من الناس أن يدعوا لك بإخلاص، فادع لهذا المتوفى، كما تحب أن يدعى لك، ولا تبخل بالدعاء فإنك لن تخسر شيئاً، ولن تدفع من جيبك، وإنما الله عز وجل هو الذي يعطي، فادع له بالجنة، وادع له بالفردوس الأعلى فيها، وادع له بالرحمة، فلعل الملائكة أن تدعوا لك، وتقول: ولك مثله، ولك مثله، فادع لأخيك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، واسأل له التثبيت، وادع له بما تحب أن يدعى لك.
ذكر الإمام النووي رحمه الله هنا حديثاً آخر رواه أبو داود بإسناد ضعيف، ورجاله ثقات إلا: علي بن شماخ، لم يوثقه سوى ابن حبان، فالحديث في إسناده ضعف يسير.
قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم! أنت ربها وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت توفيتها، وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئنا شفعاء له، فاغفر له) فأنت أيها المسلم جئت لتصلي على المتوفى وتشفع له.
الشفاعة معناها: أن لا تجعله وحده، فأنت شفعته، أي: صرت معه تدفع عنه بدعائك وبإخلاصك، فلذلك قال: (جئنا شفعاء له، فاغفر له) لعل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنه، ويعفو عن سيئاته.
ومن الأحاديث الصحيحة: ما رواه أبو داود عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم! إن فلان ابن فلان في ذمتك وحبل جوارك، فقه من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم! فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم).
فيستحب أن تدعو بأي دعاء شئت؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل كل الأدعية في صلاة واحدة، ولكن مرة قال بكذا.
ومرة قال بكذا، ومن هنا فإننا نعرف أن طول صلاة الجنازة غير مستحب، فلا تكون صلاة طويلة جداً بحيث يمل الناس، يقفون حتى لا يجدوا شيئاً يقولونه، ولكن تكون الصلاة بقدر ما دعا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وإن شئت جمعت حديثين أو ثلاثة أحاديث فيما جاء من ذلك، ودعوت بهما للميت، ولكن البعض أحياناً قد يقف ويدعو للميت دعاءً طويلاً، حتى يمل من خلفه، ويظلوا سكوتاً، لا يعرفون ماذا يقولون، فيذهب عنهم الإخلاص، ويشق عليهم بذلك.
ولذلك عندما قال الإمام النووي رحمه الله: يستحب الإطالة بعد التكبيرة الرابعة، فإنه يقصد: الإطالة بقدر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، لأن بعض العلماء يقولون: لا يوجد بعد التكبيرة الثالثة دعاء، وإنما تكبر، وتقف شيئاً يسيراً، وتسلم من غير دعاء، فالإمام النووي يقول: قف، وادع بعد الثالثة بمثل هذا الدعاء الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.(91/5)
السؤال في القبر
ويسأل الإنسان في قبره: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي جاء فيكم؟ والسؤال صعب جداً؛ لأن الإنسان وهو في قبره وقد انصرف الناس من حوله، يأتيه ملكان، فينهرانه بشدة، فمثلاً: لو كنت واقفاً في الطريق وصاح أحد عليك بصوت عال فإنك تفزع وتخاف وأنت قوي قادر، فما بالك وأنت داخل القبر، مربوط في كفنك، لا تعرف ماذا ستفعل؟! نسأل الله العفو والعافية.
فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، أصواتهما وصراخهما عال وشديد جداً، لا يسمعهما أحد إلا هذا المتوفى، فينهرانه ويجلسانه، ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فلا ينفع الإنسان إلا ما كان عليه في الدنيا من عبادة الله والخوف منه سبحانه، وهنا يثبت الله الذي يريد أن يثبته، فلا أحد معك في قبرك وإن أقصى شيء يسمعه الإنسان المتوفى هو قرع النعال، وهي حالة من حالات الفزع التي تكون على الإنسان، فقد أصبح لوحده الآن، وهذا فيه إفزاع للإنسان، فإنه وهو في قبره لا أحد معه، فكل الناس رجعوا وتركوه، فإذا كان عبداً مؤمناً فإن الله يثبته في هذه الحالة.
فيجيب قائلاً: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيسألانه: ما معرفتك به؟ فيجيب بقوله: جاءنا بالبينات فصدقت وآمنت، أي: أعطاني كتاباً من عند الله سبحانه، أعطانا سنته صلوات الله وسلامه عليه، فقد أتى بآيات معجزات، فعرفنا أنه رسول الله، فهو ثابت يجيب لا يتزعزع ولا يتزلزل فينجح في الامتحان، وتلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27]، فإذاً يضل الإنسان إذا كان ظالماً وفاجراً وشقياً كافراً في هذه الدنيا، فإذا سأله الملكان في القبر: من ربك؟ وما دينك؟ وما كنت تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: لا أدري، لا أدري، فيزيغ، ولعله في الدنيا كان يقول: لا إله إلا الله، ولكنه لم يثبت عليها في قبره، فقد ضاعت منه هذه الكلمة؛ لأن الذنوب ثقلت لسانه في وقت وفاته، فلم يقدر على هذه الكلمة، ثم لما كان في قبره فإن ذنوبه واستهزاؤه بالمؤمنين، أضاع عن خاطره ذلك، في موقف فيه الفزع، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ولا دريت، دعاء عليه، أي: إن شاء الله ما دريت، ولا تليت، أي: ما قرأت القرآن قبل ذلك، ولا تعلمت آداب هذه الشريعة، فقد كنت غافلاً، ولاعباً، وماشياً في الدنيا كأهل الباطل شمالاً ويميناً، ناسياً ربك تبارك وتعالى، والآن ننساك ونتركك وحيداً في قبرك.
فينادي مناد: أن كذب عبدي.
ويقال له: إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ألا تعرف النبي صلى الله عليه وسلم؟!! فيقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلت، أي: قلدت الناس، أي: أن الناس كانوا يقولون شيئاً، فقلته، فقلدت الناس، عملت مثل ما عمل الناس.
وكثير من الناس لا يعرف أنه قال: لا إله إلا الله، أو لا يذكر الله إلا عندما يتعارك مع الناس، فيرفع صوته، ويقول: لا إله إلا الله، وهو يتعارك، أما وهو طبيعي فلا يذكر الله، بل ينساه سبحانه وتعالى، وعندما يحب أن يتعجب يقول: سبحان الله، لا أعرف ماذا كذا وكذا، فيقولها على وجه التعجب والإنكار أما أن يجلس يذكر الله سبحانه وتعالى خاشعاً له، متأدباً معه فلا يفعل ذلك.
فإذا كان هذا الإنسان الذي في قبره قد نسي الله سبحانه وتعالى في الدنيا، وكان فاجراً شقياً، فإنه يقول: سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته يعني: كان مع الناس يقول كما يقولون: لا إله إلا الله فقال: كما قال الناس، فلم ينفعه ذلك في قبره، وإذا به يسمع قائلاً يقول: افتحوا له باباً إلى النار، وأروه منزله من النار، وافرشوا له لوحين من النار والعياذ بالله، فيصير القبر عليه حفرة من حفر النيران نسأل الله العفو والعافية.
ولذلك فعندما تدعو لميت فاستحضر هذا كله، وأنه مسكين، قد ذهب إلى ربه، فيحتاج إلى الدعاء، فادع له بالتثبيت، وادع له بالمغفرة.
في نهاية هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فقه فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد، اللهم! فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم).
من الأحاديث التي جاءت في ذلك: ما روى الحاكم وقال: صحيح، وإن كان في إسناده ضعف، عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات.
وروى البيهقي بإسناد صحيح فيه فقام بعد الرابعة كقدر ما بين التكبيرتين، وساقه الإمام النووي من رواية الحاكم ولكنها بإسناد ضعيف، ولكن ورد مثلها، ورواها البيهقي بإسناد صحيح، وفيه: أن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه كبر على جنازة ابنة له أربع تكبيرات، فقام بعد الرابعة، كقدر ما بين التكبيرتين، يعني: كأن كثيراً منهم كانوا يصلون فإذا أتوا بالتكبيرة الرابعة لا يدعون، وإنما يسلمون فوراً فهو قام مثلما قام قبلها في الدعاء الذي في التكبيرة الثالثة، يستغفر ويدعو لها.
ثم قال: بعدما جلس فترة، أي: إن راوي الحديث يقول: كبر أربعاً، فمكث ساعة حتى ظننت أنه سيكبر خمساً، ثم سلم عن يمين وعن شمال، وكلمة: ساعة بمعنى: لحظة، أي: شيئاً من الزمن، وليس معنى الساعة ستين دقيقة، ولكن المقصد منه لحظة، فهو وقف قليلاً، أي: فترة، يدعو للميتة فلما انصرف قلنا له: ما هذا؟ أي: إنك بعد التكبيرة الرابعة وقفت تدعو أيضاً، كأنهم نسوا هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كثيرون لا يفعلونه فقد كانوا يدعون بعد التكبيرة الثالثة، وأما بعد الرابعة فيسلمون فوراً، فلما قالوا له ذلك قال: إني لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع، أو هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.(91/6)
باب الإسراع بالجنازة
الإسراع بالجنازة سنة، والإسراع أنواع: إسراع من لحظة ما يتوفى الميت، فهو إسراع في التجهيز، وإسراع في استخرج تصريح بدفنه، وإسراع في حفر القبر، وإسراع في إحضار المغسل، وإسراع في إحضار الكفن، فلا يطول هذا الشيء وإنما بقدر ما يجتمع الناس الذين يصلون عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا في الحديث أنه: (إذا صلى عليه أربعون يشهدون أن لا إله إلا الله) أي: أربعون من الموحدين، وفي الحديث الآخر: (مائة يوحدون الله سبحانه إلا شفعوا فيه) فإذاً نحرص على أن يصلي على هذا المتوفى على الأقل أربعون شخصاً يصلون عليه، أو مائة، والناس الذين يحضرون في الجنائز كثيرون، فإذاً لا داعي للإسراع الذي يجعل الكثيرين لا يشهدون الجنازة، وأيضاً لا داعي للإبطاء الممل الذي يجعل الناس يقولون: لن نحضر جنازة مرة ثانية؛ لأنهم يؤخرونا ويعطلونا، فالأمر على الوسط، فالإسراع يكون بالتجهيز، وتبلغ من سيحضر الجنازة، بحيث إنه يصلى على الميت إذا توفي، ويدفن في اليوم الذي توفى فيه.
إلا أن يتعذر ذلك، كما في عادة بعض البلدان أن المقبرة تقفل بعد العشاء، فمن الصعب أن نذهب بعد العشاء ونفتح له قبراً، ولكن في مكة والمدينة المقبرة مفتوحة في أي وقت، ففي أي وقت يدفن الإنسان المتوفى، فعلى ذلك إذا كانت عادة أهل البلاد الإسراع لمثل ذلك، فيدفن ولا يؤخر إلى الصباح حتى يحضر الناس.
وينظر أيضاً هل يتغير الميت أو لا يتغير، وأي إنسان يتوفى إذا مر عليه وقت فإنه يتغير، فالإنسان بداخله معدة وأمعاء فتتحلل، ويخرج منه رائحة كريهة، وليس هذا دليل على أن ذلك الرجل سيء، والميت يتحلل في قبره، وتأكله الدود، إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإلا ما يكون من أمر الشهداء في من شاء الله سبحانه وتعالى.
إذاً: إذا كان الميت رائحته قد تغيرت فلا أحد يسيء فيه الظن، وإذا كان مستوراً داخل صندوق، وقد تغير الميت، فاتركه على وضعه، وصل عليه وهو على هذه الحالة، وقبل إنزاله القبر افتح الصندوق وأنزل الميت في قبره، واستره، واجعل له أعذاراً مثل أن تقول: تأخر أهله في الدفن، وأحسن الظن في أخيك المسلم، ولا تدري إذا كان حدث له هذا الشيء، فأنت ماذا سيحصل لك في مثل موقفه؟ فلا تسيء الظن في أحد.
وأحياناً تأتي الجنائز خارج المسجد، وأهل الميت يقولون: سنصلي عليه داخل السيارة، فافهم أنه بدأ يتغير، فلا تحرج الناس، بأنه يجب أن ننزله وندخله داخل المسجد، فتتأذى وتؤذي الناس، بل اتركه في مكانه، وصلوا عليه في مكانه والغالب والعادة هو هذا الشيء، فهم يرفضون أن ينزلوه من داخل السيارة؛ لأن رائحته قد تغيرت، حتى لا يتأذى منه أهل المسجد، فدعه على مكانه، وصل عليه في المكان الذي هو فيه.
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)، يعني: في كل الأحوال الإسراع أفضل، فإن كان إنساناً صالحاً فاذهب به لما ينتظره في قبره من نعيم الله سبحانه، ومن رضاه.
وإذا كان إنساناً غير صالح، كأن يكون شريراً وغير جيد، فاذهب به أيضاً إلى المقبرة، ففي الحالتين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم).
ويستحب أن يكون الإسراع الذي لا يشق على الناس ولا يرهقهم، فلا تضع الميت داخل النعش، ثم تحمله وتجري به وما زال أهل المسجد في المسجد، وما زال الذين يلبسون أحذيتهم في المسجد.
فإذاً: لا بد من الإسراع في تجهيز الميت، والإسراع في دفنه، والمشي الذي لا يشق على الناس، وخاصة عندما يكون هناك كبار سن يمشون وراءها، ويريدون الوصول إلى المقابر، فإنه يصعب عليهم الجري مع من يجري، فإذاً يكون الإسراع بالجنازة، من غير أن نشق على الناس، ومن غير أن يختلف كلام الناس، كما يحدث في جنائز كثيرة، وأحياناً بعض الناس، يخرجون وراء الجنازة، وبعد أن يمشوا عشرة أو اثنتي عشرة خطوة يرجعون؛ لأن الجنازة فاتت، ولن يستطيعوا إدراكها، فيكون نصف المشيعون قد تخلفوا؛ بسبب الجري والإسراع، وقد كانوا يريدون أن يصلوا عليها.
ومن الأحاديث في ذلك: ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة، قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق).
وقوله: (فاحتملها الرجال على أعناقهم)، احتج بهذه الجزئية بعض العلماء الأفاضل في أنه لا بد من حمل الجنازة على الأكتاف، وأنه لا يجوز حملها في سيارة إسعاف ولا غيرها وهذا احتجاج خاطئ ولا وجه له، وإنما حديث النبي صلى الله عليه وسلم وصف لحال موجود عندهم.
ولم ينكر على الصحابة حين توفي شهداء أحد وجاء أهل المدينة يحملون الشهداء على الجمال، والجمل مثل السيارة، إذاً: فهذا الأمر راجع للأيسر على الناس، فإن كان الأيسر أن تحمله في النعش فاحمله، وإن كان الأيسر أن تحمله في سيارة فاحمله فيها ولا وجه للقول بأن هذا الأفضل، وإنما الأفضل ما لا يشق على الناس في ذلك، فالأمر بحسب الأيسر على الناس.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني)، فإذا كان الميت صالحاً فإن الملائكة تبشره بقولها: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان.
فالإنسان يبشر عندما تخرج روحه، فتبشره الملائكة بأن ربك غير غضبان عليك، فلا تخف، فإذا دخل قبره كان التثبيت من الرب سبحانه، كما قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فروح الإنسان وهو على نعشه، ذاهبين به إلى القبر، تقول: أسرعوا؛ لأنه يرى النعيم الذي ينتظره هنالك، فيريد أن يسرعوا به إلى مكانه، فتقول روحه: قدموني.
وإذا كانت غير صالحة وكان الميت إنساناً فاجراً أو شقياً، فتقول لأهله: يا ويلها! ولاحظ حسن التعبير والالتفات فلم يقل: يا ويلي! حتى لا يرجع الضمير إلى المخبر، وإنما الذي يقول ذلك هو الميت، فتقول هذه الجثة وهذه الروح: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها، والكون كله وأهله لا يسمعون شيئاً، وأهله يزيدون عليه المصيبة التي هو فيها، فيصيحون عليه، ويزيدونه عذاباً فوق ما هو فيه، وهو يقول: يا ويله! أين تذهبون به؟ فأنتم لا ترون الذي أراه، قال عليه الصلاة والسلام: (يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) فالإنسان لا يسمع هذا الصوت، ولو أن صوت الميت سمعه الناس لصعقوا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولو سمع الإنسان لصعق)، من فزعه، وهول ما يراه، فإذاً: لو رأى الناس الذي يراه الميت، ولو كشف لهم عن الغيب فرأوا ما يكون في قبره لكان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تسمعون ما أسمع لما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون) أي: لو كانوا يسمعون ما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون ما يراه من الغيب، ومن عذاب أهل النار، وما يكون من السؤال في القبر، وسؤال يوم القيامة، ولو يعرفون ما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لما استمتعوا بشيء من الدنيا، ولكن الله الكريم سبحانه وتعالى حجب عنا ذلك، وأخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإيمان الذي يطلبه الله عز وجل من عباده هو الإيمان بالغيب كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]، ولذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومما أعده الله عز وجل للأشرار والفجار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(91/7)
شرح رياض الصالحين - من (المبادرة بقضاء دين الميت) إلى (ما جاء في الصدقة عن الميت والدعاء له)
إن الواجب على أهل الميت المبادرة إلى تجهيزه بالغسل والتكفين، وتعجيل قضاء الدين عنه؛ لأن نفس المؤمن معلقة بدينه، فلا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى يقضى ما عليها من الدين.
ويستحب المكث عند قبر الميت بعد الدفن للدعاء له، بأن يثبته الله عند سؤال الملكين له في القبر عن ربه ونبيه ودينه.
كذلك يستحب الصدقة عن الميت؛ فإن ثوابها يصل إليه بعد موته؛ لما ورد في الأحاديث.(92/1)
ما ورد في التعجيل في قضاء الدين عن الميت والمبادرة في تجهيزه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تعجيل قضاء الدين عن الميت والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، فيترك حتى يتيقن موته.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقال: إني لا أُرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله)، رواه أبو داود].
هذا الباب أورده الإمام النووي في رياض الصالحين في كتاب عيادة المريض وتشييع الميت، وقد ترجمه بقوله: باب تعجيل قضاء الدين عن الميت، والمبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة، ومعنى الترجمة: أن الإنسان المؤمن إذا مات فعلى أهله أن يبادروا بتجهيزه، ومن ضمن هذه المبادرة وأهمها: أن يقضوا الدين الذي عليه إن كان عليه دين؛ لأنه من أخطر ما يكون على الميت، فإنه قد يحبسه عن رحمة الله عز وجل، وقد يعذب في قبره بسببه، فلذلك إذا ترك الميت وفاءً فيؤدوا عنه ما كان عليه من دين، وإذا لم يترك مالاً تصدقوا عليه وأدوا عنه الدين الذي عليه، بما يقدرون عليه، كما صنع أبو قتادة رضي الله عنه بالمتوفى الذي مات ولم يترك مالاً يقضى منه دينه.
في بداية هذا الباب ذكر المصنف رحمه الله تعالى حديثاً لـ أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (نفس المؤمن معلقة بدينه)، فالخطاب هنا والحديث عن المؤمن وليس عن الكافر.
ومعنى: نفسه معلقة أي: محبوسة، وجاء في قصة أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الآن حين بردت عليه جلده)، أي: كأنه سخن جلده وأحمي عليه؛ بسبب هذا الدين الذي كان عليه، فلما قُضي الدين -وكان الدين دينارين فدفعها أبو قتادة - عندها خفف عنه من هذا العذاب وبرد جلده.
قوله: (حتى يقضى عنه دينه) يعني: سواء كان هذا القضاء من ماله إن كان له مال، أو أن الورثة جمعوا من مالهم ودفعوا ما عليه، أو أن إنساناً صديقاً تصدق عنه بهذا المال فقضى عنه الدين، وإلا فإن هذا المتوفى سيظل محبوساً بالدين، وفي الحديث الآخر: (عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن الشهيد، هل يغفر له؟ فأخبر أنه يغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم للسائل: إلا الدين، فإن جبريل أخبرني آنفاً بذلك).
إذاً: من مات وعليه دين فإنه يسأل عن هذا الدين، ويحبس عن رحمة الله سبحانه وتعالى؛ بسبب هذا الدين، وحديث: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) قال عنه الترمذي: حديث حسن، وصححه الشيخ الألباني.
وأورد المصنف في هذا الباب كذلك حديثاً رواه أبو داود بإسناد ضعيف، عن حصين بن وحوح رضي الله عنه: (أن طلحة بن البراء رضي الله عنه مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت فآذنوني به)، ومعنى: فآذنوني أي: أعلموني عندما تكونون جاهزين للدفن.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وعجلوا به؛ فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله).
هذا الحديث إسناده ضعيف، ولكن معناه صحيح، يشهد له ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسرعوا بالجنازة)، فالإسراع يكون بتجهيز الميت: من تغسيل وتكفين وحفر قبر وحمل ومن الصلاة عليه، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بأن هذا الميت إما أن يكون من أهل الخير أو غير ذلك، فإذا كان من أهل الخير فأنتم تسرعون به إلى الخير، وإذا كان غير ذلك فهو شر تضعونه عن أعناقكم، فالخير في كل الأحوال أنكم تسرعون بالجنازة ولا تبقونها بينكم.
وهنا في الحديث قال: (فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم)، سبحان الله، الإنسان في حياته ينادى باسمه فلان بن فلان، لكن بعدما يموت، لم يعد يسمى باسمه، بل أصبح يقال له: جثة، فتسمعهم يقولون: هات الجثة، احمل الجثة ادفن الميت فقد صار الآن يعامل معاملة الجماد، بل إنه في الحديث سماه جيفة؛ لأن هذه الجثة إذا بقيت بين أهلها فإنهم لن يطيقوا ريحتها بعد تحللها وتحولها إلى شيء آخر، هذا كله يحدث للبدن، أما الروح التي هي داخل هذا البدن فلا يعلم سرها إلا الله سبحانه وتعالى، كما قال في محكم كتابه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85]، فهذه الروح مغلفة ولابسة هذه الثياب التي هي البدن، فإذا خرجت الروح أصبح الشخص كالثياب بلا إنسان، فإذا خرجت هذه الروح وذهبت إلى ربها سبحانه وتعالى صار الجسد كالثياب القديمة البالية، ولذلك وجب حمله ومواراته في التراب.
فإذا دفن في قبره فالله سبحانه وتعالى يرد عليه الروح بصورة معينة، ليست كصورتها في الدنيا، وإنما بصورة خاصة بالحياة البرزخية، حيث يشعر الجسد وتشعر الروح بكل ما يحدث لهما من السؤال والانتهار والجواب، وبعد ذلك يذهب بالروح إما إلى عليين وإما إلى سجين، وهذا البدن يشعر في القبر بالعذاب، كذلك الروح والجسد يأتيهما من فضل الله ورحمته، أو من عذاب الله ونقمته ما يشاءه الله سبحانه وتعالى لهما.
فقال هنا صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لجيفة) ووصفها بأنها جيفة مع أنها للإنسان المسلم.(92/2)
المراد بالإسراع في الجنازة
قوله صلى الله عليه وسلم: (أسرعوا بالجنازة)، يجوز أن تقول: بالجَنازة وبالجِنازة، بفتح الجيم وكسرها، ويقول العلماء: إن من ضمن الإسراع أن تجهز الجنازة ويسرع في ذلك لتدفن، لكن قيدوا هذا الإسراع فقالوا: الإسراع يكون في المشي وليس في الجري، أي: لا يجرى بالإنسان الميت؛ حتى لا يتغير من شدة الجري، خاصةً إذا كان منتفخاً أو كان قد مكث فترة وهو على هذا الوضع، وكذلك حتى لا تحصل مشقة على تابعي الجنازة.
يقول الشافعي والجمهور: المراد بالإسراع ما فوق المشي المعتاد، ولكن يكره الإسراع الشديد، ويقول الحافظ ابن حجر: يستحب الإسراع لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت، أو مشقة على الحامل أو المشيع؛ لئلا ينافي المقصود من النظافة وإدخال المشقة على المسلم.
فهذه قيود وشروط يذكرها الحافظ عند الإسراع بالميت.
فإذاً: الإسراع يكون بالمشي الذي فيه شيء من السرعة بحيث لا يحدث للميت بسبب هذا الإسراع مفسدة، ولا تحدث لحامل الميت مشقة من تعب وغيره أو أن المشيع يصير منفرداً، فتكون الجنازة في مكان وهو في مكان آخر.(92/3)
عدم المبادرة إلى تجهيز ودفن من مات فجأة حتى يتيقن موته
يقول الإمام النووي رحمه الله في باقي تبويبه لهذا الباب: المبادرة إلى تجهيزه إلا أن يموت فجأة فيترك حتى يتيقن موته.
ومعنى هذا الكلام: أنه لابد أن يتيقن من موت هذا الإنسان، فلا يدفن حتى يحصل اليقين بموته، والتيقن الآن يحصل بواسطة الطبيب الشرعي الذي يقوم بالكشف عن هذا المتوفى ويتأكد من وفاته، وإذا كان لا يوجد طبيب شرعي، أو يوجد ولكن لا يحضر غالباً، فهنا يقول أهل الميت وأقاربه أو من عنده خبرة ويتأكد من وفاته، لكن عليهم أن لا يتسرعوا في دفنه؛ لأنهم إن فعلوا ذلك ودفنوه وهو حي فكأنهم هم الذين قتلوه في هذه الحالة.(92/4)
الغاية من زيارة القبور وتذكر الموت
باب الموعظة عند القبر: القبر مكان أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالذهاب إليه لنتذكر الموت، وحثنا صلى الله عليه وسلم على الإكثار من ذكر الموت فقال صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات)، فالموت هدم للذات الإنسان، أي: أنه هو الذي يزيل متعة اللذات لهذا الإنسان، ويخرجه عن لذته وعن متعته، ويفسد عليه متعة الدنيا.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هادم اللذات؛ فإنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها) يعني: أن الإنسان إذا جاءته أموال كثيرة وعنده ما يشاء من النعم، فإنه يحس أنه في نعمة وفي سعة كبيرة؛ فإن هذا المال يطغي الإنسان ويجعله يشعر أنه أعلى وأفضل من غيره، لكنه إذا تذكر الموت، وما بعده من الأهوال والشدائد، وتذكر السؤال بين يدي الله سبحانه تبارك وتعالى، فإن ذلك يجعله ينسى الكبر والاستعلاء فيتواضع ويخاف من هذا الموت.
إذاً: إذا ذكر الموت في السعة فإنه يضيق على الإنسان، كأنه يقول له: احذر، لا تغتر بهذه السعة التي أنت فيها.
كذلك إذا ذكر الموت في ضيق فإنه يفرج على الإنسان ما هو فيه من الضيق، أي: أنه إذا ضاقت نفس الإنسان فعليه بتذكر الموت؛ لأننا مهما عمرنا فإننا سوف نموت، فالموت يأتي على الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والمسلم والكافر، فيأتي على الجميع، وطالما أن الموت سيأتي لا محالة، فلماذا نحزن فكل مصيبة دون الموت هينة.
فإذاً نستعد لأعظم المصائب وهو الموت، وما فيه من سؤال وحساب وعذاب، نستعد لذلك بالتوبة إلى الله عز وجل، والإكثار من ذكره سبحانه وتعالى.(92/5)
سبب نهي النبي عن زيارة القبور ثم تجويزه زيارتها
فلذلك لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم في فترة من الفترات عن زيارة القبور؛ لأنه خشي من أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه في الجاهلية من التفاخر بالقبور، كما قال الله سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2] أي: ألهاكم التفاخر فيما بينكم، حتى إذا انتهى عدد الأحياء فذهبتم تعدون الأموات، تقولون: هذه قبور أصحابنا فلان وفلان، كل هؤلاء من أهلينا، فهذا التكاثر والتفاخر بالأحياء والأموات ألهاهم عن ذكر الموت، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إلى القبور، حتى استقر التوحيد في القلوب، وذهب عنهم أمر الجاهلية والعصبية والافتخار بالآباء والأجداد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم ويؤدبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويحذرهم ويقول: (لينتهين أقوام عن فخرهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله أحقر من الجعل الذي يدهده الخراء بأنفه)، أي: يجعلهم مثل الخنفساء التي تدهده الغائط بأنفها، يقول للإنسان: إما أن نترك الافتخار بالآباء، أو يجعلك الله عز وجل أحقر من هذه الخنفساء، فعلى الإنسان أن لا يفتخر بالآباء، بل يفتخر بتقواه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فإن الإنسان إنما يرتفع بتقواه لله سبحانه تبارك وتعالى، وبطيبة قلبه وبحبه لله عز وجل وبعمله الصالح، أما أن يقول: أبي كان كذا وجدي كان كذا، فهذا من أفعال وأقوال أهل الجاهلية، الذين كانوا يفتخرون بالآباء والأجداد، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه ويؤدبهم، ومن ضمن هذا التعليم منعهم صلى الله عليه وسلم من الذهاب إلى المقابر، فلما استقر أمر التواضع في القلوب، وابتعدوا عن الافتخار بالآباء والأجداد، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الآخرة)، أي: اذهبوا لزيارة القبور ليس للافتخار بالآباء والأجداد والتكاثر بهم، وإنما زوروها لتتعظوا بهؤلاء الأموات الذين كانوا مثلكم يسيرون فوق الأرض وقد صاروا الآن تحتها، وكانوا يفتخرون على الخلق وقد صاروا الآن تحت التراب، فلعلكم تعتبرون حين ترون هذه القبور، وحين ترون ما صار إليه هؤلاء، فريق في الجنة وفريق في السعير.(92/6)
مشروعية الموعظة عند القبر وبدعية الدعاء الجماعي عنده
لقد كان صلى الله عليه وسلم أحياناً ينتهز الفرصة فيعظ الصحابة عند المقابر، كما جاء في حديث عن علي رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد، -الغرقد نوع من الأشجار فيه شوك- فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة، فنكس وجعل ينكت بمخصرته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة).
