|
المؤلف: شمس الدين محمد بن عمر بن أحمد السفيري الشافعي (المتوفى: 956هـ)
حققه وخرج أحاديثه: أحمد فتحي عبد الرحمن
الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان
الطبعة: الأولى، 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء: 3 (النسخة الإلكترونية ينقصها المجلد 3)
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
ويدل على تحريم الخيانة في الأمانة الحديث الذي ذكره البخاري حيث جعل الخيانة إحدي علامات المنافق.
وقول الله تعالى: ?فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ? [البقرة: 283] .
وقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها? [النساء: 58] .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (1)
حسنة الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم.
وأما الغدر وهو مخالفة العهد، فالذي يدل على تحريمه الحديث الذي ذكره البخاري.
وقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] .
وقوله تعالى ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كان مَسْئُولاً? [الإسراء: 34] .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال هذه غدرة فلان» (2) .
لطيفة في الوفاء بالعهد وعدم الغدر: نقل الإخباريون عن عبد الله بن المبارك أنه كان في غزوة فالتقى هو ومجوسي للقتال فدخل وقت الصلاة، فقال للمجوسي: دخل وقت الصلاة عبادتنا اصبر على حتى أصلي، وعاهدني على أن لا تقصدني بمكروه حتى أفرغ من الصلاة، فعاهده على ذلك، ثم توضأ عبد الله بن المبارك
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (3/564، رقم 1264) وقال: حسن غريب، والحاكم في صحيحه (2/53، رقم 2296) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/290، رقم 3535) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) عن أبي هريرة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (1/261، رقم 760) ، وفي الصغير (1/288 رقم 475) ، والدارقطني (3/35) ، وأبو نعيم في الحلية (6/132) ، والحاكم في المستدرك (2/53، رقم 2297) وقال: على صحيح على شرط مسلم. والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21093) ، والضياء في المختارة (7/281، رقم 2738) عن أنس.
قال الهيثمي (4/145) : رواه الطبراني في الكبير والصغير، ورجال الكبير ثقات.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8/127، رقم 7580) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) وقال: ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة.
قال الهيثمي (4/145) : فيه يحيى بن عثمان بن صالح المصري، قال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه.
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/959، رقم 2872) ، وأبو يعلى في مسنده (9/234، رقم 5342) .
(2/64)
وصلى، والمجوسي ينظر ولا يتكلم حفظاً للعهد، فلما فرغ من صلاته التقيا للقتال فلم يقدر أحدهما على الآخر إلى أن جاء وقت غروب الشمس، وعبادة المجوسي هي السجود للشمس وقت طلوعها وغروبها، فقال المجوسي لعبد الله بن المبارك: دخل وقت عبادتنا عاهدني أنت أيضاً كما عاهدتك واصبر على حتى أفرغ من عبادتي ولا تغدر. فعاهده عبد الله بن المبارك على ذلك، فلما سجد للشمس وثب عليه عبد الله بن المبارك بسيفه ليقتله وهو ساجد، فهتف به هاتف: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، فرجع فلما فرغ المجوسي قال له: مالك هممت بي ثم رجعت؟ قال: سمعت هاتفاً يقول كذا، فقال المجوسي: نعم الرب ربك يعاتب وليه لأجل عدوه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
لطيفة أخرى: عاهد بعض الصالحين ربه - عز وجل - أن لا يستغيث بأحد من الخلق إلا به سبحانه وتعالى، فخرج إلى الحج فمر في طريقه على بئر والنوم في عينيه فسقط فيه، ولم يقدر على الخروج منه، فمر بالبئر رجلان فقال أحدهما للآخر: هذا البئر يضر بالمارين فلا نبرح حتى نطمه من طريق الناس، وهو يسمع ما قالاه من أسفل البئر، فأراد أن يستغيث بهما فذكر العهد فسكت فطماه وذهبا، فأرسل الله سبعاً ففتح البئر وناوله يده فرفعه بها فسمع هاتفاً يقول: من التجأ في مهماته إلينا، ولم يتكل على سوانا، وناجاني في الغيب فنجيناه من التلف.
وأنشد في المعنى:
إذا لم يكن بيني وبينك مرسل ... فريح الصبا مني إليك رسول
لطيفة ثالثة: طلب الحجاج رجلاً ليقتله فقال: أيها الأمير عندي ودائع للناس فأمهلني حتى أردها، فأعرض عنه وقال: لا أطلقك إلا بكفيل، فخرج الرجل يطلب كفيلاً يكفله ومعه جماعة الحجاج، فوجد رجلاً جميل الوجه من أقارب الحجاج فقاله له: ما اسمك؟ فقال: عبد الكريم، فأخبره بقصته مع الحجاج، فقال: أنا أكفلك عنده. وكفله عند الحجاج، فقال له الحجاج: إن لم يأت أقتلك مكانه وإن بيني وبينك قرابة. قال: نعم، فذهب الرجل ورد ودائع الناس فلما أبطأ على الحجاج طلب الكفيل، وأمر بقتله فقال له: دعني أصلي ركعتين ثم أفعل ما أردت، فصلى ركعتين ثم قال: يا رب إن الرجل اطمأن إليَّ لأني عبد الكريم وأنت الكريم. ثم رفع السياف سيفه وأراد ضربه، وإذا بالرجل قد أقبل فقال له السياف: كيف رجعت
(2/65)
إلى القتل؟ والحجاج يسمع فقال: ردني قوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ? [النحل: 91] ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ? [البقرة: 40] والوفاء بالعهد من الإيمان، فلا أخرج من الإيمان لأجل حياة زائلة، فقال الحجاج: أذهبا فقد عفوت عنكما.
وأما الفجور في الخصومة فهو حرام كما يدل على تحريمه الحديث المذكور، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «كفي بالمرء إثما أن لا يزال مخاصماً» (1) .
والخصومة: لجاج في الكلام ليستوفي به الإنسان مقصوده من مال أو غيره، نعم إن خاصم الإنسان بحق يستوفي حقه فليس ذلك بحرام، وإنما الحرام المذموم من المخاصمة أن يخاصم بباطل أو بغير علم، كبعض وكلاء القضاة فإنه يتوكل بالخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب فيخاصم بغير علم، فالخصومة مبدأ الشر، وهي توغر الصدر وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، فأطلق كل واحد منهما لسانه في حق الآخر، فينبغي للعاقل أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرروة بالغة، وحينئذ يحفظ لسانه وقلبه عن آفاتها.
قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة.
فائدة: قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا قال خصمه: بيني وبينك كتاب الله أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقوال العلماء المسلمين أو نحو ذلك، أو قال: اذهب معي إلى حاكم المسلمين، أو للمفتي للفصل في الخصومة التي بيننا وما أشبه ذلك أن يقول: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعة، أو نعم وكرامة أو شبه ذلك.
قال الله تعالى: ?إِنَّمَا كان قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [النور: 51] .
وإذا قال له خصمه في المخاصمة والمنازعة في أمر: اتق الله، أو خف الله تعالى، أو راقب الله تعالى، أو اعلم أن الله مطلع عليك، أو اعلم أن ما تقوله يكتب عليك أو تحاسب عليه، أوقال له: قال الله تعالى ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ? [آل عمران: 30] ، وقال تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/359، رقم 1994) ، وقال: غريب. والطبراني في الكبير (11/57، رقم 11032) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/340، رقم 8432) عن ابن عباس.
(2/66)
اللَّهِ? [البقرة: 281] ، أو نحو ذلك فيبنغي أن يتأدب ويقول سمعاً وطاعة، أو سل الله التوفيق، أو اسأل الله الكريم لطفه، ويتلطف في مخاطبة من قال ذلك، وليحذر كل الحذر من تساهله عند ذلك في عبارات فإن كثيراً من الناس يتكلمون عند ذلك بما لا يليق، وربما يتكلم بعضهم بما يكون كفراً.
وأما الخلف في العهد فهو حرام جداً عند جماعة من العلماء، وبه قال عمر بن العزيز، والذي يذهب الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والجمهور من العلماء أن خلف الوعد ليس بحرام بل مكروه كراهة تنزيه كراهة شديدة، وقالوا: يستحب الوفاء به، وعند المالكية إن ارتبط الوعد بسبب كقوله: تزوج، أعط كذا فوجب الوفاء به وكان خلفه حراماً، وإن كان وعداً مطلقاً فلا يجب الوفاء به.
فالحاصل: أن خلف الوعد إما حراماً وإما مكروهاً.
قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] .
والوفاء بالوعد من أخلاق الأنبياء والأولياء والصالحين نفعنا الله بهم أجمعين.
قال القاضي عياض: باع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث من إنسان شيئاً وبقي له بقية، فقال له ذلك الإنسان: قف مكانك يا محمد حتى آتيك بالبقية، فذهب ونسي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان، فاستمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المكان ثلاثة أيام حفظاً للوعد، ثم تذكر بعد اليوم الثالث فجاء فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد شققت عليَّ أنا ههنا منذ ثلاثة أيام انتظرك» (1) .
وذكر بعض المفسرين في قوله حكاية عن إسماعيل: ?إِنَّهُ كان صَادِقَ الوَعْدِ? [مريم: 54] أن رجلاً قال له: اجلس يا إسماعيل في هذا المكان حتى آتيك فجلس فيه سنة، ثم جاءه فقال له: مكانك حتى آتيك فجلس فيه سنة أخرى، فقال له: مكانك حتى آتيك فغاب عنه سنة، ثم جاءه وهو في ذلك المكان لم يتغير، فلذلك وصفه الله بأنه كان صادق الوعد.
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/299، رقم 4996) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (7/59) ، والضياء في المختارة (9/260، رقم 226) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/198، رقم 20624) عن عبد الله بن أبي الحمساء.
(2/67)
وأفاد بعضهم أنه وقع نظير هذا للشيخ العارف بالله تعالى الرباني سيدي عبد القادر الكيلاني، وكان القائل الخضر.
لطيفة خاتمة: قال في روض الأفكار: خرج رجل من أهل اليمن لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له جماعة: سلم لنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى أبي بكر وعمر، فلما دخل المدينة وزار قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - نسي تبليغ السلام عليه وعلى صاحبيه فخرج مع القافلة، فذكر ما حمله ذلك الرجل من السلام، فترك القافلة ورجع إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال يا رسول الله: فلان ابن فلان يسلم عليك وعلى صاحبيك. ثم رجع ليلحق القافلة فوجدهم قد رحلوا فرجع بقلب مكسور إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونام فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر فقال أبو بكر: هذا الرجل يا رسول الله؟ قال: نعم. فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا أبا الوفاء. قلت: يا رسول الله كنيتي أبو العباس. فقال: أنت أبو الوفاء، وأخذ بيدي فوضعني في مكان غير مكاني، فانتبهت فرأيت نفسي في المسجد الحرام، فأقمت بمكة ثمانية أيام حتى جاء الحجاج.
* * *
(2/68)
المجلس الثامن والعشرون
في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - من تبع جنازة مسلم وما فيه من الفوائد
الحمد الذي أيقظ من شاء من سنة الغفلة، ورفع من أحب لقاءه إلى عليين، ووضع عنه أوزاره وثقله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله المبعوث بأشرف ملة، المخصوص بأكرم خلة - صلى الله عليه وسلم - وصحبه السادة الجلة.
قَالَ البُخَارِي:
باب اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنَ الإِيمَانِ
ختم البخاري التراجم التي وقعت له من شعب الإيمان بهذه الترجمة لأن ذلك آخر أحوال الدنيا.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحٌ، قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إيماناً وَاحْتِسَابًا، وكان مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا، وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فإنه يَرْجِعُ مِنَ الأجر بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فإنه يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:
قوله: «من اتبع» هو بالتشديد، وللأصيلي «تبع» بحذف الألف وكسر الموحدة، وقد تمسك بهذا اللفظ من زعم أن المشي خلفها أفضل، ولا حجة فيه لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه أو إذا مر به فمشى معه، وكذلك اتبعه بالتشديد وهو افتعل منه، فإذا هو مقول بالاشتراك، وقد بين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر في المشى أمامها، وأما اتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه، ولم تأت به الرواية هنا.
قوله: «وكان معه» أي: مع المسلم، وللكشميهني «معها» أي: مع الجنازة.
قوله: «حتى يصلي» بكسر اللام ويروى بفتحها، فعلى الأول لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثاني قد يقال: يحصل له ذلك ولو لم يصل، أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقا، والله أعلم.
قوله: «ويفرغ» بضم أوله وفتح الراء، ويروى بالعكس، وقد أثبتت هذه الرواية أن القيراطين إنما يحصلان بمجموع الصلاة والدفن، وأن الصلاة دون الدفن يحصل بها قيراط واحد، وهذا هو المعتمد خلافاً لمن تمسك بظاهر بعض الروايات فزعم أنه يحصل بالمجموع ثلاثة قراريط. انظر فتح الباري (1/108 – 109) .
