|
المؤلف: الشيخ الطبيب أحمد حطيبة
مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية
http://www.islamweb.net
[ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 98 درسا]
شرح رياض الصالحين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من شعائر المسلمين، ومن أسباب خيرية وتفضيل هذه الأمة على سائر الأمم، فبه تحفظ معالم الدين الحنيف، وتظل هيبة الإسلام قائمة في النفوس، وقائمة على الأرض.
(1/1)
ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
(1/2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه خير الدنيا والآخرة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)].
هذا الباب من هذا الكتاب العظيم رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذا الدين العظيم، فقد جاء في القرآن آيات كثيرة في أن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن تكون منا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا فيه خير الدنيا وفيه خير الآخرة، والذي ينظر إلى هذا الدين العظيم ويتأمل في قواعده الكلية وأصوله العظيمة، وفروعه ومسائله، يعرف أن هذا دين الله سبحانه وتعالى، وأنه الدين الذي فيه صلاح معاش الناس، وأن بغيره تضيع الدنيا الآخرة، فالدين فيه قوام حياة كل إنسان والإنسان يشعر بإنسانيته حين يتبع هذا الدين العظيم، ويشعر المؤمن بعزة يستمدها من هذا الدين، وعزة من الله عز وجل يعز به المؤمنين، ويستشعر كيف أن البعيد عن هذا الدين في ذل عظيم ما دام في بعده عن دين الله وعن طاعته، فربنا خلق العباد ليبتليهم أيهم أحسن عملاً، وليبتلي بعضهم ببعض، ويبتلي المؤمن بالكافر والمطيع بالعاصي، والبر بالفاجر، والمستقيم بالمنحرف.
ولو كان الناس كلهم على الاستقامة، والأمر كله عبارة عن أكل وشرب ولعب ولهو وراحة لأصبحت آخرة لا دنيا، فربنا خلق الدنيا لتكون حياة قصيرة وسماها دنيا، والدنيا اسم مأخوذ من الدنو والدنو هو القرب، والبعيد هو الأجمل وهي الدار الحيوان، أي الحياة الدائمة المقيمة فالمؤمن من يبيع الدنيا ليشتري الآخرة، فالدنيا فيها بساتين، والإنسان ينظر ويتنعم ويأكل ويفرح ويشتهي أشياء وينالها، لكن كل هذا جعله ربنا لنا مثالاً صغيراً لتعرف أن وراء ذلك ما هو أعظم بكثير، فإن أكلت في الدنيا وجدت من الأكل شهوتك وأخذت منه حاجتك وبعد ذلك أخرجته فألقيته في القمامة وهذه نهاية أكل الدنيا.
وأكل الآخرة بعكس أكل الدنيا تماماً، فلا بول ولا غائط في الجنة ولكن عرق كريح مسك، ولا تخمة ولا مرض فالدار الآخرة دار استمتاع تستمتع بها فحين يدلنا ربنا سبحانه وتعالى على ذلك يتفكر الإنسان في سبب وجودنا في هذه الدنيا، والسبب هو الامتحان والبلاء لكي نحصل على الجزاء يوم القيامة، وليتعب الإنسان في الدنيا ليرتاح في الآخرة.
ومن تعب الإنسان أن يتعب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(1/3)
حسن الخلق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قوله: (الأمر بالمعروف) وكأن اللام هنا لام الجنس، وهو كل ما عرفته الشريعة لك بأنه أمر حسن، ولن تستطيع الأمر بالمعروف إلا إذا تعلمت القرآن والسنة عن طريق سؤال أهل العلم، يقول تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا تعلمت القرآن تعلمت السنة، وتعلمت الخلق الحسن من الكتاب ومن السنة.
فإذا أمرت بالمعروف لا يكون الأمر بالمعروف هو عين المنكر، وإذا نهيت عن منكر لا يكون نهيك عن المنكر منكراً، فتنهى بصورة منكرة وبفعلك تنفر الخلق عن دين الله، فهذا لا ينبغي.
فالأمر بالمعروف لا بد أن يكون بحكمة وموعظة حسنة، وكذلك النهي عن المنكر، فتحصل على الخير العظيم في الدنيا وفي الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، فيجب أن يكون الإنسان رفيقاً يحبه الناس، ولا ينبغي أن يكون غليظاً شديداً يبغضه الناس، والمحبوب من الناس يجد استجابة له منهم.
قال ربنا سبحانه وتعالى هنا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} [آل عمران:104] واللام لام الأمر، أي لتوجد منكم وكأن الأمر هنا بالإيجاد أي: أوجدوا ذلك، وكونوا على ذلك، وإعراب كلمة (أمة): فاعل مرفوع، وفعل الأمر في بداية الجملة تام وليس ناقصاً.
وصفاتهم: {يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، يدعون إلى الخير، أي الخير الموجود في هذا الدين، والدين كله خير، والذي يتأثر بالدين يستشعر حلاوته في لسانه وفي قلبه، وتستشعر حلاوة الدين عندما تقرأ القرآن وكذلك تتذوق حلاوة كلام رب العالمين، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم في قلبك، وتستشعر زيادة الإيمان، وعليك أن تدعو وليست عليك النتيجة، فالنتيجة لم يكلف بها أحد لا نبي ولا رسول ولا ولي ولا آحاد الناس، والذي عليك فقط أن تدعو الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران:104] أي: بكل ما أمر الله عز وجل به وأمر النبي صلى الله عليه وسلم به.
(وينهون عن المنكر) اللام لام الجنس أي: جنس المنكر فأي منكر ولا بد وأن ينهى عنه ولكن بحسب طريقة النهي، فلا بد أن يكون الناهي حكيماً حليماً، يكون مخلصاً يرجو في أمره ونهيه أن يستجيب الناس وبهذا تحققت استجابة الناس، ولعل الإنسان إذا أمر استجاب الإنسان.
{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] والفلاح هو النجاح، والنجاح قد يكون مؤقتاً، وقد يكون دائماً، والمقصود في الآية هو النجاح الأبدي الذي لا خسارة بعده.
(1/4)
الأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين
ويمدح الله المؤمنين بالخيرية في الآية السابقة، ولكن سبب الخيرية عائد على الله فهو أهل المنة والفضل، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] بسبب أنكم {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
والله تبارك وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتبع: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: ليكن من خلقك العفو عمن يسيء إليك.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199] أي بالمعروف من هذه الشريعة.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فبدأها بالعفو وأنهاها بالعفو أيضًا، فدل ذلك على منزلة العفو العظيمة عند الله سبحانه، وكأنه يقول: إنه طالما أنت متوجه لدعوة الخلق لابد وأن تؤذى، وليس شرطاً أنه كلما أوذيت انتصر لك ربنا، ولكن اصبر وخذ بالعفو، فيعفى عنك يوم القيامة.
{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] لا تنشغل بالجاهل، وليس المقصود بالجاهل هنا الذي ليس متعلماً، ولكن المقصود: جاهل الأخلاق وصاحب الأخلاق السيئة وقد ذكر الله هذا الصنف من الناس في آية أخرى قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ} [الفرقان:63]، الجاهلون سيئو الخلق، والناس الذين في أنفسهم شر وسوء أدب، فإذا خاطبوا عباد الرحمن قالوا سلاماً، أي: قالوا قولاً كريماً، وأكرموا أنفسهم عن الوقوع في اللغو مع هؤلاء، وأكرموا أنفسهم أن يهينوها بالوقوع في المخاصمة مع هؤلاء.
والإنسان قد يتعرض للمعاملة مع شياطين الإنس وشياطين الجن، فأما شياطين الجن فأنت مأمور بالتعوذ بالله عز وجل، وربنا يعلمنا سبحانه وتعالى أن نتعوذ بالله من همزات الشياطين، قال عز وجل: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:97 - 98]، فتقول: أعوذ بالله السميع من الشيطان الرجيم إلى ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما شيطان الإنس فعليك أن تعرض عنه وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وتحاول عدم الدخول معه في المصادمة، لعل الله في يوم من الأيام يهدي هذا الإنسان.
يقول لنا ربنا تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] والتولي هو المناصرة وكأنه يقول: كن مع أخيك المؤمن في عسره ويسره، والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح لنا: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، إن كان ظالماً فانصره على نفسه وخذ منه الحق لصاحب المظلمة، وإذا كان مظلوماً فأعنه أن يأخذ حقه، وكن مع أخيك المؤمن توله بالخير يتولك الله سبحانه وتعالى بالنصر والتأييد، ومن سياق الآية: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] يتبين أنه لا ولاية بين المؤمن والكفار، وبهذا تنتفي كل معاني مناصرة ومحبة المؤمن للكافر.
ثم يبين الله سب موالاة المؤمنين لبعضهم وهو أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمؤمن يحب من أخيه تقواه ويحب منه أنه يعلم الناس الخير، ويحب منه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
(1/5)
لعن بني إسرائيل لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] وسبب لعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78]، فقد كانوا أشد الناس عصياناً لله تبارك وتعالى، وخروجاً عن أمره وتحايلاً على معصيته سبحانه، فلعنهم الله عز وجل على لسان داود وعيسى بن مريم.
{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79]، فاستحقوا اللعنة بسبب تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ} [المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، فكان اليهودي ينظر إلى الآخر ويعمل المنكر فلا يأمره بالمعروف، فتساهلوا إتيان المنكرات.
وقد أمرهم الله باتخاذ الجمعة لهم عيداً، فقالوا: نريد السبت؛ لأن الله انتهى من الخلق يوم الجمعة واستراح من عناء الخلق يوم السبت، فافتروا على الله الكذب بقولهم، وقالوا راحتنا تكون يوم السبت، فأمرهم بالامتناع عن العمل يوم السبت، وكانت الأسماك تكثر في البحر يوم السبت غير بقية الأيام، وهذا فيه تمحيص لصدق إيمانهم، فكانوا يتحايلون على الله بحيل سخيفة ومنها: أن الواحد منهم كان يضع شباك الصيد يوم الجمعة فتعلق الأسماك بها يوم السبت فلا يرفعون الشباك إلا في اليوم الآخر وهم يظنون أنهم بذلك قد أفلحوا في التحايل على الله، فكانت تفوح رائحة الأسماك من بيوت الذين كانوا يعملون هذه الحيل، فأمهلهم الله ولم يعاقبهم، فقام اليهود بعمل هذه الحيلة.
فأنزل الله تبارك وتعالى {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165]، ومنهم الذين اعتدوا في السبت فقد لعنهم الله {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة:78] فاعتدوا في يوم السبت أي: تعدوا حرمات الله سبحانه وبعد ذلك أكلوا هذه الأسماك وفرحوا مؤقتاً حتى أتاهم العذاب فكانوا عبرة لغيرهم.
قال سبحانه: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] أي: لا ينهى بعضهم بعضاً، فقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] إذا عمل الواحد منهم المعصية لا يجد واحداً ينهاه، فيسكت الساكت عن رضا بما يعمله الآخر من معصية فسمى الله عز وجل عدم نهيه عن المنكر فعلاً وقال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
وقال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] أي: قد جاء الحق من عند الله عز وجل {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فالله سبحانه وتعالى هو الغني، والخلق كلهم فقراء إلى الله عز وجل، وإذا عمل الإنسان عملاً صالحاً انتفع هو ولم يزد الله عز وجل شيئاً، وإذا عمل الإنسان عملاً غير صالح أضر نفسه وأهلكها، ولم يضر الله سبحانه وتعالى، فلا يضر العاصي إلا نفسه.
قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] فأمره أن يبلغ للناس هذا الدين، والصدع هو رفع الصوت، والمقصود به: أن يجهر بالحق صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165] أي: عذاب شديد، وهو من أشد وأفظع ما يكون، ويكفي أن أصبحوا وقد مسخ الذين كانوا يصطادون يوم السبت قردة وخنازير، وظلوا على هذه الحالة ثلاثة أيام ثم أهلكهم الله سبحانه وتعالى.
(1/6)
شرح حديث: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده)
من الأحاديث التي جاءت في هذا الموضوع العظيم حديث لـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)، ويكون هذا على حسب القدرة والاستطاعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغيير المنكر الذي أمامه.
(من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) وكأن المعنى المنكر الذي لا يتغير إلا بيد، لا يصح فيه إلا ذلك، كأن يخطف شخص امرأة ويريد أن يزني بها، ففي هذه الحالة لا بد من استعمال اليد، لأنها من الحالات التي لا بد أن يستعمل الإنسان فيها يده، فإنها لا تنفع النصيحة باللسان في مثل هذه الحالات، ولكن إذا لم تستطع أن تغيره بيدك كأن يكون مع الخاطف مثلاً سلاح، فأمر باللسان وحاول أن تنصحهم بلسانك، أما إذا أراد كل من يريد أن يتكلم فأقل حاله فيها أن يكره الإنسان هذا الشيء القبيح وهذا الفعل السيئ، وأن ينكر هذا الشيء بقلبه.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه أن يزني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ادن! أترضاه لأمك؟! قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، أترضاه لأختك؟! قال: لا.
جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم، أترضاه لابنتك؟! قال: لا.
جعلني الله فداك، قال: كذلك الناس لا يرضونه لبناتهم، ثم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فما كان شيء أبغض إليه من الزنا)، فلو ضربه في هذا الوقت لما أفاده، ولكنه خاطب عقله وقلبه ودعا له فرقّ قلب الإنسان، وإذا به يستشعر قبح ما كاد أن يقع فيه.
فلذلك ليس شرطاً أن تغيره بيدك أول ما تراه، فالأمر في الحديث ليس هذا مقصوده، وإنما القصد أن تستخدم يدك في الضرورة، وقد يكون تغيير المنكر لا يحتاج حتى إلى كلام، فهناك أشخاص مجرد النظر إليهم وهم في معصية يجعلهم يتركونها حياءً، وقد يكتفي بالإشارة، فادفع بالأسهل إلا إذا اقتضى الأمر، فقد جاء رجل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أرأيت إن جاء رجل يأخذ مالي؟ قال: لا تعطه قال: فإن أبى فقاتلني؟ قال: فقاتله، قال: فإن قتلني؟ قال: أنت في الجنة وأنت شهيد، قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار)، ففي البداية ابدأ بوعظ هذا الإنسان.
والغرض أن الإنسان إذا أمر بالمعروف عليه أن يتقي الله سبحانه ويرجو أن ينقذ أخاه العاصي من النار، لعل الله سبحانه وتعالى ييسر بكلمة صالحة أن ينتهي هذا عن باطله ويرجع إلى رشده.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/7)
شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [1]
حرم الله الظلم على نفسه، ثم حرمه على عباده، وذلك لما له من تأثير سيء على حياة الناس؛ فبه تسود شريعة الغاب، وينعدم الأمن والعدل، ويأكل القوي الضعيف، ولذلك حذر منه الإسلام، وتوعد الظلمة وعيداً تقشعر منه الأبدان، وترجف له القلوب.
(2/1)
جريمة الظلم وتحريمه في الكتاب والسنة
(2/2)
ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد: المراد بتحريم الظلم: هو الأمر برد المظالم، قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18]، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71].
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم.
والآيات في منع الظلم كثيرة، والأحاديث أيضاً كثيرة.
ولكن هذا للتذكرة وهذه مهنة هذا الكتاب العظيم حيث إن الأحاديث التي فيه لا يجهلها أحد، فأكثر الأحاديث يحفظها كثير منا أو قد سمعها قبل ذلك، ولكن النووي جمع بين الأحاديث في باب واحد، ليذكرنا بهذه الأحاديث.
فهو يجمع بين الأحاديث في باب واحد ويذكرنا بهذه الطريقة الجميلة، فيسرد الآيات في المسألة ويسرد الأحاديث حتى تتفكر أنت في الآيات وفي الأحاديث، وتنظر: هل الإنسان واقع في هذا الذنب الذي هو مذكور في هذا الباب؟ وقد عرفنا من القرآن أن ربنا سبحانه وتعالى حرم علينا الظلم، وعرفنا من السنة كذلك، فمن الآيات قوله سبحانه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
وأعظم الظلم الظلم الأكبر: وهو الشرك بالله، أو الكفر بالله سبحانه وتعالى، يلي ذلك ظلم الإنسان لغيره، وظلمه لنفسه، والظلم ظلمات يوم القيامة.
فالظالم ليس له حميم، والحميم: القريب الذي يحبه ويشفق عليه، فلن يجد له أحداً يحبه، ولا يشفق عليه يوم القيامة، يوم تجد كل إنسان يقول: نفسي نفسي! حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يقولون: (نفسي نفسي! إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله).
يقولها كل الأنبياء بلا استثناء ما عدا نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهو الذي يقول: يا رب! أمتي أمتي، صلوات الله وسلامه عليه، بل إذا كان الإنسان يوم القيامة يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، فكيف بالظالم؟ قال تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج:11].
يتمنى أن يفتدي المجرم بابنه ويسلم هو من العذاب يقول: خذوا ابني إلى العذاب وأنا أفلت، فهنا الظالم يوم القيامة لا شيء ينفعه، كما قال سبحانه: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
يعني: ليس لهم شفعاء، ولو فرض أن هناك شفيعاً يشفع لهذا الظالم فلن يطاع في ذلك، ولن يستجاب لهذا الشفيع في هذا الظالم، فمن يرضى لنفسه أن يكون حاله يوم القيامة أنه لا أحد يشفع له، لو شفع له أحد لقال له ربنا سبحانه وتعالى: لا تنفعه شفاعة الشافعين.
فعلى الإنسان أن ينظر ما الذي صنع هؤلاء الظلمة ويتجنبه في الدنيا قبل حساب يوم القيامة؛ لأنه: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [الحج:71]، وكذلك يقول لنا ربنا سبحانه: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً).
وقال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
وقال تعالى: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
(2/3)
الظلم ظلمات يوم القيامة
والأحاديث كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما جاء عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم).
فلابد أن نتقي الظلم، ولابد أن نعرف هذا الظلم؛ لأن الإنسان قد يقع في الظلم وهو لا يدري، فقد يظلم نفسه فيشرك بالله عز وجل، أو يرائي بعمله، وقد يظلم غيره بأن يأخذ ماله أو يغتابه في عرضه، أو يسفك دمه.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم)، يعني: اجعلوا وقاية بينكم وبين الظلم، وحاجزاً بينكم وبين الظلم؛ (فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) فيوم القيامة لا يزداد إلا ظلمات.
فهو يوم فظيع شديد، وكل شيء قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فهو يوم الحاقة الذي يحق الله به الحق، وهو يوم الصاخة، أي: الفزع الأكبر، وهو يوم العرض على الله تبارك وتعالى، وهو يوم الصيحة الهائلة التي تصم الآذان في يوم فظيع ورهيب.
وهو يوم يحاسب فيه الإنسان على كل ما عمل في الدنيا، يعرف طريقه أمامه، ويقال للناس: اعبروا الصراط، وهو مكان مظلم، ويكون العبور بحسب النور الذي يعطاه الإنسان، ومن أجل أن يعبر هذا الصراط لابد من أن يمر في ظلمات يوم القيامة، وهنا يأتي ظلم الإنسان فيطفئ له كل أنواره، فلا يرى شيئاً، ولا أحد ينتفع بنور صاحبه.
إن الإنسان المؤمن الذي يكون نوره أمامه عظيماً جليلاً فإنه وحده الذي ينتفع بنوره، وليس غيره من أهل الظلم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في نهاية الحديث: (واتقوا الشح)، لأن الشح وسيلة لأن يقع المرء في الظلم، وصحيح أن الله عز وجل قال: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فنفس كل مخلوق فيها شح بحسبها، ولكن ربنا سبحانه وتعالى أمرنا أن نقاوم هذا الشح.
والشح: أشد البخل؛ لأن بخل الإنسان وشحه دفع الناس إلى أن سفكوا الدماء، واستحلوا المحارم، وذلك لأن كل أحد يريد الحاجة لنفسه ولا يريد غيره أن يستمتع بها، فمع شحهم سفكوا دماءهم؛ لأن كل واحد يقول: حقي، من غير نظر هل هو حقه فعلاً أو ليس حقه؟ فسفكوا الدماء، واستحلوا الحرمات.
(2/4)
الأمر بأداء الحقوق
يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأداء الحقوق، ويتوعد على ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها)، فالفعل المضارع المسبوق بلام التوكيد وفي آخره نون التوكيد الثقيلة يكون معناه القسم، فيكون المعنى هنا: والله لتؤدن الحقوق.
فهنا يقول صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء).
فإذا لم نؤد الحقوق في الدنيا فإننا سنؤديها يوم القيامة من حسناتنا، أو بأن نأخذ من سيئات أصحابها حيث توضع علينا، بل إنه سيقاد للشاة الجلحاء -أي: التي من غير قرن- من الشاة القرناء.
فإذا كان الله يقتص للبهيمة من أختها، فكيف بالإنسان العاقل الذي يتكلم، والذي أنزل الله عز وجل عليه الكتب وأرسل إليه الرسل؟! فإذا كانت الشاة الجلحاء ستأخذ حقها من الشاة القرناء، فإن الإنسان سيأخذ حقه من الآخر من باب أولى.
(2/5)
حرمة مال المسلم ودمه
يقول ابن عمر رضي الله عنه: (كنا نتحدث عن حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، ولا ندري ما حجة الوداع).
يعني: أن الصحابة كانوا يتكلمون أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم هذه هي حجة الوداع، ولكن لا يعرفون لماذا سميت حجة الوداع؟ وقد عرف البعض؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلمهم ويقول: (لعلي لا أحج بعد عامي هذا).
ويقول: (خذوا عني مناسككم لعلي لا أحج بعد عامي هذا)، وقام يودع الناس صلى الله عليه وسلم ويقول: (ألا هل بلغت! ألا هل بلغت! اللهم فاشهد) صلوات الله وسلامه عليه.
ففهم كبار الصحابة أن هذه هي آخر حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما الباقون فبقوا يقولون: حجة الوداع، حجة الوداع، ولا يدرون لماذا سميت حجة الوداع؟ ومنهم ابن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال: (حتى حمد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه، ثم ذكر المسيح الدجال فأطنب في ذكره، إلى أن قال: ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟ ألا هل بلغت؟)، يعني: بلغتكم أن هذه الأشياء محرمة.
فالأصل في مال المسلم أنه محرم عليك حتى يسمح لك، أو حتى يعطيك، أما أن تخدعه فليس لك ذلك، كأن تبيع له بأزيد من الثمن لتأخذ ماله، فليس لك ذلك، ولا يحل لك من مال أخيك إلا ما أباحه لك بطيبة من نفسه.
(إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت؟! قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد.
ثلاثاً.
ويلكم، أو قال: ويحكم!) كلمة للتحذير أو للترحم (لا ترجعوا بعدي كفاراً).
فكأنه يحذرهم، ويقول: إني ميت فلا ترجعوا بعدي كفاراً.
فلما قالوا: لن نرجع كفاراً، وكيف نكفر بالله بعدما عرفنا دين الله سبحانه؟! فهنا بين لهم أنه نوع آخر من الكفر، أي: متشبهين بالكفار، فقال: (يضرب بعضكم رقاب بعض)، أي: سفك الدماء، فكأن أفعال أهل الجاهلية أفعال الكفار، سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم.
وكذلك يفعل المؤمنون في الهرج، فيتناسون دينهم، ويقتل بعضهم بعضاً، قال ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2/6)
حرمة الاعتداء على أرض الغير
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين).
وقد كانت من عادة العرب أن الواحد منهم إذا كان عنده أرض وعند الثاني أرض فإنه يجور صاحب الأرض الأول على أرض صاحبه فيأخذ أرضه، وإذا لم يقدر على ذلك فإنه يأتي إلى منار الأرض -أي: العلامة التي تحدد الحد الفاصل بين الأرض والأرض- فيزحزحه من أجل أن تزيد أرضه.
ولذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يصنع ذلك، ويظلم شبراً من الأرض، بأنه يجعل له طوقاً في عنقه يوم القيامة والله على كل شيء قدير، والإنسان الآن في الدنيا له حجم معين من طول وعرض، ولا يزال يتناقص، فقد كان طول آدم عليه السلام ستين ذراعاً في السماء، ثم تناقصت الأطوال، فإذا جاء الناس يوم القيامة فإن الله عز وجل يزيد الأحجام، ويزيد حجم الكافر زيادة كبيرة جداً من أجل أن يكفيه العذاب يوم القيامة، حتى إن ضرس الكافر ليكون مثل جبل أحد.
فالذي يظلم قيد شبر من الأرض فإنه يؤخذ له هذا الشبر من الأرض السفلى، فيحمله طوقاً في رقبته، ويقف به يوم القيامة.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (من ظلم قيد)، أي: قدر.
(شبر من الأرض طوقه)، أي: حمله وجعل قلادة وطوقاً في عنقه ليس شبراً في المساحة فقط، بل في الحجم من سبع أرضين.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له ثغاء أو شاة تيعر).
فالذي أخذ جملاً فإنه يحمله على رأسه.
{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة:5].
والكل قائمون بين يدي الجبار سبحانه وتعالى.
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
وهذا شيء يجعل الإنسان يتفكر هل ظلم أحداً من الخلق؟! ولا ندري متى يأتي غضب الله عز وجل وعقوبته للإنسان، فقد يأخذ الظالم فجأة من غير مرض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (موت الفجأة أخذة أسف).
الأسف بمعنى: الغضب، أي: أخذة غضب من الله عز وجل، وهذا أيضاً فيه الشهادة، فالإنسان المؤمن قد يقبضه الله عز وجل فجأة وهو على عمل صالح فله أجر.
وإنسان آخر من المؤمنين له درجة عالية؛ لأنه سبحانه وتعالى يزيد له في المرض ويزيد له في البلاء فيرتفع بذلك درجات عند الله تبارك وتعالى.
أما الإنسان الفاجر والكافر فيغضب عليه سبحانه وتعالى فيأخذه مرة واحدة، حيث يموت فجأة فلا يمهله حتى يتوب؛ لأن المرض يجعل الإنسان يتوب، ويرفع يديه إلى ربه تائباً، وهو سبحانه حيي كريم يستحي من عبده أن يرفع يديه ويقول: يا رب! ثم يرده من غير حاجة.
لذلك فإن فرعون أظلم الظلمة وأفجر الفجرة الذي قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، والذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، عندما هلك غريقاً في البحر جعل يقول: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90].
ولو دخل الإيمان قلبه لقال: لا إله إلا أنت، ولكنه قال: أنا أقول مثل هؤلاء، فيكون تقليداً منه وليس إيماناً من القلب، وخاف جبريل أن يقولها بجد فيرحمه ربه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: لو رأيتني وأنا أدس في فيه من طينة البحر من أجل أن يموت قبل أن تدركه الرحمة.
فهنا أخذة الجبار سبحانه وتعالى أخذة أسف فعندما يأخذ إنساناً ظالماً لا يترك له فرصةً ليتوب إليه سبحانه وتعالى.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التوبة لا تقبل إلا إذا عاين الإنسان الموت في وقت الغرغرة، ففي هذه الحالة لا تنفعه التوبة، أو إذا طلعت الشمس من مغربها فأيضاً لا تنفع الإنسان التوبة في هذه الحالة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي -أي: يمهل- للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، وقرأ قول الله سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]).
فهذه الآية من سورة هود التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (شيبتني هود وأخواتها)، فقد شيبت النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة، التي فيها ذكر القرون وكيف أهلكهم الله سبحانه، وفيها ذكر نوح، وكيف أنه قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
فقد قال في هذه السورة: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:102 - 104].
{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:105 - 106].
فالظلمة في نار جهنم ينهقون كالحمير، كما قال تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106]، وهو: صوت خروج النفس ودخوله بالآهات كصوت الحمير عندما تنهق: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:106].
{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107 - 108].
ونحن لا ندري من في الجنة ومن في النار، ولكن الله أعطانا أوصافاً لهم، فشاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه السورة وما شابهها، لذلك يجب على المسلم أن يتدبر في آيات الله تبارك وتعالى.
فإنه كلما تدبر ازداد تعقلاً وتفهماً لآيات الله، فازداد علماً وعملاً، نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعلم والعمل وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(2/7)
شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [2]
أمر الله سبحانه دعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا بد للداعي أن يمتثل ذلك، وأن يكون مهيئاً بمعرفة ما لابد منه للداعية، كالتدرج في تعليم الناس.
وينبغي للداعية الحذر من الظلم ورد المظالم، فدعوة المظلوم مستجابة، لا ترد وإن كان المظلوم كافراً.
(3/1)
شرح حديث إرسال معاذ إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى الإسلام
(3/2)
ضرورة الاستعداد وتهيئة النفس عند دعوة قوم من الأقوام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم، قال الله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، متفق عليه.
هذا الحديث من ضمن مجموعة من الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي في هذا الباب، وهو من رياض الصالحين باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم.
وذكرنا أن الله تبارك وتعالى قال في الحديث: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).
وهنا في حديث معاذ بن جبل الشاهد منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
وأهل اليمن كانوا من أهل الكتاب، إذ كان أكثرهم يهوداً، فأرسله إليهم يدعوهم إلى الله عز وجل وبين له أنه في البداية لا يدعو هؤلاء إلا إلى شهادة أن لا إله إلا الله، ومعاذ بن جبل رجل أنصاري ومن أعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله تبارك وتعالى عنه، بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان صغير السن يصل إلى سن العشرين وفوقها، ولما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن يدعوهم، قال له: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب)، أي: استعد إنك ستدعو أناساً ليسوا من أهل المدينة.
فالمشركون هم أهل جهل وضلال لا يعرفون شيئاً، ولكن أهل الكتاب عندهم آثار من علم وبقية من كتاب، فمن الممكن أن يجادلوك فلابد أن نستعد لذلك، ففي هذا الحديث أن الإنسان حين يدعو إنساناً ينظر من الذي يدعوه ويهيئ نفسه ويستعد لذلك وأنه لا نأخذ الأمر ببساطة وسهولة فليس الناس مثل بعضهم بعضاً.
وإذا كان إنسان يناظر إنساناً فليعرف خصمه أولاً وما مدى قوة علمه، وإلا فلا يعرض نفسه لما لا يعرفه، ولذلك في الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم له: (إنك تأتي)، أي: احذر فأنت ذاهب إلى قوم هم أهل كتاب، واعرف ماذا تقول لهم، واعرف كيف تدعو هؤلاء إلى دين الله سبحانه وتعالى.
(3/3)
دعوة الناس إلى التوحيد أولاً
فعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوهم قال: (فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله)، وفي رواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله).
فالدعوة تكون أولاً إلى التوحيد فهو أهم شيء قبل أن تقول لهم: صلوا، وقبل أن تقول لهم: صوموا، وقبل أن تدعوهم إلى مكارم الأخلاق، فأول شيء توحيد الله، فحق الله على العباد أن يقولوا: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، وكان من اليهود أناس يعبدون الله سبحانه ويشركون به، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:30].
وليس كل اليهود يقولون ذلك، وإنما بعض اليهود يقولون ذلك، ولذلك فإن اليهود يؤلبون النصارى على أن يقولوا: المسيح ابن الله، وليس كل النصارى يقولون ذلك، فمنهم من يقول: المسيح ابن الله ومنهم من يقول: المسيح هو الله، إذاً: فلابد للداعي أن يعرف ماذا يقول لأهل الكتاب، فلو قلت لهم: يا يهود أنتم تقولون: عزير ابن الله وأنتم كذابون، فيقولون لك: نحن لا نقول ذلك، وأكثر اليهود الآن لا يقولون: عزير ابن الله، بل يقولون: عزير عبد من العباد وليس ابن الله.
إذاً: قبل أن تذهب للمناظرة لابد أن تدرس الموضوع جيداً قبل أن تتكلم مع هؤلاء، واعرف بماذا سيردون عليك؛ حتى تكون محضراً نفسك، فلا تعرض نفسك للذي لا تعرفه.
انظروا إلى ذلك الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واسمه: عدي بن حاتم وهو نصراني وعرفتم الحديث الذي صارحهم فيه بنفسه أنه نصراني ومعلق للصليب الكبير، ويكلم النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا على دين النصرانية.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنا أعلم منك بدينك وبذلك هزه النبي صلى الله عليه وسلم وفضحه، فهنا وقف من هو أعلم منه ويقول له: ألست من الراكوسية؟ أي: أنت من فريق اسمه الراكوسية، هذا هو أصلك وفرعك، والنصرانية الراكوسية عندكم تحرم أن تعشر الناس وتأخذ عليهم ضرائب.
وأنت لا تأخذ العشر، بل من الممكن أن تأخذ الربع من الناس، ألست تأكل الحرام وهذا لا يحل لك في دينك، فصار عدي حنيفاً مسلماً وأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، فالذي يكون لديه مناظرة مع إنسان ويريد أن يدعو إلى الله لابد أن ينظر إلى هذا الذي يدعوه وما حدود علمه؟ فإن كان من الذين يتكلمون كثيراً ويجادلون فلتستعد له بطريقة معينة، وإن كان هذا الإنسان خالياً لا يحمل فكرة قط فلتستعد له بطريقة أخرى، ولا تغتر بنفسك ولا بعلمك ولا بمعلوماتك، فكونك ملتزماً ليس معناه أنك تعرف كل شيء في الدين.
فلا أعرض نفسي إذا سألني أحد سؤالاً فأجيب وكأنني شيخ الإسلام، فانظروا إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ أن يأخذ استعداده وفي حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا فيقول: (أقرؤكم أبي، وأرحم أمتي بأمتي أبو بكر الصديق، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأفرضكم زيد بن ثابت).
فـ معاذ أعلمهم بالحلال والحرام فهو أولى الناس أن يذهب لمناظرة هؤلاء.
(3/4)
من أساليب الدعوة إلى الله التدرج في تعليم الناس
وقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبدأ دعوتهم بالتوحيد، أي: يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هم أطاعوا لذلك تأتي الخطوة الثانية، قال: (فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة).
أي: لابد أن تتدرج معهم، فلا تأتي بكل شيء مرة واحدة حتى يمل الذي يسمع منك، ولكن ابدأ مع هؤلاء بالتوحيد، وعلمهم أن معنى الإسلام: الاستسلام لله سبحانه، ثم تنتقل معهم إلى الشرائع فتبدأ بالصلاة التي هي ركن الإسلام العظيم وتعلمهم الصلاة، (فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم).
فإذا أخذت منهم صدقة فأعلمهم أنك تردها على فقرائهم، فقد كان من عادة العرب إذا أخذوا شيئاً أن يأخذوه لأنفسهم ولا يعطوه لغيرهم.
فلابد أن تعلمهم أن الإسلام دين الحق والعدل العظيم من الله سبحانه، نأخذ صدقات من الأغنياء ونردها على الفقراء فيما بينكم، نأخذها منكم ونردها إليكم، ولذلك لما كان في عهد عمر رضي الله عنه وبعث معاذاً والياً، فرجع إليه وليس معه شيء من المال، فقال: أين المال؟ قال: أخذناه من حيث كنا نأخذه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ووضعناه حيث كنا نضعه.
فهناك فقراء، فأخذنا الزكاة من الأغنياء وأعطيناها للفقراء، فهذا هو دين العدل، نأخذ زكاة المال من أغنياء البلد ونردها على فقراء البلد نفسه، فإن زادت عن حاجتهم نأخذها إلى البلد الأخرى.
(3/5)
تجنب كرائم الأموال في أخذ الزكاة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم) أي: إنهم سينفذون لك الذي تريد ويطيعونك، لكن ليس معنى ذلك أن تطمع في أموالهم فأنت لك حدود معينة؛ ولذلك ستجد أن كرائم الأموال عند العرب هو الإبل، فهو خير المال عندهم، فحين يكون الجمل ابن خمس سنين أو ست سنين أو سبع سنين أو ثمان سنين، فهذه كرائم أموال العرب.
إن زكاة بهيمة الأنعام لا تكون في هذه الكرائم أبداً، فليس فيها زكاة أصلاً، بل كل زكاة بهيمة الأنعام في السن الصغيرة وليس في السن الكبيرة، كأن تكون الزكاة بنت مخاض أو بنت لبون، وبنت مخاض أي: لها سنة كاملة وقد دخلت في الثانية، وبنت لبون أكبر منها بسنة.
أما كرائم الأموال وهي الإبل التي تجاوزت سبعة أعوام وثمانية وتسعة وعشرة؛ كل هذه لا تأخذ منها شيئاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم معاذاً أن يحذر، ولا يطمع.
(3/6)
تحريم الإسلام للظلم والأمر برد المظالم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم).
أي: أن هؤلاء القوم قد يؤمنون وقد لا يؤمنون، وفي كلا الحالتين لا تظلم مسلماً ولا كتابياً، فالكتابي ستأخذ منه الجزية بالحق وبالعدل الذي فرضه الله سبحانه، والمسلم ستأخذ منه زكاة المال بالحق والعدل الذي فرضه الله سبحانه.
(واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، الدعوة من المظلوم تبلغ السماء كما جاء في الحديث الآخر: (اتقوا دعوة المظلوم ولو كان فاجراً)، وفي حديث: (ولو كان كافراً)، (ليس بينها وبين الله حجاب) وفي رواية: (تصعد إلى السماء كالشرر).
انظر الشرارة حين تطير، فكذلك دعوة المظلوم ليس ثمة حجاب يمنعها ويحجزها، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يعدل مع الخلق، وكذلك تعليم القرآن، حين قال سبحانه في سورة المائدة: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
فكونك تكره إنساناً ليس معناه أن تظلم هذا الإنسان، فرق بين أن تكره فلاناً؛ لأن دمه ثقيل على قلبك ولا تحبه، وبين متخاصم مع فلان يقول لك: احكم بيننا، فتجعلها في الانتقام منه، فلا يحل لك هذا الشيء، اتق دعوة المظلوم.
إذاً: احكم بما أنزل الله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ} [المائدة:8] ولا يجري بك في الظلم والتمادي أنك تكره إنساناً فتحكم عليه لكونك تبغضه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
ويحرم ظلم غير المسلمين طالما أنهم تحت حكم الله عز وجل وحكم الإسلام، كما ورد في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا من ظلم معاهداً)، الذي يظلم معاهداً كالذمي يهودياً كان أو نصرانياً يعيش تحت ظل الإسلام وتحت حكم الله عز وجل ويؤدي ما عليه.
فلو جاء إنسان ظلمه فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه، فأنا حجيجه يوم القيامة).
أي: أنا خصمه يوم القيامة؛ لأنه جاء بالعدل صلى الله عليه وسلم وجاء بالحق، والله أمره أن يحكم بين الناس بالعدل فإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل الذي أمر الله عز وجل به، فلابد للإنسان أن يحذر من الظلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الظلم ظلمات يوم القيامة).
جاء في الحديث أن عمر بن الخطاب سمع من النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم)، فكان سيدنا عمر يخاف جداً من دعوة الإنسان المظلوم.
(3/7)
موافقة عمر في التحذير من الظلم ودعوة المظلوم
روى الإمام البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه استعمل مولىً له اسمه هني على الحمى أي: أن عمر كان في عهده حمى لفقراء المسلمين وللخيل الذي يستخدم في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وكلمة (حمى) تعني: أن تؤخذ أرض كبيرة وتجعل هذه الأرض للكلأ أي: العشب من أجل أن يرعى فيها أغنام وأنعام وخيول جيش المسلمين.
هذا الحمى يمنع الناس من الرعي فيه، وكانت نصيحة عمر لـ هني الذي هو العامل التابع له أن قال له: يا هني اضمم جناحك عن المسلمين.
أي: كف يدك عن ظلم المسلمين.
واتق دعوة المظلوم، أي: أنت حارس لهذا الحمى، فانتبه واحذر أن تظلم أحداً من المسلمين، فإن دعوة المظلوم مستجابة، وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان، فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع.
فهذا فيه غاية العدل والرحمة على المسلمين ومعرفة الحق لصاحبه، فالحمى: أخذ أرض من أراضي المسلمين التي لا يملكها أحد، من الأرض الواسعة وفيها عشب كثير لعلها تكون مرعى للزكاة التي هي بهيمة الأنعام، فترعى فيها الخيل التابعة للمسلمين، وأيضاً لفقراء المسلمين، فلا مانع للفقير أن يرعى فيه.
فإذا قال قائل: أليست الأرض أرض الله وهذا مرعى، فلماذا تحجر هذه الأرض عن الغني؟ فهنا يبين كلامه لهذا الرجل فيقول له: أدخل رب الصريمة ورب الغنيمة أي: أن الذي عنده ماشية قليلة لا مانع أن يدخل فيرعى فيها.
قال: (وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان)، إن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وكذلك عثمان بن عفان أحد العشرة المبشرين بالجنة، والاثنان كانوا من مياسير الصحابة، وكانوا أغنياء جداً، ليسا محتاجين للمرعى الذي يرعى فيه المسلمون.
وليس المعنى أنه بما أنهما غنيان فلا يسمح لهما بالرعي ملطقاً، وإنما المقصود لو كان من الضروري الاختيار بين رعي أغنامهما وبين رعي غنم سائر المسلمين الفقراء فيقدم الفقراء في ذلك؛ لأن عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان إن تهلك ماشيتهما من عدم الرعي فهما يملكان نقوداً كثيرة، لكن الفقير إذا ماتت الغنيمات التابعة له فسيأتي إلى عمر ويقول: يا عمر أعطني.
وليس في بيت المال أموال ولا ذهب ولا فضة كي نعطي هؤلاء، إذاً: إذا ضاق المرعى فالفقراء يقدمون في المرعى، وليس فيه نظر لحسب ولا لنسب ولا أن هؤلاء من أهل الجنة ولا أن هؤلاء بينهم وبينه قرابة.
فالنظرة هنا أن نقف بجانب الفقير، أما الغني فسيجد، فلذلك يحذر عمر ويقول: اتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة.
ثم يقول عمر رضي الله عنه: وأيم الله إنهم ليرون أني قد ظلمتهم وإنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام.
فلابد من معرفة الحق، فعندما أكون أنا أمير المسلمين ليس معناه أنني آخذ الأرض كلها بأمري ونهيي، فإنني لا أتحكم بالأرض التابعة لهم، فهم الذين قاتلوا على هذه الأرض وهم الذين فتحوها، حيث فتح الله عز وجل على أيديهم.
فعلى ذلك أنا أعدل فقط، حتى أجعل الغني يعيش والفقير يعيش بجواره، فلذلك أقول لهم معترفاً: الأرض أرضكم وليست أرضي أنا؛ لأني أحمي شيئاً لأجل المصلحة، والمقصود هنا: قول عمر رضي الله عنه بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).
(3/8)
تحريم أخذ عامل الزكاة الهدية عند جمع الزكاة
ومن الأحاديث التي وردت حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم رجلاًً من الأزد اسمه ابن اللتبية على الصدقة، وهو رجل مسلم استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ليجمع الصدقات من الناس، فلما قدم الرجل وكان رجلاً صادقاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هذا لكم وهذا أهدي إلي).
وهذا الرجل أول مرة يجمع الصدقات كلها، حيث إنه لا يعرف الحكم، ومن الناس من يأخذ منه الصدقة فيقول له: خذ هذا الخروف زكاةً وخذ هذا هدية لك.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر سيتفشى إلى غيره، ومن الممكن أن هذا وغيره يطمع، إذاً: لابد من حكم عام للناس.
فجمع النبي صلى الله عليه وسلم الناس وقام يخطب فقال بعدما حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي).
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي استعمله، فكيف يقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي؟ فنحن نلاحظ أن العامل على الزكاة فرض الله عز وجل له حقاً في كتابه، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] فالعامل عليها له الأجرة من ضمن الزكاة، فطالما ستأخذ أجرة فلا تأخذ فوقها هدية.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً).
وهذه كلمة شديدة، والمعنى: أنك لو قعدت في بيت أبيك وأمك واشترطوا عليك ذلك فلا أحد من الناس سيعطيك، فنقول: نحن استعملناك في أموال المسلمين، فلولا هذا الاستعمال لما أعطاك هذا الشيء، ولكنه أعطاك؛ لأنه يريد أن لا تظلمه، فيعطيك لتكف عنه شرك.
فعلى ذلك لا ينبغي للعامل على الشيء أن يأخذ مالاً ولا رشوة تحت أي صورة من الصور، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هدايا العمال غلول)، وقال صلى الله عليه وسلم: (والله لا يأخذ أحد منكم شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة).
وفي حديثه الذي ذكرنا: أن الذي يظلم قيد شبر من الأرض يأتي حاملاً له يوم القيامة في عنقه، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: (فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء)، يعني: يحذرهم.
وهذه فضيحة كبيرة جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى أحداً منهم كان في الدنيا عاملاً أميناً ويجده يوم القيامة خائناً، فهو يقول: (لا أعرفن)، أي: لا تفضحوا أنفسكم وتفضحوا دينكم وتفضحوا نبيكم صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة.
لذلك كانوا رضي الله عنهم يحاولون أن يستمروا على نفس الأخلاق ونفس الأعمال، فإذا كبر أحد منهم في السن، ويحاول أن يواظب على ما كان عليه يقولون له: أن لا يشق على نفسه، فيقول: لقد كنت من النبي صلى الله عليه وسلم على شيء أخاف أن ألقاه بغيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فلا أعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء)، الرغاء: صوت البعير: (أو بقرة لها خوار)، صوت البقرة: (أو شاة تيعر)، أي: كأن الفضيحة كبيرة يوم القيامة؛ لأن الإنسان لا يحمل جملاً ساكتاً، وإنما هذا الجمل يرفع صوته وله رغاء، فيفضح صاحبه أمام الناس ويعرفون أنه كان خائناً في الدنيا.
(أو بقرة لها خوار)، فالبقرة تخور وتصرخ من أجل أن تفضحه يوم القيامة، وأي فضيحة أشد من هذه الفضيحة والعياذ بالله، لذلك فالإنسان قبل أن يقول: فلان يعطيني هدية ويمد يده ليأخذها يذكر هذا الحديث، وأنها إذا كانت هدية أو رشوة سيأتي يوم القيامة وهو يحملها ويفضح بها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(3/9)
شرح رياض الصالحين - تحريم الظلم والأمر برد المظالم [3]
لقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه وجعله محرماً بين عباده، فالظلم ظلمات يوم القيامة، يؤخذ من حسنات الظالم فتعطى للمظلومين، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه فطرح في النار والعياذ بالله، ولذلك كان من صفات المسلم أن يسلم المسلمون من لسانه ويده، فعلى المسلم أن يتحلل من المظالم في الدنيا كي ينجو في الآخرة.
(4/1)
وجوب التحلل من المظالم في الدنيا
الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) متفق عليه.
هذه أحاديث أخرى من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله في باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم، وقد ذكرنا آيات من كتاب الله عز وجل في تحريم الظلم، وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن الأحاديث هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء) عند الإنسان لأخيه مظلمة، بأن ظلم أخاه يوماً مظلمة واحدة لا بد أن يتحلل منه، قال صلى الله عليه وسلم: (فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم).
يعني: لا بد أن يتدارك نفسه فالدنيا تمر وتزول، ويوم القيامة يوم العدل والحساب، الذي لا يؤدي الحقوق في الدنيا فسيؤديها يوم القيامة، وفي الدنيا سيؤدي المال مالاً ويمكن أن يعفو غريمه ويسامح، أما يوم القيامة فسيؤدي المال من حسناته.
والمفترض أن الإنسان يحتفظ بحسناته؛ لأنه لا يدري هل حسناته ستكفي بأن يدخل الجنة أو لا تكفي، وربنا أنعم على العبد بنعم لابد أن يشكر الله عز وجل عليها، يا ترى هل الأعمال التي عملها العبد تساوي شكر هذه النعم؟ قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، إنما يدخل بفضل الله وبرحمته سبحانه).
فنعم ربنا تترى على عباده، ومهما عمل الإنسان من عمل فلن يوفي شكر هذه النعم، فهو غير قادر على أن يوفي شكر هذه النعم، وأيضاً قد يظلم الغير ولا يدري أن هذا الغير قد يسامحه، أو أنه يأتي يوم القيامة ويقول: هذا ظلمني أريد حقي من فلان! قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء)، قدم العرض لأنه أكثر مظالم الناس فيه، والعرض شيء معنوي، وهو محل المدح أو القدح، فعرض الإنسان كأن يقول: فلان كذاب، ففي هذه الحال طعن في عرضه.
وكذلك إذا قال: فلان مفتر فلان يأكل الرشوة فلان ظالم فهو يطعن في عرض هذا الإنسان، ومن ضمن الطعن في العرض أن يقول: فلان زان فلان يقذف المحصنات الغافلات فلان يفعل كذا.
من المظلمة في العرض: الغيبة والنميمة، بأن ينقل كلاماً من شخص لشخص، ويفسد فيما بينهما، فهذا من الطعن في عرض إنسان للإفساد بينهما، فهذا من ضمن المظالم التي سيدفع ثمنها يوم القيامة.
قال صلى الله عليه وسلم: (من كانت عنده مظلمة من عرض أو من شيء) فـ (شيء) هنا نكرة في سياق الشرط فتعم، فمعناه: حتى لو كان شيئاً ليس له قيمة فسيحاسب عليه العبد يوم القيامة.
أحياناً بعض الناس قد يتساهل في أمر المظالم في الأشياء التافهة، فقد يقول لك: أعطني القلم أكتب به، فيكتب ثم يضعه في جيبه، ثم يقول: أنا سأبحث عن صاحبه وأعطيه، وانتهى الأمر ولم يعطه؛ لأنه لا يوجد أحد يتابع بعده.
فهذه الأشياء التافهة هي من ضمن المظالم، فأنت ما يدريك أن صاحبه موافق على أخذه، ولعلك تأخذ الشيء فيقول صاحبه بعد ذلك: لن أعطي أحداً شيئاً؛ لأنهم يأخذونها ولا يردونها، وتقول للإنسان: أعطني قلمك أكتب، فيقول لك: لا تنسه وتضيعه مثلما عمل الذي قبلك.
فأنت قد تستهين بالشيء وتمنع خيره غيرك، بغض النظر عن أنك ستؤديه يوم القيامة كما سنرى في بعض الأحاديث، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (قبل أن لا يكون دينار ولا درهم).
ورأينا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم كيف أنه خطب الناس وقال: (من كنت ظلمته في عرضه أو ماله فليستقد)، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الشيء وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فغيره أولى أن يتحلل من الناس في شيء من عرض أو مال أو في الجسد أو غير ذلك، قبل أن يؤخذ منه حسنات يوم القيامة.
(4/2)
حقيقة المفلس عند الله عز وجل
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، فيأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار).
المفلس في الدنيا قد يكون معذوراً، والمفلس يوم القيامة ليس له عذر، والصحابة لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن سؤال استفهام، وإنما سألهم من أجل أن يشوقهم إلى معرفة
الجواب
( أتدرون من المفلس؟)، فأجابوا بما يعرفون: المفلس الذي لا دينار له ولا متاع، فهذا وإن كان في الحقيقة هو المفلس في الدنيا، ولكن ليس هذا هو جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الذي يريده، لأن الدنيا تزول والآخرة باقية.
المفلس في الدنيا ربما حصلت له ظروف حتى أفلس كمرض أو مصيبة أو صارت عليه ديون، وربنا أعلم بحال هذا الإنسان أنه كان ينوي سداد الديون ولكن ليس لديه حيلة، فهو معذور عند الله تبارك وتعالى، وقد يوفي الله عنه ما كان عليه في الدنيا.
لكن هذا الآخر الذي جاء يوم القيامة وهو مصلٍ مزكٍ وصائم قد عمل حسنات كثيرة، لكن لسانه يستطيل في الأعراض، فإذا جاء يوم القيامة وقد اغتر بصلاته وصيامه وأعماله إذا به قد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا.
فيأتي هؤلاء الذين ظلمهم يوم القيامة كل واحد يريد حقه من هذا الإنسان عند الملك الحق سبحانه وتعالى، وحينئذٍ فلا ينفع الإنسان الاعتذار بأنه كان متهوراً أو نحو ذلك، ففي الدنيا يعرف الإنسان يقول هذا الشيء، ويعرف يغالط الذين حوله.
الإنسان يقف بين يدي الحكم العدل سبحانه، أو ما قال لنا: {وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]؟ فهذا هو القضاء المحكم المبرم العدل المطلق عند الله رب العالمين، ولم يبق إلا أن تدلي بحجة صحيحة، أما مسألة أنك سريع الغضب فلا يقبل هذا العذر، يأتي أهل النار يوم القيامة يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} [المؤمنون:106].
كتب علينا الشقاء يا ربنا: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} [المؤمنون:106 - 107] كان
الجواب
{ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] يعني: اقعدوا مثل الكلاب في النار! (اخسأ) كلمة تقال للكلب عندما يزجر، وكأن هؤلاء لما أتوا يعتذرون: يا رب! القضاء والقدر، كان الجواب الذي يستحقونه: كونوا مثل الكلاب في نار جهنم، اخسئوا فيها ولا تكلمون! فلا تنفع عند الله إلا الحجة الصحيحة من إنسان مؤمن، يلقى ربه بقلب سليم.
فهذا المفلس الذي يأتي يوم القيامة تصحبه حسرة شديدة جداً؛ لأنه جاء بحسنات مثل الجبال وإذا بها تذهب أمام عينه فيقال له: أنت شمت فلاناً! خذ من حسناته، وأنت أخذت من فلان! خذ من حسناته، حتى تنتهي حسناته، ثم يقال لخصمه: هات من سيئاتك واطرحها عليه، وهكذا، حتى إذا ضاعت جبال الحسنات وبقي فوقه من السيئات الكثير ألقي في النار والعياذ بالله! لذلك عندما يحس المؤمن أنه سيفلت بلسانه يتذكر وقوفه يوم القيامة، وأنه سيؤخذ من حسناته لمن ظلمه وسبه، فإنه يمسك لسانه حتى لا يأتي مفلساً يوم القيامة لأنه أغضبني في الدنيا أمسك لساني ولا آتي مفلساً يوم القيامة كهؤلاء المفلسين والعياذ بالله!
(4/3)
المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده).
المسلم هو الذي يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقيم الصلاة، ويؤدي الزكاة، ويصوم رمضان، ويحج البيت، فهذه هي أركان الإسلام، وهذه أفعال المسلم الذي يعتبر بها مسلماً، ولكن ما هي صفاته النفيسة وصفاته المعنوية والعملية؟ فأخبر النبي أن من صفاته يسلم المسلمون من لسانه ويده.
فالمسلم لله عز وجل مسالم للخلق، متواضع لله، ولذلك فالناس في سلامة منه وأمان، لا غدر ولا خيانة، ولا يضرب ولا يشتم، فهذا هو المسلم حقيقة، المسلم من سلم المسلمون من لسان ويده.
ثم ذكر المهاجر ولم يقصد به من هاجر من مكة إلى المدينة، فقد انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وكأن المهاجر حقيقة: هو الإنسان الذي لا يعصي الله تبارك وتعالى، فذكر أن المهاجر هو المسافر إلى الله حتى يصل إلى رحمة الله وجنة الله سبحانه.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -عند البخاري - رضي الله عنه قال: (كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له: كركرة، فلما مات قال: هو في النار).
الرجل يخدم النبي صلى الله عليه وسلم والجزاء أنه في النار، فما الذي أودى به في النار وقد كان في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال لنا هنا: (هو في النار)، فذهبوا يفتشون ما الذي وراء كركرة هذا؟ فوجدوا عباءة قد غلها، يعني: سرق من الغنيمة عباءة، ما هي قيمة هذه العباية؟ لا شيء! لكنه دخل النار لأنه سرق من مغانم المسلمين، وهذه من الكبائر، فضيع أخراه بأنه مد يده في شيء محرم.
وفي حديث آخر ذكر أن هذا الرجل ما مات فقط بل قتل فقالوا: هنيئاً له الشهادة! فهو شهيد في نظرهم حيث جاء له سهم فقتله، فقالوا: هنيئاً له الشهادة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلها لتلتهب عليه ناراً).
(4/4)
حرمة حقوق المسلمين
(4/5)
شدة العقاب على أخذ حقوق الناس
خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفيها قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا).
هذا الكلام لمن يعقل الشهر الحرام والبلد والحرام، في مناسك الحج والإحرام يقول لنا: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)، كحرمة هذا اليوم العظيم يوم الحج الأكبر، في هذا الشهر ذي الحجة، في هذا البلد الحرام، فمن يعقل يعرف أن هذا اليوم يوم عظيم جداً، وحرمة هذا اليوم شديدة يقول لك: حرمة المسلم كحرمة هذا اليوم.
وطالما أنا أعرف أن للمسلم حرمة إذاً كيف أقع في حرمة المسلم؟ كيف أغتابه؟ كيف أفسد بينه وبين غيره؟ كيف أتحمل مظلمة آتي يوم القيامة يسألني الله عنها، ويفضح الله عز وجل الظالم بسببها؟ من الأحاديث حديث عدي بن عميرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه كان غلولاً).
المخيط: الفتيلة التي تدخل في الإبرة، يا ترى كم قيمتها؟ الإنسان قد يعمل في مكتبة ثم يأخذ دبوساً من المكتب يدبس به الورق التابعة له، ثم ترمى، فهو مسئول على ذلك عند الله عز وجل.
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الذي نستعمله على عمل يأخذ منه إبرة أو مخيطاً فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة، والغلول قد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم أشد من السرقة.
فقام رجل أسود من الأنصار وقال: يا رسول الله! اقبل عني عملك، نحن تعودنا على المبالغة في الكلام، فكل إنسان يظن في نفسه أنه أمين، وأنه سيؤدي ما أمر الله عز وجل به، لكن هذا الرجل فهم أنه إذا كانت الإبرة سنعاتب عليها فأنا ممكن أنسى شيئاً أو آخذه دون تعمد، فقال: اقبل عني عملك هذا، لا أريد أن أشتغل لك في شيء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومالك؟ قال: سمعتك تقول: كذا وكذا.
فقال له: هو ما قلت، أي فإن استطعت أن تعمل دون أن تمد يدك ولا على إبرة فاعمل، وهنا لم يستح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له ذلك.
وانظر إلى حديث وفد الأشعريين، فقد كانوا أناساً طيبين جداً! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم بأشياء تدل على أنهم أهل تكافل وتعاون فيما بينهم، يأتي اثنان منهم مع أبي موسى الأشعري إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بهم يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعملهم عنده على الصدقات أو على غيرها، فيقول لهم: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه).
يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أنه يختار شخصاً أميناً نقياً على جمع الصدقات من الناس ويوزعها، فهذا أمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي اختاره، أما أن يذهب شخص إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: استعملني، فلا.
فكان هذا الجواب الشديد: (أخونكم عندنا من طلب العمل)، يعني: أكبر خائن عندي الإنسان الذي يأتي إلي يقول: استعملني على هذه الأشياء، وقال: (إنا لا نولي هذا العمل من طلبه)، صلوات الله وسلامه عليه.
(4/6)
جرم من أخذ حق الغير كاذباً
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع).
هذا قضاء القاضي في الدنيا، يقول الفقهاء: إن حكم القاضي لا يغير من باطن الأمر شيئاً، حتى لو كان هذا القاضي النبي صلى الله عليه وسلم.
النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بالظاهر، لكن الذي يأتي يشتكي قد يكون كذاباً في الذي يقوله، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض)، يعني: يأتي إلي اثنان يختصمان أحدهما يعرف كيف يتكلم والثاني لا يعرف؛ فأقضي أنا حسب ما أسمع وحسب الشهود الذين أمامي، ولكن في باطن الأمر قد يكون الذي قضيت له كذاباً، يا ترى فهل تغيرت القضية؟
الجواب
لا.
حتى لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا المال، فليس من حقه أن يأخذ هذا المال وليس ملكه.
فيقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار).
يعني: الذي أعطيه مال أخيه وهو عارف أنه سيأخذ المال ظلماً، فهذا يأخذ قطعة من النار والعياذ بالله!
(4/7)
تعظيم الدم الحرام
ومن الأحاديث حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً).
إصابة الدم الحرام إما بالقتل وإما بالجراحات، بأن يقتل شخصاً ظلماً وعدواناً أو يعتدي على إنسان فيجرحه ظلماً وعدواناً.
فهنا الإنسان لا يزال في فسحة، يعني: أمامه توبة، والله سبحانه وتعالى يغفر له، إذاً: حتى يقع في هذه المصيبة وهو ما زال في فسحة من دينه.
توجد رواية أخرى للحديث فيها: (فإذا أصاب دماً حراماً بلح)، يعني: انقطع وأعيا، فيبحث عمن يرفعه بعد ذلك، فهو يقول: اخش على نفسك من أن تظلم أحداً من الناس في عرضه أو ماله أو بدنه.
(4/8)
استحباب ترك الانتصار للنفس
ترفع بنفسك أن تقعد في مكان فيه الشيطان، قم واترك خصمك إن كنت تخشى الله ولا ترد على هذا الإنسان، جاء عن أبي هريرة في حديث حسن رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده: أن رجلاً شتم أبا بكر وهو قاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ يشتم في أبي بكر رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحي، وفي الحديث: (إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)، فالنبي صلى الله عليه وسلم له مهابة عظيمة فكون شخص يقعد أمامه ويشتم الصديق رضي الله عنه هذا معناه أنه إنسان سفيه.
ولكن حصل أن جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويتبسم كيف أن هذا يشتم أبا بكر وأبو بكر ساكت؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يعجب لهذا الإنسان الذي لا يستحي، فلما أكثر كأن أبا بكر فهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممكن أن يرد عليه وينتصر لنفسه.
فلما رد أبو بكر غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام وترك الجلسة، فقام أبو بكر ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله قمت؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه كان معك ملك يرد عنك)، يعني: أن أبا بكر قاعد ونزل الملك من السماء يرد على الذي يشتم.
الصفة التي قالها هذا الشخص لـ أبي بكر لا ترجع فيه، لكن الصفة التي قالها الملك في الإنسان الآخر يأتي بها يوم القيامة؛ لأنه ظالم.
فقد كانت جلسة فيها أبو بكر رضي الله عنه وفيها الملك وفيها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بدأ أبو بكر يرد عليه هنا صعد الملك وجاء الشيطان ليحضر من أجل أن يزيد الخصومة؛ فما كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس في جلسة فيها الشيطان.
قال: فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره)، يعني: عكس ما يتوقع في العادة، فاله سبحانه سينصرك ويعزك بشرط أن تكون قد تركت ذلك لله سبحانه وتعالى، وابتغاءَ مرضاة الله، فسكت عن هذا الإنسان، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: (ثلاث كلهن حق: ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله عز وجل إلا أعز الله بها نصره).
يعني: نصره نصراً عزيزاً، لذلك يخبرنا المصطفى أن نصبر ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى.
ثم يقول: (وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة)، فهذا حق جعله الله عز وجل لهذا الإنسان، أنه يحقق له الوعد الذي في هذه الأحاديث، الأول الشخص المظلوم الذي يغضي عن الظالم ابتغاء وجه الله، فينصره الله نصراً عزيزاً يوماً من الأيام، ورجل فتح باب عطية ليعطي الفقير أو المسكين الذي له قرابة، يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة.
يعني: ربنا وعد أنه سيزيد مال هذا الإنسان ويبارك له فيه.
الثالث: قال صلى الله عليه وسلم: (وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة)، هو لا يطلب لأنه محتاج، ولكنه يستكثر لأنه يرى أنه يحصل على مال كثير بمد يده للناس، فهو أفضل من أن يشتغل موظفاً أو عاملاً.
فهو هنا يريد أن يكثر ماله بذلك، فلا يريد الطعام والشراب، وإنما يريد الاعتماد على سؤال الناس للاستكثار، فهذا سيكون حظه: إلا زاده الله بها قلة، يفقره ويجعل فقره بين عينيه، سيظل فقيراً حتى ولو كان معه مال، وسيظل لباسه مرقعاً مثلما هو كأن الله جعل الفقر في قلبه.
فالمقصود من الحديث: أن الإنسان إذا ظلم فأمسك نفسه فلينتظر النصر من الله سبحانه، والنصر يأتي لأصحاب العزيمة العظيمة القوية الذين لهم الثواب الكبير عند الله تبارك وتعالى، ولذلك فالمسلم دائماً يطلب الأشياء العالية، فإذا أراد الفردوس الأعلى من الجنة فلا بد من الصبر والتحمل للخلق وطلب مرضاة الخالق تبارك وتعالى، ليصل العبد إلى رحمة الله ورضوانه.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(4/9)
شرح رياض الصالحين - تعظيم حرمات المسلمين
قلب المسلم لكل الناس سواء، ملؤه الحب والاحترام والتعظيم، يراهم أرفع منه وأعلى، يسير معهم في الباطن كما هو معهم في الظاهر، ينصح لهم ويقبل نصيحتهم.
(5/1)
حق المسلم على المسلم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تعظيم حرمات المسلمين.
وعن أبي عمارة البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام.
ونهانا عن خواتيم -أو تختم- بالذهب، وعن شرب الفضة، وعن المياثر الحمر، وعن القسي، وعن لبس الحرير والإستبرق والديباج)، متفق عليه].
ذكرنا فيما مضى نبذة عن تعظيم حرمات المسلمين، وبيان حقوقهم، والشفقة عليهم ورحمتهم.
وحرمات المسلمين مأمور كل مسلم بأن يراعيها، وفي الحديث: (كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)، فالمسلم محرم على المسلم أن يسفك دمه، أو ينتهك عرضه، أو يأخذ ماله.
ومن الأحاديث التي سبقت في الباب: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
يكون الإنسان المسلم عوناً لأخيه، ولا يكون عوناً للشيطان عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشبه المسلمين بالبنيان يشد بعضه بعضاً، فكل إنسان من المسلمين له وظيفة في المجتمع، وهو مع باقي المسلمين يوقنون بوجود الله سبحانه وتعالى، وفيما بينهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لذلك أخبر أن المسلم له حقوق على المسلمين كما أن عليه واجبات، فواجبات الإنسان المسلم في العبادات، في المعاملات، في الأحول الشخصية، في الجنايات يفعلها، كذلك للمسلم حقوق يذكرها هنا النبي صلى الله عليه وسلم.
(5/2)
النجش في البيع حرام
منها قوله: (لا تناجشوا)، المسلم له حق عليك، وله حرمة، فمن حقه عليك أن تنصح له، ومن حقه عليك ألا تخونه أو تخدعه، ومن ذلك النجش الذي في حديث أبي هريرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض).
المجتمع المسلم مجتمع نظيف، الإنسان عندما يتعامل مع أخيه المسلم يخاف من الله سبحانه وتعالى، يتعامل معاملة نظيفة؛ لأنه يرجو من الله الثواب، ويخاف من الله العقاب.
(لا تحاسدوا)، من حقه عليك أنك تفرح بما أعطاه الله عز وجل من خير، ولا تتمنى زوال النعمة التي أعطاه الله سبحانه.
وقوله: (لا تناجشوا).
النجش هو المزايدة في سعر السلعة بنية عدم الشراء.
الإنسان الذي يبيع سلعة بالمزاد، ثم ينصب من يخدع الناس على أنه يزيد في ثمنها وهو لن يشتريها، إنما يريد أن يضحك على الناس ليغلي عليهم سعر السلعة، هذا هو النجش الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: (الناجش آكل رباً خائن)؛ لأنه يضحك على الناس، ويبيع مالاً بمال ويأخذ الفرق.
هو يدفع مالاً، ولكنه قال: بأحد عشر، فقال الثاني: باثني عشر، فيقول: بثلاثة عشر، وصاحب السلعة يخرج له نصيباً من هذا البيع فهو لم يدفع شيئاًَ وأخذ ربحاً على خديعة الناس.
فالناجش آكل رباً خائن، والربا مؤذن بحرب من الله ورسوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (درهم يأكله الإنسان من الربا أشد من ست وثلاثين زنية).
فهنا قال لنا: (لا تناجشوا، ولا تباغضوا)، فالمؤمن من حقه عليك أن تحبه، ولا تعمل أسباباً تجعل المسلم يكرهك ثم أنت أيضاً تكرهه، ويصبح المجتمع فيه نوع من نفور المسلمين بعضهم عن بعض.
قال: (ولا تدابروا)، وهو أن يوليك ظهره، والمعنى: ولا تتخاصموا بسبب الحرص على الدنيا، مما يولد بغض الإنسان لأخيه، يلقاه في شارع فيمشي من شارع آخر، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لك: لا تكره أخاك المسلم، لا تبغضه، وإن كان يجوز لك أن تبغضه وتهجره بسبب معاص يأتيها، لكن لا ينبغي أن يتباغض المجتمع المسلم على أمر الدنيا، لا تجعل الدنيا تدخل بينك وبين أخيك، تعامل مع أخيك بالحسنى، أعط له ما تحب أن يعطي لك.
إن دين المسلمين محبة دائمة لا تنتهي إلى يوم القيامة، بل إلى أن تدخلوا الجنة، ويحب بعضكم بعضاً، ففي الدنيا ينتفع المسلم بأخيه وبمحبة أخيه، فإذا مات انتفع بصلاته عليه، فإذا كان في قبره انتفع بدعائه له، فإذا كان يوم القيامة انتفع بشفاعته له.
(لا تدابروا)، لا تكن محبة ظاهرة فقط، كما هو بين بعض الناس، يظهر المحبة والتأثر بحال الآخر، هو في الحقيقة لا يهمه إلا نفسه وإنما تلك أمور وقتية فقط، ثم يوليه ظهره وكأن شيئاً لم يكن، أو أن يجمع بينهما أكل وشرب، أو مصالح ومنافع مشتركة تنتهي محبتهما بانتهائها.
المسلم معاملته مع المسلم معاملة محبة؛ لأنه مجبول على المحبة، خلق الله عز وجل في قلبه الرحمة والحنان والمودة، وحب أخيه المسلم، فهو ينصحه لأجل الخير، وليتحول عن الشر إلى الخير، سيدنا معاوية رضي الله عنه قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، إذا أرخوا شددت، وإذا شدوا أرخيت.
في علاقتك بينك وبين أخيك لا تنفره، فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: (إن منكم منفرين)، وقال: (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)، فالإنسان المسلم محب لأخيه الخير، وأن يكون رفيقه في الجنة، وأن يكونا في الدنيا على خير.
لا تكن من النوع الذي يسير مع الإنسان فإذا ذهب أعطيته ظهرك، (لا تدابروا)، بعض الناس يسلم عليك إن كان يعرفك، وإلا فلا، دين الإسلام لم يهذب هؤلاء، فالإنسان يحب الآخر لكونه مسلماً وليس لأنه في الوظيفة أو أنه عال في الرتبة.
(5/3)
تناصح الصحابة وتحابهم في الله
(5/4)
نصيحة معاذ وأبي عبيدة لعمر بن الخطاب
كان الصحابة يحب بعضهم بعضاً في دين الله سبحانه وتعالى، يتناصحون ويقبل بعضهم من البعض النصيحة، بل يقول لأخيه: انصحني! هذا عمر بن الخطاب كان ينتصح ويقبل النصيحة من أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه وهو أمير المؤمنين، فقد جاءه خطاب من أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وهما من العشرة المبشرين بالجنة وعمر كذلك رضي الله عن الجميع.
فـ أبو عبيدة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أمين هذه الأمة، وشهد لـ معاذ بن جبل أنه أعلم أمته بالحلال والحرام، وقال له: (يا معاذ! إني أحبك)، أسلم معاذ وعمره ثماني عشرة سنة، وشهد بيعة العقبة، ومات بعد ذلك في طاعون عمواس سنة سبعة عشر أو ثمانية عشر وعمره ثلاثون سنة رضي الله تعالى عنه.
هذا الشاب الصغير رضي الله عنه أحبه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا معاذ! إني أحبك)، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تدعن عقب كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك وحسن عبادتك)، وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر أنه يسبق العلماء يوم القيامة برتوة.
الغرض: أنهما كتبا لـ عمر: سلام عليكم، أما بعد: فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، يعني: نحن كنا أصحاباً لك، ونعلم أنك تهتم بنفسك خائف عليها من النار ومن عقوبة الله سبحانه.
وقد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! إنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتجف فيه القلوب، وتنقطع فيه الحجج لحجة ملك قهرهم بجبروته يوم القيامة، والخلق داخرون صاغرون أذلة يرجون رحمته ويخافون عقابه، وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها إلى أن يكونوا إخوان العلانية أعداء السريرة -أي: كل واحد مصاحب للآخر في الظاهر، لكن في قلبه يتمنى له الشر- قالا له: وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا.
أي: نعوذ ونستجير بالله أن تظن بنا ظن السوء، أو أن الكتاب تأخذه ثم ترميه ولا تعتبر بما فيه، فإنا كتبنا نصيحة لك والسلام عليك.
هذه النصيحة من معاذ وأبي عبيدة لـ عمر رضي الله عن الجميع، ثم كان الرد من عمر أن كتب إليهما رضي الله عنه، فقال: من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل: سلام عليكما، أما بعد: فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما تحباني، وأمر نفسي ليهم، وإني قد أصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يدي الشريف والوضيع والعدو والصديق، ولكل حصة من ذلك، وكتبتما: فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! فهو يبين لهم أنه قرأ كتابهما، واهتم بما فيه، واحتفظ به، وكان فيه: وأنه لا حول ولا قوة عند ذلك لـ عمر إلا بالله.
يعني: لا حيلة لي إلا أن يعينني الله على ذلك.
وكتبتما تحذراني مما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد، ويبليان كل جديد، ويأتيان بكل موعود، حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
كتبتما تذكراني أنكما كنتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، يعني: أن كلامكم طيب وجميل، ولن نكون نحن أصدقاء في العلانية وأعداء في السريرة.
قال: وليس هذا بزمان ذلك، بل زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، وما زال الناس بخير يرغبون فيما عند الله سبحانه، ويخافون من بطش الله سبحانه.
كتبتم هذه نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتباكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكم، وأنا أنزلها في المنزل الذي أنتم أردتم، وقد صدقتما الأمر، قال: فلا تدعا الكتاب إلي فإنه لا غنى بي عنكما.
يعني: هذه نصيحة جميلة، وأنا حفظتها، بدليل أني كتبتها إليكم مرة أخرى.
هذا عمر رضي الله تعالى عنه، الذي كان يهتم لأمر نفسه، ويخاف من الله سبحانه وتعالى.
يقول حذيفة: دخلت مرة على عمر وهو جالس يحدث نفسه، ويؤنب نفسه، ويعاتب نفسه، فجلس بجواره حذيفة رضي الله تعالى عنه وقال له: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر: بيده وأشار لنفسه، يعني: نفسه هي السبب الذي جعله يصنع هكذا.
فقال: والله لو رأينا منك أمراً ننكره لقومناك.
فنظر إليه عمر وقال: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: تحلف بالله الذي لا إله إلا هو على ما قلت، وأنكم لو رأيتم مني أمراً تنكرونه لقومتموه؟ فقال حذيفة: فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو، يعني: نحلف بالله إنك لو أخطأت لقومناك.
قال: ففرح بذلك فرحاً شديداً.
كأنه كان يكلم نفسه محتاراً ومهموماً أن يكون هناك من هو خائف منه فلا ينصحه، فـ عمر فرح بذلك، وعلم أنه على صواب رضي الله تعالى عنه، وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من إذا رأى مني أمراً ينكره قومني.
الإنسان يقبل النصيحة ممن ينصحونه فيقبل منهم، لا يقول: أنت تحسدني؛ لأني أمير وأنت أقل مني، لم يقل هذا رضي الله عنه، لذلك لما فتح الله له الدنيا ما كان يأخذها ويحوزها ويقول: هي لي أتصرف فيها كما أريد، بل ينظر إليها ويبكي، فيسأله عبد الرحمن بن عوف عن سبب بكائه، ولماذا لا تفرح بنعمة الله؟ لكن عمر رضي الله عنه يقول: ما فتح هذا على قوم إلا سفكوا دماءهم، وقطعوا أرحامهم.
ثم يقول لأحد من الجالسين: أرحني منها.
أي: وزع هذه الأموال على المسلمين، ويقسم المال بين المسلمين بحسب منازلهم ومراتبهم، ويعطي لابنه كما يعطي لآحاد المسلمين.
(5/5)
موقف عمر من المسلمين في قسمة المال
كان عمر رضي الله عنه يمشي مرة فرأى طفلة صغيرة في الشارع، وكانت تمشي قليلاً وتقع، وكانت ماشية مع عبد الله بن عمر، فغضب ونظر إلى عبد الله بن عمر فقال: ابنة من هذه؟ إنه قد ضيعها أهلها! قال: إنها ابنتك.
قال: أي بناتي؟ قال: بنت عبد الله بن عمر، يعني: بنتي، أنت لا تعطينا كما تعطي الناس، فهي لا تجد ما تأكل، وعمر شهد بذلك، وقال: البنت هذه أهلها ضيعوها.
فجعل عمر ينظر نظرة ليست نظرة الأب ولا نظرة الجد، ولا نظرة الشفقة والرحمة، ولكن نظرة الحاكم العادل، فقال له: وما يمنعك أن تكسب لها، والله لا أعطيك إلا كما أعطي آحاد المسلمين.
يعني: فاذهب واشتغل، لكن نصيبك في بيت المال مثل نصيب آحاد المسلمين، فرضي الله تعالى عن عمر.
هنا تظهر شدة عمر التي جعلت الناس يجبونه، كان شديداً في الحق فأحبه الناس رضي الله تبارك وتعالى عنه، لذلك لما قتل عمر ما من مسلم من المسلمين إلا بكى كأنه مات له أخوه أو ابنه أو قريبه، كل بيوت المسلمين؛ لأن شدته عليهم كانت لمصلحتهم، لخوفه عليهم رضي الله تعالى عنه، عرف حقوق المسلمين، وعرف الواجب عليه، فأعطى الحقوق وقام بالواجبات رضي الله تعالى عنه.
(5/6)
المسلم أخو المسلم يعينه ولا يخذله
(المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله).
فالمسلم لا يظلم المسلم، ولكن تجد أن بعض الناس يبحث عن أي وسيلة يكسب بها من أخيه، أو يخدعه ليأخذ ما معه من المال، فالطمع الذي في القلوب كثيرين من الناس جعل الواحد ينظر إلى الثاني ويحاول أن يأخذ ما معه من مال، فتجده يقول لأخيه: أعطني مالك أشغله لك، وليس همه أن يكثر هذا المال الذي مع أخيه، وإنما همه أن يكسب لنفسه، وفي النهاية تجده يقول: المال خسر، وليس لي حيلة ونحو ذلك.
هذه هي أحوال المسلمين الآن، فلذلك المسلم يجب أن يعرف أن عليه واجبات يفعلها، وأن له حقوقاً يأخذها، أما أن تعرف حقوقك لكي تأخذها، ثم لا تؤدي الواجبات التي عليك فتكون بذلك قد تركت شيئاً من دين الله سبحانه، بل شيئاً عظيماً منه.
فالمسلم لا يظلم المسلم، ولا يحقر المسلم، لا تدري هذا الذي تحقره ما رتبته عند الله، فلا تنظر إلى الإنسان أنه كبير في المقام، وأنه كبير في الشغل، وأنه رئيس مجلس إدارة، فلا تجعل التعظيم بالرتبة والمقام، بل لابد أن تكون نظرتك للإنسان على أنه مسلم، والمسلم حقه أن توقره، وأنك تكون معه، وأن تحترمه غنياً كان أو فقيراً، ولعل الفقير أولى بأن تحترمه من الغني؛ لأنه مقدم على الغني يوم القيامة؛ لأنه أحب إلى الله عز وجل من الغني، فهو يسبق الغني بنصف يوم، ولذلك الصحابة كانوا يحبون الفقراء، وعبد الله بن عمر كان لا يأكل إلا بعد أن يبحث عن فقير يأكل معه.
ولن تكون مثل عبد الله بن عمر، ولكن على الأقل احترم الإنسان لكونه إنساناً، لكونه مسلماً، تحترم فيه إسلامه، تحترم فيه رأيه، فبين المسلمين التواضع وبينهم المشورة، ألا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، يعني: لا يقول له: أنا معك، ثم يخذله، ولا يقول: أنا سآتي أشهد معك، ويوم المحكمة يتركه ويمشي ويقول: لا أعرفك.
فهنا المسلم يكون مع المسلم في وقت شدته أكثر من وقت رخائه، أنا أنفعك الآن فننتفع سوياً في قبورنا ويوم القيامة، يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم)، لا تحتقر أحداً من المسلمين، فلا تدري فلعل إعجابك بنفسك وتحقيرك لغيرك يحرمك من نعم أنت تحبها، فلا تنظر لإنسان وتزدريه لأن ثيابه مقطعة ومرقعة، فإنك لا تعرف ماذا يعمل فيك ربنا يوماً من الأيام، فتواضع لله عز وجل، وانظر إلى المسلمين على أن الكل إخوة لك، الكل تحبهم في الله سبحانه وتعالى، حافظ على نفسك، وحافظ على غيرك، واعلم أنه من لم يكن يرحم الناس في الدنيا لا يرحمه الله عز وجل يوم القيامة.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(5/7)
شرح رياض الصالحين - ستر عورات المسلمين
لقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بستر عورات المسلمين، والتحذير من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وما ذاك إلا لأن ستر العورات به يسلم المجتمع من شيوع الفواحش وانتشارها بين الناس، وإشاعة الفاحشة تأتي بالشر والفساد وخراب المجتمعات.
(6/1)
ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها
(6/2)
النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ستر عورات المسلمين والنهي عن إشاعتها لغير ضرورة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)، رواه مسلم.
وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه).
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر)، متفق عليه].
مما دعا إليه الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أمر الإنسان بالستر على نفسه، وعلى غيره، ولا يجاهر بالمعاصي فيفضح نفسه، فإن الذي يفضح نفسه في الدنيا يفضحه الله عز وجل يوم القيامة، والذي يستره الله عز وجل في الدنيا يستره يوم القيامة بفضله وإحسانه سبحانه وتعالى.
يقول الله عز وجل في سورة النور: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور:19].
(تشيع الفاحشة) عكسها: تستر الفاحشة ولا تتفشى بين الناس، ولا تعرف ولا يطلع عليها أحد، فالله ينهى عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [النور:19]، الذين يحبون هذا الشيء هم الفسقة والكفرة والمجرمون، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وإذا فعل الذين آمنوا هذه الفاحشة فلن يوجد أحد ينهى عنها، مثلما فعل بنو إسرائيل وارتكبوا الفواحش، ووقع فيها كبارهم وشرفاؤهم، فضيعت حدود الله عز وجل، وما بقي أحد ينكر على أحد.
فهنا الذي يحب أن تشيع الفاحشة هو صاحب فاحشة، يريد أن يفعلها فلا تُنكَر عليه، وحتى لا تنكر عليه يأتي هو وغيره ويشيع الفاحشة بين المؤمنين حتى يفعلوها، وحتى يتحدثوا بها، وحتى يسهل أمرها عليهم، فهم يحبون أن تشيع الفاحشة.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) أي: يتمنى أن تشيع الفاحشة بين الناس حتى يفعلها ولا ينكر أحد عليه ذلك، فكيف بمن يشيعها ويمارسها؟ الأول لعله لم يفعل، ولكن أحب أن تنتهك حدود الله عز وجل، وأحب أن تشيع الفاحشة من زنا وغيرها بين الناس، فهذا الذي أحب ذلك له عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والذي أشاعها قولاً وفعلاً بين الناس هذا أولى بهذه العقوبة والعياذ بالله! إشاعة الفاحشة تكون بالقول، كإنسان يستسهل الكلام عن القبائح، وعن الفضائح والرذائل، وعن أمر الزنا، وعن أمر اللواط، ونحو ذلك، يتكلم ويحكي هذه الأشياء لغاية ما، ومن ثم يبقى سماعها عند الناس أمراً سهلاً فلا ينكر أحد منكراً من المنكرات، فهؤلاء {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، الله يعلم ما الذي يصلح خلقه، ولذلك أمرنا بالستر ونهانا عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} يعلم أخلاق الكفار، من حبهم لإشاعة الفاحشة، وأخلاق الفسقة وما في قلوبهم، ولذلك حذركم من الفريقين، وأخبركم أنه لن يرضى عنكم هؤلاء الكفار حتى تكونوا مثلهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].
ونهانا عن تولي الكفار والمشركين وقال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51].
فهؤلاء الفسقة الذين يحبون المعاصي والفواحش ويفعلونها، ويريدون أن يسكت المسلمون عليها، يحذرنا ربنا سبحانه وتعالى أن نكون مثلهم، ويحذرهم بأن لهم العذاب الأليم في الدنيا وفي الآخرة، فقد تأتي عقوبة الله عز وجل لهؤلاء في الدنيا، فقد يذيقهم المرض في الدنيا, ويذلهم أمام الناس، انظر للممثلين والممثلات والراقصات وغيرهم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، الذين يتشدقون بالفسق ويسمونه فناً، وبعد ذلك تكون آخرتهم آخرة سوداء يعلمها الله تعالى، فتجد الرقاصة ومعها مال كثير وبعد فترة قليلة إذا بها تفلس، ولم تعد تجد ثمن الدواء الذي تتعالج به.
(6/3)
الستر على المسلم الواقع في المعصية
أما المؤمنون فقد أمر الله عز وجل بأن يستر المسلم على أخيه ما دام الذي وقع في المعصية يستر على نفسه.
أما الذي يجاهر بالمعاصي، يبيت الليل يفعل معصية، ثم يصبح يتحدث عنها ويفتخر بها، فهذا يستحق أن يقام عليه حد الله سبحانه وتعالى، إنما الذي يستر هو الذي يستر على نفسه، وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فإذا وقع إنسان في زلة من الزلات، وأناب إلى الله واستغفر وتاب، فهذا يستر عليه ولا يبكت بهذا الذنب الذي فعله، ولا يفضح بين الناس طالما أنه سيتوب إلى ربه.
وقد جاء في الحديث: (لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة).
(لا يستر عبد عبداً في الدنيا) هذا تذكير بمقام العبودية، وأنك أنت عبد لله سبحانه، وهو عبد لله سبحانه وتعالى.
أحياناً: يرى رجل رجلاً على معصية، فيحدث نفسه أني لابد أن آمره وأنهاه، وبعد قليل يحدث نفسه ويحس بالغرور: أنا أحسن منه وأعلى منه؛ لأنه صاحب معصية وأنا كذا وكذا!! ومن ثم يريد أن يذل هذا الإنسان، ويشدد عليه ويتسلط عليه، فالرسول يقول لك: أنت عبد لله سبحانه، أنت تنفذ أمر الله سبحانه، لا تفرح لأن ربنا سلطك عليه، فقد يسلط عليك غيرك.
هو الآن فعل معصية، وأنت تفرح أنك تأمر وتنهى، وأنك تريد إذلال هذا الإنسان، فلعل الله يسلط عليك من يصنع بك ذلك، فليس أحد معصوماً من المعاصي، لذلك يجب أن تضع نفسك مكان هذا الإنسان، وعامله كما تريد أن تعامل به.
(6/4)
أحوال لا يستر فيها على صاحب المعصية
أستر على الإنسان الذي ستر على نفسه، قد أؤنبه بيني وبينه، قد أزجره أشد الزجر بيني وبينه، لكن لا أفضحه، فلا يفضح الإنسان إلا إذا كان مجاهراً بالمعاصي، أو إذا كانت معصيته ستؤثر في الناس، ويحصل فيهم بسببها بلاء، وضررها يتعدى إلى الغير، ففي هذه الحالة لابد من التحذير، كما إذا عرفنا أن فلاناً يدخل بيت فلان وكل يوم يسرق منه شيئاً، فأولاً أحذره وأقول له: لا تسرق، رد المال الذي أخذته من فلان، فإذا رفض ففي هذه الحالة أقول للمسروق منه: فلان سرق منك المال الفلاني، ولم يرض أن يرده إليك.
إذاً: هنا المفترض أني رجل أمين أؤدي النصيحة، فأنصح لصاحب المال الذي سرق منه، وأنصح للإنسان الظالم الذي أخذ المال أن يرده لصاحبه، وقد جاء في الحديث: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، فنصره مظلوماً بأن آخذ له حقه، وهذا الذي أخذ منه الحق مظلوم، ونصره ظالماً: بأن آخذ على يده، وهذا إنسان أخذ مال غيره.
(6/5)
لا يجوز الستر على من سرق مال الآخرين
ذكر أحد الإخوة أنه يعمل مراجع حسابات في مكان ما، والمحاسب الموجود يسرق المال كل يوم، فيقول: لو أخبرت أصحاب الشركة فسيخرجونه، وعنده عيال وأسرة.
فنقول: هذا المراجع أمين على المال، وصاحب الشركة أتى بك من أجل أن يطمئن على حساباته، فأنت أمين لصاحب المكان.
إذاً: في هذه الحالة تأمر هذا المحاسب الذي يمد يده على المال أن يرد المال كله، فإذا رده كله فعليك أن تراقبه بعد ذلك هل ما زال يمد يده ويأخذ المال أم لا، وإذا استمر كما كان فلا فائدة فيه، وفي هذه الحالة قل لصاحب العمل: فلان هذا حرامي أخرجه من هذا المكان؛ لأنك أمين لصاحب العمل، ولولا أنه لا يقدر على إدارة عمله لما أتى بك، فأنت أمين له.
أما أن تستر على هذا الإنسان الذي يمد يده كل يوم ويسرق من هذا المال فلا يجوز، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه لما كان خازناً على زكاة الفطر، فجاء إنسان يسرق من زكاة الفطر، فأمسك به أبو هريرة، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله له: لأرفعك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قال له: استر عليه، أو لماذا لم تستر عليه؟ لأنه أمين قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة هذا المال، وقائم مقام المسلمين في حراسته.
فلما شكا إليه حاجة وعيالاً قام أبو هريرة واجتهد أن هذا المال زكاة الفطر، وسيوزع على الناس المستحقين، ويمكن أن هذا من ضمن المستحقين، فتركه.
إذاً: أبو هريرة اجتهد في هذه الحالة، وليس هذا تضييعاً لأمانة المسلمين، بل أبو هريرة حافظ لهذه الأمانة، ولكنه رأى أن زكاة الفطر تجمع من أجل أن توزع على الفقراء، وهذا فقير صاحب حاجة وعنده عيال ويبكي من شدة الفقر، فهو مستحق لهذا المال.
وفي اليوم التالي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة)، أي: الذي أمسكته البارحة ما الذي حصل منه؟ فقال: (يا رسول الله! شكا إلي حاجة وعيالاً، فقال: كذبك وسيأتيك)، أي: سيأتي إليك مرة ثانية.
فهنا كأن أبا هريرة قال للنبي صلى الله عليه وسلم حصل كذا وكذا وشكا كذا فرحمته، والمال زكاة الفطر فلذلك أعطيته منه، أو أنه سرق ومشى، ثم أتى مرة ثانية وثالثة، وفي النهاية لما أصر أن يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم قال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به، فقال أبو هريرة: علمني، فقال: اقرأ قبل أن تنام آية الكرسي، فتركه أبو هريرة، وفي الصباح سأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما فعل أسيرك البارحة) فالوحي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويخبره أنه حصل كذا وكذا، فقال: إنه قال: أعلمك شيئاً ينفعك الله به، وعلمني آية الكرسي أقرؤها قبل أن أنام، فقال: (صدقك وإنه لكذوب)، فهو كذاب ولكن في هذه فقط صدقك.
ثم قال: (أتدري من تقاتل منذ ثلاث؟ قال: قلت: لا، قال: إنه شيطان) فهو شيطان كان يأتي ويسرق كل يوم، فلما أمسكته علمك شيئاً ينفعك الله عز وجل به، فصدقك فيه وكذبك في الباقي حينما كان يقول: إنه محتاج وإنه ذو عيال.
والشاهد من هذا: أن أبا هريرة كان أميناً على هذا المال، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فيؤخذ منه أنك إذا كنت أميناً على مال، ورأيت من يسرق هذا المال، فلك أن ترفعه لصاحب المال، ولك أن تأخذ منه هذا المال وتطرده وانتهى الأمر، هذا إذا كان من خارج.
أما إذا كان من ضمن العمال الذين يشتغلون في المحل، وأنت مراجع فوقه، وهو كل يوم يسرق من المال، فلو سكت عليه فأنت مضيع للأمانة، قد تقول: عنده عيال وزوجة ونحو ذلك، فهنا تلزمه برد المال الذي أخذه، ثم بعد ذلك تبعده عن هذا المال، ولا تتركه يشتغل في هذا المال، وعليك أن تنبه صاحب العمل، فإذا عرفت منه أنه تاب من هذا الشيء وأنه لن يرجع ولك عليه سلطان المراقبة، فأقل شيء أن تلزمه بإرجاع المال كله، وتراقب بعد ذلك، فإن رأيت أنه رجع مرة ثانية لمد اليد، فهنا تنصح صاحب العمل أن فلاناً هذا ليس أميناً، وتأمره أن يشغله في مكان آخر بعيد عن المال، أو يخرجه من العمل.
إذاً: لا ينبغي أن أرى السارق يسرق من المال وأنا ساكت عليه، وأقول: أستر عليه، وحديث (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) ينافي ذلك، فأنت لم تأخذ على يد السارق، ولم تمنعه من السرقة، ولم تنبه صاحب العمل أن ماله يسرق، بل تركت الحالتين فخنت الاثنين، لا نصحت هذا ولا نصحت ذاك.
إذاً: الستر على الإنسان يكون فيما إذا كان الحق بينه وبين الله عز وجل؛ لأن الحقوق إما حق لله عز وجل، وإما حق للبشر، والله تعالى أكرم الأكرمين، ويسامح سبحانه ويعفو ويتكرم، فإذا وجدنا إنساناً على زنا -والعياذ بالله- إذاً فهنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونمنع من المعصية، ولكن في النهاية إذا قدرنا على الستر كان أفضل.
أما أن أستره وأتركه يفعل ما يريد فلا، فلابد أن أزجر الاثنين، ولكن لا أفضحه بين الناس.
أما من يفضح نفسه في الدنيا ويتكلم عن نفسه أنه يفعل كذا، وأنه يخلو بواحدة ويفعل معها كذا، وأنا أعرف أنه يدخل بيت فلان، فلابد أن أحذر هؤلاء منه، وأقول لهم: خذوا حذركم، فلان هذا لا تدخلوه بيتكم؛ لأنه يفتخر بين الناس أنه يفعل الفاحشة.
إذاً: المجاهر بالمعاصي أحذر الناس من مثله، حتى يحذر منه الذين لا يعرفونه، ويتأكد من حاله الذين يعرفونه فيقاطعونه ويمنعونه من هذا الشيء إذا وقع فيه، ولا أسكت على صاحب هذه المعصية.
(6/6)
شرح حديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين).
(كل أمتي معافى) أي: يعافيهم ويسترهم سبحانه وتعالى، إلا الإنسان المجاهر، فقد أصبح إنساناً مفضوحاً فضح نفسه وفرح بهذه الفضيحة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا).
فلم يسكت ويستر على نفسه فيما عمل بالليل، بل أصبح يفضح نفسه ويقول: عملت كذا وعملت كذا، إذاً: هذا لا يستحق أن يستره الله عز وجل، بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فكل الأمة يعافيهم الله إلا من يجاهر بالمعصية، يعمل معصية بالليل وقد ستره الله فأصبح يفضح نفسه بها، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (وقد بات يستره ربه فيكشف ستر الله عنه).
(6/7)
شرح حديث: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب
من الأحاديث التي جاءت في أمر الستر هنا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا زنت الأمة فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها).
إنسان عنده أمة، والآن لا يوجد إماء، ولكن هذا حكم من الأحكام التي ينبغي فيها الستر الجميل، فالأمة إذا وقعت في الزنا فلسيدها أن يقيم عليها الحد، والحد هنا ليس رجماً، ولكن الحد هو الجلد، فيجلدها خمسين جلدة، وبعدما يقيم عليها الحد قال: (ولا يثرب)، أي: لا يعيرها ويقول لها: يا زانية! يا من أتيت الفاحشة! لماذا؟ لأن الإنسان لو اعتاد هذه الكلمة على لسانه فإنه سوف يفضحها بذلك، وحينئذ سوف تفضل أن تقع في الفاحشة طالما أنها قد افتضحت، ومعلوم أن الإنسان الذي يقع في الفاحشة أو المعصية يستر على نفسه؛ لأنه يخاف أن يعرف الناس ذلك، فإذا عرف الناس هذا الشيء فحينئذ سوف يكشف برقع الحياء، ولن يستحي من الناس بعد ذلك، بل وسوف يعملها ويجاهر بها، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيد الأمة: (فليجلدها الحد ولا يثرب)، فأقم عليها الحد، واجلدها خمسين جلدة، ولكن لا تفضحها، ولا تشهر بها، ولا تعيرها بهذا الشيء، وإلا كشفت عنها ثوب الحياء، وسوف تقوم هي بعد ذلك فتقع مرة وراء المرة، ولا يهمها شيء.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر)، ففي المرة الثالثة أمره أن يبيعها، لأنه لا يستطيع أن يعفها، وسيد الأمة إما أن يأتيها هو، وإما أن يزوجها حتى تستعف، ولكن هذا لا يأتيها ولا زوجها، إنما تركها تزني، فعليه إذاً أن يبيعها طالما أنه لم يقدر على أن يكفيها عن الحرام.
(6/8)
شرح حديث: (أتي النبي برجل قد شرب خمراً)
من الأحاديث التي جاءت حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب خمراً فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه).
يعني: قاموا يضربون هذا الذي شرب الخمر، فمنهم الذي يضرب بيده، والذي يضرب بنعله، والذي يضرب بثوبه.
(فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله) يدعو عليه، كأنه يقول: أخزاك الله، فضحك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)، يعني: طالما أنك تدعو على إنسان بالفضيحة، ستبقى أنت أول واحد يفضحه، فكأنك تعين الشيطان عليه.
إذاً بدلاً من أن تدعو عليه بأن يفضحه الله، ادع له أن يستره الله، وأن يتوب إلى الله فلا يقع في هذه المعصية مرة أخرى، وإذا فعل معصية فيها حد فأقم عليه الحد، ولكن لا تعن الشيطان عليه، أحب للمسلم ما تحب لنفسك، فأنت تحب لنفسك التوبة، فأحب له أيضاً أن يتوب الله عز وجل عليه.
إذاً: لا تدع على مسلم بأن يفضحه الله، ولا أن يخزيه الله سبحانه وتعالى.
من الأحاديث التي وردت في هذا المعنى حديث رواه الإمام ابن ماجة من حديث ابن عباس وإسناده حسن أو صحيح وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة).
فإذا سترت إنساناً سترك الله يوم القيامة.
والعكس بالعكس قال: (ومن كشف عورة أخيه المسلم).
وانظر إلى قوله (أخيه المسلم) يعني: هذا بينك وبينه أخوة، وبينك وبينه دين الإسلام، فهو مسلم مثلك وأخ لك في هذا الدين، وفي هذا ترقيق قلبك عليه فلا تفضحه، فالذي يتناسى ذلك ويفضحه قال: (كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته).
فإذا فرحت بأنك فضحت إنساناً وجعل الله فضيحته على لسانك، فخف على نفسك أن يحدث لك مثل هذا الشيء والعياذ بالله.
(6/9)
التحذير من إيذاء المسلمين وتتبع عوراتهم
حديث آخر وإسناده صحيح أيضاً رواه الترمذي من حديث ابن عمر قال: (صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله).
(يا معشر من أسلم بلسانه) أي: الذين تقولون: لا إله إلا الله بألسنتكم ولكن خصال الإيمان لم تدخل قلوبكم، فاتقوا الله وارجعوا عن هذا الذي أنتم واقعون فيه، وهو أنهم كانوا يؤذون المسلمين ويعيرونهم ويتتبعون عوراتهم.
قال: (لا تؤذوا المسلمين) ويؤخذ منه أن صفة الإنسان الذي فيه نفاق أنه يسلم بلسانه وأما قلبه فلم يسلم؛ لأن كل إنسان يقول: أنا مسلم وأنا مؤمن، فهؤلاء إنما يعرفون بأفعالهم، يلقى إنساناً وقع في معصية فيفرح ويأتي يقول: فلان عمل كذا وعمل كذا وعمل كذا، والعياذ بالله! فلماذا تشمت بإنسان ولعل الله أن يبتليك بمثل تلك المعصية؟! فقوله: (لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم) أي: فالمسلمون الذين وقعوا في شيء من المعاصي فسترها الله عز وجل عليهم، فلا تؤذوهم ولا تعيروهم، ولا تفضحوهم ولا تبكتوهم بما صنعوا.
(ولا تتبعوا عوراتهم)، كأن يقول إنسان يرى نفسه رجلاً صالحاً: أنا سأراقبه حتى أعلم ماذا يفعل، فيتتبعه يريد منه سقطة من أجل أن يفضحه بها، فإذا تتبعت أخاك فإن الله يتتبعك، ولعلك لا تقدر أن تصل لهذا الإنسان على شيء، ولكن الله يقدر عليك.
قال: (فإنه من تتبع عورة أخيه)، أي: يتتبع سقطاته لأجل أن يفضحه بها (تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) يعني: لو اختبأ داخل الغرفة التي عنده في البيت وفعل المعصية، فإن الله يقدر عليه من يفتح ويراه على هذه الصورة، فالله يفضحه ولو في جوف رحله.
وقد نظر ابن عمر -وهو راوي الحديث- يوماً إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
فالكعبة لها شرف وقدر عظيم، ولكن المؤمن أعظم حرمة من الكعبة التي هي قبلة المسلمين، فعلى الإنسان المسلم أن يخاف على أخيه المسلم من الوقوع في الذنب، فإذا وقع في الذنب ستر عليه، ونصحه فيما بينه وبينه.
(6/10)
شرح حديث (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)
من الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث معاوية رضي الله عنه الذي رواه الإمام أبو داود وهو أيضاً حديث صحيح، وفيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم).
معاوية حينما صارت إليه الخلافة وصار أميراً للمؤمنين رضي الله تعالى عنه، كان يعامل الناس بالحلم وهو الذي قال: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.
هذا معاوية كان يضرب به المثل في الحلم رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول هنا: إنه سمع حديثاً من النبي صلى الله عليه وسلم فحدث الناس به، قال أبو الدرداء: لقد انتفع بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يسمع كلام الجواسيس -وهو الأمير رضي الله عنه- الذين كانوا يتجسسون على الناس، بل كان يمنع أي تجسس على الناس، ويقول: إن الذي سيظهر لنا منه شيء سنحاربه على الذي ظهر منه، أما الذي يكتم فما لنا وله، أتى بهذا من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم)، فالذي يتتبع عورة هذا وعورة هذا ويفضحه، فإنه سوف يفتضح الإنسان، وحينها سيقوم ويجاهر بالمعصية؛ لأنه لن يوجد شيء يمنعه من حياء ولا من غيره.
فلذلك كان معاوية يستر على الناس، وإذا سمع عن أحد شيئاً ستر عليه.
من الأحاديث التي فيها هذا المعنى نفسه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم).
إذا ابتغى الريبة فإنه يبقى متشككاً في الناس، وإذا تشكك في كل إنسان فسيفسد الناس، وسيجعل الناس لا يظهرون شيئاً، يقعون في المعاصي ويخفونها، وشيء وراء شيء حتى تعم المعاصي بين الناس.
(6/11)
قصة ماعز وما فيها من الترغيب في الستر على المسلم
من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم قصة ماعز رضي الله عنه لما وقع في الزنا، وكان قد زنى بأمة كانت لرجل اسمه هزال وقد كان ماعز يتيماً عند هزال.
وبعدما كبر وبلغ في يوم من الأيام خرج المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم في نفير، فوجد هذه الأمة في مكان فزنى بها، فـ هزال الذي هو مربيه وسيد هذه الأمة كأنه حصل له شيء من الغيرة والغضب، فقال له: اذهب فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسبق هزال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن ماعزاً فعل كذا.
وهنا لو ستره لكان خيراً له، ولكنه أصر على أن يشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كلمته الجميلة: (يا هزال! هلا سترته بثوبك)، أي: لو سترته وانتهى الأمر لكان خيراً لك.
وماعز كان متزوجاً، ولذلك كان حده الرجم، والرجل الذي شهد عليه واحد إذاً: سيقام عليه حد القذف.
فلما رأى الأمر هكذا وأنه يمكن أن يقام عليه حد القذف قال: أذهب وأقنع ماعزاً أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: لقد زنيت، وفعلاً ظل يلح عليه حتى ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد زنيت، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أعرض عنه، مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، وفي الأخيرة قال له: (أبك جنون؟ أتدري ما الزنا؟)، وذلك حتى يمشي الرجل ويقول: لا أعرف ما هو الزنا، أنا أمزح بالكلام.
فهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستر على نفسه ويمشي، فأعرض عنه أربع مرات وفي النهاية قال لأصحابه: (استنكهوه استنكلوه)، وقال للرجل: (لعلك قبلت، لعلك لامست، لعلك فاخذت)، يعطي له أعذاراً يقولها وينصرف.
ولكن لما أصر، وكأن هزالاً قال له: قل بالحقيقة ولن يفعل بك شيئاً، فلما أقاموا عليه الحد وبدءوا يرجمونه أذلقته الحجارة، فقال لهم: يا قوم! إن هزالاً غرني من نفسي وقال: إنكم لستم قاتلي، أعيدوني للنبي صلى الله عليه وسلم، أرجعوني للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسمعوا كلامه، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا برجمك، فما زالوا يرجمونه حتى قتلوه، ولما رجعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وذكروا له ذلك حزن النبي صلى الله عليه وسلم وتأسف لذلك، وقال: (هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه).
ورئي النبي صلى الله عليه وسلم كئيباً من ذلك، حتى جاء له الوحي من عند ربه وأخبره أن ماعزاً في الجنة، وإن الله أكرمه وتاب عليه، فسر النبي صلوات الله وسلامه عليه بذلك، وأخبر أنه تاب توبة عظيمة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم.
المقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستر على الرجل، وأمر هزال بالستر عليه، فلما أصر الرجل بالاعتراف على نفسه، وليس هو مجنوناً ولا شارب خمر، ولا يريد أن يعرض في الكلام، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد، فلما أقاموا عليه الحد ورجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما فعل قال: (هلا تركتموه لعله يتوب إلى الله عز وجل).
(6/12)
التحذير من تذكير صاحب المعصية بمعصيته
والغرض بيان أن الإنسان إذا ستر على نفسه ستر الله عز وجل عليه، وإذا فضح الإنسان نفسه فإنه يستحق ما يحدث له، ويلزم على المسلم أن يستر على المسلمين، وأن يحذر من غضب الله عز وجل أن يفضح إنساناً فيفضحه الله سبحانه، ويحذر المسلم من أن يظل يعير صاحب المعصية: ألست الذي كنت سارقاً في يوم من الأيام، ألست الذي كنت تسرق كذا، فإنه كلما قلت له هكذا يرجع في قلبه ما كان عليه في الماضي، وقد يرجع إليه مرة أخرى، إذاً فلا تذكر صاحب معصية بمعصيته أبداً، وإلا فكأنك تدفعه مرة ثانية أن يرجع لهذه المعصية.
أذكر أنه في يوم من الأيام كان هناك رجل صاحب قمار وكان قد تاب إلى الله، فكلمه بعض الإخوة فتاب وجاء يصلي معنا في المسجد وظل فترة يصلي معنا في المسجد، وبعد فترة فوجئت بأن بعض الإخوة قالوا له: أخبرنا كيف كنت تعمل في القمار؟ ومرة بعد مرة حتى ترك الصلاة وترك بيت الله سبحانه وتعالى، والله أعلم على ماذا مات هذا الإنسان.
فلماذا تعير إنساناً؟ ولماذا تدفعه للشقاوة مرة ثانية؟ ولماذا تذكره بالماضي؟ فإنه سيرجع إليه مرة ثانية، وصاحب المعصية قد يحن إلى معصيته إذا وجد من يشجعه عليها.
فاتق الله سبحانه وتعالى في الناس، وإذا تاب إنسان فلا تذكره بمعصيته أبداً، واجعل نفسك مكانه، والذي تحب أن تعامل به إذا كنت مثله فعامل الناس بمثله.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(6/13)
شرح رياض الصالحين - الشفاعة
التعاون على الخير والنفع سلوك حسن، وعبادة جليلة ممدوح فاعلها من الله ومن الناس، ومن ضروب التعاون الشفاعة، ولنفعها العظيم، وترسيخها لمبدأ التعاون فقد رتب عليها الأجر الجزيل على أن تكون في خير وصدق، لا في إثم وكذب، أو في حد من الحدود، أو لمقابل رخيص كهدية أو غيرها.
(7/1)
الشفاعة أنواعها وفضلها
(7/2)
تعريف الشفاعة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الشفاعة.
قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85].
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، فقال: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب)، متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (في قصة بريرة وزوجها، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو راجعته قالت: يا رسول الله؛ تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه)، رواه البخاري].
هذا باب من أبواب كتاب رياض الصالحين، للإمام النووي رحمه الله، وفيه قول الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85].
الشفاعة: مأخوذة من الشفع، والشفع ضد الوتر.
والمعنى: أنه يكون واحد منفرداً فيأتي الآخر معه فيشفع، ويعينه على قضاء الحاجة التي يريدها، وإنجاز المصلحة التي هو فيها، وبهذا المعنى جاءت أقوال المفسرين عند قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85]، فقالوا: من يزيد عملاً إلى عمل فيحسن، فالله عز وجل يعطيه إحساناً.
ومنها أن يعين أخاه بكلمة عند غيره في قضاء حاجته، كأن يذهب به إلى القاضي، أو يذهب به إلى من بيده المصلحة لهذا الإنسان، فيعينه على قضاء الحاجة التي هو فيها.
ومن معاني الشفيع: المعين في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك يذكر الإمام الطبري من معاني الآية: من يكن يا محمد شفيعاً لوتر أصحابك في الجهاد للعدو يكن له نصيب في الآخرة من الأجر، ومن يشفع وتراً من الكفار في جهاده، يكن له كفل في الآخرة من الإثم.
(7/3)
فضل الشفاعة الحسنة وعقوبة الشفاعة السيئة
الشفاعة الحسنة: هي الإعانة على الخير.
أما الشفاعة السيئة: فهي الإعانة على الشر.
فإذا أعان الإنسان إنساناً آخر على خير فقد شفع شفاعة حسنة؛ لأنه كان فرداً فشفعه فكان معه زوجاً، وإذا أعان الإنسان آخر على الشر، فقد شفع شفاعة سيئة.
وتعلمنا الآية أن الإنسان ينبغي أن يكون متعاوناً مع غيره من الناس على الخير، بالدلالة عليه، ومن دل على خير فله مثل أجر فاعله، والعكس بالعكس، فمن دل على شر فعليه مثل وزر فاعل هذا الشر، قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85].
فالذي يجد إنساناً وحده، يريد أن يعمل عملاً من الخير، ومصلحة من المصالح، فيفسد بينه وبين صاحب المصلحة، حتى يترك صاحب المصلحة عملها، فقد ارتكب الشفاعة السيئة التي عليه الوزر منها.
وفي المتفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، فقال: اشفعوا تؤجروا).
ورواية مسلم: (اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما أحب) وفي رواية: (ما شاء).
والمعنى: أن الإنسان قد يأتي والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف هل هو محتاج أو ليس محتاجاً، وقد يعرف الجلوس أن هذا الإنسان يحتاج إلى شيء من الأشياء، وأن له حاجة من النبي صلى الله عليه وسلم فيستحيي أن يتكلم معه فيها، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا فلتؤجروا) أي: من يعرف عن هذا الإنسان فليتكلم عنه بخير، فلعل هذا يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعينه على ما يريد.
(7/4)
ما تكون فيه الشفاعة
يجدر التنبيه هنا أن الشفاعة التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا في حق، فيتكلم الإنسان في حق أخيه بالخير الذي يعرفه، أما أن يدلس ويكذب فيجد إنساناً كذاباً، منافقاً، عاصياً، جاء يكيد بإنسان ليأخذ منه ماله، أو ليعينه على باطل، فيدلس الشفيع ويقول: لا بأس به، أعطوه، أو يؤكد أنه يعرفه، وأنه يستحق كذا، فهذه من الشفاعة السيئة؛ لأنه يغرك ويمكر بك من أجل أن تعطي مالك، أو تعطي معونتك لإنسان يعصي الله عز وجل بها.
ولذلك ذكر الله نوعي الشفاعة: الحسنة والسيئة، ولذا عندما يشفع الإنسان لآخر ينبغي أن ينصح بما يعرفه عنه فإن كان إنساناً محتاجاً نصح أن يعطوه، وإن كان عاصياً لله سبحانه وتعالى ولا يستحق العطاء، أو مبذراً أو سفيهاً فينصح بما يعرف عنه بصدق.
(7/5)
الشفاعة والصلح بين الأزواج
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى: ما ذكره الإمام النووي عن ابن عباس في قصة بريرة وزوجها، وكانت بريرة أمة وزوجها عبداً، ثم حرر بريرة سادتها وأعتقوها.
والحكم الشرعي: أن الأمة إذا كانت متزوجة بعبد، ثم حررت صار من حقها أن تطلب الفسخ، أو تبقى زوجة له.
وقد طلبت بريرة حقها في عدم البقاء مع زوجها، وكان الرجل يحبها حباً جماً، وذهب يستشفع إليها بكل من يرجو شفاعته، حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بريرة: (لو راجعته).
يعني: لو ترجعين إلى زوجك؛ لأن زوجها كان يحبها حباً شديداً، وكان يعجب النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حب هذا الإنسان لامرأته، وأما هي فكانت تبغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو راجعته)، وهذا نوع من الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم، يريد لو تفعلين ذلك، وكأنه يحثها عليه.
وتساءلت المرأة: يا ترى أهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لي إلا أن أنفذ، أو أن هذا تخيير؟ فسألت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (يا رسول الله تأمرني؟)، أي: هذا أمر واجب علي، أو هذا شيء آخر؟ فقال: (إنما أشفع)، يعني: أني لا آمرك أمراً واجباً بحيث تعصين لو لم تطيعي، بل أنا أشفع، فمع أن مقامه عظيم إلا أن به من الرأفة والرحمة ما أخبر الله عنه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، إذ كان يمكنه أن يقول لها: نعم.
ارجعي له، فهو زوجك، وقد مكثت معه سنين فارعي العشرة، والألفة، والمودة، والرحمة.
وفي العادة أننا لا نقول مثل هذا الشيء من دون أن ننظر إلى الطرف الثاني، ومن غير أن ننظر إلى أن المرأة تُبغض زوجها، ولا تريد أن تعيش معه ولا تطيقه، فإنها لما قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (تأمرني؟) لو كان الأمر كما نفعل من تغليب العاطفة، لقلنا: ارجعي، وعللنا بما سبق، ولكان أخبرها صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن قال: (إنما أشفع)، أي: أنا مجرد شافع أشفع فقط، فإن أردت الرجوع فارجعي، وإن كنت لا تريدين فالأمر عائد إليك.
فقالت: (لا حاجة لي فيه)، فقد كانت تبغضه بغضاً شديداً، وهذا من العجب أنه يحبها وهي تبغضه.
(7/6)
ما ينهى عنه من الشفاعات
(7/7)
الشفاعة في الحدود
وقد تكون الشفاعة غير جائزة، كأن يشفع الإنسان في حاجة لا يجوز له أن يشفع في مثلها، كالشفاعة في إثم، أو ذنب، أو معصية، أو في غير نصيحة، أو يكون كاذباً في شفاعته فيدعي شيئاً غير موجود، أو يشفع في إلغاء حدود الله تبارك وتعالى وقد وصل الحد للإمام أو القاضي.
وقد جاء في الصحيحين: من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: (أن قريشاً أهمهم أمر المرأة المخزومية التي سرقت)، وكانت امرأة مخزومية تسرق فتأخذ المتاع وتجحده، وتستعير من النساء الحلي والذهب وتضعه في بيتها، ثم تنكر أنها أخذته.
قالت عائشة: (فلما كثر منها ذلك) وكأنهم أشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعت هذه المرأة، فحذرها النبي صلى الله عليه وسلم، وأمرها أن ترجع المتاع إلى أصحابه، فأبت المرأة وظلت على كتمان الحاجة التي أخذتها، فلما تكرر تحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها والمرأة لا تستجيب قالت عائشة: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها).
لأنه ثبت عند النبي صلى الله عليه وسلم أنها جحدت المتاع، أو ثبت عنده أنها في مرة من المرات مدت يدها وسرقت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، وكان الأمر عند قومها بني عبد الأسد شديداً، إذ هم من أشراف الناس، وقطع يد المرأة من بني مخزوم بسبب السرقة سيحط من قدرهم، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفعوا عنده، فلما لم يجدوا إجابة، قالوا: من الذي يمكن أن يشفع؟ فقيل لهم: أسامة بن زيد، فهو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذهبوا لـ أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكأنه تعاطف معهم، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في الأمر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن قال له مستنكراً صنيعه: (أتشفع في حد من حدود الله؟!) يريد أن يقول له: لا يحل لك أن تصنع ذلك، فأنكر عليه إنكاراً شديداً.
(ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس، فقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).
بين أن هذا الأمر ليس فيه شفاعة، فإنه أمر قد وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان لابد من إقامة الحد، ولا يجوز لأحد أنه يشفع فيه، بل الإنسان المسروق منه لا يجوز له التراجع، طالما صدر الحكم من القاضي.
وقد تقدمت قصة صفوان بن أمية رضي الله عنه، لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انتظره في المسجد فنام ووضع بردة تحت رأسه، فجاءه إنسان وسرق البردة، فأمسكه ورفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يريد أن يريه أن هذا سرق مني فعاقبه.
فلما رفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقطع يده، مثلما أمر بقطع يد المخزومية، وما كان يظن صفوان بن أمية أن الأمر سيصل إلى قطع يد السارق، وكان حديث إسلام لم يعرف الأحكام التي في مثل هذه القضية، فقال: يا رسول الله! إني أعطيه له هبة فاعف عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان قبل أن تأتيني به).
والمعنى: كان يمكنك أن تشفع وأنت معه كما تريد، أما بعد أن رفع الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فلا.
وكذلك إذا وصل الأمر للحاكم، فلا تجوز الشفاعة، بل جاء في الأثر: لعن الله الشافع والمشفع في هذه الحالة، وذلك أن الأمر إذا رفع للقاضي وشفع الناس هذه المرة بالكلام، ورق له القاضي وسامحه، ستكون الشفاعة في المرة القادمة بالهدية، فيعطي للحاكم هدية، وللقاضي هدية، ثم تأتي بعدها الرشوة وبذلك تعم الناس الرشوة، ويفسد أمر الحكم وتلغى أحكام الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب)، أي إذا وصل الحد للنبي صلى الله عليه وسلم وثبت فيه سرقة الإنسان أو زناه، كان لابد أن يقام الحد على الإنسان المستوجب للحد.
(7/8)
الكذب في الشفاعة وأخذ الرشوة عليها
ومن الشفاعة الغير جائزة الشفاعة بالكذب: وهي أن يكذب الإنسان لإنسان من أجل أن يوليه، أو من أجل أن يأخذ له مالاً، أو من أجل أن يعمل عملاً هو غير مؤهل له، وغير ذلك.
ومما ينبه عليه في الشفاعة ما يقع من أن إنساناً يشفع لآخر عند إنسان، ثم يأخذ عليها هدية، وهذا غير جائز، ولو فعل أحد ذلك لدخل في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية فقبلها، فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا)، أي: ليس لك أن تطلب من أحد تشفعت له مالاً على هذه الشفاعة.
ولذا لو أن الإنسان عرف أن الكلمة التي سيقولها ستنفع فلاناً، غير مؤمل هدية أو أجراً؛ لأنه لا يجوز له أخذ هدية أو مقابل عليها، وأكد لمن سيستشفع له قائلاً: لن آخذ منك شيئاً بمقابل شفاعتي، كان له أن يقولها ولا شك أنه مأجور بقولها.
كما ينبغي للشافع أن لا يشفع إلا وهو على معرفة تامة بمن سيشفع له، ولا يثني عليه إلا بما هو فيه؛ لأنه إذا كان لا يعرفه كان ثناؤه عليه كذباً لا شفاعة.
وذكر أن ابن مسعود رضي تبارك وتعالى عنه، سئل عن السحت فقال: هو أن تشفع لأخيك شفاعة، فيهدي لك هدية فتقبلها.
قال له السائل: أرأيت إن كانت هدية في باطل؟ أي شفعت له ومكرت بمن شفعنا عنده حتى أعطانا حاجتنا، ثم أعطاني من شفعت له هدية عليها.
فقال ابن مسعود: ذاك كفر ذاك كفر! وكأنه يقصد هنا الزجر الشديد، ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فكأن مقصد ابن مسعود التحذير من أكل الرشوة؛ لأنها قد تصل إلى أن الإنسان يرتشي في الحكم، فإذا ارتشى في الحكم بدل دين الله، فوقع في الكفر بالله، والعياذ بالله.
(7/9)
الشفاعة للعصاة ومن لا يستحق
ولابد أن يعلم أن الشفاعة ليست مجاملة؛ لأنه مطلوب من المسلم النصيحة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة)، فعلى الشافع أن يكون ناصحاً للطرفين، فيكون ناصحاً للأول الذي يطلب أن يشفع له عند فلان من أجل أن يجعله يعمل في كذا، ويكون ناصحاً للثاني، فلا يشفع عنده للأول وهو يعلم أن الأول فيه ما فيه من العيوب.
وقد يقع أحياناً أن بعض الناس يشفع لفلان من الناس بحجة أنه فقير مسكين، وقد يكون هذا الفقير المسكين سكيراً، أو يأخذ ما أعطي من المال ويشتري به سجائر، فيقال للشافع: أعطه من جيبك أنت، مادمت متألماً لحاله، ولا تحضره إلى المسجد من أجل أن يعطيه الناس، واعلم أن الأموال التي يؤتى بها إلى المسجد أموال الناس، وأن الإنسان الذي وضعت عنده الأموال مؤتمن عليها، فلا يحل له أن يضعها إلا في محلها، أما أن يأخذها لفلان من أجل أن يذهب ليشرب بها خمراً أو سجائر فهذا غير جائز له، وهو آثم لأنه وضعها في غير محلها.
والشافع لمثل هؤلاء عادة ما يتبرم من فعله قائلاً: ليس لي دخل، لا يجوز لكم أن تعطوه، مع أنه كان أولاً راحماً له، وكان يشفع بشيء من الشدة، وأنه لا بأس، ويجب الرحمة، ثم ينسى كل هذا الكلام عندما يكتشف حقيقة هذا الذي يشفع له، والأصل أن لا يشفع الإنسان إلا للإنسان الذي يعرف أنه فقير محتاج لما يأكل ويؤكل أولاده، وأنه لا يدخن ولا يشرب خمراً، وأنه ليس طويل اللسان على الناس، ولا سيئاً معهم، ولا عديم حياء ذا فجور.
كما يقال لمن يأتي ليشفع لمثل هؤلاء: لو كان هذا مالك هل ستعطيه لهذا الشخص الذي يأخذ المال ويشرب به الدخان طوال النهار، أو يرتكب فيه المحرمات، وهل هذا الإنسان يستحق أن يأخذ المال من أجل أن يصنع به الحرام؟ إن زكاة المال قد جعلها الله للفقراء والمساكين، وبقية الأصناف التي ذكرها الله عز وجل، لا لمثل هؤلاء.
فلنتق الله عز وجل في أنفسنا، ولنتق الله في نصحنا، وفي أموالنا، فإخواننا في فلسطين يقتلون ولا يجدون ما يأكلون، ولا يجدون ما يشربون، والبعض يصرف ماله في المحرمات من دخان أو خمور، أو يضيعها بين الناس.
ونرى هذه الأيام أناساً يأتي أحدهم إلى المسجد ويصيح: أنا محتاج لمال، وإذا تفقدت حاله وجدته يظل طوال النهار في الشارع يشرب الدخان، أو يأخذ المال ويشرب به الخمر، وتدرك قطعاً أنه لا يستحق ما أخذ من المال.
إنما يستحق هذا المال المسكين، والأرملة التي لا تجد ما تطعم به أولادها، واليتيم الذي لا يجد من يعوله، والعاجز الذي لا يجد طعاماً ولا يجد مأوى يؤويه.
أما الإنسان السفيه الذي يضيع مال الله سبحانه وتعالى، ولا يستحيي أن يمد يده للناس فنقول له: استح من نفسك! استح من الله سبحانه وتعالى، واعلم أن هناك حساباً عسيراً يوم القيامة.
(7/10)
استحباب الثناء على الكريم وذم من لا يشكر
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عنه عمر رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! لقد سمعت فلاناً وفلاناً يحسنان الثناء يذكران أنك أعطيتهما).
وكانا محتاجين قد قدما على النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فأعطاهما النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهبا، أخذا يمدحان النبي صلى الله عليه وسلم، فرآهما عمر رضي الله عنه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن فلاناً ليس كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة فما يقول ذلك؟)، يريد أن رجلاً آخر غيرهما قد سأله فأعطاه، ولكنه يأخذ الشيء ويأتي يريد المزيد، أو يسب ويبخل، ولا يشكر لمن أعطاه أو يثني عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما والله إن أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبطها ناراً)، يريد أن من يذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه حاجة وهو كاذب في دعواه، ويأخذها وهو لا يستحق ذلك، أو ينفقها فيما لا يحل، فكأنها حين يأخذها تحت إبطه ويمشي بها فرحاً نار عليه يوم القيامة.
ولذلك فعلى الإنسان المؤمن أن يتقي الله عز وجل في مطعمه، وسائر نفقاته، فإذا أعطي مالاً فلا يبذر أو ينفقه فيما لا يحل، كأن يكون بيته محتاجاً للمال وهو يشرب الدخان أو الخمر، أو ينفق على من لا يستحق، ويضيع أهله وعياله.
وستجد أن الله سبحانه وتعالى لا يترك أحداً بلا رزق، وعلى كل إنسان يقع في شيء من المعاصي، أن يعلم أن الله يبسط يد الرحمة، ويدعو العبد إلى التوبة، فإذا تاب الإنسان تاب الله عز وجل عليه، وحبب فيه خلقه، وأنه إن لم يتب فسيكون بغيضاً إلى الخلق، سيئ الخلق، وإذا سأل سأل بسوء أدب، وقد يتعارك مع أي شخص من أجل أن يعطيه.
(7/11)
شرح رياض الصالحين - باب الإصلاح بين الناس
حث الإسلام على إصلاح ذات البين، لأنه من أفضل الأعمال الصالحة، ولفضل هذا العمل جعله النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من نوافل العبادات؛ لما فيه من تقوية المحبة ونشر الألفة بين الناس، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم توضح ذلك.
(8/1)
ما جاء في الإصلاح بين الناس
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الإصلاح بين الناس: قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128].
وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس: تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه].
(8/2)
ما جاء في فضل الإصلاح بين الناس في القرآن
باب آخر من كتاب رياض الصالحين، وهو الباب الحادي والثلاثون من هذا الكتاب القيم العظيم، وفيه ذكر الإمام النووي رحمه الله الإصلاح بين الناس.
والإنسان المؤمن مطلوب منه أن يصلح بين الناس قدر استطاعته، وربنا سبحانه ذكر الصلح والإصلاح في الكتاب، فذكر لنا الإمام النووي الآيات التي تفيد هذا المعنى وذكر لنا أحاديث تتعلق به أيضاً.
منها: قوله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114].
والنجوى: حديث السر.
إنسان يتناجى مع صاحبه، يعني: يكلمه سراً.
فأكثر كلام السر بين الناس فيه الشر والبعد عن الخير، وفيه الغيبة، وفيه النميمة، وفيه الكذب، ولكن بعض هذا الكلام يكون فيه الخير؛ ولذلك استثناه ربنا تبارك وتعالى، قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} [النساء:114] أي: نجوى الناس فيما بينهم لا خير فيها إلا في حالات: {مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] بشرط: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].
والإنسان حين يناجي صاحبه يهمس في أذنه ويكلمه في السر، وأحاديث السر غالباً ما يكون من ورائها الأذى، خاصة إذا كان اثنان يتكلمان والثالث معهما فإذا بالثالث يحزن، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (لا يتناج اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه)، فإذا كانوا ثلاثة فلا يحل لأحدهم أن يقول للآخر: تعال أكلمك، حتى لا يظن الثالث أنهما يتكلمان عليه.
علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الحكمة من وراء منع تناجي الاثنين في حضرة الثالث أن ذلك يحزن هذا الإنسان، وقد يدفعه لأن يسيء الظن فيك وفي صاحبك، فلذلك لا تفعل ولا تحاول أن تتكلم في السر إلا في حالات محددة، كما قال الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]: الحالة الأولى: (أمر بصدقة) يعني: إنسان وجد إنساناً فقيراً محتاجاً ونزلت به كارثة فأراد أن يساعده، فيقول لصاحبه سراً: تعال نساعد فلاناً بكذا، فهذا خير التناجي.
الحالة الثانية: (أو أمر بمعروف) يعني: يسر له أنه أخطأ في الشرع مثلاً فينصحه من غير فضيحة ومن غير كلام كثير ومن غير إزعاج له أو لغيره، ولكن يكلمه بصورة النصيحة الطيبة التي تدفعه لأن يعمل خيراً ويتجنب الشر، فيكون هنا قد أمر بمعروف في التناجي على وجه السر حتى لا يؤذيه ولا يفضحه.
الحالة الثالثة: (أو إصلاح بين الناس) اثنان بينهما شر وكلٌ منهما يعرض عن صاحبه، فيجوز لك أن تقول لأحدهما: إن أخاك يحبك في الله، اتق الله وسلم على أخيك، ويكلم الآخر في السر يقول: إن أخاك يحبك، سلم عليه، خيركم الذي يبدأ بالسلام، فهذا يصلح بين الناس بهذا الكلام الطيب، ويجعل الاثنين يقبل بعضهم على بعض.
أما غير ذلك فلا خير في النجوى، والتناجي -أي: كلام السر- مزعج ومؤذ، والذي يتعود على هذا الشيء يعتاد على إيذاء الغير.
قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] والقيد قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [النساء:114] أي: يأمر بالمعروف، ويأمر بالصدقة، ويصلح بين الناس ابتغاء وجه الله سبحانه، فهذا له الفوز العظيم والأجر الكبير من الله عز وجل، قال تعالى: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].
أيضاً قال الله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] يعني: الشيء الموجود فيما بينكم، تقول: خذ ذا إنائك، يعني: ما هو داخل إنائك وهو الشراب.
وذات البين، يعني: الشيء الذي هو داخل بينك وبين صاحبك، والمعنى: الخصومة التي بينكم، والشيء المنكر الذي بينكم، أصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وأخوة الإيمان أعظم بكثير من أخوة النسب، فإن اجتمعا كان هذا خيراً عظيماً، فالأخ يحب أخاه ويحب له الخير، وينفعه حياً وميتاً، ينفعه في الحياة بالمعونة وبالنصيحة، وينفعه بعد الموت بالدعاء، ويوم القيامة بالشفاعة إذا كان هذا في الجنة وذاك في النار، فيشفع له فيخرجه ويأخذ بيده من النار ويدخله الجنة.
فهنا نفع عظيم جداً في الأخوة بين المؤمنين إذا تآخوا ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، فلذلك يذكرنا ربنا بذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] أي: ليسوا أعداء، ليسوا متباعدين.
(8/3)
شرح حديث: (كل سلامى من الناس عليه صدقة)
أما الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، منها: الحديث الذي يذكره الإمام النووي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) أي: مفصل، أو العظام التي بين المفصلين، وكأنه عظم في آخره مفصل.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأنت تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة تخرجها لله سبحانه وتعالى شاكراً له، حامداً على ما أخذت من النعم، وتعرف النعم حين ترى المريض، أو ترى رجلاً يده مشلولة، لا يعرف كيف يحركها، أو لا يستطيع أن يرفع اللقمة إلى فيه، وبذلك تعرف نعمة الله عز وجل عليك، وأن كل عضو من الأعضاء وكل عظمة من العظام وكل مفصل من المفاصل فيه خير لك وفيه من الله عز وجل فضل ونعمة عليك، فيفترض عليك أن تشكر الله على كل مفصل.
لكن يصعب على الإنسان أن يتصدق عن كل مفصل على حدة، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أسهل من ذلك، وهو أنك تعرف هذه النعمة ثم تؤدي الحق مجملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعدل بين اثنين صدقة) يعني: حين تصلح بين الاثنين بالعدل فهذا من الصدقة، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث أنك تصلح بين إخوانك.
وعلمنا أشياء كثيرة في ذلك، قال: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) حين تعين الإنسان في حمل متاعه على دابته، لك في ذلك أجر ولك في ذلك صدقة.
(والكلمة الطيبة صدقة)، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن منكر صدقة، وتدل الرجل على طريقه وتهديه صدقة، وتعين الأعمى وتدله على الطريق صدقة، وتعين الأخرق الذي لا يقدر على صنع الشيء الذي في يده صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وعندما تقول: سبحان الله، الحمد لله، أو تصلي على النبي صلوات الله وسلامه عليه صدقة.
وإذا كان يصعب هذا كله فإن ركعتين من الضحى تجزئ عن ذلك كله، فكن دائماً موصولاً بربك سبحانه، بذكرك، وبأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر.
الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن العدل بين الاثنين، أي: تصلح بين اثنين على وجه العدل صدقة.
(8/4)
شرح حديث: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس)
أما الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم فكثيرة، منها: الحديث الذي يذكره الإمام النووي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامى) أي: مفصل، أو العظام التي بين المفصلين، وكأنه عظم في آخره مفصل.
وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان فيه ثلاثمائة وستون مفصلاً، فأنت تتصدق بصدقة عن كل مفصل، يعني: كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة تخرجها لله سبحانه وتعالى شاكراً له، حامداً على ما أخذت من النعم، وتعرف النعم حين ترى المريض، أو ترى رجلاً يده مشلولة، لا يعرف كيف يحركها، أو لا يستطيع أن يرفع اللقمة إلى فيه، وبذلك تعرف نعمة الله عز وجل عليك، وأن كل عضو من الأعضاء وكل عظمة من العظام وكل مفصل من المفاصل فيه خير لك وفيه من الله عز وجل فضل ونعمة عليك، فيفترض عليك أن تشكر الله على كل مفصل.
لكن يصعب على الإنسان أن يتصدق عن كل مفصل على حدة، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أسهل من ذلك، وهو أنك تعرف هذه النعمة ثم تؤدي الحق مجملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (تعدل بين اثنين صدقة) يعني: حين تصلح بين الاثنين بالعدل فهذا من الصدقة، وهذا هو الشاهد من هذا الحديث أنك تصلح بين إخوانك.
وعلمنا أشياء كثيرة في ذلك، قال: (تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) حين تعين الإنسان في حمل متاعه على دابته، لك في ذلك أجر ولك في ذلك صدقة.
(والكلمة الطيبة صدقة)، وتبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن منكر صدقة، وتدل الرجل على طريقه وتهديه صدقة، وتعين الأعمى وتدله على الطريق صدقة، وتعين الأخرق الذي لا يقدر على صنع الشيء الذي في يده صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وعندما تقول: سبحان الله، الحمد لله، أو تصلي على النبي صلوات الله وسلامه عليه صدقة.
وإذا كان يصعب هذا كله فإن ركعتين من الضحى تجزئ عن ذلك كله، فكن دائماً موصولاً بربك سبحانه، بذكرك، وبأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر.
الشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن العدل بين الاثنين، أي: تصلح بين اثنين على وجه العدل صدقة.
(8/5)
جواز الكذب لدفع الشر
ومن الأحاديث التي جاءت حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً).
هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم حديث عظيم، يعلمنا أنك قد تسمع كلمة شر من إنسان في إنسان آخر فيأتي من ينقل إليه ذلك فإذا به يأتي ويسألك، فهنا يمكنك أن تجيبه بالتعريض في الكلام، فإن استطعت ذلك كان خيراً، وإن لم تستطع أن تعرض فقل: لم أسمعه أو لم أكن موجوداً، فعندها لا يكون هذا كذباً؛ لأنك إنما تصلح بين الناس، ولأنك تخبئ الشر وتظهر الخير، فتقول: هذا إنسان فيه خير، هذا فلان يحبك يا أخي، هذا يتكلم عنك كلاماً طيباً.
فعلمك النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول الخير، وتنمي الخير، إذا سمعت كلمة فيها خير تبلغها، أو سمعت كلمة فيها شر تسترها، وبينك وبين الإنسان مُرْ بالمعروف وانه عن المنكر بقدر استطاعتك.
وذكر لنا ثلاث أحوال يجوز فيها للإنسان أن يعرض في الكلام، فإذا ضاق بك الأمر، أو أردت أن تصلح بين الناس، فلك في هذه الحالة أن تعرض في الكلام.
سأل مسيلمة رجلاً: تؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
قال: تشهد أني رسول الله؟ قال: لا.
فقتله.
وجاء بالثاني ثم قال له: تشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم.
قال: تشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع.
فهو حاول أنه يعرض قدر المستطاع وقال هذه الكلمة: لا أسمع، وكأنه يقصد: لا أسمع مثل هذا الكلام، يعني: لا يدخل عقلي مثل هذا الكلام، ولا يدخل قلبي مثل هذا الكلام، ولكن قال هذه الكلمة.
وروي عن سويد بن حنظلة قال: (خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج قوم أن يحلفوا، وحلفت أنه أخي، فخلي عنه).
فهو صحابي أقسم بالله أنه أخوه، ولم يكن أخاه من النسب، ولكن هذا عدو أخذه فأراد قتله، فلذلك قال هذا الصحابي: هو أخي، وأقسم بالله على ذلك.
فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم أخبره وقال: إني حلفت بالله إنه أخي، فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أنت أبرهم وأصدقهم؛ المسلم أخو المسلم) أي: إنما المؤمنون إخوة، ففعلاً هو أخوك، وأنت حلفت على صدق، وليس على كذب ولا غيره، أنت صادق في كلامك، والمؤمنون إخوة.
فالصحابي هذا يا ترى وهو يحلف كان يريد التعريض أم لا؟ لو كان يريد أن يعرض لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا تحرج أصلاً، ولكن كان قد حضر في هذا الشيء فأقسم بالله إنه أخوه؛ من أجل أن ينجيه من العدو الذي سيقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم اعتبره أبرهم.
(8/6)
الحالات التي يجوز فيها الكذب
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أنه في ثلاثة أحوال يجوز للإنسان أن يعرض أو يكذب في الكلام وأخبر أن هذا ليس من الكذب: الصورة الأولى: في الحرب: فلو أن الكفار جاءوا يسألون عن مسلمين موجودين في هذا المكان من أجل قتلهم، فأنت تقول لهم: لا، بل تقسم أنه لا يوجد أحد من المسلمين، فهذا الكذب خير من أن يخبر الكفار عن مكان المسلمين فيقتلوهم، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في حال القتال والحرب يرخص له مثل هذا التعريض أو الكذب.
والصورة الثانية: في الإصلاح بين الناس: والصورة الثالثة: في كلام الرجل مع امرأته: يعني: المرأة تحب من زوجها أن يمدحها ويلاطفها، فإذا قال لها: أنت أجمل النساء، وهي ليست كذلك، فهذا جائز له.