انظر لقد كانت موعظة النبي صلى الله عليه وسلم موعظة يسيرة قليلة لا يوجد فيها كلام كثير؛ لأن المجال ليس مجال خطبة طويلة ليقف الواحد ويظهر للناس أنه يعرف الكلام عند المقابر، لا بل المقام مقام تذكرة يكفي فيها الكلام القليل، وفي حديث البراء بن عازب أطال صلى الله عليه وسلم في ذكر شيء من أمر الآخرة، ومع ذلك كل الحديث لا يأخذ خمس أو سبع دقائق عند روايته عنه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا درس لبعض إخواننا الذين يطيلون الموعظة عند القبر حتى يضجر الناس وينفروا من موعظته، بل إن بعضهم تراهم كل مرة يأتون لنا ببدعة ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد بعضهم يدعو والناس يؤمنون على دعائه، وهكذا يفعل الثاني، وهذا ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الموعظة عند القبور تكون موعظة يسيرة بكلمات مختصرة مؤثرة، حتى يحصل المقصود وهو الاتعاظ والتذكر.
فيجب عليك أن تتعظ من هذه القبور، وتبكي على نفسك حين ترى هؤلاء الموتى وأنت صائر إلى مثل حالهم، فإذا كان عملك عمل أهل التقوى فافرح به، وإذا كان عملك عمل أهل الشقاء فابك على حالك وعلى نفسك.
إذاً: فالموقف عند القبر موقف موعظة وتذكر فقط وليس موقفاً لكثرة الكلام الذي قد يكون مملاً أحياناً، ولذلك ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مثل هذا الموقف: (ادعوا لأخيكم وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، بل إن كثيراً من هؤلاء الذين يكثرون الكلام عند القبور لا يحسنون اللغة العربية، ولا يحفظون شيئاً من الأحاديث، بل يصعد ليقلد شيخاً من المشايخ، والثاني يقلد شيخاً آخر، وكل ذلك يفعله افتخاراً وسمعة نسأل الله العافية، وهذا يؤدي إلى تضجر الحاضرين.
والحمد لله أننا لا نرى هذه الأفعال في كثير من الأماكن التي اتبعت هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يطيل الكلام عند المقابر كما أسلفنا، وإنما يكتفي بموعظة يسيرة يذكر الناس بها، أو يقول: ادعوا لأخيكم، فلم يكن يقف يدعو بنفسه صلى الله عليه وسلم والناس يؤمنون على دعائه، وهذا كثيراً ما يقع، بل تجد بعضهم عند المقابر يقول: يا شيخ ادع من أجل أن الناس يؤمنون على دعائك، فإذا قلت: لا لن أدعو، يقال لك: إنك تركت الميت ولم تهتم بأمره، وإذا دعوت فقد ابتدعت بدعة من البدع، فحيروا الناس معهم في موقف لا يحتمل الجدل ولا الكلام الكثير، فتجد أحدهم يقوم ويدعو والناس يؤمنون على ما يقول، ومن ثم صارت هذه سنة، فتجد كل جنازة فيها أحد الإخوة يدعو للميت، وهناك أناس مخصصون للدعاء عند المقابر، وهذه ليست سنة، إنما السنة أن تقف وتدعو وحدك، فقد أمرك النبي صلى الله عليه وسلم بالإخلاص في الدعاء للميت، فليس المقصود أن تسمع الناس بهذا الدعاء، وإنما المقصود الأسمى هو أن يسمعك رب الناس، وهذا يحصل ولو كنت وحدك، بل إنه الأحرى بالقبول، فالأمر هنا أمر دعاء من القلب يصعد إلى الرب سبحانه تبارك وتعالى، لينتفع به هذا الميت، فتكون السنة عند المقابر هي الصمت وعدم الكلام.
إذاً: من السنة عند الدفن السؤال للميت أن يثبته الله سبحانه، وأن يرحمه، وأن يصبر أهله، وليس من السنة أن يدعو الشخص والحاضرون يؤمنون، فإذا كان الدعاء للميت والناس يؤمون لم يشرع في صلاة الجنازة، فالإمام الذي يصلي على الميت لا يشرع له أن يرفع صوته بالدعاء والناس يؤمنون وراءه في الصلاة، ويكونون عند المقابر، فهذا غير مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك.
وهنا في هذا الحديث قعد النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، وليس على المقابر؛ لأنه قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن الجلوس على المقابر، والمقابر لم تكن مرتفعة، وإنما كانت على الأرض.
قوله: (وقعدنا حوله صلى الله عليه وسلم، ومعه مخصرة) أي: عكاز صغير، ثم أخذ ينكت بها في الأرض، أي: أنه غرزها في الأرض عدة مرات، وهذه هي هيئة المتفكر، فالإنسان حين يجلس يفكر وفي يده شيء فإنه يعمل به في الأرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم نكت بمخصرته ثم قال: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة)، يعني: هذه موعظة للجميع، أي: أن الله عز وجل يعلم بكل واحد منكم هل هو من أهل الجنة أو من أهل النار، فقالوا: (يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟) أي: طالما أن ربنا قد كتب علينا هذا الشيء، فهل نتكل ونترك العمل، فإن الشقي سيكون شقياً، والسعيد سيكون سعيداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا، فكل ميسر لما خلق له)، فهو عليه الصلاة والسلام أخرجهم عن الكلام وعن الجدل وعن المناقشات الفارغة التي لا قيمة لها إلى ما ينتفعون به.
فأنت أخي المسلم عليك أن تؤمن بعلم الله سبحانه وتعالى، وبقضائه وقدره وقدرته وحكمته سبحانه بدون مناقشات في هذه الأشياء، فالله عز وجل كتب أن فلاناً في الجنة وأن فلاناً في النار، لكن هل عرفت من هو فلان الذي في الجنة ومن هو فلان الذي في النار؟ بل هل عرفت أين مكانك أنت أو مكان أبيك وأمك؟ لم يذكر لك من ذلك شيء، ومع هذا تؤمن أن الله علم وكتب عنده من في الجنة ومن في النار، فما دام الأمر كذلك فيجب عليك أن تعمل الواجب عليك وأن تترك المناقشة بقولك: لماذا فلان هذا في الجنة، وفلان الآخر في النار؟ فهو لم يخبرك بعين فلان هذا، وإنما أمرك بالعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
ومن علامات سعادة الإنسان أنه عندما يريد أن يعمل العمل الصالح، يجد أبوابه مفتحة له، فيعمل ولا يتلهى عنها.
ومن علامات شقاء الإنسان أنه كلما أراد أن يعمل عملاً صالحاً يجد من يصده عنه، من صديق سوء يصده عن الصلاة إن أراد أن يصلي، ويصده عن الصوم إن أراد أن يصوم، وهكذا تراه يبعده عن طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا من علامات شقاء الإنسان والعياذ بالله، فإذا مات على ذلك فهو الإنسان الشقي ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأن الأعمال بالخواتيم، فإذا ختم للإنسان بالسعادة فهو من أهل السعادة، وإذا ختم له بالشقاء فهو من أهل الشقاء، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، ولا نحكم على إنسان أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاء ولكن نرجو من الله عز وجل الخير للمسلم.(92/7)
أطول موعظة ألقاها النبي عند القبر
أما حديث البراء بن عازب رضي الله عنه الذي هو في سنن أبي داود وهو حديث صحيح، فقد ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه موعظة قال فيها: (إن العبد إذا كان في إقبال على الآخرة وفي إدبار من أمر الدنيا يأتيه ملك الموت، فيقول مخاطباً روح هذا الإنسان: اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان، ورب غير غضبان، فتخرج نفس الإنسان المؤمن تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، ثم يأتي إليها ملائكة من الجنة يجلسون من ملك الموت على مد البصر، فإذا قبضها لم يتركوها في يده طرفة عين، فتأتي ملائكة الرحمة معهم أكفان من الجنة وحنوط من الجنة، يحنطون هذه الروح الطيبة ويطيبونها ثم يأخذونها في أكفان الجنة ويصعدون بها إلى السماء ولها أعظم وأجمل وأطيب ريح وجدت، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الريح الطيبة؟! فيقولون: ريح فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا.
فهذه نفس سعيدة طيبة يفرح بها في الملأ الأعلى، يصعدون بها إلى السماء فإذا بالله عز وجل يقول: أعيدوها إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد الروح إلى القبر للسؤال -وكما قلنا على هيئة غير ما كانت عليه في الدنيا، هيئة الله أعلم بها- فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فألبسوه من الجنة وأفرشوه منها، وأروه منزله من الجنة، فيفرح العبد حين يرى منزله في الجنة، فيريد أن يذهب إليه، فيقال له: نم نومة العروس، فيقول: يا رب! أقم الساعة، كي أرجع إلى أهلي ومالي، ويمثل لهذا الرجل في قبره رجل يخرج عليه، جميل الوجه طيب الريح حسن الثياب، فيقول له: أبشر بخير يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، يقول: من أنت، فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الطيب، أنا عملك الصالح، والله ما كنت أعلمك إلا سريعاً إلى طاعة الله، بطيئاً عن معصية الله، فجزاك الله خيراً فالعمل مثله الله سبحانه وتعالى على هذه الصورة، فهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وعلى العكس من ذلك الإنسان الخبيث الفاجر والكافر إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال على الدنيا، يأتيه ملك الموت يقبض روحه، ويقول: يا أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب -وذلك لأنها كانت نفساً بعيدة عن الله سبحانه- فيفزع هذا الكافر وتتفرق روحه في الجسد، فينتزعها ملك الموت كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، وتنزل ملائكة من النار معهم مسوح من النار، فلا يدعونها في يده طرفة عين، بل يأخذونها ويصعدون بها ولها ريح منتنة، فلا تمر على أحد بين السماء والأرض إلا قال: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقال: فلان بن فلان، بأخبث أسمائه التي كان ينادى بها في الدنيا، فيصعدون إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: أعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتلقى من السماء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، تهوي أرواحهم من السماء، فالملائكة لن ينزلوا بها ويكرموها، بل يرمونها من السماء إلى مكانها في قبرها، ويأتيه في قبره ملكان شديدا الانتهار فينهرانه ويجلسانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت، ويمثل له رجل أسود الوجه منتن الريح قبيح الثياب، فيقول له: أبشر بشر يوم أتى عليك منذ ولدتك أمك، فيقول: من أنت، بشرك الله بالشر، فوجهك وجه يأتي بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث والله ما علمتك إلا بطيئاً عن طاعة الله سريعاً إلى معصية الله فجزاك الله شراً، فيقول الله عز وجل -عندما لا يجيد هذا العبد الجواب-: أن كذب عبدي، فافرشوه من النار، وأروه منزله في النار، ويضرب في قبره ضربة بمرزبة يصرخ منها صرخة يسمعها كل شيء -إلا الثقلين الإنس والجن- ولو سمعها الإنس والجن لصعقوا، حتى وهو في جنازته محمول يصرخ ويقول: يا ويله إلى أين تذهبون به، فلما رأى منزله من النار وجد أن القبر أرحم له من النار، ولذلك يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة)، فأصبح له القبر حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.
هذا الحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أخذ حوالي خمس دقائق هو أقصى ما قاله صلى الله عليه وسلم عند القبر.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتعهدهم بالموعظة في كل جنازة يتخولهم بها، بل كان أحياناً يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، فلذلك تستحب الموعظة عند القبر أحياناً، وتكون موعظة يسيرة قليلة فيها الأمر بتقوى الله، والتذكير بالرجوع إلى الله سبحانه، كأن يكون فيها ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، ويقال للحاضرين: اسألوا لأخيكم التثبيت؛ فإنه الآن يسأل، فيسألون الله عز وجل أن يثبت الميت ويثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
إذاً: فالموعظة عند القبور لا تكون في كل مرة، وإنما يكون ذلك أحياناً بحيث لا يمل الناس، ولا يبتدع في ذلك بدعاً وأشياء تبعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(92/8)
مشروعية الدعاء للميت بعد دفنه وعدم تحديده بوقت محدد
لقد وردت أحاديث في الدعاء للميت بعد دفنه، والقعود عند قبره ساعة، يعني: فترة من الزمن يدعون خلالها للمتوفي عشر دقائق أو ربع ساعة أو أقل أو أكثر، بحسب ما يتيسر، من ذلك ما جاء عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل)، هذا يقال بعد الانتهاء من الدفن عند القبر، فيقال للناس: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقف ويقول: اللهم ثبته، والناس يؤمنون على دعائه، لم يحصل هذا أبداً، ولو حصل لورد ورواه الرواة، ولكن كان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس بأن يدعوا؛ لأن الدعاء على الانفراد يكون فيه الإخلاص أكثر، فكل واحد من الحاضرين يدعو له بما يستحضر من الدعاء، فهذا يدعو له بالمغفرة، وهذا يدعو له بالرحمة، وهذا بالعفو.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واسألوا له التثبيت)، يعني: حين يأتيه الملكان للسؤال، وهذه أعظم الفتن التي يتعرض لها الإنسان في قبره، حين يسأل ويقال له: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ عليه الصلاة والسلام.
أيضاً جاء عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، موقوفاً عليه وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه وصى من حوله فقال: (إذا دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي)، رواه مسلم، والأثر بطوله ورد فيه أن عمرو بن العاص قال لهم ذلك وهو في سياق الموت، فطلب ممن حوله أنهم إذا دفنوه أن يقفوا عند قبره، فترة من الزمن، ولم يكن معهم ساعات حتى يقدر الفترة، كأن يقول: عشر دقائق أو خمس دقائق أو نصف ساعة، فقدرها بقوله: (قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها) أي: مدة ذبح الجمل، وتوزيع لحمه على الفقراء، وهذا سيأخذ ربع ساعة أو نصف ساعة، أو أكثر أو أقل.
وهذا التقدير لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل ذلك، ولكن قال: (اسألوا الله له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل).
إذاً: فالسنة أن تدعو للميت بما تيسر.(92/9)
حكم قراءة القرآن للميت وإهداؤه ثواب القراءة
ذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: يستحب أن يقرأ عنده شيء من القرآن، وإن ختموا القرآن عنده كان حسناً، لكن هذا الكلام المذكور عن الشافعي لا يثبت عنه، وإنما الصحيح أنه قول أصحاب الشافعي وليس قول الشافعي رحمه الله، والراجح في مذهب الشافعي: أن قراءة القرآن لا تصل إلى الميت، أما جمهور العلماء فعندهم أن قراءة القرآن تصل إلى الميت، وكون الإنسان يقف عند القبر ويقرأ القرآن، فإنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك أو أمر به، لكن لو فرضنا أن إنساناً أراد أن يتقرب لله سبحانه وتعالى بقراءة القرآن ثم يدعو للميت، فلا مانع من ذلك؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن واسألوا الله به قبل أن يأتي أقوام يقرءون القرآن ويسألون به الناس)، فيجوز أن تقرأ القرآن ثم تسأل ربك سبحانه وتعالى أن يغفر لك، وأن يرحم هذا الإنسان المتوفى، ولا يشترط أن تكون هذه القراءة عند المقابر، وإنما تقرأ في أي مكان.
كذلك إذا قرأت القرآن ووهبت هذا الثواب لهذا الإنسان المتوفى، فالراجح: أنه إذا كان الحج والصوم عن الميت ينفعه، فكذلك إذا قرئ القرآن ووهب ثواب القراءة للميت فإنه ينفعه ويصل ثواب ذلك إليه، وهذا من أبواب الرحمات التي ترحم بها الإنسان المتوفى بعمل شيء له، لكن الذي يمنع منه هو الصلاة عن الميت، فأنه لا يصلي أحد عن أحد، وإن كانت عليه صلاة، فلا ينفع أن تصلي عنه ولم يثبت فيه شيء، إنما غاية ما يكون أنك تحج عن الميت، أو تدفع عنه الزكاة التي مات وهي عليه ولم يدفعها، وأنك تصوم عنه إذا مات وعليه صيام فرض، وكذلك يلحق بها أن تقرأ القرآن وأن تهب ثواب القراءة لهذا المتوفى، أو تقرأ القرآن تقرباً إلى الله، ثم تسأل الله عز وجل لنفسك وللمتوفى.
وليس معنى ذلك أننا نأتي بشيخ أو قارئ فيجلس يقرأ القرآن ويكون الثواب للميت؛ لأنه لا يوجد أحد قال بهذا الشيء، بل إن جلوس الناس واستماعهم للقراءة يعد من البدع، ومن الإعانة على النياحة على المتوفى، فليس هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان عادة السلف الصالح إذا مات لهم أحد أن يعزوا أهل الميت في أي مكان، في المسجد أو في الطريق أو في الشارع، ولا يستحب الجلوس للتعزية، وإنما يعزي المعزي وينصرف ولا يجلس لذلك.
والآن في زماننا إذا توفي إنسان يقوم أهله بعمل الأكل للزوار الذين يأتونهم، فتصبح المصيبة مصيبتين: مصيبة في المتوفى الذي عندهم، ومصيبة الطبخ من أجل أن يأكل الناس الذين سيأتون.
والسنة: أنه يعمل لأهل الميت الطعام، وخصوصاً إذا عرف أنهم سينشغلون في مصيبتهم عن تحضير الطعام، وليس أنهم يكلفون بعمل الطعام لمن جاء إليهم، وهذا وللأسف موجود في كثير من الأماكن في زماننا هذا.
فلذلك إذا عزيت أهل المتوفى، تعزي وتنصرف ولا تجلس للعزاء لا أنت ولا غيرك ولا تفتح أبواب البدع لمثل هذا الشيء.
أيضاً من المنكرات في مثل هذه الأعمال: إنفاق الأموال الكثيرة على هؤلاء المتخصصين بالقراءة، وهذه الأموال الطائلة لو تصدق بها على الميت لكان أولى، ولعل أولاد هذا الميت أحوج ما يكونون لهذا المال الذي ينفق على أصحاب البدع هؤلاء، فإذاً هذا إنفاق على بدعة ومعصية، وليس على طاعة لله تبارك وتعالى، وهذا تفريط في حق أهل الميت وورثته الذين لعلهم يحتاجون إلى هذه الأموال.
لذلك لا بد أن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتناهى عن الإثم والعدوان وعن معصية الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يأت أي إنسان فيقول: الناس أجبروني على أن آتي بمقرئ واضطررت إلى ذلك، نقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه وتعالى، وأنت يوم القيامة ستسأل عن نفسك، والناس لن يسألوا عنك، والذين أجبروك ليسوا هم الذين دفعوا الأموال، فلو أجبروك، فقل لهم: تعالوا أنتم اعملوا، أنا لن أعمل شيئاً، فإنه لن يحمل عني أحد شيئاً يوم القيامة، ولكن انظر إلى رضا ربك سبحانه تبارك وتعالى، وأنفق في المعروف والطاعة وليس في البدعة والمعصية.
فإذاً: المشروع أن تدعو للميت بأن يثبته الله، وأن ينزل الله رحمته على هذا المتوفى، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يغفر له سبحانه وتعالى.(92/10)
الصدقة عن الميت والدعاء له
يجوز أن تتصدق على الميت كما ذكرنا، يقول الإمام النووي هنا في باب الصدقة عن الميت والدعاء له: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، فالمؤمن التقي يحب المؤمنين، ويحب السلف الصالح ويدعو لهم، فقد ذكر في الآية أن المؤمنين يدعون لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويدعون للتابعين لهم بإحسان فيقولون كما أخبر الله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
والصدقة عن المتوفى عظيمة، ففي حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه، أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أمي افتلتت نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) يعني: ماتت فجأة، وهذا الرجل قيل: إنه سعد بن عبادة رضي الله عنه، توفيت أمه فجأة، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنها لو مرضت قليلاً قبل الوفاة وعقلت ذلك، لكانت قالت لي: تصدق بمال كذا، ولكن ماتت فجأة، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ لاحظ أن المرأة لم تقل: تصدق عني، لكنه ظن أنها لو عاشت قليلاً لقالت له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم).
فإذاً: لو تصدقت عن الإنسان المتوفى جاز ذلك ويقبل منك، ويكون الثواب للميت، ويكون ذلك براً بهذا الإنسان المتوفى.(92/11)
فضل الصدقة الجارية
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية) يعني: إذا توفي المسلم ختم على عمله، وأغلق كتابه، لكن هناك أشياء تظل مفتوحة إلى أن تقوم الساعة، فطالما هي موجودة يصل هذا الأجر إليه بسببها، منها: الصدقة الجارية، فإذا بنيت مسجداً لله عز وجل، فطالما أن المسجد موجود والناس يصلون فيه، فلك الأجر إلى أن تقوم الساعة، ما دام هذا المسجد موجوداً، كذلك إذا حفرت بئراً وأصبح الناس ينتفعون بتلك البئر بعد وفاتك، فكتاب حسناتك مفتوح، وتؤجر ما دام الناس يشربون منها، وهكذا كل صدقة جارية تصنعها يكون لك أجرها طالما هذه الصدقة ينتفع بها.(92/12)
فضل طلب العلم وتعليمه وأثر ذلك بعد الموت
قال صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به)، وانظر مثلاً إلى هذا الكتاب الذي نشرحه، كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله، فقد عاش سنة ستمائة هجرية رضي الله عنه، ومرت ثمانمائة سنة على وفاة الإمام النووي رحمه الله، وكتابه لا يزال يدرس ويقرأ ويحفظ، وهذا يشرحه وهذا يهذبه وهذا يزيد عليه، وهذا يصحح أحاديث ويضعف غيرها، فيا ترى كم أخذ مؤلفه من الحسنات رحمة الله عليه، وهذا واحد من بعض كتبه رحمه الله فقد كتب في الآداب والأخلاق والسلوك وغيرها، وله كتاب (المجموع) رحمه الله، وهو كتاب عظيم في الفقه الشافعي، بل يعتبر من أمهات الكتب في الفقه المقارن أيضاً، فهو كتاب عظيم يبلغ عشرين مجلداً بعدما أكمله الشيخ المطيعي وغيره، وهذه كتب عظيمة انتفع بها المسلمون وما زال ينتفع بها حتى الآن وإلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
وكذلك كتابه (روضة الطالبين) فهو كتاب كامل في الفقه الشافعي، ذكر فيه الأقوال للإمام الشافعي والوجوه للأصحاب، وكتابه (تهذيب الأسماء واللغات) فهو كتاب عظيم في اللغة، وكتابه (شرح صحيح الإمام مسلم) وغير ذلك من كتبه العظيمة النافعة.
فهذا إمام من الأئمة وما أكثرهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فقد تركوا لنا ذخيرة عظيمة لا يزال ينتفع بها إلى ما يشاء الله، وعلى قدر إخلاص أصحابها على قدر ما ينتفع بها، فهذا الإمام مالك رحمه الله، ألف موطأه، فقالوا له: يوجد موطآت أخرى غير موطئك، فقال: ما كان لله دام واتصل، فدام موطأ الإمام مالك، ولا يزال يحفظ ويدرس وتؤخذ منه الأحكام رحمة الله تبارك وتعالى على مؤلفه، فانظروا إلى هؤلاء السلف الصالح كيف انتفع بعلمهم، وكذلك كل من يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأصحابه صلى الله عليه وسلم لم يؤلفوا كتباً، وإنما بلغوا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فانتفع به من بعدهم، وهؤلاء الذين رووا لنا أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بل الذين نقلوا لنا هذا القرآن العظيم كم يؤجرون! كلما تلي القرآن أجر هؤلاء الصحابة الأفاضل الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلوا لنا هذا العلم الذي ينتفع به.
ولاحظ أنه قال صلى الله عليه وسلم: (أو علم ينتفع به)، فإذاً فرق بين علم ينتفع به وعلم لا ينتفع به، فإذا كان هذا العلم كلاماً فارغاً أو كلاماً من أهواء الناس، أو مناقشات ومجادلات سفسطائية وتضييعاً للوقت وإشغالاً لأذهان الناس، فهذا كله لا ينتفع به، فلا يؤجر عليه، بل إنه ضيع عمره هدراً، وفي الآخرة لا شيء له، فالنبي صلى الله عليه وسلم قيد العلم هنا بأن يكون علماً ينتفع به.(92/13)
الانتفاع بالولد الصالح بعد الممات
قال صلى الله عليه وسلم: (أو ولد صالح يدعو له)، يعني: عندما يكون لك ولد صالح ويعيش بعدك فإنه سيدعو لك، فقيد الولد بالصلاح؛ لأن الولد غير الصالح لا يدعو لك، وإن دعا فلن تنتفع بدعائه، ولكن انتفاعك يكون بالولد الصالح، الذي تربيه على كتاب الله وعلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يدعو لك بعد وفاتك، والولد هنا جنس، سواء كان ابنك أو ابن ابنك، وهكذا الأبناء طالما فيهم من يذكر الله سبحانه تبارك وتعالى ويصلي لله عز وجل ويعبده، فإنك تؤجر وأنت في قبرك، ولا يزال كتابك مفتوحاً تؤجر عند الله عز وجل على ما يعمله هذا الولد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد من كسب أبيه)، نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا صدقة جارية تنفعنا بعد وفاتنا إلى يوم القيامة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(92/14)
شرح رياض الصالحين - من (ثناء الناس على الميت) إلى (فضل قراءة القرآن)
إن الناس شهداء الله في الأرض، يقبل الله عز وجل شهادتهم، فإذا شهدوا لإنسان بالخير أوجب الله له الجنة، وإذا شهدوا له بالشر أوجب له النار، فأهل القرآن والعاكفين على تعلمه العاملين به من أول من يثني عليهم الناس، وكذا من عرف بخير ما بين الناس، ومن رضي عنه الله أرضى عنه الناس.(93/1)
ثناء الناس على الميت
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: وصلنا في أبواب الجنائز إلى قول الإمام النووي رحمه الله: باب ثناء الناس على الميت.
وهذا من آخر أبواب الجنائز في كتاب رياض الصالحين، وقد ذكر فيها حديثاً عن أنس رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) والحديث متفق عليه.
وجاء عن عمر أنه ذكر مثلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أبو الأسود فقال: هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والمقصد من ذلك أن الإنسان المؤمن يتعامل مع الخلق جميعهم بحسن خلق، ويطيع الله عز وجل فيهم، فإذا فعل ذلك كانوا شهداء له عند وفاته، فإنه لن يعدم من يشكره، ويثني عليه، ويدعو له بخير، فيكون شهيداً له عند الله عز وجل، ويقبل الله شهادته له.
فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الأول الذي أثنوا عليه خيراً، (قال وجبت)، وفي روايه: (قال وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، والثاني أثنوا عليه شراً فقال: وجبت وجبت وجبت ثلاث مرات، قالوا: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار).
فهنا ثناء الناس يكون من غير تعمد لذلك، والإنسان يمكن أن يقول للناس: لما يموت فلان أثنوا عليه خيراً، وقولوا: فلان كان صالحاً وكان كذا؛ حتى توجب له الجنة، فليس هذه هو المقصود.
وجاء في حديث آخر بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن الملائكة تنطق على لسان هذا الإنسان، وكأن الله يبعث ملائكة تجعلك تنطق بذلك فتقول: فلان كان رجلاً صالحاً، وكان فيه كذا، ويذكرك الله عز وجل بإحسان هذا الإنسان إليك وإلى الناس يوماً من الأيام، فتثني عليه خيراً، ويمكن يكون هذا المتوفى قد نسيته وفجأة تذكر أنه في يوم من الأيام أسلفني مالاً، وفعل بي كذا، والذي ذكرك بذلك هو الله سبحانه وتعالى؛ لتثني عليه، فيقبل الله عز وجل منك ثناءك عليه وشهادتك له، فيكون لهذا الإنسان الجنة، والله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويستر على العبد ما وقع فيه من آثام، ويغفر له، ويقبل شهادة الناس فيه، ويجعل لهذا الإنسان الجنة.
والعكس كذلك: فقد أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، والذي تثني عليه شراً ويذكره الناس بسوء يمكن أنه حين توفي لم يكن يخطر بقلبك، فلما أتيت تصلي على هذا الإنسان إذا بك تذكر أن هذا كان رجلاً سيئاً، وكان مؤذياً للناس، فتذكر أنت هذا الإنسان بشيء سيء كان فيه، فالثناء الأصل فيه أنه الذكر بالقلب، ولكنه هنا أن تذكر غيرك سواء بخير أو بشر، وإن كانت العادة أنه يطلق في الخير.
وهذا إذا كان المتكلم صادقاً، وإذا كان الله عز وجل هو الذي فعل ذلك فجعله ينطق بهذا الذي كان عليه هذا الإنسان، فيستحق أن يكون من أهل النار.
وفي رواية أخرى للحديث نفسه عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير).