(2/69)
تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نَحْوَهُ (1) .
في هذا الحديث فوائد:
الفائدة الأولى: الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه.
قال أبو الزناد (2) : خص الشارع على التواصل في الحياة بقوله: «صل من قطعك، وأعط من حرمك، ولا تقاطعوا ولا تدابروا» وخص على التواصل بعد الموت بالصلاة والتشييع إلى القبر والدعاء له، والتشييع إلى القبر من حق المسلم وقد وردت به الأخبار ودلت عليه الآثار، على أن الله سبحانه وتعالى يغفر الذنوب والأوزار لمن تبع جنازة المؤمن إلى قبره.
فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي عاصم حديثاً مرفوعاً: «إن أول ما يتحف به المؤمن في قبره أن يقال له: أبشر فقد غفر لمن تبع جنازتك» (3) .
وأخرج (4) عن جابر بن عبد الله عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أول تحفة المؤمن أن يغفر لمن خرج في جنازته» (5) .
وأخرج البزار وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول ما يجازى به المؤمن بعد موته، أن يغفر لجميع من تبعه» (6) .
الفائدة الثانية: القيراط الذي يحصل بالصلاة على الميت وبحضور دفنه اسم لمقدار
_________
(1) قوله: «تابعه» أي: روح بن عبادة، وعثمان هو ابن الهيثم وهو من شيوخ البخاري، ولفظه موافق لرواية روح إلا في قوله: «وكان معها» فإنه قال بدلها: «فلزمها» . وفي قوله «ويفرغ من دفنها» فإنه قال بدلها: «وتدفن» . وقال في آخره: «فله قيراط» بدل قوله: «فإنه يرجع بقيراط» ، والباقي سواء.
ولهذا الاختلاف في اللفظ قال المصنف: «نحوه» وهو بفتح الواو، أي: بمعناه. انظر فتح الباري (1/109) .
(2) أبو الزناد هو: عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، محدث، من كبارهم، ولد سنة: 65 هـ، قال الليث: رأيت أبا الزناد وخلفه ثلاثمائة تابع من طالب فقه وعلم وشعر وصرف، وكان سفيان يسميه أمير المؤمنين في الحديث، وكان يغضب إذا قيل له: أبو الزناد، ويكتني بأبي عبد الرحمن.
قال مصعب الزبيري: كان فقيه أهل المدينة، وكان صاحب كتابة وحساب، وفد على هشام بحساب ديوان المدينة، وكان ثقة في الحديث عالما بالعربية فصيحاً، توفي فجأة بالمدينة سنة: 131هـ.
(3) أخرجه ابن أبي الدنيا كما في تنزيه الشريعة لابن عراق (2/370، رقم 22) .
(4) أي ابن أبي الدنيا أيضاً.
(5) أخرجه أيضا الخطيب (5/274) عن جابر.
(6) أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (3/29) قال الهيثمي: فيه مروان بن سالم الشامي وهو ضعيف. وأخرجه ابن عدي (6/384، ترجمة 1870 مروان بن سالم الجزري القرقساني) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/7، رقم 9258) وضعفه.
(2/70)
من الثواب يقع على القليل والكثير، بين في هذا الحديث أنه مثل أحد، وفي رواية للحاكم: القيراط أعظم من أحد، وفي رواية أخرى للحاكم: «والذي نفسي بيده لهو في الميزان أثقل من أحد» .
والمقصود من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه يرجع من الأجر بقيراطين» أي: أنه يرجع بحصتين من جنس الأجر.
و «أحد» جبل بجانب المدينة على نحو ميلين منها، وإنما خصه بالذكر دون غيره من الجبال لأنه أعظم جبال المدينة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحبه ويقول: «جبل أحد يحبنا ونحبه» (1) .
وتحرير الكلام في تحصيل القيراط أن للانصراف عن الجنازة أربع مراتب:
الأولى: أن ينصرف عقب الصلاة ولهذا من الأجر قيراط بهذا الحديث، لكن هذا القيراط لا يحصل إلا إذا شهد الجنازة من مكانها إلى حين الصلاة، كما يدل عليه قوله: «وكان معه» أي: مع المسلم، وفي رواية: «معها» أي: مع الجنازة، فلو لم يشهد الجنازة من مكانها بل سبقها إلى المصلى لم يحصل القيراط، وإن حصل له أجر الصلاة، لأن القيراط ليس على الصلاة مطلقاً بل عليها بشرط شهودها من مكانها، ولو شهد الجنازة من مكانها إلى المصلى ولم يصل هو بل صلى غيره عليها لم يحصل له القيراط، لظاهر قوله: «حتى يصلي» بكسر اللام.
لكن قال شيخ الإسلام ابن حجر على رواية: «حتى يصلى» بفتح اللام: قد يقال يحصل ذلك ولو لم يصلي، قال: أما إذا قصد الصلاة وحال دونه مانع فالظاهر حصول الثواب له مطلقاً والله تعالى أعلم.
فلو شهد جنازتين من مكانهما إلى المصلى، وصلى عليها صلاة واحدة، فإن تعدد مكانهما حصل له بكل واحدة قيراط بلا شك، وإن اتحد مكانهما بأن كانا في موضع واحد ومشى معهما حتى صلى عليهما صلاة واحدة.
قال السبكي: فالذي يظهر أنه يحصل له قيراط بكل ميت نظراً إلى تعدد الجنائز، ولا يمنع من ذلك اتحاد الصلاة لأن الشارع ربط القيراط بوصف وهو حاصل في كل
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1610، رقم 4160) عن سهل بن سعد.
وأخرجه البخاري في صحيحه (3/1058، رقم 2732) ، ومسلم في صحيحه (2/1011، رقم 1393) ، والترمذي في سننه (5/721، رقم 3922) ، وقال: حسن صحيح. وابن حبان في صحيحه (9/42، رقم 3725) ، وأبو يعلى في مسنده (5/325، رقم 2948) عن أنس.
(2/71)
ميت، وكذا لو صلى على جنائز شهدها من دويرة أهلها، وصلى على الكل صلاة واحدة، حصل له بكل ميت قيراط.
المرتبة الثانية من مراتب الانصراف: أن يتبعها حتى توضع في القبر، وينصرف قبل إهالة التراب، وحديث الباب يدل على أن هذا لا يحصل به القيراط الثاني، فإنه قال فيه: «وكان معها حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها» وهو المختار في الروضة والصحيح في المجموع.
لكن اختار إمام الحرمين الحصول ويقويه ما في صحيح مسلم: «حتى يوضع في اللحد» (1) لكن رد ذلك العلماء بأنها مؤولة بالفراغ من الدفن جمعاً بين الرواتين قاله ابن الملقن.
المرتبة الثالثة: أن يقف إلى فراغ القبر وينصرف من غير دعاء وهذا يحصل له القيراط الثاني.
المرتبة الرابعة: أن يقف بعده ويستغفر للميت ويدعو له هذا أقصى الدرجات في الفضيلة، ويشترط لتحصيل القيراط الثاني أن يشهدها من مكانها إلى الدفن كما في الصلاة، فمن سبق إلى القبر لا يحصل له ثواب الدفن.
وذهب بعضهم إلى أنه يحصل له ثلاثة قراريط بالصلاة مع الدفن أخذاً من ظاهر بعض الأحاديث، ومن تبعها حتى يدفن فله قيراطاً أي: قيراط بالصلاة وقيراطان بالدفن، ورد هذا بأن معناه فله تمام قيراطين بالمجموع.
وذهب بعض آخر إلى الحصول أربعة قراريط لحديث: «من أوذن بجنازة فأتى أهلها فعزاهم كتب الله له قيراط، فإن شيعها كتب الله له قيراطين، فإن صلى عليها كتب الله له ثلاثة قراريط فإن، شهد دفنها كتب الله له أربعة قراريط، القيراط مثل أحد» (2) .
الفائدة الثالثة: دلَّ الحديث على أن لمن حضر الدفن أن ينصرف بغير إذن أهل الميت، وحكي عن مالك أنه لا ينصرف إلا بأذن، وظاهر هذا الحديث يرده.
الفائدة الرابعة: تمسك أبو حنيفة بظاهر قوله في هذا الحديث: «من اتبع» وقال إن المشي وراء الجنازة أفضل من المشي أمامها، وعند الأئمة الثلاثة الشافعي ومالك
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/652، رقم 945) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه ابن حبان في الضعفاء (3/40، ترجمة 1092 معدي بن سليمان) عن أبي هريرة.
(2/72)
وأحمد بن حنبل أن المشي أمامها أفضل، وحملوا الاتباع على المعنى العرفي، إذ لو تقدم عليها أو حذاها أو تأخر بحيث ينسب إلى الجنازة ويعد من شيعتها، كان له حكم الاتباع عرفاً، والذي يرجح قول الأئمة الثلاثة ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والشيخين كانوا يمشون أمامها، وأيضاً: المشيعون للجنازة كالشفعاء لها، ولهذا يقولون في الدعاء: وقد جئناك شفعاء له، ومن شأن الشفيع أن يتقدم بين يدي المشفوع له، فلو مشي خلفها حصل له فضيلة أصل المتابعة وفاته كمالها.
قال النووي: المشي أمام الجنازة أفضل للراكب والماشي، والأفضل أن يكون قريباً منها، بحيث لو التفت لرآها ولا يتقدمها إلى المقبرة فلو تقدم لم يكره.
الفائدة الخامسة: قوله: «من تبع جنازة مسلم» يقتضي أنه لا أجر في اتباع الكافر.
وهل اتباع جنازته حرام أو مكروه، أو لا حرام ولا مكروه؟
قال العلماء: إن كان الميت الكافر من أقارب الشخص كأبيه أو أخيه فلا يحرم اتباعه ولا يكره، وتلحق الزوجة والمملوك والجار بالقريب.
فقد روى أبو داود وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن عمك الضال قد مات فقال: «إذهب فواره» (1) وإسناده ضعيف، وقيل: حسن، وإن كان غير قريب أو ما في معناه فاتباع جنازته حرام، وكما يجوز للمسلم اتباع جنازة قريبة الكافر يجوز له زيارة قبره.
الفائدة السادسة: دلَّ الحديث المذكور على أن الثواب المذكور وهو القيراطان إنما يحصل لمن تبعها إيماناً واحتساباً أي: لوجه الله طالباً للثواب من الله تعالى، فإن حضور الجنازة على ثلاثة أقسام احتساب، ومكأفاة، ومخافة.
والأول هو الذي يجازى عليه الأجر ويحط عنه به الوزر، والثاني لا يبعد ذلك في حقه، والثالث والله أعلم بما فيه، قاله ابن الملقن.
الفائدة السابعة: دل على وجوب الصلاة على الميت ووجوب دفنه، وهو مجمع عليه.
_________
(1) أخرجه أبو داود (3/214، رقم 3214) وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (4/79، رقم 2006) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/304، رقم 1348) ، والضياء في الأحاديث المختارة (2/363، رقم 746) .
(2/73)
الفائدة الثامنة: في الحديث حث على الاجتماع للصلاة على الميت وحضور دفنه.
ويلحق بهذه الفوائد مسائل مناسبة وفوائد:
قال العلماء: يكره أن تتبع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع عليه، وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة، ويكره اللغط في المشي والحديث في أمور الدنيا، بل المستحب التفكر في الموت وما بعده، وفناء الدنيا وأن هذا آخرها.
قال النووي: والمختار والصواب ما كان عليه السلف من السكون في حال السير معها، فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما، لأنه أسكن للخاطر، أو أجمع للفكر، فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال.
وكره الحسن وغيره قولهم: «استغفروا لأخيكم» .
وسمع ابن عمر قائلاً يقول: «استغفروا له غفر الله لكم» فقال: لا غفر الله لك.
وإذا مرت جنازة بالإنسان ولم يرد الذهاب معها لم يقم لها، بل نص أكثر العلماء على كراهة القيام، وإذا كان معها فقعد قبل أن توضع فلا كراهة في ذلك، ولا يستحب له القيام عند إقبالها وهو عند القبر جزم به جمهور العلماء.
قال النووي: ويستحب لمن مرت به جنازة أن يدعو لها، وأن يثنى عليها إن كان أهلاً لذلك، ويستحب أن يقول من رآها: سبحان الحي الذي لا يموت، أو سبحان الملك القدوس، أو يقول ما رواه الطبراني عن ابن عمر أنه كان يقول إذا رأى جنازة: «هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً» .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله، اللهم زدنا إيماناً وتسليماً كتب له عشرون حسنة» .