فهي لا تقول له: لا، أنت تكذب علي، وليس من اللائق أن يقول هو: أنا أكذب عليك فأنت لست أجمل النساء، فالكلمة الطيبة مع الزوجة مطلوبة.
لكن حين يسأل الرجل زوجته عما فعلت في الماضي، ويسألها أسئلة سخيفة عما ارتكبته من آثام في الماضي، فإنه لا يجوز لها شرعاً أن تصدق معه، ولا يلزمها ذلك أصلاً، تقول له: والله مشيت مع فلان، أو عملت كذا، عملت كذا؛ لأنه من تاب تاب الله عز وجل عليه، ولا يحل أن تصنع مثل هذا مع زوجتك.
فهنا الغرض: المرأة في كلامها مع زوجها، والزوج في كلامه مع زوجته، لا ينبغي أن يكون فيه شيء من الكلام عن الماضي؛ لأن الماضي انتهى، وأنت الآن متزوج فلا دخل لك في ما كان قبل ذلك، والحياة بين الرجل والمرأة فيها الألفة والعشرة بالمعروف وإن كان الأمر فيه شيء من التعريض، حتى تمشي الحياة الزوجية من غير أن يكون فيها مشاكل أو يكون بينهما نوع من الخصومات.
(8/7)
شرح حديث: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة)
ومن الأحاديث العظيمة الجميلة التي جاءت في هذا المعنى حديث رواه الإمام أبو داود من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ فقالوا: بلى يا رسول الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إصلاح ذات البين) يعني: تصلحون ما بينكم من خصومات.
وفي رواية قال: (وفساد ذات البين الحالقة).
وفي رواية الترمذي لهذا الحديث قال: (فإن فساد ذات البين هي الحالقة).
فإصلاح ذات البين درجة أعظم من درجة الصلاة ودرجة الصيام ودرجة الصدقة، كأنه يقصد النافلة، فأفضل من أن تصلي نافلة تصلح بين الناس، وأفضل من أن تصوم نافلة تصلح بين الناس، فهو لا يقصد الفريضة، فالصلاة عظيمة جداً، ولكن صلاة النافلة عبادة قاصرة، فإذا خيرت بين أن تصلي النافلة أو تصلح بين الناس، فإن الحديث يخبرك أنك إذا أصلحت بين فلان وفلان فهو أعظم من صلاة النافلة التي تصليها.
إن إصلاح ذات البين ترفع درجاتك، فأنت عندما تصلح بين اثنين كأنك وجهت الاثنين إلى أن يصليا بخشوع، ويصوما بإخلاص، وأخذت منهم شواغل الشيطان.
هنا الحديث أطلق وقال: (الصلاة)، وما قال نافلة ولا فريضة؟ نقول: قد يكون إصلاح ذات البين أفضل من صلاة الفريضة، لو فرضنا أن إنساناً أراد أن يصلي الظهر، ورأى اثنين خارج المسجد، كل منهما يحمل سكيناً على صاحبه ليقتله، فهنا لا يصلي بل يخلصهما مع قدرته على ذلك بدلاً من أن يسقط واحد منهما قتيلاً، حتى لو خرج وقت الصلاة وأنت تمنع جريمة قتل تقع بين هؤلاء فتصلح يكون خيراً لك، والصلاة تدرك، أما الموت فلا يدرك، فلذلك قد يكون في حالة من الأحوال أفضل من صلاة الفريضة، وصلاة الفريضة قد تجمع مع غيرها في السفر، وقد تجمع مع غيرها في علة المطر، وقد تجمع مع غيرها في علة من العلل.
(8/8)
الصلح في المسامحة ببعض الدين
من الأحاديث التي ذكرها لنا الإمام النووي: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت خصوم بالباب عالية أصواتهما وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء).
الحديث ذكره ابن حبان وفيه: أن امرأة وابنها يستوضعان الرجل ويسترفقانه، يعني: ارفق بنا، حط عنا من الثمن قليلاً، فحلف الرجل أنه لن يفعل.
وجاء في رواية للحديث نفسه: أن المرأة وابنها كانا يستوضعان الرجل، يعني: يطلبان منه أن يضع شيئاً من هذا المال، وقالت المرأة: إن هذا الطعام الذي أخذناه ما نقص إلا قدر ما أكلناه فقط، فحط عنا، كأنها تريد أن ترجع له أشياء اشترتها قد أكلا بعضاً منها، والرجل يقول: أكلتم منها، لن أرجعها، فلا هو الذي رضي أن يرجع السلعة، ولا هو الذي حط عنهما الثمن، وحلف لهم: والله لن أفعل.
وسمع النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يسأل، فالمرأة -في رواية ابن حبان - قالت: إني ابتعت أنا وابني من فلان تمراً، أي: اشترينا تمراً من هذا فأحصيناه، لا والذي أكرمك بالحق ما أحصينا منه إلا ما نأكله في بطوننا أو نطعمه مسكيناً.
يعني: التمر الذي أخذناه أكلنا منه وأطعمنا منه المساكين وجئنا نستوضعه.
يعني: اشتريا منه بدين، فطلبا منه أن يحط عنهما قليلاً أو ينظرهما إلى وقت آخر، فرفض أن يضع عنهما أو ينظرهما، فلما تكرر منه هذا الشيء فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أين هذا المتألي على الله ألا يفعل الخير)، والرواية هنا: (أين المتألي على الله لا يفعل المعروف) أي: من هذا الذي يحلف على الله إنه لن يفعل المعروف؟ فالكلمة شديدة، إذ إن الرجل موجود لعله يخجل، وفعلاً خجل من نفسه، فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: احك لي حكايتك، لأنه هنا ليس حكماً، وإنما هو إصلاح، فلذلك لم يرد أن يسمع من الرجل، ولكن قال كلمة أوجعت الرجل: (أين المتألي) أي: هذا الذي يحلف أنه لن يفعل الخير؟ والإيلاء: حلف اليمين، قال: (آلى ألا يصنع خيراً، آلى ألا يصنع خيرا، ثلاث مرات، فقال الرجل صاحب التمر للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال) أي: أفعل ما تريد.
ففي الحديث هنا: أن الرجل سمع النصيحة من النبي صلى الله عليه وسلم: (أين المتألي على الله لا يفعل الخير؟ قال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب) والغرض هنا: نوع من الإصلاح، أصلح النبي صلى الله عليه وسلم بين الرجل وبين الآخرين.
ويمكن أن نذكر قصة كعب بن مالك مع ابن أبي حدرد: تقاضى كعب بن مالك ابن أبي حدرد مالاً في المسجد فقال له: ما معي.
وارتفعت الأصوات في المسجد، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه خرج على الاثنين، وقد ارتفعت أصواتهما، فعرف أن كعباً يطلب من الآخر ماله، لكن لا ينبغي أن يكون هذا في المسجد، وعلى كلٍ لصاحب الحق مقال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـ كعب: (يا كعب، ضع الشطر) وقوله صلى الله عليه وسلم هنا ليس على سبيل الوجوب ولكنه يشفع بكلمة طيبة، أي: لا تأخذ الدين كاملاً وخذ نصفه فقط، فقال: (أفعل يا رسول الله، وقال للآخر: قم فاقضه.
قال: نعم يا رسول الله).
ففعله صلى الله عليه وسلم هنا ليس حكماً؛ لأنه عند الحكم لا بد أن يسمع من هذا ويسمع من هذا ثم يقضي بينهما، ثم يكون ملزماً أن يدفعه كاملاً، أو نظرة إلى ميسرة، ولكن كان هذا إصلاحاً منه صلى الله عليه وسلم، فنتعلم من ذلك كيف نصلح بين الناس، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى النصح وعلى الانتفاع به، وأن ينصر الإسلام والمسلمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(8/9)
شرح رياض الصالحين - فضل ضعفة المسلمين [1]
فضل الله عظيم وجنته واسعة، وقد كتب عنده أن رحمته سبقت غضبه، فهو يغفر للمؤمن ويضاعف له الحسنات ويمحو عنه السيئات بفضله وكرمه، وكلما استضعف المرء أمام ربه ازداد عنده رفعة.
(9/1)
أمر الله لنبيه بالصبر مع ضعفة المسلمين
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين: قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28].
وعن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف، لو أقسم على الله لأبره.
ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) متفق عليه.
وعن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (مر رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا) متفق عليه.
باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين.
خلق الله عز وجل الإنسان على هيئة معينة وجعل له عقلاً، وقدر له رزقه وأجله، وعمله، ويا ترى في النهاية شقي أو سعيد؟ الله أعلم بذلك.
الناس في الدنيا يحب أن يرى أحدهم نفسه قوياً غنياً صاحب منصب، فإذا كان على هذه الهيئة لعله ينسى غيره من الضعفاء والفقراء والخاملين، لكن ربنا سبحانه وتعالى أعلم بما في نفوس الخلق، وقد يكون هذا الإنسان الضعيف الذي يحتقره إنسان آخر أفضل عند الله عز وجل منه، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، وقال: {لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11].
إذاً: الإنسان لا ينظر لغيره بعين الاحتقار، فلعل هذا الذي تحتقره أفضل منك عند الله عز وجل.
يقول: (فضل ضعفة المسلمين): المسلم الضعيف له فضل عظيم، يكفي أنه صابر على ضعفه ومرضه، وما هو فيه من أمر قدره الله عز وجل عليه، أنت أعطاك الله عز وجل القوة وهو أعطاه الضعف، وقد ينعكس الحال، فقدر نفسك مكانه، ويا ترى هل تحب أن تعاملك الناس بمثل معاملتك له؟ كل إنسان مسلم له حقه، فلا تحتقر أحداً من الناس، فإنك لا تدري ما في قلب هذا الإنسان.
الضعفاء والفقراء من المسلمين لهم فضيلة عند الله عز وجل، وغير مطلوب من الإنسان أن يعيش فقيراً ويترك المال الذي عنده، فالغنى والفقر أقدار من الله عز وجل يقدرها على من يشاء.
كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من أغنياء الصحابة، وما كان يتمنى منزلة الفقراء، وكان ينفق ماله لله عز وجل، فيعوض الله أكثر منه، فعلى ذلك من جعله الله غنياً يحمد ربه ويشكره على ما هو فيه من نعمة وفضل، وله أجر.
والفقير إذا خلقه الله عز وجل فقيراً فليصبر على ما هو فيه، وله أجر.
والغرض ألا نحتقر أحداً لفقره، أو لضعفه، أو لخموله.
ومعنى الخمول: عدم الشهرة، إذ ليس معنى شهرة الإنسان أنه الأفضل، فالله يعلم ما في النفوس، ولعل هذا في قلبه من الإيمان ما يجعله أعلى في الدرجات عند الله عز وجل، والإنسان المشهور لعل في قلبه من الرياء ما يجعله من أهل النار، لذلك على المسلم ألا يحتقر أحداً من المسلمين، ولا يفتخر على أحد أبداً.
(9/2)
عتاب الله لنبيه عندما أعرض عن ابن أم مكتوم
يذكر المصنف قول الله سبحانه وتعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
هنا الخطاب للنبي صلوات الله وسلامه عليه، يربيه ربه بالقرآن، فيؤدبه ويهذبه صلوات الله وسلامه عليه، فينفذ ما يقول له ربه عليه الصلاة والسلام، ولعله يكاد يفعل شيئاً ثم ينزل القرآن لينبهه فيرجع عنه، ولعله يفعل ويرى أن المصلحة في هذا الشيء ثم ينزل القرآن ويلومه ويعاتبه صلوات الله وسلامه عليه، لماذا فعلت هذا الشيء؟ لعلنا نذكر قصة الأعمى عبد الله بن أم مكتوم الذي جاء يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم في وقت كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه مشغولاً بدعوة أناس من كبار الكفار ليدخلوا في دين الله عز وجل، فألح على النبي صلى الله عليه وسلم في شيء ليعلمه إياه، فكأنه غضب صلى الله عليه وسلم منه، وأن هذا ليس وقته، فهؤلاء لو دخلوا في الإسلام سيكون في الإسلام عزة، فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، فنزل القرآن يلومه صلى الله عليه وسلم، لماذا تعبس؟ لماذا تقطب جبينك لهذا الإنسان؟ لاحظ أنه عبس لإنسان أعمى لا مبصر، فالمبصر سيراه أنه عبس، ولكن هذا كان أعمى ومع ذلك فإن القرآن يلومه على ذلك، ويقول له: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1 - 4].
فهنا يعاتب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء لو عمله غيره لما عوتب عليه، ولكن ربنا قال له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وصاحب الخلق العظيم لابد أن يتربى ويتأدب على أعلى وأعظم ما يكون، فالذي لغيره مباح هو في حقه صلى الله عليه وسلم ممنوع؛ لأنه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فربه يؤدبه بأعلى ما يكون من مكارم الأخلاق صلوات الله وسلامه عليه.
(9/3)
فضل صهيب وخباب وأمثالهما على الكبراء
في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام:52] إلى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
جاء أن الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجداه مع صهيب وبلال وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المؤمنين.
وانظروا لجلسة النبي صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء الفقراء من المسلمين السابقين، والأقرع بن حابس سيد بني تميم، وعيينة بن حصن سيد بني فزارة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكل واحد منهم يريد أن يجلس تحت قبة أو في مجلس تتكلم العرب بمثله.
انظروا إلى الفرق بين ضعفاء المسلمين الأفاضل الذي كرمهم الله عز وجل وشرفهم بحسن صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالسبق في دين الله عز وجل وهم يتعلمون منه صلى الله عليه وسلم، فهذا صهيب الذي هاجر فقيراً من مكة إلى المدينة، كان له مال كثير فأخذه المشركون فتركه لهم وهاجر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (ربح البيع أبا يحيى) فهذا يجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وبلال الذي كان عبداً فأعتقه أبو بكر رضي الله عنه وقد عذب عذاباً شديداً ومع ذلك هو الآن مع النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وعمار الذي أوذي هو وأمه وأبوه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقتلت أمه فكانت أول شهيدة في الإسلام.
وخباب كان ممن عذب عذاباً شديداً.
هؤلاء كانوا جالسين مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع ناس من ضعفاء المؤمنين، فجاء هذان الرجلان وكل منهما سيد في قومه، فكأنه لم يعجبهما أن يجلسا بين هؤلاء، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم، وقالوا له صلى الله عليه وسلم: إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا.
يعني: نريد أن نجلس معك جلسة بحيث يعرف الكل فضلنا، فنحن جئنا لنسلم، ونريد أن تشرفنا بمجلس منك، وينتشر خبر هذا المجلس بين الناس، وتكتب لنا كتاباً بهذا الذي تقوله؛ فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد.
انظروا إلى الاستكبار: (هؤلاء الأعبد) جمع عبد، وهم عبيد لله تبارك وتعالى، فهم أفضل من هذين.
لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان الأقرع بن حابس وأشباهه ممن ارتدوا ثم رجعوا إلى الإسلام بعد ذلك، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أمثال هؤلاء، لكن الصحابة الأفاضل هم الذين قاوموا أمثال هؤلاء ليثبتوا على الإسلام.
(9/4)
أمر الله لنبيه بإدناء الضعفاء والصبر معهم
المقصود أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقالوا له: وفدنا عليك فاجلس معنا في مجلس يعرف لنا العرب به فضلنا وشرفنا، وإذا قمنا فاقعد معهم إن شئت.
فكأن مصلحة التأليف والدعوة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحين هو أن يعمل لهم مجلساً لعلهم يسلمون ويصلح حالهم.
هذه وجهة نظره.
فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، وطلبوا منه أن يكتب لهم كتاباً بهذا الشيء، ليكون ملزماً بما قاله، فكاد أن يكتب كتاباً صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم على ذلك، فإذا بجبريل ينزل على النبي صلوات الله وسلامه عليه، يقول راوي الحديث خباب: ونحن جلوس في ناحية المسجد، يعني: لا نعلم ما الذي يقال، فنزل جبرائيل عليه السلام بالآية: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52].
فالله سبحانه وتعالى يأخذ بحق هؤلاء الضعفاء الذين احتقرهم هؤلاء، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: احذر، فلا تطرد هؤلاء فتكون من الظالمين.
ثم ذكر له الأقرع وعيينة بن حصن فقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام:53]، ولعل ذلك كان وهم في مكة قبل الهجرة إلى المدينة؛ لأن هذه من سورة الأنعام، وسورة الأنعام مكية وليست مدنية.
ثم قال تعالى يذكر خباباً وأمثاله: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، قال خباب: فدنونا منه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أظهر الله لنا الفضل.
قال: فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته صلوات الله وسلامه عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس معنا، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل في القرآن: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]، يعني: ولا تجالس الأشراف تريد زينة الحياة الدنيا.
قال سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28].
ثم ذكر الله تبارك وتعالى أن من صفات هؤلاء أنهم يتبعون أهواءهم: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28] أي: كان أمره هلاكاً، لو ظل على مثل هذا الشيء ثم ضرب لهم مثل رجلين ومثل الحياة الدنيا.
قال خباب: فكنا نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغنا الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم صلوات الله وسلامه عليه، وهذا تأدباً منه صلى الله عليه وسلم وطاعة لأمر، الله عز وجل.
فكان يجلس لهم، ولكن الجلوس إلى الناس حتى ينفضوا بأنفسهم صعب، لكن هؤلاء الصحابة ليسوا مثل غيرهم، فقد فطنوا وفهموا أن الله أعطانا هذا كله لا لنؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، بل نحن نقوم في الوقت الذي يحب أن يقوم فيه، فالصحابة تأدبوا بأدب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا يشفقون على النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمهم ورباهم، وعلم ما في قلوبهم من إيمان؛ لذلك فضلهم الله وشرفهم وأنزل فيهم من القرآن ما يمدحهم به في آيات كثيرة.
(9/5)
شرح حديث: (أهل الجنة كل ضعيف متضعف)
عن حارثة بن وهب رضي الله عنه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره).
ضعيف في نفسه، وضعيف عند الناس، يعني: لا يرى نفسه من أهل الأبهة ولا الدنيا ولا الرئاسة، ويرى نفسه لا يستحق مثل هذه الأشياء، فهو في نفسه مستضعف والناس ينظرون إليه أيضاً هذه النظرة، فهو قد تواضع وبلغ من تواضعه أن احتقره الناس، ونظروا إليه على أنه لا شيء.
فهو لتواضعه كان كبيراً عند الله سبحانه، وكان له منزلة عند الله، لدرجة أنه لو قال لله عز وجل: يا رب أقسمت عليك أن تفعل كذا.
يفعل الله تبارك وتعالى، تخيل أنه يصل إلى هذه الدرجة وأنه يقسم على الله تبارك وتعالى، فيفعل الله عز وجل ما يريد هذا الإنسان الضعيف؛ لمنزلته العظيمة عند الله سبحانه.
قال: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر).
هؤلاء أهل النار: (كل عتل) والعتل: هو الغليظ الجافي الذي لا يألف ولا يؤلف، فلا يحب الناس ولا يحبونه، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، شر وأوحش الناس من يخاف من شره، لا يجلس جلسة إلا خربها، ولا يتكلم إلا خاف الناس من شره.
والجواظ: هو الجموع المنوع، عنده مال لكنه جامع مانع، عنده عشيرة يمنعونه فهو مستكبر بذلك.
وقيل فيه أيضاً: الضخم المختال في مشيته، الجامع للمال وله عشيرة، وكأنه مستكبر بهذا كله لقوته ولماله ولعشيرته.
(9/6)
شرح حديث: (هذا خير من ملك الأرض من مثل هذا)
وفي إحدى الروايات يقول سهل بن سعد: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده: ما رأيك في هذا؟ وكان مع النبي مجموعة من الناس من ضمنهم أبو ذر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل، وهنا قال: (فقال لرجل عنده).
فقال: رجل من الأشراف أو من أشراف الناس، وفي رواية أخرى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (انظر إلى أرفع رجل في المسجد في عينيك)، وكأنه يقول له: من أحسن رجل في عينيك تنظره في المسجد؟ وفي روايات أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم أموالاً بين الناس، فيقول له: انظر أرفع الناس في عينيك؟ فنظر فرأى عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟) فكان جواب أبي ذر رضي الله عنه: (رجل من أشراف الناس: هذا والله حري إن خطب أن ينكح)، لأنه كبير جداً في قومه، فهو من ملوك العرب، أو من كبراء العرب، ورئيس قبيلة من أعظم قبائل العرب فضروري إن أراد أن يتزوج أن يجد من يتمناه لابنته.
ثم قال أبو ذر: (وإن شفع أن يشفع)، يعني: عندما يشفع عند فلان من الناس تقبل شفاعته لمنزلته في قومه.
قال: (فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أنه قال: (وإذا قال أن يستمع)، فذكر فيه ثلاثة أشياء: أنه ذو شرف، وكبير في قومه، ولو استشفع عند أحد قبلوا منه شفاعته، ولو ذهب يخطب من الناس سيقبل ويزوجونه، وعندما يتكلم يسكت الناس ليسمعوه لأنه كبير في قومه.
ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟) لرجل آخر، وذكروا أن اسم هذا الرجل جعيل وكان من فقراء المسلمين رضي الله عنه.
(قال: ما رأيك في هذا؟ فقال: يا رسول الله! هذا رجل من فقراء المسلمين)، أي: أن هذا لا شيء في جانب من سبقه، فهذا رجل فقير.
(هذا حري إن خطب ألا ينكح وإن شفع ألا يشفع)، إن طلب الزواج لا يزوج، وإن شفع لا تقبل شفاعته.
(وإن قال ألا يسمع لقوله)، عندما يتكلم لا يسمع.
فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض من هذا).
وعندما وزع صلى الله عليه وسلم المال على هؤلاء لم يعط هذا الفقير شيئاً، وأعطى لهؤلاء الكبار أموالاً كثيرة، فإذا بـ أبي ذر يتعجب من ذلك، ويسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أفلا يعطى هذا كما يعطى الآخر؟) يعني: إن كان مثلما تقول وأنه أفضل من ملء الأرض من هذا فلم لا تعطيه مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أعطي خيراً فهو أهله، وإذا صرف عنه فقد أعطي حسنة)، يعني: له الحسنة عند الله تعالى بذلك.
وفي رواية أخرى: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لهم: (جعيل خير من ملء الأرض مثل هذا.
قال: فقلت: يا رسول الله! ففلان هكذا وتصنع به ما تصنع) يعني: الفقير الذي هو خير من ملء الأرض من هذا الغني لم تعطه وأعطيت للأغنياء الكثير؟ فقال: (إنه رأس قومه) يعني: عيينة بن حصن أو الأقرع بن حابس أتألفهم على الإسلام، والله قال في توزيع الزكوات: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60]، وهؤلاء من المؤلفة قلوبهم، فكان يتألفهم ليثبتوا على الإسلام، وقومهم سيكونون على الإسلام، فإذا مات هؤلاء بقي القوم على الإسلام، فكانت المصلحة في تألف هؤلاء، فأعطاهم النبي صلوات الله وسلامه عليه الدنيا، ولكن الآخرة لهؤلاء الفقراء، وإن كان هؤلاء أسلموا ثم ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفر، ثم رجعوا إلى الإسلام بعد ذلك.
الغرض: أن الإنسان لا يقيم الناس على الغنى والفقر، فإن كان فقيراً فلا قيمة له، وإن كان غنياً وله المركز والعشيرة فهو أفضل من غيره، فهذه ليست النظرة التي ينظر بها الله عز وجل لعباده، وإنما يفضل أهل الفضل بتقواهم وبسبقهم إلى دين الله عز وجل، وبدفاعهم عن دينهم وبصبرهم وثباتهم على دينهم، فلذلك كان جعيل وأمثاله خيراً من ملء الأرض من ذاك وأمثاله، وفي رواية: (من طلاع الأرض من مثل هؤلاء).
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(9/7)
شرح رياض الصالحين - فضل ضعفة المسلمين [2]
إنما يعظم في القلوب ما عظم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الضعفاء، وكفى بابن مسعود رضى الله عنه مثلاً، فمع ضعفه وخفة وزنه لكنه عند الله عظيم ثقيل، وكم من ضعيف مستضعف لو أقسم عى الله لأبره.
(10/1)
أكثر أهل الجنة من الضعفاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين: قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف:28].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة) متفق عليه.
وعنه: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاباً، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات.
قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها أو أمره.
فقال: دلوني على قبره.
فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم) متفق عليه].
ذكرنا هذا الباب في حديث سابق وهو: فضل ضعفة المسلمين والفقراء والخاملين، وذكرنا أن المرء في الدنيا يحب أن يصاحب الأقوياء، ويحب أن يصاحب الأغنياء، ويحب أن يصاحب من هو مثله، فجاء القرآن وجاءت السنة لتبين لنا الإيمان الحقيقي لمن تصحبه وتحبه وتحافظ على صداقته وإخوته.
فذكر لنا هنا فضل الضعفاء من المسلمين، والمقصود بالضعيف هنا من لا يؤبه له، وقد يكون عند الله عز وجل عظيماً، قد لا يعرفه أهل الأرض وتعرفه ملائكة السماء، فعلى ذلك لا ينظر إليه ضعيفاً أو مريضاً أو فقيراً أو إنساناً خاملاً في الناس، والمصنف هنا يذكر فضل هؤلاء الضعفة والفقراء من المسلمين والخاملين، والخامل هو من ليس مشهوراً، ولا يبتغي الشهرة عند الناس.
وسبق أن ذكرنا أن من الصحابة من كانوا على هذا الحال رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعاً، ومنهم صهيب وبلال وعمار وخباب، والبعض من العرب كانوا يريدون أن يدخلوا في هذا الدين ولكنهم استكبروا أن يجلسوا في مجلس واحد مع هؤلاء الفقراء الضعفاء الذين يدنيهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، فمن هؤلاء الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وكانا كبراء قومهما، فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28]، يعني: لا تبتعد وتعد عينيك عن هؤلاء الضعفاء والفقراء والزمهم فهم أولى بك؛ لأنهم يريدون الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما هؤلاء الجبارون والمتكبرون والكبراء في قومهم إذا كانوا لم يتوبوا إلى الله عز وجل، ولم يعرفوا حقيقة الدنيا وأن الغنى ليس شيئاً، فالله فوقهم وهو الغني الحميد سبحانه وتعالى؛ وقوة الإنسان لا تفيد شيئاً، والله القوي فوق كل قوي، والقهار الجبار فوق كل إنسان فيه جبروت وقوة، فلو لم يعرف الإنسان ذلك فلا يستحق أن يصاحب.
ومن يتق الله فله منزلة عظيمة عند الله عز وجل، وليس معنى ذلك أن الإنسان يطلب الفقر مثلاً، أو يسأل ربه أنه يجعله فقيراً، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الفقر، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت).
فإذا كان الله أغنى إنساناً فليحمد ربه على ذلك ولا يطلب الفقر، وإذا أفقره الله عز وجل فعليه أن يأخذ بأسباب الغنى والرزق، ويحمد ربه على ما هو فيه، قد يفقره ويعطيه صحة، وقد يفقره يمنعه الصحة ويعطيه قوة الإيمان، فالله عز وجل حكيم في جميع أفعاله سبحانه وتعالى.
انظروا إلى احتجاج الجنة والنار، فكل واحدة تذكر نصيبها من الناس، فالنار تقول: في الجبارون والمتكبرون.
وهذا مناسب لها، فهي قوية جبارة تقهر من فيها، فناسب أن يجعل الله فيها الجبارين والمتكبرين في الدنيا.
والجنة قالت: في ضعفاء الناس ومساكينهم.
فقال تبارك وتعالى للجنة: (إنك رحمتي أرحم بك من أشاء، وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء).
إذاً: ربنا خلق هذه ليرحم بها من يشاء، وخلق هذه ليعذب فيها من يشاء.
إذاً أهل الجنة هم ضعفاء الناس ومساكينهم، هذا في الغالب، وقد يكون فيها الأغنياء مثل عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله تبارك وتعالى عنهم، هؤلاء من مياسير الصحابة، والله تعالى أنعم عليهم بنعم في الدنيا، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة.
(10/2)
وزن المتكبرين والضعفاء يوم القيامة
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة).
خذ جناح الذبابة وانظر كم سيزن؟ لا شيء، فيأتي هذا الرجل الذي كان متعاظماً في الدنيا مستكبراً فيها، وكان لا يلقي للناس بالاً، وإذا جلسوا أمامه يسخر منهم ويستهزئ بهم، ويغمز بعينه عليهم؛ يجيء هذا الإنسان المتطاول يوم القيامة ولا قيمة له، ولا يزن عند الله جناح بعوضة فأمر الدنيا شيء وأمر الآخرة شيء آخر.
صعد عبد الله بن مسعود مرة على شجرة من شجر الأراك يجني من ثمارها، فضحكوا عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ فقالوا: نعجب من دقة ساقيه، وكان سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قصيراً نحيفاً ولما اعتلى صدر أبي جهل ليقطع رقبته اضطر أن يجلس فوق صدره ليقطعها، وكان من فقهاء الصحابة يحتاجون إلى علمه، فلما ضحكوا منه إذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر لهم المفهوم الصحيح، وبين لهم أن ساقيه هذه عند الله يوم القيامة أثقل من جبل أحد، أي: فلا تضحكوا على من هذا فضله عند الله وهذا ميزانه يوم القيامة.
أما الكافر الفاجر المستكبر فيأتي يوم القيامة ولا يزن عند الله شيئاً {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، لا هو ولا ماله ولا أعماله، وجعلنا كل الذي عمله هباء منثوراً.
إذاً: الوضع يوم القيامة: من كان في الدنيا يساوي عند الناس شيئاً وهو من المؤمنين إذ به له وضع عظيم، وقد يشفع في أمم كثيرة من الخلق يوم القيامة.
(10/3)
منزلة من يقم المساجد
وعن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء أو شاباً كانت أو كان يقم المسجد).
ومن سيتزوج المرأة السوداء؟ وكانت هذه المرأة تكنس مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد هذا كان مفروشاً بالحصير، فكانت تأخذ الحصير تنظفه وتتعب في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان أحد يأبه لها، فمرة سأل عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ماتت في ليلة من الليالي، وكرهنا أن نخبرك بخبرها، فلم يكن لها ذلك القدر العظيم.
فلما قالوا ذلك قال: (أفلا كنتم آذنتموني؟ فكأنهم صغروا أمرها، فقال: دلوني على قبره أو قبرها، فدلوه على قبره أو قبرها؛ فصلى عليه صلاة الجنازة).
إذا: كانت لهاً منزلة كبيرة عند النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا يفعل شيئاً من عند نفسه، لابد أن ذلك كان بوحي من الله تبارك وتعالى، فصلى عليها عند قبرها، ثم قال لأصحابه: (إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها)، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يجيرنا من ظلمة القبور وعذابها، بل شكل القبور من الخارج مفزع فما بالك بداخلها، إذاً: ستكون ظلمة على أهلها الذين بداخلها، ولكنه صلى الله عليه وسلم يصلي على أهلها وينورها الله عز وجل لهم بصلاته صلوات الله وسلامه عليه، قال: (وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم).
وهذه المرأة أو هذا الشاب ما كانوا يطلبون من الناس شيئاً، بل يقمون مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ابتغاء مرضاة الله، فهم عند الناس ما كانت لهم قيمة، لكن عند الله عز وجل وعند رسوله صلى الله عليه وسلم لهم القدر العظيم، الذي يجعل النبي صلى الله عليه وسلم يذهب فيصلي على هذه المرأة في قبرها.
(10/4)
قصة جريج العابد
من الأحاديث التي جاءت حديث طويل عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة)، الحديث طويل، والغرض منه آخر الحديث، وفيه قصة جميلة، يقول: إن ثلاثة فقط تكلموا وهم في حال الرضاعة، وهم: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وسيأتي ذكره، والظاهر أيضاً أن هناك رابعاً لهؤلاء الثلاثة وهو من أصحاب الأخدود وقال: يا أمة الله! اصبري، فهؤلاء أربعة.
ذكر منهم هنا ثلاثة، أولهم: عيسى بن مريم نطق وقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:30]، فكان نطقه آية ومعجزة.
الثاني: صاحب جريج، وجريج هذا كان رجلاً عابداً اتخذ صومعة، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، وفي رواية: أنه كان تاجراً يزيد مرة وينقص مرة، يعني: يربح مرة ويخسر مرة، ثم ملَّ من التجارة وقال: إني سأنظر لي تجارة مع الله تبارك وتعالى أفضل من ذلك.
في هذه الرواية يقول: كان رجل في بني إسرائيل تاجراً، وكان ينقص مرة ويزيد مرة، فقال: ليس هذه تجارة فيها خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، وكان يقال له: جريج.
يعني: كأنه في البداية كان تاجراً ثم اعتزل وترهب، والرهبانية كانت في بني إسرائيل، ولم يفرضها الله عليهم ولكنهم ابتدعوها، قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد:27]، (إلا) هنا استثناء منقطع، أي: نحن ما كتبناها عليهم ولكن هم فعلوا ذلك -فإلا بمعنى لكن- وفعلوها ابتغاء مرضاة الله، وعندما أتوا بها ما رعوها حق رعايتها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا أنه لا رهبانية في الإسلام.
في الحديث: أن هذا الرجل بنى صومعة يعبد فيها ربه تبارك وتعالى، فجاءته أمه فقالت: يا جريج! وفي بعض الروايات: أنها جاءت له ثلاثة أيام، وفي كل مرة تناديه، ثم يتركها ويقبل على صلاته.
وفي رواية يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لو كان جريج فقيهاً لترك صلاته وأجابها) فهو يصلي صلاة نافلة، ولو كان فقيهاً لترك الصلاة ورد على أمه، ولكنه كان عابداً.
فالرجل وهو يصلي تناديه أمه: يا جريج! فلم يرد عليها، وقال: يا رب! أمي وصلاتي، يعني: ماذا أعمل؟ هل أرد على أمي أم أكمل صلاتي؟ فآثر صلاته، وهكذا صنع ثانياً وثالثاً، لكن أمه تعبت منه فدعت عليه وقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه البغايا.
والمرأة أيضاً كانت حنونة عليه في الدعاء، فما قالت: اللهم لا تمته حتى يزني، أو يقع في الفاحشة، ولكن دعت عليه أن ينظر في وجوه المومسات.
ثم تذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وقد كان مشهوراً عندهم، حتى إن ملك بني إسرائيل يعرف جريجاً ويعرف عبادته، وكان امرأة بغياً يتمثل بحسنها من ضمن ذلك المجلس، وكانت امرأة فاجرة عاهرة في غاية الجمال، فقالت لبني إسرائيل تتحداهم: إن شئتم لأفتننه، وفي مسند الإمام أحمد قالت: لئن شئتم لأصبين منه، يعني: سألد لكم منه، وهم يعلمون أن جريجاً لا يمكن أن يفعل هذا الشيء.
ذهبت إليه الفاجرة فلم يرد عليها، ثم مرة ثانية وثالثة، ورأت أنها ستخسر المراهنة مع بني إسرائيل، وكان هناك راع يأوي إلى صومعته، فإذا بالمرأة تمكن هذا الراعي من نفسها حتى يزني بها العياذ بالله، فلما زنى بها حملت ثم وضعت غلاماً، وافترت على جريج أنه أبو هذا الغلام، فذهب بنو إسرائيل إلى جريج ليعلموا منه من أبو هذا الغلام، وكيف تفعل هذه المصيبة؟ ذهبوا إليه ومعهم فئوسهم ومساحيهم فنادوه فلم يجبهم، والذي حصل مع أمه حصل مع هؤلاء فلم يكلمهم، لكن أمه كانت حنونة فسكتت، أما هؤلاء فلم يسكتوا، فبدءوا بهدم الصومعة عليه، فلما فعلوا ذلك نزل إليهم فقال: ما أمركم؟ وفي رواية: أنهم أخذوه وأخذوها وربطوهما بحبال في أعناقهما وأخذوا يطوفون بهما في الناس، فيسألهم ما الأمر؟ فيقولون: سل هذه! وفي رواية: أنهم وصلوا به إلى بيت الزواني، فلما وصل إلى هنالك خرجن ينظرن إليه، فضحك، فتعجبوا منه كيف يضحك عندما جاء إلى باب الزواني؟ فأخذوه وذهبوا به إلى الملك فقالوا: هذا جريج الذي يذكر من عباداته ما يذكر.
فإذا بالملك يقول لـ جريج: أنت الذي يذكر من عبادتك كذا وكذا؟ ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه، فلما ذهبوا به ليصلبوه طلب منهم الإنظار فتركوه.
وفي رواية: أنه صلى لله عز وجل، وكأنه نام فرأى في منامه أن افعل كذا، وفي هذه الرواية أنه قال: أين الغلام؟ فأتوا به فطعن بأصبعه في بطنه، وفي رواية: أنه أخذ غصناً من شجرة وطعن به في بطنه، وقال: من أبوك؟ فنطق الغلام وقال: أبي فلان الراعي، فبرأ الله عز وجل جريجاً.
فقاموا يقبلون يديه ورجليه ويتعلقون به ويقولون له: سنبني لك الصومعة من ذهب، فقال: لا إلا كما كانت من طين.
هذه قصة جريج وصنيع الناس معه، وهي قصة عجيبة جداً فيها بيان ثقة جريج بالله سبحانه وتعالى، حيث أخذوه ليصلبوه فقال لهم: اتركوني أصلي وأدعو ربي سبحانه، وإذا بالله عز وجل يبرئه وينجيه.
ثم سألوه عن سبب ضحكه لما أتى بيت الزواني، فقال: تذكرت دعوة أمي علي! لولا لطف الله عز وجل به، وأنه من أولياء الله سبحانه لضل، ولكن الله لا يضيع عليه صلاته، صحيح أنه لم يجب أمه، ولكنه أيضاً له عبادة ومنزلة عند الله عز وجل، فلم يتركه الله سبحانه وتعالى في الموقف الذي كان فيه.
(10/5)
قصة الراضع من ثدي أمه
في آخر الحديث يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: (وبينما صبي يرضع من أمه، فمر رجل راكب على دابة فارهة وشارة حسنة).
يذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضمن المتكلمين في المهد طفلاً كان يرضع من ثدي أمه، فمر رجل على دابة عظيمة كبيرة -جبار من الجبابرة- له شارة حسنة، والأم عادة تريد أن يكون ابنها في أعلى المنازل في نظرها، فلو رأت وزيراً مثلاً تمنت أن يكون مثله، ولا تعلم أنه إنسان مستكبر نهايته أن يكون من أهل النار، فقالت: (اللهم اجعل ابني مثل هذا، فقال الغلام: اللهم لا تجعلني مثله! قال: فأقبل على ثديها فجعل يرضع، ثم مروا بجارية يضربونها ويقولون: زنيت سرقت، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أمه: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه) الدعوة هنا معناها: يا رب لا تجعله يتعذب مثل هذه، أو بائساً مثلها، وإذا المعجزة الثانية يقول: إنه ترك ثديها وقال: (اللهم اجعلني مثلها).
فتراجعا الحديث فقال الولد لأمه: إن ذلك الرجل الذي مر كان جباراً، آخرته إلى النار، وأنا لا أريد أن أكون من أهل النار، فقلت: اللهم لا تجعلني مثله، أي: لا أريد أن أكون جباراً مثله، وإن هذه يقولون لها: زنيت ولم تزن، وسرقت ولم تسرق، فقلت: اللهم اجعلني مثلها؛ لأنها تقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فهي على التوحيد، وهي مظلومة، وآخرتها إلى الجنة، فأنا أريد أن أكون من أهل الجنة مثل هذه المرأة.
الغرض: أنه كم من إنسان ينظر إليه الناس على أنه ضعيف بائس سيئ ثم يكون أفضل منهم.
(10/6)
ليس كل ضعيف من أهل الجنة
هل يا ترى كل إنسان ضعيف ستكون له هذه المرتبة العالية، أم أنه يشترط أن يكون إنساناً تقياً، يأتي بالفرائض، ويجتنب ما حرم الله سبحانه؟ لا بد أن يكون على هذا، ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال).
ثلاثة من أهل الجنة: إنسان ذو سلطان، ولكنه على عدالة، مقسط يعطي الحقوق، ويأمر بما أمر الله عز وجل به، وينهى عما نهى الله عز وجل عنه، ولا يفرق بين الناس.
والثاني: (ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم).
والثالث: (عفيف متعفف ذو عيال)، أي فقير ولكنه عفيف، عنده عيال ومحتاج ولكنه لا يسأل الناس شيئاً، فهذا من أهل الجنة.
أما أهل النار فهم خمسة، قال: (الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً)، أي: إنسان ضعيف، ولكنه إمعة منافق يسير وراء أصحاب الرياسة ليأخذ منهم، فهو ضعيف لكن ليس عنده عقل يأمره بالصحيح، ولا يحاول أن يفكر مثل الناس، لو أساء الناس قلدهم، أو كانوا مجرمين فهو مثلهم، أو طيبين قلدهم، فهو يقلد الناس فحسب ليعطوا له حسنة، هذا الإنسان من أهل النار مع أنه ضعيف، سبحان الله! بؤس في الدنيا وبؤس في الآخرة، فهو من شر الخلق، لا الدنيا انتفع فيها بشيء، وحتى يوم القيامة يضيع هذا الضعيف الذي لا عقل له، (الذين هم فيكم تبعاً لا يبتغون أهلاً ولا مالاً) يعني: يعيش في الدنيا لا يريد أي شيء، عاش نكرة ومات نكرة، ويوم القيامة يحشر مع هؤلاء الذي كان يتبعهم في الدنيا.
الثاني: (والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه).
(يخفى) بمعنى: يظهر، يعني: أي مطمع يظهر له يأخذه من حلال أو من حرام، فهذا من أهل النار، أي: الذي لا يبالي هل يأكل من حلال أو حرام، يأخذ الشيء من حله أو من حرمته، ولا يهمه.
الثالث: (ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك).
الذي يقدر عليه يأخذه منك ويضحك عليك به سواء من أهلك أو من مالك.
الرابع: (البخل والكذب) أي: الإنسان البخيل أو الكذاب.
الخامس: (الشنظير الفحاش) يعني: بذيء اللسان.
وهؤلاء كلهم من أهل النار، إذاً ليس أي ضعيف من أهل الجنة، بل الإنسان المؤمن الذي خلقه الله ضعيفاً، يأخذ بالأسباب ولكن لا حيلة له، فهذا ضعفه الله في الدنيا ولكن قواه يوم القيامة، أفقره في الدنيا وأغناه يوم القيامة، جعله في الدنيا لا يؤبه له وجعل الناس ينظرون إلى منزلته يوم القيامة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أوليائه وعباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(10/7)
شرح رياض الصالحين - ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين
حث الإسلام على الرحمة بالمساكين والفقراء واليتامى والأرامل، والعطف عليهم وملاطفتهم، وجعل منزلة كافل اليتيم قريبة من منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
(11/1)
ذكر ما جاء في ملاطفة اليتيم والفقراء والمساكين والضعفاء والبنات
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10].
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم].
يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم.
إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس.
وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.
(11/2)
معاني الآيات الواردة في ملاطفة الضعيف واليتيم ونحوهما
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10].
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم].
يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم.
إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس.
وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.
(11/3)
معنى قوله تعالى: (واخفض جناحك للمؤمنين)
والآيات التي جاءت في ذلك كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
وخفض الجناح: التواضع، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم مع كمال خلقه العظيم الذي شهد له به القرآن، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، ومع ذلك يقول له: اخفض جناحك، أي: ازدد تواضعاً فوق تواضعك، وفي الآية الأخرى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
وقال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف:28] فبعض الناس لفقره يكون فيه شيء من الثقل، ويثقل على صاحبه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصبر على هؤلاء؛ لأنه بعث معلماً لهؤلاء، ومربياً لهم، فليصبر مع هؤلاء الذين يدعون ربهم، وقد كان هؤلاء يطلبون العلم الشرعي فكانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمهم ويتلو عليهم القرآن فأمره الله أن يصبر مع هؤلاء معلماً ومربياً، رءوفاً رحيماً بهم، صلوات الله وسلامه عليه.
(11/4)
معنى قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)
وقال سبحانه: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10]، {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، فالله أحسن إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه إحساناً عظيماً وجعله يتيماً، والإنسان ينظر كيف كان صلى الله عليه وسلم في أهله، وكيف كان في عشيرته.
كان يتيماً فقيراً، فأبوه مات قبل مولده صلى الله عليه وسلم، وأمه ماتت وله ست سنوات صلوات الله وسلامه عليه أو نحوها، فيرعاه جده، ثم يموت جده، ويرعاه عمه، وينتقل من إنسان لإنسان، فالذي يموت عنه أبوه ثم جده ثم عمه الغالب أن يزهد في مثله، ويكون لا مال له، ولكن الله عز وجل كفله وهو ينتقل من إنسان إلى إنسان، قال سبحانه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى:6]، هو الذي آواك، وهو الذي رعاك، وهو الذي جعلهم يحنون عليك ويعطفون عليك، فإذا كان الأمر كذلك فكن مع مثل من كان في حالتك، كن كما كنا معك، أحسن يحسن الله عز وجل إليك، أشفق على اليتيم واعطف عليه، فكان كذلك صلوات الله وسلامه عليه.
قال له سبحانه بعدما من عليه بهذه النعم: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:6 - 7]، أي: لا تعرف شيئاً عن الشرائع، فالله عز وجل ينزل عليه هذا الكتاب العظيم، المعجزة التي جاءت من السماء، إذ يتحدى به الخلق كلهم صلوات الله وسلامه عليه.
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: غافلاً عن الدين، فإذا به سبحانه يجتبيه ويجعله سيد المرسلين.
وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:8] أي: فقيراً عائلاً، فأعطاك الله سبحانه وتعالى المال بفضله وبرحمته، وبإحسانه إليك، فإذا كان كذلك {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى:9]، أي: بما أننا ربيناك فلا تقهر يتيماً، ولكن أحسن إلى الأيتام واعطف عليهم.
{وَأَمَّا السَّائِلَ} [الضحى:10] أي: الذي يسألك علماً شرعياً أو حاجة يحتاجها لفقره ومسكنته {فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:10 - 11]، والنعم كلها من الله سبحانه وتعالى، هو الذي من عليك وأعطاك.
فالله سبحانه علمه وأدبه ومن عليه وأمره أن يتحدث بنعم الله عز وجل عليه، فكان يتحدث غير مفتخر بهذه النعم وإنما كما أمر، فيقول: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)؛ أي: لأن ربي أخبرني بذلك وأمرني أن أتحدث بنعمته علي.
ويأتي السائلون ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم فيعطيهم صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن أحدهم ليقول: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر! فكان لا يمسك شيئاً ويعطي مما أعطاه الله سبحانه وتعالى.
(11/5)
معنى قوله تعالى: (فذلك الذي يدع اليتيم)
قال سبحانه: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3].
إنه من علامات التكذيب بالدين وبالجزاء وبالحساب، دعُّ اليتيم والمسكين؛ لأنه في اعتقاده وظنه أنه لا حساب ولا جزاء، فيظن أنه خلق للدنيا ويموت ولا يرجع، فإذا به يكذب بالجزاء والحساب ويدع اليتيم، ولو آمن بيوم القيامة لما نهر يتيماً ولا مسكيناً أبداً.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا.
ذكرنا هذه القصة وكيف أن المشركين يحبون التعالي، فطلبوا من النبي أن يعلمهم لوحدهم، والضعفاء لوحدهم، ومن هؤلاء الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس، وكانوا سادة في قومهم، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لهم يوم لوحدهم، حتى لا تتحدث العرب أنهم قعدوا مع الفقراء والمساكين.
يقول: (فحدث نفسه صلى الله عليه وسلم)، يعني: بأن يجعل لهم يوماً، ولهؤلاء يوماً آخر، فإنهم إن أسلموا سيتعلمون التواضع ويتعلمون العلم الشرعي، فنزلت آية تحذر النبي صلوات الله وسلامه عليه من ذلك، قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:52]، أي: تظلم نفسك بطرد هؤلاء، فإذا به يأبى صلوات الله وسلامه عليه إلا أن يطيع ربه في هؤلاء الفقراء والمساكين.
(11/6)
شرح أحاديث ملاطفة الضعفاء والأيتام
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفاء والمساكين والمنكسرين والإحسان إليهم والشفقة عليهم، والتواضع معهم وخفض الجناح لهم.
قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88].
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:28].
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10].
وقال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1 - 3].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال، ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]) رواه مسلم].
يذكر لنا الإمام النووي رحمه الله أدباً من الآداب، وخلقاً من الأخلاق الكريمة، وهو خلق ملاطفة اليتيم والبنات والضعفاء والمساكين، والفقراء، والإحسان إلى هؤلاء والشفقة عليهم والتواضع معهم.
إن الإنسان المؤمن في معاملته يحرص على ما ينفعه، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قال: (احرص على ما ينفعك)، فيحرص المؤمن على النفع الأخروي في معاملاته مع الناس.
وهنا يحث الإسلام على ملاطفة الأقرباء وغيرهم من أيتام ومن بنات ومن ضعفة ومساكين، وكذلك إذا كانوا غرباء، فعليه أن يحسن إليهم، ويرجو بإحسانه إليهم الدرجة العالية في الجنة.
(11/7)
شرح حديث: (لئن أغضبتهم لقد أغضبت ربك)
من الأحاديث: حديث لـ أبي هبيرة واسمه عائد بن عمرو المزني وهو من أهل بيعة الرضوان، بايع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية بيعة الرضوان، فبايع بعضهم على الموت، وبعضهم على الجهاد في سبيل الله سبحانه.
فهذا يخبر أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال، وغيرهم من فقراء المهاجرين الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك بعد الحديبية.
ففي أثناء فترة الهدنة التي ما بين سنة ست وسنة ثمان جاء أبو سفيان فقابل هؤلاء من المسلمين، وكان أبو سفيان كافراً لم يسلم بعد، فجاء ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقابل هؤلاء المسلمين سلمان وصهيباً وبلالاً، أما صهيب وبلال فكانا يؤذيان في مكة، وصهيب خرج مهاجراً ولحقوه فأعطاهم كل ماله، وخرج إلى المدينة من غير شيء، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ربح البيع أبا يحيى).
وبلال كان عبداً فأعتقه أبو بكر.
هؤلاء الفقراء رأوا أبا سفيان وهو آت ولم يسلم بعد فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها.
فغضب أبو بكر، وكانت نظرة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه نظرة مصلحة؛ لأنه يمكن أن يسلم، ولا يريد تنفيره عن الدين، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم غاضباً، فشكا أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله سلمان وصهيب وبلال لـ أبي سفيان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر لعلك أغضبتهم)، أي: بمجاملته أبا سفيان على حساب هؤلاء، والنتيجة إن أغضبهم قال: (لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك).
فأتاهم أبو بكر مسرعاً وقال: يا إخوتاه، آغضبتكم؟ فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخيَّ.
يا أُخَيَّ تصغير أَخِي، والتصغير يكون أحياناً للتدليل، فقد يصغر الاسم على وجه المحبة والتلطف.
هذا أبو بكر الصديق الذي لو وزن إيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لوزنهم، ولكن مع ذلك أمره النبي أن يحسن إلى هؤلاء وله بذلك القدر العظيم عند الله؛ لذلك ذهب إليهم واسترضاهم فقالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي.
نتعلم من هذا الحديث أن الإنسان المسلم لا يغضب الفقير لكونه فقيراً، والإنسان المسلم يحب الفقير ولا يتمنى الفقر، ولكن الفقر قد يكون نعمة لإنسان، وقد يكون نقمة على إنسان آخر، ولذلك يكفي الفقير أنه يسبق إلى الجنة بنصف يوم من أيام القيامة، أي: خمسمائة عام، فلا تعاد الفقير أبداً، لعله يكون ولياً لله عز وجل.
وفي الحديث أن الله سبحانه وتعالى يقول: (من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، فإذا أردت أن تبتعد عن محاربة الله سبحانه وتعالى، فابتعد عن مؤذاة الفقراء والمساكين، الذين هم أهل التواضع وأهل حب الله سبحانه وتعالى.
فهنا أبو بكر الصديق يصالح هؤلاء الأفاضل، ومنهم بلال الذي عذب وأعتقه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكنه ما أعتقه إلا لله، فهو بإغضابه لهؤلاء يغضب ربه سبحانه، فذهب يصالحهم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
(11/8)
شرح حديث: (أنا وكافل اليتيم في الجنة)
عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما)، رواه البخاري.
يكفل اليتيم: يقوم بأمر اليتيم، وينفق عليه، ويربيه وفي رواية قال: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره).
واليتيم: الإنسان الذي مات أبوه، ويتجوز فيها أحياناً، فيطلق على من مات أحد أبويه، ولذلك يدخل الفقهاء فيها الرجل الذي ينفق على عياله ويقوم بأمرهم إذا أمهم ماتت، والفقهاء يقولون: إن الإنسان الذي يموت أبوه فيقوم جده أو عمه أو أخوه الكبير بالنفقة عليه والإحسان والتربية، أو يكون أبو المولود قد مات، فتقوم أمه مقامه بأن تنفق على عيالها ورفضت أن تتزوج، فإن لها فضلاً كبيراً عند الله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين) بأن يكون جاره يتيماً، أبوه مات وليس هناك أحد يرعاه، فيقوم برعايته وتأديبه وتربيته والإنفاق عليه والإحسان إليه، فهو داخل تحت هذا الحديث الذي رواه البزار من حديث أبي هريرة: (من كفل يتيماً ذا قرابة أو لا قرابة له).
إذاً: كافل اليتيم قد يكون قريباً أو غريباً، وقد يكون رجلاً أو امرأة، وقد تكون المرأة أم هذا الإنسان اليتيم، وقد يكون الرجل أباً لهذا الذي توفيت أمه، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين).
ومعنى (كهاتين): أنه قريب من النبي صلى الله عليه وسلم في دخول الجنة سريعاً.
أيضاً قريب في علو المنزلة، والنبي صلى الله عليه وسلم في أعلى المنازل، يليه كافل اليتيم رجلاً كان أو امرأة، ويوضحه ما جاء في مسند أبي يعلى من حديث أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا أول من يفتح له باب الجنة إلا أنه تأتي امرأة تبادرني فأقول لها: مالك وما أنت؟ فتقول: أنا امرأة تأيمت على أيتام لي).
والأيم: التي لا زوج لها، يعني: صارت أرملة، مات زوجها وهي حفظت نفسها لعيالها، ورفضت أن تتزوج وقامت بأمر عيالها حتى كبروا واستغنوا عنها، فهي ممن يدخل الجنة سريعاً مع النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عوف بن مالك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين، كهاتين يوم القيامة)، والسفع في الخد بمعنى: سواد في الخد، وكأنه الناشئ عن تعب ومشقة وعدم اهتمام بالنفس.
والمرأة قد تكون جميلة أو نسيبة وشريفة؛ ولكن بسبب هموم تربية العيال وموت الزوج والاحتياج تكدح وتتعب حتى ينتفخ خداها، فقوله صلى الله عليه وسلم: (أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة)، يعني: كأصبع السبابة والإبهام يوم القيامة.
وسفعاء الخدين هذه قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (امرأة ذات منصب وجمال)، يعني: ليست سفعاء الخدين، بل هي ذات منصب وجمال، قال: (حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا)، يعني: توفي زوجها، ورفضت أن تتزوج وقامت بأمر هؤلاء الأيتام حتى ماتوا أو كبروا وانصرفوا وتزوج كل واحد منهم واستغنوا عن أمهم بعد ذلك، فيخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه المرأة بصبرها على تربية هؤلاء اليتامى تكون يوم القيامة قريبة من منزلته صلوات الله وسلامه عليه.
(11/9)
شرح حديث: جابر (مم أضرب يتيمي)
جاء في حديث لـ جابر بن عبد الله رواه الطبراني يقول: (قلت: يا رسول الله! مم أضرب يتيمي؟).
وتربية كافل اليتيم لليتيم كتربيته للأولاد، فلا يقسو عليه ولا يغلظ له في الكلام، فمثلما يكون حازماً مع أطفاله يكون حازماً مع اليتيم، ومثلما يدلل أطفاله يدلل اليتيم.
فلما قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (مم أضرب يتيمي قال له: مما كنت ضارباً منه ولدك).
أي: فإذا كنت تربي أولادك بحديث: (مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر)، كذلك اليتيم الذي تربيه، تأمره بالصلاة لسبع وتضربه لتركها لعشر، وتربيه مثلما تربي ولدك.
فمن الناس من قد يتوفى أخوه، فيقوم هو بتربية عيال أخيه، وقد يكون عيال أخيه وارثين من أبيهم مالاً كثيراً، فيحاول من يقوم برعايتهم وقاية ماله بمالهم، فيأكل معهم ويشرب معهم، فالله يحذر من ذلك: إن كنت تريد الدرجة العظيمة يوم القيامة في الجنة، فلا تق مالك بمال يتيمك.
يقولون: إن كافل اليتيم شبهت منزلته في الجنة بالقرب من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم لا يعقلون الدين، فرباهم وعلمهم صلى الله عليه وسلم حتى عقلوا هذا الدين.
كذلك الإنسان مع اليتيم إذ يربي اليتيم حتى يفهم ويتعلم الدين، فالمسألة ليست صرف المال على اليتيم فقط، ولكن يربي هذا اليتيم، وينشئه إنساناً صالحاً يعبد الله سبحانه وتعالى، فيكون له الأجر العظيم على ذلك.
(11/10)
شرح حديث: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)
ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان، ولا اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف).
إن النبي صلى الله عليه وسلم يحدد لنا المسكين، وقد قال الله سبحانه وتعالى في القرآن: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
والنبي صلى الله عليه وسلم يذكر من هو هذا المسكين، فهناك أشخاص يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم ويسألونه، وهناك من هو رث الهيئة أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله الناس عن حاله فيجيب: الحمد لله أعطاني الله من كل النعم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أنعم على أحدكم فلير أثر نعمته عليه).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان)، المعنى: المسكين ليس الذي يسأل الناس دائماً، إنما المسكين ذلك الإنسان الذي يتعفف، ولا يسأل وهو محتاج، يبيت جائعاً ولا يطلب من أحد أن يعطيه شيئاً، فهذا هو المسكين الذي يحسن إليه، ويبحث عن مثله؛ لأنه ينفعك في الدنيا ويدعو لك، ويوم القيامة قد يشفع لك.
وفي رواية أخرى لهذا الحديث: (لكن المسكين الذي لا يجد غنىً يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)، هذا المسكين ليس له غنى يغنيه، وعمله لا يكفيه لينفق على أهله وعلى عياله، ولا يفطن له، فهذا هو المسكين الذي تعطيه المال.
فليس كل إنسان يطلب من الناس هو الذي مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان يسأل الناس ويمد يده للناس وهو أغنى من الذي يطلب منه.
ومن السائلين من يقف أمام باب المسجد أو في المسجد ويشكو أمراضاً وأسقاماً وآلاماً وهموماً ثم يفضحه الله عز وجل وينكشف أمره بأنه أغنى ممن هم في المسجد، فمثل هؤلاء لا يستحقون الصدقة، ولا يجوز لك أن تنهر المسكين، ولكن لا يجوز لك أن تشجعه كذلك.
(11/11)
شرح حديث: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله).
يسعى عليها يعني: ينفق عليها، ويقضي لها حوائجها، ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، هذا كالمجاهد في سبيل الله.
وفي رواية قال: (كالقائم الذي لا يفتر، وكالصائم الذي لا يفطر).
إن فضل السعي على الفقراء والمساكين عظيم جداً، فالذي يسأل عن فقير أو مسكين أو أرملة، ويقضي لهم حوائجهم، ويحسن إليهم، ويتابعهم سنين طويلة، هذا هو الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم، فعمله هذا في البحث عن الفقير والمسكين ومتابعة أحوالهم وحوائجهم يجعله كالصائم الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر، مع أنه لا يقوم بالليل ولا يصوم نافلة، لكن عمله ألحقه بهؤلاء.
والمسلم يعطي من يستحق، لا من لا يستحق.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا سواء السبيل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(11/12)
شرح رياض الصالحين - النفقة على العيال
لقد أمر الله عز وجل الرجل بالإنفاق على أهله وعياله، وأوجبه عليه، ومع ذلك إذا احتسب الرجل تلك النفقة فإنه يؤجر عليها، كذلك المرأة لو أنفقت على عيالها فإنها تؤجر على ذلك.
كذلك حث الشرع على الإنفاق مما يحب المرء من الجيد لا الرديء، حتى يبلغ الكمال في خصال الخير، وأمر أيضاً الآباء بأمر أبنائهم بالصلاة عند السابعة وتعليمهم، وضربهم عليها عند العاشرة، والتفريق بينهم في المضاجع.
(12/1)
وجوب النفقة على العيال
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النفقة على العيال.
قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
وقال تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك)، رواه مسلم].
هذا باب النفقة على العيال، والنفقة من الإنفاق، يعني: الإخراج للمال لأجل أولاده أو زوجته أو من يقوم بالنفقة عليهم، وغير ذلك ممن يتكفل الإنسان بمعونتهم.
قال الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233].
يعني: على الأب أن ينفق على أولاده وعلى زوجاته، وهذا الرجل إذا طلق امرأته وهي حامل أو وهي ترضع الصبي فيلزمه أن ينفق عليها خلال فترة الرضاعة أو خلال فترة الحمل، فإذا كانت النفقة للمطلقة فكيف بالزوجة التي هي معك، فهي من باب أولى.
لم يكلفنا الله سبحانه وتعالى ما لا نطيق، وإنما أمر بالإنفاق مما يقدر الإنسان عليه، ولذلك يقول لنا في سورة الطلاق: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7]، أي: إذا وسع ربنا على الإنسان فلينفق من السعة، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق:7]، أي: من ضيق عليه رزقه {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7].
إذاً: هنا لم يكلف الإنسان الفقير أن ينفق نفقة الغني، ولا الإنسان الغني أن يضيق ويقتر، بل الإنسان الغني ينفق من سعته، والإنسان الفقير ينفق مما أعطاه الله سبحانه، ورحمة ربنا عظيمة جداً، قال سبحانه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وقال لنا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، أي: على قدر طاقة الإنسان وقدرته، فلا يكلف الله الإنسان أكثر مما يطيق.
بل من رحمته سبحانه أنه كلف الإنسان الشيء الذي يطيق أكثر منه، فقال لنا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ولما فرض علينا الصلاة فرض خمسين صلاة، وبعد هذا نزلت إلى خمس، والإنسان يصلي الفريضة ويصلي النوافل، فهو يقدر أن يصلي أكثر من خمس صلوات في اليوم، فربنا لم ينظر إلى قدرة الإنسان، وإنما نظر إلى طاعة الإنسان وإلى الاستمرارية في ذلك، فكلفه بأقل مما يطيق، خمس صلوات فقط في اليوم والليلة.
كذلك في النفقة لا يكلفك شططاً، ولا يكلفك ما لا تقدر عليه، ولكن في حدود المعروف تنفق على المرأة من الطعام والشراب والكسوة والسكنى، لا تزيد ولا تنقص.
قال الله سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ:39]، (ما) يعني: أي شيء تنفقه سواء كان قليلاً أو كثيراً لك أجره عند الله عز وجل، باحتسابك النية في ذلك.
قال: {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، أي: يخلف عليك غيره، فأنت كلما أنفقت نفقة جاءت غيرها من الله سبحانه، وكلما بخل الإنسان وبدأ يقصر في النفقة الواجبة عليه عومل بما يفعله، بأن يملأ قلب الإنسان بالفقر، ويجد فقره بين عينيه، ولذلك في حديث النبي صلى الله عليه وسلم المتفق عليه من حديث أبي هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً) أي: ينبغي الثقة في رزق الله سبحانه، وذلك بأن ينفق الإنسان وهو واثق بأن ربنا سيخلف عليه، ولا يقول: من أين يعطيني.
انظر أنه عندما يتزوج الإنسان يأتيه الرزق والبركة، لكن كون الإنسان يقول لما يريد أن يتزوج: من أين سأتزوج؟ نقول: اسع في طلب الرزق، ولست مأموراً أن تتزوج وأنت فقير، ولكن إن كنت تريد أن تعف نفسك فثق أن الله يعينك، لكن اخرج وابحث عن عمل وابحث عن رزق حلال، وثق في أن الله سيعفك وسيعطيك من فضله ومن كرمه سبحانه.
وتلقى كثيراً ممن تزوجوا يقول لك: أنا يوم ذهبت لأخطب ما كنت أجد نقوداً، ثم فتح الله عليّ فوجدت رزقاً.
نقول: كن على ثقة في رزق الله، واترك الحرام، واعلم أن رزقك مكتوب من ساعة ما خلقك الله سبحانه، ولا تقل مثلاً: أنا أشتغل في شركة خمور، وعندي عيال! فإن عليك أن تبحث عن الرزق الحلال، وأن تبتعد عن الحرام ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، أما أن تقول: ليس أمامي غير هذا العمل، كأنك أنت الذي ترزق نفسك، فلا، بل عليك أن تبحث عن أسباب الرزق الحلال، خذ بالأسباب ودع النتيجة على الرزاق الكريم سبحانه وتعالى، وهل تظن أنك تطيع ربنا سبحانه فيضيق عليك ولا يعطيك؟! الطاعة من ورائها الخير العظيم من الله سبحانه، فهو يرضى عنك ويرضيك ويعطيك.
وقد قال عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ولقد أعطى نبيه صلى الله عليه وسلم وأرضاه وكذلك كل من يطيعه سبحانه وتعالى يعطيه ويرضيه، لكن اصبر وابحث عن الحلال وابحث عن أسباب الرزق وسيأتيك رزقك الذي كفله الله عز وجل لك.
قال في الحديث: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان) ينزل ملك لا يعصي الله سبحانه وتعالى، هو ملك خلقه الله عز وجل لهذه المهمة، ينزل من أجل أن يدعو لإنسان، وملك آخر يدعو على إنسان، الأول يدعو ويقول: (اللهم أعط منفقاً خلفاً)، أي: الذي ينفق ابتغاء وجهك يا رب! فاخلف عليه، والثاني يقول: (اللهم أعط ممسكاً تلفاً)، أي: الذي يمسك ويمتنع عن النفقة الواجبة مع القدرة فضيق عليه، فهنا الملك يدعو عليه، ولا ينزل الملك من أجل أن يدعو دعوة غير مستجابة، بل هذا الملك خلقه الله عز وجل لذلك، فالله يستجيب هذا الدعاء.
فاحرص على أن تنفق من سعتك مما قدرك الله سبحانه، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7]، وورد في الحديث أن السيدة عائشة رضي الله عنها جاءتها سائلة تسأل فأعطتها تمرة، يعني: لم تجد في البيت سوى تمرة، فأعطتها الفقيرة، فكان لها أجرها.
(12/2)
النفقة على الأهل والعيال أفضل النفقات وأعظمها أجراً
هنا ذكر الإمام النووي رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك).
انظر عظمة ربنا سبحانه وتعالى، وأنت عند إنفاقك تريد أن تفرح أهلك وتريد أن تطعم زوجتك وعيالك، وهو أحب إليك من إنفاقه على غيرهم، ومع ذلك فهو أكثر أجراً من إنفاقك الدينار في الجهاد في سبيل الله عز وجل، ومن إنفاقه في تحرير رقبة، وكذلك من التصدق به على مسكين.
فإذاً: أعظمها أجراً ما تنفقه على أهلك، طالما أنك تنفقه لتعف به نفسك وتعف به أهلك، وتمنعهم عن سؤال الناس، لكن على الإنسان أن ينفق على أهله بسماحة وهو محب للإنفاق، من غير تبذير ولا إسراف، وإنما يضع الأشياء في مواضعها.
وعن أم سلمة قالت: قلت: (يا رسول الله! هل لي أجر في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم؟)، عيال أم سلمة من أبي سلمة رضي الله عنهما، وأم سلمة كان قد تزوجها أبو سلمة وتوفي عنها، وعوضها الله عز وجل من هو أفضل من أبي سلمة فقد تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لها مال رضي الله عنها، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لي أجر أن أنفق على أولاد أبي سلمة)، الذين هم عيالها هي (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لها: نعم، لك أجر ما أنفقت عليهم).
أي: كلما أنفقت على عيالك لك الأجر في ذلك.
إذاً: ليس الرجل فقط له الأجر حين ينفق على عياله، والمرأة أيضاً إذا أنفقت على عيالها لها الأجر من الله سبحانه وتعالى.
(12/3)
الإخلاص والاحتساب في الإنفاق يقتضي الأجر والثواب
ورد في حديث سعد بن أبي وقاص يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد: (وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله).
يعني: أن تنفق النفقة وأنت تبتغي وجه الله سبحانه وتعالى، لا رياء ولا سمعة.
ثم قال: (إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك)، يعني: حتى الشيء الذي تستقله، وترى أنك تمزح وتضحك فيه، كأن تضع في فم امرأتك لقمة تمزح معها وتضحك فلك أجر في هذا الشيء الذي فيه ضحك.
أيضاً في حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهي له صدقة).
هذا فيه دليل على أن النية عظيمة جداً، وتجارة رابحة مع الله سبحانه وتعالى، فكونك تنوي الخير وتعمله تؤجر عليه أضعافاً، وكونك تنوي الخير ولا تعمله تؤجر عليه، وكونك تنوي الشر نية جازمة تحاسب عليها عند الله عز وجل؛ لأنك ما تركت فعل الشر إلا لأنك لم تتمكن منه، أما لو نويت الشر ومن ثم خفت من الله عز وجل، فإنك تؤجر على ذلك حسنة.
فإذاً: النية الحسنة مع الله عز وجل تجارة رابحة وعظيمة، بل الإنسان الذي ينوي الخير ومن ثم يرجع فيه، بأن يمد يده في جيبه ليخرج صدقة، ومن ثم بخل ولم يخرجها، فإنه يؤجر عليها، انظر إلى كرم ربنا سبحانه وتعالى، حيث يأجره؛ لأنه أراد فعل خير مع أنه لم يفعله، لكن لو تصدق أجر عليها بعشر أمثالها، إلى ما يشاء رب العالمين سبحانه وتعالى.
(12/4)
أعظم الإثم وأكبره تضييع الإنسان من يعول
ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
وفي رواية: (أن يضيع من يعول).
وفي رواية: (كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته).
يعني: الإنسان الذي يجمع المال ويترك أهله جياعاً ويحرمهم وهو معه المال، فهنا يقول لك: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) فكونك تبخل على أهلك وتضيعهم حتى يموتوا من الجوع، أو يشحذوا من الناس أو يسرقوا وأنت قادر على الإنفاق، فإن هذا إثم عظيم جداً، يكفي لإدخال صاحبه النار، كفاه هذا الإثم أنه ضيع من يعول ومن يقوت.
ورد في حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول)، (اليد العليا) أي: يد المعطي هي اليد العليا، ويد الآخذ هي اليد السفلى.
(وابدأ بمن تعول) يعني: وابدأ بالنفقة على نفسك وعلى زوجتك وعلى العيال، فهؤلاء أولى من الغريب، بعد ذلك أخرج للغير بحسب ما يقدرك الله سبحانه وتعالى.
قال: (وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) يعني: كأنه يحث الإنسان إن تصدق ألا يتصدق بكل ما عنده، بل يبقي لنفسه وأهله وعياله ما يغنيهم ويعفهم، بحيث لا يحتاج إلى أحد من الناس.
فقوله: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى) يعني: إذا كنت غنياً فأنفق، وإذا كنت فقيراً وليس عندك إلا ما يكفيك فأبدأ بنفسك وعيالك، ولك الأجر في هذا الشيء، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].
ومن كرم ربنا سبحانه وتعالى أنه لم يجعل في مالك حقاً للغير وأنت محتاج إليه، بل أمرك أن تبدأ بنفسك وأهلك وعيالك، وما زاد فأعط للغريب ولمن يحتاج.
قال في الحديث: (ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله).
قوله: (من يستعفف) الجزاء من جنس عمل الإنسان، فالإنسان عليه أن يكون عفيفاً معززاً له كرامته، فهو لا يمد يده إلى أحد.
قوله: (ومن يستغن يغنه الله) أي: إذا استغنى المرء بالله أغناه، والغنى غنى النفس لا المال، فهو قد يستغني بالشيء اليسير، ولا يمد يده إلى الناس؛ لأن الله عز وجل لم يحوجه إلى أحد من خلقه أبداً.
أما الإنسان الذي ينظر إلى ما في يد الناس ويحسدهم ويتمنى أن يصير ما عند الناس عنده، والناس ليس عندهم شيء، فهذا الإنسان يملأ الله عز وجل قلبه فقراً، ومهما أعطاه من مال فهو يحس أنه فقير وأنه محتاج.
إذاً: من يتعفف يعفه الله ويجعله عفيفاً، ويعطه ما يعفه عن سؤال الخلق، ومن يستغن بالله سبحانه وتعالى يغنه الله؛ هذا وعد صادق من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يغنيك إذا تعففت وإذا استغنيت عن الخلق بالخالق سبحانه وتعالى.
(12/5)
حث المرء على الإنفاق مما يحب
يقول الإمام النووي: [باب الإنفاق مما يحب ومن الجيد].
يعني: الشيء الذي تحبه تنفق منه ولا تنفق الشيء الرديء الذي لا تحبه، بل إذا تصدقت فتصدق بالشيء الذي مثلك يأكله، أما أنك تتصدق بالحاجة التي لا تأكلها، فتقول: بدل ما أرميها في الزبالة أعطيها للفقير، نقول: هذا لا ينبغي؛ لأن الله تعالى قال في الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] أي: لن تنالوا هذه الدرجة العالية درجة الأبرار وتجمعوا خصال الخير حتى تنفقوا مما تحبون.
جاء في الحديث عند الطبراني بإسناد صحيح: (أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فرأوا من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله! لو كان هذا في سبيل الله؟)، يعني: أن الرجل قوي ويعمل بجد وبهمة وبنشاط، فلو كان يجاهد في سبيل الله لكان أحسن، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان).
يعني: جعل النبي صلى الله عليه وسلم من يعمل بهمة ونشاط وحب للعمل من أجل النفقة الواجبة على نفسه وعلى أولاده جعل كل ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى، لم يضيق علينا في النفقة في سبيل الله بحيث يحصرها في الجهاد، بل تكرم علينا ربنا سبحانه فأخبرنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم أن من خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله، يعني: أجره كأجر المجاهد في سبيل الله سبحانه، وكذلك من خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، ومن خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، لكن من خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان.
فكونك تصلي الفريضة فأنت في سبيل الله عز وجل ومأجور على صلاتك، وتصلي النافلة أنت مأجور على ذلك، وتخرج إلى العمل من أجل أن تكسب مالاً لتعف نفسك وأهلك فأنت في سبيل الله، وعندما تنام من أجل أن تستريح حتى تقوم لتصلي الفريضة فإن نومك في سبيل الله وقيامك في سبيل الله وعملك ونشاطك في سبيل الله، حتى في مداعبة الرجل أهله وفي جماعه أهله يؤجر على ذلك، فهذا من كرم ربنا سبحانه وتعالى على عبيده، فانظر إلى عظمة هذا الحديث.
الحديث الآخر: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة) يعني: الله عز وجل يعينك إن ذهبت للعمل من أجل نفقتك وأهلك، وما عليك إلا أن تسعى، فستأتي المعونة منه سبحانه على قدر المئونة فلا تكسل، بل اعمل وإن كان العمل الآن لا يأتي بالثمن الكبير، ولكن على الأقل عملت وأريت الله من نفسك أنك بذلت الجهد وبحثت وتعبت في هذا العمل الذي لقيته على قدر الحال، فالله عز وجل يعطيك الأجر، وييسر لك ما هو خير لك، لكن كونك تجلس وتنتظر الرزق يأتيك من السماء فلا، إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، بل اخرج واسع وابحث عن الرزق، ورزقك يأتيك طالما بحثت.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: (إن المعونة تأتي من الله على قدر المئونة، وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء)، يعني: الله عز وجل لا ينزل بالعبد بلاء لا يقدر أن يصبر عليه، لأن من رحمة الله بعباده وعدله وكرمه أن أنزل البلاء على قدر صبر الإنسان، وكلما ازداد الإنسان قرباً عند الله، وازداد محبة عند الله زاده بشيء من البلاء؛ حتى يرفع درجته.
يذكر الإمام النووي من الآيات في هذا الباب قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267]، يعني: لا تأتى إلى الأشياء الرديئة وتعطيها للفقير، مثلاً: في زكاة الفطر يخرج الإنسان أردأ أنواع التمر ويعطيه للفقير، هذا لا ينبغي، لكن أخرج الشيء الذي تأكله وأعطه للفقير، الطعام الذي تأكله تصدق به، فالإنسان قد لا يكون له نفس أن يأكل هذا الطعام؛ لأنه بائت، ولكنه حلو وجيد ومثله يؤكل، فلا بأس أن يتصدق به، لكن يكون عنده طعام قد تغيرت رائحته ويتصدق به فلا؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267]، يعني: هذا الشيء الذي لا ترضى أن تأخذه ولا أن تشتريه إلا أن تتساهل وتتسامح في أخذه، فهذا لا يجوز لك أن تنفق من مثله، ولكن أنفق من خير ما أعطاك الله سبحانه وتعالى.
(12/6)
مسارعة الصحابة إلى الإنفاق من المحبوب
يقول لنا أنس بن مالك رضي الله عنه: (كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]).
انظروا تطبيق الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وليس مطلوباً منك أن تفعل كفعلهم، ولكن المطلوب منك أن تنفق من الشيء الذي تقدر عليه، وربنا أوجب عليك الزكاة (2.
5%)، فاقتد بالصحابة ومهما أنفقت فلن تبلغ مد أحدهم ولا نصيفة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نتأمل في سيرتهم وكيف بلغوا المبلغ العظيم في عبادتهم ربهم، وفي إنفاقهم أحب الأموال إليهم.
(قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى).
يعني: قال الله عز وجل: (مِمَّا تُحِبُّونَ) ولم يقل: حتى تنفقوا أحب الأشياء إليكم، وهذا تكرم من الله سبحانه، فقوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ) يعني: أنت تحب أشياء فأنفق من هذه الأشياء التي تحبها لا كلها، و (من) تبعيضية.
فـ أبو طلحة كان أعظم شيء يحبه حديقة كاملة فتصدق بها، وهذا شيء كبير جداً ولكن كانت نظرته للدار الآخرة، كأنه يقول: أنا سأعطي هذه الحديقة وربنا سيعطيني أفضل وأحسن من هذه الحديقة بكثير، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها)، أي: أرجو البر على ذلك، وأن تكون مدخرة لي عند الله سبحانه وتعالى.
قال: (فضعها يا رسول الله! حيث أراك الله)، يعني: تصرف فيها كما تحب حيث أراك الله سبحانه.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ بخ! ذلك مال رابح، ذلك مال رابح)، يعني: تعجب النبي صلى الله عليه وسلم لإحسان هذا الرجل ولعظيم صدقته، فقال: (بخ) وهي كلمة تقال للتعجب، فهو صلى الله عليه وسلم تعجب من فعل هذا الرجل الطيب رضي الله تعالى عنه، ولتفخيم أمر الصدقة التي أخرجها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذلك مال رابح) يعني: أن لك الربح من الله والأجر العظيم على صدقتك، لا يضيع عند الله سبحانه، بل يربحك عليها الأجر العظيم.
فقال صلى الله عليه وسلم: (قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)، وهنا النصيحة العظيمة الذي يعلمها لنا النبي صلى الله عليه وسلم، عندما يأتي إليك إنسان بمال كثير ويقول لك: أنفق هذا المال، قد تقول: آخذ منه المال وأنفقه من أجل أن يكون لي نصف الأجر، لكن اصبر قليلاً وانظر ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقل: هات المال وأنا سوف أتصدق به، بل قال له: اجعله في الأقارب الفقراء، ومعلوم أن الدال على الخير له مثل أجر فاعله، فهو عليه الصلاة والسلام نصحه وأرشده إلى أنه إذا كان هناك أحد في أقربائك فقير فأنفق هذا المال عليه، حتى تكون له صدقة وصلة ويحصل على أجرين.
فقال صلى الله عليه وسلم: (وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة رضي الله عنه: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه).
نتعلم من ذلك أننا ننصح لغيرنا كما ننصح لأنفسنا، ونتعلم أن على الإنسان أن يخرج من طيب ماله الذي يرجو بركته، ويرجو الأجر من الله عز وجل عليه، فينفق لله ويحتسبه، وما نقص مال من صدقة، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه، والصحابة كانوا ينفقون نفقات عجيبة جداً، وكان ربنا سبحانه وتعالى يعطيهم أضعافاً مضاعفة.
وهذا عبد الرحمن بن عوف كان ينفق نفقات عجيبة جداً، ويقال إن عبد الرحمن بن عوف لم يجب عليه في ماله زكاة؛ لأنه كان ينفقه قبل أن يحول عليه الحول ويتصدق به، وربنا يعطيه مثله وأضعافه، وكان يسمع أن الفقراء يسبقون الأغنياء يوم القيامة بنصف يوم، فهو ينفق من أجل أن يدخل مع الفقراء، فربنا سبحانه يعطيه بنيته، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، ومع ذلك كان ينفق ويعطي ولم يتكل على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا الزبير بن العوام قيل: كان عنده من العبيد ألف، الذين يعملون ويأتونه بالأجرة، وكان تاجراً محظوظاً، وكان ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من المتصدقين ومن أهل الكرم رضي الله تعالى عنه، فقد كان الألف عبد يأتونه بالأجرة، فيأخذ الأجرة ولا يأكل منها أبداً، وإنما يجعلها كلها لله عز وجل، ينفقها في سبيل الله سبحانه وتعالى، فكان ربنا سبحانه وتعالى يبارك له في ماله.
وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق ماله كله في سبيل الله سبحانه وتعالى، وعمر بن الخطاب كان ينفق نصف ماله في سبيل الله سبحانه وتعالى، وكانت نفقاتهم عظيمة، فقد كانوا يرجون بها أن يعفو الله تعالى عنهم يوم القيامة ويدخلهم جنته.
(12/7)
وجوب أمر الرجل أهله وأولاده بالمعروف ونهيهم عن المنكر
(12/8)
أمر الرجل أهله بالصلاة والطاعات
يقول الإمام النووي: [باب وجوب أمره أهله وأولاده المميزين، وسائر من في رعيته بطاعة الله تعالى، ونهيهم عن المخالفة، وتأديبهم ومنعهم من ارتكاب منهي عنه].
أي: يجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]: أي: قال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} فهل يا ترى كان يمكن أن يقصر صلى الله عليه وسلم؟ لا، لم يقصر في ذلك أبداً، ولكن من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يقصر في ذلك، حتى كأنه يقول: الكلام لكم أنتم، اسمعوا ومروا أهليكم بالصلاة واصطبروا عليها، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمر أهله بالصلاة.
والرجل حين يأمر أهله بالصلاة قد لا يستجيبون لأمره، لعلهم يتوانون ويتأخرون، فقد يكسل في أمرهم، فقيل له: اصبر ولا تطاوعهم؛ لأنك لو طاوعتهم سيضيعون وتضيع معهم بل مرهم بصلاة الفريضة بأن يصلوها في بيت الله سبحانه، يأتي وقت الفجر توقظ أهل البيت ليؤدوا صلاة الفجر، تأمرهم بذلك وتصطبر على ذلك.
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، يحب الإنسان أن يقي نفسه بلاء الدنيا، ومصائب الدنيا، وأمراض الدنيا، فعندما يسمع بوجود تطعيم من وباء كذا، تراه يجري ليطعم نفسه، ويطعم عياله من أجل ألا يحصل لهم ذلك الوباء، هذا في الدنيا، فهنا لو نظر الإنسان نظرة إلى الدار الآخرة، هل ممكن الخائف على عياله من مرض في الدنيا ووباء أن يضيعهم يوم القيامة ويدخلون النار؟ ليس ممكناً، ولكن قد يسهو الإنسان وينسى الآخرة فربنا يذكره، ويأمره بأن يقي نفسه وأهله ناراً وقودها الناس والحجارة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]، أي: أن تقي نفسك وأهلك.
(12/9)
تأديب النبي صلى الله عليه وسلم للحسن ومنعه من فعل المحرم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كخ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة).
كان النبي صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حناناً على أهله، فقد كان صلى الله عليه وسلم يشم الحسن والحسين رضي الله عنهما ويقول: (هما ريحانتاي من الدنيا)، صلوات الله وسلامه عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يمكن الحسن أو الحسين وهو ساجد أن يصعد على ظهره، كل هذا من حنانه صلى الله عليه وسلم معهما، لكنه عندما أخذ شيئاً حراماً لم يسكت عليه الصلاة والسلام على ذلك، مع أن الحسن كان طفلاً صغيراً، وعندما مد يده وأخذ تمرة واحدة من تمر الصدقة ووضعها في فمه لم يتركه يأكلها، وقال: سأدفع ثمنها، بل أمره برميها من فمه، فإذاً: يؤدب الصغير على مثل ذلك ولو بإخراج اللقمة الحرام من فمه.
يقول صلى الله عليه وسلم: (كخْ) وفي رواية: (كخٍ).
قوله: (أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصبي وهو صغير ويقول له: نحن لا نأكل الصدقة ولا يحل لنا ذلك، ومع أنه صبي صغير فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمعروف ونهاه عن المنكر، وإن كان الصبي ليس مخاطباً بالتكليف وليس مكلفاً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه بأنه لا يجوز لك أن تأخذه حتى ولو كنت لست مكلفاً.
(12/10)
تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لربيبه عمر بن أبي سلمة آداب الأكل
ورد في حديث آخر لـ عمر بن أبي سلمة ابن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وربيبه، وكان في حجره وهو صبي صغير، يقول: (كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام! سم الله تعالى -أي: قل باسم الله- وكل بيمينك وكل مما يليك).
ينبغي تعليم الصبي آداب الأكل بحيث لا يأكل بشماله ولا يبطش بيده في الطعام من كل جهة وإنما يأكل من أمامه، حتى إذا كان مع الناس لا يمد يده قبل غيره، وإنما يسمي الله سبحانه وتعالى، ولا ينتقي أحسن المأكولات ويأكلها ويترك غيرها.
إذاً: لا بد من التعليم، يعلم الطفل كيف يأكل، بحيث يقول قبل أن يمد يده: باسم الله، ولا يأكل إلا من مما يليه، كذلك يعلمون كيف يدخلون المساجد، حتى لا يحدثوا فوضى فيها، فالطفل إذا لم يعلم ويؤدب فقد يقل أدبه على الكبار، وإذا كبر صار قليل أدب.
عندما تجد طفلاً صغيراً في الجامع يقل أدبه أو يجري أمام المصلين فخذه وعلمه الأدب ولا تقس عليه، ولكن علمه الأدب، ولا تسكت على المنكر وأنت تراه، وبعض الإخوة إذا أنكرت على عياله يقول: وأنت ما شأنك، لقد كان الحسن والحسين يركبان على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم! نقول: أولاً: ابنك ليس الحسن ولا الحسين، ثانياً: النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحسن أن يرمي تمرة الصدقة من فمه، والنبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد ذات مرة وأمامة بنت بنته صلى الله عليه وسلم فوقه، من أجل ألا تؤذي الناس بأن تجري بين الصفوف، أو تبكي، فكان صلى الله عليه وسلم إذا قام رفعها وإذا نزل وركع أو سجد وضعها، فهو صلى الله عليه وسلم أمسكها حتى لا تؤذي أحداً من الناس.
فلا آتي أنا بابني من أجل أن يتدلع في المسجد، فإذا قام إنسان وأمره أو نهاه غضبت، لا؛ لأن ابنك الذي يؤذي إنساناً في المسجد عليك إثمه؛ لأنك لا أمرته بمعروف ولا نهيته عن منكر، بل منعت غيرك من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
فإذاً: من أراد أن يأتي بولده المسجد فلا يأتي به إلا وهو في السن الذي يعقل فيه الصلاة، بأن يكون عمره سبع سنوات، وتعلمه أدب المسجد، ويكون مكانه خلف الصفوف لا أن تجعله يجري أمام الناس، ولا يكون في الصفوف الأولى؛ لأنهم بعد أن يدخل الإمام في الصلاة يخرجون من الصفوف، فتحدث فرجات بين الصفوف، فمن يتحمل هذا الشيء؟ نقول: إن قطع الصفوف لا يجوز وإثم ذلك على والد هذا الطفل الذي ترك فرجة في الصف.
فاتقوا الله سبحانه وتعالى في أنفسكم وفي بيت الله! كذلك الذين يأتون بأطفالهم في صلاة التراويح، فتجد الواحد يأتي بابنه ويعطي له (آيسكريم) في يديه، فهو يأكل ويبعثر في المسجد، أنت بهذا الشيء ما الذي يؤمنك أن أحداً يدعو عليك وعلى ابنك فتصاب بشؤم عمل ابنك في هذا المسجد.
اتقوا الله! إنما بنيت المساجد لما بنيت له، تعلم ابنك الأدب حين تأتي به إلى بيت الله سبحانه وتعالى، كذلك النساء تجد الواحدة منهن تأتي بمجموعة من عيالها، الناس يصلون وهي لا تصلي، وإنما جاءت لتسمع الدرس؛ لأنها حائض وعيالها حولها يؤذون النساء وقت الصلاة.
الذي يأتي من أجل أن يسمع الدرس، أو يأتي من أجل صلاة الجماعة عليه أن يحترم المسجد ولا يأتي ليزعج أحداً بعياله، وإذا كان العيال يزعجون الناس فاتركهم في البيت.
(12/11)
حث المسلم على القيام بالواجب تجاه من ولاه الله عليهم
ورد من حديث ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راع ومسئول عن رعيته).
لم يكن أحد إلا وهو راع ومسئول، إما أن تكون رجل البيت، وإما أن تكون المرأة هي الزوجة في البيت، وإما أن يكون الخادم، أو العامل في العمل، فكل إنسان مسئول عن عمله، سيسأله الله عز وجل يوم القيامة.
(كلكم راع)، بدأ بالجمع ثم فصل هذا الجمع فكل إنسان مسئول عن رعيته، أنت في بيتك مسئول عن زوجتك وأولادك، وأنت في عملك مسئول عمن تحت يدك، ومسئول عما استأمنك الله عز وجل عليه، لا تقصر ولا تفرط، فالله سبحانه وتعالى سيسألك فأعد للسؤال جواباً، انظر ما تقول لربنا يوم القيامة، فالرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، فهي مسئولة عن أولادها، وعن مال زوجها وعن نفسها.
وكذلك إذا كان خادماً أو أجيراً، فإنه مسئول عن مال الإنسان الذي جعله خادماً أو أجيراً، سيسأل يوم القيامة عن هذه الرعية، والعامل في عمله مسئول عن عمله، هل أتقن أو لم يتقن، فما تحت يدك من المال أو غيره فأنت مسئول عن الصغير والكبير يوم القيامة، (فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
(12/12)
أمر الأولاد بالصلاة لسبع وضربهم عليها والتفريق بينهم في المضاجع لعشر
أخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) أي: تعلم الولد الصلاة وهو ابن سبع سنين، وكونك تعلمه وهو ابن سنتين أنت حر، لكن ليس في المسجد ولكن في البيت؛ لأنه ما زال صغيراً لا يفهم، وقد يؤذي الناس في بيت الله سبحانه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين) أي: إذا كان عمر الطفل سبع سنين فإنه يؤمر بالصلاة ويعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين)، يعني: يتعلم الطفل الصغير الذي عمره سبع سنين الصلاة بأركانها وشروطها، ويعلم كيف يتوضأ ويتطهر للصلاة، ويؤمر بالصلاة، ويصطحبه والده إلى المسجد ليتعلم مع الناس، ويحترم بيت الله سبحانه وتعالى.
فقوله: (واضربوهم عليها وهم أبناء عشر)، أي: الطفل إذا بلغ عشر سنين وتكاسل عن الصلاة فاضربه ضرباً غير مبرح، مع أنه غير مكلف، لكن مع ذلك إن تكاسل عن الصلاة فإنه يضرب، من أجل أن يحافظ على الصلاة، بحيث يبلغ هذا الصبي وهو يعرف الصلاة ويعرف أحكام الصلاة، من الوضوء، والطهارة والشروط والأركان، والواجبات والنوافل والهيئات، فيتقن هذه الصلوات، ولا تحتاج بعد ذلك لا لضرب ولا غيره.
وعندما تأتي إلى المسجد ومررت على أشخاص في الشارع لا يصلون فسلم عليهم وقل لهم: تعالوا نصلي! إذا كنت مأموراً بأن تأمر الصبي الصغير بالصلاة، فالكبير من باب أولى، لا تقل: نفسي نفسي؛ لأن نفسي نفسي ليوم القيامة فقط، أما في الدنيا فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها، وفي رواية: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس)، أي: تطلع الشمس على الكرة الأرضية كلها فهداية شخص على يديك خير لك مما فيها.
فاسأل نفسك كل يوم: كم أمرت الناس بالمعروف ونهيتهم عن المنكر، إذا فعلت هذا الشيء فلك أجر عظيم عند الله، وتجارة رابحة، وليس شرطاً أن يستجاب لك، فكم من إنسان نقول له: تعال صل، يقول: نعم سآتي وراءك الآن ولا يأتي، وثاني يوم وثالث يوم، وبعد سنة تلقاه قد أتى ليصلي لوحده، فهذا الذي هداه هو الله سبحانه وتعالى، لكن أنت سبب من الأسباب.
لا تيئس من أحد أبداً، دعوت شخصاً اليوم ولم يستجب فلا تيئس، بل واصل دعوته، وفي يوم من الأيام لعل الله عز وجل أن يهديه ويكون لك الأجر، لكن لا تعامل الناس بعنف، ولا تقل: هلك الناس، ففي الحديث: (من قال: هلك الناس فهو أهلكهم)، لا تلح على إنسان بالقوة، فقد يكون عنده عذر، كأن يكون على جنابة وما كان يصلي، فكيف يدخل المسجد وهو على هذه الصورة؟! ليس الصلاة فقط، لعل إنساناً عنده مال ولا يؤدي زكاة ماله، ولا يعرف أحكام الزكاة، فهذا تعلمه وتقول: زكاة المال حكمها كذا وكذا، والمفروض عليك أنك تؤدي كذا.
أذكر واحداً من المصلين معنا في المسجد وهو رجل كبير في السن أتاني مرة وقال لي: أنا عندي مال ولا أعرف الزكاة، ويقول لي: أنا أتصدق كثيراً لكن لا أعرف الصدقة من الزكاة.
إذاً: نعلم الناس ما يجهلونه من أحكام، فالإنسان المسلم في كل مكان يدعو الناس إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن حياة المسلم كلها دعوة لله سبحانه وتعالى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وفرقوا بينهم في المضاجع) أي: تفرق بين الذكور والإناث، لا تنام البنت بجانب الولد الذي عمره عشر سنين، بل يفرق بين الجميع، كل واحد في سريره عند مرحلة البلوغ أو قبيل البلوغ؛ يعتاد الولد أنه لا يطلع على العورات أو لا ينظر إلى ما يحرم.
(12/13)
وجوب تعليم الأولاد الصلاة
من الأحاديث في هذا الموضوع حديث آخر يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (علموا الصبي الصلاة لسبع سنين)، قال في الرواية الأولى: (مروا أولادكم)، وهنا قال: (علموا)، يعني: أن أقول له: صل يا ولد، فهو قد يصلي الصلاة أربع ركعات أو خمس ركعات؛ لأنه لا يدري كيف يصلي؛ فلذلك قال: (علموا الصبي) أي: تعلمه الصلاة، تسأله: هل تعرف كيف تصلي أو لا تعرف؟ تعال فأرني كيف تصلي، هل تحفظ الفاتحة أو لا تحفظها؟ اقرأ علي الفاتحة، وقد يوجد أناس كبار في السن لا يحفظون الفاتحة، فهؤلاء يعلمون دون إحراج.
إذاً: إذا علم الإنسان غيره كيف يقرأ فاتحة الكتاب فإنه يؤجر عليه، لو أن شخصاً قال لنا: أنا لا أحفظ التشهد، نقول له: إذا لم تحفظ التشهد فقل: سبحان الله والحمد لله، حتى تحفظ التشهد، ولكن قبل ما تقول له قل: سبحان الله والحمد لله، قل له: اكتب التشهد في ورقة وضعها أمامك وأنت تصلي واقرأها؛ لأننا نقرأ في أبواب الفقه أن التشهد واجب، وأقله أن يقول: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله! هذا أقل ما يكون في التشهد.
فكون الإنسان يحتسب ويجلس مع الشخص الذي لا يحفظ التشهد خمس دقائق، سيحفظ التشهد ويصلي ما شاء الله له من صلاة، ويكون لي فيها الأجر العظيم.
قوله: (علموا) لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم معلماً ومؤدباً ومربياً، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يعلم الناس برفق، فهذا ابن مسعود يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمني التشهد كفي في كفه أو يدي في يده كما يعلمني السورة من القرآن)، فكذلك أنت أيها الداعية إذا وجدت إنساناً يقول لك: أنا لا أحفظ الفاتحة، فلا تستسهل الأمر وتقول له: قل: سبحان الله والحمد الله؛ لأنه قد يستمر على ذلك إلى أن يموت، ولكن علمه الفاتحة، وقد تلقى الكثير من هؤلاء يقول لك: أحفظ آيات منها، لكن يحتاج إلى من يرتبها له، فأنت لو حفظته، فإنك تؤجر على هذا الشيء من الله عز وجل.
(12/14)
شرح رياض الصالحين - حق الجار والوصية به
أوصانا ديننا الإسلامي بالجار وأوجب علينا الإحسان إليه بالطعام وغيره، وعدم أذيته، وحرم علينا التطلع إلى عوراته.
كما أوجب علينا طاعة الوالدين والإحسان إليهما، وخفض جناح الذل لهما، وأمرنا بالإحسان إلى الأقارب وحرم علينا قطيعتهم.
(13/1)
الأمر بالإحسان إلى الجيران
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب حق الجار والوصية به.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:36].
وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)، متفق عليه.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)، رواه مسلم.
وفي رواية له عن أبي ذر قال: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف)].
والجار هو المجاور في السكن أو المكان، ومنه المجاورة في الاعتكاف بمعنى: المجاور في المسجد في فترة الاعتكاف.
والجار له حق على جاره، والإسلام يوصي بالجار وصية عظيمة سواء كان ذلك في القرآن أو في سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ففي القرآن، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء:36] فبدأ بعبادة الله سبحانه وتوحيده ثم ذكر أصحاب الحقوق فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36]، أيْ: أحسنوا إلى الوالدين إحساناً وإلى ذوي القربى وهم أرحام الإنسان وعصباته، ثم قال: {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36]، فبعد ما وصى الله بالوالدين وبالقرابات، وصى باليتامى والمساكين وهم أهل الحاجة، ثم وصى بالجار.
(13/2)
أنواع الجوار في القرآن
والجوار على ثلاثة أنواع: النول الأول: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] وهو من تجمعك وإياه قرابة نسب وجوار، فهذا له حق الجوار وحق القرابة.
النوع الثاني: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] وهو الجار الغير القريب، الذي لا يوجد بينك وبينه نسب ولا رحم ولا عصوبة، فالوصية فيه لكونه جاراً.
النوع الثالث: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء:36] المصاحبة هي المجاورة، كمصاحبة الإنسان للإنسان في الطريق أو في دروس العلم أو في غير ذلك من أنواع المصاحبة على الخير، فأوصى الله عز وجل خيراً في الجار من القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب.
وكذلك أوصى بابن السبيل وهو الإنسان المسافر الذي نزل في مكان فيحتاج إلى نفقة، ثم أوصى بما ملكت أيمانكم.
(13/3)
الوصية بحق الجار
والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة فمنها: حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وصية جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يحافظ على جاره ويحفظه ويصنع له خيراً، وهذه الوصية للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، وهذه الوصية ليست من قبل جبريل وإنما هي أمر من الله عز وجل.
ولقد أوصى الله تعالى في القرآن بوصايا فقال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11]، وذكر ميراث البنت والزوج والزوجة والأخ والأخت وغير ذلك، وظن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى سينزل آيات فيها الوصية بميراث الجار، فقال: (حتى ظننت أنه سيورثه).
والجار إما أن يكون جاراً وقريباً في الوقت نفسه ويكون مسلماً، أو يكون جاراً كافراً، أو يكون جاراً مسلماً فهؤلاء لهم حقوق.
فإذا كان الجار مجاوراً وقريباً ومسلماً فله ثلاثة حقوق: الحق الأول: حق الجوار، جنبك وبجوارك فأنت ستعرف مدخله ومخرجه، ويحتاج إليك وتحتاج إليه.
والحق الثاني: حق الإسلام، وللمسلم على المسلم حقوق.
والحق الثالث: حق القرابة، إذا كان بينك وبينه رحم.
فإذا كان جاراً غريباً ولكنه مسلم، فله حق الجوار وحق الإسلام عليك.
وإذا كان جاراً كافراً فليس له إلا حق الجوار، فلا تؤذ جارك.
فهذه الحقوق التي أمرنا الله عز وجل بأدائها، فلو أن كل إنسان عرف الحقوق وأدَّى الواجبات لاستراح الناس، وكل إنسان يعرف الحقوق التي أوجبها الله على عباده، فقد شرع لنا منهاجاً للحياة نعيش تحت ظله، فنأتمر بأمره وننتهي بنهيه، فيجب علينا مراعاة حق الجار فنحافظ عليه.
والمحافظة عليه كانت معروفة في الجاهلية، وكانوا يعدون ذلك من مكارم الأخلاق، فكانوا يرون أن الجار له حق عظيم جداً وخاصة إذا كان الجار ليس موجوداً فيراعون حق زوجته أو كريمته، ويغضون الطرف عنها، يقول عنترة بن شداد وهو شاعر جاهلي: وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها فلم يؤمروا بغض البصر وإنما كان عندهم احترام للجار.
(13/4)
حكم من زنى بزوجة جاره
ولما جاء الإسلام حرم الزنا وجعل من أشد الزنا وأفحشه أن يزني الرجل بحليلة جاره، فهذا من أعظم الكبائر فالمسلم مطلوب منه أن يحافظ على جاره.
والجار أقرب إنسان إليك سواء كان قريباً أو غريباً، فلو حصلت لك مصيبة فإنك ستستنجد بجارك فحافظ على حقوقه، فلا تنظر إلى نسائه أبداً نظرة خائنة، فالجار هو الذي يزورك وأنت مريض، وهو الذي يمشي وراءك إلى قبرك فيدعو لك، وهو الذي تقبل شهادته عليك عند الله سبحانه وتعالى، وجارك أعلم بك.
فلو قال جارك فيك بعد موتك: كنت رجلاً كريماً مصلياً قارئاً للقرآن، فهذه الشهادة مقبولة عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
ولقد ورد في الحديث: (أن الصحابة مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، قالوا: ما وجبت يا رسول الله؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه).
فالمسلم العاقل ينفع جاره في الدنيا وفي القبر فيحرص على أن يثني عليه خيراً، وإذا لم يثن عليه خيراً فعلى الأقل لا يؤذيه بالكلام الخبيث، أو بفعل ضار يضره به، بأن يسرقه أو يتسلط عليه بالأذية وغير ذلك، فالمسلم يراعي حق الجار حتى لا يدعو عليه، وحتى تكون الألفة والمحبة بينهما.
(13/5)
مواساة الجيران بالطعام
ومن الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك).
فإذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فأكثر لحمها، لأنه ليس كل واحد سيجد اللحم، فأعطه شربة مرق فقد يكون فقيراً محتاجاً فيدعو لك، ويبيت فرحاناً.
وتعاهد الجار هو تفقد أحواله والسؤال عنها ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
ويقول في الرواية الأخرى: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف).
أي: بشيء من المعروف ولا تحرم جيرانك.
(13/6)
جزاء الجار السيئ
ومن الأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حديث لـ أبي هريرة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن) أقسم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهو الصادق صلى الله عليه وسلم فيما يقول، ليؤكد للناس الكلام الذي بعد القسم وليستحضروه فلا ينسوه.
(قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه).
والبوائق معناها: الغوائل والشرور، وهذان الأمران لا يثاب عليهما الإنسان وينقصان من إيمانه، فإنَّ الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وهذا الفعل من أقل الأشياء التي يجب أن تؤديها، فترفع قشرة الموز لئلا يتزحلق فيها أحد فيتأذى بها، وذلك ابتغاء وجه الله لتحصل على الأجر.
فإذا كان الإنسان يؤذي جاره فإنَّ إيمانه ناقص، فإنه مأمور بأن يرحم جاره وأن يتعاهده ويحافظ عليه.
ومن علامات الإيمان أن الإنسان يكرم جاره، ويتعاهده فيما يحتاج إليه ويقدمه إليه.
(13/7)
الصبر على أذية الجيران
وجاء في حديث رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فاصبر)، فأوصاه بالصبر لكي يستحي منه جاره فلا يؤذيه.
ثم شكاه مرة ثانية فقال له: (اذهب فاصبر)، ثم مرة ثالثة فقال له: (اذهب فاطرح متاعك في الطريق).
هنا تأديب ذكي من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الجار السيئ الذي يؤذي جاره، فهذا منظر غريب أن رجلاً يضع متاع منزله في الشارع، فيسأله الناس عن سبب ذلك، فيخبرهم أن جاره يؤذيه فيدعو الناس عليه، فلما بلغ الخبر إلى الجار المؤذي أن الناس يلعنونه وستستجاب دعوتهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جاره بذلك، فذهب إليه وقال له: ارجع ولا ترى مني شيئاً تكرهه.
فهذا تأديب من النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الجار، وأيضاً تعليمه للجار الآخر بالصبر فإنَّ جزاءه الحسنى.
وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره).
الإنسان الشرير فرح بنفسه ويحس أن أحداً لا يجرؤ أن ينظر إليه فهذا من شر الناس، وخير الناس من أحبه الناس، وكان مؤمناً لطيفاً يؤلف ويأتلف، حسن المعاشرة مع أهله ومع جيرانه.
وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، فلا يريد أحد أن يقابله.
(13/8)
النهي عن احتقار هدية الجيران
ومن الأحاديث أيضاً: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)، متفق عليه.
يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التهادي ولو بالشيء القليل، ليعمق المحبة فيما بيننا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تهادوا تحابوا).
إذا كانت الهدية بين المسلم وأخيه - إن لم يكن من ورائها غرض قبيح - قبلها الإنسان، ومن أهدي إليها شيء يسير فلا تحتقره ولو كان فرسن شاة، وهو آخر الساق من الشاة الذي فيه لحم قليل.
والمعنى: أن إنساناً أهدى لك الشيء القليل ويرجو المحبة بينك وبينه، فلا تحرم نفسك من هذا ولا تحتقر المهدي إليك.
(13/9)
مساعدة الجيران في أمور مصالحهم الدنيوية
وحديث آخر لـ أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره) متفق عليه.
قد يكون الجار فقيراً ويريد أن يبني له غرفة أو عشة ومحتاج أن يضع الخشبة على جدرا دار جاره بحيث لا يتضرر البيت فلا يمنع من ذلك.
ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم) كأن أبا هريرة حدث بهذا الحديث وقد كان أميراً وذلك لما اشتكى له بعض الناس أن جاره منعه أن يضع الخشبة في جداره، فقال للناس: والله لأرمين بها ولو بين أكتافكم.
أي: فسوف أجعل الخشبة بين أكتافكم، والمعنى: طالما أنه شيء لا يؤذيك فلا تمنع الجار من ذلك لكي يدعو لك بالخير، ويكون بينك وبينه مودة.
وكم من إنسان يمنع جاره من أشياء لا تضره كأن يمنعه من وضع حبل الغسيل في الجدار أو على السطوح بدعوى أن الجدار أو السطح سيتهدم أو يتكسر، وطالما أنك لن تتضرر فلا تمنع جارك.
(13/10)
عدم أذية الجيران من علامات الإيمان
وفي حديث آخر له أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت)، متفق عليه.
من علامات الإيمان وصفات المؤمن ما يلي: أولاً: عدم إيذائه لجاره، فلا يحل للمؤمن بالله واليوم الآخر أن يؤذي جاره.
ثانياً: إكرام الضيف، فلا يحل للضيف أن يحرج من نزل عنده.
وأيضاً: لا يحل للمضيف أن يؤذي هذا الضيف، وأن يمتنع من إكرامه على قدر استطاعته.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حق الضيف ثلاثة أيام، فلا يحرجه ويطول الجلوس عنده.
فإكرام الضيف مقرر في الشريعة، والمطلوب من الضيف أنه لا يؤذي هذا المضيف فلا يبيت عنده وهو يعلم أن بيته ضيق.
ثالثاً: من علامات الإيمان أن المسلم إذا تكلم نطق بالخير، وإلا فليسكت ليحسن قيامه بعمله، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، طالما أن الإنسان سيسأل يوم القيامة.
فإذا تكلم الإنسان بكلام فإنه سيؤاخذ ويحاسب عليه عند الله عز وجل، ولا يحل للإنسان أن يكذب ليضحك من حوله، فإما أن يتكلم بخير أو يسكت، فإذا أراد أن يتكلم فليتكلم بالكلام الذي أبيح له شرعاً، فلا يجوز له أن يتكلم بالكذب، ولا بالفحش، ولا يشهد زوراً، فالمسلم يعرف ما الذي يجوز له أن يتكلم به وما يحرم عليه فيمتثل أمر الله سبحانه.
ومن الأحاديث أيضاً: حديث أبي شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره) رواه مسلم.
ولا شك أن المسلم عنده أخلاق حسنة، ومنها الإحسان إلى الخلق، فيحسن إلى الوالدين وإلى أقربائه وإلى جيرانه.
(13/11)
الجار القريب أولى بالمعروف من الجار البعيد
وعن السيدة عائشة رضي الله عنه قالت: (قلت: يا رسول الله! إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً) رواه البخاري وأبو داود.
أَيْ: من كان باب داره قريباً من باب دارك فهو شريكك، فإذا دخلت دارك وفي يدك شيء فهو يراك لأنه قريب منك، أما البعيد فلا يرى، وقد تدخل مستخفياً ولكن بعدما تصعد رائحة الأكل فيشمه الجار القريب فسيحتاج، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمك أن القريب أولى بالمعروف.
(13/12)
خير الجيران عند الله تعالى
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره).
رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وجاء في الحديث الآخر: (ما تحاب الرجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه).
إذا كان الرجلان متحابين في الله عز وجل، فأحبهما إلى الله عز وجل الذي يحب صاحبه أكثر.
فهنا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، فلا يصاحبه لأجل الدنيا أو يريد أن ينتفع منه أكثر نفعاً، ولكن يحبه في الله تبارك وتعالى، وكلما ازدادت المحبة كان أقرب إلى الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره).
فالدين يعلمك إن تعمل العمل ولا تنتظر المكافأة عليه من الناس؛ لأنك إذا انتظرت المكافأة من الناس فإنهم سيتعبون منك، فاعمل لله تبارك وتعالى، ولا تنتظر أجراً ولا مدحاً ولا شكراً من الناس؛ لكن انتظر الأجر من الله عز وجل.
والمعاملة مع الناس متعبة ومع الله مريحة جداً، فالمسلم يتعامل مع الله، فيحب في الله لأجل أن يحبه الله عز وجل.
ويكرم جاره لكي يكون أفضل عند الله تبارك وتعالى، فلا يكرمه لأجل أن يبادله بالإكرام.
والجار إذا تغاضى عن جاره ونظر للأجر والثواب عند الله عز وجل وأن الأجر على قدر العمل والمشقة فإنه سيستريح من الجار ومن الناس لأنه انتظر من الله عز وجل خيره وبره ورحمته سبحانه.
والمؤمنون يتفاوتون في درجات الجنة، فبعضهم أعلى درجة من البعض الآخر، لأنهم كانوا أحسن خلقاً ويكرمون الجيران وكانوا خير الأصحاب.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون في ذلك، فقد جاء الحديث أن رجلاً أراد أن يصلح جدرا حائطه فاعترضته نخلة كانت لجاره، ولا يتم إصلاح الجدار إلا بإزالتها، فذهب إلى جاره يستأذنه بإزالتها فرفض، ثم عرض عليه أن يبيع له هذه النخلة فرفض، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالخبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (أعطها له ولك نخلة في الجنة، فقال: لا أريد، فسمع أبو الدحداح رضي الله تبارك وتعالى عنه ذلك، فقال: أنا أشتريها منه يا رسول الله، فذهب إلى الرجل وساومه على أن يعطيه حائطه ثمن هذه النخلة، وكان في هذا الحائط ستمائة نخلة، فوافق الرجل.
فذهب أبو الدحداح إلى امرأته وأولاده وقد كانوا في الحائط فناداهم بأن يخرجوا من الحائط)، أي: فإنه قد باعه بنخلة في الجنة، فأخذ زوجته وأولاده وترك الحائط لهذا الإنسان وصارت له نخلة في الجنة، والنخلة في الجنة شيء عظيم جداً، ولكن هذا الجار بخل، ولذلك ساء خلقه ولم يستجب لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لكن أبا الدحداح رضي الله عنه عرف وعد النبي صلى الله عليه وسلم وما في الجنة من أشياء عظيمة، فلما مات أبو الدحداح ومشى النبي صلى الله عليه وسلم في جنازته فقال: (كم من عذق رداح لـ أبي الدحداح)، والعذق هو العرجون.
أي: كم من نخيل كثير لهذا الرجل العظيم أبي الدحداح مقابل ما فعله، وكان هيناً عليه أن يفعل ذلك؛ لأنه رباه النبي صلى الله عليه وسلم على حب الله عز وجل، وعلى حب رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى إكرام المسلمين؛ فرضي الله تبارك وتعالى عنه.
إذاً: خير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره، والإنسان يكرم جاره ولا ينتظر منه جزاءً ولا شكوراً، لكي ينال الفضل من الله تبارك وتعالى.
(13/13)
الأمر بالإحسان إلى الوالدين وصلة الأرحام
(13/14)
وصية الله تعالى بالوالدين
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب بر الوالدين وصلة الأرحام.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء:36].
وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء:1]، والوالدان من الأرحام.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد:21]، والمؤمن يصل رحمه؛ لأن الله أمر بذلك.
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8].
وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
الوالدان هم الأب والأم، فالأم هي التي حملت ابنها تسعة أشهر وأرضعته حولين كاملين، والأب أحسن إليه حتى نشأ وشب وصار رجلاً.
فالله عز وجل يوصي الإنسان بالوالدين إحساناً، أي: أحسنوا إليهما إحساناً عظيماً وخاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما، قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
وأف: كلمة تفيد التضجر.
ولا تنهرهما: أي لا ترفع صوتك في الكلام عليهما ولا ترد عليهما أمرهما ولكن أحسن إليهما ليبارك الله عز وجل لك في عمرك، فإذا عققتهما سلط الله عليك من أولادك من يعقك.
والأب والأم بركة إذا كانا عند أولادهما إذا تفاوتوا في خدمة الوالدين، أما إذا تركوهما بعيداً ولم يسألوا عنهما فهذا ليس من الإحسان إليهما، ودعاء الوالدين لك سبب لدخولك الجنة، لذا فإن رجلاً ذهب إلى الصحابة يسألهم عن امرأة تعلمت السحر، ثم تابت وتريد أن تصوم لله عز وجل، فقال الصحابة: إن كان لها أب أو أم لرجونا لها الله تعالى أن يعفو عنها.
والأب والأم كنزان عند الإنسان إذا أحسن إليهما استفاد من بركتهما، ومن أساء إليهما ضيع على نفسه دنياه وأخراه، وكم من إنسان متضجر من والديه ويتمنى موتهما وقد يضربهما، ثم يسأل بعد موتهما ماذا يفعل لهما؟ وقد أساء إليهما أيما إساءة، ومع ذلك فإن رحمة ربنا عظيمة فيغفر لمن يشاء سبحانه، لكنه ضيع فرصة عظيمة على نفسه كانت ستدخله الجنة، وهي دعوة الأب والأم فإنها باب في الجنة مفتوح.
وقال الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، أي: اخفض لهما جناحك من شدة رحمتك بهما، وكن غاية في الرأفة والرحمة بهما حتى لكأنك ذليل أمامهما من شدة رحمتك لهما.
(13/15)
أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الصلاة
ومن الأحاديث التي جاءت حديث ابن مسعود رضي الله عنهما قال: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، فجعله بعد الصلاة، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
وأخر الجهاد على البر بالوالدين، لكن إذا تعين الجهاد فإنه يجاهد في سبيل الله عز وجل ولا ينتظر إذن الوالدين في ذلك، أما إذا لم يتعين الجهاد فيجب أن يستأذنهما في الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فبر الوالدين جعله النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة وقبل الجهاد في سبيل الله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)، رواه مسلم.
أي: الشيء الوحيد الذي يمكن للولد أن يجزي به حق والده سواء كان أباه أو أمه، هو أن يجده مملوكاً فيشتريه ثم يعتقه.
(13/16)
جزاء قاطع الرحم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة)، فالرحم اشتق لها الرحمن سبحانه وتعالى اسماً من اسمه، ورحم الإنسان: قراباته، فالرحم تتعوذ بالله من أن تقطع (فقال الله عز وجل: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك.
قالت: بلى.
قال: فذلك لك).
فهذا وعد من الله تبارك وتعالى أنه يصل من وصل الرحم، فيجب على الإنسان أن يصل أقربائه كأبيه وعمه وخاله وأخته وعمته وخالته وأبناء أخواته وأبنائه ولا يقطع رحمه.
وجاء في الحديث الآخر: (حتى إن أهل الديار لا يصبرون على شيء من الذنوب، ولكن يصلون أرحامهم فيعطيهم الله عز وجل الغنى في الدنيا) فالإنسان الذي يرتكب الذنوب والمعاصي ولكنه يصل رحمه فإن الله تعالى قد يغفر له، لأن صلة الرحم عظيمة جداً، قال الله سبحانه وتعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
فالذين أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم أصم الله عز وجل آذانهم وأعمى أبصارهم.
(13/17)
أحق الناس بحسن الصحبة
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك) متفق عليه.
حق الأم أعظم من حق الأب لأنها حملت ابنها تسعة أشهر وتعبت فيه تعباً شديداً، ثم ولدته وتعرضت لآلام شديدة، ثم أرضعته حولين كاملين، إلى غير ذلك من المتاعب التي تحملتها في سبيل ابنها.
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمك ثم أمك ثم أباك، ثم أدناك أدناك) أي: راع أباك ثم أدناك أدناك، وهم الأقربون.
(13/18)
رغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة
وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة).
رغم: من الرغام، وهو التراب، وهنا دعاء على الإنسان أن يوضع أنفه في الأرض، ومعناه: أن يذله الله إذا أباه وأمه وقد بلغا الكبر ومع ذلك لم يدخل الجنة.
فالوالدان بابان من أبواب الجنة، فإذا أحسن الإنسان إلى الوالدين دعوا له وكان ذلك سبباً في دخوله الجنة.
وفي الحديث الآخر: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك).
أي: إن كنت كما قلت أنك تصلهم وهم يقطعونك وتحسن إليهم وهم يسيئون إليك، وتحلم عن جهلهم وعن سخطهم وعن شتمهم وهم يجهلون ويسيئون إليك؛ فكأنك تحط في فم هؤلاء الرماد الحار؛ ولا شيء عليك؛ لأنك تحسن إليهم.
فلا تدع فرصة لهؤلاء إن يقولوا عنك بأنك قاطع للرحم، ولا تضيع على نفسك ثواباً عند الله تبارك وتعالى.
فالمفترض في الإنسان المسلم أن يتعامل مع الله سبحانه ولم ينتظر إلى إحسان الناس.
(13/19)
بسط الرزق والبركة في العمر
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه).
صلة الرحم سبب في زيادة الرزق زيادة حقيقة، وفي زيادة عمر الإنسان أي: البركة في عمره.
فالإنسان الذي يصل رحمه يفتح الله له أبواب الرزق وإن لم يشعر بذلك، كأن يكون موظفاً وله راتب معلوم، فمن البسط في الرزق أنَّ الله يمنع عنه مرضاً أو فساداً يضيع عليه ماله، فالله عز وجل أعلم ما يكون بالعبد منه.
فالإمام النووي هو صاحب كتاب رياض الصالحين وكتاب المجموع وكتاب تهذيب الأسماء واللغات وكتاب روضة الطالبين، وكان الإمام النووي رحمه الله له اثنا عشر درساً، درس في الحديث وفي أصول الفقه وعلم الحديث وعلم الفقه وعلوم كثيرة فهو صاحب المؤلفات الضخمة، وتوفي وله من العمر ست وأربعون سنة هجرية، قال تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف:25]، فعلى الحساب الهجري سيكون زيادة تسع سنين، وعلى الحساب الشمسي ثلاثمائة سنة وتسع سنوات، فإن كل مائة سنة تزيد بثلاث سنين.
والإمام الشوكاني رحمه الله مات وعمره أربع وخمسون سنة، والإمام الشنقيطي رحمة الله عليه صاحب المؤلفات العظيمة التي أخذ الناس منها فقهه وعلمه وألفوا عليها الكتب الكثيرة جداً، مات وله من العمر أربع وخمسون سنة وهو إمام الدنيا رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فبارك الله عز وجل لهم في أعمارهم، فكانت أعمارهم طاعة لله سبحانه، فما يستطيع أحد أن يحصل على الذي كان يحصله الإمام النووي في اليوم الواحد من الدروس، ولكن تشبه بهؤلاء فصل رحمك وأطع الله سبحانه وعامل جارك المعاملة الحسنة يبارك لك في رزقك ويبارك لك في أثرك بما تستحقه أنت في الجانب الذي أنت فيه.
فزيادة الله عز وجل للإنسان في عمره معناها: البركة في العمر، فما يعمله في السنة الواحدة أضعاف ما يعمله غيره في سنوات، فالصحابة رضوان الله عيهم بارك الله عز وجل لهم في أرزاقهم وفي ثوابهم عنده تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، أي: لو أنفقت مثل جبل أحد ذهباً ما بلغت من نفقة أحدهم مداً واحداً، أي: مثل قبضة اليد الواحدة، كذلك فضل الله سبحانه يؤتيه من يشاء، فالمسلم يفعل الخيرات ويحرص على أرحامه وعلى أمه وأبيه وعلى جيرانه ويكرم ضيفه، وربنا سبحانه وتعالى يعطي هذا الإنسان من الرزق في الدنيا وفي الآخرة.
(13/20)
الأولى بالصدقة
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، فلما نزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، قام أبو طلحة رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] وإن أحب مالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله).
أبو طلحة الأنصاري زوج أم سليم وهي أم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهم، والبر كلمة تجمع وجوه الإحسان كلها، ومعنى قوله تعالى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا} [آل عمران:92] يعني: من بعض ما تحبون، وما قال لنا: حتى تنفقوا ما تحبون أي: جميع ما تحبون.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بخ بخ! ذاك مال رابح، ذلك مال رابح! وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فهذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم: أن يقسمها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
متفق عليه، فهذا يدل على استحباب الصدقة على الأقارب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(13/21)
شرح رياض الصالحين - بر الوالدين وصلة الأرحام
لقد رعى الإسلام الوشائج والروابط بين الناس الناشئة عن الولادة والقرابة، وأعطى الرابطة القوية منها منزلة عظيمة قرنت في القرآن الكريم بتوحيد الله تعالى، وهي الوالدين وحسن صحبتهما، وجعل لسائر القرابات من ذوي الأرحام حق الصلة بالزيارة والإحسان، كل ذلك ليعلم المرء أن شأن البر والإحسان إلى الرحم عظيم.
(14/1)
منزلة بر الوالدين في الإسلام
(14/2)
حكم الجهاد بغير إذن الوالدين
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب بر الوالدين وصلة الأرحام.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله تعالى.
فقال صلى الله عليه وسلم: فهل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، بل كلاهما.
قال: فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم.
قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيٌّ والداك؟ قال: نعم.
قال: ففيهما فجاهد).
وعنه - أيضاً - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) رواه البخاري.
وقطعت بفتح القاف والطاء، ورحم مرفوع].
المسلم مأمور بأن يبر والديه، قال الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، وكذلك ذوي القربى.
ومن الأحاديث الواردة في بر الوالدين حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: أقبل رجلَّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايع على الهجرة والجهاد يبتغي الأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أحي والداك فقال: نعم.
وفي حديث آخر أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ولقد تركتهما يبكيان).
يعني أنه أتى ليجاهد في سبيل الله عز وجل وترك أباه وأمه يبكيان بسبب خروجه خائفين عليه من أن يقتل، وكأنَّه أتى يسأل وكان الجهاد غير متعين، أما إذا تعين الجهاد فإن إذن الوالدين مستحب فقط، ولو رفضا لا ينتظر إذنهما، بل يخرج ليجاهد في سبيل الله عز وجل.
والذي وقع هنا أن الجهاد كان فرضاً كفائياً، وكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث، فهذا أحب يشترك في بعث ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك سأله: أحيٌّ والداك؟ فقال: نعم.
وأخبر أنه تركهما يبكيان، فقال: ارجع إليهما ففيهما فجاهد.
وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: (ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما) أي: إن أبكيتهما بالخروج فأرجع فاضحك والديك كما أبكيتهما.
وفيه أنه ينبغي للإنسان أن لا يؤذي والديه فيستأذنهما فيما كان مستحباً، كأن يخرج لجهاد تطوع، أو لحجة تطوع أو لعمرة تطوع، والأب والأم يحتاجان إلى بقائه، وفي هذا الحديث قال له: (فتبتغي الأجر من الله تعالى؟ قال: نعم.
قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما).
فليس المقصود الرجوع ليقعد معهما، بل المقصود حسن صحبتهما، بحيث يبقى المسلم مع أبيه ومع أمه يحسن الصحبة بالمعروف، ولو كان الوالدان كافرين فإن ربنا تعالى يقول: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15].
فلو جاهداك وأمراك بالكفر بالله عز وجل والشرك بالله فلا تطعهما في ذلك، ولكن مع ذلك أحسن إليهما وصاحبهما بالمعروف.
(14/3)
حقيقة صلة الرحم
وأورد الإمام النووي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها).
الواصل هو الذي يصل الرحم، يقال: فلان يصل الرحم.
وقد أمرنا ربنا بصلة الأرحام، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الواصل ليس هو المكافئ الذي إن زار مرة انتظر أن يزار، بل الواصل الرحم هو الذي لا ينتظر أن تزوره أصلاً، فهو يصلك إن كنت مقبلاً عليه أو معرضاً عنه؛ لأنه يبتغي الأجر من الله.
والمعاملة مع الله عز وجل تريح قلب الإنسان، فنحن حينما نصل الأرحام يكفينا رضا ربنا، ويقول المرء منا: لا يهمني أن هذا القريب أقبل علي أو أعرض عني، فلو ذهبت إليه فقال: أنا مشغول، أو ذهبت واستقبلني عنده، وكذلك إذا زارني أو لم يزرني، كل ذلك لا يهمني طالما أن الأمر ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس الواصل بالمكافئ) فلكي تبقى واصلاً فاعلم أن الواصل ليس الذي يقابل زيارة بزيارة، بل إذا قطعت رحمه وصلها.
(14/4)
فضل صلة الرحم وخطر قطعها
وفي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله).
هذه هي الرحم، وهذا وعد من الله عز وجل للرحم، فلما خلق الله عز وجل الخلق، وخلق الرحم، قامت وتعلقت بعرش الرحمن تبارك وتعالى، وسألت ربها سبحانه وتعالى فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك؟ فالذي يصل الرحم يصله الله عز وجل، وصلة الله للعبد عطاء من الله، ورحمة من الله، وتفضيل وتكريم من الله تبارك وتعالى.
وانظر إلى حال الإنسان في الدنيا، فإذا قيل: إن الملك الفلاني يصل فلاناً، فإن صلة الملك جائزة الملك، فكيف بملك الملوك؟ فالله سبحانه وتعالى إذا وعد بأن يصل عبده، فإنه يجعل عبده متعلقاً به سبحانه وتعالى، فيعطي عبده ما سأله، ويكون مع عبده، فينصره ويؤيده ويرحمه، ويكون معه في الدار الآخرة فيرحمه سبحانه ويدخله جنته، وهذا جزاء من يصل رحمه.
(14/5)
فضل الصدقة والإحسان إلى ذوي القرابة
في حديث السيدة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنها عرفت فضل العتق، وهو أن الذي يعتق مملوكاً يكون ذلك فكاكاً له من النار.
فهنا أم المؤمنين السيدة ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها كان عندها أمة فأحبت أن تبادر وتعتقها لتنال الأجر العظيم، فلما كان يومها الذي يدور فيه عليها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (أشعرت - يا رسول الله - أني أعتقت وليدتي؟ - أي: أعرفت ذلك؟ - فقال: أوفعلت؟ قالت: نعم).
وعتق الرقبة فيه فضل عظيم جداً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يدلها على ما هو أفضل من ذلك، فالسيدة ميمونة كان لها أخوال، وكانوا محتاجين لهذه الوليدة، فقال صلى الله عليه وسلم: (أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك).
فالإنسان أحياناً ينسى أقاربه فيقول: هذه الصدقة لله عز وجل سأعطيها لفلان.
فيعطيها لإنسان غريب عنه، ويمكن أن يكون قريبه فقيراً بجواره، لكن لم يخطر على باله أن يعطيه، وقد يخطر على باله لكنه يقول: سأعطيها للثاني.
فالسيدة ميمونة رضي الله عنها نسيت أقاربها وأعتقت الوليدة وظنت أن هذا أفضل، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) فهم محتاجون إليها، وسيكون ذلك صدقة منك عليهم، ثم إنك لو فعلت ذلك كنت قد وصلت رحمك، فكان لك في ذلك الأجر.
ولذلك إذا أردت أن تتصدق بصدقة أو تخرج زكاة المال، فانظر إلى الأقرب من الأقارب فأعطهم بدل أن تتركهم للجيران أو للغرباء ليعطوهم فيكون لهم منة عليهم، فلماذا لا تكون أنت الذي تعطي أقاربك، فتصل الرحم بذلك، وتعطي زكاة مالك لأخيك الفقير المحتاج، أو لعمك الفقير المحتاج، أو لأختك الفقيرة المحتاجة، أو لأبناء أختك وأبناء أعمامك وأبناء إخوانك وأبناء أخواتك وأخوالك ونحو هؤلاء، إلا الأصول والفروع، فزكاة المال لا تعطى لأصل ولا لفرع، والأصول هم الأب والأم والجد والجدة، والفروع الأولاد والأحفاد، فلا يجوز لك أن تعطي زكاة المال لهؤلاء، ولكن يجوز لك أن تعطي لهؤلاء جميعهم من الصدقة.
وبعض الناس يسأل: هل يمكن أن أعطي الصدقة لأمي لتحج بها؟
و
الجواب
إذا كانت أمه لم تحج فهذه صدقة عظيمة، فلك أن تعطيها من الصدقة، أما الفريضة فلا، فزكاة المال لا تعطى للأم ولا للأب ولا للأولاد، أما الصدقة المطلقة فيجوز أن تعطى لهؤلاء إن كانوا محتاجين إليها.
وحين نقول: الزكاة لا تعطى للأصول ولا للفروع فليس معنى ذلك أن تتركهم وهم لا يجدون ما يأكلون، بل إذا كنت قد وجبت عليك الزكاة فمعنى ذلك أنك غني، وحينئذ تجب عليك النفقة لهؤلاء، فقد شرفهم الله عز وجل بأن تنفق عليهم، لا أن تعطيهم أوساخ مالك، فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة أوساخ الناس، ولذا لا تعطى لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولا للأب ولا للأم ولا للأولاد، بل تعطى لغيرهم.
(14/6)
بر المشرك من الوالدين
ومن الأحاديث في بر الوالدين حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأم أسماء كانت مشركة، أما أم السيدة عائشة التي هي أم رومان فقد كانت مؤمنة، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنهما، والأب واحد هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
تقول أسماء رضي الله عنها: قدمت علي أمي وهي مشركة، وفي رواية قالت: قدمت علي أمي وهي راغبة.
أي: كأنها راغبة في الصلة، حيث أتت بهدايا لابنتها، والعادة أن القريب يأتي بالهدايا، ومعناه أنك ستضيفه وتكرمه، وأيضاً تحمله بجائزة وبهدايا، فأمها وهي مشركة جاءت في ذلك الوقت، والسيدة أسماء خافت أن تدخلها وهي مشركة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (نعم، صلي أمك) فالبنت تصل أمها، والابن أولى به أن يصل أمه ويصل أباه.
(14/7)
أجر الصدقة على الزوج وذوي القرابة
ومن الأحاديث حديث للسيدة زينب الثقفية زوج عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، حيث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن).
فالمرأة إذا لم يكن لها فلوس يقال لها: تصدقي ولو من الحلي الذي تملكينه.
وزينب الثقفية زوج ابن مسعود رضي الله عنهما كانت غنية، وزوجها عبد الله بن مسعود الصحابي الفقيه الفاضل كان فقيراً، كان خفيف ذات اليد، أي: فقيراً ليس عنده مال، فالمرأة رجعت إليه وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فاسأله هل ينفع أن أعطيك الصدقة وأنت زوجي أم لا ينفع ذلك؟ فقال: بل ائتيه أنت.
أي: أنت التي تريدين أن تتصدقي، فاذهبي أنت، فانطلقت، قالت: فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها.
أي: تريد أن تسأل نفس السؤال.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة.
حيث إن المرأة خجلت من أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم لهيبته صلى الله عليه وسلم، قالت: فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ كأن المرأة كانت تربي أيتاماً لها أو لغيرها، وأيضاً تريد أن تنفق على زوجها، فهل يمكن أن تعطي الصدقة لزوجها الفقير وتعطي الصدقة لأيتام تربيهم في حجرها، وهم عيال غيرها، وقالتا له: لا تخبره من نحن.
وكأن ذلك كان خوفاً على العمل من الرياء، وأيضاً هيبة من النبي صلى الله عليه وسلم.
فدخل فقال للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (من المرأتان؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ فقال: امرأة عبد الله) فاستفسر النبي صلى الله عليه وسلم ليعرف من هؤلاء من أصحابه الذين هم من أهل البر والإحسان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم له مهابة فاستحيتا أن تسألاه وكذلك خشيتا أن تفضحا زوجيهما.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم، قال: (لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة).
وعليه فإنه يجوز للمرأة إن كانت غنية أن تعطي زوجها من صدقة مالها، بل أيضاً يجوز لها أن تعطي زوجها من زكاة مالها إن كان فقيراً، فإذا كانت المرأة غنية - بأن ورثت عن أبيها مالاً - وزوجها فقير جاز لها أن تعطيه من زكاة مالها.
(14/8)
صلة الأرحام هدف للرسالة المحمدية
وفي حديث أبي سفيان في قصة هرقل أن هرقل سأله أشياء تدل على ذكاء هذا الملك الكافر، فمن ضمن أسئلته أنه قال: بماذا يأمركم؟ فقال: قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة.
فـ أبو سفيان كان في ذلك الوقت كافراً، وكان عدواً للنبي صلى الله عليه وسلم، بل من أشد أعداء النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يأمرهم بالتوحيد، وينهاهم عن الشرك بالله، ويأمر بالصلاة، ويأمر بالصدق والعفاف والصلة.
فلما أخبر هرقل بذلك أخبره هرقل بأن النبي صلى الله عليه وسلم سيملك موضع قدميه، وأنه لو استطاع أن يذهب إليه فيغسل عن قدميه لفعل.
فأحس أبو سفيان بالذل من ذلك اليوم، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم سينتصر يوماً من الأيام، فكان أن هداه الله عز وجل للإسلام بعد ذلك.
(14/9)
الوصية النبوية بصلة الرحم
ومن الأحاديث حديث أبي ذر في صحيح مسلم يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط).
ومصر هي البلدة التي كان يذكر فيها القيراط، فأخبرهم وبشرهم بأنه في يوم من الأيام ستفتحون مصر، وكان ذلك من معجزاته صلى الله عليه وسلم وإخباره بالشيء الذي يكون فيكون كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم: ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فاستوصوا بأهلها خيراً.
فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، وكان أهل مصر كفاراً، وكان فيها النصارى وغيرهم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إذا فتحوا مصر بأن يستوصوا بأهلها خيراً، لماذا؟ قال: (فإن لهم ذمة ورحماً) وفي رواية: (فإذا افتتحتموها فأحسنوا إلى أهليها؛ فإن لهم ذمة ورحماً، أو قال: ذمة وصهراً).
والرحم الذي في مصر هو من قبل هاجر أم إسماعيل، فسيدنا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاء بامرأته سارة، إلى أرض مصر كان في مصر ملك جبار، فرأى إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ورأى سارة فأعجبته، فسأل إبراهيم: من هذه؟ فقال أختي.
لأنه خاف على نفسه، فلو قال: هي زوجتي لقتله وأخذ سارة، فقال: أختي.
وبعد ذلك ذهب إلى سارة، وقال: إن هذا الكافر سألني عنك فقلت: أختي، وإنه ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيرك.
أي: لا يوجد مؤمن على وجه الأرض إلا أنا وأنت.
فكانت هذه إحدى كذبات إبراهيم الثلاث، وهذه ليست كذبة في الحقيقة، إذ إنه عرض في الكلام، وقصد أنها أخته في الإيمان، وفي الإسلام، وهي زوجته.
ثم إن هذا الرجل أرسل إلى سارة وأخذها وأراد أن يأتيها، فصلت لله ودعت ربها سبحانه فإذا بربها يمنعه منها ويخر مغشياً عليه فيسقط على الأرض لقفاه ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما جئتموني بشيطانة.
وأمرها بأن ترجع إلى إبراهيم، وأخدمها هاجر.
فـ هاجر كانت من أرض مصر أعطاها الملك خادمة لـ سارة، وبعد ذلك أخذتها سارة ووهبتها لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فصارت أمة لإبراهيم، فلما تغشاها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه جاء منها إسماعيل النبي على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فلذلك كانت الرحم الذي بين المصريين وبين إبراهيم على نبينا وعليه والصلاة والسلام سبباً في إسماعيل الذي هو جد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالرحم التي لهم هي كون هاجر أم إسماعيل جد النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
والصهر هو المصاهرة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أهل مصر عن طريق مارية القبطية التي كانت أمة وأهداها المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء منها النبي صلى الله عليه وسلم بولده الذي هو إبراهيم، فصار لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم الرحم والصهر، فأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بجميع أهل مصر من أجل امرأتين.
ويلحظ هنا أن مارية ليست بزوجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي أم ولد ملكها النبي صلى الله عليه وسلم، كما كانت هاجر أمة ملكها إبراهيم وليست زوجة لإبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
(14/10)
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم قرابته بصلة رحمهم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه لما نزلت هذه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالنذارة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص، عم قريشاً كلها ثم بدأ يخص البعض منهم، وهم العشيرة الأقربون، فقال: (يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها).
فذكر القبائل فعم، ثم خص فذكر الأقربين من بني هاشم وبني عبد المطلب، وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الجميع أنه لا يملك لهم من الله شيئا، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وكل إنسان يحمل خطيئته وإثمه يوم القيامة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (غير أن لكم رحماً) أي: بيني وبينكم رحم، فسأصل هذه الرحم وأبلها ببلالها، والبلال هو الماء، وكأن قطيعة الرحم كالنار تحرق، وكأنه سيصب على هذه النار الماء الذي يجعله يصل هذه الأرحام.