قوله: (شهد له أربعة) إذاً ليس شرطاً أن يثني عليه بالخير كل الناس، فربما لا يعرفه إلا القليل، ولكن القليلين الذين يعرفونه يعرفون خيرية هذا الإنسان، وأنه بعيد عن المعاصي، وربما أنه كان يخفي عمله فلا يطلع عليه كثير من الناس، فكان من كرم الله سبحانه أن جعل الشهادة التي يدخل بسببها الإنسان الجنة من أربعة أو ثلاثة أو اثنين.
فلما قال: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة -طمع الصحابة فقالوا-: وثلاثة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: وثلاثة.
قالوا: واثنان؟ قال: واثنان) صلوات الله وسلامه عليه، وأقل الجمع وأقل ما يمكن أن يتعامل معه الإنسان: اثنان، وهذا نادر.
والإنسان ذو الخلق الحسن والإيمان القوي في معاملته مع جميع خلق الله عز وجل أخلاقه حسنة، فإذا تعامل مع التاجر في السوق عامله بحسن خلق، فيحبه التاجر، وإذا تعامل مع الصانع في مكانه عامله بحسن خلق، فيحبه الصانع، وإذا تعامل مع زوجه وأولاده وجيرانه وأصدقائه وإخوانه تعامل بحسن خلق، فهو حسن الخلق مع الجميع، وحَسَنْ الخلق مستحيل ألا يتعامل مع أحد أبداً.
وفي الحديث أن الاثنين إذا شهدوا له بخير -طالما أنهما صادقان في ذلك- فإن الله عز وجل يقبل هذه الشهادة، ويغفر لهذا العبد، ويجعله من أهل الجنة.
لذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يكثر من إخوانه أهل الخير، وأن يخدم وينفع الناس، فإن أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، والإنسان الذي يبذل المعونة والنفع لكل المسلمين يُحتاج إليه، فهو الذي ينفع الناس، وهو الذي يصلي عليه الناس حين يتوفى، ويدعون له بخير، فيكون له عند الله عز وجل أن يستر ذنوبه، وأن يغفر له، وأن يجعله من أهل الجنة.(93/2)
فضل من مات له أولاد صغار
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم).
قوله: (لم يبلغ الحنث) يعني: لم يبلغ أن تكتب عليه الذنوب، ويكتب للإنسان الحسنات من ساعة ولادته، ولو أن الأب أخذ ابنه وحج به وهو رضيع صغير يكتب له حجة وأجر، فإذا مات على ذلك فله أجر وليس عليه أي وزر ولا أي ذنب.
والولد أحب ما يكون إلى أبيه وإلى أمه وهو صغير لم يبلغ أن يؤذيهما أو يعصيهما ويعقهما، فإذا توفي يكون الألم شديداً في قلب الأب وقلب الأم، فالله عز وجل يعوضهما بفضله سبحانه وتعالى الصبر، وينزل المعونة على قدر المئونة، وينزل الصبر على قدر البلاء.
والإنسان لا يدري لو نزلت عليه هذه المصيبة هل سيصبر أو لا؟ فقد يقول: سأصبر وأعمل، ولا يقدر على ذلك، ولعله يقول: لا أستطيع أن أصبر على هذا الشيء؛ فهو شاق جداً، نسأل الله العفو والعافية، فإذا به ينزل البلاء وينزل معه الصبر من الله سبحانه وتعالى، فتعجب للإنسان المؤمن حيث يثبته الله عز وجل ويقوي قلبه، ويربط عليه، ويجعله ثابتاً حامداً شاكراً، ويعوضه بالإيمان في الدنيا، ويعوضه بالجنة وبيت الحمد في الآخرة كما ذكرنا في حديث سابق.
فيرحم الله عز وجل هؤلاء ويرحم الآباء الذين صبروا على ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم) أي: برحمة هؤلاء الذين توفوا، فيدخل الله آباءهم الجنة.
وفي المتفق عليه أيضاً عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم) والقسم هو قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فهذا قضاء لابد وأن يكون، وكل إنسان لابد أن يرد على النار.
والورود هو المرور فوق الجسر المضروب على جهنم، فكل إنسان لابد وأن يمر عليه، فمن الناس من يمر سريعاً، ومنهم من يبطئ به عمله، ومنهم من يهوي في النار والعياذ بالله.
والإنسان الذي توفي له ثلاثة من الولد يرحمه الله عز وجل فلا يعاني ولا يقاسي في المرور على الصراط إلا تحلة القسم.
وتحلة القسم هنا أن يمر على الصراط ولا يدخل النار، بفضل الله سبحانه وتعالى، وهذا إذا صبر على أمر الله سبحانه وتعالى.
والصابر له الفضل وله الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، والذي لا يرضى بقضاء الله وقدره ليس له حيلة، فلن يدفع قضاء الله عز وجل وقدره، ولذلك فالمؤمن يتصبر، وقالوا: إما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم.
أي: إما أن يكون الإنسان كريم النفس عفيفها، صابراً لمقادير الله سبحانه وتعالى متجلداً، فسيأتي عليه يوم من الأيام يسليه فيه ربه ويذهب عنه الغم الذي هو فيه.
وأما أن يتسخط فيرفع صوته، ويلطم ويشق ثيابه، ويشد شعره، ويكون كافراً لربه سبحانه، ولن يحصل له بذلك عودة ميته، ويظل على ذلك إلى أن يذهب صوته، وتتمزق ثيابه، ويمرض ويتعب ويستحق العذاب يوم القيامة، إذاً فهي مصيبة في الدنيا ومصيبة في الآخرة؛ لأنه لم يصبر على قضاء الله وقدره.
وكان العرب في الجاهلية يضربون المثل برجل كان يسمى حماراً، فيقولون: أكفر من حمار.
فهذا الرجل مات له أولاد، فتسخط على الله عز وجل، وأظهر الاعتراض على الله عز وجل، بل أظهر أشد ما يكون من الاعتراضات، ولم يزل على ذلك حتى أخذه الله بصاعقة صعقته فقتله سبحانه وتعالى.
فلما لم يصبر ولم يكسب من الدنيا شيئاً إلا الخزي والعار، وهذا جزاء الإنسان الذي يكفر بربه سبحانه، ويعترض على قضاء الله سبحانه وتعالى فيما حدث لأولاده.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن يوم كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن النبي صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا حجاباً لها من النار) وهذا كما قال للرجال: (ما من مسلم يقدم)، (فقالت امرأة: واثنين؟) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (واثنين) وكأنهن استحيين أن يسألن عن الواحد فلم يسألن، ولكن يغني عن ذلك ما ذكرناه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي عند الترمذي وغيره، وذكر فيه: أن الله عز وجل إذا قبض ابن عبده أرسل ملائكة، فإذا عادوا إليه سألهم وقال: (قبضتم ولد عبدي؟ قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون نعم، قال: فماذا قال؟ قالوا: استرجع وحمد الله، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد).
فبنى لعبده بيتاً في الجنة؛ لأنه صبر على واحد، فعرفنا أن الصبر على جميع المكاره فيه الأجر العظيم من الله سبحانه، والمؤمن يسأل الله عز وجل العفو والعافية، فإذا نزل البلاء صبر وتصبر كما أمر الله سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].(93/3)
باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين
يقول الإمام النووي: باب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين ومصارعهم، وإظهار الافتقار إلى الله.
والمعنى: أن الإنسان المؤمن إذا مر بقبور الظلمة والكفار وبالمشاهد التي يذكرون أنها آثاراً لهم، كآثار الفراعنة، فلا يمر ويفتخر بهؤلاء ويقول: هؤلاء هم آباؤنا وأجدادنا! إن هذا الذي يفتخر بهؤلاء ويقول: نحن الفراعنة، ونحن أصلنا كذا.
نقول له: إن هؤلاء كفار آذوا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأرادوا قتله، وأنكروا بعثته ورسالته صلوات الله وسلامه عليه، فلا يفتخر بالكافر إلا من كان مثله، أو من ذهب عقله.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه افتخر رجلان على عهد موسى صلوات الله وسلامه عليه، فأما أحدهما فقال للآخر: أنا فلان ابن فلان ابن فلان فعد تسعة آباء، ثم قال لهذا الآخر من أنت لا أم لك؟ قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فانتسب للإسلام وليس لهؤلاء الآباء من الكفار، فأوحى الله إلى موسى صلوات الله وسلامه عليه أن قل لهذين المفتخرين: أنت افتخرت بتسعة آباء من الكفار أنت عاشرهم في النار) حتى ولو لم يكن على دينهم، وهذا الرجل لم يكن كافراً، ولو كان كافراً فلن يسمع كلام موسى عليه الصلاة والسلام، ولكنه كان ممن تبع موسى عليه الصلاة والسلام وفي قلبه جاهلية وعصبية، قال: (وأنت افتخرت بالإسلام فأنت في الجنة) فقضى الله عز وجل أن الذي يفتخر بالأشرار مثلهم وسيحشر معهم.
والفراعنة الكفار الذين ملكوا البلاد في يوم من الأيام أين هم الآن؟ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، والعياذ بالله.
فالذي يفتخر بهؤلاء فإنه يفتخر بأهل النار، وسيكون معهم في النار، فلذلك لا يحل لمسلم أن يقول مفتخراً بالفراعنة الذين بنوا الأهرام حتى يخلدوا ويعيشوا، فليس له أن يفتخر بهؤلاء، فإذا مر بقبورهم نظر واتعظ، فيكون المرور للاتعاظ فقد بنوا هذه الآثار العظيمة فهل نفعتهم من الله سبحانه وتعالى شيئاً؟ وهل منعتهم من الموت؟ لقد زعموا أنهم سيخلدون، وزعموا أنهم الآلهة والأرباب لخلق الله، واستخفوا أقوامهم فأطاعهم أقوامهم، فإذا مر الإنسان بقبورهم وآثارهم اتعظ واعتبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهنا في حديث ابن عمر المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه لما مرو بالحجر -والحجر ديار ثمود، وهي على أطراف الحجاز مع الشام- فقال: (لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين).
فالإنسان إذا دخل على أماكن من أصابهم العذاب تذكر نقمة الله عز وجل، وأن الله عز وجل على كل شيء قدير، وأن هؤلاء لما كفروا بالله أهلكهم الله وأتلفهم، وهذا حالهم الآن، فيأمرهم النبي بقوله: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين)، أي: فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، فلا تدخلوا عليهم وأنتم تضحكون وتلعبون، ولا تتخذوا أماكنهم التي أهلكهم الله فيها للهو واللعب؛ بحيث يأتي إليها الناس وهم يغنون ويرقصون وكأن هذا المكان مكان لهو ولعب، فإذا فعلوا ذلك فكأنهم يسخرون بانتقام الله عز وجل من هؤلاء، ويسخرون من الموت، وإذا كان الأمر كذلك استحقوا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء، فإن الذي لا يتعظ ولا يعتبر يستحق أن يبتلى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا عليهم؛ لا يصيبكم ما أصابهم) أي: إذا دخلتم فادخلوا وأنتم تعرفون نعمة الله عليكم، وتخافون من بطش الله سبحانه، وإذا لم يكن هذا حالكم فلا تدخلوا حتى لا يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء.
وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلا أن تكونوا باكين، ثم قنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وأسرع السير عليه الصلاة والسلام حتى أجاز الوادي).
ومن الحكمة وأنت في الحج حين تخرج من المزدلفة متوجهاً إلى منى أن تمر ببطن محسر مسرعاً؛ لأنه المكان الذي أهلك الله عز وجل فيه أصحاب الفيل، ولما وصله النبي صلى الله عليه وسلم أوضع راحلته، أي: أسرع براحلته حتى جاوز هذا المكان، وصارت سنة النبي صلى الله عليه وسلم المرور في هذا المكان بسرعة؛ لهذا الغرض ولهذه العلة، فإذا مررت تذكرت ذلك، واستحضرت أن هذا المكان مكان نزل فيه العذاب، وليس هناك ما يدعو إلى المكوث في هذا المكان بل نسرع في هذا المكان، فقد كان شؤماً على أصحابه حيث نزل عليهم العذاب في هذا المكان.
وكتاب الجنائز الذي ذكره الإمام النووي بعده كتاب السفر، وقد شرحناه في الأيام الماضية، وكل الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي ذكرناها في مقدمتنا لكتاب الحج، فلا نعيد تكرار هذا مرة ثانية.(93/4)
كتاب الفضائل
يذكر لنا الإمام النووي في هذا الكتاب ما جاء في فضائل الأعمال، وفضائل القرآن، وفضائل الإيمان، وما جاء في الصلاة والزكاة، وفضائل أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وغير ذلك.(93/5)
فضائل القرآن(93/6)
فضل قراءة القرآن
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرءوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) القراءة هنا معناها: احفظوا القرآن، وهذا حث من النبي صلى الله عليه وسلم لنا على أن نحفظ كتاب الله، فإن لم تقدر على الحفظ فاقرأ القرآن قراءة، فتقرأ القرآن وترتل القرآن، ولكن الأصل أن تهتم بالحفظ، والله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، وفي البداية الحفظ يكون ضعيفاً، والإنسان الذي ظل سنين لا يحفظ شيئاً لن يستطيع أن يحفظ، ولكن بالتمرس شيئاً فشيئاً يستطيع أن يحفظ، ولابد من التنافس في ذلك مع المتنافسين في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولن تعدم أن تجد وقتاً للحفظ ولو في اليوم ساعة أو نصف ساعة، أو أقل أو أكثر.
وحفظ القرآن يحتاج منك مجهوداً، وإذا عرفت الثواب فإنه يعطيك حافزاً لحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وكم رأينا من أناس حفظوا كتاب الله سبحانه مع كبر السن، فإنسان ذهب يبحث عن الرزق وقال: لا أستطيع أن أحفظ القرآن، وفجأة خلال ثلاث أو أربع سنوات حفظ القرآن كله، وامرأة عجوز لا تقدر على الحفظ، ولا على القراءة، فتعلمت القراءة والكتابة، ولا تستطيع أن تقرأ غير القرآن، فحفظت القرآن كله، ألا يدفعك هذا إلى أن تحاول أن تحفظ القرآن وعندك الوقت وعندك الجهد وأنت ما زلت شاباً صغيراً تقدر على ذلك؟! فتحتاج إلى أن تبذل جهداً.
فحاول أن تحفظ كتاب الله عز وجل وأحسن نيتك، وأخلص لله تجد الأمر سهلاً؛ لأن الذي وعد بذلك هو الله عز وجل الذي أخبر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر:17]، وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وإذا حاولت ولم تقدر فإن محاولتك تكفيك ويكون لك الأجر عند الله عز وجل، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
يقول: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه) يعني: يأتي يحامي عن أصحابه حفاظ القرآن، وقد ذكرهم أنهم أهل الله، فقال: (إن لله أهلين من أهل الأرض) فهؤلاء الأهل هم حفاظ القرآن فهم أهل الله سبحانه، فكرمهم الله عز وجل بهذه الإضافة وبهذا التشريف.
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به).
فأهل القرآن هم حفاظ القرآن، ولكنه أتى هنا بشرط فذكر الحافظ لكتاب الله عز وجل الذي كان يعمل به، فلم يحفظه رياء وسمعه، ولم يحفظه نفاقاً، ولم يحفظ القرآن ليجادل به بالباطل، ولا ليقال عنه: حافظ، ولا ليقال عنه: عالم، ولا ليقال عنه: قارئ، وإنما حفظ القرآن طاعة لله وحباً لله سبحانه وتعالى، وحباً في كتاب الله عز وجل، وخدمة لدين الله، فهذا الذي يؤتى به يوم القيامة كما جاء في الحديث: (تقدمه سورة البقرة وآل عمران) فتقدمه هاتان السورتان، وهما أعظم سور القرآن بعد الفاتحة، (تحاجان عن صاحبهما) وهذا الذي تتقدم أمامه سورة البقرة وسورة آل عمران لتدافع عنه يحسده أهل الموقف؛ لأنه يأتي ومعه من يدافع عنه، وغيره يأتي وحده، ألا يدفع هذا المسلمَ إلى أن يحاول أن يحفظ سورة البقرة وسورة آل عمران؛ لأجل هذا الموقف العظيم بين يدي الله عز وجل، فيجد من يحامي ويدافع عنه ومن يظله يوم القيامة.
يقول عثمان رضي الله عنه فيما رواه عنه البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم من تعلم القرآن وعلمه) (خيركم) أي: خير المؤمنين الذي يتعلم القرآن، ويحفظ القرآن، ويتفهم معانيه، ويتدارس القرآن، واشترك في الفضيلة العالم والمتعلم، المدرس والدارس، فكلاهما اشتركا في الفضيلة.(93/7)
فضيلة الماهر بالقرآن
عن عائشة رضي الله عنها -وهذا في الصحيحين- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة).
والماهر بالقرآن قالوا هو الذي يجيد لفظه على ما ينبغي، يعني: أنه ينطق به نطقاً صحيحاً فصيحاً بما تعلم من أحكام تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، بحيث لا يشتبه عليه ولا يلتبس في قراءته، فهذا الإنسان مع السفرة الكرام البررة.
والسفرة هم رسل الله الذين بين السماء والأرض، وقد نزلوا إلى رسل الله بما أعطاهم الله عز وجل من هذا القرآن؛ ليحفظه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهذا مع ملائكة الله الذين وصفهم بأنهم سفرة، وكرام وبررة.
قال صلى الله عليه وسلم: (والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) فلن تعدم خيراً في حفظ كتاب الله عز وجل، فإن حفظت بسهولة فلك أجر عظيم، وإن حفظت وتعبت في الحفظ وكان شاقاً عليك وتتعتعت فيه فلك أجران وليس أجر واحد، وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى.
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها حلو ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) هذا الحديث يقسم الناس مع القرآن إلى أربعة أصناف: إما مؤمن وإما منافق، والمؤمن إما أنه يحفظ من القرآن وإما أنه لا يحفظ، والمنافق إما أنه يحفظ وإما أنه لا يحفظ، فصاروا أربعة: وصفين في وصفين.
قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن) وضرب لنا مثالاً من الأشياء الموجودة بين أيدينا، فالذي يقرأ القرآن مثل الأترجة، وهي ثمرة من الثمار أقرب ما يمكن أن نشبهها بالبرتقالة أو الأترنجة، وهذا نوع من أنواع الثمار الموالح.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة: ريحها طيب وطعمها طيب) فإذا أخذتها وشممتها لن تجد لها ريحاً خبيثة، ولكن ستجد لها رائحة حلوة طيبة، وتأكلها فإذا هي طيبة، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن كله طيب ظاهره وباطنه، فعبر عن ذلك بثمرة رائحتها جميلة، ولونها أصفر، وقد ذكر الله عز وجل اللون الأصفر، فقال: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69]، فيسرك لونها ويسرك طعمها، فتنتفع بها.
قالوا: وفيها فوائد في بذرها، وفي لحمها، وفي شحمها، وفي قشرتها، قالوا: وكذلك الإنسان المؤمن إذا كان حافظاً لكتاب الله عز وجل فإن فيه فوائد لا تعد.
قالوا: والأترجة اشتركت فيها حواس الإنسان الأربع، البصر: فإذا نظرت إليها سرك منظرها، والذوق: فتتذوق طعمها فتفرح به؛ لأنه جميل، والشم: فتشمها طيبة فلا تؤذيك، واللمس: فملمسها ناعم وطيب وجميل.
وهو هنا يقرب مثل المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل وليس شرطاً أن يحفظ الكتاب كله، فلو حفظ بعضه فإن ذلك يشمله، فالمؤمن الذي يقرأ القرآن جميل باطنه وظاهره.
قال: (ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة: لا ريح لها وطعمها حلو) فصفة الإيمان فيه صفة طعم، وصفة الرائحة قد توجد وقد لا توجد، وأما الطعم فباقٍ، لذلك فالإيمان باقٍ فيه، ولو ترك الإيمان لحظة كفر، فهو مؤمن، وإيمانه مستمر كطعم التمرة، وقد يقرأ القرآن أحياناً وقد يتركه أحياناً، وقد يحفظه أحياناً وقد ينساه أحياناً، لكنه إذا قرأ القرآن فهذا مثَله.
فإذا كان لا يحفظ القرآن فمثله مثله مثل التمرة لا تعدم فيه خير، وإذا بلوته واختبرته وجدت فيه الخير؛ لأنه مؤمن، فإيمانه كهذه التمرة التي لا ريح لها ولكن طعمها حلو.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن) وهنا ينعكس الأمر، فالإنسان المنافق مسمِّع ومرائي بحفظه لكتاب الله، فلم يحفظ لله عز وجل، وإنما حفظ القرآن لكي يجادل به بالباطل، ولكي يظهر نفسه أمام الناس، والمنافق هو الذي طلب بالقرآن الدنيا ولم يطلب به وجه الله سبحانه وتعالى، فمثله كمثل الريحانة: رائحتها جميلة، وأنت قد تستهويك الرائحة الطيبة فإذا طعمت هذا الذي رائحته طيبة وجدته مراً، وهذا إذا سمعت صوته وجدته جميلاً جداً، فإذا تعاملت معه خدعك ونصب عليك، وعمل بخلاف ما يقوله، فهذا الرائحة الطيبة التي فيه هي رائحة القرآن العظيم، وأما هو فطعمه مر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن) أي: المنافق الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن، وقلبه فيه الكفر، وأفعاله الظاهرة تدل على ما في باطنه، وإن كان ينتمي إلى المسلمين ويجلس مع المسلمين لكن حقيقته أنه كافر، مثل عبد الله بن أبي بن سلول، فابنه كان مؤمناً وكان هو كافراً يظهر الإسلام فقط؛ ليحصن نفسه ودمه بدخوله في الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الرجل الذي كان كافراً وكان يعادي النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلما توفي طلب ابنه من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفنه في ثوبه، فكفنه بثوبه، ولم يزل يلح على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه حتى صلى عليه، فلم تنفعه صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] أي: حتى أنت يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مهما استغفرت لهذا المنافق فلن يغفر الله له، وكلمة (سبعين) ليس المقصود منها نفس العدد سبعين، ولكن المقصود تكثير العدد، كما تقول: مليون مرة، وكان العرب إذا قالوا سبعين يقصدون به العدد الكبير، فجاء القرآن بلغتهم، فسواء استغفرت له أم لم تستغفر فلن يقبل؛ لأنه عاش كافراً ومات كافراً وإن أظهر للناس أنه مسلم، {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ} [التوبة:84] فكانت آخر مرة يصلي فيها رسول الله على رجل منافق {وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] لماذا؟ {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، فهنا يخبر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المنافق وأمثاله من الذين أظهروا الإسلام وكانوا بين المسلمين، أنهم كانوا أشد بغضاً لدين الله عز وجل وللمسلمين، وإذا أتى وقت الجد تكلموا بكلام قبيح لا تتوقعه، فقد تسمع عن الإنسان أنه مسلم فإذا تكلم شعرت أنه أشد من أعداء الإسلام على الإسلام، بل إن أعداء الإسلام يستحيون أن يقولوا ما يقوله هذا الإنسان، ومثل هذا يقول: أنتم تريدون أن ترجعونا مرة أخرى للتخلف وللماضي، وتريدون أن تعيدونا إلى الكتب الصفراء يقصدون القرآن وسنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فتعجب من هؤلاء فكلامهم مر، وحين تخبر هذا الإنسان تجد النتن في كلامه، وتجد القذارة والكفر على لسانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء المنافقين، (لا ريح لها) يعني: مثله مثل الحنظلة (لا ريح لها وطعمها مر) فليس فيه أي خير ولا أي فائدة، وإذا تكلم تكلم بكلام الكفار وليس بكلام المسلمين، فلا ينطق إلا بشر، وإذا تعاملت معه تجده أبعد الناس عن دين الله سبحانه، وأحقد الناس على دين الله سبحانه وتعالى، فيتكلم عن الإسلام بكلام هو الكفر والعياذ بالله، وهو أمرّ من الحنظل كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فهو مثل الحنظلة، فالمؤمن مثله كشجر الفاكهة كالأترجة التي شجرتها عالية، والمنافق مثله كمثل الحنظلة، وهو نبات ينبت على الأرض يسمونه بطيخ، فالمنافق في الحظيظ على الأرض، والمؤمن عالٍ مرتفع.
عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) فهناك أناس حفظوا القرآن وارتفعوا به فكانوا أحب الخلق إلى الله عز وجل، وكانوا أهل الله وخاصة الله، فارتفعوا بالقرآن وسموا به، وأناس آخرون طلبوا القرآن للدنيا فإذا بالله يضعهم، فيأبى الله أن يرفع إلا من أعز دينه، وإلا من والى الله سبحانه وتعالى، وقد تجد إنساناً حافظاً لكتاب الله محبوباً بين الناس، وتجد آخر يحفظه لكن الناس يبغضونه ولا يحبونه، فهذا وضعه الله وذاك رفعه الله سبحانه وتعالى.(93/8)
الإكثار من قراءة القرآن نعمة يستحق صاحبها أن يحسد عليها
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الله وآناء النهار)، وهذا الحديث تقدم قبل ذلك.
قوله: (لا حسد) بمعنى لا غبطة، فأنت تنظر إلى هذا الإنسان وتتمنى أن تحفظ مثله، وليس الحسد هنا بمعنى أنك تتمنى زوال نعمته، فلا يجوز ذلك، وهذا الحسد قد أمرنا الله عز وجل أن نتعوذ به عز وجل من أصحابه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2]، إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5].
والمقصود بالحسد في الحديث أن تغبط هذا الإنسان وتحب النعمة التي هو فيها، وتتمنى بقاءها، وتتمنى أن يكون لك مثل هذا الإنسان، ولا تتمنى فقط بل تتمنى وتحاول، وقد تجد إنساناً يقول: ليتني أكون مثل هذا الرجل الذي يحفظ القرآن، لكنه لم يعمل شيئاً، ولم يحاول أن يحفظ القرآن، وقد تجد إنساناً يريد أن يحج، فتسمع آخر يقول: ياليتني أحج، فتسأله يا فلان هل ذهبت للحج من قبل؟ فيقول: لا.
فتقول له: هل لديك مال للحج؟ فيقول: نعم.
إذاً ما معنى قولك يا ليت؟ فاذهب وحج، وإذا منعت رجوت من الله أن يكتب لك الأجر على ذلك، وأما أن تتمنى الحج مع وجود المال ومع وجود الاستطاعة، ولم تصنع شيئاً فهذا من العجز، بل إن الذي يتمنى الخير عليه أن يعمل حتى يصل إلى أمنيته الصالحة، ولا يتمنى ثم يقعد.
فإذا قلت: يا ليتني أحفظ القرآن، فحاول أن تفتح المصحف ثم احفظ آية أو آيتين، واحذر من الشره، فإنها إذا أتت الإنسان تجده يقول: أريد أن أحفظ القرآن، فيأخذ المصحف ويريد أن يحفظ ربعين في اليوم، فلا يستطيع ويصعب عليه وينسى، ثم يمل ويترك، ولكن احفظ كما كان يحفظ الصحابة، فقد كانوا يحفظون بعض الآيات، ثم أتقن هذه الآيات، وافهم معانيها، ثم انتقل إلى غيرها، ولو تحفظ القرآن في عشر سنين أو في عشرين سنة، ولو قسمت القرآن على عشرين سنة أو ثلاثين سنة وعلم الله من حالك أنك تريد أن تحفظ القرآن فلعله يحشرك مع من يحفظ القرآن، حتى وإن مت قبل أن تحفظ فالله يعاملك بنيتك، فإذا أحسنت النية أعطاك الله عز وجل أحسن الجزاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد الاثنين: (رجل آتاه الله القرآن فحفظه وعلمه، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار).
فاحرص على حفظ القرآن، واحرص على أن تحفظ أولادك كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا حفظت شيئاً فشيئاً فستحفظ في يوم من الأيام بفضل الله سبحانه وتعالى القرآن كاملاً.
وليكن عملك لله عز وجل، فلا تطلب بعملك الدنيا، وكذلك في أبنائك، فلا يكن الأمر أنك تريد من أبنائك أن يحفظوا القرآن لكي تفتخر بذلك فقط، فلعلك بشؤم هذا الكلام والافتخار تنسف كل ما حفظوه، فتعلم القرآن لله عز وجل وليس للتفاخر على الناس، وليس لأجل أنا ولدي أفضل من ولدك، فإن هذا لا يعرف إلا يوم القيامة، ومن أخلص لله كان له الفضل عند الله سبحانه وتعالى، وكم من إنسان حفظ القرآن وهو صغير فلما كبر وصار رجلاً وشاباً إذا به ينسي ما حفظه بسبب الغرور.
وكم رأينا من أطفال صغار من سنين طويلة يكون عمره ست سنين وقد حفظ القرآن كاملاً، ويكون عمره ثمان سنين وقد صنع حفلة لأجل أنه أكمل القرآن، والآن لما ننظر أين هذا الإنسان تجده قد نسي القرآن وانشغل بالدنيا، ولها ولعب مع اللاعبين، وذهب ما حفظ من القرآن.
فأنت عندما تحفِّظ ولدك كتاب الله ابتغ الأجر من الله، وحافظ له على ما حفظ من القرآن، وراجع معه، ومره ليل نهار بمراجعة كتاب الله سبحانه وتعالى، واحذر من الفخر حتى لا يضيع ثواب عملك، وحتى لا تجد شؤم هذا الافتخار في النسيان وعدم الاستذكار، فتضيع منك الدنيا والآخرة.