قال الإمام الشافعي - رضي الله عنه -: وليس في حمل الجنازة دنأة ولا إسقاط مروءة، بل ذلك بر وإكرام للميت، وفعل أهل الخير، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة ثم التابعون، ويحرم حمله بهيئة مزرية كحملة في غرارة أو قتة بل يحمل على سرير أو لوح أو محمل أو أي شيء حمل عليه أجزأ، فإن لم يوجد شيء يحمل عليه وخيف من تغيره وانفجاره فلا بأس أن يحمل على الأيدي والرقاب كما يحمل الطفل.
وكذلك يحرم حملها على هنة يخشى سقوطه منها وحمل الجنازة بين العمودين أفضل من الترابيع، والحمل بين العموديين أن يتقدم شخص ويضع الخشبتين المقدمتين على عاتقيه ورأسه بينهما، ويحمل المؤخرتين رجلان، ولا يدخل واحد بينهما لأنه لا يري ما بين قدميه، فإن عجز المقدم عن الحمل أعانه اثنان، فحامل الجنازة بلا عجز
(2/74)
ثلاثة واحد مقدم واثنان مؤخران، ومع العجز خمسة ثلاثة مقدمة وآخران واثنان مؤخران.
فإن عجز الخمسة فسبعة أو تسعة أو أكثر، بحيث يكونون وتراً بحسب الحاجة، والتربيع أن يتقدم رجلان آخران وهذا الحمل فيه أيضاً فضيلة، ولكن الحمل بين عمودين أفضل.
وأما ما يفعله كثير من الاقتصار على اثنين أو واحد فمكروه مخالف للسنه، وهذا في غير الطفل الذي جرت العادة بحمله على الأيدي.
فائدة: ورد أن الملائكة تمشي مع الجنازة.
أخرج ابن أبي الدنيا أن داود سأل ربه فقال: إلهي ما جزاء من شيع الجنازة ابتغاء مرضاتك، قال: «جزاوه أن تشيعه الملائكة لتمشي ويقولون ما قدم فلان وتقول الناس ما ترك فلان» .
فائده أخرى: ورد أن الميت يعلم بمن يغسله ويجهزه ويسمع ما يقال فيه، والجنازة مارة.
أخرج أحمد وغيرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الميت يعرف من يغسله ويحمله ومن يكفنه ومن يدليه في حفرته» .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميت يموت إلا وهو يعرف غاسله ويناشد حامله إن كان بشر بروح وريحان وجنة نعيم أن يعجله، وإن كان بشر بنزل من حميم ونصليه جحيم أن يحسبه» أخرجه أبو الحسن بن البراغي عن ابن عباس بسند ضعيف.
وأخرج أبو نعيم عن عمرو بن دينار قال: «ما من ميت يموت إلا وروحه في يد ملك ينظر إلى جسده، كيف يغسل وكيف يكفن وكيف يمشي به، ويقال له وهو على سريره: إسمع ثناء الناس عليك» .
أخرج بن أبي الدنيا عن بكر بن عبد الله المزني قال: «بلغني أنه ما من ميت يموت إلا وروحه في يد ملك الموت فهم يغسلونه ويكفنونه وهو يرى ما يصنع أهله، فلو يقدر على الكلام لنهاهم عن الرنه والعويل» .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا وضعت الجنازة واحتملها الناس على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلي أين تذهبون، ويسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق أي: لمات» .
قال بعضهم:
(2/75)
لو كلم الميت من يكلمهم ... لقال لا تغترن فأنت أنا
قد كنت أرجو فعزني أملي ... عاجلني الموت ما بلغت منى
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من ميت يوضع على سريره إلا تكلم بكلام يسمعه من شاء الله إلا الثقلين الإنس والجن، يقول: يا إخواتاه ويا حملة نعشاه: لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ولا يلعبن بكم الزمان كما لعب بي، خلفت ما تركت لورثتي والديان يخاصمني ويحاسبني، وأنتم تشيعوني وتدعوني» أخرجه ابن أبي الدنيا.
وأخرج أحمد في الزهد عن أم الدرداء قالت: «إن الميت إذا وضع على سريره فإنه ينادي يا أهلاه ويا جيراناه ويا حملة سريراه: لا تغرنكم الدنيا كما غرتني ولا تلعبن بكم كما تلاعبت بي، فإن أهلي لم يحملوا عني من وزري شيئاً» .
فائدة أخرى: كما يعرف الميت من يغسله ويحمله ويكفنه يعلم بمن يزور قبره، أو من ولد أو والد أو جار أو صاحب ويسير بذلك.
وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مصعب بن عمير حين رجع من أحد فوقف عليه وعلى أصحابه فقال: «أشهد أنكم أحياء عند الله، فزوروهم وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحداً إلا ردوا عليه السلام إلى يوم القيامة»
وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن محمد بن واسع قال: «بلغني أن الموتى يعلمون زوارهم يوم الجمعة ويوماً قبله ويوماً بعده» .
وأخرج أيضاً عن الضحاك قال: «من زار قبراً يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لمكان يوم الجمعة» .
فائدة: زيارة القبور في حق الرجال، وينبغي لمن عزم عليها أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف على الأحداث فقط، فإن هذه حالة تشاركه فيها البهيمة ونعوذ بالله من ذلك، بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه أو نفع الميت بما يتلو عنده من القرآن، ويجتنب المشي على المقابر والجلوس عليها، ويخلع نعلية إذا دخل المقابر ويخاطبهم خطاب الحاضرين، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، كذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول، وكنى بالدار عن عمارها وسكانها، ولذلك خاطبهم بالكاف والميم، والعرب تعتبر بالمنزل عن أهله.
فإذا وصل إلى قبر ميته الذي يعرفه يسلم عليه فيقول: السلام عليك وآتاه من قبل وجهه في زيارته كمخاطبة حياً، ولو خاطب حياً لكان الأدب في استقباله بوجهه،
(2/76)
وكذلك هاهنا.
قالت عائشة الأندلسية رحمها الله تعالى وكانت من الصالحات: مات ولدي فكنت أزوره في كل أسبوع مرة، فكنت إذا اقتربت من قبره سمعت جيرانه من الموتى يقولون: يا فلان هذه أمك قد جاءت تزورك فكنت، انظر إلى قبره كأنه يضحك فأسر بذلك.
وروي عن الفضيل بن الموفق رحمه الله قال: كنت آتى قبر أبي المرة والمرتين وأكثر من زيارته فشيعت جنازة إلى المقبرة التي فيها أبي وكان ورائي شغل فتعجلت الرواح، فلم أزر قبره فلما كان الليل رأيته في المنام، فقال: يا بني إنك قد جئت بالأمس ولم تأتني؟ فقلت: يا أبي فإنك لتعلم بي إذا آتيتك؟ فقال: والله يابني إنك لا تأتي فلا أزل انظر إليك حتى تقطع القنطرة إلى أن تصل إليَّ وتقعد عندي ثم تقوم، فلا أزل انظر إليك حتى تعدي.
فائدة أخرى: يستحب للزائر أن يسلم عليهم بأن يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين لأنتم السابقون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» .
فقد روى ابن عبد البر بإسناد حسن خبر: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن يعرفة في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام» وأنشد بعضهم:
تناجيك أجداث وهن سكوت ... وسكانها تحت التراب خفوت
أيا جامع الدنيا لغير بلاغة ... لمن تجمع الدنيا وأنت تموت
وإنكم لما علينا تسلموا ... نرد عليكم واللسان صموت
ويروى أن بعض المتعبدين أتى قبر صاحب له كان يألفه في الحياة فأنشد يقول:
مالي مررت على القبور مسلماً ... قبر الحبيب فلم يرد جوابي
أحبيب مالك لا تجب منادياً ... أملكت بعدي خلة الأصحاب
لو كان ينطق بالجواب لقال لي ... أكل التراب محاسني وشبابي
قال فهتف به هاتف من جانب القبر يقول:
قال الحبيب وكيف لي جوابكم ... وأنا رهين جنادل وتراب
أكل التراب محاسني فنسيتكم ... فحجبت عن أهلي وعن أحبابي
فعليكم مني السلام تقطعت ... عني وعنكم خلة الأصحاب
وتمزقت تلك الجلود صفائحها ... يا طالما لبست رقيق ثياب
(2/77)
وتساقطت تلك الأنامل من يدي ... ما كان أحسنهم يخط كتابي
وتساقطت تلك الثنايا لؤلؤاً ... ما كان أحسنهم لرد جوابي
وتسايلت فوق الخدود نواظري ... يا طالما نظرت بهم أحبابي
فائدة أخرى: ورد أن القبر يجعل الله له لساناً حتى بنطق ويتكلم كل يوم ويكلم الميت حين يوضع في قبره.
روينا في سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مصلاه فرأى أناساً يكثرون الضحك، فقال: «أما إنكم لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى يعني الموت، فأكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يأت يوم على القبر إلا يتكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، وأنا بيت التراب، وأنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحباً وأهلاً أما إن كنت أحب من يمشي على ظهري، فإذا آويتك اليوم وصرت إليَّ فسترى صنعي بك، فيتسع له مد البصر وينفتح له باب إلى الجنة، وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحباً ولا أهلا أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري فإذا آويتك اليوم فسترى صنعي بك قال: فيلتئم عليه حتى تلتقي وتختلف أضلاعه قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه فأدخل بعضها في بعض، قال: ويقيض له تسعون تنيناً أو قال تسعة وتسعون تنيناً، لو أن واحداً منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئاً حتى يفضى به إلى الحساب» .
وعن أبي عبد الله بن عبد الله بن عمير قال: يجعل للقبر لساناً ينطق به فيقول: ابن آدم كيف نسيتني أما علمت أني بيت الأكله وبيت الدود وبيت الوحده، أنا بيت الدود.
ويقال: إن الأرض تنادي كل يوم خمس مرات، أول نداء تقول: «تأكلك الديدان ثم مصيرك في بطني، والنداء الثاني: تقول يا ابن آدم تأكل الألوان على ظهري وسوف تأكلك الديدان في بطني، والنداء الثالث: تقول يا ابن آدم تفرح على ظهري وسوف تحزن في بطني، والنداء الرابع: تقول يا ابن آدم تذنب على ظهري وسوف تعذب في بطني، والنداء الخامس: تقول يا ابن آدم تضحك على ظهري وسوف تبكي في بطني» .
وقد جاءت الأخبار ودلت الآثار على رحمة الله لعبده إذا دخل قبره، قال عطاء الخراساني: ارحم ما يكون الرب بعبده إذا دخل في قبره وتفرق الناس عنه وأهله، ولله در القائل:
(2/78)
أيها الواقف اعتباراً بقبري ... واستمع فيه قول عظيمي الرميم
أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلموها بأديمي
قلت لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم
ودعوني بما اكتسبت رهينة ... علق الرهن عند مولى كريم
قال العلماء: نسيان الميت بعد موته نعمة من الله على أهله وأصحابه، وكذلك الغفله والأمل نعمتان من الله.
روي عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن مشيعي الجنازة قد وكل بهم ملك، فهم مهمومين محزونون، حتى إذا أسالموه في القبر ورجعوا راحلين أخذ كفاً من تراب فرمي به وهو يقول: ارجعوا ارجعوا إلى دنياكم أنساكم الله موتاكم، فينسون ميتهم يأخذون في شرابهم وبيعهم كأنهم لم يكونوا منه ولم يكن منهم» ولقد أحسن من قال:
ضعوا خدي على لحدي ضعوه ... ومن عفر التراب فوسدوه
وشقوا عنه أكفاناً رقاقاً ... وفي الرمس البعيد فغيبوه
فلو أبصرتموه إذا انقضت ... صبيحة ثالث أنكرتموه
وقد سالت نواظر مقلتيه ... على وجناته وانفض فوه
وناداه البلى هذا فلان ... هلموا فانظروا هل تعرفوه
حبيبكم وجاركم المفدى ... تقادم عهده فنسيتموه
وقال الحسن: الغفلة والأمل نعمتان عظيمتان على ابن آدم، ولولاهما مشي المسلمون في الطرق.
وقال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي لخشيت ذهاب عقلي، ولكن الله سبحانه وتعالى مَنَّ على عباده بالغفلة عند الموت، ولولا الغفلة ما تهنوا بعيش، ولا قامت بينهم الأسواق (انتهى) .
* * *
(2/79)
المجلس التاسع والعشرين
في بيان فضل العلم
قَالَ البُخَارِي:
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
كِتَابُ الْعِلم
إنما قدم البخاري - رضي الله عنه - كتاب العلم على سائر الكتب الآتية وهي: كتاب الوضوء والغسل والتيمم والصلاة وغيرها لأنها من باب العمل والعلم ينبغي أن يكون قبل العمل، وآخره يكون كذلك وهو مبتدأ كل خير.