ومن الأحاديث حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: (إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء) وهو يريد بعض أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنهم ليسوا من المؤمنين، كـ أبي لهب وغيره، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما وليي الله وصالح المؤمنين).
(14/11)
صلة الرحم عمل يدخل الجنة
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم).
فذكر له العبادات من توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم ذكر النفع المتعدي، وهو صلة الرحم، بأن يصل الإنسان رحمه، فإن كان له مال وصل بماله، وإلا وصل الرحم ولو بالكلام، ولو بالزيارة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سلمان بن عامر: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر؛ فإنه بركة، فإن لم يجد تمراً فالماء؛ فإنه طهور).
وقال: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصله).
وكم من حديث عنه صلى الله عليه وسلم في صلة الأرحام وبيان أنك إذا تصدقت على الأرحام كان لك أجران عند الله سبحانه تبارك وتعالى.
(14/12)
منزلة الوالد وحقه على ولده
وعن حديث ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة، وكنت أحبها، وكان عمر يكرهها.
وعمر بن الخطاب هو الفاروق الذي فرق الله عز وجل به بين الحق والباطل، فـ ابن عمر كان متزوجاً امرأة، وكان يحب هذه المرأة، وأبوه عمر بن الخطاب كان يبغضها، وعمر بن الخطاب ليس من أهل الهوى، ومن يحبه عمر فهو إنسان مؤمن، فقد كان عمر مع الحق دائماً، فكان يكره هذه المرأة لشيء فيها، وكان لا يطيقها، فقال لابنه: طلقها.
فذهب فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبي لا يحب هذه المرأة، وأنا أحبها ولست أكرهها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طلقها) أي: اسمع كلام أبيك وطلقها.
فما كان منه إلا أن طلق هذه المرأة.
فهل - يا ترى - لو أن إنساناً كانت أمه لا تحب امرأته يذهب فيطلقها؟
الجواب
لا؛ فأمه أوبوه ليسا كـ عمر بن الخطاب فـ عمر يحب لله عز وجل، ويحب في الله سبحانه وتعالى، وإذا كره كره لله سبحانه وفي الله سبحانه، فمن كان مثل عمر فإنه يطاع في هذا الشيء.
وفي حديث أبي الدرداء أن رجلاً أتاه فقال: إن لي امرأة وإن أمي تأمرني بطلاقها.
فهذا رجل يستفتي أبا الدرداء رضي الله تبارك وتعالى عنه في أنه متزوج امرأة وأمه تكره هذه المرأة وتأمره بطلاقها، فتوسط أبو الدرداء في الأمر لأن أم الرجل ليست كـ عمر، وأخبره بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ليفكر في أمره، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنة) يعني: حبك لأبيك وطاعتك لأبيك تدخلك الجنة من أوسط أبوابها، فالوالد باب واسع لدخول الجنة، قال: (فإن شئت فأضع ذلك الباب أو فاحفظه).
ولاحظ هنا أنه توسط في الفتوى، فما قال: طلق، وما قال: لا تطلق؛ إذ يحتمل أن تكون الأم مصيبة في أنها تكره هذه الفتاة، فطلاقها أفضل، ويمكن أن تكون مخطئة في هذا الشيء، فأعطاه قاعدة، وهي أن حبك لأبيك وأمك وبرك بأبيك وأمك أوسط أبواب الجنة، فإذا استطعت أن توفق بين زوجتك وبين أمك كان ذلك خيراً، وإلا فعليك أن ترضي والديك بما يرضيان به عنك قدر المستطاع.
وإذا كنت ساكناً مع زوجتك في البيت الذي فيه أمك وأبوك وكانت أمك لا تطيقها ولا أبوك فانتقل إلى مكان آخر وإذا كنت عازماً على أن تبقي على زوجتك وعلى أهلك فلا تؤذ أمك بها ولا تفارقها وتطلقها، فذلك ممكن.
والطلاق بغيض، ولكن الإنسان إذا رأى زوجته تؤذي أمه وتتعمد إهانتها فالأفضل أن يطلقها؛ إذ لا تستحق أن تكون معه، وإذا كانت زوجته لا تؤذي أحداً وكان الشقاق من أمه فليبعد هذه عن هذه ويحاول أن يكون كيساً في تصرفاته مع الطرفين، ولا نأمره بالطلاق ولا نقول له: أغضب والدتك واتركها تتضجر، ولكن نقول له: كن منتبهاً دائماً، واعلم أن الإحسان إلى الأم والأب أوسط أبواب الجنة، فلا تضيع هذا الباب، ورغم أنف امرئ أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وعلى صلة الأرحام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمين.
(14/13)
شرح رياض الصالحين - تحريم العقوق وقطيعة الرحم
كما نظم الإسلام علاقة الإنسان بربه فقد نظم أيضاً علاقة الإنسان بمن حوله من البشر، وعرف لكل ذي فضل فضله، فمنح الناس حقوقاً، وجعل في قمة هذه الحقوق حقوق الوالدين والأقربين، فحرم العقوق والقطيعة، وتوعد عليها أشد الوعيد.
(15/1)
تحريم العقوق وقطيعة الرحم
(15/2)
قطع الأرحام إفساد في الأرض
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: باب: [تحريم العقوق وقيطعة الرحم.
قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت) متفق عليه].
يذكر الإمام النووي في هذا الباب الأحاديث الواردة في تحريم العقوق وقطيعة الرحم.
وإن كان قد ذكر في الأبواب السابقة الأمر بصلة الأرحام فإنه هنا سيذكر النهي عن عكس ذلك، والمسلم مأمور أن يصل الأرحام، ويراعي الأقرباء، ومنهي عن أذى أقربائه وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22].
قوله: (هل عسيتم) أي: هل عسى أن تفعلوا ذلك إن توليتم؟ وقوله: (توليتم) إما من التولي، وإما من الولاية، كأن يكون للإنسان نوع من الولايات ويصير ذا شأن في قومه، فهل عسى أنه يغتر فيقطع رحمه وينكرهم بعد ذلك، وقد حصل أن كثيراً من الناس يفعلون ذلك فبمجرد أن يمن عليهم الله سبحانه وتعالى بمنصب أو مال، فما يفتأ الواحد منهم ينسى نفسه وينسى أقرباءه، ويعرض عن أرحامه، وقد يجافي والديه فلا ينظر أباه ولا أمه ولا خاله ولا خالته، كل ذلك بعد أن أغناه الله سبحانه وتعالى.
فالله هو العليم، وهو إذ يكلمنا أعلم بما في قلوبنا حيث يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [محمد:22] هل ستفعلون ذلك إن توليتم؟، وعلى المعنى الثاني: يكون الخطاب للصحابة ولمن بعدهم، فإن كان لهم كان المعنى: كنتم أمام النبي صلى الله عليه وسلم تسمعون منه وبعد أن تتولوا عنه أي: تنصرفوا عنه، هل تفعلون ذلك، والمعنى: احذروا، فمن يصنع ذلك ويقطع رحمه ويفسد في الأرض فـ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد:23] أي: طردهم من رحمته سبحانه.
(فأصمهم) أي: عن سماع الخير والهدى، فهم إن كانوا يسمعون كلام الناس إن قيل لهم الحق لا يسمعونه، وإن قيلت لهم الموعظة بالكتاب والسنة فلا يعرفون شيئاً ولا ينتبهون لها.
قوله: ((وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)) أي: فهم وإن كانوا يرون، ولكن رؤية من لا يعتبر، فمنهم من يرى أمامه الميت وهو غافل عن أنه سيكون يوماً مكانه، فتجده يتكلم في المال، ومتع الدنيا فهو يبصر ولكنه بصر لا يصل إلى قلبه فيعظه بهذا الذي يراه.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] أي: كل صلة أمر الله عز وجل بوصلها يقطعونها، فأخبر سبحانه أنهم يقطعون ما أمر الله بوصله، وكذلك يفسدون في الأرض فقال: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].
اللعنة: الطرد من رحمة الله، وقوله: ((سُوءُ الدَّارِ))، فالناس يوم القيامة يكونون إما في حسن الدار، وإما في سيئ الدار، سوء الدار، هو نار جهنم والعياذ بالله.
(15/3)
عقوق الوالدين من أكبر الكبائر
من الأحاديث حديث أبي بكرة واسمه نفيع بن الحارث بن كلدة رضي الله عنه، وسبب كنيته أنه كان فيمن حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حصن الطائف سنة ثمان للهجرة، فإنه بعد أن فتح مكة توجه إلى الطائف فرفض أهل الحصن الاستسلام ورشقوا المسلمين بالنبال والرماح وقد أسلم نفيع بن الحارث وأحب أن يهرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت الأبواب مؤصدة محروسة لم يجد إلا أن يتدلى ببكرة وينزل من الحصن هارباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكني بعد ذلك بـ أبي بكرة رضي الله عنه.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر).
وقد كان صلى الله عليه وسلم حينها متكئاً يقول لهم: هل أخبركم بأكبر الكبائر؟ والكبائر كثيرة لم يُتفق على حصرها، وقد جاء في حديث أن الكبائر الموبقات المهلكات سبع، فقال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، يعني: أنها ليست سبعاً فقط، وقد أوصلها بعضهم أكثر من ثلاثمائة كبيرة، فجعل كل ما توعد الله عز وجل عليه من ذنب بأنه يعذب صاحبه، أو أن صاحبه ملعون مطرود من الرحمة، أو ذكر بأن له النار، أو جعل له حداً في الدنيا، أو جعل شيئاً من الوعيد في الدنيا كبيرة من الكبائر.
قال أبو بكرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله).
والإشراك أن الإنسان يعبد غير الله سبحانه أو يعبد مع الله سبحانه وتعالى غيره، والشرك أقسام: الشرك الأكبر، والشرك الأصغر الشرك الخفي.
قال: (وعقوق الوالدين) العقوق: من عق، بمعنى: قطع، ومنه العقيقة، وهي: التي تذبح في يوم سابع المولود، والعقوق: من يقطع رحمه.
(15/4)
جريمة شهادة الزور
قال في الحديث: (وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور) يعني: من أعظم الكبائر قول الزور، وشهادة الزور، قال أبو بكرة: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت! ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى الصحابة من أنفسهم، فإنهم لما رأوا غضب النبي صلى الله عليه وسلم وتكراره: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، رحموه وأشفقوا عليه فقالوا: ليته سكت! يريدون من أجل أن يكف غضبه.
وإنما كرر شهادة الزور ولم يكرر بقية الكبائر المذكورة في الحديث؛ لأن الشرك يندر في الصحابة ومن بعدهم بعد ما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وتمنع عقوق الوالدين طبيعة الإنسان وفطرته، أما قول الزور وشهادة الزور فإن تقوى الله هي التي تمنع المسلم من إتيانها وليس كل إنسان عنده هذه التقوى.
أضف إلى ذلك أن قول الزور وشهادة الزور ذات ضرر متعد، فبسببها تجد الإنسان البريء يدان أمام القاضي بأعمال ما فعلها، بل شهد بها عليه أحدهم كاذباً، فاجراً، مزوراً في شهادته، بل قد تقطع رقبة إنسان بسب ذلك، وقد يسجن أو يقام عليه الحد بسبب شهادة الزور.
وكم من إنسان تفتنه الدنيا، ومن أجل أن يأخذ لعاعة مال يتجرأ على أن يشهد زوراً عند القاضي، ومثل هذا الشيء موجود في الخلق منذ القدم، فلم يخل عصر من الطمع في المال.
وقد يشهد الإنسان زوراً على آخر لأنه مبغض له، وقد حدث مثل ذلك في عهد نبي الله سليمان، وهو من أخبر الله سبحانه عنه وعن أبيه: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:78 - 79].
أي: أن الله عز وجل فهم سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وهو صغير مع أبيه، فقد يأتي الناس يسألون أباه عن الشيء، ثم يفتي أو يحكم فيهم بشيء ثم تعرض على سيدنا سليمان فيرى شيئاً آخر غير ما يراه أبوه، وذلك لأن الله عز وجل الذي فهمه، قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وكان من ضمن القضايا الذي عرضت عليهما: قضية شهادة الزور، فإن أربعة ذهبوا إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وشهدوا عنده على امرأة أنها زنت بكلبها، وهم في حقيقة أمرهم كاذبون.
ومع أن داود عليه السلام نبي من الأنبياء معصوم إلا أنه في الأحكام الدنيوية يحكم بما يراه أمامه، وذلك حتى يُتَعلم منه كيف يحكم بين الناس، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحكم بين الناس بما رآه صلى الله عليه وسلم في القضية نفسها، وكان يقول: (إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فهي قطعة من النار فليأخذ أو فليذر).
فمع أن النبي صلى الله عليه وسلم بإمكانه أن يسأل ربه فيطلعه على حقيقة كل قضية ويقول له: فلان كذاب، وفلان صادق، فيحكم بالوحي في هذه القضايا، إلا أن من يأتي بعد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم سيختلط عليه الأمر، إذ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه، أما من بعده فلا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر.
وفي مثل هذه القضية حكم داود عليه السلام، بعد أن شهدوا على المرأة أنها زنت، فقضى بقتلها، فلما سمع ذلك سليمان وهو صغير عليه الصلاة والسلام قال: لو كنت أنا ما قضيت بذلك! فلما بلغ داود قوله دعاه أن يقضي بتلك القضية فكان قضاؤه جميلاً عليه الصلاة والسلام فقال: أحضروا الشهود، فلما جيء بالشهود فرق بينهم، وسأل الأول منهم: ماذا رأيت؟ قال: رأيتها تزني بكلبها.
قال: أين رأيتها؟ قال: في المكان الفلاني.
في أي موضع منه؟ قال: في كذا.
فما كان عليهم من الثياب؟ قال: كذا، فما لون كلبها؟ قال: لونه كذا.
ثم صرفه وأتى بالثاني وسأله نفس الأسئلة فأجاب بعكس الأول، ثم طلب الثالث ثم الرابع، فثبت كذب الشهود، فقتل الأربعة الشهود الذين شهدوا على هذه المرأة وقتلت بشهادتهم.
وبذلك تعلم خطر شهادة الزور وندرك سبب غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور).
(15/5)
شرح حديث عبد الله بن عمرو في الكبائر
(15/6)
سب الرجل والديه من الكبائر
من الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب أنه قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، فقالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.
يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه).
والمعنى: أن الإنسان يحترم أباه وأمه ولا يشتمهم ولكنه يشتم إنساناً آخر فيرد عليه، وحينها يكون متسبباً في شتم أبيه وأمه، فيكون كأنه هو الشاتم لهما، وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن يسب الإنسان أبا إنسان آخر فيرد عليه ويسب أباه، أو يسب أم إنسان فيسب أمه، فإذا فعل ذلك إنسان صار كأنه هو الذي سب أبا نفسه وأمه فكان من الكبائر.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى حرم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) متفق عليه.
قوله: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)، لا يعني جواز عقوق الآباء! بل هو حرام أيضاً وإنما لم يذكر لإرادة الجناس بين الكلام والله أعلم.
قوله: (ومنعاً وهات)، أي: كثرة الكلام والجدال، فالجدل الكثير منعنا منه ربنا سبحانه وتعالى.
قوله: (ووأد البنات)، وكانوا في الجاهلية يئدون بناتهم، فتجد الرجل عندما تلد زوجته يستقبل الجنين، فإذا كان ولداً فرح به، وإذا كان بنتاً حزن وتبرم، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58 - 59].
وهذا من وسوسة الشيطان لهذا الأب، فهو يحزنه ويهول له ما نزل به، ويظل كذلك حتى يأخذ البنت ويدفنها وهي حية، ثم يزعمون بعد ذلك أن هؤلاء البنات لله، قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى} [النحل:62]، يقولون: لنا نحن الأحسن من الولد، والبنات لله ربنا فهو الذي خلقهن وسنرد إليه ما خلق، فيقتلون البنات بهذه الصورة القذرة البشعة، ولعل أحدهم يحمل ابنته وقد بلغت مبلغ التمييز ويذهب ليحفر لها حفرة، والبنت لا تعلم ماذا يعمل أبوها! فتعين أباها، وقد تمسح له التراب عن وجهه وهو يحفر لها القبر الذي سيدفنها فيه! فأي قلوب قاسية متحجرة كان عليها هؤلاء الناس؟ ومن معجزة الإسلام أن غير قلوبهم، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وقد كانت عقول أهل الجاهلية متحجرة متعفنة، فتجدهم يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، فيعبد أحدهم الحجر وهو يعلم أنه هو الذي صنعه بيده، ويعلم أنه هو الذي أتى به من الأرض، ومع ذلك يعبده من دون الله، وقد يسافر أحدهم في الطريق ويجد حجراً فيعجبه شكلها ويأخذ ثلاث أحجار بجوارها، فيضع الثلاث تحت القدر، ويترك الرابعة من أجل أن يعبدها من دون الله! فكيف فرق بينها وهي كلها أحجار؟!! وإذا لم يجد حجراً أتى بقليل من الرمل، ثم حلب الشاة عليه ثم صنع به تمثالاً يعبده من دون الله، فأي عقول مع هؤلاء الناس {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44].
فكانوا يستنصرون بهؤلاء، ويدعونهم، ويستفتحون بهم من أجل أن ينتصروا، فإذا بالله عز وجل يُهدي إليهم هذا الدين العظيم -دين الإسلام- فيغير أخلاقهم، وينير الظلمات التي في قلوبهم وعقولهم فيعبدونه سبحانه، وإذا سمع أحدهم القرآن رق قلبه وبكى على ما كان منه، فبعدما كان لقسوة قلبه يئد ابنته صار من أحن الناس بعد نزول كلام رب العالمين سبحانه.
قوله: (وكره لكم قيل وقال)، أي: الإكثار من الكلام، حقيقة أو ظناً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)، فتجد أحدهم يقول: أظن كذا، أو يعمد إلى نقل الكلام بين الناس، فما أن يسمع كلاماً في مجلس من المجالس حتى يبادر في نقله إلى مجلس آخر ويزيد عليه.
والنميمة من تنمية الكلام والزيادة عليه، فإذا سمع من هنا كلاماً نقله على جهة الإفساد، وهذا شأن المرتابين، أما المؤمن فإنه يحسب كلامه حساباً عظيماً، ويعرف أن كل كلمة يقولها فإن الله عز وجل يسأله عنها يوم القيامة.
قوله: (وكثرة السؤال)، أي: الإلحاح في طلب ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، وهو مكروه مع الناس، أما مع الله عز وجل فإن الإلحاح في الدعاء مستحب، فإن الله عز وجل يرضى عنك إذا سألته وألححت في سؤاله، أما العبد فيغضب.
قوله: (وإضاعة المال)، نهى عن التبذير وإضاعة المال فيما لا ينبغي، كإضاعته فيما حرم الله سبحانه، حتى ولو كان كسب الإنسان كثيراً فلا بد أن يعلم أنه سيسأل عن المال سؤالين يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟ ويعتقد البعض أن الدخل الكثير يعفي صاحبه من المساءلة عن القليل، وهذا اعتقاد خاطئ، بل إن الله يسأل العبد عن النقير والقطمير، والقليل والكثير، وهذا إن كان حلالاً مصدراً حلالاً مخرجاً، أما أن يضاع في الحرام فهذا أشد عقوبة ولا شك.
ومعنى أن الله كره لكم ذلك، أي: كرهه محرماً ذلك عليكم، ولذلك يأتي الإنسان الذي يسأل الناس تكثراً يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم؛ لأنه كان يسأل الناس ويمد يده إليهم، ولم يستح في الدنيا، فيأتي يوم القيامة وقد تساقط لحم وجهه، عقوبة له على فعله.
(15/7)
عقوق الوالدين
وقد نهى الله سبحانه عن عقوق الوالدين في أكثر من آية قال تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء:23]، فلا يقول للوالدين أف ولا ينهرهما، بل هو مأمور بصلة الوالدين، لا بهجرهما أو عدم السؤال عنهما.
وقد تجد واحدة من النساء تقوم وتشكي من ابنها، فمع أنه حسن الأخلاق مع الناس ويصلي ويعمل أعمالاً طيبة، إلا معها هي فقط، فإنه إذا دخل البيت يشتم أمه ويضربها ويهينها، فهو أمام الناس بر مؤدب ومع أمه قبيح الخلق.
فلا ينفعه الصدق مع الناس إذا كان مؤذياً لأمه، قال الله عز وجل: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83]، كما أن من يعق والديه يسلط الله عليه عياله فيصنعون فيه ما كان يصنع في والديه.
قوله: (وقتل النفس) وقد قدم عقوق الوالدين على قتل النفس، والقتل لا شك قبيح.
(15/8)
أنواع اليمين
قوله: (واليمين الغموس) وهي أن يحلف المرء على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، وقد تقدم أن الأيمان ثلاثة أنواع: الأولى: يمين لغو، وليس فيها كفارة ولا يلزم صاحبها إلا الاستغفار؛ لأنه تلفظ بها وهو لا يقصدها، كأن يستضيف إنسان آخر فيقول: والله لتأكلي معنا، والله لتشربن معنا.
اليمين الثانية: اليمين المنعقدة، وهي أن يحلف المرء أن يفعل شيئاً أو لا يفعله في المستقبل، كأن يقول: والله سأعمل كذا، أو والله ما أنا بعامل كذا، فيحلف على شيء في المستقبل وهو عازم أن يعمل أو لا يعمل.
فواجبه إن حنث أن يكفر عنها كفارة يمين.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين فوجد غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه).
وقال سبحانه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ} [البقرة:224]، أي: لا تجعل يمينك بالله معرضة أمام فعل الخير فتمنعك من فعل الخير.
اليمين الثالثة: اليمين الغموس؛ مأخوذة من الغمس؛ لأن صاحبها يغمس في نار جهنم والعياذ بالله، ويحلف بهذه اليمين ليقتطع حق امرئ مسلم وهو كاذب ويعلم أنه كاذب، فيقول: والله ما فعلت كذا وقد فعله، ويقسم: والله ما أخذت كذا وقد أخذه.
وذنبها أعظم من أن يكفره إطعام عشرة مساكين، أو صوم ثلاثة أيام، وقول من قال ذلك إنما هو لقصد التخفيف وأمرها إلى الله عز وجل، ويلزم من فعلها أن يتوب إلى الله عز وجل لعله يغفر له سبحانه تبارك وتعالى، ويستشعر عظم الذنب الذي ارتكبه.
(15/9)
الشرك بالله
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس).
قوله: (الكبائر) يعني: من الكبائر ومن أكبرها.
قوله: (الإشراك بالله) ومعناه أن تجعل لله نداً وهو خلقك، فتعبد غير الله سبحانه، أو تدعو غير الله، أو تتوسل إلى غير الله تبارك وتعالى، أو تحلف بغير الله تعظيماً له، أو تنذر لغير الله سبحانه، أو أن تتوجه في عبادتك لغير الله، ويعد هذا شركاً أكبر.
أما الشرك الأصغر فهو أن تنسب الفضل إلى غير الله سبحانه ناسياً ربك سبحانه، ويقع في الخلق كثير من هذا الشرك، فترى الموظف إذا سئل: كيف حصلت على كذا؟ يقول: كان فلان السبب في هذا الشيء، أو يقول: كان هو عمل لي كذا، أو كان فلان هو الذي رزقني أو فلان الذي زاد لي مرتبي.
فينسب لغير الله وينسى الله سبحانه وتعالى.
وتجد إنساناً آخر يمتلك كلب حراسة، فيأتي اللصوص فينبح عليهم الكلب، ويكون السبب في فرارهم، فإذا سئل عن ذلك تجده يقول: لولا الكلب لصنع اللصوص كذا وكذا، ناسياً أن الله هو من ألهم الكلب النباح، وهو الذي أيقظه لنباح كلبه، ولكنه ينسب الفضل لغير الله.
ومن أنواع الشرك: الشرك الخفي: وهو الرياء فتجد صاحبه يصلي بالناس ويطيل الصلاة ولو صلى وحده ما صلى تلك الصلاة، أو يصلي من أجل أمر يريده من فلان، فإذا حصل على الأمر ترك الصلاة والصوم، يصدق فيه: صلى وصام لأمر كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما فمن كان يصلي من أجل الامتحان، يترك الصلاة بانتهاء الامتحان، وهكذا.
والمطلوب من الإنسان المسلم أن يعبد الله سبحانه في السراء والضراء، ويعلم أن كل خير من الله عز وجل وأن الدنيا لا شك زائلة، وأنه عائد إلى ربه يوم القيامة فيتمنى يوم القيامة مما يرى من هول الموقف أنه كان أكثر عملاً.
(15/10)
شرح رياض الصالحين - فضل بر أصدقاء الوالدين والأقارب وأهل بيت النبي
إن من أبرز ما أمر الدين الإسلامي به البر بالوالدين في حياتهما وبعد موتهما، ويكون البر بالوالدين بعد موتهما من خلال بر أصدقائهما والتودد إليهم.
وإذا كان بر أصدقاء الوالدين من بر الوالدين، فمن حب رسول الله عليه الصلاة والسلام حب آل بيته من أزواجه وأقربائه.
(16/1)
فضل بر أصدقاء الوالدين وسائر من يندب إكرامه
(16/2)
خدمة جرير البجلي للأنصار إكراماً لرسول الله
من الآثار: أثر أنس بن مالك قال: (خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه تبارك وتعالى عنه في سفر فكان يخدمني).
وجرير أكبر من أنس بكثير في السن، فكان جرير هو الذي يخدم أنساً، وجرير كان في قومه كالملك، فقد كان في قومه سيداً، وكان رجلاً مهاباً شريفاً كريماً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان بهياً جميل المنظر حتى أن عمر رضي الله عنه كان يقول عنه: (مشرف هذه الأمة) جرير بن عبد الله البجلي.
فخرج مع أنس بن مالك فكان جرير يخدم أنس بن مالك الذي هو أصغر منه سناً، فيقول أنس: (فقلت: لا تفعل) استحيا أنس رضي الله عنه، فقال له جرير بن عبد الله رضي الله عنه: (إني قد رأيت الأنصار تصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت على نفسي ألا أصحب أحداً منهم إلا خدمتُه) أي: إكراماً للنبي صلوات الله وسلامه عليه، وإكراماً لقومك أن أكرموا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا جرير يكرم أنس بن مالك؛ لأن أنساً كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد خدمه عشر سنوات، وأهل وأقارب أنس من الأنصار رضوان الله عليهم فعلوا للنبي صلى الله عليه وسلم كل خير، لذلك كان جرير البجلي يقول: إن للأنصار جميلاً على النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه جميل على جرير نفسه، فيقول: (آليت -يعني: أقسمت- ألا أصحب أحداً من الأنصار إلا خدمته).
(16/3)
صلة أصدقاء الوالدين
ومن الأحاديث حديث لـ أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: (بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما).
بمعنى: أن تدعو لهما على المعنى اللغوي في الصلاة، فالصلاة في اللغة هي: الدعاء للوالدين، والاستغفار لهما.
فإذا مات الأب أو ماتت الأم، فعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء لهما، ويكثر من الاستغفار لهما.
قال: (وإنفاذ عهدهما من بعدهما) فإذا كان الأب قطع عهداً لأحد ما، أو وعد أحداً ومات قبل أن يفي به، فمن البر أن يفي ابنه بما عاهد أبوه، سواء بصدقة أو بهبة أو غيرهما، فإذا عرفت أنا أباك أو أمك قد وعدا إنساناً بشيء من الصدقة فمن البر بالمعروف أن تنفذ ذلك، وإذا كان على أبيك أو على أمك نذر ما وتوفيا قبل تنفيذه فإنك تنفذ ذلك عنهما وهذا يكون من باب بر الأبوين.
قال: (وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) أي: أن يصل رحم أبيه مثل ابن عم أبيه من بعيد، الذي كان أبوه يصله، فتصل من كان يصله أبوك.
قال: (وإكرام صديقهما) فمن ضمن بر الوالدين: إكرام صديق الأب، وصديقة الأم.
والحديث رواه أبو داود بإسناد فيه ضعف يسير.
(16/4)
إكرام النبي لصديقات خديجة
ومن الأحاديث حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة).
على الرغم من أن خديجة ماتت وعائشة لم ترها، ولكن من بر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجته التي توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، فقد كان يبر بأقارب السيدة خديجة، وكان يبر صديقات السيدة خديجة اللاتي كن يأتين للنبي صلى الله عليه وسلم في حياة خديجة وبعد وفاة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وكان ذلك يسبب غيرة للسيدة عائشة، والغيرة غالباً ما تكون من النساء الأحياء، ولكن غيرتها كانت من السيدة خديجة التي توفيت رضي الله تبارك وتعالى عنها، ولكن من كثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقد كانت للنبي صلى الله عليه وسلم نعم الزوجة ونعم الرفيقة في حياته صلوات الله وسلامه عليه ونعم المعينة المشيرة، ولذلك استحقت أن يبشرها ربها سبحانه بقصر من قصب لا صخب فيه ولا نصب، وقد صارت من سيدات نساء العالمين رضي الله تبارك وتعالى عنها.
وفاطمة رضي الله تبارك وتعالى عنها هي بنت خديجة.
والسيدة عائشة لها فضل عظيم ويكفي أنها حبيبة رسول صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، فهي مفضلة على النساء رضي الله تبارك وتعالى عنها.
ولكن مع ذلك كانت السيدة عائشة تغار على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت أشد غيرة من خديجة التي تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط).
فقد توفيت السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل هجرته بسنين، والسيدة عائشة صغيرة السن وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ودخل بها في المدينة وكان لها تسع سنوات رضي الله تبارك وتعالى عنها، وما رأت السيدة خديجة؛ لأنها كانت صغيرة حين توفيت السيدة خديجة رضي الله عنها، ولكن كان يكثر عليه الصلاة والسلام من ذكرها، فمن كثر ذكره لها كانت تغار منها.
قالت: (وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة) براً لـ خديجة رضي الله عنها.
قالت: (فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها كانت وكانت) فيمدح السيدة خديجة التي وقفت بجواره صلى الله عليه وسلم وكانت من أجمل النساء رضي الله تبارك وتعالى عنها، ونفعت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ونفعته بنصحها وشفقتها وحنوها عليه صلوات الله وسلامه عليه.
فكان يمدحها ويقول: (إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) يعني: هي الوحيدة من نسائه التي كان له منها الولد.
قالت في رواية: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة) يعني: عرف طبيعتها وأدبها ونغمة صوتها وهي تكلمه أنها مثل خديجة، فهش لذلك صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه عندما تذكر خديجة صلوات الله وسلامه عليه وهو لم ينسها ارتاح فقال: (اللهم هالة بنت خويلد) فذكرته هالة بـ خديجة وما كان من أمرها، قالت: فارتاح أو فارتاع لذلك.
(16/5)
من بر الوالدين صلة أصدقائهما بعد موتهما
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة وسائر من يندب إكرامه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبر البر أن يصل الرجل ودَّ أبيه).
وعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: (بينا نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله! هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما) رواه أبو داود.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط، ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأن لم يكن في الدنيا إلا خديجة فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) متفق عليه].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب الأحاديث الواردة في فضل بر أصدقاء الأب والأم والأقارب وغيرهم، وعلى المسلم أن يبر أبويه ويبر أهل قرابته من الإخوة والأخوات، والعم والعمات، والخال والخالات وهكذا، وأيضاً عليه أن يبر أصدقاءهم إذا كانوا من المؤمنين.
وهذه الأحاديث تبين لنا فضل بر أصدقاء الأب، فعندما تبر صديق أبيك فإنك تبر أباك وهو في قبره.
(16/6)
شرح حديث: (إن أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه)
هذه المعاني في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه) وكأنه يقصد من كان أبوه يحبه، فإذا كان أبوك يحب إنساناً وتوفي أبوك فمن البر أن تبر هذا الإنسان، وتبر أهل ود أبيك.
وجاءت قصة هنا يرويها عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله بن عمر وهم يرضون باليسير) فالأعرابي متعود على الجو الحار وعلى أقل الأشياء من الأكل بعكس أهل المدن، فالأعرابي يكفيه القليل من الطعام والشراب.
وفي رواية ثانية: كان -أي: عبد الله بن عمر - إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه.
أي: عندما يسافر إلى مكة كان يركب الجمل، وكان إذا تعب من ركوب الجمل ركب الحمار، فكان الحمار يتروح عليه يعني: يستريح عليه إذا مل ركوب الراحلة، وكان له عمامة يشد بها رأسه.
ولبس العمامة من عادات العرب وهي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتضيف جمالاً للإنسان.
فبينما هو يوماً على ذلك الحمار، متوجهاً في طريقه لمكة، مر به أعرابي فقال ابن عمر: ألست فلان ابن فلان؟ والأعرابي لا يعرف ابن عمر، فبعد أن سأله ابن عمر أجاب: بلى.
أي: أنا الذي قلت.
فأعطاه ابن عمر الحمار الذي كان يركب عليه ليستريح من عناء الركوب على الجمل في أثناء الطريق، فقال: اركب هذا، وأعطاه العمامة وقال: اشدد بها رأسك.
فأعطاه العمامة والحمار كذلك.
فقال بعض أصحاب ابن عمر: غفر الله لك! أعطيت هذا الأعرابي حماراً كنت تروح عليه، وعمامة كنت تشد بها رأسك؟ يعني: أنت محتاج لهذين الشيئين.
وفي رواية قالوا: أصلحك الله! إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير! يعني: الأعرابي لو أعطيته أقل الحاجات سيفرح بها، فلماذا تعطيه حماراً كاملاً وتعطيه العمامة كاملة.
فقال ابن عمر رضي الله عنه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي) إن من أبر البر، أي: يؤجر كأنه بر أباه.
وفي رواية أخرى: قال: إن أبا هذا كان وداً لـ عمر، يعني: ليس هو الأعرابي الذي كان وداً لـ عمر وكان صديقاً لـ عمر رضي الله عنه، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه).
نتعلم من هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من البر أن يبر المسلم أصدقاء أبيه في حياته ويبرهم أيضاً بعد وفاة أبيه، وبذلك يحصل الإنسان على أجر بر أبيه.
(16/7)
فضل إكرام أهل بيت رسول الله وبيان فضلهم
من الأبواب الذي يذكرها لنا رضي الله عنه: إكرام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم يطلق على بني هاشم والذين ذريتهم من قبيل السيدة فاطمة رضي الله عنها، وأولاد علي بن أبي طالب من غير فاطمة، وأولاد جعفر بن أبي طالب، وكذلك أولاد عقيل بن أبي طالب، وكذلك العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] فكان السياق في ذكر نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، فهن من أهل بيته صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] والشعيرة هي العبادة ومن العبادة حب الله عز وجل، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب آل بيت النبي صلوات الله وسلامه عليه.
يقول يزيد بن حيان: (انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم).
وهو صحابي فاضل له مناقب كثيرة وكان كبير في السن لما ذهب إليه هؤلاء.
قال: (فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً) يعني: نحن من التابعين ما رأينا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنت رأيت النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعت حديثه، وغزوت معه وصليت خلفه.
(لقد لقيت يا زيد! خيراً كثيراً، حدثنا يا زيد! ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال زيد رضي الله عنه: يا ابن أخي! والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسبت بعض الذي كنت أعي من رسول الله، فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه! ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً ما بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: أما بعد: ألا أيها الناس! فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب) صلوات الله وسلامه عليه.
التذكير بالموت، فيذكرهم صلوات الله وسلامه عليه بذلك حتى لا ينسوا وحتى يعلموا أنه بشر مثلهم صلوات الله وسلامه عليه، يأتي عليه القدر ويأتي عليه الموت كما يأتي عليهم، فيذكرهم صلى الله عليه وسلم يقول: (فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين).
يعني: شيئين عظيمين وقال: (ثقلين) لثقلهما وعظمتهما وكبر شأنهما.
قال: (وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: وأهل بيتي) وهذا الأمر الثاني الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
قال: (وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده) صلوات الله وسلامه عليه.
ونساء النبي صلى الله عليه وسلم الكل يعرف قدرهن وسيراعي حقهن، وهن محرم عليهن الزواج بعد رسول الله وبالتالي ستنقطع ذرياتهن، أما باقي أهل بيت النبي فإنهم سيستمرون في التناسل، وينسى الناس أنهم من بيت النبي فلا يعرفون لهم قدرهم.
قال: (ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة) فقد شرف الله عز وجل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وحرم عليهم الصدقة التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم أوساخ الناس، فالصدقة (الزكاة) تحرم على النبي صلى الله عليه وسلم وتحرم على آله بيته صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم القيامة.
قال أي الحصين: (ومن هم؟ فقال: آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، قال: كل هؤلاء حرموا الصدقة؟ قال: نعم).
فالغرض: أن المؤمنين من بني هاشم إلى قيام الساعة هم آل النبي صلى الله عليه وسلم بنو العباس وبنو عقيل وبنو جعفر وبنو علي رضي الله عنهم فهؤلاء هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
والغرض: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهم أن يراعوا، وأن يحبهم الإنسان، فقد كانوا أتقياء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان من ضمن أقارب النبي صلى الله عليه وسلم الأشقياء: أبو لهب الذي مات على الكفر والذي أخبر الله عنه وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1].
فالمقصود بآل بيته هم كل من والى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان من ذرية الذين ذكرنا، وكان مطيعاً لله عز وجل، فإنه يحب بقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، فحبه أولاً لطاعته لله عز وجل ولاتباعه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويزيد عليه أنه من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم ومن آل بيته، وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
في رواية أخرى قال: (ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله وهو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة)، فكتاب الله عز وجل هو النور من الله، أي: فيه الهدى والنور، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ المسلمون بكتاب الله وأن يستمسكوا به، وقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وأهل بيتي)، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (ارقبوا محمداً في أهل بيته) صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في الأحاديث الأمر بالإحسان وصلة الأرحام، والإحسان للوالدين وللأقرباء وصلة الأرحام، وكذلك المعاملة بالمودة وبالرحمة مع أقربائهم، وإذا كان الإنسان يراعي أهل ود أبيه فليراع قرابة النبي صلوات الله وسلامه عليه بالتوقير والاحترام والإحسان، طالما أنهم على شرع الله عز وجل، ومتبعون لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلة الأرحام.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(16/8)
شرح رياض الصالحين - توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [1]
جعل الله لكل عبد منزلة ينزل فيها ولابد، فرفع أهل العلم والفضل والسن، ثم جعل بعدهم من يليهم، فلا يليق بصغير القوم أن يتقدم وفيهم من هو أفضل منه وأكبر، كذلك إمامة الصلاة لا يقدم لها إلا أعلم أهل المسجد وأحفظهم، ثم يليه في الصفوف من يليه في الحفظ والفهم.
(17/1)
وجوب معرفة الفضل لأهل العلم وكبار السن
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.
قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً، ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه) رواه مسلم.
وعنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم) رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ثلاثاً، وإياكم وهيشات الأسواق) رواه مسلم].
باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، ويذكر تقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم، وإظهار مرتبتهم.
دين الإسلام دين عظيم يعلم المسلم أن يعرف حق الله سبحانه فيوحده، ويعبده ولا يشرك به شيئاً، وأن يعرف حق رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وأنهم الذين بلغوا رسالات الله سبحانه، وأدوا أمانة الله سبحانه، فوجب على المسلم أن يعرف فضلهم، ويحترمهم، ويصلي على أولياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويوقرهم، ويعرف قدرهم، ويذكر فضلهم بما ذكر الله وبما ذكر الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ثم نبينا صلوات الله وسلامه عليه هو خاتمهم، وخيرهم، وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه، وهو الذي جاء بهذه الشريعة العظيمة ليعرف قدره، ويتبعه، ويعزره، ويوقره، ويحترم كلامه، ويؤثره على نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ويعلم أنه أولى به من نفسه، فيعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف قدر أهل العلم الذين بلغوا رسالات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغوا شرعه وما أمر أن يبلغ صلوات الله وسلامه عليه، وهم ورثة الأنبياء، قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
يعرف الإنسان المسلم فضل كبار السن، وأنهم سبقوه بالإسلام، وبالصلاة لله وعبادته، وإن كان قد يفضل عليهم بأشياء أخر، ولكن لهم فضل التقدم في أعمارهم، وفضل كثرة عبادة الله سبحانه، فجاء القرآن والسنة بتقديم من يستحق التقديم، فذكر لنا سبحانه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، هنا استفهام إنكاري لتقرير الحكم، أي: لا يستوي الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون، إنما يتذكر بالقرآن وبالموعظة أصحاب القلوب الصحيحة المستقيمة، ويعرض عن التذكرة أصحاب القلوب المريضة السقيمة، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يذكر أن الذي يستفيد وينتفع بهذا العلم هم أصحاب البصائر والألباب.
(17/2)
مراتب إمامة المصلين
من الأحاديث حديث أبي مسعود واسمه عقبة بن عمرو البدري الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
وغالباً ما تأتي كلمة القراءة في السنة بمعنى الحفظ، إلا أن تأتي في موضع يفهم منه القراءة بمعنى القراءة، ولكن دائماً إذا أطلقت كان معناها الحفظ، فقدم هنا الأقرأ وهو الأعلم بكتاب الله عز وجل، وإذا كان القوم يحفظون كتاب الله عز وجل فالأقرأ هو الأكثر حفظاً، والأجود قراءة فيتقدم على غيره.
إذاً: أقرؤهم لكتاب الله، وهو الذي يحفظ القرآن كله، مقدم بالشرع على من يحفظ ثلاثة أرباعه، أو نصفه وهكذا؛ إذ الإمامة ليست مجالاً للتنافس بين من يعلم ومن لا يعلم، وبين من يحفظ ومن لا يحفظ، وبين من صوته حسن وصوته رديء، ولكن الله عز وجل قد علمنا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم من الذي يقدم، فهذا الذي يقدم كأنه وافد القوم على ربه سبحانه وتعالى.
ولذلك إذا أحسن فله ولمن خلفه، إذا أساء فعليه وليس على من خلفه.
وهم يقدمونه بين أيديهم لربهم سبحانه وتعالى، لذلك لا يقدمون من يختارونه بل الذي يختاره ربهم سبحانه والذي يقدمه النبي صلوات الله وسلامه عليه، ففي أي مكان يقدم للإمامة أقرأ القوم، فإذا كان الناس يريدون اختيار إمام لهم فعليهم بأقرئهم وأحفظهم لكتاب الله فهو مقدم على غيره.
فإذا تقدم وصار إماماً راتباً، ثم جاء من هو أحفظ منه فالحق للإمام الراتب، وهذا مكانه وسلطانه ولا يؤخر لغيره إلا أن يختار هو أن يقدم غيره على نفسه.
أما أن يكون الإنسان إماماً في مكان ثم يذهب إلى مكان آخر وينحي الإمام ويتقدم عليه، فلا يجوز له ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).
قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله).
أي: أما إذا استووا وكان الكل حفاظاً لكتاب الله فيقدم الأعلم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويفقهها، فعلم القرآن سوف يجعله يجيد القراءة، وعلم السنة سيعرف منه فقه هذه القراءة وفقه هذه الصلاة، فلو أحدث في الصلاة سيستخلف من خلفه ويتأخر هو ليتوضأ مثلاً.
وإذا أساء في الصلاة سوف يعرف كيف يتصرف في صلاته، ولا يحصل هرج ومرج بين الناس؛ لأن الذي يؤمهم يفقه كتاب الله، ويفقه سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه.
إذا عمل الناس بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون الأمر فيه راحة للجميع، حتى لو كنت أنا أرى في نفسي أنني أفضل منه ولكن الشرع قدمه علي، فأنا أحكم بالظاهر، وأمر الباطن إلى الله عز وجل يحكم فيه يوم القيامة.
فإذا استووا في العلم بالقرآن والسنة وحفظها، فأقدمهم هجرة، وهذا لما كانت الهجرة موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم إن استويا في الهجرة، فالأكبر سناً، فليست البداية بالسن، بل بالعلم بكتاب الله عز وجل والحفظ والإتقان.
قال: (ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه).
هذا من الأدب الشرعي: أن المسلم لا يؤم الرجل في سلطانه، وسلطان الرجل هو المسجد الذي يصلي فيه، أو المكان الذي يصلي فيه إن كان مصلى في مكان عمل أو غيره واعتاد الناس أن فلاناً وهو أقرؤهم هو الذي يصلي بهم الصلوات، في هذا المكان، فهو أحق به، وإذا جاء غيره فلا ينحيه ولا يتقدم عليه، لأن الشريعة قدمت إنساناً فهو يحترم ذلك، فإذا أذن له أن يتقدم عليه جاز له أنه يتقدم عليه.
والأولى ألا يعود الإنسان نفسه على أنه كلما ذهب إلى مكان يريد أن يكون إماماً، فلا تكن طبيعة في نفسك أنك كلما ذهبت إلى مكان تنتظر من الناس أن يقدموك، الأفضل ألا تفعل ذلك، واترك الناس يؤمهم إمامهم الراتب في هذا المكان؛ لأن نفس الإنسان أمارة بالسوء، تهيج الإنسان، أنا أحسن من فلان، أنا أؤم أكثر منه، أنا أولى منه بهذه الإمامة، فإن الأنانية تهلك الإنسان! عود نفسك إذا كنت إماماً في مكان وذهبت إلى مكان آخر وكان الإمام أقل منك في العلم أو الحفظ أو السن أن تصلي وراءه، وكان الصحابة يفعلون ذلك، مثل مولى أبي أسيد رضي الله عنه كان ابن عمر يذهب للمكان الذي هو فيه ومعه بعض الصحابة ويقدمهم فلا يتقدمون عليه، وهم أفضل منه وأقدم في الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ممن بعدهم، ولكن عرفوا قدر صاحب المكان.
لو أصر الإمام على أن يقدم هذا الآخر جاز له أنه يتقدم ويصلي بالناس، لكن الأمر أن كل إنسان يحتاج لأن يربي نفسه على التواضع.
وإذا وجدت أنك إمام في مكان والناس يكرهونك فلا داعي لهذه الإمامة ولا تحدث نفسك بأنك أفضلهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث: أن من الذين لا ترفع صلاتهم ولا تقبل صلاتهم (من أم قوماً وهم له كارهون).
فعلى المؤمن أن يصلي لله عز وجل حتى تقبل صلاته، وإذا لم تقبل صلاته إلا وهو مأموم فليكن مأموماً، فليكن الأمر على الوجه الذي يريده الله سبحانه وتعالى.
في الحديث ذكر لنا أدباً آخر، قال: (لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه) السلطان هو مكان إمامته سواء كانت إمامة كبرى كالحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل، فيؤمهم وإن لم يكن أحفظ الناس، هذا في الولاية الكبرى.
الإمام في الولاية الصغرى هو الإنسان في مسجده، أو من فاتته الصلاة في الجماعة فصلى في بيته بأضيافه مثلاً، هنا قد يكون الضيوف أحفظ من صاحب البيت، ولكن السنة قدمت صاحب البيت.
فمثلاً: صاحب البيت يحفظ الفاتحة و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] لا غير، وأنت تحفظ القرآن كله، فصاحب البيت أولى منك، ولا تحدث نفسك بأنه سوف يقدمك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه عليك لأنه صاحب المكان، لكن لو أنه ألح عليك بأن تتقدم فلا حرج.
فإن كان صاحب البيت لا يحفظ الفاتحة فلا يجوز أن يكون لك إماماً، بل يصلي وحده وصل وحدك إذا أصر أن يكون هو الإمام، ولكن إذا قدمك فتقدم لأنه لا يحفظ الفاتحة، وكذلك إذا كان يلحن فيها، واللحن هو أن يقرأ قراءة تغير معنى الكلام، وقد شرحنا ذلك في فقه الصلاة، وأنه القراءة التي تغير المعنى في فاتحة الكتاب خاصة.
قال: (ولا يقعد في بيته على تكرمته): أدب آخر من الآداب العظيمة: المسلم متواضع في نفسه، والإنسان كلما تواضع رفعه الله عز وجل، وكلما استكبر وضعه الله سبحانه وتعالى.
التواضع من الضعة، وهو أن يحقر نفسه، وكل إنسان يرى أن نفسه لها منزلة، لكن مطلوب منك شرعاً أن ترى نفسك عبداً لله عز وجل، وأن تتواضع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تواضع لله رفعه الله).
مطلوب من الإنسان أن ينظر إلى خلقه، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7].
انظر مما خلقت حتى لا تستكبر، تعلم من نفسك أنك كنت نطفة تستقذرها أنت، فلذلك يذكرك ربنا حتى لا تنسى نفسك أبداً، {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5 - 8].
فإذا ذهبت لإنسان في بيته فلا تر لنفسك فضلاً عليه، وقد تكون من أهل الفضل، ولكن قد دخلت بيته فصار له فضل عليك، هو الذي دعاك حتى تأكل وتشرب في بيته.
الإنسان عندما يتذكر في نفسه أن فلاناً دعاه، وفلاناً تفضل عليه بذلك، يعرف فضله عليه، فعندما يدخل بيته يغض البصر، ويستأذن عليه في بيته ولا يزعج أهل البيت، ولا يستعمل جرس البيت حتى يسمع الشارع كله.
إذا دخلت بيته تغض البصر، وتنتظر أين سيدخلك؟ لا تسبقه، لا تجلس حتى يجلسك، واجلس حيث يجلسك، أقل شيء اجلس واجعل ظهرك للباب، ولا تبقى وجهك للباب تنظر للداخل والخارج.
فيقول هنا: (لا يقعد في بيته على تكرمته) يعني: في المكان الذي هو يحب أن يجلس فيه لا تقعد أنت فيه إلا إذا أذن لك.
(17/3)
الأمر بتسوية الصفوف في الصلاة
هذا أيضاً أبو مسعود البدري يروي هذا الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة)، يمر عليهم يسويهم صلوات الله وسلامه عليه بحيث إن الكل يستوي مع بعض في الصلاة.
وقد وفضلنا على الناس بثلاث كما جاء في صحيح مسلم، ومن هذه الثلاث أن جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، فإن الملائكة يستوون عند ربهم ويتراصون في الصفوف فتشبهنا بهم في صلاتنا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً، وأحلت لنا المغانم).
الغرض: أن من ضمن الأشياء التي نتعلمها من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح مناكب أصحابه فيسويهم في الصلاة، ويقول صلى الله عليه وسلم: استووا ولا تختلفوا.
كأن استواءك في الصلاة مع صاحبك مدعاة لألفة القلوب والمحبة بينك وبين صاحبك، وإذا اختلفت صفوفكم اختلفت قلوبكم، عندما يبرز إنسان ويتقدم على غيره، كأنه رأى في نفسه شرفاً على غيره، وهذا مغرور، وكم من المغرورين في الصلوات -والحمد لله في مسجدنا لا نرى ذلك بفضل الله وبرحمته سبحانه وتعالى- أو ترى آخر فاتحاً ما بين رجليه بحيث إن الشيطان يمر بينه وبين صاحبه، وإذا أمرته بالمعروف أو نهيته عن المنكر رفع صوته عليك.
فالحمد لله نحن في نعم عظيمة بهذه الصلاة، لذلك ينبغي علينا أن نحافظ عليها، وينبغي علينا أن نتواضع كباراً وصغاراً، أحياناً بعض كبار السن عندما ينصح تثور ثائرته ولا يهدأ، لا.
تعلموا أدب النبي صلى الله عليه وسلم، نوقر الكبير، لكن الكبير أيضاً يحترم القرآن ويحترم السنة ويحترم بيت الله سبحانه وتعالى.
بعض الناس يضع كرسياً في مكان ما ويقول: أنا لا أصلي إلا هنا! فنقول: المسجد مسجد الله سبحانه وتعالى، صل مثل غيرك من الناس في أي مكان، ولا تظن لنفسك فضلاً على الناس، احذر الغرور وأن تتطاول على المسلمين بأنك صاحب سن، أو صاحب لحية بيضاء، أو أنك أقدم منهم، بل تواضع لله عز وجل صغيراً كنت أو كبيراً، ومن تواضع لله رفعه الله سبحانه وتعالى.
هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمر على المسلمين في الصلاة ويعدل الصفوف، واليوم توجد خطوط تنظر إليها ومن السهل أن تعدل الصف، لكن بعض الناس لا يعجبه الخط فيرجع إلى الخط الأخير ليوسع لنفسه في الصلاة ويضيق على غيره.
أحياناً في صلاة الجنازة تجد الصف الأول مكتملاً، والصف الثاني غير مكتمل، والثالث والرابع مكتملين، وصفوفاً أخرى فارغة، والناس خارج المسجد مزدحمة وما هو إلا هؤلاء زحموا المكان إلى باب المسجد.
وأعظم خطوة تخطوها لتسد فرجة، وقبل أن تصف في مكان انظر هل الصف الأول قد اكتمل أو لا؟ الصف الثاني اكتمل أو لا؟ وهكذا تسد الفرج فتكون متشبهاً بالملائكة في أنهم يكملون الصف الأول فالذي يليه.
قال: (ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم).
إذا اختلفتم في الصلاة اختلفت القلوب، وإذا اختلفت القلوب صار المسلمون متنافرين، فلابد أن نتعلم إذا كنا في الصلاة كيف نستوي فيها.
(17/4)
صفة من يلي الإمام في الصلاة
قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).
هذا حكم آخر من الأحكام التي نتعلمها، أي: لو كان الإمام أقرأ الناس فمن يلي الإمام؟ قال: أولوا الأحلام والنهى.
وأصحاب الأحلام يعني: البالغين، لا يأتي مجنون يصلي وراء الإمام، وإذا وجد حفاظ للقرآن فهم الذين يكونون وراء الإمام، ولا يتهاون حفاظ القرآن بهذا الشيء، كل منهم يصلي في مكان والإمام يخطئ فلا يجد من يرد عليه، أو تأتي الأصوات من آخر المسجد، فيحصل تشويش وإزعاج، فليكونوا خلف الإمام ليفتحوا على الإمام إذا أخطأ.
وإذا حصل للإمام عذر خرج من الصلاة وقدم واحداً من أولي الأحلام والنهى، أي: إنساناً عاقلاً كبيراً في السن، عالماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان الصحابة يعرفون ذلك فيقدمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم من يكون أقرب وأحق بالإمامة بعده صلوات الله وسلامه عليه.
وبعد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصنعون ذلك، يذكر رجل من التابعين أنه أتى المدينة وكان أحب شخص إليه في المدينة أبي بن كعب رضي الله عنه، وما كان يعرفه، وكان شاباً حدثاً في السن، فصلى هذا الشاب خلف الإمام، قال: فجاء رجل وتقدم ونظر فعرف القوم إلا أنا فما عرفني، فأخرني للصف الثاني وصلى في مكاني.
فالرجل كأنه في الصلاة حصل في نفسه شيء، كيف يردني ويرجعني، فلما انتهت الصلاة قال لي: لا يسؤك الله يا غلام، ولكن هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى)، إذاً: يكون الذي وراء الإمام حافظاً للقرآن، أو الذي يصلح أن يكون إماماً.
فيتعلم الإنسان أنه إذا وجد من هو أفضل منه في الخلف وهو خلف الإمام أن يترك هذا المكان له.
الأمر الثاني: أنه قد يكون الإنسان الذي خلف الإمام لا يعرف فقه الصلاة، فيحدث شيء فيخرج من الصلاة وليس من حقه أنه يخرج، ويزعج الإمام وهو خلفه، وأحياناً بعض الناس يكون في عقولهم شيء من خبل أو غيره، وأحياناً يتركه الناس يصلي خلف الإمام، وهو أثناء الصلاة يتحرك أو يرفع صوته بالكلام، وهذا ليس مكانه أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ليلني منكم أولو الأحلام والنهى).
أحياناً يكون الذي خلف الإمام طفلاً صغيراً، فإذا أحدث الإمام أو نابه شيء، فلا يليق أن يصلي بالناس طفل صغير، فنتعلم أن الذي خلف الإمام لا يكون من الصغار في السن، حتى تحفظ ثم تأتي خلف الإمام عندما تكبر.
الذي يصلي خلف الإمام هو الأحق بالإمامة، فحفاظ القرآن يكونون خلف الإمام بحيث يفتحون عليه، وينبهونه إذا أخطأ في الصلاة.
(ليلني منكم أولوا الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم): الإمام يقف في وسط المسجد، وهذا أشرف مكان في المسجد، وهو الذي جعل لسيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وبعده اليمين ثم الشمال، بعض الناس لا يعرف ذلك، فتجده يأتي المسجد ويذهب إلى جهة اليمين ولو وصل لآخر المسجد أو خرج للشارع ليصبح في اليمين.
وأحياناً تدخل المسجد فتجد أن المصلين في ناحية من الصف والباقي فارغ، هذا لا يجوز، لأنه لابد من وصل الصفوف كما أمر صلى الله عليه وسلم، فأفضل شيء أن تبدأ الصفوف من خلف الإمام.
(17/5)
الأمر بغض الأصوات في المساجد
ثم يقول: (إياكم وهيشات الأصوات).
أي: ضجيج الأسواق ورفع الصوت، والأسواق أماكن وجود الشياطين براياتها، فلا يصير المسجد مثل السوق، برفع الصوت، بل نتعلم أدب المسجد في عدم رفع الصوت فيه، وأحياناً نستحيي من كبار السن عندما تكون أصواتهم عالية.
وبعض إخواننا أحياناً يصلون جماعة ثانية، والجماعة الثانية مختلف فيها، والجمهور على جوازها، والإمام الشافعي على عدم جواز الجماعة الثانية، والفضيلة في الجماعة الأولى، والجماعة الثانية لها فضيلة ولكنها ليست كالأولى.
أحياناً يصلي في الجماعة الثانية ثلاثة رجال فيرفع الإمام صوته حتى يسمع الدنيا كلها، لماذا تسمع الناس؟ لست إمام المسجد، أنت إمام لإثنين فقط لا أكثر من ذلك، والبعض أحياناً يعلل رفع صوته لكي يسمعه من أتى متأخراً فيصلي معه، فنقول له: ليس بفرض عليه أن يصلي معك، ولكن إذا علم صلى معك وإلا فلا، وهو معذور.
فنحن نصلي السنة والمسجد ممتلئ وصاحبنا يرفع صوته: الله أكبر، كأنه يقول للناس كلهم: اسكتوا فأنا موجود! وهذا خطأ، ولكن إذا كنت تقرأ فأسمع من خلفك فقط، ولا تزعج الناس.
أو دخلت المسجد وفيه درس علمي في الدور الأول فلا تحدث جماعة في الدور الأول وتشوش على الناس ويشوشون عليك، واصعد الدور الثاني إذا كان فارغاً وصل فيه أو في الثالث إذا كنت تقدر على ذلك.
وإذا لم تصعد وصليت فإنك تسمع من معك فقط، ولا تلزم الناس أن يسكتوا لك، أنت الذي أسأت بالتأخر عن الجماعة، فصل وأسمع من معك فقط ولا تشوش على غيرك، وأيضاً غيرك لا يشوشون عليك بقدر المستطاع.
وقوله: (إياكم) تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم أن تشبه المسجد بالسوق، ويا حبذا أن يذكر بعضنا بعضاً، فعندما تسمع أحدهم يرفع صوته تنبهه، وأنا أفعل ذلك بحسب المستطاع، أحياناً قبل الصلاة أجد من يشغل غيره بذلك فأقول له: انشغل بالدعاء أفضل، هذا وقت إجابة دعاء إلا لحاجة من الحاجات فصوتك تسمع به من بجوارك فقط.
بعض الناس تقول له: اخفض صوتك، يقول: صوتي هكذا، كذلك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يأكل بشماله، فقال: (كل بيمينك.
قال الرجل: لا أستطيع، ما منعه إلا الكبر) فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دعا عليه قال: (لا استطعت).
إما أنك صادق فلا عليك أو كاذب فتستحق العقوبة، قال: (فما رفعها إلى فيه)، وشلت يده.
إذاً: اغضض من صوتك، وتذكر قول الله: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19].
اخفض صوتك ولا ترفعه فتزعج الناس به في المساجد، والطرقات، والبيوت، بل تعود أن يكون صوتك منخفضاً، فإذا كنت تحتاج لرفع الصوت في خطبة أو غيرها فبحسبها، لا تخطب والخطبة كلها من أولها إلى آخرها صياح، ولكن الخطب مواقف، لا تقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع صوته في الخطبة كلها، فإن راوي الحديث يقول: (كان إذا ذكر الموت صلوات الله وسلامه عليه علا صوته، واشتد غضبه، واحمر وجهه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم)، فليست الخطبة من أولها إلى آخرها إزعاج، ولكن يرفع صوته عند الاحتياج إلى ذلك، ويخفض صوته عند عدم الاحتياج للرفع، والخطبة المقصود منها عظة وتعليم الناس لا إزعاج الناس برفع الصوت.
(17/6)
تقديم الأكبر في السن في الحديث
من الأحاديث التي جاءت عنه صلوات الله وسلامه عليه حديث يرويه سهل بن أبي حثمة يقول: (انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح، فتفرقا وذهب كل واحد وحده في خيبر، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً)، اليهود لا عهد لهم ولا ذمة ولا أمان أبداً، اليهودي إذا وجد غيره في مكان يحدث نفسه بقتله؛ لأنه يتعبد بذلك، سواء وجد مسلماً أو نصرانياً، {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ} [المائدة:82] فبدأ بهم.
{وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82].
أتى محيصة إلى عبد الله بن سهل فوجده يتشحط في دمه، يعني: ينزف ويتخبط ويضطرب في دمه قتيلاً فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فبدأ أخو القتيل يتكلم، ولكن علمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي يتكلم الأكبر في السن، فلو كانت هناك مجموعة وقدمت أحدهم للكلام فهو مقدمهم، لكن إذا لم يقدموا أحداً فإن كبير السن هو الذي يبدأ بالكلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كبر كبر)، يعني: يتكلم الأكبر في السن.
الموقف هنا موقف صعب، ومع ذلك يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم الأدب الشرعي، وأن يتكلم الكبير، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتحلفون وتستحقون قاتلكم؟) وفيها قصة القسامة، لكن الغرض: بيان تقديم الكبير في الكلام.
أيضاً قال جابر بن عبد الله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في القبر، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟) لأن قتلى أحد كانوا سبعين، ويصعب الحفر لهم كلهم، والصحابة كانوا مثخنين بالجراح، فلذلك كانوا يحفرون القبر ويدفن في القبر الواحد الاثنان والثلاثة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الأحفظ إلى القبلة، ثم الثاني، فهنا يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم يسأل: (أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد).
فالقرآن سبب للتقدم في الدنيا وسبب للتقديم في القبر، فما بالك بيوم القيامة؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه).
يقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل، والصيام يقول: أي رب منعته الطعام بالنهار، فيشفعان له.
وعن ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك، فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر).
هنا الأدب حتى مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما عملها في الواقع، فقد كان في الواقع يكبر الكبير، ولكن في المنام علم صلى الله عليه وسلم في منامه ذلك، (فقيل له: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)، نتعلم كيف نفاضل بين الناس بمنازلهم، وجاء في الحديث: (أنزلوا الناس منازلهم).
نسأل الله عز وجل أن يؤدبنا ويفقهنا في ديننا، ويؤدبنا بشرعه العظيم.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(17/7)
شرح رياض الصالحين - توقير العلماء والكبار وأهل الفضل وتقديمهم [2]
لقد فضل الله عز وجل أهل العلم، ورفع مكانتهم، وحض على توقيرهم وتقديمهم واحترامهم، كذلك وردت الأحاديث التي فيها توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على من سواهم؛ فالذي ينبغي للمسلم أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة مع سائر الخلق، من المسلمين وغيرهم، والمسلمون أولى بالمعاملة الحسنة، والعلماء في مقدمتهم، وكذا كبار السن وأهل الفضل، وينبغي إنزال الناس منازلهم.
(18/1)
ما جاء في توقير العلماء والكبار وأهل الفضل
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: (باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وتقديمهم على غيرهم، ورفع مجالسهم وإظهار مرتبتهم.
قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط).
حديث حسن رواه أبو داود.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً وذكر القصة قال له الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله تعالى).
هذه أحاديث يذكرها الإمام النووي في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل، وذكرنا في هذا الباب سابقاً أن الله عز وجل فضل أهل العلم على غيرهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وأهل العلم هم الذين عرفوا كتاب الله عز وجل وعرفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعملوا بهذا العلم الذي يدعو أهله إلى خشية الله سبحانه، قال سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فالعلماء أهل الخشية من الله سبحانه، فهؤلاء الذين يستحقون أن يرفعوا على غيرهم في الدنيا وفي الآخرة، وأن يوقروا وأن يحترموا بأن يعرف قدر علمهم فيحترموا من أجله.
(18/2)
شرح حديث (فناولت السواك الأصغر، فقيل لي كبر)
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أراني في المنام أتسوك بسواك فجاءني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر منهما)، رواه مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم علمه ربه أن يفضل ويوقر الكبير ويقدمه على الصغير، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا وفيها: أنه تسوك بسواك صلى الله عليه وسلم، ورؤى الأنبياء وحي من الله عز وجل وكلها حق، فقد رأى أنه يتسوك بسواك فجاءه رجلان في المنام أحدهما أكبر من الآخر قال: (فناولت السواك الأصغر) أي: النبي صلى الله عليه وسلم ناول هذا السواك الذي أمامه وهو الأصغر.
(فقيل لي: كبر) يعني: أعطِ الكبير وابدأ به.
أما إذا كان الكبير والصغير مع الشخص أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فيعطي الذي عن اليمين قبل الذي عن اليسار، فإن كان الاثنان أمامه، فليقدم الكبير على الصغير، ولذلك جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً وكان معه خالد بن الوليد وهو كبير في السن ومعه عبد الله بن عباس وهو صغير في السن فالاثنان كانا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة رضي الله عنها، وهي خالتهما فشرب صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك استأذن ابن عباس وهو عن يمينه أنه يعطي اللبن لـ خالد بن الوليد؛ لأنه أكبر منه سناً، فقال له ابن عباس: ما كنت لأوثر بسؤرك أحداً على نفسي).
إذاً: يقدم الكبير في الكلام وغيره، إلا أن يكون في إعطاء طعام أو شراب وكان أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، فيعطي الذي عن اليمين قبل الذي عن الشمال.
(18/3)
شرح حديث (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط).
قوله: (إن من إجلال الله) يقول تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فينبغي أن تقدر ربك حق قدره سبحانه، بأن تعمل بدين الله سبحانه وتعالى، وتعزز هذا الدين العظيم لإعزاز الله عز وجل له، وتكرم أهل دين الله سبحانه.
فإذا عرفت قدر ربك سبحانه، فمن هو أقرب إلى الله عز وجل تقدره وتحترمه وتقربه وتدنيه وتفضله على غيره، فالأقرب إلى الله هم أهل العلم الذين يعملون بهذا العلم، فقد جاء في هذا الحديث هنا: (أن من إجلال الله تعالى) يعني: أن من إجلالك لربك وتوقيرك له، واحترامك لدين ربك سبحانه، أن تكرم ذا الشيبة المسلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إكرام ذي الشيبة المسلم) أي: الكبير السن، لأنه قد شاب رأسه في الإسلام وصلى أكثر منك.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أن أخوين كانا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أحدهما استشهد والآخر مات بعده بشهر أو شهرين أو نحو ذلك، فرأى رجل رؤيا في المنام أن هذا الذي مات متأخراً في مرتبة في الجنة أعلى من الشهيد، فتعجب كيف يكون الميت أعلى من الشهيد؟ فذهب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالسبب في ذلك وهو أنه عمر بعد هذا الأول شهراً أو شهرين فصلى، فارتفع بها عن درجة هذا الأول، بصلاته شهراً أكثر من الأول.
إذاً: تعرف قدر من هو أكبر منك سناً، أنه صلى صلاة أكثر منك، فلو أن رجلاً كان أكبر منك بعشر سنين، فإنه قد صلى عشر سنوات، وكل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، وفي كل يوم خمس صلوات فنضرب ثلاثمائة وستين في عشر سنين في خمسة، فتعرف قدر ذي الشيبة المسلم.
إذاً: من إكرامك لله عز وجل أن تكرم ذا الشيبة المسلم.
قوله: (وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه) أي: أن تكرم حامل القرآن، وحامل القرآن: هو الإنسان الذي حفظ كتاب الله عز وجل وعمل بما فيه، وليس غالياً فيه، بحيث يجاوز الحد فيكون مبتدعاً.
والغالي فيه هو الذي يبتدع ويحمل القرآن ما لا يحتمله، ويحكم رأيه في القرآن، ويأخذ من القرآن ما يوافق هواه، ويفتي بالهوى فيه، فهذا يغالي فيه، أو أنه يجفو بحيث يكون قد حفظه وتركه وراءه ظهرياً فلم يعمل به، ونسي كتاب الله سبحانه وتعالى.
وهنا اثنان: الغالي والجافي، فلا هذا ولا ذاك يستحقان التكريم، إنما الذي يستحقه الإنسان الذي يحفظ كتاب الله ويعمل بما فيه، ويحترم كتاب الله سبحانه وتعالى، يحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند آياته كما كان الصحابة يفعلون، فمن إكرامك وإجلالك لله سبحانه وتعالى إكرام الإنسان المؤمن الذي يحفظ كتاب الله عز وجل، أو يحفظ بعضه.
قوله: (وإكرام ذي السلطان المقسط) يعني: أن من إجلالك وتوقيرك لله عز وجل أن تحترم الحاكم المسلم الذي يحكم بدين الله سبحانه وتعالى وبشرعه.
ديننا دين عظيم يعود الإنسان المؤمن على حسن الخلق مع الناس، لا أن يكون حراً بحيث يتكلم مع أي إنسان بغير ضابط، ويزيل الحواجز بينه وبين الناس، فالدين يقول لك: الزم حدك، واعرف قدرك مع غيرك تواضع مع العالِم، وتواضع مع السلطان المقسط، وتواضع مع كبير السن، فدين الله عز وجل يعلمنا الأدب الراقي، بأن الصغير يعرف أنه صغير في حضرة الكبير.
أما العلمانية ونحوها فتدعو الناس إلى الحريات بحيث يتعلم الإنسان سوء الأدب، ويجعل نفسه مثل الكبير، فترى الواحد من هؤلاء حين يقعد أمام أبيه يجعل رجلاً على الأخرى، وكذلك أمام مدرسه يجعل رجله وحذاءه أمام وجه أستاذه، وإذا كلمه قال له: أنا حر ليس فيها شيء.
وكثير من أبناء المسلمين يقلدون هؤلاء، فتراه يقعد أمام مدرسه من غير إجلال ولا تبجيل ولا احترام، ويتكلم معه، ويتهكم عليه، ويدير له ظهره، ويستهزئ به ويسخر منه، كل هذه آثام يحملها الإنسان تضره في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الإنسان الذي يستهزئ بكبير السن لن يبقى صغيراً مدى حياته فلا بد يوماً أن يكبر وسيُصنع فيه مثل ما صنع بهذا الكبير يوماً من الأيام، والجزاء من جنس العمل.
غير شؤم ذلك الذي يجده في عمله، يجده في بيته، يجده في أولاده؛ لذلك تعلم احترام الكبير، نقول هذا لأبنائنا الصغار الذين في الابتدائية والإعدادية والثانوية، والذين في الجامعة: وقر الأكثر منك علماً، وقر الأكبر منك سناً، احترم أباك وأمك، احترم أخاك الأكبر، احترم كبير السن، لا تكن طويل اللسان، بل تراعي في ذلك الله سبحانه وتعالى، وتذكر أنك الآن صغير فستكون كبيراً يوماً من الأيام، فإياك أن تستهين أو تستهزئ بغيرك، وإلا فستكون هذه الكلمة الذي تقولها سبباً في سخط الله عز وجل عليك، وقد ينطبق عليك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) أي: يبقى سبعين سنة يهوي في نار جهنم بسبب الكلمة التي لم يلق لها بالاً.
فبعض الناس تجده يسخر من غيره والناس يضحكون، فهو يضحك الناس ليغضب الله عز وجل عليه، لا تفرح بهذا الشيء؛ لأن الناس الذين يشجعونك سيتبرءون منك يوم القيامة، ولن يدافع عنك إنسان أمام الله سبحانه وتعالى.
إذاً: الواجب عليكم أن تربوا أولادكم على احترام الكبير في السن، في الزمن الماضي كنا نسمع أن الكبير عندما يرى صغيراً يعمل خطأً يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، أما الآن فكثير من الناس عندما يرى الطفل يخطئ يقول: لا دخل لي به؛ لأن أباه وأمه سيتشاجران معي! لا حول ولا قوة إلا بالله، ضاع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصبح الصغار يتسافهون على الكبار، هل تنتظر من أمة هذا حالها: لا يحترمون كبارهم ولا يوقرون علماءهم، ولا يحفظون كتاب ربهم ولا سنة نبيهم، هل ينتظر منهم أن يعزهم الله وقد أذل بعضهم بعضاً؟ إن الله عز وجل سيجعل بأسهم بينهم شديداً، ويسلط عليهم غيرهم؛ لبعدهم عن الله وعن سنة رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
لذلك على المسلم أن يتعلم ما هو الإسلام؟ وما هي آداب الإسلام التي ينبغي أن تكون بين المسلمين؟ وكيف يتخاطب المرء مع أبيه وأمه؟ تجد بعض الأبناء ينادي أمه باسمها، والأم تضحك وتفرح بأن ابنها يناديها باسمها، أو البنت تناديها باسمها، لكي تحس أنها صغيرة في السن وتصغر نفسها، ولعلها هي تأمر ابنها أو بنتها أن يناديانها أمام الناس باسمها لكي تبدو وكأنها صغيرة السن، وهذه سفاهة وبعد عن دين الله عز وجل، ولا ينتظر من وراء ذلك إلا الدمار.
فعلى الإنسان المؤمن أن يعلم ابنه أن يحترم الكبير، وأن يعلمه كيف يتخاطب مع معلمه؟! لا يعلمه البجاحة، لكن من المؤسف أن تجد من يقول لولده: إن شتمك معلمك فاشتمه، وإن مد يده عليك فمد يدك عليه، فتجد الطفل ينشأ متبجحاً وينشأ سافلاً حتى إن معلمه يقول: إن العلم خسارة فيه، فلن أعلمه ولا يستحق أن يتعلم، فلا هذا يبذل، ولا هذا يحترم ويستحق العلم، ويضيع دين الله عز وجل بينهما.
(18/4)
شرح حديث: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا).
قوله: (ليس منا) فيه زجر للإنسان الذي لا يحترم الكبير ولا يرحم الصغير، والمسلم عليه أن يهذب الصغير ويؤدبه، وذلك بأن تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر؛ لكي ينشأ الصغير رجلاً من صغره، ينشأ وهو يعرف الحلال والحرام، ويعرف الخطأ والصواب، ويسمع ويطيع طالما أنه يؤمر بالحق.
قوله: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) أي: أن على المرء أن يعطف على الصغير ويعلمه ويؤدبه ويعطيه ويطعمه ويسقيه رحمة به، وأنه ينبغي عليه أن يعرف شرف الكبير، الكبير في العلم، والكبير في السن، والكبير في القدر والمقام، فيعرف شرفه فيقدره فهذه الأمة مترابطة يحترم الصغير فيها الكبير، ويعطف الكبير فيها على الصغير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
أمة ليس فيها هذا الشيء أمة متفككة لا يعرف بعضهم بعضاً، مثل دول الكفر، فإن حقيقتها التفكك، يقول الله عز وجل: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: قلوبهم متفرقة، تلقى الصغير منهم لا يحترم أباه، ولو أن أباه علمه أو أدبه أو ضربه لذهب هذا الصغير إلى الشرطة يشتكي أباه، ويحاكم الأب في المحكمة، ولعلهم يضربون الأب أمام الابن؛ لكي لا يجرؤ على ضرب ابنه مرة ثانية.
والطفل في المدرسة يعطونه (تلفون) الشرطة و (تلفون) المحكمة؛ حتى إذا ضربه المعلم اتصل بهم، والمسلمون يذهبون إلى تلك البلاد ليتعلم أولادهم هذه الأخلاق من هؤلاء، ويرجعون إلى بلادهم بلا أدب ولا أخلاق ولا تربية ولا دين، بل لعلهم ينظرون إلى دينهم على أنه تخلف، وعلى أن ما تعلموه من بلاد الكفر هو الأدب والحرية، وأن هذه الأخلاق هي إلى لوصول إلى الرقي والحضارة.
(18/5)
شرح أثر (قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس.
وعيينة بن حصن هو رجل كبير في قومه، وكان ممن يتألفه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته؛ لأنه كبير في قومه مثل: العباس بن مرداس، والأقرع بن حابس، كان هؤلاء الثلاثة كانوا كبراء في قومهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليثبتوا على هذا الدين، فقدم عيينة على عمر رضي الله تعالى عنه، وابن أخيه الحر كان صغيراً في السن، ولكنه كان من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله تعالى عنه لعلمه.
وكذلك كان ابن عباس صغيراً في السن وكان عمر رضي الله عنه يدنيه؛ ليس لمكانته من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لعلمه رضي الله تعالى عنه، وأهل شورى عمر هم أهل العلم، يقول ابن عباس: كان القراء حفاظ القرآن أصحابَ مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، والكهل هو الذي جاوز الثلاثين سنة، أما الشاب فهو دون ذلك.
فالشاهد هنا: أن أهل مجلس شورى عمر رضي الله عنه هم حفاظ القرآن في ذلك الزمان، وليس كهذا الزمان يحفظ الواحد القرآن ولا يفهم منه شيئاً، بل كان الواحد من الصحابة والتابعين يحفظ عشر آيات، ويعرف مضمون هذه الآيات ومعانيها وأحكامها وينفذها ويعمل بها، وهكذا حتى يحفظ القرآن كله على هذه الطريقة، فهؤلاء كان يدنيهم عمر رضي الله عنه؛ لأنهم أحق أن يشاورهم في أمور المسلمين.
فجاء عيينة وطلب من ابن أخيه الذي هو الحر بن قيس أن يستأذن له على عمر، فاستأذن له على عمر رضي الله تعالى عنه، وأكرم عمر هذا الشاب الحافظ للقرآن، وجعل عمه يدخل عليه.
فلما دخل على عمر رضي الله عنه، قال لـ عمر: هيه يا ابن الخطاب!، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل.
هذا من الكذب على عمر رضي الله تعالى عنه، عمر ذلك الذي عدله الكفار وعرفوا فضله وعدله، وهذا يأتي ويقول عن عمر: أنت لا تحكم بالعدل، ولا تعطينا الجزل!! فلما قال ذلك، غضب عمر غضباً شديداً، وهم أن يوقع به؛ لأنه كذاب يكذب على عمر رضي الله تعالى عنه، فلما أراد معاقبته إذا بـ الحر بن قيس يقول لـ عمر رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، وإن هذا من الجاهلين.
فلما سمع الآية التي خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم كأنه صُبَّ عليه ماء بارد، فسكت وسكن غضبه، وكان وقافاً عند كتاب الله سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس: والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله، فهدأ وسكت رضي الله عنه وأعرض عنه لكونه جاهلاً.
فإذاً: الغرض من هذا الأثر بيان الذين كان يدنيهم عمر رضي الله عنه، وعمر هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وزير النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، ولو وزن إيمان عمر بإيمان الأمة ليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر لوزنهم عمر وثقل إيمانه على إيمان الأمة.
(18/6)
شرح حديث سمرة (فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني)
عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاماً فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني).
كان سمرة رضي الله عنه صغير السن في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه، فهو يذكر أنه كان غلاماً، أي: أنه ابن أربع عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة، والظاهر أن هذا كان في غزوة الخندق أو غزوة أحد، لأنه جاء في أيامها أنه كان في مثل هذا السن.
فقوله: (كنت أحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعني من القول إلا أن هاهنا رجالاً هم أسن مني) يعني: كان رضي الله عنه إذا جلس في مجلس فيه من هو أكبر منه سناً من الصحابة فإنهم يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، وكان يسكت احتراماً لهؤلاء مع أنه حافظ لما يحفظونه وربما كان يحفظ أكثر منهم، ولكن كان يمنعه أن يقول أن هناك من هو أكبر منه سناً في المجلس، فيسكت ليتكلم الكبير ولا يتكلم رضي الله تعالى عنه.
هل يوجد مثله في زماننا هذا؟ أم أن الإنسان بمجرد أن يحفظ آية أو آيتين يكون فرحاً بهما، ويريد أن يقول في كل مجلس ويقاطع الناس في كلامهم وفي حديثهم؟! ينبغي على الإنسان المؤمن أن يتعلم العلم ابتغاء وجه الله سبحانه، فإذا احتاجوا إليه في علمه قال ما عنده، وإذا لم يحتج إليه سكت حتى يحتاج إليه، وإذا وجد غيره ممن هو أقدر منه على الإبلاغ ترك المجال له، واحتسب عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن العلم ليس للظهور ولا للرياء، وإنما العلم ليقول قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليقيم شرع الله سبحانه على الإخلاص لا على الرياء والسمعة.
(18/7)
شرح حديث (ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه)
عن أنس رضي الله عنه: (ما أكرم شاب شيخاً لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند كبر سنه) رواه الترمذي وقال: حديث غريب.
هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن تجده مشاهداً بين الناس، وأن الإنسان الذي تربى من صغره على إكرام الكبار فهو عندما يكبر في السن يجد الصغار يكرمونه، والضريبة التي يدفعها الإنسان فإنه يستردها يوماً من الأيام، والجزاء من جنس العمل، وربنا لن يضيع جزاء من أحسن عملاً.
قدم الخير في شبابك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولن يضيع عند الله، فإذا كبرت سخر الله من أولادك ومن أولاد المسلمين من يخدمك ويرفع قدرك، ويعطيك الجزاء بما صنعت قبل ذلك.
فهنا الحديث وإن كان ضعيف الإسناد ولكن معناه مشاهد بين الناس، فكم من إنسان يحترم من هو أكبر منه، فيجعل له ربنا سبحانه وتعالى هيبة في النفوس، وكم من إنسان تجده يستهزئ بالناس فيسلط عليه ربه سبحانه من يستهين به ويستهزئ، فلذلك الإنسان المؤمن يعمل العمل ابتغاء وجه الله سبحانه، وخوفاً من عقوبة الله سبحانه، ويعلم أن ما بذله الآن سيرد إليه في يوم من الأيام، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(18/8)
شرح رياض الصالحين - زيارة أهل الخير ومجالستهم
إن زيارة أهل الخير ومجالستهم ومحبتهم فيها خير عظيم؛ لأن الأخلاق تعدي، والمرء على دين صاحبه وخليله، وإن الحذر من أهل الشر ومن مصاحبتهم أمر مطلوب؛ لأن أخلاقهم تعدي، وليس وراءهم إلا الوقوع في المعاصي والذنوب.
(19/1)
زيارة أهل الخير وصحبتهم ومحبتهم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة.
قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، إلى قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66].
وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28].
وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهيا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها، رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرسل الله تعالى على مدرجته ملكاً، فلما أتى عليه، قال: أين تريد، قال: أريد أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)، رواه مسلم.
والأفضل للإنسان المؤمن أن يتزاور مع إخوانه في الله سبحانه وتعالى، زيارة بزيارة، محبة في الله عز وجل، ليس لطلب دنيا، أو جاه، وليس للإملال، ولا للمضايقة، ولا للمناقشة وإنما زيارة لله عز وجل، تكون دليلاً على المحبة.
(19/2)
التعلم من أهل الخير ولو كانوا مفضولين
قال الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60].
ذكرنا في تفسير سورة الكهف هذه القصة، وفيها أن موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام قام خطيباً في بني إسرائيل فخطبهم ووعظهم موعظة عظيمة جليلة، فإذا بهم يبكون من هذه الموعظة، فسأله أحدهم، قال: أي الناس أعلم؟ فقال موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: أنا أعلم، فأجابه عن العلم بالشريعة، وهو كذلك.
ولكن عتب الله عز وجل عليه، أنه قال: أنا أعلم، ولم يرد العلم إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فقال: بلى، عبدنا خضر هو أعلم منك.
يعني في أشياء أخر أنت لا تعرفها.
فموسى قال: كيف السبيل إلى لقياه؟ فإنه حين علم أن هناك من هو أعلم منه أراد أن يكون تلميذاً وتابعاً لهذا المعلم الذي هو أعلم منه، فدله الله عز وجل في القصة التي في سورة الكهف.
والغرض أن الإنسان يتعرف على من هم أفضل منه وأعلم، وقد صنع ذلك موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فإن موسى رسول، والخضر غاية ما قيل فيه إنه نبي.
وموسى على علم من الشريعة اعترف الخضر أنه لا يعرفها، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، والخضر ليس من هؤلاء على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ولكن مع ذلك ذهب الأفضل وهو موسى إلى المفضول وهو الخضر ليتعلم منه.
فلما أتاه، وهنا ظهر من المعلم أدب التعليم، قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:67] وإذا بموسى يظهر ذل المتعلم، ويقول: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف:69] أي: سأتبعك وأسمع كلامك ولن أعصي لك أمراً.
الأفضل هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لكن طالما أن الله قال له: هذا أعلم منك، إذاً: أتعلم منه ما هو أعلم به مني.
وجاءت القصة على النحو الذي ذكره الله عز وجل، وفي النهاية لم يصبر موسى على متابعة الخضر، وكان في أول مرة قد نسي فقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف:71]، وفي المرة الثانية تعمد وقال: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] وفي المرة الثالثة مل؛ لأنه لم يفهم ما الذي يفعله الخضر وهو يتابعه؛ لأن الله عز وجل أخبر بذلك، وفي النهاية تعمد أن يفارقه قال: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، وأخبر الله عز وجل بذلك.
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف:28]، هؤلاء الذين يطلبون الله سبحانه وتعالى، أولى أن تلازمهم وأن تصبر معهم لأنهم لم يطلبوا دنيا، ولم يطلبوا جاهاً، وإنما طلبوا وجه الله عز وجل، فاستحقوا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مرافقاً لهم في هذه الدنيا، وأن يلازمهم، وهم الذين يدعون ويوحدون الله، ويطلبون من الله سبحانه وتعالى.
(19/3)
زيارة أبي بكر وعمر لأم أيمن
عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنهما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن.
وأم أيمن هي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم وخادمة النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته، ولما كبر النبي صلى الله عليه وسلم أعتق أم أيمن رضي الله تبارك وتعالى عنها، وزوجها من حبه، زيد بن حارثه، فأنجبت له أسمامة بن زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبرها ويقول: أم أيمن أمي، فقد ربت النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أن مات النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: انطلق بنا نزورها، يعني نبرها، فإنها كانت للنبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمه، فقد كانت خادمته، وحاضنته، وكان يقول عنها أمي.
فذهبا إليها، فلما انتهيا إليها بكت رضي الله تبارك وتعالى عنها، وتذكرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وكيف كان يفضلها ويعطيها، وأحياناً كانت تتعنت في أشياء فيعطيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يرضيها صلوات الله وسلامه عليه.
فلما سألاها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا حق، فما عند الله خير للمؤمنين، فكيف بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، لا شك أنه خلص من هذه الدنيا ومن بلائها ومن مصائبها ومما فيها من شرور، ونجا صلوات الله وسلامه عليه، وذهب للقاء ربه عز وجل، فيصبرنها بأن ما عند الله خير من هذه الدنيا.
فقالت: أنا لا أشك في هذا، أنا أعرف أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي على شيء آخر، أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، يعني كان ينزل الوحي بالحق عند رب العالمين.
وطالما أن الوحي ينزل ففيه رحمة تنزل من السماء، ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم انقطع هذا الوحي والرحمة التي كانت تنزل من السماء، فأبكي على ذلك، فهيجتهما على البكاء، فبكيا رضي الله تبارك وتعالى عنهم جميعاً.
والغرض منه بيان زيارة أبي بكر الصديق وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما لهذه المرأة الصالحة الفاضلة التي كانت مربية النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام.
(19/4)
شرح حديث: (زيارة رجل لأخيه في قرية أخرى)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى).
وهنا الزيارة لم تكن لمصلحة، فلم يذهب إليه من أجل أن ينتفع بجاه أو بمال أو من أجل أن يطلب منه شيئاً أو يرد إليه جميلاً فعله، وإنما كانت زيارة في الله سبحانه.
لذلك الذي يزور أخاً له في الله، عليه أن يبتغي الأجر قبل أن يبتغي أنه سيجد هذا الإنسان وهل سيسمح له أو لا؟ وهل سيقابله أو لا؟ وهل سيضيفه أو لا؟ فلا ينظر لهذا كله، ولكن ينظر لأنه يحبه في الله سواء قابله أم لم يقابله، {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} [النور:28]، فيرجع وهو سليم الصدر من ذلك، ولكنه وفى بأن زاره في الله عز وجل.
(فذهب هذا الرجل فأرسل الله تبارك وتعالى على مدرجته)، والمدرجة: الطريق، أرسل الله عز وجل ملكاً في الطريق رصداً لهذا في صورة إنسان، وقال لهذا الرجل الذي ذهب يزور أخاً له إلى قرية أخرى، (أين تريد؟ قال: أريد أخاً لي في هذه القرية).
قال: (هل لك عليه من نعمة تربها عليه)، يعني هل جئت من أجل أنه صنع لك جميلاً جئت ترب هذه النعمة وتقوم بها وترد له الجميل؟ (فقال له: لا، غير أني أحببته في الله)، يعني زيارة خالصة لا أريد منه شيئاً إلا إني أحبه في الله.
فقال له هذا الملك: (فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه).
والحب في الله عز وجل شيء عظيم يجعل الإنسان يؤثر أخاه على نفسه، ويحافظ عليه كمحافظته على نفسه وأكثر، وينصحه في الله عز وجل، كما ينصح لنفسه ولولده ولأهله، لأنه يحبه في الله.
وإذا مات هذا الإنسان فإن أخاه في الله يذكره، وينظر في أمره وفي دينه ويستغفر له، ويذكر قديم عمله، فيسأل الله عز وجل له رحمته.
والأخ في الله ينفع أخاه في كل وقت إلى أن يدخل معه الجنة، بل ينفعه بعد دخوله الجنة أيضاً، فلعل هذا يكون منزله في الجنة عالياً، وأخاه في منزلة دونها بكثير، فيشفع له عند الله، فيرفعه درجات في الجنة، وهذا إذا كانت المحبة لله عز وجل، وليس لطلب شيء.
(19/5)
شرح حديث: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله)
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله، ناداه مناد: بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً).
في الحديث أن الذي يزور أخاً في الله، أو يعوده إن كان مريضاً، من أجل أن يخفف عنه ما هو فيه، لا ليثقل عليه ولا ليضايقه، ولا ليمكث عنده، وإنما ذهب يزور المريض ويخفف عنه ويظهر له محبته وينصرف، يناديه مناد: طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً.
والحديث وإن كان إسناده فيه شيء، ولكن جاء حديث في مسلم وفيه: (من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة أو مخرفة الجنة حتى يرجع)، الذي يعود مريضاً يكون في بستان من بساتين الجنة، وهو يزور هذا المريض.
وجاء في الحديث الآخر: (أنه يستغفر له سبعون ألف ملك) وهذا للذي يعود مريضاً يبتغي بذلك وجه الله سبحانه وتعالى.
(19/6)
شرح حديث (مثل الجليس)
عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً منتنة).
والمسلم العاقل يتفكر فيمن يصاحبه ويحبه ويصادقه، والصديق الصدوق الناصح هو الذي يحب لله عز وجل وليس لدنيا ولا لهدف غير ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
فيحب المسلم لكونه مسلماً ولكونه محسناً، ولكونه مطيعاً لله سبحانه وتعالى، إذاً كن في مجالس أصدقاء الخير وأصحاب الخير، وفي مجالس العلم، فلا تزال البركة والرحمة تنزل من السماء، والملائكة تتغشى هؤلاء وتكون حولهم، ويستغفرون لهم، فإذا رجعوا إلى الله عزل وجل ذكروهم بخير، وذكروا أنهم أتوهم وهم يصلون، وتركوهم وهم يصلون.
وجليس السوء جلسته ليست صالحة، جلسته فيها الفساد، وفيها السوء وفيها الغيبة والنميمة، وفيها العقوبة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك (ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكروا الله عز وجل فيه، ولم يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم؛ إلا قاموا حين يقومون عن جيفة حمار).
والحمار لا يحل ذبحه ولا أكله، فكأنهم جلسوا ليس إلى حمار مذبوح، بل إلى حمار منتن.
هذا في الدنيا، ويوم القيامة يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عليهم ترةً يوم القيامة، أي: حسرة وندامة يوم القيامة.
فالجليس الصالح وجليس السوء، مثلهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كحامل المسك ونافخ الكير)، ومن يتفكر في هذا المثال الذي ضربه النبي صلوات الله وسلامه عليه، يجد أمراً عجيباً: فحامل المسك هو إنسان يبيع المسك وعنده الرائحة الطيبة الجميلة، وحامل المسك لك معه أشياء: إما أن يحذيك، يعني: يعطيك من الطيب، فتنتفع بالرائحة الطيبة.
وإما أن تبتاع منه، أي: تشتري منه هذه الريح الطيبة فتنتفع بها.
وإما أنه لا يعطيك ولا تشتري منه، لكن الرائحة الطيبة تخرج وتنتشر فتستمتع بهذه الرائحة الطيبة.
فإذا الجليس الصالح كله خير، إما أن يعظك موعظة تنتفع بها، وإما أن تطلب منه موعظة فيعظك بها، وإن لم يكن هذا ولا هذا، ستسمع منه لغيرك كلاماً طيباً تستفيد أنت منه وهذا هو الجليس الصالح.
ومثل جليس السوء كنافخ الكير، حداد يحرق بالنار أشياء، والرائحة الكريهة تخرج من عنده، فإما أن تتأذى بهذه الرائحة المنتنة، وإما أن يصيبك من شرر النار ما يحرق عليك ثيابك، فلا تنتفع بشيء من ذلك.
وجليس السوء تنصحه فلا يقبل منك النصيحة، ومن ثم يبدأ يوجه إليك أنت من سيئاته، فإما أن يؤذيك بكلامه، بأن يوقعك في غيبة وفي نميمة وفي بتهان وفي كلام قبيح تستحق عليه العقوبة عند الله عز وجل يوم القيامة، وإما أن يؤذي غيرك فتسمع منه ألفاظاً نابية وكلاماً قبيحاً، وشيئاً لا تقدر أن ترد عليه فيه، فكله شر!
(19/7)
شرح حديث: (تنكح المرأة لأربع)
وفي المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
كأنه يقول لنا صلى الله عليه وسلم: المرأة يخطبها الخطاب ويتزوجها الرجال لواحدة من هذه، أو لجميعها، فإن كان للجميع فحسن وخير، ولكن إذا كنت تخير بين هذه الأشياء فابحث أول ما تبحث عن الدين، لأنه قد يضيع المال وتبقى المرأة على ما هي عليه من خلق وضيع غير طيب، وقد تكون شحيحة وممسكة لهذا المال، ولا تقدر أبداً أن تنتفع أنت من مالها بشيء.
ولحسبها: بأن يكون أهلها لهم شرف، فتضايق الإنسان وتذله بأهلها، ولا يقدر أن يقيمها ولا يقومها.
ولجمالها: ولعلها تذله بجمالها.
ولدينها: (فاظفر بذات الدين تربت يداك)، يعني إما أن تختار ذلك وإما أن تستحق أن يدعو عليك بأن تترب يداك، أي تلتصق بالتراب، بدل أن يكون في يدك مال دعا عليك بالفقر، وهذا الذي يبحث عن المال ويبحث عن الجمال وينسى دين الله عز وجل.
والغرض منه بيان أن الإنسان مع زوجته وهي صاحبته، في حياته إلى أن يموت أحدهما أو يتفارقا، فإذا كانت امرأة طيبة، سترجو من ورائها الخير في بيتك ومعك ومع أولادك، وستنال منها كل الخير، والإنسان يعتاد على المرأة التي معه، فإن كانت جميلة فسيعتاد على رؤيتها ويصبح عنده أمراً عادياً، وإن كان لها مال فلعلها تعينه بمالها ولعلها لا تعينه، إنما الخلق هو الذي يبقى؛ لأن خلقها يتجدد في كل يوم، إما موعظة جميلة، أو نصيحة حسنة، أو دعوة لهذا الإنسان، أو معاونة على أمر من الأمور، فكلها خير فيظهر منها الخلق الحسن والدين الحسن مع زوجها، فإذا غاب عن البيت اطمأن لبيته، فحياته في استقرار، وفي طمأنينة لكون امرأته حسنة الخلق صالحة ترضي ربها سبحانه، وتحسن إلى زوجها، وهذا لا يتوفر إلا في المرأة ذات الدين، فاظفر بها كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه.
(19/8)
طلب الزيارة من الصالحين
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟)، فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم:64]، فلا ينزل بحسب ما يريد، ولكن بأمر الله سبحانه وتعالى، {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} [مريم:64]، فالله عز وجل يملك كل شيء.
ويطلب النبي صلى الله عليه وسلم الرفقة الطيبة الصالحة جبريل عليه السلام فهو لا يعصي الله أبداً، وكل بني آدم خطاء، فأحب النبي صلى الله عليه وسلم مصاحبة جبريل، وقال له زرنا أكثر مما تزورنا، فأنزل الله عز وجل أن الأمر ليس لك ولا لجبريل، ولكن الأمر أمر الله عز وجل وقتما يشاء الله ينزل جبريل، والغرض هو طلب مصاحبة الطيبين ليستفيد من حسن صحبتهم.
(19/9)
الحث على مصاحبة أهل الخير والتحذير من أهل الشر والسوء
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي) وهذا حديث عظيم جميل رواه أبو داود والترمذي، وإذا لم يوجد مؤمن فلا تصاحب أحداً، والإنسان مع صاحبه كل منهما يقلد الآخر، وكل منهما يأخذ من خلق الآخر، والخلق الطيب يعدي، والخلق الرديء يعدي، واللهجة والكلام والألفاظ تعدي، والإنسان السيء النابي الألفاظ تجد الذي يصاحبه يقلده شيئاً بعد شيء حتى يصبح كلامه مثل كلامه بسبب المصاحبة، والمرافقة، وكثرة الأخذ والرد، ولذلك يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم، أن تصاحب الإنسان المؤمن الذي يصلي ويصوم، ويعرف الله سبحانه وتعالى، الذي لا ينطق بالقبيح ولا يفعل القبيح.
(ولا يأكل طعامك إلا تقي): أنت قد تتعب في كسب المال وجمعه، فإذا حصلت على مال واشتريت به طعاماً ثم أعطيته لإنسان شقي فاسد يأكله فإنه لن يشكرك، فهو عند الله عز وجل ليس له منزلة ولا له قدر، فلن يشكرك هذا الإنسان.
لكن التقي إذا أعطيته القليل شكرك، وحمد الله عز وجل وعرف لك قدرك وفضلك، ولعل الإنسان الصالح يأكل ويدعو لك، فتؤجر بدعاء هذا الإنسان وتؤجر بإطعامك له.
والإنسان الفاجر إذا أعطيته الكثير يحسدك، ويقول: أكل هذا عندك؟ إذاً أنت حرامي، وإذا أعطيته القليل، فضحك، وكلا الحالتين لن تنفع مع هذا الإنسان، تجد البعض يصلي وإذا عزمه إنسان ووجد العزومة كبيرة بدأ يحسده، ويقول: من أين أتى بالمال، هذه عزومة ملوك، وبدل أن يشكر هذا الإنسان ويدعو له بالبركة، يقول، من أين يأتي بالمال؟ ويحسده على نعم الله عليه! أما التقي فإنه يتقي الله سبحانه، ولن يتلفظ بلفظة نؤذيك؛ لأن لسانه منضبط بشرع الله سبحانه وتعالى، وأنت مستفيد من الصاحب التقي فإن في دخوله بيتك بركة وبدعائه لك، وبأكله من طعامك فكله خير.
(19/10)
الرجل على دين خليله
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرجل على دين خليلة، فلينظر أحدكم من يخالل)، رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح، ومعنى الحديث أن الرجل مقلد لصاحبه.
والإنسان السوي يمشي مع السوي، والسيئ يمشي مع السيئ، ولذلك لا يصطحب اثنان إلا لصفة جامعة بينهما، وحين تجد الإنسان يميل إلى إنسان آخر فاعرف أن هناك صفة مشتركة بين الاثنين تعجبهما، إما أن هذا مصل وهذا مصل، وإما أن هذا كثير صيام وهذا كثير صيام، وإما أن هذا يمزح والثاني مثله يحب المزح، وإما أن هذا فاسد والثاني مثله يحب الفساد، فلا بد أن تكون هناك صفة جامعة بين الاثنين، ولذلك قالوا: أنهم رأوا حمامة تطير مع غراب ومن غير الممكن أن تطير حمامة مع غراب فجعلوا يراقبون الحمامة والغرب فوجدوا أن الاثنين أقدامهم مكسورة فجمعتهم علة واحدة، وهي الكسر.
فكذلك الأشقياء يجتمعون مع بعضهم فيستأنس كل منهما بعيب الآخر، ولذلك تجد الإنسان الفاسد حين يجد الإنسان الصالح ينفر منه، ويتضايق منه، ولا يحبه ولا يحب أن يمشي معه، لأنه إذا مشى معه سيقال له: فلان أحسن منك، فيريد الذي يكون مثله في الفساد، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (الرجل على دين خليله) وإذا كان صاحبه الذي يحبه في دينه رقة، ستجد أن هذا الشيء موجود فيه، وإذا كان يصاحب الإنسان التقي قوي الإيمان ستجد أن في قلبه من الخير ما يدفعه لصحبة هذا الإنسان الخير، فلينظر أحدكم من يخالل، أي: من يصادق ومن يصاحب ومن يكون خليلاً له، حبيباً له وقريباً من قلبه.
وفي الحديث الآخر المتفق عليه: (المرء مع من أحب)، فإذا كان يحب الصالح، فإن يكون معه يوم القيامة، وإذا كان يحب الإنسان المفسد الفاسد، فإنه يكون معه يوم القيامة.
وتكملة هذا الحديث أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله: (متى الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟)، فالرجل كأنه تأثر وقال: (ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة)، أي: لم أجهز لها كثير صوم ولا صلاة ولكن هناك شيء أعددته للساعة قال: (ولكني أحب الله ورسوله)، يعني في قلبي المحبة لله عز وجل وللرسول صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت).
فبعدما صدمه بالسؤال الذي أوقف الرجل وجعله يراجع نفسه، أعطاه الجواب الجميل منه صلى الله عليه وسلم الذي طمأنه: أنت تحب الله فأنت في جنته، وتحب الرسول، فأنت معه صلوات الله وسلامه عليه (المرء مع من أحب)، وفي الرواية الأخرى، قال: (ما أعددت لها؟ قال الرجل: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت).
هذا من حديث أنس، وجاء من حديث ابن مسعود وفيه: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قوماً ولم يلحق بهم)، يعني هو يحب أناساً صالحين لكن لا يستطيع أن يدركهم، فلا يستطيع أن يصلي مثلهم، ولا يستطيع أن يحفظ مثلهم ولا يستطيع أن يصوم مثلهم، لكنه يحبهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب)، فكانت كلمة أعجبت الصحابة وطيبت نفوسهم؛ لأن كلاً منهم يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن من مثل النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيعمل عمله، وكانوا يخافون أن لا يروه يوم القيامة، لأن درجته في الجنة عالية فطمأنهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المرء مع من أحب.
(19/11)
خيار أهل الجاهلية هم خيار أهل الإسلام إذا فقهوا
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
الذهب ذهب مهما مرت عليه السنون، ومهما تغير بالطين والتراب فإنك إذا أخرجته وغسلته ونقيته عاد ذهباً مرة أخرى، والفضة مثل ذلك وباقي المعادن تصدأ، لكن الذهب والفضة لها ميزة عن غيرها من المعادن، والناس كذلك معادن، منها ما فيها شوائب، ومنها ما هو ذهب وفضة، فخيارهم في الجاهلية، أي: الذي كان في الجاهلية فيه رجولة، وفيه شهامة وفيه حسن خلق، فإنه حين يسلم يزيده الإسلام من ذلك، فخياركم في الجاهلية هم خياركم في الإسلام إذا تعلموا هذا الدين وإذا تفقهوا.
لذلك الإنسان يشرف بهذا الدين العظيم ويزداد خيراً بأن يتعلم الفقه في الدين وأن يعمل بما يتعلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: (والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف).
الأرواح جنود، مثلما الأبدان جنود، تجد الإنسان يحب إنساناً آخر بمجرد أن ينظر إليه، ويشعر أنه يعرفه من قبل، والأرواح من جنود الله عز وجل، يعارفها على بعضها بما شاء سبحانه وتعالى، فما عرفه الله عز وجل على غيره في وقت يعلمه الله عز وجل تجده يحبه ويميل إليه.
وهذا الحديث جاء من حديث عائشة رضي الله عنها في مسند أبي يعلى، وفيه قصة، وهي أن امرأة كانت بمكة تحب المزح، فلما هاجرت إلى المدينة نزلت على امرأة مثلها، تحب الضحك، فبلغ عائشة رضي الله عنها أن فلانة التي تحب المزح نزلت على فلانة التي مثلها، فقالت: صدق حبي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)، فكأن الإنسان ينزل على الشبيه له، والتآلف والمحبة التي تكون بين القلوب تكون في الأرواح قبل ذلك، فالمرء مرآة قرينه، والمرء ينزل على شكيله ومن كان مثله.
لذلك حاول أن تتعرف على الصالحين وتحبهم ولا تنظر إلى الغنى والفقر، ولا تنظر إلى المراكز وإلى العلو، ولا تنظر إلى القوة والضعف، ولكن انظر إلى الصلاح تنتفع وتنفع صاحبك.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده الصالحين، وأن يمن علينا برفقة الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(19/12)
شرح رياض الصالحين - زيارة أهل الخير والأماكن الفاضلة والحب في الله
لقد ندب الله عز وجل إلى مجالسة أهل الخير، والجلوس معهم، وجاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرغبة في ذلك، ومبينة فضلها وعظيم أجرها، وخاصة الحب في الله سبحانه الذي هو أوثق عرى الإيمان.
(20/1)
ما جاء في زيارة الصالحين ومواضع الفضل
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
وبعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب زيارة أهل الخير ومجالستهم، وصحبتهم، ومحبتهم، وطلب زيارتهم، والدعاء منهم، وزيارة المواضع الفاضلة].
روى الإمام مسلم عن أسير بن جابر رضي الله عنه، (أن أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، فقال عمر: هل هاهنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل وكان يسخر من أويس فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم).
وفي رواية: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: (استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن لي، وقال: لا تنسنا يا أخي من دعائك، فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا).
وفي رواية: (قال: أشركنا يا أخي في دعائك) رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكباً وماشيا، فيصلي فيه ركعتين) متفق عليه.
وفي رواية: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت راكباً وماشيا، وكان ابن عمر يفعله).
والمعنى: أن المؤمن يصاحب من يحبه في الله سبحانه وتعالى، ويزوره في الله، ليس لهدف من الدنيا، ولا لتسامر ولا لتضييع وقت، وإنما زيارة محبة في الله تبارك وتعالى.
فيحب أهل الخير وأهل الفضل، ويصحبهم، ويجالسهم، ويزورهم، ويدعو لهم، ويطلب منهم أن يدعو له، إلى غير ذلك مما يكون فيه الفضل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا منتنة).
متفق عليه.
وفيه مثال لنوعين من الأصدقاء والأصحاب: النوع الأول: وهم الذين يتآخون في الله سبحانه وتعالى، فيجتمعون عليه، ويتفرقون عليه، فلهم أجر عظيم عند الله سبحانه.
وهذا الإنسان تستفيد منه كلما لقيته، ولو بالتسليم عليه، ولو بأن يدعو لك، فهو مثل حامل المسك، إما أن تنتفع منه بريح طيبة، وإما أن تشتري منه، وإما أن يهبك ويعطيك من المسك الذي معه.
والنوع الآخر: صديق السوء، وهو الذي إذا جالسته لم يزل يتكلم عن فلان، ويغتاب فلان، وهكذا.
فيؤذيك بذلك.
فإما أن تنكر عليه وتنجو، وإما أن تسكت فيهلكك وتهلك معه.
فهو مثل نافخ الكير، أي: الحداد الذي ينفخ الكير، فإذا جلست معه شممت منه رائحة خبيثة، أو أنه قد يحرق ثيابك، أو يلوثها بما معه من نار وما معه من أذى.
ولذلك فالإنسان المؤمن يصاحب المؤمنين، ويرجو الخير من وراء ذلك، ويحذر الإنسان المؤمن من السخرية من أحد من المسلمين، فلعله يسخر من إنسان وهو أفضل منه، وكان الأولى بدلاً من أن يسخر منه، أن يطلب منه أن يدعو له.
(20/2)
قصة عمر رضي الله عنه مع أويس القرني
وهنا قصة اختصرناها، وذكرنا لفظها المختصر الذي في صحيح مسلم.
وفي لفظ آخر طويل عن أسير بن عمرو قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فقد كان عمر مهتماً لهذا الشيء، فكلما يأتيه أناس من اليمن يسألهم فيكم أويس؟ إلى أن وفد عليه في سنة من السنين قوم وفيهم أويس، فقال له عمر رضي الله عنه: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم.
قال: من مراد ثم من قرن؟ يعني: من هذه القبائل، من قبيلة مراد التي هي من قرن.
قال: نعم.
قال: فكان فيك برص فبرأت منه إلا موضع درهم.
وهذه أوصاف جاء بها عمر، من النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخبره بهذا الشيء، ولذلك فإن عمر بن الخطاب كان حريصاً على أن يقابل أويساً هذا، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال له أويس: نعم.
قال: هل لك والدة؟ قال: نعم.
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم).
والبرص: البهاق، فإذا كثر في الجسد فهو البرص، فذهب منه البرص، وهو قل أن يذهب من الإنسان، ولكن ببركة دعاء هذا الرجل، وببركة بره لأمه رضي الله تبارك وتعالى عنه، أذهب الله عز وجل عنه ذلك، وأبقى له موضعاً مثل الدينار يذكره بنعمة الله عز وجل عليه.
قال له عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره)، يعني: أنه رجل بلغ من الصلاح درجة أنه لو أقسم على الله، فإن الله عز وجل يستجيب له؛ لأنه يحبه سبحانه فقد أنزله منزلة عظيمة، حتى إنه ليدنو ويقسم على الله فيبره الله سبحانه وتعالى.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل).
وهذا يقوله لـ عمر، ومن معه، إذا استطعت أن يستغفر لك أويس وهو من التابعين، وليس من الصحابة، والصحابة أفضل من غيرهم على العموم.
ولكن أويساً قد يكون فيه فضيلة على بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه يقسم على الله فيبره الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: إن استطعت أن تجعله يستغفر لك فافعل.
فقال له عمر: فاستغفر لي.
فاستغفر له أويس.
فقال له: عمر: أين تريد؟ فقال: الكوفة.
قال له: عمر: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ يعني: يكتب له إلى العامل الذي في الكوفة حتى يستوصى به.
فقال لـ عمر: أكون في غبراء الناس أحب إلي.
أي: لا أريد أن أكون معروفاً بين الناس، بل أكون مع فقراء الناس وصعاليكهم ومن لا يعرف، فهذا أفضل لي وأحب إلي.
فلما كان من العام المقبل، أي: السنة الثانية، حج رجل من أشرافهم، فوافى عمر رضي الله عنه، فسأله عن أويس، وكان الرجل يعرفه، وكأنه يعرف لكن لا يعرف فضله ولا شرفه فقال: تركته رث البيت، قليل المتاع.
ولكنه لم يقسم على الله عز وجل ليملأ له بيته متاعاً؛ لأنهم نظروا إلى الدنيا فاحتقروها، ولم يجعلوا لها قيمة، ونظروا إلى الآخرة فجمعوا لها، وادخروا من أجلها، فنئوا عن الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، فلم يضرهم أن لم يكن معهم متاع، ولو أن عمراً كتب له إلى أمير الكوفة، لكان أنزله منزلة الأمراء مثلاً.
ولكنه رضي الله عنه لم يطلب دنيا، فكان رث البيت، قليل المتاع.
فقال عمر لهذا الرجل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد من أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك، فافعل).
فعندما عاد الرجل إلى الكوفة، ذهب مباشرة إلى أويس، وقال له: استغفر لي فرد عليه أويس: أنت أحدث عهداً بسفر صالح.
يعني: أنت كنت مسافراً، وقدمت من حج أو من عمرة، فأنت الذي تستغفر لي، ولست أنا من يستغفر لك، قال: فاستغفر لي.
ثم سأله: لقيت عمر؟ قال: نعم.
قال: فاستغفر لـ عمر واستغفر للرجل.
ففطن له الناس، فانطلق على وجهه، وغادر من المكان الذي هو فيه، حتى لا يسمع أحد به.
فخاف على نفسه من الرياء، وخاف على نفسه من فتنة الناس، فإن الذي يقبل على الناس يغره الناس، والعادة أن الإنسان لو ترك نفسه للناس فإنهم يغرونه، يقولون له: أنت سيدنا، وأنت كبيرنا، وأنت أشرفنا، وأنت، وأنت حتى يغتر الإنسان في نفسه.
ولذلك فإن المؤمن يقبل على الناس بالوجه الذي لا يفتن فيه، فإذا وجد من الناس المديح فهو أعلم بنفسه من الناس، فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولو أن الإنسان أعطى أذنه للناس ليمدحوه فإنه يوشك أن يغتر فيهلك ويضيع، ولذلك فإن المؤمن حريص على أن لا يسمع مدحاً من أحد، ولا يسمع من الناس إلا النصح.
ولذلك فإن أويساً رضي الله لم يصبر ولم يطق أن يسمع من الناس مديحاً وإن كان هذا المديح حقا، وهو قد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق، المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، الذي لا ينطق عن الهوى.
فلولا أن هذا الرجل له فضل عند الله عز وجل، لما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذكر العظيم.
وفي رواية لهذا الحديث في صحيح مسلم: أن أهل الكوفة وفدوا على عمر رضي الله عنه، وفيهم رجل ممن كان يسخر بـ أويس.
يعني: أن أويساً كان من الفقراء، ومن صعاليك المسلمين، ومن عادة الناس أنهم عندما يجدون شخصاً فقيراً، خلق الثياب، رث المتاع والبيت، فإنهم يسخرون منه، ولا يعطونه قدراً ولا منزلة.
فكان أويس هكذا فيهم، وكان لا يأبه بذلك، وكان من ضمن هذا الوفد شخص يسخر منه، ولو دعا عليه أويس فلعل الله عز وجل أن يستجيب له، ويصنع به الأشياء الذي يبتليه بها، ولكن أويساً كان حليماً وصبوراً فسكت عنه، ولم يقل شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهذا الرجل وفد على عمر رضي الله عنه، فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين، فجاء ذلك الرجل، فقد كان من نفس قبيلته، وليس بعيداً عنه.
فجاء إلى عمر، فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له: أويس لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض فدعا الله تعالى فأذهبه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر له).
وفي رواية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس)، فهو خير التابعين رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولم يقل خير الناس، فـ عمر رضي الله عنه كان خيراً منه، وأبو بكر خير منهما رضي الله تبارك وتعالى عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم خير من الجميع، ولكن الغرض أن هذا خير تابعي في هؤلاء القوم الذين لم يروا النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد يكون فيه فضيلة في إجابة الدعاء بالقسم على الله، أكثر من بعض الصحابة، فهو قد فضل بشيء وليس بكل شيء على أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فالغرض: أن هذا الرجل الذي كان يسخر من أويس تبين له أن أويساً هذا مستجاب الدعوة، فعرف قدر نفسه وقدر هذا الذي يسخر منه.
ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يسخر من أحد أبدا، فلا ينظر إلى ثياب الإنسان الذي يكلمه، ولكن ينظر إلى ما يقوله من حكمة وموعظة وكلام جيد.
وقد وفد بعض الصالحين على أمير من الأمراء، وكان قد لبس جبة رثة خلقة، فجعل الأمير ينظر إلى جبته وهو يتكلم، يعني: مستنكراً لجبته.
فكان من كلام الرجل الحكيم للأمير أن قال: لا تنظر إلى الجبة وانظر إلى لابسها.
يعني: لا تنظر إلى الجبة المقطعة المرقعة، وانظر إلى الذي يكلمك حتى تفهم ما يقوله لك.
فهذه منزلة أويس عند الله سبحانه تبارك وتعالى، والذي كان ذلك الرجل يسخر منه.
(20/3)
طلب الدعاء من الصالحين
من الأحاديث الواردة في طلب الدعاء من الصالحين: ما رواه الإمام الترمذي وأبو داود بإسناد فيه ضعف، وإن كان الترمذي قال: حسن صحيح، وفيه: (أن عمر رضي الله عنه خرج لعمرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك، أو لا تنسني يا أخي من دعائك).
والحديث إسناده ضعيف، ولكن أن يطلب الإنسان من أخيه المسلم الذي يظن فيه فضيلة أن يدعو له هذا شيء حسن، ولكن على وجه لا يغتر فيه هذا الذي تطلب منه الدعاء؛ لأن الإنسان أحياناً عندما يجد إنساناً يحبه في الله يبدأ يمجده ويعظمه إلى أن يرفعه عن قدره، فيغره في نفسه.
فلا تغر أخاك، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احثوا في وجوه المداحين التراب).
فالمؤمن يخاف على نفسه من الغرور، ويخاف على نفسه من مدح الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حذرنا من مثل ذلك، فعندما سمع رجلاً يمدح أخاه في وجهه قال: (قصمت ظهر أخيك)، ولذلك لا تعود نفسك على كثرة المدح لإنسان، ولا تغر أحداً، ولا تفتنه في دينه، والله قال لنا: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
(20/4)
زيارة المواضع الفاضلة
الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في ما سواه من المساجد.
ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة فيه بألف صلاة في غيره من المساجد.
المسجد الأقصى جاءت أحاديث بأن الصلاة فيه بخمسمائة وإن كان فيها ضعف، وأحاديث على النصف من ذلك بمائتين وخمسين صلاة، ولكن له فضيلة عظيمة، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).
نسأل الله عز وجل أن يحرره من دنس اليهود وكفرهم وشركهم، لعنة الله عليهم، وعلى من والاهم من أهل الكتاب، ومن الكفرة الملاعين.
نسأل الله عز وجل أن يحرره، وينصر الإسلام والمسلمين.
وهذه فضيلة هذه المساجد الثلاثة.
ولمسجد قباء فضيلة أيضاً، فإنك عندما تذهب إليه وتصلي ركعتين فإن لك أجر عمرة؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم سبت ماشياً، ويصلي فيه ركعتين كما جاء في الحديث المتفق عليه: عن ابن عمر (كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور قباء راكباً وماشيا، فيصلي فيه ركعتين).
والغرض أن تذهب إلى الأماكن الفاضلة التي فيها الأجر العظيم، المسجد الحرام والمسجد النبوي وبيت المقدس وتذهب إلى مسجد قباء، كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه.
(20/5)
فضل الحب في الله
(20/6)
الحب في الله عند الأنصار
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: الحب في الله والحث عليه، وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه].
قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، فالنبي صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين فيهم هذه الصفات العظيمة، وهي: الشدة على الكفار، فيجاهدون في سبيل الله عز وجل، ولا يخافون لومة لائم، ولا يفرون إذا لقوا العدو، وهم فيما بينهم رحماء، فيرحم المؤمن أخاه المؤمن؛ لأن المؤمن فيه ذل لأخيه المؤمن.
ولذلك فالله سبحانه وتعالى يخبرنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، فصفة المؤمن مع أخيه المؤمن أنه يخفض له جناح الذل من الرحمة، ويعرف قدر أخيه، ويواسيه في مصيبته، ويحبه لطاعته، وينصحه إذا وجد منه شيئاً يخالف أمر الله تبارك وتعالى، ويستر عليه إذا وجد منه شيئاً من المعاصي أو الذنوب؛ لأن: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا).
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، فهذا وصف الله عز وجل لأهل المدينة والأنصار.
الذين تبوءوا الدار أي: المدينة.
والإيمان أي: فكأنهم نزلوا في وسط الإيمان، وفي قلب الإيمان.
فقد امتلئوا إيماناً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وفاض منهم هذا الإيمان، حتى كأنهم نزلوا بداخله رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
وهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم.
فالمهاجرون هاجروا وليس معهم مال ولا شيء إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمدحهم الله بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8]، فصدقوا الله فصدقهم الله عز وجل، فنزلوا على المدينة فاستقبلهم الأنصار، وأحبوهم وآخوهم في الله سبحانه وتعالى، وأنفقوا عليهم، وأعطوهم من أموالهم ومن ديارهم، وآثروهم على أنفسهم، فهم يؤثرون على أنفسهم حتى ولو كان بهم جوع.
فهذه صفات المؤمن أنه يحب أخاه، ويؤثره، ويفضله على نفسه، كما ذكر الله عز وجل هؤلاء.
وليس كل الناس كالمهاجرين والأنصار، ولكن على الأقل على المؤمن إذا لم يحب أخاه فوق حبه لنفسه، أن يحبه مثل حبه لنفسه أو أقل، فيحبه مثل ما يحب ولده، ويحب أهله، ويحب أصدقاءه المقربين، فيحب المؤمن لكونه مؤمنا، ومطيعاً لله عز وجل، فينفعه هذا يوم القيامة، وينفعه في قبره.
(20/7)
متى يجد المرء حلاوة الإيمان
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه.
وهذا فيه هذا الفضل من الله تبارك وتعالى لهؤلاء المؤمنين، الذين أرشدهم وأحبهم، فجعل في قلوبهم الإيمان، وجعل هذه صفاتهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه)، أي: إذا وجدت هذه الصفات فقد وجدت حلاوة الإيمان، فالإيمان له حلاوة في القلب، وحلاوة في التكلم بألفاظ الإيمان، وبشرع الله تبارك وتعالى، يجدها الإنسان المؤمن الذي فيه هذه الصفات: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، وكل إنسان لو سئل: هل تحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ يقول: نعم.
لا يوجد أحد يقول: لا.
ولكن أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، فهنا يتفاوت الناس في ذلك، ويظهر هذا حين يخير الإنسان بين الطاعة والمعصية، فإنسان تدفعه شهوته لاختيار المعصية، فإذا به قد فضلها على حبه لله، ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
و (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، ولكن الإنسان المؤمن إذا عرضت له معصية فإنه يفكر أن هذه المعصية تبعده عن الله عز وجل، وبسبب أن حب الله في قلبه أقوى يقول: لا أريد أن أقع في هذه المعصية.
فهذا الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وقد يجد شيئاً من الأشياء يميل قلبه إليه، كأن يكون أخ من إخوانه يظن أنه مستحق لشيء، فيريد أن يكذب من أجله مثلاً، فيتذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء:135]، فيتذكر أنه سيشهد مع هذا الإنسان وهو لم ير شيئا؛ لأنه يصعب عليه تركه، ولكن الله عز وجل أرحم به مني، وهو الذي أمرني أني أعدل في شهادتي، وكونه أمرني أن أشهد بالحق فيلزمني ذلك، ولو على نفسي، ولو على الوالدين والأقربين، إن يكن فقيراً أو غنياً فالله أولى به.
قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله): وقد يحب الإنسان إنساناً للدنيا، أو يحبه لعقله أو لنفعه وجاهه، ولكن الحب الذي يريده الله عز وجل منا هو: الحب في الله تبارك وتعالى، بأن تحب المرء لا تحبه إلا في الله، فإذا أقبل عليك فلا تفرح، وإذا أعرض عنك فلا تحزن، فلا فرق بين الحالتين؛ لأنك تحبه في الله عز وجل.
أما أن تحب فلاناً ثم تقول: إنه لا يعطيني ولا يزورني فلن أحبه، فهذا لا يصح لأنك أصبحت كأنك لا تحبه إلا من أجل أن يقبل عليك، ويجلس معك، ويكون معك.
والمطلوب أن تحب الإنسان المؤمن لطاعته، فإذا وجدت عالماً قد لا تنتفع أنت بعلمه ولكن غيرك ينتفع بعلمه فأحبه، لكونه يبذل علمه للخلق، وتحب من حفظ القرآن، لكونه يحفظ كتاب الله عز وجل، وتحب من يعمل بالطاعة لكونه يعمل بالطاعة، وسواء نفعك أنت أو لم ينفعك، وسواء زارك أو لم يزرك، فأحبه لله عز وجل، فلعل الله أن يجمعك معه يوم القيامة.
أما أن تحب إنساناً من أجل أنه يجلس معك، ويأتيك ويزورك؛ فإذا لم يفعل فلا تحبه، فراجع هذه المحبة؛ لأن المحبة في الله هي التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس من ورائها أي هدف آخر من الأهداف.
(وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه)، فتحب الإنسان لله عز وجل، وتحب الإيمان وأهل الإيمان، وتبغض الكفر والمعاصي، وتكره أن تعود إلى الكفر بعد إذ أنقذك الله منه، كما تكره أن تقذف في النار.
فهذه هي علامات الإيمان التي تظهر في قلب الإنسان المؤمن، فيجد حلاوته في قلبه.
نسأل الله عز وجل أن يذيقنا حلاوة الإيمان، وأن يجعلنا إخوة فيه متحابين، وأن يجمعنا في مستقر رحمته.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(20/8)
شرح رياض الصالحين - فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [1]
إن الإيمان إذا وقر في قلب المؤمن وصدقه العمل ظهرت حلاوته وذاقها صاحبها، وإن مما يجد به العبد حلاوة الإيمان هو كونه يحب المرء لا يحبه إلا من أجل الله سبحانه، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الخلق حباً لله وكذلك الأنبياء.
(21/1)
حب النبي صلى الله عليه وسلم لربه سبحانه وتعالى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل الذي يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار)، متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)، متفق عليه].
لقد ذكرنا حديث أنس فيما سبق، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاث خصال من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، وكل إنسان مؤمن يحب أن يتذوق طعم الإيمان وحلاوة الإيمان، فأمر الإيمان ليس تمنياً وليس أمراً خيالياً.
ولكن الإيمان يقر في قلب الإنسان ويصدقه عمل الإنسان، فإذا وقر الإيمان في قلبك وصدقه عملك، وشعرت بحب الطاعة وبحب الله سبحانه وتعالى، ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه ومن يحب الله سبحانه ويحب رسوله صلوات الله وسلامه عليه، إذا شعرت بذلك وجدت حلاوة الإيمان.
فلأجل أن يجد المرء حلاوة الإيمان فلابد من أمور: الأمر الأول: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما: يحب الله سبحانه ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويفضلهما على ما سواهما في الحب، فالأصل حب الله وحب الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وإذا كان الإنسان يفضل غير ذلك فإن حبه سيمنعه من الطاعة طبعاً، وكل إنسان لو سئل: هل تحب الله عز وجل أكثر أم تحب أهلك وعيالك؟ يقول: أحب الله أكثر ولا شك في ذلك، ولكن المحك في ذلك وقت التطبيق، فإذا ابتلاه الله عز وجل بشيء هل يسخط على الله سبحانه وتعالى؟ فإذا كان يسخط على الله إذا ابتلاه فيما يحبه دل على أنه يفضله على حبه لله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما توفى الله عز وجل ابنه إبراهيم عليه السلام، إذا به تدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، والحزن جبلة في الإنسان على وفاة حبيبه.
فحزن النبي صلى الله عليه وسلم على وفاة ابنه، ودمعت عيناه، ولكن لم يتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإذا به يقول: (إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).
والنبي صلى الله عليه وسلم قد امتلأ حناناً ورأفة ورحمة، فكيف يموت ولده ثم يظل يضحك، فهذا لا يمكن أبداً لأنه كان رفيقاً رقيقاً.
فهو يحزن صلى الله عليه وسلم لأنه بشر يحب ابنه صلوات الله وسلامه عليه، فحزن ودمعت عيناه ولكنه لم يتضجر من هذا الأمر لأن ما عند الله خير له مما في الدنيا، فرضي بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى.
يقول: (وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)، ومع ذلك لا نقول إلا ما يرضي ربنا، لا ما يسخط الله، فضرب المثل صلى الله عليه وسلم والقدوة الحسنة في ذلك كما ضربها في غير ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
ولما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم انكسفت الشمس، فإذا بالصحابة يقولون: انكسفت لموت إبراهيم، والإنسان إذا كان في مثل هذه المصيبة لن يخطر على باله ما يقوله الناس لأنه غير منتبه لهذا الأمر بسبب مصيبته.
إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه وقف للناس ليردهم عن قولهم وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا كان ذلك فافزعوا إلى الصلاة)، فأمرهم أن يصلوا صلوات الله وسلامه عليه.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فعلى ذلك لابد أن يصحح لهم مفهوماً خاطئاً يتكلمون به ويفهمونه، حتى ولو كان حزيناً على وفاة ابنه.
وهناك واقعة أخرى حدثت له صلى الله عليه وسلم: ففي يوم بدر، نصر الله عز وجل المؤمنين، وماتت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي فرحة الناس في هذا اليوم بنصر الله وابنته تموت صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك أخفى حزنه عن الناس.
فلم يظهر حزنه للناس لأنهم كانوا فرحين بنصر الله عز وجل لهم في هذا اليوم الذي كان فيه أول وقعة حقيقية بين عسكر الكفر وعسكر الإيمان، بل تجاوز أحزانه صلى الله عليه وسلم، وأظهر فرحه بنصر الله عز وجل للمؤمنين.
فحب الله عز وجل وحب دين الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل نبيه صلى الله عليه وسلم ينطق بالحق في كل موطن، ولذلك لما سألوه: (نكتب عنك يا رسول في حال غضبك فقال: اكتبوا، فوالذي نفسي بيده لا يخرج منه إلا الحق) فهو لا ينطق بالهوى ولكن ينطق بالحق.
فكلما أراد الإنسان الأسوة الحسنة والقدوة العظيمة، فإن أسوته وقدوته في النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذا أصابه هم أو حزن أو مصيبة، ما كان لينسى دين الله سبحانه وتعالى.
والإنسان مخلوق في الدنيا ليبتلى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] مخلوق في الدنيا ليمتحن: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:155 - 157] فضلان من الله عز وجل: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] وهداية من الله عز وجل لهؤلاء، فالإنسان المؤمن يبتليه ربه لينظر أيكم أحسن عملاً، فالمؤمن ينظر إلى الدنيا أنها دار بلاء ودار محن ودار اختبار والنتيجة عند الله يوم القيامة فإذا ابتلاه الله فليأتس بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وليقتد به فقد ابتلي وصبر صلوات الله وسلامه عليه.
(21/2)
صبر إبراهيم على البلاء محبة لله سبحانه
إن إبراهيم أبو الأنبياء على نبينا وعليه الصلاة والسلام ابتلاه الله سبحانه وتعالى فصبر.
ابتلاه في أبيه وابتلاه في ابنه وابتلاه في زوجته، فإذا به يصبر الصبر العظيم: ابتلاه في أبيه فكان أبوه كافراً وكان صانعاً للأصنام يصنعها لقومه، وإذا بإبراهيم يجادل أباه حتى يمنعه من ذلك فلم يقدر على ذلك عليه الصلاة والسلام، حتى قال له أبوه: {لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم:46] أي: ابتعد عني وإلا رجمتك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:47 - 48].
ويذهب مع امرأته سارة إلى مصر فإذا به يجد جباراً من الجبابرة، وإذا بالجبار يسأل: من هذه؟ ويخاف إبراهيم أن يقول: هي زوجتي.
خشية أن يقتله هذا الجبار ليأخذها منه، فكانت الحيلة أن قال: هي أختي، فعرض بالكلام.
وهذه بلية ومصيبة نزلت بإبراهيم وانتظر الفرج من الله سبحانه وتعالى، فإذا بالجبار يأخذها ويريدها لنفسه، وإذا بها تدعو ربها سبحانه ويدعو إبراهيم ربه سبحانه وتعالى، فيكشف الكرب العظيم الذي كان فيه إبراهيم وسارة عليهما الصلاة والسلام.
وصرع الله هذا الجبار حتى وقع ولم يستطع أن يقربها بسوء، مرة ومرتين وثلاثاً حتى قال: إنما أتيتموني بشيطانة، وأرجعها إلى إبراهيم وأخدمها هاجر، فكانت هاجر أمة لـ سارة أهدتها لإبراهيم، فكانت أمة لإبراهيم وأم ولد له بعد ذلك.
وابتلاه الله عز وجل في ولده ووحيده إسماعيل عليه وعلى أبيه وعلى نبينا الصلاة والسلام، الذي جاءه بعد الكبر وبعد سنين طويلة كان يتمنى فيها الولد فإذا بالله عز وجل يأمره في المنام أن يذبح ولده.
حتى يعلم سبحانه علم مشاهدة هل يحب إبراهيم ولده أكثر من حبه لله أم يحب الله أكثر من حبه لولده.
{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] هل قال: أضغاث أحلام؟ هل قال: هذا أمر من منام ولن أنفذه؟ لا، فقد علم أن أباه لا يرى إلا ما يأمر الله عز وجل به، فقال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
فكان بلاءً عظيماً أن يذبح ابنه كما يذبح الشاة.
وتله للجبين، واستسلم لأمر رب العالمين، فإذا بالله عز وجل يقول: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:104 - 105] أي: قد فعلت ما أمرت به وأظهرت حبك لنا فوق حبك لأي شيء.
لقد هجر بلده ووطنه وهاجر منهم حين عبدوا غير الله تفضيلاً لحب الله سبحانه فوق حبه للبلد وللوالد وللأهل، لقد كان حبه لله عز وجل فوق كل شيء، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
والإنسان المؤمن يحب الله جل في علاه ويظهر هذه المحبة، وخاصة في وقت البلاء، ويستشعر أن الله عز وجل امتحنه ليرفع درجته وليكفر خطيئته وسيئته، فيرضى بقضاء الله عز وجل، ولا مانع من أن يحزن ولكن لا يتضجر على الله عز وجل ولا يتسخط على قضاء الله وقدره سبحانه قال: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
يحب أخاه المؤمن لأنه مطيع لله لأنه عابد لله لأنه يحب الله سبحانه وتعالى، (وأن يكره أن يعود في الكفر)، أي: إذا كان كافراً فأسلم، وإذا لم يكن كذلك بأن شب ونشأ على الإسلام وولد فيه يبغض الكفر وأهله كبغضه أن يلقى في النار فإذا كان كذلك فإنه يستشعر ويتذوق حلاوة الإيمان.
(21/3)
شرح حديث: (سبعة يظلهم)
(21/4)
شدة هول يوم القيامة وحره
عن أبي هريرة رضي الله عنه في المتفق عليه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله).
يظلهم الله في يوم عظيم طويل وهو يوم القيامة، يوم يجتمع الخلائق الأولون والآخرون إنسهم وجنهم، وتتنزل الملائكة تحيط بهم فلا مهرب ولا ملجأ من الله إلا إليه، وإذا بالشمس تدنو من رءوس العباد، فإذا بالعرق يسيل، فمنهم من يبلغ عرقه إلى رجليه وإلى قدميه وإلى كعبيه وإلى ركبتيه وإلى حقويه، ومنهم من يغطي منكبيه، ومنهم من يلجم فاه.
وذلك بحسب ما كان يبذل العرق لله في الدنيا، هل كان يتعب نفسه لله؟ هل كان يصلي فيتعب لله سبحانه؟ هل كان يأمر بمعروف وينهى عن منكر ويقضي حوائج الناس فيتعب نفسه طاعةً لله؟ فمن بذل العرق في الدنيا نجا يوم القيامة! وحين تدنو الشمس من الرءوس إذا بالله عز وجل يظل من يشاء بظله سبحانه وتعالى يوم لا ظل إلا ما جعله الله عز وجل لهؤلاء من ظل.
وقوله: (سبعة يظلهم الله) المقصود: سبعة أصناف وليس سبعة رجال، فيكون تحت كل صنف رجال كثيرون ونساء كثيرات.
(21/5)
معنى قوله: (إمام عادل وشاب نشأ في عباد الله)
قال: (إمام عادل)، والإمام هنا بمعنى الحاكم الذي يحكم بشرع الله عز وجل ويعدل بين الرعية.
قد يحكم الحاكم بشرع الله ولا يعدل بين الناس، يحكم في الظاهر ويظلم الناس في الباطن، فهنا يقول لنا: (إمام عادل) أي: يعدل بين الخلق.
قال: (وشاب نشأ في عبادة الله): سواء كان ذكراً أو أنثى، فاحرص على أن تكون عابداً لله سبحانه وتعالى.
وإن كان الله عصمك من الوقوع في الكبائر وحبب إليك الصلاح فداوم على ذلك حتى تكون من هؤلاء، ولا تأمن مكر الله سبحانه وتعالى ولا تغتر بنفسك، فكم من إنسان غرته عبادته فإذا بالله يقلبه عن عادته ويكون على غير ما كان عليه.
فالله عز وجل يهدي من يشاء ويضل من يشاء: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
إذا كنت شاباً نشأت في طاعة الله وحفظت كتاب الله فاحذر من الغرور، فإن الغرور يردي صاحبه، وإذا كان عندك أولاد فعلمهم الطاعة وعلمهم حب الله سبحانه وتعالى، وعلمهم أن يكون حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليهم مما سواهما.
(21/6)
معنى قوله: (ورجل قلبه معلق بالمساجد)
قال: (ورجل قلبه معلق بالمساجد).
والمساجد بيوت الله سبحانه وتعالى، والذي تعلق قلبه بالمساجد أحب الصلاة وأحب الله عز وجل.
والمسجد ليس كالنادي يذهب إليه الإنسان من أجل أن يقابل الإخوة ويتكلم معهم، بل يحب المسجد لأنه بيت الله، ويحافظ عليه ويحترمه ويوقره ولا يؤذي أحداً فيه، ويقرأ فيه كتاب الله عز وجل ويستمع فيه لدرس العلم، ويصلي الصلاة المفروضة، ويخرج من بيت الله إلى بيته وفي قلبه حنين متى يرجع إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
فالرجل الذي قلبه معلق بالمساجد من حبه لبيوت الله سبحانه وتعالى قلبه معلق بها إذا خرج منها حتى يعود، وفي رواية: (إذا خرج من بيت الله حتى يرجع إليه)، فيصلى صلاة الظهر ويرجع إلى بيته وإلى عمله وقلبه مشتاق متى يأتي وقت العصر من أجل أن أذهب وأصلي في بيت الله سبحانه وتعالى.
علم الأجر والفضل فهو مستحضر لذلك، ولذلك جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الكفارات، قال: (وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في السبرات، ونقل الأقدام إلى الجماعات).
فهذه كفارات يكفر الله عز وجل بها خطايا الإنسان: منها: أن تسبغ الوضوء في وقت ما تكره ذلك، كأن يكون الماء شديد البرودة في الشتاء، ومع ذلك تتوضأ فتحسن الوضوء؛ فإن الله يكفر عنك خطاياك.
وانتظار الصلاة بعد الصلاة في بيت الله سبحانه، ما لم تضيع عملاً واجباً عليك أن تؤديه لتطعم عيالك وتنفق على قرابتك مثلاً.
وكذلك: نقل الأقدام إلى الجماعات، وأنت ذاهب إلى بيت الله لصلاة الجماعة، فكل خطوة ترفعك درجة والأخرى تحط عنك سيئة فتحتسب هذا كله عند الله عز وجل.
وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الخطايا تتناثر وتتساقط أثناء الوضوء؛ إذاً: الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما، والوضوء يزيل عنك الخطايا، تغسل يديك فتنزل الخطايا مع آخر قطر الماء، وتغسل وجهك فتنزل الخطايا إن وجدت مع آخر قطر الماء، وتغسل رجليك فتتساقط الخطايا.
فإذا ذهبت إلى الصلاة فكل خطوة تخطوها تمحو عنك خطيئة والأخرى ترفعك درجة، فإذا جئت بيت الله ووقفت تصلي مع الناس في جماعة يجعل الله سبحانه كل الذنوب الباقية عليك فوق رأسك وفوق منكبيك.
فإذا كبرت تساقطت، وإذا ركعت تساقطت، وإذا سجدت تساقطت، وإذا انتهيت من الصلاة وقرأت آية الكرسي كنت مستحقاً للجنة لقراءتك هذه الآية.
فمن الذي يسمع مثل هذا الثواب العظيم ثم لا يبقى قلبه معلقاً ببيت الله تعالى؟ وهذا الأجر تناله في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة يظلك الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله.
ويوم القيامة بعض الخلق يدعون ربهم ويقولون: يا رب اصرفنا ولو إلى النار، لأنهم وجدوا أن هذا اليوم شديد حتى ظنوا أن النار أهون من الموقف بين يدي الله عز وجل.
قوله: ورجل قلبه معلق بالمساجد أي: يحب بيت الله، والفريضة في المساجد على الرجال، والمرأة صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في بيت الله عز وجل.
(21/7)
معنى قوله: (ورجلان تحابا في الله)
قال: (ورجلان تحابا في الله): وكذلك المرأة لو أحبت المرأة في الله.
وهذا هو المقصود في هذا الباب: (رجلان تحابا في الله)، أي: الذي جمعهما هو الحب في الله فإذا اجتمعا فعلى القرآن والحديث والنصيحة لكل منهما.
وكان الصحابة إذا تقابلوا يقول أحدهم للآخر: كيف حالك، فيقوله: الحمد لله، فيقول: عن هذا أسأل! أي: أنا أسألك من أجل أن تقول: الحمد لله.
فقط فلا يريد منه أن يحدثه عن المال والعيال وإنما من أجل أن يذكره بالله سبحانه وتعالى.
فكانوا يتذاكرون ويتناصحون ولم يكن أحدهم يحب الآخر من أجل أن يضيع عليه وقته، أو يشغله عن الله عز وجل أو يجده في المسجد يقرأ القرآن فيأتي إليه يلهيه ويكلمه عن قصة حصلت له أو غيرها فيمنعه من العبادة، ولكن يعينه على طاعة الله سبحانه، كما قال: (اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
فاجتماعهما على طاعة، وإذا افترقا افترقا على تسليم ومحبة ومودة وطاعة لله سبحانه وتعالى، والمحبة في الله عظيمة جداً فأنت ترجو بها الدار الآخرة ولا تنتظر بها حظاً في الدنيا، وإذا كان أخوك مشغولاً فلا تزده شغلاً بزيارتك أو بكثرة كلامك أو بإلهائه عن عمله وعن عبادته وعن طاعته، فالحب في الله عز وجل أنك تعين صاحبك على الطاعة ولا تمنعه منها.
(21/8)
معنى قوله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال)
قال: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله).
لها جمال ولها مال ولها منصب وتدعوه.
إذاًَ: عندها كل المغريات والأسباب فإذا به يحب الله ويخاف من الذنوب ويقول: إني أخاف الله، فامتنع من المعصية.
ونحن في زمن فيه بلاء عظيم وفيه مصائب وفتن، فكل إنسان يمتلئ قلبه بحب الله عليه أن يبتعد عن هذه الابتلاءات وعن هذه الفتن، ويخاف على نفسه.
فلا أحد معصوم ولا تثق بنفسك، وتقول: أنا لا يهمني ولا يوجد ما يفتنني، فإن النظرة بريد الزنا، وقد يفتن الإنسان ويستثار فإذا به ينقلب من عبد يحب الله إلى عبد عابد لشهواته وهواه مضيع لنفسه.
فالبلاء شديد والفتن شديدة، ولذلك على كل إنسان أن يستحضر في قلبه: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله)، إذا مر الإنسان في الطريق ووجد الفتن أمامه فعليه أن يبتعد عن ذلك، ويغض بصره ويخاف الله سبحانه وتعالى لعله يكون من هؤلاء.
(21/9)
معنى قوله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها)
قال: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه): وصدقة السر تطفئ غضب الرب، فلا تمنن ولا تستكثر ما أعطيت ولا تؤذ الإنسان الذي أعطيته الصدقة، بل تصدق في السر وحاول أن تخفيها حتى عن نفسك.
وقوله: (حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) فيه مبالغة في الإخفاء حتى لا يعلم أحد من هذا الذي أنفق.
فهذا يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وآخرهم: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه): وكذلك المرأة.
قد يكون بين الناس فيسمع الذكر ويتأثر ويبكي ويكون له أجر، ولكن المحك والاعتبار هنا أن يكون في بيته وحيداً أو في مكان لا يراه فيه أحد، فيذكر الله ويذكر الجزاء والحساب وقلة عمله فإذا به يخاف ويبكي من خشية الله سبحانه، فيكون أحد هؤلاء الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(21/10)
شرح رياض الصالحين - فضل الحب في الله والحث عليه وإعلام الرجل من يحبه أنه يحبه [2]
يجمع الحب في الله شتات كل متفرق من القلوب في الدنيا، ويجمعها الله في ظل عرشه يوم القيامة، والحب في الله هو الركن الركين الذي بني عليه مجتمع المدينة بين المهاجرين والأنصار، وبه تجب محبة الله للمتحابين فيه، ويستحب لمن أحب رجلاً في الله أن يعلمه بذلك.
(22/1)
الحب في الله فضله وجزاء أهله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الحب في الله، والحث عليه، وإعلام الرجل لمن يحبه أنه يحبه، وماذا يقول له إذا أعلمه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) رواه مسلم.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم.
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى فأرسل الله له على مدرجته ملكاً، وذكر الحديث إلى قوله: إن الله قد أحبك كما أحببته فيه) رواه مسلم].
(22/2)
نموذج من محبة المهاجرين والأنصار في الله
ذكرنا فيما سبق فضل الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، والحب في الله جاء فيه في القرآن قول الله سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
فالمؤمنون يحب بعضهم بعضاً، ويرحم بعضهم بعضاً، ويحترم بعضهم بعضاً طاعة لله تبارك وتعالى وحباً في الله، وحباً في رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فذكر سبحانه المؤمنين الذين تبوءوا الدار والإيمان من أهل المدينة، أهل التقوى وطاعة الله سبحانه، فقد نزلوا بالمدينة، ونزلوا من الإيمان بموضع عظيم.
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، هؤلاء الأنصار رضوان الله تبارك عليهم، نزل عليهم المهاجرون ضيوفاً من مكة وغيرها ليس لهم مال ولا مهنة يمتهنونها في المدينة، فإذا بأهل المدينة يؤثرونهم على أنفسهم، ويحبونهم في الله سبحانه تبارك وتعالى حباً دائماً ليس ليوم أو لليلة، فإذا بأحدهم يقاسم أخاه المهاجر بيته، وماله، وطعامه، وما عنده، يبتغي بذلك الفضل والأجر من الله سبحانه تبارك وتعالى.
فمدحهم الله وأخبر عن حالهم فقال: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] أفلحوا وقد صدقوا الله وصدقوا رسوله صلوات الله وسلامه عليه، فكانوا أحب الناس إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقال لهم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).
تمنى أن يكون أنصارياً لحبه لهؤلاء الأنصار، وما صنعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه المهاجرين رضوان الله تبارك وتعالى عليهم جميعاً.
فالحب في الله ألف بين القلوب، والحب في الله جعلهم يدافعون عن دين الله سبحانه، وكل منهم يفضل أخاه على نفسه، ويؤثره على نفسه، فيخرج للجهاد في سبيل الله سبحانه ويتمنى لو أنه هو الذي يستشهد دون أخيه حباً في الدار الآخرة وحباً في الله عز وجل وفي الجهاد في سبيل الله، وإيثاراً لأخيه على نفسه، فيفضله في الدنيا، ويفضل أن يموت هو على أن يموت أخوه قبله.
(22/3)
إظلال الله للمتحابين فيه يوم القيامة
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ومن هؤلاء: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).
اجتماعهما كان سببه سبحانه تبارك وتعالى، لم يجتمعا على الدنيا، لم يجتمعا على المال، وإنما جمعهما الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، فاجتمعا على الطاعة، على أمر بمعروف ونهي عن منكر، على قراءة القرآن، على ذكر الله سبحانه، فلما افترقا افترقا عن ذلك، فكانت جلستهما كلها محبة في الله عز وجل، وفي دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
وفي صحيح مسلم عند أبي هريرة رضي الله عنه: (إن الله ينادي على هؤلاء يوم القيامة وهو أعلم بمكانهم، يقول: أين المتحابون بجلالي؟).
المتحابون في جلال الله سبحانه، محبة في الله سبحانه تبارك وتعالى، فهم إنما اجتمعوا على الطاعة، فيوم القيامة يقول: أين هم؟ وهو أعلم بمكانهم، ولكنه يظهر أمام الخلق هؤلاء الذين يستحقون هذه المنزلة العظيمة، فيرفعهم سبحانه تبارك وتعالى بطاعتهم لله، وبحبهم بعضهم بعضاً في الله، فيقول سبحانه: (أين المتحابون بجلالي؟).
فإذا ظهر هؤلاء يقول: (اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) فيفضلهم على جميع من في الموقف يوم القيامة، فبحبهم بعضهم بعضاً في الله عز وجل يظلهم في ظله سبحانه تبارك وتعالى يوم لا ظل إلا ظله.
(22/4)
أثر السلام في التحاب في الله
وعن أبي هريرة أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا).
إذا كنت تريد الجنة فلا بد من الإيمان، هذا الإيمان هو الذي يجعل عملك وطاعتك متقبلة، إذ الإيمان ركن قبول الطاعة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، المشرك لا يقبل الله عز وجل له عملاً، الكافر، وقال عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
أما المؤمنون فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لن تؤمنوا الإيمان الحقيقي الكامل حتى تحابوا، (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا).
إذاً: الإيمان في قلب المؤمن لا يكتمل إلا بمحبة المؤمنين، والحب من شروط كلمة التوحيد، أي: أن تحب هذه الكلمة، وأهل هذه الكلمة، أن تحب المسلمين، والمسلمون فيهم المطيعون وفيهم العصاة، لكنك تحب جميع المسلمين لكونهم مسلمين، وتحب منهم أهل الطاعة لكونهم أهل طاعة، وتبغض منهم المعاصي التي يفعلونها.
فهنا يوم القيامة المؤمنون المتحابون في الله يدخلهم الله عز وجل جنته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أو لا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟) وقد دلنا على شيء سهل جداً قال: (أفشوا السلام بينكم).
المسلم يمر على المسلم فيسلم عليه، يفرق بينهما طريق ثم يلتقيان فيسلم عليه، تفرق بينهما شجرة فيلتقيان بعدها يسلم عليه، وأعداء دين الله عز وجل قلبوا هذا الحديث، وقالوا كثرة السلام تقلل المعرفة، يقولون ذلك كذباً وزوراً وقلباً لحقائق الإسلام، بل كثرة السلام تزيد المحبة في القلوب.
وكان الصحابة يسلم بعضهم على بعض، فيسأل بعضهم بعضاً عن حاله، فيقول: الحمد لله، قال: لهذا أسألك، يعني: أسألك لتقول هذه الكلمة فتؤجر وأوجر أنا أيضاً على ذلك.
الشيء الذي يزيد المحبة بين القلوب أن تسلم على أخيك، وأنت تفهم معنى هذه الكلمة العظيمة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ألست تقابل أخاك فتقول له: السلام عليك، يعني: أدعو لك بالحياة السالمة من المعاصي والآثام، أدعو لك بالسلامة في صحتك وحالك ودينك وأقول: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، يعني: أن يرحمك الله في الدنيا والآخرة، وأن يبارك لك في صحتك ومالك وإيمانك، وأن يزيدك من الخير في الدنيا والآخرة.
ثلاث كلمات فيهن فضيلة عظيمة، أنت تقول لأخيك عندما يأتيك: لا تنسنا يا أخي من دعائك، وهذه الكلمة فيها هذا الدعاء، وأنت تسلم عليه حين تلقاه تدعو له بذلك، وحين تفارقه تدعو له بذلك، فهو دعاء فضلاً عن عشر حسنات في كل كلمة، وتمد يدك فتسلم على المسلم فتتساقط الذنوب من أيديكما.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم).
لو عرفت أن أخاك يدعو لك كثيراً فافرح بهذا الشيء، فإذا سلم عليك وبدأك بهذه التحية العظيمة فهو يدعو لك، لذا النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بها وقال: (أفشوا السلام بينكم).
بل وحذر من عدم إلقاء السلام، وقال: (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) أي: من أتى إنساناً وطلب منه أموراً بدون سلام فهذا يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الأدب، أنك لا تستحق أن يرد عليك؛ لأنك ما دخلت البيت من بابه، (من بدأكم بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه) حتى يتعلم من مر بالمسلمين أن يسلم عليهم، وإذا طلب طلباً قدم بين يديه التسليم.
(22/5)
سبب تفرق الأحبة في الدنيا
من الأحاديث: (أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرسل الله على مدرجته ملكاً في صورة رجل وسأله: أين تذهب؟ قال: إلى فلان أخ لي، قال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا، قال: لنعمة له عليك تردها؟ قال: لا، قال: فلم؟ قال: إني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك أخبرك أن الله يحبك).
فهذا الرجل أحب أخاه في الله، فأعلمه الله في الدنيا أنه يحبه سبحانه تبارك وتعالى، لو كنت تحب أخاك فيجمعكما الله عز وجل على الطاعة، وقد تحب أخاك وإذا به يفرق بينك وبينه، ولا تدري لم فرق بينكما؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما تحاب رجلان في الله ففرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما)، تحب أخاك في الله، ثم حصل شيء فرق بينكما، فراجع نفسك ستجد السبب معصية من وراء ذلك، والمؤمن دائماً يراجع نفسه، إذا وجد جفوة بينه وبين من يحبهم في الله عز وجل فليعلم أن السبب في قلبه، ولا بد أنه عصى الله عز وجل في شيء، فليراجع نفسه وليتب إلى الله عز وجل، فالله يرقق القلوب، ويجمع ما تنافر واختلف بسبب المعاصي.
(22/6)
حب الأنصار إيمان
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأنصار: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله).
ومعنى ذلك أن الإنسان الذي يحب الأنصار يحبه الله سبحانه وتعالى، والذي يكره الأنصار يكرهه الله، فالأنصار أهل الدار والإيمان الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فلا يعقل أن إنساناً في قلبه إيمان يكره هؤلاء الأنصار الذين قدموا وعملوا ذلك للنبي صلوات الله وسلامه عليه؟ إذاً: لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق محروم.
(22/7)
شرح حديث: (وجبت محبتي للمتحابين في)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء).
سبحان الله! هذه درجة الإنسان الذي يحب أخاه في الله سبحانه، المتحابون في جلال الله سبحانه يتحابون بخوفهم من الله، لحبهم لله تبارك وتعالى، لعملهم أنه يحاسبهم ويجازيهم يوم القيامة، ففي جلال الله سبحانه يحب بعضهم بعضاً.
هؤلاء يجعل لهم منابر من نور، ولم يقل: من خشب أو من ذهب، بل ما هو أعظم من ذلك بكثير، منابر من نور يوم القيامة.
(يغبطهم النبيون والشهداء)، يعني: هؤلاء ليسوا بنبيين، وليسوا بشهداء، ولكن كانوا متحابين في الله سبحانه تبارك وتعالى، فجعل لهم منابر من نور، فإذا بالأنبياء والشهداء يتمنون ما هم فيه، والغبطة هي تمني ما هم فيه من فضل الله سبحانه تبارك وتعالى.
معاذ بن جبل راوي هذا الحديث كان من علماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل أعلمهم بالحلال والحرام رضي الله عنه كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وكان شاباً صغيراً.
معاذ بن جبل راوي هذا الحديث يقول عنه أبو إدريس الخولاني رضي الله عنه: دخلت مسجد دمشق فإذا بفتى براق الثنايا وإذا الناس معه، يعني: أن أسنانه بيضاء لامعة، وأنه كثير التبسم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال أبو إدريس الخولاني وهو من الزهاد والعباد رضي الله عنه: وإذا الناس مع هذا الفتى، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه وصدروا عن رأيه، قال: فسألت عنه، فقيل: هذا معاذ بن جبل رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال: فلما كان من الغد هجرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، أي: بكرت لأكون جنبه وأكلمه، قال: ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه فسلمت عليه، ثم قلت له: والله إني لأحبك في الله، فقال معاذ: آلله؟ يعني: أتحلف على ذلك؟ قال: فقلت: آلله، فأخذ بحبوة ردائي فجبذني إليه فقال: أبشر! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)، حديث صحيح رواه الامام مالك في الموطأ.
وجبت محبة الله سبحانه، أي: لزمت محبة الله سبحانه، أوجب على نفسه ذلك سبحانه تبارك وتعالى، إذا كان هذا الإنسان يحب إخوانه في الله عز وجل.
(والمتجالسين في) يعني: مجموعة جلسوا يقرءون القرآن، أو جلسوا يتناصحون في الله عز وجل، أو يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أو يتدارسون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هؤلاء الذين جلسوا ولو لحظات قليلة، لذلك وجبت لهم محبة الله سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك المتزاورون في الله عز وجل، كمن ذهب يزور أخاه في الله سبحانه لا يبتغي شيئاً إلا أن يزوره في الله.
(والمتباذلين) من البذل والعطاء، يعطي ابتغاء وجه الله سبحانه تبارك وتعالى، ويؤثر على نفسه، هذا وجبت له محبة الله سبحانه تبارك وتعالى.
(22/8)
ما جاء في الإعلام بالمحبة في الله
(22/9)
شرح حديث: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)
عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه).
الإخبار بالمحبة أن تقول: إني أحبك في الله، وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لـ معاذ بن جبل رضي الله عنه: (يا معاذ والله إني لأحبك، فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).
لو كنت أحبك فلا بد من نصيحة، وهي أن تكثر من ذلك، وهو أعلم الناس بالحلال والحرام، إذاً: اطلب من ربك زيادة الفضل، وأن يعينك على كثرة الذكر والشكر وحسن العبادة.
وهذه إذا كانت لـ معاذ فنحن أولى بها، وأن كل مؤمن يقول ذلك، ويدعو ربه دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.
(22/10)
ما يقول الرجل لمن يحبه وكيف يجيبه على ذلك
عن أنس بن مالك رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود: إن رجلاً كان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فمر رجل به فقال: يا رسول الله! إني أحب هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أأعلمته؟ فقال: لا، قال: أعلمه، فلحقه فقال: إني أحبك في الله، فقال الرجل: أحبك الله الذي أحببتني له).
إذاً السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعلمه بذلك، وذلك بأن يقول: إني أحبك في الله، فدعا له أخوه، وقال: أحبك الله الذي أحببتني له.
وحب الله غاية يريد كل مؤمن أن يصل إليها، وهي غاية تدرك وليست بمستحيلة، بل هي سهلة على من يسرها الله عز وجل له.
الإنسان المؤمن يحب الله عز وجل فيطيع الله، {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، وعلامة المحبة طاعة الله سبحانه تبارك وتعالى وعلامة محبة الله عز وجل للعبد أن يوفقه للعمل الصالح فكلما فتح باب عمل صالح وجده ميسراً، هذا دليل محبة الله عز وجل للمؤمن، ومنها أن يجعل الأتقياء يحبونه، وإذا كان من حوله أهل التقوى لاشك أنه مثلهم في ذلك.
ومن محبة الله عز وجل للعبد أن يلهمه الصواب في أقواله، وأن يبعده عن اللغو والرفث والفحش، وأهل المعاصي، محبة الله للعبد تجعله يثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وعند وفاته، ويجعل معه من يؤنسه في قبره من رضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ومن تثبت في قبره ثبته الله يوم القيامة.
محبة الله شيء عظيم جداً، تحب المرء لله عز وجل، ولا تنتظر منه شيئاً، بل تكفي المحبة القلبية التي تظهر في فلتات لسان الإنسان ونظراته ومعاونته لك، ولذلك ستكون النتيجة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه)، الأحب إلى الله الأكثر محبة لصاحبه، يا ترى أنا أقرب لله أم هو أقرب لله؟ الأشد حباً لصاحبه أقرب لله عز جل.
عندها الإنسان دائماً يتذكر ذلك، وأنه إذا أحب أحب لله عز وجل، إذا أحب آثر على نفسه، إذا أحب انتظر الأجر من الله عز وجل، إذا وجد ما يفرق بينه وبين من يحبهم في الله فليراجع نفسه، فالسبب معصية تكون في قلب العبد فعلها أو وقع فيها.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، المتزاورين فيه، المتجالسين فيه، المتباذلين فيه، وأن يجعلنا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الطيبين الطاهرين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(22/11)
شرح رياض الصالحين - علامات حب الله تعالى للعبد
محبة الله غاية يسعى إليها المتقون، وفيها سعادة الدنيا والآخرة، فمن أحبه الله غفر له جميع ذنوبه، ووفقه في أعمال جوارحه، وأجاب له دعواته، ولن يصل العبد إلى هذه الغاية إلا إذا كان يحب الله أشد من محبته لنفسه وماله وأهله، وأدى الفرائض واتقى المحارم، وأكثر بعد ذلك من التقرب إلى الله بالنوافل.
(23/1)
علامات محبة الله للعبد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: علامات حب الله تعالى للعبد والحث على التخلق بها، والسعي في تحصيلها.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله علامات حب الله العبد والحث على التخلق بها.
وقد ذكرنا في الباب السابق الحب في الله سبحانه تبارك وتعالى، وكيف أن المؤمن يحب إخوانه المؤمنين في الله عز وجل، لا يبتغي من هذه المحبة إلا وجه الله سبحانه تبارك وتعالى.
ويحرص المؤمن عليها لأنه علم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه) فهو يريد أن يكون الأحب والأقرب إلى الله سبحانه، فيحب في الله سبحانه، وعلم أن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، فهو يحب المؤمنين في الله، ويبغض الكفار في الله سبحانه تبارك وتعالى.
هنا ذكر علامات حب الله تعالى للعبد، فالعبد الذي يحب الله يحبه الله، فما هي العلامات التي تفيد أن هذا الإنسان يحب الله سبحانه تبارك وتعالى؟ قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فمن العلامات اتباع النبي صلوات الله وسلامه عليه.
المؤمن يحب كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ويحرص على الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه في كل شيء، هذه المحبة هي التي نفعت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فحرصوا على الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، حتى إن ابن عمر كان يركب البعير فإذا بلغ موطناً رأى فيه بعير النبي صلى الله عليه وسلم قد التفت فيه إلى مكان فإذا به يأخذ بلجامه حتى يلتفت في المكان نفسه حباً للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ليس مأموراً بذلك، ولكن أحب أن يفعل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا علم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المكان الفلاني نزل وقضى حاجته، فكان يحب أن يصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا علم أنه نزل في مكان فصلى فيه أحب أن يصلي فيه كما فعل النبي صلوات الله وسلامه عليه.
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم دليل على أن الله يحب لهذا العبد الخير، فإذا أحب له الخير فقد أحبه الله تعالى سبحانه تبارك وتعالى.
وفي الحديث: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) فعلامات أن هذا الإنسان يحبه الله ويريد به الخير أن يتفقه في دين الله عز وجل، وأنه يتبع ولا يبتدع في دين الله سبحانه، قال الله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران:31] فإذا تبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ماذا سيحصل؟ قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، فالنتيجة محبة الله للعبد، إذا أحب الله العبد يستحيل أن يعذبه وهو يحبه سبحانه تبارك وتعالى.
كذلك قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ما هي علاماتهم قال لنا في هذه الآية: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] أربع صفات ذكرها الله عز وجل لهؤلاء الذين يحبهم الله ويحبون الله سبحانه تبارك وتعالى.
فذكر أنهم أذلة على المؤمنين، يعني: متواضعين رحماء مع إخوانهم المؤمنين، لا يستعرض قوته على أخيه المؤمن، ولا يضايق المؤمنين ويفرح بقوته، وأنه يقدر عليهم حتى وإن كان قوياً فإنه يظهر كأنه ضعيف، متواضع مع المؤمنين، يحب لهم الخير، ولا يظهر لهم قوته ولا يظهر لهم أنه أفضل منهم، قال الله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
وهنا العزة على الكافرين تعني الشدة، فيظهر المسلم قوته على الكافرين في الجهاد في سبيل الله سبحانه تبارك وتعالى، وفي تأديب هؤلاء إذا كانوا ينالون من أحد من المؤمنين، أو من دين الله سبحانه تبارك وتعالى.
إذاً: هؤلاء أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فجهادهم ليس لمصلحة دنيوية، وإنما يبتغون به وجه الله سبحانه، يبتغون بذلك إحدى الحسنيين إما النصر، وإما الشهادة.
وهم في ذلك لا يخافون لومة لائم، يأمرون بالمعروف ولا يخافون أحداً من الخلق؛ لأنهم يأمرون بأمر الله سبحانه، وينهون عن المنكر، ولا يخافون في ذلك أن يلومهم أحد، تراهم قوامين على أنفسهم، وقوامين لدين الله سبحانه تبارك وتعالى، شهداء بالحق ولو على الأنفس، أو على الوالدين، أو على الأقربين، فهم مقيمون لشرع الله سبحانه على أنفسهم، وعلى غيرهم، ولا يخافون لومة لائم، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] ذلك الذي هدى الله عز وجل عباده هؤلاء إليه من فضله العظيم سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك أهل الجنة عندما يدخلون الجنة يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] الهدى من الله سبحانه تبارك وتعالى، ليس لأحد، فضل على أحد وإنما المنة والفضل لله سبحانه تبارك وتعالى على جميع الخلق.
(23/2)
شرح حديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)
(23/3)
أفضل القربات الفرائض
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
ولي الله عبد لله سبحانه تبارك وتعالى، يحب الله ويحبه الله، فينصره الله سبحانه لأنه ينصر دين الله، وهو يتولى الله ولا يتولى أحداً إلا الله، وليس لأحد ولاية على هذا الإنسان إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
قال الله في كتابه: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] ما هي صفة هؤلاء الأولياء؟ قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] الإيمان والتقوى صفة ولي لله، يؤمن بالله عز وجل، ويتقي غضب الله، يأمر الناس بما أمر الله عز وجل به، وهو يفعله، وينهى الناس عما نهى الله عز وجل عنه، وهو ينتهي عنه.
فكل من آمن بالله عز وجل واتقى الله سبحانه، ونفذ ما أمر الله به، وابتعد عما نهى الله عز وجل عنه؛ فهو ولي لله سبحانه تبارك وتعالى، وهذه ليست صفات مستحيلة، ولكنها صفات سهلة على من يسرها الله عز وجل عليه.
قال الله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) أي: أعلمته بالحرب، فالله تعالى يحارب هذا الذي يعادي ولياً من أولياء الله سبحانه! قال: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
أفضل شيء تتقرب به إلى الله الفرائض، مثل الصلوات المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة التي فرضها الله سبحانه تبارك وتعالى، وتوحيد الله سبحانه في كل أمورك وعباداتك وتقربك، فلا يشوب ذلك الشرك بالله سبحانه تبارك وتعالى، والمتابعة للنبي صلوات الله وسلامه عليه.
فما فرضه الله عليك في كتابه أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ففعله أحب ما تتقرب به إلى الله سبحانه.
فإذا التزم العبد بالفرائض وفقه الله عز وجل للنوافل، قال هنا: (وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه).
إذا جاء بالفرائض التي يحبها الله تعالى، ولم يزل يزداد من النوافل فإنه يصل إلى أن يحبه الله سبحانه تبارك وتعالى.
والفرائض تكملها النوافل، وهي إما راتبة أو مطلقة، فالمؤمن يصلي لله عز وجل فيحافظ على الفرائض، فيصلي صلاة الفجر، وقبلها يصلي ركعتين وهما سنة الفجر القبلية، ويصلي الظهر ويصلي قبلها ركعتين وبعدها ركعتين، أو قبلها أربعاً وبعدها أربعاً، ويصلي العصر ويصلي قبلها ركعتين أو أربعاً، ويصلي المغرب ويصلي بعدها ركعتين، ويصلي العشاء ويصلي بعدها ركعتين، ويصلي إحدى عشرة ركعة يوتر بها أو ثلاث عشرة ركعة يوتر بها.
فيتقرب إلى الله بالرواتب ثم يتقرب إلى الله عز وجل بنفل مطلق، فيصلي من الليل ما شاء الله عز وجل له أن يصلي، ويصلي في النهار صلاة الضحى وغيرها، وكلما ازداد من النوافل كان أقرب إلى رب العزة سبحانه تبارك وتعالى، وأكرمه الله عز وجل بذلك.
(23/4)
الولي يسمع ويبصر ويتحرك بالله تعالى
قال: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها).
هذا الإنسان الموفق لا يكتسب شيئاً إلا الشيء الذي يحبه الله عز وجل، فهو بالله يسمع، يعني: بتقدير الله عز وجل صمت أذناه عن المنكر فلم يسمعه ولم ينتبه له، واستمع الخير ففتح الله سمعه ووعيه وقلبه، حتى: يستفيد من ذلك، ففتح له سمعه ليستمع إلى الخير، وينتفع بالخير الذي سمعه، وكم من إنسان يسمع الخير، ولا يقدر أن يعمل بما سمع، ولكن هذا الولي الذي يحبه الله فتح الله عز وجل سمعه فجعله يسمع، فبالله يسمع، وبالله يبصر، وبالله يبطش، وبالله يمشي، فإذا نظر رأى الخير، وإذا رأى المنكر غض طرفه وبصره عن ذلك، فبالله عز وجل نظر، وبقدرة الله عز وجل أبصر، وبهدى الله غض بصره عما حرم الله تبارك وتعالى، قال في الحديث: (فبي يسمع وبي يبصر) قال: (ويده التي يبطش بها).
البطش هو الإمساك باليد، فيقدره الله عز وجل على ذلك، فيمسك بسيفه ويضرب به أعداء الله، قال سبحانه: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
فهل يعقل أن الإنسان يأخذ حفنة من التراب بيديه ثم يلقيها على الكفار، فتعمى أعين هؤلاء؟ لا يقدر أي إنسان أن يفعل ذلك، ولكن إذا أراد الله شيئاً قال له كن فيكون؛ فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يأخذ قبضة من التراب أو من الحصى ويلقيها على الكفار في خروجه من بيته مهاجراً، فإذا بالله يعمي هؤلاء بهذا التراب الذي وضع على رءوسهم، ولم يقدر أحد منهم أن يزيله عن رأسه.
وفي يوم حنين يأخذ النبي عليه الصلاة والسلام حفنة من التراب ويلقيها عليهم ويقول: (شاهت الوجوه)، ويقتحم صلى الله عليه وسلم عن بغلته، وينزل إلى هؤلاء ويقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب) صلوات الله وسلامه عليه، وكان هذا في موطن يفر فيه الشجعان، فإن جيش النبي صلى الله عليه وسلم انهزموا وهم اثنا عشر ألف رجل، ولم يبق معه إلا سبعون رجلاً من آل بيته ومن كبار أصحابه صلوات الله وسلامه عليه، يواجهون عشرة آلاف من الكفار الذين امتلئوا بالحقد على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا بالسيوف وبالرماح، وهو يتقدم ويقول: (أنا النبي لا كذب) صلوات الله وسلامه عليه، ويلقي عليهم كفاً من حصى فيعميهم الله، ويفرون من النبي صلى الله عليه وسلم، فهل الحصى تجعل هؤلاء يفرون أو هو قضاء الله وقدرته وفضله سبحانه تبارك وتعالى؟ قال الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].
صحابي صغير في جسمه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو اليسر رضي الله تبارك وتعالى عنه يأسر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، والعباس رجل طويل جسيم قوي شجاع رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان مع المشركين، وقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت مسلماً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا، قد كنت في صف المشركين)، فيأسره هذا الصحابي، ويأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فيعجب العباس ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي اليسر: (قد أعانك الله عز وجل عليه بملك كريم) فما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، فيقدر الله عز وجل من يشاء من خلقه على من يشاء سبحانه وتعالى.
وقد نصر الله المؤمنين الذين كانوا ضعفاء أذلة في يوم بدر فقال: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
قال: (وكنت يده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) فلا يمشي إلا إلى معروف، يمشي في طاعة، يمشي ليعمل الخير، يمشي لعيادة مريض، يمشي لتشييع جنازة، يمشي لصلاة فريضة أو صلاة نافلة، يمشي لأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يمشي بتوفيق الله عز وجل، ويقدره الله أن يمشي إلى الخير، ويبتعد عن الشر، فالله هو الذي يقدره على أن يمشي إلى الخير، وأن يمتنع عن الشر.
(23/5)
إجابة الله تعالى دعاء أوليائه
قال: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه).
إذا سأل الولي الله وقال: يا رب أعطني كذا، فالله سبحانه وتعالى يعطيه.
وإذا آذاه مخلوق فاستعاذ بالله، أعاذه الله سبحانه؛ لأنه ولي لله تبارك وتعالى.
الإنسان المؤمن الذي يسمع هذا الحديث يحب أن يكون من أولياء الله الذين لا خوف عليهم يوم القيامة، ولا هم يحزنون، وكذلك هم في الدنيا لا يحزنون على شيء يفوتهم من الدنيا، فهم واثقون بالله سبحانه، وهم مطمئنون لرحمة الله سبحانه تبارك وتعالى، فيسألون الله فإذا أعطاهم فرحوا، وإذا منعهم فرحوا.
علموا أن في عطائه فضلاً من الله سبحانه، وفي منعه حكمة من الله، ففي كل الأحوال يسألون الله، وهم يعلمون أنه إن لم يعطهم في الدنيا ادخر لهم ثواب الدعاء يوم القيامة، وهم واثقون في الله سبحانه ولا يستعجلون، وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(23/6)
محبة أهل السماء والأرض لمن يحبه الله
في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل: إن الله تعالى يحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل فينادي في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض).
هذه من علامات حب الله عز وجل للعبد المؤمن الصالح: أنه يحبه وأنه يأمر جبريل أن يحبه، فيوضع له القبول في الأرض، فيحبه أهل الأرض الصالحون، فإذا رأوه يحبونه لكونه مؤمناً، يحبونه لصلاحه، يحبونه لأنهم لا يرون فيه رياءً ولا حباً للسمعة، ولا حباً للشهرة، ولا يرون فيه تكلفاً.
والمرائي له بغض في قلوب الناس، فإذا أبغض الله العبد جعل البغضاء له في قلوب الناس، ولذلك جاء في صحيح مسلم: (إذا أبغض الله عز وجل عبده دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء ثم توضع له البغضاء في الأرض) أينما ذهب فالناس لا يحبونه، ولا يبالون بالكلام الذي يقوله.
إذاً: من علامات بغض الله عز وجل للعبد أنه لا أحد يستريح إليه حتى ولو كلمهم بخير، ففي قلوبهم منه وحشة، وأسلوبه صعب، وهو فظ في كلامه، وفيه خشونة، وفيه استكبار وتعال على الخلق، فلا يحبه الخلق.
فمن علامات بغض الله عز وجل للعبد: أن يبغضه المؤمنون ويتقيه الناس، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (شر الناس من اتقاه الناس مخافة شره)، فإذا وصل الإنسان إلى هذه الدرجة فهو من شر خلق الله عز وجل.
لكن قد يوجد إنسان من الصالحين، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فعندما يذهب إلى أصحاب المنكر وينصحهم فهم لا يريدون أن يكلمهم؛ لأنه يقول: صلوا وصوموا، فهذا غير مذموم، المذموم من يتقيه الناس من شره، فيجاملونه مخافة شره، فهذا الإنسان من شر خلق الله عز وجل.
(23/7)
شرح حديث: (أخبروه أن الله يحبه)
من أحاديث الباب حديث عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟).
يعني: كان أميراً عليهم، فكان يصلي بهم فيقرأ بآيات ثم يختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فأنكروا عليه وقالوا: إما أن تقرأ بها وحدها وإما أن تقرأ بغيرها، لماذا تعمل هذا الشيء؟! فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك، ولكن الرجل من شدة حبه لهذه السورة كان يفعل ذلك! فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبروه أن الله تعالى يحبه).
فهذا الصحابي طغى حبه لهذه السورة على غيرها، وغيره يحب القرآن كله، وينتفع بكل ما في القرآن، ولكن هذا أحب صفة الله المذكورة في هذه السورة؛ فالله عز وجل أحبه لحبه لسورة واحدة، فكيف بمن أحب القرآن كله؟ لا شك أنه أعظم وأعظم من هذا.
هذا تأمل في سورة واحدة منها صفات للرحمن سبحانه تبارك وتعالى، وربنا سبحانه وتعالى أمرنا بتدبر القرآن فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
فإذا كان الإنسان الآن يعمل مثل هذا الصحابي فنقول: اعمل مثل النبي صلى الله عليه وسلم واتبعه فهو أولى من اتباعك لهذا الصحابي، فهذا تدبر سورة واحدة فيها صفات الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكن الله عز وجل أمرنا بتدبر القرآن كله، فتدبر القرآن كله، تدبر الفاتحة التي تقرؤها، وكيف أنك تخاطب الله سبحانه تبارك وتعالى وأنت تقرؤها كما في الحديث: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] قال الرب سبحانه: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال الله سبحانه: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] قال الله سبحانه: مجدني عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل).
إذاً: الفاتحة فيها صفات لله سبحانه تبارك وتعالى: الله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، والذي يتأمل سيجد في كل القرآن مثل ذلك، فالمؤمن عليه أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويحب كتاب الله، ويحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويرجو حب الله.
وحب الله غاية عظيمة يدركها الإنسان بفضل الله سبحانه، ولا يوجد إنسان يقول: يا رب إني أحبك وربنا يحرمه من ذلك، ربنا سبحانه تبارك وتعالى أكرم، قال لعباده العاصين: توبوا لأتوب عليكم، فإن كنت تريد حب الله سبحانه تبارك وتعالى فاعمل لذلك، والفضل من الله عز وجل يمن به على عباده.
فلذلك يتقرب المؤمن إلى الله عز وجل ويرجو حب الله ويرجو أن يكون الله سبحانه تبارك وتعالى معه في قيامه في قعوده في نومه في سجوده، في كل وقت يرجو أن يكون الله عز وجل معه، فلذلك يعمل لذلك، ومستحيل أن يتقرب العبد إلى الله ويرجو وجه الله فيبعده الله سبحانه تبارك وتعالى، الله الكريم يعطي على إحسان العبد إحساناً وزيادة على الحسنى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فاعمل لله سبحانه وارج فضل الله سبحانه الذي لا يبخل به على أحد أبداً، وفضل الله عظيم.
نسأل الله من فضله ورحمته، ونسأله حبه ومحبته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(23/8)
شرح رياض الصالحين - التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين
الإيذاء سلوك مشين ينبذه الشرع، ويمقته الطبع السليم، ولذا فقد حرمه الشرع عموماً، وشنع على من يؤذي الصالحين والضعفاء والمساكين خصوصاً، ولأن نكاية الأذى فيهم أشد كانت العقوبة أشد، كما أن الضعفاء قد يكونون محل ولاية الله، فمن عاداهم فقد استوجب العداء من الله واستوجب غضبه.
(24/1)
بيان حرمة إيذاء المسلمين عموماً والصالحين خصوصاً
(24/2)
بيان فضل الصالحين والضعفاء والمساكين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فقال المؤلف رحمه الله: [باب التحذير من إيذاء الصالحين والضعفة والمساكين.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
وقال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9 - 10].
وأما الأحاديث فكثيرة منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الباب قبل هذا: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
ومنها حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه السابق في باب ملاطفة اليتيم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لئن كنت أغضبتهم فقد أغضبت ربك).
وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)، رواه مسلم].
إن هؤلاء الصالحين والضعفاء والمساكين لهم فضيلة عند الله سبحانه وتعالى، فالصالحون أولياء الله سبحانه، والله يذكر أولياءه فيقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
فالمؤمن التقي ولي لله سبحانه، ولذلك ينبغي أن يحذر الإنسان أن يؤذي ولياً لله، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل يقول: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
والفضل لا يختص بالصالحين فحسب، بل المسكين له عند الله عز وجل منزلة، يجليها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، كما أنهم من أوائل الناس دخولاً الجنة إذا كانوا من أهل التقوى، وذلك لما في أخلاق المساكين من التواضع، والخشوع لرب العالمين سبحانه، ولذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون على مثل خلق هؤلاء، وأن يحشر معهم يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه.
كما أن للضعفة منزلة عند الله، فكم من إنسان نراه ضعيفاً، فقيراً، ذا حاجة، إلا أن له عند الله عز وجل منزلة، بل قد يكون ممن لو أقسم على الله لأبره، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
(24/3)
التحذير من إيذاء المساكين والضعفة من المؤمنين
فلذلك ينبغي على الإنسان الذي يؤذي أحداً من هؤلاء أن يخاف على نفسه، فقد ينتصر الله عز وجل لهم، وينتقم منه يوماً من الأيام، وقد يظن الإنسان أن هذا ضعيف لا ناصر له، فيتجبر عليه، ويتقوى عليه، فإذا بالله يبتليه بشيء لا يقدر على مقاومته، أو النجاة منه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58].
و (الأذى): اسم جنس يعم جميع أنواع الأذى، كأن يستضعف إنساناً فيتطاول عليه باللسان، فيسبه ويشتمه، أو يتطاول عليه باليد، كأن يأخذ ما معه وهو غير قادر على أن يدافع عن نفسه.
ففي الآية يحذرنا ربنا سبحانه ممن يؤذي المؤمنين فيقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58]، والمنافقون ديدنهم أن يؤذوا المؤمنين، فتجدهم يرمونهم بالتهم العظام، بل قد تجرأ كبيرهم على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ورماها بالفاحشة إفكاً وزوراً وكذباً، وإذا بالبعض من المسلمين يقلدون هذا المنافق، ويرددون ما افتراه، فحذرهم الله عز وجل أشد التحذير، كما حذر هؤلاء المنافقين، فيحذرهم الله عز وجل بأن لهم الإثم العظيم عند الله، وأنهم بصنيعهم قد احتملوا البهت، والبهت: أشد الكذب والافتراء، وما احتملوه من الإثم والبهتان بين وواضح وسيحاسبهم الله عز وجل عليه.
لذلك ينبغي على الإنسان المؤمن أن يكون عفيف اللسان، وإذا سمع أناساً يخوضون في أعراض أناس كفهم وزجرهم وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وإن لم يقدر على الإنكار عليهم فليعتزل هؤلاء ولا يجلس معهم؛ لأنه إن جلس معهم فقد يدخل في قول الله عز وجل: {إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140]، فليس له إذا جلس في مجلس وسمع كلاماً منكراً، إلا أن ينهى عن هذا المنكر، أو أن يترك هذا المكان ولا يجلس فيه.
(24/4)
غضب الله على من يغضب الضعفاء من المؤمنين
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الذي ذكره النووي في باب ملاطفة اليتيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بكر: (يا أبا بكر! لئن كنت قد أغضبتهم لقد أغضبت ربك).
أما الحديث الذي ذكره قبل ذلك فهو حديث عائذ بن عمرو وهو في صحيح مسلم وفي مسند الإمام أحمد، وفيه: أن سلمان وصهيباً وبلالاً كانوا قعوداً في أناس، وكانوا من فقراء المسلمين المجاهدين في سبيل الله سبحانه وتعالى، وممن يحبهم الله، فمر بهم أبو سفيان، وكأنهم لما رأوه تذكروا ما عمل فيهم أبو سفيان أيام مكة، فقالوا له: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها بعد! وكان هذا في هدنة صلح الحديبية بين السنة السادسة والثامنة من الهجرة، فلما قالوا ذلك سمعهم أبو بكر رضي الله عنه، فقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! وكأن أبا بكر الصديق يتألف أبا سفيان لعله يسلم يوماً من الأيام.
فأخبر الناس النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبت هؤلاء لقد أغضبت ربك.
فأسرع أبو بكر إليهم فقال: أي إخوتاه! لعلكم غضبتم، فقالوا: لا، يا أبا بكر! يغفر الله لك).
وتسامحوا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقالوا: (يغفر الله لك).
والظاهر أن أبا بكر ما قصد أن يؤذيهم، وإنما قصد أن يتألف أبا سفيان لعله يسلم، وقد أسلم بعد ذلك في عام الفتح.
(24/5)
التحذير من إيذاء من كان في ذمة الله
من الأحاديث التي في الباب: حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله).
أعظم صلاة في اليوم نصليها هي صلاة الصبح، وأعظم الصلوات هي التي تقام والدنيا مظلمة، وفي شدة البرد، إذ يترك الإنسان فراشه ويخرج إلى بيت الله عز وجل مصلياً، ولذلك كان الذي يصلي صلاة الصبح في ذمة الله سبحانه وتعالى، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضمنه، ولذا عندما يأتي إنسان يستلف من آخر فقد يسأله الدائن ضمنياً على أن يدفع، وإذا لم يدفع المدين دفع الضامن عنه، ولله المثل الأعلى، إذ الله يضمن من يصلي الصبح فيصبح مضموناً لله سبحانه وتعالى، فهو يكفله ويدافع عنه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء)، ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أخذ شيء من ذمة الله عز وجل، وإنما المعنى في الحديث هو: التحذير من إيذاء من صلى صلاة الصبح في جماعة مع المسلمين، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه)، أي: أنه لا يستطيع أن يفلت من الله سبحانه وتعالى، بل سيدركه، وإذا أدركه كان جزاءه أن: (يكبه على وجهه في نار جهنم)، والعياذ بالله.
وفي الحديث: بيان أن الإنسان الذي يواظب على صلاة الجماعة وخاصة صلاة الفجر فهو صالح؛ لأنه من داوم عليها يوشك ألا يغفل عن غيرها، وكأن صلاة الفجر تعد المقياس على أن هذا إنسان صالح أو ليس صالحاً، ودهي ليل على أنه لا يرائي، إذ إن المرائي قد يصلي مرة أو مرتين في المواسم ثم يترك، أما الإنسان الصالح فهو مداوم عليها في الشتاء، أو الصيف، في الحال الحسن، أو السيئ، فيرى دائماً مداوماً على الصلاة لله سبحانه وتعالى حريصاً على أدائها في بيت الله، فاستحق أن يكون في ذمة الله، فليحذر الذي يؤذي هذا الإنسان، فإن الله لن يتركه.
(24/6)
التعامل مع الناس بالظاهر والباطن إلى الله عز وجل
(24/7)
من أسلم ظاهراً عصم ماله ودمه إلا بحق الإسلام
يقول الإمام النووي: [باب في إجراء أحكام الناس على الظاهر وسرائرهم إلى الله تعالى]: الأصل فيمن قال: لا إله إلا الله أنه مسلم، وينبغي أن يتعامل معه على أنه مسلم، إذ إن الأحكام تجري على ما يظهر من الإنسان، فمن عرف عنه أداء الصلاة والصوم في نهار رمضان فهو مسلم، أما السرائر فتوكل إلى الله عز وجل، فلم يؤمر العبد أن ينقب عن سريرة أي إنسان.
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، أي: أن هؤلاء الكفار الذين يحاربون الإسلام إذا تابوا فشهدوا أن لا إله إلا الله، وعرف أنهم يصلون ويدفعون الزكاة إذا طلبت منهم، وجب أن يخلى سبيلهم ويعدوا إخواناً للمسلمين في الدين قال تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى)، الحديث متفق عليه.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، لقوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
فإذا التقى المسلمون مع المشركين كان لهم أن يدعوهم إلى إحدى ثلاث خصال: إما أن يسلموا فيكف عنهم ويقبل منهم، وإما أن يدفعوا الجزية وهم على دينهم، فيقبل منهم ويكف عنهم، وإما أن يصروا على القتال فيقاتلوا ويحاربوا؛ لأنهم إن أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة وأدوا الزكاة فقد عصموا دماهم وأموالهم، وعند ذلك لا يجوز أن يؤخذ مال مسلم بغير طيب نفس منه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إلا بحق الإسلام) أي: إلا أن يأتي شيئاً فيه القصاص، كمن أسلم ثم قتل عمداً وعدواناً، فإنه يستحق القصاص، أو قطع يد إنسان عمداً وعدواناً، فيستحق أن تقطع يده، وهكذا.
قوله: (وحسابهم على الله تعالى) أي: أنهم إذا أتوا بالأشياء الظاهرة فليس لنا عليهم شيء، وأمرهم إلى الله، وإن كان من فعل تلك الأشياء الظاهرة يبطن النفاق والكفر، فلا شأن لنا به طالما أظهر لنا الإسلام، فنعامله على ما يظهر منه، أما ما أبطنه فالله عز وجل يتولى أمره فيه.
(24/8)
من أدى الشهادتين حرم ماله ودمه وحسابه على الله
وروى مسلم من حديث طارق بن أشيم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى).
والمعنى: أن الإنسان إذا أتى بكلمة التوحيد، وكفر بما يعبد من دون الله فذلك هو مقتضى كلمة التوحيد، إذ إن معنى كلمة التوحيد: لا إله يستحق العبادة إلا الله الإله الواحد الرب سبحانه وتعالى.
وقوله: (أشهد أن محمداً رسول الله) أي: أنه يتوجه إلى ربه سبحانه وتعالى بالعبادة، وهذه العبادة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، فهو متبع للنبي صلى الله عليه وسلم ليس مبتدعاً، وليس مخترعاً من قبل نفسه.
فالإنسان المؤمن يعرف هذه الكلمة حق المعرفة، فيعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الإله، الذي يستحق العبادة، وأن عبادة الله ليست باختراع ولا ابتداع، وإنما عن طريق هدي محمد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فما جاء به من كتاب وسنة عبد الله سبحانه وتعالى عن طريقه.
قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) وهذا معنى: (لا إله)، إذ إن (لا إله) تعني: لا إله من الآلهة الباطلة يستحق العبادة، بل يكفر بكل الآلهة الباطلة؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:256]، فمن كفر بكل ما يعبد من دون الله ولم يوجه العبادة إلا إلى الله وحده لا شريك له، فقد حرم ماله ودمه، ويظل ذلك التحريم مقيداً بالقيد الأول: (إلا بحق الإسلام).
وعلى ذلك فالإنسان المسلم معصوم الدم لكونه مسلماً، إلا إذا أتى بشيء يستحق عليه أن يقتص منه في النفس، أو في الأعضاء، وكذلك هو معصوم المال، إلا إذا أتى بشيء يستحق عليه أن يدفع ثمن الجناية التي جناها، أو ثمن الإتلاف والإفساد الذي أفسده، فلو أنه أفسد مال غيره وجب عليه أن يدفع ثمن هذا الذي أفسده، وأن يصلح ما أفسده.
(24/9)
من قال لا إله إلا الله حقن دمه وإن قالها تعوذاً
جاء في حديث للمقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فاقتتلنا، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله، أأقلته يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله).
فكلمة التوحيد تعصم الإنسان وتجعل المسلم يتحرج من أن يقاتل مسلماً إلا بحق من حقوق الله سبحانه وتعالى، والمقداد بن الأسود حين يفترض هذا الفرض يريد أن يأخذ رداً على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، وتصويره هذا يوحي أنه يرغب أن يقول له النبي: لا حرج.
والصورة التي يرسمها للنبي صلى الله عليه وسلم تشعر أنه ما قال: لا إله إلا الله إلا تعوذاً من القتل، لا أنه مسلم، فكان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقتله)، لا تقتله، وإن قطع يدك، وإن قال هذه الكلمة لما رأى السيف نازلاً على رقبته.
فقال المقداد: (قلت يا رسول الله! قطع إحدى يدي، ثم قال ذلك بعدما قطعها! فقال: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال).
ومعنى قوله: (أنت بمنزلته وهو بمنزلتك) أن الرجل كان كافراً قبل أن يقول كلمة التوحيد، فمنزلته أن دمه هدر، فلما قال: لا إله إلا الله صار بمنزلتك أنت، أي: صار مسلماً معصوم الدم، فأنت مسلم معصوم الدم، وسفك دمك حرام على هذا الإنسان وإن قاتلك وهو كافر، إلا أنه بعد أن أسلم صار مثلك، والإسلام يجب ما قبله، فلا يجوز لك أن تقتله وقد قال هذه الكلمة، فإن قتلته صرت بمنزلته قبل أن يقولها.
وليست منزلته أن تكون كافراً ولكن المنزلة أن دمه مهدر؛ لأنه كان كافراً غير معصوم الدم، وأنت الآن قتلت نفساً مؤمنة متعمداً، فصار دمك هدراً، وتقتل به؛ لأنك تعمدت قتله بعدما قال: لا إله إلا الله.
ففهم من الحديث أن هذه الكلمة العظيمة: (لا إله إلا الله) تعصم دم الإنسان، وأن الإنسان لا يجوز له أن يستهين بـ (لا إله إلا الله)، ولا بالإنسان الذي يقولها، كأن يضربه بالسيف فيقتله، والله تبارك وتعالى يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
(24/10)
من أظهر الإسلام فقد حرم قتله
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة- والحرقة اسم مكان في قبيلة جهينة- فصبحنا القوم على مياههم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله، فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته) أي: أن أسامة قتل هذا الرجل.
وتوضح هذه رواية أخرى في صحيح مسلم من حديث جندب بن عبد الله: أن أسامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (كان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله)، أي: أنه كان رجلاً جباراً، ما كان يجد واحداً من المسلمين إلا قتله، فترصد أسامة ورجل من الأنصار لهذا الرجل، فقصدا غفلة الرجل، فلما وصلا إليه أخذ يقول: لا إله إلا الله، على أنه ما قال ذلك إلا بعدما قتل مجموعة من المسلمين، فقتله أسامة وخاف الأنصاري، ولما جاء البشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر أخبره بما صنع أسامة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لم قتلته؟ فقال: يا رسول الله! أوجع في المسلمين، وقتل فلاناً وفلاناً وسمى له نفراً، وإني حملت عليه، فلما رأى السيف قال: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله! فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟).
وفي رواية أسامة قال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم).
والمعنى: أنه تمنى أن إسلامه كان بعد هذه القصة؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، وعدم استغفار النبي صلى الله عليه وسلم له نوع من التأنيب له، وتخويف لغيره من المسلمين، وإن كان أسامة هو حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه صلى الله عليه وسلم أبى أن يستغفر له، وظل يردد: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: (فقلت: يا رسول الله! استغفر لي، فجعل لا يزيد على ذلك، يقول: كيف تصنع بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة؟).
وجملة هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تدل على أن الإنسان المؤمن يجب أن يحذر من أن يسفك دم إنسان مسلم يقول: لا إله إلا الله، فتأتي هذه الكلمة يوم القيامة وصاحبها يقول لله عز وجل: سل هذا فيم قتلني، فقد كنت مسلماً أقول: لا إله إلا الله فقتلني هذا؟ وقد يخرج الإنسان بعذر في الدنيا ويقبل منه؛ لكنه عند الله لا يساوي شيئاً، فإن كان ما ارتكبته بسبب الغضب فإن الجبار يغضب عليك يوم القيامة ويدخلك نار جهنم والعياذ بالله، وإنما يحق الله عز وجل الحق يوم القيامة، ويأخذ للمظلوم من ظالمه.
(24/11)
التعامل مع الناس بما ظهر منهم
عن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع).
والمعنى: أن ناساً من المنافقين كانوا معروفين بالنفاق، فكان الله ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وحياً فيخبره بأن فلاناً منافق، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بوحي من الله عز وجل، أما الآن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فقد سن لنا عمر رضي الله عنه قاعدة عظيمة، يقول لنا سيدنا عمر رضي الله عنه: (إنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم): أي: أن العمل دليل على أن هذا الإنسان صالح، أو أن هذا الإنسان مفسد.
ثم يقول: (فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء): أي: أننا لا نحاسب إنساناً على نيته وسريرته، فالذي يحاسب على النية هو الله عز وجل، وإنما يحاسب المسلمون الناس على ما يبدونه وما يظهرونه.
ثم قال عمر رضي الله عنه: (وليس لنا من سريرته شيء، فالله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة): فالإنسان يعامل بما أظهر، فإن أظهر قبيحاً سيئاً حوسب على ذلك وإن ادعى إن سريرته حسنة، كأن يكون ظاهر هذا الإنسان أنه تارك للصلاة، تارك للصوم، تارك لأمر الله سبحانه وتعالى، مجالس لأهل النفاق والمعصية، فيحاسب على ظاهره، ويعامل على ظاهره.
وكذلك إذا كان إنساناً صالحاً فإنه يعامل على ظاهره، وليس لنا من باطنه شيء، فباطنه وسريرته إلى الله عز وجل.
(24/12)
شرح رياض الصالحين - الخوف من الله
المؤمن يعيش في الدنيا بين الخوف من الله ورجاء رحمته، فيخاف من الله خوفاً يدفعه إلى العمل، ولا يدفعه إلى اليأس والقنوط، فهذا الخوف يجعل الإنسان يستقيم على الصراط المستقيم، وقد وردت آيات وأحاديث تثمر في القلب الخوف من الله والخشية والرهبة منه سبحانه.
(25/1)
أهمية الخوف من الله
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الخوف: قال الله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
وقال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12].
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود:102 - 106].
وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين للإمام النووي رحمة الله عليه، يذكر فيه الخوف من الله سبحانه وتعالى.
والإنسان يعيش في هذه الدنيا ويعلم أنه ميت، والمؤمن مستيقن بأمر الموت وأمر الرجوع إلى الله سبحانه، وأمر الحساب، والكفار يقولون: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]، يتخرصون ويكذبون، فعندهم ظنون وأوهام يظنونها حقائق، فإذا جاء الموت تبين لهؤلاء صدق ما قاله النبي صلوات الله وسلامه عليه، وانزاحت عنهم الأحلام، ورأوا أمامهم هذا العذاب الذي ذكر الله سبحانه، نسأل الله عز وجل العفو والعافية.
المؤمن يعيش في الدنيا بين الخوف والرجاء، يخاف من الله سبحانه وتعالى خوفاً يدفعه إلى العمل لا يدفعه إلى اليأس، ولكن يدفع إلى العمل فيمنعه من الوقوع في الحرام، ويمنعه من مجاوزة حده، ويمنعه من أن يظلم نفسه أو يظلم غيره، يمنع الإنسان من الوقوع فيما حرم الله عز وجل من الخطايا من الشهوات من الشبهات والشكوك وغير ذلك.
فهذا خوف يجعل الإنسان يستقيم على الصراط المستقيم، والرجاء يجعل العبد يطمع في رحمة رب العالمين، يرجو ربه فلا ييئس من رحمته، فالخوف والرجاء يسير المؤمن بينهما، فيخاف خوفاً لا يدفع إلى اليأس ولكن يمنع من الخطايا ومن الذنوب، ويرجو رجاء لا يدفع إلى أن يعمل المعاصي ويقول: ربنا سيغفر لي، ولكنه يرجو رحمة ربه مع خوفه من الله سبحانه وتعالى.
فكم من إنسان يعيش على طمع الرجاء والأمل في ذلك فإذا به يترك العمل بالكلية، ويقع في كبائر الذنوب، وقد يموت على الكفر والعياذ بالله، فالمؤمن لا يظل في الرجاء ويقع في المعاصي دائماً ويقول: أنا أرجو، ولا يكون في الخوف الذي ييئسه من رحمة رب العالمين، ولكن يكون بين الاثنين.
(25/2)
ما جاء من التخويف في القرآن
(25/3)
أمر الله تعالى عباده بأن يخافوه
في هذا الباب يذكر الإمام النووي رحمه الله بعض ما جاء في القرآن من تخويف الله سبحانه تبارك وتعالى عباده من الذنوب ومن المعاصي، وذكر قدرة الله سبحانه وتعالى على العباد، فذكر فيه قوله سبحانه: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] يعني: خافوني خوف رهبة من الله.
والمؤمنون وصفهم الله بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، هؤلاء المؤمنون إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وتقشعر جلودهم وتلين قلوبهم لذكر الله سبحانه.
فيخاف المؤمن من الله عز وجل، والعبد عبد للملك سبحانه فلا ينبغي للعبد أن يأمن بطش الله ولا يأمن مكر الله سبحانه، وربنا لم يؤمنك، فقد قال في القرآن: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، فلذلك المؤمن يخاف ويرجو رحمة الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
وقال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، البطش: الإمساك والمعاقبة لهذا الإنسان، فإذا أمسك الله عز وجل بهذا العبد وعجز عن الحركة وأدخله نار جهنم وحبسه فيها، فقد بطش به ربنا سبحانه وانتقم منه، فهل يملك لنفسه شيئاً؟ هل يقدر أن يفر من الله سبحانه ومن عقوبته سبحانه وعذابه؟ قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:12 - 14]، لم ييئسه من مغفرته ومن رحمته سبحانه وتعالى، فهو الغفور الودود، بطشه شديد وهو الغفور الودود سبحانه.
(25/4)
ذكر قصة نوح لتخويف العباد
قال الله: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، كهذا الذي ذكره لنا في القرآن في سورة هود يذكر لنا ربنا سبحانه كيف أنه أرسل نوحاً إلى قومه ودعاهم إلى الله عز وجل، فلما كذبوه أغرقهم، فأمر الله عز وجل السماء أن تفتح أبوابها، وأمر الأرض أن تخرج ماءها، فالتقى ماء السماء بماء الأرض وأغرق الله عز وجل من عليها، ونجى نوحاً ومن معه، وقد دعا نوح قومه إلى عبادة الله فأبوا واستكبروا، وصبر عليهم ربهم وهو القادر عليهم سبحانه، وهو القاهر فوق عباده! ودعاهم نبيهم نوح إلى ربه عليه الصلاة والسلام، وليس هيناً على ربه، وليس مبعوثاً للناس استقلالاً بأمره، ولكن الله عز وجل كرمه وشرفه وفضله وجعله يصبر على هؤلاء حتى يئس من إيمانهم {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:5 - 7].
فشهد عليهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه أنهم لا إيمان في قلوبهم ولم تنفع معهم هذه الدعوة إلى الله، وهي ألف سنة إلا خمسين عاماً، فكانوا يصرون على الكفر وعلى التكذيب وعلى البعد عن رب العالمين سبحانه، قال الله عز وجل: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
دعاهم نوح وهم لا يستجيبون، وتركهم الله هذه المدة الطويلة حتى أخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر، فأملى لهم وتركهم حتى مات الأجداد والآباء والأحفاد، وكل يوصي من بعده بالبعد عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛ فلذلك لما جاء العذاب من عند رب العالمين كان عذاباً شديداً، فأغرق هؤلاء جميعاً {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40]، ونجا نوح والمؤمنون معه ثم انتهى أمر إهلاك هؤلاء الظالمين.
وقد قال نوح عليه الصلاة والسلام لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:42 - 43]، وكان لا يوجد وقت للمناقشة، فجاء عذاب رب العالمين وحال بينهما الموج فكان من المغرقين، جاءت الموجة فرمته بعيداً عن أبيه من أجل ألا يترحم عليه ولا يصعب عليه أن يرى ابنه بعيداً قد أهلكه الله سبحانه وتعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43].
لما تذكر نوح ابنه سأل ربه وقال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45]، أنت وعدتني أن تنجيني وأهلي، قال: إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح، احذر -يا نوح- فلا تسألني ما ليس لك به علم، ويرجع نوح عما قال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47]، ونجا نوح وحاق العذاب بالقوم الكافرين.
(25/5)
تخويف الله لعباده بما وقع لعاد قوم هود
وكذلك عاد قوم هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، كان يدعوهم إلى ربهم سبحانه وقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:128 - 130]، فالله يرينا جرم هؤلاء، وكيف أنهم قساة القلوب، وكانوا يبطشون بالناس، وقد قال الله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، فالإنسان عندما يبطش يتكبر، فاحذر من غضب الله إذا بطش بهذا الإنسان، فيتركه الله وهو أعلم من الظالم ومن المظلوم، يترك الظالم حتى يظهر ظلمه جلياً أمام الخلق جميعهم، وحتى يضج الناس من ظلم هؤلاء السفهاء.
قال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128]، أي: تجعلون في كل أرض وفي كل بلد علامة من العلامات وبناء عالياً لا تحتاجون إليه، بل للعبث واللهو والتفاخر فيما بينكم! {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129]، أي: تتخذون قصوراً أو مشارب للماء تتوهمون أنكم تخلدون في هذه الأشياء.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء:130 - 131]، فأبوا وقالوا لهذا النبي الكريم {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} [الشعراء:136 - 137]، وجاء عذاب الله عز وجل بهؤلاء فأهلكهم سبحانه تبارك وتعالى فجعلهم {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر:20].
{إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، هذا بطش الله سبحانه تبارك وتعالى، استهواهم الشيطان فجعلهم عباداً له من دون الله سبحانه، فجاءهم من عند ربهم العذاب والإهلاك، كان الواحد منهم تأتي الريح فتقلعه من الأرض وترفعه إلى السماء ثم تسقطه على رأسه فيقع وينشدخ رأسه ويبين من جسده فصاروا كأعجاز النخل الخاوية، فكيف كان عذاب الله ونذر الله سبحانه وتعالى؟ {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:16].
هذا انتقام رب العالمين سبحانه أرانا ذلك، وفي آخر الآيات قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ} [هود:102]، كهذا الأخذ العظيم الذي رأيتم نأخذ كل من طغى وبغى، وكل من استكبر عن عبادة الله سبحانه وتعالى وعصى ربه.
{أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]، أي: في حال ظلمها {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، أخذ مؤلم موجع شديد الألم.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود:103]، إذا رأيتم هذا العذاب في الدنيا فكيف يكون عذاب الآخرة؟ {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود:103]، ولماذا يؤخره ربنا سبحانه تبارك وتعالى؟ قال: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود:104]، فلا تستعجلوا، فيوم يأتي هذا الأجل {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود:105].
لا ينطق إنسان إلا بإذن رب العالمين سبحانه، فمن الناس شقي وسعيد، {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107].
وأما أهل السعادة ففي جنة الله عز وجل، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل السعادة، فذكر الله الأشقياء وذكر السعداء، والغرض بيان كيف أخذ الله سبحانه وتعالى المجرمين حين أخذهم، وكيف يحشرون ويكون أمرهم يوم القيامة.
قال سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28].
احذروا من غضب الله سبحانه، فإن الله يحذركم، وقد أعذر من أنذر، قد أنذر الله عز وجل وخوف من عذابه وعقوبته، فالإنسان الذي يجرم في الدنيا فيوم القيامة لا يلوم إلا نفسه.
وقال سبحانه عن يوم القيامة: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]، والآيات كثيرة في هذا الوعد.
(25/6)
قد يعمل المرء بعمل أهل الجنة ثم يختم له بسوء
من الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى حديث في الصحيحين عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق.
أي: الصادق الذي لا يكذب، والمصدوق الذي يصدقه ربه سبحانه وتعالى، ويصدقه سبحانه فيما ينزل عليه من آيات ومن وحي لسنته صلوات الله وسلامه عليه، فهو مصدوق من ربه سبحانه وتعالى لا يكذبه، ولا يخلف وعداً قاله للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو صادق فيما يقول صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً هو صادق في نفسه صلى الله عليه وسلم لا يكذب، مصدوق من الله سبحانه وتعالى، ومصدق من المؤمنين الذين يصدقون النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات).
ذكر هنا مراحل تكوين الجنين في بطن الأم حتى تنفخ فيه الروح، قال صلى الله عليه وسلم: (يرسل الله الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات)، وهو في بطن أمه يؤمر الملك بكتابة أربعة أشياء، قال: (بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) يعني: هل هو شقي أو سعيد؟ فيكتب الرزق، ويكتب الأجل، ويكتب العمل، ويكتب هل هو شقي أو سعيد، فقد قضى وعلم الله سبحانه تبارك وتعالى بذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، المعنى: لا تغتروا.
(إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة)، فلا يغتر الإنسان بنفسه، ويجد نفسه أفضل من الناس، ويحتقر غيره، وينظر لغيره بعين التعالي، فأنت لا تعرف بم يختم لك؟ فقد يعمل فيما يبدو للناس بعمل أهل الجنة، ولكن الله يعلم أن هذا لا يستحق إلا النار، قال صلى الله عليه وسلم: (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، الأمر أمر القضاء والقدر الذي أمرنا الله أن نؤمن به ولا نتفكر في أمره، ولا نسأل لماذا هذا في الجنة وهذا في النار؟ الله عز وجل له الحكمة وله الحجة البالغة، ولم يطلعنا على ذلك، إلا أنه أخبر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، فخلق الله العبد من ساعة ما خلقه وهو مكتوب عند الله ومعلوم عنده أنه من أهل الجنة، والآخر مكتوب ومعلوم عند الله أنه من أهل النار.
إذاً الإنسان يمشي في الدنيا، ولا يضيع الوقت في التفكير هل أنا من أهل الجنة أو من أهل النار؟ ليس مطلوباً منك التفكر في هذا الشيء، المطلوب منك العمل.
ولذلك الصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) يعني: لا تضيعوا الوقت في الكلام، والتفكير في ذلك، فليس مطلوباً منك أن تعرف الغيب أو تطلع على أنك في الجنة أو في النار، ولكن مطلوب منك العمل، اعمل فهل هناك أحد منعك من العمل؟! عندما تحب أن تقوم بعمل فيه خير لا أحد يمنعك منه، فاعمل الخير، وعندما تعمل الشر لا أحد يمنعك منه، وكسبك أنت مسئول عنه يوم القيامة، فأنت تكسب باختيارك وبإرادتك، وإن كنت لن تخرج عن قضاء الله سبحانه، ويوم القيامة سيقول الله سبحانه وتعالى: ادخلوا النار جزاء بما كنتم تعملون، ولا يقول: ادخلوا النار بقضائي وقدري، فلابد من الحساب، أنت عملت كذا يوم كذا، وتحاسب عليه بكذا، وعملت كذا يوم كذا وتحاسب عليه بكذا.
إذاً: الإنسان سيحاسب على عمله يوم القيامة، والمطلوب من العبد أن يؤمن بالقدر، وألا يدخل بعقله في أمور الغيب، ففي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
قال صلى الله عليه وسلم: (وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها): يعلمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا نحتقر أحداً من خلق الله عز وجل، فادع صاحب المعصية فلعله يكون من أهل السعادة، فيكون لك الفضل أن دعوته، فيكون ذلك يوم القيامة خيراً لك من حمر النعم، وخيراً لك مما طلعت عليه الشمس؛ أن هداه على يديك وليس على يد غيرك.
فالمؤمن إذا نظر بهذه النظرة الواسعة إلى هذا الإنسان المؤمن أحبه؛ لأنه صالح، وهذا الإنسان العاصي دعاه لعله يكون من السعداء، ولعله ينجو يوم القيامة ويكون هو السبب في ذلك، ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس.
والمؤمن إذا هدى الله عز وجل على يده إنساناً يكون له أجر عمل هذا الإنسان من غير أن ينقص من عمله شيء، فعلى المؤمن أن يكون ذكياً كيساً فطناً، فعندما يجد إنساناً عاصياً يدعوه إلى الله بالحكمة، ولا ينفره فيجعله يزداد عتواً وعناداً، فندعوه لعل الله يتوب عليه.
وكم من إنسان هداه الله عز وجل على يد إنسان بكلمة طيبة، فإذا بهذا الذي هداه الله على يديه عمله قليل، وهذا الذي هدي عمله كثير، يحفظ القرآن ويتعلم السنة ويصير عالماً من العلماء، ويكون الفضل للإنسان الذي دعاه إلى ربه سبحانه بكلمة أو بموعظة حسنة، ففي الحديث: (من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
(25/7)
التخويف بنار جهنم وعذابها
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها): فالملائكة كثيرون جداً، سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك، وملائكة رب العالمين قوتهم عظيمة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} [النجم:53].
وقد علمنا أن ملكاً من ملائكة الله عز وجل أخذ قرى قوم لوط ورفعها إلى السماء وقلبها وأتبعهم بحجارة من نار جهنم، فهذا ملك واحد يفعل ذلك، فهؤلاء سبعون ألف ملك على كل زمام، وفيها سبعون ألف زمام، فيكون عدد الملائكة الذين يجرون جهنم أربعة مليون وتسعمائة ألف، فهم ملايين من ملائكة الله عز وجل يجرون نار جهنم فقط، وداخلها ملائكة وكلوا بأهل النار، فكم عدد أهل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! فالله ربنا يخوفنا بذلك، وهذا الخوف يدفع الإنسان لطلب رحمة رب العالمين، ويطلب من الله ألا يجعله مع أهل النار.
في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً).
هذا عذاب أهون أهل النار، فيا ترى هل في الدنيا أحد يقدر أن يأتي بجمرة يضعها تحت رجله ويدوس عليها بأخمص القدم؟ والأخمص هو وسط القدم، فالعقب آخر القدم، وأطراف الأصابع في البداية، وبين الاثنين البقعة المجوفة المقعرة تسمى أخمص القدم.
(25/8)
شرح رياض الصالحين - الخوف والرجاء
الخوف من الله عز وجل من صفات المؤمنين الصادقين، وهو يدفع المؤمن إلى عمل الطاعات والابتعاد عن المعاصي والسيئات، وقد دلت الآيات الكثيرة والأحاديث النبوية على أهمية الخوف من الله وفضلة.
أما الرجاء فهو مقابل الخوف، والمؤمن لا ييئس من رحمة الله تعالى، ومهما ارتكب المعاصي والسيئات ثم تاب إلى الله تعالى فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه، وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك.
(26/1)
أدلة الخوف من الكتاب والسنة
(26/2)
معنى قوله الله: (إن زلزلة الساعة شيء عظيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الخوف.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:1 - 2]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] الآيات.
وقال تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:25 - 28].
وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل: عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه)، رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ، فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
فهذا آيات في كتاب الله عز وجل، وأحاديث من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تبين الخوف من الله سبحانه وتعالى، والخوف من عمل السوء، ومن عذاب الله عز وجل، ومن القبر وما فيه، ومن الموقف ومن الحساب يوم القيامة يوم الحشر إلى الله سبحانه وتعالى.
إن المؤمن كلما تفكر في هذه الأشياء خاف من الله سبحانه وتعالى أن يكون غير راض عنه؛ لأن الله عز وجل إذا رضي عن العبد أمنه يوم القيامة، وإذا سخط عليه خوفه، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1].
والنفخ في الصور وموت جميع الخلق فيها هول عظيم جداً.
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2]، والأصل: كل مرضع، وهو وصف تختص به المرأة التي ترضع، ولا يوجد في الرجال من يرضع حتى يقال: مرضع ومرضعة، ولكن العلماء قالوا هنا: إنه وإن كان يقال بأن المرأة مرضع، ولكن قد يؤتى بتاء التأنيث لبيان أنها في الوقت الذي تلقم الصبي ثديها، ففي هذه تسمى: مرضعة، والمرأة وقت الإرضاع تكون أشد حناناً على الصبي، فتضمه إلى حضنها، وتقبله وتلقمه ثدييها، فمن هول الموقف يوم القيامة لو أن هذه المرضع معها طفلها فإنها تذهل عنه وتلقيه، وتقول: نفسي نفسي، فكيف يكون الأمر عند غيرها؟ قال الله سبحانه: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج:2].
والمرأة الحامل إذا فزعت أسقطت حملها، ومن الشدة والفزع في يوم القيامة تلقى الحامل حملها وتسقطه.
قال الله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2] أي: يخرجون من القبور كهيئة السكارى، وهولاء هم الفجار، وأما المؤمنون فهم خائفون وجلون في هذا اليوم العظيم، نسأل الله عز وجل العفو والعافية، وأن يثبتنا فيه، وألا يجعلنا كهؤلاء السكارى قال الله سبحانه: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
(26/3)
شرح حديث: (أطت السماء وحق لها أن تئط)
وذكر الإمام النووي رحمه الله أحاديث في الخوف من الله، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى).
لو أن الناس يعلمون ما يعلم النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوا ذلك، ولكن الله سبحانه لم يجعلهم كالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يسمع ما لا نسمع، ويرى ما لا نرى، ويعلم بالوحي ما هو غائب عنا.
فلو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ما غاب عنه من صور الملائكة، وخشوعهم بين يدي الله سبحانه وتعالى، وما ينتظر في الجحيم من عذاب، كان الإنسان لا يستقر في مكانه.
والإنسان الخائف لا يستقر به المكان، ولا يقدر على النوم والقعود فهو يدخل ويخرج من شدة الخوف والفزع، فكذلك لو أن الإنسان انكشف عنه الغطاء ورأى ذلك.
ولو رأى ما في النار من عذاب وما في الجنة من نعيم، لخاف أن يحرم الجنة وأن يدخل النار، قال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون).
والصعدات بمعنى الطرقات فهذا الإنسان الذي يخاف من الله عز وجل لا يستقر في مكان لو أنه حقق الخوف.
(26/4)
شرح حديث: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)
وهذا الحديث رواه الترمذي من حديث أبي ذر.
وحديث أبي برزة قد رواه الترمذي أيضاً، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه)، ففي يوم القيامة تزول الأقدام من الموقف وبعد ذلك إما الجنة وإما النار.
ويسأل العبد يوم القيامة عن عمره ماذا عمل فيه؟ والسؤال ليس عن سنة واحدة، أو شهر واحد أو أسبوع أو ساعة أو دقيقة، إنما هو عن العمر بكامله، فالعمر الذي يعيشه الإنسان يعيشه كأنه نوم أحلام، ولا ينتبه إلا عندما تأتيه الوفاة، وهو ولم يعبد الله تبارك وتعالى، فيقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] فلا رجوع مرة أخرى إلى الدنيا.
فهنا يسأل عن هذا العمر بكامله: كم عبدت الله سبحانه؟ وكم عصيت الله سبحانه؟ وهذا العمر أفنيته في ماذا؟ (وعن علمه ماذا عمل به)، أي: ما هو الذي تعلمته من العلوم النافعة أو العلوم الضارة؟ هل شغلت نفسك بسفاهات وتفاهات الأمور، شغلت نفسك بما ينفعك في الدنيا وفي الآخرة؟ وهل عملت بما علمت؟ أم تركت هذا العلم وراءك؟ وهل تعلمت الكتاب والسنة وأحكام الفقه وعرفت أوامر الله سبحانه؟ وكيف صنعت في هذا الذي تعلمته؟ وتعلمت العلوم الدنيوية النافعة فهل انتفعت بها، ونفعت بها غيرك؟ أم أنك حجرتها على نفسك ولم تنفع بها أحداً من الخلق؟ فكل علم تعلمه الإنسان مسئول عنه يوم القيامة.
والإنسان الذي يتعلم شيئاً تافهاً ليضيع الوقت فيه ويسد به فراغه، حتى يضيع فيه الصلاة، فإنه سيسأل عن هذا الوقت بكماله يوم القيامة؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)، والمال فيه آلام، فيسأل العبد عن ماله، هل هو من حلال أو من حرام؟ هل أنفقه هل في حل أم في حرمة؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (وعن جسمه فيم أبلاه)، أي: يسأل عن قوته وشبابه وقدرته فيم أبلاهن؟ هل في طاعة الله عز وجل وعبادته في الصلاة والصوم؟ هل أخرج عرقه في طاعة الله سبحانه؟ أم أنه ضيع ذلك في المعاصي، وأتلف بدنه فيما يسمه ويفسده ويتلفه ويهلكه؟
(26/5)
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية: ({يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذه أخبارها).
وهذا الحديث رواه الترمذي وفي إسناده ضعف.
ولا شك أن الأرض ستشهد للإنسان أو تشهد عليه يوم القيامة، وقال قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29]، فالسماء موضع صعود العمل وموضع هذا العمل فوق الأرض، فالموضع الذي تصلي عليه يعرفك ويشهد لك عند الله سبحانه وتعالى.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، أي: تخبر هذه الأرض بما جرى فوقها.
و {أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، مفعول به، فتحدث الأرض عما عمل فوقها من فساد وغيره.
(26/6)
شرح حديث: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن)
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ).
هذا الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول: (كيف أنعم)، أي: كيف يتنعم بهذه الدنيا ويفرح ويسر فيها؟ وكيف يطيب العيش فوقها وقد اقتربت الساعة؟ قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]، وقال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1].
فالنبي صلى الله عليه وسلم حينما قرأ سورة هود وأمثالها مما فيه ذكر الآخرة، وذكر سؤال الله له سبحانه، وذكر الأشقياء والسعداء، قال: (شيبتني هود وأخواتها)، أي: يقرأ هذه السور فيشيب من ذكر ما فيها من الوعيد ومن التهديد ومن عذاب يوم القيامة.
يقول هنا: (كيف أنعم وصاحب القرن)، وهو إسرافيل عليه الصلاة والسلام.
(قد أخذ الصور) وهو البوق الذي سينفخ فيه فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فيحيي الله عز وجل الخلق مرة ثانية.
والمعنى: كيف أنعم وهذا الملك قد أخذ البوق ووضعه على فيه ينظر إلى عرش الرحمن متى يأتيه الأمر فينفخ في الصور؟ فخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك في حياته عليه الصلاة والسلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واستمع الإذن)، يعني: استمع وأصغى سمعه لإذن الله متى يؤذن له أن ينفخ فينفخ.
فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، فهذا هو الأمر الذي أمرنا الله عز وجل به، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم به، قال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129].
فهذه كلمة عظيمة فيها التوكل على الله، وفيها الاكتفاء بالله سبحانه وتعالى، والركون إليه وحده لا شريك له، فهو حسبنا ونعم الوكيل، أي: كافينا الله، من هموم الدنيا والآخرة.
(26/7)
شرح حديث: (من خاف أدلج)
ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم حديث آخر رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وهو حديث صحيح.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، من أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).
والإنسان المسافر الذي يريد أن يصل إلى محل إقامته في أسرع وقت، فإنه يحتاط لنفسه في السفر فيأخذ حذره، ويجهز المال ساعة السفر، ويسافر في الليل والأرض تطوى للركاب بالليل، فقال لنا هنا: (من خاف أدلج).
والذي يخاف من الأعداء أن يأتوا إليه، فإنه يهرب من المكان الذي هو فيه، والذي يخاف على أمر من الأمور أن يفوته، يسافر إليه بالليل ولا ينتظر طلوع الصباح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن أدلج بلغ المنزل)، والإنسان الذي يخاف من الأعداء فعليه أن يهرب بالليل، أو إنسان وراءه عمل بالنهار في البلد الفلاني فلا ينتظر ثم يروح إليهم، لكن من الليل يجري ويسرع ليكون عند أول النهار في هذا المكان، فهذا يبلغ المنزل إذا خرج ليلاً.
قال: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله غالية)، والمعنى: احذر أن تفوتك سلعة الله سبحانه وتعالى.
والسلع التي في السوق بكمية قليلة ونافذة، فإن المشتري بمجرد ما يفتح صاحب السوق يشتريها حتى لا تضيع عليه، فكيف بسلعة الله سبحانه تبارك وتعالى؟! والجنة السلعة العظيمة التي ليست هي قليلة، ولكن الذي ينالها هم القليلون، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون يدخلون في النار، وواحد هو الذي ينال هذه السلعة فيدخل الجنة.
فكأن المعنى هنا: من خاف أسرع في طاعة الله عز وجل ولم يسوف في طاعة الله وعبادته، فلا يقول: بكرة سأصلي، وسألتزم بصلاة الجماعة، وسنعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن فليعجل وليسرع إلى ذلك فلا يدري هل الغد سيأتي عليه أم لا؟ فلعله يموت قبله، أو تأتي عليه مشاغل الدنيا.
والإنسان قد يكون فارغاً ويقول: أريد أن أتعلم وأن أطيع ربنا ويريد، ويريد، وبعد ذلك يسوف ليومه الثاني، وبعد ذلك ينشغل بأمر الدنيا من الزوجة والعيال فيعمل بالصبح وبالليل ولا يفعل شيئاً من ذلك.
لكن الإنسان الذي يخاف أن تضيع منه الجنة، يخاف أن تضيع منه فرصته في العمر، والفرصة الوحيدة هو العمر، فهو مرة واحدة يعيشه الإنسان وبعد ذلك إما جنة وإما نار.
فلذلك هذا العمر سلعة غالية غير قابل للتسويف وللتحويل وللانتظار للغد، فانتهز اليوم قبل الغد فلعل الغد لا يأتيك.
(26/8)
شرح حديث: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً، قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض).
يحشر الناس يوم القيامة على هيئتهم وخلقتهم أي: على نفس الخلقة كما ولدتهم أماتهم، عراة ليس على أجسامهم شيء، غرلاً غير مختونين.
والرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض، فلا يشتهي الرجال والنساء، ولا النساء الرجال، فالكل في فزع وفي خوف، وكل واحد يقول: نفسي نفسي، قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أهم من أن ينظر بعضهم إلى بعض).
والخوف الذي يدفع الإنسان للعمل ويمنعه من المعاصي، هذا خوف نافع للإنسان.
أما خوف الرعب كمن يخاف من الموت ولم يستعد له، فهذا ليس خوفاً من الله، فالخوف المطلوب منه شرعاً: هو الخوف الذي يدفع الخائف لأن يعمل لما بعد الموت، فيلقى الله سبحانه وتعالى وقد عمل عملاً صالحاً.
فالخائف من المعاصي يبتعد عن المعاصي والخائف من أن يُحرم من دخول الجنة، يعمل لهذه الجنة فيصلي ويصوم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويأتي بما أمر الله عز وجل أن يأتي به.
والخوف إذا زاد عن حده ففيه خطر على الإنسان، والكثير من الناس المغلفين والحمقى يائسون من رحمة الله تعالى ومن دخول الجنة، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون الخاسرون.
(26/9)
أدلة الرجاء من الكتاب والسنة
(26/10)
شرح قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إنه هو الغفور الرحيم)
فإذا يئس العبد من رحمة رب العالمين سبحانه، قد يقع في الكفر، فرحمة رب العالمين واسعة، والله يخوفنا من أجل أن نعمل صالحاً، لا من أجل أن نترك العمل.
ولذلك فالمؤمن عندما يذكر الناس الخوف يذكرهم بالرجاء، من أجل أن يجمع الإنسان بين الخوف والرجاء، فيغلب الخوف على الرجاء في الدنيا، فإذا كان عند الموت يغلب جانب الرجاء وينتظر رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
والرجاء جاء في القرآن في آيات كثيرة، ففي قول الله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
المؤمن لا يخاف من الذنوب فإن باب التوبة مفتوح ولا أحد يمنعه من التوبة، والخائف من العذاب يتوب إلى الله، وربنا عظيم كريم رحيم سبحانه، فمن تاب إلى الله تاب الله عز وجل عليه، بشرط أن تكون التوبة توبة صادقة.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] فالله يغفر الذنوب لمن تاب حتى الشرك يغفره الله عز وجل إذا تاب العبد منه، أما الذي لا يتوب من الشرك فهذا لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48].
فالله لا يغفر أن يشرك به ما لم يتب العبد من هذا الشيء، فإذا تاب من الكفر أو الشرك أو الردة، ورجع إلى الإسلام فالله كريم وعفو غفور وحليم سبحانه.
وقال سبحانه وتعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
فلا يجزى يوم القيامة إلا من كفر بالله سبحانه، وجحد نعم الله سبحانه، ولم يشكر ربه الذي أنعم عليه، وقال تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه:48].
فالذي يستحق العذاب، من كذب وتولى عن ربه سبحانه وتعالى.
فالمؤمن عندما تثقل عليه الذنوب يتذكر العذاب، ويصبر على طاعة الله سبحانه ويرجو رحمة الله، فالله يقبل توبة العبد إذا تاب إليه.
(26/11)
شرح قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء)
وقال سبحانه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:156 - 157].
الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالمعروف فنأمر كما أمر، ونأتمر بهذا المعروف الذي أمرنا به، ونهانا عن المنكر فننتهي عنه كما نهى.
أحل لنا الطيبات فلا نذهب إلى الخبائث، فإنها محرمة علينا، ولا يحل لمسلم أن يأتي خبيثة من الخبائث لا في طعام ولا في شراب ولا في أفعال.
فباب التوبة مفتوح للمؤمن بقيد وشرط وهو العمل، وربنا أمر بالعمل ونهى عن القنوط من رحمة الله.
(26/12)
شرح حديث (من شهد أن لا إله إلا الله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل)
ومن الأحاديث التي في هذا الباب، حديث متفق عليه من حديث عبادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
وفي هذا الحديث فضل الله عز وجل وسعة رحمته.
وقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أشهد من المشاهدة، كأني أرى ذلك، وأستيقن بقلبي أنه إله واحد لا شريك له، وأعبد هذا الإله الواحد سبحانه.
وهنا فرق بين من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ولا يعلم معناها، وبين من يقولها ويعلم معناها.
وهذه الكلمة لها مقتضيات، وهي مفتاح الجنة، فمن قال لا إله إلا الله دخل الجنة، إذا أتى بحقها، وعلم أنه لا إله إلا الله.
قال سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19].
فقوله تعالى: {فَاعْلَمْ} [محمد:19]، يعني: استقين بذلك في قلبك، واليقين يتبعه العمل، وليس ممكناً أن الإنسان مستيقن أن الله هو المعبود وبعد ذلك يعبد غير الله، فاليقين يدفع العبد بأن يعبد الله كل العبادات التي شرعها سبحانه وتعالى.
ومن شروط لا إله إلا اله: العلم واليقين، والقبول للشرع، فالله رضي لك الإسلام ديناً فترضى بهذا الدين الذي أمرك بأن تقول هذه الكلمة.
والانقياد لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر الله عز وجل به، وفيما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم.
والصدق، والإخلاص، والمحبة، والولاء والبراء، فيتولى أهلها ويبرأ ممن خالفها.
(26/13)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
وشهادة المؤمن أن محمداً رسول الله معناها: أنه هو الذي اختصه الله عز وجل بالوحي دون غيره من هذه الأمة، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه، ولا يتلقى شرعاً إلا منه وحده عليه الصلاة والسلام.
وإذا جاء غيره بشرع كأن يزعم أنه رسول مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أن من حقه أن يشرع فيدعي أنه إله مع الله سبحانه وتعالى أو رب معه سبحانه، فالمؤمن لا يقبل إلا الشريعة من رب العالمين عن طريق الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
فمعنى أشهد أن محمداً رسول الله: أنه وحده الذي جاء بالرسالة من عند رب العالمين سبحانه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي: عيسى بشر من البشر صلى الله عليه وسلم، وأنه عبد خلق من تراب كما خلق آدم من تراب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهو عبد ورسول، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110].
فالمؤمن وكذلك من يدخل في هذا الدين من أهل الكتاب لا بد أن يقول: عيسى عبد الله ورسوله ولا يكتفي بأن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا بد وأن يعترف ويقر بأن المسيح عبد الله ورسوله؛ لأنه كان قبل ذلك على عقيدة أن الله هو المسيح، أو أن المسيح ابن الله، أو المسيح ثالث ثلاثة، فالمسيح عبد لله وليس ثالث ثلاثة وليس ابناً لله سبحانه تبارك وتعالى، وليس هو الله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وكلمته ألقاها إلى مريم)، والكلمة من عند الله أمر من الله عز وجل، وهي كن فكان، وهنا تشريف له عليه الصلاة والسلام، وكل مخلوقٍ مخلوق بهذه الكلمة، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فأمر الله عز وجل للشيء على النحو الذي يريده، وعيسى اختصه الله بأنه كلمته وروح منه، وجبريل روح القدس، فجبريل روح من عند الله سبحانه تبارك وتعالى، كما أن المسيح روح من عند الله، وكما أن الله نفخ في آدم قال تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] يعني: من روح خلقها الله سبحانه، فأضافها إليه إضافة تشريف وتكريم كما تقول: بيت الله، أرض الله، سماء الله، فهذه مخلوقات خلقها الله فأضافها إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فكذلك أضاف عيسى إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم فهو روح الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (والجنة حق والنار حق) يعني: الذي يؤمن بأن الجنة حق فيعمل لها، وأن النار حق فيهرب منها، (أدخله الجنة على ما كان من العمل)، وجاء في حديث آخر: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه).
والمعنى: أنه إذا عمل الموبقات ووقع في الفواحش والذنوب إلا الشرك بالله سبحانه وتعالى، يرجى أن تشمله رحمة رب العالمين، ولم يصبه إلا ما يصيب عصاة الموحدين من نار جهنم، كقاتل النفس المؤمنة بغير حق فهو في نار جهنم خالداً فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذاباً عظيماً، فيعذب إلى ما يشاء الله سبحانه تبارك وتعالى.
فخلود في جهنم دون خلود الكفار، فالكفار لا يخرجون من النار أبداً، لكن هذا العاصي من الموحدين وإن مكث فيها آلاف بل ملايين السنين فيرجى له يوماً من الدهر أن يخرجه الله عز وجل من النار.
والمؤمن وإن قال: لا إله إلا الله، فليس معنى ذلك أنه لن يدخل النار، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71].
والمؤمن يرجو ولا ييأس من رحمة الله، فإذا وقع في المعاصي فعليه أن يتوب إلى الله والله كريم يغفر ويرحم سبحانه تبارك وتعالى.
ومن رجحت سيئاته على حسناته دخل النار فعذب فيها، ثم بعد ذلك يدخله الله عز وجل الجنة.
وفي رواية: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم الله عليه النار) أي: إذا أتى بهذه الكلمة بشروطها وهي: العلم، اليقين، القبول، الانقياد، الصدق، الإخلاص، المحبة، الولاء والبراء، فالله عز وجل يحرم عليه النار؛ لأنه أتى بحقها، ولكن إذا قصر في الحقوق فقد استوجب العذاب إلى ما يشاء الله عز وجل له، ثم يدخله الجنة.
(26/14)
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
وروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة سيئة مثلها أو أغفر).
فالحسنة تتضاعف إلى سبعمائة ضعف، وإلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف وإنما هي سيئة واحدة.
والإنسان الذي يعمل الحسنات فإنها مضاعفة، والذي يعمل السيئات فلا تضاعف، فإذا جاء يوم القيامة ووزنت الحسنات والسيئات فغلبت سيئاته حسناته فمثل هذا لا يستحق رحمة رب العالمين إنما يستحق النار جزاءً بما صنع.
فالإنسان إذا عرف أن الحسنة بعشر أمثالها أسرع إلى أن يعمل حسنات كثيرة في اليوم، ويدفع السيئة بالحسنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت سيئة فاعمل بجانبها الحسنة تمحها)، فالذي يتناسى ويتغافل عن الحسنات ولا يعمل إلا السيئات فإنه يستحق ما يصير إليه.
يقول الله عز وجل بكرمه ورحمته سبحانه: (ومن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فرحمة الله عظيمة واسعة سبحانه وتعالى، فمن تقرب إلى الله بعمل قليل، فالله عز وجل يعطيه ثواباً كثيراً، فإن هذا قرب من الله فقرب الله عز وجل منه.
وكلما تقرب المؤمن إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فالله عز وجل يتقرب منه أكثر من ذلك.
ومن أتى إلى الله تعالى طائعاً وهو بطيء في الطاعة أتاه ثواب الله سريعاً، فكيف يأتي سريعاً لطاعة رب العالمين سبحانه، وكيف يأتيه الثواب من ربنا سبحانه؟ قال: (ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئاً لقيته بمثلها مغفرة)، فالإنسان الذي يأتي بقراب الأرض معاصي ثم أدركته رحمة رب العالمين فتاب إلى الله عز وجل، وعلم أنه وحده الذي يغفر الذنوب فقال: لا إله إلا الله مخلصاً لرب العالمين سبحانه تائباً من هذه الذنوب، فالله يغفر له ويتكرم ويبدل له هذه السيئات بحسنات من فضله ومن كرمه.
فغفران الله عز وجل لعبيده عظيم كثير ولكن العبد يبدأ فيتوب إلى الله رب العالمين، ويخاف من بطش رب العالمين، ولا يغتر بعمله ولا يدفعه الرجاء والأمل لترك العمل وإلا فيستحق العقوبة، نسأل الله عز وجل أن يعيننا على شكره وذكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(26/15)
شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [1]
خلق الله عز وجل الخلق وجعل فيهم الخير والشر، ثم خلق الجنة لمن أطاعه، وخلق النار لمن عصاه، والعبد المؤمن دائماً يعود ويتوب إلى الله، ويغلب جانب الرجاء على جانب الخوف حتى لا يصيبه اليأس فيهلك، فكما أن الله غفور رحيم فهو شديد العقاب، ولكن رحمته تسبق غضبه.
(27/1)
ما جاء في فضل الرجاء
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الرجاء.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، قال: (يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: يا معاذ! قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثاً، قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار، قال: يا رسول الله! أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا؟! قال: إذاً يتكلوا، فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً) متفق عليه.
وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، قالا: (لما كان غزوة تبوك، أصاب الناس مجاعة فقالوا: يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في عسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة) رواه مسلم].
وهناك أحاديث أخرى يذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه القيم رياض الصالحين في باب الرجاء، وهذا الباب معقود في الإنسان المؤمن الذي يرجو رحمة الله سبحانه، ويتعلم منه أنه لا ييئس من رحمة الله ولا من فضله سبحانه، وأنه إذا وقع في الذنوب فليسرع بالمبادرة إلى التوبة إلى الله عز وجل، فإنه يتوب على من تاب سبحانه.
وإن الإنسان لا يستكثر ذنوبه، فرحمة الله أكثر وأعظم قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
فالعبد يرجو رحمة الله ولا يخاف من عقوبته، ومن أخذه فإنه عزيز ذو انتقام سبحانه تبارك وتعالى، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، ولكن يعمل بالاثنين، ففي الخوف يخاف من الله ويرجو رحمته، فإذا أذنب بادر إلى التوبة إلى الله سبحانه، فالخوف من الله لا يدفعه إلى اليأس، والرجاء في رحمة الله لا يمنعه من العمل، فإن الله شديد العقاب، وإن الله غفور رحيم قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
فالإنسان يطمع في رحمة الله، ولا يؤدي به هذا الطمع إلى أن يفرق في طاعة رب العالمين سبحانه، راجياً الرحمة، وناسياً العقوبة.
(27/2)
شرح حديث: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه)
من الأحاديث التي تجعل الإنسان يرجو فضل الله ورحمته سبحانه وتعالى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل، يعني: راكب على الجمل ومعاذ خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فنادى معاذاً قال: يا معاذ! ثلاث مرات، وكل مرة يقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، أي: أنا مقيم على طاعتك، أو أنا أرد عليك ماذا تريد مني، فيبادر ويسارع بالتلبية، أنا مطيع لك ماذا تريد؟ وسعديك: من المساعدة والخدمة في الطاعة أي: أنا خادم لك، أنا مطيع لك، أنا باق على خدمتك وطاعتك، ومسارع إلى ذلك.
بعدما كرر ذلك ثلاث مرات كلها ليشد انتباه معاذ حتى ينتبه ما الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صدقاً من قلبه) وهنا القلب مستيقن، القلب مصدق بأن الله هو وحده الذي يعبد لا إله إلا هو، وهذا الصدق في القلب يدفعه إلى العلم، وأن يوجه عبادته إلى الله فلا يشرك به أحداً سبحانه وتعالى، وأن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، عبد قد أوحى الله عز وجل إليه بهذه الرسالة العظيمة وبدين الإسلام، فيصدق العبد أن هذا الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو من عند رب العالمين، وأنه واجب عليه أن ينفذ ذلك فيطيعه في أمر الله وأمر رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
فإذا كان على ذلك فيحرمه الله على النار، قال: (إلا حرمه الله على النار، فقال معاذ فرحاً بذلك: يا رسول الله! ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟)، أذهب لأخبر الناس أن الذي يقول لا إله إلا الله يدخل الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (إذاً يتكلوا)، لعله يسمع ذلك من يفهم ويعقل معناها، ومن لا يفهم ذلك ولا يعقل معناها، فيظن أنه بمجرد ما يقول بلسانه لا إله إلا الله حتى وإن وقع في الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور، أو وقع في الكبائر والصغائر والفواحش لا يهمه ذلك شيئاً، ويقول: إنني سأدخل الجنة لأني أقول: لا إله إلا الله، لذلك منع النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً أن يخبر الناس بذلك.
لكن لما جاءت وفاة معاذ رضي الله عنه أخبر بها تأثماً، يعني: خائفاً من الإثم، خاف أنه يموت ولم يبلغ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبر بها، فهو الآن يخبر، والذي يسمع ذلك يفهم المعنى الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم منه أنك تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله مستيقناً بذلك من قلبك، فتأتي بهذه الشهادة بشروطها كما ذكرنا قبل ذلك، وهي: العلم واليقين والقبول والانقياد والصدق والإخلاص والمحبة والولاء والبراء، فتأتي بشروط لا إله إلا الله، فيجعلك الله عز وجل من أهل الإيمان.
(27/3)
شرح حديث (لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)
كذلك من الأحاديث حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، فذكرا فيه: لما كانت غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة، وذلك سنة تسع من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتسمى بغزوة العسرة، وخرج الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم أعداداً ضخمة وأصابهم مجاعة، فقالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا) الغزوة كانت في تبوك، وتبوك في أطراف الشام، فإذا نحروا النواضح وأكلوها سيرجعون إلى المدينة على أرجلهم وهي مسافة بعيدة، وقد يهلكون في الطريق.
فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: (لو أذنت لنا) وهذا من أدب الصحابة كل واحد منهم يملك ناضحاً له، ولكن قبل أن يذبح الناضح الذي معه يسأل النبي صلى الله عليه وسلم متسأذناً، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم.
قالوا: (لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا)، بمعنى: لو أذنت لفعلنا، ولو لم تأذن لم نفعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا، فجاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر)، يعني: هؤلاء راكبون عليها، ولعل هناك اثنين أو ثلاثة يركبون على بعير واحد، وكان البعض منهم يمشي في الطريق جزءاً ويركب في جزء آخر من الطريق، وقد يعتقب الخمسة والستة والسبعة على البعير الواحد، فإذا ذبحوا النواضح يصعب عليهم الرجوع.
فاقترح عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا الاقتراح العظيم، فقال: (يا رسول الله! ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثم ادع لهم بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك البركة) وهو مستيقن، أنه سيكون في ذلك البركة بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ففعلاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك.
النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمؤمنين رءوفاً رحيماً ظهرت رأفته ورحمته وحنانه عندما استأذنوه، فلو قال: لا، لرجع كل واحد يفكر: سنجوع ولن نجد الأكل، فهنا من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه أذن لهم، فجاء عمر واقترح اقتراحاً آخر: أن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مباركة، فما هو المانع بأن تدعو بفضل الأزواد، والله تبارك وتعالى يبارك في ذلك؟ ثقة من عمر في ربه سبحانه، وفي بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم ودعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، وهو طعامه الذي بقي معه، وكانوا يأكلون ذلك في الطريق، فكيف سيأكلون كف الذرة وهم في الطريق؟! هل هذا أكل جيش ذاهب ليجاهد في سبيل الله؟! ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة خبز، حتى اجتمع على ذلك النطع من ذلك الأكل شيء يسير، ومن ثم فرش نطع - وهي قطعة جلد - على الأرض من أجل أن يأتوا بما معهم من أزواد، فاجتمع قليل من الطعام فوق ذلك النطع من الجلد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ينزل البركة والنماء والزيادة والفضل على هذا الطعام، فإذا بالطعام يزيد، فقال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا وفضل فضلة، وهذه بركة من بركات رب العالمين بدعاء النبي صلوات الله وسلامه عليه! وهذه ليست أول مرة، فقد رأينا قبل هذا في الحديبية كيف دعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى كثر الماء، وهنا أكل الجيش من هذه الكسر ما ملئوا به بطونهم وملئوا أيضاً أوعيتهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهو يعرف ذلك صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولكنه يعلمهم ما الذي ينبغي أن يقال في هذا الوقت، من الشهادة بأنه رسول حق، وهذه معجزة من الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة)، أي: لا يشك بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الله واحد لا شريك له، وهذا التصديق يدفع صاحبه إلى العمل، فإذا قال ذلك مصدقاً بقلبه غير شاك في ذلك استحق أن يدخل الجنة.
(27/4)
شرح حديث عتبان (ألا تراه قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)
كذلك من الأحاديث: حديث عتبان بن مالك، وهو حديث متفق عليه، وعتبان صحابي شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدراً، قال عتبان: (كنت أصلي لقومي بني سالم، وكان يحول بيني وبينهم واد إذا جاءت الأمطار فيشق علي اجتيازه قبل مسجدهم، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أنكرت بصري، وإن الوادي الذي بيني وبين قومي يسيل إذا جاءت الأمطار؛ فيشق علي اجتيازه).
معنى ذلك أنه إمام لقومه رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وهم بنو سالم.
ومعنى (فأنكرت بصري) أنه بدأ يضعف مع تقدم السن فإذا جاء المطر سال الوادي فأصبح من الصعب أن يصل إلى المسجد ليصلي بالناس، فذهب يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعمل مسجداً في داره في المكان الذي هو فيه، بحيث يصلي في هذا المكان ويصلي الناس معه فيه.
وهنا انظروا إلى أدب الصحابي رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، فهذا إذن عام، ولكنه رضي الله عنه خاف من تفرقة المسلمين عندما يبني المسجد، فقال: لا بد أن أستأذن النبي صلى الله عليه وسلم أولاً.
قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (فوددت أنك تأتي تصلي في بيتي مكاناً أتخذه مصلى)، فهو عندما يبني هكذا من نفسه الناس سينكرون عليه، سيقولون له: كيف تعمل هذا لوحدك؟! أنت تريد أن تفرق بين المسلمين فعندما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويصلي في هذا المكان فهو دليل على أنه موافق ومقر بذلك.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سأفعل! قال: فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بعدما اشتد النهار، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت له).
جاءه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ومعه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، واستأذنه فأذن له.
قال: (فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتك؟)، وانظروا إلى إكرام النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل، يكرمه بأنه لم يجلس أول ما دخل، وإنما قال: أين تريد أن أصلي لك؟ فهذا أدب عظيم منه صلى الله عليه وسلم، ورحمة عظيمة، وتلطف مع أصحابه.
ولاحظ أنه لم يختر المكان صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سأل صاحب البيت، قال: (فأشرت إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتين، ثم سلم وسلمنا حين سلم، فحبسته على خزير تصنع له)، صلوات الله وسلامه عليه، والخزير هي دقيق مطبوخ بدهن أو بشحم.
قال: (فسمع أهل الدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي)، كانت بيوتهم متجاورة يجمعهم حوش واحد، وهذا الآن نسميه عمارة، فهذا يسمى الدار، فهو مجموعة بيوت في مكان واحد أو سور واحد.
فسمع أهل الدار -يعني: مجموعة البيوت التي حوله- بأن النبي صلى الله عليه وسلم عنده، قال: (فثاب رجال منهم حتى كثر الرجال في البيت)، جاءوا كلهم لينالوا بركة وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المكان.
(فقال رجل: ما فعل مالك لا أراه؟)، شخص يسأل: أين مالك لا أراه معنا؟ فرد عليه رجل فقال: (ذلك منافق، لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك، ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى، فقال الرجل: الله ورسوله أعلم، أما نحن فوالله ما نرى وده ولا حديثه إلا إلى المنافقين).
يعني: الله ورسوله أعلم، ولكن الذي نراه أنه دائماً يجالس المنافقين، فهم أصحابه وأحباؤه يتكلم معهم، فهو مثلهم، وهنا لعل الرجل يجلس معهم ليدعوهم؛ لأن بينه وبينهم نوعاً من المعاملة، وجلوسه معهم ليس فيه دليل على أنه منافق خارج عن هذا الدين.
فلذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ما قاله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله).
هذا حديث عظيم جداً في معرفة حرمة الإنسان المسلم الذي يقول: لا إله إلا الله، فله حرمة لا ينبغي لأحد أنه يغتابه أو يذمه، فينبغي إحسان الظن، وأنه إذا رئي على شيء يتأول له: يمكن قصده كذا يمكن قصده كذا إلا إن ظهر نفاقه واشتهر به، فهذا أمر آخر.
أما كونه يتعامل مع فلان أو فلان من المنافقين أو الكفار فهذه معاملة في بيع أو شراء، ولكن حبه لله ولرسوله صلوات الله وسلامه عليه.
إذاً: لا تسيئوا الظن إلا بأمارة ظاهرة، وبدليل قوي بين، وإلا فأحسنوا الظن في المسلم.
(27/5)
شرح حديث (لله أرحم بعباده من هذه بولدها)
وعن عمر رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبياً في السبي أخذته، فألزقته ببطنها، فأرضعته).
وهنا صورة من صور حنان الأم مع ولدها لن تفوت على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي أصحابه العظة فيها، فهذه مجموعة من السبي وفيهم هذه المرأة تبحث عن صغير لها، فوجدت الطفل فأخذته بمنتهى الحنان، وضمته إلى صدرها فأرضعته.
يا ترى وهي في هذه الحال هل ممكن أن تأخذ الصبي وترميه على الأرض مثلاً؟ هل ممكن أن تأخذ هذا الصبي وتلقيه في النار مثلاً؟ هذا غير ممكن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ فقلنا: لا والله، فقال صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعباده من هذه بولدها).
ورحمة رب العالمين عظيمة، الله أرحم بعباده من هذه بولدها، فإذاً لن يدخل النار إلا من عق والديه أو ترك أوامر الله سبحانه وتعالى وأشرك بالله سبحانه، وخالف وعاند واستكبر عن طاعة رب العالمين، هذا الذي يستحق عذاب رب العالمين.
فالإنسان الذي يتوب إلى الله، فالله رحيم ورءوف بعباده سبحانه، فإذا دعا العبد ربه استجاب له، وإذا استغفر ربه غفر له، وإذا طلب من ربه أعطاه تبارك وتعالى، فربنا رحيم عظيم الرحمة، وانظروا إلى قدر رحمته في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي)، قد يغضب الله عز وجل على عبد من عبيده، وهذا العبد يبادر فيستغفر ربه تبارك وتعالى، فهنا غضب الله عليه لمعصيته، فإذا به يتوب، فالرحمة تغلب الغضب وتسبقه، وربنا يرحم هذا العبد الذي تاب إليه.
(27/6)
شرح حديث (جعل الله الرحمة مائة جزء)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً).
قسم الله عز وجل الرحمة أجزاءً، فجعلها مائة جزء، أنزل في الأرض جزءاً واحداً من الرحمة، يا ترى هذه الرحمة التي نزلت في الأرض هل هي كثيرة أم قليلة؟ هذه لا شك أنها رحمة عظيمة جداً، والجزء من الرحمة الذي نزل إلى الأرض به يتراحم الخلق، يرحم الأب ابنه، وترحم الأم ولدها، وترحم الدابة صغيرها.
يقول صلى الله عليه وسلم: (وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه) من هذا الجزء من الرحمة الذي وزع على كل الخلق من أولهم إلى آخرهم إلى أن تقوم القيامة يتراحم الخلائق.
وفي رواية: (إن لله تعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، قال: وأخر الله تعالى تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة).
كم ستكون رحمة رب العالمين يوم القيامة؟! ويرفع هذا الجزء مع التسعة والتسعين فكمل يوم القيامة مائة جزء، فبها جميعها يرحم الله عز وجل عباده يوم القيامة.
الذي يسمع بذلك يحسن الظن في رب العالمين سبحانه وتعالى، ويرجو رحمة الله مهما وقع فيه من ذنوب ثم تاب إلى ربه سبحانه؛ لأنه يعلم أن الله علي قادر سبحانه تبارك وتعالى، وأن عذابه شديد لا طاقة للعبد به، فيتوب إليه ويرجو رحمته، فرحمته تغلب غضبه سبحانه تبارك وتعالى.
وفي رواية من هذا الحديث قال: (فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة).
(27/7)
شرح حديث (غفرت لعبدي فليفعل ما شاء)
وانظروا إلى رحمة الله في هذا الحديث الآخر الذي يرويه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين أيضاً، يقول صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه سبحانه: (أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب).
فإذاً: غفر الله عز وجل لهذا العبد، لأنه أذنب فتاب وقال: أذنبت، فاعترف وندم على ذنبه وتاب إلى الله، فتاب الله عليه؟ ثم أذنب مرة أخرى، فعلم أنه أذنب وتاب إلى الله.
فقال الله: (أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب! اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء).
رحمة عظيمة من رب العالمين سبحانه، هنا: (فليفعل ما شاء) ليس المعنى أنه يعصي كما يريد، ويذهب يشرك بالله كما يريد، وإنما المعنى: أنك قد تقع مرة ثانية وثالثة طالما أنت على ذلك، وكلما وقعت في ذنب ندمت واستغفرت، فالله يغفر وإن تكرر ذلك مائة مرة، طالما أنك تجرد التوبة، وترجع إلى ربك سبحانه، وكل بني آدم خطاء، وما من مؤمن إلا وله ذنب يعتريه الفينة بعد الفينة، وكل مرة لعله يقع في شيء فيرجع يلوم نفسه ويتوب إلى الله عز وجل، ولعله بعد فترة يقع مرة أخرى، فإذا كان العبد يسرع في التوبة إلى الله، ويندم على الذنب، وينوي ألا يفعله، ومن ثم تأتي الأقدار فيقع فيه مرة ثانية مع كراهته للذنب وحبه للرب سبحانه، وتوبته إلى الله، فالله عز وجل يغفر له وإن وقع مراراً وتكراراً في هذا الذنب أو في غيره بهذا الشرط، أن يتوب العبد إلى ربه سبحانه، وأن ينوي ألا يعود إلى ذلك.
أما الذي يقع في الذنب ولا يهمه ذلك، واستغفر الله وهو مقيم على هذا الذنب، ويفعله وينوي أن يفعله مرة ثانية وثالثة ورابعة، فهذه التوبة ليست المذكورة في هذا الحديث، لكن من تاب إلى الله وهو ينوي ألا يعود إلى ذلك فهو المقصود.
قال الإمام النووي: [قول الله تبارك وتعالى: (فليفعل ما شاء)، أي: ما دام يذنب ويتوب غفرت له، فإن التوبة تهدم ما قبلها].
(27/8)
شرح حديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم)
كذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)، الله غفور رحيم، واسم من أسمائه الحسنى: غافر الذنب، والغفار اسمه العظيم سبحانه تبارك وتعالى، ومن صفاته الحسنى أنه يغفر.
إذا كان كل الخلق لا يذنبون فسيغفر لمن؟ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان وهو يعلم أنه يعصي، وأنه يرجع إلى ربه، وأنه ينسى، ثم يتذكر ويتوب إلى الله، فالملائكة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، لكن الإنسان خطاء: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فخلق الله عز وجل الخلق وعلم أنهم يذنبون، وخلقهم في الأرض فمنهم من يصلح ومنهم من يفسد، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] فيبتلي العباد بعضهم ببعض سبحانه وتعالى، ويذنب العبد ويتوب إلى الله، ويستغفر ربه؛ فيغفر الله عز وجل للعبد.
والمعنى أنك لا تيئس أبداً من رحمة الله ومغفرته، فمهما وقعت في ذنب سواء كان صغيراً أو كبيراً، حتى الشرك بالله، إذا وقع فيه العبد فتاب ووحد ربه ورجع إلى الإيمان والتوحيد فإن الله يغفر الذنوب جميعاً.
إذاً: متى لا يغفر الشرك؟ إذا مات العبد مشركاً بالله تبارك وتعالى، إما إذا كان كافراً وجاء في آخر حياته فتاب وأسلم، فالإسلام يجب ما قبله، فالله سبحانه تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً.
(27/9)
شرح حديث (فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة)
ومن الأحاديث: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (كنا قعوداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا، فخشينا أن يقتطع دوننا فتبعناه فقمنا، فكنت أول من تبعه، فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائطاً للأنصار).
فجأة قام وتركهم لحاجة من حوائجه صلى الله عليه وسلم، فلما تأخر فزعوا وتهامسوا: أين ذهب النبي صلى الله عليه وسلم؟! فبحثوا عنه، وكان أول من خرج للبحث عنه أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال: (حتى أتيت حائطاً للأنصار)، كأنه ظن أن يكون فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فبحث عن باب لهذا الحائط فلم يجد، ولعله من شدة فزعه واندهاشه من غياب النبي صلى الله عليه وسلم لم ير باب الحائط، فوجد جدولاً صغيراً فدخل منه حتى وجد النبي صلى الله عليه وسلم بالداخل.
(فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، قال له النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاه نعليه: اذهب فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة).
كأنه دخل إلى هذا المكان فنزل عليه الوحي بذلك صلوات الله وسلامه عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الناس سيقولون: من أين أتيت بهذا الكلام، نحن لم نجد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فأعطاه النعلين أمارة وعلامة على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره بذلك وفعلاً خرج فكان أول من لقيه عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال له: إلى أين يا أبا هريرة؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أبشر من وجدت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله مستيقناً بها قلبه بالجنة.
فإذا بـ عمر يخاف من اتكال الناس، فيأمر أبا هريرة بالرجوع، فوكزه حتى أوقعه رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وقال: ارجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تفعل! يا ترى! هل عمر لا يريد قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ للناس؟! هنا ذهب أبو هريرة إلى لنبي صلى الله عليه وسلم يبكي، ووراءه عمر رضي الله تعالى عنه، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم لم فعلت ذلك؟! فكان جواب عمر قال: (يا رسول الله! إذاً يتكلوا)، فهي نفس الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله تعالى عنه: (إذاً يتكلوا)؛ لأن الناس لو علموا ذلك من غير أن يفهموا المعنى لاتكلوا على اللفظ، فأنا أقول لا إله إلا الله وأعمل الذي أريد، وسأدخل الجنة، فالأمر ليس كذلك.
لقد ذكر الله عذاب أهل النار من الكفار والموحدين الذين يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم توزن أعمالهم يوم القيامة، فمن رجحت سيئاته على حسناته أدخله الله عز وجل النار.
إذاً: هناك نار لعصاة الموحدين يدخلونها يوم القيامة، فلو سمعوا أنهم سيدخلون الجنة ولا يوجد نار لقالوا: نحن كلنا سندخل الجنة، فلا يفهمون ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة أصابه قبل ذلك ما أصابه)، يعني: قد يدخل النار فيمكث فيها دهوراً كثيرة، ويعذب فيها على معاصيه وذنوبه، وبعد ذلك تدركه رحمة رب العالمين سبحانه، فيخرجهم من النار إلى الجنة.
فكأن هذه الكلمة العظيمة تنفع صاحبها يوماً من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه، وقد يدخل النار، وقد يتغمده الله برحمته فلا يدخله النار ويدخله الجنة، وقد يصاب قبل ذلك وهو في الموقف فيعذب ما شاء الله عز وجل أن يعذب مثل مانعي الزكاة، حيث يعذبون في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فصاحب الإبل يطرح في قاع قرقر، وتمر عليه الإبل في أسمن ما كانت وأوفر ما كانت، فتطؤه بأخفافها، وتعضه بأسنانها، فهذا عذاب مانعي الزكاة في هذا اليوم، ومانع الزكاة مسلم يقول لا إله إلا الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يرى سبيله إلى الجنة أو إلى النار).
إذاً: لا يغتر الإنسان عندما يقول: لا إله إلا الله، فلا بد أن يقول: لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه، تدفعه للعمل، فتنفعه هذه الكلمة.
(27/10)
شرح حديث (إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36]، وتلا قوله سبحانه تبارك وتعالى في عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118]، فرفع يديه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أمتي أمتي! اللهم أمتي أمتي!).
يعني: هنا سيدنا إبراهيم يقول: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36].
وسيدنا المسيح عليه الصلاة والسلام قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
دعاء عظيم ومهذب ومؤدب من سيدنا المسيح وسيدنا إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فجاء دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من دعائهما، فقال صلى الله عليه وسلم وبكى: (اللهم أمتي أمتي!)، يعني: لا تخفرني في أمتي، لا تجعل أمتي في النار، فقال عز وجل: (يا جبريل! اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيه؟)، ليس محتاجاً إلى جبريل؛ لأنه سبحانه تبارك وتعالى أعلم، ولكن حتى ينطق ويتكلم صلى الله عليه وسلم من نفسه.
قال: (فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك)، فهنا دعاؤه كان أعظم صلوات الله وسلامه عليه، والله عز وجل وعده ألا يسوءه في أمته، يعني: لا يجعل أمته معذبة بين يديه صلى الله عليه وسلم إلا من استحق ذلك.
ولذلك جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: (ليذادن أقوام عن حوضي يوم القيامة، فأقول: أصحابي أصحابي!)، فهنا يتحسر عليهم ويقول: أصحابي الذين كانوا أتباعي من المؤمنين، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)، يعني: بدلوا هذا الدين وغيروا وعصوا الله سبحانه تبارك وتعالى فيستحقون العذاب، فيقول صلى الله عليه وسلم: (ألا سحقاً! ألا بعداً!)، يعني: أبعدوهم عني، سحقاً لهم! عذاباً لهم! قاتل الله عز وجل هؤلاء الذين ابتعدوا عن سنة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فرحمة الله عظيمة لمن يتوب إلى رب العالمين سبحانه، ولمن يعرف قدر الله سبحانه.
وقال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، فإذا عرف العبد قدر ربه سبحانه، وعبد ربه عن يقين، وقال: لا إله إلا الله موقناً بهذه الكلمة العظيمة ودفعته إلى العمل الصالح، فهذه تنفع صاحبها، ويرجو رحمة رب العالمين، نسأل الله عز وجل من فضله ورحمته سبحانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(27/11)
شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [2]
إن فضل الله ورحمته واسعة سبحانه، ومن رحمته بعباده أن ضاعف لهم الحسنات والأجر والمثوبة، وجازاهم السيئة بمثلها، ومن رحمته بعباده أنه يستر عبده المؤمن في الدنيا فلا يفضحه بذنوبه، فإذا كان يوم القيامة وضع عليه كنفه فستره عن الخلق، وأبدله السيئات حسنات، وأدخله الجنة وجعل فكاكه من النار يهودياً أو نصرانياً.
(28/1)
شرح حديث: (حق الله على العباد وحق العباد على الله)
(28/2)
حق الله على العباد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال النووي رحمه الله تعالى: [عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قال: فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) متفق عليه.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]) متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته)].
هذه أحاديث أخر يذكرها الإمام النووي رحمه الله في رياض الصالحين في باب الرجاء، وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك من أحاديث منها ما قدمناه في الدرس السابق، ومنها هنا حديث لـ معاذ بن جبل وقدمنا معناه أيضاً في الحديث السابق بأنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم على ناقته، وهنا ذكر أنه كان رديفه على حماره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ! هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟).
ومعاذ يتأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد يعلم أن الله عز وجل فرض على العباد عبادات يفعلونها، ولكن لعل النبي صلى الله عليه وسلم يقصد شيئاً آخر، فلذلك كان الجواب منه للنبي صلى الله عليه وسلم: (الله ورسوله أعلم) حتى يتعلم من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فقال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
وهنا الحق واضح في كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كلمة عظيمة واسعة لابد للمؤمن أن يعرف هذا المعنى الذي تحت هذه العبادة، يعبد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويذلل نفسه لربه سبحانه، ويطوع نفسه وقلبه وبدنه لله سبحانه تبارك وتعالى، فهو عابد لله.
وعابد: من العبادة، ويقال: هذا طريق معبد، أي: مذلل مسهل للمشي عليه، فهنا العبد يعبد ربه سبحانه، ويذلل نفسه لربه سبحانه تبارك وتعالى، ويطوع نفسه لكل ما يريده الله سبحانه، فإذا أمره استجاب، وإذا نهاه امتنع، فهو قد عرف مقامه أنه عبد، وأن الله مولاه، وربه، وخالقه، وعرف مقام ربه سبحانه تبارك وتعالى فخاف من الله فأدى ما فرض الله عز وجل عليه من حقوق، وواجبات، وامتنع عما نهاه الله عز وجل عنه من المحرمات.
فهنا حق العباد على الله أن يطيعوا الله سبحانه فيأتمروا بأمره، وينتهوا عما نهى سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، وهذا قيد لهذه العبادة، فكم من إنسان يعبد الله ويعبد غيره معه، فهو مشرك بالله شركاً أكبر، فيعبد إلهاً مع الله ويدعي لله الولد والصاحبة، فيعبد غير الله مع الله سبحانه تبارك وتعالى، أو يكون على شرك أصغر فإذا به ينسب ما الفضل فيه لله عز وجل إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى، أو أنه يكون على شرك خفي، فإذا به يعمل العمل وينتظر من الناس أن يكافئوه أو يمدحوه عليه.
فالمؤمن يعبد الله ولا يشرك به شركاً أكبر ولا أصغر ولا شركاً خفياً، فالعبادة لا بد أن يكون فيها إخلاص وتوجه لله عز وجل وحده، ولا بد أن تكون المتابعة فيها للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يستن بسنته، ويفعل ما جاء به، ولا يخترع، ولا يشرع مع الله سبحانه تبارك وتعالى لنفسه ولا لغيره.
(28/3)
حق العباد على الله
فهم إذا فعلوا العبادة لهم حق، وليس العبد هو الذي فرض الحق على ربه سبحانه، وإنما ربنا هو الذي ألزم نفسه بذلك بفضله وكرمه سبحانه تبارك وتعالى، فهو كتب على نفسه كتاباً وجعله فوق عرشه: (إن رحمتي تسبق غضبي)، لا يلزمه أحد، ومن يقدر أن يلزم الله سبحانه تبارك وتعالى؟ هو ألزم نفسه سبحانه تبارك وتعالى، وحرم على نفسه الظلم فقال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا) فنهى عباده عن الظلم، ومن يحرم على الله عز وجل شيئاً؟ الذي يحرم هو الذي يملك أن يشرع، والذي يخلق، والذي يرزق، والذي يعطي ويمنع، والذي ينفع ويضر، والعبد لا يملك لنفسه -فضلاً عن غيره- شيئاً فكيف يملك لربه سبحانه؟! فلذلك ربنا هو الذي ألزم نفسه أن رحمته تسبق غضبه، وألزم نفسه سبحانه أنه يعطي هؤلاء العباد إذا عبدوه حقاً لهم على الله سبحانه أنه لا يعذبهم.
قال: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لم يشرك به شيئاً): كلمات يسيرة قليلة ولكن تحتها المعاني الكبيرة الكثيرة، ولا يغتر العبد بألا يفهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به يقول: أنا أقول لا إله إلا الله، أنا أوحد ربنا، أنا لا أشرك بالله سبحانه، وإذا وقع في ضيق أو مصيبة دعا غير الله سبحانه، وتوسل بغير الله سبحانه فقال: يا سيدي فلان! أنقذني، قد ينظر لغير الله فيقول: لله علي أن أذبح عند قبر سيدي فلان إذا حصل كذا، فيطلب من غير الله ما لا يجوز له أن يطلبه إلا من الله سبحانه تبارك وتعالى.
كم من إنسان يشرك بالله الشرك الأكبر وهو لا يدري ما هذا الذي يقع فيه؟ ولايدري أن هذا الذي يقول استغاثة بغير الله سبحانه؟ أن يعتقد أن الجن تعلم الغيب وتنفع وتضر، كم من المسلمين من يقول: لا إله إلا الله ويعتقد مثل هذه الاعتقادات! كم من إنسان إذا فعل فعلاً نسب هذا الفعل والعون فيه لغير الله، فلاح يزرع فتمطر السماء فيصبح يقول: أتت السماء بالماء وبالمطر.
وينسى الله سبحانه تبارك وتعالى! وهذا من الشرك بالله الذي جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه على إثر ليلة ممطرة: (هل تدرون ماذا يقول ربكم؟ يقول الله تبارك وتعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
نسب المطر إلى غير الله، ولكن العبد يقول: الله عز وجل هو الذي يأتي بالخير، وهو الذي يأتي بالمطر، وهو الذي يكشف الضر ويأتي بالخير بفضله ورحمته.
فالعبد لا يشرك بالله شيئاً، وهنا نكر (شيئاً) أي: لا يشرك ولو أدنى الأشياء، فهي نكرة في سياق النفي، والمعنى: أنه في أي شيء من عبادته لا يشرك بالله شيئاً يسيراً، لا شركاً أكبر ولا شركاً أصغر، ولا شركاً خفياً.
فمثال الشرك الأصغر: أن يجيء اللصوص إلى البيت فتقوم البط التي في البيت تصوت، يصبح الصبح ويقول: لولا البط لكان اللص قد سرق الحاجات في الليل.
ونسي من الذي أعطى البط هذا الصوت والذي نبههم على ذلك، نسي الله سبحانه ونسب الفضل لغيره.
أو يقول: ولولا الكلب في الدار لسرقنا اللصوص في الليل، ينسى ربه سبحانه وينسب الفضل لغير الله سبحانه.
يقوم يصلي فيجد الناس ينظرون إليه وهو يصلي فيقول في نفسه: أطيل حتى يقولوا: إن صلاتي طيبة.
الناس يمدحونه في شيء فيقولون: أنت تصلي صلاة طيبة فيقول لهم: بل وأنا صائم كذلك، يبقى هنا كأنه يظهر نفسه أنه عابد مع أنه ما أحد سأله عن أنه صائم أو غير صائم.
فهذا شرك يكون في قلبه يريد أن يظهره أو يظهر على فلتات اللسان، فيظهر هذا الشيء من الرياء ونحوه، فالله عز وجل يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) يترك كل عمله الذي راءى فيه.
فهنا الحديث وإن قلت كلماته لكن معانيه عظيمة كبيرة قد يضيق عنها أفق البعض من الناس، فلذلك لما قال معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟) أي: بأن الذي سيموت وهو يقول: لا إله إلا الله سيدخل الجنة؟ (قال: لا تبشرهم فيتكلوا)، أي: يتكلوا على قول: لا إله إلا الله ويتركوا العمل إن أساءوا فهم ذلك، وقد قال الله عز وجل في كتابه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
قد يقول العبد: أنا لا أصلي ولا أصوم ولا أعمل إلا بقول: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله دخل الجنة! في حديث آخر: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وما يدريك أنك تقدر أن تنطق بهذه الكلمة في آخر حياتك أم لا تقدر عليها؟ وكم من إنسان وهو في سياق الموت يقال له: قل لا إله إلا الله فلا يقدر على أن يقول هذه الكلمة! ولعله يتكلم بأي شيء آخر وعند هذه الكلمة لا يقدر أن ينطق بها، فهي كلمة عزيزة وغالية، وكلمة لا يقدر عليها كل إنسان في حال وفاته، في الحياة قد يقولها الإنسان كثيراً.
ولكن من مات على هذه الكلمة رجونا له هذه البشارة، أنه من أهل لا إله إلا الله، وأنه لا يعذبه الله سبحانه تبارك وتعالى.
(28/4)
شرح حديث: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]).
نسأل الله عز وجل أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة! الإنسان إذا دخل في قبره تعاد إليه الروح ليس كهيئتها في الدنيا ولكن باتصال برزخي الله عز وجل أعلم به.
(ويأتيه ملكان شديدا الانتهار يجلسانه وينتهرانه ويسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي أرسل إليكم؟ فإذا كان مؤمناً قال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلوات الله وسلامه عليه).
انظر إلى فضل الله عز وجل في الآية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، الفضل بيد الله سبحانه، فهو الذي ثبت هذا، وهو الذي أزاغ الآخر.
إذا كان العبد كافراً فاجراً يأتي له ملكان ينهرانه ويجلسانه، ويسألانه السؤال نفسه: من ربك؟ وما دينك؟ وما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول مثلما كان في الدنيا، لا يريد أن يقول شيئاً غير ذلك؛ يقول: هاه هاه لا أدري، فلا يقدر أن يقول: لا إله إلا الله، ولا يقدر أن يجيب إلا بذلك، قد كان في الدنيا يتهكم بالمؤمنين وهو الآن في قبره لا إرادة له، تخرج منه: هاه هاه لا أدري، ولكن بغير إرادة منه لأجل أن يزاد عليه العذاب.
فيضربانه ضربة بمرزبة من نار، هذه الضربة لو ضرب بها جبل لصار تراباً، ويفرش له لوحان من النار، يوضع له لوح من النار فوقه ولوح تحته ويرى منزله من الجنة لو أطاع الله يقولان له: كنت ستذهب الجنة في هذا المقعد لو أطعت الله، وهنا يتحسر على نفسه.
ويعذب في قبره إلى أن تقوم الساعة فيرى أمره مع ربه سبحانه وتعالى.
فالذي ثبت المؤمن بقول: لا إله إلا الله في الدنيا وفي قبره هو الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو الذي يثبته على الصراط يوم القيامة، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم:27] قيل: الآن، وقيل: في القبر في الحياة البرزخية، {وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27] حين يقومون من القبور.
(28/5)
شرح حديث: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا)
عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمةً في الدنيا، وأما المؤمن فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته).
فضل الله عظيم على جميع خلقه سبحانه: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، والإنسان الذي يعمل ويجتهد يعطيه الله عز وجل في الدنيا.
الكافر يعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى في الدنيا، ويعمل ويجد ويجتهد، وقد يكون له سبق في خير فالله عز وجل يكافئه على هذا كله في الدنيا، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، لا يبخسون في هذه الدنيا ولا يظلمون.
والذين يريدون الدار الآخرة فإن الله عز وجل يعطيهم الأجر العظيم، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء:19].
وقال عز وجل: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].
الكافر إذا عمل حسنة في الدنيا فالله عز وجل يطعمه بها طعمة من الدنيا، وقد يمن عليه الله سبحانه تبارك وتعالى بالهدى فيهديه للإسلام بهذه الحسنة التي عملها، ولكن إذا لم يشأ الله عز وجل ذلك له فيعطيه أجره في الدنيا من مال وبنين ونحو ذلك.
المؤمن إذا عمل العمل الحسن: (فإن الله تعالى يدخر له حسناته في الآخرة)، يجمعها لك في الآخرة حتى لا تضيع، ويعطيك تفضلاً منه في الدنيا، فتكون قد كسبت في الدنيا والآخرة، أعطاك رزقك في الدنيا، ولم يعاملك بأنك عملت الحسنة فيرزقك فقط وما لك حاجة في الآخرة، ولكن انظروا إلى كرم الله سبحانه تبارك وتعالى حيث أعطاك في الدنيا المال، والبنين، وأعطاك رزقاً حسناً، وادخر لك أجر هذه الحسنة أيضاً في الآخرة، وقال: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20].
وفي رواية أخرى: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، فيعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله تعالى في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها) رواه مسلم.
(28/6)
شرح حديث: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم)
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات).
الحديث فيه الرجاء العظيم، فهو يضرب لك هذا المثال: نهر أمام بيتك تغتسل كل يوم في هذا النهر ثم تخرج نظيفاً وتدخل البيت، ثم تغتسل مرة ثانية وتخرج نظيفاً إلى البيت، وهكذا خمس مرات كل يوم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار غمر على باب أحدكم).
قوله: (نهر جار) إذا كان الماء واقفاً قد يتعفن؛ لأنه واقف، أما الجاري فيتبدل، والماء مع تغيره وجريانه يكون ماءً نقياً.
والغمر: الكثير، فالماء ليس قليلاً، (غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات) هل يبقي ذلك من درنه شيئاً؟
الجواب
أنه لا يبقي ذلك من الدرن شيئاً.
وفي رواية: (فكذلك الصلوات الخمس)، فالمؤمن يواظب على الصلوات حيث ينادى بهن، يرجو رحمة الله سبحانه، فالصلاة فيها تكفير للسيئات، وفيها رفع للدرجات، وفيها من الله عز وجل ما فيها من ثواب عظيم يوم القيامة، تتوضأ لأجل أن تصلي فإذا بالخطايا تتساقط من أعضاء الوضوء، ومع غسل كل عضو تتساقط الخطايا.
إذا جئت إلى الصلاة جمعت السيئات التي عملتها ووضعت فوق منكبيك، فإذا قمت تساقطت، وإذا ركعت تساقطت، وإذا سجدت تساقطت، وإذا أنهيت الصلاة فقرأت آية الكرسي لم يمنعك من دخول الجنة إلا أن تموت، فإذا سبحت الله ثلاثاً وثلاثين، وحمدت الله ثلاثاً وثلاثين، وكبرت الله ثلاثاً وثلاثين، وختمت بـ لا إله إلا الله غفرت ذنوبك وإن كانت مثل زبد البحر، ففي الصلوات الخمس تفعل ذلك.
وقبل أن تنام تسبح الله عز وجل وتحمده وتكبره كما في الصلاة، إلا أن التكبير يكون أربعاً وثلاثين فيكون العدد مائة، فهل تعمل من السيئات مثل هذا العدد؟ فالله عز وجل يجعل السيئة واحدة، ويجعل الحسنات مضاعفة حتى ترجو رحمته سبحانه، وتستعين به على عبادته سبحانه، وتواظب على هذه العبادة.
أما من اغتر بذلك وقال: أنا صليت في النهار هذا، وسبحت في النهار هذا، فلأعمل ما أريد من الذنوب، فهذا مغرور بعمله محتقر عذاب رب العالمين سبحانه، فالإنسان بمواظبته على الذنوب كأنه يحتقر العقوبة من الله فكان حقيقاً بأن يعذب ويعاقب يوم القيامة.
أما الإنسان الذي يتواضع في مشيه، والذي يعلم أن الله قادر عليه، وأنه يغفر بفضله ورحمته، وأنه لا يستحق شيئاً إلا أن يتقبل منه الله سبحانه، فهذا يستحق من الله المغفرة والتوبة عليه.
(28/7)
شرح حديث: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً)
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).
حديث عظيم عنه صلوات الله وسلامه عليه، فيه عبرة للإنسان ليعرف من يصاحب، فأهل الدنيا يأتون بالميت ويضعونه في المسجد ثم يقفون في الخارج ولا يصلون مع الناس، والذي يصاحب أهل العبادة والطاعة عندما يموت يجري الكل يتوضأ لأجل أن يصلي عليه، ويقفون على قبره يدعون له، ويسألون الله عز وجل له التثبيت، وإذا رجعوا إلى بيوتهم انشغلوا به هل عليه دين أو حاجة فنسدد عنه؟ والأخ ينفع أخاه، ومن النفع العظيم أن المؤمن إذا مات فصلى عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً يقولون: يا رب اغفر له، فيدعون ربهم سبحانه تبارك وتعالى، فيشفعهم الله عز وجل فيه ويغفر له.
(28/8)
شرح حديث: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟)
كذلك من الأحاديث حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة نحواً من أربعين، فقال: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم، قال: والذي نفس محمد بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود) متفق عليه.
ليس معنى الحديث أن هؤلاء الأربعين هم الذين سيدخلون الجنة وغيرهم لا يدخلها، لكنه يقصد أمة الإسلام الذين يدخلون وهم في أهل الشرك كنسبة الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.