والولد الذي يحفظ القرآن يأتي يوم القيامة فيكسو الله عز وجل والديه بحلة من عنده سبحانه وتعالى، فيسألان الله عز وجل: بأي شيء هذا؟ فيقول: بحفظ ولدكما للقرآن.
إذاً فاطلب بعملك دائماً وجه الله سبحانه، واحذر من الدنيا، فإن الدنيا لن تدوم لك ولن تدوم أنت فيها، فلا معنى لأن تتكالب عليها وتطلبها، أو تطلب أن يشير الناس إليك.
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخافون من ذلك، فقد كان أحدهم إذا سار في الطريق يسير معه الواحد والاثنان والثلاثة، فإذا زادوا عن أربعة تركهم وانصرف، فلا يحب أن يكون حوله مجموعة من الناس فينظر إليه بعين أن هذا معه مجموعة من الناس، فما كانوا يحبون إلا الاختفاء بالأعمال، والتقرب إلى الله؛ لأنهم تعلموا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل في المسجد قائم يصلي يطول في صلاته ومعه رجل بجواره - والحديث في مسند الإمام أحمد، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن معه: (أتراه يرائي؟) يعني: لماذا يطول في الصلاة في المسجد في غير صلاة الفريضة؟ فقال الرجل: كعادة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في طيب القلوب وحسن الظن قال: (يا رسول الله! هو من أعبد أهل المدينة، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وانطلق إلى بيته، فلما وصل قال فنفض يده من يده وقال: إن أحب دينكم إلى الله أيسره) فالله لم يطلب من الناس أن يصلوا في المسجد بهذه الصورة، ولكن من أراد أن يطول في صلاته ففي بيته لكن أمام الناس لا؛ فإن الناس سيتنافسون في ذلك، فإذا صلى أحدهم نصف ساعة فإن الآخر يقول: سأصلي ساعة كاملة، والثالث يقول: سأصلي ساعتين، فتصبح الصلاة للتظاهر والتفاخر.
والفريضة قد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف نصليها ونقرأ فيها، فنصلي كما صلى صلوات الله وسلامه عليه، والمطلوب في الفريضة الإظهار، والمطلوب في النافلة الاستتار، وتطلب الأجر من الله سبحانه وتعالى بالفريضة والنافلة.
نرجع للحديث قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار) (رجل آتاه الله مالاً) من نعم الله عز وجل على العبد أن يعطيه المال ويعطيه البنين، والإنسان طالما أنه يحافظ على النعمة وينفق لله عز وجل فإن الله يبقيها في يده، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل جعل منافع العباد عند أقوام، فأعطاهم نعماً -هذا معنى حديثه صلى الله عليه وسلم- يبقيها فيهم ما كان العباد ينتفعون بهم، فإذا تركوا أخذها الله عز وجل منهم).
وإذا آتاك الله مالاً فاعلم أن المال مال الله عز وجل، وأن فيه حقوقاً عليك، فإذا أعطاك ألفاً فعليك زكاة في هذه الألف إذا مر عليها سنة مقدارها خمس وعشرون، فتعطيها للفقراء، فإذا أعطيتها للفقراء أبقى الله النعمة في يدك؛ لأنك عرفت حق الله.
فإذا كانت أكثر من ذلك أعطيت زكاتها، وتصدقت على من يحتاج بشيء من مالك، وأعطيت بالليل وبالنهار، قليلاً وكثيراً، ومستحيل أن تنفق ولا يعطيك الله وطالما أنك تنفق ونيتك حسنة، فإن الله يعطيك ويبقي النعمة في يدك، إلى أن يضن الإنسان ويشح بماله ويرفض أن يعطي الحق للفقراء، فيأخذ الله عز وجل منه هذه النعمة ويحولها إلى غيره.
والفقراء والضعفاء يسألون الله عز وجل فيأت الله عز وجل بهذه الأرزاق التي تصل إلينا، والأرزاق لها أسباب، فإما أن تكون سبباً من هذه الأسباب فيعطيك النعمة ويفيض عليك من نهر نعمه سبحانه.
فإذا أعطاك الله فأعط الفقراء والضعفاء مما أعطاك الله عز وجل، وإذا منعت عنهم منع الله عنك العطاء وأعطاه لغيرك، ولن يحرم الله عز وجل الفقراء من رزقه وفضله وكرمه، ولكن يسبب الأسباب، فإذا أعطاك الله النعمة فأعط لخلق الله عز وجل ما وجب عليك، وأعط أكثر من ذلك مما تقتدي فيه بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وبعباد الله الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار).
أي: في أحايين الليل وساعاته، وبالنهار وأوقاته، وفي رواية أخرى قال: (سلطه على هلكته في الحق) فهو يعطي وينفق المال لله، والله عظيم كريم، نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(93/9)
شرح رياض الصالحين - من (فضل قراءة القرآن) إلى (ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة)
القرآن الكريم كتاب الله عز وجل الذي أنزله لهداية الناس، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، ولذلك فقد حث الله عز وجل على تعلمه وتعليمه، وبين عظيم أجر وجزيل ثواب ذلك في الدنيا والآخرة، ورغب في الاهتمام به، وملازمته، وبين فضل صاحبه ومنزلته في الآخرة، وقربه منه تعالى، وأن قراءته وحفظه والعمل به سبب لدخول الجنة.(94/1)
فضائل تعلم القرآن وتعليمه وتلاوته
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على حفظ كتاب الله عز وجل بقوله صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
كذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
وهذا الحديث الذي رواه مسلم موافق لما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة)، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن قارئ القرآن بالأترجة، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، ولا يحفظه بالتمرة، والمنافق الذي يقرأ القرآن ويحفظه شبهه بالريحانة، والمنافق الذي لا يقرأ القرآن ولا يحفظه بالحنظلة.
فهذه أربعة أمثلة لمؤمن يحفظ، ومؤمن لا يحفظ، ومنافق يحفظ، ومنافق لا يحفظ.
فالقرآن إذا حفظه المؤمن فإن النتيجة من ذلك تكون عملاً صالحاً، وحسن الخلق، والتقرب إلى الله عز وجل بالعبادة، وتحبباً إلى الخلق بما يؤديه إليهم من منافع؛ (فخير الناس أنفعهم للناس).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، أي: بالقرآن العظيم، فإذا حفظه أحد وعمل به فإن الله عز وجل يرفعه درجات عالية، وإذا حفظه يريد به الدنيا فإن الله عز وجل يضعه، وهو يظن أنه وصل، ولم يصل إلى شيء؛ لأنه جعل أعظم الأشياء وأجملها وأحسنها وأفضلها طريقاً يطلب بها أشياء حقيرة لا قيمة لها.
ولذلك فينبغي على الإنسان الذي يحفظ القرآن العظيم أن يطلب به الآخرة، ولا يطلب به العلو في الدنيا، وإذا علا في الدنيا بسبب ذلك نفاقاً ورياءً وسمعة فإن الله عز وجل يزيل منه ذلك يوماً من الأيام، فيضعه بذلك.
وإذا أراد أن يرتفع على الناس بسبب أنه يحفظ القرآن، طلب الدنيا والرفعة به وليس لطاعة الله، وإذا اغتر على الخلق وجادل العلماء ومارى السفهاء، وأظهر حسن الصوت، وأظهر أنه أفضل من غيره يريد الدنيا بذلك، فإنه يكون أحد أول من تسعر به النار يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة، -وذكر منهم- رجل حفظ القرآن فأتى به ربه يوم القيامة، وعرفه نعمه وقال: ما عملت فيها؟ قال: قرأت فيك القرآن وأقرأته، -أي: تعلمت القرآن وعلمته- فيقول له: كذبت كذبت كذبت، إنما قرأت القرآن ليقال: قارئ)، فهذا الذي حفظ القرآن من أجل الشهرة والسمعة بين الناس، فهو لم يطلب الدرجة عند الله عز وجل، وإنما طلب حقارة الدنيا، وقد قيل، فيؤمر به إلى النار.
فإن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً في الدنيا بزهدهم وبصلاحهم وبحبهم لله وبإخلاصهم له، وفي الآخرة يرفعهم درجات بما يحفظونه من آياته سبحانه.
(ويضع به آخرين) أي: الذين قرءوا القرآن ولم يتجاوز شفاههم وحناجرهم، ولم يدخل إلى قلوبهم، فهم لم ينتفعوا به في الدنيا ولا في الآخرة.
وأيضاً للحديث معنىً آخر وهو: أن الله جعل هذا القرآن شريعة ومنهاجاً، فمن آمن وأطاع الله وأقبل على القرآن من الناس رفعه الله سبحانه وتعالى، ومن حاد الله وشاق دينه سبحانه وتعالى، وأصر على الكفر وضعه الله سبحانه وتعالى وأذله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وعده ربه سبحانه أن ينتشر هذا الدين، ولا يترك بيت مدر ولا حجر إلا ودخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله.
وهذا معنىً آخر لهذا الحديث، فإن الله يرفع المؤمنين المتمسكين بهذا القرآن، المطبقين لأحكامه، الآخذين به بقوة في الدنيا والآخرة، بجهادهم في سبيل الله سبحانه، وبنشرهم دين ربهم سبحانه.
(ويضع به آخرين) أي: الذين ينافقون، ويجرمون في حق الدين وحق الإسلام، والذين يعادون دين الله عز وجل فأبى الله إلا أن يذل من عصاه.(94/2)
غبطة حافظ القرآن والعامل به
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار)، وهذه صورة لحافظ القرآن الذي يحفظ القرآن ويلازمه، فهو في النهار قائم به يصلي ما فرضه الله تبارك وتعالى عليه، فيقوم به علماً وعملاً، وتعلماً وتعليماً، نصيحة لنفسه ولغيره، فهو ينصح لله ولرسوله ولكتابه، وينصح للمؤمنين، فهذا قيامه بالنهار، وأما قيامه بالليل فهو أنك تجده باكياً بين يدي الله عز وجل، مصلياً لله سبحانه وتعالى، فهذا هو الذي يستحق أن نتمنى أن نكون مثله، ويا ليتنا مثل هذا الإنسان الذي يقوم بالقرآن بالنهار فيعمل به، ويقوم به بالليل فيصلي به، فهذا هو الذي يستحق أن نغبطه على ما آتاه الله من فضله.
وأما الآخر فهو: (رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، وهذا أيضاً يستحق أن نغبطه، وأن نتمنى أن نكون مثله، وأن يبارك الله عز وجل له في هذا الذي معه.(94/3)
تنزل الملائكة لقراءة القرآن
جاء عن البراء بن عازب رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: (كان رجل يقرأ سورة الكهف، وعنده فرس مربوط بشطنين)، وهذا الرجل هو أسيد بن حضير رضي الله عنه، وقد كان رجلاً فيه إخلاص وعبادة، وحب لله، رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقد كان هذا الرجل يذهب أحياناً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه شخص آخر، فإذا رجع من عنده والليلة مظلمة وفي يده عصا، يجعل الله سبحانه العصا أمامهما نوراً، وكأنها مصباح وكشاف تضيء له الطريق، وعندما يفترقان في الطريق ويذهب هذا إلى بيته وهذا إلى بيته، يجعل الله عز وجل لكل منهما نوراً أمامه، وقد كان أسيد بن حضير رضي الله عنه يظل ليله مصلياً لله عز وجل.
وفي إحدى المرات قام يصلي من الليل رضي الله عنه، قال: (وعنده فرس مربوط بشطنين) أي: فرس قد ربطه بحبلين فتغشته سحابة، فجعلت تدنو منه وهو يقرأ القرآن بالليل)، وفي رواية: (كان يقرأ سورة الكهف، فإذا بسحابة فيها مثل المصابيح -أي: ممتلئة بالنور- نازلة من السماء وابنه بجواره، والفرس بجواره، وهو يقرأ القرآن، فنفر الفرس، وجعل يهتز في مكانه، وخشي أسيد بن حضير رضي الله عنه، فانتبه وجعل ينظر، فإذا بهذه السحابة تدنو من رأسه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فخاف على ابنه بجوار الفرس من أن يرفسه، فتوقف عن القراءة، فارتفعت السحابة، فعاد يقرأ فنزلت عليه مرة ثانية، فترك القراءة خوفاً على ابنه، فلما أصبح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تلك السكينة تنزلت للقرآن)، أي: نزلت السكينة من السماء، وهي سحابة فيها ملائكة الله عز وجل، ولو ظل يقرأ لنزلت الملائكة تسلم عليه، ولأصبح الناس يسلمون عليهم وتسلم عليهم، ولكنه خاف على ابنه.
وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ يا ابن حضير! اقرأ يا ابن حضير!) أي: ليتك قرأت يا ابن حضير.
فقارئ القرآن يقرأ القرآن ويستمتع به، ولا يدري بالغيب الذي حوله، أن ملائكة الله عز وجل ينصتون له ويستمعون له، وأن السكينة تنزل على قارئ القرآن، ولذلك عندما تحضر مجالس العلم كن مستيقناً بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، وهذه غيوب نحن لا نراها، ولكن نصدق بما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.(94/4)
عظم ثواب قراءة القرآن
جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (الم) حرف)، وقد كانت عادة العرب: أنهم يطلقون على الكلمة: (حرفاً)، ويطلقون على الجملة والخطبة: (كلمة)، فحتى لا يظن السامع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقصد أن الكلمة حرف، وضح ذلك وقال: (لا أقول: (الم) حرف)، أي: إنما هذه ثلاثة أحرف، وليست حرفاً واحداً: (ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف).
وفي هذا الحديث بيان أن لك بكل حرف تقرؤه من القرآن عشر حسنات، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيه: (فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها)، فإذا قرأت بفاتحة الكتاب مثلاً، وقرأت: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فإنك تأخذ حسنات كثيرة، بعدد حروف الكلمة التي تقرؤها فضلاً من الله سبحانه.(94/5)
مثل من ليس عنده شيء من القرآن
جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الحديث الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وإن كان في إسناده راوٍ فيه لين، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب).
فالإنسان المؤمن الذي يقرأ القرآن له درجات، وأما الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، ولا نتخيل أن إنساناً مسلماً أو مؤمناً ليس في جوفه شيء من القرآن؛ لأنه لابد أن يقرأ ولو فاتحة الكتاب حتى يصلي بها، فإذا كان ليس في قلبه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب، ظاهره حلو وباطنه خراب، بخلاف الذي يقرأ القرآن فإن باطنه نظيف طاهر؛ لأنه يقرأ القرآن، ويحفظه، بشرط أن يعمل به.(94/6)
شرف صاحب القرآن في الآخرة
روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهو حديث صحيح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)، وهذه مكافأة للإنسان المؤمن عند الله عز وجل، فإن المؤمن حين يدخل الجنة يفرح فرحاً عظيماً، ثم تأتيه هذه المكافأة من الله عز وجل، فيقال له: كما كنت تقرأ في الدنيا أي: كما كنت تقرأ في الدنيا تعبداً لله فالآن اقرأ بين يدي الله عز وجل حتى ترتفع في الدرجات، وليس كما كنت تقرؤه في الدنيا تكليفاً، ولكن اقرأه الآن تشريفاً لك، وذلك حين تقرأ القرآن وترتله بصوت جميل بين يدي الله سبحانه وتعالى: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق -أي: ارتفع- ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).
والقرآن ستة آلاف ومئتان آية، وكل آية تقرؤها فإنك ترتقي بها درجة، فإذا كنت تحفظ القرآن كله فإنك تعلو إلى أعلى الدرجات، وإذا كنت تحفظ بعضه فإنك تعلو بحسب ما تحفظ منه، وهذا يدفع المؤمنين للتنافس في ذلك، فيتنافسون في حب الله عز وجل، وفي حفظ كتابه، ولا تيئس ولا تعجز، وحاول أن تحفظ من القرآن حتى آية في كل يوم، وراجع ما حفظته قبل ذلك، وإن الإنسان قد يجلس وهو يريد أن يحفظ فيحاول أن يحفظ ربعاً كاملاً فلا يستطيع أن يحفظ منه شيئاً، فيقوم وقد نسيه كله، وليس ذلك هو المطلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل عمل شرة، وإن لكل شرة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة).
إذاً: فالإنسان لا تأخذه الحماسة فيريد أن يحفظ كل شيء مرة واحدة؛ لأن ذلك ليس ممكناً، بل هو صعب جداً، وخاصة إذا لم يكن متعوداً على الحفظ، فيحتاج إلى أن يتعود شيئاً فشيئاً، فيحفظ أولاً آية واحدة، ويرددها في نهاره وغده إلى أن يحفظها، ثم يضم إليها غيرها، ولا يزال يحفظ كذلك إلى أن يحفظ القرآن كله، أو ما استطاع حفظه منه، وليبدأ بما يحبه، وبما يستمتع به، فقد يكون يحب أن يحفظ سورة يس، وغيره يحب أن يحفظ سورة الرحمن، وهكذا، فليبدأ بما يحب، وليس شرطاً أن يبدأ من أول البقرة، أو من أول جزء عم، ولكن السورة التي تستهويه ويحبها يبدأ بها؛ لأنها ستكون سهلة عليه، وليضم إليها غيرها وغيرها، وسيجد نفسه في النهاية قد حفظ الكثير من كتاب الله عز وجل، بل حفظه كله.(94/7)
الحرص على تعهد القرآن، والحذر من تعريضه للنسيان
من الأبواب التي يذكرها الإمام النووي رحمه الله في التبيان: باب الأمر بتعهد القرآن والتحذير من تعريضه للنسيان.
وتعاهد القرآن بمعنى: أن تحفظ وتراجع، ولا يكفي أن تحفظ.
وإن الذي يحفظ القرآن يتفلت منه بسرعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أنسي آية وهو يصلي بالناس، وذكره بها أبي بن كعب رضي الله عنه بعد الصلاة، فكيف بغيره صلوات الله وسلامه عليه؟! فالقرآن يتفلت من الإنسان.
وإذا كان الإنسان يراجع فهو معذور، وأما الذي ترك القرآن فلا يراجع ولا يقرأ ومع هذا يقول: أنا حافظ، فهذا هو المقصر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها).
(تعاهدوا) أي: راجعوا، وحافظوا على ما تحفظون من القرآن، وراجعوا كل يوم، واجعلوا لكم وقتاً للمراجعة، وداوموا على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا القرآن) أي: اجعل للقرآن وقتاً تتعاهده فيه، حتى تراجع ما تحفظ، ولا يتفلت منك، وتأس بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جبريل ينزل عليه كل سنة في رمضان فيراجع مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحفظه من القرآن، ويتدارسه معه.
وفي هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعاهدوا)، أي: حافظوا على قراءة القرآن، وواظبوا على تلاوته، (فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتاً) أي: يتفلت من الإنسان، ويخلص منه ويذهب ويتركه (من الإبل في عقلها)، أي: مثل الجمل حين يبقى مربوطاً في عقاله ويحاول أن يفلت منه ليمشي، وكذلك القرآن إن لم تحافظ عليه فإنه يضيع منك ولن تستطيع أن تتذكره.
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت)، وهو هنا يضرب المثل بما في البيئة عندهم، فإن الرجل منهم إذا كان عنده جمال فربطها وواظب على أن ينظر إلى الحبل الذي ربطها به أهو سليم أو غير سليم فقد حافظ عليها، وأما إذا غفل عنها فإنها تذهب عنه فلا يجدها.
وكذلك القرآن، فإننا إذا لم نتعاهد كتاب الله عز وجل بالمذاكرة والحفظ والمراجعة فإننا سوف ننساه.(94/8)
استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها
من الأبواب يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن وطلب القراءة من حسن الصوت والاستماع لها.
فقارئ القرآن ينبغي أن يحسن صوته بالقرآن، وأن يتغنى به، تعظيماً وتوقيراً لكتاب الله سبحانه وتعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر ذلك في غير القرآن، فلم يذكر شيئاً ثانياً، لا التغني بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا التغني بالشعر، ولا التغني بالكلام، ولا التغني في الخطبة، ولا التغني في الدعاء، وإنما ذكر التغني بالقرآن فقط.
وقد كان العرب ينشدون الأشعار ويتبارون فيها، فلما نزل القرآن أخبر الله تعالى أن القرآن ليس بقول كاهن، ولا بقول شاعر قليلاً ما تذكرون، أي: قليلاً ما يفهم هؤلاء الناس، فلو أن القرآن مثل الشعر الذي يقرءونه على أوزانهم لقالوا: هذا شاعر، أي: النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن القرآن أتى بفواصل جميلة وعجيبة، يسمعها من يسمعها فيقول: لا يمكن أن يكون هذا شعراً، ولكن له حلاوة ونغمة، فالقرآن كلماته متآلفة ليست متنافرة، وعندما يقرؤه الإنسان يجد متعة على لسانه، ويجد نغمة، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتغنى بالقرآن، ولم يأمرنا أن نتغنى بشيء غير القرآن.
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به)، (ما أذن) أي: ما استمع الله عز وجل لشيء، والله يسمع كل شيء، ولكن فرق بين سماع وسماع، فـ (ما سمع) هنا أي: يحب أن يستمع لهذا القرآن من نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وهو أجمل الناس صوتاً، وأحسنهم تلاوة صلوات الله وسلامه عليه: (ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن)، وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، فليس هناك غيره حسن الصوت يتغنى بهذا القرآن العظيم، ولكن من تواضعه صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك على وجه الالتفات، فلم يقل: ما أذن الله لشيء ما أذن لي أن أتغنى بالقرآن، صلوات الله وسلامه عليه، ولكن من تواضعه قال: (ما أذن لنبي)، ومن كان موجوداً معه من الأنبياء صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن مع أصحابه؟ لا أحد.
وقوله: (يتغنى به) أي: يترنم بآيات كتاب الله عز وجل بنغمة جميلة، ويجهر بذلك، ويسمع الخلق، فيقرأ كتاب الله عز وجل لينتفع الخلق به.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود)، فقد استمع لـ أبي موسى الأشعري ليلة وهو يقرأ القرآن وحده في المسجد في الظلام، ووقف وقفة طويلة يستمع له، وأعجبه صوت أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه، وفي الصباح قال له: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، وقوله: (لو رأيتني) أي: لأعجبك ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم استمع لـ أبي موسى الأشعري لجمال صوته، ولحسن تلاوته وأدائه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني وأنا أستمع إليك البارحة)، أي: لأعجبك ذلك، فقال أبو موسى الأشعري: (لو علمت يا رسول الله لحبرته لك تحبيراً)، أي: لو علمت أنك تستمع لقراءتي لأنها أعجبتك لحبرتها لك تحبيراً، وحاشا أبا موسى أن يرائي أو يسمع، ولكن أعجبه أن الرسول العظيم الكريم يستمع له، وإذا كان يستمع له وصوته يعجب النبي صلى الله عليه وسلم لزاد أبو موسى ولحلى صوته أكثر ليسمع النبي صلى الله عليه وسلم ما يحب أن يسمع من أبي موسى رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفي الحديث المتفق عليه من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بالتين والزيتون، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه صلوات الله وسلامه عليه).
وقد كان الصحابة يسمعون لـ أبي موسى الأشعري بعد وفاة صلى الله عليه وسلم، فقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي أبا موسى ويقول: ذكرنا بالله.
فيقرأ أبو موسى والكل يسمعون في ذلك المجلس.
وهنا البراء بن عازب يحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد ما سمع غير النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما سمعت صوتاً أحسن من صوت النبي صلوات الله وسلامه عليه)، فهو صوت جميل يستمع إليه ربه سبحانه وتعالى وهو يقرأ القرآن، ويتغنى بكتاب الله سبحانه في خشوع، وقد كان إذا قرأ يسمع في صدره أزيز كأزيز المرجل، من خوفه من الله عز وجل، وبكائه منه، صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كان هذا لا يؤثر على جمال صوته، وحسن تلاوته، صلوات الله وسلامه عليه.(94/9)
الأمر بالتغني بالقرآن
روى أبو داود بإسناد جيد عن أبي لبابة بشير بن عبد المنذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا).
فالقرآن ليس كغيره من الكلام، وإنما هو شيء خاص جاء من عند رب العالمين، نزل به جبريل الروح الأمين على النبي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، نزل عليه فعلمه كيف يتلوه، قال له ربه: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
فقوله تعالى: (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي: لا تحرك لسانك لتعجل؛ بل اصبر واسمع جيداً لهذا القرآن، ونحن نحفظك إياه، ونعلمك أحكامه، ونعلمك كيف تقرؤه.
والنبي صلوات الله وسلامه عليه يعلم المؤمنين، ويأمرهم أن يتغنوا بالقرآن، فيقول صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس منا)، أي: إن قارئ القرآن لا يقرؤه كما يقرأ أي كتاب آخر، وكما يقرأ أي كلام آخر، ولكن يقرأ القرآن مستشعراً أنه يؤجر على كل حرف منه، فيحسن التلاوة، ويتعلم كيف يجود القرآن، ويتعلم أحكام القرآن، وأحكام التجويد، وأحكام القراءة، ويتقن القراءة، ويتغنى بها، ولا يقيس على القرآن غيره، ولا يجعل شيئاً آخر كالقرآن.
وفي زماننا الآن ما أكثر ما ابتدع الناس من بدع! فقد تغنوا بالقرآن، وبدءوا يتغنون بغير القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر سوى القرآن فقط، فقال: (ليس منا من لم يتغنّ بالقرآن)، حتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يتغنى به.
أما أن يقف على المنبر ويخطب ويتغنى، فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، إلا أنه كان يقرأ القرآن ويتغنى به، صلوات الله وسلامه عليه.(94/10)
الأمر بالاستماع للقرآن
روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن)، وابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه كان رجلاً عالماً من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد كانوا لفترة طويلة يظنونه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكثرة دخوله وخروجه على النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن.
قال: فقلت: يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟)، أي: القرآن نزل عليك وتأمرني أن أقرأه عليك؟ وهذا من باب هضم النفس والتواضع، وأيضاً هذا تواضع من النبي صلى الله عليه وسلم لتعليم الخلق أن الإنسان يقرأ ويستمع للقرآن، ففي قراءته للقرآن يتدبر ويحسن القراءة، وفي سماعه يتأمل ويتدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41] قال: حسبك الآن.
قال: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان)، صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان يبكي صلوات الله وسلامه عليه حين يستحضر الآخرة ويوم القيامة، وحال وجوده يوم القيامة، وهي حال تشريف له صلى الله عليه وسلم، وحال علو وارتفاع له، يقول له ربه: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك أنت شاهداً على الكل، فإذا كان هذا النبي الشاهد عليه الصلاة والسلام يبكي خوفاً من هذا اليوم، فكيف بالمشهود عليهم؟ وكيف يكون حالهم؟ وهذا النبي صلى الله عليه وسلم يملاً الخوف من الله قلبه، وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو صاحب لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب الشفاعة العظمى والمقام المحمود، وصاحب الشفاعات يوم القيامة، ومع ذلك يبكي عليه الصلاة والسلام من ذلك! فالمؤمن أولى أن يحدث في قلبه الخوف والرعب والرهبة من هذا اليوم، ويسأل الله عز وجل العفو والعافية.
والمقصود من هذا الحديث: بيان أن المؤمن إذا استمع للقرآن فليستمع إليه بحب لله ولكلامه، وبتدبر وتأمل، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} [الأعراف:204] وهذا توكيد من رب العالمين سبحانه، فإذا قرئ القرآن استمع، وفرق بين أن يقول: (اسمع) و (استمع)، فاسمع أي: شيء يمر على سمعك فاسمعه، وأما (استمع) أي: انتبه، وأصغ سمعك، وانتبه لما يقال، وأنصت ولا تتكلم أو تتحرك أو تلتفت عن القرآن، وإنما استمع وأصغ له، كما قال تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، أي: فلعل الله عز وجل يرحمنا بذلك.(94/11)
الحث على آيات وسور مخصوصة
القرآن كله عظيم، ولكن لا مانع من أن تكون آية أفضل من غيرها، وليس المعنى حين نقول: هذه أفضل من هذه، أن هذه أقل، ولكن القرآن كله فاضل وعظيم، والله عز وجل جعل البعض منه أفضل من البعض الآخر.(94/12)
أعظم سورة في القرآن هي سورة الفاتحة
جاء عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أنه كان يصلي في المسجد، فناداه النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد، فأسرع في صلاته وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يعلم أن معنى قول الله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] أنه لا يقطع صلاته حتى ينتهي منها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منعك أن تجيبني؟ قال: كنت في صلاة)، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كغيره، ولم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له حكم آخر في صلاة النافلة، وهو وجوب إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وقطع صلاة النافلة؛ لأن الصلاة نافلة، وإجابة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة، فإذا تعارضا فيجب عليه إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، والخروج من النافلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ألم يقل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]).
أي: أليس الله قال هكذا؟ ثم علمه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أراد أن يعلمه ما يحيا به، وما يملأ قلبه نوراً، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد؟ قال: فأخذ بيدي فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله! إنك قلت: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
إذاً: فأعظم سورة في كتاب الله -وكل القرآن عظيم- هي سورة الفاتحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم هنا: (هي السبع المثاني)، أي: تثنى وتكرر الفاتحة في كل صلاة، وفي كل ركعة تُقرأ، وهذا معنى تثنيتها، أي: تكررها، ففي كل صلاة فريضة أو نافلة تقرأ فاتحة الكتاب، فقال: (هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته) صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذا الحديث: أن المؤمن يحرص على هذه السورة العظيمة، فيقرؤها في الصلاة وفي غير الصلاة.(94/13)
فضل قراءة سورة (قل هو الله أحد)
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، وفي رواية أنه قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟)، وكل الناس يعجزون عن ذلك، ولا يستطيع أحد أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة إلا من أعانه الله عز وجل على ذلك، وهم فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم يبتدءون من أول سورة الفاتحة إلى أن يتعدوا سورة براءة، حتى يصلوا إلى ثلث القرآن.