باب فَضْلِ الْعِلْمِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? وَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ?رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا?.
نفعنا الله بالعلماء، وأنزل علينا ببركاتهم وذكر فضائلهم الرحمة من السماء، وزادهم الله تعالى في الدنيا والآخرة من مدده الفياض شرفاً وكرماً وبعد.
فقد دل الكتاب والسنة والأخبار والآثار المنقولة عن الأئمة على فضل العلماء وفضل العلم وفضل تعلمه وفضل تعليمه وفضل حضور مجلسه.
قال الله تعالى: ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ? [آل عمران: 18] جعل الله مرتبتهم بعد الملائكة.
وجعل النبي صلي - صلى الله عليه وسلم - مرتبتهم بين الأنبياء والشهداء، فقد ورد عند ابن ماجة وغيرة عن عثمان بن عفان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (1) .
قال بعض العلماء: أعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28] القراءة المشهورة بنصب لفظ الجلالة، ورفع العلماء.
وقد قرئ: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءَ? [فاطر: 28] برفع اسم الله،
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/1443، رقم 4313) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/260) : هذا إسناد ضعيف. وأخرجه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (2/265، رقم 1707) .
(2/80)
ونصب العلماء.
وقد استشكلوا هذه القراءة وقالوا: كيف يخشى الله من عبادة العلماء، والله تعالى لا يخاف من مخلوقاته أحداً بل الكل تحت قهره.
وأجابوا عن الاستشكال بأن يخشى هنا مؤول بيعظم أي: إنما يعظم الله من عبادة العلماء، وأول بغير ذلك أيضاً.
وقال الله تعالى: ?هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ? [الزمر: 9] .
وقال الله تعالى: ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ? [المجادلة: 11] .
قال ابن عباس: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام (1) .
وعن أبي أمامه - رضي الله عنه - قال: ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان أحدهما عالم والآخر عابد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله وملائكة يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت يصلون على معلم الناس الخير» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2) .
وعن صفوان بن عسال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يطلب» (3) .
وقد ذكر العلماء في معنى وضع الملائكة أجنحتها لطالب العلم أقوالاً:
الأول: أن المراد بالموضع بسط الأجنحة أي: فرشها تحت أقدامه إذا مشى لتكون وطاء له.
الثاني: أن المراد به التواضع تعظيماً لطالب العلم.
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/5) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (5/50، رقم 2685) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (8/233، رقم 7911) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه (5/545، رقم 3535) وقال: حسن صحيح. والطيالسي في مسنده (1/160، رقم 1165) ، وأحمد في مسنده (4/239، رقم 18114) ، والدارمي في سننه (1/113، رقم 357) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/276، رقم 1225) ، والطبراني في المعجم الكبير (8/63 رقم 7373) .
(2/81)
الثالث: أن المراد به النزول عند مجالس العلم وترك الطيران.
الرابع: أن المراد به إظلالهم بها، فمعنى تضع أجنحتها على هذا القول تجعلها فوق رأسه كالظلة، وعلى القول بأن المراد إظلالهم بها فمعنى: «تضع أجنحتها» على هذا القول، بأن المراد يوضع الأجنحة فرشها.
حكى النووي: أن رجلاً سمع هذا الحديث فجعل في نعليه مسامير من حديد، وقال أريد أن أطأ بهما أجنحة الملائكة، فوقعت الأكلة رجليه.
وحكي عن بعضهم أنه قال: كنا نمشي إلى بعض المحدثين فقال رجل: ارفعوا أقدامكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ، فما زال من موضعه حتى يبست رجلاه.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي - رضي الله عنه -: «لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» حديث متفق عليه (1) .
وقال أيضا لمعاذ - رضي الله عنه - لما بعثه إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها» رواه أحمد (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص آثامهم شيئاً» رواه مسلم (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات بن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1357، رقم 3498) ، ومسلم في صحيحه (4/1872، رقم 2406) . وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (5/110، رقم 8403) ، وابن حبان في صحيحه (15/377، رقم 6932) عن سهل بن سعد.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (5/238، رقم 22127) ، قال الهيثمي (5/334) : رجاله ثقات إلا أن ذويد بن نافع لم يدرك معاذاً.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2060، رقم 2674) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/201، رقم 4609) ، والترمذي في سننه (5/43، رقم 2674) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/75، رقم 206) ، وأحمد في سننه (2/397، رقم 9149) ، وأبو يعلى في مسنده (11/373، رقم 6489) ، وابن حبان في صحيحه (1/318، رقم 112) ، والدارمي في سننه (1/141، رقم 513) عن أبي هريرة.
(2/82)
أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد» رواه الترمذي (2) .
أنشد محمد بن الحسن رحمه الله تعالى:
تعلم فإن العلم زين لأهله ... وفضل وعنوان لأهل المحامد
وكن مستفيداً كل يوم زيادة ... من العلم واسبح في بحور الفوائد
تفقه فإن الفقه أوصل قائد ... إلى البر والتقوى وأعدل قاصد
هو العلم الهادي إلى سنن الهدى ... هو الحصن منجي من جميع الشدائد
فإن فقيهاً واحد متورعاً ... أشد على الشيطان من ألف عابد
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه، وما عبد الله بشيء أفضل من فقه في الدين» رواه الدارقطني (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم، رضا بما يطلب، وإن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1255، رقم 1631) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/117، رقم 2880) ، والترمذي في سننه (3/660، رقم 1376) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/88، رقم 242) ، والنسائي في سننه (6/251، رقم 3651) ، وأحمد (2/372، رقم 8831) ، والبخاري في الأدب المفرد (1/28، رقم 38) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الترمذي في سننه (5/48 رقم 2681) وقال: غريب. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (1/81 رقم 222) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/267، رقم 1715) ، والطبراني في الكبير (11/78، رقم 11099) ، وفي الشاميين (2/161، رقم 1109) ، والديلمي في الفردوس (3/148، رقم 4398) عن ابن عباس.
(3) أخرجه الدارقطني في سننه (3/79) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (6/194، رقم 6166) قال الهيثمي (1/121) : فيه يزيد بن عياض، وهو كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/266 رقم 1712) وقال: فيه يزيد بن عياض ضعيف. والخطيب (2/402) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/150، رقم 206) عن أبي هريرة.
(2/83)
درهماً إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» رواه الترمذي (1) .
وهنا سؤال وهو: هل استغفار الحوت ونحوه من الحيوانات التي لا تعقل بلسان الحال أو بلسان القال؟
والمرجح كما قال النووي: إنها تستغفر وتسبح بلسان القال، إذ لا يمتنع عقلاً إن يجعل الله فيها قوة تنطق بها وتميز، كما يجوز ذلك في بعض الجمادات كقوله تعالى في الحجارة: ?وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ? [البقرة: 74] .
وقوله تعالى: ?وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ? [الإسراء: 44] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء، فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» رواه الطبراني في الكبير (2) .
وقيل في قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى? [الأعراف: 26] .
إن المراد باللباس: العلم.
وبالريش: اليقين.
وبلباس التقوى: الحياء.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان عريان ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وثمرته العلم والعمل والجهاد، أما أهل العلم فدلوا الناس على ما جاءت به الرسل» (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «فقيه واحد أفضل عند الله من ألف عابد» .
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/48، رقم 2682) وقال: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة وليس هو عندي بمتصل. ثم أورد له إسناداً وقال هذا أصح. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/317، رقم 3641) ، وابن ماجه في سننه (1/81، رقم 223) ، وابن حبان في صحيحه (1/289، رقم 88) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/262، رقم 1696) ، وأحمد في مسنده (5/196، رقم 21763) عن أبي الدرداء.
(2) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (1/126) قال الهيثمي: فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف جدّاً. وأخرجه أيضاً: الروياني في مسنده (1/353، رقم 542) ، والطبراني في المعجم الأوسط (4/302، رقم 4264) عن أبي موسى.
(3) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1/5) ، وقال العراقي: أخرجه الحاكم في تاريخ نيسابور من حديث أبي الدرداء بإسناد ضعيف.
(2/84)
وإنما فضل العالم على العابد لأن الشيطان يدع البدعه للناس فينظرها العالم فيزيلها، والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يعرف بها.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمد إلى المسجد لا يريد إلا إن يتعلم خيراًُ أو يعلم، كان له كأجر حاج تاماً حجته» رواه الطبراني بإسناد لا بأس به (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم» (2) .
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه دخل المسجد فرأى مجلسين أحد المجلسين يذكرون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من الآخر، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وأما هؤلاء فيعلمون الجهال، وإنما بعثت معلماً، فهؤلاء أفضل ثم جلس معهم» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن تغدوا فتتعلم باباً من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة» (4) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» (5) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/94، رقم 7473) ، قال الهيثمي (1/123) : رجاله موثقون كلهم. وأخرجه أيضاً: في مسند الشاميين (1/238، رقم 423) عن أبي أمامة.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/367 رقم 6636) قال الهيثمي (1/136) : فيه الحكم بن عبد الله، قال أبو حاتم: كذاب. وأبو نعيم في الحلية (8/188) ، وابن عدي في الكامل (2/79 ترجمة 302 بقية بن الوليد) وقال: حديث منكر المتن. والخطيب في تلريخ بغداد (6/100) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (2/553 رقم 1128) عن عائشة.
(3) أخرجه الطيالسي في مسنده (ص: 298، رقم 2251) ، والبزار في مسنده (6/428، رقم 2458) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/185، رقم 40) عن ابن عمرو.
(4) أخرجه الديلمي في الفردوس (5/338، رقم 8362) ، وأورده الذهبي في إحياء علوم الدين (1/8) ، وقال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من حديث أبي ذر، وليس إسناده بذاك.
(5) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/202، ترجمة 48 أحمد بن هارون بن موسى) وقال: له نسخ موضوعة مناكير ليس عند أحد منها شىء كنا نتهمه بوضعها. والبيهقي في شعب الإيمان (2/254، رقم 1665) ، وأبو يعلى في مسنده (5/223، رقم 2837) ، والطبراني في الأوسط (1/7، رقم 9) ، وفي الصغير (1/36، رقم 22) ، وأبو نعيم في الحلية (8/323) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/136، رقم 175) ، والبزار في مسنده (1/172، رقم 94) عن أنس.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (4/245، رقم 4096) عن ابن عباس، قال الهيثمي (1/120) : فيه عبد الله بن عبد العزيز بن أبي رواد ضعيف جداً.
وأخرجه الرافعي (2/340) ، وابن عدي في الكامل (1/179، ترجمة 19 أحمد بن إبراهيم بن موسى) وقال: هذا الحديث منكر بهذا الإسناد. كلاهما عن ابن عمر.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (8/258، رقم 8567) ، قال الهيثمي (1/120) : فيه يحيي بن هاشم السمسار كذاب. والبيهقي في شعب الإيمان (2/254، رقم 1667) ، والخطيب (4/427) ، والقضاعي (1/135، رقم 174) عن أبي سعيد.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10/195، رقم 10439) ، وفي الأوسط (6/96، رقم 5908) كلاهما ابن مسعود، قال الهيثمي (1/119) : فيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي عن حماد بن أبي سليمان وعثمان هذا قال البخاري مجهول ولا يقبل من حديث حماد إلا ما رواه عنه القدماء شعبة وسفيان الثوري والدستوائي ومن عدا هؤلاء رووا عنه بعد الاختلاط.
(2/85)
وقال: «اطلبوا العلم ولو بالصين» (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله، ولا للعالم أن يسكت عن علمه» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جاءه ملك الموت وهو يطلب العلم ليحي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة» .
وقال علي - رضي الله عنه -: كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ منه من هو فيه فلله در العلم ومن به تردى، وتعساً للجهل ومن في أوديته تردى.
ومن نظم سيدنا على كرم الله وجهة ورضي عنه:
الناس من جهة التمثال أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء
إن لم يكن لهم في أصلهم شرف ... يفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم بينهم ... على الهدى لمن استهدى أدلاء
_________
(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (2/230، ترجمة 777) ، وابن عدي (4/118، ترجمة 963) كلاهما في ترجمة طريف بن سلمان أبو عاتكة. والبيهقي في شعب الإيمان (2/253، رقم 1663) ، وقال: هذا الحديث شبه مشهور، وإسناده ضعيف، وقد روى من أوجه كلها ضعيفة. والخطيب (9/363) جميعاً عن أنس. قال العجلوني (1/154) : ضعيف بل قال ابن حبان: باطل.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (5/298، رقم 5365) . قال الهيثمي (7/165) : فيه محمد بن أبي حميد وقد أجمعوا علي ضعفه. وأخرجه الديلمي في الفردوس (5/139، رقم 7748) عن جابر.