والمقصود: أن عدد المؤمنين بجوار عدد أهل الشرك قليل، فإذا كانوا يوم القيامة تفضل الله عز وجل على المؤمنين فأدخلهم بفضله ورحمته الجنة، وجعلهم نصف عدد أهل الجنة كما جاء في هذا الحديث.
(28/9)
شرح حديث: (إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فكاكك من النار).
وفي حديث آخر: (يجيء يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله لهم)؛ لأنهم تابوا إلى الله سبحانه؛ ولأنهم عملوا من الحسنات ما يكون فيه تكفيراً لذلك، والله يغفر للعبد ويتغمده بفضله ورحمته.
وهنا في قوله صلى الله عليه وسلم: (دفع الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً) يوضح المعنى حديث آخر عن أبي هريرة وفيه: (لكل أحد منزل في الجنة، ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار؛ لأنه مستحق لذلك بكفره).
هنا في هذا الحديث وحديث أبي هريرة بيان أن كل إنسان له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، والله عز وجل جعل حقاً عليه أن يملأ الجنة والنار.
العبد المؤمن وهو في قبره عندما ينجح في الامتحان ويقول: ربي الله يقال له: انظر، فينظر إلى مكان في النار، فيقال له: هذا منزلك لو مت على غير ذلك! أي: لو كنت من أهل النار، ولكن انظر فهذا منزلك، فينظر إلى منزله في الجنة ويقول: يا رب! أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي.
يريد أن تقوم الساعة حتى يدخل هذا المنزل الذي في الجنة.
والإنسان الكافر أيضاً لو كان مؤمناً كان له منزل في الجنة، فيقال له: انظر فهذا منزلك لو عرفت الله، ثم يرى منزله من النار ويؤمر بالدخول في هذا المنزل في النار والعياذ بالله! فالمقصد: أن المؤمن وعده الله عز وجل بالجنة، والمنزل الذي في النار يدخله يهودي أو نصراني، فالله وعد أن يملأ الجنة والنار، فيملأ النار في كل بيوتها من أصناف المشركين واليهود والنصارى وغيرهم، ويملأ الجنة من الموحدين المؤمنين المسلمين الذين عبدوا الله سبحانه تبارك وتعالى.
النار {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:8 - 9].
هنا دخلوا النار بأعمالهم وببعدهم عن الله سبحانه وتعالى، والنار تشتعل وتستعر وتضطرم على أصحابها وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ولا تمتلئ النار حتى يسكتها الله سبحانه تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط) اكتفيت لا أريد شيئاً، فيسكتها الله عز وجل بذلك.
أما الجنة فيجعل فيها عباده الصالحين، ولا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله عز وجل لها خلقاً لم يذنبوا قط، فيكونون من سكان الجنة، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، ما خلق خلقاً جديداً للنار، وإنما أسكت النار، قال صلى الله عليه وسلم: (يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط).
لا يعذب بناره إلا من استحق العذاب، فلم يخلق لها يوم القيامة أهلاً يسكنونها ويملئونها.
أما الجنة فهي فضل الله ورحمته، فيخلق لها أهلاً آخرين حتى يملأ هذه الجنة بهم، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
(28/10)
شرح حديث: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه)
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع كنفه عليه).
الإنسان المؤمن قد يقع في الذنوب في الدنيا، وليس بمعصومٍ إلا من عصم الله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون).
فالمؤمن يدنيه الله عز وجل يوم القيامة منه، ويضع عليه كنفه أي: ستره، فيستره الله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يسمعون ما الذي يقال لهذا الإنسان، فيسأله ربه: عملت كذا يوم كذا؟ ويقول هنا في الحديث: (فيقرره بذنوبه، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف) فربنا يسأله عن ذنوبه، (قال الله عز وجل: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته).
ستره الله ولم يفضحه في الدنيا، ويوم القيامة سأله بينه وبينه ولم يفضحه سبحانه تبارك وتعالى أمام الخلق، ويقول: (سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره).
وفي رواية أخرى عن أنس: (أن الرجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أصبت حداً) ظن أنه وقع في حد من الحدود الحقيقية، والله أعلم بالأمر، لكنه ذهب تائباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والراجح: أن الذنب الذي فعله لم يكن من الكبائر ولم يكن فيه إقامة حد عليه.
الغرض: أنه لما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (هل حضرت معنا الصلاة؟ قال: نعم)، يعني: أن الرجل جاء تائباً، وجاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليه الحد بزعمه وظنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يفضحه: ما الحد الذي وقعت فيه؟ ولكن قال له: (هل حضرت معنا الصلاة؟ فقال: نعم، قال: قد غفر لك).
وفي الرواية الأولى لـ ابن مسعود قال: (فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]).
فتفضل الله تبارك وتعالى على العبد المذنب الذي تاب إليه، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يعترف بذنبه، بأن غفر له بصلاته لله، وقال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
(فرح الرجل بذلك فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألي هذا يا رسول الله؟! فقال: لجميع أمتي كلهم) متفق عليه.
وقد جاء أن العبد إذا أذنب ذنباً فتوضأ وصلى لله أن الله يكفر عنه هذا الذنب بصلاته هذه.
(28/11)
شرح حديث: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها).
هنا الأكلة والشربة بمعنى: اسم المرة، وأيضاً إذا قال: (يأكل الأكلة) بمعنى: ملأ يده فوضعها في فمه، فهذه أكلة.
كذلك الشربة يشربها الإنسان إذا كانت ملء فمه فقط فهذه هي الشربة، فالعبد يأكل أكلة واحدة، ويشرب شربة واحدة ويحمد الله فيرضى بذلك.
يا ترى هذه الأكلة والشربة لو فقدها الإنسان كم يدفع فيها؟ لو أنه في مكان صحراوي حار لا ماء فيه وهو يريد شربة ماء كم سيدفع في هذه الشربة لمن يعطيه إياها؟ سئل ملك من ملوك بني أمية عن ذلك: لو منعت شربة الماء كم تدفع فيها؟ قال: نصف ملكي.
قيل: لو شربت هذه الشربة فلم تخرج منك فحبس عنك البول فكم ستدفع لإخراجها؟ قال: ملكي كله! يدفع في شربة ماء محروم منها نصف ملكه، وفي إخراج هذه الشربة من جسده يدفع ملكه كله، فكم ثمن هذه الشربة؟ إذا: ثمنها عظيم، فهل دفعت هذا الثمن لله عز وجل؟ لم ندفع شيئاً، وقد رضي من العبد أن يقول: الحمد لله، رضي منه أن يشكره سبحانه تبارك وتعالى، (إن الله ليرضى من العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها) يرضى عن عبده، وأيضاً يجعل الله هذا الذي قاله أحب إليه من النعمة التي أنعمها على العبد، فالله ينعم على العبد بنعمة فإذا شكر العبد ربه على هذه النعمة، كان الشكر من العبد أحب إلى الله من النعمة التي أعطاها لهذا العبد.
انظروا إلى كرم الله سبحانه كيف يتفضل على العبد فيعطي النعم، ويلهمه أن يشكره، ثم يرضى منه على ما هو فضله هو، فسبحان الله العظيم وله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
إذا عرف العبد ربه استراح، وعبد ربه سبحانه حتى يلقاه فيريحه بجنته: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة:89].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المقربين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(28/12)
شرح رياض الصالحين - الرجاء في رحمة الله [3]
نبي الأمة صلى الله عليه وسلم يرشد العبد ألا يقنط أبداً من رحمة رب العالمين، فرحمة الله واسعة، وإذا كان خوف العبد من الله يمنعه من المعاصي، فالرجاء فيما عنده يدفع العبد إلى التوبة، وإلى حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فالإنسان المؤمن إذا تاب إلى الله تاب الله عليه، والله تعالى عند ظن عبده به.
(29/1)
شرح حديث: (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الرجاء.
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم.
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قال: قلت: إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) وذكر الحديث.
فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين مما يسمع من آيات في كتاب الله سبحانه، ومما يسمع من أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا ييئس من رحمة رب العالمين أبداً، وهو الذي ذكر عن نفسه سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
وأخبر عن نفسه سبحانه أن رحمته سبقت غضبه، فالمؤمن يرجو رحمة الله، وإذا وقع في ذنب من الذنوب سارع وبادر إلى التوبة سبحانه، فإنه يعلم أن ربه غفور رحيم سبحانه، ويعلم أن ربه شديد العقاب، فإذا كانت عليه حقوق لأهلها أرجع الحقوق وأعادها إلى أهلها، واستحلهم من هذه الحقوق ومما وقع في حقهم من مآثم، ويتوب إلى الله عز وجل، فالله يتوب على من تاب.
فهنا في هذه الأحاديث حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار).
والمعنى: أن الله عز وجل يقبل توبة عباده ليل نهار، فالله عز وجل هو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء مهما تعاظم ذنب الإنسان، فرحمة الله أعظم، فمهما كثرت خطايا الإنسان فإن رحمة الله أكثر وأكبر وأعظم، فجعل باباً للتوبة مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فالله عز وجل يتوب على عباده الذين يتوبون إليه.
وهنا عبر بهذه الكلمة الطيبة الجميلة: أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأنه يدعو عبده، وعادة البشر فيما بينهم إذا بسط يده إلى إنسان كأنه يقول: تعال إلي تعال إلي وربنا ينادي عباده وخاصة في الليل في وقت السحر: (هل من تائب فأتوب عليه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من سائل فأعطيه؟!).
فالله عز وجل كريم رحيم ودود يقبل من عباده توبتهم ويثيبهم الأجر، بل وقد يحول سيئاتهم إلى حسنات فضلاً منه وكرماً سبحانه، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فمن أساء بالنهار لا ينتظر النهار الآخر حتى يتوب إلى الله، ولكن ليتب حالاً إلى الله عز وجل، فمن وقع في الذنب بالليل فليتب حالاً إذا طلع عليه الصبح، أو إذا انتهى وراجع نفسه فليتب إلى الله سريعاً، فالمعنى هنا: أن العبد مهما أذنب وتاب إلى الله فإن الله يتوب عليه سبحانه.
فهذه التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها كان من العلامات الكبرى لقيام الساعة التي إذا تحققت هذه العلامات كلها فإنه يختم على الناس الأحياء: هذا مؤمن وهذا كافر، ولا تقبل توبة بعد ذلك.
فإذا خرجت الدابة من الأرض ختمت على وجوه الناس: هذا مؤمن وهذا كافر، فيصبحون يتبايعون فيما بينهم، فيشتري الإنسان من الآخر ويقول له: يا كافر أعطني كذا، والكافر يقول: يا مؤمن! أعطني كذا، يكتب عليهم ذلك.
ولا تقبل توبة حين تظهر العلامات الكبرى للساعة، ومن ذلك خروج الدابة من الأرض، ونزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وهي عشر علامات ستأتي في آخر الكتاب في المنثورات والملح إن شاء الله.
(29/2)
شرح حديث عمرو بن عبسة في إسلامه
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب في الرجاء.
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم.
وعن أبي نجيح عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً، فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه، فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟ قال: حر وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قال: قلت: إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس! ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني) وذكر الحديث.
فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين مما يسمع من آيات في كتاب الله سبحانه، ومما يسمع من أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا ييئس من رحمة رب العالمين أبداً، وهو الذي ذكر عن نفسه سبحانه أن رحمته وسعت كل شيء قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156].
وأخبر عن نفسه سبحانه أن رحمته سبقت غضبه، فالمؤمن يرجو رحمة الله، وإذا وقع في ذنب من الذنوب سارع وبادر إلى التوبة سبحانه، فإنه يعلم أن ربه غفور رحيم سبحانه، ويعلم أن ربه شديد العقاب، فإذا كانت عليه حقوق لأهلها أرجع الحقوق وأعادها إلى أهلها، واستحلهم من هذه الحقوق ومما وقع في حقهم من مآثم، ويتوب إلى الله عز وجل، فالله يتوب على من تاب.
فهنا في هذه الأحاديث حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه في صحيح مسلم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار).
والمعنى: أن الله عز وجل يقبل توبة عباده ليل نهار، فالله عز وجل هو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، والله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء مهما تعاظم ذنب الإنسان، فرحمة الله أعظم، فمهما كثرت خطايا الإنسان فإن رحمة الله أكثر وأكبر وأعظم، فجعل باباً للتوبة مفتوحاً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها، فالله عز وجل يتوب على عباده الذين يتوبون إليه.
وهنا عبر بهذه الكلمة الطيبة الجميلة: أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وأنه يدعو عبده، وعادة البشر فيما بينهم إذا بسط يده إلى إنسان كأنه يقول: تعال إلي تعال إلي وربنا ينادي عباده وخاصة في الليل في وقت السحر: (هل من تائب فأتوب عليه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من سائل فأعطيه؟!).
فالله عز وجل كريم رحيم ودود يقبل من عباده توبتهم ويثيبهم الأجر، بل وقد يحول سيئاتهم إلى حسنات فضلاً منه وكرماً سبحانه، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فمن أساء بالنهار لا ينتظر النهار الآخر حتى يتوب إلى الله، ولكن ليتب حالاً إلى الله عز وجل، فمن وقع في الذنب بالليل فليتب حالاً إذا طلع عليه الصبح، أو إذا انتهى وراجع نفسه فليتب إلى الله سريعاً، فالمعنى هنا: أن العبد مهما أذنب وتاب إلى الله فإن الله يتوب عليه سبحانه.
فهذه التوبة مفتوحة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها كان من العلامات الكبرى لقيام الساعة التي إذا تحققت هذه العلامات كلها فإنه يختم على الناس الأحياء: هذا مؤمن وهذا كافر، ولا تقبل توبة بعد ذلك.
فإذا خرجت الدابة من الأرض ختمت على وجوه الناس: هذا مؤمن وهذا كافر، فيصبحون يتبايعون فيما بينهم، فيشتري الإنسان من الآخر ويقول له: يا كافر أعطني كذا، والكافر يقول: يا مؤمن! أعطني كذا، يكتب عليهم ذلك.
ولا تقبل توبة حين تظهر العلامات الكبرى للساعة، ومن ذلك خروج الدابة من الأرض، ونزول المسيح على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وطلوع الشمس من مغربها، وهي عشر علامات ستأتي في آخر الكتاب في المنثورات والملح إن شاء الله.
(29/3)
مجيء عمرو بن عبسة وإسلامه بمكة قبل الهجرة
ومن الأحاديث حديث أبي نجيح واسمه: عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه، فيذكر أنه أسلم، ويذكر قصة إسلامه رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فكان -وهو في الجاهلية- عنده نور في قلبه يبين له أن هؤلاء الناس على باطل وعلى شرك وضلالة، ولم يكن يعتقد ما يعتقدون من أباطيل في الجاهلية، فقال: (كنت وأنا في الجاهلية -يعني: قبل النبي صلى الله عليه وسلم- أظن أن الناس على ضلالة).
الله هو الذي قذف في قلبه أن هؤلاء المشركين على ضلالة وباطل، وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان.
قوله: (قال: فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً) سمع أن شخصاً في مكة خرج في هذا الزمن يخبر أخباراً.
قال: (فقعدت على راحلتي -رجل يبحث عن الحق وعن الدين رضي الله عنه- فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جرآء عليه قومه).
وكان هذا في أول الإسلام وأول الدعوة إلى الله عز وجل، وقال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، بدأ غريباً برجل واحد وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، يدعو قومه إلى الدين، فيدخل معه في الدين -كما ذكر لنا هنا- حر وعبد وامرأة وصبي.
فقد دخلت معه من النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن الرجال الأحرار أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ومن العبيد بلال رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهؤلاء الذين كانوا معه مسلمين، فبدأ الإسلام بهؤلاء غريباً، قال عمرو بن عبسة: (فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت: ما أنت؟ قال: أنا نبي، قال: قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله، قال: قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً).
هنا دعا إلى الله عز وجل، وبين محاسن هذا الدين العظيم، فالدين كبير وعظيم، ولكن البدء دائماً يكون بالأهم، وأهم شيء هو توحيد الله عز وجل، ومكارم الأخلاق، فذكر له صلى الله عليه وسلم ما يعرفه الناس بعقولهم من أن هذه الأصنام باطلة، ولذلك هذا الرجل قبل أن يدخل في الإسلام كان يعرف أن هذا الذي عليه المشركون من عبادة باطل، ولكن أين الحق؟ فهو يبحث عن الحق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له أن الله أرسله بذلك قال: (أرسلني بصلة الأرحام) فهذه مكارم الأخلاق؛ لأن أهل مكة كانوا يشيعون على النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاء بقطع الأرحام، فكذبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه إنما جاء بصلة الأرحام لا بقطعها.
قال: (وكسر الأوثان) كسر ما يعبد من دون الله سبحانه تبارك وتعالى، والكلمة جميلة وعظيمة، ما قال: إبطال الأوثان، وإنما قال: كسر الأوثان، فالذي يتفكر يقول: والله لو كانت تنفع غيرها لدافعت عن نفسها وهي تجد من يكسرها، فهذه الأوثان باطلة، فأعمل عقلك في هذا الشيء، واعلم أن هذه أوثان تكسر ولا تملك أن تدفع عن نفسها.
قال صلى الله عليه وسلم: (وأن يوحد الله ولا يشرك به شيئاً، قال: قلت: فمن معك على هذا؟) أي: من دخل في هذا الدين معك؟ (قال: حر وعبد)، الحر: أبو بكر رضي الله عنه، والعبد: بلال رضي الله عنه.
قال: (قلت: إني متبعك) انظر إلى نور الإيمان عندما يكون في قلب الإنسان! لم ينظر إلى الكثرة ولم يقل: عندما يكثر الذين معك سأسلم، مثلما قال كفار قريش، فقد كانوا يقولون له: عندما يكثر عدد الذين معك ندخل في هذا الدين، فأنت ليس معك أحد، فينظرون إلى الكثرة على أنها دليل الصواب والخطأ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى مثل ذلك، فالحق حق وإن قل أتباعه، والباطل باطل وإن كثر أشياعه، فهذا حق وذاك باطل، فهذا النبي صلوات الله وسلامه عليه يخبر أن معه حراً وعبداً على هذا الدين.
يقول الرجل: (إني متبعك، قال: إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا) وهنا هل منعه النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، فهو لم يمنعه من الإسلام، فلا يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم ولا لغيره أن يمنع أحداً من الإسلام، وإنما المعنى: أنه إذا اتبعه وترك قومه ليكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يدفع عنه هؤلاء الكفار، فقال له: امكث في قومك مسلماً حتى يظهر هذا الدين فتأتي وتكون معنا، فهذا من رأفته ورحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الرجل ضعيف، ماذا سيملك لنفسه بين هؤلاء الجحافل من المشركين؟! فإذاً: يبقى مسلماً في قومه إلى أن يظهر الله الإسلام.
فقال صلى الله عليه وسلم للرجل: (إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا، ألا ترى حالي وحال الناس؟) يعني: الناس كثرة وهم يؤذونني، ولا أقدر عليهم، فكيف أدفع عنك؟! (فقال: ولكن ارجع إلى أهلك، فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني).
فالمسألة هي أن تكون معي وتكون في مكانك أنت، أما الإسلام فقد قبله منه صلى الله عليه وسلم، ودخل الرجل في الإسلام بذلك.
(29/4)
مجيء عمرو بن عبسة إلى المدينة
قال: (فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنت في أهلي، فجعلت أتخبر الأخبار) لأن الإسلام دخل في قلب الرجل، وبدأ يبحث وينظر ماذ عمل النبي صلى الله عليه وسلم؟ ويتسمع لأخباره صلوات الله وسلامه عليه.
يقول: (وأسأل الناس حين قدم المدينة، حتى قدم نفر من أهلي من المدينة، فقلت: ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة؟) وكأنه كان يخفي إسلامه، ولم يظهره خوفاً من قومه، (قال: فقالوا: الناس إليه سراعاً، وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك، قال: فقدمت المدينة، فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله! أتعرفني؟ قال: نعم أنت الذي لقيتني بمكة) كيف سينساه صلوات الله وسلامه عليه وهو رجل جاءه في وقت الضعف يقول: أتبعك وأنت في هذه الحال؟ والذي أرجعه إلى بلده هو النبي صلوات الله وسلامه عليه رحمة وشفقة عليه.
(قال: فقلت: يا رسول الله! أخبرني عما علمك الله وأجهله)، لم يقل له: أريد أن أدخل في دين الإسلام فهو من البداية عرف أن هذا الدين حق، وتابع بقلبه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى بلده.
(29/5)
تعليم النبي لعمرو بن عبسة أوقات الصلاة
فهو الآن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما هي أحكام الإسلام التي نزلت عليك؟ علمني مما علمك الله وأجهله، أخبرني عن الصلاة؟ (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل، فإن الصلاة مشهودة محضورة).
النبي صلى الله عليه وسلم يبين له مواقيت الصلوات في هذا الحديث، فقال: (صل صلاة الصبح) أي: في وقتها، (ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس) والمعنى: صلاة الصبح ليس هناك صلاة بعدها، فأقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، وهل عندما تطلع الشمس يصلي نافلة؟ يقول له صلى الله عليه وسلم: (ثم أقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس قيد رمح) يعني: في نظر الناظر إليها، (فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان)، وقت طلوع الشمس هذا هو وقت يسجد الكفار فيه للشمس، فلا يجوز للمسلم أن يؤخر الفرض إلى هذا الوقت باختياره، ولا يجوز له أن يصلي النافلة وقت طلوع الشمس، وتجد في التقويم (وقت الشروق) فهذا الوقت لا يجوز لك أن تؤخر صلاة الصبح فتصليها فيه باختيارك -ولا يجوز وأنت قاعد في هذا الوقت- أن تصلي نافلة حتى ترتفع الشمس بمقدار ربع ساعة أو ثلث ساعة، ثم تصلي صلاة الضحى إن شئت.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار) فنهانا أن نتشبه بهم.
قال: (ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة)، وهي صلاة الضحى، فصل وقت الضحى إلى ما قبل الظهر مباشرة، قال: (حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة) أي: عند الزوال، وذلك عندما تكون الشمس في كبد السماء فوق رأس الإنسان، ويكون الظل كله تحت قدميه فيقول له: لا تصل في هذا الوقت، وهو وقت يسير قبل صلاة الظهر بقدر ركعة على الأقل، فهذا الوقت لا يجوز له أن يصلي فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإنه حينئذ تسجر جهنم) فيكون قبل وقت صلاة الظهر بمقدار دقيقة أو دقيقتين بقدر صلاة ركعة فقط، فهذا هو الوقت الذي تحرم فيه الصلاة، فالذي يدخل ينتظر حتى يؤذن لصلاة الظهر.
قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا أقبل الفيء فصل) فتخيل أنك واقف والشمس تطلع من المشرق فترتفع وترتفع إلى أن تكون فوق رأس الإنسان، فتبتدئ تميل بعد ذلك إلى المغرب، فإذاً: ظلك يتحول إلى ناحية المشرق، فالوقت الذي يتحول فيه هذا الظل هو وقت منعك منه النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي فيه.
قال: (فإذا أقبل الفيء) أي: الظل، كان الظل يتقلص ويتقلص حين صار تحت قدميك، وابتدأ ينتقل بعد ذلك إلى الناحية الأخرى منك، فيكون الظل عند وقت أذان الظهر قد بدأ يتحول من المغرب إلى المشرق.
قال: (فإذا أقبل الفيء فصل، فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر) أي: فصل الفريضة والنافلة حتى وقت العصر فهو وقت مفتوح، فصل فيه ما شئت من نوافل، وليس هناك كراهة.
قال صلى الله عليه وسلم: (ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس) أي: فإذا صليت العصر فلا تصل نافلة حتى تغرب الشمس.
وهنا استثنى العلماء فيما بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر صلاة ما له سبب، مثل: إنسان فاتته سنة الفجر القبلية فصلاها بعد الفجر، فيجوز له أن يصلي ويقصر عن الصلاة، ولا يصلي نافلة أخرى، وإذا كان الإنسان في هذا الوقت يدخل المسجد لسماع درس أو غيره فليصل تحية المسجد، إلا أن يكون عند طلوع الشمس فلا يجوز له أن يصلي.
كذلك قبل الغروب، فبعد صلاة العصر لا صلاة إلا ما له سبب، كإنسان يصلي تحية المسجد أو سنة فائتة فاتته، ولكن لا يصلي غير ذلك، قال لنا هنا: (ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس) فقبيل غروب الشمس يرجع وقت التحريم مرة أخرى مثل وقت طلوع الشمس، والعلة هنا أنها تغرب بين قرني شيطان، فلا يجوز للمسلم أن يؤخر صلاة العصر إلى قبيل الغروب اختياراً؛ لأنه يتشبه بعباد الشمس من الكفار، والمسلم كأنه بفعله هذا يقلد هؤلاء الكفار فيؤخر صلاة العصر إلى هذا الوقت، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم صلاة المنافقين؛ لأن المنافق يرقب الشمس حتى إذا اصفرت قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، فاحذر أن تتشبه بالكفار أو تتشبه بالمنافقين وتؤخر صلاة العصر اختياراً إلى وقت اصفرار الشمس.
وقال صلى الله عليه وسلم: (فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).
(29/6)
تعليم النبي لعمرو بن عبسة الوضوء مع ذكر ما فيه من فضل
قال عمرو فقلت: (يا نبي الله! فالوضوء حدثني عنه؟ قال صلى الله عليه وسلم: ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه).
هذا هو المقصد من هذا الحديث: أن الإنسان عندما يتوضأ تتساقط الذنوب مع آخر قطر الماء، فعندما يغسل وجهه فإن ذنوب الفم والأنف والوجه والعينين تنزل كلها مع الماء.
(فقال: ما منكم رجل يقرب وضوءه -ماء الوضوء- فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه -أنفه-، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام يصلي، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله تعالى إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه).
فهذا حديث عظيم جداً في فضل الله سبحانه تبارك وتعالى على العبيد، في صلاتهم، ووضوئهم، فهذا الوضوء يفعل ذلك.
ثم انظر إلى الصلاة التي تنفع الإنسان! قال صلى الله عليه وسلم: (فإن قام فصلى، فحمد الله تعالى) يعني: قرأ بفاتحة الكتاب، وعرفنا في الحديث الآخر أن الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله تعالى حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] قال: أثنى علي عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إلى آخر الفاتحة قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
فهنا يحمد الله سبحانه تبارك وتعالى، ويثني عليه، ويمجده بالذي هو له أهل، وهذا كله في فاتحة الكتاب إذا قرأها.
(29/7)
أهمية الخشوع في الصلاة
وهنا القيد، إذ قال: (وفرغ قلبه لله تعالى) فالذي يصلي يفرغ قلبه لله سبحانه تبارك وتعالى، فلا يصلي وهو يفكر في عمله، ولا يصلي وتفكيره حول فلان، ولكن ليفرغ قلبه، وهذا عزيز وصعب أن يدخل الإنسان في الصلاة ويتفرغ بكله إلى الصلاة، فهذا صعب على الإنسان إلا من أعطاه الله سبحانه ومن عليه بذلك، لذلك يحاول المسلم جاهداً في ذلك، ويأتي الشيطان على الإنسان فيختلسه شيئاً من صلاته، فيرجع مرة أخرى لصلاته، ثم يرجع إلى تدبره، فيأتي الشيطان ليلهيه ويذكره بشيء في البيت وبشيء في السوق، وبشيء في كذا، فكلما خرج عن صلاته فهو اختلاس يختلسه الشيطان منه.
ولذلك جاء في الحديث: (إن العبد ليصلي الصلاة ليس له منها إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا سدسها، إلا خمسها، إلا ربعها، إلا ثلثها، إلا نصفها)، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن الغالب من أحوال الناس أنهم لا يخرجون بصلاة كاملة.
فإذا كان الإنسان قد فرغ قلبه في صلاته لله رب العالمين، وخرج من هذه الصلاة بفضل من الله وكما قال سبحانه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] فيقبل هذه الصلاة ويغفر لهذا العبد، وينصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه.
فالإنسان المؤمن يعود نفسه على الانتباه في صلاته، وعلى ذكر الله سبحانه، والتدبر الذي قال لنا ربنا فيه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] فالمؤمن يتدبر آيات الله سبحانه، فإذا جاء الشيطان واختلس منه شيئاً لا يترك نفسه مع الشيطان، ولكن ليرجع بسرعة ويتدبر ويتأمل، حتى يكون في النهاية من المتدبرين الخاشعين في صلاته وله هذا الأجر، فإذا دخل في الصلاة خرج منها كهيئته يوم ولدته أمه.
وإذا أحسن الوضوء والصلاة وفرغ قلبه لله، فهذه هي الصلاة التي ذكر الله لنا، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] فهذه هي الصلاة المقبولة التي قبلها الله فأعطى الإنسان بها نوراً في الدنيا ونوراً يوم القيامة، وجعلها تنهى هذا الإنسان عن الفحشاء والمنكر.
(29/8)
تأكيد عمرو بن عبسة لسماعه فضل الوضوء والصلاة من رسول الله
فـ عمرو بن عبسة رضي الله عنه حدث بهذا الحديث وعنده صحابي آخر، وهو أبو أمامة رضي الله عنه فقال له أبو أمامة: (يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول! في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟!).
يعني: كأنه استكثر أن كل هذا يعطاه العبد في مقام واحد، أنه إذا توضأ هذا الوضوء خرت الخطايا كلها منه، ثم يدخل في الصلاة فيخرج منها كيوم ولدته أمه، ليس عليه ذنب، يقول له: تذكر جيداً أن تكون قد نسيت شيئاً مما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم.
فكان جواب عمرو رضي الله عنه أنه قال: (يا أبا أمامة! لقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب أجلي، ومالي حاجة أن أكذب على الله تعالى)، وحاشا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم أو على ربهم سبحانه.
قال: (ولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبع مرات ما حدثت بهذا أبداًَ).
يعني: هذا الحديث لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، بل قاله سبع مرات، والعدد (سبعة) يذكره العرب بمعنى: الكثرة، ولعله قالها أكثر من ذلك.
قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً -حتى عد سبع مرات- ما حدثت أبداً به.
قال: (ولكني سمعته أكثر من ذلك).
وحق للصحابي الذي سمع ذلك أن يبلغ ذلك للأمة حتى لا ييئسوا من رحمة رب العالمين، وحتى يعرفوا فضل الصلاة، فهي ركن من أركان الإسلام، بل هي من أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك المؤمن الذي يصلي يعرف أن هذه الصلاة صلة بينه وبين ربه فيحسن هذه الصلاة ويستقيم فيها، ويأتيها ويعلم أن له في الوضوء أجر، وله في المشي إلى المسجد أجر، وفي صلاة الجماعة أجر، وفي انتظار الصلاة أجر، وفي التسبيح بعد الصلاة أجر، وفي القعود في المسجد بين الصلاة والصلاة أجر.
فكل هذه الأجور العظيمة في هذه الصلاة لها منزلة كبيرة عند الله، فتعرف منزلة الصلاة، وأنها لم تفرض على الأرض وإنما فرضت في السماء، فالصلاة عالية جداً، ومنزلتها عظيمة جداً، يرتفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، فتفرض عليه وهو فوق السماوات صلوات الله وسلامه عليه.
(29/9)
شرح حديث: (إذا أراد الله رحمة أمة قبض نبيها قبلها)
كذلك من الأحاديث: حديث لـ أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلاك أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو حي ينظر، فأقر عينه بهلاكها حين كذبوه وعصوا أمره).
والصحابة عندما يسمعون ذلك ينظرون: يا ترى هل يموت النبي صلى الله عليه وسلم أولاً أم أصحابه؟! فهنا النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يخبرهم عن رحمة رب العالمين بهذه الأمة، وهو رحمة مهداة إلى هذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، فالله عز وجل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] (وما - إلا) أسلوب حصر، فهو رحمة لهذه الأمة صلوات الله وسلامه عليه، وقد وعد الله هذه الأمة ألا يعذبهم وهو فيهم صلى الله عليه وسلم، وزادهم من فضله وكرمه، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
قوله: (وأنت فيهم) أي: وأنت رحمة للأمة، فإذا قبض الله النبي صلى الله عليه وسلم فالرحمة باقية منه سبحانه، بأن يستغفر المؤمنون رب العالمين فيغفر لهم ولا يعذبهم، أي: عذاباً عاماً يستأصل الجميع، ولكن لا يمنع أن يكون على بعض الأقوام شيء من غضب الله عز وجل فيأخذهم ببعض ذنوبهم في الدنيا، ولكن العذاب العام الذي يستأصل الأمة لا يكون؛ لأن الله وعد هذه الأمة أنه لا يهلكهم ونبيهم فيهم عليه الصلاة والسلام، ولا يهلكهم وهم يستغفرون.
وذكر الإمام النووي رحمه الله في فضل الرجاء آية وهي قول الله عز وجل عن العبد الصالح: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45] وهذا مؤمن من آل فرعون يدعو قومه للإيمان بالنبي موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فهم يكذبون موسى عليه الصلاة والسلام وهذا يقول لهم: إن هذا رجل جاءكم بالبينات من رب العالمين.
وقال لهم: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر:41] فقال عنه سبحانه أنه قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
فإذا توكل الإنسان على الله وفوض أمره إلى الله فإن الله يقيه من كل سوء ومكروه، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:45] لما توكل على الله وفوض الأمر إليه إذا بالله سبحانه تبارك وتعالى يقيه مكرهم.
(29/10)
شرح حديث: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته)
كذلك من الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة).
يذكر في هذا الحديث العظيم أن الله عز وجل عند ظن عبده به، فالعبد لا يظن بالله إلا الخير، فإذا به يعمل الخير، والله عز وجل يعطيه الأجر على ذلك، ويكون عند ظن هذا العبد، فإذا أساء العبد وعلم أن الله غفور رحيم فتاب إلى الله عز وجل وأصلح حاله مع الله، وأصلح حاله مع الخلق، وأحسن الظن بالله أنه يتجاوز عن سيئاته، ويغفر له ذنوبه فهو عند ظنه: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني) في أي مكان يذكر الله عز وجل فإن الله عز وجل معه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)، يفرح الله عز وجل بتوبة العبد إليه، والعبيد عبيد الله سبحانه، فلو شاء لأهلكهم وهو غير ظالم لهم سبحانه، ولو شاء لأعطاهم سبحانه تبارك وتعالى ولا ينفد ما عنده.
وهنا انظروا إلى العبد الذي خلقه الله، فإن الله به رحيم سبحانه، يفرح بتوبته، فإذا فرح بتوبة العبد هل تتخيل أنه يفرح بتوبته ثم يعذبه سبحانه تبارك وتعالى.
ولذلك يقول: (والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)، وفي رواية أخرى أن هذا الإنسان الذي وجد ضالته في الفلاة: (كان عليها طعامه وشرابه، فإذا بهذه الناقة تنفلت) أي: تهرب منه وتضيع منه في الفلاة، (فأيقن بالهلكة)، لأنه لا ناقة له يرحل عليها، ولا طعام يأكله، ولا شراب يشربه، فجاء تحت ظل شجرة ووضع يده تحت رأسه ونام مستسلماً للموت فاستيقظ من نومه فوجد الناقة أمامه، (فاستيقظ ووجد ضالته أمامه، فإذا به يفرح فرحاً عظيماً، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك! أخطأ من شدة الفرح) فهذه فرحة هذا العبد حين وجد ضالته، ولله عز وجل المثل الأعلى.
وهنا يفرح الله سبحانه بأن العبد يتوب إليه أشد من فرح أحدكم إذا ضل منه شيء في فلاة فوجده، فإذا فرح الله عز وجل بتوبة العبد هل نظن أنه سيحاسبه ويعذبه؟ الله سبحانه تبارك وتعالى أرحم بعبده.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: (ومن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً).
والجزاء من جنس العمل، فإذا تقربت من الله عز وجل فإن الله يتقرب إليك، ولكن كيف ستتقرب إلى الله؛ هل ستصعد بسلم إلى السماء؟ لا، وإنما تتقرب إلى الله بالعمل، والعمل يرفع إلى الله عز وجل، فإذا تقربت بالعمل فإن الله عز وجل يتقرب إليك بجزاء هذا العمل، فأنت تتقرب إليه شبراً والثواب يكون عشرة أمثال، وأضعافاً مضاعفة لا يعلمها إلا الله سبحانه تبارك وتعالى.
فالمعنى: كلما تقربت إليه بعمل أعطاك ثواباً جزيلاً عظيماً لا يخطر على بالك، (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً).
والذراع معروف.
والباع: هو فتح اليدين، أي: يعطيك أكثر مما تقربت إليه سبحانه تبارك وتعالى.
قال: (وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول)، والهرولة بمعنى: الإسراع للطاعة، فإن الله يسرع إليك بالثواب.
وفي الحديث الآخر: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فيمل العبد، وحاشا لله أن يمل سبحانه، ولكن المعنى هنا أنه يقطع عنك الثواب والأجر حين تمل أنت من العبادة، فأنت تبادر وتسارع إلى الطاعة، والله يسرع إليك بثواب هذه الطاعة، أي: في الدنيا والآخرة، فإذا مل العبد وترك الطاعة انقطع عنه هذا الثواب حتى يراجع الطاعة مرة أخرى.
وفي رواية للحديث قال: (وأنا معه حين يذكرني).
(29/11)
شرح حديث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)
وروى مسلم عن جابر رضي الله عنهما.
أي: عنه وعن أبيه عبد الله بن حرام الأنصاري، أحد الشهداء الذين خاطبهم الله كفاحاً رضي الله عنه؛ ولذلك عندما يحدثون عن جابر بن عبد الله يقولون: رضي الله عنهما.
سمع جابر النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل).
والمعنى: ليكن حسن الظن في قلبك، حتى إذا جاءتك الوفاة كنت على حسن الظن بربك سبحانه، أي: حسن الظن الذي يدفعك إلى العمل، وإحسان الظن هذا ينفعك في حال وفاتك، فالله عز وجل يقول: (أنا عند ظن عبدي بي).
وهنا يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم على عبد شاب وهو يموت، فسأله صلى الله عليه وسلم وقال: (كيف تجدك؟ قال: أجدني أرجو الله وأخاف ذنوبي) أنا أرجو رحمة رب العالمين، لكنني خائف من ذنوبي، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمعان في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجاه، وأمنه مما يخاف)، فعند الوفاة إذا كان العبد يرجو رحمة رب العالمين فالله عند حسن ظنه به.
وهناك حديث آخر عن أنس بن مالك يرويه الترمذي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
العبد يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى وقد يكون من العصاة أو من أهل الكبائر، بل من أهل الكفر، فإذا تاب ورجع إلى الله تبارك وتعالى ودعا ربه فإن الله يغفر له يقول: (غفرت لك ولا أبالي)، وسيبالي بماذا؟ من الذي سيحاسب الله سبحانه تبارك وتعالى حاشا له سبحانه؟ قال: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك).
العبد يذنب ذنباً ثم ذنباً ثم كبيرة ففاحشة إلى أن تصل إلى عنان السماء، ثم يتوب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً يعلم الله صدقه في ذلك فيغفر له، ويأتيه بقرابها مغفرة، فلو ملأ ما بين السماء والأرض ذنوباً ثم تاب إلى الله، فإنه يغيرها ويملؤها له ربه سبحانه بالفضل والرحمة.
قال هنا سبحانه: (إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
والمعنى من جميع هذه الأحاديث: أن العبد لا يقنط أبداً من رحمة رب العالمين، فرحمة الله واسعة، وخوف العبد من الله يمنعه من المعاصي، والرجاء فيما عند الله يدفع العبد إلى التوبة وإلى حسن الظن في الله سبحانه وتعالى.
فالإنسان المؤمن إذا تاب إلى الله عز وجل علم فضل الله عز وجل عليه في أنه ألهمه التوبة، وعلم فضل الله عز وجل عليه في أنه قبل منه هذه التوبة، وعلم فضل الله عز وجل عليه أن ثبته على الهدى.
نسأل الله عز وجل أن يتوب علينا، وأن يثبتنا على الهدى حتى نلقاه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(29/12)
شرح رياض الصالحين - الجمع بين الخوف والرجاء وفضل البكاء من خشية الله تعالى
إن الخوف والبكاء من خشية الله تعالى من أعظم الفضائل الدالة على إيمان المرء، وبهما يعلو الإنسان ويشرف بين الأنام، فهما فعْل الأنبياء والصالحين والأواهين، وهما حلية عباد الله التائبين، والمتصف بهما من الذين يظلهم الله عز وجل في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
(30/1)
الجمع بين الخوف والرجاء
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الجمع بين الخوف والرجاء.
اعلم أن المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفاً راجياً، ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء، وقواعد الشرع من نصوص الكتاب والسنة وغير ذلك متوافرة على ذلك.
قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106].
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
وقال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14].
وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9].
والآيات في هذا المعنى كثيرة، فيجتمع الخوف والرجاء في آيتين مقترنتين أو آيات أو آية.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)، رواه مسلم].
(30/2)
ما جاء من الجمع بين الخوف والرجاء في القرآن
هذا باب آخر من أبواب كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الجمع بين الخوف والرجاء، وقد ذكر قبل ذلك باباً في الخوف، وذكر باباً في الرجاء، وذكر باباً في فضل الرجاء، وذكر هنا باباً في الجمع بين الخوف والرجاء، وبين لنا أن المقصد منه أن العبد المؤمن في حال صحته يكون خائفاً راجياً، فيخاف من الله عز وجل، ويكون راجياً لرحمة رب العالمين سبحانه.
فالخوف يجعله مطيعاً لله، ويمنعه من الوقوع في المعاصي، والرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، فيرجو فضله ورحمته.
وإذا كان في حال المرض وخاصة المرض المخوف فإنه يغلب جانب الرجاء، فالرجاء يجعله إذا وقع في شيء من الذنوب سرعان ما يرجع إلى الله عز وجل تائباً إليه، ويرجو فضله ورحمته، وكذلك يجعله يحسن الظن بالله سبحانه، والله عند ظن العبد به، فإذا أحسن العبد ظنه بالله ورجاءه قبله سبحانه وأعطاه ما لا يرجوه.
قال الله عز وجل: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقال تبارك وتعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54]، فربنا يملي للإنسان الكافر ويملي للفاجر، قال سبحانه: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
فمن ظن أن الله عز وجل يعطيه وهو يعصي ربه، أو ظن أن الله يعطيه لخيريته، أو لأنه يستحق ذلك، فهذا إنسان قد جهل ربه سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]، وجهل ما وقع فيه من معاص، فالإنسان الذي يفجر ويعصي ويتركه ربه فذلك الترك لأمرين: إما أن يراجع العبد نفسه فيتوب إلى الله، وإما أن يكون ذلك إملاءً من الله سبحانه، حيث قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ} [الأعراف:183] أي: يتركهم إلى أن يأخذهم أخذاً يعتبرون به، والسعيد من اتعظ بغيره، والشقي من لم ينتفع بهذه الموعظة.
فالإنسان الذي يتعظ بغيره يكون له في ذلك عبرة، فيحذر أن يقع في تلك المخالفة التي وقع فيها غيره.
وأما الإنسان الذي لا يعتبر بشيء فكلما أعطاه الله ازداد كبراً وغروراً، فهذا يملي الله له، فإذا أخذه جعله عبرة لغيره، قال سبحانه: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
والمكر: هو الكيد من الله عز وجل والإملاء والاستدراج للعبد، فالعبد يخادع ربه والله خادعه، فالمنافق مثلاً يخادع وربنا يملي له ويتركه حتى إذا دخل في المكان الذي يظن أنه آمن فيه إذا بحتفه يأتيه، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183]، فربنا يمكر بهم ويأخذهم من حيث يشعرون أنهم آمنون، وأنهم لا يوصل إليهم، وإذا بكيد الله يصل إليهم في مأمنهم.
فالله عز وجل يمكر بالكافر ويمكر بالفاجر، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].
فالذي يأمن مكر الله لا يستعد لذلك بالإيمان وبالطاعة، وهذا إنسان خاسر يظن أن الله لا يقدر عليه.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87] وروح الله: رحمته.
فالذي ييئس من الرحمة لا يستحقها؛ لأنه لم يؤمن بصفة من صفات رب العالمين، فإذا يئس من رحمة الله لم يستحقها وصار كافراً؛ لأنه أنكر صفة من صفات رب العالمين سبحانه، والذي يأمن مكر الله يستحق أن يكون من الخاسرين؛ لأنه تناسى صفة من صفات الله عز وجل وهي صفة القدرة وصفة الإملاء، فهو يملي وكيده متين.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106] وهذا في يوم القيامة، فهناك تظهر أعمال العباد، {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران:106]، وهذا لمن عرفوا الحق ثم تنكبوا عن طريقه، ولمن دخلوا في الإسلام ثم ارتدوا عنه، فيقال لهم: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:106 - 107].
فالذين يبيض الله عز وجل وجوههم يفرحون بذلك، فإذا دخلوا الجنة قال الله لأهل الجنة: (هل تريدون شيئاً؟ فيقولون: وأي شيء نطلب، ألم تعطنا؟ ألم تبيض وجوهنا؟)، فمن ضمن ما يذكرونه لله رب العالمين وله المنة سبحانه: أنه بيض وجوههم، وأدخلهم جنته سبحانه.
وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167].
وهذه صفات لله سبحانه، فهو سريع العقاب، وقد يحلم عن عبيده ويتركهم لعلهم يتوبون، {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]، فالإنسان بين الخوف والرجاء، فهو بين الخوف من سريع العقاب سبحانه، وبين رجاء رحمة أرحم الراحمين الغفور الرحيم.
وقال سبحانه: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14].
فربنا يمنّي الإنسان المؤمن بهذه النعم، فيعمل له بطاعته، ويخوفه من الجحيم، فاحذر أن تفجر فتكون من أهلها.
وقال سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة:6 - 7].
وقال في سورة الحاقة: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة:21 - 23] ويقال لهم: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
وقال سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة:8]: فالموازين توضع في يوم القيامة، فتوزن أعمال العبد، فإن ثقلت الموازين ورجحت كان من أهل الجنة، وكان في عيشة راضية.
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]: أي: هي مقصده ومصيره ومكانه الذي يستحقه، فيهوي في نار جهنم، فأمه: أي: مقصده وسبيله وطريقه، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:10 - 11].
(30/3)
شرح حديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد)
ومن الأحاديث ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد).
لو يعلم المؤمن وليس الكافر؛ من أجل ألا يتكل المرء على الرجاء، ويقول: أنا راج رحمة رب العالمين، أنا لأجل هذه الرحمة تارك العمل وتارك للصلاة والصوم! فالإنسان الذي يرجو الرحمة يعمل لها؛ حتى يستحقها.
ففي هذا الحديث: (لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة)، فقد يعاقب المرء وإن قال: لا إله إلا الله بعقوبات شديدة في نار جهنم، فبعض عصاة الموحدين قالوا: لا إله إلا الله ووحدوا الله، فدخلوا نار جهنم بمعصيتهم: بآفات ألسنتهم وأعضائهم وجوارحهم، فبالآفات التي وقعوا فيها استحقوا العقوبة.
قال: (ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد)، فالكافر لو عرف ما عند الله من رحمة ما قنط من جنته، ولكن الكافر لا جنة له إلا أن يتوب ويدخل في دين الله تبارك وتعالى.
وقد قال سبحانه في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالكافر لو اطلع على الرحمة لظن أن الله سيرحمه ويدخله الجنة مع كفره وشركه بالله سبحانه، وحاشا لله عز وجل أن يخلف موعده، فقد وعد المؤمنين بالجنة، وأوعد العصاة والكفار بالنار، فالمشركون الذين يموتون على الشرك بالله لا يستحقون دخول جنة رب العالمين سبحانه.
(30/4)
شرح حديث: (إذا كانت الجنازة صالحة قالت: قدموني قدموني)
ومن الأحاديث في ذلك ما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم: فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها، ويسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق).
فهذا حديث عظيم يخيف الإنسان المؤمن، وكم من جنائز تأتي ويصلى عليها وترفع ويمشي بها الإنسان ولا يتدبر ما صار إليه الميت، فهو الآن محمول على نعشه، وموثق في كفنه، فلا يقدر أن يفر ويفلت، فماذا سيحصل له؟! فالإنسان المؤمن يرجو رحمة رب العالمين سبحانه وأن يساعده عند خروج الروح.
والإنسان الكافر الفاجر يرى العذاب من أول خروج روحه، فهنا إن كانت صالحة احتملها الناس على أعناقهم وقالت: (قدموني قدموني)، فالمؤمن الصالح يتشوق للجنة ويتشوق للنعيم الذي عند رب العالمين، فالملائكة تبشره من ساعة خروج روحه وتقول له: (اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى روح من الله وريحان، ورب غير غضبان) فيستبشر المؤمن بذلك، وقد تخرج نفسه بعرَق الجبين، أي: بتعب وشدة ومشقة، وهذا يرفع درجته عند الله عز وجل، فهو فرحان بذلك وإن شدد عليه حتى يصل إلى جنة رب العالمين.
وأما الإنسان الفاجر الكافر العاصي فيقول عن نفسه كما قال هنا النبي صلى الله عليه وسلم: (قالت: يا ويلها) يعني: هذا الإنسان يتكلم عن نفسه، والنبي صلى الله عليه وسلم ما قال عن نفسه: يا ويلي، وإنما حكى قول هذا الفاجر والعاصي أنه يقول عن نفسه: (يا ويلها أين تذهبون بها)، والأصل: يا ويلي أين تذهبون بي، فمن ساعة خروج روحه أتت له الملائكة بكفن من النار، وحنوط من النار، ويخلو هذا الإنسان برائحته العفنة، فيصعدون به إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء كما ذكرنا قبل ذلك.
فهذا الإنسان يصرخ وهو فوق نعشه ولا أحد يسمعه حتى يصل إلى قبره وهو يصرخ ويقول: أين تذهبون بها؟ ويسمع صوتها كل شيء كالبهائم، ولا يسمعه الإنس والجن، ولو سمعه الإنسان لصعق من صوته البشع؛ من شدة خوفه ورعبه.
وقد أمرنا بشهود واتباع الجنازة حتى نعتبر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حضروا جنازة لا يعرف أهل الميت من غيرهم فالكل يبكي من هذا اليوم، وخوفاً من هذا المكان وهو القبر وما يكون فيه، لذلك فالجنازة عبرة للإنسان المؤمن، فإذا ذهب إلى القبور وسلم عليهم نظر وعلم أن هذا مآله ومصيره، وتخيل في القبور وما فيها، يقول الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات:25] أي: أنها كفتتهم وضمتهم فوقها وتحتها أحياء وأمواتاً.
فالمؤمن يتعظ مهما حصّل من الدنيا من نعيم ومن قصور، ويعد نفسه للدار الآخرة ولنعيم رب العالمين بطاعة الله سبحانه، وبالبعد عن معاصي الله سبحانه، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه.
(30/5)
شرح حديث: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)
روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله).
وشراك النعل: هي السيور التي في ظهر الحذاء، فهذه السيور قريبة منك تربطها سريعاً وتحط رجلك فيها، فالجنة أقرب، بمعنى أن عمل الجنة سهل على من أخلص لله عز وجل.
(والنار مثل ذلك)، فالمعاصي سهل على الإنسان أن يفعلها، وربنا قد هدى العباد فقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فطريق السعادة طريق سهل، وطريق الشقاوة طريق سهل، واختر أنت أي الطريقين، ولا تنظر إلى قضاء الله وقدره فإنه لن يطلعك على الغيب، فكل شيء يجري بمقدار، وكل شيء هو بقضاء الله وقدره، ولكن ما قضاؤه فيّ وما قضاؤه فيك؟ لا ندري، فلم يطلعنا على هذا القضاء.
إذاً فنؤمن بالغيب ونؤمن بالقضاء والقدر ولا نجعله مانعاً من العمل، فالمؤمن مصدق بالقضاء والقدر، وأن كل شيء خلقه الله بقدر، وأن الله خلق العباد وخلق ما يعملون، والله علم كل شيء وخلق فريقاً للجنة وفريقاً في النار، فهذا كله نؤمن به.
أما أن تجعله أمراً يمنعك من العمل فأنت لم تطلع على هذا الغيب حتى تمتنع، فترى الإنسان الذي يجادل في قضاء الله يقول: إذا كان الله عز وجل قدر لي أن أدخل الجنة فسأعمل بعمل أهل الجنة، فيقال له: إن الله جل وعلا لم يمنعك من عمل أهل الجنة، فهل حاولت أن تصلي ومنعك؟ وهل حاولت أن تتصدق بصدقة ومنعك؟ كلا، فتقدم إلى العمل ودع الاحتجاج بالقضاء والقدر، وعليك أن تؤمن بهما فالله عز وجل قدر كل شيء.
والصحابة لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن القضاء والقدر، وعن هذه الأعمال التي نحن نعملها هل هي شيء قد فرغ منه أم أنها شيء لا زلنا نعمله ويعلمه الله عز وجل؟ فأخبرهم أنه شيء قد فرغ منه وانتهى أمر القضاء والقدر، فكل شيء مقدر عند الله، وكل إنسان معلوم عند الله منزله في الجنة أو في النار.
فالمطلوب منك أن تؤمن بالقضاء والقدر، ومطلوب منك أن تعمل، فلا تضيع الوقت في الجدل وفي الكلام، فإذا كنت من أهل الجنة يسر لك الله عمل أهل الجنة، وإذا كنت من أهل النار عسر عليك الله طريق الجنة، فالذي يجادل في هذا لا يستحق الجواب، وانظر الجواب بعد ذلك عندما يدفن في قبره، عندما تجيء الملائكة تأخذ روحه فيسأل عن تضييع الوقت في هذا الجدل.
فالذي يستهين بأمر النار دعه يستهين بأمر النار حتى يدخلها، فهناك يعرف ماذا كان يعمل في الدنيا، وما هو الشيء الذي حرمه من دخول الجنة.
وأما الإنسان المؤمن فلا يفكر في أمر القضاء والقدر ولماذا ربنا عمل كذا؟ بل هو مؤمن بالله عز وجل، ومؤمن بالغيب، وعلم من كتاب الله سبحانه الآية العظيمة التي قال الله سبحانه فيها: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فالله لا يسأل لم فعل كذا؟ وإنما أنت الذي تسأل عن ذلك، فأعد لهذا السؤال جواباً، ولا تضيع وقتك فيما لا ينفعك بل يضرك.
(الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) يعني: أن عمل الجنة عمل سهل ولكن دع عنك الشهوات، ودع عنك الشبهات تيسر لطريق الجنة.
(والنار أقرب إلى أحدكم من شراك نعله)، فالمعصية سهلة أن يقع الإنسان فيها، فالجنة سهلة والنار سهلة، والذي يوفقه الله عز وجل ييسر له طريق الجنة.
(30/6)
شرح حديث: (فضل البكاء من خشية الله)
(30/7)
من صفات المؤمنين أنهم يخرون لله سجداً وبكياً
ذكر الإمام النووي رحمه الله باباً في فضل البكاء من خشية الله تعالى، وشوقاً إليه.
فهناك من يبكي خوفاً من الله، ومنهم من يعلم أنه مذنب فيبكي تائباً لله سبحانه، ومنهم من عبد الله ووجد نفسه لا يقدر على إحسان العبادة، فيبكي على كونه لم يوفق لذلك، ومنهم من يبكي حباً لله عز وجل وشوقاً للقائه سبحانه، فالبكاء أنواع.
قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:109]: فالمؤمنون الصالحون المقربون يسمعون كلام الله سبحانه فيخرون لله سجداً: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:108 - 109].
وقال سبحانه: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} [النجم:59] أي: أغاية جهدكم في هذا القرآن العظيم أنكم تتعجبون منه فقط، {وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:60 - 61] أي: في لهو وفي غفلة {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62].
(30/8)
بكاء النبي عند سماع القرآن
وعن ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ عليّ القرآن).
فهذا النبي العظيم الكريم صلوات الله وسلامه عليه سيد الخلق يجلس ويقول لـ عبد الله بن مسعود: اقرأ علي القرآن، فـ ابن مسعود يتواضع مع النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟!) يعني: لقد أنزل القرآن عليك، ومثلي لا يقرأ عليك أنت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أحب أن أسمعه من غيري).
قال: (فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء:41])، وهذه الآية العظيمة فيها تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، ورفعة لمنزلته، ومعناها: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم، وجئنا بك شاهداً على هؤلاء جميعهم، فالشاهد في الدنيا محل تزكية، فهو مزكى تقبل شهادته، فكيف بالآخرة؟ ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم، فمقامه مقام علي جداً صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك فهو ينظر لهذا المقام ولهذا الوقت ولهذا اليوم وللرعب الذي يكون فيه العباد فيبكي صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (حسبك الآن، فالتفتُ إليه فإذا عيناه تذرفان)؛ من بكائه من هول الموقف وهو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، فآدم فمن دونه تحت لوائه صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة، وهو يبكي من هذا اليوم، وهو الشفيع فيه، فنحن أحق بذلك منه صلوات الله وسلامه عليه.
(30/9)
من علم حقيقة الأمر بكى كثيراً وضحك قليلاً
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً).
فعادة الإنسان في الدنيا أنه يضحك كثيراً ويبكي قليلاً، ولعل البعض لا يبكي أصلاً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين، فقد رأى الجنة والنار صلوات الله وسلامه عليه، ورأى ملائكة الله سبحانه، وسمع عذاب القبر، وكان يقول لأصحابه أحياناً: (هل تسمعون ما أسمع؟) وهم لا يسمعون ما يسمع، ويمر على قبرين يعذبان فيقول: (إنهما يعذبان ولا يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس).
فهنا رأى ما لا يرون، ولو رأى الناس ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، أو علموا يقيناً ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لكان الأمر كما قال: (لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قال: فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين)، أي: أنهم تأثروا بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، واستحضروا خشية الله سبحانه، فإذا بهم يبكون.
والخنين هو صوت الأنف عندما يخرج منه النفس ويدخل أثناء البكاء، وهذا من كتمان بكائهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
(30/10)
لا يدخل النار من بكى من خشية الله
ومن الأحاديث ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم).
فالبكاء من خشية الله وخاصة إذا كان الإنسان وحده أمر عظيم، فإذا جلس الإنسان وتذكر عقوبة رب العالمين وعذابه، وتذكر ما هو صائر إليه، وتذكر قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71] فإذا به يبكي من خوف الله سبحانه، فإذا بكى من خوف الله فإن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذا لا يلج النار؛ لكونه خاف من الله سبحانه، والذي يخاف من الله فإن الله يجعل في قلبه الإخلاص، فجزاء الإحسان الإحسان، فأنت أحسنت بخوفك من الله فالله عز وجل يزيد إيمانك، ويوفقك للعمل الصالح، ويهديك ويزيدك هدىً، فلا تكون من أهل النار يوم القيامة.
إن الذي يبكي من خشية الله يستحق من الله أن يعينه على طريق الطاعة حتى يصل إلى جنة رب العالمين.
قوله: (لا يلج) أي: لا يدخل.
(حتى يعود اللبن في الضرع) وهذا مستحيل، فاللبن من البقرة لا يمكن أن ترجعه مرة ثانية إلى ضرعها، والمعنى: أنه طالما وهو يخاف الله سبحانه حتى يلقاه فربنا لا يعذب هذا الإنسان.
(ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم) أي: لا يمكن أن الإنسان يسير مجاهداً في سبيل الله فيقطع الطريق، ويصيبه الغبار ويدخل أنفه وصدره ثم في يوم القيامة يدخله الله النار! لا يكون من هذا شيء، وهذا وعد من الله على لسان رسوله الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
(30/11)
رجل بكى من خشية الله
ومن الأحاديث ما ذكرناه قبل ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وآخرهم: ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
فالذي يذكر الله خالياً فيبكي هذا دليل أن الله يرحمه، فهذا الإنسان كلما ذكر الله خالياً بكى من خوف الله سبحانه.
وفي صلاة الجماعة إذا بكى الإنسان فلعله يهيج من بجواره فيبكي، وهكذا الثاني والثالث، وهذا فيه أجر عظيم من الله سبحانه.
وأما الذي يبكي خالياً فهذا الشيء أعظم بكثير، فهو خالٍ يخاف الله عز وجل ولا أحد يراه، فلا يوجد رياء، فهذا يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
(30/12)
بكاء رسول الله في الصلاة
ومن الأحاديث ما رواه أبو داود وغيره عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء).
وهذا من خشيته صلوات الله وسلامه عليه، فقد اتخذه الله خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فقربه وفضله واصطفاه ورفع درجته في الجنة، وجعله الشفيع يوم القيامة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك كله فهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
(30/13)
بكاء أبي بن كعب حين علم أن الله ذكره باسمه
ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب رضي الله عنه: (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك)، وأبي بن كعب رضي الله تبارك وتعالى عنه من الصحابة الأفاضل، وهو أنصاري خزرجي رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وقد كان حافظاً لكتاب الله سبحانه، ولما نسي النبي صلى الله عليه وسلم مرة في صلاته قال بعد الصلاة: (أفيكم أبي؟ فقال: نعم، فقال: فما منعك أن ترد علي وأنا في الصلاة؟ فقال: ظننت أنها نسخت).
فهذه فضيلة لـ أبي بن كعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان عمر يلقبه بسيد القراء رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فـ أبي بن كعب يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل أمرني أن أقرأ عليك) يعني: أقرأ عليك القرآن، (فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1]).
وقرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى تكون سنة لمن بعده: أن الفاضل يقرأ على المفضول، فليس شرطاً أن التلميذ يقرأ على الأستاذ دائماً، فيصح أن الأستاذ يقرأ على التلميذ ويسمع التلميذ، فيتعلم القراءة من الأستاذ، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على أبي، فتعجب أبي وقال: (وسماني - يعني: ربنا سماني - قال: نعم.
فبكى أبي رضي الله تبارك وتعالى).
(30/14)
بكاء أبي بكر وعمر عندما زارا أم أيمن
وعن أنس أيضاً قال: قال أبو بكر لـ عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنها، وهي حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزوجة حبيب النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأم حب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة.
فقال: انطلق بنا إلى أم أيمن رضي الله عنهما نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، أما تعلمين أن ما عند الله تعالى خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إني لا أبكي أني لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء.
أي: أنها اشتاقت للوحي ونزول القرآن من عند رب العالمين بالأحكام، وأمور الغيب، والتبشير بالجنة والتخويف من النار، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.
رواه مسلم.
(30/15)
بكاء أبي بكر في الصلاة
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه قيل له: الصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن غلبه البكاء).
وصدقت في ذلك وإن كانت لا تقصد هذا الشيء، فصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا صلى يبكي ويخاف من الله عز وجل، وهذا كان سبب إسلام بعض المشركين وخاصة نساء المشركين، فقد حجزه المشركون في بيته حتى لا يقرأ على الناس القرآن، فكان يجلس في بيته ويقرأ ويبكي، فإذا بنساء المشركين يأتينه ينظرن إليه ويستمعن منه لكتاب الله رب العالمين.
فالسيدة عائشة تقول له: إنه إذا قام يقرأ في الصلاة فلن يسمع الناس؛ لأنه سيبكي في الصلاة، فلا يسمعهم، ولكن لم يكن غرضها ذلك رضي الله تبارك وتعالى عنها، وإنما كانت تخاف أن يتشاءم الناس منه أنه سيصلي بدل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس، فصلى بالناس في فترة وجع النبي صلوات الله وسلامه عليه).
(30/16)
بكاء عبد الرحمن بن عوف عند تذكره لمن مضى من الصحابة
وفي صحيح البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني.
وانظروا إلى اعتبار الصحابة رضوان الله عليهم، فهم يتذكرون الدار الآخرة، فقد كان عبد الرحمن بن عوف صائماً ويريد أن يفطر حين جاء وقت الإفطار، فأتوا له بالطعام من أجل أن يفطر فتذكر الفقراء، فقد كان من أغنياء الصحابة، وكانت له أموال كثيرة جداً، وكان يريد أن يسابق الفقراء إلى الجنة فكان يتصدق بها والله يعطيه أضعافها.
فهنا لما جيء بالطعام وكان صائماً تذكر يوم أحد، وقد كان في سنة ثلاث من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في شوال، وفي يوم أحد قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وقد كان صاحب لواء النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأول من بارز في هذه الغزوة، وقد قتل كبيراً من كبراء المشركين رضي الله عنه، وقتل بعد ذلك رضي الله عنه وقطعت يداه، ومعلوم ما حدث به رضي الله تبارك وتعالى عنه.
قال: (قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه).
هذا هو مصعب بن عمير، وقد كان من المترفين في مكة، وكان شاباً مترفاً غنياً تهتم به أمه فتنفق عليه وتعطيه مالاً كثيراً، وبعد ذلك أسلم مصعب رضي الله عنه وأتى إلى المدينة يبشر الناس ويدعوهم، فما ترك من بيت إلا ودخل فيه الإسلام بفضل الله سبحانه ثم بدعوة مصعب رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا الرجل العظيم الفاضل يقتل في هذا اليوم ولا يجدون له كفناً إلا بردة، فإذا غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطي بها رجلاه بدا رأسه، فـ عبد الرحمن بن عوف يتذكر ذلك ويعتبر.
قال: ثم أعطينا من الدنيا ما أعطينا حتى خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام رضي الله عنه.
نسأل الله عز وجل أن يدخلنا مع هؤلاء الأفاضل في رحمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(30/17)
شرح رياض الصالحين - فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [1]
زين الله تعالى الحياة الدنيا في أعين الخلق وحببها إلى نفوسهم؛ ليبتليهم بها فيعلم شكر الغني وصبر الفقير، وقد حذر الله عباده من الاغترار والركون إليها ونسيان الآخرة، وقد تنوعت نصوص الكتاب والسنة في التحذير منها بضرب الأمثلة وبيان العاقبة وذكر الحقيقة الدنيوية؛ ليستقل العباد منها وليستكثروا من زاد الآخرة.
(31/1)
الزهد في الدنيا وما جاء فيه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر.
قال الله تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24].
عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتها، فقدم بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافقوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم، ثم قال: أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: أبشروا وأمِّلوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) متفق عليه].
هذا باب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل الزهد في الدنيا، ويذكر الحث على التقلل منها وفضل الفقر.
والزهد في الدنيا هو أن يكون الإنسان متقللاً من الدنيا، فيأخذ من الدنيا حاجته، ولا يطمع فيها؛ ولا يكثر من الدنيا، وإن جاءه من الدنيا الكثير عمل فيه برضا الله سبحانه تبارك وتعالى، ولكنه يقلل الطمع فيها، فلا يكون طماعاً كلما جاءه شيء طلب المزيد من الدنيا مستكثراً بها.
جاء في الزهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالزهد فيما بأيدي الناس فقال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس).
فإذا كنت تريد حب الله وحب الناس فازهد في الدنيا يحبك الله؛ لأن معاصي الإنسان وشهواته وشبهاته تكون نتيجة للطمع في هذه الدنيا، بحيث يشتهيها فيطلب ما فيها من حلال، فإن عدم وسيلة في نظره من الحلال لجأ إلى الحرام، فأخذ الدنيا بطمع فيها، فإذا قطع الأمل عن الدنيا وقطع الطمع فيها وزهد فيها أحبه الله سبحانه، وقد وتأتيه الدنيا وهي كارهة، فالمهم أن يرضي ربه سبحانه وتعالى.
والإنسان إذا أراد محبة الناس فعليه أن ينظر في الذي يجلب عداوة الناس، والذي يجلب عداوة الناس أن تطلب ما عندهم، فالإنسان يغضب حين تطلب منه، والله يرضى حين تطلب منه، فاطلب من الله عز وجل، ولا تكن طالباً لما في أيدي الناس، واجعل لك قاعدة في حياتك، وهو أنك لا تسأل أحداً شيئاً طالما كنت قادراً على عمله بنفسك، فلا تطلب من أحد شيئاً.
وهكذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن يزهدوا في الدنيا وأن يزهدوا فيما في أيدي الناس، فهذا حكيم بن حزام طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالاً فأعطاه، ثم طلب فأعطاه، ثم نصحه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع) فلما سمع النصيحة أقسم للنبي صلى الله عليه وسلم على أنه لا يرزأ أحداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا شيئاً، أي أنه لا يطلب من أحد من هذه الدنيا شيئاً.
فكان أبو بكر رضي الله عنه يأتيه المال فيعطي الناس ويعطي حكيماً فيرفض أن يأخذه، وجاء عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر رضي الله عنهما، فأراد أن يعطيه نصيبه من المال فرفضه، وقال: إنه أقسم ألا يرزأ أحد شيئاً.
ورفض أن يأخذ ماله، فكان عمر يشهد الناس على حكيم بن حزام لكونه لا يأخذ المال الذي هو من حقه.
فالغرض أن الإنسان إذا زهد في الدنيا أتته الدنيا وهي راغمة، ولكن الإنسان قد يسأل لخوفه أن يفتقر، أو لخوفه أن يضيع منه المال، أو لخوفه أن تضيع منه الفرصة، أما إذا علم أن الله عز وجل هو الرزاق، وأن خزائنه لا تنفد أبداً فإنه يكتفي بما أعطاه الله، ولا يتشوف إلى ما في أيدي الناس، والذي يسأل الناس تكثرا كالذي يأكل ولا يشبع، فكلما طلب ازداد نهماً وحرصاً على الدنيا، فازداد بعداً عن الله سبحانه وعن حب الناس، فازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس.
(31/2)
حقيقة الحياة الدنيا في القرآن
(31/3)
حقيقتها في قوله تعالى: (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)
بدأ الإمام النووي هذا الباب بقول الله سبحانه وتعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24].
وهذا تشبيه من ربنا سبحانه وتعالى لهذه الدنيا بهذا المثال المركب الذي ننظر إليه، فالماء يأتي الناس وهم في قحط، فتنبت الأرض نباتها، وتخرج ما فيها من ثمار وما فيها من جنات وما فيها من زروع وغير ذلك، فإذا أنبتت الأرض فرح الناس بهذا النبات الذي خرج لهم فأخذوه مستكثرين منها، كما قال تعالى: {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ} [يونس:24].
ثم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا} [يونس:24]، وامتلأت بالثمار وبالزروع، بحيث يكون فيها الجنات والبساتين، وصارت الأموال في أيدي الناس، وتزخرفت الدنيا لهم وازينت، وظنوا أنهم قادرون عليها، أي: يطغى الواحد منهم، ويرى أنه قادر على هذه الدنيا؛ لأنها أتته، ولم يعلم أن الذي آتاه قادر على أن يحرمه سبحانه وتعالى، وقد يعلم ذلك ولكنه يتغافل.
يقول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24].
قوله تعالى: (ليلاً) أي: جزءاً من الليل.
(أو نهاراً): جزءاً من النهار.
(جعلناها حصيداً) أي: حصدناها وأهلكناها وتبرنا ما فوقها، فوجد الإنسان الذي كان ينظر إلى الزروع والثمار والأموال والأشجار وكان يرى أنه قادر على ذلك، وجد كل ذلك قد ضاع فجأة، حيث أتاها أمر الله لحظة بالليل أو بالنهار فصارت كالزرع المحصود، بمعنى أن النخيل خلت من الثمار، وأن الأرض خلت من الأزهار، وخلت من الحبوب ومن غيرها، ذهب هذا كله، وأحرقه الله سبحانه وأهلكه، فإذا بصاحبه يندم على ذلك.
وقوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس:24] أي: كأن لم تكن ممتلئة ثماراً بالأمس، وكأن لم تكن فيها كثرة من ذلك.
ثم قال تعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس:24]، أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلنا نفصل الآيات لقوم يتفكرون، فالإنسان العاقل الذي يتفكر في هذه الدنيا يقول: ما الذي فضلني على غيري فأعطيت هذه الدنيا؟
و
الجواب
لا فضل لك في هذه الشيء، فالله يعطي إنساناً ويحرم إنساناً، أعطى هذا لا لفضله، وحرم هذا لا لبعده عن الله عز وجل، ولكن لحكمة من الله سبحانه، فالذي تأتيه الدنيا عليه أن يحمد الله سبحانه وتعالى، والذي لم تأته الدنيا عليه أن يحمد ربه سبحانه، ولينظر في الحكمة، فلعله لو أعطاه منها أهلكه بطغيانه، فيحمد ربه على ما هو فيه من نعمة.
(31/4)
حقيقتها في قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء)
وقال الله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
فالمثال هو نفسه؛ ماء نزل من السماء اختلطت به هذه الأرض فأخرجت محصولها وأخرجت ثمارها وأشجارها، وفجأة أصبح ذلك هشيماً تذروه الرياح، فهذا النبات يبس، وبعد ذلك تغير وأصبح هشيماً تطيره الرياح، وكذلك الحياة الدنيا سرعان ما تقبل وسرعان ما تدبر.
والإنسان لا يستشعر ذلك في وقت بهجة الدنيا، فعند بهجة الدنيا يحس أنه سيعيش كثيراً، ويحس أن المجد فيه، وأنه لا ينفد، وأنه قادر، ولكن في وقت فوت هذا كله يتذكر الإنسان فيرى أن الدنيا منام لم ير فيه سوى الأحلام، وتمر الدنيا كمرور المنام على الإنسان، ومهما طالت فإنه عند الموت يستقل الإنسان هذه الدنيا، ويقول: يا ليتني عملت أفضل مما فعلت.
وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45] أي: مهشماً مكسراً يابساً تفرقه الرياح {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45].
ثم قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46]، فتزين بذلك في الحياة الدنيا، ولير ربك عليك أثر نعمته، ولكن لا تطغ بهذه الدنيا، فالباقيات الصالحات خير ما يبقى لك من عمل، وهي خير مما أخذته وأنفقته في هذه الدنيا، ولذلك قال سبحانه: {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف:46] يعني الباقيات الصالحات.
(31/5)
حقيقتها في قوله تعالى: (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة)
وقال سبحانه وتعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20].
فنحن نكد في الدنيا ونتعب ونعمل، وربنا سبحانه وتعالى يذكر لنا النتيجة، فيقول تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد:20] هذه هي الدنيا.
فأنت تجمع المال وتتعب من أجل أن يبقى معك المال، وبهذا المال تتزوج، فيصير لك أولاد تفتخر بهم لأنهم يشرفونك في الدنيا، وبهذا المال تأكل الطيبات، وتأخذ من المشتهيات، فالنتيجة هي أني أتعب من أجل أن أحصل الدنيا، وأحصل فيها على اللعب واللهو والزينة، ويبقى عندي ما أفتخر به على غيري، فأتكاثر بالمال قائلاً: مالي أكثر من مال فلان.
وكذلك في الأولاد.
فمثل هذا كمثل غيث أعجب الكفار نباته، فالذي تعجبه الدنيا ويركن إليها هو الكافر، وكلمة (كافر) تطلق على غير المؤمن، وتطلق على الزارع الذي يضع البذرة في الأرض وبعد ذلك يكفرها ويغطيها، وكأن المقصود هنا الاثنان: الكافر حقيقة أعجبته الدنيا، والكافر الزارع أعجبته الثمرة التي طلعت من الأرض.
ففي هذا الوصف جمع الله تعالى لنا الاثنين فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد:20] فهذا النبات إذا استوى فإنه في النهاية لن يبقى فترة أطول من ذلك في الأرض، بل سيأتي عليه اليبس، فيصفر ثم يكون حطاماً، وكذلك هذه الدنيا جمعها الكافر من حلال ومن حرام، وانتفع بها، واستفاد منها، وطمع فيها، ولم تنفعه يوم القيامة، فكانت الدنيا عليه وبالاً يوم القيامة؛ لأنه لم يؤمن بالله، ولم يعرف حق الله فيها.
قال تعالى: {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد:20] أي: في الآخرة العذاب الشديد لمن كفر وجحد نعم الله، ولمن عصى الله وفجر في الدنيا، ولمن طغى واستكبر، والمغفرة والرضوان لمن تاب إلى الله وأناب، ولمن عرف حق الله سبحانه فأعطاه، ولمن عرف حق الناس فأخرج لهم حقهم الذي أمره به الله سبحانه.
(31/6)
حقيقة الدنيا من السنة النبوية
(31/7)
حديث عمرو بن عوف في الزهد في الدنيا
ومن الأحاديث التي جاءت في الزهد في الدنيا حديث في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه إلى البحرين ليأتي بالجزية، وهي مال يقسم على المسلمين كما ذكره الله عز وجل في كتابه في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7] فيقسم أخماساً.
فالصحابة الذين كان لهم نصيب في ذلك المال قدموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، ووافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه كان قبل ذلك منهم من يصلي معه، ومنهم من يكون في عوالي المدينة فيصلون مع إمامهم هنالك، لكن لما سمعوا أنه جاء مال حضروا، فلما رأى ذلك تبسم صلى الله عليه وسلم.
فتبسم صلوات الله وسلامه عليه فقال لهم حين رآهم: (أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟ فقالوا: أجل يا رسول الله)، فقد كانوا قوماً صادقين رضوان الله وتبارك عليهم، فلم يقولوا: افتقدناك فجئنا نصلي الصبح لنراك.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ابشروا وأملوا) أي أن الله تعالى سيفتح عليكم، وستأتيكم أموال كثيرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك من معجزاته، حيث بشرهم في وقت كان المال فيه قليلاً، فبشرهم بالفتوح، فكانت الفتوحات العظيمة بعد ذلك.
فقوله: (ابشروا وأملوا) يعني: ارجوا من الله خيراً، فسيأتيكم خير من عند ربكم سبحانه، وأملوا ما يسركم.
(فوالله ما الفقر أخشى عليكم) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم يفقرهم الله عز وجل أبداً، بل أعطاهم مالاً عظيماً كثيراً، وكانوا على وصية النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أحدهم يأتيه الموت وهو يخاف من المال الذي كان عنده، مع أنه يعطي الحقوق فيه كما أمره الله سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم).
إن الفقر قد يكون نعمة على الناس، حيث يكون الإنسان متواضعاً خاشعاًً عارفاً أنه عبد محتاج لله، ويكون محافظاً على الصلاة وعلى الصوم وعلى طاعة الله، عارفاً أن للناس حقوقاً، ويمشي وهو يسلم على هذا ويسلم على هذا، ويتواضع للناس، ولكن خشي النبي صلى الله عليه وسلم عليهم الغنى، فالغنى مصيبة، إلا أنه قد يصير إلى تقي فيزيده الغنى تواضعاً لله سبحانه وبذلاً وإنفاقاً.
يقول صلى الله عليه وسلم: (ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم) أي: كما فتحت على الذين قبلكم.
(فتنافسوها كما تنافسوها) فتقعون في التنافس في الدنيا، ولا يكفي المرء حينئذ ما يأتيه، بل يريد أكثر وأكثر من أي وجه من الوجوه، فيكسب الحلال ويكسب الحرام، ويحتال على البنك فيأخذ المال ويهرب، ويأخذ المال من بيع سلع فاسدة للناس.
وهذا الإنسان الذي يجمع المال الكثير إذا كان معه ألف فإنه يريد ألفين ويريد مليوناً ويريد ملياراً، وإذا فرضنا أن معه ملياراً فماذا سيعمل به وكيف سيصرفه هذا الإنسان؟ هل في طاعة الله أم أنه سيدخره للورثة؟ إن الإنسان إذا سئل: أي المال أحب إليك: مالك أم مال الورثة؟ فإنه سيجيب: مالي أحب إلي.
وهذا الذي تدخره من المال تسأل عن جميعه من أين اكتسبته وفيم أنفقته؟ وتتركه للورثة وأنت المسئول عن ذلك، ومهما أعطيت من الدنيا فإنك ستنام على سرير واحد، وستأكل من طبق واحد، وإذا فرغت من الأكل فإنك لا تستطيع أن تأكل مرة أخرى مباشرة.
وأما الإنسان العاقل فإنه يكفيه من الدنيا ما آتاه الله عز وجل منها، ولا يطمع، ولا يطلب الغنى الذي يطغيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخف عليهم من الفقر؛ لأن الفقر يحفظ على الإنسان دينه، فإذا جاء له المال فإنه قد يتعالى على الناس، فمن كان يسلم عليه صار لا يعرفه، ويمشي في الشارع وهو مكشر لا يطيق أن يرى احداً، ويذهب إلى العمل فيعامل الآخرين على أنه ذو مال، وقد كان يواظب على صلاة الجماعة فأصبح يرى نفسه مشغولاً بالمال وغير فارغ، وكان يحافظ على صلاة الجمعة فأصبح يذهب إلى البحر للاصطياد استغلالاً لعطلة الجمعة، ويترك جمعة يوم والثانية والثالثة حتى يختم على قلبه ويكون من الغافلين، فالمال يصنع ذلك في صاحبه، فهو يطلب اللهو ويقع في ذنب بعد ذنب حتى يترك عبادة الله، وحتى يأتيه الموت يندم.
(31/8)
زهرة الدنيا وخضرتها مدعاة إلى الهلاك
وفي الصحيحين -أيضاً- من حديث أبي سعيد الخدري قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله فقال: (إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها).
أي: من بهرج الدنيا وزينة الدنيا، تفتح على الإنسان فتسلبه عقله وقلبه، فيجري وراء الدنيا حتى يأتيه الموت وهو في غفلة.
وفي الحديث الآخر عن أبي سعيد -أيضاً- في صحيح مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء).
والخضرة نوع من البقول تكون على الأرض مثل الأعشاب التي تطلع على الأرض كالجرجير والبقدونس، فتأتي عليها الدابة فتأكل منها، وترتاح بالأكل منها، فتأكل حتى تموت من التخمة.
إن آكلة الخضر تأكل كذلك، فإن أكلت استقبلت الشمس فثلطت وبالت واجترت، فهذه تنتفع بما أكلته، ولكن الذي يأكل حتى يتخم يموت في النهاية، وكذلك الحريص على الدنيا، وليس بشرط أن يتخم من الطعام الذي يأكله، ولكن يتخم بكثرة ما يحصل من لهوه بالدنيا وانشغاله عن الله سبحانه وتعالى، فإذا به في نكد ليل نهار يبحث عن المال، فيحفظ ماله ويترك عبادة الله تبارك وتعالى.
(31/9)
الحياة الحقيقية
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة).
فهذا الحديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة يرددون معه صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون الخندق، وكان يحفر صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويرفع معهم الحجر والتراب، وذلك لما جاءت قريش بحدها وحديدها إلى المسلمين وهم في المدينة لا يقدرون على شيء، وكان جيش الكفار عظيماً لا يقدر عليه المسلمون، فما وجدوا إلا حفر الخندق من أجل أن يكون بين الكفار وبينهم، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك معهم، ويلتصق التراب ببطنه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول عند ذلك: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة) فيدعو لأصحابه الذين شاركوا في ذلك احتساباً للأجر عند الله.
وقوله: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) معناه: أن الدنيا ليست هي العيش الذي ينعم به أهله، بل عيشها فيه الصفاء وفيه الكدر، وفيه الضيق وفيه السعة، وفيه الطيب وفيه الخبث، ولكن العيش الحقيقي عيش الدار الآخرة، فكان صلى الله عليه وسلم يقول ذلك مشجعاً لهم على العمل ومشجعاً لهم على الحرص على الدار الآخرة.
(31/10)
ما يبقى مع المرء بعد الموت
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد: يرجع أهله وماله، ويبقى عمله).
فالدنيا يكون فيها الإنسان معه أهله عزوة ونصرة، ومعه ماله يفتخر به على غيره، ومعه عمله، فهذه ثلاثة أشياء تكون مع الإنسان في الدنيا، فإذا مات الإنسان وخرج من بيته ترك المال في البيت، ويتبعه الأهل إلى قبره، وكذلك عمله.
فإذا وصل إلى القبر فإن أحب الناس إليه يتركه، ويدخل الإنسان قبره ومعه عمله فقط، ويرجع عنه ماله ويرجع عنه أهله، فإذا كان عمله من أعمال الخير نفعه في قبره، وإذا كان غير ذلك تحسر على ما فوت في هذه الدنيا وعذب في قبره.
(31/11)
غمسة في الجنة أو النار تنسي ما كان في الدنيا
وفي حديث صحيح عند مسلم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة).
لقد كان ملكاً من الملوك معه مال كثير، ويحكم أناساً كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما رأيت نعيماً قط).
وصدق في ذلك؛ فالدنيا إذا قيست بالآخرة إنما هي أحلام وأوهام، والإنسان الذي يكون في حلم وبعد ذلك يصحو فيجد الشيء الذي يضايقه يقول: كنت أحلم.
وكذلك يوم القيامة، فإنه يرى الدنيا كانت حلماً، وكأنه لم يكن فيها شيء.
قال صلى الله عليه وسلم: (ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة) إنه رجل مؤمن كان أفقر الناس وأكثر الناس ابتلاء بمصائب الدنيا من فقر ومرض وغيره، وهو مؤمن، فيؤتى به يوم القيامة، وبعد ذلك يغمس في الجنة غمسة ثم يُسأل هذا الإنسان: (هل رأيت بؤساً قط؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط) فغمسة في الجنة تنسي الإنسان الدنيا كلها؛ لأن الجنة عظيمة واسعة، ولا تمتلئ أبداً حتى يخلق الله عز وجل خلقاً آخر يدخلهم الجنة لم يعصوا ربهم أبداً قبل ذلك، والنار لا تمتلئ.
وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط.
ولا يظلم ربك أحداً، فلا يخلق للنار خلقاً يوم القيامة، ولكن الجنة يخلق لها أهلاً يملؤها بهم، أما النار فيسكتها ربنا بذلك، يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط.
فقياس الدنيا على الآخرة قياس مع الفارق العظيم، ولا وجه للمقارنة بين الدنيا والآخرة.
وعن مستورد بن شداد رضي الله عنه في صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع).
فإذا أردت أن تقيس على الآخرة فضع أصابعك في البحر وخذ قطرة منه، ثم قارب بين هذه القطرة وبين هذا البحر، فكذلك الدنيا مع الآخرة؛ إذ لا وجه للمقارنة.
(31/12)
هوان الدنيا على الله تعالى
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق، فمر بجدي أسك ميت، ليس له أي قيمة، وأذناه صغيرتان، ومن العيوب أن يكون الجدي أسك.
فتناوله النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بأذن هذا الجدي الأسك فقال لأصحابه: (أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أتحبون أنه لكم؟ أي: أتأخذونه بغير مال؟ فقالوا: والله لو كان حياً كان عيباً أنه أسك، فكيف وهو ميت؟!) أي: لا نأخذه بمال ولا بغير مال.
فقال صلى الله عليه وسلم: (فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
أي: انظروا كيف استهنتم به، فلا أحد يريده لأنه ميت وهو أسك، فالدنيا أهون على الله من هذا عليكم؛ فإذا كانت الدنيا حقيرة عند الله عز وجل فإعطاؤها لهذا الغني ليس رفعة لهذا الغني ولا تشريفاً له؛ إذ الدنيا لا قيمة لها عند رب العزة سبحانه.
(31/13)
فائدة الإقلال من الدنيا ومضرة الإكثار منها
ومن الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة فاستقبلنا أحداً فقال: يا أبا ذر.
قال: قلت: لبيك يا رسول الله.
فقال: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي علي ثلاثة أيام وعندي منه دينار، إلا شيئاً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله وعن خلفه.
ثم سار صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة).
فانظر إلى الموعظة، فجبل أحد جبل عظيم، ومع ذلك يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: لو كان أحد هذا كله ذهباً وأنا أملكه فإنه لا يسرني أن يبقى عندي ثلاثة أيام، فانظر إلى كرم النبي صلى الله عليه وسلم وإنفاقه لله سبحانه وتعالى، بحيث إنه لو كان جبل أحد جبل ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم لأنفقه في أقل من ثلاثة أيام في طاعة ربه سبحانه.
واستدرك صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إلا شيئاً أرصده لدين) فالدين يمنعك من أن تنفق نفقة التطوع؛ لأن صاحب الدين أولى، فإذا كان عليك دين تصدق بصدقة التطوع.
قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا) يعني أنه ينفق في جهة اليمين وجهة الشمال ووراءه، فيعطي عباد الله مما يؤتيه الله عز وجل.
ثم سار صلوات الله وسلامه عليه، ثم قال: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة).
فالأكثرون من الناس في الدنيا هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وشماله.
فلا تنظر إلى الأكثرين في الدنيا، فالأكثرون الذين خالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا هم الذين يدخلون الجنة، إنما يدخلها الذين ساروا على نهجه صلى الله عليه وسلم، وهم الأقلون، فالمقل في المال، والمقل في زاده من الدنيا هو الذي يسرع إلى الجنة ويدخلها، والمكثر من الدنيا الذي معه الأموال الكثيرة يحبس عن الجنة حتى يحاسب على هذا الكثير الذي معه.
ثم قال صلى الله عليه وسلم له: (وقليل ما هم) بعد قوله: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة)، قال أبو ذر: ثم قال لي: (مكانك، لا تبرح حتى آتيك، ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى، فسمعت صوتاً قد ارتفع، فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فلم أبرح حتى أتاني، فقلت: لقد سمعت صوتاً تخوفت منه، فذكرت ذلك له، فقال: وهل سمعته؟ قال: قلت: نعم، قال: ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قال: قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق).
وفي رواية أخرى قال له مكرراً: (وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق.
قال: وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق على رغم أنف أبي ذر).
فرحمة الله عز وجل عظيمة واسعة، فالإنسان الذي يقع في الحرام عليه أن يسرع بالتوبة إلى الله؛ فالله غفور رحيم، ورءوف كريم، ولكن الذي تأخذه الدنيا فيغرق في أموالها ويغرق في شهواتها ويضيع نفسه في شبهاتها ولا يتدارك نفسه بالعودة إلى الله عز وجل يندم حين الموت، ولا رجوع إلى الدنيا مرة ثانية.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(31/14)
شرح رياض الصالحين - فضل الزهد فى الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [2]
إن أكبر ما يعيق المسلم في طريقه التي يسير بها إلى ربه حب الدنيا، فهي دار ابتلاء وغرور، ولذا فقد حذر الله من الاغترار بها والركون إليها، ففهم النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حقيقتها فعزفوا عنها، وسطروا أروع الصور في الزهد عنها، رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى.
(32/1)
فضل الزهد في الدنيا والتقلل منها
(32/2)
حقيقة الزهد
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5]، وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ} [التكاثر:1 - 6].
وقال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض).
وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم) متفق عليه.
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) رواه النسائي].
ذكر الإمام النووي رحمه الله الآيات والأحاديث التي تدل على فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالزهد، فقد جاء عنه أنه قال: (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس، وازهد في الدنيا يحبك الله)، فالإنسان المؤمن إذا أعرض عن الدنيا ولم يطلبها، أتته الدنيا وهي راغمة، وليس المعنى أن يزهد فلا يأكل ولا يشرب ولا ينفق على أهله ولا يعمل، بل ينبغي أن يعمل كما أمره الله سبحانه ويأخذ بالأسباب، وإنما المذموم أن يكون همه الطمع في الدنيا وجمعها أو يبلغ به الحرص عليها حتى يستوي عنده الحلال والحرام، بل ينبغي ألا يأخذ من الدنيا إلا بالقدر الذي يكفيه، أما ما هو أكثر من ذلك فشيء يتركه ولا يسعى لحيازته؛ لأنه قد يضيع عبادته بسبب الكثرة والإكثار من الذنوب.
فلذلك يسعى الإنسان المؤمن لكفايته وكفاية أهله فحسب ولا يضيعهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)، أي: كفى بالمرء إثماً أن يضيع أهله زوجة وأبناءً وآباء تجب عليه نفقتهم.
وفي رواية: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول)، وبذلك يعلم أن من يعمل لينفق على هؤلاء مأجور غير مأزور، أما إذا كان يعمل الليل والنهار ليجمع المال وأدى ذلك إلى أن يضيع الصلاة أو يضيع الصوم فإن عمله مذموم ينبغي عليه تركه.
(32/3)
بيان الفرق بين ما زينة الله بأصل الخلقة وما زينه الشيطان
ذكر لنا الإمام النووي في هذا الباب آيات منها قول الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14]، عد الله سبحانه في الآية أشياء زينها للناس فكان التزيين بأصل الخلقة، فذكر الأرض وما جعل للناس فيها من أموال ومنافع.
إلا أن الشيطان قد أتى إلى أشياء لا تحل لهم فزينها وأراهم إياها على غير حقيقتها، فإذا بالإنسان يحب الدنيا ويتلهى بما فيها فيلهيه بريق الذهب والفضة وغيرها من المغريات، ومع أن الله عز وجل يأمره أن يأخذ من الحلال، وأن ينفق في الحلال فإذا بالشيطان يزين له تلك الأشياء، فإذا به يسرق الذهب ويسرق الفضة، ومع أن الله عز وجل خلقها لمنافع العباد وحرم على الرجل أن يلبس الذهب والفضة، وأخبره أنه إذا لبسها في الدنيا تحرم عليه في الآخرة، فإذا بالشيطان يزين له لبس الذهب والتحلي به، ويقذف في روعه أن لبس الذهب فعل الملوك.
كما بين لنا الله عز وجل أنه زين الخلق فجعل في الرجال جمالاً وكمالاً وجعل في النساء من الصفات الجميلة الشيء الكثير، ثم جاء الشيطان ليفتن العباد بعضهم ببعض، فيدعو الرجل إلى أن ينظر إلى من يحل له ومن يحرم عليه من النساء، وجعل النساء كذلك.
والتزيين من الشيطان يكون بقلب الأشياء عن حقيقتها وبجعل الإنسان يشتهي ما لا يقدر أن يصل إليه، فإنه يزين للمتزوج وعنده امرأته وقد تكون أجمل الجميلات، أن ينفر عن امرأته وينظر إلى امرأة أخرى قد تكون في غاية القبح، ثم يمشي معها ويترك امرأته، فإنه حين وقع في تزيين الشيطان يرى هذه جميلة ويرى زوجته قبيحة، وقد يكون الإنسان مع امرأته في عيش فاضل فإذا به ينظر إلى غيرها.
ومن تزيين الشيطان ما يجعل الإنسان يستمع لأشياء لا يحل له سماعها، وهكذا ديدن الشيطان يزين الباطل ويظهره على أنه حق.
(32/4)
التحذير من الاغترار بالدنيا
قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ * إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
أي: لا تغرنكم الدنيا بما خلق فيها من فتن وأشياء تشتهى، واحذروا أن يغركم بالله الغرور، والغرور هو الشيطان.
والمراد بغرور الدنيا زينة الدنيا وما فيها من ملاذ وما فيها من مشتهيات، أما تغرير الشيطان؛ فهو بأن يدل المرء على ما يغتر به ودفعه إلى معصية الله سبحانه تبارك، وإلهائه وحمله على الطغيان، وكلما ذكر بأمر الله عز وجل فإذا به يغفل.
(32/5)
الحث على التقلل من الدنيا ومقت المفاخرة بالكثرة والتكثر
يقول الله تبارك وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:1 - 4].
كان العرب قد ألهاهم التكاثر، والتكاثر هو المفاخرة بالكثرة في عدد الأفراد، وكانت الأسر والقبائل يفتخر بعضها على بعض لكثرة عدد الرجال، سواء منهم الأحياء أو الأموات، وقد دفعهم الغرور إلى أن يذهبوا إلى المقابر مفاخرين بكثرة الموتى منهم التي تدل بزعمهم على أصالتهم، منتقصين لمن كانوا ذوي عدد قليل من القبائل، كما افتخر بعضهم على بعض بالقوة والمال، مما أدى إلى افتخار القبائل بعضها على بعض، ويؤكد ذلك قول شاعرهم: فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلاباً أي: غض بصرك وانظر إلى الأرض فلا ترفع رأسك؛ لأنك من قبيلة تعد بالقليل وأنتم أذلة.
فجاء الإسلام ليمنع الخلق من ذلك الافتخار الكاذب وجعل ميزان الفخر والرفعة هو التقوى قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، والتقوى محلها قلب الإنسان لا مظهره، ولما كانت في قلب الإنسان فإنها تفيض على جوارحه بأفعال ترضي ربه سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2]، معنيان: الأول: هو ما ذكرنا.
والمعنى الآخر: هو جعل (حتى) غائية، والمعنى: الافتخار بالدنيا إلى أن غرتكم ومتم وكان ذهابكم إلى القبور من أجل أن تنظروا أن الحياة الدنيا كانت متاع الغرور، فقوله: {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:2]، أي: حملتم إليها أمواتاً.
وقوله: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:3 - 4]، أي: تعلمون حين تموتون وحين تذهبون إلى الله عز وجل، ولو كنتم الآن تعلمون العلم الحقيقي علم اليقين كأنكم تعاينون ذلك لأيقنتم بتحقق وعد الله ووعيده، قال تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:5 - 8].
(32/6)
الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة
ومنه قول الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
قوله: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]، أي: دار الحياة الهادئة، الناعمة، المطمئنة ودار الحياة الحقيقية، الدائمة الأبدية السرمدية.
ثم بين جهلهم بها فقال سبحانه: {إِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64]، إذ لو كان الناس يعلمون ذلك، لعلموا أن الآخرة خير وأبقى ولعملوا للآخرة وتركوا التكثر من الدنيا.
ومن الأحاديث التي تؤكد هذا المعنى حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كان لي مثل أحد ذهباً لسرني ألا تمر علي ثلاث ليال وعندي منها شيء إلا شيئاً أرصده لدين).
أي: لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم مثل جبل أحد من الذهب، ما ادخره ولا جمعه للورثة ولا لغيرهم، بل إن الأنبياء لا يورثون؛ لقطع أمل ذرياتهم عن الدنيا، وإن وجد ميراث لأحد منهم فإنه يوزع على الفقراء والمحتاجين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة).
ولذا لو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء، ما ادخره أكثر من ثلاثة أيام إلا أن يكون عليه دين فيدخر بعضه لسداده، وذلك لأن قضاء الدين من الأشياء اللازمة، وفي الحديث بيان لخطورة أمر الدين.
(32/7)
التحذير من غرور الدنيا وبيان فضل الفقر
(32/8)
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (انظروا إلى من هو أسفل)
عن أبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)، وهذا لفظ مسلم.
وفي صحيح البخاري (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه).
في الحديث أمر للمسلم أن ينظر لمن هو دونه، إذ النظر إلى الأعلى يتعب الإنسان، فلو كنت تمشي في طريق وأنت تنظر إلى الأعلى غير آبه بالطريق، قد تصطدم بغيرك أو تقع في حفرة، وعلى ذلك قس، فإنك حين تنظر إلى من هو فوقك من الخلق قد تقول في نفسك: عنده مال أكثر مني، بل إذا قيس ما عنده بما عندي لم يساو الذي عندي شيئاً بالنسبة إلى ما عنده.
وتظل تقارن ما عندك إلى ما عند هذا الإنسان حتى تحتقر ما عندك، وبذلك تحتقر نعمة الله عز وجل عليك.
ولو نظرت إلى من هو دونك لوجدت نفسك تمتلك مالاً وإن كان قليلاً، أما غيرك فليس عنده شيء، وحينها تدرك أنك في نعمة من الله تبارك وتعالى.
ولذا ينبغي أن ينظر المرء إلى من هو دونه، فإذا كان في صحة فلينظر إلى المرضى وقد حرمهم الله عز وجل هذه النعمة، ولكن ينبغي أن يدرك أن الله ما حرمهم من تلك النعمة إلا لحكمة منه سبحانه وتعالى، فإنه يرفع درجات الخلق بابتلائهم ويمحص ذنوبهم، فإذا تذكر المرء ذلك ثم نظر إليهم فليقل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه وفضلنا على كثير ممن خلق من عباده تفضيلاً)، وبذلك يحمد الله تبارك وتعالى على ما وهبه من نعمة في جسمه، وفي عقله وفي صحته وعافيته.
أما حين ينظر لإنسان آخر فيه شباب وقوة وحيوية يجري في السباق أو يلعب كمال أجسام، فقد يقول: لماذا لسنا مثل هؤلاء؟ أو نحن ماذا بجانب هؤلاء؟ وبذلك يحتقر نعمة الله عز وجل عليه.
وكذلك إذا مرضت بمرض خفيف من الأمراض التي عادة ما يصاب بها الإنسان فلا تتبرم أو تضجر بل ينبغي أن تنظر إلى مريض السرطان أو غيره من الأمراض الفتاكة، فستجد أنه من شدة مرضه قد يعجز حتى عن الأكل والشرب، فضلاً عن أن يحرم النوم من شدة الألم، حينها ستدرك عظيم رحمة الله بك، وقد يكون هذا المرض سبباً في رفع درجتك عند الله أو تكفير سيئاتك.
(32/9)
التحذير من عبادة الأموال
ومن الأحاديث التي يرويها أبو هريرة رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض).
قوله: (تعس) إما إخبار وإما إنشاء.
أما الإخبار فالمعنى: أنه يخبر أن هذا هالك سيعيش في تعاسة وسيهلك وسيضيع.
وأما الإنشاء فالمعنى: أنه يدعو على من نسي عبوديته لله عز وجل وصار عابداً للمال، وسعى في تحصيل هذا المال من أي طريق كان، بالتعاسة في دنياه وفي أخراه.
وليس معنى قوله: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، أن من عبد هذه الأشياء سيصلي لها ويسجد لها ويعمل لها من الطاعات، ولكن المعنى: أن الذي يعبد شيئاً فإنه يستولي عليه هذا المعبود حتى يكون العابد وراءه تابعاً له، فإذا عبد الإنسان ربه سبحانه اتبع هداه سبحانه وتعالى، فنظر في الحلال فأقبل عليه ونظر في الحرام فامتنع عنه، وإذا عبد الدنيا لهث وراءها، يريد أخذها غير ملتفت إلى غيرها.
وسمي عابداً لأنه قد ذلل نفسه وطوع إرادته لهذا الشيء الذي يهواه، فهو عابد للدينار، بتتبع من يعطيه الدينار ويجري وراءه، بل قد يعمل المستحيل لكي يحصل على هذا الدينار، ولا فرق إن أخذه من رشوة أو من سحت أو من سرقة؛ لأنه عابد للدينار، يريد أن يأخذه فحسب.
وقوله: (تعس عبد الدرهم)، وهذا كسابقه في الحقارة والخسة، حيث نظروا لأعراض الدنيا ثم أخذوا يلهثون وراءها ولو أذل الواحد منهم نفسه للخلق.
وقوله: (تعس عبد القطيفة والخميصة)، أي: أنه يأخذ أي شيء مهما كان خسيساً ولو خرقة ملبوسة؛ لأن عينه يملؤها هذا الشيء ويسيره من أعطاه فيما يريد، وهو يجتهد أن يفعل له الذي يريده ولو عصى الله سبحانه تبارك وتعالى، وهو بذلك قد طوع لمن أعطاه فصار عابداً له، إذ إن أصل العبادة من التعبيد.
والتعبيد: التذليل والتيسير للشيء، ومنه الأرض المعبدة، أي: الأرض المذللة، الممهدة، السهلة، يقال: هذه أرض معبدة أي: سهلة لا يصعب المشي عليها، ويقال: عبد الطريق: أي ذلّله وأزال العقبات التي عليها من أجل أن تصير سهلة ميسرة للمشي، ولذا فالمعنى أنه صار عابداً لهذه الدنيا حيث طوع نفسه لها، فليس عنده أي اعتراض على أي شيء ما دام سيأخذ الدنيا، فهو يفعل من أجلها أي شيء، ومن وصل به الحال إلى ذلك فإنه تعس في الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه باع دينه بدنياه، وبدل الآخرة بهذه الدنيا، وهو مع ذلك لن يحصل من الدنيا إلا ما قسمه الله عز وجل له، وهذا الإنسان يصدق عليه أنه اشترى لا شيء بأعظم الأشياء وهي الآخرة، فأي عقل في إنسان يبيع الآخرة ليشتري الدنيا، وهو يعلم أن الدنيا لن تدوم له، وأي عقل في إنسان يبدل الشيء العظيم الجليل بالشيء الحقير الذي لا قيمة له، يقول الشاعر في مثل هذا: أخذت بالجمة رأساً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا وبالطويل العمرعمراً أنزرا كما اشترى المسلم إذ تنصرا والمعنى: أنك بدلت جمة وهو: الشعر الحسن الطويل الجميل بصلعاء، وصرت أقرع أصلع، ونزعت ثناياك أي: أسنانك الجميلة البيضاء بالدرادير الموجودة، كما اشترى المسلم إذ تنصرا، أي: كما صنع الذي ارتد على عقبه، فقد اشترى الدنيا وباع من أجلها الآخرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة)، الخميصة: ثوب من الأثواب.
قال: (إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض)، إن أعطى الناس له الدنيا رضي وفرح بهذه الدنيا وإذا لم يعطه الناس سخط.
(32/10)
بيان ما كان عليه النبي وأصحابه من شظف العيش
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء) أهل الصفة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين الفقراء الذين تركوا ديارهم وأموالهم في مكة وهاجروا منها إلى المدينة بعد أن كانت أحب البلاد إليهم.
وهجرتهم تلك إلى المدينة من مكة كانت فتنة عظيمة، فهم لم يذهبوا إلى المدينة للرحلة كما نفعل الآن فنذهب إلى الحج أو العمرة، فنترك مكة ونذهب إلى المدينة للزيارة وفي كلا البلدين خير، بل كان الواحد منهم يخرج من مكة وهي البلد الذي فيها أهله وماله وأبناؤه، إلى المدينة التي كانت أرضاً وبئة -فيها وباء- وحين يصل المسلمون إليها تصيبهم الحمى فيمرض كل من يذهب إليها، حتى دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه (فرأى في منامه كأن امرأة سوداء ثائرة الشعر خرجت من المدينة وذهبت إلى مهيعة، وهي رابغ، فقص النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه القصة والرؤيا وأولها بأنه هذا الوباء، وأن الله سيزيله من المدينة ويذهب به إلى مكان آخر الذي هو مهيعة).
وقد كان الصحابة وهم في المدينة يتذكرون أيام مكة وما كانوا عليه فيها، فيتمثل أحدهم الشعر مثل بلال رضي الله عنه حيث يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل وبلال يعاني من الحمى يتساءل هل سنرجع إلى مكة مرة أخرى برغم أنها البلد الذي كان يؤذى فيها ويعذب إلا أنهم بعد أن هاجروا إلى المدينة، جعل الله عز وجل حب المدينة في قلوبهم، وعوضهم عما فقدوا من الديار والأموال خير تعويض، وما حكاه أبو هريرة هنا كان من الصور التي كانوا عليها في المدينة، حيث نقل صورة في فقرهم وفي تركهم ديارهم آتين إلى المدينة التي لم يلقوا فيها أي مكان يأوون إليه، وكان أهل الصفة أكثر من سبعين رجلاً، والصفة سقيفة مظللة كانت موجودة في آخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ينام تحتها هؤلاء الفقراء من المهاجرين.
أما ثيابهم التي كانوا يرتدونها في الصيف وفي الشتاء فيخبرنا عنها أبو هريرة رضي الله عنه وقد كان أحد أصحاب الصفة فيقول: (ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء)، إذ إنه من أجل أن يلبس أحدهم رداء لا بد أن يلبس تحته إزاراً فالرداء يقال عنه اليوم البدلة وكانت تسمى أيضاً حلة، وأبو هريرة يذكر أن أحدهم ما كان يلقى هذا الشيء، بل هو ثوب واحد يستر به نفسه من أعلى إلى أسفل يشبه ما يسمى اليوم الملاية القصيرة.
قال أبو هريرة: (قد ربطوا في أعناقهم) أي: يربطها أحدهم في رقبته كما يربط الصبي ثوبه في رقبته؛ لأنه لا يكفيه الثوب الذي عليه أن يفصله ويلبسه، وإنما طرفه في رقبته رضي الله عنه.
ثم قال أبو هريرة: (فمنها ما يبلغ نصف الساقين) أي: أن الطول لهذا الثوب من المنكب إلى نصف الساقين، فلا يصل إلى الكعبين.
ثم قال: (ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته) أي: أنه في أثناء الصلاة يلمه على نفسه حتى لا ترى عورته وهو راكع أو ساجد رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
(32/11)
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر
وعنه - أي أبي هريرة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، السجن هو المكان الذي يسجن فيه الإنسان أو يحبس، ففي الحديث بيان أن الدنيا دار حبس للمسلم والسجن عادة ما يكون فيه زنزانة وأغلال وقيود يوثق بها الإنسان فلا يأخذ حريته فيها، فيه يُقدر على السجين الطعام والشراب والحركة، فالمسجون فيه في ضيق.
كذلك الدنيا بالنسبة للإنسان المؤمن فإنه في الدنيا لو تتبع الحرام سيأخذ ويأخذ ويأخذ ولكنه يحجم عن كل هذه الأشياء؛ لأنها حرام، أما الإنسان الفاجر فتجده يقول ساخراً: كل شيء حرام حرام! أنتم بصنيعكم هذا ستحرمون علينا كل شيء! لأنه لا ينظر إلى الآخرة ولا يتمنع عما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، إنما يريد أن يحصل على الدنيا فحسب، فلذلك هي جنة للإنسان الكافر، والفاجر الذي يسافر إلى دول أوروبا فإذا رجع يقول عنها إنها جنة، وكذلك من يسافر ليعمل في أمريكا يقول عنها إنها جنة، هناك تلقى البساتين والأنهار والحدائق وكل ما تتخيله، كما أن العامل في اليوم لو استؤجر بعشرة دولار، فإنه منها يأكل ويشرب ويجمع أيضاً، ولكنها جنة الكافر الذي يعيش فيها، أهلها قد أصبحوا مبرمجين على السعي نحو الأعلى.
إذا حصل أحدهم على مكان وكان أمامه مكان أحسن منه، فإنه يلزم نفسه بعمل أكثر؛ من أجل أن يصل إلى الأعلى، وإذا وصل إلى الأعلى ثم رأى مكاناً أفضل منه عمل لأن يصل إلى المكان الآخر، فحياته في دوامه تدور به، فتجدهم يأكلون ويشربون وهم يتحركون في أعمالهم، إذ ليس عندهم وقت للأكل والشرب، يطمع أحدهم في الدنيا فكلما أخذ شيئاً طلب ما هو أعلى منه.
أما المؤمن فإنه مكتف في هذه الدنيا، ينظر إلى ما يكفيه منها فحسب، وشعاره: خذ من حل وأنفق في حل وتصدق لله سبحانه وتعالى بما قدرك الله عز وجل عليه، فهو دائماً إذا أقدم على عمل يتساءل هل هذا حلال أم حرام؟ إن كان حلالاً عمل فيه وإن كان حراماً أو فيه شبهة ابتعد عنه وتركه، كما أنه إن أعطاه الله كثير الإنفاق؛ لأنه يعلم أن الله توعد الكانزين للذهب والفضة يوم القيامة بنار تدخل من أكتافهم فتخرج من صدورهم وهكذا، فالمؤمن دائم الخوف من الله عز وجل كأنه في سجن، والناس حوله يلهون ويلعبون وينال أحدهم ما يشتهيه، أما المؤمن فإنه دائماً يحاسب نفسه على أعماله وكسبه، فهو يؤمن أن الدنيا ستنتهي بأهلها سواء الغني الذي حصل على الملايين أو الفقير الذي لم يلق ما يأكل ويبيت طاوياً، فكلاهما سيموت، وسيأكل التراب الجميع.
وبذلك يكون المؤمن قد نال من الدنيا عبادة الله عز وجل، ووصل إلى غايته بعد أن صبر على الدنيا، إلا أنه يقيناً سيصل بعد ذلك إلى البساتين والجنات والأنهار، أما الكافر فقد نال الدنيا من أجل أن يحاسب عليها في قبره ويحاسب عليها يوم القيامة ومصيره إلى النار.
وعلى ذلك فالإنسان المؤمن وإن كانت الدنيا سجناً له، ففي النهاية مصيره إلى الدار الآخرة وإلى حسن العاقبة.
(32/12)
الوصية النبوية لابن عمر رضي الله عنه
يقول ابن عمر رضي الله عنه (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
فالإنسان إذا كان غريباً في مكان ما، فإنه لا يهتم لهذا المكان؛ لأنه يعرف أنه دار غربة وعما قريب سيعود إلى بيته وإلى بلده مرة أخرى، ولذا لن يهتم بتجميل المكان الذي هو فيه؛ لأنه ليس دار إقامة بالنسبة له.
وكذلك عابر السبيل فإنه في أثناء طريقه قد يمر على شيء يشتهيه ولا يأخذه ويرجئ أخذه إلى أن يصل مأواه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ابن عمر وجميع المسلمين: أن الدنيا سبيلك للآخرة وأنك غريب في الدنيا ومكانك الأصلي عند الله عز وجل في جنة الله، وإنما أهبطت إلى الدنيا بقضاء الله وقدره لتعيش فيها فترة ثم ترجع إلى جنة الله سبحانه، فاعمل لهذه الجنة، وإذا كنت في هذه الدنيا كنت كهذا الغريب وكعابر السبيل تحصل منها ما يحل لك، تاركاً الحرام، ولا توطن نفسك على العيش فيها.
وهنا يقول الراوي: كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
تعلم ابن عمر الحكمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء)، وكأنه يقول: إذا كنت غريباً في هذه الدنيا لعلي لا يأتي علي المساء إلا وقد فارقتها فلا ينبغي أن أؤجل الأعمال التي أعملها في الصباح إلى المساء، فإذا كان عليّ دين أسارع في قضائه، وإذا كان علي حقوق لله عز وجل أؤديها ولا أسوف، وإذا كان علي حقوق للخلق أؤديها، إذ المؤمن دائم النظر إلى الموت لعله يأتيه فجأه.
وقوله: (وخذ من صحتك لمرضك)، وصية جميلة لـ ابن عمر رضي الله عنه، إذ الصحة عماد القيام بالأعمال والتكاليف، فأنت في صحتك تقدر على القيام كما تقدر على العمل الصالح وتقدر على الإنفاق، ولذا يوجهك ابن عمر أن تأخذ من هذه الصحة فتقوم الليل لله سبحانه وتعالى، وتكثر من الصيام لله سبحانه وتعالى، وتسعى جاهداً لتفعل الطاعات مستغلاً الصحة قبل أن يأتي المرض، فقد يحذرك الأطباء من القيام بكثير من الأعمال كالصوم والقيام وغيرها من أعمال الطاعات.
إن وصية ابن عمر بالأخذ من الصحة للمرض كنز عظيم جداً، فإنه إذا واظب الإنسان على صيام الإثنين والخميس وصيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر، ثم جاءه المرض وحذره الأطباء من الصيام، فإنه يكتب لهذا الإنسان ما كان يفعل قبل المرض، فيكتب له أجر صائم وهو مفطر وبذلك يكون قد أخذ من صحته لما ينفعه في مرضه.
وكذلك إذا كان يواظب على صلاة الجماعة في صحته، ويواظب على قيام الليل ثم جاء المرض فأقعده في بيته وأصبح يصلي على سريره، فإن الله عز وجل يأمر الملائكة أن يكتبوا له ما كان يفعله صحيحاً مقيماً، فيكتب له وهو في فراش مرضه كأنه يصلي مع الناس في الجماعة ويكتب له أجر الجماعة كما يكتب كأنه قائم الليل، وذلك من فضل الله ورحمته سبحانه.
قوله: (فخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
قال العلماء: معنى الحديث لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطناً، ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها إلا بما يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد الذهاب إلى أهله.
(32/13)
الزهد سبيل حب الله للعبد وحب الناس له
ومن الأحاديث حديث سهل بن ساعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس).
أي: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، فإني أريد الحب من الله سبحانه، وأحبني الناس فإني أريد حب الناس أيضاً.
فقال صلى الله عليه وسلم: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).
يجوز في قوله: (يحبك الناس)، أن تقول: يحبك بالنصب أو بالرفع.
ومعنى قوله: (ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، أي: أنك إذا تركت الدنيا لله أحبك الله سبحانه وتعالى، وإذا زهدت فيما عند الناس أحبوك، فإن الذي يضايق الناس أن تطلب الذي في أيديهم، وأن تضيع عليهم ما عندهم، ولذا فإذا أردت حب الناس فاجعل نفسك بعيداً عن الناس ومشتهياتهم، ونزه نفسك عن أن تطلب ما في أيديهم.
(32/14)
تقلل النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر ما أصاب الناس من الدنيا يعني: من الغنى الذي صاروا فيه فقال: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يظل اليوم يتلوى ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه).
يتذكر عمر رضي الله عنه بعد أن فتح الله عز وجل على الناس من المغانم وصاروا يأكلون ما يشتهون ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول لكل مسلم: لا تفرح بهذا الذي أعطاك الله، فإنه لو كان مما يفرح به لأعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكني رأيته يتلوى صلى الله عليه وسلم من شدة الجوع.
قوله: (لا يجد من الدقل)، الدقل: رديء التمر، أي: لا يجد من رديء التمر ما يملأ به بطنه صلوات الله وسلامه عليه، والحديث رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني).
فأم المؤمنين عائشة التي هي أحب نساء النبي صلى الله عليه وسلم إليه تخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها وما في بيتها شيء يأكله ذو كبد وقولها: (ذو كبد) تريد أي حيوان والإنسان من ضمن الحيوان.
وقولها: (إلا شطر شعير)، أي: كيلة أو شيء من الشعير وقد أصبح الشعير اليوم طعام البهائم، وقد كان يأكله أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه ويأكله النبي صلى الله عليه وسلم.
قولها: (فأكلت منه حتى طال علي)، أي: أنها كانت تطحن الشعير، ثم تصنع منه خبزاً تأكله رضي الله عنها فأكلت منه زمناً.
قالت: (حتى طال علي فكلته ففني).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون عند الإنسان الطعام فيظل يكيله في كل وقت ليعرف كم بقي منه، ولذا ينبغي أن يترك ببركته ويؤخذ منه لعل الله عز وجل يبارك فيه، كما حدث مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقد كان عندها شيء من شعير وضعته داخل الجراب وكانت تأخذ وتأكل إلى أن بقي معها فترة طويلة، ثم كالته ففني.
وهذا من فضل الله عز وجل على عباده، حيث يرزقهم ويبارك لهم في رزقهم ولو كان قليلاً، فشطر الشعير شيء يسير، إلا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ظلت تأكل منه زمناً حتى تعجبت، فكان من بركة الله عز وجل على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل لهم البركة في طعامهم وإن كان شيئاً قليلاً، لكن لما كالته فني.
(32/15)
زهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا
جاء عن عمرو بن الحارث، وهو أخو جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها أنه قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها، وسلاحه للجهاد في سبيل الله وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة).
فكانت هذه الأشياء هي تركة النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكل ما تركه شيء يسير كان يعده للجهاد في سبيل الله، وترك أرضاً فكانت صدقة، فليأتس المؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا حصل من الدنيا شيئاً فليؤد حق الله عز وجل فيما أخذه منها، ولا يطمع في الدنيا وليكن في الدنيا، كأنه غريب أو عابر سبيل.
(32/16)
شرح رياض الصالحين - فضل الزهد في الدنيا والحث على التقلل منها وفضل الفقر [3]
لقد ذكر الله عز وجل الدنيا في كتابه وحقر من شأنها، وبين أنها غرور وتفاخر وتكاثر، وبعدها حساب وعقاب لا مفر منه، وقد أخبر الحبيب المصطفى أن أكثر أهل الجنة الفقراء، وأن الأغنياء محبوسون على باب الجنة ليسألوا عن أموالهم فيم أنفقوها؟ فلا بد أن نتزود من الأعمال الصالحة، ونزهد في هذه الدنيا الفانية.
(33/1)
حقيقة الدنيا في الكتاب والسنة
(33/2)
ذم الدنيا وما فيها من متاع زائل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: فضل الزهد في الدنيا، والحث على التقلل منها، وفضل الفقر.
عن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنهما قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها وسلاحه، وأرضاً جعلها لابن السبيل صدقة) رواه البخاري.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالماً ومتعلماً) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا الضيعة وترغبوا في الدنيا) رواه الترمذي وقال: حديث حسن].
هذه أحاديث ذكرها الإمام النووي في كتابه العظيم رياض الصالحين في باب: فضل الزهد في الدنيا، والحث على التقلل منها، وفضل الفقر.
فليزهد الإنسان في الدنيا، وقد جاء في القرآن قال الله عز وجل: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وضرب لنا مثلاً لهذه الحياة الدنيا حيث قال: {كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف:45].
فالدنيا لا تدوم، وصاحبها مهما ظن أنه قادر عليها يأتي أمر الله عز وجل ليلاً أو نهاراً فيجعلها ((حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ))، وكأن لم تكن هذه الدنيا شيئاً مذكوراً، فالإنسان مهما عاش فيها، وطال عمره، وكثر ماله، وكثر أتباعه لابد وأن يفارقهم أو يفارقوه، وفي النهاية يعرف أن هذه الدنيا لم تكن سوى أحلام وأوهام، وأن الذي كسبه من الدنيا ليس هو كثرة الكلام، وإنما العمل الصالح الذي ينقله دار السلام.
فهنا الإنسان الذي يزهد في الدنيا لا يقبل عليها بشراهة وبنهم يطلبها، والإنسان الشره المنهوم لا يشبع أبداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اثنان لا يشعبان: طالب علم، وطالب دنيا).
الإنسان الذي يطلب العلم كلما ازداد علماً ازداد علماً بجهله، وازداد نهماً في تحصيل العلم النافع الذي يتقرب به إلى الله عز وجل.
الإنسان الذي يزداد من الدنيا يطلب الدنيا، وكلما أوتي منها شيئاً طلب أكثر منها، ولا يشبع طالب العلم ولا طالب المال، لكن طالب العلم إن كان علماً شرعياً تقرب بذلك إلى الله، ولا يزال يتعلم حتى يموت، وتكون له الدرجة العظيمة العالية عند الله عز وجل.
أما طالب الدنيا فهو في هم دائم، يطلب المال ويزداد ماله، ويزداد عناؤه في حراسة هذا المال، ويزداد طلبه لمال آخر، ولا يزال هكذا مشغولاً على الدنيا، مقبلاً عليها حتى يأتيه اليقين؛ فيترك الدنيا وما عليها، ويذهب ليجازى على هذا الذي جمعه فيها.
(33/3)
تاج الدنيا رضا الله ومحبته
الإنسان المؤمن يحرص أن يقبل على الآخرة، وأن تكون الدنيا في يده لا في قلبه، ولا ينشغل بها، يطلب منه ربه سبحانه أنه يمشي في الأرض، (سيروا في الأرض) {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15] خذ بأسباب طلب الرزق، وحصل من الرزق ما تعول به نفسك وتعول به من يجب عليك عولهم، وتنفق به على نفسك وعلى عيالك، ولكن لا يكن الهم الأكبر للإنسان هو طلب الدنيا، وليكن همه في رضا الله تبارك وتعالى.
جاء في الحديث: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس).
فالإنسان المؤمن يطلب من الدنيا ما ينتفع به، ويطلب الدار الآخرة، فيرجو ثواب ربه في كل أحواله، في عمله في قيامه في قعوده في منامه في توجهه للعمل في توجهه لبيت الله تبارك وتعالى في دخوله بيته في خروجه منه يرجو ربه في كل شيء، ويحرص على أن ينتفع في دينه هذا، يريد محبة الله سبحانه، ويريد محبة الناس أيضاً.
محبة الناس عظيمة، إذا مات يدعون له، ويصلون عليه، ويذكرونه بخير، إذا علمهم شيئاً لا يزال يتناقل هذا الذي علمهم فيكون له أجر ولو بعد وفاته.
إذاً: أحبب ربك سبحانه وتعالى وافعل ما يحبه الله، وأحبب المؤمنين، والمسلمين، وأحبب نفع الناس كما تحب نفع نفسك، فينتفع الناس بك ويكون لك الأجر عند الله، وفي الحديث: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس).
الغرض: أن المؤمن يقضي حياته ويعلم أنها ماضية، وأن اليوم الذي يمر لا يرجع أبداً، لذلك يحاول أن يحصل ما ينتفع به في الدار الآخرة، وكثير من الناس عندما يتكلم يقول لك: أهم حاجة الصحة، والثاني يقول لك: أهم حاجة الغنى! أهم حاجة المال! وأهم شيء في هذه الدنيا أن ترضي ربك سبحانه وتعالى، إذا أرضيت الله سبحانه رضي عنك وأرضى عنك خلقه، وأتتك الدنيا وهي راضية، وإذا تركت رضا الله سبحانه وسخط عليك لم تنتفع بشيء مما تأخذه من الدنيا؛ لأن الذي يسخط الله يغضب الله عليه، ويغضب عليه الخلق، ويظل منشغلاً بها حتى يتوجه من غضب الله في الدنيا إلى غضب الله في الآخرة.
فلابد للإنسان المؤمن أن يعرف كيف يرضي الله تبارك وتعالى، ترضي ربك بعبادتك، وترضي ربك سبحانه بأن يكون عمرك كله عبادة لله سبحانه، فهذا هو المفهوم الواسع للعبادة، فعبادة الله سبحانه أن تطوع نفسك لأن ترضي الله سبحانه، فتدخل في صلاتك وترضي ربك بهذه الصلاة، وتصوم لله عز وجل فريضة أو نافلة فترضي ربك بذلك، وتحافظ على نفسك ولسانك من الآفات ومن الوقوع في المحارم، ترضي ربك سبحانه وتعبده وأنت في عملك، كيف ينتفع الناس من ورائك؟ وتنفعهم بالحلال، تنفعهم بأن ترضي الله سبحانه تبارك وتعالى، فتدفع عنهم الشرور، وتكون أنت في عملك وسيلة لنفع الناس ولدعوة الناس إلى الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا رأيت الناس أحبوك وأحبوا دين الله لأنك تمثل هذا الدين العظيم، وأنت قدوة في ذلك، فهنا ترضي ربك بعملك بعبادتك في كل أوقاتك.
إذا رأيت الناس ذكروا الله سبحانه وتعالى فارض ربك ولا تتكلم فيما لا يعنيك، الشيء الذي لا يعنيك من الأمور قد ترغب فيه كثيراً وتتكلم فيه كثيراً وتقوم فتسمع ما لا يرضيك في النهاية، لعلك تتكلم بالشيء تظنه من الدين، ولكن في النهاية يكون سفسطة وجدلاً عقيماً، وفي النهاية تجد من كان يرضيك بالكلام يسخط عليك بعد ذلك.
لا تتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه، إذا سألت فاسأل فيما ينفعك، واسأل فيما يرفعك عند الله عز وجل، ولا تسأل في شيء يدل على جهلك وحماقتك، ويدل على أنك مستخف بدين الله سبحانه، ويدل على أنك مستخف بأوقات الناس الذين تسألهم.
اعلم أن العمر يسير قليل، إذا كان وقتك كثيراً وفراغك كثيراً فغيرك قد شغل نفسه بطاعة الله عز وجل فلا وقت عنده لك، ولا لجدلك ولا لسفسطتك، نجد بعض الشباب يحب أن يسأل كثيراً، يجلس معك يريد أن يسألك سؤالاً، فلعلك تتنزل معه في
السؤال
فتدعوه لأجل أن يواظب على المسجد ويواظب على الصلاة، لكنه استحلى نفسه وأسئلته فيسأل عن شيء وراء شيء بحيث إنه يضيع لك وقتك، وتجد في أسئلته أنه يضرب الدين بعضه ببعض، ويستفسر عن أشياء يستحي أن يتكلم فيها عن إنسان فيتكلم فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستحي من نفسه، فهذا لا يستحق أن يجاب عن أسئلته.
إذا كنت تجعل النبي صلى الله عليه وسلم كأحد من البشر وتتكلم عنه بمنتهى البساطة وتريد أن تسأل وتريد أن تتعلم بقلة أدب فلا، لا بد أن تعرف كيف توقر النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه ليس كل ما يحصل في قلبك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وسوسة تذهب تتكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا سوء أدب، فتعلم الأدب، وتعلم أن تنشغل بطاعة الله، وتبجيل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذلك أقول لإخواننا الشباب: أنا أحب أن أسلم عليكم كلكم كل يوم فالسلام فيه ثواب، لكن ليس كوني أسلم عليك معناه أن أفتح لك باب السؤال، وليس معنى أني أسمع لك مرة أنك كلما تنظرني تريد أن تسألني سؤالاً، وليس معنى ذلك أن كل وسوسة في صدرك أو في عقلك تتكلم بها حتى تصل للنبي صلى الله عليه وسلم تتكلم عنه في ذلك.
فإذا كنت موسوساً فعلاجك عند الطبيب النفسي وليس في المسجد، لا بد أن يكون سؤالك سؤالاً يستحق الجواب، وسؤالاً تتعلم منه، أما مجرد أنك فكرت في النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يأكل؟! كيف كان يعيش؟! كيف كان يعاشر نساءه؟! وكيف كان يستحم؟! أسئلة من وساوس الشيطان تلقيها حتى تنزل من قدر النبي صلى الله عليه وسلم فلا تستحق أن يجيبك أحد، ولذلك البعض قد يغضب حين يسأل سؤالاً فيقال له: امش! امش! فلذلك نرجو من إخواننا إذا كنا في المسجد أن نتعلم الكتاب والسنة، ونتعلم من دين الله تبارك وتعالى قال الله قال الرسول قال علماء الصحابة قال السلف كذا، وإذا كنت تريد أن تتعلم فاحضر وتعلم، أما التعلم عن طريق السؤال فقط فلسنا فارغين للسؤال والجواب طوال النهار.
نقول للإخوة: نحن نشرح في كتب السنة، شرحنا الكتب السبعة خلال خمسة وعشرين سنة ونحن موجودون في المسجد، فاحضر وتعلم مع الناس، تتعلم آية آية وحديثاً حديثاً في النهاية تعرف ما هو العلم الشرعي، أما أنه كل ما يخطر على بالك من سؤال تجيء به لتضيع أوقات الناس فلا.
ثم الأسئلة هي عندكم درستموها معنا دراسة طويلة جداً خلال سنين طويلة فدرستم وتعلمتم، فاقعدوا وأجيبوا عن أسئلة الإخوة، فالذي عنده سؤال يريد أن يستفيد منه ويعرف موضعه فليذهب إلى الإخوة ويسأل، أما أن تضيع وقتي فلا، ولذا كان أحد الإخوة معي في العيادة وهي مزحومة من الناس حتى أنهم يحجزون قبل أسبوع أمام العيادة، وصاحبنا واقف على باب العيادة يسألني ويريد أن أجيب والناس حوله متضايقون والوقت ضيق وأريد أن أستعجل لأجل أن أعطيكم درس العشاء، وعندما أقول: كفاية حرام عليك الناس يتضايقون يعض على أسنانه حرجاً وكذا كأنه يريد أن يظهر لي الأدب! يعني: أنت تريد أن تتعلم فاذهب وافتح الكتب واعرف منها الأجوبة، فليس عندنا وقت للأسئلة، وإذا أردت أن تعرف مكان السؤال والجواب ففي المكتبة موجود هذا الشيء.
أما الأسئلة من نوعية أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يغتسل؟ ولما كان يغتسل كان يقعد هو وزوجته عرايا أمام بعض كل ينظر إلى الآخر؟ فالذي يسأل مثل هذا السؤال إنسان سافل! نقول: النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل، واغتسل هو وعائشة وكانت تقول له: (دع لي ويقول لها: دعي لي)، فأين الحديث من هذا الأسلوب؟ أما أن تتجرأ بالتفاهة وقلة الأدب بالسؤال هذا وتريد التوضيح الشديد الذي فيه، فهذه تفاهة! خرجت عن الدرس ولكن أحياناً الإنسان يتضايق، نقوم نصلي الفجر أجد صاحبنا واقفاً ينتظرني، وإذا صليت الظهر أجد غيره واقفاً ينتظرني، وهكذا في كل صلاة، وأنت عندما تسأل أسئلة لا يحتاج إليها، فأنت تضيع الوقت على الناس فهم سيذهبون طالما أنك ستفتح باب النقاش والجدل، فهو قد يضيع على غيره سؤالاً قد يحتاج إلى أن يسأل عنه.
هذا شخص يسأل عن أضحية حقه اشتراها سليمة ولم يبق إلا يومان إلى وقت الأضحية فجاءت سيارة صدمتها فكسرت يدها، وهو قد نواها وعينها أضحية، فما الحكم الذي فيها؟ أظن هذا لا يتأخر في الإجابة عنه، نقول لهذا الإنسان: أنت نويت الأضحية، وعينت هذه الأضحية فاذبحها أضحية ولا تكلف أن تأتي بغيرها، ويفرق بين هذا وبين إنسان ذهب يشتري أضحية فانتقى المريضة أو العوراء فهذا لا يصح، وأما هذه المسألة فحصل فيها الحادث بعدما اشترى الأضحية.
(33/4)
حقارة الدنيا عند الله تعالى
نرجع للأحاديث التي بدأنا فيها، ومنها حديث عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته ديناراً، ولا درهماً، ولا عبداً ولا أمة، ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها) صلوات الله وسلامه عليه.
توفي ولم يترك من الدنيا شيئاً من هذه الأشياء التي يملكها فتكون ورثاً بعده، لم يترك لأهله شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، وكانت له أرض صلى الله عليه وسلم فجعلها لابن السبيل صدقة.
من الأحاديث قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
هذه الدنيا لا قيمة لها عند الله عز وجل، والدليل على ذلك أنه أعطاها للكافر، وصار الكفار من ملوك الأرض وأغنيائها، ولو كانت لها قيمة عند الله ووزن ما كان أعطاها للكفار.
فالمعنى: أنك لا تنظر للغني على أنه صالح وأن ربنا قد فتح عليه وكرمه لأنه يستحق هذا الشيء، فليس المال دليلاً على رضا الله عز وجل عن صاحبه، حتى تنظر في عمل هذا الإنسان، فإذا كان مؤمناً صادقاً يفعل في ماله ما أمر الله عز وجل به فهو في درجة كبيرة عند ربه سبحانه، وفعلاً هذا ممن رضي الله عز وجل عنه فهو يرضي ربه فيما أعطاه، أما إذا كان يعمل بسخط الله عز وجل في هذه الأشياء إذاً: هنا أعطاه الله الدنيا وليس فيه دليل على رضاه، وإنما أعطاه استدراجاً.
كذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله تعالى، وما والاه، وعالماً ومتعلماً).
هذه الدنيا مبغوضة عند الله سبحانه وتعالى وساقطة لا قيمة لها.
(ملعون ما فيها) إلا أشياء لا تشغل عن الله ولا عن دين الله تبارك وتعالى.
إذاً: كل ما في هذه الدنيا ليس له قيمة عند الله ولا يساوي عنده جناح بعوضة إلا ذكر الله، والذاكر لله سبحانه وتعالى هو الذاكر لله في صلاته، والذاكر لله عز وجل في قراءته للقرآن في تسبيحه، في أذكاره في الصباح والمساء في نومه في الأذكار التي يقولها عند ذهابه إلى عمله وسوقه وعند دخول بيته وخروجه منه وغير ذلك مما فيه ذكر الله، وإذا حضر جلسة علم يتعلم فيها، فهذا ذكر الله تبارك وتعالى.
قوله: (وما والاه)، من ذكر الله عز وجل ومن انشغل بما شابه ذلك من العلم.
قوله: (وعالماً ومتعلماً).
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر).
وقال: (إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).
من أخذ في العلم أخذ من ميراث الأنبياء بحظ وافر، فقال لنا هنا: (وعالماً ومتعلماً)، العالم الذي يعلم الناس الخير، والإنسان المؤمن حتى يكون عالماً لا بد وأن يتعلم العلم الشرعي، يتعلم كتاب الله عز وجل وتفسيره وأحكامه، ويتعلم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفقهها، ويتعلم دين الله عز وجل، فإذا تعلم ما ينفعه من دين الله كان عليه أن يبلغ ذلك، وكان ممن يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان والأسماك في البحر.
قال: (وعالماً) وما اقتصر على ذلك بل قال: (ومتعلماً)، فكأن الإنسان لن يكون عالماً حتى يكون متعلماً.
فالمتعلم كذلك له عند الله درجة عظيمة، يتعلم الخير ليعلم الخير يوماً من الأيام.
(33/5)
انقضاء الدنيا بالموت
من الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نعالج خصاً لنا فقال: ما هذا؟ فقلنا: قد وهى فنحن نصلحه، قال: ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك).
هنا يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق الواقع الذي هم موجودون فيه، مازالوا يصلحون خصاً ساكنين فيه، فيمر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم يصلحونه فيقول: (ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك).
المعنى: أنه لعله يأتيكم الموت بعد قليل، ومثلما تستعدون بالإصلاح لأجل أن تناموا في هذا الخص وتعيشوا فيه فاستعدوا للمعيشة في الدار الآخرة، وليس المعنى أنه ينهاهم عن إصلاح شيء فسد، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلح شسع نعله بنفسه، فلا ينهى عن الإصلاح، والإصلاح مندوب إليه، ولكن أنت تتذكر هذا الخص وهذه العشة التي ستعيش فيها وأنك تصلحها لأنك ستقعد فيها، يا ترى هل أصلحت الدار الآخرة؟ أصلح آخرتك بإصلاح دنياك وعملك، فهو يذكره، وكما قال: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، هل المعنى أنني أجلس في الدنيا لا آكل ولا أشرب، وإنما آكل (سندوتشات) خفيفة مثل المسافر؟ ليس المعنى هذا، وإنما يقول لك: اتخذ هذه الدنيا معبراً للآخرة، وهل الذي يعبر طريقاً إلى مكان يريد أن يصل إليه يؤجل السير في الطريق الذي هو ماش فيه أم أنه يعجل لأجل أن يسرع ويستعد للأهم الذي وراءه؟! فكأن الأمر: استعد للدار الآخرة، لا تجعل كل نفقاتك للدنيا، ولا كل تعليمك للدنيا، ولكن ليكن للدار الآخرة، فستأتي دار هي أعظم من هذه الدار التي أنت فيها فاستعد لها.
(33/6)
حب الدنيا مزهد عن الآخرة
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا).
الضيعة: الأراضي، وهنا كأن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم الجهاد في سبيل الله عز وجل، فقد كانوا مجاهدين مع النبي صلى الله عليه وسلم وفجأة قالوا: نريد أن نصلح أرضنا ونجلس فيها ويكفي ما قد قدمنا! فربنا سبحانه وتعالى حذرهم من ذلك، فكأنه يقول: أنتم المجاهدون! أنتم الذين اخترناكم لصحبة النبي صلوات الله وسلامه عليه! لستم أنتم الذين ترغبون في الضيعة وتتركون الدار الآخرة، بل أنتم الذين ستجاهدون لكي تبلغوا هذا الدين؛ ليقتدي بكم من بعدكم، فربنا سبحانه وتعالى قال لهم: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
فكان التحذير من الإلقاء باليد في التهلكة أن يتركوا الجهاد فيقولون: نحن جاهدنا ما فيه الكفاية، وربنا قد فتح لنا مكة فنجلس للزراعة فحذرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن كما حذرهم من قبل ربنا سبحانه، فتحذير النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم في هذا الحديث: (لا تتخذوا الضيعة) والسبب: سترغبون في الدنيا، إذاً: كل واحد سينظر إلى الحقل والبستان الذي فيه الزروع والثمار ويركن إلى هذه الدنيا.