أي: يقرءون عشرة أجزاء، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك شق ذلك على الصحابة، وقالوا: (أينا يطيق ذلك؟) أي: أن الأمر صعب عليهم أن يقرءوا ثلثه، ويمكن أن يقول البعض اليوم: أنا أستطيع أن أقرأ القرآن كله في يوم واحد أو في ليلة واحدة، ولكن قراءة الصحابة كانت على غير ما نقرأ نحن، فقد كانت قراءتهم قراءة تدبر وتفكر، وقراءة أدب مع الله سبحانه وتعالى، فكان من الصعب عليهم أن يقرءوا ثلث القرآن في ليلة، أي: عشرة أجزاء، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر أسهل، فقال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن).
وإذا كانت الفاتحة أعظم سورة في القرآن، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، فستكون الفاتحة أعظم من ذلك، والغرض من ذلك بيان أن تحرص على ذلك، فاقرأ فاتحة الكتاب، واقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وفي البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقرأ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ويرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالها، كما نعمل نحن اليوم نصلي بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في الركعتين، وهذا الرجل كان يفعل ذلك، أي: أنه كان يصلي بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فيقرؤها ويكررها في كل ركعة، ثم في النهار ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه يستقل ذلك، لأنه لا يحفظ كثيراً من القرآن، وإنما يحفظ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، وهذا الذي عرف أن يقوم به، وإذا بالنبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه يبين له أنها ليست قليلة كما ظن، وإنما هي عظيمة جداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)، فيقسم له، وهو لا يحتاج إلى أن يقسم عليه الصلاة والسلام، ولكنه أراد أن يطيب نفس هذا الرجل؛ لأنه رآها شيئاً قليلاً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن).
فكأنك تقرأ في كل ركعة بثلث القرآن عندما تقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، قال: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) إنها لتعدل ثلث القرآن).
وجاء في الترمذي ورواه البخاري تعليقاً عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! إني أحب هذه السورة، -يعني: سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) - قال: إن حبها أدخلك الجنة).
ولذلك نقول: إنك عندما تحب أن تحفظ فانظر السورة التي تحبها فاحفظها؛ لأن حبك لها يدخلك الجنة، وحفظك لها يرفعك درجات عند الله سبحانه وتعالى، فابدأ بما تحبه، وألف السور، وضم بعضها إلى بعض إلى أن تحفظ القرآن كله.
وقد جاء في رواية: أن هذا الرجل كان يصلي بأصحابه، وكان إذا قرأ في الركعة ختم بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فقالوا له: إما أن تقرأ بالسورة، أو تقرأ بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، أي: لا تجمع بين الاثنتين، وكان الرجل يحب هذه السورة، فقال: إن أحببتم أن أصلي بكم بذلك وإلا فقدموا غيري، وكان هو أفضلهم، فتركوه يصلي بهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن يقرأ في كل ركعة بـ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع سورة أخرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يحب القرآن كله صلوات الله وسلامه عليه، وليس عنده سورة أفضل من سورة، فكان يقرأ بالجميع صلوات الله وسلامه عليه.
وأما هذا فحدث في قلبه حب لهذه السورة أكثر من غيرها، فكان يقرؤها في كل ركعة، وليس المعنى: أن السنة أن نفعل مثل هذا، وإنما السنة أن نفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو لم يفعل ذلك ولا مرة واحدة صلوات الله وسلامه عليه، فلم يقرأ في أي ركعة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) مع السورة التي قرأها في الركعة، ولكن الغرض بيان أن هذا الرجل حدث في قلبه حب لهذه السورة، فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أحبها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (حبك إياها أدخلك الجنة)، أي: بحبك لها، وليست هي فقط، وإنما القرآن كله، فما أحببت منه وتعلقت به كان سبباً لدخولك الجنة، أي: أن الإنسان المؤمن يحفظ ما يحبه، ويقرأ ما يحبه، فإذا كان في الصلاة فخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فيفعل كما فعل صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض بيان أن (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) لها فضيلة عظيمة، ولذلك جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه في حديث آخر أنه قال: (من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) عشر مرات بني له بيت في الجنة)، أي: قصر في الجنة، فاحرص على تكثير القصور في جنة الله سبحانه وتعالى.(94/14)
فضل سورة (قل هو الله أحد) والمعوذتين
روى الإمام مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألم تر آيات أنزلت الليلة لم يُرَ مثلهن قط: (قل أعوذ برب الفلق) و (قل أعوذ برب الناس))، أي: آيات عظيمة جداً تنفعك في الدنيا والآخرة، فتحرسك هذه الآيات في الدنيا، ويكون لك أجرها عند الله عز وجل يوم القيامة.
ويطلق على هذه السور مع (قل هو الله أحد) المعوذات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معجباً من هذه الآيات أنه لم ينزل مثلهن.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما) صلوات الله وسلامه عليه.
أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من عين الإنسان، ومن الجان، وكأنه كان يكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، وفي أذكار الصباح والمساء يتعوذ الإنسان بكلمات الله التامات من شر ما خلق، ولما نزلت عليه هاتان السورتان أخذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهما تكفيان عن غيرهما في التعوذ.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر وكأنه كان بعيداً من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قرب من النبي صلى الله عليه وسلم سأله أنه يعلمه شيئاً يصلي به، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، فكأنه استقل ذلك، وأراد أن يعلمه سورة طويلة مثل سورة البقرة، أو سورة النساء، وأما هاتان فكل الناس يحفظونهما، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، إلى أن صلى بهم الفجر بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، والتفت إلى المغيرة وقال: كيف رأيت؟ أي: أني أنا قرأت بهما في صلاة الفجر، والله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء:78]، أي: تشهده ملائكة الليل والنهار، ويشهده المؤمنون المصلون، فقرأ بـ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)؛ ليبين عظيم فضل هاتين السورتين.(94/15)
فضل سورة تبارك
روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له، وهي: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ))، وهذه السورة تشفع للإنسان في قبره، وشفعت لهذا الإنسان إلى أن غفر الله له، وتلقب بالمانعة من عذاب القبر، فينبغي على المؤمن أن يحفظها، وأن يرددها كل يوم وكل ليلة، لتدافع عنه في قبره.(94/16)
فضل الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة
عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، والآيتان هما: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، إلى آخر السورة.
فهاتان الآيتان يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهما: (من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، وأطلق قوله: (كفتاه) ولم يقيدها؛ لتبقى محمولة على العموم، فتكفيانه من الشرور، ومن قيام هذه الليلة، فكأنه إذا قرأ بهما فهما من أعظم ما يقرأ به في قيام الليل، فتكفيانه، فليحرص المؤمن على أن يقرأ ذلك قبل أن ينام، سواء في الصلاة، أو وهو على فراشه، ففيهما الإيمان، وأصول الاعتقاد، والدعاء: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286]، فقد جمعتا خيري الدنيا والآخرة من العقيدة الإسلامية، ومن الدعاء بخير الدنيا والآخرة، فينبغي على المسلم أن يقرأها في كل ليلة.(94/17)
فضل سورة البقرة
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة).
فقال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)؛ لأن المقابر لا يصلى فيها، وأهلها موتى، فلا توجد عبادة فيها، وإنما هي إما نعيم وإما جحيم، إما عذاب وإما فضل من الله عز وجل ورحمة في القبور، فلا يوجد فيها صلاة، ولا قراءة للقرآن، فلا تجعلوا بيوتكم مثل المقابر، فصلوا في بيوتكم النافلة، واقرءوا في بيوتكم سورة البقرة، لتحيا بيوتكم بذلك؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ينفر -أي: يهرب- من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فينبغي على المؤمن أن يقرأ هذه السورة في بيته ليطرد منه الشياطين.
نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(94/18)
شرح رياض الصالحين - ما جاء في الحث على سور وآيات مخصوصة من القرآن العظيم
كتاب الله تعالى هو أفضل وأشرف وأصدق كتاب، فقد جعله الله هدى للمتقين، ورحمة للمؤمنين، وهو مبارك، وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قراءته وتدبره، وخص بعض سوره وآياته بفضائل زائدة، وشرع قراءتها في أوقات وأحوال معلومة.(95/1)
الحث على سور وآيات مخصوصة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الحث على سور وآيات مخصوصة.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] قال: فضرب في صدري، وقال: ليهنك العلم أبا المنذر) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام وذكر قصة وفيها: (قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ ولن يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب) رواه البخاري].
هذه أحاديث من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله ذكرها في أبواب الفضائل في باب الحث على سور وآيات مخصوصة.
والمؤمن يحب أن يقرأ كتاب الله عز وجل كله، ويحب أن يحفظه كله، فمهما استطاع أن يحفظ منه وأن يقرأ منه فعل، وتوجد سور وآيات مخصوصة نبه النبي صلى الله عليه وسلم على فضلها، فيستحب أن يبدأ الإنسان بهذه السور فيحفظها؛ فإنه لا يدري متى يهجم عليه الموت، وهذه السور والآيات جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلتها أحاديث منها: حديث أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟!)، وظاهره أنه يقوم الليل بقراءة ثلث القرآن، فالصحابة ذكروا أن هذا الأمر صعب لا يقدرون عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: قل هو الله أحد الله الصمد ثلث القرآن).
كذلك جاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه في سورتي: (قل أعوذ برب الفلق)، و (قل أعوذ برب الناس) (المعوذتين) أن فيهما فضلاً عظيماً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأدعية من الجان وعين الإنسان ثم بعد ذلك اكتفى بسورتي: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وكان أحياناً يقرؤهما صلوات الله وسلامه عليه وهو مسافر في صلاة الفجر.
فيستحب للمسلم أن يقرأ المعوذات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، وإذا قرأتها ثلاث مرات تكفيك من كل شيء، فالمؤمن يستن بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ ذلك في أذكار الصباح وفي أذكار المساء.
ومما جاء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ تعدل ربع القرآن، وفيها البراءة من الكفار، ومن أعمال الكفار، فيستحب للمؤمن أن يقرأها سواء في الصلاة أو في غير الصلاة.
كذلك سورة: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وهي ثلاثون آية، وتسمى: المانعة من عذاب القبر، يستحب للمؤمن أن يحفظها وأن يقرأها في كل ليلة، فإنها دفعت عن رجل عذاب القبر بسبب أنه كان يقرؤها في كل ليلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).
وفي حديث آخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، وقال عن سورة البقرة وسورة آل عمران: (اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما).(95/2)
فضل آية الكرسي
روى مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) وقد عرفنا أن أعظم سورة هي سورة الفاتحة، فأي آية من القرآن أعظم؟ سئل عن هذا أبي بن كعب، وهو سيد القراء رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان عمر يلقبه بسيد القراء، وقد حفظ القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم في ذات مرة نسي آية وهو يصلي، وبعد الصلاة قال: (أفيكم أبي؟ قال: نعم.
قال: ما منعك أن تفتح علي؟ قال: ظننتها نسخت يا رسول الله)، فالنبي صلى الله عليه وسلم بين فضله رضي الله تبارك وتعالى عنه حين قال له: (ما منعك أن تفتح علي؟! وقال له هنا: (يا أبا المنذر) وهذا فيه تكريم لـ أبي بن كعب حيث يكنيه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال: يا أبي! لكان شرفاً له أن يناديه النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، ولكنه قال: (يا أبا المنذر!).
قال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟) يعني: أي آية من الآيات التي تحفظها أعظم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينطق بالوحي، ولا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه، فقال أبي بن كعب: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال: فضرب في صدري) أي مؤكداً له أنه أصاب في الجواب وقال: (ليهنك العلم أبا المنذر!) أصلها: يهنيك العلم، واللام هنا لام الأمر أي: تتهنأ بهذا العلم الذي عندك بفضل الله عز وجل عليك.
إذاً: آية الكرسي آية عظيمة جداً، ولولا أن لها قدراً عظيماً في القرآن الكريم لما أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأها بعد كل صلاة فريضة، فتقرؤها كل يوم خمس مرات على الأقل استحباباً بعد كل صلاة فريضة.(95/3)
تفسير آية الكرسي
آية الكرسي هي آية التوحيد، فقد ذكر الله سبحانه فيها صفاته العظيمة، وفيها من الأسماء الحسنى: الحي، والقيوم الذي يقوم كل شيء به، وهو قائم على كل شيء سبحانه، وهو الذي يدبر أمر الكون كله سبحانه، يراقب ويحفظ كل شيء، ويشهد على كل شيء، فهو القيوم لا شيء يقوم إلا بالله الحي القيوم سبحانه، وهو القيوم القائم والقاهر فوق عباده سبحانه وتعالى.
قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهو الحي الحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء لها سبحانه وتعالى، فقد خلق الله عز وجل الزمان للخلق، جعل لهم الزمان يحد أولهم وآخرهم، وجعل المكان للإنسان يتحيز فيه، والله عز وجل لا يحده زمان ولا مكان سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، قهر كل شيء، وقام على كل شيء.
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم قد عرفناه، والسنة: هي الشيء اليسير من النوم كالخفقة التي تعتري الإنسان، فالإنسان قد تغلبه عينه وهو يحرس أو وهو واقف في الصلاة إذا طالت الصلاة في قيام الليل.
فهذه السنة شيء يسير من النوم، والله سبحانه وتعالى لا يعتريه نوم ولا سنة من النوم سبحانه وتعالى.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] يملك كل شيء، يملك ما في السموات وما في الأرض.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما أعظم هذه العظمة! أي مخلوق لا يجرؤ أبداً أن يتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يشفع بغير إذنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] سبحانه وتعالى، ولا يشفع عنده إلا الأنبياء والملائكة والصالحون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه يأتي يوم القيامة ويخر ساجداً لله سبحانه وتعالى، فيتركه ربه ما شاء أن يتركه ساجداً، ثم يأذن الرب الكريم سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع)، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم حامداً ربه سبحانه، شاكراً ربه، ويشفع لمن يشاء الله من خلقه، فهذا النبي الكريم أكرم خلق الله صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع ابتداءً إلى أن يأذن الله له حين يقول: (يا محمد! ارفع رأسك)، ويأتي إلى عرش الرحمن فيخر ساجداً حتى يؤذن له.
فمن يجرؤ أن يأتي إلى الله بغير إذن من الله سبحانه ويقول: أنا أشفع وأنا أدافع عن فلان؟ لا أحد يجرؤ على ذلك.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] هذه عظمة الله سبحانه، وجبروت الله وملكوته، يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أحاط بكل شيء علماً صغر وقل أو كبر وجل، كل شيء يعلمه الله سبحانه علم إحاطة، يعلم أوله وآخره وكيف كان، وكل شيء يصير يعلمه الله، فمن عظمة الله أنه لا يجرؤ أحد أن يشفع إلا أن يأذن الله سبحانه، وعلم الله العظيم يدل على عظمته، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما أمامك وما خلفك، في أي زمان ومكان، ما أضمرته في نفسك وما أظهرته، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلم ما بين أيدي كل خلقه، كل شيء يعلم الله عز وجل ما بداخله وخارجه، ما أمامه وخلفه في الزمان وفي المكان، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى سعة علمه سبحانه، وإلى حقارة علم المخلوقين، إذا اجتمع الخلق كلهم لا يقدرون أن يحيطوا بشيء من علم الله، فهو سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كل شيء يعلمه الله عز وجل، وهذه المخلوقات كلها لا تحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فما شاء أن يعلمهم به أعلمهم به، وقد يظن إنسان أنه أحاط علماً بالشيء، فإذا بالرب سبحانه يظهر جهل هذا القائل، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهل نفسه، فإذا استكبر وقال: قد علمنا ووصلنا، فسيصل إلى أن يكون أجهل خلق الله سبحانه وتعالى.
قبل مائة سنة كان بعض كبار الأطباء يقولون: قد اكتشفنا ولم نترك شيئاً لمن يأتي بعدنا في الطب، فالذي قال هذا كان أحمق، فانظر إلى العلوم الموجودة الآن في علم الطب الحديث، فالعلم الآن فيه أشياء حديثة جداً جداً لم يكونوا يعرفونها، فقد اكتشفوا الميكروبات والفيروسات والأشياء الصغيرة التي لا ترى، والأشياء التي ترى آثارها دون أن ترى، فأين علم الطبيب القديم الذي كان يقول: اكتشفنا كل شيء؟! هذا جاهل يضحكون عليه الآن بسبب قوله الذي قاله.
فالإنسان حين يقول: أحطت بشيء علماً جاهل، فالله عز وجل لا يطلع أحداً على كل شيء، وقد قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فوق كل إنسان عالم علّامة، وفوقه العليم الخبير سبحانه وتعالى، كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] أي: الله فوق كل عالم سبحانه وتعالى.
فالإنسان إذا وصل في العلم إلى شيء فيرد العلم إلى عالمه، ويقول: هذا ما أعلمه وأجهل الكثير.(95/4)
معنى الكرسي
قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كرسي الله سبحانه نؤمن به، وعرش الله عز وجل نؤمن به، ونحن نرى ما نراه من الأرض، ونرى ما نراه من السماء، والعلماء يقولون: السماء واسعة جداً، والأفلاك والكواكب والأقمار هي أشياء عظيمة جداً وبعيدة المسافات؛ ولذلك يقيسون ما بينها بالسنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة، والضوء يقطع في الثانية الواحدة مائة ألف كيلو متر، فإذا حسبتها بالسنة الضوئية تكون مثلاً تسعة ترليون كيلو متر، وهم يقولون: المسافة بين الشيء الفلاني والشيء الفلاني أربع سنوات ضوئية، أي: أن نجماً لا يصل إليه ضوء النجم الآخر إلا بعد أربع سنوات، وكل هذه النجوم من ضمن المجرة التي نحن فيها، ويقولون: يوجد مائتا مليار نجم في المجرة التي نحن فيها، ويقولون: نحن نعلم بوجود حوالى مائتي مليار مجرة.
ويقولون: هذا الموضع الذي نظرنا فيه الآن النجم هو يبتعد من موضعه، قال الله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].
فإذا كانت السماء الدنيا لسنا عارفين أين آخرها، وأين آخر هذه النجوم والكواكب، فكيف بالسماء الثانية، والثالثة، والرابعة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة).
وجاء عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، والله أعلم، وإذا قوم الكرسي بعرش الله سبحانه وتعالى فهو بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، فكم يكون قدر هذا العرش؟! والله مستغن عن العرش وما دونه سبحانه وتعالى، وهو مستو على العرش، فالله سبحانه وتعالى فوقه هو العلي الكبير سبحانه، وإذا أردت أن تعرف أن الله هو الكبير فانظر إلى الشيء الكبير في هذا الكون، فأنت لا تقدر أن تحيط به علماً، فكيف بمن خلقه وهو الله سبحانه وتعالى؟! فالله هو العلي الكبير سبحانه، وهو العلي العظيم أحاط بكل شيء علماً.(95/5)
معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)
قال الله {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يتعبه حفظهما، فيحفظ كل نجم من المليارات التي لا تعد، يحفظها في مكانها، تجري وتدور، ويأتي مولدها وتأتي نهايتها فيما يعلمه الله سبحانه، أحصى كل شيء عدداً، أحصى أنفاس العباد فيعلم كم عددها، أحصى عدد قطر المطر الذي ينزل من السماء، وعدد أشجار أوراق الشجر، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] سبحانه وتعالى العليم العظيم.
قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] العظيم صاحب العظمة صاحب الملك والملكوت ذو الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.(95/6)
عظمة آية الكرسي وبعض ما ورد في ذلك
عندما تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] استحضر هذه المعاني لتعرف شيئاً من عظمة الله الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك كانت هذه الآية -آية الكرسي- أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر) يعني: حين علم أن هذه الآية أعظم آية في كتاب الله سبحانه.
وهي آية من سورة البقرة، وبعض الناس يقول: سورة الكرسي! وهذا خطأ؛ فإنه لا توجد سورة الكرسي ولكن آية الكرسي، وهي آية من سورة البقرة، وسورة البقرة من أعظم سور كتاب الله سبحانه، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على أن أعظم منها سورة الفاتحة.
وهذه من رحمة رب العالمين، فلو كانت أعظم سورة في القرآن سورة البقرة لكان كل إنسان يحاول أن يحفظ هذه السورة التي هي أعظم سورة، ولكن الله عز وجل يسر القرآن للذكر، ومن رحمته سبحانه أن جعل أعظم سورة في متناول الجميع، فالكل يقدر أن يحفظ سورة الفاتحة، فهي سبع آيات من كتاب الله عز وجل، فجعل الفاتحة أعظم آية في كتابه سبحانه وتعالى.
من الأحاديث التي جاءت في فضل آية الكرسي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت).
فإذا قرأت عقب كل صلاة فريضة آية الكرسي فأبشر فنهايتك ستكون نهاية خير، فليحرص المؤمن على أن يقرأها، وكثير من الناس يضيعونها، فينشغل بعد الصلاة بأي شيء، مثل السلام مع من بجانبه، وينسى أن يقرأ آية الكرسي، فاحرص على أن تقرأها دبر كل صلاة كما ذكر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج ولي عيال وبي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله).
أبو هريرة أن يمسكه ليسلمه للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يسرق من مال الزكاة، وعرف أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فأيما حد بلغني أقمته)، فمن حال بينه وبين إقامة الحد فلعن الله الشافع والمشفع، فيجوز أن يتنازل يتنازل قبل أن يصل أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا وصل اللص إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيلزم أن يقيم عليه الحد، ولا يجوز الشفاعة في ذلك، فكأن أبا هريرة وجد أن هذا جاء ليسرق فما تمكن من السرقة، وشكا حاجة وعيالاً، فتركه أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، لكن الوحي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، أي: خدعك وسيرجع مرةً ثانية، قال: (فعرفت أنه سيرجع) وذلك لخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (فرصدته فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج ولي عيال لا أعود، قال: فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ فقلت: شكا حاجةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله.
فقال: إنه قد كذبك وسيعود، قال: فرصدته في الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود! فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.
قلت: ما هن؟) وكانوا أحرص شيء على الخير رضي الله عنهم؛ ولذلك لم يلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة رضي الله عنه عندما تركه في المرة الأولى وفي المرة الثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم عرف أن الله عز وجل كما يظهر الحق على لسان النبي صلى الله عليه وسلم قد يظهر الحق على لسان شيطان، حتى يزداد الصحابة إيماناً بما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فهنا قال: (إني أعلمك كلمات ينفعك الله بها.
قال: قلت: ما هن؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، تقرأ هذه الآية وأنت تتأملها، وأنت تفهم معناها، وأنت تثق في الله سبحانه وتعالى أنه سيحفظك بها.
فلما قال ذلك فـ أبو هريرة رضي الله عنه انتفع فتركه وخلى سبيله، قال: (فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: ما هي؟ -وهو أعلم صلوات الله وسلامه عليه- فقال: قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقربك شيطان حتى تصبح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة؟ قال: قلت: لا، قال: ذاك شيطان).
نأخذ من ذلك أن المؤمن لا يفرط أبداً في أن يحفظ آية الكرسي، وأن يحفظها عياله الصغار والكبار، ولذلك كان الصحابة يحفظونها، وكانوا يحفظونها لأولادهم، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظها ويحفظها لأولاده ممن يقدر أن يحفظ، ومن لا يحفظ يكتبها له، ويعلقها على رقبته، ولعله يفعل ذلك ليحفظها أو ليكتبها حتى تكون في رقبة هذا الذي يكتبها له، فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عرفوا فضلها فحفظوا هذه الآية العظيمة، وحفظوها لأولادهم.(95/7)
تفسير آية الكرسي
آية الكرسي هي آية التوحيد، فقد ذكر الله سبحانه فيها صفاته العظيمة، وفيها من الأسماء الحسنى: الحي، والقيوم الذي يقوم كل شيء به، وهو قائم على كل شيء سبحانه، وهو الذي يدبر أمر الكون كله سبحانه، يراقب ويحفظ كل شيء، ويشهد على كل شيء، فهو القيوم لا شيء يقوم إلا بالله الحي القيوم سبحانه، وهو القيوم القائم والقاهر فوق عباده سبحانه وتعالى.
قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، فهو الحي الحياة الدائمة التي لا ابتداء لها ولا انتهاء لها سبحانه وتعالى، فقد خلق الله عز وجل الزمان للخلق، جعل لهم الزمان يحد أولهم وآخرهم، وجعل المكان للإنسان يتحيز فيه، والله عز وجل لا يحده زمان ولا مكان سبحانه وتعالى، وهو فوق كل شيء، قهر كل شيء، وقام على كل شيء.
{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] النوم قد عرفناه، والسنة: هي الشيء اليسير من النوم كالخفقة التي تعتري الإنسان، فالإنسان قد تغلبه عينه وهو يحرس أو وهو واقف في الصلاة إذا طالت الصلاة في قيام الليل.
فهذه السنة شيء يسير من النوم، والله سبحانه وتعالى لا يعتريه نوم ولا سنة من النوم سبحانه وتعالى.
{لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] يملك كل شيء، يملك ما في السموات وما في الأرض.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ما أعظم هذه العظمة! أي مخلوق لا يجرؤ أبداً أن يتقدم بين يدي الله عز وجل، ولا يشفع بغير إذنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] سبحانه وتعالى، ولا يشفع عنده إلا الأنبياء والملائكة والصالحون، وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل: (أنه يأتي يوم القيامة ويخر ساجداً لله سبحانه وتعالى، فيتركه ربه ما شاء أن يتركه ساجداً، ثم يأذن الرب الكريم سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: يا محمد! ارفع رأسك، واشفع تشفع)، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم حامداً ربه سبحانه، شاكراً ربه، ويشفع لمن يشاء الله من خلقه، فهذا النبي الكريم أكرم خلق الله صلوات الله وسلامه عليه لا يشفع ابتداءً إلى أن يأذن الله له حين يقول: (يا محمد! ارفع رأسك)، ويأتي إلى عرش الرحمن فيخر ساجداً حتى يؤذن له.
فمن يجرؤ أن يأتي إلى الله بغير إذن من الله سبحانه ويقول: أنا أشفع وأنا أدافع عن فلان؟ لا أحد يجرؤ على ذلك.
{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] هذه عظمة الله سبحانه، وجبروت الله وملكوته، يعلم كل شيء سبحانه تبارك وتعالى، أحاط بكل شيء علماً صغر وقل أو كبر وجل، كل شيء يعلمه الله سبحانه علم إحاطة، يعلم أوله وآخره وكيف كان، وكل شيء يصير يعلمه الله، فمن عظمة الله أنه لا يجرؤ أحد أن يشفع إلا أن يأذن الله سبحانه، وعلم الله العظيم يدل على عظمته، فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ما أمامك وما خلفك، في أي زمان ومكان، ما أضمرته في نفسك وما أظهرته، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فالله عز وجل يعلم ما بين أيدي كل خلقه، كل شيء يعلم الله عز وجل ما بداخله وخارجه، ما أمامه وخلفه في الزمان وفي المكان، كل شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة:255]، فانظر إلى سعة علمه سبحانه، وإلى حقارة علم المخلوقين، إذا اجتمع الخلق كلهم لا يقدرون أن يحيطوا بشيء من علم الله، فهو سبحانه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، كل شيء يعلمه الله عز وجل، وهذه المخلوقات كلها لا تحيط بشيء من علم الله سبحانه وتعالى.
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فما شاء أن يعلمهم به أعلمهم به، وقد يظن إنسان أنه أحاط علماً بالشيء، فإذا بالرب سبحانه يظهر جهل هذا القائل، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد علماً بجهل نفسه، فإذا استكبر وقال: قد علمنا ووصلنا، فسيصل إلى أن يكون أجهل خلق الله سبحانه وتعالى.
قبل مائة سنة كان بعض كبار الأطباء يقولون: قد اكتشفنا ولم نترك شيئاً لمن يأتي بعدنا في الطب، فالذي قال هذا كان أحمق، فانظر إلى العلوم الموجودة الآن في علم الطب الحديث، فالعلم الآن فيه أشياء حديثة جداً جداً لم يكونوا يعرفونها، فقد اكتشفوا الميكروبات والفيروسات والأشياء الصغيرة التي لا ترى، والأشياء التي ترى آثارها دون أن ترى، فأين علم الطبيب القديم الذي كان يقول: اكتشفنا كل شيء؟! هذا جاهل يضحكون عليه الآن بسبب قوله الذي قاله.
فالإنسان حين يقول: أحطت بشيء علماً جاهل، فالله عز وجل لا يطلع أحداً على كل شيء، وقد قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، فوق كل إنسان عالم علّامة، وفوقه العليم الخبير سبحانه وتعالى، كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] أي: الله فوق كل عالم سبحانه وتعالى.