(2/86)
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لأهل العلم أعداء
وقال معاذ بن جبل: «تعلموا العلم فإن تعلمه خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهلة قربة، وهو الأنس في الوحده، والصاحب في الخلوة» (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «العلم خزائن ومفاتيحها السؤال، فإنه يؤجر فيها أربعة السائل والعالم والمستمع والمحب» (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أن الدنيا ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً» رواه الترمذي (3) .
وقال الرازي في تفسيره: قال عليه الصلاة والسلام: «كن عالماً ومتعلماً ومستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك» (4) .
ثم قال وجه التوفيق بين هذه الرواية والأخرى وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيهم» (5) أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم.
وقال في روض الأفكار: سافر رجل سبعمائة فرسخ ليسأل عالماً عن سبع كلمات:
الأولى: ما أثقل من السماوات؟ قال: البهتان على البريء.
_________
(1) أخرجه الديلمي في الفردوس (2/41، رقم 2237) ، وأبو نعيم في الحلية (1/239) .
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/192) وقال: غريب من هذا الوجه لم نكتبه إلا بهذا الإسناد. والرافعي في التدوين (3/4) ، والديلمي في الفردوس (3/68، رقم 4192) ، قال المناوي (4/389) : قال الحافظ العراقي: ضعيف. قال العجلوني في الكشف (2/85) : رواه أبو نعيم والعسكري بسند ضعيف. جميعاً عن علي.
(3) أخرجه الترمذي في سننه (4/561 رقم 2322) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (2/1377 رقم 4112) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه الدارمي في سننه (1/91، رقم 248) ، والبخاري في التاريخ الكبير (4/99) ، والبيهقي في المدخل إلي السنن الكبرى (1/268، رقم 380) وقال: وهو منقطع. جميعاً عن ابن مسعود موقوفاً.
(5) أخرجه الطبراني في الأوسط (7/307، رقم 7575) عن ابن مسعود بلفظ: «الناس رجلان عالم ومتعلم هما في الأجر سواء ولا خير فيما بينهما من الناس» . قال الهيثمي (1/122) : فيه نهشل بن سعيد وهو كذاب.
وأخرجه أيضاً في الكبير (10/201، رقم 10461) عن ابن مسعود بلفظ: «الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيما سواهما» . قال الهيثمي (1/122) : فيه الربيع بن بدر وهو كذاب.
(2/87)
الثانية: ما أوسع من الأرض؟ قال: الحق.
الثالثة: ما أغنى من البحر؟ قال: القلب الغني.
الرابعة: ما أبرد من الثلج؟ قال: طلب الحاجة من الصديق ولم يقضها.
الخامسة: ما أحر من النار؟ قال: الحسد.
السادسة: ما أقسى من الحجر؟ قال: قلب الكافر.
السابعة: ما أذل من اليتيم؟ قال النمام عند المقابلة.
وقال الرازي في التفسير: أربع لا ينبغي للشريف أن يأنف فيها وإن كان أميراً قيامة من مجلسه لأبية، وخدمته لضيفه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، وسؤاله عما لا يعلم ممن هو أعلم منه.
وقال ابن مسعود: منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا، وهما لا يستويان، أما طالب العلم فيزداد في رضا الرحمن، وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان، ثم قرأ: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28] ثم قرأ: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى? [العلق: 6، 7] .
قال ابن عباس رضي الله عنهما: العلم أفضل من المال.
لأن العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الفراعنة.
ولأن العلم يحرسك، وأنت تحرس المال.
ولأن العلم لا يعطيه الله إلا لمن يحبه، والمال يعطيه من يحب ومن لا يحب.
ولأن العلم لا ينقص بالبذل والإنفاق، والمال ينقص بهما.
ولأن صاحب المال إذا مات انقطع ذكره، والعالم إذا مات فذكره باق.
ولأن صاحب المال يسأل عن كل درهم من أين أكتسبه وأين أنفقه، وصاحب العلم له بكل حديث درجة في الجنة.
وحكي عن عبد الله بن المبارك أنه كان في حال الموت ورجل عنده يكتب له العلم، فقيل له في مثل هذه الحالة؟
فقال: لعل الكلمة التي تنفعني لم تبلغني بعد.
ويقال: إن العلماء سرج الأزمنة، فكل عالم مصباح أهل زمانه يستضئ به أهل عصره (1) .
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .
(2/88)
وقال أبو مسلم الخولاني (1) : مثل العلماء كالنجوم في السماء إذا بدت للناس اهتدوا، وإذا خفيت عنهم تحيروا.
وقال إمامنا الشافعي - رضي الله عنه -: العلم أفضل من صلاة النافلة.
وقال: ليس بعد الفريضة أفضل من طلب العلم.
وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعمل.
وقال: من لا يحب العلم فلا خير فيه، ولا يكون بينك وبينه معرفة وصداقة.
وقال: العلم مروءه من لا مروءة له.
وقال: إن لم يكن الفقهاء العاملون أولياء فليس لله ولي.
وقال: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر كتب الحديث قويت حجته، ومن لم يعين نفسه لم ينفعه علمه.
في كلامه هذا إشارة إلى أنه ينبغي للعالم أن يأخذ من كل علم ما يحتاج إليه.
ونسب إلى الإمام الشافعي أنه قال:
ما حوى العلم جميعاً أحد
ج ... لا ولو دارسه ألف سنه
إنما العلم كبحر زاخر ... فخذوا من كل شيء أحسنه
وسئل عبد الله بن المبارك: من الناس؟ فقال: العلماء.
قيل: من الملوك؟ قال: الزهاد.
قيل فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه (2) .
قال الإمام حجه الإسلام الغزالي: لم يجعل غير العالم من الناس، لأن الخاصية التي يتميز بها عن سائر البهائم هو العلم، والإنسان إنسان بما هو شريف، لأجله وليس ذلك لقوته فإن الجمل أقوى منه، ولا لأكله فإن الجمل أوسع بطناً منه، ولا لجماعه فإن أخس العصافير أقوى على ذلك منه، بل لم يتميز إلا بالعلم (3) .
قال الإمام الرازي في تفسيره: إن من جلس عند العلماء ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئاً فله سبع كرامات:
أولها: ينال فضل المتعلمين.
الثاني: مادام جالساً عنده كان محبوساً عن الذنوب.
_________
(1) أبو مسلم الخولاني هو: عبد الله بن ثوب -بضم ففتح- الخولاني تابعي، فقيه عابد زاهد، أصله من اليمن، أدرك الجاهلية، وأسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، فقدم المدينة في خلافة أبي بكر، وهاجر إلى الشام، وفي أكثر المصادر: وفاته بدمشق سنة: 62 هـ، وكان يقال: أبو مسلم حكيم هذه الأمة، وقيل: توفي بالشام، وهو قول ضعيف.
(2) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .
(3) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .
(2/89)
الثالث: إن خرج من منزله طالباً للعلم نزلت الرحمة علية.
الرابع: إذا جلس في حلقة العلم فتتنزل الرحمة فينال نصيبه منها.
الخامس: ما دام في الاستماع يكتب له طاعة.
السادس: إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه لحرمانه عن إدراك العلم فيصير ذلك وسيلة إلى حضرة الرب سبحانه وتعالى لقوله: «أنا عند قلوب المنكسرة قلوبهم لأجلي» .
السابع: إذا حضر العاصي مجلس العلم وسمع فربما يرق قلبه ويخشع فؤاده، فيكون ذلك وسيلة إلى توبته.
فلهذا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجالسة العلماء، ونقل عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن الرجل ليخرج من منزلة وعليه من الذنوب مثل جبال تهامه، فإذا سمع العلم خاف واسترجع من ذنوبه، فينصرف إلى منزلة وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجلس العلماء، فإن الله تعالى لم يخلق تربة على وجه الأرض أكرم من مجالس العلماء (1) .
قال الفقيه أبو الليث: من جلس مع الأغنياء زاده الله حب الدنيا والرغبه فيها.
ومن جلس مع الفقراء حصل له الشكر والرضا بقسمة الله.
ومن جلس مع السلاطين زاده الله القسوة والكبر.
ومن جلس مع النساء زاده الله الشهوة.
ومن جلس مع الصبيان زاده الله المزاح.
ومن جلس مع الفساق ازداد من الجراءة على الذنوب وتسويف التوبة.
ومن جلس مع الصالحين ازداد رغبة في الطاعات.
ومن جلس مع العلماء ازداد من العلم والورع.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من خرج يطلب باباً من العلم ليرد به باطلاً إلى الحق وضلالاً إلى الهدى كان علمه كعبادة أربعين عاماً» .
وروى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبني له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفوراً له، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/349) .
(2/90)
الله من النار» (1) .
وثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء» (2) .
وقال علية الصلاة والسلام: «من تعلم على يد عالم كتب الله له بكل خطوة عتق رقبة، ومن قبل رأس عالم كتب الله له بكل شعرة حسنة» .
وقال علية الصلاة والسلام من رواية أبي هريرة: «بكت السماوات السبع ومن فيهن ومن عليهن، والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن، العزيز ذل، وغني افتقر، وعالم تلعب به الجهال» .
وسائر كتب الله ناطقة بفضل العلم قال الله تعالى في التوراة لموسى عليه الصلاة والسلام: «عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها ثم أعمل بها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة» .
وقال الله في الزبور لداود: «قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقياً فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا فيهم عالماً فحادثوا العقلاء، لأن التقى والعلم والعقل ثلاث مراتب ما جعلت واحده منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه» .
وقال في الإنجيل: «اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم» .
لطيفة في محبه العلماء والصالحين: قال ابن الجوزي في كتابه «سوق العروس» قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: كان شيخ قوام بالذنوب مدمن على شراب الخمور، إلا أنه كان يحب الصالحين ويحضر مجالس العلم ويحسن الظن فيهم، فمرض واشتد مرضه فحضرته الوفاة، فقال لولده: يا ولدي إني أري أعمالي جميعها معروضة عليَّ، وما أرى لي حيله غير محبتي للصالحين، وحسن ظني بالعلماء، وإني أرى الموت الحق قد نزل بي لا محالة، وقد ندمت هذه الساعة على ما فرطت في جنب الله، فليت شعري هل يقبل المولى توبتي أم لا؟ ثم قال: يا ولدي لي إليك حاجة قال: وما هي يا أبت؟ قال: اسمع ما أقول لك ثم أنشد يقول:
_________
(1) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/290) : كذب موضوع.
(2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/337) : ذكر السخاوي أنه لم يقف عليه.
(2/91)
نُح على ما فات ... مني من قبيح التبعات
نُح إذا صارت عظامي ... في العظام الناخرات
نُح بدمع ثم لا ... تبخل بفيض العبرات
نُح إذا عاينت قبري ... في عظامي الدارسات
نُح إذا ما صرت وحدي
ج ... في القفار الموحشات
بين دور وهوام وتراب ودقات ... نح لتذكار الخطايا وقطيع المنكرات
ثم بكي الشيخ حتى غشي عليه، فلما أفاق قال: يا ولدي بحق التربية لا تضيعني، فأنا كنت المفرط في نفسي، والمضيع لحقي من يخلصني من عذاب الله، واشقوتاه، أنا المعترف بذنبي وخطيئتي أترى المولى يقبل توبتي ويرحم شيبتي ويمحوا زلتي، ثم خرجت روحة وأسود وجهة، فبكى ولده عند ذلك لما رأى من حال أبية، وإذا بهاتف يهتف به: يا هذا أبشر فقد أعتقه الله من النار بحسن ظنه بربه - عز وجل - وحبه وصحبته للصالحين والعلماء، ثم عاد وجهة في الحال أبيض، يتهلل نوراً وعلى جبهته مكتوب: ?وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ? [التوبة: 102] ولله در القائل حيث قال:
يا من أساء ثم اعتدى ثم أقترف ... ثم أرعوى ثم انتهى ثم أعترف
أبشر بقول الله في تنزيله ... إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
* * *
(2/92)
المجلس الثلاثون
في حديث «إن من الشجر شجراً لا يسقط ورقها»
وما فيه من الفوائد واللطائف
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، الحليم الستار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الجبار، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، الذي سلمت علية الأحجار، وسعت إلى خدمته الأشجار.
قَالَ البُخَارِي:
باب طَرْحِ الإِمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ» .
قَالَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ» .
معنى الحديث: أنه كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة من الصحابة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعبد الله بن عمرو كان طفلاً صغيراً، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء من جمار النخل فصار يأكل منه، وكان من عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتمع بأصحابه في بعض الأحيان يلقي عليهم بعض المسائل ليختبر أفكارهم ويحرضهم في طلب العلم، فألقى عليهم مسألة وقال لهم: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي تشبه المسلم، حدثونى وأخبروني ما هي؟
فذهب وفكر كل واحد من الصحابة الحاضرين إلى نوع من أنواع شجر البوادي فسار يفسرها بذلك النوع وذهلوا وغفلوا عن النخلة.