فهنا كأنه حث لهم على الدار الآخرة، وتنفير لهم عن الدنيا، ولكن هل يحرم على الإنسان أن يتخذ ضيعة؟ هل يحرم عليه أن يتخذ أرضاً يزرعها؟ لا يحرم ذلك، ولكنه إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم: أن جاهدوا واستعدوا للجهاد والبذل حتى تبلغوا هذا الدين العظيم.
فالإنسان المؤمن وإن جاز له أن يشتري البيت ويقتني المزرعة طالما يؤدي حق الله سبحانه، ولكن يحذر أن تشغله هذه الأشياء عن دينه وآخرته، وعن تبليغ دين الله والجهاد في سبيله سبحانه.
(33/7)
التحذير من الافتتان بالمال
كذلك من الأحاديث ما جاء من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال).
خاف النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من المال، وخاف عليها أيضاً من النساء، فقال لهم الحديث الذي ذكرناه قبل ذلك: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
فخشي عليهم من فتنة الدنيا والمال، وكذلك من فتنة النساء وقال: (إن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء).
وعن عثمان رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال، بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء).
رواه الترمذي وقال: صحيح، ولكن في إسناده ضعف.
الغرض: أن الإنسان إذا عاش في هذه الدنيا ما الذي سيعيشه من هذه الدنيا؟ فقال لنا هنا: (بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء) فإذا أخذ ذلك من الدنيا فهو إنسان غني.
وجاء في حديث آخر له صلوات الله وسلامه عليه يخبرنا فيه عن هذه الدنيا حيث قال: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه).
إذاً: مهما انهمك في الدنيا فسيكفيه من الدنيا الشيء القليل، فلا يكن في الدنيا نهماً ولا شرهاً في طلبها، وليحذر أن تفتنه ويضله الله عز وجل فيها، وانظروا الحديث الذي يليه.
عن عبد الله بن الشخير -وهذا الحديث في صحيح مسلم - قال (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1] يقول: يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت!).
انظروا التعليم منه صلى الله عليه وسلم، أنت تقول: (مالي مالي) يعني: أترى أن كل الذي تجمعه من الدنيا ستنتفع به كله؟ إن ما ينتفع به العبد حقيقة هو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، حيث قال: (وهل لك يابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت)، إذاً: الانتفاع الحقيقي لمالك طعام أكلته وأفنيته، (أو لبست فأبليت) قد يكون عندك مائة ثوب كلها موضوعة في الدولاب، لكن عندما تلبس ثوباً واحداً منها هو الذي انتفعت به من بين هذه الثياب، وقد تكون الثلاجة مليئة بالطعام، ولكن إذا أخذت الوجبة التي تكفيك فهي التي انتفعت بها، والباقي كله ليس لك.
(أو تصدقت فأمضيت)، إذا دفعت الصدقة للفقراء قدمتها لك في الدار الآخرة، فانظر إلى المال الذي أكلته فني ولم يبق منه شيء، والذي لبست بلي وما استفدت منه شيئاً بعد ذلك، لكن عندما تصدقت هذا هو الذي قدمته للدار الآخرة وظل باقياً.
(33/8)
الحرص على الدنيا مفسد للدين
عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
وهنا شبه جملة بجملة، وليس مفرداً بمفرد، والناتج من هذه الجملة ما هو؟ قوله: (ذئبان جائعان) أي: يتضوران جوعاً، فإذا دخل هذان الذئبان الجائعان على قطيع من الغنم فماذا تكون النتيجة؟ لا شك أنه فساد عظيم جداً، فهو ذئب جائع وليس شبعان، وليس ذئباً واحداً، بل هما اثنان، ولو كان ذئباً واحداً فقد تهرب الغنم شمالاً ويميناً، أما الذئبان فإن الغنم ستحتار بين الاثنين، والغنم لا طاقة لها بالذئبين، فتكون النتيجة فساداً شديداً في الغنم.
فالإنسان عندما يحرص على المال، وعلى المنصب والرئاسة فإن النتيجة من وراء ذلك الفساد الشديد، يريد المرء أن يكون عنده مال كثير، ويريد أن يكون أشرف الناس وأعلى الناس، ليظفر بهذا الحرص على المال والشرف، وسيعمل أي شيء على أنه يرضي الناس لأجل المنصب الذي يريده، فيصل إلى المنصب بالخيانة والغش والغدر والخداع، وحتى يصل إلى المال ويتعامل مع الناس بالحرام، وأكل السحت والرشوة، وفي النهاية يقع في الربا صراحة، فهو في فساد من ناحية طلب المال، وفي فساد من ناحية طلب الشرف.
فالفساد الذي في المال وفي حرص الإنسان على تحصيله، وحرصه على تحصيل الشرف، أعظم بكثير من إفساد الذئبين في الغنم، فكأنه يريك نتيجة هذا الفساد العظيم، ولكن الفساد في هذه الثانية أعظم بكثير من الأولى: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: أفسد لدينه من إفساد الذئبين الجائعين لهذه الغنم.
(33/9)
الدنيا ظل زائل
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال: ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها).
لا بد أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: (ما لي وللدنيا؟ إنما أنا كراكب استظل تحت شجرة) إنسان مسافر طوال اليوم تعب فنزل تحت شجرة واستظل، فهل يستظل طوال عمره تحت الشجرة؟ لا، وإنما يستريح قليلاً ثم يركب ويكمل طريقه، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم هنا لما نام على حصير أثر في جنبه، فلما نظروا شيئاً ليناً بدلاً عن الحصير يفرش تحته صلى الله عليه وسلم قال: (ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها).
(33/10)
ما للفقراء من نعيم في الآخرة
كذلك من الأحاديث ما رواه الترمذي وقال صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام).
ذكر هنا فضل الفقير الذي يصبر على الفقر، وليس الغني الذي يحمد ربه على الغنى ويؤدي الحق له، فهذا له منزلة عظيمة عند الله عز وجل، وإنما الفقير الذي يصبر على الفقر ولا يتسخط على ربه سبحانه، بل هو راض كل الرضا عن ربه سبحانه، وأن الله ما اختار له إلا الخير، فهذا الفقير يدخل الجنة قبل الغني بنصف يوم، ونصف اليوم من أيام الآخرة بخمسمائة عام، فالإنسان إذا نظر إلى نصف اليوم يظنه قليلاً لكن لو نظر بالقياس الحقيقي إلى نصف يوم من أيام الآخرة فإنه سيكون مثل أعمار خمسة رجال عمروا في الدنيا كل منهم مائة سنة فهذه المرة تسبق فيها هذا الغني في دخولك الجنة حيث قال صلى الله عليه وسلم: (الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام).
(33/11)
الفقراء أكثر أهل الجنة
وعن ابن عباس وعمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء).
فالمرأة تقع في كفران العشير، وتقع في التفريط في حق الله وفي حق زوجها، فكن أكثر أهل النار.
أما الجنة فأكثر أهلها الفقراء، أعطاهم الله عز وجل وعوضهم تعويضاً عظيماً جداً؛ لأن الدنيا لا قيمة لها، فيوم القيامة وهم في جنة الله عز وجل يعطيهم حتى إن أبأس إنسان منهم في الدنيا ليغمس غمسة في الجنة ويسأل: هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: ما رأيت بؤساً قط وهذه غمسة فقط، كيف وهو ينعم فيها إلى أبد الآبدين!
(33/12)
دخول الفقراء الجنة قبل الأغنياء
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قمت على باب الجنة، فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجد محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار) متفق عليه.
قام صلى الله عليه وسلم على باب الجنة ينظر فيها الذين دخلوها فكان عامة من دخلها المساكين والفقراء، يأتي ربنا تبارك وتعالى لفصل القضاء بين الناس فيسأل الفقراء: كيف خرجتم من الدنيا؟ فيقولون: دخلنا الدنيا ولا شيء لنا، وخرجنا منها ولا شيء لنا، فيدخلهم الجنة.
أما أهل النار فيساقون إلى النار والعياذ بالله، ويبقى الأغنياء من هذه الأمة محبوسون عن الجنة حتى يسألوا عن القليل والكثير، وعن الصغير والكبير، وعن النقير والقطمير، وعن كل شيء فانظروا هنا في الحديث: (غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، قال: وأصحاب الجد محبوسون) والجد: الغناء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل).
وهذا لبيد بن ربيعة وقال ذلك في كفره فقال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: صدقت، قال: وكل نعيم لا محالة زائل، فقال: كذبت! نعيم الجنة لا يزول، والرجل ما قصد ذلك، لكن الغرض هنا: كل شيء سوى الله عز وجل باطل.
فالدنيا ما فيها باطل وما فيها لهو ولعب، فليحرص المؤمن على تحصيل ما يعينه في دخول جنة الخلد، وعلى رضا الله سبحانه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(33/13)
شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [1]
لقد امتدح الله ورسوله المقلين من هذه الدنيا، والراغبين عنها، والعالمين بحقيقتها، وقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أروع الأمثلة في الصبر على ضيق العيش، والرضا بالقليل من هذه الدنيا، فهم يدخرون صالح متاعهم للدار الآخرة، ويجعلون الدنيا دار تزود من الطاعات للعبور عن طريقها إلى الآخرة.
(34/1)
ما جاء في فضل الجوع والتقلل من الدنيا في القرآن
(34/2)
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش، والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس، وترك الشهوات.
قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:59 - 60].
وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص:79 - 80].
وقال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله يذكر فيه فضل الجوع وخشونة العيش.
فالإنسان الذي يأكل إما أن يشبع وإما أن يكتفي بالقليل، فالذي يجوع في الدنيا يحاسبه الله عز وجل يوم القيامة حساباً يسيراً، والذي يشبعه ويتخمه ويعطيه الكثير يطول حسابه، حتى وإن كان من المتقين، فإنها لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به.
إذاً: فالمقلون في الدنيا حسابهم يسير يوم القيامة إذا كانوا من الأتقياء.
وليست الرفاهية في العيش محرمة، لكن على الإنسان أن يعود نفسه على التقلل من الدنيا؛ لأن نفس الإنسان طماعة، فكلما أخذ شيئاً تمنى غيره وما هو أكثر، فإذا عود نفسه على العطش وعلى الصيام، خاصة إذا كان يصوم شهر رمضان ويصوم أياماً من أيام العام تطوعاً لله سبحانه وتعالى، فسيستعين بذلك على مشقة الحساب يوم القيامة.
وقد ذكر المؤلف آيات في هذا الباب منها قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
وكلمة (خلف)، إذا كانت ساكنة اللام فهي: خلف سوء، يعني: أقواماً ليسوا بطيبين، وإذا كانت محركة اللام فهم خير، أو فيهم خير.
قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [مريم:59]، حالهم {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59].
والدين جاء ليأمر العباد بعبادة الله سبحانه وتعالى، وبتوحيده وحده لا شريك له؛ لأنهم يستعينون بهذه الدنيا على الآخرة، فالله عز وجل خلق لكم ما في الأرض جميعاً، وأباح لكم ما شاء، وحرم عليكم ما شاء، فالإنسان في الدنيا يعيش بشرع الله عز وجل مستريحاً، استراح قلبه واستراح بدنه، واستراح في حاله ومآله بطاعته لله رب العالمين سبحانه، وإذا راجع الإنسان نفسه وحاسبها وراقب الله عز وجل فسيمشي على الصراط المستقيم؛ لأنه يخاف من الله عز وجل.
فهؤلاء الخلف خلف السوء: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} [مريم:59]، فلم يخافوا من الله عز وجل، ولم يستحضروا وعيده، ولم يستحضروا يوم القيامة والجزاء فضيعوا الصلاة، كعادة الكثيرين من الناس، يصلي أحياناً ويترك كثيراً، ويجمع الصلوات بعضها على بعض، قال: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، وكأن تضييعهم للصلاة بسبب اتباعهم شهواتهم، شهوة المال، وشهوة الجنس، وشهوة البنين، فهو يجري وراء شهوته على حساب الصلاة.
قال تعالى مبيناً جزاء هؤلاء: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، والغي: شر الجزاء، وقيل: واد في قعر جهنم والعياذ بالله.
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، جزاء غيهم، وجزاء ضلالهم يوم القيامة.
ثم قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [مريم:60]، ففضل الله واسع عظيم، فقد هدد هؤلاء ثم بسط يد التوبة فقال: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:60]، فإذا فرضنا أن الإنسان وقع في شهواته، وابتعد عن ربه وطاعته ثم راجع نفسه فالله كريم وحليم يحلم عنه، ويتوب عليه.
قال: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم:60]، لأنهم تابوا لله عز وجل فلا يظلمهم؛ ولأنه يقبل التوبة عن عباده، فلما تابوا إليه قبل منهم التوبة وأدخلهم جنته.
(34/3)
جزاء قارون
وقال الله عز وجل عن قارون: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79].
فالمال يطغي الإنسان ويغره، فهذا قارون لم يكن من آل فرعون، ولم يكن من كبار وزراء فرعون، ولكنه كان من أغنياء بني إسرائيل، فمن المفترض أن يكون من أتباع موسى النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ويتأدب بأدبه، ولكنه اغتر وطغى وبغى وتكبر على قومه فاحتقر قومه، وأراد أن يلحق نفسه بالكبار، فحذره الناصحون من الدنيا وأمروه أن يطيع الله سبحانه وتعالى، وأن يبتغي فيما آتاه الله الدار الآخرة، قال تعالى عنهم: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].
وقارون لم يكن من قوم فرعون، قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} [القصص:76]، ومن المفترض أيضاً أن قوم موسى كانوا في ذل هنا في هذا البلد؛ لأن فرعون أذلهم، واستحيا نساءهم، وقتل أبناءهم، وهذا رجل منهم، فمن المفترض أن يستشعر ما بقومه من ذل، ومن احتقار فرعون وجنوده لهم، فيكون معهم لا عليهم، ولكنه طغى واستكبر، فحذروه من معصية الله سبحانه وتعالى فأبى، قالوا له: خذ من هذه الدنيا نصيبك ولا تضيع حظك من الآخرة، وأحسن للخلق كما أحسن الله إليك.
فكان الجواب أن قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، يعني: أن الله أعطاني هذا المال لأني أستحقه، ولم يعطكم أنتم لأنكم لا تستحقونه، قال تعالى: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78]، ولم يعتبر بما حصل للقرون السابقة، والأمم الماضية ممن ادعوا هذه الدعوى، ولكنه خرج متكبراً متجبراً على قومه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} [القصص:79]، وقد كان لديه من الكنوز والخزائن ما إن مفاتيح هذه الخزائن، {لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، كما قال سبحانه وتعالى، وكان معه جماعة من الرجال الأشداء الأقوياء الذين يحملون مفاتيح هذه الخزائن، ومع ذلك لا يقدرون على حمل هذه المفاتيح.
قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76]، فلما نصحه قومه خرج يتبختر في ثيابه ويريهم أمواله، وأنه يستحق ذلك، قال تعالى: ((فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ)) [القصص:79].
الناس بطبعهم منهم من يحب الدنيا، ومنهم من يحب الآخرة، فالذين يريدون الدنيا سرعان ما يشتهون مثل هذا الذي معه، فهؤلاء نظروا إليه وهو في زينته، راكب على دوابه في حشمه وخدمه، فقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79].
فهؤلاء الجهلاء قالوا كما قال هو، فإذا كان الله قد أعطاه هذا الشيء فلأنه يستحق ذلك، قال تعالى عنهم: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
وكما أنه يوجد الحمقى في كل زمان ومكان، فكذلك يوجد أهل العلم وأهل الطاعة وأهل الخوف من الله سبحانه، فقد قال الذين يخافون من الله ويريدون الدار الآخرة لهؤلاء: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، فاصبروا على هذه الدنيا حتى يسكنكم ربكم سبحانه جنته! وهم لن يعتبروا حتى يروا نهاية هذا الإنسان، وخاتمته، قال تعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81]، ثم إذا بالذين كانوا يتمنون مكانه بالأمس يقولون: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82]، أخيراً عرف هؤلاء أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، أي: ويضيق على من يشاء، {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82].
ثم ختم سبحانه هذه الآيات بقوله: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
فبعد أن ذكر الله لنا قصة قارون ساق لنا الحكمة في آية جميلة عظيمة يقول فيها: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83]، فإننا نجعل الآخرة للذين يتقون الله سبحانه، وللذين لا يريدون العلو والاستكبار في الدنيا، قال: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83].
(34/4)
سؤال الإنسان يوم القيامة عن النعيم في الدنيا
ومن الآيات التي يسوقها لنا النووي هنا قول الله عز وجل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
يعني: أنه سبحانه سيسألكم عما نعمكم به في الدنيا، من مال، أو طعام أو شراب ونحو ذلك.
وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، هذه الآية من سورة الإسراء آية عظيمة وعجيبة فاسمع لهذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} [الإسراء:18]، أي: الدنيا: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، أي: الذي نريده؛ لنفتن الخلق بذلك، فالإنسان الذي يطلب الدنيا لن ينال ما يطلب، ولكن ينال منها ما قسمه الله عز وجل له لحكمة عنده، ومع ذلك تجد الإنسان ينكب على الدنيا.
ومن أبأس خلق الله الذي يطلب الدنيا، فهو يجري فيها بكل طاقته ثم يشاء الله تعالى أن يظل فقيراً تعيساً في حياته ثم يموت بهذه التعاسة، فلا هو نال الغنى في الدنيا، ولا نال رضا الله عز وجل في الآخرة، وهذا من أشد الناس بؤساً وضرراً على نفسه في الدنيا وفي الآخرة.
قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، ثم جعلنا لهذا الإنسان الذي يريد العاجلة، سواء أعطيناه العاجلة أم لم نعطه؛ لأنه ابتعد عن الله سبحانه وتعالى، قال: {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [الإسراء:18]، فضاعت منه الدنيا كذلك، وحتى إن حصل على الدنيا فإنه لا بد تاركها، ثم له نار جهنم والعياذ بالله.
قال: {يَصْلاهَا} [الإسراء:18]، أي: يدخلها ويقاسي حرها ولهيبها واشتعالها، {مَذْمُومًا} [الإسراء:18]، على ما صنع، {مَدْحُورًا} [الإسراء:18] ذليلاً مطروداً من رحمة رب العالمين سبحانه.
لذلك فإن الإنسان المؤمن العاقل يحمد ربه سبحانه على أن وفقه لطاعته، وعلى أنه أتى به إلى بيت الله ليصلي، وعلى أن جعله يصوم، فكم من إنسان بعيد عن رب العالمين يتمنى لو فعل ذلك مجرد أمان، فهو لا يريد أن يصلي أو يصوم؛ لأن الكسل يمنعه عن أداء هذه الواجبات، وكذلك نسيانه ربه سبحانه، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر:67]، فلو كانوا يقدرون الله حق قدره، ويعلمون قوة الله وقدرته، ويستحضرون رحمة رب العالمين، وكيف أنعم عليهم بنعم عظيمة ليل نهار لعبدوا الله حق عبادته.
(34/5)
خشونة العيش والاقتصار على القليل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
(34/6)
ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين
ومن الأحاديث التي ذكرها المؤلف في الباب حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين قالت: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض صلوات الله وسلامه عليه).
قولها: (خبز الشعير)، يعني: أنه ليس خبز قمح أو ذرة، بل خبز الشعير الذي لا يأكله اليوم أحد، ومع ذلك فما شبع منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله يومين متتابعين، ونحن لا يأتي علينا يوم واحد إلا ونحن نأكل أطيب الخبز، ومع ذلك قد تأكل لقمة وترمي الباقي في الأرض دون أن يأكلها أحد، بينما لم يشبع النبي صلى الله عليه وسلم ولا آله من خبز الشعير يومين متتاليين صلوات الله وسلامه عليه.
حديث آخر للسيدة عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً تقول: لـ عروة بن الزبير ابن أختها أسماء رضي الله عنها: (والله يابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، أي: لا يوجد طبخ مطلقاً، قال عروة: قلت يا خالة! فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان، التمر والماء)، ومن الذي يرضى أن يأكل التمر والماء مدة أسبوع أو شهر أو شهرين؟ ومع هذا فهم متعودون على ذلك، أنت في رمضان تأكل ثلاث تمرات اتباعاً للسنة، ولولا ذلك لما أكلتها أصلاً، ولو أكثر الإنسان من التمر لأحرقته معدته، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يستمر على هذا الحال مدة طويلة.
تقول: (إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقينا) والمنائخ: هي المعزة تكون للإنسان، ويكون فيها لبن، فيهدي لجاره من لبنها، أو بقرة يهدي لجاره من لبنها، فكانوا يهدون للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك اللبن.
(34/7)
ما أكل رسول الله شاة مصلية
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية.
أبو هريرة كان من فقراء الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه كان من حفاظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد من الله عز وجل عليه ببركة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم فصار أحفظ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فـ أبو هريرة هنا مر بقوم بين أيديهم شاة مصلية أي: مشوية، وهنا يذكر: أنهم دعوه فأبى أن يأكل، وكأنه استحضر حال النبي صلى الله عليه وسلم، قال رضي الله عنه: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير)، رواه البخاري في صحيحه.
وعن أنس رضي الله عنه بهذا المعنى في البخاري أيضاً قال: (لم يأكل النبي صلى الله عليه وسلم على خوان حتى مات).
والخوان: المائدة التي عليها أصناف الطعام، وكان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض؛ يقول: (إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل).
قال: (وما أكل خبزاً مرققاً حتى مات).
رواه البخاري.
والخبز المرقق: هو الملين المنخول، وفي رواية: (ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط).
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه أكل من شاة مشوية، لكن هذا النوع من الشواية غير مسموط، والشاة المسموطة بمعنى: التي توضع في الماء المغلي بحيث يزول فروها ويبقى الجلد فقط ثم تشوى، فهذا فعل أهل الرفاهية، وكان هذا الفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: (لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلم وما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه)، والدقل: رديء التمر، فالله عز وجل منع عن نبيه هذه الدنيا لحقارتها، فلو كانت ذات قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، فهو هو أحب الخلق إليه، وهو سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه.
يقول سهل بن سعد فيما رواه البخاري: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه).
والنقي من الخبز: هو الخبز الذي نخل طحينه؛ بأن يطحن الشعير أو القمح ثم ينخل.
يقول سهل بن سعد رضي الله عنه: (ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه، فقيل: هل كان لكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مناخل؟ قال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً من حين ابتعثه الله تعالى حتى قبضه الله تعالى، فقيل له: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخول؟ - وهذا دليل على أن المنخول ما وجد إلا بعده صلى الله عليه وسلم - قال: كنا نطحنه وننفخه فيطير ما طار، وما بقي ثريناه فأكلناه) وثريناه: أي بللناه وعجناه.
(34/8)
خروج رسول الله وأبي بكر وعمر من بيوتهم جياعاً
ومن الأحاديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم، فهما يتمشيان من أجل أن يتناسيا الجوع، قال صلى الله عليه وسلم: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوما فقاما معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني- أي: من مثلي، وعندي مثل هؤلاء الأضياف؟ يقصد النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما- فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا)، فهنا أحس الرجل بأن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه جياع فأعطاهم العذق وفيه البسر والتمر والرطب، وهذا من أدب الضيافة، فهو يقدم لهم شيئاً يزيل به جوعهم في البداية، ثم يذهب لإعداد الطعام، وهذا الأدب غائب عن حياة الناس اليوم، فقد يضيف أخاه ثم ينصرف عنه جائعاً ولا يعطيه شيئاً يسد به جوعه ابتداءً.
قال: (وأخذ المدية -السكين- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب)؛ لأنه قد ينتفع بلبنها هو وأهله، فيستحب ألا تذبح الشاة الحلوب في الضيافة.
قال: (فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم).
إذاً ففضل الله عظيم يستحق منا أن نشكر ربنا سبحانه، ونحمده على فضله وعلى كرمه وعلى جوده إذا ما حصل لنا مثل هذا الشيء، ونرجو من ربنا الخير في الدنيا وفي الآخرة.
ولنتذكر دائماً أن الإنسان الجائع والصابر على الجوع له أجر، هؤلاء وجدوا فأكلوا رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، فلما أكلوا ذكرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن الله سيسألهم عن هذه الأكلة التي أكلوها، فهل نشكر النعم لربنا سبحانه وتعالى التي أعطاها لنا؟ فنحن نملك العقول والألسن والشفاه والأيدي والأرجل، ونملك الصوت، فيجب أن نتذكر سؤال ربنا لنا عن هذه النعم العظيمة التي أعطانا إياها.
(34/9)
بيان شدة ما لاقى الصحابة من الجوع والعري في سبيل نصرة هذا الدين
من الأحاديث: حديث خالد بن عمر العدوي (قال: خطبنا عتبة بن غزوان) وكان أميراً على البصرة- وعتبة بن غزوان هذا صحابي فاضل من أكابر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان سابع سبعة في الإسلام، فإسلامه كان قديماً رضي الله عنه، وقد هاجر الهجرتين: هاجر إلى الحبشة، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء) -يعني: أن الدنيا أعلمت بقطيعة وفناء، وولت سريعة.
قال: (ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها)، أي: أن ما بقي من أعمارنا في هذه الدنيا شيء يسير، ثم يأتي الحساب بعد ذلك، وقوله: (يتصابها صاحبها)، أي يجمعها.
قال: (وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها- فإما الجنة وإما النار- فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم)، يعني: استفيدوا من الدنيا وأنتم حاضرون فيها.
قال: (فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك لها قعراً، والله لتملأن، أفعجبتم؟! يعني: أنها ستمتلىء يوماً ما بالكفرة وعصاة الموحدين، قال: ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاماً، قال: وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها، واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار).
وهذا من تواضعه رحمه الله، فهو يذكر الدنيا ويذكر حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول: إن حالنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من حالنا الآن، على الأقل كان بيننا من يستغفر لنا، ويدعو لنا، ويرحمنا، فوجودنا معه مع قلة الطعام أحب إلينا من الدنيا بأسرها.
ثم قال: (وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً).
بل هو عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
جمع سيدنا عمر رضي الله عنه الناس ذات مرة فقام يخطبهم فقال لهم: لقد كنت أرعى الغنم لآل الخطاب على قراريط بمكة.
ثم نزل رضي الله عنه.
فقيل له: ما زدت على أن حقرت نفسك، فقال: وهذا الذي أريد.
وكأن نفسه أعجبت بمكانها فأحب أن يذلها أمام الناس؛ لأنه يعرف نفسه حق المعرفة، فقد خلقه الله عز وجل من نطفة، خلقه من تراب أصله من الأرض، فلماذا يستكبر على الخلق؟ فيجب على الإنسان أن يذكر نفسه دائماً بأصلها إذا رأى منها العجب أو الفخر، كما ذكر عمر ذلك رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
للحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(34/10)
شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [2]
عاش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في خشونة عيش، وتقلل من الدنيا وهو خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فالإنسان المؤمن حين يذكر سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه يذكر نعمة الله عليه وفضله، وكيف أن الله وسع عليه، فيشكره على نعمه قولاً وعملاً.
(35/1)
ذكر ما جاء من خشونة عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
(35/2)
الحث على العمل الصالح والنفقة وترك المفاخرة والتكاثر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (أخرجت لنا عائشة رضي الله عنها كساء وإزاراً غليظاً قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) متفق عليه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة، وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) متفق عليه].
وأحاديث أخرى من كتاب (رياض الصالحين) للإمام النووي رحمه الله تُذكر في باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها.
في هذا الباب ذكر قول الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59]، أي: الإنسان الذي يضيع الصلاة يضيع أعظم أركان الإسلام، ويضيع صلته بربه سبحانه، فينشغل عنها بشيء آخر من ملاذ الدنيا، وينشغل عنها بشهواته وبشبهاته، وينشغل عنها بماله وبنيه، وينشغل عن إرضاء الله عز وجل بما يرضي الشيطان.
فهنا هؤلاء الذين خلفهم الله عز وجل من بعد المؤمنين، ومن بعد الرسل عليهم الصلاة والسلام أقوام أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فالعقوبة أنهم يلقون غياً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان:70].
وقال سبحانه: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8]، وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:1].
فالإنسان تلهيه الدنيا وتلهيه المكاثرة والمفاخرة فيها، فإذا به ينشغل وينسى الله سبحانه وتعالى، ولذلك كلما راعى الإنسان أمر الله عز وجل، وراقب نفسه، وعلم أنه مسئول عن كل ما يأتيه وكل ما يتركه، بدأ يتقلل من هذه الدنيا، وحتى ولو كان الله سبحانه وتعالى قد وسع عليه منها، فهو لا ينشغل بها انشغال الحارس عليها، يحرس الدنيا ويخاف ألا تضيع من يده، ولكنه ينشغل بطاعة الله سبحانه وتعالى فيما أولاه، فقد أعطاه مالاً وبنين، وكل ذلك من فضله ورحمته سبحانه وتعالى، فهو ينظر في هذه الأشياء ويؤدي الحقوق، عنده أولاد فلا يتكاثر ويقول: أنا عندي مال وعندي أولاد أكثر مما عندك، ولكن يفرغ نفسه لتربية هؤلاء الأولاد تربية ترضي ربه عنه وعنهم، وتجعل هذا الإنسان يوم القيامة في الجنة وأولاده أيضاً معه، قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
فالله عز وجل يمن على الإنسان أن أعطاه الأولاد، وأن جعلهم مؤمنين فينشغل في تربيتهم على دين الله سبحانه، حتى يرضى الله عز وجل عنه وعنهم، وحتى يتبعهم به يوم القيامة، فيدخله الجنة ويدخل أولاده معه يوم القيامة.
وفرق بين إنسان أعطاه الله عز وجل نعمة المال ونعمة الولد ونعمة الزوجة، والنعم العظيمة التي ينعم الله بها على الإنسان في الدنيا، فينشغل في الاستعانة بهذه النعم على الطاعة؛ لأنه يريد أن يدخل الجنة، وبين أن ينشغل بالاستعانة بهذه النعم على المعاصي وعلى المفاخرة، وعلى الزهو والغرور، وفرق بين إنسان مؤمن وبين إنسان لا يعرف حق الله عز وجل في ذلك.
كذلك الإنسان ينفق من المال على نفسه، وينفقه على عياله، وعلى أقاربه، وينفق على المسكين واليتيم والأرملة، فيعطي حق الله سبحانه وتعالى وهو واثق أن المال لا ينقص أبداً، وهناك فرق بين هذا وبين من يكنز المال وكلما آتاه الله عز وجل شيئاً يدخر ويكنز ويخبئ وينكر نعمة الله، وينسى ربه سبحانه وتعالى، وينشغل بهذا المال كيف يخبئه حتى لا يراه أحد من الناس، فلا يعطي حق الله عز وجل في ذلك، ولا ينفق منه النفقة الواجبة ولا النفقة المستحبة.
وفرق بين من عرف الله ومن لم يعرف الله، من قدر الله حق قدره، ومن لم يقدر الله حق قدره، فالله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نعطي الحقوق التي فرضها سبحانه كما أمر، وأن نعطيها بنية صالحة محتسبين الأجر عند الله، فلا ينقص المال من مثل هذه الصدقة.
(35/3)
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في كساءٍ وإزار غليظين
هذا أبو موسى الأشعري يذكر أن السيدة عائشة رضي الله عنها أخرجت لهم كساءً وإزاراً غليظاً، أي: كساء كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسه، وإزاراً غليظاً ليس من القماش الناعم الرقيق اللين، لبسه النبي صلى الله عليه وسلم ومات فيه.
فالله سبحانه أنعم على نبيه صلى الله عليه وسلم وفتح عليه الفتوح، ومع ذلك آثر الآخرة على الدنيا، فمات صلى الله عليه وسلم وهو في ثياب أهل الفقر وليس في ثياب أهل الغنى، وتوفي صلى الله عليه وسلم في إزار غليظ وكساء غليظ صلوات الله وسلامه عليه.
قالت عائشة رضي الله عنها: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين) والحديث في الصحيحين.
(35/4)
أكل الصحابة رضي الله عنهم من أوراق الشجر
وفي الصحيحين أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله) هذا سعد بن أبي وقاص هو سعد بن مالك رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أوائل من دخل في هذا الدين رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم) فأول سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته كانت السرية التي فيها سعد رضي الله عنه، وكان القائد عليها عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه في ستين راكباً، أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم في مهمة.
يقول في رواية (بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام) هذا قبل غزوة بدر، فتراموا بالسهام، فأول سهم رمي كان من سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يكن بينهم مسايفة، كان بينهم تراشق بالرماح من بعيد، ولم يكن بينهم اقتتال ومسايفة، فـ سعد رضي الله عنه ذكر أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وقال شعراً في يومها، قال: ألا هل أتى رسول الله أني حميت صحابتي بصدور نبلي فكان أول من رمى بالنبل في سبيل الله رضي الله تبارك وتعالى عنه.
يقول سعد (وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط) هذا لفظ رواية البخاري، يعني: طعامهم في هذه الغزوات ورق الشجر، ومن يطيق أن يأكل أوراق الشجر؟ فهؤلاء رضي الله عنهم أكلوا ذلك، واستمروا على ذلك فترة، حتى إن أحدهم ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط.
وانظر إلى بعر البعير وزبل الشاة، فهؤلاء من أكلهم ورق الشجر لم يكن لهم غائط كغائط غيرهم من الناس المنعمين المرفهين، بل ينزل منهم مثل بعر الغنم، ما له خلط، أي: ليس فيه ماء، بل شيء جاف ينزل منهم.
(35/5)
فضيلة سعد بن أبي وقاص وكرامته على الله
ولفظ الإمام البخاري يقول: ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، لقد خبتُ إذاً وضل عملي، وكان بنو أسد قد وشوا به إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ذكرنا في الحديث السابق أن صحابياً فاضلاً وهو عتبة بن غزوان رضي الله عنه كان أميراً على البصرة، ويذكر كيف كانوا في فقر، يقول: (رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان زميله سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول: والآن ما أحد منا إلا وهو أمير، فهذا كان أميراً على البصرة، وسعد بن أبي وقاص كان أميراً على الكوفة، ما الذي جعله يقول هذا الحديث أو هذه الحكاية الذي يحكيها رضي الله عنه؟ كانت بنو أسد قد شكته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذْ كان عمر قد عينه أميراً على الكوفة، فكان يسير فيهم بالمعروف، ولا يألو جهده أن يفعل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس، فتضايق منه بنو أسد وتكلموا في شأنه وشكوه إلى عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه يريدون أن يعزله، ولم يكن يصلح معهم أحد، فكلما تولى عليهم أميرٌ إذا بهم يشكونه لـ عمر رضي الله عنه.
وسعد كان قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة مباركة أن يسدد الله عز وجل رميته وأن يستجيب دعوته، فالله عز وجل استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فكان يرمي ولا يخطئ في الرمي رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكانت دعوته مستجابة، فكان الناس يخافون من دعوة سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
لكنَّ بني أسد شكوا سعداً لـ عمر رضي الله عنه حتى يعزله، وكانت عادة عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه يراقب الأمراء، ويسمع شكاوى الرعية، فإذا شكوا أحداً عزله، سواء أنه تحقق من الشكوى ومن صحتها أو لم يتحقق، فقد كان همه أن يريح الرعية ويولي عليهم من يرضون عنه، فكان رضي الله عنه له منطق ووجهة في ذلك، لعله كان يرى أنه طالما اشتكت الرعية الراعي، فإنه لو تركه عليهم لعله ينتقم منهم بعد ذلك فيؤذيهم.
هذه وجهة نظر عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أتى بـ سعد وسأله عن ذلك قال سعد: (إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ومالنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ماله خلط، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام).
معنى (تعزرني): توقفني، عندما تقول عن إنسان: أنا أعزره على كذا، يعني: أوقفه على الأحكام الشرعية في كذا، وكأنه يقول: هذه بنو أسد تأتي تعلمني الإسلام، وقد عرفت هذا الدين من قبلهم.
قال: خبت إذاً وخسرت، أو قال: لقد خبت إذاً وضل عملي، يعني: لو كان بنو أسد هم الذين سيعلمونني الإسلام لخبت وخسرت، وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد كان بنو أسد من أوائل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: ليس لهم فضل أنهم يشكونَ سعداً رضي الله عنه ويقبحون فعاله، وهو من أصحاب الفعال الجميلة، يتكلمون عنه ويقولون: إنه لا يعرف أن يصلي، والإنسان إذا أحب إنساناً رفعه في السماء، وإذا أبغض إنساناً أنزله على الأرض، مثلما قالوا: وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا فالإنسان حين يكون ساخطاً على إنسان لا يرى منه إلا العيوب، فيقولون عن سعد رضي الله عنه: إنه لا يحسن أن يصلي، فعزله عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وبعث يسأل هؤلاء عن سيرة سعد فيهم، وكان قد ولى عليهم عَمَّاراً بعد سعد رضي الله تبارك وتعالى عنهما.
فلما بعث عمر من يسألهم عن سيرة سعد قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي، فسأل عمر سعداً وقال: يا أبا إسحاق: إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن أن تصلي، فقال له: (أما أنا والله فقد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها، فأرقد في الأوليين وأخف في الأخريين).
فأرقد: من الرقود، يعني الدوام أو الإطالة، أي: إذا صليت بهم الصلاة الرباعية أطيل في الركعتين الأوليين وأقصر في الركعتين الأخريين كسنة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك! فقال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق! فأرسل معه سيدنا عمر رجالاً إلى الكوفة، فسألوا أهل الكوفة عن سيرة سعد، فلم يدعوا مسجداً إلا سألوا فيه عنه وهم يثنون عليه معروفاً، حتى دخل مسجداً لبني عبس هناك، فقام رجل منهم يقال له: أسامة بن قتادة وكنيته أبو سعدة، فهذا الرجل قال لرسول عمر إليهم: أما إذ نشدتنا، يعني: أنت تحلفنا أن نقول الحق فأنا سأقول الحق، فقال هذا الكذاب: فإن سعداً كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية.
فانظروا ماذا يقول عن سعد الذي كان من المجاهدين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يزل كذلك حتى مات رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية - أي: يقسم المغانم بيننا ولا يعدل فيها فافترى الكذب على سعد رضي الله تبارك وتعالى عنه.
والغرض: أن سعداً عاقب هذا الرجل عقوبة شديدة بأن دعا عليه رضي الله تبارك وتعالى عنه دعوة عجيبة جداً، فقال: أما والله لأدعون بثلاث والصحابة كانوا يخافون من دعوة سعد رضي الله عنه، وقد حصل مرة شيء بين عمر وبين سعد فقال: لأدعون عليك، فقال: ادع ولا تدعُ إلا بخير، فالصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عنهم كانوا يعرفون منزلة سعد أنه دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون مستجاب الدعوة، فالرجل هذا الذي كذب على سعد استحق أن يدعو عليه سعد رضي الله عنه فقال: لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذباً قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتنة.
وفعلاً استجاب الله عز وجل دعوة سعد، فقد عاش الرجل وشاخ وكبر سنه، وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد، وكان يسقط حاجباه على عينيه من شدة الكبر، ومع ذلك يمشي هذا الشيخ العجوز ويضايق البنات في الطرقات ويغازلهن، ويقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد.
قال راوي الحديث: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن.
وهذه العقوبة غير عقوبته يوم القيامة عند الله عز وجل، وهذا جزاء كذب الإنسان حين يفتري على غيره، فاستحق أن يستجيب الله عز وجل الدعوة عليه في الدنيا قبل الآخرة.
الغرض من هذا الحديث: بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكثوا فترة طويلة على هذا الحال من الفقر حتى في مغازيهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
قال هنا في رواية: (ومالنا طعام إلا ورق الحبلة) والحبلة: ثمار شجر السمر، وحولها الأوراق، كانوا يأكلون هذه الأوراق.
(35/6)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يجعل رزق آل بيته قوتاً
حديث آخر في الصحيحين أيضاً: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
الإنسان يأكل القوت ويتفكه بالفاكهة، يأكل القوت الضروري الذي يعيش عليه من قمح وشعير وأي طعام أساسي له، وبعد ذلك يتفكه بشيء زائد عن ذلك، فهنا النبي صلى الله عليه وسلم دعا ربه سبحانه أن يرزقه القوت، أي: حاجته الضرورية التي يحتاج لها صلى الله عليه وسلم على قدره، قال: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا) هذا طلبه من ربه صلوات الله وسلامه عليه، وقالوا: القوت هو ما يسد الرمق.
(35/7)
قصة خروج أبي هريرة جائعاً وإطعام النبي له ولأهل الصفة
حديث آخر في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع.
وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع)، أبو هريرة رضي الله عنه أسلم سنة سبع للهجرة، فقد وقعت غزوة خيبر في سنة سبع وبعدها أسلم أبو هريرة، ومكث مع النبي صلى الله عليه وسلم باقي سنة سبع وسنة ثمان وتسع وعشر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم في أول سنة إحدى عشرة، إذاً: مكث مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنوات، وخلال أربع سنوات حفظ ما لم يحفظه أحد من أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
ولا شك في حفظه الكثير للأحاديث التي حدث بها رضي الله تبارك وتعالى عنه، حتى إن كان ليجلس على باب حجرة عائشة ويتحدث بالأحاديث الكثيرة ويرويها سرداً حديثاً بعد حديث من شدة حفظه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ويقول للسيدة عائشة: اسمعي يا ربة هذه الحجرة! يعني: لو كنت أنا كاذباً فكذبيني فيما أقول، فلا ترد شيئاً رضي الله تبارك وتعالى عنها، غير أنها كانت تذكر أنه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث هكذا.
والغرض: أن أبا هريرة كان يعلم الناس ويحفظهم، فمجلس أبي هريرة كان يقول فيه ما حفظه من النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة عائشة تشهد أنه لا يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وسبب حفظ أبي هريرة أنه لازم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن أبو هريرة مشغولاً بشيء، وليس له أولاد، وإنما كان همه أن يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يكفيه أن يأكل حتى يشبع وباقي يومه يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول، حتى إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً: (من أحب أن يحفظ حديثي فليبسط رداءه) فبسط أبو هريرة رداءه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمره أن يجمعه، فكانت البركة العظمى أن حفظ كل ما سمعه من النبي صلوات الله وسلامه عليه.
قال أبو هريرة: إن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع.
يعني: في سبيل طلب العلم والحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان غير مهم أن يأكل، فقد كان يربط حجراً على بطنه، ويجلس ليسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول من حديث حتى يحفظ.
قال: (ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه) يعني: يحكي ذكريات الجوع، ففي يوم من الأيام كان جائعاً جداً، وخاف أن تضيع منه أحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، فأحب لو أن أحداً فطن إليه وأعطاه غذاءً بحيث يتفرغ ليحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فتبسم حين، وعرف ما في وجهي وما في نفسي، ثم قال: أبا هر) يعني: أبا هريرة يرخم اسمه تدليلاً له.
قال: (أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله! قال: الحق، ومضى فاتبعته، قال: فدخل، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت فوجد لبناً في قدح فقال: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيته ووجد كوزاً فيه لبن، فسأل: من أين هذا اللبن؟ قالوا: أهداه إليك فلان أو فلانة، وأبو هريرة جائع، والنبي صلى الله عليه وسلم أتى به لكي يطعمه.
فقال صلى الله عليه وسلم: (أبا هر! قال: قلت لبيك يا رسول الله، قال: الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) أهل الصفة من فقراء المهاجرين يصل عددهم إلى سبعين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والذي يشغلهم أنهم يتعلمون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقومون في أمره من جهاد ونحوه، وهم في المسجد ماكثون، ومن فقراء المسلمين.
قال هنا: (الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي) يدعوهم على قدح فيه لبن، قال: (وأهل الصفة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا إلى أحد) يعني: ليس منهم أحد متزوجاً، ولا عنده أولاد، فمأواهم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً) لأنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه الصدقة، قال: (وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها) يأكل من الهدية ويهدي لهؤلاء منها عليه الصلاة والسلام، فلما قال لـ أبي هريرة: اذهب وادع لي أهل الصفة، قال: (فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟!) أي: هذا لا يكفي، قال: (كنت أحق أن أصيب في هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا وأمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بُدٌّ) ليس هناك بد، أي: لازم عليَّ أن أطيع الله وأطيع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: (فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا واستأذنوا، فأذن لهم صلى الله عليه وسلم وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: يا أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: خذ فأعطهم، قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يردُّ علي القدح)، الرجل يأخذ القدح ويشرب حتى يشبع من الشرب منه، ولعل أبا هريرة كان خائفاً أن ينتهي القدح، قال: (فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم)، أي: شرب أهل الصفة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: (أخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم)، صلوات الله وسلامه عليه إذْ كان يعرف ما هو الذي في نفس أبي هريرة، هل القدح نقص أو لم ينقص؟ قال: (فقال: أبا هر! قلت: لبيك يا رسول الله، قال: بقيت أنا وأنت، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: اقعد فاشرب، فقعدت فشربت، فقال: اشرب - مرة أخرى - فشربت، فما زال يقول: اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، قال: فأرني! فأعطيته القدح، فحمد الله تعالى وسمى وشرب الفضلة) صلوات الله وسلامه عليه، هذه بركة من بركات النبي صلوات الله وسلامه عليه، إذ شرب هؤلاء الفقراء وبقي اللبن فشرب منه أبو هريرة الذي كان يظن أن اللبن يكفيه وحده فقط، فكفى هؤلاء جميعهم، وهذا مستحيل عقلاً أن يكون قدح من لبن يكفي سبعين رجلاً حتى يشبعوا منه، ولكن هذه بركة الله سبحانه، وآية من آياته ومعجزة لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في ذلك.
والغرض: بيان الجوع الذي كانوا عليه، حتى إن أحدهم يستمر على هذا اللبن اليوم كله، وكذلك أبو هريرة، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
(35/8)
شدة معاناة أبي هريرة من الجوع
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجرة عائشة رضي الله عنها مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون وما بي إلا الجوع، رضي الله تبارك وتعالى عنه.
هذه مفخرة لـ أبي هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه لم يشغل نفسه بشيء إلا أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وليبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأحكام التي جاء بها من عند ربه صلوات الله وسلامه عليه.
هنا كان يقول: (لقد رأيتني وإني لأخر) يعني: من شدة جوعه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فبين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة يمشي فيقع على الأرض من شدة الجوع، فلا يقدر على الوقوف، وأحياناً الإنسان من شدة جوعه وعطشه يكون كالمجنون، فترى لسانه يخرج إلى الخارج وينزل زبد من شدقيه، فيصبح من شدة جوعه على هيئة مجنون، والذين من حوله يظنون أنه جن، ويظنون أن به صرعة.
فيأتي الرجل فيجده مرمياً على الأرض، ويضع رجله على رقبته، ظناً منه أن به صرعاً فيفعل به ذلك.
يقول: فيجيء الجائي، أي: الإنسان الذي يأتي يظنني مصروعاً وليس بي ذلك، قال: فيضع رجله على عنقي ويرى أني مجنون وما بي جنون وما بي إلا الجوع.
هذا من الأحاديث التي فيها بيان كيف كان أبو هريرة يعاني من الجوع والفقر، ولو شاء لخرج يتاجر في المدينة مثل غيره، أو يعمل عند أحد من أهل المدينة فيطعمه ويسقيه ويعطيه، ولكن كان هم أبي هريرة رضي الله عنه أن يحفظ من النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه، ويدعو له النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو لأمه أيضاً، فـ أبو هريرة شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان، وأخبره أنه لا يحبه إلا مؤمن، ولذلك فإن أبا هريرة لا يسمع به إنسان مؤمن إلا أحبه، والإنسان الذي يكره أبا هريرة رضي الله عنه إنسان لا حظ له في شيء من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحبك إلا مؤمن).
ولقد ظهر أناسٌ يزعمون أنهم قرآنيون، يقولون: نأخذ بالقرآن فقط ولا نأخذ بالحديث؛ لأن أبا هريرة كان مشغولاً بالطعام والشراب، وكان يريد أن يشبع بطنه، قالوا: هذا الإنسان الذي يريد أن يشبع بطنه ماله ومال حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما فهموا في أي شيء كان أبو هريرة رضي الله عنه، فهم في واد وهو في واد آخر! أبو هريرة أجاع نفسه وأتعب بدنه في سبيل حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن واحداً من طلبة العلم حكى في سيرته أنه كان يجوع وكان يعطش وكان يشقى ويكد ويكدح في طلب العلم لمدحه الناس على ذلك، ولكن يقولون ذلك عن أبي هريرة؛ لأنه راوية الإسلام، فقد روى آلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وانفرد بأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هدموا أبا هريرة هدموا ركناً عظيماً من أركان هذا الدين؛ لذلك فـ أبو هريرة لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، مهما زعم أنه قرآني أو غير ذلك.
(35/9)
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في دين
من الأحاديث: حديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير).
هذا النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق وسيد ولد آدم وحبيب رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه يموت مديوناً، ولكنه جعل وفاء هذا الدين رهناً، أي أنه إذا لم يدفع أخذ الرهن الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، ورهنه كان درعاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند رجل يهودي.
قالت: (مات النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على ثلاثين صاعاً من شعير) والصاع: كيلوان ونصف من الشعير تقريباً، يعني: مات النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الدرع مرهونة في ثلاثين صاعاً، أي: حوالي خمسة وسبعين كيلو من الشعير.
فهذا القدر من الشعير كان يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم لأهله ويرهن درعه صلى الله عليه وسلم مقابل هذا القدر من الشعير، ليس من الفواكه مثلاً، وليس من الأشياء الغالية من الثياب ونحوها، وإنما في قوت، يا ترى هل كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً على الله سبحانه وتعالى حتى يموت وهو آخذٌ طعاماً يأكله هو وأهله بالدين عليه الصلاة والسلام؟ لا، ولكن أراد الله عز وجل أن يرينا حقارة هذه الدنيا، وأنه لا قيمة لها، فلو كان لها قيمة لأعطاها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن لا قيمة لهذه الدنيا عند رب العالمين.
(35/10)
أكل النبي صلى الله عليه وسلم الشعير والإهالة السنخة
عن أنس رضي الله عنه قال: (رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير قال: ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخبز شعير وإهالة سنخة، ولقد سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى وإنهم لتسعة أبيات).
الحديث في صحيح البخاري، وأنس بن مالك كان خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه بشعير قال: ومشيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحمل له خبزاً من شعير يغمسه في إهالة سنخة.
والإهالة: الدهن أو الزيت أو نحوه.
وسنخة يعني: متغيرة لمكثها فترة، فهنا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بها، فيا ترى من منا يأكل ذلك؟ فنحن نفضل أن نأكل العيش يابساً متكسراً ولا نأكل هذه الإهالة السنخة، ولكن أكلها النبي صلى الله عليه وسلم، وغمس الخبز من الشعير في الإهالة السنخة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أصبح لآل محمد صاع ولا أمسى) أي: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تسعة أبيات، وما أصبح اليوم عندهم ولا أمسى صاع من شعير، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم أن يرهن درعه ليطعم أهله صلوات الله وسلامه عليه.
(35/11)
رثاثة لباس أهل الصفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لقد رأيت سبعين من أهل الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء).
يعني: كل واحد عليه ثوب واحد فقط، إما أنه ثوب قصير يكاد يجعله إزاراً ويستر من سرته إلى أسفل ركبتيه، أو أنه طويل قليلاً لا يصلح أن يكون قميصاً، فيبقى كساء يكتسي به من رقبته إلى ركبته.
فيقول هنا: (إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم، منها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته).
يعني: أن الذي يلبس مثل هذا الثوب كان يلبسه مثل الأطفال حين يلبسون (المرايل)، فإنهم يجمعونها على صدورهم ويربطونها في أعناقهم، فإذا أراد الركوع يخاف أن يرتفع ثوبه إلى الأعلى، فيمسك بثوبه حوله، حتى لا ينكشف فخذه أو ينكشف شيء من عورته، قال: فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته.
(35/12)
صفة فراش النبي صلى الله عليه وسلم وتقشفه هو وأصحابه
وعن عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري قالت: (كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُدَمٍ حشوه ليف).
أي: كان فراشه من جلد بعير، والحشو الذي بداخله ليس قطناً، بل هو ليف.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه ثم أدبر الأنصاري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أخا الأنصار كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يعوده منكم) لأن سعد بن عبادة كان مريضاً وهو سيد الخزرج رضي الله عنه.
قال: (فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، ونحن بضع عشرة ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص، نمشي في تلك السباخ حتى جئناه).
فقوله: (ولا قلانس) أي: لا يلبسون غطاء الرأس، ولا قمصاً ولا نعالاً يعني: كان الذي معهم إزار وكساء، قال: (نمشي في تلك السباخ) والسباخ: الأرض التي لا تنبت زرعا، وأرض سبخة أي: طينة مالحة لا تنبت شيئاً فهي رملية، يمشون على أرجلهم فيها.
قال: (حتى جئنا، فاستأخر قومه مِنْ حَولِه، حتى دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين معه).
(35/13)
ذم التنعم والانغماس في اللذات
(35/14)
ذم السمن
وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
فخير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، والقرن: الجيل الذي تعاشر في زمن واحد، فكل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أو سمع منه قرنه.
والقرن الذين يلونهم: الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأوا أصحابه، وهو قرن التابعين.
والذين يلونهم: قوم لم يروا الصحابة أو رأوا الأفراد القليلين من الصحابة ورأوا التابعين.
فخير القرون من رأى النبي صلى الله عليه وسلم، يليهم من رأوا أصحابه، يليهم الذين من بعد هؤلاء.
قال عمران: (فما أدري قال النبي صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن) متفق عليه.
يكون من بعد قرون الخيرية الثلاثة الأول قوم يشهدون ولا يستشهدون، يعني: يشهد أحدهم من غير أن يطلبه أحد للشهادة؛ لأنه ليس أهلاً لها، فهو معروف عند الناس أنه كذاب وخائن، فيذهب ويشهد من غير أن تطلب منه شهادة؛ لأنه ليس من أهل هذه الشهادة وإنما هو شاهد زور.
قال: (ويخونون ولا يؤتمنون) فمن صفاتهم أنهم قوم يخونون ولا أحد يأتمنهم على أمانة؛ لأنهم إذا أخذوا الأمانة أو أخذوا الوديعة أو أخذوا العارية جحدوها وأكلوها ولم يعطوها أصحابها.
ويقول: (وينذرون ولا يوفون) يعني: ينذر لله يقول: علي أن أعمل كذا ولا يعمل، ويقول: لله علي إذا شفاني الله أن أعمل كذا ولا ينفذ.
قال: (ويظهر فيهم السمن)، والمعنى: أن شهواتهم في بطونهم، فهم مشغولون بالطعام والشراب، لا يأبهون لعبادة ولا طاعة ولا جهاد، وليس على بالهم شيء من أعمال الإسلام إلا الأكل والشرب وأن يتنعم في رغد العيش.
(35/15)
ذم إمساك المال وعدم بذله
جاء عند الترمذي من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول).
في هذا الحديث: (يا ابن آدم إنك أن تبذل) أن: مصدرية، معناه: بَذْلُكَ الفضل، أي: ما زاد، وهذا الذي أمر به الله حيث قال: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] يعني: ما فضل وزاد، لا يطلب منك الضروري ولا الشيء الذي تحتاجه، بل يطلب منك الزائد عن حاجتك أن تنفق منه.
فهنا إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، فعندما يكون عندك فضل من مال أو طعام وأنت تمسكه وحولك المحتاجون، فإنه شر لك، إذْ تسأل عن ذلك يوم القيامة.
قال: (ولا تلام على كفاف)، أي: لا لوم عليك إن كنت فقيراً وليس لديك ما تنفق منه.
قال: (وابدأ بمن تعول) فهنا تبدأ بنفسك وتبدأ بزوجك وأولادك، فهم أولى من غيرهم، فإن فاض شيء فأعطِ للآخرين، فإن لم يفض شيء فابدأ بمن تعول، كما أمرك النبي صلوات الله وسلامه عليه.
(35/16)
القليل من الدنيا يكفي الإنسان
وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري الخطمي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
فيا ترى من منا يصبح على هذه الصفة؟ قال: (من أصبح منكم آمناً في سربه)، أي: الأمان في النفس وفي القوم وفي البيت، فلا أحد يخيفه، ولا أحد يهدده.
قال: (معافى في جسده) أي: أصبح سليم الجسد معافى، يحرك يديه وأطرافه ويأكل ويشرب.
قال: (عنده قوت يومه) ليس قوت شهره ولا قوت سنته، وإنما قوت يومه الذي هو فيه؛ لأنه لا يدري هل سيعيش بعد ذلك أو لا يعيش؟ فإذاً هنا ثلاثة أشياء: الأمان في يومه الذي أصبح فيه فهو آمن في سربه.
والمعافاة في الجسد، أي: صحته سليمة.
وعنده قوت يومه.
(فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) يعني: كأنما جمعت وأعطيت له الدنيا بحذافيرها، وذلك أنه لو كانت الدنيا بحذافيرها فهو في النهاية سيملأ بطنه من طعام ويملأ بطنه من شراب، وينام على سريره الذي هو فيه ولن يشغل أكثر من سرير في النومة الواحدة، فعلى ذلك فإن الإنسان الذي يصبح وهو آمن معافى وعنده قوت يومه، كأنه أخذ الدنيا بما فيها، فصار ملكاً من الملوك، فاحمدوا ربكم على ما أعطاكم من نعم، وعلى ما أنعم عليكم بفضله وبكرمه، وسلوا الله من فضله ومن رحمته، فإنه لا يملكها إلا هو.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(35/17)
شرح رياض الصالحين - فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل [3]
إن الاقتصار على القليل من الدنيا، والقناعة بالمقسوم يجعل المؤمن مستريح البال، سعيداً في عيشه، خصوصاً إذا علم أن أكرم مخلوق لله عاش في الدنيا على اليسير منها، وكذلك عاش أصحابه الكرام.
(36/1)
فضل الهداية والقناعة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
وعن أبي محمد فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً، وقنع) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة -وهم أصحاب الصفة- حتى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم، فقال: لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى لأحببتم أن تزدادوا فاقة وحاجة) رواه الترمذي وقال: حديث صحيح وعن أبي كريمة المقداد بن معد يكرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
هذه الأحاديث ذكرها الإمام النووي رحمه الله في كتابه (رياض الصالحين) في باب: فضل الجوع وخشونة العيش، وقد قدمنا أحاديث في هذا الباب قبل ذلك.
وذكر هنا حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام)، وطوبى هي: شجرة في الجنة يخرج منها حلل أهل الجنة، وثيابهم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام)، أي: من هداه الله عز وجل لهذا الدين العظيم.
(وكان عيشه كفافاً)،أي: بقدر ما يكفيه، لا زيادة في رزقه ولا نقصان، يعني: بقدر حاجته.
قوله: (وقنع)، وهذا الحديث هو مثل الحديث الذي جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، يعني: أن الفضل من الله سبحانه وتعالى، وهذا الإنسان أفلح بفضل الله سبحانه؛ لأن الله هو الذي هداه للإسلام، وهو الذي رزقه سبحانه، وهو الذي سخر له هذا الرزق، بحيث جعله على قدر حاجته، لا زيادة فيه ولا نقصان؛ حتى لا يُفتن هذا الإنسان، والله هو الذي من عليه بأن رزقه القناعة، والله هو الذي من عليه بالفلاح سبحانه وتعالى.
إن الإنسان المؤمن إذا أعطاه الله سبحانه شكر الله على ما أعطاه، وإذا منعه الله سبحانه صبر على ما منعه، فهو في كل أحواله راض عن الله سبحانه، قانع بما آتاه الله سبحانه وتعالى.
وليس معنى ذلك أن يقعد الإنسان في بيته ولا يطلب الرزق، ويقول: إنني راض بهذا الشيء، بل يمشي في الأرض، كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، فأنت تتعب نفسك حتى تحصَّل قوتك وقوت أهلك خوفاً من الإثم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت).
فالإنسان المؤمن يبحث عن رزقه ويقنع بما أعطاه الله سبحانه، فإذا لم يقنع يستقل هذه النعم، ويظل يراقب غيره الذي أنعم الله عز وجل عليه وأعطاه أكثر مما أعطاه، أما المؤمن فيرضى بما آتاه الله، ويعلم أن الله يدخر له في الجنة خيراً من ذلك بكثير، فهو راضٍ برزق الله عز وجل حتى وإن كان كفافاً؛ لأنه يرجو رحمة ربه، فيكون قد أفلح، وهنا جاء في الحديث: (طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع).
وقد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً ولكنه لا يقنع، بل يتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، ويقول: ربنا يعطي الناس ولا يعطيني، فيسخط الله عز وجل عليه.
وقد يهدي الله عز وجل الإنسان إلى الإسلام، ويعطيه رزقاً واسعاً، ويشكر هذه النعم العظيمة ويؤدي الحقوق فيها فهذا أيضاً له الجنة.
إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم، ولكن أيهما أفضل؟ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فلو كان الغنى وإعطاء الكثير من الدنيا شيئاً أحسن للإنسان وأفضل له، فإن الله كان سيعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله يجوع صلى الله عليه وسلم ويبيت طاوياً، وليس المعنى أن لا يتمنى الإنسان الشر والفقر، بل يسأل الله عز وجل من رزقه ومن فضله، فما آتاه الله عز وجل حمده وشكره عليه سواء أعطاه كفافاً أو أعطاه زائداً عن حاجته، بل مهما أعطاه شكر ربه على نعمه وعلى عطيته.
(36/2)
فضل الفقير الصابر والغني الشاكر والفرق بينهما
إن الفقير الصابر له أجر عظيم، والغني الشاكر أيضاً له أجر عظيم، ولكن أيهما أفضل، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء، فلو كان الغنى وإعطاء الكثير من الدنيا شيئاً أحسن للإنسان وأفضل له، فإن الله كان سيعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يجعله يجوع صلى الله عليه وسلم ويبيت طاوياً، ولي المعنى أن لا يتمنى الإنسان الشر والفقر، يسأل الله عز وجل من رزقه ومن فضله، فما آتاه الله عز وجل حمده، وشكره على ما أعطاه، سواء أعطاه كفافاً أو أعطاه زائداً عن حاجته، بل مهما أعطاه شكر ربه على نعمه وعلى عطيته.
(36/3)
فضل الجوع وذم الشبع
(36/4)
النبي يبيت الليالي المتتابعة طاوياً
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً)، يبيت طاوياً، أي: يطوي ليلةً وراء ليلة وبطنه خاوية صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (وأهله لا يجدون عشاءً)، يعني: أنه ليس وحده في ذلك، بل كذلك أهله عليه الصلاة والسلام لا يجدون عشاءً.
قوله: (وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)، يعني: أنه قد يُهْدى إليهم ذلك الشعير، وقد يخبز في بيتهم، وقد لا يجدون شيئاً فيبيتون طاوين بطونهم، ولعلهم يربطون على بطونهم بالحبال، أو يربطون على بطونهم الحجر حتى يشعروا بأنهم ليسوا جائعين، وكان رسول الله يربط الحجر على بطنه ليتقوى على الجوع.
(36/5)
الصحابة يخرون على الأرض من الجوع
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة)، والخصاصة: هي الجوع.
يعني: أن فقراء المهاجرين الذين يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقعون على الأرض وهم في الصلاة من الجوع، والأعراب لا يدرون لماذا وقع هؤلاء؟ فيقولون: إن هؤلاء مجانين، مع أنهم ليس بهم شيء من الجنون، ولكن من شدة الجوع ومن التعب يخر أحدهم ويغشى عليه، فيطمئنهم صلى الله عليه وسلم ويقول: (لو تعلمون ما لكم عند الله تعالى)، يعني: لو تعلمون ما أعد الله لكم بسبب الفقر الذي أنتم فيه، والصبر الذي تكابدونه (لفرحتم بذلك وتمنيتم أن تزدادوا فاقة وحاجة).
والرسول صلوات الله وسلامه عليه لو كان عنده شيء لأعطاهم، فهو عليه الصلاة والسلام ما كان يبخل بشيء أبداً، وإنما كان يعطي ما عنده، ولعله يستدين ليعطي الناس، ولكن هنا لم يجد ما يعطيهم صلى الله عليه وسلم، فكان يطمئنهم صلى الله عليه وسلم يخبرهم أن لهم الأجر العظيم عند الله سبحانه وتعالى، ويقول لهم: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تفتح عليكم كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم).
فما كان يخشى عليهم الفقر؛ لأن الإنسان إذا كان فقيراً فسيعبد ربه سبحانه، ويصبر على هذا الشيء بتوفيق الله عز وجل، لكن لو فتحت عليه الدنيا، فإنه سينسى نفسه، وينسى فقره، ولا يعطي الحقوق لأصحابها، ولا يعطي حق الله عز وجل في هذا المال، وقد تغره الدنيا فينسى الواجب عليه حتى يموت على ذلك والعياذ بالله.
(36/6)
ذم الشبع وعاقبته
إن من الأحاديث التي تذم الشبع حديث المقداد بن معد يكرب، وهو عند الترمذي أيضاً، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطنه).
يعني: أن الآدمي يحب أن تكون عنده آنية وفيها طعام أو شراب، وهذا يحب أن يملأ الأواني التي عنده؛ لأنه سيحتاج الماء والطعام لنفسه أو لغيره، وهذا خير، ولكن شر الآنية التي يملؤها الإنسان هي البطن؛ لأن الإنسان إذا ملأ بطنه أتخم نفسه ومرض، بل لعله يموت متخماً بهذا الطعام، فيموت وقد أهلك نفسه وألقى بها إلى التهلكة.
والنبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ممتلئاً سميناً بطيناً، فكان يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطنه، ويقول: (لو كان هذا في غير هذا كان خيراً له).
يعني: لو أن المال الذي جمعه جعله في غير هذا كان خيراً له، كأنه يقول له: كل واشرب ولكن لا تسرف، فكأنه عندما يأكل يملأ بطنه دائماً، فكان الإنفاق على غير هذا خيراً له عند الله عز وجل.
يقول صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: (بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه)، أي: يكفيه أن يأكل أكلات، فدل ذلك على التقليل من الأكل، ولكن ليس كل إنسان قادراً على أن يأكل أكلات ولقيمات، وإنما يأكل أكثر من ذلك، ولكن إن كان لا محالة آكلاً أكثر فينظم أكله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).
أي: ثلث المعدة لطعامه؛ لأن المعدة عندما تمتلئ تنتفخ وتضغط على الرئة، فلا يستطيع أن يتنفس، وتضغط على القلب، وعندما تنام وأنت متخم فستؤذي نفسك بذلك، فأرشد الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى أن يجعل ثلثاً لطعامه وثلثاً لشرابه وثلثاً لنفسه.
إن بعض الناس أعطاه ربنا الغنى، ولكنه يأكل ويسرف، وفي النهاية يتأدب بمرضٍ يصيبه وقد كان عنده المال والصحة، فلماذا يأكل ويسرف؟ ولذلك يقول تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
في الآخر هو يسرف على نفسه، فتراه كل يوم يأكل اللحم فيصاب بمرض، فيذهب إلى الأطباء فيقولون له: يحرم اللحم عليك، فيقوم يأكل الحلويات ويكثر، فيصاب بالسكر، فيقول له الأطباء، لا تأكل الحلويات، وهكذا فيصل إلى حالة يشتهي فيها أن يأكل هذا وهذا، ولكنه يجد أن كل شيء ممنوع عليه، مع أن معه المال، فأية متعة في هذا المال؟! ولو أنه من البداية عمل بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فلن يمرض، بل سيلاقي نفسه معافى عندما يعمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبتعاليم القرآن.
(36/7)
فضل التقلل في اللباس وغيره
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: عن أبي أمامة الأنصاري الحارثي رضي الله عنه قال: (ذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً عنده الدنيا فقال رسول الله: ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان) يعني: التقحل.
رواه أبو داود.
إن الصحابة بشر، والإنسان أحياناً يتمنى ويتكلم أن في الدنيا كذا وكذا، وفي نفسي أن آكل كذا، فالصحابة جلسوا فذكروا الدنيا يوماً من الأيام فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟).
والمعنى، أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداهم بأن يستمعوا إليه، وفي هذا لفت لانتباههم ليتنبهوا لما يقوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان)، قالها مرتين.
والبذاذة هي التقحل، والرجل المتقحل: هو الرجل الذي يبس جلده من خشونة العيش؛ لأنه لا يأكل أكل المسرفين المترفين، وإنما يأكل أحياناً، يعني: أنه ترك الترفه وترك الكثير من ملاذ الدنيا، وهذا من علامات الإيمان.
إذاً: ينبغي لك أيها المسلم ألا تسرف، بل تأخذ ما تقدر عليه بحيث ولا تؤذي نفسك ولا تخالف شرع الله سبحانه وتعالى.
وقيل: إن البذاذة: هي ترك فاخر الثياب في حالة الإمكان، وترك الفاخر من الطعام والشراب، والإنسان لو عود نفسه على التنعم دائماً بأغلى الأشياء، ثم قل به الحال، فإنه سيبدي التسخط على قدر الله سبحانه، ولو أنه ربى نفسه على البذاذة لما وقع في ذلك.
لذلك كان الصيام تربية للإنسان، وهو شهر في العام يصومه الإنسان، ويستشعر فيه الجوع، وبذلك يستشعر جوع الفقراء المحرومين والمحتاجين، وهو إذا جاع في النهار فسيأكل في الليل، ولكن هؤلاء لعلهم يجوعون بالليل والنهار ولا يجدون ما يشبعهم.
فربنا تبارك وتعالى يربي الإنسان المؤمن على الشعور بحال الفقراء المساكين الذين لا يجدون، فلذلك أمرنا بالصيام، لتصح أبداننا، ونتألم للفقير ونعطيه، ونعرف قدر النعم، فنحمد الله تعالى عليها، ونؤدي حق هذه النعم كما أمرنا الله عز وجل به.
إذاً: البذاذة ترك السرف في الأشياء من الهيئة والثياب الفاخر، والطعام الفاخر، ولا مانع من أن يلبس الإنسان الثياب الفاخرة، ولكن لا يكون هذا دأبه دائماً، لكي لا يصاب بالغرور والكبر، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس ما وجد، وإذا لم يجد لبس الثياب التي عنده.
وقد لبس رسول الله ذات مرة ثوباً مرقعاً، وخرج به، فرأته امرأة من الأنصار لابساً إزاراً مرقعاً، فذهبت وخاطت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاراً، وأهدته له، فأخذه ولبسه صلى الله عليه وسلم وهو محتاج إليه لأن الإزار القديم كان مرقعاً، (فلما لبسه رآه رجل يلبسه، فقال: يا رسول الله! أعطني هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، ودخل بيته ولبس الإزار القديم وأعطاه الإزار الجديد، فقال الصحابة لهذا الرجل: تطلب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشيء وهو محتاج إليه؟ فأعطى الرجل عذراً من الأعذار وقال، أنا آخذه لأتكفن به)، وكأنهم يقولون: إذا كنت تريد ذلك ستأخذ الثوب القديم لتتكفن به، وليس الثوب الجديد.
على كل فقد رأى الرجل من النبي صلى الله عليه وسلم كرم الأخلاق وكرم السجية، وأن الأمر عنده سيان، لبس الثوب القديم، أو لبس الثوب الجديد، ولا أنكر على الرجل شيئاً صلوات الله وسلامه عليه.
فالإنسان المؤمن لا بد أن يعاني ما يعانيه الفقراء ولو بالمشابهة، وذلك بأن يترك الشيء العالي أحياناً في الطعام والشراب؛ ليعرف كيف يعيش الناس الفقراء، وأنهم يأكلون الدون من الطعام الحلال الذي يجدونه، فالمسلم يربي نفسه أحياناً على الدون من الطعام والشراب حتى لا يبطر نعم الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك العالي من الثياب ليس بخلاً، لكن المؤمن يترك العالي من الثياب ابتغاء مرضاة الله وتواضعاً لله، والله عز وجل سيلبسه من حلل الإيمان كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(36/8)
خروج ثلاثمائة صحابي للجهاد وزادهم جراب تمر
من الأحاديث الجميلة حديث طويل يرويه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، كما في صحيح مسلم، يقول جابر رضي الله عنه: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة رضي الله عنه، نتلقى عيراً لقريش).
أي: أرسلهم النبي صلى الله عليه وسلم يتلقون قافلة لقريش، وهذه السرية اسمها: سرية سيف البحر، وكان عليهم أبو عبيدة أمين هذه الأمة رضي الله تبارك وتعالى عنه أميراً، وهؤلاء كانوا حوالي ثلاثمائة رجل.
قال جابر رضي الله عنه: (وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره)، فهنا جيش تعداده ثلاثمائة رجل خرجوا لقتال، والزاد المعد للجيش جراب فيه تمر، زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم، والجراب: هو الزنبيل، أو القفة، فيا ترى كم يكفي هذا الجراب؟! ثم يقول (فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة)، أي: في هذا الجيش يعطي العساكر تمرة تمرة؛ ليجاهدوا في سبيل الله بتمرة يأكلونها في اليوم، فقال الراوي عن جابر رضي الله عنه لـ جابر: (كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الليل).
سبحان الله! فهذا الجيش المجاهد في سبيل الله سبحانه، يأكل الواحد منهم تمرة في اليوم، ومع ذلك لم يتسخطوا ولم يقولوا: نحن نجاهد في سبيل الله، فلا يكفي لنا طعام كهذا، بل صبروا على ذلك، فيأخذون التمرة يمصونها مصاً ولا يأكلونها؛ لئلا تنتهي.
قال: (وكنا نضرب بعصينا الخبط، ثم نبله بالماء فنأكله).
يعملون هذا حتى يطيقوا المشي، فإذا رأوا شجراً في الطريق فيه ورق يضربونه بالعصي، فتنزل الأوراق ناشفةً في الصحراء، ثم يأخذها الرجل منهم، ويبلها بالماء ويأكلها.
قال: (وانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم)، فهم ما وصلوا إلى ساحل البحر إلا بعد فترة من المعاناة والتعب والجوع؛ فرأوا شيئاً مثل الجبل أمامهم.
قال: (فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، فقال: أبو عبيدة: ميتة؟!)، والعنبر: حوت من حيتان البحر، وهذا الحوت من أعظم الحيتان، كأنه بيت يتكون من عشرة طوابق، وهذا الحوت لا يوجد في البحر، بل في أعماق المحيط، وإذا أراد الناس أخذه، فلا بد من سفن مجهزة بقنابل وبمدافع فيها أجهزة، ليعرفوا مكان هذا الحوت، ثم ينتظروا حتى يفتح فمه فيرموا فيه سهاماً أو نحوها، أو يرموا داخل فمه قنبلة ليموت هذا الحوت، فصيده صعب وليس بالسهل، فلو ضرب المركب بذيله لقلب السفينة العظيمة، ولو صاده أصحاب السفينة مرة واحدة فسيكون سبباً في غنائهم عمرهم كله.
فهؤلاء جاء إليهم هذا الحوت من المحيط، ما ذهبوا ليصطادوه، بل الله سبحانه وتعالى رفعه مكافأة لهم؛ لأنهم صبروا على تمرة تمرة في اليوم وأكلوا ورق الشجر، فالله هو الرزاق الكريم، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، فهم لما صبروا شكر الله عز وجل صبرهم، وأعطاهم الأجر في الدنيا، غير ما ادخره لهم في الآخرة سبحانه.
فـ أبو عبيدة رأى هذا الحوت، ولم يبلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن البحر الذي فيه: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته)، فاجتهد رضي الله عنه، وقال: (ميتة؟) أي: كيف سنأكل ميتة؟ ثم قال رضي الله عنه: (لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا).
واجتهاده رضي الله تبارك وتعالى عنه وافق الصواب، وإن كان الحوت بهذه الصورة حلالاً للمضطر ولغيره، ولكنه هو اجتهد فقال: إننا مضطرون فنأكل من هذا الحوت.
قال: (فأقمنا عليه شهراً)، يعني قعد ثلاثمائة من الصحابة الكرام الأفاضل رضي الله عنه يأكلون منه شهراً كاملاً.
قال: (ونحن ثلاثمائة، حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه الدهن بالقلال)، الوقب: هو ثقب العين، أو محجر العين أو مكانها، فكانوا يغرفون الدهن بالقدور من عين هذا الحوت.
ثم قال: (ونقطع منه الفدر كالثور أو كقدر الثور)، أي: نقطع منه كل قطعة بقدر العجل الضخم، أو كالثور.
ثم قال: (ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينه)، أي: أنه أقعدهم في وقب نقرة عين الحوت، أو ثقب عينه، فيا ترى كم كان حجم العين؟ أما الجسم فسيكون جثة ضخمة جداً.
يقول رضي الله عنه: (وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها)، يعني: جاء بأعظم جمل عنده ليمر من تحت الضلع، فمر من تحته، وهذا شيء عظيم جداً.
قال رضي الله عنه: (وتزودنا من لحمه وشائق) أي: قطعاً أخذوها زاداً للطريق وهم راجعون إلى المدينة.
قال جابر: (فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله).
فهنا صلى الله عليه وسلم قال: أعطونا منه، أي: هو حلال، فأنتم قلتم: كنا مضطرين، لكنه صلى الله عليه وسلم لو قال: هو حلال، فربما يقولون في أنفسهم: عظم حالنا على النبي صلى الله عليه وسلم فرخص لنا في هذا الشيء لأجل الضرورة التي كنا فيها، ولكن كونه صلى الله عليه وسلم يأكل منه فهذا دليل على أنه حلال، سواء للإنسان المضطر أو لغيره وقد جاء في الحديث: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته).
(36/9)
جوع النبي وأصحابه أثناء حفر الخندق وإكرام جابر لهم
(36/10)
شدة جوع النبي وأصحابه في الخندق
من الأحاديث في هذا الباب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وأنا تركت حديثاً قبل هذا الحديث، وسنده ضعيف، وهو: (كان كم قميص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ)، فإسناده ضعيف.
وأما حديثنا فهو حديث جابر رضي الله عنه قال: (إنا كنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كدية شديدة، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق).
وهذا يوم الخندق في غزوة الأحزاب سنة خمس من الهجرة، وذلك عندما جاء الأحزاب من قريش ومن أتى معهم؛ ليحاربوا المسلمين في المدينة، والمسلمون قد تعلموا من يوم أحد أنه لا بد من الطاعة، وأنه يكفي ما حصل يوم أحد، فلا بد أن نسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانوا في يوم أحد أصروا على الخروج، وقالوا: نخرج كما خرجنا في بدر، فخرجوا فهزموا لما عصوا النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة درساً في الأدب والطاعة له عليه الصلاة والسلام.
فهنا في يوم الخندق استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان من مشورة بعض الصحابة أن يحفروا خندقاً حول المدينة، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه معهم لحفر هذا الخندق، فعرض حجر ضخم صلب، أو قطعة غليظة صلبة من الأرض، والفأس لا يعمل فيها شيئاً، فما قدروا على الحفر، فسيبقى هذا المكان الذي يمكن دخول خيول المشركين وعبورها منه إلى داخل المدينة.
فهنا لجئوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر)، قام وهو جائع صلى الله عليه وسلم، والمسلمون جياع، ونزل وما تعلل ولا قال: أنا جائع، بل نزل.
قال جابر: (ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم)، يعني: ضرب الحجر ضربةً، فتكسر، وبعد أن كان صلباً صار رمالاً، أو كثيباً أهيل.
قال: (فقلت: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت)، أي: أن راوي الحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صَعُب عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم، عندما قام يحفر ويكسِّر هذه الصخرة الضخمة، وهو وعاصب بطنه من شدة الجوع، فاستأذن ليبحث في بيته عن شيء يطعم به النبي صلى الله عليه وسلم.
(قال: فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟)، يعني: لا أقدر أن أصبر وأنا أرى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة، فعل عندك أي شيء للنبي صلى الله عليه وسلم؟ (قالت: عندي شعير وعناق)، عناق أي: معزة، وكانت المعزة التي يشربون لبنها ولا يوجد غيرها، وكان عندها شعير، فقال لها: اصنعي طعاماً للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال (فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم، والعجين قد انكسر)، أي: أن العجين قد أصبح جاهزاً لأن يدخل في الفرن، قال: (والبرمة بين الأثافي قد كادت تنضج).
والبرمة: هي القدر الذي فيه اللحم.
والأثافي: جمع أثفية، وهي حجارة توضع تحت القدر عندما يوقد عليه النار، وكانوا متعودين إذا أرادوا أن يطبخوا أن يأتوا بثلاث أحجار، يقال لها: أثافي كانوا يضعونها تحت القدر، فإذا لم يجدوا إلا حجرين وضعوهما إلى جنب الجبل، حتى يصير الجبل مكان الحجر الثالثة، وهذه هي التي يسمونها ثالثة الأثافي، كما هي معروفة في اللغة، وقولهم: رماه بثالثة الأثافي، أي: القطعة من الجبل كأنه يقول: رماني بداهية كالجبل.
قال جابر: (قلت: طعيم لي)، يعني: أعددت أكلة يسيرة فتعال وكل، وكان يخاف أن يسمع الناس، فيظنوه طعاماً كثيراً، ولم يكونوا بخلاءً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ولكن الطعام قليل في نظره، فلو جاء عدد كبير فقد لا يبقى للنبي صلى الله عليه وسلم شيء.
(36/11)
تكثير الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم
قال جابر: (قلت: طعيم لي، فقم أنت يا رسول الله! ورجل أو رجلان قال: كم هو؟ فذكرت له).
أي: أخبره أنه ذبح هذه العناق أو المعزة الصغيرة، فقال: (كثير طيب! قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي)، يعني: لا تنزع البرمة أو الطعام الموجود الذي هو في نظرك إنما يكفي النبي صلى الله عليه وسلم مع رجل أو رجلين، حتى آتي فتحصل البركة، وذلك بوجود النبي صلى الله عليه وسلم.
(فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار)، كل هؤلاء سيذهبون ليأكلوا مع رسول الله.
قال: (فدخلت عليها فقلت: ويحك، جاء النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون والأنصار ومن معهم؛ قالت: هل سألك؟) وهذه المرأة العاقلة رضي الله عنها؛ قالت: لماذا أنت خائف، هل الرسول قد عرف قدر الطعام الذي عندنا، قال: (قلت: نعم، فقالت: أمر النبي صلى الله عليه وسلم، هو أعلم بهذا الشيء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ادخلوا ولا تضاغطوا)، أي: أدخلوا ولا تزدحموا.
(فجعل صلى الله عليه وسلم يكسر الخبز)، وفي رواية أخرى للحديث نفسه ذكر فيها: (أن زوجته أخرجت له جراباً فيه صاع من شعير، قال: ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت من الشعير)، والصاع الشعير بقدر اثنين كيلو ونصف من الشعير، وهذا هو الذي سيكفي جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية الثانية فيها أنه قال (فذبحتها وطحنت الشعير)، أي: وطحنت المرأة الشعير، قال: (ففرغت إلى فراغي) أي: أنه لم يترك المرأة وحدها تقوم بالأمر كله، بل قام بذبح الشاة وجهزها، وهي جهزت العجين والخبز.
قال: (ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه)، يعني: لا تدعوه إلا وحده؛ فإنهم إذا جاء ومن معه فمن أين سيلاقون طعاماً يأكلونه؟ (قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله! ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع سؤراً، فحيهلا بكم)، أي: وقد صنع لكم سؤر شراب أو شيئاً تأكلونه فحيهلا بكم.
قال: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء قال: فجئت، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك)، أي: ماذا حصل لك، هؤلاء من سيكفيهم؟ فلما سألتهم بما في الرواية الأولى: هل أنت أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم بقدر الطعام؟ فلما قال: نعم، قالت: طالما أنك أعلمت النبي صلى الله عليه وسلم فهو أدرى بهذا الشيء.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: (ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبر ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور)، هنا نزلت بركات من الله عز وجل للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فإذا به يخدمهم صلى الله عليه وسلم، وهو بنفسه يضع الطعام.
قوله: (ويخمر البرم والتنور إذا أخذ منه)، يخمر: أي يغطي البرمة إذا أخذ منها؛ بحيث تنزل البركة ولا أحد يرى، ولأنهم لو أبصروا سيتساءلون: هل بقي شيء؟ لذلك غطاها رسول الله حتى تنزل البركة من عند الله عز وجل.
ثم قال: (ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي منه)، أي: أنه بقي منه بعد أن أكل النبي صلى الله عليه وسلم وجيش أهل المدينة وكفاهم هذا الطعام، وهو صاع من شعير وعناق.
فقال: (كلي هذا وأهدي)، أي: كلي ما يشبعك أنت وزوجك، ثم أهدي للناس، قال: (فإن الناس أصابتهم مجاعة).
لا شك أن هذا الطعام لا يكفي هذا العدد؛ ولكن البركة من الله سبحانه وتعالى الذي أنزل من فضله ما أطعم به هذا الجيش وبقي لأهل البيت، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً بالإهداء للناس.
(36/12)
تكثير الطعام ببركة بصق النبي صلى الله عليه وسلم
جاء في الرواية الثانية أن جابر قال: (فأخرجت عجيناً فبصق فيه وبارك صلوات الله وسلامه عليه).
أي: جعل فيه من ريقه الطاهر الكريم ولذلك جاءت البركة.
قال: (ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك) أي: دعا بالبركة، وجعل فيها من ريقه الكريم، وريق النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كان الصحابة يقتتلون عليه؛ وكان إذا أراد أن يبصق لا ينزل ريقه على الأرض، بل يقرب أحدهم يده؛ ليأخذه ويدلك به وجهه ويده.
هذا هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وهذا هو حب النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه عليه الصلاة والسلام.
قال جابر: (ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك)، وهنا يأمرها أن تدعو من تعينها على خبز ما في هذا القدر من الشعير، فكانت البركة، وكان الطعام كثيراً كفى هذا الجيش العظيم.
قال: (واقدحي من برمتكم، ولا تنزلوها، وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي)، أكل ألف رجل من هذه البرمة حتى شبعوا وانحرفوا عن الطعام، والبرمة كما هي تفور على النار ممتلئة بالطعام، قال: (وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو).
هذا هو النبي صلوات الله وسلامه عليه، وهذه بركة ريقه الطاهر ودعوته المباركة عليه الصلاة والسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم بصق مرة في بئر ماء وهم في الحديبية فإذا الماء يفور ببركة ريقه الطاهر.
وحاول مسيلمة الكذاب أن يقلد النبي صلى الله عليه وسلم، فبصق في بئر ماء وكان ماؤها عذباً فإذا بالبئر تصير مرةً ملحةً، وهذه إهانة من الله عز وجل لهذا المجرم الكافر.
أما ريق النبي صلى الله عليه وسلم فهو ريق طاهر، بارك الله عز وجل به هذا الطعام وهذا الشراب وكثره، وهذا الشعير فكثره، فأكل ألف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطعام والطعام كما هو.
(36/13)
تفقد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم والاعتناء به مع ضيق حالهم
نذكر حديثاً لـ أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (قال أبو طلحة لـ أم سليم: قد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم.
فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخذت خماراً لها فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي، وردتني ببعضه)، المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا جائعين ولكن إذا بعثت إليه بالخبز أمام الناس، فسيعطيه للناس ولن يأكل شيئاً.
فـ أنس بن مالك رضي الله عنه هو ابن أم سليم، وأبو طلحة هو زوج أمه، رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فـ أم سليم رضي الله عنها جهزت هذا الخبز من الشعير، وأعطته لـ أنس رضي الله عنه ولفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبه وردته ببعضه لتخفيه عن الأعين.
قال أنس: (ثم أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت به فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في المسجد ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: ألطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا، فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وليس عندنا ما يطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم! فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه حتى دخلاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلمي ما عندك يا أم سليم، فأتت بذلك الخبز -أقراص من شعير- فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ففت)، ولو أبقاه أقراصاً فسيوزع ولا يكفي الجميع، ولذا أمر الرسول أن يفت الخبز بحيث يأكلون من الخبز جميعاً.
قال: (وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته)، كان عندها قربة فيها سمن قليل أو عسل قليل فوضعته فوق الخبز الذي فُت، (ثم قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقول)، فحصلت البركة من دعائه صلوات الله وسلامه عليه، (ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، فأذن لهم، حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلاً أو ثمانون)، متفق عليه.
فسبعون رجلاً أو ثمانون أكلوا من أقراص كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وحده.
فهذه الجملة من الأحاديث فيها بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وبركة ريقه الطاهر صلوات الله وسلامه عليه، وحضوره مع أصحابه، وفيها ما كانوا عليه من فقر إلى درجة أنهم ليحتاجون إلى الشيء القليل.
(36/14)
الفرق بين الفقر والمسكنة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الكفر والفقر ومن عذاب القبر، ومع ذلك كان يسأل ربه سبحانه ويقول: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، والفقير هو من كان معدماً لا يجد شيئاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم تعوذ بالله من الفقر، لكن المسكين يجد أحياناً ولا يجد أحياناً أخرى، فكأن المسكين يجد فيشكر الله سبحانه، أو لا يجد فيدعو الله سبحانه، ففي أخلاقه التواضع دائماً، وهو موصول بالله في دعائه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم طلب أن يكون عنده من التواضع ما عند هؤلاء المساكين الذين يسألون الله ويطلبون منه عز وجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلب من الله أن يكون فقيراً ولا يجد شيئاً، بل تعوذ بالله من الفقر، فلما منعه الله سبحانه وتعالى الطعام أياماً صبر صلى الله عليه وسلم، وكان الأسوة الحسنة في صبره، وكان يربط على بطنه الحجر ويعمل مع سائر أصحابه في الخندق، وينزل بنفسه صلى الله عليه وسلم ليكسر صخرة ضخمة لم يقدروا عليها، وعندما كان يضرب الصخرة في الضربة الأولى خرج منها نور عظيم، فرأى فيه بشرى من الله سبحانه بأنه يؤتى ملك فارس، وفي الضربة الثانية بأنه سيؤتى ملك الروم، فيفتح الله عز وجل على يد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتح ما شاء.
فالغرض من ذلك أن الإنسان يصبر كما صبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا حسن الاقتداء بالنبي صلوات الله وسلامه عليه وأصحابه الكرام وأن يحشرنا معهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(36/15)
شرح رياض الصالحين - القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة وذم السؤال من غير حاجة
إن القناعة أصل الغنى، فمهما أوتي الإنسان من مال ولم يؤت القناعة فهو فقير.
وإن العفاف زينة المسلم، وكثرة السؤال من الخصال التي يذم عليها، وقد يعاقب عليها إذا فعلها بدون حاجة مشروعة.
(37/1)
تكفل الله بقسمه الأرزاق وأن على الغني الإنفاق
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
وقال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
وأما الأحاديث فمنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)، متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه)، رواه مسلم].
(37/2)
موقف المؤمن من المال
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
وقال تعالى: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات:56 - 57].
وأما الأحاديث فمنها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)، متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه)، رواه مسلم].
(37/3)
ثقة المؤمن برزق الله وقناعته بما آتاه
يتحدث الإمام النووي رحمه الله في هذا الباب عن القناعة، والقناعة من قنع يقنع بالشيء إذا اكتفى بما آتاه الله سبحانه وتعالى، ورضي في نفسه بما أعطاه الله سبحانه.
فينبغي على الإنسان أن يتحلى بالقناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
من ذلك ما جاء في القرآن من قول الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
وهو الذي خلق الخلق فقال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
فخلق وأمر سبحانه وتعالى، وتفرد بخلق العباد وجعل لكل إنسان رزقاً قسمه الله عز وجل له، فعلى الإنسان أن يقنع بما قسم الله عز وجل له، ويسعى في طلب هذا الرزق الذي قسم له من بابه ومن وجهه، فيعمل ويتعب نفسه حتى يصل إليه رزقه وقوته؛ لينفق على نفسه وعلى من يعول.
وعليه أن يثق في رزق الله سبحانه؛ لأن الله قد كتب عنده في الكتاب خلق الإنسان ورزقه، وعمله وهل هو شقي أو سعيد، وطالما أن هذا مكتوب فليسع الإنسان في تحصيل ما قد قسمه الله عز وجل له.
قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6].
وهذا من ألفاظ العموم (ما من دابة) يعني: كل دابة خلقها الله عز وجل، وهي كل ما يدب على الأرض.
وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور:45] كل ذلك يخلقه الله سبحانه، فالذي خلق هذه الأشياء قسم لها أرزاقها.
فعلى الإنسان أن يثق في أن الله سيرزقه، ويبحث عن هذا الرزق، وليعلم أن الرزق لن يزيده حرص حريص ولن ينقص من إنسان لا يحرص عليه ولا يطلبه، ولن يمنعه منه أحد؛ لأنه ليس لإنسان على إنسان قدرة على أن يحرمه من رزقه، إنما الرزاق هو الله سبحانه، والرزق بيده وحده.
(37/4)
تعفف المؤمن الفقير وعدم إلحافه في المسألة
قال سبحانه: {لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273].
فأموال الفيء تعطى للفقراء، وهم ضمن الذين يأخذون هذه الأموال، ويلزم الإنسان أن يبحث عنهم ويعطيهم زكاة ماله أو نفقة تطوعه.
فصفاتهم أنهم متعففون فقراء، ولكنهم أحصروا في سبيل الله، فأهل الصفة الذين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من فقراء المهاجرين، وكان عملهم هو الجهاد في سبيل الله، فهم محبوسون على ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فيرسلهم في غزو، أو في سرية، أو في بعث من البعوث، فأحصروا للجهاد في سبيل الله ولم يكن لهم طعام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم إذا كان عنده، وكان أحدهم يخرج ويعمل عملاً ثم يرجع إلى موضعه في المسجد بطعام يسير فيكتفي بذلك ولا يسأل أحداً.
فالناظر إليهم من جهله بحالهم يظن أنهم أغنياء: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة:273] من تعففهم، فهم لا يسألون أحداً شيئاً.
(تعرفهم بسيماهم) والسيما: المنظر، فصفرة وجوههم دليل على فقرهم واحتياجهم وجوعهم، وفي ثيابهم ووجوههم آثار تدل على احتياجهم وجوعهم وتعبهم.
ثم يقول سبحانه عنهم: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة:273] أي: لا يسألون أحداً شيئاً، وإن احتاجوا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلحون في المسألة.
(37/5)
إنفاق المؤمن الغني مما آتاه الله
قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67] وهذا شيء ثالث يذكره: فالأول: أن يثق الإنسان في رزق الله سبحانه فيقنع بما آتاه.
والثاني: أن يتعفف إذا لم يجد، وإذا سأل واضطر إلى السؤال فلا يلحف في المسألة.
وفي الثالث: أن الله إذا أعطاه مالاً وأنفق هذا المال فلا يسرف ولا يقتر.
فمن صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان:67] في إنفاقهم: {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67] أي: لم يبخلوا ولم يشحوا، ولكن بين ذلك، فالحال الذي هم عليه: قوام وسط بين ذلك وذلك.
قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
فإذا رزق الله الكافر فلن يترك المؤمن بغير رزق سبحانه وتعالى، وذلك لعدله وكرمه، فهو يرزق كل دابة، فالإنسان المؤمن يتفكر في صلاح حاله ويتفكر في أن الذي خلقه هو الذي تكفل برزقه، ثم ليسع في طلب هذا الرزق من وجوه الحلال، وليترك وجوه الحرام.
من الأحاديث التي جاءت في هذا الباب ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس).
والعرض هو المال، والإنسان الذي لديه مال كثير ليس ذلك دليلاً على غناه.
وهذا دليل على أن كثرة المال ليس ضرورياً، فالمال ليس دليلاً على غنى نفس هذا الإنسان، فقد يكون عنده مليون ويستشعر أنه فقير، وأنه قد يضيع منه هذا المال فيصبح فقيراً لا مال له.
فمهما أعطاه الله فإنه يستشعر أنه فقير وأنه محتاج، وهذا ليس الغنى، ولكن الغنى الحقيقي هو الشعور بالرضى من داخل القلب.
فهو راض في نفسه عن ربه سبحانه وتعالى، واثق في أن الله عز وجل خزائنه ملأى لا تغيضها نفقة، وأن رزقه قد تكفل الله عز وجل به، فهو موجود في خزائن الله، وسوف يأتي هذا الرزق وقتاً من الأوقات.
لكن المطلوب منه أن يسعى لطلب هذا الرزق، وأن يمشي في مناكب الأرض فيأكل من رزق الله الذي ساقه وقسمه له.
إذاً: الغنى الحقيقي أن يستشعر الإنسان أن الله عز وجل يرزق، وأن الله ادخر له الخير في الدنيا وفي الآخرة، وأن الله عز وجل لا يضيع شيئاً أبداً.
فما من شيء إلا والله سبحانه يعلمه ويرزقه، وما من دابة إلا على الله رزقها، فإذا كان الإنسان يشعر بالفقر فإنه لو أوتي مثلما أوتي قارون سيستشعر أنه فقير ومحتاج وخائف من ضياع هذا المال.
وإذا كان الإنسان قد أعطي الرضا والقناعة في قلبه استشعر الغنى وإن كان جيبه خاوياً لا شيء فيه، فهو واثق أن الله معه كل شيء سبحانه وتعالى، فيسعى في طلب الرزق من الله وهو يعطيه سبحانه.
(37/6)
فضل القناعة
(37/7)
فلاح من رزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم ورزق الكفاف وقنعه الله بما آتاه).
فهذا إنسان مفلح بسبب أنه رضي عن الله سبحانه وتعالى، وصدقت الحكمة القائلة: القناعة كنز لا يفنى.
فالإنسان بقناعته يستشعر أنه غني عنده كل شيء، والله عز وجل إذا أعطى الإنسان القلب المطمئن والنفس القانعة ورزقه رزقاً كفافاً على قدره بلا زيادة ولا نقصان كان مفلحاً إذا كان مسلماً مؤمناً قانعاً.
وفي الصحيحين عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني)، وكأن حكيماً لما أسلم وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو ممن أسلم متأخراً- طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه، والنبي صلى الله عليه وسلم كريم فأعطاه، وسأله مرة ثانية، مع أنه كان كبيراً في قومه رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولكن مهما كان كبيراً فلا غنى له عن مال الله سبحانه وفضله، فلما أعطاه المرة الثالثة قال له -ينصحه-: (يا حكيم إن هذا المال خضر حلو)، والخضر هو نبات يخرج من الأرض كخضر البقلات تخرج من الأرض فتأكلها الدواب.
فكأنه يضرب له المثل بما يكون أمام البقر والإبل، فتأكله وتستحلي طعمه إلى أن تهلك من كثرة الأكل.
فالمال كذلك، فإن الإنسان يفضل أن يأخذ المال إلى أن يهلك، وذلك بأن لا يؤدي الحقوق التي عليه، ثم يستشعر أنه يريد أكثر، وفي الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال).
(37/8)
الذي يأخذ المال بسخاوة نفس يبارك له فيه
فالذي همه طلب المال يظل على ذلك حتى يموت، همه تحصيل المال وادخاره ولا يؤدي الحقوق لأصحابها.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حكيم بن حزام: (إن هذا المال خضر حلو فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه).
يأخذ المال بنفس سخية، لينفق لله سبحانه وتعالى، ويأخذ المال وهو محتاج إليه ومتعفف فيه، فإذا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً قبله، وإذا لم يعطه فنفسه تأبى أن تطلب المال من أحد، فالذي يأخذ بسخاوة نفس لا بشح ولا بطمع بورك له فيه.
(ومن أخذه بإشراف نفس)، أي: بطمع في هذا المال لم يبارك له فيه، (وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)، فالذي يأكل ولا يشبع في النهاية يتخم ويموت.
ولكن الإنسان المؤمن يأكل ويستشعر الشبع، فأقل الأشياء أن تكفيه ولا يطمع في الكثير، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ حكيم: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، هنا المعطي النبي صلى الله عليه وسلم والآخذ حكيم فاليد المعطية خير من اليد الآخذة.
وكل من أعطى فيده العليا، وكل من مد يده وتكفف الناس فيده السفلى، فالذي يعطي يده أفضل من يد الإنسان الذي يأخذ.
قال حكيم: (فقلت يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا)، فأقسم بالله سبحانه الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق أن لا يرزأ أحداً شيئاً.
والرزء هو الأخذ والإنقاص، والمعنى: لا أنقص مال إنسان بطلبي، ولن أطلب من أحد شيئاً فأنقص ماله حتى أفارق هذه الدنيا.
وصدق رضي الله تعالى عنه وبر يمينه التي حلفها، فلما فتح الله عز وجل الفتوح على المسلمين كان أبو بكر يقسم الغنائم بينهم، فمن ضمن هؤلاء حكيم، فيطلبه أبو بكر ليعطيه من هذه الغنائم فيرفض حكيم رضي الله تعالى عنه، ويأبى أن يقبل منه شيئاً؛ لأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبله، فقال عمر رضي الله عنه -يشهد المسلمين عليه-: يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم إني أعرض عليه حقه الذي قسمه الله له في هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.
فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رضي الله تعالى عنه.
فهنا حكيم بن حزام انتفع بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم، فالواجب علينا أن ننتفع بها كما انتفع هو رضي الله عنه.
فـ حكيم بن حزام مات وترك المال، ولكن فرق بين الذي أخذ المال واستكثر منه وكان كالذي يأكل ولا يشبع، وله مثل السوء حيث لم يقنع، وبين حكيم الذي رزقه الله القناعة والعفاف، فكل من طلب المال في النهاية سيتركه للوارث يأخذه.
فلو تفكر الإنسان في نفسه لوجد أنه لو طمع وأوتي الدنيا جميعها وأخذ من الدنيا ما شاء، ففي النهاية سيترك الباقي ويذهب إلى ربه سبحانه ليسأله عن الجميع.
(37/9)
شقاوة من يجمع الدنيا من الحرام والحلال
وأبأس إنساناً يطلب الدنيا ويحصلها من حلال وحرام، ويجمع ويدخر ثم يموت وهو كانز لهذا المال، ويأتي الورثة ليأخذوا هذا المال، وعندما يتذكرونه لعلهم لا يدعون له، ولعلهم يقولون: هذا كان يسرق المال، وكان يعمل كذا وكذا بهذا المال.
الإنسان الطمع الذي يأخذ المال في الدنيا سيسأله الله عز وجل عن هذا المال كله، ومن العجيب أن هذا الإنسان البائس عندما يأتي يوم القيامة وقد جمع في الدنيا أموالاً من حلال ومن حرام يحاسبه الله عز وجل على كل شيء أخذه: لم أخذته؟ إن هذا حرام تستحق عليه النار.
فلا هو انتفع بهذا المال في الدنيا، ولا غيره دعوا له لما أخذوا هذا المال، وإنما حوسب هو على المال كله عند الله سبحانه وتعالى.
لذلك فإن الإنسان المؤمن يحذر من أن يأخذ الحرام، وأن يمد يده إلى الحرام؛ لأنه يعلم أنه سيلقى الله سبحانه ويسأله.
فربما عمل في شركة من الشركات وأخذ رشاوى من هذه الشركة، إلى أن جمع من هذه الرشاوى مالاً كثيراً، ثم لما مات جاء الورثة بعد ذلك يسأل بعضهم بعضاً: ماذا نصنع بهذا المال؟ أنأخذه أم نتصدق به؟ فهذا الذي جمع هذا المال يا ترى هل جرى بخاطره أنه سيموت ويترك المال كله؟ ها هو الآن ذهب إلى ربه ليسأله عما جمع من مال، وما أخذ من رشوة، لقد ذهب ولم يستمتع بما جمع وأصبح يقال عنه: هذا كان يسرق المال، ويأخذ الرشوة، مع أن الحديث يقول: (اذكروا محاسن موتاكم)، وهذا الإنسان كان يأخذ الرشوة وذلك ليس من محاسنه بل من سيئاته.
فإن قيل يتصدق به فلا يجوز لإنسان أنه يأخذ مثل هذا المال الحرام.
فاحذر أن تجمع الدنيا وفي النهاية يحرمك الله عز وجل منها، فلعل إنساناً يجمع مثل هذا المال ويبتليه الله سبحانه وتعالى بضعف في الكلى مثلاً، فيريد أن يزرع كلى فيحتاج إلى مائة ألف أو مائتين ألف، حتى يسأل الناس؛ لأنه محتاج إلى أن يغسل الكلى في كل يوم.
إن المال الحلال يأخذه الإنسان ويكون له فيه بركة، ويأكل منه فيكون له شفاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]).
(37/10)
اقتصاد الصحابة في غزوة ذات الرقاع
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه -كما في الصحيحين- قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة -أي: في غزوة- ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه).
أي: أنهم ذهبوا يجاهدون في سبيل الله سبحانه، وكل ستة معهم بعير، أو هؤلاء الستة معهم بعير.
فلن يركبوا هذا البعير كلهم مرة واحدة، ولكن كل واحد سيركب قليلاً ثم ينزل ويترك غيره يركب، فهذا يعقب هذا، فمسافة السفر الذي كانوا فيها إذا كانت الغزوة تجاه الشام فلكل واحد منهم سدس المسافة يركبها على البعير، وخمس أسداس المسافة يمشيها على رجليه.
قال: (فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت غزوة ذات الرقاع).
كانوا يعصبون على أرجلهم الخرق، فالأحذية لم تنفع فقد تقطعت في الطريق فبقوا يربطون الخرق على أرجلهم لكي يمشوا هذه المسافة الطويلة.
قال أبو بردة: فحدث أبو موسى بهذا الحديث ثم كره ذلك، وقال: ما كنت أصنع بأن أذكره، قال: كأنه كره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه، ولكنه إنما تحدث ليتعظ الناس ويعملوا.
هذا واحد من أهل الصلاح من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يخاف أن يحدث عن عمله لكي لا ينقص ذلك من الثواب، فقد كانت نيتهم صافية وخالصة لرب العالمين سبحانه، ولكنهم يحدثون حتى يقتدي بهم من بعدهم.
وبعد أن يحدث أحدهم يخاف من أنه أفشى عمله.
(37/11)
إعطاء النبي المال لأقوام وغيرهم أحب إليه منهم
جاء في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بمال أو سبي فقسمه، فأعطى رجالاً وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فحمد الله ثم أثنى عليه).
والمعنى: أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم مال فقسمه، ولم يستوعب كل الموجودين، ولكن أعطى أناساً هم أهل حاجة وفقر، وترك آخرين، وأحياناً يعطي أناساً وغيرهم أولى منهم بهذا المال، لكن هؤلاء يمكن أن يفتنوا ويقعوا في الكفر إذا لم يعطهم مالاً.
فيخاف النبي صلى الله عليه وسلم عليهم؛ لأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، فيعطي إنساناً من أجل ألا يقعوا في الكفر ويدخلوا النار بعد ذلك.
فلما عتبوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد: فو الله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي)، أي: ليس معنى أني أعطيت فلاناً أني أحبه أكثر من الآخر، فهذا الذي أعطيته أقل في المحبة من ذاك الذي لم أعطه.
قال: (ولكني إنما أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع)، أي: أراهم خائفين من الفقر، فلو لم أعطهم قد ينقص إيمانهم.
ثم قال: (وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير)، أي: أن الذين لم أعطهم قلوبهم مليئة بالخير، فإعطائي إياهم هذا المال لن يزيد فيهم شيئاً؛ فلذلك أكلهم إلى ما في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب راوي هذا الحديث.
قال عمرو بن تغلب رضي الله عنه: (فو الله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم)، يعني: يكفيه أنه شهد له بالإيمان، فهذه الشهادة أغلى من أموال العرب، وهي بهيمة الأنعام من الجمال والنوق الحمراء.
وصدق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فإن الدنيا كلها لا تسوى عند الله جناح بعوضة.
(37/12)
من يستعفف يعفه الله
جاء في حديث آخر عن حكيم بن حزام في معنى الحديث الأول إلا أن فيه زيادة- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول).
أي: إن كان عندك زيادة مال فابدأ بأهلك الذين تعولهم.
ثم قال: (وخير الصدقة عن ظهر غنى)، أي: خير الصدقة ما تركت غنى، لأن الإنسان قد يتصدق وبعد أن يتصدق بالمال كله يمكن أن يبتليه الله فلا يجد مالاً يسد حوائجه فيندم ويقول: يا ليتني ما تصدقت بالمال كله، فيكون بهذا قد أضاع أجره عند الله، وأضاع ماله في الدنيا.
فالأفضل للإنسان إذا تصدق أن يترك لنفسه ما يغنيه؛ لأنه عندما يعطي ولا يزال غنياً يكون ذلك مدعاة له أن يعطي ويتصدق مرة أخرى، ولا يتضجر من الصدقة، أما الذي يعطي ماله كله ثم يجد نفسه فقيراً، فقد لا يتصدق مرة أخرى، ولذلك كان خير الصدقة ما أبقت لصاحبها غنى.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستعفف يعفه الله).
ويستعفف من العفاف، والعفيف هو الإنسان الذي لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، فالناظر إلى ما في أيدي الناس إما أن يتمنى ما في أيدي الناس، أو يتحسر على أنه ليس عنده مثلهم.
وإذا تمنى فلعله يعطى ولعله لا يعطى، فإذا كان لا يعطى فقد أتعب نفسه بالنظر إلى ما في أيدي الناس، وإذا أعطاه الله عز وجل فلعله يفتن فيه فلا يعطي الحقوق لأصحابها، إذاً: الأفضل أن لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، وإنما ينظر إلى من هو دونه وأقل منه ولا ينظر إلى من هو أعلى منه.
إذا نظر إلى من هو دونه حمد الله سبحانه على ما أعطاه من النعم، وإذا نظر إلى من هو أعلى منه ربما جعل ذلك في قلبه حسرة، ولعله يقول: إن الله لم يعطني شيئاً، فينكر نعم الله عز وجل عليه فيستحق العقوبة من الله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يستغن يغنه الله)، فاستغنى بالله سبحانه تبارك وتعالى وعمل وكد وأتعب نفسه ليطلب الرزق، فأعطاه الله سبحانه، أما النظر إلى الناس فليس من ورائه إلا أن يحسدهم على ما آتاهم الله من فضله، أو يتحسر على حاله الذي هو فيه، وفي كل شر.
جاء في صحيح مسلم عن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يسأله أحد إلا ويعطيه، ولكن هل كل من أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كان راضياً أن يعطيه؟
الجواب
( فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً وأنا كاره)، لأنه يستحي ألا يعطي صلى الله عليه وسلم، فقد يعطي ويكون راضياً، وقد يعطي وهو كاره، فهذا الذي كره النبي صلى الله عليه وسلم إعطاءه لما أخذ المال لا تكون بركة في هذا المال الذي أخرجه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يعطي ومع ذلك لا بركة في هذا المال؛ لأنه أخذه بغير رضا النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا فكل إنسان يأخذ مالاً بغير رضا صاحبه لا بركة له فيه.
(37/13)
النهي عن سؤال الناس واستخدامهم
(37/14)
بيعة النبي بعض أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً
عن أبي عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم له تعاليم دقيقة ولطيفة مع أصحابه، وإلا فقد كانوا بايعوه من قبل على الإسلام، لكنه أراد أن يذكرهم بشيء بهذه الطريقة الجميلة.
قال: (ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: قد بايعناك يا رسول الله ثم قال: ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس وتطيعوا -يعني: أولي الأمر منكم- وأسر كلمة خفيفة -أسمعهم إياها بصوت خفيف-: ولا تسألوا الناس شيئاً).
بايعوني على الإسلام أي: على عبادة الله وعدم الشرك، وعلى الصلوات الخمس، وعلى الطاعة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ولأولي الأمر منكم، وتبايعوني أيضاً على (أن لا تسألوا الناس شيئاً).
هذه من ضمن البيعات التي أخذها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أو على بعضهم، وهؤلاء بايعوا.
فكان يسقط سوط أحدهم أو عصاه وهو راكب على الجمل فينيخ جمله وينزل فيأخذ عصاه، فهذا أحب إليه من أن يطلب من أحد أن يناوله ذلك، قال: (فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه).
أي: لا يطلب من أحد شيئاً، وهذه تربية عظيمة رباهم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا الذي تسقط عصاه لا يطلب من أحد أن يناوله إياها، فمن باب أولى ألا يسأل أحداً مالاً أو غيره، فعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم عزة النفس والتعفف عن أن يبسطوا ويمدوا أيديهم للناس يطلبون شيئاً، وبايعهم على ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
وحذر هؤلاء وغيرهم بأن الذي يسأل ويلح في الطلب، فإنه يأتي يوم القيامة حاله كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم).
ومزعة اللحم: القطعة من اللحم، فالإنسان لعله يستحيي من إنسان كبير إذا فعل أمامه شيئاً يستحيا من فعله فيتصبب عرقه حياءً، والله سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، فهؤلاء الذين يسألون الناس إلحافاً عندما يأتون ربهم يوم القيامة سيستحيون من الله عز وجل، حتى يتساقط من وجوههم اللحم بسبب أنهم لم يستحيوا في الدنيا من الله.
(37/15)
ذم المسألة إلا لحاجة
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: (اليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة).
والذي يسأل الناس ويستكثر من مالهم قال عنه صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً؛ فليستقل أو ليستكثر).
وقوله: (فليستقل أو ليستكثر)، يعني الذي يطلب قليلاً فهو من النار جمر، أو يطلب كثيراً فهو جمر من النار.
وعند الترمذي عن سمرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطاناً أو في أمر لابد منه) والكد: المكدة وهي الحديدة التي يحفر بها الإنسان في خشب ونحوه، فكأنه يوم القيامة يسقط لحم وجهه من سؤاله في الدنيا، فتأتي المسألة عليه يوم القيامة كخدوش وشقوق في وجهه بسبب عدم حيائه من الله عز وجل في الدنيا وسؤاله الناس إلحافاً.
لكن يستثنى (أن يسأل الرجل سلطاناً) يعني يسأل الحاكم، كأن يريد الحق الذي له في بيت المال ونحو ذلك إن كان محتاجاً.
(أو في أمر لابد منه)، كأن نزلت به كارثة أو مصيبة فيسأل الناس بسبب المصيبة التي نزلت به، فهذا معذور، ولكن الذي يسأل أموال الناس يستكثر منها فهو داخل في هذا الحديث.
وعند أبي داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل).
أي: أن الذي نزلت به مصيبة أو فاقة فأنزلها بالناس، وطلب الناس على وجه الطمع، فيأخذ من هذا ومن هذا، ولا يكتفي، ويجمع أكثر مما يأكل فالله عز وجل لا يسد فاقته، لأنه اتجه إلى الناس فوكله الله إليهم.
ثم قال: (ومن أنزلها بالله)، يعني: تضرع إلى الله وسأل الله وأخذ بأسباب الرزق: (يوشك الله له برزق عاجل أو آجل)، أي: أن الله يعطيه رزقاً عاجلاً.
وجاء في حديث آخر: (أو موت عاجل)، فإما أن يرزقه ما يكفيه أو يأخذه سبحانه وتعالى فيعطيه جنته، ويكون من أهل المصائب الذي يكرمهم الله تبارك وتعالى عنده.
وعن ثوبان عند أبي داود أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً وأتكفل له بالجنة، فقلت: أنا، فكان لا يسأل أحداً شيئاً).
فالجنة مقابل عدم سؤال الناس، وفي هذا تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين التعفف وألا يطلبوا الناس شيئاً، فكل ما يقدر الإنسان أن يفعله بنفسه فليفعله؛ حتى لا يتعود الخدمة من الناس.
(37/16)
من تحل لهم المسألة
عن أبي بشر قبيصة بن المخارق رضي الله عنه قال: (تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها).
كأن قبيصة أصلح بين ناس، وكان من ضمن الإصلاح أموال تحملها وأداها من أجل أن يصلح بين الناس، فذهب إلى أهل الفضل ليساعدوه فيما تحمل، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لثلاثة)، فعمله النبي صلى الله عليه وسلم أن الحالة الذي هو فيها من الحالات التي تحل فيها المسألة، فمن هذه الحالات: (رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك).
كأن يصلح بين الناس فصار هو الغارم بعدما كانوا هم الغارمين، فجاز له أن يسأل أهل الفضل أن يعينوه في ذلك؛ وبعد أن يأخذ منهم ما يسد غرامته لا يجوز له أن يسأل.
قال: (ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش).
وهذا هو الثاني، وهو من أصابته جائحة بعد أن كان غنياً واجتاحت ماله مصيبة، فأصبح لا شيء عنده، فاحتاج إلى من يعينه، فسأل الناس أن يعينوه فأعانوه إلى أن صلح حاله، فلا يسأل بعد ذلك.
قال: (ورجل أصابته فاقة -أي: فقر- حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة).
وهذا الثالث، وهو من أصابته فاقة، وكأنه كان غنياً؛ لأن الفقير لا يحتاج أن يشهد له أحد، فهو معروف أنه فقير، ولكن هذا كان غنياً وبين يوم وليلة افتقر وسأل الناس، فشك الناس فيه، فأتى بثلاثة من ذوي الحجا يقولون: لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش.
قال: (فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتاً)، فسؤال الناس أموالهم تكثراً من السحت الذي يأكله الإنسان سحتاً.
(37/17)
من هو المسكين
آخر حديث في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان)، وإن كان هذا مسكيناً لكن ليس هو المسكين المطلوب؛ لأنه لا يستحي أن يمد يديه إلى الناس، فيسأل هذا وهذا.
قال: (ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس).
فمن لا يقدر أن يعمل، ولا يعرف أحد أنه فقير مسكين محتاج فهو الذي يبحث عن مثله حتى يعطى من الصدقة، وهذا له فضل عند الله لتعففه، فعلى الإنسان أن يبحث عن مثله ويعطيه.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(37/18)
شرح رياض الصالحين - جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه والأكل من عمل يده
الإسلام يدعو المسلم إلى العمل والحركة، ويزجره عن الكسل والخمول، ولذا جاءت النصوص الكثيرة في الزجر عن سؤال الناس، والحث على الكسب الحلال والتصدق منه والجود، فاليد العليا خير من اليد السفلى.
(38/1)
جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه
(38/2)
ما جاء في جواز الأخذ من غير مسألة والأكل من عمل اليد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه.
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهم قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني، فقال: خذ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله، فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك.
قال سالم: فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً ولا يرد شيئاً أعطيه) متفق عليه.
باب الحث على الأكل من عمل يده والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء.
قال الله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) رواه البخاري].
يذكر الإمام النووي رحمه الله في كتابه رياض الصالحين باب جواز الأخذ من غير مسألة ولا تطلع إليه، وباب الحث على الأكل من عمل يده.
(38/3)
شرح حديث: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه)
عن عمر يرويه عنه عبد الله بن عمر ابنه، ويرويه عن عبد الله ابنه سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عن الجميع.
يقول عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني)، يعطيه من الأموال التي تأتي النبي صلى الله عليه وسلم من مغانم الفيء ونحو ذلك، فكان يقسمها على ما أمر الله تبارك وتعالى به في الغنائم، قال الله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال:41] الآية.
فذكر أن الخمس يصرف في هذه المصارف، والأربعة الأخماس تكون للغانمين المجاهدين في سبيل الله تبارك وتعالى، وإذا كان المال فيئاً فقال الله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7].
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم هذا المال بحسب ما أمر الله سبحانه تبارك وتعالى به، فكان يقسم على المؤمنين بحسب ما أعطاه الله سبحانه، قد يعطي الجميع، وقد يعطي الأكثر، وقد يعطي البعض بحسب المال.
قال عمر رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء)، كأنه تكرر هذا الشيء من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه، (فأقول: أعطه من هو أفقر إليه مني) يعني يوجد من هو أفقر مني، وأحوج مني لهذا المال.
فلما تكرر هذا من عمر رضي الله عنه علمه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه).
المشرف: أن يتطلع إليه يريده، والسائل: الطالب، فالمشرف أن يكون في نفسه يريد أن يأخذ هذا المال ولكن لا يسأل، وقد يريد الإنسان ويطلب ويسأل، وعمر لا هذا ولا هذا، لا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ولا استشرفت نفسه هذا المال.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتموله)، العطاء هو الذي يعطاه الإنسان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي، ومن بعده الخلفاء الراشدون كانوا يعطون الأموال من المغانم والفيء وغير ذلك أعطيات.
وكان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه في عهده يعطي الناس على حسب تقدمهم في الإسلام وتقدمهم في الهجرة وقربهم من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، فجعل كل سنة مرتباً لكل إنسان منهم حتى عم الخير بفضل الله سبحانه وتعالى على الجميع.
فتعلم عمر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا جاءك من هذا المال شيء فاقبله طالما أنك لم تسأله ولم تستشرف له، فخذ ما آتاك الله سبحانه وتعالى من بيت المال، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر من مال الغنائم ومن مال الفيء ونحو ذلك.
قال: (فخذه فتموله) أي: اتخذه مالاً وانتفع به.
(فإن شئت كله وإن شئت تصدق به) فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر ولا يرد عطاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك ما أعطاك الخلفاء من بيت المال فخذه وتموله إن احتجت إليه، وإن لم تحتج إليه فاقبله وأعطه للفقراء، فيجري الله عز وجل على يدك الخير، ولا تمتنع من هذا المال طالما أنك لم تسأله، ولكن إما أن تنتفع به إذا كنت محتاجاً أو تعطيه لغيرك.
وهذا أدب عظيم علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر ولغيره، المال الذي من بيت المال حق المسلمين، ما أتى من أجل أن يدخر في بيت المال، ويمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم أو عند الخلفاء من بعده، بل يوزع هذا المال بحسب ما يريه الله تبارك وتعالى.
ولو أنه أعطى هذا المال لـ عمر وقال عمر: لا أريد، فغيره من الناس أيضاً سيقولون: لا نريد، وعمر ما هو مستشرف ولا متطلع ولا سائل، ولكن غيره قد يكون مستشرفاً لهذا المال.
وعمر أخلص في رفضه لله سبحانه، ولعل غيره لا يخلص في رفضه لهذا الشيء، وسيفتح على الناس باب شر، فيقول أحدهم: لا أريد؛ حياءً من الناس، وهو يريده ومحتاج إليه، فيأتي من الباب الخلفي، وإذا لم يكن عنده دين يسرق من أموال الناس، فأغلق النبي صلى الله عليه وسلم هذا الباب، فإذا رأيت أنك محتاج فأعطيتك فخذ، فإن كنت غير محتاج فأعطه لمن ترى أنت، ولكن اقبل المال بحيث أن غيرك لا يستحي أن يأخذ حقه من بيت المال.
فتعلم عمر رضي الله عنه هذا، فأخذ هذا المال، وكان يعطي من هذا المال بعد ذلك لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما تولى الخلافة، وقسم الناس حسب مراتبهم في الإسلام ومراتبهم في الهجرة ومراتبهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان حكيم بن حزام يرفض أن يأخذ المال منه، فكان يشهد عليه الناس ويذكر ما حدث بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأثر، ويقول: اشهدوا أن حكيماً لا يريد أن يأخذ المال الذي هو حقه من بيت مال المسلمين.
وفي رواية لهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن شئت كله وإن شئت تصدق به، وما لا فلا تتبعه نفسك)، أي: إذا لم تأخذ لحاجة فلا تطمع في شيء، فإذا آتاك الله عز وجل المال فخذ ما آتاك الله سبحانه.
قال سالم بن عبد الله: فكان عبد الله لا يسأل أحداً شيئاً.
انتفع عبد الله بن عمر بما سمع من أبيه رضي الله عن الجميع، قال: (فكان لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يرد شيئاً أعطيه) يعني: ما كان يطلب من الخلفاء شيئاً ولو طلب لأعطوه، فقد كان عبد الله بن عمر محبوباً رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولكنه ما كان يطلب من أحد شيئاً، فإذا أعطاه الخلفاء أو أعطاه أحد على وجه الهدية قبل ذلك، لكن هو لا يطلب، والسبب ما سمعه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فهو يأخذ المال فينتفع به إما لنفسه وإما أن يتصدق به أو يعطي الناس على وجه الهدية ونحوها.
(38/4)
الحث على الأكل من عمل اليد
(38/5)
الأمر بالانتشار للعمل بعد الصلاة
ذكر المؤلف باب الحث على الأكل من عمل يده، والتعفف به عن السؤال والتعرض للإعطاء.
والمسلم يعمل ويتكسب ويعلم أن أشرف المكاسب ما تعب فيه وكد وكدح، وجاءه المكسب ولو كان قليلاً، ولكنه يفرح بهذا الشيء، فله أجره عند الله؛ لأنه يتعفف ولا يسأل أحداً من الناس، ولأنه يقوت أهله وعياله، ولو ترك ذلك لأثم، وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول، فإذا كان الإنسان يكتسب حتى لا يقع في هذا الإثم فهو مأجور عند الله سبحانه وتعالى.
جاء في القرآن في سورة الجمعة قول الله عز وجل: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10].
يوم الجمعة يوم عيد، فإذا صليت الجمعة وأديت ما عليك، فاذهب وابتغ من فضل الله بالعمل، أو بالصناعة أو بالتجارة، ما طلب منك ربنا أنك تقعد يوم الجمعة في البيت، وأن تستريح في الجمعة أو في غيرها، ولكن الله عز وجل أمرك أن تكتسب، فابتغ من فضل الله سبحانه، وإذا أديت الفرض فأنت حر في أن تستريح أو تعمل، ولكن لا تمد يدك للناس وأنت قادر على أن تعمل وتتكسب.
(38/6)
شرح حديث: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيحتطب)
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها؛ فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه).
الصحابة ما كانوا حطابين، ومهنة جمع الحطب من أقل المهن، ولكن مهما كانت فهي أفضل من أن يسأل الإنسان غيره، فالصحابة منهم التجار ومنهم الزراع، وأهل المدينة كانوا متعودين على الزراعة، والمهاجرون كانوا متعودين على التجارة، ولكن لا يقعد الإنسان من غير عمل.
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المسلم ألا يسأل أحداً شيئاً، فيقول: خذ حبلاً على كتفك واذهب إلى الجبل فاحتطب من هناك، ثم بع هذا الحطب للناس، فتنتفع بهذا الشيء فتتكسب وتؤجر على ذلك.
قال صلى الله عليه وسلم: (فيبيعها فيكف بها وجهه)، سيبيع ويكسب ويكف الله عز وجل وجهه بذلك ويكتفي ولا يسأل أحداً شيئاً، فهذا خير له وأفضل له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه.
سؤال الناس فيه ذل، حتى لو أعطوك فتوجد منة من الذي أعطاك، فالأفضل أن لا يسأل أحداً.
قال هنا: (خير له)، السؤال لا خير فيه إلا للمحتاج أو المضطر، أما غير ذلك فسؤال الناس لا خير فيه.
فالخير للإنسان أن يكتسب بنفسه ويتعب نفسه، فعلينا أن نكسب المال الحلال من وجهه، ما ننتظر المال الحرام، وما ننتظر أن ينزل الله علينا رزقاً من السماء، ولكن نبحث عن ذلك ونمشي في الأرض وننتشر فيها ونأكل من رزق الله ونبحث عن فضل الله سبحانه.
والإنسان لا يستكبر عن عمل مهما كان هذا العمل، وكثير من الشباب يبحثون عن أعمال وإذا وجد عملاً قال: هذا العمل لا يناسبني! جلوسك في البيت أذل لك من عمل لا يناسبك، ابحث عن العمل الحلال ولو كان من أقل الأعمال، طالما أنك تكف به نفسك عن سؤال الناس، فهذا خير لك وأفضل لك، حتى ولو كانت الأجرة فيه قليلة، ولو علم الله عز وجل في قلبك الخير لأعطاك الكثير بعد ذلك لصبرك وتعففك عن سؤال الناس، فيجب على الإنسان المسلم أن يبحث عن الرزق الحلال من وجهه، ولا يقعد في البيت ينتظر من يصرف عليه، ولا يقعد في البيت وينتظر إنساناً يعطيه مالاً يقرضه، وليس عنده ما يسدد به هذا القرض! جاء شابان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه فنظر إليهما، فوجدهما شابين جلدين، فقال: (إن شئتما أعطيتكما، واعلما أنه لا حظ في هذا المال لغني ولا لذي مرة سوي).
يعني: سأعطيكما من هذا المال إذا كنتما محتاجين أو مضطرين، لكن: (لا حظ في هذا المال لغني).
وقد يقولان: نحن فقراء ما عندنا فقال: (ولا لذي مرة سوي)، فالشاب القوي الذي فيه جلد وفيه قوة لا حظ له في مال الصدقة ولا حظ له في مال الزكاة.
فلا تأخذ مالاً لا تستحقه، واسع في طلب الرزق واعمل، وبفضل الله يرزقك سبحانه: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ} [الأنفال:70].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه هنا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره)، لن يأخذ معه حماراً ولا حصاناً يحمله عليه، بل سيحمله على ظهره (خير له من أن يسأل أحداً فيعطيه أو يمنعه).
فالأفضل للإنسان أن يتعب في طلب الرزق، وهذا أفضل من أن تمد يدك لإنسان فيقول لك: ما عندي، فاذهب واعمل فأنت قوي تقدر على أن تعمل، ولا تمد يدك إلى أحد من الخلق، ومد يدك إلى الله الذي يرزق سبحانه.
(38/7)
شرح حديث: (كان داود لا يأكل إلا من عمل يده)
في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده)، داود كان ملكاً، ومع هذا كان يأكل من عمل يده! وغيره من الأنبياء كانوا يعملون، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لنا هنا داود لأن العادة أن الملوك لا يشتغلون بالكسب، وعندما يذكرون عنه أنه يصنع الدروع قد يظن أن المقصود أن الأتباع هم الذين كانوا يصنعون السوابغ، يعني الزرود والدروع؛ فلأنه ملك فقد كان الذين حوله هم الذين يصنعون، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الشيء على حقيقته، فأخبر أن داود كان لا يأكل إلا من عمل يده، فيعمل عليه الصلاة والسلام وهو ملك من الملوك، ملكه الله عز وجل على بني إسرائيل ومع ذلك كان يصنع الزرود، أي: يصنع القمصان من الحديد ليلبسها المجاهدون ويبيعها ويأكل من هذه الصنعة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم قال: (كان زكريا عليه السلام نجاراً).
وجاء في المستدرك بإسناد واه كما ذكر الحافظ ابن حجر قال: (كان داود زراداً) يعني يصنع الزرود، وربنا قال له: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ:11]، علمه الله عز وجل صنع القميص الذي من حلق حديدية، حلقة وحلقة وبينهما مسمار يربط الحلقيتن، فيقدر المسمار على قدر الحلقة، ويصنع حلقة يضمها إلى الأخرى حتى يكون قميصاً يقدر الإنسان أن يتحرك فيه ويحميه من السهام.
قال: (وكان آدم حراثاً) كان آدم يزرع ويأكل مما زرعه عليه الصلاة والسلام.
قال: (وكان نوح نجاراً) فعلم النجارة وكان لا يعلم شيئاً عن صناعة السفن، فأوحى إليه ربه سبحانه أن يصنع السفينة.
قال: (وكان إدريس عليه الصلاة والسلام خياطاً، وكان موسى راعياً) وكون موسى راعياً هذا مذكور في القرآن، حيث استؤجر ثمان سنوات أو عشر سنوات ليعمل بالرعي مقابل أن يتزوج عليه الصلاة والسلام.
والغرض أن الأنبياء كانوا يعملون، ونبينا عليه صلى الله عليه وسلم عمل قبل ما يوحى إليه، فقد رعى الغنم صلى الله عليه وسلم، وما من نبي إلا ورعى الغنم، وكذلك تاجر مع السيدة خديجة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فتاجر وكسب وربح مالاً كثيراً صلوات الله وسلامه عليه.
وبعدما أوحي إليه صلوات الله وسلامه عليه وهاجر وفرض الجهاد جعل الله للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم المكسب، فقال: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي)، يعني الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، فرزقه كان من المغانم، وما كان يأخذها ويستأثر بها على المسلمين وإنما كان له الخمس من المغانم، فالمغنم يقسم أخماساً كما في الآية: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41]، لله وللرسول قسم واحد من خمسة أقسام: {لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41] فعددهم ستة لكن الحقيقة أنهم يقسمون خمسة أقسام، فقسم للنبي صلى الله عليه وسلم وهو خمس الخمس، وكان هذا رزقه عليه الصلاة والسلام، وكان له خمس الفيء كاملاً، فجعل الله رزقه تحت ظل رمحه كما قال صلى الله عليه وسلم.
(38/8)
شرح حديث: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده)
عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تبارك وتعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده).
خير الطعام وأفضل الطعام الذي تأكله مما كسبته بعرق جبينك، أحل المال الذي تأكله وأشهى الطعام وأفضل وأطهر الطعام وأطيب الطعام الذي تعبت أنت فاكتسبته بتعبك وعرق جبينك.
قد يأكل الإنسان من هدية، قد يأكل الإنسان من صدقة، قد يأكل الإنسان من طعام فلان، ولكن طعامك الذي اكتسبته بمالك وتعبت فيه واجتهدت فيه هذا أحل الطعام لك وأفضل الطعام لك.
قال: (وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده).
(38/9)
الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير
(38/10)
إخلاف الله تعالى على المنفقين
ذكر المصنف باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى.
الثقة بالله عظيمة، المؤمن واثق في الله، ووعد الله حق، لا يخلف الله الميعاد، فإذا قال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فيقيناً أنه يخلفه سبحانه وتعالى، والمسلم يعتقد ذلك يقيناً ويقسم على ذلك، فإن الله عز وجل هو الذي وعد بذلك، والله لا يخلف الموعد أبداً.
فهنا في هذه الآية قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فأنفق ولا تخف فربنا سيخلف غيره، على شرط ألا يكون في الإنفاق سرف أو يكون الإنفاق في غير محله، فما كان واجباً عليك فأخرجه، ولا تنظر للنافلة وتترك الفرض الذي عليك! لا يجوز للإنسان الذي عليه زكاة مال أن يقول: أخرج صدقة بدل زكاة المال، فزكاة المال فرض عليك، فأخرج أولاً زكاة المال، ثم بعد ذلك أنت حر فتصدق أو لا تتصدق، ولكن الزكاة فرض عليك، والإنسان يجب عليه أن ينفق على عياله ولا يترك عياله جائعين وليس عندهم كسوة، ويصرف على إنسان غريب وعياله يحتاجون إلى ذلك، فأهل البيت أولى.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ابدأ بنفسك، وابدأ بمن تعول)، فتبدأ بنفسك وتبدأ بأقاربك الذين تعولهم ثم بعد ذلك أعط الغريب، ولذلك النفقة على القريب فيها أجران، صلة وصدقة، والنفقة على الغريب صدقة فقط، فالنفقة على القريب أعظم أجراً منها على الغريب.
قال سبحانه: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
(وما تنفقوا) يعني: مهما أنفقتم من النفقات في خير: (فلأنفسكم) يعني: نفعها لأنفسكم.
وقال الله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
الإنسان الذي ينحر الذبائح في الهدي وفي الضحية وغيرها هل ربنا سيستفيد منها شيئاً؟ {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا} [الحج:37] لن ينال الله سبحانه وتعالى هذه اللحوم، ولن يأكلها، ولن ينتفع بذلك حاشا لله سبحانه، ولكن ما هو الذي يصل إلى الله؟ الذي يصل إلى الله التقوى، يرفع إليه العمل الصالح، التقوى ترفع إليه لتؤجروا أنتم على هذه التقوى من فضل الله سبحانه.
وهنا قال: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272].
يعني الأصل أنك لا تنفق نفقة إلا وأنت مستحضر أن هذه لله ليست رياءً ولا سمعة، ليس لأن يقول الناس فلان أنفق أو يلقبوه بالجواد والمنفق، ولكن ينفق ليبتغي وجه الله سبحانه: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة:272].
سيعطيك الله على الشيء الذي أنفقته عشرة أضعافه، بل لو لم تنفق أخذت مثله، أنت نويت النفقة ثم بدا لك أنك محتاج لهذا المال، أو بعدما جئت لتتصدق تذكرت أن عليك ديناً وقضاء الدين أفضل، فلم تنفقه وأرجعت المال إلى جيبك، فالله عز وجل يؤجرك وكأنك أنفقت هذا المال! انظر إلى كرم ربك سبحانه وتعالى، أنت لم تفعل وأعطاك الأجر كأنك فعلت، فالله يوفي لك المكيال، يعطيك ليس مثل الذي أنت عملته فقط، بل أوفى وأوفى وأفضل.
(وأنتم لا تظلمون) يعني: والحال أنكم لا تظلمون من الله عز وجل.
وقال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] فإذا علم ذلك فهو يخلف عليك ويؤجرك عليه.
(38/11)
فضل التنافس في الإنفاق
في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
الحسد هنا الغبطة، والمعنى: أنك تراه ينفق فتتمنى في نفسك وتقول: يا ليتني مثله، فما الفرق بين الغبطة والحسد؟ الحسد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم هنا المقصود به الغبطة، أن تغبطه وتود أن لك مثله، لكن الحسد الحقيقي هو تمني زوال النعمة، مثل إنسان يرى في يد الإنسان مالاً فيتمنى أن يسرق هذا المال منه، ويتمنى أن هذا المال يضيع منه من أجل أن يبقى مثله.
وشر الحاسد على نفسه وعلى غيره أيضاً، ولعله يكون سبباً في زوال نعمة الغير بسبب عينه، فالإنسان الحاسد يستشعر أنه مظلوم، ولذلك يقولون: ما رأينا ظالماً أشبه بالمظلوم من الحاسد، هو ظالم ويتشبه بالمظلوم؛ لأنه لا يعجبه أن الله أعطى فلاناً وما أعطاه، فالحاسد متسخط على ربه سبحانه، متسخط على أقدار الله سبحانه، يقول: لماذا أعطى فلاناً وما أعطاني أنا؟ فيتمنى زوال نعمة الغير.
وهنا يقصد النبي صلى الله عليه وسلم بالحسد الغبطة، فلا مانع من أن المسلم يجد من هو أفضل منه ويقول: يا ليتني أكون مثل هذا الإنسان.
فالحسد بمعنى الغبطة يكون في أمرين، قال: (لا حسد إلا في اثنتين)، فإذا كنت فعلاً تحسد أحد بمعنى تغتبط فيه وتتمنى مثله فليكن في هذين الأمرين وهما: (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)، كان غنياً فسلط ماله بالتصرف في الحق، يخرجه للفقراء وللمساكين، ولا يضيع حق نفسه وحق بيته، فينفق بالقدر الذي يرضي به ربه سبحانه وتعالى، فالله عز وجل آتاك المال لتخرجه وليس من أجل أن تكنزه حتى تموت وتتركه لغيرك! جعل الله المال لتنفق منه في سبيل الله عز وجل وفي وجوه الخير، فهذا الإنسان ينفق بالعدل، ينفق بالإحسان، يعطي ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والفقراء وغيرهم، فهذا لك أن تقول: يا ليتني مثل فلان، يا ليت ربنا أعطاني حتى أكون مثله، وهذا الإنسان لا يحرمه ربه أبداً من فضله ومن كرمه، هذا الغني الذي يعرف حق الله ويعطي من غير رياء ولا سمعة، فهذا لا يضيعه الله عز وجل، بل يزيد له من فضله ومن كرمه سبحانه.
والآخر: (رجل آتاه الله حكمة)، تعلم العلم الشرعي، فالحكمة تطلق على معان منها أن يضع الشيء في موضعه، فالحكيم يفكر بالعقل وعنده قلب وفيه لب.