فالإنسان إذا وصل في العلم إلى شيء فيرد العلم إلى عالمه، ويقول: هذا ما أعلمه وأجهل الكثير.(95/8)
المراد بالكرسي
قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كرسي الله سبحانه نؤمن به، وعرش الله عز وجل نؤمن به، ونحن نرى ما نراه من الأرض، ونرى ما نراه من السماء، والعلماء يقولون: السماء واسعة جداً، والأفلاك والكواكب والأقمار هي أشياء عظيمة جداً وبعيدة المسافات؛ ولذلك يقيسون ما بينها بالسنة الضوئية، أي: المسافة التي يقطعها الضوء خلال سنة، والضوء يقطع في الثانية الواحدة مائة ألف كيلو متر، فإذا حسبتها بالسنة الضوئية تكون مثلاً تسعة ترليون كيلو متر، وهم يقولون: المسافة بين الشيء الفلاني والشيء الفلاني أربع سنوات ضوئية، أي: أن نجماً لا يصل إليه ضوء النجم الآخر إلا بعد أربع سنوات، وكل هذه النجوم من ضمن المجرة التي نحن فيها، ويقولون: يوجد مائتا مليار نجم في المجرة التي نحن فيها، ويقولون: نحن نعلم بوجود حوالى مائتي مليار مجرة.
ويقولون: هذا الموضع الذي نظرنا فيه الآن النجم هو يبتعد من موضعه، قال الله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47].
فإذا كانت السماء الدنيا لسنا عارفين أين آخرها، وأين آخر هذه النجوم والكواكب، فكيف بالسماء الثانية، والثالثة، والرابعة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة في فلاة).
وجاء عن ابن عباس قال: (الكرسي موضع القدمين)، والله أعلم، وإذا قوم الكرسي بعرش الله سبحانه وتعالى فهو بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، فكم يكون قدر هذا العرش؟! والله مستغن عن العرش وما دونه سبحانه وتعالى، وهو مستو على العرش، فالله سبحانه وتعالى فوقه هو العلي الكبير سبحانه، وإذا أردت أن تعرف أن الله هو الكبير فانظر إلى الشيء الكبير في هذا الكون، فأنت لا تقدر أن تحيط به علماً، فكيف بمن خلقه وهو الله سبحانه وتعالى؟! فالله هو العلي الكبير سبحانه، وهو العلي العظيم أحاط بكل شيء علماً.(95/9)
معنى قوله تعالى: (ولا يئوده حفظهما)
قال الله {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] أي: لا يتعبه حفظهما، فيحفظ كل نجم من المليارات التي لا تعد، يحفظها في مكانها، تجري وتدور، ويأتي مولدها وتأتي نهايتها فيما يعلمه الله سبحانه، أحصى كل شيء عدداً، أحصى أنفاس العباد فيعلم كم عددها، أحصى عدد قطر المطر الذي ينزل من السماء، وعدد أشجار أوراق الشجر، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:28] سبحانه وتعالى العليم العظيم.
قال الله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] العظيم صاحب العظمة صاحب الملك والملكوت ذو الجلال والإكرام سبحانه وتعالى.(95/10)
فضل سورة الكهف
روى الإمام مسلم عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)، هذه السورة العظيمة يستحب أن تواظب عليها في كل ليلة جمعة، أو كل يوم جمعة، وإذا استطعت أن تقرأها ليلة الجمعة يوم الخميس بعد المغرب فافعل، وإذا استطعت أن تقرأها بعد فجر يوم الجمعة قبل غروب الشمس فافعل ذلك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يقرؤها يجعل الله عز وجل له نوراً عظيماً جداً من مكانه إلى بيت الله الحرام، نور عظيم جداً يجعله لك الله سبحانه، وأنت أقل نور ينفعك، فكيف بمثل هذا النور إذا جئت به في ظلمات يوم القيامة، وأنت أمامك نور من مكانك إلى بيت الله الحرام؟! كيف تسير يوم القيامة وأمامك هذا النور! تكون آمناً يوم القيامة، ولا تحتاج أن تقول لأحد: أعطني نوراً، فقد أعطاك الله عز وجل بفضل هذه السورة النور العظيم، هذا فضل قراءتها في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة.
ولها فضل آخر وراء ذلك لو ظهر الدجال، وفتنته فتنة عظيمة جداً، يفتن الناس بما يظهره من خوارق تحير العقول، وتجعل الناس يتبعونه فيما يقول ويدعوهم إليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تحفظ أول عشر آيات من سورة الكهف، وأولها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1] تحفظ أول عشر آيات أو آخر عشر آيات من سورة الكهف، ففي رواية قال: (من حفظ آخر سورة الكهف عصم من الدجال) والأفضل أن تحفظها كلها، فاحفظ هذه السورة العظيمة.(95/11)
فضل خواتيم سورة البقرة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه وقال: هذا باب من السماء فتح اليوم)، أي: جبريل كان قاعداً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل ملك آخر فقال جبريل: هذا باب من السماء فتح ولم يفتح قط إلا اليوم، فجبريل ما نظر إلى فتح هذا الباب قبل ذلك اليوم، قال: (فنزل منه ملك فقال جبريل: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، قال: فسلم وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة).
إذاً: هذا الملك ما نزل بالقرآن، فالذي ينزل بالقرآن على النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل، وقد نزلت الفاتحة، ونزلت سورة البقرة، ولكن هذا نزل بالبشارة، نزل يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بأن معك أشياء عظيمة فاعرف فضل هذه الأشياء، قال: (أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته)، لم تقرأ بحرف منها إلا وتعطى الفضل وتعطى ما سألته ربك سبحانه.
ولذلك جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7] قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
إذاً: أنت تقرأ فاتحة الكتاب والله يجيبك، ويعطيك سبحانه وتعالى.
كذلك آخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:285 - 286].
إذا قرأت هاتين الآيتين يؤتيك الله عز وجل أجراً على كل حرف، ويجيبك؛ ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال: (قد فعلت)، ولما قرأ هذه الآية على أصحابه: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] قالوا: يا رسول الله! لا نطيق ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: سمعنا وأطعنا، فقال الصحابة: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فأنزل الله سبحانه تبارك وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]) فهؤلاء آمنوا حين قالوا: سمعنا وأطعنا، أي: رضينا يا ربنا بأن الذي نبديه والذي نخفيه ستحاسبنا عليه، فإذا بالله عز وجل يثبت لهؤلاء الإيمان ويقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، ثم في آخر الآية يدعون الله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله عز وجل: (قد فعلت)، فيعلمهم الدعاء فيدعون فيجيبهم بفضله وكرمه! فإذا بالله عز وجل يرفع عنهم إثم ما أخفوه في أنفسهم فلا يحاسبهم عليه إذا لم يعزموا على ذلك، ولم يصروا عليه، وتابوا إلى الله عز وجل، وإذا كان ذلك عن خطأ أو عن نسيان عفونا عنكم.
نسأل الله عز وجل عفوه وعافيته ومغفرته في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(95/12)
شرح رياض الصالحين - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وفضل الوضوء
للاجتماع على تلاوة كتاب الله العزيز فضل عظيم، وثواب جزيل، وقد رتب الله عليه من الأجر ما يجعل النفوس المؤمنة الصادقة تشتاق إليه، وتبذل من أجل الحصول عليه الغالي والنفيس، كيف لا وملائكة الرحمن جل جلاله تخالطهم وتحفهم بأجنحتها.
وإن فضل الوضوء لا يقل عن فضل العبادة الأولى، ولو كان للوضوء فضيلة أو فضيلتان لكانتا كافيتين للترغيب فيه، كيف وقد رتب الله ورسوله عليه من الفضائل الشيء الكثير، فهو العلامة البارزة الظاهرة التي يعرف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته من بين الأمم يوم القيامة.(96/1)
فضل الاجتماع على قراءة القرآن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب الاجتماع على القراءة.
عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)، رواه مسلم.
باب فضل الوضوء.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6]، إلى قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الكتاب القيم رياض الصالحين باباً في استحباب الاجتماع على قراءة القرآن، وقراءة القرآن خير، سواء قرأته وحدك، أو استمعت لآخر يقرؤه، أو قرأت مع جماعة كل يقرأ ما يسر الله عز وجل له والباقون ينصتون ويستمعون، فهذا كله خير، وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
والحديث طويل، وهو حديث جميل لذا سنذكره بطوله لما فيه من الفوائد.(96/2)
شرح حديث: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فالجزاء من جنس العمل، إن تعمل خيراً فإن الله عز وجل سيجزيك الخير على الخير، ومن الخير الذي يفعله المؤمن: أن يفرج عن أخيه كربة من كرب الدنيا، والكربات في الدنيا كثيرة، لكن الكربات يوم القيامة أعظم وأكبر، فالإنسان يعمل لغد يعمل ليوم القيامة يعمل لـ {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
فالدنيا دار العمل ودار التكليف والعبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، فالمؤمن حين ينفس عن أخيه كربة من كربات الدنيا يعلم أن أمامه كربات كثيرة في الدنيا والآخرة، والدنيا دار الآفات والابتلاء، وإن كنا اليوم في نعمة فلا يمنع أن نكون غداً في مرض وتعب، فالله عز وجل بيده مقاليد الأمور، فاعمل لغدك، واعمل حتى إذا دعوت الله كان لك عمل صالح تسأل الله عز وجل به؛ فيفرج عنك في الدنيا والآخرة.
يقول: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا).
فالمؤمن ينفع الناس وخاصة المؤمنين، فيفرج عن أخيه المؤمن بما يستطيع، فيشفع له عند إنسان له عنده حاجة كأن يقضي عنه دينه وكأن يطرد عنه جوعه، وكأن يعينه على حاجة من حوائجه، وكأن يفرج عنه كربة من الكربات ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، والجزاء قال صلى الله عليه وسلم: (نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة).
ومثله من يسر على معسر، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)، التنفيس هو: التفريج، والتيسير: كأن تسهل على إنسان كان مكروباً ومتضايقاً من أمرٍ من الأمور.
والحقيقة أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الأول وما ذكره في الثاني كل واحد منهم قريب من الآخر وإن كان قد يفرق بينهم بأشياء، لكن وإن لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأول: فرج الله عنه بها كربة من كربات الدنيا، فهي منصوصة في الثاني، قال: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا وفي الآخرة).
من نفس عن مؤمن كربة، ولو بالكلام الطيب، ولو بالتسلية والمواساة والتعزية تنفس عنه بأن تعينه بمالك أو بعملك أو بالشفاعة له عند إنسان فتزيل عنه الكربة، وتيسر عليه أمراً كان عسيراً عليه، فأجرك يوم القيامة أن يكشف الله عز وجل عنك كربة من كربات يوم القيامة، وفي الدنيا ييسر عليك سبحانه وتعالى.
ومن التيسير على المعسر أن تفعل كما قال الله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280]، إنسان في عسر وضيق وشدة ومحتاج لمال يسرت عليه بأن أقرضته، أو أعنته، أو شفعت له عند صاحب الدين حتى يؤخر عنه المطالبة، فهذا تيسير على معسر، ولو أن إنساناً استدان منك وعرفت أنه في عسرة ففرجت عنه، وتنازلت له عن الدين، أو تصدقت به عليه، أو جعلته يرد عليك هذا الدين بالتقسيط فإن الله عز وجل سوف ييسر عليك.
ومستحيل أن تعامل الناس باليسر ويعاملك الله عز وجل بالعسر، فهذا لا يكون أبداً، فالله سبحانه الذي أمر بالإحسان وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90]، هو الذي يقول: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60]، فالذي يفعل الإحسان له الحسنى وزيادة من الرب الكريم سبحانه، فإذا يسرت على إنسان معسر في الدنيا فإن الله ييسر عليك في الدنيا والآخرة.(96/3)
من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة
قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، والستر: أن تستر إنساناً وقع في ذنب من الذنوب وستر نفسه، واطلعت عليه فسترته وكأنك لا تعلم، وكذلك إذا وجدت إنساناً عارياً يحتاج إلى ثياب، أو أهله يحتاجون إلى ثياب فكسوتهم من أجل أن يستتروا وأن يتجملوا أمام الناس فهذا خير صنعته، والله عز وجل يجزيك عليه.
فإذا سترت مسلماً بأي نوع من أنواع الستر وهو يستحق ذلك، فإن الله يسترك في الدنيا وفي الآخرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فكل إنسان يخطئ فإذا أخطأ إنسان وسترته فلعلك أنت أن تخطئ ويسترك الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي اطلعت عليه قد علم الله عز وجل ما فعله، ولكنه أراد أن يختبرك، ولو شاء لستره عنك فلم تره، فحين ترى مثل هذا فلا ينبغي أن تفقد الثقة فيه وفي الناس كلهم وتقول: انظروا إلى هذا الذي كنا نقول عنه كذا وكذا! لماذا تفضحه؟ لا تفضح إلا من يستحق ذلك ممن يجهر بالمعصية، أو لا يبالي ولا يستحي من الخلق، فهذا يستحق أن يفضح، حتى لا يأتسي به الناس، وحتى يكون ذلك تعزيراً له من أجل أن يخاف ويسكت، أما من وجدته يستر على نفسه، ويستحي مما صنعه، فما الذي تكسبه إذا فضحته؟ ولماذا تقول: فلان الذي ترونه صالحاً يعمل كذا وكذا، لماذا تفعل هذا الشيء؟ إن الله عز وجل أطلعك على ما صنع ليكون اختباراً لك هل تستر أم لا؟ ولعلك غداً أن تقع في شيء آخر، ومن يدري فمصائب الدنيا كثيرة، فإذا فضحت هذا عند واحد أو اثنين، فضحك الله عند مائة وعند ألف، فاحذر فإن الجزاء من جنس العمل، ومصائب الدنيا دوارة فقد يأتي الدور عليك في يوم من الأيام، وكما فضحت هذا سوف تفضح بأشنع مما فضحته به، فلا تتبع سقطات الناس، ولا عثراتهم، ولا تشمت بإنسان وقع في ذنب من الذنوب واستر لعل الله عز وجل أن يتجاوز عنك، وأن يسترنا وإياك.(96/4)
الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه
قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، إذا أعنت إنساناً أعانك الله، وإذا يسرت عليه يسر الله عليك في الدنيا والآخرة، وإذا فرجت عنه فرج الله عنك في الدنيا والآخرة، وإذا سترته سترك الله في الدنيا والآخرة، وهذا الأخير أعظم ما يكون في الدنيا التي تعيش فيها، فلو أن إنساناً فضحته عند أصدقائك ومعارفك ولم تستر عليه ثم جاء يوم القيامة والخلق مجتمعون ففضحت أمام الخلائق كلها، فلا شك أنه سيكون عليك أمر عظيم وصعب جداً.
فلذلك المؤمن يستريح بالتفكر في الآخرة، وبزيارة القبور، إذا زرت القبور ضاقت عليك الدنيا بما فيها من سعة وأمانٍ وأحلام، ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من زيارة القبور، ومن ذكر هادم اللذات.
في الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فإذا أعنت إنساناً على شيء فلا تطلب الأجر منه، ولا تطلب منه أن يعينك ولكن انتظر من الله الإعانة فإعانة الله تكفيك.
إذا أردت أن يكون الله معك فكن مع الناس، وساعد من يحتاج المساعدة وأعط العطاء لمن يحتاج إليه، وكن مع الإنسان على الضائقة التي هو فيها، أعنه ولا تطلب منه أبداً رد ذلك، فإن الذي يطلب من الناس الرد مهموم أبداً، ودائماً يقول: انظر ساعدته ولم يساعدني عملت له ولم يعمل لي وقعت في حادث فما لقيت أحداً، أما المؤمن فلا ينظر إلى الناس أبداً، ولن يقول ما وقف أحد بجانبي؛ لأنه لم يكن يطلب وقوف الناس بجواره إنما يطلب وقوف الله سبحانه وتعالى بجواره، وكفى بالله وكيلاً كفى بالله حفيظاً كفى بالله شهيداً كفى بالله معيناً سبحانه وتعالى.
فإذا أعنت غيرك فانس أنك أعنته واستقله؛ فإن الإنسان إذا استعظم الشيء الذي يفعله صار ينتظر الجزاء عليه في الدنيا، أما من يستقل ذلك ويقول: هذا موطن من المواطن التي يحبها الله سبحانه وتعالى، فهذا عسى ألا ينظر إلى جزاء الدنيا.
والإنسان حين يختال وحين يستكبر على الناس يكون قد تخلق بخلق ذميم، ولكن الخيلاء في الحرب جميل وممدوح، فيظهر المؤمن الشجاعة، ويخرج إلى الكفار ليقاتلهم، وحتى إن كان ضعيفاً فهو يظهر القوة ليفزع أعداء الله، وقد كان أبو دجانة إذا حضر القتال تعمم بعمامة حمراء، وأخذ سيفه، وخرج يختال بين الصفوف يخيف الكفار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه لمشية يبغضها الله عز وجل ورسوله إلا في مثل هذا الموطن)، لقد كان المؤمنون يفعلون ذلك وقلوبهم تمتلئ بالخوف من الله عز وجل وبالشجاعة على الأعداء.
ولا شك أن الكفار تمتلئ قلوبهم بالرعب حين يرون المؤمن مختالاً في المعركة وكأنه يقول: أنا لست خائفاً منكم، وكذلك حين يتصدق الإنسان تقول له نفسه: أنت دفعت مائة وهي كثير؛ فعليه أن يقول لها: ما هي المائة التي دفعتها؟ إنها لا تساوي شيئاً، فهذا أعطى ونسي ما أعطاه، أما الذي يعطي ويظل يتفكر: أنا تصدقت بمائة أنا أعطيت لفلان كذا إذاً: يا رب أعطني كذا وكذا، فلا ينبغي أن تكون المعاملة مع الله بهذه الطريقة، ولكن تغلب على نفسك وقل لها من المفروض أن أعمل أكثر من ذلك، وحين تفعل ابتغاء وجه الله تكون مسروراً سعيداً، وحين تضيق عليك الأمور فاصبر وقل: هذا ما كسبته يدي، ولعل الله يكفر به ذنوبي، وإذا جاءتك الدنيا قلت: الحمد لله رب العالمين، وأرجو ما عند الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن يشكر ربه سبحانه في السراء والضراء، ولا ينتظر الأجر والثواب من الناس، وإنما ينتظره من الله سبحانه وتعالى.(96/5)
فضل طلب العلم
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، فالطريق الذي تلتمس فيه علم الدين؛ كأن تذهب إلى بيت الله سبحانه من أجل أن تطلب العلم الشرعي، أو تتعلم آية من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو حكماً من الأحكام الفقهية، فأنت حين تخرج من بيتك إلى بيت الله عز وجل تسير في الطريق، وتزدحم مع الناس، ويمكن أن تجلس في الطرقات طويلاً من شدة الزحام، فهذا الأمر الصعب الذي عرضت له نفسك يسهل الله لك طريقاً إلى الجنة، فطريق الجنة مملوء بالصعوبات، ولكن الله يذللها ويفتحها لك بسبب ما صنعت.
فأنت حين تطلب العلم تفرح بك الملائكة، والعالم الذي يعلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر، فطالب العلم تتواضع له الملائكة، وتضع له أجنحتها رضاً بما صنع، طالب العلم الذي يسير إلى بيت الله يطلب علم القرآن والتجويد والتفسير ويتعلم أحكام الدين تفرح به الملائكة وتتواضع له، وتفرش له طريقه بأجنحتها؛ لأنه ذاهب إلى بيت الله ليتعلم العلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما صنع)، أي: ترضى بما يصنع هذا الإنسان حيث إنه يطلب علم الدين والعلم الشرعي.
ثم قال: (وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
قوله: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله)، هذا القيد ليس قيداً حقيقياً، وإنما هو قيد أغلبي؛ لأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى بدون ذكر المسجد.
فالإنسان إذا سلك طريقاً يلتمس فيه علماً بأن جاء إلى بيت الله، وهو أعظم مكان يتعلم فيه العلم الشرعي، أو ذهب إلى المدارس ليتعلم العلوم الشرعية فيها فهو في رباط، ومجالس العلم في المساجد وغيرها تحيط بها الملائكة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة)، وأعظم ما يكون الفضل في بيوت الله عز وجل.
والسكينة: هي الطمأنينة، فإذا جلسوا في بيوت الله عز وجل يستمعون كلام الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم غشتهم رحمة رب العالمين، وتنزلت عليهم من السماء الطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، وكذلك تحيط الملائكة بهؤلاء الجلوس حتى تصعد إلى السماء وتخبر ربها سبحانه: (أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون).
قال: (وذكرهم الله فيمن عنده)، فإذا ذكرت الله عز وجل ذكرك الله سبحانه وتعالى في الملأ الأعلى فيمن عنده من الملائكة.
ثم ختمه صلى الله عليه وسلم بقوله: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، أي: من كان عمله بطيئاً في طاعة الله سريعاً إلى معصية الله، لم ينفعه أن يقول: أبي كان كذا، وأبي كان كذا، إنما تنتفع إذا انتفعت بعلم أبيك وعملت مثله أو خيراً منه.
ولذلك النبي صلوات الله وسلامه عليه ذكر بعضاً من أقربائه وقال عنهم - وكانوا كفاراً -: (ألا إن بني فلان ليسوا لي بأولياء)، وإن كانوا في النسب أقارب ولكنهم مع الكفار، فهؤلاء ليسوا لي بأولياء، (إنما وليي الله وصالح المؤمنين) فهؤلاء هم أولياؤه صلوات الله وسلامه عليه، هؤلاء هم الذين يحبهم ويحبونه صلى الله عليه وسلم، وهم الذين انتفعوا بما جاء به، أما أولئك كـ أبي جهل وغيره ممن ماتوا على الكفر ولم ينتفعوا بما جاء به فقد قال عنهم: (ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله وصالح المؤمنين).(96/6)
فضل الوضوء
من الأبواب التي يذكرها الإمام النووي رحمه الله: باب فضل الوضوء.
وهذه الأبواب معقودة في الفضائل، وقد جعلها الإمام النووي في فضائل الأعمال، أي: ما تعمله من عمل ويكون عليه أجر.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، ذكر الله عز وجل فرائض الوضوء في القرآن العظيم لأهميته.
وفي الصلاة قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77]، وقال: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238]، فذكر هيئة القيام، وأمر بالقنوت فيها بمعنى أن تكون خاشعاً، وأن تسكت إلا من ذكر الله سبحانه وتعالى، وأمر بالركوع وبالسجود، وقال أيضاً: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9]، فلأهمية الصلاة فسر الله عز وجل شيئاً من أركانها في الكتاب وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فذكر النية والإخلاص، فكأنه مطلوب في الصلاة وفي العبادة كلها النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى.
وذكر القيام (وَقُومُوا لِلَّهِ)، وذكر القنوت وهو الخشوع والخضوع والسكون والطمأنينة في الصلاة، والسكوت عن غير ذكر الله سبحانه وتعالى، وذكر الركوع وهو ركن آخر وهيئة أخرى، وذكر السجود، فذكر هيئات من هيئات الصلاة وهي من أركانها لأهميتها وكذلك لأهمية الوضوء فذكره ونص عليه.(96/7)
الطهور شطر الإيمان
قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة:6]، في هذه الآية ذكر الله الوضوء والغسل والبدل من الاثنين وهو التيمم، ولذلك قال النبي صلوات الله وسلامه عليه في الطهور ككل: (الطهور نصف الإيمان).
إذاً: كأن الإنسان الذي يتطهر جاء بشطر الإيمان كما سيأتي في الحديث، وذكر الله عز وجل في آخر الآية: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، من نعم الله عز وجل عليكم أن وفقكم لتتطهروا وعلمكم ذلك، فالمؤمن طاهر الظاهر والباطن، فالدين أتانا بالطهارة وأمرنا بها، وقد قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فأمره أن يجتنب الرجز وكل ما هو نجس خلقة أو عبادة، وقال له: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، أي: اغسل ثيابك من الأقذار، وهذه طهارة ظاهرة، وطهر قلبك من أدران الشرك والكفر والإلحاد، وهذه طهارة باطنة، فالدين أمر بالطهارة الظاهرة والطهارة الباطنة.
وقال ربنا سبحانه: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6]، أي: يطهر ظواهركم وبواطنكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6]، حتى يكمل عليكم النعمة العظيمة وهي نعمة الدين {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، أي: تشكرون الله على ما هداكم وأنعم عليكم.
ولاحظ الآية التي ذكرها الله قبل هذه الآية بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فذكر أنه أتم عليكم النعمة، وذكر أنه يريد بذلك أن تشكروه سبحانه وتعالى على ما أنعم به عليكم.(96/8)
الغرة والتحجيل من آثار الوضوء يوم القيامة
من الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي رحمه الله حديث أبي هريرة - وهو متفق عليه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، وكون الوضوء يذكر في القرآن وفي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا يدل على فضله وأهميته والترغيب فيه، كما أنه يحث المؤمن أن يكون على وضوء ما استطاع.
قوله: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين)، الغرة: هي البياض الذي يكون في جبهة الفرس، والتحجيل: هو بياض في قوائم الفرس.
فلو أن عندك خيلاً كثيرة وفيها هذا الحصان هل يمكن أن تخطئ فيه مع فرس آخر يكون أشهب أو أحمر أو أبيض؟ لا يمكن.
فالنبي صلوات الله وسلامه عليه لما سألوه: (كيف تعرف أمتك يوم القيامة)، أي: من بين الأمم الكثيرة، فقال: (إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين)، أي: تظهر آثار الوضوء يوم القيامة على الجباه وعلى الأيدي والأرجل، فأنت حين تتوضأ تغسل وجهك فيأتي فيه نور، وتغسل يديك إلى مرفقيك فيأتي فيهما نور، وتغسل الرجلين فيأتي فيهما نور، وتمسح برأسك فيأتي فيه نور يوم القيامة، فهذا الإنسان حتى لو دخل النار - والعياذ بالله - بسبب معصية، وكان مواظباً على الصلاة في الدنيا، تأكل منه النار كل شيء إلا آثار الوضوء، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
وفي آخر الحديث يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)، فكأنه يدعو الناس إلى ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدير الماء على مرفقيه صلوات الله وسلامه عليه، وكان أبو هريرة أحياناً يبالغ فيرفع الماء أكثر من ذلك، ولم يأت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فهمه من هذا الحديث.
وحديث آخر يقول فيه أبو هريرة رضي الله عنه: (سمعت خليلي) والخليل: أرفع من الحبيب، والخلة: هي أرفع درجات المحبة، يقول: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)، إذاً: يحلى المؤمن يوم القيامة بأعظم ما يكون من الحلي، فالمرأة في الدنيا تضع الحلي من الذهب في يديها حتى تنور من كثرة الذهب الذي عليها، لكن النور الحقيقي يوم القيامة حين تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء، فإذا كنت تتوضأ وتتقن الوضوء كان لك من آثار الوضوء نور وحلية يوم القيامة.(96/9)
تنقية الوضوء للخطايا
من الأحاديث التي وردت في فضل الوضوء: ما رواه مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره)، كلما جاء حديث كلما تشوق المؤمن للمحافظة على الوضوء، ولا أحد يستغني عن الوضوء، فإذا استطعت أن تكون دائماً على وضوء فهذا أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب أن يذكر الله وهو على طهارة، وليس هذا فرضاً واجباً إلا عند الصلوات أو عند قراءة القرآن من المصحف، ولكن مع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء عند ذكره لله، ومرة لقيه إنسان في الطريق فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى تيمم، وقال (كرهت أن أذكر الله على غير وضوء)، صلوات الله وسلامه عليه.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده)، إذاً: صغائر الذنوب تتساقط من الإنسان أثناء الوضوء، فتتساقط من يديه ووجهه ورجليه وفمه وأنفه، كل آثار الذنوب تتساقط من الإنسان إذا توضأ، فالوضوء شيء عظيم، ومتى توضأت فإنك تكون مستعداً للعبادة، بل الوضوء نفسه عبادة يكفر الله عز وجل بها عنك كثيراً من الآثام.
وعنه أيضاً في صحيح مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مثل وضوئي هذا)، كأن أبا هريرة توضأ أمام الناس ليعلمهم كيف يتوضئون، ثم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه)، أي: يتوضأ فيحسن الوضوء، وإحسان الوضوء بأن يوصل الماء إلى جميع مواضع الوضوء، وليس بالإسراف، ولكن يستهلك من الماء بالقدر الذي يتقن به وضوءه، قال: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه)، أي: غفر له صغائر ذنوبه السابقة (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة).
فكأنه يقول: الإنسان بين ذنوب يريد محوها ودرجات يريد الوصول إليها، فإذا توضأ فإن الله يكفر عنه ذنوبه ويرفعه درجات عنده والنافلة الزيادة، قال: (وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة)، أي: زيادة فضل من الله عز وجل، وهو يتفضل على عباده بما يشاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء)، فالإنسان ربما نظر إلى شيء حرمه الله سبحانه، فإذا توضأ وغسل وجهه نزلت آثار هذه الخطايا والذنوب من وجهه مع قطر الماء أو مع آخر قطر الماء، قال: (فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كانت بطشتها يداه مع الماء)، كلمة (بطش) بمعنى: أمسك، فهنا خرجت من يديه كل خطيئة كانت أمسكتها يداه، أو أي شيء من الحرام وقع فيه، أما أن يضرب مسلماً أو يلطمه على وجهه ومن ثم يتوضأ ويقول: ذهبت، فلم تذهب؛ لأنه حق الواجب فيه القصاص، فلا يذهب حتى يقتص منك أو يعفو عنك، إذاً: ليس حق الإنسان من الذنوب التي يكفرها الوضوء بل لا بد من ردها أو التحلل منها.