قال عبد الله بن عمر: فلما رأيت جمار النخل في يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يأكل منه وقع في نفسي أنها النخلة، ولكن استحيت أن أتكلم عنده - صلى الله عليه وسلم -، وعنده الأكابر مثل أبي بكر وعمر هيبة منهم وتوقيراً لهم، فما عرف عبد الله ابن عمر أنها النخلة إلا من الجمار الذي كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفى هذا إشارة إلي أنه ينبغي للشخص إذا ألقى عليه شخص سؤلاً خفياً، ويسمى لغزاً، أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال كما تفطن عبد الله إلي أنها النخلة بالجمار.
(2/93)
وينبغي للسائل إذا ألقى لغزاً على غيره أن لا يبالغ في تعتيمه وإخفائه على المسئول، بحيث لا يحصل باب يدخل منه، بل ينبغي أن يقرب له حتى يقع في فكره فيحصله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ألقى السؤال عليهم والجمار في يده، لعل أن يهتدوا بها إلى النخلة، وما اهتدى منهم إلا عبد الله.
وكما ألغز شيخ الإسلام ابن حجر في عود الأراك فقال:
أراك تروم إدراك المعاني ... ثم أرعوى ثم انتهى ثم أعترف
فما شيء له طيب وطعم ... وذاك الشيء في شعري مسما
فأول ما قال في لغزه: أراك، ليبقى للمسئول باباً لمعرفته.
وجاء في رواية: أن عبد الله بن عمر قال حدثني أبي بما وقع في نفسي بعد أن فسرها لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها النخلة، وقلت: عرفتها ولكن كرهت أن أتقدم عليكم بالكلام، فقال له أبوه لأن تكون قلتها أحب لي من كذا وكذا.
وإنما تمنى عمر أن يكون ولده أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على السؤال قبل أن يبينه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما طبع عليه الإنسان من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، ليزداد من النبي - صلى الله عليه وسلم - حظوة، ولأنه كان يرجو أن يدعو إلى ذلك في الزيادة في الفهم.
فقوله في الحديث: «وإنها مثل المسلم» أي: تشبه المسلم، فاختلف العلماء في وجه الشبه بين النخلة والمسلم.
فقيل: وجه الشبه أن النخلة إذا قطع رأسها تموت، وقيل: وجه الشبه أنها لا تحمل حتى تلقح وكذلك المسلم، وقيل: وجه الشبه أنها تموت إذا غرقت وكذلك المسلم، وقيل: وجه الشبه أن لطلعها رائحة مني الآدمي، وقيل: وجه الشبه أنها تعشق كما يعشق المسلم.
فقد حكي في كتاب مصارع العشاق أن بعض العارفين مر على نخلتين متغايراتين أحدهما خضراء يانعة، والأخرى صفراء متغيرة، فعرف بعين الفراسة أن الصفراء عاشقة للخضراء، فأخذ حبلاً وربط رأس الصفراء برأس الخضراء وواصل بينهما وتركهما ومضى ثم عاودهما فرأى الصفراء قد صارت باتصالها، والخضراء يانعة مثلها.
وقيل: وجه الشبه أنه تشرب من أعلاها كالمسلم.
قال شيخ الإسلام: وكل هذه الأوجه ضعيفة لأن الكافر يشارك المسلم في ذلك، وقيل: وجه الشبه أنه خلقت من فضلة طينة آدم، فهي عمة لكل آدمي.
(2/94)
فقد حكي في كتاب نديم الكرماء: أن آدم لما أهبط إلى الأرض وباشر الحرث والزرع، تعب وتشعث جسده وشعره، فجاء جبريل فأزال العرق والغبار عن جسده، وأخذه من شعره ومن جسده، فأخذ آدم ذلك كله ودفنه في الأرض، ثم نام وانتبه وقد أنبت الله تعالى إلى جانبه نخلة عظيمة طارحة في ساعة واحدة، فكان خشبها من طين جسده وليفها من شعره، وجريدها من ظفره، فلهذا ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترجموا عمتكم النخلة» .
هذا والصحيح أن هذا ضعيف فقد ضعفه ابن حجر وغيره وقال: قول من زعم أنها تشبه المسلم لكونها خلقت من فضلة طينة آدم ضعيف، فإن الحديث الوارد في ذلك لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - فما ينقله بعض الناس أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «أكرموا عمتكم» قيل: ومن عمتنا؟ قال: «النخلة» (1) لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - والصحيح في وجه الشبه بين المسلم والنخلة كما ذهب إليه أكثر أهل العلم أنها أشبهت المسلم في كثرة برها، ودوام ظلها، وطيب ثمرها ووجوده على الدوام، فمن حين أن يطلع ثمرها لا يزال يؤكل منه حتى ييبس، وبعده يتخذ منه منافع كثيرة من خشبها وورقها وأغصانها، فتستعمل جذوعاً وحطباً وعصياً، وحصراً وحبالاً وأواني وغير ذلك، ثم ينتفع بنواها علفاً للإبل وغيرها، والمؤمن خير كله من كثر طاعاته ومكارم أخلاقه ومواظبته على عبادته من صلاته وصيامه وقراءته وذكره وصلته وصدقته وسائر الطاعات.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أنه يستحب للعالم أن يلقي المسائل الخفية على الطلبة ليمتحن أذهانهم ويختبر أفهامهم، ويبين ذلك لهم إن لم يفهموا وأما ما ورد في الحديث كما راوه أبو داود «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات» (2) وهي صعاب المسائل، فهو محمول على ما إذا سأل الإنسان شيئاً لا نفع فيه، وسأل ليعنت المسؤول أو يعجزه، فإن ذلك لا يجوز، وأما إذا سأل ليفيد وينفع فإنه سنة.
_________
(1) أخرجه أبو يعلي في مسنده (1/353، رقم 455) ، والرامهرمزي في أمثال الحديث (1/73، رقم 35) ، والديلمي في الفردوس (1/ 68، رقم 198) ، وأبو نعيم في الحلية (6/123) عن علي.
قال الهيثمي (5/39) : فيه مسرور بن سعيد، وهو ضعيف.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (3/321، رقم 3656) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/435، رقم 23738) ، والطبراني في الكبير (19/380، رقم 892) ، وفي الأوسط (8/137، رقم 8204) عن معاوية.
(2/95)
ومنها: أنه يستحب للعالم أن يحرض الناس ويحثهم على العلم وفهمه.
ومنها: أنه يستحب للإنسان الحياء خصوصاً بحضرة الأكابر، ما لم يؤد إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه ينبغي الأدب مع الأكابر والإخوان والأصحاب، والأدب هو ما يتولد من صفاء القلب وحضوره، ويقال: هو الخلق على بساط الصدق ومطالعة الحقائق بقطع العلائق، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى أدبني فأحسن تأديبي، وأثنى علي بحسن الأدب حتى قال: ?مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى? [الرحمن: 17] » (1) .
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي» (2) قيل معناه: أن كمال النعيم في حسن الخلق، وكمال الأدب في حسن الخلق.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعد خيراً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه» (3) .
ومنها: أنه يستحب للصغير أن يوقر الكبير، ويستحب للولد أن يقدم أباه في القول على نفسه، وأن لا يتقدم عليه بما فهمه وإن ظن أنه الصواب توقيراً له وإجلالاً، فقد ورد في مسند ابن ماجة القزويني (4) عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جالس العلماء تعرف في السماء، ووقر كبير المسلمين تجاورني في الجنة، واعطف على الطفل الصغير تكن في شفاعتي يوم القيامة» .
وفي الحديث دليل على أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض المسائل، ويحصلها من هو دونه، لأن العلم مواهب الله، والله يؤتي الحكمة من يشاء، كما خفي على أبي بكر وعمر وغيرهما سؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفهمه عبد الله على صغر سنه.
وفيه دليل على جواز تجمير النخل كتتويب التين، ولا يعد ذلك من باب إضاعة المال.
ومثل هذا السؤال الذي سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصحابه يسمى لغزاً وتعمية، وقد صنف العلماء كتباً في ألغاز المسائل اقتدوا في ذلك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر فقهاؤنا مسائل كثيرة
_________
(1) أورده بنحوه ابن الجوزي في العلل (1/178، رقم 284) عن علي.
(2) أخرجه أحمد (6/68، رقم 24437) ، قال الهيثمي (10/173) : رجاله رجال الصحيح.
(3) أخرجه هناد في الزهد (1/290، رقم 506) ، وأبو نعيم في الحلية (2/264) عن أم سلمة.
(4) هاكذا بالأصل: مسند ابن ماجة القزويني، ويحتمل أن له مسنداً غير السنن وقف عليه المصنف، والحديث ليس في سننه والله أعلم.
(2/96)
من هذا الباب منها: أنهم قالوا: أي إنسان يجوز له مس المصحف وحمله وهو جنب، مع أن المحدث حدثاً أصغر لا يجوز له مسه ولا حمله، فضلاً عن الجنب قال الله تعالى ?لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ? [الواقعة: 79] ؟ وبينوا ذلك وصورة بما إذا كان الإنسان جنباً ولم يتمكن من الطهارة، وعنده مصحفاً، وخاف عليه إن تركه في مكانه من غرق أو حرق أو نجاسة أو كافر يأخذه، فإنه يأخذه في هذه الحالة وجوباً للضرورة، بل قال النووي: «إذا أراد التخلي وخاف من وضع المصحف من يده أن يأخذه غاصب، فإنه يتغوط وهو معه» .
ومنها: أنهم قالوا: أي صلاة يجب أداؤها وإذا فاتت لا يجب قضاؤها بل لا يجوز مع أن الصلاة إذا فات وقتها وجب فعلها خارج الوقت وتكون قضاء؟ وصور وذلك بصلاة الجمعة فإنها إذا فاتت لا تقضى جمعة، وإنما تقضى ظهراً والظهر صلاة أخرى ليست بدلاً عن الجمعة.
ومنها: أنهم قالوا: أي يوم يجب فيه على المكلف أكثر من ألف صلاة من غير نذر، والكل أداء ليس فيها واحدة قضاء ولا منذورة؟ وبينوا ذلك وصوروه بوقت خروج الدجال فإنه يستمر أربعين يوماً يوم كسنه ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كهذه الأيام، فاليوم الذي كسنه لا يكفي خمس صلوت، بل كل وقت منه كقدر يومنا هذا يصلي فيه خمس صلوات، وهكذا إلى آخره.
ومنها: أي امرأة مات عنها زوجها وليست بحامل انقضت عدتها في نصف يوم، مع أن عدتها أربعة اشهر وعشرة أيام قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً? [البقرة: 234] وبينوا ذلك وصوروه باليوم الذي كسنه عند خروج الدجال، فإنه من حين خروج الشمس إلى زوالها نصف نهار وهو مقدار ستة أشهر من هذه الأيام فتنقضي.
ومنها: أنهم قالوا: أي أذان يستحب لغير الصلاة، وأي إقامة تستحب لغير الصلاة؟ وصوروا ذلك بالمولود حال ولادته فإنه يستحب أن يؤذن في أذانه اليمين ويقام في أذنه اليسرى، وفي صورة أخرى وهي: ما إذا تمردت الجان كما قاله النووي في الأذكار.
ومنها: أنهم قالوا: أي شيء يستحب الإتيان به في القضاء دون الأداء؟ وصوروا ذلك بالجهر والإسرار فإذا فات الإنسان صلاة الظهر مثلاً فقضاها مثلاً ليلاً يستحب له أن يجهر في الركعتين الأولتين كصلاة العشاء، ولا يستحب الجهر فيها لو صلاها
(2/97)
أداء، وإذا فات الإنسان صلاة العشاء مثلاً فقضاها نهاراً يستحب الإسرار فيها، ولا يستحب الإسرار فيها لو صلاها أداء.
ومنها: أنهم قالوا: أي ثوب متنجس صلى فيه صحت صلاته، وإن صلى عليه أو حمله في كمه ونحوه لا تصح صلاته؟ وصوروا ذلك بالثوب الذي أصابته نجاسة معفو عنها كدم البراغيث ونحوها.