وتطلق الحكمة بمعنى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والحكمة بمعنى الإصابة في الدين.
فهذا رجل أعطاه الله عز وجل علماً في الكتاب وعلماً في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الحكم الصواب في الأشياء فهذا حكيم، فهو يقضي بها ويعلمها.
قال: (رجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها) يعني أفعاله مبنية على الحكمة، لا يخالف قوله عمله، ولا يخالف عمله علمه، ولكن يعمل بما علم، آتاه الله حكمة فهو يقضي بها في أفعاله وفي قضائه ويعلمها للناس، هذا الذي يستحق أن يقول الإنسان: يا ليتني مثله.
(38/12)
ليس مال للمرء إلا ما أنفقه لله تعالى
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله! ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر) رواه البخاري.
الصحابة أهل صدق وأهل عدل، وجوابهم جواب صدق، وربما لو سئل غيرهم: هل مالك أحب إليك أو مال الورثة؟ سيقول: مال الورثة، أترك لهم فلوساً حتى لا يضيعوا، لكن الصحابة عرفوا أن المال اختبار وامتحان من الله عز وجل.
المال في يدك وأنت تتصرف في هذا المال: فالإنسان إما أن ينفقه في الحق ويبقى له الأجر والثواب عند الله عز وجل، وإما أن ينفقه في الباطل فعليه الإثم، وإما أن يدخره وهذا المدخر إما أن يؤدي زكاة ماله أو لا يؤديها، فإذا أدى زكاة ماله انتفع بقدر هذه الزكاة الواجبة عليه، والباقي لم ينتفع به شيئاً، وإذا أخرج من هذا الباقي فأعطى في الحقوق فالله ينمي هذا بإعطائه.
فالإنفاق خير للإنسان من أن يترك المال للوارث، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم من مال الوارث أحب إليه من ماله؟ يعني: أن ربنا يرزقه مالاً فيجمعه لورثته ويحرم نفسه منه حتى يموت ولم ينتفع بهذا المال ويتركه للوارث! فقالوا: مالنا أحب إلينا من مال الوارث، فنحن نتحكم به ونحكم به ونعطي ونمنع؛ فقالوا هذا لأنهم أهل صدق وأهل إنفاق رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، والمآثر التي تكون عند الله عز وجل لن تكون إلا بالبذل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].
فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن ماله ما قدم)، حقيقة مالك ما قدمته لله سبحانه فادخرته عنده بالإنفاق في وجوه الخير.
قال: (ومال الوارث ما أخرت)، الذي ادخره في الدنيا لن ينتفع به يوم القيامة، وهذا يكون للوارث وليس لك أنت.
(38/13)
فضل التصدق ولو بشق تمرة
وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
يعني لا تستقل الصدقة، وإذا عودت نفسك على الإنفاق ولو بأقل الأشياء يكون لك عند الله عز وجل أجر عظيم يوم القيامة، فإذا أعطيت هذا الإنسان تمرة، وأعطيت الآخر شق تمرة، وأعطيت للثالث مثلها، وأنت لم تحتقر هذا الشيء ولكن جدت بالموجود، فهذا خير من المنع.
وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم منهم من ينفق الكثير جداً، ومنهم من ينفق القليل بحسب ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار) يعني تتقيها بالقليل وبالكثير، ولو بأقل القليل، ولو بشق تمرة!
(38/14)
جود النبي صلى الله عليه وسلم
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا).
انظروا إلى كرم النبي صلى الله عليه وسلم: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] لا يمكن أن تكون مثله صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم قد كمله الله فكان أكمل خلق الله، خلقاً وخلقاً، ولكن يتشبه الإنسان به.
(فما سئل شيئاً قط فقال: لا)، عادته الكرم صلى الله عليه وسلم، فالذي يطلب منه شيئاً يعطيه صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الشيء الذي يرتديه، كما في قصة المرأة التي نسجت للنبي صلى الله عليه وسلم إزاراً وكان محتاجاً إليه، فإزاره كان قد تمزق، ومع ذلك يقول له رجل: (اكسنيه يا رسول الله! فقال: نعم، ورجع إلى بيته وخلعه ولبس القديم وأعطى الرجل هذا الجديد).
ما كان يمنع أحداً شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فعلينا ألا نبخل، كثير منا يقول: أهلي أولى بمالي، وأنا محتاج لهذا الشيء، وليس مطلوباً منك مالك كله، ولكن تشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن تعطي لله سبحانه تبارك وتعالى الواجب، وتعطي أيضاً من المستحب حتى يكون لك عند الله عز وجل الأجر، ولا تكن صعباً فالإنسان إذا أعطى فهذا خير.
وإذا لم يعط فقال الله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء:28]، فترد السائل بالكلمة الطيبة، تقول مثلاً: إن شاء الله ربنا يعطيك، وإذا ربنا أعطاني أعطيك، ربنا يرزقنا ويرزقك، كلمة طيبة أفضل من أن تطرده منتهراً له، أو تقول: ما معي، ففرق بين إنسان يقول قولاً كريماً ميسوراً وبين من لا يعطي وينهر السائل.
(38/15)
دعاء الملائكة للمنفقين
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).
كل يوم في الصبح ينزل ملكان من عند الله عز وجل، عملهم هذا الدعاء، ودعاء الملائكة مستجاب عند رب العالمين سبحانه.
يقول أحدهما: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) يعني: الذين ينفق أعطه، خلفاً مكان الذي أنفقه، والله يعطي ويزيد سبحانه بكرمه وبفضله.
والآخر يدعو على البخيل الشحيح: (اللهم أعط ممسكاً تلفاً) إذا استحضر المؤمن ذلك ووجد عنده فضل، فمن كان ذا فضل فليعد بفضل زاده على من لا زاد له، فالذي عنده من فضل الله سبحانه فليعط ولو الشيء اليسير.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(38/16)
شرح رياض الصالحين - الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله ثقة في الله
حث الإسلام على الكرم والجود والإنفاق في سبيل الله، والعبد حين ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله يثق أن الله لن يضيع ما أنفقه بل يضاعفه له أضعافاً كثيرة، والإنفاق من مال الله سبب في نجاة صاحبه من النار
(39/1)
ثقة المسلم بما عند الله
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخير ثقة بالله تعالى].
قال الله تعالى: ((وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)) [سبأ:39].
وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
وروى مسلم عن أبي إمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك أن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى).
رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) رواه مسلم].
المؤمن واثق في أن الرزق بيد الله سبحانه، ولا يزيد الرزق حرص حريص عليه، ولا يقلل من الرزق أن الإنسان يتركه ويتهاون في شيء، فكله مكتوب عند الله، يأتي الإنسان رزقه المقسوم من حيث سعى إليه، أو من حيث لم يسع إليه، والله يقتر على الإنسان كسبه بصورة معينة فيضيق عليه، ويفتح ويبسط لإنسان آخر، والله يفعل ما يشاء.
فالمسلم يثق في الله سبحانه، وأنه بيده الخير سبحانه تبارك وتعالى، وأنه يعطي بقوله: كن فيكون، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وإذا أنفق المؤمن فإنه واثق في أن الله يخلفه خيراً مما أنفقه، قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272].
وقال: {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
وقال: {وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] والإنسان المسلم إذا أنفق ابتغاء وجه الله سبحانه، فإن الله يعطيه أفضل مما أعطى لله تبارك وتعالى.
ومن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! إنك إن تبذل الفضل خير لك، وأن تمسكه شر لك) فـ (أن والفعل بعدها) مصدر، ومعناه: بذلك الخير خير لك، وإمساكك الفضل والخير شر لك.
فإذا كان عندك فضل من طعام فعد به على من لا طعام عنده، ولا ترم به إلى القمامة، ولم يأمرك النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفق قوتك وقوت عيالك، وإنما تبذل الفضل.
وجاء في القرآن قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219] أي: الزائد عن حاجتك، فإذا أنفقت من هذا الزائد، فلك الأجر عند الله، ولك الوعد من الله أنه يزيد هذا المال، ويعطيك خيراً من هذا المال في الدنيا والآخرة، فينمي لك المال ببركة إنفاقك، ويثيبك الجنة في الآخرة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تلام على كفاف) أي: إذا كان دخلك على قدر الواجبات من نفقتك، فلن يلومك الله عز وجل على أنك لم تتصدق، فهو لم يعطك ما تتصدق به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وابدأ بمن تعول) هنا يعلمنا أدب الإنفاق وهو أن المسلم لا يترك الواجب عليه وينتقل إلى النافلة، ولكن يبدأ بالفرض الذي عليه، وهو أن يطعم نفسه ثم أولاده ثم زوجته ثم أباه ثم أمه، ثم يخرج الفضل بعد ذلك لمن أمره الله عز وجل أن يخرج إليهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (واليد العليا) وهي يد المعطي كما جاء في الحديث الآخر، فهي خير من اليد السفلى، وهنا تشجيع للمسلمين على الإنفاق، سواء كان عندهم مال كثير أو قليل، فالجميع ينفقون؛ فهنا الإشارة جميلة في آخر الحديث: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فمن من الناس يقول: لا، أنا يدي تصبح شراً، يدي تكون أقل من غيري، وغيري أحسن مني عند الله عز وجل، فأنا أنفق.
فتنفق، فتكون يدك اليد العليا خيراً من يد الإنسان الذي يتكفف ويسأل الناس.
(39/2)
إنفاق رسول الله وجوده ثقة بالله
(39/3)
شرح حديث أنس: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه)
من الأحاديث ما رواه مسلم عن أنس رضي الله تبارك وتعالى عنه، قال: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه).
وهذا من أجل أن يتألف الناس على الإسلام، فيأتي الإنسان يقول: إما أن تعطيني وأسلم، وإذا لم تعطني لن أسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطيه.
وقد علم الناس أن الإنسان الذي يهديه الله عز وجل على يده خير له عند الله من الدنيا وما فيها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك مما طلعت عليه الشمس) فهذا الإنسان لولم يعطه شيئاً وطلب منه أن يسلم إخلاصاً لله عز وجل فإنه قد لا يسلم، ولعله يسلم في يوم من الأيام، ولكن يكون قد خسر أياماً كثيرة كان فيها على الكفر، ولا ندري ما الذي يصنعه في هذه الأيام.
وهذا الإنسان لو تؤلف على الإسلام، ودخل في دين الله عز وجل وصلى رياءً؛ لأنه أخذ مالاً على ذلك، ولكن كلما دخل الإنسان في الدين فإن الإيمان إذا دخل القلب انفسح وانشرح، فينشرح قلبه لهذا الدين، ويصبح إسلامه حباً في الله وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي دين الله.
وهذا الذي حصل مع كل الذين أسلموا، وتألفهم النبي صلى الله عليه وسلم في البداية.
فالرجل الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين من أجل أن يسلم، وفرح الرجل ودخل في الإسلام، وأخذ الأغنام، وذهب إلى قومه، وأخبرهم بأن يدخلوا في الإسلام، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، أي: لا يخاف الفقر.
فالرجل الذي لا يريد من إسلامه إلا الدنيا، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.
فينتظم مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، ويسمع منه المواعظ، ويحتك بالمسلمين، فيعرف المحبة في الله سبحانه، وينسى أنه دخل من أجل أن يأخذ المال، ويكون الإسلام بعد ذلك أحب إليه من أي شيء.
(39/4)
شرح حديث: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل)
وروى مسلم عن عمر رضي الله عنه، قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً -أي: وزع غنيمة أو نحوها- فقلت: يا رسول الله! لغير هؤلاء كانوا أحق به منهم).
أي: أن عمر رضي الله عنه كانت له نظرة أخرى، فقد رأى أن الذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يستحقون وغيرهم أولى منهم، فإنهم فقراء ومؤمنون، والذين أعطاهم إيمانهم ضعيف.
قال: (إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل).
أي: أن إيمان هؤلاء ضعيف، والله عز وجل أبى للنبي صلى الله عليه وسلم البخل، وأوحى إليه أن ينفق، فإما أن يعطيهم، وإما أن يقولوا له بأنه بخيل، ولو قالوا له إنه بخيل، فقد فسقوا بذلك، وقد يكفرون لأنهم يشنعون على النبي صلى الله عليه وسلم.
فلو أن مسلماً سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر، فهو أرحم بهم من أنفسهم صلوات الله وسلامه عليه.
(39/5)
شرح حديث: (لو كان لي عدد هذه العضاة نعماً لقسمته بينكم)
وأيضاً ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: بينما هو يسير مع النبي صلى الله عليه وسلم مقفله من حنين، أي: مرجعه من غزوة حنين سنة ثمان من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، وقد غنم جيش المسلمين مغانم كثيرة، ولكن مع ذلك كان يود النبي صلى الله عليه وسلم إسلام القوم فيرد عليهم المغانم، لكنهم لم يسلموا إلا بعد تقسيم الغنائم، ومع ذلك رد نصيبه من القسمة.
قال: فعلقه الأعراب يسألونه، أي: أن الصحابة كانوا يستحيون منه، وإن كانوا يريدون من هذه الغنائم، أما الأعراب فإن فيهم بجاحة، فتعلقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون منه عطاءً؛ (حتى اضطروه إلى سمرة) والسمر: شجر له شوك ويكون في الصحراء، (فخطفت رداءه) فتعلق بأشواك هذه الشجرة، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمته بينكم).
أي: لو كنت أملك مثل أشواك هذه الشجرة من بهيمة الأنعام كنت قسمته بينكم.
قال: (ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً) وحاشاه صلوات الله وسلامه عليه وهو أكرم الخلق وأصدقهم وأشجعهم أن يكون بخيلاً أو كذاباً أو جباناً.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي، ولا يمسك لنفسه شيئاً، فإذا أخذ المغانم التي تخصه أنفق منها على أهل بيته، وعلى أضيافه، وعلى المسلمين أيضاً، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: (ليس لي فيها إلا الخمس، والخمس مردود عليكم)، يعني: لن آخذه وأدخره، بل سأرده عليكم، وهذا كرم منه صلوات الله وسلامه عليه.
(39/6)
بيان أن الصدقة لا تنقص المال
(39/7)
شرح حديث: (ما نقصت صدقة من مال)
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل).
فهذا وعد من الله سبحانه على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، أن المال ينمو بالإنفاق، مع أن الأصل أنه ينقص بالإنفاق، فإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد أبدا، وإنما العيب منك فقط، فالإنفاق من المال بالزكاة وغيره يزيد المال وينميه.
بل ذكر في حديث آخر أنه قال: (ثلاث أحلف عليهن) وذكر منها أنه لا ينقص المال من النفقة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا) فالجزاء من جنس عمل الإنسان، فمن عفا وكان عزيزاً، فالله عز وجل زاده عزاً بهذا الشيء، وقد يعفو الإنسان في أمر ما، فينظر إليه الناس أنه وضع نفسه، لكن الله عز وجل يزيده عزاً بهذا الأمر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل) التواضع يكون لله سبحانه لا للناس، فلا يظهر لهم أنه مستكين ومتواضع، وأنه فيه محبة للمسلمين، وأنه يذل نفسه من أجلهم، لكي يقال عنه إنه متواضع، فلا يكون التواضع إلا في ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى، فمن فعل ذلك رفعه الله.
والنبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن نكون من المتواضعين، والتواضع يكون في عدة أمور منها: التواضع في السلام.
والتواضع في المناقشة.
والتواضع في الأخذ والعطاء.
والتواضع في العفو عن الناس.
والتواضع في النظر إلى النفس وإلى الغير.
والإنسان يكون متواضعاً إذا تكلم مع الغير، فإذا كان من حقه أن يتكلم فإن من حق المستمع إليه أن يستمع لكلامه، وينظر إلى رأي نفسه ورأي غيره، فإن رأيه يحتمل أن يكون صواباً ويحتمل أن يكون خطأً، وإذا كان اجتهاداً، فإن كان راجعاً إلى نصوص الكتاب والسنة فلا وجه لأن يقال ذلك، لكن إذا كان في ظن من الظنون، فإن عليه أن يتواضع مع غيره، والله عز وجل يقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] أي: بين المؤمنين، والتشاور لن يكون بين مجموعة متنافرين، ولن يكون بين أشخاص وكل منهم معتز برأيه، ومعتد به، إنما تكون الشورى بين أناس وكل شخص منهم يريد أن يسمع إلى رأي الثاني ويضيفه إلى رأيه، فيزداد تنقيحاً لرأيه.
فالإنسان الذي يتواضع وينظر إلى نفسه أنها مخطئة، وأنه من أصحاب المعاصي، يقوم يعذره في نفسه فيقول: أنا أيضاً أقع في المعاصي، لعل الله يتوب عليه ويصبح أحسن مني، فيذهب إليه لينصحه بمحبة، يحبه أنه مسلم، يكره منه هذه المعصية، يرجو من نصحه أنه يراجع نفسه، ويبتعد عن هذه المعصية، لكن لو نظر للإنسان على أنه عاص، وأنه يذهب إلى النار، وقال: فلان هذا هالك، فلان هذا كذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال هلك الناس فهو أهلكهم) المعنى: أن أهلكه غروره، مغرور، فالذي يرى أن الناس كلهم سيدخلون النار وهو فقط الذي سيدخل الجنة، إذاًَ هذا أهلكهم؛ لأنه إنسان مغرور! اعمل كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تلجون النار وأنا آخذ بحجزكم) أي: أنا أمسككم من أجل ألا تدخلوا النار، إذاً كن كالنبي صلى الله عليه وسلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الخوف على أخيك المسلم أن يقع في النار، لا تغتر وتظن في نفسك أنك أهل للصواب، وأنك أهل للجنة، وغيرك أهل للعذاب.
الإنسان يتواضع لله سبحانه فيجد نفسه من أقل الناس، ومن أضعف الناس، وينظر إلى رأيه على أنه يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب، ينظر إلى غيره على أنه لعل هذا الإنسان الضعيف يوفقه ربنا بدعوة هذا الإنسان لي، فلا تستقل أحداً من الناس.
(39/8)
شرح حديث: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه)
ومن الأحاديث التي في الباب: حديث عمر بن سعد الأنماري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) أو كلمة نحوها.
فالأمر الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما نقص مال عبد من صدقة) يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وهو الصادق المصدوق من غير أن يحلف، فنحن نصدق كلامه صلوات الله وسلامه عليه، ولكنه أقسم ليؤكد أن إنفاق المال لا يضيع ولا ينقص المال.
والأمر الثاني: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً) فهذا العبد يظلم ويصبر على هذا الظلم، وقد يكون قادراً على الدفع، فله عند الله عز وجل الأجر، لكن الإنسان المؤمن لا يذل نفسه ولا يهينها، فلا يعرض نفسه للبلاء، فإذا جاءه البلاء من الله صبر عليه، بحيث لا يكون هناك تفريط في دين الله سبحانه.
فالله عز وجل أمر المسلمين بالجهاد في سبيله لإعزاز دينه، فإذا كان الإنسان يتهاون في مصلحة نفسه، ولا يتهاون في أمر دين رب العالمين سبحانه، فهذا هو التواضع.
والأمر الثالث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) أي: أنه يمد يديه للناس فيسألهم ويطلب منهم أن يعطوه ويسلفوه ولا يرد لهم السلف، فهذا فتح على نفسه باب الفقر.
وأعظم الفقر الذي يبتلى به الإنسان وأشنعه فقر النفس، حيث يشعر أنه فقير وأنه لا يجد شيئاً، وقد يكون عنده نقود كثيرة جداً، ومع ذلك يستشعر أنه محتاج لكل الناس، وإن كان المال الذي عنده كمال قارون، فشعر أنه فقير وأن ماله سيضيع يوماً من الأيام، فيريد مالاً فوقه، وكلما حصل مالاً فتح الله عز وجل عليه أبواب الفقر.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل) أي: من رزقه الله مالاً وعلماً فعمل بعلمه في ماله، فهو بأفضل منزلة في الدنيا وفي الآخرة.
ولذلك جاء في الحديث الآخر: (فسلطه على هلكته في الحق) يعني: أنفق هذا المال في صلة الرحم وفي إعطاء الفقراء والمساكين والمحتاجين، أي: أنفق المال في حقوقه.
ثم قال: (وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء) أي: هذا الرجل ليس فقيراً ولكنه عالم، ويتمنى لو أن الله أعطاه مالاً لعمل به كعمل الأول، فهما في الأجر سواء، ويدخلان الجنة وإن كان الفقير يدخل قبل الغني، فهو مثل الغني في أفضل المنازل بنيته الحسنة، وبفقره كان أسرع لدخول الجنة من الغني.
ثم قال: (وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل) وهذا إنسان جاهل معه مال، وكلما تأتيه مناسبة من المناسبات فإنه ينفق ماله في وجوه الشر والحرام.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
أي: أن هذا رجل فقير ونوى لو أن معه مالاً لعمل به المعاصي والفواحش، فإن وزره يكون كوزر من ملك مالاً وعمل به المعاصي.
(39/9)
شرح حديث عائشة: (بقي كلها غير كتفها)
ومن الأحاديث أيضاً: ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها (أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت عائشة رضي الله عنها: ما بقي منها إلا كتفها -أي: أنهم ذبحوا الشاة ووزعوها للمحتاجين ولم يبق منها إلا الكتف- قال: بقي كلها غير كتفها) أي: الذي تصدق به للفقراء مدخر عند الله سبحانه وتعالى، فهذا الذي بقي عند الله تعالى.
(39/10)
ذم البخل والحث على الإنفاق
(39/11)
شرح حديث: (لا تحصي فيحصي الله عليك)
عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا توكي فيوكى عليك).
وفي رواية: (أنفقي أو انفحي أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) متفق عليه.
وأسماء زوجة الزبير رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وقد كان يعطيها مالاً كثيراً، فهي تقول: ليس من مال إلا أعطاني إياه الزبير، وكانت تدخر بعضه من أجل البيت، فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم أن تنفق مما أعطاها الله سبحانه وتعالى.
وبين لها أن الذي ينفق فإن الله عز وجل ينفق عليه، والذي لا ينفق فيدخر أو يكنز فإنه يعامل بمثل ما يصنع مع الفقراء، فجزاؤه من جنس عمله.
والإيكاء: هو ربط فم السقاء أو القربة، وهنا تشبيه للبخيل، فالله تعالى سوف يعامله بهذا الشيء، فلا يعطيه، أو مثلما هو يخرج الشيء القليل فالقليل، فالله يعامله بهذه الصورة أيضاً.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنفقي أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي فيحصي الله عليك).
والإحصاء: هو التقصي في العد والحساب والإنسان الذي يخرج المال للمحتاجين ولا ينظر كم أعطى، فالمعاملة من الرب سبحانه تبارك وتعالى معه كذلك، فالله أحق بالجود، فمن كان كريماً مع الناس كان الله أحق بذلك منه.
لذلك رأينا الإنسان التاجر إذا ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقد جاء يوم القيامة وحاسبه الله سبحانه، فلما سأله: هل عملت خيراً قط؟ اندهش وتحير فلم يعد يدري ما يقول! فهو لا يذكر شيئاً من الخير، قال: ما عملت خيراً قط! ثم ذكره الله بشيء يسير بسيط عمله، قال: بلى، أنا تذكرت شيئاً، ما هو هذا الشيء؟ قال: قلت: كنت أعامل الناس في التجارة، أي: في البيع والشراء، فكنت أنظر الموسر، وأتجاوز عن المعسر.
يعني: عندما يأتي شخص غني يشتري، وأخر الثمن يومين أو ثلاثة، كنت أصبر عليه.
وكنت أتجاوز عن المعسر، أي: الفقير الذي اشترى ولم يقدر أن يدفع، هنا الجزاء من جنس العمل.
فكان جواب رب العالمين أن قال: نحن أحق بهذا منك، أي: أنت تجاوزت، فالله عز وجل أحق بالتجاوز منك، فتجاوز عنه وعفا عنه سبحانه تبارك وتعالى، فهنا جزاؤك حين تنفق لله، أن ينفق الله عليك، تعطي أكثر، فالله يعطيك أكثر.
يقول هنا في الحديث: (ولا توعي فيوعي الله عليك) من الوعاء، أي: تأخذ الوعاء وتغطيه، حتى لا يأخذ أحد منه، فسيقفل عليك باب من أبواب الرزق، ولو أنك فتحت فتح لك هذا الباب من أبواب الرزق.
(39/12)
شرح حديث: (مثل البخيل والمنفق)
حديث آخر: وفيه مثال جميل يذكره النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل البخيل والمنفق) وبالمثل تتضح للإنسان الصورة ويستحضرها ويعرف حسنها أو قبحها.
فقال: (مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جنتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه).
فهذا إنسان يريد أن يقاتل الأعداء، واشترى قميصاً حلقاته من حديد، من أجل أن يتقي به سيف الخصم، ثم وضع هذا القميص من رقبته إلى أصابع قدميه، فالإنسان المنفق يده مبسوطة، فهو ينفق في وجوه الخير ويده سهلة الحركة في الإنفاق.
والآخر خائف ضام يديه على صدره وعلى رقبته لا يريد أن يخرج شيئاً، كمثل القميص يحتبس في هذا المكان ولا ينزل.
فعندما يقاتل هذا عدوه وهذا عدوه، أيهما ينجو؟ قال صلى الله عليه وسلم: (فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت) أي: يمد يده كالقميص ينزل ويغطي سائر جسده.
قال: (أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه) حتى يلقى ثواب الله سبحانه وتعالى، ووقايته لهذا العبد من النار، تسبغ فوق هذا الإنسان فيقيه الله عز وجل النار، معناه: أنه كلما أنفق استرخت المفاصل، ويسرت يده، وإذا بالقميص يوارى هذا الإنسان، فقال صلى الله عليه وسلم: (حتى تخفي بنانه وتعفو أثره)، انظروا هنا القميص الذي لبسه، غطاه كله وغطى أصابعه وآثار مشيه.
وقوله: (تعفو أثره) المعنى: أنه يريد أن يتوارى من عدوه بلبسه هذا القميص، فحين يهرب من عدوه يطمس قميصه آثار الأقدام فيتواري عن عدوه، كذلك هذا الإنسان الذي أنفق كأنه ستر نفسه من النار، فلا تلفحه ولا تطوله هذه النار.
قال: (وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا، إلا لزقت كل حلقة مكانها) البخيل تحدثه نفسه هل ينفق أو لا؟ فيكون أكثر تثبتاً على المال، كمثل القميص الذي لبسه يقف في مكانه ولا ينزل، وكل حلقة لزقت مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع، ويريد أن ينجو من غضب الله ومن عذابه يوم القيامة وهو لا ينفق.
إذاً هنا الإنسان المؤمن ينفق لله عز وجل فينفق الله عز وجل عليه في الدنيا، ويعطيه الأجر العظيم في الآخرة، ويقيه النار، والعياذ بالله.
(39/13)
تربية الله لصدقة العبد حتى تكون كالجبل
وعن أبي هريرة أيضاً في الصحيحين: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب).
هذا قيد، أن تنفق ولكن من مال طيب، وليس من مال خبيث (بعدل تمرة) أي: بقدر تمرة، من كسب طيب، (ولا يقبل الله إلا الطيب؛ لأن الله يقبلها بيمينه) أي كرم مثل هذا الكرم العظيم من رب العالمين؟ النفقة التي تعطيها للفقير تكون في يد الله قبل أن يأخذها هذا الفقير، ولذلك كان البعض من الصحابة يطيب المال؛ لأنه يعلم أنها تكون في يد الله قبل أن يأخذها هذا الفقير.
قال: (فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها) أي: قبلها رب العالمين ورباها، وزادها لصاحبها، إذاً: الأجر المضاعف عشر حسنات، ثم مائة حسنة، ثم ألف حسنة، ثم أضعاف مضاعفة لا يعلمها إلا الله على شيء قليل فعلته.
قال: (ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه) أي: كالمهر الصغير تربيه وتطعمه حتى يكبر، وفجأة أصبح مثل الجبل شيئاً عظيماً، قال: (كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل).
(39/14)
شرح حديث: (اسق حديقة فلان)
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل بفلاة من الأرض، فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء).
هذا الحديث فيه فضل رب العالمين سبحانه حين يعامل عبده الجواد الكريم الذي ينفق لله سبحانه وتعالى، أي: جعل حظاً في ماله لله لا بد أن يخرجه في كل وقت، فهذا شخص يمشي في صحراء، لقي سحابة، وسمع صوتاً من السحابة: اسق حديقة فلان، هنا أراد الله عز وجل أن يسمعه ذلك، وأن يريه حتى يحدث غيره بذلك.
فأخذ يتتبع السحابة، ويمشي وراءها ينظر إلى أين ستصل؟ فأمطرت السحابة في مكان، وإذا بالماء يأخذ مسلكاً واحداً من المسالك، ويمشي في طريق هذا المسلك حتى يصل إلى حديقة، وهذا الشخص يتتبع ذلك، فرأى صاحب الحديقة فسأله: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: فلان! بنفس الاسم الذي سمعه من السحابة.
فقال له: لماذا تسألني عن اسمي؟ فقال: (سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا)، والمعنى: أني لم أكن لأخبرك لولا أنك بشرتني بهذه البشارة.
قال: (أما إن قلت هذا فإني أنظر ما يخرج منها)، أي: من الحديقة (فأتصدق بثلثه)، لم يتصدق بالنصف، ولم يتصدق بثلاثة أرباع، ولكن بأقل، إذاً: هنا تصدق بالثلث والثلث كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الثلث، والثلث كثير).
فأنفق الرجل لله عز وجل الثلث، قال: (فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه)، أي: الثلث الثالث أرده فيها وأزرعها مرة أخرى، فكان هذا الذي أنفق الثلث، أعطاه الله عز وجل سحابة خاصة تسقي زرعه.
هذا كرم عظيم من رب العالمين سبحانه، نتعلم منه أن ننفق لله، وأن نخلص النية، وألا نستكثر شيئاً أخرجناه لله سبحانه، فإن الله يخلف خيراً، {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(39/15)
شرح رياض الصالحين - النهي عن البخل والشح وما جاء في الإيثار والمواساة والتنافس في أمور الآخرة
أمر الله المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم، ونهاهم عن البخل، وقد جاءت نصوص كثيرة في الزجر عن البخل وبيان ضرره، وجاءت نصوص كثيرة في الحث على الصدقات والإيثار والمواساة، وبيان منافع ذلك وخيره على الفرد والمجتمع.
(40/1)
النهي عن البخل والشح
(40/2)
ذم الشح
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب النهي عن البخل والشح.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:8 - 11].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم.
باب الإيثار والمواساة.
قال الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود، فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، ثم أرسل إلى أخرى، فقالت مثل ذلك، حتى قلن كلهن مثل ذلك، لا والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يضيف هذا الليلة؟)، وذكر القصة].
هذا باب من أبواب كتاب رياض الصالحين، يذكر النووي رحمه الله باب النهي عن البخل والشح، فمن الناس من يكون بخيلاً لا ينفق الواجب عليه، ومنهم من يكون شحيحاً ممسكاً مقتراً يبخل على الغير بل يبخل على نفسه أيضاً.
كل إنسان في نفسه شح، قال الله سبحانه: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] يعني: في نفس كل إنسان قدر من الشح، وكل إنسان مأمور أن يقاوم هذا الشح، ولو لم يوجد في قلب الإنسان الشح لم يؤمر بأن يقاومه، والله عز وجل له الحكمة البالغة، وهو حكيم سبحانه، وإذا أمر العبد بشيء لم يأمره إلا بما فيه مصلحة للعبد ومنفعة له دنيوية وأخروية.
وإذا نهاه عن الشيء لم ينهه إلا عن شيء فيه مضرة عليه في الدنيا وفي الآخرة، ليأمر عباده وينهى عباده: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54].
فخلق الإنسان وهو أعلم بما في نفسه، خلقه فسواه فعدله سبحانه وتعالى، وجعل في قلب الإنسان أشياء تدفع الإنسان إلى الضرر إلا أن يهذبها له ربه تبارك وتعالى، فلم يخلقه ملكاً من الملائكة وإنما خلقه بشراً، والبشر يخطئ ويصيب، {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فالنفس خلقت وفيها قدر من الشح، لذلك أمر بمقاومة هذا الشح، ولو لم يكن موجوداً لما احتاج إلى أن يقاومه.
كذلك ركبت الشهوة في الإنسان، وأمر أن يقاوم الخطأ الذي فيها، ويهذب شهوته، فيأخذ الحلال ويمتنع عن الوقوع في الحرام، فلو أن الإنسان لم تخلق فيه الشهوة أصلاً لما أمر الإنسان أن يتزوج، ولما أمر أن يجتنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولم ينزل الله عز وجل الحدود في الزنا؛ لأن طبيعة الإنسان تأنف ذلك وتبتعد عنه.
ولكن لما أوجد في الإنسان الشهوة لحكمة الله عز وجل أمره أن يقاوم نفسه فيري الله عز وجل ملائكته كيف أن هذا الإنسان الذي خلقه عز وجل وفيه شهوة، ولكن حبه لله عز وجل يجعله يهذب شهوته فيأتي ما أحل الله، ويمتنع عما حرم الله سبحانه تبارك وتعالى.
الشح بخل مع حرص، فهو حريص على أن هذا المال لا يضيع منه، فإذا هو يبخل به عن الغير ويبخل به عن نفسه أيضاً لشدة حرصه.
ثم تأتي الشريعة تهذب هذا الشيء، فهذا المال انتفع به ولينتفع به غيرك، وأنت خليفة على ذلك ومسئول عنه يوم القيامة، فأنفق على نفسك، وابدأ بمن تعول، وأمره بالإنفاق في وجوه الخير، أمره بزكاة ماله، وأمره بالصدقة والإحسان: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
(40/3)
تيسير البخيل للعسرى
ويؤدب الله سبحانه الإنسان ويهذبه بهذه الشريعة العظيمة الكاملة، ينهاه عن البخل وعن الشح في القرآن يقول سبحانه: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:8 - 10].
وقبلها: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
فالله عز وجل ييسر العبد على حسب ما يفعله الإنسان، فالإنسان السخي ينفق ويعطيه الله عز وجل، يعامله بناءً على ذلك، فهو يستحق أن ينفق عليه، والله يعطيه، ولا ينقص مال أبداً من صدقة كما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الإنسان البخيل الذي يمتنع من إعطاء الواجب يشح على نفسه وعلى غيره، فيعامل بذلك، فيستشعر في قلبه الفقر، فمهما آتاه الله عز وجل مالاً يشعر أنه فقير وأنه محتاج.
وإذا أنفق ينفق القليل ولعله لا ينفق أصلاً إلا لنفسه فقط، فربنا تبارك وتعالى يذكر هذا الذي يبخل ويستغني، فيقول: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9]، فبخل بإنفاق المال واستغنى بالدنيا عن الآخرة، فكأنه اكتفى بها، واستغنى بها، {بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:8 - 9].
بالنهاية الحسنة للمؤمنين، وهي جنة رب العالمين سبحانه، {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، هذا لا يستحق طريق التيسير، ولكن يستحق طريق العسر، فسنيسره للآخرة العسرة الضيقة في نار جهنم والعياذ بالله.
{وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:11] إذا هلك هذا الإنسان لم ينفعه ما ادخره من ماله.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] إذا وقاه الله عز وجل شح نفسه، فهو توفيق من الله سبحانه، مثلما قال سيدنا شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، فالله يعطيك هذا المال، وهذا توفيق من الله عز وجل.
الله يوفقك أن تنفق هذا المال فيما يحبه الله، والله يجنبك أن تنفق هذا المال في المعاصي وهذا توفيق من الله سبحانه، ما توفيقك إلا بربك سبحانه وتعالى، قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
الموفق يجتنب شح النفس فيبذل ويعطي لله عز وجل، وهذا من المفلحين.
(40/4)
مفسدة الشح وتسببه في القتل والقطيعة
ذكر المؤلف حديثاً في هذا الباب، واستغنى بما ذكر قبل ذلك في الأبواب السابقة عن إيراد أحاديث كثيرة، قال: عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة).
الإنسان يظلم غيره في الدنيا، ويظلم نفسه {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، فالإنسان الذي يشرك بالله عز وجل ظلم نفسه بأن أشرك بالله سبحانه، فوقع في ظلمات الكفر والشرك بالله.
كذلك ظلم الغير، فقد يرى الإنسان ظلمه لغيره انتصاراً ولا يستشعر أنه في نفسه دمار له في الدنيا وفي الآخرة، يفرح بأنه ظلم الغير وأخذ حقه، فإذا جاء يوم القيامة تعسر في مروره على الصراط، أظلمت الطريق الذي أمامه فإذا به يقع في نار جهنم والعياذ بالله، فظلمه أوبقه يوم القيامة، انظروا إلى الإنسان المؤمن يوم القيامة يؤتيه الله عز وجل نوراً {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8]، هؤلاء المؤمنون أهل التقوى، أما الإنسان الفاجر والإنسان المنافق فقد يؤتى شيء من النور ووقت ما يحتاجه يظلم أمامه فلا يرى شيئاً، فينادون المؤمنين {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد:14]؟ كنا معكم في الدنيا {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14].
ويقولون للذين آمنوا: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، (انظرونا) اصبروا من أجل أن نأخذ قليلاً من نوركم ونسير في ضوء نوركم، قال لهم ربهم سبحانه: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13]، فلما رجعوا إلى الخلف يبتغون نوراً، ضرب بسور بينهم وبين المؤمنين أصحاب النور، {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
فالإنسان في الدنيا يظلم غيره ولا يدري أن هذا الظلم سيكون عليه يوم القيامة ظلمات حقيقية، وإذا به يتوه يوم القيامة ولا يدري أين يذهب، فلا يجد طريقاً إلا إلى النار، يمر المؤمن فوق الصراط بحسب ما أعطاه الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا به يوم القيامة يمر كالبرق، يمر كالريح، يمر كأجاويد الخيل.
وهذا الإنسان الذي ظلم عندما يمر يوم القيامة يأتيه ظلمه فيظلم عليه الموقف أمامه، فإذا به يكبو وإذا به يتعسر، وإذا به تلفحه النار حتى يسقط فيها والعياذ بالله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).
استحلوا الحرام حتى يكتسبوا شيئاً من المال، يغتصب المال ويفعل الفواحش من أجل أن يحصل على المال، فسفكوا دماءهم، واقتتلوا حتى يحوزوا هذا المال، واستحلوا محارمهم وابتغاء هذا المال، فكانت النتيجة النار والعياذ بالله.
(40/5)
مدح الأنصار بالإيثار
يذكر لنا المصنف باباً في الإيثار والمواساة.
والشح أن يؤثر الإنسان نفسه على غيره، فيشح بهذا المال ويبخل به، ولكن الإيثار أن يبسط يده ويعطي غيره، ويرى لغيره فضلاً عليه.
والمواساة أن يواسي غيره ويرحم غيره، ففي قلبه العطف على الإنسان المحتاج، الذي نزلت به نوع من المآسي، فهو يواسيه بماله، ويواسيه بنفسه، ففيه الرحمة وفيه العطف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9] يؤثر المؤمن غيره على نفسه، هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار آثروا المهاجرين على أنفسهم فأعطوهم أموالهم وأشركوهم في تجارتهم، وفي أرضهم، وفي بيوتهم رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
الخصاصة الحاجة، أي: ولو كان بهم جوع وهم محتاجون لهذا الذي بين أيديهم، فيعطي غيره من هذا المال، قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8].
(ويطعمون الطعام على حبه)، يعني ابتغاء حب الله سبحانه، وعلى اشتهائهم لهذا الطعام، فيأتيه مسكين يقول له: أعطني لله، فيعطيه لهذا السائل وهو يحب أن يأكل منه، ولكن فضل غيره وآثره على نفسه؛ لأنه ينتظر الأجر من الله سبحانه، ويعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
(40/6)
شرح حديث: (من يضيف هذا الليلة؟)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود)، يعني أصابتني الحاجة الشديدة، فأنا في جهد ومشقة وتعب، وأنا في حال سيئ من العيش ومن الجوع.
(فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه)، ما كان عند النبي صلى الله عليه وسلم ولا أكلة لهذا الإنسان المجهود! (فقالت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء)، كل بيوت النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إليهن، والجواب من جميع نساء النبي صلى الله عليه وسلم: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا الماء.
وهي لا تحتاج أن تقسم فهي صادقة رضوان الله تبارك وتعالى عليها، ولكن لتؤكد للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يوجد أي شيء، ولو كان عندها تمرة لأخرجتها، ولكن ما عندها إلا الماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يضيف هذا الليلة؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله! فانطلق به إلى رحله).
وهذا الأنصاري ماذا في بيته؟ هل عنده طعام كثير سيطعم منه نفسه وامرأته؟ قال: (فقال الرجل لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ما هو ضيفي أنا، وإنما هو ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فنعطيه أفضل ما عندنا.
(فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني)، الذي عندي هو طعام الصبيان، أنا وأنت ما عندنا طعام، لكن عندنا طعام العيال الذي سيأكلونه بالليل.
(فقال: علليهم بشيء وإذا أرادوا العشاء فنوميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا نأكل)، وكان هذا قبل نزول آيات الحجاب، فأكل الضيف وباتا طاويين، والضيف كان في غاية التعب والمشقة والجوع، والطعام قليل، فأكل الطعام كله وهما لم يأكلا شيئاً رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
(فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم)، وكان الوحي قد سبق إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما صنع هذا الرجل رضي الله عنه.
فقال له صلى الله عليه وسلم: (لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة).
يعني: قد صنعتما شيئاً عجيباً ما أحد يعمل هذا الذي فعلتما، فالله سبحانه وتعالى عجب أن هذا الأمر الذي فعلتموه أمراً عجيباً بين الناس، ولكن الله عز وجل ليس كالخلق حاشا لله سبحانه وتعالى، فأعجبه هذا الصنيع الذي فعلتم فأثابكم عليه الثواب العظيم، فيعجبه هذا الذي صنعتم.
أو كأنه عجب ملائكته مما صنعتم، وعجب سبحانه وتعالى من ذلك، وأعجبه ذلك سبحانه فأثابكما عليه، قال: (لقد عجب الله من صنيعكما)، وهذا الرجل شاركته فيه المرأة، فكان الأجر للرجل وامرأته.
(40/7)
شرح حديث: (طعام الاثنين كافي الثلاثة)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة) متفق عليه.
وروى مسلم من حديث جابر: (طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية)، وهذا حق من كلامه صلوات الله وسلامه عليه.
والمعنى: إذا نزل بالناس الجوع، ونزل بالناس شدة، فالإنسان إذا أكل طعاماً كاملاً سيعيش وتمر عليه الليلة، وإذا أكل في نصف بطنه فقط فأيضاً ستمر عليه الليلة وينتهي الأمر الذي هو فيه، فيعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة ويكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الخمسة ويكفي الثمانية.
فإذا وجد الإنسان من يحتاج فليطعمه من طعامه، وليعطه وينتظر من الله عز وجل الأجر على ذلك، ولا ينتظر الحمد من الناس، ولو انتظر الحمد من الناس تعب، وقد يطعم من يستحق ومن لا يستحق، فالمعاملة ليست مع الناس، وإنما المعاملة مع الله، والذي يتعامل مع الله سبحانه يستريح أعظم الراحة، فلا ينتظر من الناس جزاء ولا شكوراً، ولا ينظر إلى ما أخذه هذا الإنسان منه، فهو في شأن حاله يقول كما قال السلف الصالح رضوان الله عليهم: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9].
(40/8)
شرح حديث: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف يميناً وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل).
سمي السفر سفراً من الإسفار كأنه يسفر عن الشيء ويكشف عنه، ولأن الإنسان يستكشف به أرضاً جديدة لم يكن يعرفها، ويستكشف أخلاقاً في الرفقة التي معه لم يكن يعرفها، فيرى أخلاقاً عظيمة عالية ما كان يعلمها قبل ذلك، وقد يكون خلاف ذلك.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في سفر، وجاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بصره يميناً وشمالاً، فهو محتاج، ولم يدر من يسأل، وهو راكب على جمل وقد يحتاج لطعام، ولا نقول له: انحر الجمل وكله في السفر، فكيف سيكمل سفره، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام العظيم الجميل: (من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له)، يعني: لو أن إنساناً معه راحلتان فليعط راحلة لمن يحتاج إلى راحلة، فكيف يمشي ومعه ما يجعله يركب عليه.
(فليعد به على من لا ظهر له)، وهم في سفر، والمسافر قد يكون غنياً في بلده، عنده رواحل وعنده جمال في بلده، لكن الآن ليس عنده راحلة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن كان له فضل من زاد، من طعام وشراب ونحوه فليعد به على من لا زاد له)، وذكر أصنافاً من المال.
قال الراوي وهو أبو سعيد الخدري: حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضلة، يعني لا حق لأحد منا في زيادة، فالذي معه زيادة وأخوه محتاج في السفر فليعط هذا المحتاج، ولا يبخل عليه، فإن الله يعطي الأجر العظيم، وكلما ضاق الشيء فأعطيت صديقاً كان الأجر أوسع وأعظم من الله سبحانه.
(40/9)
شرح حديث: (أعطت امرأة رسول الله بردة فسأله رجل إياها فأعطاه البردة وهو محتاج إليها)
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه (أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة، فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها).
بردة أتت بها المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قد نسجتها له ليلبسها وهو محتاج إليها، لأن الإزار الذي كان يلبسه صلى الله عليه وسلم مرقعاً، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم للباس وليس عنده ما يشتري به، فأتته المرأة بهذه الهدية، فلبسها وخرج إليهم.
قال سهل: (فخرج إلينا وإنها لإزاره، فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! فقال: نعم)، خلق عظيم رفيع من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فانظر إلى طيب قلبه صلى الله عليه وسلم، يكسي المحتاج وهو محتاج إليها، وعنده البردة الأخرى المرقعة فيلبسها مرة ثانية، والنبي صلى الله عليه وسلم طيب القلب رحيم، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو لا يشتهي شيئاً من الدنيا، فقام من مجلسه صلى الله عليه وسلم بعدما انتهى المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه.
فالقوم غضبوا فقالوا: (ما أحسنت! لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً! فقال الرجل: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، فقال سهل: فكانت كفنه رضي الله تبارك وتعالى عنه).
وقد كانوا يحبون أن يتبركوا بأثر النبي صلى الله عليه وسلم ولباسه الذي كان على جسده، فلو أحسن لطلب الأخرى المرقعة التي كان يلبسها النبي صلى الله عليه وسلم ويجعلها كفنه، ولكن على كل فهذا صنيعه وهذا كرم النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الصحابي.
(40/10)
شرح حديث: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم).
هؤلاء هم قبيلة أبي موسى الأشعري رضي الله تبارك وتعالى عنه، مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بل إنه جعلهم منه صلى الله عليه وسلم.
فما هي هذه الخصلة الجميلة التي جعلتهم ينسبون للنبي صلى الله عليه وسلم؟ هذه الصفة العظيمة الجميلة أنهم كانوا إذا أرملوا أي: احتاجوا وقل طعامهم أو كاد ينفد زادهم، يجمعون طعام الجميع في إناء واحد، ثم يقسمونه بين الجميع بالسوية، ولعل بعضهم عنده الكثير، وبعضهم عنده اليسير، فيقولون: كلنا محتاجون، ولا أحد أولى من الآخر بالمال! فالنبي صلى الله عليه وسلم يمدحهم على صفتهم هذه، فقال: (هم مني وأنا منهم).
يعني: هم من أهل الإيثار ومن أهل الكرم، وقد جبل على ذلك صلوات الله وسلامه عليه، فهم من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهم، وهذا الشيء يسميه الفقهاء شركة التناهد، وهو من شركات الطعام، وهو اجتماع المجموعة على الطعام، أنا آتي بطعام وأنت تأتي بطعام، ثم نقسمه بيننا ونأكل كلنا منه، ولا أحد أولى بالطعام من الآخر.
وإذا صفت النفوس فهذا طعام فيه بركة، لكن إذا لم تصف النفوس فلا داعي أن تأكل من هذا الطعام، وبعضهم نفسه لا ترضى أن تأكل من طعامه، فكل من طعامك أنت، ولكن هؤلاء ما كان في نفوسهم هذا الشيء أبداً، بل نفوسهم فيها الإيثار، وليس فيها الشح، فيجمعون طعام الجميع ويقسمونه فيما بينهم، سواء كانوا في المدينة أو كانوا مسافرين.
ففي الحضر يمكن للإنسان أن يفعل ذلك، لكنه صعب في السفر، فالأخلاق الحسنة تظهر في سفر الإنسان، ويظهر هل هو إنسان شحيح فيظهر منه الوجه القبيح أم هو إنسان منفق فيظهر منه الوجه الحسن، فالسفر يظهر ويكشف أخلاق الناس.
(40/11)
التنافس في أمور الآخرة
(40/12)
تنافس المؤمنين على الآخرة
قال المصنف رحمه الله: [باب التنافس في أمور الآخرة، والاستكثار مما يتبرك به قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]].
والآن يتنافس الناس في الدنيا، وإن حصل الدنيا كلها فسيموت ويتركها، أو أنها تسلب منه يوماً من الأيام، لكن التنافس في الآخرة لا يضيع أجره أبداً، فالآخرة هي الباقية عند رب العالمين سبحانه وتعالى، فيتنافس المؤمن مع إخوانه في أمر الآخرة، وكل يجتهد أن يحصل الثواب الأكثر.
يقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ} [المطففين:26].
أي في عمل الآخرة {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
(40/13)
ابن عباس لم يقبل أن يؤثر بنصيبه من رسول الله
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ.
الغلام هو ابن عباس رضي الله تبارك وتعالى عنه، وكان عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وجيء للنبي صلى الله عليه وسلم بشراب، وعن شماله الأشياخ كـ أبي بكر وعمر وغيرهما.
فلما شرب كانت عادته أن يشرب ويعطي اليمين، ولكن الكبار كانوا عن شماله صلى الله عليه وسلم، والسنة أن يستأذن الصغير ليعطي الشراب للكبير، فلأن الصغير أحق فيستأذن في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم استأذن ابن عباس في أن يعطي الأشياخ قبله.
فرفض ابن عباس وكان فقيهاً، فهو يريد أن يشرب مما شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يؤثر به أحداً، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحداً، فدله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده) يعني: وضعه في يده رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وهذا ابن عباس هو الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه الله سبحانه تبارك وتعالى التأويل، وأن يفقهه في الدين، فاستجاب الله تبارك وتعالى دعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه له.
(40/14)
نبي الله أيوب يأخذ من بركة الله تعالى
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أيوب عليه السلام يغتسل عرياناً فخر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يحثي في ثوبه فناداه ربه عز وجل: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟!).
أيوب عليه الصلاة والسلام أعطاه الله عز وجل مالاً كثيراً، وقد كان من أنبياء الله ذوي الغناء واليسار، ثم ابتلاه الله عز وجل فأخذ منه ماله وعياله، وإذا به يصبر الصبر العظيم الذي يضرب به المثل: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ثم إذا بالله يعطيه مالاً عظيماً وفيراً، وكان عنده بيدران أحدهما للقمح والآخر للشعير، فإذا بالله يمطر عليه في أحدهما ذهباً وفي الآخر فضة، فامتلأ البيدران بالذهب وبالفضة، ورد الله عليه من ماله وعياله ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وبينما هو يغتسل خر عليه جراد من ذهب، فإذا به يحثو منه في ثوبه، وكان عنده بيدران من ذهب ومن فضة، فلماذا يأخذ هذا الذهب؟ فإذا بالله عز وجل يختبره ويسأله فقال له: يا أيوب! ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ فقال: بلى وعزتك، ولكن لا غنى لي عن بركتك! أي فشيء نزل من عندك فيه بركة، فلا أرده أبداً، فكان الرد جميلاً منه صلى الله عليه وسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل المطر من السماء يخرج تحت المطر ويحسر عن رأسه حتى يصيبه ماء المطر، مع أن الماء موجود في البيت، ويستطيع أن يغتسل منه، لكن المطر قريب العهد بالرب سبحانه، فيرجو بركته صلوات الله وسلامه عليه.
كذلك أيوب، فهذا ذهب نازل من عند الله سبحانه، فهو يرجو البركة من ذلك، وليس لكونه ذهباً، ولكن لأنه شيء ينزل من عند رب العالمين، وهي هدية من السماء لعباده، فيستقبلها أيوب ويطلب البركة من ذلك، وهذا هو الذي بوب عليه الإمام النووي بقوله: التنافس في أمور الآخرة والاستكثار مما يتبرك به.
نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(40/15)
شرح رياض الصالحين - فضل الغني الشاكر
ربما يخلق الله الإنسان فقيراً فيصبر على فقره وما أصيب به، وفي المقابل يوجد الغني فيشكر ربه بلسانه وبأفعاله، فيشكر الله له فعله وييسره لليسرى في كل شيء، ويزيده غنى على غناه.
(41/1)
المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الغني الشاكر، وهو من أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها: قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:17 - 21].
وقال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].
وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران:92].
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)].
باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله فضل الغني الشاكر، ويفسر الغني الشاكر بمن أخذ المال من وجهه وصرفه في وجوهه المأمور بها؛ فمن يرزقه الله عز وجل مالاً فيشكر نعمة الله عز وجل عليه، ويؤدي الحقوق كما أمر الله عز وجل بها، فهذا له أجر عظيم عند الله سبحانه.
والعلماء ينظرون في الترجيح بين اثنين: الفقير الصابر والغني الشاكر، فقير لم يعطه ربنا تبارك وتعالى شيئاً من المال وإن كانت نعم الله عز وجل على خلقه عظيمة، فالمال ليس النعمة الوحيدة، ولكن هذا منعه الله عز وجل من المال فصبر وحمد الله تعالى على نعمه، فأيهما أفضل: أن يكون فقيراً صابراً، أم أن يكون غنياً شاكراً لرب العالمين؟ لا شك أن الأنفع للناس هو الغني الشاكر، والأنفع لنفسه يوم القيامة الفقير الصابر، ولكن الإنسان لا يملك أن يقول: يا رب اجعلني فقيراً، بل الإنسان يسأل الله عز وجل أنه يرزقه من فضله، ويتعوذ بالله من الفقر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ.
وما فعل الله عز وجل بعبده فكله خير، إذا أغناه شكر، وإذا أفقره صبر، فالفقير يقدم يوم القيامة على الغني، فعندما يؤتى بالفقراء المهاجرين للسؤال يقولون: وعماذا تسألنا؟ لم تعطنا مالاً فتسألنا عليه، فيؤمر بهم إلى الجنة ويسبقون الأغنياء بنصف يوم، أي: بخمسمائة عام، والأغنياء وإن كانوا شاكرين حامدين لكن
السؤال
من أين اكتسبت؟ وفيم أنفقت؟ ثم النجاة بعد ذلك.
فالفقير يوم القيامة لا سؤال له ولا شيء عليه ويسبق إلى جنة رب العالمين سبحانه، وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنعم الله عز وجل على عبد نعمة فحمد الله عز وجل عليها إلا كان حمده عليها أحب إلى الله منها).
نعمة طعام أو شراب أو مال يعطيها الله عز وجل للعبد، فإذاً: العبد يأكل ويحمد الله سبحانه، ولاحظ أن نعمة المال والطعام من الله، ونعمة الحمد والشكر من الله فهو الذي وفقك لها، ولكن أي النعمتين أحب إلى الله سبحانه؟ أن ألهم العبد أن يحمده كان هذا أحب إلى الله عز وجل من إعطاء العبد مالاً.
(41/2)
تيسير الغني الشاكر لليسرى في الدنيا والآخرة
يذكر المصنف هنا قول الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:5 - 7].
اليسرى: هو التيسير من الله سبحانه في الدنيا بأعمال الخير، وفي الآخرة على الصراط المستقيم إلى جنة رب العالمين سبحانه، والشرط الذي فيه هو: التصديق رجاء الثواب، والإعطاء، والتقوى لله سبحانه وتعالى، وقد جمعها الله عز وجل في قوله: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى)) هذه واحدة، ((وَاتَّقَى)) هذه الثانية، ((وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى)) هذه الثالثة.
شرط قبول العمل والأجر العظيم: الإيمان، فالإنسان المؤمن يجد هذه الأعمال يوم القيامة وافية عند الله سبحانه، أما الكافر فيجازى في الدنيا ويمنع ذلك يوم القيامة.
المؤمن أعطى لله سبحانه مع التقوى، فهو ليس فاجراً يعطي المال رياء وسمعة، ولكنه يعطيه ليتقي النار يوم القيامة، فهو أعطى ابتغاء مرضاة الله، خائفاً من عذاب الله سبحانه، وكما أنه أعطى واتقى فهو مصدق مؤمن بالجزاء يوم القيامة وليس مكذباً، أو كافراً، أو مشركاً، إنما هو مصدق بجنة رب العالمين، وأن الذي يعطي فإن الله يكافئه ويعطيه، هذا الذي يستحق التيسير.
قال سبحانه: ((وَسَيُجَنَّبُهَا))، أي: يجنب العقوبة ويجنب النار الكبرى ((الأَتْقَى)) والأتقى من التقي، وسبب تجنيب هذا الإنسان التقي أنه {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18]، فهو ينظر في المال ويخرج منه الزكاة.
إذا أخرج زكاة المال طيبة بها نفسه طهر الله المال والنفس مما فيها من معاص وذنوب.
{يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18]، أي: يعطي ماله يتزكى بذلك.
{وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19]، الذي يعطي المال ربما يعطيه هدية في مقابل شيء ما وينتظر مقابل هديته شيئاً آخر، أما هذا فقد تعلم ما علمه الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، يعني: لا تعط مالاً فتمن على من أعطيت مستكثراً لهذا الذي آتيته، أعط ولا تستكثر المال، فليس المال مالك إنما المال مال الله تبارك وتعالى.
ومن معانيها أيضاً: لا تعط مستكثراً من عطاء الناس، عادة الإنسان أن تعطيه هدية فيردها لك بهدية مثلها، وقد يعطي الفقير للغني مالاً ابتغاء أن يعطيه الغني أكثر.
{وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6] أي: لا تعط هدية تطلب عليها المثوبة، أو تطلب من الناس أن يعطوك أكثر منها، وحاش للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هذا خلقه، فما كان يعطي هدية إلا ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، فقال له ربه مؤدباً: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6].
وهنا قال سبحانه في هذا الإنسان الأتقى الذي يعطي ماله يتزكى، {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:19].
وفي الحديث: (أن رجلاً خرج مسافراً لزيارة أخ له في الله، فأرصد الله عز وجل له على مدرجته في طريق السفر ملكاً في صورة إنسان فسأله: إلى أين تذهب؟ قال: لأخي فلان أزوره في الله، قال: لحاجة لك عنده؟ قال: لا.
قال: لنعمة تردها عليه؟ قال: لا، ولكني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله يحبك كما أحببته).
وجاء في الحديث: (ليس الواصل بالمكافئ)، الذي نصفه ونقول: هذا يصل رحمه ليس هو المكافئ، ولكن الذي إذا انقطعت رحمه وصلها.
إذاً: المكافئ هو من يرد على الزيارة بأخرى، هذا ليس بالواصل، إنما الواصل الحقيقي الذي يزور من لم يزره، فهنا يقول الله: {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل:18 - 19]، فليس يعطي لأنهم أعطوه قبل ذلك، ولكنه يعطي ابتغاء وجه ربه سبحانه، قال: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21].
وهذا الذي يعطي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) فجعله الله عز وجل عالياً؛ لأنه ابتغى وجه الله الأعلى سبحانه وتعالى.
قال: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] أي: سوف يثيبه الله سبحانه وتعالى ويعطيه حتى يرضى.
(41/3)
فضل الصدقة
قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].
(41/4)
فضل صدقة السر
(إن تبدوا الصدقات) أي: أن تعط الصدقة أمام الناس طالما أنها حسنة فلك الأجر على ذلك، ويجوز إعطاء الصدقة أمام الناس مع حسن النية، ولكن حسن النية هذه ستضبطه، كيف؟ لعل الإنسان في مرة يكون حسن النية ومرة يكون سيئ النية، مرة يبتغي وجه الله ومرة يبتغي رضا الناس، فهنا الإعطاء أمام الناس الأفضل منه الإعطاء في السر، فقال هنا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] نعمت الصدقة هذه، ولكن {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271].
إذا أخفيتها وذهبت لهذا الفقير في السر فأعطيته هذا المال يكون لك ما في الحديث: (صدقة السر تطفئ غضب الرب)، الله عز وجل قد يغضب على العبد، لكن إذا تصدق هذا العبد في السر فالله عز وجل يكف عنه غضبه، ومقتضى غضب الله عز وجل عقابه، فقال هنا سبحانه: {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]، وخير هنا أفعل تفضيل، يعني: هو أخير لكم وأفضل.
{وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] ليس خيراً فقط بل أيضاً تكفير للسيئات، فكأنه عطف على شيء محذوف، يعني: هذا خير لكم، وسيعطيكم الله عز وجل من فضله، وأيضاً يكفر عنكم من سيئاتكم، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة:271].
(41/5)
فضل الإنفاق من المال المحبوب
قال سبحانه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
البر يشمل كافة وجوه الخير، ولكي تكون من أصحاب البر ووجوه الخير أنفق مما تحب، قد ينفق العبد الشيء الذي لا يحب، وقد يؤجر عليه، ولكن أن ينفق من أنفس وأفضل ماله وأحب ماله إليه فهذا هو البر، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، عندما يريد الإنسان أن ينفق لله عز وجل فإنه يخرج أفضل وأجود ما عنده ويعطيه للفقير، وعندما يعطي طعاماً لفقير يعطيه أفضل وأطيب الطعام، وعندما يريد أن يشتري أضحية يذهب إلى السوق وينظر إلى السمينة الجميلة التي فيها الشروط التي تعتبر في الأضحية ويأتي بأفضل ما يكون.
إذاً: عندما يعطي ما يحبه ينال درجة البر، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
ثم قال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ} [آل عمران:92] يعني: وإن قل هذا الشيء، قد ينفق الإنسان مما يحب وقد ينفق الشيء الأقل فالله يقول لك: لن يضيع أجر هذا ولا هذا، وسيعطيكم من الجميع إلا أن تتعمد الشيء الرديء الذي لا تقبله فتنفقه فهذا لا ينفع، ولكن تنفق مما تحب وتنفق الشيء الذي ينتفع به الفقير.
(41/6)
فضل تمني التصدق
من الأحاديث ما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود -ومثله عن ابن عمر - قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق).
والحسد هنا بمعنى الغبطة، وهي: أن تحب أن تكون مثله، وأن يكون عندك مثل ما عند هذا الإنسان.
يجوز لك أن تتمنى المثل عندما ترى ما أعطى الله لفلان من مال ينفق منه في الخير، وتقول: ليت الله يعطني مالاً فأنفق منه كما ينفق فلان، (رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته -على إنفاقه- في الحق، ورجل آتاه الله حكمة) علمه القرآن، علمه السنة، آتاه حكمة الفصل في القضايا (فهو يقضي بها ويعلمها)، تغبط مثل هذا الإنسان وتتمنى أن تكون مثله.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن -بين لنا الحكمة التي في الحديث السابق- فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار) وفي الحديث السابق: (يقضي به ويعلم الناس).
ثم قال: (ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار)، فينفق من ماله لله سبحانه تبارك وتعالى، أنفق في الليل وأنفق في النهار، عندما تغبط مثل هذا فإن لك مثله من الأجر العظيم عند الله سبحانه.
(41/7)
تنافس الفقراء والأغنياء
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى، والنعيم المقيم).
انظروا هنا كيف كان الصحابة يتنافسون في أفعال الخير، وعندما يرى غيره يفعل خيراً أكثر منه وهو لا يستطيع أن يدركه يحزن لأنه سيسبقه إلى الجنة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
فذهب فقراء المهاجرين للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ذهب أهل الدثور، وهي: الأموال الكثيرة، والدثور جمع دثر، والدثار الثياب الخارجية، والشعار الثياب التي تلي البدن، والثياب الخارجية دائماً نظيفة وغالية وشكلها فخم، فكأن هؤلاء أصحاب الدثور الذين لهم أموال كثيرة يظهرون بها ويظهر غناهم بهذه الأموال.
(فذهب أهل الدثور بالدرجات العلى)، كأن النظرة إلى أن الدرجات وزعت عليهم وضاعت منا.
(فذهبوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم والمقيم، قال: وما ذاك؟ فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق)، لأنهم أصحاب أموال.
فلما قالوا ذلك، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم)، يعني: أعلمكم شيئاً ينفعكم، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم، فعلمهم شيئاً يسبقون به من لا يفعل مثله، (ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: تسبحون، وتحمدون، وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة، فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم).
المرة الأولى جاءوا يشتكون فأعطاهم الشيء الذي ينفع، ثم رجعوا إليه بشكوى جديدة، فقالوا: (سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله).
هم كانوا يطمعون فيما عند الله، لكن لا تمنع رحمة الله على غيرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، هم سمعوا وعملوا مثل ذلك {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54]، وأنت لكي تبلغ درجة هذا الإنسان تحب هذا الإنسان، وإذا أحببته فقد ورد: (المتحابون على منابر من نور).
إذاً: أي إنسان فقير، أو غير قادر أن يعمل كعمل هؤلاء يحب هؤلاء، فيحشر معهم يوم القيامة، ولذلك كانت التجارة العظيمة هي الحب في الله، أن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحب المهاجرين والأنصار والسابقين فتحشر معهم يوم القيامة، أما أن تريد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصك بشي فهذا ليس بيده صلى الله عليه وسلم، ولم يؤمر أن يبلغ البعض دون البعض فتسبح أنت دون غيرك فلا، ولكن علم الجميع صلوات الله وسلامه عليه، فمن فعل ذلك كان له الأجر العظيم.
إذاً: لا تهمل وتضيع هذا الأمر العظيم عقب كل الصلاة، فتقرأ آية الكرسي، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت).
وإن ذكر لنا في الحديث أن هذه الخصال العظيمة قليل من يعمل بها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم: كيف تكون هذه الخصال خصالاً عظيمة؟ وكيف يكون فيها الأجر العظيم وقليل من يعمل بها؟ فقال: (يأتي الشيطان أحدكم فيلهيه عن ذلك فلا يقول بهذا الذكر).
فالشيطان يلهي الإنسان ويشغله بسؤال أو بكلمة حتى ينسيك الأذكار، ويضيع عليك هذا الأجر العظيم عليك بالذكر عقب الصلاة، وتقرأ آية الكرسي، وتقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1]، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وتسبح الله عز وجل ثلاثاً وثلاثين، وتحمده ثلاثاً وثلاثين، وتكبره ثلاثاً وثلاثين، وتختم بـ: لا إله إلا الله، فيكون لك أجر عظيم عند الله عز وجل، لا تدع الحديث الذي فيه لهو يشغلك عن ذلك فيضيع عليك هذا الأجر العظيم.
فأهل الدثور لما تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عملوا به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فضل الله يؤتيه من يشاء، ويوفق له من يشاء).
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(41/8)
شرح رياض الصالحين - ذكر الموت وقصر الأمل
لقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مذكرة بالموت، وما يحصل بعده من نعيم لأهل الطاعة، وعذاب لأهل المعصية، وكذلك مذكرة بقصر الأمل، وعدم الغفلة عن الموت وما يتبعه، فالذي ينبغي للمرء أن يتذكر الموت الذي يدفعه إلى الطاعات واجتناب السيئات، وعدم الركون إلى الدنيا.
(42/1)
ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل].
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
وقال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك) رواه البخاري.
وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه، وهذا لفظ البخاري.
وفي رواية لـ مسلم: (يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر رضي الله عنهما: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي)].
(42/2)
أهمية ذكر الموت وقصر الأمل
لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.
يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].
وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.
فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.
والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.
فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.
جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.
كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.
(42/3)
ذكر بعض ما جاء من ذكر الموت في القرآن
لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.
يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].
وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.
فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.
والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.
فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.
جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.
كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.
(42/4)
معنى قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة)
قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:185].
فقوله: (كل نفس) لم يخص نفساً دون نفس، أي: كل نفس منفوسة وكل حي مولود لابد وأن يموت.
قوله: (وإنما توفون أجوركم) أي: الجزاء الأوفى، فما تقدم أيها الإنسان من خير تجده عند الله عز وجل خيراً وأعظم أجراً مما كنت تتخيل وتتوقع، حتى إن الإنسان ليأتي يوم القيامة فيجد له جبالاً من حسنات، ويسأل ربه الكريم سبحانه وتعالى: لم أعمل هذه الحسنة؟ فيكون
الجواب
أن هذا دعاء ادخرناه لك لهذا اليوم، أي: لم يستجب لك في الدنيا وإنما أخرناه ليوم القيامة، فالله يوفي عباده الأجر الوافي يوم القيامة، {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} [آل عمران:185]، قوله: (زحزح) يعني: كأن الأصل الولوج على النار والعياذ بالله.
قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ} [مريم:71] {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، أي: وما منكم إلا واردها ووالج فيها، {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71].
فقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185]، هذا الذي يزحزح عن النار حين تشتد فهو يزحزح عنها حتى ينجو منها، فهو فائز، فما بالك بمن سبق غلى جنة الخلد كيف يكون فوزه!! وجاء في الحديث، حين يمر الإنسان على الصراط والنبي صلى الله عليه وسلم واقف فيقول: (يا رب سلم سلم، يا رب سلم سلم)، وكل إنسان يقول: نفسي نفسي، ويمر الإنسان فوق الصراط، وهو مضروب على ظهر جهنم وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وهو دحض مزلة، وحوله كلاليب تخطف الذي يسير عليه، والمؤمن يجعل الله عز وجل مروره بفضله وبكرمه سبحانه كمرور البرق، كلمح طرف الإنسان عندما ينظر، وأقل منه من يكون في سرعة الريح حين يمر على الصراط، وأقل منه من يمر كأجاويد الخيل، أي: كالخيل السريع، فهو يجري على الصراط المضروب على متن جهنم، وهذا الذي كأجاويد الخيل يا ترى هل سيضعف أم يجري هذا الجري السريع؟! يا ترى هل يكون الجري في وقت طويل جداً على ظهر جهنم، أم في وقت قصير؟! ومنهم من يمشي على الصراط، ومنهم من يحبو على الصراط، ومنهم من يمشي مرة ويكبو مرة وتلفحه النار أخرى، وتخطفه الكلابيب التي عن يمينه وعن شماله مرة حتى ينجو، فإذا نجا من فوق الصراط قال: الحمد لله الذي نجاني، لقد أعطاني الله ما لم يعط أحداً من العالمين، ما رأى غيره، ما رأى إلا نفسه وهو على الصراط، ويظن أن ربنا أعطاه ما لم يعط أحداً من العالمين.
فهذا الذي يمر على الصراط، كيف إذا سقط وهوى في نار جهنم والعياذ بالله؟! نسأل الله العفو والعافية.
قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] أي: الفوز العظيم {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: هذه الدنيا التي نعيش فيها ما هي إلا متعة يسيرة يستمتع بها الإنسان كما يستمتع المغرور بغروره، مثل: إنسان يلعب كمال أجسام حتى يبقى الجسم ضخماً جداً ويفرح به، وتراه يمشي منفوخاً في الناس، وفجأة جاء الله بمرض أضعفه أو جاءته شيخوخة وقعد في فراشه، فهذا كم استمتع بقوته؟ شيئاً يسيراً جداً.
والأخرى استمتعت بجمالها، كانت جميلة ومتبرجة وتمشي في الناس تفتنهم، وفجأة دب على شعرها الشيب وجاء على وجهها الخطوط، وهذه كم استمتعت بجمالها؟ عصت الله سبحانه وتعالى فترات وفي النهاية قالت: يا ليتني ما عملت هذا الشيء، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] أي: متعة يسيرة قليلة زائلة بعد ذلك.
(42/5)
معنى قوله تعالى: (وما تدري نفس ماذا تكسب غداً)
قال الله سبحانه: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، هذا كلام عظيم لمن يتأمل ويتدبر فيه، فهو عظة، أنت لا تدري ماذا ستكسب في غدك، من حسنات؟ وماذا تكتسب من سيئات؟ لا تدري ولكن الله يدري، ويعلم سبحانه وتعالى.
يصبح الإنسان يفكر ويقول: سأعمل وأعمل وأعمل، ولا يقدر أن يعمل شيئاً مما نوى أن يفعله إلا أن يعينه الله، وقد لا يوفقه.
قوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] أي: هذا الإنسان لا يدري متى يموت وفي أي مكان يموت؛ لأن المرء قد يبني له مقبرة وفي النهاية يسافر فيموت ويدفن في مكان آخر، وتذكرون المليونير اللبناني الذي عمل لنفسه مقبرة، وكان يريد أن يستهزئ من الموت، فهو لما عمل مقبرة قال لأهله: إذا أنا مت فاعملوا لي حفلة كل سنة في يوم موتي، وذلك بأن تأتوا وتغنوا وترقصوا عند المقبرة، ويشاء الله سبحانه وتعالى أن هذا الإنسان يركب طائرة، وهذه الطائرة تسقط في البحر فيغرق كل من فيها ويخرجون من البحر إلا هو لم يخرج من البحر، وإنما ضاع في البحر، {ومَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، يعني: لست أنت الذي تحدد أين تموت، ولكن الله عز وجل هو الذي يحدد مكان الموت، وأين يموت الإنسان.
وهذه قصة عجيبة جداً، تحت عنوان: (لعنة الله على هذه المومياء)، يقول صاحب القصة يحكي عن نفسه: إنه كان رجلاً فقيراً وكانت هناك امرأة غنية عجوزة، فأحب أن يتزوج هذه المرأة من أجل أن يرثها، بعد أن تموت، فاستمر مع هذه المرأة فترة طويلة ولم تمت، وكانت بخيلة شحيحة، وهو منتظر على هذه المرأة أن تموت فيرثها، لكنه لم يصبر فطلقها ثلاث تطليقات، فبعدما طلقها الثلاث تطليقات بدأ الشيطان يوسوس له أن يرجع لها مرة ثانية؛ لأنها كانت مريضة، فأحب أن يرجع إليها وهي مريضة من أجل أن تموت فيرثها، فإذا به يبحث عن حل للرجوع؛ لأنه لا يمكن الرجوع إليها إلا بعد أن تتزوج من غيره، فأتى بمحلل فتزوجها عند المأذون وبات معها ليلة حتى الصباح فماتت، فمشى الناس في الجنازة وصاحبنا قام يصوت ويلطم خده على المال الذي ضاع منه وورثه هذا الذي تزوجها.
انظروا الإنسان يريد أن يكسب في هذه الدنيا أشياء، فتراه يدبر ويخطط وفجأة ذهب الشيء منه لغيره، لو أنه رضي بما قسم الله عز وجل له لكان خيراً له، ما الذي جعله يبحث عن الحرام ليأخذ الحرام مع أنه لن يستمتع بهذا الحرام أبداً؟ قال الله سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] يعني: إذا جاء الأجل لا يستأخرون ساعة، ولا دقيقة ولا ثانية {وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] يعني: لن يخطئ الملك ويأتيه قبل الموت بساعة ويقول له: سأقبض روحك الآن، ولكن على وقته يقبض الإنسان.
(42/6)
معنى قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم)
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون:9].
تجد المرء إذا قيل له: صل، يقول: عندي شغل، وعندي أولاد، فيترك الصلاة والصوم والعبادة من أجل أولاده ومن أجل زوجته، فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] أي: احذر، فأنت لا تدري ماذا يخبئ لك القدر.
عليك أن ترضي ربك سبحانه حتى يرضي عنك الجميع؛ لأنك إذا أسخطت الله سخط عليك وأسخط عليك الجميع.
قال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:9 - 10].
فقوله: {رَبِّ لَوْلا} [المنافقون:10] أي: هلا أخرتني قليلاً حتى أعبدك وأتصدق وأكن من الصالحين.
قال تعالى: {َلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] أي: جاء الأجل انتهى كل شيء، ثم قال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].
(42/7)
معنى قوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت وأنكم إلينا لا ترجعون)
قال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99].
أي: أن كل إنسان عندما يأتيه الموت يتمنى أن يرجع، يقول الكفرة والفجرة: ((رَبِّ ارْجِعُونِ)) أي: أرجعنا إلى الدنيا، يقولون ذلك بعدما ذاقوا النار والعياذ بالله، وبعدما نظروا هول الموت وهول المطلع، وبعدما رأوا ما في القبور من سؤال وغير ذلك، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار.
فأصحاب النيران يقولون: ((رَبِّ ارْجِعُونِ)) فيقول الله لهم: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون:100] أي: وعد من الله قد قاله الله، ولا رجوع مرة ثانية.
وقال سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] أي: إذا نفخ في الصور يوم القيامة النفخة الأولى فالكل يموتون، فينتهي أمر الدنيا، ثم تكون النفخة الثانية فيبعثون من القبور للحساب، ويخرجون مدهوشين، ويجمعون إلى المحشر بين يدي الله سبحانه في يوم عظيم مهيب مخيف، كل إنسان يقول: نفسي نفسي.
يسألهم الله سبحانه وتعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:112 - 113] أي: اسأل الذين كانوا يعدون، وهم يظنون يوماً أو جزءاً من اليوم، لكن في الحقيقة يوم القيامة قدره خمسون ألف سنة.
قال سبحانه: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103].
أي: المؤمنون الناجون ثقلت موازينهم فربنا سبحانه جعلهم من المفلحين، أما الذين كانوا في الدنيا في بعد عن الله وفي غفلة عن دينه فخفت موازينهم، يأتي الرجل السمين الضخم من هؤلاء فلا يزن عند الله جناح بعوضه، ليس له قيمة يوم القيامة، فأولئك الذين خسروا أعظم الخسران، فأعظم خسران أن الإنسان يخسر نفسه التي يدافع عنها في الدنيا بماله وبكل شيء، هذه النفس خسرها وشهدت عليه يوم القيامة، قال سبحانه في حال هؤلاء: {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:103 - 104] أي: يدخلون النار، فتأتي على وجوههم، وأشرف ما في الإنسان وجهه.
قوله: ((تَلْفَحُ)) أي: تحرق، ((وُجُوهَهُمُ النَّارُ)).
((وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ)) أي: مشوهون والعياذ بالله، مناظرهم كمنظر الإنسان المحترق في الدنيا، قد احترق جلده وانكمش من جانب وطال من جانب آخر، تغيرت هيئة وجوههم التي كانت أشرف ما فيهم في الدنيا.
قال تعالى مبكتاً لهم: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:105] أي: أتتكم الآيات وقرأها عليكم رسولكم صلوات الله وسلامه عليه فكذبتم بها.
ويقول في الآية الأخرى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون:115]، أي: أحسبتم أننا نلعب، {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [طه:114 - 115].
قال سبحانه تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد:16] أي: ألم يحن ولم يجيء الوقت، {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] أي: أهل الكتاب طالت عليهم الدنيا، فإذا بالأمد لما طال زاد الأمل في رءوسهم، وزاد حب الدنيا في قلوبهم فنسوا الآخرة، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
(42/8)
ما جاء من قصر الأمل في السنة
لا بد أن يكون الموت على بال الإنسان، والموت أمر حقيقي يقيني، وكل إنسان يعلم أن كل نفسٍ ذائقة الموت، ولكن هذا العلم وحده لا يكفي ليحرك في الإنسان الخوف من الله عز وجل، حتى يستيقن أنه إذا مات يبعث يوم القيامة، وأن الله يسأله عما فعله في هذه الدنيا، وعما آتاه الله عز وجل وأنزل على رسوله صلوات الله وسلامه عليه من كتاب، وأمرَ بمعروف ونهى عن المنكر، وما الذي صنع الإنسان في هذه الدنيا، وعمر الإنسان قصير جداً، وقد يشعر الإنسان أنه عاش وقتاً طويلاً.
يقول الشاعر: ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم فـ زهير يقول: إنه تعمر ثمانين سنة، فيرى هذه الثمانين سنة التي عاشها طويلة، ولكن هذه الفترة التي يستكثرها الإنسان يحس أنها طويلة يوم القيامة؛ لأن اليوم عند الله عز وجل كما قال: {َإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يعني: أن عمر الإنسان في الدنيا كان قصيراً جداً، لا يبلغ عشر يوم من أيام يوم القيامة أو أقل من ذلك، ولذلك في يوم القيامة عندما يسأل الناس: {كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف:19].
وهذا العمر الذي قضاه الإنسان نصفه في النوم والباقي بين عمل وبين طعام وشراب، وجزء منه يعبد الله سبحانه وتعالى، يستشعر أنه عمر يجري يوماً وراء يوم، وفي النهاية عند الموت يفيق الإنسان على حقيقة وهي أنه ضيع عمره وأنه غبن نفسه، وأنه فرط في هذا العمر، والعمر قيمته عظيمة جداً، أعطاه الله عز وجل للإنسان يستغله في عبادته وفي طاعته، وفجأة أخذ منه هذه الروح وترك الدنيا بما فيها، ولن يرجع إليها مرة ثانية، مثل الحرب، فالحرب خدعة يا قاتل يا مقتول، كذلك تعيش الدنيا سعيداً أو شقياً، ولن ترجع إليك هذه الدنيا مرة ثانية.
فالإنسان المؤمن لما يتذكر هذا الموت، ويتذكر الدنيا وكيف أنه يرجع إلى الله ليسأله عما فعل في هذه الدنيا، يجهز ويحضر الجواب، ماذا سيقول لله سبحانه وتعالى؟ لو لم يكن إلا الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى لاستحق أن يعمل الإنسان لهذا اليوم، أما ربنا سيسأله، وليس سؤالاً فقط، بل بعد السؤال يكون المصير إما إلى الجنة أو إلى النار، إذا كانت المكافأة من الله سبحانه وتعالى بأنه سيعطيه قصراً في الجنة، فهذا شيء عظيم يستحق أن يعمل له الإنسان، فكيف إذا كان سيعطيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهذا يجعل الإنسان يفكر في الجنة، وفي السعادة العظيمة التي ينالها حين يدخل هذه الجنة العظيمة.
والعكس لو تفكر الإنسان في النار وما الذي يلقاه فيها، لو قيل له: سنحرقك بنار الدنيا، لكان شيئاً فظيعاً وأليماً، فكيف بنار جهنم؟! ونار الدنيا قد أطفئت مرتين حتى استطاع الإنسان أن ينضج عليها طعامه في الدنيا وأن ينتفع بها، ولكنها تكون يوم القيامة على هيئتها والعياذ بالله، يعذب فيها أهل النار ويخلدون في نار جهنم، والكافر يقول: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا} [النبأ:40]، فالكافر يتمنى أن يصير تراباً ولن يصير تراباً.
فهنا يتضح أن الإنسان المؤمن فُضِّلَ على غيره، بأن جعل الله عز وجل له قلباً عاقلاً يعقل ويفهم ويتدبر ويتذكر، فيعبد ربه سبحانه حتى يأتيه اليقين، ويعبد ربه بالصورة الصحيحة للعبادة والصورة العظيمة للعبادة، ليست بالصورة الضيقة التي أكثر الناس يفكر ويقول: أنا صليت أنا صمت وانتهى الأمر، وإنما العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، أي: كل ما يحبه الله عز وجل منك أن تقوله وأن تنويه وأن تفعله، هذه عبادة لله سبحانه وتعالى.
جاء في الحديث أن الصحابة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ كذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر).
فعبادة الله عز وجل أن يجعل الإنسان عمره كله فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، بالنية الصالحة، ينام العبد ليتقوى على عبادة الله سبحانه، يصلي لله، ويصوم لله، ويذهب ليكسب عيشه من حلال لينفق على أهله.
كذلك الإنسان المؤمن يتفكر في الدنيا وأنها ستنقضي ويستغلها قدر ما يستطيع.
(42/9)
شرح حديث: (كن في الدنيا كأنك غريب)
من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه الإمام البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
هذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمر يوصيه ويقول له: (كن في الدنيا كأنك غريب).
الغريب لا يفكر في المكان الذي هو فيه غريب وأنه دار إقامة؛ لأنه مسافر من بلد إلى آخر، ويريد أن يؤدي الذي عليه ويرجع لداره، فدارك الجنة، فكن في الدنيا كأنك غريب سترجع إلى دارك، فجهز الهدايا لهذه الدار التي ستبقى فيها بلا نهاية، فأنت مثل الغريب الذي يقيم في بلد أخرى غير بلده لا على وجه الاستيطان والإقامة، وإنما يمكث فترة ويرجع، فتراه يحاول أن يدخر المال من أجل أبنائه وزوجته، فأنت تدخر عملك الصالح في دار الدنيا لهذه الدار الآخرة.
يقول صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) أي: عابر طريق يمر بالطريق ولا يبني في الطريق بيتاً.
فالإنسان لا يؤمل في الدنيا كأنه سيخلد فيها، وإنما يكتفي برزق الله الحلال الذي آتاه، ويحمد الله عز وجل عليه، ولا يكون شرهاً في الدنيا طماعاً فيها؛ فإن الطماع والشره يموت بما يأكله.
قال: (وكان ابن عمر ينصح بعد ذلك فيقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
انتفع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بهذه النصيحة، فكان من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان محبوباً إلى الناس، وكان كثير الصدقة، وكان عظيم التواضع، وكان إذا قام يتعشى أو يتغدى يقول لمن حوله: اذهبوا لجارنا فلان المفلوج فائتوا به، فيجلس فيأكل مع ابن عمر ولعابه يسيل على صدره، ما قال له: أنا أتقزز منك، ولكن جلس يأكل معه تواضعاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه تعلم من النبي صلى الله عليه وسلم التواضع، فكان يقول: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)، فكان يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء).
يعني: أن المؤمن ينبغي أن يعلم أنه في كل لحظة قد يأتيه الموت، فليكن في هذه اللحظة في خير عمل يلقى به الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله، قالوا: وكيف يستعمله؟ قال: يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، وإذا أراد الله بعبد شراً استعمله في الشر) أي: إذا أراد به شراً إذا به يسخر من الناس، وإذا به يصنع أفعالاً، بأن يمد يده ويسرق أو يرتشي أو غير ذلك، ويموت على ذلك، فهنا استعمل في الشر فكان من أهله.
أما المؤمن فالله عز وجل يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه، بأن يصلي فيموت وهو يصلي، أو يكون صائماً فيموت وهو على صيامه، أو يتصدق بصدقة ويموت بعدها، فيوفقه الله أن يكون آخر عمله الذي عمله من الأعمال الصالحة فيقبله سبحانه تبارك وتعالى.
يقول ابن عمر: (وخذ من صحتك لمرضك) يعني: استغل الوضع الذي أنت فيه، فأنت الآن شاب قوي وتقدر على أن تحفظ كتاب الله، فاحفظ القرآن، وإذا كنت تقدر أن تتعلم العلم الشرعي فافعل قبل أن تأتي عليك المشاغل فلا تقدر، وقبل أن يأتي عليك الكبر والشيخوخة فتنسى، لكن وأنت صغير تدرك ما لا تدركه وأنت كبير، فخذ من وقت صحتك لوقت مرضك، فالله كريم سبحانه وتعالى، يعامل العبد معاملة الكرم، فانظر حين تواظب على صلاة الجماعة إذا مرضت تسأل عنك الملائكة: أين فلان الذي كان يصلي هنا؟ وتذهب تعودك في بيتك، ويأمر الله عز وجل الملائكة أن تكتب للعبد ما كان يصنعه وهو صحيح، كذلك إذا سافر يكتب له ما كان يفعله مقيماً، فإذا كان مواظباً على الصيام في الحضر ثم سافر فلم يصم يكتب له كأنه صائم، هذا كله من فضله ومن رحمته سبحانه وعلى ذلك فقس.
ثم قال: (وخذ من حياتك لموتك) أي: خذ من حياتك ما تدخره بعد موتك.
(42/10)
شرح حديث: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضاً عن ابن عمر: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده؟).
قوله: (ما حق امرئ مسلم) أي: حق للمرء المسلم وحق عليه حين يكون له شيء يوصي فيه، من حقوق للناس من ودائع وديون وعرايا موجودة عنده، فإنه يلزمه أن يعيدها لأصحابها، فإذا فرضنا أنها ديون ولم يأت وقت تسديدها فإن عليك أن تكتب في البيت عندك في صحيفة: فلان له عندي كذا وكذا، وتبقى معروفة وتشهد على ذلك؛ حتى إذا مت عرف أهل البيت أن عليك الدين الفلاني فيؤدونه لصاحبه، فيا ترى من من الناس يصنع ذلك؟ أكثر الناس يكتبون ما لهم: لي عند فلان كذا ولي عند فلان كذا، أما ما عليه فالأكثر من الناس ينسون ذلك، وقد يكون المبلغ حاضراً عنده، فيقول: أرده غداً أو في الشهر الآتي، ينسى هذا المسكين أنه لو مات لعل الورثة يأخذون هذا المال ولا يردونه لصاحبه، فيحبس في النار ويعذب بذلك.
إذا كان الرجل قد حبس بدينارين كما جاء في الحديث: (أنه أتي للنبي صلى الله عليه وسلم بجنازة ليصلي عليها، فكان يسأل: هل عليه دين؟ فلما جاءوا بهذه الجنازة وسأل، قالوا: عليه ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم، فـ أبو قتادة صعب عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل عليه وصلاته بركة ورحمة ونور لهذا الإنسان في قبره، فقال: يا رسول الله! صل عليه وعلي الدينارين، فقال: هما عليك وفي مالك والميت منهما براء، فقال: نعم، فصلى عليه النبي صلوات الله وسلامه عليه، في اليوم التالي سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة: ما صنع الديناران؟ فقال: يا رسول الله! العهد قريب، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ذلك سأله: ما صنع الديناران؟ فقال ذلك، فسكت، وبعد ذلك سأله فقال: أديتهما يا رسول الله! قال: الآن بردت عليه جلدته)، هذان ديناران، فكيف بمن يأخذ مائة ألف ومائتي ألف، ويسرق الفلوس ويهرب بها؟! مصيبة من المصائب، والناس في غفلة، يأكل أموال الناس وينسى.
ومن عذاب الله للإنسان في الدنيا الغفلة، مثل المريض بالسكر عندما يأتيه المرض فيأكل أعصابه ومع ذلك لا يحس برجله حين يقوم، أقول: هذا من البلاء، فلا بد للإنسان أن يراجع نفسه عندما ينزل به المرض، فهاهو المرء ينتبه ويبعد رجله عن النار، وكذلك إذا مر على مسمار يبتعد عنه، لكن المصاب بمرض السكر أعصابه لا تحس بشيء، فهو يدوس مسماراً ولا يحس به؛ لأنه قد حصل في رجله (غرغرينا) وقد تنقطع رجله في يوم من الأيام، كذلك الإنسان الذي يكون في غفلة، فتراه يأكل المال الحرام ولا يبالي، فهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بإنسان جاءت على أنفه ذبابة فقال بيده هكذا، هشها فطارت الذبابة، ونسي ما كان من أمر الذبابة، فذنب الفاجر على رأسه كذبابة، قال بيده هكذا فطارت.
أما المؤمن فالذنب الذي يقع فيه يكون على رأسه كالجبل، يستشعر عظم هذا الذنب، ويقول: يا ترى ربنا سيتوب علي فيه؟ يا ترى ربنا سيعذبني؟ ويظل يستغفر ويستغفر ويصلي لله ويسأل الله عز وجل أن يتجاوز عنه في ذنب واحد فعله، فهناك فرق بين من قلبه حي ومن قلبه ميت.
لذلك الإنسان المؤمن دائماً متذكر ما يقوله الله عز وجل، وعلى باله أن الموت سيأتيه ليلاً أو نهاراً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على التذكر وعلى العمل، وأن يجعلنا من عباده المخلصين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(42/11)
شرح رياض الصالحين - ذكر الموت وزيارة القبور وكراهية تمني الموت
إن تذكر الموت ما كان في واسع إلا ضيقه ولا في كثير إلا قلله، فالموت هادم اللذات ومفرق الجماعات وقاطع الأمنيات، وهو البوابة التي يعبر من خلالها المرء إلى الحياة الآخرة، وتذكر الموت أقض مضاجع الأنام، وأذهل عقول الصادقين من العباد فحملهم على الزهادة في الدنيا واطراحها والإقبال على ما ينفعهم في دار المعاد.
(43/1)
تابع ما جاء في ذكر الموت وقصر الأمل من الأحاديث
(43/2)
شرح حديث أنس وابن مسعود: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب ذكر الموت وقصر الأمل.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً فقال: هذا الإنسان وهذا أجله فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الأقرب)، رواه البخاري.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به، وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بادروا بالأعمال سبعاً؛ هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات، يعني: الموت)، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن].
هذا باب ذكرنا بعضاً من الأحاديث التي فيه، والمقصد من الباب بيان أن الموت قريب جداً من الإنسان وأنه يأتيه من حيث لا يحتسب، وأنه ينبغي عليه أن يتفكر في هذا الموت، وأنه إذا قابل ربه سبحانه فسيندم على ما فرط في هذه الدنيا من أعمال كان يقدر أن يعملها فتركها وسوّف حتى لقي الله فلم يجد إلى الرجوع إلى الدنيا سبيلاً.
كلما يتذكر الإنسان الموت يحفزه على العمل الصالح وعلى تقوى الله تبارك وتعالى، وهذه الأحاديث تفهمنا هذا المعنى، ومنها حديث أنس رضي الله عنه ومثله حديث ابن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وفي حديث أنس: (خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطاً)، وفي حديث ابن مسعود: (خط النبي خطاً مربعاً، وخط خطاً في الوسط خارجاً منه)، وكأنه رسم مستطيلاً ورسم خطاً طويلاً في وسط هذا المستطيل خارجاً منه.
وكأن الإنسان في أول هذا الخط يحيط به هذا المستطيل أو المربع، والخط الطويل الخارج من المستطيل هو خط أمل الإنسان، فالإنسان أمله بعيد جداً، فهو ينال منه أشياء وهي التي في حدود هذا المستطيل، وهذا المستطيل هو أجل الإنسان، فأمل الإنسان أمل بعيد، فهو يتمنى أن يكون كل شيء عنده، فقال هنا في الحديث: (وخط خططاً صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي هو في الوسط)، فالخط الطويل الذي ذكره هو أمل الإنسان ومن حوله على الشمال واليمين خط خططاً صغاراً، صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الخطوط الصغيرة هي الأعراض التي تعتري الإنسان من مرض أو من أطماع يطمعها، أو أشياء يأخذها وينالها وأشياء لا ينالها، ولكن ما زال أمل الإنسان بعيداً يمثله الخط الطويل، حتى إذا جاء الموت انقطع هذا الخط وانقطع الأمل، قال صلى الله عليه وسلم بعد أن خط هذه الخطوط: (هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به).
فحال هذا الأجل أنه محيط بالإنسان، فلا يمكن للإنسان أن يفر من أجله أبداً {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34].
قال: (وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)، فأعراض الدنيا التي تعتري الإنسان كثيرة من أمراض وأطماع وهموم وكروب وسعادة وشقاء.
وفي الحديث الأول قال: (هذا الإنسان وهذا أجله، فبينما هو كذلك - أي: ينظر إلى الخط الأبعد - إذ جاء الخط الأقرب)، يعني قطع عليه الموت أمله فالموت هو قاطع آمال الإنسان.
لذلك فإن المؤمن يكون أمله في حدود ما يقدر عليه، وأمله العظيم يكون في رب العالمين سبحانه وفي جنة الخلود، ويكون أمله في السعادة الأبدية عند الله عز وجل، أما الآمال التي في الدنيا فلا يمكن للإنسان أن يحصل على جميع ما يؤمله وخاصة إذا كانت خيالات، حيث يجلس الإنسان فيتخيل أن يكون عنده قصر وأن يكون عنده سيارة ويريد أن يكون عنده كذا من الآمال وهو لا يعمل لهذه الأشياء، وقد يعمل الإنسان وينسى ربه سبحانه.
وهناك فرق بين المؤمن والكافر، فالكافر أدخل نفسه باختياره في دوامة الآمال فيظل يدور مع الدنيا وتدور به، أما المؤمن فإنه قد حدد هدفه وعرف ما الذي يريده من هذه الحياة الدنيا القصيرة، وهو أن يستغلها في عبادة الله وفي طاعة الله سبحانه، لا شك أنه يحتاج في هذه الدنيا إلى طعام وشراب وكسوة وسكن وزوجة، ويحتاج إلى أن يكون عنده أولاد، وأن يكون عنده عمل يعمل به، ولا أحد يمنعه من هذا الشيء، لكن الأمل في أن يحصل الدنيا كلها فهذا لا يحصل لأحد، فلا يؤمل الإنسان أن يكون أفضل الناس في الدنيا، وإنما يتمنى أن يكون أفضل الناس عند الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فبتقوى الله يحصل المرء الخير العظيم ويحصل أعظم الغنى وهو غنى القلب.
(43/3)
شرح حديث: (بادروا بالأعمال سبعاً)
ومن الأحاديث التي ذكرها الإمام النووي حديث ضعيف رواه الترمذي وقال: حديث حسن، هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بادروا بالأعمال سبعاً).
ورغم أن الحديث ضعيف من ناحية الإسناد، لكن المعنى الذي في هذا الحديث معنى حكيم وجميل، فالإنسان ماذا ينتظر في هذه الدنيا؟ قال: (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً أو غنى مطغياً أو مرضاً مفسداً أو هرماً مفنداً أو موتاً مجهزاً أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر).
يعني: الإنسان الذي ينكب على الدنيا ويريد أن يحصل عليها يقال له هنا: بادر قبل أن يأتي عليك واحد من سبعة لأشياء، (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً)، لعلك الآن في غنى فبادر بالعمل الصالح، فالإنسان عند فقره ينسى الله سبحانه تبارك وتعالى ويبقى يفكر بما عليه من دين ويريد أن يعمل لقضاء هذا الدين، فالفقر ينسي الإنسان ربه سبحانه تبارك وتعالى، (هل تنتظرون إلا فقراً منسياً)، يعني: ينسيكم الطاعة وينسيكم العبادة.
(أو غنى مطغياً)، يعني: غنى يطغي الإنسان ويجعله يحتقر غيره، أو فقراً ينسيه ربه تبارك وتعالى، فما دمت الآن في حالة سوية فأحسن عبادة ربك سبحانه وتعالى.
(أو مرضاً مفسداً) أي: مرضاً يفسد على الإنسان صحته، أو يفسد على الإنسان عقله، أو يفسد على الإنسان تفكيره، فالمرض حين يأتي على الإنسان يبقى تفكيره في الوجع الذي يلم به وفي الشكوى وينسى عبادته وطاعته.
(أو هرماً مفنداً)، أي: يفند الإنسان ويذهب عقله فيرد إلى أرذل العمر، فإذا بتفكيره غير سوي وإذا بتطلعاته وطلباته تضايق من حوله.
(أو موتاً مجهزاً)، يأتي فجأة فيقضي عليه فلا يتمكن من أن يتوب أو يعمل عملاً صالحاً، وإن فرضنا أن العمر طال به فماذا ينتظر؟ قال: (أو الدجال فشر غائب ينتظر)؛ لأن فتنته فتنة عظيمة، (أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، يعني: أن أمر شيء أن تقوم الساعة على الناس، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، فكأن الحديث يحث المسلم على أن يبادر بالعمل الصالح الذي يريد أن يعمله قبل أن يدركه واحد من هذه السبعة.
(43/4)
شرح حديث: (أكثروا ذكر هاذم اللذات)
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه - وهو عند الترمذي وقال: حديث حسن - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أكثروا ذكر هاذم اللذات).
وهاذم اللذات بمعنى: قاطع اللذات، وهو الموت، فالموت يهذم لذة الإنسان يقطعها فإذا مات غيره فإذا به يتكدر، أما إذا مات هو فسيقدم على أهوال في قبره من سؤال منكر ونكير، وهل سيقدر على أن يجيب أم لا؟ فهنا يقول لنا صلى الله عليه وسلم: (أكثروا ذكر هاذم اللذات).
وجاء في بعض الروايات: (أنه ما ذكر في ضيق إلا وسعه، ولا ذكر في سعة إلا ضيقها)، فالإنسان إذا ضاقت عليه الدنيا بمرض أو بأي شيء من المكدرات فإنه حين يذكر الموت يقول: لا والله أنا في رحمة، فالموت أشد من ذلك؛ لأن الموت حين يأتي يأتي بكل ما فيه من سكرات وقبر وسؤال؛ فأنا مازلت في نعمة.
فهو عندما يتذكر الموت يرضى بحاله الذي هو عليه الآن.
والإنسان عند السعة وفي وقت الرخاء سيطغى عندما يرى كثرة أمواله، فإذا تذكر الموت فإنه يضيق عليه هذه السعة التي كادت أن تطغيه وأن تذهب بعقله.
(43/5)
شرح حديث: (جاءت الراجفة تتبعها الرادفة)
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه).
فالحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم إذا ذهب ثلث الليل ويقول: (يا أيها الناس اذكروا الله جاءت: الراجفة) يعني: كأنها جاءت، فالله عز وجل حين يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، معناه: أنه سيأتي يقيناً، ولذلك عبر عنه بالماضي فقال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1]، ولا أحد يقدر على دفع أمر الله سبحانه، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (جاءت الراجفة تتبعها الرادفة)، يعني: ستقوم وكأن ذلك قد حدث.
والراجفة: النفخة الأولى التي ترجف بالخلق وتميتهم.
(تتبعها الرادفة) أي: النفخة الأخرى ترجف بهم فيبعثون من قبورهم لحسابهم.
قال: (جاء الموت بما فيه)، يعني: بما فيه من سؤال ومن حساب.
قال أبي بن كعب: (قلت يا رسول الله! إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟).
يعني: كم أجعل لك من دعائي، وليس معناه: أنني سأصلي ركعتين وأجعلها للنبي صلى الله عليه وسلم، بل المعنى: أنا أكثر من الدعاء فكم مرة أقول: اللهم صل على محمد عليه الصلاة والسلام؟ قال: (فقال صلى الله عليه وسلم: ما شئت.
قلت: الربع؟)، يعني: ربع دعائي أجعله صلاة عليك؟ قال: (قال عليه الصلاة والسلام: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: فالنصف) أي: أجعل نصف دعائي لك والنصف الآخر دعاء لنفسي؟ قال: (قال صلى الله عليه وسلم: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قالت: فالثلثين؟ قال: ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟) يعني: أجعل دعائي كله صلاة عليك؟ قال: (إذاً تكفى همك ويغفر لك ذنبك).
يعني: لو كان دعاؤك كله صلاة على النبي فإنك في ذكر لله سبحانه بأن تطلب من الله عز وجل الثناء والصلاة عليه، فإذا كان الأمر كذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذاً: تكفى همك)، فأفضل من دعائك لنفسك أن تكثر من الصلاة عليه صلوات الله وسلامه عليه قال: (ويغفر لك ذنبك).
(43/6)
استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر
(43/7)
شرح حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)
من الأبواب التي ذكرها النووي: باب استحباب زيارة القبور للرجال وما يقوله الزائر.
تشرع زيارة القبور للرجال، وكان جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن زيارة القبور فترة وكأنه لسد ذريعة الشرك بالله سبحانه، حيث كان الناس قريبي عهد بعبادة الأوثان، فكان قد منعهم صلى الله عليه وسلم من زيارة القبور ثم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكر الآخرة).
فهو أولاً نهاهم، ولكن عندما استقر التوحيد في قلوبهم أمرهم أن يزوروا القبور؛ لأنها تذكر الآخرة، وأهل الجاهلية كانوا يفتخرون بكل شيء فكانوا يفتخرون بقبورهم، لذلك كان من الحكمة في أول الإسلام أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور، والله عز وجل ذكر الكفار فقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
ومن المعاني لهذه الآيات: أن هؤلاء ألهاهم تفاخرهم عن عبادة الله سبحانه حتى ماتوا، أو حتى ذهبوا ليفتخروا بعدد أمواتهم والذي يدل على أن القبيلة الفلانية أعظم من القبيلة الأخرى.
ولما جاء الإسلام نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلما استقر في قلوبهم الطاعة والخشوع لرب العالمين سبحانه والبعد عن هذا الفخر والعجب والخيلاء رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بزيارة القبور ليتعظوا فقال هنا في حديث بريدة: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، فأمر بزيارة القبور بعد ذلك صلى الله عليه وسلم.
وفي الباب يقول الإمام النووي: استحباب زيارة القبور للرجال: فهذا الاستحباب للرجال وليس للنساء، بل جاء الوعيد في حق زوارات القبور من النساء، أي: المكثرات من زيارة القبور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد)، لعن الله الزورات للقبور من النساء، ولن تكون زوارة إلا بأن تزور مرات ومرات، وكلما مات شخص ذهبت المرأة إلى القبر، فإذا ذهبت إلى المقابر فإنها ترجع بلعنة الله سبحانه وتعالى عليها، فلا ينبغي للنساء أن يذهبن إلى المقابر، ويمكن أن تقول بعض النساء: سأذهب للعبرة والذكرى.
فنقول: حتى وإن حصل هذا في الأول إلا أنه بعد ذلك سيرافقه النياحة والندب ورفع الأصوات بالبكاء وغير ذلك، وهذا لا يجوز، فسداً للذريعة منعت المرأة من زيارة المقابر لا للاتعاظ ولا لغيره، ولكن إذا أرادت أن تتعظ فتبقى في بيتها وتدعو للميت، ولا فرق بين دعائك للميت وأنت في بيتك ودعائك وأنت في المقابر.
مع ما في الدعاء عند المقبرة من الخصوصية حيث تنظر إلى المقابر وكيف أن أصحابها كانوا في الدنيا يوماً من الأيام، وكل إنسان منهم له بيته، والآن صار في قبر مع سائر الأموات ولا يتميز عنهم بشيء، فنفس الإنسان عندما تحدثه أنه أعلى من غيره وأفضل من غيره، فيتطاول بذلك على الغير فعليه أن يتذكر هذا اليوم حين يكون بداخل القبر محتاجاً إلى الغير، أن يدعو له، وأن يسأل الله عز وجل له الرحمة.
(43/8)
شرح حديث عائشة في خروج النبي إلى البقيع ودعائه لأهله
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد).
يعني: عندما يكون النبي عندها في ليلتها التي تكون كل تسع ليال مرة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج، ولأنه تكرر منه ذلك قالت: (كلما كان ليلتها) فكان صلى الله عليه وسلم يخرج ليزور قبور شهداء أحد ويدعو لأهل المقابر هنالك.
قالت: (فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون)، يعني: الموت الذي وعدتم به قد جاءكم.
(غداً مؤجلون)، يعني: القيامة ستكون في الغد، والكل سيبعث للحساب يوم القيامة.
(وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)، يعني: أنتم سبقتم ونحن وراءكم.
ثم يدعو ويقول: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد).
فهنا في هذا الحديث ذكر بقيع الغرقد، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها: (ذهب يدعو لشهداء أحد)، صلوات الله وسلامه عليه، وهذا كان في آخر حياته صلى الله عليه وسلم كالمودع للأحياء وللأموات.
(43/9)
شرح حديث بريدة في زيارة المقابر والدعاء للموتى
وعن بريدة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية)، فيشرع للمسلم أن يسلم عليهم قائلاً: (السلام عليكم أهل الديار)، أي: الذين سكنتم هذه الديار، (من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
فالإنسان يتذكر وهو في المقابر أنه أتى لهذا المكان اليوم سائراً وغداً أو بعد غد سيذهب إليه محمولاً ويوضع في قبر، فيسأل الله عز وجل العافية للأحياء والأموات، فالحي يحتاج إلى العافية، والميت أحوج إليها.
والعافية بمعنى: المعافاة من الذنوب، والمعافاة من العقوبة، والمعافاة من الحساب، فيسأل الله عز وجل له وللأموات أن يعافيه الله عز وجل من عقوبته.
(43/10)
شرح حديث: (مر رسول الله بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر).
أنتم سلفنا ونحن بالأثر، أي: أنتم تقدمتم وسبقتم ونحن وراءكم في نفس طريقكم، فنرد الموت كما وردتم عليه.
ففي زيارة القبور عظة عظيمة للإنسان، ويضيع هذه الموعظة على الإنسان ما يكون فيه عند زيارة القبور من اشتغال بذكر الدنيا والغفلة عن تذكر الآخرة، فعلى الإنسان عندما يصل إلى المقبرة أن يكون في خشوع وصمت إلا من دعاء وذكر لله سبحانه تبارك وتعالى، ويتذكر ما فيه هؤلاء الأقوام ويعتبر بهم، وكم من إنسان تحمل جنازته ويكون له عند الله عز وجل منزلة عظيمة، وكم من إنسان آخر لا يكون له عند الله منزلة.
وكم من إنسان تشهد جنازته أعداد غفيرة من الناس يكون مذكوراً عند الناس منسياً عند الله تبارك وتعالى، وكم من إنسان يذهب به قلة من الناس إلى القبور وله عند الله عز وجل درجة عظيمة، فكثرة العدد وقلة العدد ليس دليلاً على حب الله عز وجل للعبد أو بغض الله سبحانه وتعالى للعبد، ولكن كلما كثر العدد فلعله أن يكون أدعى لإجابة الدعاء من مخلصين وموحدين لله سبحانه وتعالى عندما يدعون للميت.
(43/11)
ما جاء في كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين
(43/12)
شرح حديث: (لا يتمنين أحدكم الموت)
ومن الأبواب التي ذكرها النووي رحمه الله: [باب كراهة تمني الموت بسبب ضر نزل به، ولا بأس به لخوف الفتنة في الدين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمن أحدكم الموت؛ إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب).
وفي الحديث الآخر: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي)].
فهنا ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تمني الموت مهما جاء على الإنسان من أشياء تضايقه، فلعله يدعو على نفسه بالموت فيستجيب الله عز وجل له فيموت، وهذا المتمني إما هو محسن وإما مسيء، فإن كان محسناً فطول العمر أفضل في الإحسان، ولذلك جاء في الحديث الآخر: (خيركم من طال عمره وحسن عمله)، فإذا كان الإنسان مصلياً صائماً عابداً لله سبحانه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فطول العمر له فيه ثواب عظيم ودرجات عالية.
فعلى ذلك لا يتمنى المرء الموت؛ لأن ربه أعلم بما يصلح له، قال: (إما محسناً فلعله يزداد، وإما مسيئاً فلعله يستعتب) يعني: يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يقبل منه عذره وأن يتوب عليه، ولعل الله يعتبه.
وفي الحديث الآخر: (لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيراً).
كلما ازداد عمر المؤمن ازداد خيراً بالأعمال الصالحة، يكفي أنه يصلي، ويقرأ القرآن، ويواظب على حضور الجمعة والجماعات، ويصوم رمضان، فيكتب له بذلك حسنات عظيمة، فلا معنى لأن يتمنى لنفسه الموت.
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه).
كأن الغالب أن الذي يدعو على نفسه بالموت حصل له مصيبة، كأن يكون ذهب إلى الامتحان وكانت نتيجته سيئة فقام يدعو على نفسه بالموت، أو كان يطلب شيئاً معيناً فضاع منه هذا الشيء فضاق صدره فقام يطلب الموت، فإذا كان على هذه الحال ضيق الصدر فإنه لا يدري فلعله ساخط على ربه فيموت على ذلك فيلقى ربه وهو ساخط عليه.
(لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً)، يعني: إذا ضاق به الحال ويريد أن يدعو فليدع بهذا الدعاء: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي).
فتكون بذلك قد أرجعت الأمر إلى ما يشاؤه ربك سبحانه وما يراه الأنفع لك إما الموت العاجل، وإما أن يؤخر لك في العمر.
(43/13)
شرح حديث خباب: (ولولا أن النبي نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به)
وعن قيس بن أبي حازم قال: (دخلنا على خباب بن الأرت رضي الله عنه نعوده وقد اكتوى سبع كيات فقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا).
وخباب بن الأرت رضي الله تبارك وتعالى عنه رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين ابتلوا ابتلاء شديداً، فلما أسلم رضي الله عنه أخذه المشركون وعذبوه عذاباً شديداً، ومرة في خلافة عمر رضي الله عنه كان الناس يتكلمون عما كان يفعله المشركون بالمسلمين، فهنا كشف خباب عن ظهره رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: ما رأيت أبشع من ذلك، حيث رأى لحم ظهره قد ذاب وكشف عن عظام ظهره، فقد كان المشركون يوقدون النار حتى تصير جمراً ثم يطرحونه عليها حتى تنطفئ بشحم ظهره رضي الله تبارك وتعالى عنه.
فهذا الرجل الفاضل رضي الله عنه أصابه بلاء ومرض في آخر عمره وبسبب هذا المرض اكتوى سبع كيات، وقال: إن أصحابنا الذين سلفوا مضوا ولم تنقصهم الدنيا، وإنا أصبنا ما لا نجد له موضعاً إلا التراب.
يعني: بعد الفتوحات أصبنا من الغنائم وجاء لنا من الرزق، وهو لم يذكر أنه كان مجاهداً، وكأنه يقلل من شأن نفسه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيقول خباب رضي الله عنه: إنه من كثرة المال لم يجد إلا أن يحفر مكاناً في الأرض ويجعل فيه هذا المال.
وذكروا عنه في رواية عند الترمذي أنه قال: (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أملك درهماً وإن في جانب بيتي الآن أربعين ألف درهم)، ولا بد أن يكون مال خباب رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا حلالاً، ولكن مع ذلك خاف أن يموت وقد ترك أربعين ألف درهم فيسأله الله سبحانه وتعالى عنها.
ثم يقول رضي الله عنه: (ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به، ثم أتيناه مرة أخرى وهو يبني حائطاً له، فقال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء ينفقه إلا في شيء يجعله في هذا التراب).
من تواضعه رضي الله تبارك وتعالى عنه يذكر الشيء الذي يحقر به نفسه، فالإنسان عادة إذا صار غنياً فإنه يحب أن يظهر أمام الناس بما رزقه الله من المال ويقول: أنا سأبني وأنا سأعمل وأنا عندي، لكن هذا يقول: إن الإنسان يؤجر في كل شيء ينفقه إلا ما يجعله الإنسان في التراب.
يعني: كما يفعل هو في تلك الساعة! قال: (إن المسلم ليؤجر في كل شيء)، يعني: كل عمل حسن يعمله يؤجر عليه إلا في شيء يجعله في هذا التراب، وهذا محمول على الكثرة، يعني: يكون عنده ما يستغني به ثم يبني بيتاً ثانياً وثالثاً فهذا لا يؤجر عليه عند الله، إنما يكون الأجر على عمل ينفعه، فلعله بنى لابنه أو لابنته، أو أراد بذلك أن يعين إنساناً فيؤجر على هذا كله، أما أن يكثر لنفسه هذه الأشياء فقال خباب: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه لا يؤجر على ذلك، لكن لا نقول إنه يأثم، وإنما المعنى: أن الذي يكثر من البنيان كأنه يؤمل في الدنيا، وهذا لا يحرم عليه، ولكن غير ذلك أولى، وهو أن يعتبر الإنسان من هؤلاء الأفاضل الذين كان الواحد منهم يبني البيت ومع ذلك لا يمدح نفسه بذلك، وإنما يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرء لا يؤجر على هذا الشيء، ولكن لاحتياجه يصنع ذلك، والله أعلم.
فالمقصود: أن الإنسان المؤمن يذكر الموت فيستعين بذلك على العمل، ويخاف من الموت الخوف الذي يعينه على طاعة الله سبحانه وتعالى، فالمؤمن خوفه من الموت يحمله على أن يتذكر الحساب ومن ثم يطيع الله سبحانه بأن يبتعد عن الحرام ويرد المظالم إلى أصحابها.
فالخوف المندوب هو الخوف الذي يدفع للعمل، وليس الخوف الذي يجعل الإنسان يجلس في بيته ولا يصنع شيئاً.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يرحمنا في الدنيا وفي قبورنا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(43/14)
شرح رياض الصالحين - الورع وترك الشبهات
إنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن الحلال والحرام، ولكن بينهما أمورٌ مشتبهات، والوقوع فيها يؤدي إلى الوقوع في الحرام؛ ولذلك سدَّ أبواب الوقوع فيها بأن أمر عباده أن يجتنبوها، وقد حثَّ الإسلام علي الورع والزهد عما في أيدي الناس وقاية من الوقوع في الأشياء المحرمة.
(44/1)
ذكر ما جاء في الورع وترك الشبهات
(44/2)
معنى قوله تعالى: (وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم)
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [باب الورع وترك الشبهات.
قال الله تعالى: {وَتحْسَبُونَهُ هَيِّناً وهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
وقال تعالى: {إنَّ رَبَّكَ لَبِالمِرْصادِ} [الفجر:14].
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) متفق عليه.
وعن أنس رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها) متفق عليه].
يكون الإنسان المسلم ورعاً إذا اتقى ما حرم الله سبحانه.
والإنسان يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يؤجره على تركه المحرمات أو المشتبهات، فإذا به يتضرع ويحتاط لنفسه، ويحتاط لدينه بزهده في الدنيا، وبزهده في الحرام.
قال الله تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15].
هذه الآية سيقت في حديث الإفك، وذكر الله سبحانه وتعالى في سورة النور براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وأنب الذين خاضوا في عرضها رضي الله عنها، فقال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ} [النور:15] يعني: هذا الحديث تحسبون نقله فيما بينكم شيئاً هيناً لا قيمة له، بل هو عند الله عظيم.
وكذلك كل حديث فيه كذب، وفيه إفك، وفيه إلقاء تهم على مسلم أو مسلمة، وكل حديث فيه قول زور، أو فيه شهادة زور، أو فيه بهتان للإنسان المسلم فهذا قد يحسبه قائله هيناً، يحسبه شيئاً يسيراً لا قيمة له وهو عند الله عظيم جداً.
وقد كان الصحابة يقولون لمن بعدهم: إنكم لتفعلون أشياء هي في أعينكم أدق من الشعرة، كنا نعدها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر.
فالصحابة ينصحون التابعين فيقولون: تفعلون أشياء هي في أعينكم هينة، ولكن كنا نعدها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر.
يعني: لا نفعها أبداً؛ لأننا نعتبر ذلك كبيرة من الكبائر، ولكنكم تهاونتم بها ونسيتم إثمها فظننتموها شيئاً يسيراً لا قيمة له.
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] وهنا المقصود: التخويف، أي: أن الله يرصدك ويراقبك، فإذا وقعت في الإثم فاحذر من أن يعاجلك بالعقوبة؛ لأن الله بالمرصاد، والله قد يملي للإنسان لعله يتوب، وقد يملي له ليأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).
(44/3)
شرح حديث: (إن الحلال بين وإن الحرام بين)
وورد حديثٌ للنعمان بن بشير في الصحيحين، وله روايات كثيرة مضمونها ما في هذه الرواية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرم بين) أي: في كتاب الله عز وجل بيان ما أباحه الله سبحانه وتعالى وما أحله لعباده، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك، فمن تتبع الكتاب والسنة عرف الحلال وعرف الحرام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (وبينهما -بين الحلال والحرام- مشتبهات)، أي: أمورٌ تشتبه على الكثير من الناس، فلو ردوا الأمر لأهل العلم وأهل التقوى عرفوا أن هذه المشتبهة من باب الحلال أو من باب الحرام.
فإذا اشتبه على الإنسان شيء من الأحكام رجع لسؤال أهل العلم في ذلك، فإذا اشتبه على أهل العلم في ذلك وقالوا: شبهة، فيجب اجتناب هذا الشيء الذي فيه شبهة، وقوله: (لا يعلمهن كثير من الناس) يعني: الذي يعلم ذلك القليل وليس الكثير.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن اتقى الشبهات) يعني: الحكم الشرعي فيما إذا وجدنا شيئاً يشكل علينا ويشتبه علينا فلم نعرف له حكماً أن نبتعد عنه، فلو تهاون الإنسان في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون حراماً قد يجره لأن يقع في الحرام المحض.
فقال: (فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه)، (استبرأ): السين للطلب والاستدعاء بمعنى: أنه استدعى البراءة وطلبها للدين وللعرض، فلا يقدح في دينه، ولا يقدح في عرضه، فلا يقال: فلان هذا يفعل الحرام، أو يأكل الحرام، فيبرئ دينه بينه وبين ربه سبحانه وعرضه أمام الناس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) المعنى: أنه شيء يجر إلى الحرام، مثلما ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده، ويسرق البيضة فتقطع يده)، مع أن البيضة ليس إقامة الحد ولكن تجر إلى غيرها، فإذا مد يده وأخذ بيضة فإنه في المرة الثانية يمد يده ويأخذ شيئاً له قيمة، ثمَّ المرة التي بعدها يأخذ ربع دينار فتقطع يده بسبب ذلك.
فالمشتبه يجر إلى الحرام، والحرام يجر بعضه إلى بعض حتى يعيش الإنسان من الحرام ويستمرئه، وينسى أمر الحلال، فقال صلى الله عليه وسلم لنا: (من وقع في الشبهات وقع في الحرام) وضرب لنا مثلاً جميلاً صلوات الله وسلامه عليه فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه).
الحمى: المكان الذي يحميه الحاكم، فهذا خاص بخيول الدولة، وهذا خاص بخيول المسلمين، وهذا خاص بإبل الصدقة، وهذا خاص بأغنام الزكاة، فهذه المحمية مكان محرم ممنوع، فإذا استخف الراعي بالأمر وأخذ الغنم وقال: هذا الحمى حمى السلطان، سأذهب أرعى بجواره، فتدخل غنمة حمى السلطان، ويأمر السلطان بمصادرتها، ويأمر بمعاقبة هذا الإنسان، ولا يقدر أن يدفع الضر عن نفسه.
فالراعي حين يرعى حول الحمى فإنه قد يدخل فيه؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يَرتع فيه)، فإذا دخل حمى السلطان فإنه قد يؤخذ ويعاقب، كذلك إذا وقع في حمى الله سبحانه وتعالى.
فكلمة: (حمى) معناها الشيء الممنوع، والمكان المحمي مصان من وجود أي إنسان فيه، والإنسان الذي يحوم حول الشبهات، ظناً منه أنها ليست حراماً، يقع فيها ويستهين بها، حتى تجره إلى الحرام فيقع فيه وهو يعلم أنه حرام.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، فإذا كانت ملوك الأرض يجعل الواحد منهم له محمية فالله سبحانه وتعالى ملك الملوك له حمىً، وحمى الله محارمه، فهو سبحانه حرم عليكم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فالذي يحوم حول الفواحش، ويستهين بها، تجره إلى الحرام فيقع فيه، كأن يذهب إنسان إلى مكان فيه فتنة معللاً ذلك أنه محصن بالإيمان، فيستهين بهذه الفتنة وتجره إلى الحرام، ففي البداية يكون مشتبهاً عليه، وبعد ذلك يكون حراماً ولا يهمه إن وقع فيه أو لا.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
ذكر الله القلوب في قوله سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فعمى البصر يؤجر عليه الإنسان طالما أنه صابر محتسب، (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر، عوضته عنهما الجنة).
فالله يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] إذاً: العمى عمى القلب ليس عمى البصر، والقلب في الصدر، وقلب الإنسان يعمى عن معرفة الحق.
فهذا الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله)، وهذا القلب محل تفكير الإنسان ومحل ما يعقل به، ويؤكد ذلك أنه لم يقل (القلوب) فقط، ولكنه قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
فمحل فكر الإنسان وتعقله وعواطفه هو قلَبْه الذي في صدره، وهذه النكتة ذكرها القرآن في الماضي واكتشفها العلماء حديثاً، وذلك لما بدءوا في زراعة القلوب بدأ ينكشف لهم أن القلب هو محل تعقل الإنسان ومحل عواطفه وبصيرته، فعندما ينقلون قلب إنسان لإنسان آخر يجدونه حياً أشبه بالميت، ليس عنده عاطفة ولا حواس، ولا يعرف أقاربه، ولا يعرف أن بينه وبينهم رحماً؛ لأن قلبه حَلَّ مكانه قلب آخر، فسبحان الله الذي يقول: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
ويخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ هذا القلب قطعة من اللحم موجودة في صدره، إذا صلحت هذه القطعة من اللحم صلح عمل الإنسان كله، فالقلب ملك والجوارح جنود، إذا صلح الملك صلحت رعيته.
قال: (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت -إذا فسد قلب الإنسان- فسد الجسد كله)، والقلب يدفع الإنسان بتهوره إلى أن يقع في الحرام، وذلك عن طريق وقوعه في الشبهات، واستهانته بمحارم الله سبحانه.
فالإنسان يصلح قلبه بموافقة شرع الله سبحانه، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) [الشمس:9 - 10]، إذاً: يزكي نفسه، ويطهر قلبه من الآفات، ويطهر نفسه من البلايا والمعاصي، ويئوب إلى الله سبحانه ويتوب، ويصلح حاله مع الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
(44/4)
شرح حديث: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة)
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وجد تمرة في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها).
تمرة وجدها في الطريق، وما قيمة التمرة؟ فلو وجدها أي إنسان جاز له أن يأخذها ويأكلها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أورع الخلق لم يأكل هذه التمرة التي وجدها خوفاً أن تكون هذه التمرة من الصدقة، وقد حرم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آل بيته أن يأكلوا من الصدقة أو الزكاة.
فلما وجد النبي صلى الله عليه وسلم هذه التمرة خشي أن تكون من الصدقة فلم يأكلها صلى الله عليه وسلم، وقال: (لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها)، يبين لهم أن هذا يجوز لكم ولا يجوز لي، فهذا ورعه صلى الله عليه وسلم في تمرة.
وفي إحدى المرات وجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة في فم الحسين، فإذا به يخرجها من فمه صلى الله عليه وسلم ويقول له: (كخ كخ إنا لا نأكل الصدقة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يعلمه من صغره فيقول: (يحرم علينا الصدقة فلا يجوز لنا أن نأكل منها).
(44/5)
شرح حديث: (والإثم ما حاك في النفس)
وفي حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) حديث في صحيح مسلم.
يبين لنا صلوات الله وسلامه عليه قاعدة ذهبية عظيمة، والبر: كلمة تجمع جميع وجوه الخير، وحصرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (البر حسن الخلق).
فإذا حسنت خلقك كنت من أهل البر، والإنسان يتعجب ما علاقة حسن الخلق بالبر؟! إن من حسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه في معاملته مع ربه، وفي معاملته مع الناس، وفي معاملته مع أهل العلم، وفي معاملته مع الشيخ الكبير والطفل الصغير، ومع أهل بيته.
وحسن الخلق يجعل الإنسان متواضعاً، فإذا تواضع لن يستكبر على طلب العلم، فيطلب العلم من الصغير ومن الكبير ومن أهله، فهو يريد وجه الله، فإذا به بحسن خلقه يكون قريباً من الناس، فإن أخطأ في شيء وقالوا: هذا خطأ؛ يجتنب هذا الخطأ، وإذا وجدوه على شيء من الأمور الذي قد ينحرف بها سرعان ما يرشدونه؛ لأنهم يحبونه، فهو محبوب من الله محبوب عند الخلق.
فبحسن خلقه يرشده الله عز وجل، ويدله على الخير، ويتقرب الناس إليه، ويدعون له وينصحونه ويفيدونه ويستفيدون منه، فحسن الخلق جمع كل الخير، فصار كريماً مع الناس؛ لأن الكرم من حسن الخلق، وصار رحيماً شفوقاً عطوفاً على الناس، فيكون أنفع الناس للناس، وأحب الناس إلى الله أنفعهم للناس.
وحسن الخلق يدفع الإنسان إلى أن يبحث عن وجوه الخير ليفعلها؛ لأنه يريد أن يكون رحيماً، وأن يكون جواداً، وكريماً وشجاعاً، وأن يكون متقدماً على غيره في طلب العلم رضاً لله سبحانه، وأن يتنافس في فعل الخير، فحسن الخلق مفتاح البر.
قال صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
الإثم ليس عصياناً ظاهراً يعرفه الإنسان، وكل إنسان يعرف المعصية الظاهرة، فالإثم فيه كبائر الذنوب، وفيه الموبقات، وفيه صغائر الذنوب، وفيه الشرك الخفي والشرك الجلي، ولكن هذه الأشياء يعرفها الإنسان المسلم، واللص يأتي كبيرة من الكبائر ويتوارى عن الناس ويسرق، ولكن بينه وبين الله يستحل المحارم ولا يخاف؛ لأنه لا يستحضر مراقبة الله عز وجل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك)، فأي إثم تريد أن تعمله وحاك في نفسك وتردد، أو كرهت أن يراك الناس على ذلك، فهو إثمٌ ينبغي لك أن تجتنبه.
إذاً: الشيء الذي تفعله أمام الناس وأنت في غير حرج فهذا ليس من الإثم، طالما أن الفطرة نقية والقلب سليم، ولكن عندما تنعكس الفطر والقلوب وتنتكس فإذا بالمرء يتبجح ويقول: ليس في ذلك حرج أن أعْمله أمام الناس، فيسرق أمام الناس، ويزني أمام الناس، ويضايق البنات أمام الناس، ويتبجح بهذه المعصية، فهو يعرف أنها معصية، فهذا الإنسان قد صار المعروف عنده منكراً، والمنكر عنده معروفاً، فأصبح قلبه مظلماً لا يتبين له الخير من الشر، وإذا مات على ذلك صار من أهل الجحيم، والعياذ بالله؛ لأنه إنسان ظالم لنفسه ظالم لغيره.
لكن الإنسان المؤمن في قلبه ما يدله على أن هذا خير فيفعله، وأن هذا شر فيجتنبه.
(44/6)
شرح حديث: (البر ما اطمأنت إليه النفس)
روى الإمام أحمد والدارمي بإسناد فيه ضعف: عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جئت تسأل عن البر؟ قلت: نعم.
فقال: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك).
هذا الحديث له شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة بالمعنى نفسه، فالمعنى صحيح، ويدل عليه حديث النواس الذي ذكرناه قبله، وهذا الحديث فيه حكاية ذكرها الإمام أحمد في مسنده، فيها: أن الرجل ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والناس مزدحمون حوله، فأراد الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه الناس أن يفعل هذا أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل علل بأنه يحب النبي صلى الله عليه وسلم حباً شديداً يدفعه لذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم: (أفسحوا لـ وابصة).
فجاء وابصة يريد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل أن يسأل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (تسأل أم أخبرك؟) قال: بل أخبرني يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك)، يعني: الأمر الذي يشكل عليك لعلك تسأل عالماً من العلماء وبحسب صيغة السؤال يعطي الجواب، فالمرء قد يسأل بطريقة معينة ويفتي العالم بأن ذلك حلال ليس فيه شيء، فإذا بالعالم الآخر يعطي تفاصيل أكثر وينقلب الجواب؛ لأنه حرام ليس حلالاً، فعلى هذا المرء أن يستفتي قلبه ويأخذ بأحد الأمرين، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب).
وإذا اطمأن قلبك لشيء فافعل هذا الشيء، وإذا شككت فيه وحاك في قلبك وفي صدرك فاترك هذا الشيء، والإنسان أدرى بما في قلبه وبما يريد؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
يعني: الفتوى وحكم الحاكم لا تغير من حقيقة الأمر شيئاً فالحرام حرام وإن أجاب المفتون على سؤالك بأنه حلال، كأن يجد الإنسان قطعة من الأرض في مكان، وصاحبها غائب منذ زمن، فيأخذ الأرض ويضع يده عليها، ويأتي إلى المحكمة والقاضي يحكم له، أنه بوضع اليد تكون قطعة الأرض له.
فهي ليست أرضه وليست ملكه، حتى وإن حكم القاضي أنها له؛ لأنه يعرف بنفسه أنها ليست له، فلا يخدع نفسه بذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، يعني: يجعل الطوق في عنقه من سبع أراضٍ يوم القيامة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلا يخدع نفسه، ولا يخدع غيره.
(44/7)
شرح حديث: (كيف وقد قيل؟)
وعن أبي سروعة واسمه عقبة بن الحارث: (أنه تزوج ابنة لـ أبي إهاب بن عزيز فأتت امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي قد تزوج بها).
وفي رواية: أن هذه المرأة التي جاءت كانت أمة سوداء، فكأنه استقل أمر هذه الأمة، (فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: الرجل كان في مكة فركب وسافر المدينة، (فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟!).
يعني: الرجل يقول: هذه المرأة تزعم أنها أرضعتني أنا وزوجتي وأننا إخوة من الرضاعة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف وقد قيل؟!) وأمره أن يفارقها (ففارقها عقبة ونكحت زوجاً غيره).
(44/8)
شرح حديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)
من الأحاديث: حديث رواه الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
فإذا شككت في شيء وحاك في صدرك فاتركه ولا تنشغل به؛ لأنه يلهيك عن صلاتك وعبادتك وعملك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).
إذاً: إذا كثرت الاستفهامات في هذا الأمر فاتركه ولا تعمل به، فإن كان في السوق أشياء قديمة وشككت أنها فاسدة فابتعد عنها وامتنع عن شرائها، أو رجل ليس ما له حلالاً ويريد أن يشغل ماله عندك، وأنت تعلم أن معاملته غير طيبة، فابتعد عن هذا الإنسان الذي تشك في أن ماله ليس حلالاً.
كان رجلٌ موظفاً في شركة، واعتاد أن يأخذ رشوة من الناس فجمع في البنك مائة ألف ومات وتركه، فأخذ الورثة يسألون عما خلف لهم من مالٍ مقداره مائة ألف عن طريق الرشوة، فهي فلوس من حق الشركة وليست من حقه، إذ كان يأخذها ولا يسلمها للشركة، فهذا المال ليس حقاً له؛ لأنه مال حرام لم يستمتع به في الدنيا، ومات ليحاسب عليه يوم القيامة.
رجل آخر جمع مالاً عن طريق الحرام وكان له أملاك طائلة، فاستيقظ قلبه وحاك الإثم في نفسه فأفاق فإذا كل المال الذي معه حرام، فعليه أن يخرج من هذا الحرام، قبل أن يسأله الله عز وجل عليه يوم القيامة، ولا بد أن يرجع الأموال لأصحابها إذا كانت مسروقة، أو مغصوبة، أو حقوقاً للشركة، أو غير ذلك، فعليه أن يبدأ طريقه من جديد ولا يأكل إلا حلالاً، ولا يجوز أن تتصدق بالمال وصاحبه موجود، فالحق يرجع إلى نصابه.
ورجل أخذ شيئاً لقطة، ثم بعد عشر سنين أخذ يسأل ماذا يعمل بها؟ فعليه إثمها؛ لأنه يلزمه أن يعلن عنها عندما وجدها، والإعلان يكون سنة، ويعلن عنها إعلاناً يراه الناس، ويعرفون أن هناك شيئاً قد ضاع فيجيء الناس إليه.
إذاً: من البداية إذا حاك في نفسك شيء فابتعد عنه؛ لأنه شبهة كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) هذا فيما يحيك في صدرك، فكيف بما تعلم يقيناً أنه حرام؟
(44/9)
من ورع أبي بكر وعمر
(44/10)
ذكر قصة أبي بكر عندما أعطاه غلامه شيئاً حراماً أكله ثم تقيأه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه) رواه البخاري.
غلام أبي بكر أي: عبد عند أبي بكر رضي الله عنه كان يأتي بالخراج فيدفعه لـ أبي بكر الصديق رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا العبد كان كلما أتى إلى أبي بكر بشيء من طعام حلال يأخذه أبو بكر رضي الله عنه.
وفي مرة من المرات أخذ أبو بكر ما أتاه الرجل به وأكله رضي الله تبارك وتعالى عنه، ولم يأخذ في باله أنه حرام؛ لأنه دائماً كان يأتيه بحلال، لكن هذه المرة قال الغلام لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: تدري ما هذا الذي أكلته؟ وكأنه قد أفلح أنه استطاع أن يجعل هذا الرجل الذي تكهن له أن يعطيه حلوى.
فقال الغلام: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وفي رواية: (لإنسانة) امرأة كانت حامل، فعلمها كلمات تقولها حتى يكون المولود ذكراً حسب زعمه، فلمَّا خلفت المرأة ولداً قابله زوجها وأعطاه حلوى، فأخذها وذهب إلى أبي بكر يخبره عما فعل، وكأنه يشير إلى أنه كان ذكياً في ذلك.
(فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه)، فقد حاول أبو بكر أن يستفرغ كل الذي في بطنه حتى أجهد نفسه، فدلوه على شرب الماء ثمَّ يتقيأ ففعل رضي الله تبارك وتعالى عنه وهو يقول لهم: لو لم تخرج إلا بروحي لأخرجتها، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما نبت من حرام فالنار أولى به)، أي: الجسد الذي ينبت من الحرام أولى أن يدخل نار جهنم، فلذلك خشي أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه على نفسه من النار ففعل هذا الشيء.
(44/11)
ورع عمر في إنقاص ابنه من العطاء
وعن نافع: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصه؟ فقال: إنما هاجر به أبوه.
يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه.
الحديث رواه البخاري.
إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت ولايته رحمة للناس، ورحمة بالمؤمنين، وكان على عدالة عظيمة جداً، إذ كان يحكم فيعدل بين الناس، ولا يخاف من أحد، إنما يخاف من الله سبحانه وتعالى، ولما جاءت المغانم وفتح الله عليه الفتوحات إذا به يقسم للناس هذه الغنائم.
فكان يقسم للناس على حسب مراتبهم، ففرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، يأخذ المهاجر أربعة آلاف درهم من الدولة كل عام، وذلك من المغانم ومن الفيء ونحو ذلك، وفرض لابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه ثلاثة آلاف وهو من المهاجرين وقد كان عبد الله بن عمر في غزوة أحد عمرة حوالي أربع عشرة سنة، ولم يجزه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ عمره خمس عشرة سنة أجازه النبي صلى الله عليه وسلم.
فـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه هاجر مع أبيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعمره إحدى عشرة سنة مثلاً، فأبوه يراعي أنه لمَّا هاجر كان صغيراً، وأن الذي هاجر به أبوه، فأعطاه أقل مما أعطى للمهاجرين.
(44/12)
الزهد باب من أبواب الورع واجتناب الشبهات
عن عطية بن عروة السعدي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس).
الحديث رواه الترمذي وحسنه ولكن إسناده ضعيف.
والمعنى: أن العبد حتى يكون تقياً، وحتى يكون ورعاً لابد أن يزهد فيما في أيدي الناس، ويبتعد عن ذلك، (ويدع ما لا بأس به) يعني: من الأمور، فإنه إذا وجد مباحاً فإن المباح يليه المشتبه فيه، ويليه المحرم، فعليه أن يأخذ من المباح بقدر ما يحتاج إليه، فلو توسع في المباح فإنه سيقع في الشبهة، فإذا به يقع في الحرام.
فلذلك الإنسان يفطم نفسه، ولا ينبغي له أن يأخذ كل شيء مباح، فهناك مستحبات وهناك واجبات، فيأخذ بعضاً من المباحات، ويترك بعضها أحياناً، حتى يربي الإنسان نفسه؛ لأنه لو فتح على نفسه كل المباح لَفتح المكروه، وفتح المشتبه وفتح الحرام بعد ذلك.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في الورع، وفي أن الإنسان إذا اجتنب الحرام كان ورعاً، فقال لـ أبي هريرة: (اتق المحارم تكن أعبد الناس)، وإذا بعدت عن الحرام يجعل الله عز وجل في قلبك نوراً، وبهذا النور تسير إلى الحلال، وتسير فيما يرضي الله سبحانه وتعالى فتكون أورع الناس.