فلا يفهم أحد بطشة اليد فهماً خطأً، فبطش بمعنى: أمسك، وهذا هو أصل كلمة بطش، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا بموسى باطش بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو أخذ بصعقته الأولى؟!)، أي: يوم الطور؛ ولأنه صعق في الدنيا لم يصعق يوم القيامة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا أدري)، أي: أي الأمرين، لكن المهم أن الناس يصعقون يوم القيامة ويكون أول من يفيق النبي صلى الله عليه وسلم، (فإذا بموسى باطش)، بمعنى: ممسك بقائمة العرش، فالمقصود أن كلمة بطش تفيد معنى أمسك بالشيء.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء)، إذا مشى إلى ذنب أو معصية فإذا تاب إلى الله فقام فتوضأ فإن الله يكفر عنه ذنوبه حتى يخرج نقياً من الذنوب، والمراد هنا صغائر الذنوب التي ليس فيها حق لمسلم، وإنما هي ذنوب بينك وبين الله عز وجل، أما ما فيه حقوق للناس فلا بد من إعطاء الناس حقوقهم، فإذا شتمت إنساناً أو أخذت ماله أو سفكت دمه أو ضربته، فإما أن تدفعها له في الدنيا بأن يقتص منك، أو تدفع له الجناية على ما فعلت أو تستحلها منه، وإما أن يأخذها منك يوم القيامة حتى ولو كنت من أهل الجنة، فإنه إذا مر الناس على الصراط حبسوا على جسر بينه وبين الجنة حتى يقاص ربنا سبحانه بينهم من مظالم كانت للعباد مع أنهم من أهل الجنة، فقد خرجوا من الصراط ولم يبق إلا أن يدخلوا الجنة، فلا يدخلوها حتى يتحللوا من المظالم التي بينهم، فالإنسان قبل أن يدخل الجنة إذا كانت عليه مظلمة لفلان فإنه يأخذ من حسناته ما ينتفع به ويدخل به الجنة، ولعل هذا كان قد استحق منزلة ثم نزل عنها بسبب أن فلاناً أخذ من حسناته كذا وكذا، فاحذر من ظلم العباد.(96/10)
معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته يوم القيامة بآثار الوضوء
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة) ويجوز أن تقول مقبرة بالفتح وبالكسر وبالضم فهي مثلثة الباء، فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين)، هذه سنة في زيارة القبور، فإذا جئت إلى القبور فسلم على أهل القبور بهذه التحية (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، أي: كلنا ميتون، وقد قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30]، فلا أحد سيخلد في هذه الدنيا، فالكل سيموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المقابر وقد سلم على الأموات: (وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟!)، فالصحابة المؤمنون الأتقياء الأبرياء الأنقياء الذين قلوبهم مصابيح الدجى رضي الله تبارك وتعالى عنهم يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أولسنا إخوانك؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)، فكأنه يريد أن يبين لهم من يعني بذلك، وإلا فإن هؤلاء الأصحاب إخوانه، والله يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، فهم إخوة، ولكن الذين يعنيهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هم من لم يأتوا بعد، بل من لم يولدوا بعد من القرون التي تأتي بعد ذلك، (قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟!)، أي: أنت تعرفنا لكونك رأيتنا، لكن كيف ستعرف من يأتون بعدنا إلى يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟)، أي: لو أن رجلاً خيوله كلها سوداء، وله خيل غر محجلة ضمن هذه الخيول السوداء، والغر المحجلة: هي التي في رأسها ويديها بياض، ألا يستطيع أن يميز بين هؤلاء وهؤلاء؟ (فقالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء)، فالنور الذي يكون للمؤمن يوم القيامة هو بسبب الوضوء.
قال: (وأنا فرطهم على الحوض)، أي: أنا سابقهم على الحوض واسمه: الكوثر، قال الله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:1 - 3]، والكوثر: هو حوض عظيم ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، وآنيته كعدد نجوم السماء، أي: لا أحد يستطيع أن يعدها لا علماء الفلك ولا غيرهم، فيشرب منه المؤمنون، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، نسأل الله عز وجل أن يسقينا من حوضه صلوات الله وسلامه عليه في أول من يسقيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.(96/11)
إسباغ الوضوء على المكاره مما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات
روى الإمام مسلم، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)، أي: كلنا نريد أن نعرف ما هو الشيء الذي يكفر عنا الخطايا ويرفع الدرجات.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وأصل الرباط: هو التزام الثغر، وثغور المسلمين غالباً تكون في الأماكن البعيدة النائية التي بينهم وبين أعدائهم، وحراسة الحدود فيها ثواب عظيم عند الله سبحانه وتعالى، حتى لو مات فلا يزال عمله يكتب له أنه مرابط على حماية بلاد المسلمين.
إذاً: فهل نقول لكل الناس: اذهبوا لحراسة حدود المسلمين؟ لا.
ولكن نقول لمن أراد أجر الرباط في سبيل الله: الرباط الذي نأمرك به إسباغ الوضوء على المكاره، فالذي يسبغ الوضوء على المكاره هل تظن أنه يضيع الوضوء في غير المكاره؟ هذا لا يكون، فإذا كان في الشتاء في شدة البرد والصقيع يتوضأ بالماء البارد ويصلي لله عز وجل، ويخرج في شدة البرد من أجل أن يصلي صلاة الفجر في المسجد، فمن باب أولى أنه إذا أتى عليه فصل الصيف أن يسبغ الوضوء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إسباغ الوضوء) أي: يتوضأ ويحسن وضوءه في المكاره، (وكثرة الخطى إلى المساجد)، أي: كثرة الصلوات في المساجد، فلا يضيع ولا يفرط بل هو مواظب على صلاة الجماعة كلما سمع (حي على الصلاة) هرع إلى بيت الله عز وجل ليصلي (كثرة الخطى إلى المساجد)، فإذا أتيت إلى المسجد فإنه يكتب لك مائة خطوة أو ألف خطوة أو أكثر أو أقل بحسب قربك من المسجد أو بعدك، وبكل خطوة تخطوها إما أن ترفع درجة أو تحط عنك خطيئة.
قال: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، أي: تصلي ثم تمكث حتى تأتي الصلاة الأخرى، وقد تمكث ما بين الظهر إلى العصر، أو ما بين المغرب إلى العشاء تنتظر الصلاة الآتية في بيت الله عز وجل، فهذا مما يكفر الله عز وجل به الخطايا، ويرفع به الدرجات.
وروى مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض)، (الطهور) أي: الوضوء، (شطر الإيمان)، والمؤمن يجب عليه الوضوء لكل صلاة، فلا تقبل الصلاة بغير وضوء.
وقد عبر الله عز وجل في كتابه عن الصلاة باسم الإيمان فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وسبب نزول هذه الآية: أن الله سبحانه لما حرم شرب الخمر وقد كانوا يشربون الخمر حتى بعدما أنزل الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43]، فكانوا ينتهون عن الشرب وقت الصلاة، ثم أنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وفي هذه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعرض بكم)، أي: يعرض بتحريم الخمر، فأنزل: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، وهنا قال: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90]، فقال الصحابة: إخواننا الذين شربوا الخمر وماتوا وهي في بطونهم قبل أن تنزل هذه الآيات هل ضاعت عليهم الشهادة أو إلى ماذا صار أمرهم؟ فأنزل الله عز وجل يطمئن هؤلاء على إخوانهم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي: لم تحرم الخمر يومئذ فكان لهم العذر، أما أنتم فلا عذر لكم، وقد أنزل الله عز وجل تحريمها، وما كان الله ليضيع صلاة الذين صلوا وماتوا قبل ذلك، فسمى الصلاة إيماناً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الطهور شطر الإيمان)، فكأن الصلاة والوضوء جزء من أجزاء الإيمان، والوضوء شطر الصلاة.(96/12)
فضل كلمة التوحيد بعد الوضوء
روى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، وزاد الترمذي (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
هذا الحديث أعجب عمر رضي الله عنه (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، وهذه كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بعد الوضوء، فالوضوء من الإيمان، والشهادة أعظم أركان الإسلام، فأنت تتوضأ وتذكر الله عز وجل بهذا القول، ثم تقول: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين)، كما في الرواية الأخرى، فتسأل الله وتدعوه أن يرزقك التوبة ويجعلك من المتطهرين.
وقوله: (اللهم اجعلني من التوابين)، مناسب للوضوء، فهو يكفر الخطايا، فكأنه يقول يا رب! كما أسقطت عني الخطايا فاجعلني دائماً أتوب إليك من المعاصي إذا وقعت فيها، وتب علي واجعلني من عبادك المتطهرين، والذي يقول هذا الدعاء ثوابه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، أي: لم يبق بينك وبين أن تدخل الجنة إلا أن تموت.
فالوضوء عظيم، والصلاة عظيمة، والعمل لله عز وجل أعظم الأشياء قيمةً في حياة الإنسان المؤمن، فليحرص المؤمن على أن يرضي الله سبحانه بطاعته وحسن عبادته، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(96/13)
شرح رياض الصالحين - فضل الأذان
من الشعائر العظيمة لديننا الحنيف شعيرة الأذان، وهي اعتراف للعظيم بعظمته وتوحيده، وإعلان هذه العظمة ليسمعها كل موجود، ويرددها المسلمون لتتأكد في أذهانهم معانيها العميقة، ويشاركوا المؤذن فضلها حين يسمعون هذا النداء الذي تهفو لإجابته القلوب السليمة، وتنفر منه القلوب السقيمة وعلى رأسها الشيطان، ثم يذكرون علم الهدى -بعد الفراغ منه- بالدعاء له وفق ما بينه لأمته صلى الله عليه وسلم.(97/1)
فضل الأذان والصف الأول
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
ذكر الإمام النووي رحمه الله باباً في فضل الأذان، قال رحمه الله: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً)، متفق عليه.
وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: (إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة)، قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه البخاري.(97/2)
فضل الوضوء وتمييزه للمسلمين في الآخرة
هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتاب الصلاة، وهي العبادة العظيمة التي فرضها الله عز وجل على عباده، فذكر أحاديث في فضل الصلاة، ثم أحاديث في فضل الوضوء، وكيف أن الوضوء يجعل المؤمن في نور يوم القيامة، ويمحو الله عز وجل عنه به الخطايا، فكلما توضأ وغسل عضواً من أعضاء الوضوء كلما نزلت الخطايا مع آخر قطر الماء، والوضوء يجعل المؤمن يوم القيامة معروفاً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأثره على صاحبه، ولذلك قال لأصحابه: (إن أمتي يأتون غراً محجلين من آثار الوضوء)، هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وقال أيضاً يوماً لأصحابه: (أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تعرفهم -هؤلاء الذين ليسوا معنا وسيأتوا بعد ذلك-؟ قال صلى الله عليه وسلم: إنهم يأتون غراً محجلين من أثر الوضوء).
كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في فضل الوضوء: أنه شطر الإيمان، وكأن الطهور مفتاح إيمان الإنسان أنه يعبد الله عز وجل بهذه الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بهذا الوضوء، وسميت الصلاة إيماناً، والصلاة لا يصححها إلا الوضوء فهو شرط في صحتها، فالشطر بذلك جزء للصلاة، وجزء للوضوء، فصار الوضوء شطراً للصلاة.
كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الذكر الذي يقال بعد الوضوء أنه قال: (ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء)، فهذه فضيلة عظيمة، وهذا كله في الوضوء ولم تأت الصلاة بعد، فكيف تصنع الصلاة إذا كان الوضوء يصنع هذا كله؟ يكفر من خطايا العبد، وينور له وجهه ويديه ورجليه وآثار وضوئه، كذلك يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنك إذا توضأت فقلت هذا الذكر العظيم تفتح لك أبواب الجنة الثمانية.(97/3)
حث الشرع على الأذان
الأذان هو المدخل للصلاة، فالوضوء شرط لصحة الصلاة، والأذان للنداء على هذه الصلاة فيه فضيلة عظيمة جداً، ومن الأحاديث الواردة في الأذان ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه)، فلو يعلم المؤمنون فضل الأذان وفضل الصف الأول، وكلهم يريد أن يؤذن ويريد أن يقف في الصف الأول، ولا يوجد وسيلة لأن يرجع البعض ويقف البعض إلا باستهام وقرعة لفعلوا ذلك.
والمعنى: احرصوا على الصف الأول، احرصوا على أن تؤذنوا إذا كانت أصواتكم تصلح لذلك ولا يوجد من يؤذن، ولا ينبغي أن تستحي أن تؤذن، فالكثير من الناس يحب أن يؤذن، وقد يجد مكاناً لنفسه أن يؤذن في جماعة ليس فيهم مؤذن، أو في مسجد غاب مؤذنه، وتجد من يستحي ويتراجع عن ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: لا تستحيي أن تؤذن في جماعة أو في مسجد؛ بل اصدح بالأذان ولو في صحراء، فلك أجر عظيم عند الله سبحانه تبارك وتعالى بهذا الأذان، لكن إذا وجد المؤذن الراتب للمسجد فلا يشرع أن ينازعه أو أن يؤذن بدون إذنه، فمؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان بلال رضي الله عنه، ولم ينازعه أحد من الصحابة، أو يقول له: اتركني أؤذن.
وابن أم مكتوم أيضاً كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرف أن أحداً نازعه الأذان ولا استأذنه أن يؤذن مكانه، وطالما أن المسجد قد استتب أمره بمؤذن المسجد فقد انتهى الأمر، لكن هذا إذا وجد مكان ليس فيه مؤذن والناس يتراجعون عن الأذان فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لو عرفتم فضله لتسابقتم إليه.(97/4)
فضل الصف الأول والحرص عليه
قال عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول)، فليحرص المؤمن دائماً على أن يقف في الصف الأول، وإذا لم يكن الأول فالثاني.
كما أن الحرص ليس بالمزاحمة ولا بالجري ولا بأذى الناس كمن يدفع الإنسان ويقف مكانه، بل الحرص أن تأتي مبكراً قبل أن يأتي أحد فتكون في الصف الأول، فإن امتلأ الصف الأول فلا يشرع أن تزاحم أحداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، فنهانا أن يؤذي بعضنا بعضاً، فلا تزحم الصف وتشغل الناس عن صلاتهم، وقد يأتي البعض من أجل حرصه على الصف الأول فيدفع المصلين، أو يطلب من المصلين أن يوسعوا له، وقد يقف غير متجه للقبلة، فلا ينبغي أن تؤذي الناس طالما فاتك الصف الأول قف في الصف الثاني، ولك فضل في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا للمصلين في الصف الأول والصف الثاني فاحرص على ذلك، وأحياناً قد نجد البعض من إخواننا في الصلوات التي تليها دروس يستمع واقفاً، وقد يجتمعون كلهم في نصف المسجد حرصاً منهم على طلب العلم -وجزاهم الله خيراً- لكن ينبغي ألا تضيع على نفسك الصف الأول.(97/5)
الحث على إتمام الصف
كما ننبه على إتمام الصفوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نصف كما تصف الملائكة، فقال: (ألا تصفون كما تصف الملائكة؟ قالوا: وكيف تصف الملائكة؟ قال: يتمون الصف الأول)، وفيه إخبار بأن الملائكة يصفون عند ربهم سبحانه، فيتممون الصفوف الأول فالأول، وعليكم كذلك أن تحرصوا على أن تتموا الصف الأول، ثم الثاني وهكذا.
ومعلوم أن الصف الأول يبدأ من وراء الإمام، فيبدأ الجميع من خلف إمامهم، ولا يتفرقوا، فهذا يقول نبتدئ شمالاً، والآخر يقول: نبتدئ يميناً، فيتفرق الناس نصفهم هنا ونصفهم هناك، بل كن خلف الإمام لينضبط الصف، فيبدأ الأول من وراء الإمام لا من اليمين ولا من الشمال، وهو أفضل مكان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)، فالذين خلف الإمام هم أهل الأحلام والنهى والعقول، وهم أفضل الناس، والصف الثاني يبدأ من نفس المكان الذي خلف الإمام، فلا بد أن ينتظم الجميع وراء الإمام من اليمين والشمال، ولا يختلف بعضهم مع بعض.(97/6)
فضل التهجير إلى الصلوات
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النداء، ثم ذكر الصف الأول، ثم قال: (ولو يعلمون ما في التهجير)، والمعنى: الذهاب إلى المسجد لصلاة الظهر، وهنا ستجد أن كل صلاة لها فضيلة، فالشريعة تحثك على المواظبة والحضور في جميع الصلوات في بيت الله عز وجل، فلو تعرف ما في التهجير، وهو أن تأتي مبكراً لصلاة الظهر، وإدراك تكبيرة الإحرام مع الإمام؛ لتسابقت مع غيرك عليه، فلك فضيلة عظيمة، وثواب عظيم جزيل أن تأتي إلى بيت الله عز وجل في وقت الهجير في صلاة الظهر.(97/7)
فضل صلاتي العشاء والصبح
قال صلى الله عليه وسلم: (ولو يعلمون ما في العتمة -أي: صلاة العشاء- والصبح لأتوهما ولو حبواً)، مر فضل صلاة الظهر، وهذا الفضل لصلاة العشاء وصلاة الصبح، فقال: لو يعلمون فضلهما لأتوهما ولو حبواً، فلو أن الإنسان لا يقدر أن يذهب ماشياً على رجليه مشى حبواً على الأرض، مع أن هذا الذي يحبو لا تجب عليه الصلاة جماعة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أن فيهما فضيلة عظيمة لو يعلمها لتناسى الإنسان مرضه معها، وإن كان ليس على المريض حرج، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ} [النور:61]، ولكنه الحث على أن تدرك الجماعة ولا تفوتها إلا إذا كان العذر يمنعك من ذلك.
وقوله: (لو يعلمون ما في العتمة)، أي: صلاة العشاء، والمعنى: كم يكون فيها من الثواب والفضل! ومثلها الصبح، وخاصة إذا جاء يوم القيامة وجد أن أكثر ما ينير له ظلمات يوم القيامة صلاة الصبح والعشاء في جماعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم مخبراً عن النور الذي تمنحه صلاة الفجر وصلاة العشاء (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، ما ذهب مرة لصلاة الفجر فحسب بل هو مشاء أي: كثير المشي والذهاب إلى بيت الله عز وجل في صلاة الفجر، لا يمنعه حر في الصيف، ولا برد في الشتاء، ولا مطر ولا شدة رياح، فلا يمنعه شيء عن أن يصلي جماعة في بيت الله عز وجل، فلهذا يقول: أبشر فلك نور تام يوم القيامة، ومن الناس من يكون له نور على قدره، فبعضهم له نور يخفت مرة ويزيد أخرى وينطفئ ثالثة، لكن هذا المواظب على صلاة الفجر والعشاء في الجماعة له النور التام يوم القيامة، نسأل الله عز وجل أن ينير لنا الطريق في الدنيا والآخرة.
وقد تفسر كلمة الهجير والتهجير بمعنى التبكير، فتشمل كل الصلوات، والمعنى: لو تعلمون ما فضيلة التبكير إلى جميع الصلوات لأتيتم الصلاة مبكرين، وخاصة ما ذكرنا قبل ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيمن صلى لله عز وجل في جماعة أربعين يوماً يدرك تكبيرة الإحرام، أنه تكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق.(97/8)
المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة
من الأحاديث التي جاءت في فضل الأذان ما رواه مسلم عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة)، يقال: فلان هذا طويل العنق بمعنى: أنه شريف، فكأنه يقول: أشرف الناس يوم القيامة، إذ إن الله عز وجل يميزهم على غيرهم بطول عنق، وهيئة جميلة تكون لهم، والإنسان في الدنيا عندما ينظر إنساناً ذا رقبة طويلة هل يراها جميلة؟ لا، بل ذلك قبح وليس بجمال، ولكن الله يجمل هؤلاء بتشريفهم يوم القيامة، فيجعلها لهم علامة على الشرف والجمال الذي يكون لهم ذلك اليوم.
كذلك مما جاء في ذلك: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال له: [إني أراك تحب الغنم والبادية]، فـ أبو سعيد ينصح واحداً من التابعين وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة يقول له: أرى لديك غنماً تخرج بها إلى البادية، فلا تضيع صلاة الجماعة إذا كنت بالبادية بل أذن، فقد يأتي معك من كان هناك فيصلون معك صلاة الجماعة؛ لأنه يستحيل أن يكون لدى الإنسان غنم في البادية ترعى ومن ثم يأتي وقت الصلاة فيذهب إلى المسجد ليصلي، إذ إن الغنم ستضيع، فهو يقول له (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء)، كما لو كنت في صحراء، فلا تقل: من سيأتي ليصلي معي، فإن الله يبعث من يشاء ويوصل من يشاء، فيستحب أن تؤذن للصلاة، وقد يصلي خلفك أحد من الإنس أو من الجن وأنت لا تدري.
قال: (فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهدوا له يوم القيامة)، والمعنى: أنه يشهد لمن يؤذن الإنس والجن وأي شيء سمعه حتى الجماد يشهد للإنسان الذي يؤذن يوم القيامة، قال: (جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة) قال أبو سعيد: (سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم).(97/9)
فرار الشيطان عند سماع الأذان
في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل، حتى إذا ثوب للصلاة أدبر، حتى إذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول اذكر كذا وكذا اذكر كذا لما لم يذكر من قبل حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى).
هذا الحديث العظيم عن النبي صلى الله عليه وسلم يبين حيل الشيطان، كما يبين أن الأذان يطرد الشيطان فإذا سمعه يهرب فزعاً، ولشدة فزعه يهرب وهو يضرط، ومعلوم أن الإنسان حين يرى شيئاً يفزعه قد يبول على نفسه أو يتغوط أو يخرج منه ريح؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في نفسه، كذلك الشيطان يفزع حين يسمع الأذان، فيحدث منه ذلك لأمرين: الأول: من شدة فزعه ورعبه من الأذان.
والثاني: لأنه لا يريد أن يسمع الأذان، فيضرط بهذه الصورة القبيحة ليسمع ضراطه ولا يسمع الأذان؛ ولذلك كان الأذان شفاء للإنسان المؤمن حين يسمعه؛ لما فيه من إذهاب للشيطان والنجاسات عن الإنسان المؤمن من الجان الذين لا يؤمنون بالله.
يقول: (إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضي النداء أقبل)، أي: إذا أكمل المؤذن يرجع الشيطان للناس فيوسوس لهم، (حتى إذا ثوب للصلاة أدبر)، فسواء سمع الأذان أو الإقامة يهرب، (حتى إذا قضي التثويب)، أي: إقامة الصلاة (أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه)، فالشيطان له تمكن من الإنسان بصورة لا نعرفها، ولكن يخبرنا عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فنحن لم نر الشيطان، فيقول: يأتي الشيطان ويوسوس لك ما كنت في الصلاة: (حتى يقول: اذكر كذا واذكر كذا)، فأهم شيءٍ عند الشيطان أن تخرج من الصلاة ليس لك منها شيء.
وفي الحديث: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة أحدكم)، الالتفات في الصلاة كما لو كنت تصلي فتنظر عن شمالك أو يمينك متلهياً عن صلاتك، وقد تنظر شيئاً أمامك كألوان الحائط، أو صورة عليه، فالشيطان يسرق بذلك من صلاتك، ويترصدك كلما تلهيت وتعمدت ذلك، ولو كنت تفكر في شيء غير الصلاة لضاع منك بعض الثواب، والشيطان يفرح بذلك، ولذلك يحرص على أن يشغلك في الصلاة ويقول لك: اذكر كذا، فلو نسيت موعداً ذكرك به في الصلاة، أو شيئاً نسيت موضعه ذكرك به في الصلاة.
على أن هذه الأشياء وإن كانت مهمة بالنسبة لك لكنها بالنسبة للشيطان لا تعني شيئاً، والأهم عنده أن يضيع عليك الصلاة، إذ الصلاة هي التي تدخلك الجنة، وهو لا يريدك أن تدخل الجنة، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، فقد توعد الشيطان آدم وبنيه أن يدخلوا النار، وأقسم على ذلك بعزة الله وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لما لم يذكر من قبل؟)، فالذي ما كان يتذكره قبل هذا يتذكره وهو في الصلاة، كلما انتبه للصلاة أو دخل فيها بجد إذا بالشيطان وراءه حتى يلهيه عن الصلاة (حتى يظل الرجل ما يدري كم صلى)، فالشيطان يريد أن يجعلك لا تدري كم صليت، فإذا بالإنسان يضجر من الصلاة، وكلما صلى ثلاث ركعات أو أربعاً لا يدري كم ركعة صلى، فإذا به من شدة ما ألم به من الشك يخرج من الصلاة، والشيطان يريد ذلك، ولذا إذا ابتليت بالسهو في الصلاة فاسجد للسهو؛ فإنك تؤذي الشيطان بذلك وتغيظه، إذ كلما سجد العبد فر الشيطان وهو يبكي ويقول: (يا ويله -يدعو على نفسه بالويل والثبور- أمرت بالسجود فلم أسجد، وأمر بالسجود فسجد)، فقد جاء يوسوس له من أجل ألا يدري هل صلى ركعتين أو ثلاثاً، فإذا جعلهن ثلاثاً وسجد سجدتين زاد على ما كان يريد ألا يفعله، فهنا تغيظ الشيطان بطاعتك لله عز وجل، وبإقبالك على الله سبحانه تبارك وتعالى.(97/10)
الترديد مع المؤذن والدعاء بعده وفضلهما
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
وهنا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم ويرشدنا إلى أن نقول كما يقول المؤذن: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)، وقد كان الصحابة يتمنون الأذان حتى قال قائلهم: تركتنا نتشاح في الأذان، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يتعاركوا على الأذان، ودلهم إلى شيء آخر يصلون به إلى ما يصل إليه المؤذن، وذلك بأن يقولوا مثلما يقول، إذ ليس من الممكن أن كل الناس يؤذنون، ولكن البعض يؤذن والباقون يرددون فيؤجرون كما يؤجر هذا المؤذن.
قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)، ففي كل ألفاظ الأذان تقول كما يقول إلا في الحيعلتين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وإذا قال: حي على الصلاة فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال: حي على الفلاح فقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله)، أما باقي الألفاظ فيقول كما يقول المؤذن.
قال: (ثم صلوا علي)، فنصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان، فليس المؤذن هو الذي يصلي عليه فقط، بل الجميع يفعلون هذا، ولا معنى أن يمسك المؤذن الميكرفون ثم يقول: اللهم صل على محمد! بل قل هذا في سرك؛ لأن الناس كلهم مشغولون بأن يقولوا هذا الذكر الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً)، فالمؤذن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا المستمعون، واعلم أنك إذا صليت صلاة واحدة فالله يصلي عليك عشراً، ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أن تسأل الله عز وجل أن يثني عليه صلوات الله وسلامه عليه، وعندما تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يثني عليك ربك ويرحمك، فتستحق من الله عز وجل بكل صلاة تصليها على النبي صلى الله عليه وسلم عشر صلوات.
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم سلوا الله لي الوسيلة)، الوسيلة: هي منزلة في الجنة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تنبغي أن تكون إلا لعبد واحد، قال: (وأرجو أن أكون أنا هو)، والنبي صلى الله عليه وسلم هنا يقولها تواضعاً، وإلا فقد أخبره ربه سبحانه تبارك وتعالى بذلك في قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فسأل ربه المقام المحمود، وأخبر بأنه أهله صلوات الله وسلامه عليه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يتواضع ويقول: (أرجو أن أكون أنا هو).
قال: (فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة) وفي رواية: (حلت عليه)، أي: صارت حلالاً له، فكأنها محظورة إلا بذلك، فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم وسألت الله له الوسيلة عليه الصلاة والسلام استحققت ما كان محظوراً قبل ذلك.
ومن الأحاديث حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم النداء فقولوا كما يقول المؤذن)، قوله: (فقولوا) فيه استحباب أن تقول وتردد مع المؤذن ما يقوله.
وحديث آخر رواه البخاري عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته؛ حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ومعلوم أن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وخير الذكر ما لفظ به النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من الممكن أن يأتي إنسان بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو بنحو ما قاله؛ فقد أوتي جوامع الكلم، ولذلك إذا أردنا أن نصلي عليه فأفضل صلاة نصليها عليه هي ما علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تجد بعض الصوفية يرددون أوراداً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقول قائلهم: سيدي فلان قال: الصلاة الفلانية، وقد يؤلف صفحة كاملة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني يصنع كذا، ولذا نقول: خير صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هي ما قالها هو وما علمها أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، ولكن قد يجهل الكثيرون المعاني التي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيظنون أنهم يأتون بأفضل مما قال صلوات الله وسلامه عليه، فقد نرى بعض الناس يقول: يا رب لك ألف حمد، ويظن أنه أتى بعدد كبير جداً! وهو عدد كبير فعلاً، ولكن الإنسان المؤمن يقول: الحمد لله، وهو يفهم أن اللام لام الجنس، والمعنى: كل الحمد الذي أعرفه والذي لا أعرفه هو لك.
فالحمد لله جنس لا يوجد لها تثنية ولا جمع ككلمة الإنس، فهي كلمة مفردة فيها لام الجنس، وقد أعطت العدد كله، فانظر إلى هذا الذي يقول: لك ألف حمد، والآخر الذي يقول: الحمد لله، فالأخير يفهم المعنى فأتى بخير مما أتى به الأول الذي قال: لك ألف حمد، فجمعها على عدد قليل.