فائدة: ينبغي لمن سمع مسألة أو لغزاً وكان ظاهره قبيحاً أن لا ينكره أولاً، بل يتفكر فيه ويتأمله، فإن لم يعرفه يفحص عنه من قائله أو غيره، فإن من اعتمد على ظواهر الألفاظ غير متأمل فيها يوقع الخلق في جهل عظيم، ويقع هو في إثم كبير، وربما يقضي السامع على القائل بالكفر، ويقول فلان تكلم بكلام كفري، فيقع في الخطأ العظيم، فقد حكى العلامة التاج السبكي أن شخص أحب الاجتماع بالمأمون أمير المؤمنين فلم يمكنه التوصل إليه، فاحتال بحيلة وهي أنه قام في ملأ من الناس وقال: أيها الناس قفوا واسمعوا ما أقول لكم، ولست بفقير أطلب منكم شيئاً، ثم قال: اعلموا أن عندي ما ليس عند الله، ولي ما ليس لله، ومعي ما لم يخلق الله، وإني أحب الفتنة، وأكره الحق، وأقول إن اليهود قالت حقاً، وإن النصارى قالت حقاً، ومعي زرع ينبت بغير بذر، وسراج يضيء بغير نار، وأنا أحمد النبي، وأنا ربكم أرفعكم وأضعكم، فقاموا إليه وكادوا يأتون على نفسه وقالوا: لا كفر فوق هذا وصاروا به إلى المأمون، فلما مثل بين يديه وأعاد القول على أمير المؤمنين ثم أخذ يبينه فقال: أما قولي: لي ما ليس لله فإن لي صاحبه وولد وليس لله صاحبه ولا ولد تعالى عن ذلك علواً كبيراً، وأما قولي: عندي ما ليس عند الله فعندي الجور والظلم والله تعالى منزه عنهما، وأما قولي: معي ما لم يخلق الله فمعي القرآن، والقرآن كلام الله غير مخلوق، وأما قولي: إني أحب الفتنة فالمراد بها المال والولد وهما محبوبان مع أنهما فتنة كما نطق به القرآن، وأما قولي: أكره الحق فالمراد بالحق الموت فإنه حق مكروه، وأما قولي: وأقول أن اليهود قالت حقاً والنصاري قالت حقاً، فالحق الذي قالته اليهود والنصاري ما أشار إليه الله إليه بقوله: ?وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ? [البقرة: 113] وأما قولي: ومعي زرع ينبت بغير بذر فهو شعر الرأس، وأما
قولي: ومعي سراج يضيء بغير نار فهما العينان، وأما قولي: أنا أحمد النبي والنبي منصوب على المفعولية بأحمد، وأحمد فعل والمعنى أنا أحمد النبي أي: أشكر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وأما قولي: أنا ربكم أرفعكم وأضعكم فالمعنى: أنا صاحبكم فإن رب بمعنى
(2/98)
صاحب أرفع الكم وأضعه، فاستحسن المأمون ذلك وأصغي إلى كلامه وقضى حاجته.
وفي الحديث دلالة على بركة النخلة وما تثمره، ولفضل النخلة وبركتها شبه الله كلمة التوحيد بها في القرآن العظيم حيث قال سبحانه وتعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصلها ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ? [إبراهيم: 24] قال المفسرون الكلمة الطيبة هي لا إله إلا الله، والشجرة الطيبة هي النخلة فإنها طيبة الثمرة، أصلها ثابت في الأرض وفرعها إلى أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق، فإذا تكلم بها عرجت فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله.
وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا قال العبد لا إله إلا الله يصعد بها الملك إلى السماء، فيستقبله في السماء ملك آخر فيقول من أين؟ فيقول: وأنت إلى أين؟ فيقول: أنا صاعد بشهادة فلان إلى الله تعالى، فيقول: وأنا نازل إليه من عند الله ومعي براءة من النار» .
وقد ذكر الفخر الرازي في كتابه أسرار التنزيل وجه تشابه كلمة التوحيد بالنخلة من وجوه ستة:
الأول: شجرة النخلة لا تنبت في جميع البلدان، كذلك التوحيد لا يجري على كل لسان.
الثاني: أن شجرة النخلة أطول الأشجار، وكذلك كلمة التوحيد أعلى الكلمات.
الثالث: أن الشجرة ثابتة في الأرض وفرعها في السماء، كذلك هذه الكلمة الطيبة ثابتة في القلب وهو المعرفة، وفرعها ثابت في السماء ?إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ? [فاطر: 10] .
الرابع: أن شجرة النخلة تحمل كل سنة مرتين كذلك الإيمان يحمل في الدنيا مرة ويثاب لأجل إيمانه أهلية الشهادة والولاية والأمانة، ومرة أخرى في الآخرة وهي الجنة الباقية والنعمة الدائمة.
الخامس: أن النخلة وإن حصل في وسط ثمرتها نواة لا خير فيها ولا منفعة، فإن قيمة تلك الثمرة لا تنقص بسبب تلك النواة، وكذا كلمة التوحيد وإن كان يحصل معها شيء من المعاصي لا تنقص بسبب ذلك، قال تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً?
[الزمر: 53] .
(2/99)
السادس: أن النخلة أسفلها الذي يقرب من الناس كله شوك، والثمرة والمنفعة في أعلاها، كذا كلمة التوحيد أولها تكاليف شاقة هي كالشوكة، وأعلاها الثمرة الحلوة اللذيذة وهي المعرفة والمحبة.
لطيفة: كتب ملك الروم إلى سيدنا عمر - رضي الله عنه - أخبرني رسلي أن ببلدكم شجرة يخرج ورقها كأذان الحمير، ثم ينشق عنها ثمر أحسن من اللؤلؤ ثم يخضر حتى يكون كالزمرد، ثم يحمر ويصفر فيكون كشذور الذهب وقطع الياقوت، ثم ينيع فيكون كأطيب الفالوذج، ثم يبين فيكون قوتاً للمقيم وزاداً للمسافر، فإن صدقوا فهذه من شجر الجنة، فكتب إليه عمر: نعم، وهي التي ولد تحتها عيسى فلا تدع مع الله إلهاً آخر.
لطيفة أخرى غريبة: ذكر بعض العلماء في مصنف له عن أبي دجانة الصحابي - رضي الله عنه - أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من المسجد سريعاً ولم يحضر الدعاء - وقد قال العارف بالله الرباني سيدي عبد القادر الكيلاني في كتابه الغنية: إن العبد إذا انصرف من المسجد ولم يحضر الدعاء تقول الملائكة: انظروا إلى هذا الذي قد استغنى عن الله - فأعلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما كان يفعله أبو دجانة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أبا دجانة مالك تخرج سريعاً ولا تحضر الدعاء» فقال: يا رسول الله لي جار منافق، وفي داره نخلة وأغصانها على داري، فإذا هب الهواء في الليل سقط رطبها في دارنا فأسبق أولادي قبل أن يستيقظوا وأجمع الثمر وأرده إليه، فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب النخلة وقال له: «بعني نخلتك بعشر نخلات في الجنة، عروقها من الزبرجد الأخضر، وساقها من الذهب الأحمر، وأغصانها من اللؤلؤ الأبيض» فقال: لا أبيع حاضراً بغائب فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: قد اشتريتها منه بعشر نخلات في موضع كذا، ففرح المنافق ثم أعطي التي في داره لأبي دجانة بنخلات أبي بكر - رضي الله عنه - ثم جاء إلى داره وأخبر زوجته بأنه باع النخلة لأبي بكر بعشر نخلات في مكان كذا، وقال: النخلة في دارنا فكلما غفل أبو دجانة أكلنا منها ولا ندع له إلا الشيء القليل، فلما نام المنافق تلك الليلة وأصبح رأى النخلة قد تحولت من دارة إلى دار أبي دجانة (1)
- رضي الله عنه - بقدرة الله تعالى.
فهذا وأمثاله من الأشياء الدالة على نبوته قال بعضهم: وإذا تأملت معجزاته وباهر آياته وكراماته وجدتها شاملة للعلوي والسفلي والصامت والناطق والساكن والمتحرك والمائع والجامد والسابق واللاحق والحاضر والباطن والظاهر والعاجل والآجل إلى غير
_________
(1) أبو دجانة هو: سماك بن خرشة الخزرجي البياضي الأنصاري، المعروف بأبي دجانة: صحابي، كان شجاعا بطلاً، له آثاراً جميلة في الإسلام. شهد بدراً، وثبت يوم أحد، وأصيب بجراحات كثيرة، واستشهد باليمامة سنة: 1هـ، وكانت له مشية عجيبة في الخيلاء، يضرب بها المثل، نظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في معركة، وهو يتبختر بين الصفين، فقال: هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا المكان، وكان يقال له: ذو المشهرة، وهي درع يلبسها في الحرب، وذو السيفين لقتاله يوم أحد بسيفه وسيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل في نسبه: سماك بن أوس ابن خرشة.
(2/100)
ذلك مما لو ذكر لطال كتسليم الحجر والشجر عليه، وشهادتهما له بالرسالة بين يديه، ومخاطبتهما بالسيادة وحنين الجذع إليه، إلى غير ذلك من الخوارق للعاده.
فمن معجزاته: ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان على شط ماء وقعد عكرمة بن أبي الجهل (1) فقال: إن كنت صادقاً فادع ذلك الحجر الذي في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار إليه عليه الصلاة والسلام فانقلع من مكانه وسبح حتى صار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهد له بالرسالة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يكفيك هذا؟» فقال: حتى يرجع إلى مكانه (2) .
ومن معجزاته صلوات الله وسلامه عليه: أن الأشجار نطقت له وسعت إليه كما صحت بذلك الأخبار ونقله عنه - صلى الله عليه وسلم - الثقات الأخيار، وقد أشار إلى ذلك صاحب البردة بقوله:
جاءت لدعوته الأشجار ساجدة ... تمشي إليه على ساق بلا قدم
كأنما سطرت سطراً لما كتبت ... فروعها من بديع الخط بالقلم
وذكر صاحب الشفا وغيره: أن أعرابياً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - آية -أي: معجزة- دالة على نبوته فقال له: «قل لتلك الشجرة: إن رسول الله يدعوك» فمالت عن يمينها وشمالها وبين يديها وخلفها وقطعت عروقها، ثم جاءت تجر عروقها حتى وقفت بين يديه، فقالت: السلام عليك يا رسول الله، قال الأعرابي: فمرها أن ترجع إلى منبتها، فأمرها فرجعت ودست عروقها في منبتها (3) .
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فدنا منه أعرابي فقال: «يا أعرابي أين تريد؟» قال: أهلي، قال: «هل لك إلى خير» قال: وما قال هو؟ قال: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله» قال: ومن يشهد لك على ما تقول؟ قال: «هذه الشجرة السمرة وهي في شاطئ الوادي، فأدعها فإنها تجيبك» قال: فدعاها فأقبلت تشق الأرض حتى قامت بين يديه - صلى الله عليه وسلم - فاستشهدها ثلاثاً أي: قال لها: «من أنا؟» فقالت: رسول الله ثلاث مرات،
_________
(1) هاكذا بالأصل بأل التعريف والمشهور بدونها، ويبدو أن المصنف اعتمد على أنه عرف بكنيته هذه.
(2) انظر: السيرة الحلبية (2/765) .
(3) أخرجه البزار عن بريدة كما في مجمع الزوائد (9/10) ، قال الهيثمي: فيه صالح بن حيان وهو ضعيف.
(2/101)
ثم عادت إلى مكانها (1) .
ولله در من قال:
نبي له الأشجار جاءت مطيعة ... نبي عليه سلم الحجر الصلد
نبي هدي حتى الجماد يحبه ... نبي كريم ما لدعوته رد
له الفضل والإفضال والبر والتقى ... له العدل والإحسان والجود والمجد
صح وثبت أن جذع النخل حن لفراقه - صلى الله عليه وسلم - فقد قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: كان مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسقوفاً بجذوع نخل، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب إلى جذع منها ويضع يده عليه قبل أن يصنع المنبر، فلما صنع له المنبر في السنة الثانية أو الثامنة من الهجرة فارق الجذع، قال جابر: سمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار (2) وهي: الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل عليها الفحل عشرة أشهر، فلما حن الجذع لفراقه دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه يخرق الأرض فقال له: «إن شئت أردك إلى الحائط أي: البستان الذي كنت فيه، ينبت لك عروقك، ويكمل خلقك، ويجدد لك خوص وثمر، وإن شئت أغرسك في الجنة فيأكل أولياء الله من ثمرك» ثم أصغى له ليسمع ما يقول، فقال: بل تغرسني في الجنة فيأكل مني أولياء الله، فأكون في مكان لا أبلى فيه فسمعه من يليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قد فعلت» ثم قال: «اختار دار البقاء على دار الفناء» ثم أمره فعاد إلى مكانه (3) .
_________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/434، رقم 6505) ، والدارمي في سننه (1/22، رقم 16) ، وأبو يعلي في مسنده (10/34، رقم 5662) ، والطبراني (12/431، رقم 13582) .
قال الهيثمي (8/292) : رجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1314، رقم 3392) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/195، رقم 5487) عن جابر.
(3) حديث حنين الجذع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد من حديث عدد من الصحابة منهم: جابر وأبي بن كعب وأنس بن مالك وابن عباس.