نسأل الله عز وجل أن يعيننا على ذكره وشكره وعلى حسن عبادته، وعلى أن نكون من أهل الزهد والورع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(44/13)
شرح رياض الصالحين - اعتزال الناس عند فساد الزمان
إن الاختلاط بالناس والصبر عليهم، ودعوتهم إلى الله تعالى من أحسن الأعمال والطاعات، ومن أجل القربات، لكن إذا كان الاختلاط بهم قد يضر المرء في دينه كأن يكونوا عصاة ولم يستجيبوا لدعوته، فرأى أنهم سيؤثروا عليه سلباً فهنا يعتزلهم ويجالس أهل الصلاح، فإن السلامة لا يعادلها شيء.
(45/1)
محافظة المسلم على دينه واعتزال الفتن وأهلها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب استحباب العزلة عند فساد الزمان، أو الخوف من فتنة في الدين، أو وقوع في حرام وشبهات ونحوها.
قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)، رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله، قال: ثم من؟ قال: ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه - وفي رواية - يتقي الله ويدع الناس من شره)، متفق عليه.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن)، رواه البخاري].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله استحباب العزلة عند فساد الزمان، والعزلة أن يعتزل الإنسان الناس عند كثرة الشرور، فإذا كان الإنسان لو اختلط بالناس سيصل به ذلك إلى أن يهوي معهم، وإلى أن يضيع ويفتن في دينه، ويفتن عن هذا الأمر العظيم الذي في قلبه وهو الإيمان، فعليه أن يبتعد عما يكون سبباً في ذلك.
فالمؤمن يختلط بالناس اختلاطاً ينتفع به وينتفعون به، وأما اختلاط يضيع على الإنسان دينه، فالمسلم يضن بدينه أن يضيع، فلذلك إذا لم تكن هناك وسيلة إلا أنه يعتزل الناس فهذا آخر ما يلجأ إليه المؤمن.
فليس الأصل هو الاعتزال، وإنما الأصل الاختلاط بالناس، ولذلك جاء فيها أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو فعله صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه والتابعين من بعدهم أنهم يختلطون بالناس، ويدعون الناس إلى الله عز وجل، ويجاهدون في سبيل الله، ولكن حين يضيق الأمر بالمؤمن ولا يجد مكاناً يذهب إليه إلا وفيه الفتن، فإنه يعتزل إما اعتزالاً مخصوصاً لأناس معينين ويختلط بغيرهم، أو أنه يعتزل الجميع إذا كان يخشى أن يضيع باختلاطه بالناس.
إذاً فتستحب العزلة عند فساد الزمان، فتفسد أحوال الناس، ويصير الحرام هو الذي يشيع بين الناس في كل شيء: في أخلاق الناس، وفي معاملاتهم؛ في أخذهم وعطائهم، فيعتزل هؤلاء الذين يخاف منهم على دينه.
إذاً فعند فساد الزمان أو الخوف من فتنة الدين، أو يخاف على نفسه الردة، ويخاف على نفسه أن يصير فاسقاً بعدما كان مؤمناً، ويخاف أن يقل إيمانه فله ذلك.
وأما إذا كان يختلط بالناس فيزداد إيماناً فليختلط.
قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
فالنبي صلوات الله وسلامه عليه نذير من عند الله عز وجل مبين، أي: نذير واضح جلي مبين لشرع الله عز وجل بياناً واضحاً عظيماً جلياً، فلم يستسر بالدعوة وإنما أعلنها، وهو نذير مبين للناس الأحكام الشرعية، فلم يخفِ شيئاً عنهم من دين رب العالمين، بل بينه، فهو نذير يخوفهم عذاب الله عز وجل، وما أعده للقادمين، فقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] فهو يدعوهم إلى أن يفروا من الناس وأن يلجئوا إلى الله تبارك وتعالى، فهو الملجأ سبحانه، وهو الذي يغيث عباده ويعصمهم، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50].
(45/2)
ما جاء في فضل العزلة عند فساد الزمان
(45/3)
شرح حديث: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)
وجاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي) أي: الإنسان الذي يتقي الحرام.
وقد جاء في حديث أبي هريرة قبل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اتق الحرام تكن أعبد الناس) أي: إذا أردت أن تكون أفضل العبّاد لله فلا تقرب الحرام، فصفة العبودية لله صفة تشريف، فالله سبحانه وحده هو الخالق، وما سواه مخلوقون، فهم عبيد لله، فهو سبحانه يحب من عباده من كان متصفاً بهذه الصفات: أن يكون تقياً غنياً خفياً.
فالتقي هو الذي يتقي الحرام، ويتقي غضب الله، ويتقي المعاصي والذنوب، فهو تقي وهو غني.
قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الغنى: (ليس الغنى عن كثرة العرض) أي: ليس الغنى أن يكون لديك مال كثير، (ولكن الغنى غنى القلب)، أي: امتلأ قلبه إيماناً فاستغنى بهذا الإيمان، وامتلأت نفسه شبعاً بتقوى الله سبحانه، فلا ينظر إلى الدنيا ولا يأبه لها مهما أوتي الناس من كنوز، فكنزه في قلبه وهو إيمانه العظيم، فقد علم أنه مهما أوتي من مال فسيتركه يوماً من الأيام، فاستغنى بما عنده من إيمان وبعمله الصالح، فغناه في قلبه وليس محتاجاً إلى أحد، وإنما هو محتاج إلى الله عز وجل، فقد ركن إلى الله ولم يركن إلى الذين ظلموا، فقد امتلأ قلبه غنى.
قال: (إن الله يحب العبد التقي الغني) يعني: أن قلبه غني غير محتاج إلى أحد، فلا يستشرف إلى شيء من الدنيا.
قوله: (الخفي) يعني: الذي يداوم على العمل ويخفي هذا العمل، فلا يعلن العمل أمام الناس وهو في السر لا يعمل شيئاً، فهذا عمله صالح، وأكثر ما يكون من عمله في الخفاء، فالله عز وجل يحب هذا.
فإذا أحبه الله كان الأمر كما قال الله تعالى في الحديث الآخر: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها؛ ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فالعبد الذي يحبه الله عز وجل عبد قريب من الله، وهو عبد إذا طلب من الله أعطاه، ومع ذلك فهو لا يطلب من الله دنيا؛ لأن الدنيا أحقر من أن يطلبها، وإنما يطلب الآخرة، ويطلب أن يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، فتجده يطمع الطمع الحقيقي، وهو الطمع فيما عند الله عز وجل.
وأما الطمع في الدنيا فهو شيء حقير؛ لأنك مهما أوتيت من الدنيا فستتركها يوماً من الأيام، ولو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لذلك فهذا العبد يطمع فيما عند الله سبحانه، يطمع في جنة الله سبحانه، فهذا هو الطمع الحقيقي، وهذه هي المنافسة الحقيقية، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، فالله عز وجل يحب من عبده أن يكون تقياً غنياً خفياً.
(45/4)
شرح حديث: (أي الناس أفضل يا رسول الله؟)
ومن الأحاديث في ذلك: حديث في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وفيه: (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أفضل يا رسول الله؟! قال: مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله).
إذاً: فالاختلاط بالناس أمر حسن وجميل إذا كان على هذه الهيئة، فهو مجاهد بنفسه وماله، فيبذل نفسه في سبيل الله عز وجل، ويجاهد الكفار، ويجاهد المنافقين بيده وبلسانه وبقلبه، ويختلط بالناس فيأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويعلمهم الخير وينهاهم عن الشر، فهو مؤمن مختلط بالناس مجاهد في سبيل الله عز وجل، فهذا أفضل ما يكون، ونفعه متعدٍ فكان أفضل.
والذي يليه قال صلى الله عليه وسلم: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب)، فليس كل الناس يستطيعون أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فالرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: ثم من؟ أي: فالذي لا يقدر على هذا الشيء، فمن الذي يلي هذا؟ قال: (ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب).
والشعب هو الطريق بين الجبلين، وكأن الدنيا قد ضاقت عليه، فالدنيا كلها فتن وبلاء ومصائب، فكلما ذهب إلى ناحية وجد الفتنة، وكلما ذهب إلى معاملة وجد الحرام، فإذا به يذهب إلى الشعب بين جبلين؛ من أجل ألا يرى أحداًً من الناس.
ويكون معه غنم في ذلك الشعب؛ من أجل ألا يحتاج إلى أحد من الناس، فهو يلبس من صوفها، ويأكل مما يستخرجه منها، ويشرب من ألبانها، فزهد هذا في الدنيا لأنه يخاف على نفسه من الفتن، فإذا به يعتزلها إلى أن يصل به الحال إلى هذه الصفة.
وليس ذلك مطلوباً من الناس كلهم، ولكن إذا ضاقت على المؤمن الدنيا فوجد الملجأ في البعد عن الناس فله ذلك، وكل إنسان يبتعد بحسب ما يقدر عليه، فهذا يجد مثلاً في الحي الفلاني فتناً فيبعد عنهم، وهذا يجد في القبيلة الفلانية الفتن فيبعد عنها، أو في البلدة الفلانية فتناً بعد عنها، فيعتزل الإنسان أهل الفتن وأهل المعاصي، ويكون أصحابه ورفقاؤه هم أهل الله عز وجل، وهم عباد الله سبحانه، هم أصحابه في بيت الله، فيصلي مع المسلمين، ويكون مع الناس في طاعتهم لله سبحانه، ويقلل من رفقاء السوء قدر المستطاع، وهذا طالما أنه لا يقدر على أن يدعوهم إلى الله، بل يخاف أن يفتنوه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله عن المخرج: (ابك على خطيئتك، وليسعك بيتك)، إذاً فابق في بيتك وقلل من الخروج إلى الناس طالما أن المخالطة مع الناس تؤذيك وتفتح لك طريق النار.
إذاً: فهذا الإنسان يلزم بيته ويبتعد عن شرور الناس، وأفضل شيء أن يدعو إلى الله عز وجل، وأن يختلط بالناس ليدعوهم إلى الهدى، ولكن إذا وصل أمر الاختلاط إلى أنه سيضيع فليتدارك نفسه وليبتعد عن شرار الخلق، قال لنا صلى الله عليه وسلم: (ثم الرجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه)، وفي رواية: (يتقي الله ويدع الناس من شره).
(45/5)
شرح حديث: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال)
وفي حديث آخر عن أبي سعيد أيضاً رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن).
فهذا أفضل أموال المسلم، وقوله: (يوشك) يدل على أنه سيكون قريباً، وما هو آت فهو قريب، كما قال الله سبحانه: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، بل يقول: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، فالساعة قريبة وآتية لا ريب في ذلك، فما هو آت فهو قريب.
وانظر إلى أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم العجيبة، فهو لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك وحي من الله سبحانه يوحيه إليه، فهو يخبر بأشياء فتكون كما قال، فقد قال: (لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه)، وهذا ما نراه ونلمسه.
وقال: (صنفان من الناس لم أرههما: رجال معهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، فأحد هذين الصنفين هم الشرط، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يرهم، ومع ذلك أخبر أنهم سيكونون، فكانوا كما قال صلى الله عليه وسلم.
قوله: (ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات)، مثل أن تلبس المرأة ثياباً خفيفة تشف عما تحتها، أو أن تلبس ثياباً ضيقة تفصل الجسد تحتها، أو أن تلبس ثياباً قصيرة لا تستر إلا بعض الجسم.
وهذا كله قد وجد في عصرنا هذا، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإذا صارت الفتن تحيط بك ولا تقدر على مدافتعها، فاعتزل هذه الفتن، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك.
يقول صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال)، شعف الجبال هي رءوس وقمم الجبال، يعني: يأخذ معه غنمات فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان، فهي طعامه وفيها شرابه وكسوته، فاكتفى بهذا الشيء اتقاء لغضب الله سبحانه، فابتعد عن الفتن بذلك.
قال: (يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر)، يعني: يبحث عن المكان الذي وقع فيه المطر؛ من أجل أن تشرب الغنم، ومن أجل أن يكون هناك كلأ تأكل منه الغنم.
وبعض الناس يجد أمامه الفتن فيقول: ماذا أعمل، فالدنيا كلها فتن ومثلي مثل الناس! فهو إمعة إذا أحسن الناس أحسن، وإذا أساءوا أساء، نسأل الله العفو والعافية.
وفي حديث آخر يرويه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، فقال: أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)، فكان يرعى الغنم صلوات الله وسلامه عليه.
وهنا عندما يقول: (يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً) لعل بعض الناس يأنف أن يرعى الغنم فنقول له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد رعى الغنم يوماً من الأيام، فلا يأنف الإنسان المسلم من مثل ذلك.
وفي هذا حكمة من الله في كون الأنبياء يرعون الغنم، فالغنم فيها الكبير وفيها الصغير وفيها الضعيف، وصاحب الغنم يكون فيه حنان على غنمه، فتحتاج أن يحوطها، وأن يرعاها، وأن يذهب بها إلى مكان الرعي.
وأما صاحب الإبل فإنه عندما يرى نفسه فوق الناس يأتيه الغرور، وأما صاحب الغنم فيستشعر التواضع، فإذا وجد غنمه مريضة حملها على ظهره، أو أكلها بنفسه، فيستشعر التواضع، ففي تربية الغنم تعويد للإنسان على سياسة الناس، فما من نبي إلا وقد جعله الله عز وجل يرعى الغنم.
فراعي الغنم يكون فيه حنان على الغنم، فيجمعها ولا يفرقها، وانظر لو دخل صاحب الغنم بالعصا في وسط الغنم فإنها تتفرق وتهرب كلها، وحين يسقيها فإنه يضع لها الماء ويبعد عنها عصاته؛ من أجل أن تأتي وتشرب، وإذا رفع العصا نفرت كلها، فهنا يعود الله عز وجل أنبياءه ويربيهم على ذلك، فرعي الغنم تحتاج إلى نوع من السياسة في التأليف والوفاق بينها، فإذا كان يسوس الناس كان متعودا ًعلى هذا الأمر: أنه يجمع ولا يفرق الناس.
فالنبي صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وهنا يقول لنا: (يوشك) أي: سيأتي يوم من الأيام يكون فيه خير مال المسلم غنمات يتبع به شعف الجبال، ومواقع القطر، والقطر هو المطر، ويفعل ذلك فراراً من الفتن.
(45/6)
شرح حديث: (من خير معاش الناس بهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله)
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خير معاش الناس لهم، رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل).
فهذا من خير المؤمنين، وهو من أفضل الناس وأحب الناس إلى الله عز وجل، فهو أنفع الناس للناس، وأنفع المسلمين للمسلمين، فهذا المجاهد في سبيل الله عز وجل بمجرد أن يأتي العدو إلى المكان فهو يطير إلى هذا المكان؛ من أجل يكف الشر عن الناس، فهذا يضحي بنفسه من أجل غيره من المسلمين، ويطلب القتل في مظانه.
قال: (ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه -أي: على ظهر الفرس- كلما سمع هيعة -صيحة الفزعة- أو فزعة طار عليه يبتغي القتل مظانه) يعني: هو حريص على الشهادة في سبيل الله سبحانه.
قال: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف).
وانظروا إلى هذا التعبير: (أو رجل في غنيمة)، فلو كان لديه قطيع من الغنم فمعناه أنه يريد الدنيا، لكن هذا في غنيمة قليلة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عز وجل عليه الفتوح وأصبح يملك مائة غنمة قال: (لا أحب أن تزيد) أي: لا أريد أكثر من ذلك.
وقد كان نصيبه صلى الله عليه وسلم في المغانم خمس الخمس، وكان له من الفيء الخمس، ومع ذلك ما كان عنده أكثر من مائة غنمة، فكان إذا ولدت واحده منها ذبح واحدة مكان هذه المولودة حتى لا تزيد.
وكأنه يعلم المؤمنين ألا يطمعوا، بل يأخذون من الدنيا على قدر حاجتهم، فإذا كان عندك مائة غنمة فلا تتمن أن تكون ألفاً وإنما تطلب الحاجة التي تحتاجها فقط.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف -أي: في رأس جبل من الجبال- أو بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين).
فهو يعطي الحقوق لأصحابها، فيقيم الصلاة، أي: لا يصلي فقط، بل يصلي ويقيم الصلاة، فيحسن صلاته، ويستقيم فيها، ويواظب عليها ولا يضيعها، ويحسنها كما يريد الله سبحانه.
(ويؤتي الزكاة)، وقد يقال: لمن سيعطي الزكاة إذا كان معتزلاً للناس؟!
و
الجواب
أنه لا يعتزل كل الناس، بل سيكون في وسط أناس يحتاجون، فيؤتي زكاة ماله لهؤلاء، إذاً: فليس المراد بالاعتزال أن يعتزل كل الناس، ولكن يعتزل أهل الشر من الناس ولو أن ينفرد وحده، أو ينفرد في مجموعات من الناس من أهل التقوى وأهل الإحسان.
(ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين) يعني: حتى يموت.
فالمؤمن يحب للناس الخير ولا يضن عنهم بخير، وهو لا يحسد أحداً على ما آتاه الله عز وجل من خير، بل يتمنى زيادة الخير، فيخالطهم كي ينفعهم، فإذا وجد المضرة في المخالطة اعتزل الناس إلا من خير.
(45/7)
فضل الاختلاط بالناس وحضور مجامع الخير
يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب فضل الاختلاط بالناس وحضور جمعهم، وجماعاتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر إلى آخر ما ذكره] ولم يذكر في هذا الباب حديثاً.
وترجمة الباب تدل عليها أحاديث كثيرة جداً، من عادة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أفعاله صلى الله عليه وسلم: كجهاده في سبيل الله، ودعوة الناس في خطب الجمعة، ودروسه وتذكيره للناس صلى الله عليه وسلم، ففي هذا كله مخالطة لهم، فلا نحتاج أن يقول: كان يختلط بهم في كذا وكذا، فقد كانت كل حياته صلى الله عليه وسلم اختلاطاً بالناس من المؤمنين وغيرهم يعلمهم ويهديهم إلى ربه سبحانه.
فكأنه يريد أن يقول: إن الاختلاط بالناس بأن تعلمهم فيهديهم الله عز وجل على يديك، فهذا أفضل من أن تعتزل الناس، فتحضر الجمع وتحضر صلاة الجماعة مع الناس، وتحضر دروس العلم ومشاهد الخير مع الناس، وتحضر مجالس الذكر وتعود المرضى، وتحضر جنائز المسلمين، وتواسي المحتاجين، وترشد الجاهلين، وغير ذلك من المصالح لمن يقدر على ذلك، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقمع نفسه عن الأذى.
إذاً: فهو لا يؤذي الناس، وإذا حضر مع الناس كان حضوره خيراً، فخير الناس وأحب الناس إلى الناس وإلى الله عز وجل الذي ينتفع به الناس، فيعلمهم الخير ولا يتعالى عليهم، ويرشدهم إلى الخير ابتغاء وجه الله سبحانه، فيقمع نفسه عن الإيذاء فلا يؤذي أحداً من الناس، بل هو خير حيثما كان، فإذا احتاج إليه الناس فإنه يعلمهم ويهديهم إلى ربهم سبحانه، وتراه ينفق عليهم ويتصدق ويفعل الخير الذي أمر الله عز وجل به، ويصبر على هذا.
يقول النووي: (قمع نفسه عن الإيذاء، وصبر على أذى الناس)، فالمؤمن لا يؤذي أحداً، ولا يدفع الضرر بالضرر، فإذا أوذي صبر على ذلك ونصح، ولعل الإنسان بحسن خلقه وصبره على غيره أن يقتدي به الناس في ذلك ويفعلون كما يفعل، فيكون قد سن للناس سنة طيبة.
وللحديث بقية إن شاء الله، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(45/8)
شرح رياض الصالحين - التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
لقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأوحى إليه أن يخبر أمته بأن يتواضعوا، وألا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه، فالتواضع خلق حميد يحبه الله ورسوله.
(46/1)
ما جاء في التواضع وخفض الجناح للمؤمنين
(46/2)
ذكر بعض النصوص الدالة على فضل التواضع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين: قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].
وروى مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) رواه مسلم)].
هذا باب آخر من كتاب (رياض الصالحين) يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله التواضع وخفض الجناح للمؤمنين.
التواضع: هو وضع الشيء وإنزاله بخلاف رفع الشيء.
فالإنسان المؤمن يتواضع، ويتكلف خلق التواضع، حتى يكون له سجية، ويضع نفسه أمام المؤمنين ويذل نفسه لهم، ولا يفتخر عليهم ولا يستكبر ولا يبغي على أحد من الناس.
فالتواضع أن يرى الإنسان نفسه أنه ليس أعلى من غيره وليس أفضل من غيره، وأنه مخلوق من طين، ومخلوق من ماء مهين، فيرجع إلى أصل وضعه وإلى أصل خلقته، قال تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:18 - 21].
فهو مخلوق من الأرض وفيها يقبر وإليها يعود مرة ثانية، ومنها يخرج، فيستشعر في نفسه العبودية لله سبحانه وتعالى، فيتحلى بالتواضع؛ لأنه عبد لله سبحانه، فيتواضع ولا يفتخر على غيره.
فيتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، يعني: يميل ويلين ويذل نفسه لإخوانه المؤمنين.
(46/3)
أمر الله تعالى لنبيه بخفض الجناح والتواضع للمؤمنين
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215].
والجناح هو جانب الإنسان، كأنه يقول: لا تصعر خدك، ولا تتعال على الخلق، لا تمل بجانبك ولا تعرض به عن الناس، ولكن كن متواضعاً معهم، فهذا النبي سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه وهو من هو على ما فيه من تواضع يأمره ربه وينصحه بالتواضع وخفض الجناح للمؤمنين فيكون أمراً له ولغيره من المؤمنين: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان للمؤمنين كالوالد مع ولده، ولذلك كان يقول للمؤمنين: (إنما أنا بمنزلة الوالد أعلمكم) فيعلمهم فلا يستحيون منه ويسألونه عن كل شيء دق أو جل مما يحتاجون إليه، حتى إن اليهود ليحسدون المؤمنين على نبيهم صلى الله عليه وسلم فقالوا: (هذا الرجل يعلمكم كل شيء حتى الخراءة) يعني: أنه يعلمكم حتى أدب دخول الخلاء.
ويقول: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال) فيأمرهم أن يسألوا إذا جهلوا حكماً من الأحكام، حتى لا تقع عبادتهم ولا تقع أفعالهم على الوجه الذي يكرهه الله سبحانه ويحرمه.
لقد جعل الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لين الجانب والرفق بالمؤمنين، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ويحذره سبحانه ويقول له: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: والحال أنهم مجتمعون حوله صلى الله عليه وسلم بفضل الله وبرحمته، فهو الذي جعل في قلبه الشفقة والحنان والرحمة على المؤمنين؛ ليقتدي به المؤمنون، فكل إنسان مؤمن قدوته النبي صلى الله عليه وسلم، فهو مهما أنفق على الناس من مال فلن يجمع قلوبهم، وقد يجمع أبدانهم، لكن القلوب يجمعها الله سبحانه وتعالى بما يجعله في خلق الإنسان من تواضع ومن لين جانب ومن حب للغير، فمن يحب الخلق يحبه الخلق، أما من يكره الناس تكرهه الناس، ولذلك كان الرجل الجاهلي يقول: لا أسأل الناس عما في ضمائرهم ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني أي: لا أسأل أحداً هل تحبني أو لا تحبني، ولكن أبحث في قلبي إذا كنت أحب إنساناً فإن الله عز وجل يجعل في قلب هذا الإنسان المحبة لي.
أما إذا كنت أكرهه فكيف أرجوا المحبة منه؟! فعلى ذلك لا تطلب محبة من تكرهه.
فجعل الله عز وجل في قلب النبي صلى الله عليه وسلم المحبة للمؤمنين، فكان يدعو لهم ويشفق عليهم ويرحمهم ويرأف بهم، فيحبونه ويجتمعون حوله صلوات الله وسلامه عليه.
(46/4)
مدح الصالحين بأنهم أذلة على المؤمنين
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، وقال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
إن دين الله دين عزيز، وكتاب الله كتاب عزيز، وربنا سبحانه وتعالى هو القوي العزيز، وأنت أيها العبد تحتاج إلى الدين، والدين لا يحتاج إليك، وتحتاج إلى رحمة رب العالمين، والله ليس محتاجاً إليك، وتحتاج إلى كتاب الله عز وجل ليكون نوراً في قلبك، وكتاب الله في غنى عنك.
فالإنسان المؤمن يتقرب إلى ربه سبحانه يبتغي فضله ورحمته، ويدعو ربه أن يملأ قلبه بنور الإيمان، فهنا يقول لنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] يعني: إذا توليتم فلن تضروا الله شيئاً، لا يضر أحدكم إلا نفسه، فإذا توليت عن الطاعة استبدل الله غيرك، واستخلف غيرك ممن يستحق أن يدخل الجنة، وهذا الذي أعرض لا يستحقها، وقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أي: يكونوا أفضل منكم.
فلو أن إنساناً يرتد عن دينه فهل الدين سيخسر بارتداده؟ لن يخسر شيئاً؛ لأن دين الله عز وجل دين عزيز عظيم، ولكن الذي يخسر هو المرتد، ويأتي الله عز وجل بغيره ممن يحب هذا الدين ويحب المؤمنين، قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أي: الله يحبهم الله وهم يحبون الله سبحانه وتعالى.
قوله: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] هذه صفة الإنسان المؤمن أن يخفض جناحه ويذل لإخوانه المؤمنين، فالمؤمنون يذلون أنفسهم لإخوانهم، ولا يستكبرون، بل يتواضعون بين إخوانهم، قد يكون أحدهم صاحب مال وصاحب غنى وصاحب منصب، ولكن في وسط المؤمنين هو واحد منهم، يتواضع لهم فيحبهم ويحبونه، يتألفهم ويتألفونه، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف.
فهؤلاء المؤمنون الذين هم أذلة على المؤمنين كيف حالهم مع الكافرين؟ {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]؛ لأنهم تمسكوا بدين الله عز وجل، فهو دين عزيز، وكتاب عزيز من رب عزيز سبحانه وتعالى، فأعطاهم العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
فالعزة لله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، فلما أذل المؤمنون أنفسهم لربهم سبحانه، وتواضعوا بين المؤمنين إذا بالله يكسبهم العزة، فإذا به في موطن الجهاد والقتال مع أعداء الله يعزهم ويرفعهم سبحانه، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
أي: هذا الفضل العظيم فضل الله سبحانه، ولا يحصل هذا الفضل بكسب يكتسبه الإنسان بمال أو منصب، وإنما بتقواه لله سبحانه، وبحبه لدين الله، وبتواضعه، فيرفعه الله سبحانه ويعزه.
(46/5)
التقوى هي معيار التفاضل
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] قوله: (يا أيها الناس) أي: أن الخلق جميعهم يناديهم ربهم سبحانه، (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) أي: أصل خلقة الإنسان من آدم وحواء، ثم بعد ذلك يتناسل الناس من ذكر وأنثى، فلا أحد أفضل من أحد، هذا ابن أبوين وذاك ابن أبوين، هذا من ذكر وأنثى وذاك من ذكر وأنثى، كلما ارتفعوا نظروا في النهاية فوجدوا أن أباهم آدم وآدم من تراب، فعلام يفتخر بعضهم على بعض؟ فالإنسان المؤمن يعرف أصل خلقته فيتواضع؛ لأنه يريد أن يتقرب إلى الله، فلا يتعزز على الخلق.
قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] أي: ليتعارف بعضكم مع بعض، ويحب بعضكم بعضاً، ويهدي بعضكم بعضاً، ويدعو بعضكم بعضاً إلى الخير، قال: ((لِتَعَارَفُوا)) لم يقل لتتنافروا، والتعارف يجلب المحبة بين الخلق.
قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
الأكرم عند الله سبحانه ليس هو الأغنى، ولا صاحب المنصب، وإنما الأتقى، كلما ازداد الإنسان تقوى ازداد قرباً من الله سبحانه، وإكراماً من الله له.
وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32] أي: لا تظل تقول: أنا أنا، فتزكي نفسك وتمدح نفسك، الله أعلم من هو من أهل التقوى، فلا تصف نفسك بصفات الكمال، فإن صفات الكمال والجمال المطلق لا تكون إلا لله عز وجل.
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78] سبحانه وتعالى.
قال تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات:13] وقال تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فكيف نجمع بينهما وبين قوله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]؟
الجواب
الإنسان مطلوب منه أن يزكي نفسه بالفعل، ومنهي أن يزكي نفسه بالقول وبالمدح.
تزكي نفسك وتطهر نفسك وقلبك بالأفعال التي ترضي بها ربك، فهذه التزكية هي التي أمرك الله عز وجل بها، أما التزكية التي نهاك عنها بقوله: ((فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ)) فالمعنى: لا تزك نفسك ولا تتعال على غيرك، ولا تنظر لنفسك أنك أفضل من غيرك.
(46/6)
رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين المتواضعين
قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:48 - 49].
الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: فريق دخل الجنة فكانوا السابقين.
وفريق دخلوا النار فكانوا من البؤساء.
وفريق على الأعراف ينتظرون فضل الله عز وجل عليهم، وهم لم يدخلوا الجنة.
وهم يطمعون في فضل الله سبحانه وتعالى، فينظرون إلى أهل النار ويبكتونهم ويقولون: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48]، أي: أنتم الذين كنتم تجعلون من أنفسكم كباراً، فاستكبرتم وجمعتم الدنيا، فهل نفعتكم؟ لا، لم تنفعكم بل دخلتم النار والعياذ بالله.
ثم قالوا لهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49] أي: هؤلاء كانوا كذابين غدارين، كانوا يفتخرون بأنفسهم، حتى إنهم ليتألون على ربهم سبحانه ويقولون للمؤمنين: أنتم والله لن تدخلوا الجنة أبداً، فأصحاب الأعراف يقولون لهؤلاء الكفار يبكتونهم: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ} [الأعراف:49] أي: كنتم تحلفون أنهم لن يدخلوا الجنة، فهم الآن دخلوا الجنة، أما أنتم فـ {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأعراف:48] فهؤلاء دخلوا الجنة وقيل لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف:49].
إذاً: أهل النار كانوا مستكبرين، وأهل الجنة كانوا ضعفاء وكانوا متواضعين، فدخلوا الجنة برحمة رب العالمين سبحانه وتعالى.
(46/7)
فضل التواضع وقبح الكبر والفخر
(46/8)
شرح حديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا)
من الأحاديث التي جاءت في الباب حديث رواه مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد) أي: أنزل نفسك وحط من قدرها يرفعك الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنسان الذي يتواضع يرفعه الله ويعزه ويعطيه من فضله سبحانه في الدنيا وفي الآخرة، أما الإنسان المستكبر فمهما استكبر فقد أبى الله أن يرتفع شيء إلا وضعه، فهذا يترفع ويرفع نفسه على الخلق فيضعه الله سبحانه وتعالى.
قوله: (إن الله أوحى إلي) أي: هذا من الوحي إليه صلى الله عليه وسلم، فقد أوحى إليه بـ (أن تواضعوا) حتى لا يفخر أحد على أحد، يعني: تخلق بدرجة التواضع حتى لا تفخر على أحد، وحتى لا تقول: أنا كذا وأنت كذا، وحتى لا ترى لنفسك فضلاً على أحد من الناس، ولكن انظر للجميع على أنهم إخوة لك في دين الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه جعل بعضكم لبعض سخرياً.
فمن كرمه سبحانه جعل بعضكم قوياً وبعضكم ضعيفاً، فيحتاج الضعيف إلى القوي، فجعل بعضكم عاملاً وبعضكم موظفاً وبعضكم طبيباً، فيحتاج بعضكم إلى بعض، فلو جعل الجميع شيئاً واحداً ولم يحتج أحد إلى أحد لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم شيئاً، ولكن الله بكرمه أحوج الناس بعضهم إلى بعض؛ لتكون الألفة، وليكون التعارف، ولتكون المحبة بينهم، والاحتياج يولد ذلك، فأنا إذا احتجت لفلان من الناس، فإني أتلطف معه لكي يعمل الشيء الذي لا أستطيع أن أعمله، والعكس كذلك.
فهنا جعل الله عز وجل الناس أصنافاً شتى حتى يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، يعني: أنا أستخدمك وأنت تستخدمني، فيحتاج بعضنا إلى بعض، فيرفق بعضنا ببعض، فنتعارف ونتحاب فيما بيننا.
قوله: (ولا يبغي أحد على أحد) أي: أن الذي يبغي تكون نهايته النار، وهذا الإنسان ظالم، قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى:42] فهؤلاء هم الذين عليهم حرج وعليهم السبيل، وأذن الله للمؤمنين أن يأخذوا حقهم من هؤلاء المعتدين.
وهذا المعنى جاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي، ورواه أبو داود أيضاً بالمعنى، ورواه أحمد، ولفظ الترمذي: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا إنما هم فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه) هذا تحذير شديد من النبي صلى الله عليه وسلم، فإياك أن تفتخر؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لينتهين أقوام) والفعل المضارع إذا دخلت عليه اللام التي للتوكيد وانتهى بالنون المثقلة التي هي أيضاً للتوكيد دل على جملة القسم، فكأنه هنا يوجد قسم محذوف تقديره: والله لينتهين أقوام عن ذلك أو ليفعلن الله بهم كذا وكذا.
فهؤلاء الذين يفتخرون بهم إنما هم فحم جهنم، فهم يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية وكانوا كفاراً، أو يفتخرون بعد ذلك بآبائهم الفجار والفسقة الذين كانوا أصحاب مناصب في يوم من الأيام، كأن يقول: كأن أبي كذا، مع أن أباه كان فاسقاً، ولم يكن يدخل المسجد، إلا عندما مات أدخلوه المسجد وصلوا عليه، وبعد ذلك يقول: كان أبي وكان أبي.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من الافتخار بالآباء الذين ماتوا على هذا الشيء، فهؤلاء قال عنهم أيضاً: (أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده الخرأ بأنفه)، والجعل كالخنفساء، وهو الذي يحرك بأنفه القذر والنجس، وهذا لو أبصرته أمامك لدسته برجلك ليموت؛ لحقارته عندك.
فهؤلاء إما أن ينتهوا عن افتخارهم بالآباء، أو ليجعلنهم الله عز وجل كهذا الشيء الحقير، ثم يأخذهم ويلقي بهم في نار جهنم ولا يأبه لهم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء) العبية: الكبر والافتخار.
ثم قال (إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي) يعني: الناس إما مؤمنون أتقياء أو فجرة أشقياء، والناس كلهم لآدم وآدم من تراب، فكل إنسان عندما يقول: أبي كذا وأبوك كذا، فليعلم أن الأب واحد وهو آدم، والجميع ينتهون إلى آدم، وآدم أتى من تراب، فلا داعي أن يفتخر الإنسان بخلقته، والكل سواء في أن أباهم آدم وآدم من تراب.
(46/9)
شرح حديث: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً)
يذكر الإمام النووي حديثاً رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
جاء في حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة أقسم عليهن) يعني: أنه يقسم على ذلك.
ولا نحتاج لقسمه صلى الله عليه وسلم فهو الصادق المصدوق، ولكن يريد التأكيد الشديد: أن ثق في هذا الذي أقوله لك، ثق في أنك إذا أنفقت من مالك فلن ينقص هذا المال، طالما أن النية نية حسنة والعمل لله سبحانه وتعالى، فقال: (ما نقصت صدقة من مال) يعني: المال لا تنقصه الصدقة.
ثم قال: (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) يعني: إن ظلمك إنسان عفوت عنه، حتى وإن قال الناس: إنما عفا لأنه خائف منه، ولأنه لا يقدر على أن يأخذ الحق منه، حتى وإن استشعرت من كلامهم الإذلال والتحقير، ولكن نقول: إن ربنا يأمرك بالعفو، فقال: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22]، والنبي صلى الله عليه وسلم يأمرك بالعفو أيضاً كما في هذا الحديث وغيره، فلا تنظر للناس الذين ينظرون إليك أنك ذليل لأنك عفوت عن هذا الإنسان، لكن الله عز وجل وعدك بالعز، فالله يعزك ويذل من يحقر شأنك وشأن العفو عن الناس.
قوله: (وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) أي: إذا كنت تريد أن يرفعك الله في الدنيا والآخرة فتواضع؛ لأنك كلما تواضعت للخلق رفعك الخلق فوق رءوسهم، وأحبوك لتواضعك، وبتواضعك تجمع حولك قلوب الناس، وتنتفع بهم في الدنيا وفي قبرك ويوم القيامة.
والإنسان المتواضع خلقه عظيم، وهذا الخلق يقربه من النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الجنة؛ لأن أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء لنا في الحديث: (أحسنكم خلقاً أو أحاسنكم أخلاقاً)، فهذا الإنسان المتواضع عندما يأخذ الناس جنازته يزدحمون عليه، وعندما ينزل في قبره يقفون عند قبره ويدعون له: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فهذا انتفع بالناس وهو في قبره، وفي الدنيا أحبوه وكانوا حوله، فهو يصلي معهم ويكون معهم في العبادة، ويأمرهم بالمعروف فيستمعون، وينهاهم عن المنكر فينتهون، فإذا به في كل أحواله على خير.
(46/10)
شرح حديث أنس: (أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي يفعله)
وعن أنس رضي الله عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله).
أي: كان صلى الله عليه وسلم يسلم على الكبار، وعلى الصغار، وكان إذا مر بأحد سلم عليه، وكان يأمرنا بذلك ويقول: (ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم).
(46/11)
شرح حديث: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي فتنطلق به حيث شاءت)
وعن أنس قال: (إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتنطلق به حيث شاءت).
صدق الله العظيم حيث يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن) أي: كان عليه الصلاة والسلام قرآناً يمشي على الأرض، وقد بلغ درجة عظيمة في حسن الخلق صلوات الله وسلامه عليه؛ رباه ربه سبحانه وتعالى فعلمه مكارم الأخلاق، ففي سورة المدثر يقول له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7].
يعلمه هنا آداباً منها: ((وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)) أي: عندما تعطي أحداً شيئاً فلا تستكثر أنك أعطيته، فأنت لا تعطي من جيبك، وإنما تنفق من مال الله عز وجل، وقد كان يقول لـ بلال رضي الله عنه: (أنفق بلال، ولا تخف من ذي العرش إقلالاً) أي: أنفق ولا تخف؛ لأن ربنا سيخلف ويعطينا سبحانه وتعالى.
وهنا يذكر في الحديث أن الأمة من إماء المدينة -أي: الجارية وليست المرأة الحرة- فكانت تذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وتطلب حاجتها منه؛ لأنه أرفق وأحن وأرحم صلوات الله وسلامه عليه، فكانت تذهب إليه وتأخذ بيده صلى الله عليه وسلم، وتقول: اعمل لي كذا، فيذهب متواضعاً معها ويقضي لها حاجتها، فكان يذهب هو بنفسه صلوات الله وسلامه عليه.
انظروا إلى خلقه وتواضعه صلى الله عليه وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليقتدي به الناس.
(46/12)
شرح حديث: (كان النبي يكون في مهنة أهله)
أيضاً من تواضعه صلى الله عليه وسلم ما ورد في الحديث الآخر يقول الأسود بن يزيد رحمه الله تعالى: (سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله).
أي: كان في بيته صلى الله عليه وسلم في خدمة أهله، فقد كان يساعد أهله في البيت صلى الله عليه وسلم.
ثم قالت: (فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة) رواه البخاري.
إذاً: وهو في بيته صلى الله عليه وسلم كان يشغله ما يشغل غيره من مهنة البيت، فقد كان يعين زوجته في أعمال البيت، وكان يخصف نعله بنفسه صلى الله عليه وسلم، أي: يصلح نعله بيده الكريمة صلوات الله وسلامه عليه.
فتواضعه صلى الله عليه وسلم عظيم جداً، يدخل المسجد مرة فيجد بصاقاً أو نخامة في قبلة المسجد فيتأذى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ويقول: (من صنع هذا؟ الذي صنع هذا يأتي يوم القيامة وبصاقه بين عينيه) يعني: مثلما استهان بقبلة المسجد وتفل في قبلة المسجد يأتي يوم القيامة وبصاقه بين عينيه، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ويأخذ عوداً ويحك هذا البصاق بيده الكريمة، وهذا من تواضعه العظيم عليه الصلاة والسلام.
(46/13)
شرح حديث تميم بن أسيد الذي فيه: (أنه جاء إلى النبي وهو يخطب فسأله أن يعلمه فنزل من منبره فعلمه ثم أتم خطبته)
روى مسلم عن تميم بن أسيد رضي الله عنه قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتي بكرسي فقعد عليه، وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها)، فالرسول صلوات الله وسلامه عليه، لما قال الرجل: أريد أن أتعلم أمور الدين -لأنه حديث عهد بإسلام- لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: انتظر حتى أنتهي من الخطبة والصلاة، بل علمه صلى الله عليه وسلم أمور دينه، وقد وجب عليه الآن صلاة الجمعة، فعلمه صلى الله عليه وسلم كيف يتوضأ وكيف يصلي، وغير ذلك من أمور دينه.
(46/14)
شرح حديث: (أن رسول الله كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث)
عن أنس رضي الله عنه قال: (إن رسول صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل طعاماً لعق أصابعه الثلاث، قال: وقال: إذا سقطت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمر أن تسلت القصعة، قال: فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة)، هذا من التأديب والتربية للمؤمنين، فمن السهل أن يتكلم الإنسان عن التواضع؛ لكن التنفيذ والتطبيق صعب، فكان يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بفعله ليفعلوا كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم.
واللقمة قد تسقط من الذي يأكل فيتركها، لكن لو تعلم هذا الشخص التواضع لأخذ اللقمة التي وقعت منه ما لم يصبها أذى فأكلها، فينبغي أن يتعلم المرء ألا يستكبر؛ فالله الذي أعطى النعمة قادر على أن يمنعها ويسلبها من صاحبها، فإذا حمد العبد ربه سبحانه فإنه يستحق المزيد، قال عز وجل {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
إذاً: فمن التواضع أن الإنسان إذا وقع منه شيء على الأرض مما يؤكل أن يزيل ما علق به من أذى ويأكله، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} [فاطر:6] فلا يحضر الشيطان معك طعامك، وإنما إذا وقعت منك اللقمة فخذها ولا تدعها للشيطان، كذلك ينبغي أن تتواضع في أكلك، فلا تأت برغيف وتأكل منه جزءاً ثم تأكل جزءاً من الرغيف الثاني وترمي البقية؛ لأن الذي أعطاك النعمة قادر على أن يسلبها منك ولا يعيدها إليك ثانية، فاحذر من أن تستكبر وتفتخر وتبطر بنعم الله سبحانه فتستحق أن تسلبها.
ثم قال: (وأمر أن تسلت القصعة) يعني: إذا أكلت وبقي قليل من الطعام في القصعة فلا تتركه وترميه في القمامة، وإنما تلعقه بأصابعك وتسلته، ولا تترك شيئاً للشيطان، وإذا تركت شيئاً فحافظ عليه، فإما أن تتصدق به وإما أن تحفظه لتأكله مرة ثانية إن كان مثله يبقى معك ولا يفسد، ولكن لا تتعود أنك تطبخ أكثر من اللازم، والباقي ترميه في القمامة؛ لأن هذا مؤذن بأن يمنعك ويحرمك الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: (فإنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة) أي: الذي يأكل لا يعرف موضع البركة من الطعام، ولعل هذا الموضع بعينه الذي تركته أنت وألقيته في القمامة كان فيه البركة وأنت ضيعتها، ولا تدري بذلك إلا يوم القيامة، فيغبن الإنسان نفسه، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن:9].
فهذا الإنسان يكون قد قصر في حق نفسه بتفريطه في الطاعات.
(46/15)
شرح حديث: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)
هذا حديث لـ أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قال أصحابه: وأنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة).
هذا النبي صلوات الله وسلامه عليه رعى الغنم يوماً من الأيام، ليعلمه الله عز وجل التواضع، فما من نبي إلا وقد رعى الغنم، فالله عز وجل علم أنبياءه السياسة مع الخلق والحب للخلق والتواضع والرأفة والرحمة بهم؛ لأنهم يرعون الغنم.
يقول الحافظ ابن حجر: لأن في مخالطتها التمرن، ويحصل للأنبياء العون من الله عز وجل على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يحصل لهم به الحلم والشفقة؛ كذلك لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق ونحوه، وعلموا اختلاف طبعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة، كل ذلك من الفوائد.
يعني: الغنم محتاجة إلى من يرعاها، فالذئب ينتظرها إذا تركها صاحبها واللص منتظر لها إذا تركها يسرقها، فالغنم محتاجة إلى من يرعاها، وإلى من يطعمها ويسقيها، فيصبر على هذا الشيء، ويتمرن على الصبر على الخلق، فيقول الحافظ: الأنبياء يألفون من ذلك الصبر على الأمة، ويعرفون اختلاف طباعها، وتفاوت عقولها، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعامل لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول الأمر.
إذاً: من رحمة رب العالمين سبحانه ببني آدم أن علم الأنبياء الصبر والرفق والحلم في الغنم، ولم تكن التجربة في بني آدم، فلما تمرنوا على ذلك، واعتادوا عليه أتوا إلى الخلق ليدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى.
وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها، ولأن أصحابها فيهم الرأفة وفيهم الرحمة، بخلاف أصحاب الإبل الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (الفخر والخيلاء في الفدادين -يعني: أصحاب الإبل- أهل الوبر، والسكينة في أهل الغنم).
(46/16)
شرح حديث: (لو دعيت إلى كراع لأجبت أو ذراع لقبلت)
من الأحاديث الواردة في هذا الباب حديث آخر لـ أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت).
انظروا إلى تواضعه صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة إلى كراع، والكراع هو أسفل الساق ما بين الركبة إلى آخر الساق، وهذا الكراع الذي ما بين الركبة إلى نهاية الساق ليس فيه لحم، ولكن لتواضعه عليه الصلاة والسلام يقول: لو أهدى إلي شخص ذلك سأقبله.
(46/17)
شرح حديث: (كانت ناقة رسول الله العضباء لا تسبق)
جاء في حديث أنس بن مالك في صحيح البخاري أنه قال: (كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لا تسبق، أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود له - أي: على جمل- فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)، أي: لا تغضبوا فما من شيء في الدنيا يرتفع إلا ولابد أن يضعه الله سبحانه وتعالى، فإذا كانت الناقة تسبق غيرها، فلابد أن تُسْبَقَ في يوم من الأيام.
إذاً: هذا في الناقة وفي البشر كذلك، فإذا رأيت شخصاً عالياً دائماً، فاعلم أنه في النهاية لابد وأن يضعه الله عز وجل، وهذا الإنسان الذي يرتفع لن يظل على هذا أبداً، فالإنسان يرتفع في شبابه وكمال قوته، ثم بعد ذلك ينزل ينزل حتى يصل إلى أرذل العمر.
والمستكبر ينسى ولا ينظر إلا تحت قدميه، ويتعزز ويفتخر بنفسه، قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [البقرة:204 - 206] هذا يوم القيامة، أما في الدنيا فأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
إذاً: احذر من المستقبل واحذر من الغد، فأنت اليوم في علو فقد أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه، فتواضع لله وأنت في علوك، حتى تظل على هذا الشيء إلى أن تلقى الله.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من المتواضعين، ومن أهل ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل وصلي اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(46/18)
شرح رياض الصالحين - تحريم الكبر والإعجاب
اختص الله نفسه بخصائص من نازعه فيها عذبه، منها أنه الكبير المتعال ذو العزة والجبروت، فحرم على عباده أن يتصفوا بشيء منها، فمن تعالى على الخلق واستكبر في الأرض فقد أنزل بنفسه عقاب الله في الدنيا والآخرة.
(47/1)
رفعة الآخرة بتواضع الدنيا
(47/2)
الدار الآخرة للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب تحريم الكبر والإعجاب.
قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37].
وقال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة.
قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس) رواه مسلم.
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع.
قال: لا استطعت، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فِيه) رواه مسلم].
هذا باب آخر من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله تحريم الكبر والإعجاب.
فالكِبْر أو الاستكبار: أن الإنسان يرى نفسه كبيرة، والكُبْر يكون في السن، وأيضاً في الحجم، فإذا كان في بدنه، فالاستكبار هو أن يرى نفسه كبيراً فوق غيره، ويتعالى على غيره، ويظن نفسه أفضل من الخلق.
الكبر صفة من الصفات التي لا تكون إلا لله وحده لا شريك له، فهو المتكبر سبحانه وتعالى، وهو الكبير سبحانه المتعالي، ويأبى أن تكون هذه الصفة لأحد من خلقه؛ لأنها صفة لا تليق إلا بعظمته سبحانه، فهي له صفة كمال وجلال، ولذلك يقول: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما أدخلته النار).
من نازع الله في عظمته وكبريائه سبحانه فقد أتى ما لا يجوز له، إذ لا ليس لأحد أن ينازعه في ذلك، فإذا أبى الإنسان إلا أن يستكبر وأن يعطي لنفسه صفةً لا تكون إلا للخالق سبحانه، فيأبى الله أن يترك هذا على ما هو فيه حتى يذله ويذيقه الذل في الدنيا والآخرة، وأبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه كما ذكرنا قبل ذلك.
فاحذر من الكبر، ويكفيك أن تعلم أنه صفة لا تليق إلا بالله، فلا يجوز لك أن تنتحل هذه الصفة، فتستكبر على خلق الله سبحانه وتعالى وأنت مثلهم.
جاء في القرآن تحريم الاستكبار، وتحريم إعجاب الإنسان بنفسه والفخر على غيره، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] العاقبة الحسنة في الدار الآخرة للأتقياء الأنقياء الذين قلوبهم نقية تقية، يخافون من الله سبحانه وتعالى ويحقرون أنفسهم، وينظرون إلى غيرهم على أنهم أفضل منهم، فهذا الإنسان التقي يستحق أن تكون له العاقبة العظيمة المحمودة وهي الجنة العالية.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83] (تلك) أشار باسم الإشارة الذي يشير إلى البعيد لتعظيم الجنة، وتعظيم الآخرة، يعني: هذه الآخرة العظيمة.
وفرق بين أن يقول: هذه الدار الآخرة، فهو إشارة للقريب وللشيء اليسير، ولكن إذا أشار للشيء المعروف بإشارة البعيد فهو يحمل معنى التعظيم له.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ} [القصص:83] هذه الدار العظيمة الآخرة الباقية {نَجْعَلُهَا} [القصص:83] النون نون العظمة، يخبر عن نفسه سبحانه: أننا نجعلها للذين لا يستكبرون {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فهم تواضعوا فاستحقوا أن يرفعهم الله سبحانه وتعالى، قنعوا باليسير وبالقليل من الدنيا ولم يطلبوا شهرة ولا شيئاً يعلون به على غيرهم، فإذا بالله يعطيهم أعلى الأشياء.
{تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا} [القصص:83] للمؤمنين المتقين الذين يبتغون في هذه الدنيا أن يحسنوا عبادة ربهم سبحانه، ويتخلقوا بالأخلاق الحسنة فيها، لا يطلبون علواً ولا يبغون في الأرض بغير الحق، لا يفسدون في الأرض، لا يريدون علواً ولا فساداً في الأرض، قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
(47/3)
ذم مشية الخيلاء والمرح
قال الله: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37].
نهى عباده أن يمشوا على الأرض بالمرح، وهو أشد البطر، {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
الإنسان الذي يمشي على الأرض يتمطط عليها فرحان بنفسه، يرى أنه لا أحد على الأرض غيره، فهو يمشي وربنا يقول له: لا تمش على الأرض مشية الخيلاء والاستكبار، لأنه يتكبر على الناس وكأنه أعلى وأعظم من غيره، متقدم بصدره أمام الناس، مصعر خده للناس.
{وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء:37]، مهما بلغت من قوة، لو ضربت الأرض بقدمك انكسرت قدمك أنت ولم تكسر الأرض، لو تعاليت وانتفخت في نفسك فأنت قصير لن تبلغ الجبل في طولك.
تتعالى على ماذا؟ الأرض تحتك أعظم منك، فهذه التي تمشي عليها أنت مخلوق منها، علام تضرب الأرض برجلك وهي أقوى منك؟! لو نطحت الجبل برأسك انكسر رأسك أنت، فلماذا تتطاول؟ لا تتعالَ على الخلق: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37] قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان:18]، هذا لقمان يوصي ابنه وينصحه، والصعر: داء يأخذ الجمل في رقبته فتشد العضلة فلا يستطيع أن يلتفت.
وهكذا المتكبر ينظر للناس بتعالى، معوج على الناس وهو كغيره من الناس، ويوم القيامة سيجعل الله هؤلاء المتكبرين من أذل الخلق، ومن أحقر الخلق بين الناس، ومهما تعالى على الناس زماناً بل أزمنة لا بد وأن يقصمه الله سبحانه، ويري الناس فيه آيات وعبراً.
{وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، لا يحب المختالين الفخورين، والاختيال يوصف به كل من فيه صفة الفخر، فهذا لا يحبه الله سبحانه وتعالى.
(47/4)
عاقبة قارون وأمثاله من المستكبرين
يذكر لنا الله قصة قارون في سورة القصص فيقول: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} [القصص:76].
كان قارون إسرائيلياً من قوم موسى، فتعالى على قومه، وذهب إلى فرعون ومن معه، وقد كان من أغنى خلق الله عز وجل، ولكنه قلد إبليس وافتخر على قومه، فقال عنه ربنا سبحانه: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى} [القصص:76].
البغي هو الظلم والتعالي والإفساد {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} [القصص:76] آتيناه نحن، ليس بقوته أو بجده واجتهاده، ولكن من فضل الله سبحانه وتعالى.
{وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76] كنوز عظيمة جداً، ولك أن تتخيل عظمها عندما تعلم أن مفاتيحها يحملها من الرجال عشرة.
{إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، كل إنسان يفرح، ولكن هذا فرح مخصوص، فالفرح الذي هو سرور في قلب الإنسان ليس ممنوعاً منه، كمن يفرح لشيء آتاه الله عز وجل إياه، أو لنعمة أحدثها الله له، لكن لا تتجاوز بهذا الفرح حده إلى أن يكون فرح المستكبرين، يعني: كأن يمشي متعالياً على الناس يقول: أنا أحسن منكم، أنا عندي وعندي، قالوا له: لا تفرح هذا الفرح الذي يدل على بطرك واستكبارك وعلوك وبغيك: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76].
{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] هذا أعطيته لأني أستحقه، وقد آتاني الله على علم أني أستحق ذلك.
{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا} [القصص:78] ولكن أبى إلا أن يستكبر على قومه، فجمع كنوزه وأشياعه وخرج على الناس في زينته يريهم أن عنده ما ليس عند أحد، دفعه إلى ذلك الاستكبار.
والعادة أن كثيراً من الناس يشتهون مثل ذلك، فنظروا إليه وقالوا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] صدقوا هذا الكذب، وهذه المظاهر البراقة، صدقوا أنه أوتي هذا على علم، وأنه يستحق هذا الشيء.
لكن أهل العلم والتقوى لما نظروا إلى ذلك لم تأخذهم هذه المناظر ولم يبهتهم الإعجاب، وعلموا أن هذا كله سوف يزول، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]، اصبروا ولكم الجنة بعد ذلك، وهي أعظم من هذا الذي فيه هذا الإنسان.
فإذا بهذا الإنسان في تعاليه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81] يأتي الخسف من عند رب العالمين، يا أرض خذيه وخذي هذا الذي هو فيه.
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} [القصص:82]، كنا نتمنى مثله، ولو أن الله حاسبنا عليه واستجاب وأعطانا مثلما أعطى قارون لكان حالنا الآن مثله.
{وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:82] لا يفلح الإنسان الذي يكفر نعمة ربه سبحانه ويجحدها، أو ينسبها إلى نفسه أو إلى غير ربه سبحانه، فالذي يرى لنفسه حظاً وعظمة فيقيس الآخرة على الدنيا مثل هذا الإنسان، فإذا بالله يجعله آية.
فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه وفي غيره: (بينما رجل يمشي على الأرض قد أعجبه ثوباه فهو يتبختر على الأرض، فإذا به تخسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة).
قال الله عز وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81] من ينصره من دون الله؟ معه مال يجند به من يشاء من جنود، ولكن {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
(47/5)
المتكبر لا يدخل الجنة
من الأحاديث في هذا الباب: ما رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر).
الذرة: النملة، يعني: من كان في قلبه قدر النملة من الاستكبار، فهذا لا يستحق أن يدخل الجنة؛ لأنه متطاول على الناس، يرى أنه أعظم منهم، لا يكلمهم إلا بترفع وتطاول، فحال من في قلبه مثقال ذرة أنه لا يدخل الجنة، فكيف بمن كان في قلبه الكبر كله؟! سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة)، يحب أن حذاءه يكون حلواً وأن ثوبه يكون حسناً، فهل هذا كبر؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال) أي: لا مانع من أن تلبس الثوب الحسن والنعل الحسن، بل الله عز وجل إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثر هذه النعمة عليه.
إذا أنعم عليك بمال فلا تلبس لبس امرأة، بل البس لبسة الرجل، لكن أن تلبس حذاءً حسناً من أجل أن تمشي فتضرب برجلك على الأرض فهذا هو الكبر؛ لأنك تريد أن تتعالى ويظهر فضلك على الناس، وهذا ما لا يحبه الله عز وجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) غمطهم وغمصهم بمعنى واحد، أي: أن الإنسان يرى أن الناس تحته مغموصين، كل الناس ليس لهم قيمة عنده ولا وزن.
بطر الحق، يعني: عدم قبول الحق، إذا عرف أن الحق في هذا الشيء لا يفعله، يقول: قال الله كذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام كذا ولا يقبل أن يصنع، مستكبر، إذا دعوا إلى الله وإلى رسوله إذا هم معرضون عن ذلك، وغمط الناس: احتقار الناس، فيراهم أسفل منه.
روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: (أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله)، هذا نوع من أنواع الكبر، ويقد يكون الفاعل جاهلاً (فقال له: كل بيمينك) كعادته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح لكل مسلم، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم، فأنف هذا الرجل واستكبر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لا أستطيع) كثير من الناس تقول له: اعمل كذا وهو يعرفه ويجيده، ولكن يستكبر، قال: (ما منعه إلا الكبر) علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه يده سليمة، لكنه يأكل بشماله استكباراً، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان إلا أن شلت يد الرجل فما رفعها إلى فيه.
ومثله ذلك الرجل الذي زاره النبي صلى الله عليه وسلم وكان مريضاً وعنده حمى فقال له: (لا بأس طهور إن شاء الله) كلامه جميل ودعوته مباركة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الرجل بسبب الجهالة والحماقة يقول: (بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور)، انظر إلى الرد السخيف على كلام النبي صلى الله عليه وسلم!
(47/6)
المتكبرون أهل النار والضعفاء أهل الجنة
عن حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر) هذا من أهل النار، أما أهل الجنة فهم الضعفاء والمساكين.
هذا الإنسان العتل الجواظ المستكبر ألفاظه تناسب شكله، من أجل صعوبة ما هو فيه من جحود، ونكران للنعمة، واستكبار على الخلق، فهو إنسان غليظ بطبيعته، صعب أن تتعامل معه أو تكلمه كلمة.
المؤمن إلف مألوف، المؤمن طيب، المؤمن تأخذ منه لساناً حلواً، تعتاد عليه، ويعتاد عليك، المؤمن يحفظ نفسه ويحفظ لسانه، ولكنه قريب من الناس، سهل أن يتكلم مع الناس وتكلمه، ليس عنده تعالٍ على أحد، يعلم أن أصله من طين فهو متواضع.
أما هذا فهو عتل غليظ جافٍ جواظ جموع منوع، له عشيرة وله أهل، وعنده رجال، عنده من يدفع عنه.
وأيضاً (جموع منوع) يطلق على الإنسان المنتفخ البطن من كثرة الأكل وكثرة حرصه على الدنيا، فهذا الإنسان أيضاً من صفاته أنه جواظ يختال في مشيته، كأن غناه ظاهر على جسمه وحجمه، فهو منوع عنده عتاد ورجال، ويختال بذلك على الناس، فهذا الجواظ المستكبر قال عنه: (ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر).
عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (احتجت الجنة والنار، فقالت النار: في الجبارون والمتكبرون، وقالت الجنة: في ضعفاء الناس ومساكينهم، فقضى الله بينهما، قال للجنة: إنك رحمتي أرحم بك من أشاء) من صفات رب العالمين: الرحمة العظيمة فهو الرحيم الحنان سبحانه، فهذه الجنة دار كرامته، يكرم بها من يشاء.
كما أن من صفات الله عز وجل أنه القوي العزيز: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فهذه النار انتقام الله وعذاب الله عز وجل، وهنا صفة أخرى من صفات رب العالمين سبحانه وتعالى.
(وقال للنار: إنك عذابي أعذب بك من أشاء ولكليكما عليَّ ملؤها).
وعد من الله أن يملأ هذه وهذه، والنار كلما ألقي فيها فوج تقول: هل من مزيد؟ ثم يلقى فيها فوج يعذبون فتقول: هل من مزيد؟ ولا تكتفي، فالله عز وجل يضع فيها قدمه فتقول: قط، قط.
ووعد الجنة أن يملأها سبحانه وتعالى، فدخل فيها الخلق المؤمنون ولم يملئوها، ولا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً جديداً، لأنها كبيرة واسعة جداً، مهما أعطى للناس في هذه الجنة فهي واسعة تسع أكثر وأكثر من ذلك، حتى إن آخر أهل الجنة دخولاً الجنة رجل يعطيه الله عز وجل مثل ملك من ملوك الدنيا، وعشرة أضعاف ملكه، هذا أقل أهل الجنة منزلة فكيف بأعلاها منزلة؟ ومع ذلك لا تمتلئ الجنة حتى يخلق الله لها خلقاً آخر يسكنون هذه الجنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
(47/7)
لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطراً
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً) متفق عليه.
هناك فرق بين أني أنظر إلى إنسان ولا آراه، ولكن الله عز وجل لا ينظر إليهم سبحانه وتعالى، ولكنه يرى كل شيء، ويبصر كل شيء، فكأنه يعامل هؤلاء معاملة المنسيين، فلا ينظر إليهم نظر رحمة وهم في نار جهنم، ولكنه يعلم كل شيء عنهم ويراهم سبحانه وتعالى، فهم لا يستحقون أن يرحمهم سبحانه.
فالنظر هنا نظر مخصوص، فيستشعرون بهذا النظر أنه يكرمهم.
وكذلك لا يجيبهم مع أنه يرد عليهم، ويقول: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فهو لا يجيبهم جواباً ينتفعون به، ويستشعرون أنه يعطيهم شيئاً من رحمته، فلا ينظر إلى مستكبر جَرَّ إزاره على الأرض، أي: غني عنده أموال يضيعها في الأرض، ويمشي ليجرجر ثيابه على الأرض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فلا تلبس الثياب مجرجرة على الأرض، ولكن اقطعها بحيث تكون عند الكعبين، هذا للرجال، أما المرأة فلها أن تستر قدمها.
(47/8)
الفقير المستكبر من أهل النار
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم).
قوله: (لا يكلمهم الله)، أي: يسألون فلا يكلمهم في أي حال من الأحوال، فإذا أجابهم لا يأخذون جواباً يفرحون به، بل جواب يحزنهم الدهر كله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
(ولا يزكيهم) لا يطهرهم إلا بنار جهنم والعياذ بالله.
(ولا ينظر إليهم) وهو يراهم سبحانه وتعالى، وهو هنا نظر مخصوص، فلا ينظر إليهم نظر رحمة، أو لا ينظر إليهم على وجه من الوجوه الذي يستشعرون به أنه يعطيهم شيئاً من رحمته.
وهم: (شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)، أناس قد منع الله عز وجل عنهم أسباب الاستكبار، وأسباب المعاصي، أولهم: الشيخ الزاني: شيخ كبر سنه، وذهبت نهمته ولذته، فالمفترض أن الذي وصل إلى سن أربعين سنة قد وصل إلى سن كمال، كما ذكر الله عز وجل في القرآن: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف:15].
فهذا الذي بلغ إلى الأربعين سنة ينبغي أن يقول ذلك، فكيف بالذي وصل إلى الستين والسبعين ثم يزني، هذا لا يستحق إلا نار جهنم -والعياذ بالله- هذا الشيخ الذي منع الله عز وجل عنه هذه الشهوة، قد وصل إلى اكتمال عقله بالابتعاد عن هذا الشيء الفاحش ومع ذلك يقع فيه، هذا لا يستحق إلا النار.
(وملك كذاب) ملك يملك الناس، ويحكم الناس، فيكذب عليهم لماذا؟ وصل إلى درجة عالية، والناس قد ملكوه وجعلوه فوقهم، ومع ذلك يكذب عليهم، فهو يكذب على الناس ويضر الناس بكذبه.
(وعائل مستكبر) العائلُ: الإنسان الفقير الذي عنده عيال ومحتاج لمال، ومع ذلك يستكبر على الخلق، ويكلم الناس من أطراف أنفه، لماذا يفعل هذا الشيء وقد منع الله عز وجل عنه ذلك بأن جعله فقيراً، كأن الله يريد بك خيراً لذا جعلك فقيراً من أجل أن تدخل الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، وجعلك فقيراً حتى لا يكون حسابك طويلاً يوم القيامة، وتأبى إلا أن يطول حسابك، فما وجدت المال فلجأت إلى شيء آخر تستكبر به على الناس من أجل تدخل به النار، لذا كان الفقير المستكبر على الناس من المستحقين للنار.
وهل معنى ذلك أن الغني له أن يستكبر؟ لا، ولو كان أغنى الناس، ولكن المعنى: أن الغني إن استكبر فهو معذب، وقد كان معه أسباب الاستكبار في الدنيا، فهل هذا الفقير الذي رحمه الله عز وجل ومنع عنه أسباب النار يجلبها لنفسه؟ إذاً: ادخل النار بهذا الشيء الذي جلبته لنفسك.
(47/9)
الكبر رداء الله والعظمة إزاره فمن نازعه فيهما عذبه
وعن أبي هريرة أيضاً: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذبته).
الله عزيز قاهر سبحانه وتعالى، غالب لا يغالب ولا يمانع، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
فالله يقول: (العز إزاري) يعني: هذه أشياء خاصة بي، كما يقول الإنسان: أنا لابس إزاراً ورداءً، ولله عز وجل المثل الأعلى فيضرب لنا المثل: إذا كان ما تختص به من أشياء تأبى أن تعطيه لغيرك، فهل ربنا سبحانه الذي اختص هذا الشيء لنفسه، يحق لأحد أن ينازعه فيه؟ عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه يختال في مشيته؛ إذ خسف الله به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة).
الإنسان المؤمن عندما يلبس ثوباً جديداً يحمد الله سبحانه وتعالى عليه فيقول: (الحمد لله الذي كساني هذا من غير حول مني ولا قوة، اللهم إني أسألك خيره، وخير ما لبس له، وأعوذ بك من شره، وشر ما لبس له).
أما الإنسان المستكبر فيلبس الثوب من أجل أن ينظر الناس إليه، وأن معه ثوباً حسناً سواء كان امرأة أو رجلاً، يفعل ذلك مستكبراً، فهذا رجل فعل ذلك في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه، يختال في مشيته يميناً وشمالاً، يستكبر على الخلق، إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل في الأرض ويغوص إلى ما يشاء الله عز وجل إلى يوم القيامة.
(47/10)
ذم التشبه بالجبارين
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه ما أصابهم) رواه الترمذي وقال: حسن.
ولكن إسناده فيه ضعيف، والمعنى صحيح: (من تشبه بقوم فهو منهم)، فهو يرى نفسه مثل هذا الجبار، فمن يقلد فرعون فنهايته نهاية فرعون، أو يقلد قارون فنهايته نهاية قارون، فهذا الإنسان الذي يستكبر فوق الخلق ويرى نفسه أعظم الناس، أبى الله أن يرفع شيئاً إلا وضعه.
ولذلك يتفكر الإنسان من أين أتى؟ وإلى أين هو ذاهب؟ هو أتى من الأرض، وذاهب إليها مرة ثانية، فمهما علا فوق الناس فسوف ينزل في التراب مرة ثانية كما جاء منه، فليتواضع من البداية.
جاء عن رجل من الصالحين: أنه رأى أميراً من الأمراء يتعالى على الناس فقال له بيتين من الشعر: وهب أن قد ملكت الأرض ودان لك العباد فكان ماذا أليس غداً مصيرك جوف قبر ويحثو الترب فوقك هذا ثم هذا لماذا ترى نفسك أعظم من الناس؟ لو فرضنا يا سيدي أنك ملكت الدنيا كلها، ودان لك العباد فماذا سيحصل؟ لو فرضنا أن الناس يدينون ويخضعون لك، أليس مصيرك غداً جوف قبر، ويحثو الترب فوقك هؤلاء الناس الذين تتعالى عليهم! إذاً: لا تستكبر فوق الخلق، فإنك سوف ترجع إلى هذه الأرض، ثم إلى الله عز وجل ليحاسبك.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المتواضعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(47/11)
شرح رياض الصالحين - حسن الخلق
حث الإسلام على حسن الخلق، ولنا في النبي صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في ذلك، فقد أدبه ربه وأحسن تأديبه، فكان أعلى الناس خلقاً.
وحسن الخلق يجمع خصال الخير، وهو أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة.
(48/1)
حسن الخلق من خصال النبيين وأتباعهم
(48/2)
الله تعالى يحب حسن الخلق
الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: حسن الخلق] قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) متفق عليه.
وعنه قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟) متفق عليه].
هذا الباب من كتاب رياض الصالحين يذكر فيه الإمام النووي حسن الخلق.
إن أعظم ما يتخلق به الإنسان، وأعظم ما يرتجي عليه الأجر من الله سبحانه حسن الخلق.
وإن حسن الخلق يستطيع به الإنسان أن يسع الناس، لا أن يسع الناس بماله، لا أن يسع الناس بخدماته، ولكن يسعهم بحسن خلقه، فحسن الخلق عظيم، وهو منة من الله سبحانه وتعالى، إذا وهبها لأحد فهي بشارة لهذا الذي وهبه أنه محبوب عند الله سبحانه وتعالى.
(48/3)
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتأديب ربه له
إن حسن الخلق كنز لصاحبه، وهو أعظم كنز يحصله الإنسان، فقد جاء في القرآن قول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقد كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها، فكل ما في القرآن من محاسن أخلاق، وما فيه من الآداب كان في النبي صلوات الله وسلامه عليه.
أدبه ربه ورباه سبحانه وتعالى، ورزقه حسن الخلق، وقال مادحاً له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقال مبيناً أن هذا الخلق فضل من الله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فبرحمة من الله سبحانه أعطاك حسن الخلق موهبة منه عز وجل.
فقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: فبحسن خلق الإنسان يلين للخلق، وبسوء خلقه يتعالى ويستكبر على الخلق.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران:159] أي: لو كان فيك جفاء، وكنت غليظاً قاسي القلب، لانفض الناس وابتعدوا من حولك، ولكن الله جمعهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حباً له لما فيه من حسن الخلق، ولين الجانب، وحسن الطباع والأخلاق، صلوات الله وسلامه عليه.
(48/4)
كظم الغيظ والعفو عن الناس من حسن الخلق
وقال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
هؤلاء من أحسن الناس أخلاقا، فالكاظم الغيظ: هو الإنسان يكظم غيظه، فيؤجر عليه أجراً عظيماً من الله سبحانه وتعالى، وإن أعظم شيء يكظمه الإنسان، وأعظم جرعة يتجرعها، هو غيظ يكظمه ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى، ولذلك هؤلاء الذين يكظمون غيظهم، ينادي عليهم ربهم يوم القيامة، ويخيرون من أي الحور العين شاءوا؛ لأنهم كظموا غيظهم في الدنيا، وعفوا عن الناس، فلذلك يخيرون يوم القيامة أمام الخلق جميعاً بياناً لفضيلتهم.
قال تعالى: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] فالعفو عن الناس خلق عظيم، وكثير من الناس ينظر إلى العفو أنه خصلة الإنسان الضعيف الذي لا يقدر أن يأخذ حقه، ويأخذ بثأره، فيعفو ويكظم غيظه، لكن لو كان قادراً لفعل، فالله يبين لنا أن الإنسان الذي يكظم غيظه أهل لمحبة الله، وأهل لأن يكون من المحسنين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فهذا محسن وليس مسيئاً، وهو ممن يحبه الله سبحانه؛ لأنه كظم غيظه وعفا عن الناس.
(48/5)
ذكر بعض محاسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم
(48/6)
حسن خلقه صلى الله عليه وسلم مع خادمه
ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث أنس رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً) وحق له صلوات الله وسلامه عليه، فهو رسول الله الذي رباه ربه تبارك وتعالى، فلا أبوه حي يربيه، ولا أمه تربيه، إنما الذي رباه هو ربه سبحانه وتعالى، ووهبه الخلق الحسن، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فقد كان أحسن الناس خلقاً صلوات الله وسلامه عليه.
وقد كان أهل الجاهلية بعد الإسلام وقبل الإسلام يلقبونه بالصادق الأمين، الذي لا يخون، ولا يغدر، بل يفي بالعهود والمواثيق، فإذا اختلفوا حكموه بينهم وهو شاب صغير عليه الصلاة والسلام.
فلما نزل عليه الوحي زاده من فضل الله سبحانه وتعالى أخلاقاً عظيمة، علمه ربه، ورباه، وأدبه سبحانه وتعالى، فمن عليه بذلك، وعرفنا أن الفضل بيد الله يعطيه من يشاء، فكان أحسن الناس خلقا.
فهذا أنس الذي خدم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صبي له عشر سنوات، حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمره عشرون سنة، قال: (ما مسست ديباجاً ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذكر أنه يمس يده صلى الله عليه وسلم عندما يسلم وليست يده قاسية ولا غليظة، فليس هو الشديد الذي يقسو ويجمد على من يسلم عليه، ولكن يده كريمة عليه الصلاة والسلام وناعمة، وإن كان هو أقوى الناس عليه الصلاة والسلام.
يقول الصحابة: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نتحدث أنه أعطي قوة أربعين رجلاً عليه الصلاة والسلام، هذا أمية بن خلف أقسم أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم، فجهَّز فرسه، وجهز رمحه، وركب الفرس وانطلق، فقام الصحابة يريدون أن يدافعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (دعوه، فأنا قاتله إن شاء الله).
والنبي صلى الله عليه وسلم ليس راكباً وليس لديه سلاح، فأخذ رمحاً عليه الصلاة والسلام لا نصل له، وهذا الرجل قد تجهز على فرسه، وجاء برمحه، يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فما أن جاء الرجل وهو يعدو على فرسه، حتى استقبله النبي صلى الله عليه وسلم برمح لا نصل فيه، فوجأه في عنقه، فأسقطه عن دابته، فرجع إلى قومه وهو يصرخ، فقالوا له: لا بأس عليك، إذا ضربك برمح ليس فيه نصل، لن يحصل لك شيء، فقال: إنه أخبر أنه قاتلي، وهو لا يكذب! فقتل الرجل بذلك.
هذا النبي الصادق الأمين عندما يسلم على أصحابه، يربت على صدورهم، ويسلم عليهم بيد ليِّنة، يقول أنس وكان صغيراً رضي الله تعالى عنه: (ما مسست ديباجاً ولا حريراً) والديباج من الحرير، أي: حريراً غليظاً ولا حريراً ناعماً ليناً (ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرائحته صلى الله عليه وسلم أطيب من الطيب، وكانوا إذا أرادوا تطييب طيبهم ينتظرون نوم النبي صلى الله عليه وسلم فيعرق، وكانوا قد فرشوا له جلداً عليه الصلاة والسلام، وكان غزير العرق عليه الصلاة والسلام، فيأخذون من عرقه يطيبون به طيبهم صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف) عشر سنوات وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو صبي صغير لابد أن يخطئ، ولابد أن يفعل أشياء تضايق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان أحياناً يرسله ليأتيه بشيء، فيذهب ويلعب وينسى الشيء الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: يا غلام! فيستحيي أنس من النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب لما أمرتك، ولا يقول له أكثر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
يقول أنس رضي الله عنه: (ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته لمَ فعلته) أي: لم يقل له: ما الذي جعلك تفعل كذا، (ولا لشيء لم أفعله) أي: تلكأ فيه، ولم يفعله، (ألا فعلت كذا!) فكان صلى الله عليه وسلم لا يزجره وإن أخطأ رضي الله تعالى عنه، هذا فعله مع خادم عنده صلى الله عليه وسلم، فكيف بفعله مع باقي الناس!
(48/7)
حسن خلقه مع من أهدى له صيداً وهو محرم
عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه، قال: (أهديت رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً فرده علي، فلما رأى ما في وجهي، قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم) متفق عليه.
فقد أهدى الصعب بن جثامة النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم بالحج هدية، وذلك أن الصعب اصطاد حماراً وحشياً ولم يكن الصعب محرما، فلذلك يجوز له أن يصطاد ما ليس في الحرم، فاصطاد وأهدى ما اصطاده للنبي صلى الله عليه وسلم، فرده النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الرجل كره أنه أهدى هدية للنبي صلى الله عليه وسلم فردها عليه، وشرف للصعب أن يهدي للنبي صلى الله عليه وسلم هدية ويقبلها.
فلما لم يقبلها اعتذر النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم قبولها، فقال صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).
فإذا سأل سائل: هل يحرم عليه أن يقبل مثل هذه الهدية صلى الله عليه وسلم؟ ف
الجواب
جاء حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم أن ما يصطاده الحلال إذا لم يكن صاده من أجل المحرم، فيجوز أن يأكله، إذاً: صيد البر حلال، إذا لم يصده المحرم، ولم يصد له.
فهذا الرجل صاد صيدا وخشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون صاده من أجله، فقد صاد هذا الحمار الوحشي من أجل أن يهديه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز له أن يأكله صلى الله عليه وسلم، فبين العذر في عدم القبول، وقال: امتنعنا من ذلك لأنا حرم.
وهذا القول فيه التلطف في الاعتذار، وعدم إيقاع الغير في الاعتذار بالكذب، لعله يقول له صلى الله عليه وسلم: أنا خائف أنك تكون اصطدته من أجلي، فيقول: لا، لم أصطده من أجلك، ويكون قد صاده فعلاً من أجله، ولكن الحياء منعه أن يقول ذلك، لذلك قال الكلمة اللطيفة منه صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم).
ففيه أن الإنسان إذا أهدي له هدية، ولم يكن عليه شيء في قبولها، فليقبل الهدية، فإذا تأذى منها أو ظن من ورائها شيئاً، تلطف في الاعتذار.
(48/8)
جماع البر حسن الخلق
عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال صلى الله عليه وسلم: البر حسن الخلق).
فهذا الرجل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه يريد أن يعمل براً، والبر: كلمة تجمع مجامع الخير كله، من صلاة وصيام وزكاة إلخ.
فلم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه صعب، ولكن قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يعلم أشياء من الدين، ولكن مجامع الدين في حسن الخلق، فإذا كان خلقه حسناً، فإنه سيكون مع حسن الخلق، قبول النصيحة، والتعلم، وسيعرف دين الله سبحانه وتعالى؛ لأنه اشتمل على حسن الخلق، ويبتغي وجه الله سبحانه، فيصل إلى مجامع البر والإحسان، بحسن الخلق، الذي يجعله لا يستكبر وهو متعلم، ولا يستكبر وهو عالم، فيعلم من يحتاج إلى ذلك.
فالإنسان إذا حسن خلقه كان على خير، وكان جديراً بأن يعلمه الله، وأن يرزقه العمل بما يعلمه، ويرزقه حب الخلق له.
قال: (والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس).
فكل إنسان في قلبه ما يدله على الشيء إن احتار فيه، فالحلال بين والحرام بين، وبعض الأشياء تكون فيها شبهات، هذه الأمور تشتبه على الإنسان، فيقال لك: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، ومن الممكن أن تسأل إنساناً، ويجيبك بما تريده أنت، بناء على فهمه لسؤالك، ومن الممكن أن يسأل الإنسان نفسه سؤالاً وهو جالس، ويضع له قيوداً بحيث يأخذ الجواب على مزاجه في هذا السؤال.
فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإثم ما حاك في نفسك) فمعناه أنك ستعمل شيئاً ثم أنت شاك فيه.
فإذا كنت تستحي أن تصنع هذا الشيء أمام الناس، فاعلم أنه من الإثم، فالإثم ما حاك في نفسك، وتخاف أن تفعل ذلك أمام الناس، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وكرهت أن يطلع عليه الناس).
وهذا الحديث في صحيح مسلم.
(48/9)
تنزهه صلى الله عليه وسلم عن الفحش والتفحش
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) متفق عليه.
يقال: فلان فاحش، أي: بطبعه، فطبعه فيه الفحش.
(ولا متفحشاً) أي: متكلفاً لذلك، فمن الممكن أن يكون الإنسان مهذباً، ولكن وجد نفسه في وسط مجموعة من أصدقاء السوء، فأخذ يقلدهم، ويفعل مثلهم، ويتكلم بلسانهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر الخلق، لا هو فاحش بطبيعته، ولا يتكلف ذلك عليه الصلاة والسلام، فهو أنقى الناس لساناً وقلباً.
وفي الحديث بقية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقا) أي: إن من خيار الناس في الناس أحاسنهم أخلاقاً.
(48/10)
فضائل حسن الخلق
(48/11)
أثقل شيء في ميزان العبد حسن الخلق
وقد روى الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، والله يبغض الفاحش البذيء).
والميزان غيبي نؤمن به، إذْ يحضر الإنسان ميزانه يوم القيامة، فإما أن يخف وإما أن يثقل، فإذا خف هوى في النار والعياذ بالله، وإذا ثقل بأعمال صاحبه، يكون من أهل الرجحان، ومن أهل الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
فأثقل الأشياء التي تثقل الميزان يوم القيامة، كلمة: لا إله إلا الله، فالأفعال التي يفعلها العباد من طاعات، ومن بر ومن إحسان تثقل الميزان، فأثقل ما يثقل الميزان يوم القيامة للإنسان المؤمن، هو تحصيل كلمة: لا إله إلا الله، ولكن من أعظم ما يثقل ميزانهم: حسن الخلق.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، والله يبغض الفاحش البذيء).
فالإنسان إذا كان لسانه بذيئاً فاحشاً يبغضه الله سبحانه وتعالى، وإن أحبه البعض ممن هم على شاكلته، فإن الطيور على أشكالها تقع، فالإنسان البذيء محبوب إلى أهل البذاءة والسفاهة، ولكنه بغيض إلى أهل الإيمان.
لذلك فإن الإنسان المؤمن، عفيف اللسان، إذا تكلم فصوته منخفض، لا يتكلم بالفحش من القول، ولا يشتم أحدا، ولا يسب أحدا، ولا يلعن شيئا، فالمؤمن حسن الخلق، والإنسان قد يكون يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- تهوي به في النار سبعين خريفاً، أي: سبعين سنة، كأن يشتم إنساناً، أو يلعن إنسانا، أو يشتم أبا إنسان، أو أم إنسان، ويتكلم بغيبة ونميمة، أو بكلام بذيء يقوله، ولم يكن على باله أنها تودي به في مصيبة، فتهوي به في النار سبعين خريفاً.
هذا الإنسان حين يكون على الصراط، وهو يحاول أن ينجو من النار، فهو يمشي تارة ويكبو تارة، وتارة تلفحه النار، فتأتي هذه الكلمة الخبيثة التي قالها، فتجعله يسقط في نار جهنم سبعين خريفاً.
(48/12)
تقوى الله وحسن الخلق من أسباب دخول الجنة
وروى الترمذي أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: تقوى الله وحسن الخلق).
تقوى الله، أي: يتقي العبد ربه سبحانه وتعالى، ولا يقع في المعاصي، ولا يتكلم إلا بما يرضي الله سبحانه وتعالى، فإن تقوى الله تدخل الإنسان الجنة.
وكذلك حسن الخلق من أكثر ما يدخل العبد الجنة.
و (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: الفم والفرج).
لأن فم الإنسان يأكل حراما، وينطق بحرام وفحش، فيدخله النار والعياذ بالله، وأكثر أهل النار دخولاً النار بذلك، والفرج يقع في الزنا، ويقع في الحرام والعياذ بالله، وهذا أكثر ما يدخل الناس النار.
(48/13)
حسن الخلق من كمال الإيمان
عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم).
فقوله: (أكمل المؤمنين إيماناً) أي: أن المؤمن يتقي الله سبحانه، ويعمل الأعمال الصالحة، فهو يبتغي الكمال في الإيمان، فهو يحلي إيمانه وعمله بحسن الخلق، فيصير إيمانه كاملاً، بل أكمل المؤمنين إيماناً هذا الذي هو على حسن الخلق، وأكمل الخلق إيماناً هو نبينا صلوات الله وسلامه عليه الذي مدحه ربه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقال صلى الله عليه وسلم: (وخياركم خياركم لنسائهم) وهذا فيه حث للرجال على أن يحسنوا إلى زوجاتهم، فقد يتخلق الإنسان بحسن الخلق مع الإنسان الغريب، ولكن مع أهله يكون فظيعاً، يكون ذا لسان يقع في المرأة ويشتمها، ويشتم أباها.
فالإنسان يكون على حسن الخلق في كل أحواله، كذلك مع أهل بيته، وهم أحق أن يتحلى الإنسان بحسن الخلق معهم، ومع غيرهم، فالذي يكون حسن الخلق له سجية وطبيعة يتعامل مع زوجته، ومع أولاده، ومع جاره، ومع الغريب ومع كل الناس بحسن الخلق، فأحسن الناس خلقاً من اتقى الله سبحانه وتعالى، وحسن خلقه مع الناس، ومع أهله خاصة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائكم).
وكذلك المرأة تكون مع زوجها حسنة الأخلاق، لا ترفع صوتها على زوجها، ولا تخونه، ولا تخبئ عنه مالها، ولا تغدر به، وتفعل في غيابه خلاف ما تقوله أمامه.
فلابد أن تكون المرأة مع زوجها أمينة، فهي مؤتمنة على مال زوجها، مؤتمنة على عيالها، لا تأخذ من ورائه مالاً وتنكر أنها أخذت مالاً.
فالرجل يتعامل مع امرأته بحسن الخلق، وتكون المرأة مع زوجها كذلك؛ لأنهما يتعاملان مع الله سبحانه وتعالى.
والتعامل مع الله سبحانه أن يخاف من العقوبة يوم القيامة، وأنه سيسأله لماذا فعلت هذا الشيء، فيخاف أن يقع فيما يحرمه الله سبحانه.
(48/14)
إدراك المؤمن درجة الصائم القائم بحسن خلقه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
أي: أن هناك أبواباً في الجنة: باباً للصائمين، وباباً للمصلين، وهكذا، فيأتي الإنسان يوم القيامة، فإن كان من أهل الصيام دخل من باب الصيام واسمه: باب الريان، وإن كان من أهل الصلاة دخل من باب الصلاة، وإن كان من أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دخل من بابها.
فالإنسان المؤمن الحسن خلقه قد لا يكون مكثراً من صيام النافلة، ولا من صلاة النافلة، ولكنه حسن الخلق، فهذا قد يدرك أن يدخل الجنة مع هؤلاء الذي أكثروا من صيام النافلة، ومن صلاة النافلة، ولم يكونوا على هذه الدرجة من حسن الخلق.
(48/15)
ضمان النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه
ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث رواه أبو داود عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
والزعيم: الضمين، أو الضامن، أو الكفيل، أو الكافل، أي: وضامن لكم، وهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، يضمن لكم ذلك، لكن افعلوا ما شرطه عليكم.
وقوله صلى الله عليه وسلم (ببيت في ربض الجنة) الربض: الحوش الذي خارج البيت، والجنة لا يوجد أحد يكون خارجها، بل كلهم داخل الجنة، وكأنه يقصد هنا أسفل الجنة، والجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض.
فربض الجنة هنا أدنى منزلة في الجنة، ويعلوها أوسط الجنة، وأعلاها أعلى الجنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم وعد أنه زعيم، وأنه ضمين وكفيل ببيت في أدنى الجنة.
قال: (لمن ترك المراء) أي: الجدل، فالإنسان الذي يجادل بحق أو بباطل، ينهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ لأن المراء لا يأتي بخير، والإنسان حين يجادل في مسألة علمية إما أن يجادل أهل العلم، أو يجادل الناس ليظهر أنه أفضل منهم، فمن كان يجادل الناس، ويماري السفهاء بالعلم، مصيره النار والعياذ بالله، والإنسان الذي يماري العلماء ليظهر قدر نفسه، وليرى الناس أنه أعلى منهم، وأفضل منهم، مصيره النار والعياذ بالله.
وأما الذي يجادل ليحق الحق، ويجادل أهل الباطل ليعلمهم الحق، ويرد عليهم ما يقولون، فهذا يستحق الثواب.
فالأصل أن الإنسان لا يجادل المؤمن؛ لأنه لا يتعلم العلم بالجدل، وإنما يتعلم العلم بالتحصيل، ويتعلم العلم بالحفظ، وبالإتقان والممارسة؛ لأن الجدل يضيع الوقت، فيظل الإنسان يجادل حتى يضيع عليه وقت طويل، ولعله لا يعرف غير هذا الذي جادل فيه ولعله لا يتقنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمره أن يوفر على نفسه وقته، وأن يترك الجدل، فهو زعيم له ببيت في أسفل الجنة إن ترك الجدل.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لمن ترك المراء وإن كان محقاً)، فكيف إن كان على باطل؟! (وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب) أي: لا يكذب ولو مازحاً، فهذا الذي يمزح فيقول كلاماً كذبا، يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أنا كفيل لك إن تركت الكذب جاداً أو مازحاً ببيت في وسط الجنة لا تكذب إلا فيما يجوز: في إصلاح بين الناس، وفي كلام الرجل مع امرأته، وفي كذب إنسان في الحرب، فالحرب خدعة، لكن غير ذلك لا يجوز الكذب فيه، فيترك الكذب مازحاً أو جاداً.
قال: (وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
فبحسن الخلق ينال أعلى الدرجات.
فالإنسان الذي حسن خلقه حين يمر على الصراط فإن حسن خلقه يدفعه سريعاً حتى يتجاوزه، ويدخل الجنة، ويأتي على أبواب الجنة، ويسابق أهل الصيام، وأهل الصلاة وأهل الطاعات بحسن خلقه.
هذا الإنسان الذي حسن خلقه، إذا دخل الجنة، صعد إلى أعلى الجنة بحسن خلقه، وإذا كان في أعلى الجنة كان قريباً من النبي صلى الله عليه وسلم بحسن خلقه، وأقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم أحاسنهم أخلاقاً، فانظر إلى حسن الخلق كيف جمع الخير كله في الدنيا والآخرة، نسأل الله عز وجل أن يحسن أخلاقنا.
(48/16)
حسن الخلق يقرب من النبي صلى الله عليه وسلم ومن محبته يوم القيامة
ومن الأحاديث الواردة في حسن الخلق: حديث رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون والمتشدقون، والمتفيهقون، قالوا: يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر عمن هو أحب الناس إليه يوم القيامة، وأقربهم منه صلوات الله وسلامه عليه في المجلس.
إذاً: هناك درجة عالية جداً في الجنة، وقريبة من النبي صلوات الله وسلامه عليه: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا).
(48/17)
سوء الخلق يباعد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن محبته يوم القيامة
والعكس تماماً: أن أبغض الناس للنبي صلى الله عليه وسلم حتى وإن دخلوا الجنة بعد ذلك، لكن أبغضهم إليه في الدنيا، فالجنة ليس فيها بغضاء، ولكن في الدنيا، يبغضه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانوا في الجنة نقاهم الله من ذنوبهم، وكانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: إن أبغضكم إلي، وأبعدكم مني يوم القيامة: الثرثارون: وهو الذي يتكلم كثيراً، رجلاً كان أو امرأة.
(والمتشدقون) المتشدق: الإنسان الذي يتطاول على الناس بكلامه، يزعم أنه فصيح وأنه بليغ، وأنه يعرف ما لا يعرفه غيره، ويتكلم بما لا يتكلم به غيره، فهو يريد أن يتفاصح على الناس، ويريهم أنه أحسن منهم، هذا المتفاصح هو المتشدق، أي: الذي يملأ شدقيه بالكلام.
(والمتفيهقون): أصله من الفهق، وهو الامتلاء وكأن هذا الإنسان يملأ فمه بالكلام وليس في عقله شيء من الفهم، ليس لديه إلا كلام يقوله فقط.
وفرق بين متفيهق ومتفقه، فالمتفقه: هو العالم الذي صار الفقه له سجية، فالإنسان المتفقه يطلب العلم الشرعي، فهو متفقه، في دينه، والمتفيقه: صغير في طلب العلم، وقد يكبر يوماً من الأيام ويصل إلى درجة فقيه.
والمتفيهق: الذي يقول الكلمة دون أن يفهم معناها وقلبه فارغ، وعقله فارغ، وليس فيه إلا لسان يتكلم به، فيفتي في دين الله وهو لا يفهم فيه شيئا، وما أكثر من يتعاطى الفتوى في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لا يفهم شيئاً من ذلك.
فقال: إن هؤلاء أبعد الناس مجلساً عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهم: الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون.
(قالوا: فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون) أي: يستكبر بشيء ليس عنده، وهو ليس من أهل العلم، فيجعل نفسه من أهل العلم، فهو المتفيهق، الذي يملأ فمه بالكلام، قال الله، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لا يفهم ما يقول، ولا يصح الذي يقوله.
فالمتفيهق المستكبر في العلم بما لم يحصله، هذا من أبعد الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
انظروا إلى حسن الخلق كيف كسب به الإنسان في الدنيا رضا الله سبحانه، ورضا الناس عنه، فلما كان يوم القيامة أدخله الله جنته، وجعله من أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا كذلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(48/18)
شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [1]
أمرت الشريعة بالرفق والحلم والأناة ورغبت فيها، وحثت على التخلق بها، وقد حث الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم على التخلق بهذه الأخلاق العظيمة، وبين صلى الله عليه وسلم محبة الله للمتصفين بها.
(49/1)
فضل الحلم والأناة والرفق
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب: الحلم والأناة والرفق.
قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).
هذا باب من كتاب رياض الصالحين، يذكر فيه الإمام النووي رحمه الله: الحلم والأناة والرفق.
(49/2)
معنى قوله: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس)
والحلم خلق من الأخلاق التي يجعلها الله عز وجل في قلب من يشاء من خلقه، وهو خلق عظيم من الأخلاق الكريمة التي يحبها الله سبحانه، وهو صفة من صفات رب العالمين، فهو الحليم سبحانه، وقد اجتمع له الكمال والجلال والجمال فيه.
وقد أمر عباده أن يتصفوا بهذه الصفة ويتخلقوا بها، فجاء في القرآن قول الله سبحانه وتعالى مادحاً المؤمنين الذين هم على هذه الصفات بأنه يحبهم، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134].
أي: سارعوا إلى الجنة، التي يدخلها من اتصف بهذه الصفات العظيمة، فهذه الجنات أعدت للمتقين، وهم الذين ينفقون.
فأهل التقوى يتقون غضب الله، ويتقون عذابه بالإنفاق، فهم مخلصون مؤمنون، فيتصدقون وينفقون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن صدقة السر تطفئ غضب الرب).
فمن صفات هؤلاء المتقين: أنهم يدرءون عن أنفسهم ويتقون غضب الله بأخلاقهم الحسنة، وبإنفاقهم في سبيل الله سبحانه.
وقد بدأ سبحانه بصفة البذل، فقال: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ} [آل عمران:134]، وليس في وقت الرخاء فقط، ولكن في السراء والضراء، فيجازيهم ربنا سبحانه ويعطيهم، فيسرهم بذلك، فيفرحون.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134]، وكظم الغيظ هي: صفة الحلم، فهم أهل حلم، والحلم يأتي من علم الإنسان بربه سبحانه، ومن علمه بنفسه وبمن يحلم عنه.
فهم كاظمون للغيظ، وكظم غيظه: كتم غيظه على غيظ، أي: وهو مغتاظ، فهو إنسان عنده إحساس وشعور، فيحدث في قلبه غيظ وشيء من الاندفاع، ولكنه سرعان ما يطفئه ويكظمه، ويداري ذلك بحلمه وأدبه.
فهم كاظمون لغيظهم، وهم عافون عن الناس.
قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وأما معنى الحلم فقالوا: حد الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب.
فالإنسان بداخله شهوة الغضب وشهوة الانتقام، وكل إنسان بداخله ذلك، والذي لا يغضب ليس إنساناً، فلا يوجد إنسان لا يغضب.
وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تغضب).
وكيف لا يغضب الإنسان؟ وقد كان هو نفسه صلى الله عليه وسلم يغضب؟ فمعنى الحديث: لا تتعاط أسباب الغضب، ولا تضع لنفسك في المواطن التي بسببها تغضب لنفسك، وتتهور على خصمك، وليكن غضبك لله سبحانه وتعالى.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب لله سبحانه، وكان ينتقم ويقيم الحد غضباً لله سبحانه وليس لنفسه.
وأما في نفسه فكان يعفو ويصفح، صلوات الله وسلامه عليه.
قال سبحانه: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
وقد يكظم الإنسان غيظه في داخله، ولكنه ينتظر أن ينتقم من خصمه، وقد لا ينتقم ويسكت، ولكنه ينتظر الشماتة فيه، فربنا أعقب ذلك بصفة أخرى، وهي العفو، فإذا كظمت غيظك فأكمل ذلك بالعفو عمن ظلمك.
قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
فإذا فعلت ذلك فأنت من المحسنين، فقد أحسنت إلى غيرك، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
إذاً: فهم المتقون، وهم المحسنون، وهم المحبوبون لرب العالمين سبحانه.
فليتذكر الإنسان ذلك، وكل إنسان يحب أن يكون محبوباً لرب العالمين سبحانه، والله يحب المحسنين، فلنحسن، ولننفق في السراء والضراء، ولنكتم غيظنا وغضبنا، ولنعف عن الناس، فالله عفو يحب العفو.
(49/3)
معنى قوله: (خذ العفو وأمر بالعرف)
قال سبحانه وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقد أدب الله النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية العظيمة، وأمره أن يأخذ بالعفو، فكأنه يقول له: ليكن خلقك العفو عن الناس، وليكن هذا دأبك وخلقك، بأن تعفو عمن ظلمك.
فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، يعني: خذ بأسباب العفو، وليكن ذلك خلقاً لك مع الناس.
وإذا أمرت فأمر بالمعروف، وبشرع الله سبحانه، ولا تأمر بالهوى، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن هذا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة.
فقد كان قلبه ممتلئاً حلماً وإيماناً، ولكنه هنا يأمره بما يتخلق المؤمنون بمثله، فقال له ذلك، والمقصود: اسمعوا أيها المؤمنون فقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب:21].
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]، أي: بالمعروف وبشرع الله سبحانه.
قال تعالى: {َأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
والناس أصناف، والله عز وجل يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعامل مع كل صنف بما يصلح له، فقال له: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، أي: فليكن من خلقك العفو، وكم سيبدر من الناس معك من أخلاق تضايقك، حتى تكتمل الرسالة، وتؤدي للناس ما أمرك الله عز وجل بتبليغه، ولذلك فأمر الناس بالعرف، وإذا عفوت عن الناس فليس المقصود مجرد كظم الغيظ فقط، ولكن اعف عنهم.
قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} أي: وأمر الناس كلهم بشرع الله سبحانه وتعالى.
أما أهل الجهل والسخط والبعد عن شرع الله سبحانه فلا تقابلهم بصنيعهم، وإذا تعرض لك إنسان من هؤلاء الجهلة الذين يتعرضون لك فأعرض عنه، قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
فلا يستحق الجاهل أن تضيع وقتك معه، وأن تنفق جهدك من أجله، ولكن لعله يتعلم من أخلاقك إن صفحت وأعرضت عنه.
(49/4)
معنى قوله: (ادفع بالتي هي أحسن)
قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34].
أي: لا تستوي الفعلة الحسنة مع الفعلة السيئة.
ولا يستوي الإحسان مع الإساءة.
ولا يستوي أن يعطيك الله حسنات مع أن يكتب عليك سيئات.
فإذا كنت تريد أن تكون من أهل الجنة فاعمل بالحسنى، وخذ الحسنات؛ لأنه لا تستوي الحسنة مع السيئة.
قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] ولم يقل: ادفع بالحسنة، وإنما قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34]؛ لأن الأفعال منها حسن، ومنها ما هو أحسن من الحسن، فإذا أساء إليك إنسان فأحسن إليه، وليس أي إحسان، وإنما أحسن بأفضل الإحسان إليه؛ لعل الله عز وجل أن يبدل أعماله من سيئات إلى حسنات.
وكم يستحيي الإنسان من غيره في مثل هذا الصنيع إذا أحسن إليه، ولذلك قال ربنا بعد ذلك: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، فإذا كان إنساناً طيباً وفيه عقل فإنه يؤثر عليه أو يأسره بحسن خلقه الذي يتعامل معه به.
وكل إنسان قد يبدر منه شيء، والتهور ليس دليلاً على أن هذا الإنسان سيئ، فقد يكون الإنسان جيداً، ولكن يبدر منه شيء من الإساءة ومن التهور، ولو أن كل إنسان قابلت تهوره بتهور مثله فأين الفضل الذي لك عليه؟ وأنت قد تعرف هذا الإنسان، ولعله يرجع، فربنا تبارك وتعالى يقول لك: تعامل مع هذا الإنسان بالحسنى، وأحسن إليه تأسره بإحسانك له.
فعلمنا كيف نتعامل مع الإنس ومع الجن: أما مع الجن فقال تعالى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، لأنك ليس لك حيلة مع الشيطان إلا أن تتعوذ بالله منه، والله عز وجل هو الذي يحميك ويعصمك منه فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
أو: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه.
وأما شياطين الإنسان فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت:34] وذلك مرة بعد الأخرى، فلعل هذا الإنسان يستحيي ويصبح مؤدباً يوماً من الأيام.
قال تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وهذا فضل الإحسان.
أحسن إلى الناس تستجلب مودتهم فطالما استعبد الإحسان إنساناً فإنك تستعبد الإنسان بإحسانك إليه.
وبإحسانك إليه مرة بعد مرة يصبح في النهاية كأنه ولي، أي: موال ومناصر لك بعدما كان معادياً لك، كما قال تعالى: {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
قال سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35]، أي: وما يلقى الدرجة العالية، وهي درجة الإحسان، أو ما يلقى هذا الخلق العظيم من الله ويصبر عليه إلا أهل الصبر على الأذى، أو إنسان على خلق عظيم، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
وقال سبحانه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، أي: من عزائم الأمور وشدائدها الدالة على حسن خلق صاحبها، وقوة إيمانه، فيصبر ويعفو ويتجاوز، ويفوت الشيء بعد الشيء، حتى يستحيي خصمه، ويصير إنساناً محسناً كالذي أحسن إليه.
(49/5)
فضل الأناة
عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).
وقد جاء وفد عبد القيس من ضمن الوفود الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم يتعلمون الإسلام، فقدموا عليه وكان أحدهم أشج، يعني: كان به جرح مفتوح في يوم من الأيام ثم التأم بعد ذلك، وكان قد شج في مشاجرة مع قريب له، فضربه بشيء شج رأسه، فكان مشهوراً بهذا الوصف، أشج عبد القيس، يعني: المشجوج من بني عبد القيس.
فلما قدموا ابتدروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل يريد أن يسلم عليه، صلوات الله وسلامه عليه؛ لينال من بركة النبي صلى الله عليه وسلم، فتأخر هذا الرجل قليلاً؛ فقد كانوا أتوا من سفر، وقد اتسخت ثيابهم، فأراد أن يتنظف، فنظف نفسه ولبس ثوبين طيبين، ودخل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هيئة جميلة، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من فرحه بالآخرين، وقال لهذا الرجل معظماً فعله: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله الحلم)، أنك حليم، أي: تحلم وتعفو عمن يسيء إليك.
(والأناة)، أي: أن غير متعجل.
والإنسان الذي جاء من سفر قد يكون ممتلئاً عرقاً، وممتلئاً بغبار السفر، فإذا جاء ليقابل أحداً ويسلم عليه فربما يغضب، فقد يلوث له ثيابه، فهذا الرجل انتظر حتى تنظف ولبس ثوبين وتطيب، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم طيباً، ففرح به النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة)، فسأله الرجل: هاتان الخصلتان اكتسبتهما أنا أم هما هبة من الله عز وجل فطرني الله عليهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (من الله)، يعني: الله هو الذي فطرك عليهما.
فحمد الرجل ربه سبحانه أن فطره على ذلك.
فالإنسان الحليم محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الخلق، فهو إنسان متأن غير مستعجل، فلا يريد أن يعمل كل شيء بسرعة، ولكنه يفكر قبل أن يعمل الشيء.
(49/6)
حب الله لصفة الرفق
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).
فالله عظيم سبحانه وتعالى، ومن صفات كماله وجلاله سبحانه الحلم والرفق والرحمة، فهو حليم ورفيق يرفق بعباده، قال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11].
أي: لو أن الإنسان عند استعجاله للشر وسؤاله له مثل قوله: يا رب خذني، لو أجابه الله لعجل له الشر وأخذه، ولعله يأخذه وهو على معصية، فلا يتوب إلى الله عز وجل.
وكذلك عندما يغضب الإنسان من ابنه ويدعو ربه أن يأخذه فلو أن الله عجل إليه لأخذه حالاً، فيعود الإنسان يلوم نفسه ويسألها: ما الذي جعلني أدعو عليه؟ وهكذا الإنسان يتغيظ ويدعو على نفسه، أو يدعو على زوجه، أو يدعو على أهله أو ولده، والله عز وجل يؤدبنا ويقول لنا: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11]، ولكن الله عز وجل حليم رفيق بعباده ولطيف بهم، فيحب من عباده أن يتخلقوا بهذه الصفة، صفة الرفق.
ولله عز وجل صفات يأبى أن يشاركه فيها أحد من خلقه، وله صفات أمر عباده أن يتخلقوا بنحوها.
فمن صفاته سبحانه التي أبى لعباده أن يتخلقوا بمثلها: صفة الكبر، ومن نازع الله عز وجل في ذلك أدخله النار سبحانه تبارك وتعالى.
ومن صفاته الكريمة سبحانه: صفة الكرم، وقد أمر عباده أن يكونوا كرماء.
والله صفاته عظيمة، فله الكمال في كل وصف من الأوصاف، والعباد لهم من ذلك على قدر ما يفعلون، وصفات العباد فيها نقص، وأما الله فله الكمال سبحانه، وذلك مثل: أنه جعل في عباده الحياة، وهو حي سبحانه وتعالى، وحياة الله دائمة أبدية سرمدية، فهو الأول وهو الآخر، فلا بداية له ولا نهاية؛ لأن البداية والنهاية زمن مخلوق، والله عز وجل هو الحي حياة أبدية لا نهاية لها.
فالمخلوق حي حياة على قدره، والله عز وجل له الكمال في ذلك سبحانه.
والله هو السميع البصير، فهو يسمع ويبصر، فهو يسمع كل شيء، ويرى كل شيء، وقد جعل في عبده سمعاً وبصراً، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان:2]، ولكن هذا المخلوق سمعه وبصره يليقان بنقصه وضعفه، وسمع الله عز وجل وبصره يليقان بكماله سبحانه.
فأمر عباده أن يتصفوا بصفات من صفات رحمته سبحانه.
وأن يكونوا رحماء وحلماء وكرماء، وأن يكونوا طيبين ورفقاء بغيرهم، فالله طيب يحب الطيبين، وهو جميل يحب الجمال، ورفيق يحب الرفق، وهو الرحيم وقد جعل المؤمنين فيما بينهم رحماء.
إذاً: فمن صفاته الكاملة سبحانه: صفة الرفق، وصفة الحلم، وقد أمر عباده بأن يحلموا.
فالعبد عندما يقول: إن فلاناً أغاظني، نقول له: هذا العبد كم أغضب ربه سبحانه؟ وكم حلم عليه سبحانه وتعالى؟ فعندها يرفق العبد، ويعامل الناس بالشيء الذي يحب أن يعاملوه به؛ ابتغاء وجه الله سبحانه.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، ففي الحديث أن الرفق ليس مرة أو مرتين، وإنما في كل أمرك كن رفيقاً، ومع كل شيء.
وأيضاً في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، يعني: لو كان هناك منكر موجود مثلاً فقام إنسان ينكر هذا المنكر فتكلم برفق فانتهى صاحب المنكر عن منكره، وقام آخر وتشدد وعنف هذا الإنسان وضربه ومنعه من المنكر، فكل منهما نهى عن منكر، لكن الأول أكثرهما ثواباً، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
فالذي تعامل بالرفق يأخذ أجراً أعظم ممن تعامل بالعنف، مع أن النتيجة واحدة، ولكن الرفق وراءه الرفق؛ فلما رفقت بهذا الإنسان استحيا منك واستحيا من الله، وراجع نفسه وتفكر فيما عمل، وعزم على عدم فعله مرة ثانية.
ولو عاملته بعنف لسألك: لماذا تعاملني بالعنف هكذا؟ وهل أنت أحسن مني أو أقوى مني؟ ولعله يقول: سأعملها مرة أخرى، فأنت قد نهيته عن المنكر، ولكن لعله يعود معانداً إليه مرة ثانية، فانظر الرفق: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه)، فيحبك على ذلك، وكلما تذكر رفقك به وأدبك معه يقول: لقد تركت ذلك العمل من ذلك الوقت، ولم أعمله مرة أخرى.
وإذا تذكر الآخر قال: لقد أغاظني، ألم يكن عنده طريقة غير تلك الطريقة؟ وهذا فرق كبير بينهما، وأنت تسمع هذا كثيراً، فتسمع إنساناً يذكر من علمه الإحسان بطريقة حسنة، ويذكره دائماً ويدعو له.
ويقول عن غيره: فلان لا أحب التعامل معه وإن كان يصلي، لكنه عنيف ومتهور وكذا.
قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ويعطي الله عز وجل على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه).
فالرفق إذا كان في الشيء كان زينة له، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
فما كان الرفق في قلب إنسان إلا كان زينة لهذا الإنسان.
وما كان في عمل من الأعمال إلا وكان هذا العمل جميلاً، وما نزع هذا الرفق من شيء إلا كان شيناً على صاحبه، وعلى العمل الذي عمل فيه، فكن رفيقاً، فالرفق نتيجة حلم الإنسان، والإنسان الحليم محبوب إلى الخالق سبحانه، ومحبوب إلى الناس.
(49/7)
رفق النبي بالأعرابي الذي بال في المسجد
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بال أعرابي في المسجد).
وكلنا يحفظ هذا الحديث.
فالأعرابي الذي دخل المسجد كان فيه شيء من الجهل، دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يقضي حاجته، ولم يكن يوجد دورة مياه كما هو موجود الآن في مساجدنا، ولا مكان للوضوء في المسجد، ورأى أن المسجد لا يوجد فيه حصير ولا بساط، وإنما هو حصى وتراب، فذهب إلى أحد أركان المسجد وجلس يبول فيه، فقام إليه الصحابة ينتهرونه: ماذا تعمل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذروه، لا تزرموه بوله).
يعني: اتركوه يكمل، ولو قطعتم عليه بوله فقد يحصل له احتقان أو نحوه له حاجة ما، فاتركوه.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (أريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو: ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين).
وهذا الكلام الجميل من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإنسان الذي تبول في المسجد ليس معناه: أنك لم تفعل شيئاً قبيحاً، وإنما معناه: لقد فعلت شيئاً قبيحاً، ولو رأيتك قبل ذلك لنهيتك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، ولكنه طالما قد بدأ قال: (دعوه، ولا تزرموه بولته، إنما بعثتم ميسرين) فالأعرابي لما نظر إلى الصحابة وهم يقولون له: ماذا تعمل؟ ونظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه برفق قام يصلي، ودعا قائلاً: (اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً).
فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم متعجباً من جهله وحماقته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حجرت واسعاً).
يعني: أنك تحجر رحمة ربنا فإذا رحمك أنت ومحمداً فقط فبقية الناس أين يذهبون.
فلما مشى الرجل تعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: (أهو أضل أم بعير أهله؟!) فهو ليس فيه فهم، لأنه بال في المسجد، ودعا بالرحمة لنفسه وللنبي صلى الله عليه وسلم فقط، وأما غيرهما من الناس فلا.
فهو صلى الله عليه وسلم يحذر من مثل هذا الخلق، وأن يخص الإنسان نفسه بالدعاء ولا يدعو لغيره، فإن الدعاء العظيم أن تدعو للمؤمنين، وأبخل الناس من بخل بالدعاء، ولو علم ما في الدعاء من خير لدعا لأخيه المسلم؛ حتى تؤمن الملائكة وتقول: ولك بمثله، فعندما تدعو للمسلم فإن الملائكة تقول: ولك بمثل، أي: مثلما دعوت له.
بل جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن من قال: (اللهم اغفر لي وللمؤمنين أعطي بكل واحد منهم حسنة).
أي: أحياء وأمواتاً؟ فإذا دعوت بهذا الدعاء فلك بكل واحد منهم حسنة، فلا تبخل بالدعاء، وتدعو لنفسك فقط، بل ادع لغيرك، ففيه الفضل الواسع.
فهذا الإنسان لما قال: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) دل ذلك على جهله بالله سبحانه، وعلى جهله بآداب بيت الله بما صنع، وما منع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه: (لقد حجرت واسعاً) وأن يقول لأصحابه: (دعوه)، ثم أمر بصب الماء على هذا البول، فعلمهم كيف يطهر أثر هذا الشيء، وعلم الرجل ألا يفعل مثل ذلك.
والله أعلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(49/8)
شرح رياض الصالحين - الحلم والأناة والرفق [2]
إن الحلم والرفق بالناس لهما أجر عظيم، وفضلهما عند الله كبير، فهما سببان لمحبة الله عز وجل ومغفرته سبحانه وتعالى، إذ إن فيهما التيسير على الخلق والرحمة والشفقة بهم.
وهما يعبران عن بساطة الإنسان وسماحته، وحسن خلقه بين الناس، ودليلان على صفاء قلب صاحبهما ونقائه.
(50/1)
فضل الرفق والأناة
(50/2)
الله تعالى يحب الرفق
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الإمام النووي رحمه الله: [باب الحلم والأناة والرفق.
عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله عز وجل كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته) رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه, وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله تعالى) متفق عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن].
هذا الباب في الحلم والأناة والرفق.
والحلم صفة من الصفات التي ينبغي أن يتخلق بها الإنسان المؤمن، فيكون حليماً في معاملته للخلق، ولا يكون عذولاً، وإنما يكون متأنياً حليماً رفيقاً بالخلق.
قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وجاء في حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله).
والإنسان الرفيق حري بأن يعامله الله عز وجل هذه المعاملة، فالله كريم وحليم تبارك وتعالى، فإذا كان الإنسان كريماً فإن الله يعامله بكرمه، وإذا كان رحيماً وحليماً فإن الله يعامله برحمته وحلمه سبحانه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف) فإذا كان الأمر يأتي بالرفق ويأتي بالعنف والنتيجة واحدة فما كان بالرفق فهو أصوب وأفضل عند الله عز وجل فتعامل مع الناس برفق، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر برفق، حتى يكون لك في الحالين الأجر عند الله سبحانه، فإن أمرك بالمعروف معروف، ونهيك عن المنكر أيضاً معروف.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) فمن يحرم الرفق يحرمه الله عز وجل الخير كله، ومن أعظم الخصال التي تكون في قلب المؤمن أن يكون رفيقاً وحليماً، فيأخذ بالرفق، فإذا حرمه الله عز وجل ذلك كان متهوراً ومندفعاً ومؤذياً، فيؤذي نفسه ويؤذي غيره، فيحرم الخير كله.
(50/3)
شرح حديث: (لا تغضب)
عن أبي هريرة كما عند البخاري: (قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني.
قال: لا تغضب.
فردد مراراً أوصني.
قال: لا تغضب).
ولا أحد يستطيع أن يمنع نفسه من الغضب، وكل فرد منا قد يغضب في اليوم مرات كثيرة فكأن معنى الحديث: لا تنفعل في غضبك انفعالاً بحيث تؤذي غيرك وتؤذي نفسك وتندم بعد ذلك عليه، ولا تستدع أسباب الغضب بأن تضع نفسك في المكان الذي تعرف أنك ستغضب فيه وتتهور، فلا تتعاط أسباب الغضب، فإن الغضب من أسباب الشر للإنسان.
فابتعد عن أسباب الشر إلا إذا كان الغضب لله تبارك وتعالى ولشرعه، ولذلك كان الجهاد في سبيل الله عز وجل غضبة من المؤمنين لشرع رب العالمين سبحانه، فيغضبون من الكفار ويجاهدون في سبيل الله، وأما الغضب من أمر الدنيا فلا تستدع أسبابه، ولا تغضب.
والإنسان الذي يغضب يصير طبعاً فيه، فإذا غضب اليوم من شيء فغداً يغضب من شيئين، وبعده من ثلاثة أشياء، وفي كل فترة يبتلى بأحد يغضبه، فيغضب ويتهور، فيقع في سب الخلق، ثم يقع في مد اليد على الغير، فيأتي يوم القيامة وقد شتم هذا، وقذف هذا، وسفك دم هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إذا فنيت حسناته أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فطرح في النار.
فلذلك لا تعود نفسك على التهور والاندفاع والغضب.
(50/4)
شرح حديث: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء)
عن أبي يعلى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) أي: إن الله يحب المحسنين، فأحسن في كل شيء، فأحسن إلى نفسك، وأحسن إلى غيرك، وأحسن حتى في قتالك لأعدائك.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة) ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الصبر، وذلك بأن يكتف الإنسان ثم يقتل.
فإذا قتلت فأحسن القتلة، حتى مع الأعداء، فلا تشوه ولا تعذب، ودع أمرهم إلى الله عز وجل، فإذا قتلت فاقتل قتلاً يريح المقتول، ولا داعي للتشويه ولا للتعذيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعذيب بالنار، وأخبر أنه لا يعذب بها إلا الله سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، يعني: في الجهاد في سبيل الله عز وجل أو في غير ذلك، فإذا أردت أن تقتل شيئاً عادياً يعدو عليك فأحسن قتلته، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتل خمس في الحل والحرم، فإذا قتلت ثعباناً أو كلباً عقوراً أو حدأة أو غراباً أو أي شيء من الأشياء المؤذية فاقتله وأرحه وأرح نفسك بقتله ولا تعذبه.
قال صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) وقد أباح الله لنا بهيمة الأنعام لنأكلها، فإذا ذبحت فسم الله عز وجل ثم أحسن في ذبحك لها.
فمعنى: (أحسنوا القتلة)، أي: أحسنوا هيئة القتل، وهيئة الذبح وطريقته، فالذبحة والقتلة اسم هيئة.
قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته) والشفرة سن السكين فلا تحدها أمام الحيوان، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مر على رجل واضع رجله على جانب بهيمة يريد أن يذبحها وهو يحد شفرته، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أتريد أن تميتها موتتين؟) يعني: تعذبها بأن تحد السكين أمامها، ثم بعد ذلك تذبحها، فحد السكين بعيداً عنها، ثم اذبحها سريعاً بحيث لا تؤذيها ولا تعذبها.
قال: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).
(50/5)
شرح حديث: (ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا بأخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً) عليه الصلاة والسلام فكان إذا خير بين أمرين أحدهما فيه عنف والثاني فيه رفق اختار ما فيه رفق عليه الصلاة والسلام، فكان دائماً سهلاً ويحب السهل، صلوات الله وسلامه عليه، قالت: (فإن كان إثماً) أي: إن كان هذا الأيسر فيه إثم فلا يختاره؛ لأنه كان أبعد الناس عنه، صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط).
وقد قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد! اعدل.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ومن لم يعدل إن لم أعدل، خبت وشقيت إن لم أكن أعدل) أي: إذا كنت لا أعدل فأنت خائب وشقي، ولن تنتفع بهذا الأمر الذي أنت فيه إن كنت تتبع رجلاً ظالماً، ومع ذلك ما انتقم منه صلى الله عليه وسلم، وقال له رجل من الصحابة: (ألا أقتله يا رسول الله؟ قال لا.
لعله أن يكون يصلي) ولم يأمر بقتله، ولم ينتقم منه عليه الصلاة والسلام.
وكذلك الرجل الأعرابي الأحمق الغبي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمسك بثوبه وخنقه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثرت حاشية الثوب في رقبته صلوات الله وسلامه عليه ثم قال له: (يا محمد! أعطني من مال الله لا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أعطوه) فحلم النبي صلى الله عليه وسلم عليه؛ ليعلم الناس الحلم عليه الصلاة والسلام.
وفي إحدى المرات أتاه وفد من الأشعريين، وقد كان يحب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، ويقول: (هم مني وأنا منهم).
فجاءه الأشعريون في وقت كان مشغولاً فيه فقالوا له: احملنا.
ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم عليه فقال: (والله لا أحملكم على شيء) فحلف على ألا يحملهم على شيء، فذهب الأشعريون وعندما كانوا في الطريق كلم بعضهم بعضاً: لقد أغضبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا نعمل؟ فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم صدقات من الإبل، فأرسل إلى الأشعريين فأعطاهم من هذه الإبل، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: لعلنا أحلفنا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (قد حلفت يا رسول الله ألا تحملنا) وهذا من أدب الأشعريين رضي الله تبارك وتعالى عنهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان يمان والحكمة يمانية) وهم أهل اليمن رضي الله تبارك وتعالى عنهم، فهم أرق الناس قلوباً وأفئدة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنا حملتكم) يعني: لست أنا الذي حملتكم، ولم أحملكم من مالي، فكأنه لما حلف قصد ألا يحملهم من ماله؛ لأنه ليس له مال يحملهم عليه، وهذا مال الله، وصدقة من الصدقات التي جاءت فحملتكم على مال الله وليس على مالي، فلم يمنعه غضبه من أن يعطيهم هذا الشيء الذي طلبوه، طالما أنه ينفعهم ولا يضره صلى الله عليه وسلم ذلك شيئاً.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله).
فإذا انتهكت حرمات الله، كأن يقع إنسان في الزنا، أو في الكفر، أو يفعل شيئاً نهى الله عز وجل عنه، فينتقم منه النبي صلى الله عليه وسلم لله ويأمر بإقامة الحد عليه، فهو ليس انتقاماً بالمعنى الذي نفهمه، وليس فيه تشف، وإنما هذا الانتقام إقامة لحد الله عز وجل على هذا الإنسان الذي وقع في الخطيئة، قالت: (فينتقم لله) وليس لنفسه عليه الصلاة والسلام.
(50/6)
شرح حديث: (ألا أخبركم بمن تحرم عليه النار)
روى الترمذي وقال: حديث حسن.
وفي إسناده رجل لم يوثقه سوى ابن حبان، فإسناده فيه ضعف.
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا خبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل قريب هين لين سهل).
فالنار تحرم على هؤلاء من المؤمنين، فالمؤمن إلف مألوف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) والإنسان المؤمن هين لين سهل، والله عز وجل ذكر عباد الرحمن فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:63] وهوناً أي: بلين وبتواضع وبخشوع وبأدب.
قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] والجاهلون: أهل الجهل والسخط والباطل، فإذا خاطبوهم ردوا عليهم بكلام لين، وقد لا يردون عليهم ولا يجاوبونهم، وإذا ردوا عليهم فلا تخرج منهم لفظة قبيحة أبداً وإنما يقولون لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
فليس لنا دخل بكم، ولن نرد عليكم فيما تقولونه، ولا يقولون إلا الكلام الطيب، فقلوبهم أوعية للشيء الطيب، وكل إناء ينضح بما فيه، فقلوبهم ممتلئة بالخير، فإذا تكلمت ألسنتهم تكلمت بهذا الخير الذي أشربته قلوبهم، فالنار تحرم على هؤلاء، وعلى كل قريب من الناس.
والمؤمن ليس بعيداً عن الناس، وإنما هو قريب منهم، وشر الناس من اتقاه الناس مخافة شره، أي: أن شر الخلق هو الإنسان الذي يتركه الناس لأن لسانه طويل، ولأنه مؤذ، فهذا من شر الناس.
وعكسه المؤمن فهو خير الناس، وهو إلف يؤلف بسهولة، فإذا تكلمت معه أحسست أنك تعرفه منذ زمان، وأن بينك وبينه مودة، فالمؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف.
(50/7)
فضل العفو والإعراض عن الجاهلين
(50/8)
معنى قوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف)
يقول الإمام النووي رحمه الله: [باب العفو والإعراض عن الجاهلين].
ويجوز أن تقول في أي باب من الأبواب إما على الإضافة أو على الابتداء والخبر، فتقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين، ويجوز أن تقول: باب العفو والإعراض عن الجاهلين.
قال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] هذا أدب عظيم، ومثل هذه الآداب كان يسمعها المشركون فيعرفون أن هذا الدين عظيم، وعندما كان يسأل أحدهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما هو هذا الدين الذي أنت عليه؟ وماذا أنزل عليك من القرآن؟ كان يقرأ عليه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل:90] فيشعر أن هذا الدين دين عظيم، فيدفعه ذلك إلى أن يدخل في هذا الدين، أو على الأقل أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما الذي يقول.
قال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199]، يعني: ليكن خلقك الأخذ بالعفو دائماً، فمثلاً إذا خيرت بين شيئين إما أن تعفو أو تنتقم فخذ العفو واختر الأسهل، وكن على هذا الخلق العلي، قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199]، يعني: بما جاء في شريعة رب العالمين.
قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، أي: عن أهل الجهل والصخب والجدل والباطل، فهم لا يستحقون أن تجيبهم مجادلاً لهم، ولا ينفعهم ذلك.
وعندما كانت وفود العرب تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم شعراء وخطباء، وكانوا يأتون للمفاخرة، ويقولون: أتينا نفاخرك، فمن يتكلم أولاً نحن أو أنت، ويريدون أن يخطب هو، ويريدون أن يقولوا شعراً ويقول مثله.
فلم يكن يجيبهم إلى ذلك صلى الله عليه وسلم أبداً، وإنما كان ينتدب رجالاً من أصحابه ليردوا عليهم، فكان حسان يجيبهم في الشعر، ويرد عليهم به رضي الله تبارك وتعالى عنه، ثم يقوم خطيب النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس يخطب أمامهم، أما هو فكان منزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم، فأمره الله عز وجل بالإعراض عمن فيه جهل من الناس، وعمن لا يعرف قدره صلى الله عليه وسلم.
(50/9)
معنى قوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل)
قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85].
فأمره بالصفح الجميل، وأمره أيضاً بالصبر الجميل فأما الصبر الجميل فهو الصبر الذي لا شكوى فيه إلا إلى الله عز وجل، وليس فيه شكوى للخلق، وأما الصفح الجميل فهو صفح لا إنتقام فيه ولا معاتبة.
أي: إذا صفحت فلا تعاتب.
فعلمه ربه أكمل الخلق وأعلاه، قال تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] فلا تعاقب ولا تعاتب، فلا معاقبة ولا معاتبة.
وقال الله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] والإنسان المؤمن يتفكر في هذه الآية من سورة النور، وفيمن نزلت؟ قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22].
وقد كان هذا الخطاب لسيدنا أبي بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقد أوذي أذىً شديداً جداً، وقد كان في نبي الله صلى الله عليه وسلم، وفي ابنته عائشة رضي الله عنها، وكانت صدمته في ابن خالته الذي تكلم على ابنته، مع أنه أحسن إلى ابن خالته هذا مسطح، ومع ذلك فإن مسطحاً هو الذي رمى ابنة أبي بكر السيدة عائشة أم المؤمنين بحديث الإفك، وردد ما قاله المنافقون، فأقسم أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فكأنه قال له: إنني طول عمرك أصرف عليك ثم أنت الآن تتكلم على ابنتي، فلن أصرف عليك مرة ثانية، وأقسم على ذلك.
فنرلت هذه الآية تعاتب أهل الفضل، وتعاتب أبا بكر فإن أبا بكر منزلتة عظيمة جداً عند الله عز وجل، والله لا يريد لـ أبي بكر أن ينزل عن هذه المنزلة، فإن إيمانه لو وزن بإيمان الأمة وليس فيها النبي صلى الله عليه وسلم لرجح عليها ولوزنها، فقال له ربه: أنت الذي تفعل هذا ألا تريد الله يغفر لك؟ فقال أبو بكر: بلى، أريد أن يغفر لي ربي، ورجع مرة ثانية ينفق على مسطح من دون عتاب ولا غيره، وقال: لا أقطع عنه النفقة أبداً.
فقالت الآية لـ أبي بكر: {وَلا يَأْتَلِ} [النور:22] أي: لا تحلف مرة أخرى على قطع الخير، أي: لا يتألى ولا يقسم ولا يحلف.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [النور:22] فعاتبه ومدحه، فقال له: أنت يا أبا بكر من أصحاب الفضل، فما الذي جعلك تحلف على هذا الشيء؟ فبدأ بالمعاتبة فقال له: لا تفعل هذا الشيء، ثم مدحه بأنه من أهل الفضل.
قال تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النور:22] فلا بد أن ينفقوا مرة أخرى، ويرجعوا إلى النفقة عليهم.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وليجعل المسلم هذه الآية أمامه، وكلما غضب يتذكرها ويتفكر فيها، وإذا أراد الانتقام تذكرها.
قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] أي: فلا تنظر لهذا الذي فعل فيك هذا الشيء، ولكن انظر إلى نفسك مع الله عز وجل، فإذا أردت أن يغفر الله لك فاغفر وسامح، واترك الناس على ما أساءوا إليك، وأحسن أنت إليهم حتى تأخذ الأجر من الله، ويعاملك الله عز وجل بالإحسان يوم القيامة.
قال سبحانه: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
والصبر يكون على مضض وعلى غيظ، ولكن على الإنسان أن يصبر ويتجاوز ويسامح، حتى يصل إلى هذه المرتبة العظيمة، وهذا من عزم الأمور، ولا يقوى عليها إلا أصحاب العزيمة، فإذا كان عندك عزيمة وصبر وقوة إيمان فأنت داخل في هذه الآية: {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
(50/10)
أذى الناس لرسول الله وصفحه عنهم
(50/11)
إيذاء المشركين لرسول الله يوم أحد
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلوات الله وسلامه عليه: (هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟).
فقد كانت موجودة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة في يوم أحد، وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها سبع سنوات، ودخل بها في المدينة ولها تسع سنوات، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الأيام والسنوات الماضية التي مكثها في مكة فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، ففي الخمس السنوات الأولى من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قد ولدت السيدة عائشة، ثم ولدت بعد ذلك، فهي هنا تسأله عن تلك الأيام وتقول: هل جاء عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ ويوم أحد كان يوماً عظيماً فظيعاً وقد كان المسلمون أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج، ولم يكن يريد أن يخرج عليه الصلاة والسلام، وكان يقول: (المدينة حصن حصين) أي: اتركونا ندافع عن أنفسنا في المدينة، فأبى المسلمون إلا الخروج، فقد كانوا يريدون الشهادة مثل أهل بدر، حتى تكون لهم فضيلة عند ربهم.
فخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الطريق رجع عبد الله بن أبي بن سلول زعيم المنافقين بثلث الجيش، وكان رأيه عدم الخروج مثل رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم قال: أطاعهم وعصاني؟ فرجع بثلث الجيش.
وكانت صدمة للنبي صلى الله عليه وسلم أن هذا يرجع ثلث الجيش الذين معه، ومع ذلك صبر لأمر الله سبحانه، وعندما وصل إلى أحد قام النبي صلى الله عليه وسلم يحدد للمؤمنين المكان، واختار سبعين من الرماة وأمرهم أن يكونوا فوق الجبل ولا ينزلوا، وقال لهم: (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تخطفنا الطير) أي: لو رأيتمونا جثثاً على الأرض والطير تأكلنا فلا ينزل أحد ويترك المكان الذي هو فيه.
وتبتدئ الحرب ويأتي نصر الله عز وجل وينتصر المؤمنون.
فطمع الرماة في الغنيمة أن يأخذها المقاتلون وحدهم، فنادى بعضهم بعضاً: ألم يأمركم النبي صلى الله عليه وسلم ألا تنزلوا؟ فلم يسمعوا وتركوا أماكنهم ونزلوا ليأخذوا الغنيمة، فالتف المشركون من ورائهم، وقتلوا المؤمنين، فانقلب النصر إلى هزيمة؛ لأسباب هي كما قال تعالى: {وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152].
فالمؤمنون الصادقون ما كانوا يظنون أبداً أن منهم من يريد هذه الدنيا، وكلهم يجاهدون في سبيل الله، ولم يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقالوا: ما كنا نظن أن يكون فينا أحد همه الدنيا حتى أنزل الله عز وجل هذه الآية.
فهزم المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة من المؤمنين، وكان قد جرح صلى الله عليه وسلم، وقد كان هو المطلوب أصلاً، وكان أبو عامر الفاسق قد حفر حفراً للمسلمين فوقع النبي صلى الله عليه وسلم في حفرة منها وجرح وانكسرت رباعيته، وهشمت البيضة فوق رأسه عليه الصلاة والسلام، ودخلت حلقتا المغفر الذي يقي وجه النبي صلى الله عليه وسلم في خده.
ففر المسلمون وانفرد النبي صلى الله عليه وسلم في سبعة أو تسعة من المؤمنين، وأتى الكفار على هؤلاء، فقال صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ فيقول طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أنا يا رسول الله.
فيقول: مكانك) يعني: دعك إلى الآخر.
فقام إليهم رجل من الأنصار فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه أمام النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جريح عليه الصلاة والسلام على هذه الحال، فقال: (من للقوم؟) فقام آخر حتى قتل السبعة كلهم أمام النبي صلى الله عليه وسلم مدافعين عنه، ولم يبق إلا طلحة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من للقوم؟ لم يبق إلا أنت، فقام فقاتل قتال السبعة وحده) رضي الله عنه، فضرب فقطعت أصابعه، فقال: حس، وهو صوت يقوله الشخص عندما يصاب بشيء.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو قلت باسم الله لرفعتك الملائكة).
(50/12)
شدة أذى المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم يوم خرج إلى الطائف
فيوم أحد كان يوماً شديداً على المؤمنين وعلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالسيدة عائشة تذكر هذا اليوم وتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يوم كان أشد من هذا اليوم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومكِ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة)، يعني: كان هناك يوم آخر أكثر من ذلك بكثير.
فقال: (كان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إني عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال) فقد ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء القوم وهذا سيدهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فلم يجبني إلى ما أردت).
يعني: أنه ضاقت على النبي صلى الله عليه وسلم مكة فخرج إلى الطائف لعله يجد أحداً يستجيب له، فخرج يدعوهم، وعرض نفسه على هذا الرجل، فأبى ولم يجب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: (فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب) فقد سلطوا عليه غلمانهم وصبيانهم يقذفونه بالحجارة، فأدموا قدميه صلوات الله وسلامه عليه، قال: (فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب)، فقد مشى إلى مكان بعيد، ولم يشعر بشيء صلى الله عليه وسلم من شدة الهم والغم الذي هو فيه، إلا وهو في قرن الثعالب.
قال: (فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني) ولم يكن يشعر من الهم أن هناك سحابة فوقه صلى الله عليه وسلم تظله من الشمس.
قال: (فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال: إن الله تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فإن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) والأخشبان: جبلان حول مكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جميلاً فيه الرحمة بهم، فقال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً) ومن يقول مثل هذه المقالة غيره صلى الله عليه وسلم؟! فهو الذي رباه ربه فأحسن تربيته قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فلم يقل له: انتقم، واعمل فيهم ما تريد، وأطبق عليهم الأخشبين فهم يستحقون العذاب، وسأذهب إلى بلاد أخرى أدعو إلى الله عز وجل، ولكنه صبر لأمر الله، ورجا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
فكان الأمر على ما تمناه النبي صلى الله عليه وسلم، ونال في النهاية ما تمنى، بعد أن فتحت مكة فقد مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، وبعد ثمان سنوات من هجرته إلى المدينة، فتحت مكة، ولكنه لم يهنأ بالدنيا أو الفتوح صلى الله عليه وسلم، فبعدها بسنتين مات صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] وقرت عينك بذلك.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:2 - 3] أي: عندما يدخل الناس في دين فلا تستمع بالدنيا، وإنما سبح واستغفر، فإن أجلك قد حان، فاستعد للآخرة، فالمكافأة ليست في الدنيا فاستعد لها.
(50/13)
النبي صلى الله عليه وسلم لم يضرب أحداً
وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله).
المعنى: أنه لم يضربها كنوع من التعذيب أو التأديب، وإلا فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لكز عائشة مرة حين خرج يستغفر لأهل البقيع بأمر الله عز وجل في نصف الليل، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم غارت وظنته سيذهب إلى بيت بعض نسائه، فخرجت وراءه، فلما وصل إلى البقيع استغفر لأهل البقيع ثم رجع، فرجعت، وكان يراها أمامه مثل الخيال، فلما دخل بيته كانت قد سبقته، فدخل فوجدها تنهد ويرتفع صدرها، فقال: (مالكِ؟) فاعترفت بالأمر.
قال: (فأنتِ الخيال الذي رأيت؟ فوكزها في صدرها) فهذا ليس ضرباً ولكنه معاتبة منه صلوات الله وسلامه عليه، وهي التي تقول: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط)، فهذه الوكزة ليست من الضرب في شيء، وإنما هي معاتبة منه صلى الله عليه وسلم.
قالت: (ولا امرأة) أي: من نسائه (ولا خادماً) يخدمه صلى الله عليه وسلم، (إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه).
يعني: أن الذي كان يعمل فيه شيئاً لم يكن ينتقم منه لنفسه أبداً.
(إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى).
(50/14)
عفو النبي عن الأعرابي الذي جبذه بردائه حتى أثر في عاتقه
وفي حديث الأعرابي عن أنس رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه الأعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة) وهذا من حماقته وغباء قلبه.
قال أنس: (فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك) وهذه الرواية في الصحيحين.
وفي رواية أخرى: (لا من مال أبيك.
قال: فالتفت إليه، فضحك صلى الله عليه وسلم، ثم أمر له بعطاء).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم أنه ضحك ولم يكن الموقف موقف ضحك، ولكنه لو غضب وتغيظ فقد يقوم أحد من المسلمين ويضرب هذا الإنسان أو يقتله، فلذلك ضحك ليهدأ المسلمون الموجودون كلهم فيسكتون، ويظنون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرفه، وأنه كان بينه وبينه شيء، فسكتوا لهذا الشيء.
(50/15)
عفوه صلى الله عليه وسلم عن قومه واستغفاره لهم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) وقد كان يحكي عن نفسه هو، ويقول: إن نبياً من الأنبياء فعلوا به وفعلوا، وهو يقصد نفسه صلى الله عليه وسلم قال: (ضربه قومه فأدموه) أي: أسالوا دماءه.
قال: (وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) فهذه هي مسامحته ومعاملته فقد ضربوه وآذوه وأخرجوه وهو يقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) أي: أنهم لا يعرفون.
وهذا الحديث متفق عليه.
(50/16)