كذلك الذي يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على محمد ألف مرة اللهم صل عليه مليون مرة، وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوه: (قد علمتنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد)، هذا ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولو وجدت صيغة أخرى أحسن من تلك لعلمهم إياها صلى الله عليه وسلم.
فأنت تطلب من الله عز وجل أن يصلي على محمد كما صلى على إبراهيم، وقد علمت مقام إبراهيم، فهو الذي أحبه الله واختاره لأن يكون خليلاً له، وأعلى درجة عنده عز وجل هي الخلة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني أبرأ إلى الله أن أتخذ منكم خليلاً؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، أما ما يقوله البعض: أن إبراهيم كان خليلاً، ومحمد كان حبيباً، فهذا يقلل من شأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الخليل أعظم من الحبيب، فالخليل في الناس الذي أحبه صاحبه حتى تخلل هذا الحب شغاف قلبه، هذا في الناس، أما الله عز وجل فلا نقول مثل ذلك، وإنما نقول: هذه أعظم درجة عند الله عز وجل في المحبة أن يكون خليلاً.
فإذا كان إبراهيم خليل الله ومدحه الله في كتابه فقال عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75]، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120]، وقال: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، فكم سيصلي الله عز وجل على إبراهيم إذا كان حبيب رب العالمين وخليل رب العالمين؟ لا شك أنها صلوات عظيمة كثيرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بإبراهيم وأمر أن يعلم الناس أن يقولوا ذلك: يا رب صل على محمد كما صليت على إبراهيم، وليس إبراهيم فحسب، بل إبراهيم وآل إبراهيم، أي: الأنبياء كلهم من بعد إبراهيم من ذريته عليه الصلاة والسلام.
فإذا كانت الصلاة على إبراهيم وعلى كل الأنبياء من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام فكم سيكون عددها؟ لا شك أن هذا عدد كثير جداً لا نستطيع أن نعرف له نهاية، فلذلك نقول: يا رب! صلِ على محمد كما صليت على إبراهيم، وليس هذا فقط، بل وآل إبراهيم، وآل إبراهيم فيهم الأنبياء، وفيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالصلاة على إبراهيم والأنبياء بما فيهم محمد لها جمع، والصلاة على محمد لها جمع آخر، فصلِ على هذا وحده كما تصلي على الجميع بما فيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا عدد لا يتخيل أصلاً، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول ذلك، بل إني إذا قلت: ألف مرة كأنني هضمت حقه صلى الله عليه وسلم، وكذا إذا قلت: مليون مرة كأني هضمت حقه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قل: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، عندها تأتي بالعدد العظيم.
ومرة أخرى نعلم أن ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم هو أجمل وأعظم مما يؤلفه الناس في ذلك من أذكار، ولذا لا بد من أن نتمسك بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، ونصلي عليه كما أمرنا أن نصلي عليه في صلاتنا وفي غير صلاتنا بالصيغة نفسها.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة)، فهذا النداء دعوة تامة (والصلاة القائمة)، أي: التي ستقام (آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة)، آت هذه الدرجة التي جعلتها لعبد من عبادك لمحمد صلوات الله وسلامه عليه، واجعل له الفضيلة على خلقك أجمعين، (وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته)، ولم يأت في الحديث: (والدرجة الرفيعة) والأصل أن نتوقف على ما قاله صلى الله عليه وسلم، كما لم يأت فيها زيادة: (إنك لا تخلف الميعاد)، فنتوقف على ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالذي يقول ذلك: (حلت له شفاعتي يوم القيامة)، ومعنى حلت أي: صارت الشفاعة حلالاً له وحلالاً عليه أن أشفع له يوم القيامة.
ومن الأحاديث ما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً؛ غفر له ذنبه)، فإذا رددت الأذان إلى أن انتهى المؤذن مما قال فعليك تقول هذا الذكر: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً)، فإذا قلت ذلك غفر لك ما تقد(97/11)
فضل الدعاء بعد الأذان
من الأحاديث أيضاً في هذا الباب: ما رواه الترمذي وقال: حسن، وصححه الشيخ الألباني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة)، والمؤمن عندما يأتي إلى بيت الله عز وجل يرجو أن يتقبله، فقد جاء يطلب فضل الله عز وجل ورحمته ويذكر الله تبارك وتعالى، فلم يأت كي يضيع وقته في بيت الله، ولا ليسأل الناس، بل جاء يسأل الله سبحانه وتعالى، فإذا جاء إلى بيت الله فلا يضيع الوقت بالحديث مع فلان ولا ليمزح مع فلان، وتجد بين الأذان والإقامة كل اثنين يتحدثون مع بعضهم، ونسوا أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، والأصل أن ننشغل بالدعاء والأذكار، فينبغي أن تذكر ربك سبحانه وترفع يديك بالدعاء بين الأذان والإقامة؛ فإن الدعاء لا يرد بينهما كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد نرى أحياناً بعض المصلين إذا أقيمت الصلاة وقف ورفع يديه يدعو، وهذا لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالوارد بعد الإقامة أن يتوجه إلى القبلة ويدخل في الصلاة كما كان يفعل صلوات الله وسلامه عليه.(97/12)
فضل الأذان وأجره العظيم
ومن الأحاديث التي لم يذكرها الإمام النووي وفيها وهو حديث صحيح رواه ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً وصححه الشيخ الألباني قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أذن ثنتي عشرة سنة وجبت له الجنة)، ولم يقل: كل الصلوات، ولكن كأنها صارت له عادة حتى لو كان يؤذن في اليوم أذاناً، أو حتى كل أسبوع، لكنه مواظب على ذلك، فإذا مرت عليه اثنتا عشرة سنة استحق هذا الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا العدد من السنين عدد كبير، فإذا كان الإنسان يؤذن أحبه وصار له الأذان طبيعة، فإذا ظل يؤذن اثنتي عشرة سنة قال: (وجبت له الجنة، وكتب له بتأذينه في كل يوم ستون حسنة، وبكل إقامة ثلاثون حسنة)، بالتأذين ستون حسنة وبالإقامة ثلاثون حسنة، فلو ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناس سيتشاحون في الأذان، فقال لهم: قولوا كما يقول المؤذن يكن لكم نفس الفضل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
نسأل الله من فضله ورحمته فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(97/13)
شرح رياض الصالحين - فضل الصلوات
الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وأساسه الذي يبنى عليه، ولا حظ في الإسلام لمن ضيع الصلاة، والصلاة لها فضائل عديدة، وفوائد كثيرة، فهي نور في الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، وهي صلة بين العبد وربه، وهي مكفرة للسيئات، رافعة للدرجات.(98/1)
فضل الصلوات
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الصلوات.
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) متفق عليه.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فقال الرجل: إلي هذا؟ قال: لجميع أمتي كلهم)، متفق عليه].(98/2)
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
بدأ الإمام النووي رحمه الله الباب بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وهذا فضل عظيم للصلاة.
قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]، فلو لم يكن في فضل الصلاة إلا أنها تهذب العبد وتؤدبه، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر لكفى ذلك فضيلة، كيف والله عز وجل يمحو بها الذنوب، ويكفر عن العبد بها الخطايا، ويرفع الدرجات، ويجعل صلاة العبد نوراً في الدنيا والآخرة! إن الصلاة ركن عظيم من أركان هذا الدين، وهي عموده العظيم، وصلة بين العبد وبين ربه لا بد من المحافظة عليها.
ولذلك يقول ربنا سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالذي يصلي صلاة صحيحة مستوفاة بالأركان والشروط والهيئات والسنن، ومستوفاة بالأقوال والأفعال كما يريد الله عز وجل، تكون هذه الصلاة مانعاً له عن الوقوع في الفواحش، وعصمة له من الوقوع في المنكرات.
قال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)، أي: أن ذكر الله من اعتاده في الصلاة وفي غير الصلاة يكون أكبر في النهي عن المنكر من اعتياده في الصلاة فقط.
والإنسان الذي يذكر الله عز وجل إذا خرج من المسجد يقول أذكار الخروج من المسجد، وإذا ذهب إلى السوق يقول أذكار الذهاب للسوق، وإذا دخل البيت قرأ ذكر دخول البيت، وإذا نام قرأ أذكار النوم، وإذا أكل أتى بأذكار الطعام، وإذا شرب كذلك، فالذكر على لسانه لا يفارقه، ومثل هذا يمنعه من الوقوع في الفحشاء والمنكر، وهذا أكبر من أن يذكر الله في صلاته فقط، ويستحيل أن يكون الإنسان مواظباً على الذكر ومقصراً في الصلاة، فقد يحافظ على الصلاة ويقصر في الذكر، وذلك أنه ينشغل فيأتي وقت الصلاة فيذهب ليصلي، ثم ينشغل بأمر دنياه، لكن المحافظ على الذكر في الليل والنهار يستحيل أن ينسى أو يضيع الصلاة.(98/3)
الصلاة تمحو الذنوب وتكفر الخطايا
من الأحاديث في هذا الباب حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، (نهر) ساكنة ومحركة، وجاء القرآن بتحريكها فقط، وليس فيها قراءة بسكونها، وفي اللغة يجوز هذا ويجوز هذا، والتحريك أفصح، فهو الذي جاء به القرآن، والحديث يجوز فيه أن تقول: لو أن نهْراً ونهَراً.
وقوله: (بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء؟) درن الإنسان هو القاذورات التي تكون عليه والأوساخ التي تلطخ بدنه وثوبه، فلو أن الإنسان كل يوم يغتسل في نهر خمس مرات، فلن يبقى شيء من القاذورات على بدنه أو على ثوبه، وكذلك الصلوات الخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، كأن الخطايا والذنوب تلوث بدن العبد، بل تلوث قلبه، ولا تزال الذنوب نكتاً سوداء على قلب العبد، نكتة وراء أخرى إلى أن يسود القلب بالكلية، فهذه الصلوات الخمس تزيل وتمحو عنه هذه الذنوب واللطخ التي سودت قلبه وبدنه وعمله.
وحديث جابر بن عبد الله عند مسلم كحديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه، ففي حديث جابر قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات)، والنهر هنا على باب البيت؛ لأنه لو كان بعيداً سيتسخ في طريقه إلى البيت، وهذا النهر جارٍ؛ لأن النهر الراكد يمتلئ بالأتربة والغبار والنباتات والأعشاب التي تلوث الإنسان ولا تنظفه، والنهر الجاري يكون عميقاً ويكون سطحياً، وإذا كان هذا النهر الجاري عميقاً وغمراً وماؤه كثير وفي باب أحدكم فلا يمكن أن يكون ملوثاً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: إن هذا النهر الجاري لو أنك تغتسل فيه كل يوم خمس مرات فلن يبقى شيء من القاذروات على بدنك أو ثوبك، قال: (فكذلك مثل الصلوات الخمس).
وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة)، وهذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة أفضل خلق الله عز وجل، ولكنهم ليسوا معصومين من الخطأ، فقد وقع بعضهم في الذنوب، وكانت رحمة من الله بنا أن وقع هؤلاء في الذنوب حتى لا نيأس من التوبة إذا وجدنا أن صحابياً أذنب ثم تاب إلى الله، ونزلت بسبب ذنبه وتوبته آية، وهذا فيه خير للمسلمين.
وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم ولفظ البخاري: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره)، ولفظ مسلم: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها ما دون أن أمسها)، أي: أنه وهو في أقصى المدينة وجد امرأة تمشي وحدها فكأنه عالجها، ومعنى المعالجة: المحاولة إما بالكلام أو أنها التفتت إليه فقبلها أو أنه أخذ بيدها، قال: ما دون أن أمسها، أي: لم أطأها، وهذا يؤيد تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]، أن ملامسة النساء بمعنى الوطء، ففيه: أن الذي يوجب الغسل هو وطء المرأة وليس مجرد اللمس، وقال ابن عباس: [إن الله حيي كريم]، فهو يكني ويتكلم بالشيء الذي يدل على الشيء الآخر، فيعبر بالمس عن الوطء والجماع.
وهذا الحديث يفيد هذا المعنى وهو: أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا لم أمسها، فلو لم يكن المس بمعنى الجماع لما كان صادقاً في قوله؛ لأنه قد قبلها، ولكنه يقصد أنه لم يجامعها ولم يقع معها في الزنا ولكنه قبلها، فجاء هذا الرجل من أقصى المدينة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أنه قد تاب بعدما وقع في المعصية، وهكذا فإن الشيطان يدل الإنسان على المعصية ويدفعه إليها، وبعد أن يقع يتركه، فإما أن يستحلي المعصية ويقع فيها مرة ثانية وثالثة، وإما أن يراجع نفسه ويندم على ما صنع، وتوبة هذا الرجل كانت توبة صادقة، فقد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم باكياً تائباً لله عز وجل مما صنع، وقال له: هأنذا اقض في ما شئت، أي: اعمل في ما تريد، إما أن ترجمني وإما أن تجلدني، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبه، فقال عمر رضي الله عنه لهذا الرجل: لقد سترك الله لو سترت على نفسك، أي: لو تبت بينك وبين الله ولم تفضح نفسك بهذا الذي فعلت، وهذا هو الأصل، فالإنسان لا ينبغي له أن يفضح نفسه إذا وقع في معصية وستر الله عز وجل عليه، وليتب إلى الله سبحانه وتعالى.
فانتظر الرجل جالساً أمام النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وكأنه يعاتبه على هذا الذي صنع، إلى أن قام الرجل وانصرف، فلما انصرف أنزل الله عز وجل على النبي صلوات الله وسلامه عليه هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]، وهذه الآية إما أنها نزلت قبل ذلك وهي في سورة مكية، وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم جبريل ليعلمه بالحكم في هذه الحادثة، وفي هذه الحالة تكون هذه الآيات قد نزلت في مكة ثم نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى في المدينة، أو جاء جبريل ليذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم يتعلق بهذه الواقعة، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل وقال: (ردوه علي، فرجع الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له -وكانوا قد أكملوا الصلاة-: هل صليت معنا؟ قال: نعم.
فتلا عليه النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ففرح الرجل، وقال: ألي خاصة -أي: هل هذه الآية نزلت في أنا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لجميع أمتي كلهم).
إذاً: هذه الآية لكل من تاب إلى الله عز وجل، ورجع إلى ربه بالتوبة نادماً على ما فعل وصلى لله عز وجل فإنه يغفر له ويتوب عليه، ولكن على العبد ألا يغتر، ولا يقول: سوف أعمل المعصية ومن ثم أستغفر الله وأتوب إليه وأصلي ركعتين ويكفيني ذلك، ثم يفعل المعصية مرة أخرى، فالله عز وجل ذكر أنه غفور رحيم وأنه شديد العقاب، فعلى العبد أن يحسن الظن بالله عز وجل ويتوب إلى الله سبحانه، فإذا وقع في معصية وقصر رجع إلى الله وعاد على نفسه باللوم، والله عز وجل قد مدح الإنسان الذي يلوم نفسه في الله عز وجل.(98/4)
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)، فهذه الأشياء مكفرات للصغائر، أما الكبائر كالقتل وأخذ المال الحرام سرقة أو غصباً أو نهباً أو اختلاساً أو أي نوع من أنواع أكل المال الحرام كالرشوة وغيرها، وكذلك القذف أو الزنا أو غيره من كبائر الذنوب فليست من هذا الباب، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من وقع في شيء مما ذكر أنه ملعون، ومغضوب عليه، ومعذب عند الله سبحانه، فالذي يغفر هنا بالصلوات هو صغائر الذنوب فقط، أما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة، وهو أن يتوب بإعادة المظالم إلى أهلها إن كان أخذ شيئاً من العباد ويتحلل من أصحابها، ويندم على ما فعل، ويعزم على ألا يرجع إلى ذلك.
وروى مسلم عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة؛ فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت الكبيرة، وذلك الدهر كله).
وهذا من الأحاديث العظيمة التي تريح المؤمن إذا وقع في المعصية، واحتاج لمن يأخذ بيده حتى يرجع عن هذه المعصية ويتوب إلى الله سبحانه تبارك وتعالى.
فعلى الإنسان أن يتوب إلى الله فإنه حيي كريم يستر عبده ويتوب عليه، ويلهمه ويرزقه التوبة فيتوب إلى الله عز وجل فيقبل توبته.
فالصلوات الخمس كل صلاة تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى، والإنسان بين الصلوات قد تحدثه نفسه بشيء أو قد يتلبس بمعصية، وقد ينظر إلى شيء أو يمد يده إليه، وغير ذلك من صغائر الذنوب التي قد يقع فيها، ولعله يتذكر ويتوب، ولعله ينسى، فإذا جاء إلى الصلاة تاب إلى الله مما يعرف ومما لا يعرف من ذنوبه، فيركع ويسجد ويدعو ربه سبحانه في السجود، وما بين السجدتين يقول: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني واجبرني وارفعني، ويدعو بالمغفرة وهو ساجد أو راكع: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، فيغفر الله له، ولذلك كانت الصلوات من الصلاة إلى الأخرى كفارة لما بينهما بشرط ألا يكون الإنسان قد وقع في الكبائر.
إذاً: الوضوء والصلاة والنوافل كفارة لذنوب العبد، وكذلك الجمعة إلى الجمعة كفارة للذنوب، ففي حديث عثمان: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها)، هذه هي الصلاة المقصودة بقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، وهي الصلاة التي يريدها الله عز وجل، والتي علمنا إياها النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا قام العبد فأتقن الوضوء ولم يسرف في الماء بل توضأ بالقدر الذي يكفيه، وأسبغ الوضوء في البرد والحر والشتاء والصيف والليل والنهار، ثم دخل في الصلاة فأحسن خشوعها وركوعها، وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه على هيئات الصلاة من الركوع والسجود وغيرها من أفعال البدن، ثم الخشوع الذي هو من أفعال القلب، فإذا أحسن العبد فقد أتى بالصلاة التي يكفر الله عز وجل بها عنه من الذنوب والخطايا.
قال: (إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت الكبيرة)، أي: هذه كفارة لما قبلها من صغائر الذنوب، ولكن لا يتساهل الإنسان في صغائر الذنوب، فإنه لا يدري هل هذه الصلاة هي التي أراد الله عز وجل أم لا؟ فيخرج من صلاته وهو لا يعرف هل أحسن أو أساء فيها؟ فينبغي على الإنسان ألا يغتر بصلاته، ولا بسعة رحمة رب العالمين، ولكن يعمل ويرجو، ومع ذلك يخاف من الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال في الحديث: (وذلك الدهر كله)، أي: في عمرك كله ما دمت تصلي وتحسن الصلاة كما يريد الله عز وجل منك، فلك من الله أن يغفر لك.(98/5)
فضل صلاة الصبح والعصر والحث عليهما
يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب صلاة الصبح والعصر].
حث النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الصلوات، كما أن الله عز وجل أمرنا بجميع الصلوات ولم يفرق بين صلاة وصلاة، قال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، والغدو: الصبح، والعشي: الظهر والعصر، ((وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ))، أي: المغرب والعشاء، وهذه هي الصلوات كلها في اليوم، إذاً فقول الله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18]، فيه جمع كل الصلوات، وسبحان الله: مصدر بمعنى: سبحوا الله في هذه الأوقات بالصلوات وذلك بالركوع والسجود.
((فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ))، والمساء هو العشاء، ((وَحِينَ تُصْبِحُونَ)) أي: الصبح، ((وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ)) عشياً أي: العصر والمغرب، ((وَحِينَ تُظْهِرُونَ)) أي: وقت الظهر.
إذاً: التسبيح يكون في كل الأوقات، وكأن القرآن يدعونا ألا نضيع وقت صلاة أبداً، أو أن نحرص على إتمامها والخشوع فيها، وقد ذكرنا سابقاً المحافظة على الهجير، وهو وقت اشتداد الحر في صلاة الظهر حتى لا تضيع هذه الصلاة، وفسر الهجير أيضاً بالتبكير إلى جميع الصلوات حين ينادى بها.(98/6)
صلاة الصبح والعصر من أسباب دخول الجنة والنجاة من النار
وهذا الحديث ينص على صلاتين، كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى البردين دخل الجنة) والبردان مأخوذ من البرد في وقت صلاة الفجر، وهو وقت النسيم العليل في الصيف ووقت شدة البرودة في الشتاء، وفي وقت العصر كذلك حين يذهب حر الشمس وقيظها فيرطب الجو، فمن صلى وواظب على صلاة الصبح والعصر -وهما البردان- دخل الجنة، وإذا حافظ العبد على صلاة الصبح والعصر فلن يترك غيرهما من الصلوات، وذلك لأنه يترك النوم ويصلي الفجر، وإذا عاد من عمله في شدة التعب يذهب ويصلي العصر، وهذا مما يجعله يحافظ على صلاة الظهر والمغرب والعشاء؛ لأنه يكون مستيقظاً في وقتها، فتحفيز النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الصلوات يدل على باقيها.
وعن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)، أي: صلاة الصبح والعصر، فمن يحافظ على هاتين الصلاتين: صلاة الصبح وصلاة العصر، ولا يترك صلاة الصبح إلى أن تشرق الشمس؛ فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لن يدخل النار، فلا بد من الحفاظ على هاتين الصلاتين في كل وقت إلا أن يكون قضاء الله سبحانه وتعالى، كما فعل بالنبي صلى الله عليه وسلم لما نام يوماً إلى أن طلعت الشمس، لكن على الإنسان أن يضبط المنبه ويأمر من في البيت أن يوقظوه للصلاة، وحتى لو كان مريضاً عليلاً فله أن يصلي في بيته إذا كان لا يقدر على الذهاب إلى الصلاة.
وهذا وعد من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى: بأن من حافظ على صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس وصلاة العصر قبل غروبها أنه: (لن يلج النار)، أي: لن يدخلها، وهذا لا يمنع المرور فوق الصراط، إنما يمنع دخول النار، فمن حافظ على تلك الصلاة وأحسن وضوءها وخشوعها وركوعها لن يلج النار.
وقوله: (لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس)، أي: لم يؤخر الصبح إلى أن تطلع الشمس، ولا العصر إلى أن تغرب، فإذا سمع الأذان ذهب إلى الصلاة، وإن كان معذوراً صلى في بيته، ولكن لا يجعل الوقت يمر عليه إلى أن تطلع الشمس أو تغرب فيصليها كالمنافقين.(98/7)
من صلى الصبح فهو في ذمة الله
وهذا حديث آخر عظيم يبين فضل الله عز وجل على عباده المؤمنين المواظبين على الصلوات، وأن الذي يصلي له من الله عز وجل المعونة والخير والبركة، فقد روى مسلم عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح فهو في ذمة الله، فانظر يا ابن آدم لا يطلبنك الله من ذمته بشيء).
قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الصبح)، (من) من ألفاظ العموم، أي: رجلاً كان أو امرأة صلى في المسجد إن استطاع ذلك أو تعذر عليه فصلاها في بيته، أما مع عدم العذر فلا بد أن يصلي مع الجماعة، وأما المرأة فلا يلزمها صلاة الجماعة فتصليها في بيتها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهو في ذمة الله)، أي: له الضمان والعهد عند الله سبحانه أن يدافع عنه، وأن ينتصر له، وينتقم له ممن ظلمه، فاحذر أن تظلم أحداً يحافظ على صلاة الفجر، وإذا ظلمته فإن الله كيده متين يملي للظالم، ولا تغتر بأنك تصلي الفجر؛ فإن الله عز وجل ينتصر للمظلوم من ظالمه وإن كان يصلي الفجر.
يقول صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى في صحيح مسلم: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه الله من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في النار)، إن الظالم -وخاصة الذي يظلم من يصلي الفجر- يملي الله له إلى أن يأخذه، فإذا أخذه لم يفلته، بل يجعله عبرة للخلق، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فيكبه الله في النار، أي: يدخله نار جهنم.
فعلى الإنسان أن يكون من المصلين الذين تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، وتدفعهم إلى عمل الخير، أما أن يصلي ثم يذهب إلى عمله فيمد يده للناس ويأخذ الرشوة ويأكل الحرام ويظلم الخلق فهذا ليس المصلي الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في ذمة الله، وصلاته ليست التي ذكرها الله في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]؛ لأنه لا بد أن يظهر أثر هذه الصلاة على فعل العبد وذلك بأن يتقن عمله ويحسن إلى الخلق، ويفعل الخير، ويمتنع من الشر، ويجتنب الفواحش والمعاصي.(98/8)
شهود الملائكة لصلاة الصبح والعصر
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار)، يتعاقبون: من التعاقب وهو التداول، وذلك بأن تنزل ملائكة من السماء على العباد يبيتون إلى الفجر وبعد صلاة الفجر يصعدون، وينزل ملائكة آخرون يمكثون طوال النهار، وهكذا دواليك، فإذا صعدوا إلى السماء -والله أعلم بعباده ولا يحتاج إلى إخبار الملائكة- يخبرونه سبحانه عن أعمال العباد، فيباهي الله عز وجل بهم الملائكة، أهؤلاء الذي قلتم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30]؟! فانظروا ماذا يعملون، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)، أي: أتيناهم في صلاة الفجر وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون العصر، ويستلم منهم الملائكة الآخرون.
إذاً: الملائكة تنظر إليك وأنت تصلي صلاة الصبح والظهر والعصر، وملائكة آخرون يرونك وأنت تصلي صلاة العصر والمغرب والعشاء والصبح، فيصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، ويشهدون لك عند الله عز وجل بأنك تصلي.(98/9)
المحافظة على صلاة الصبح والعصر من أسباب رؤية الله في الجنة
روى البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته).
قوله: (سترون ربكم)، أي: في الجنة، وهنا التشبيه للتقريب، أي: تشبيه الرؤية بالرؤية، وهي أنك ترى كما ترى، لكن ليس المرئي كالمرئي، فالله عز وجل له المثل الأعلى سبحانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يضرب لك مثلاً بشيء تراه وهو القمر، ولو كل الناس يريدون أن ينظروا إلى القمر فلن يزدحموا في الشارع من أجل ذلك، بل إن كل إنسان سينظر إليه من مكانه، وهذه الرؤية التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث.
فكما أن الناس سينظرون إلى القمر من غير أن يضيم بعضهم بعضاً، كذلك في الجنة سيرون ربهم من منازلهم، فإذا كان يوم الجمعة حضروا بحسب ترتيبهم في صلاة الجمعة عندما كانوا في الدنيا، فمن كان يأتي مبكراً قبل الباقين سيكون حضوره في يوم المزيد في يوم الجمعة، فيرى ربه سبحانه، وينظر إلى وجه الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أكثرهم رؤية لوجهه الكريم يوم القيامة في جنات النعيم.
قال جرير: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)، أي: إذا كنتم تريدون أن تدخلوا الجنة فلا تضيعوا صلاة الصبح، ولا صلاة العصر أبداً، وإذا كان الإنسان مريضاً مرضاً يمنعه من الخروج إلى المسجد فليصل في بيته ولا تلزمه الصلاة في المسجد، ولكن لا يبرر لنفسه أن يضيع الصلاة بسبب المرض، وينبغي على الإنسان أن يحرص على الصلاة في كل وقت، في صحته وعافيته، وأن يؤديها جماعة حيث يسمع النداء وحين يسمع النداء، وإذا كان مريضاً معذوراً صلى في بيته الصلاة في وقتها ولا يضيعها.(98/10)
التحذير من ترك صلاة العصر
وروى البخاري عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، أي: أتى وقت الصلاة وأذن للصلاة ولم يصل بل تشاغل عنها إلى أن خرج وقتها، فهذا إذا ترك هذه الصلاة إلى أن خرج وقتها عامداً ذاكراً، أما إذا كان ناسياً أو مكرهاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، فإذا تركها خطأً أو نسياناً أو إكراهاً فهو معذور، لكن إذا كان متعمداً ينشغل ويلعب إلى أن خرج وقت الصلاة فقد حبط منه عمل يومه، فإذا استمر على ذلك حبط العمل كله.
هذه الأحاديث جاء فيها الحث على صلاة الفجر وصلاة العصر، وجاءت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على صلاة الفجر والعشاء؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم المنافقون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً)، وقال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)، وهذا في الفجر والعشاء، أما الظهر فقد ذكر فيها التهجير، وأما المغرب فقد قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجوم)، قوله: (بادروا)، أي: حافظوا على صلاة المغرب إلى أن يدخل وقت صلاة العشاء.
فكل صلاة أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالمحافظة عليها وذكر لنا شيئاً من فضيلتها.
فعلى المؤمن ألا تفوته الصلاة إلا لعذر، كأن يكون مسافراً فله أن يقصر ويجمع بين الصلاتين، أو مريضاً فاحتاج إلى أن يصلي في بيته فله ذلك، أما إذا لم يكن معذوراً فعليه أن يحرص على الصلاة حيث ينادى بها وفي بيت الله سبحانه وتعالى؛ فإن تعذر عليه ذلك فلا يضيع الصلاة أو يؤخرها، قال الله سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5]، وليس معنى (ساهون) تاركون، فلو تركوها لكفروا، وإنما يريد أنهم أخروا الصلاة حتى خرج وقتها، فقال الله عنهم: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4]، إذاً: غير المصلين مصيبتهم أعظم، فاحرص على الصلاة حيث ينادى بها، واحرص على ذكر الله.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(98/11)