فأخرجه البخاري في صحيحه (3/1314، رقم 3391) ، وأحمد في مسنده (3/ 300، رقم 1424) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/319، رقم 31748) عن جابر.
وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/454، رقم 1414) ، والدارمي في سننه (1/30، رقم 36) ، وأحمد في مسنده (5/137، رقم 21285) ، والضياء في المختارة (3/393، رقم 1192) ، والشافعي في المسند (1/65) عن أبي بن كعب.
وأخرجه الضياء في المختارة (4/357، رقم 1520) ، والدارمي في سننه (1/32، رقم 41) عن أنس بن مالك.
وأخرجه أحمد في مسنده (1/266، رقم 2400) ، والدارمي في سننه (1/31، رقم 39) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/319، رقم 31746) ، والحارث بن أبي أسامة كما في بغية الباحث (1/305، رقم 200) عن ابن عباس.
(2/102)
فكان الحسن - رضي الله عنه - إذا حدث بها بكى وقال: يا عباد الله الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقاً إلى مكانه فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه.
وجاء في رواية أنه أمر بدفنه تحت منبره ليصلى إليه، فلما هدم المسجد أخذه أبي فكان عنده رحمة الله عليه، ونظم ذلك بعضهم فقال:
وحن الجذع شوقاً ورقةً ... ورجع صوتاً كالعشار مرددا
فبادره ضماً فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا
وأنشد بعضهم أيضاً:
الجذع حن إلى النبي المصطفى ... بالله أقسم إنه معذور
قد كان حال القرب من أنواره ... في نعمة إقبالها مأثور
فغدا الفرقة بدره متصدعاً ... يبدي الأنين وقلبه مكسور
من ذا الذي يقوى على هجران من ... بين البرية فضله مشهور
وخرج - صلى الله عليه وسلم - إلى نواحي مكة في بعض الأيام فما استقبله شجر ولا حجر إلا شافهه بالسلام، ولما أتى جبريل بالرسالة المعظمة إليه جعل لا يمر بحجر لا شجر إلا سلم عليه، وأمنت الأبواب والجدران على دعائه، وكان كل من الحجر والشجر يسجدان له إذا مر بإزائه (1) .
_________
(1) حديث تسليم الحجر والشجر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد من حديث عدد من الصحابة منهم: علي وجابر بن عبد الله وجابر بن سمرة وعائشة رضي الله عنهم:
فأخرجه الترمذي في سننه (5/ 593، رقم 3626) ، وقال: غريب. والدارمي في سننه (1/25، رقم 21) ، والحاكم في المستدرك (2/677، رقم 4238) ، والضياء في المختارة (2/134، رقم 502) عن علي بن أبي طالب.
وأخرجه الدارمي في سننه (1/45، رقم 66) عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه مسلم في صحيحه (4/1782، رقم 2277) ، والترمذي في سننه (5/592، رقم 3624) ، وأحمد في مسنده (5/89، رقم 20860) ، والطبراني في الأوسط (2/291، رقم 2012) عن جابر بن سمرة.
وأخرجه الطيالسي في مسنده (ص: 215، رقم 1539) ، والبزار (كما في مجمع الزوائد 8/260) بإسناد ضعيف لضعف شيخه عبد الله بن شبيب، على ما ذكره الهيثمي. كلاهما عن عائشة.
(2/103)
وحنين الجذع إليه، وتسليم الحجر عليه لم يثبت لواحد من الأنبياء إلا له - صلى الله عليه وسلم - فهو من خصائصه الحقيقية.
ومن معجزات نبينا - صلى الله عليه وسلم - الباهرة، كما قاله الشيخ عبيد وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما بني المسجد بالمدينة قال لأبي بكر احتاج إلى جذوع نخل لأجل سقف المسجد، فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - لي بمكة بيت فيه جذوع نخل تصلح، فدعاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فخلق الله تعالى لها أجنحة فطارت وجاءت إليه فسقف بها المسجد.
ومن المعجزات الباهرة أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - غرس غصناً من النخلة في سنام البعير بحضرة جماعة من كفار قريش، فأخضر في الحال، وصار نخلة عظيمة ذات أغصان وثمار، ثم تناول الحاضرون من ثمارها، فمن علم الله أنه يؤمن كانت الثمرة حلوة في فمه، ومن علم أنه لا يؤمن عاد حجراً في فمه.
قال بعض العلماء الحنفية: وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنها أي: النخلة مثل المسلم أشار إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه، فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله، بل ولا من الحيوانات.
فائدة: جاء في حديث آخر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه المؤمن بالنحلة بالنون المعجمة والحاء المهملة، فقد قال البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: صاحبت ابن عمر من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث: «إن مثل المؤمن كمثل النحلة (1)
إن صاحبته نفعك، وإن شاورته نفعك، وإن جالسته نفعك، وكل شأنه
_________
(1) قال العسكري في تصحيفات المحدثين (1/393) : ومما يحتاج إلى ضبط وتقييد حديثان روي في أحدهما: «مثل المؤمن مثل النخلة» بالخاء المعجمة، وروي في الحديث الآخر: «مثل المؤمن مثل النحلة» وجميعا صحيح.
فأما بالخاء المعجمة فحدثنا أبو جعفر بن زهير حدثنا يوسف بن موسى القطان حدثنا جرير عن ليث عن محمد بن طارق عن مجاهد قال: صحبت ابن عمر رضي الله عنهما من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث: «مثل المؤمن كالنخلة إن جالسته نفعك وإن شاورته نفعك وإن صاحبته نفعك وإن شاركته نفعك وكل شيء من شأنه منافع» الخاء في هذا الحديث معجمة لا يجوز غيرها.
فأما النحلة معجمة فحدثنا به ابن أخي أبي زرعة حدثنا محمد بن عيسى بن حيان المدائني حدثنا سلام بن سليمان الثقفي حدثنا شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمن مثل النحلة تأكل طيباً وتضع طيباً» وهذا المعجمة لا يجوز غيرها.
(2/104)
منافع» (1) وكذاك النحلة كل شأنها منافع.
قال ابن الأثير: وجه المشابهة بين المؤمن والنحلة حذق النحلة وفطنته وقلة أذاه وقنوعه وسعيه في الليل وتنزهه عن الأقذار وطيب أكله، وأنه لا يأكل من كسب غيره، ونحوله وطاعته لأميره، وإن للنحل آفات تقطعه عن عمله منها: الظلمة والغيم والريح والدخان والماء والنار، وكذلك للمؤمن آفات تقطعه عن عمله: ظلمة الغفلة، وغيم الشك، وريح الفتنة، ودخان الحرام، وماء الخمر، ونار الهوى.
خاتمة لطيفة: قال في كتاب نديم الكرماء: حكي أن الجنيد قدس الله سره دخل في بعض أعوامه مكة فنزل عند امرأة عجوز من الصالحات، كان يعرفها فجلست العجوز تتوضأ فوجدت نوى تمر فأخذت واحدة فغرستها في الأرض، وصبت عليها من الماء الذي كأنت تتوضأ به، فقالت بناتها وهن يضحكن: يا أمي أتأملين أن تعيشي حتى تأكلي من هذه النواة رطباً، قال: فرفعت المرأة طرفها إلى السماء ثم قالت: اللهم أنت القادر الذي تقول للشيء كن فيكون، فأطعمني من هذه النخلة قبل موتي، قال الجنيد: أمين، ثم قام الجنيد والعجوز يصليان العصر، ثم جلسا وإن النخلة قد أخرجت الخوص، ثم الجريد، ثم الخشب، ثم أثمرت، فوالله ما برحنا حتى أكلنا من ثمرها.
ولقد أحسن من قال:
جل الذي أحكامه في البلاد ... تجري بما فيه صلاح العباد
يميت من شاء ويحيي وإن ... قال للشيء كن فيكون ما أراد
* * *
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6/504، رقم 9072) .
(2/105)
المجلس الحادي الثلاثون
في ذكر خواتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أحكام خاتم الذهب والفضة وغيرهما
وذكر خاتم سليمان وقصته
وذكر شيء من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وشيء من فضائله المتعلقة بذلك
فالحمد لله العادل في حكمه وللعباد راحم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الفاتح الخاتم، وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والمكارم.
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَتَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كِتَابًا -أَوْ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ- فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ. فَقُلْتُ لِقَتَادَةَ: مَنْ قَالَ: نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَسٌ (1) .
استشكل العلماء قول أنس: «كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً» وقالوا: من خصائصه كان يحرم عليه الكتابة والقراءة في الكتاب، ولهذا يقال له: النبي الأمي، وهو الذي لا يحسن الكتابة ولا يعرفها.
وأجابوا عن الاستشكال بأجوبة:
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:
قوله: «كتب أو أراد أن يكتب» : شك من الراوي، ونسبة الكتابة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجازية، أي: كتب الكاتب بأمره.
قوله: «لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً» : يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على أن شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوماً ليحصل الأمن من توهم تغييره، لكن قد يستغنى عن ختمه إذا كان الحامل عدلاً مؤتمناً.
قوله: «فقلت» القائل هو شعبة.
فائدة: لم يذكر المصنف من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة، وكأنه لا يرى بشيء منها. وقد ادعى ابن منده أن كل ما يقول البخاري فيه: قال لي فهى إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيرا من المواضع التي يقول فيها الجامع قال لي فوجدته في غير الجامع يقول فيها حدثنا، والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما يبلغ شرطه وما لا يبلغ.
(2/106)
أحدها: أن معنى «كتب» أي أمر غيره بالكتابة، فنسب الفعل إليه على سبيل المجاز.
الثاني: أن الله أوحى إليه أن يكتب.
الثالث: أن الكتابة وإن لم يكن يحسنها صدرت منه حقيقة في بعض الأوقات، فيكون ذلك من قبيل معجزاته الخارقة للعادة، وقد عدوا من معجزاته أنه كان ينظر إلى المكتوب ويعرفه فتنطق له الحروف وتبين له المعنى المراد.
وكما كان - صلى الله عليه وسلم - تحرم عليه الكتابة كان يحرم عليه أخذ الزكاة والصدقة والكفارة والمنذورات، ونزع لامته إذا لبسها حتى يقاتل، أو يحكم الله بينه وبين عدوه بما شاء، وكان يحرم عليه قول الشعر وروايته.
قال تعالى: ?وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ? [يس: 69] .
واختلف العلماء كما قاله البغوي في النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كان يحسن الخط ولا يكتب الشعر ولا يقوله أم لا يحسنها؟
فقيل: كان يحسنهما ولا يفعلهما، والأصح: أنه كان لا يحسنهما ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه، ومما يدل على أنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يحسن الشعر أنه ذكر يوماً قول طرفه بن العبد:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقدم فيه وأخر وقال:
يأتيك من لم تزود بالأخبار
فقال له أبو بكر: يا رسول الله لم يقل هكذا، وإنما قال:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلاهما سواء» . فقال: أشهد أنك لست بشاعر ولا تحسنه. قاله ابن الملقن في باب هل تنبش قبور الجاهلية في كتاب الصلاة.
فإن قيل: إذا كان قول الشعر حراماً عليه - صلى الله عليه وسلم - فكيف نقل عنه أنه قال:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
وقال:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وأجابوا عن ذلك بأجوبة:
(2/107)
الأول: أن هذا ليس بشعر لأنه صدر من النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير قصد، والشعر هو الكلام الموزون المقفى بالقصد، وقد وقع في كلام الله من ذلك كثيراً قال تعالى: ?لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ? [البقرة: 92] .
الثاني: أن مشطور الرجز عند الأخفش وغيره ليس بشعر.
وقوله: «لأنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً» المعنى: كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتاباً إلى العجم وإلى الروم بلا ختم، فقيل له: يا رسول الله إنهم أي الأعاجم والأروام لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، والحكمة في أنهم كانوا لا يقرؤون إلا الكتاب مختوماً خوفاً من كشف أسرارهم وأشعار بأن الأحوال المعروضة عليهم ينبغي أن تكون مما لا يطلع عليها غيرهم، وفي هذا دلالة على أنه يسن للسلطان والقضاة والحكام ختم كتبهم، وقد صف الله كتاب سليمان الذي أرسله إلى بلقيس مع الهدهد بأنه كتاب كريم، وإنما وصفته بذلك لأنه كان مختوماً.
وقوله: «فاتخذ خاتماً» أي: لما قالوا له - صلى الله عليه وسلم -: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً أي: بخاتم، اتخذ له خاتماً من فضة نقشه «محمد رسول الله» وصار يختم به الكتب الذي يرسلها إلى الكفار، حتى يقرؤوا كتابه.
وفيه دلالة على جواز مكاتبة الكفار، وقد كاتب جماعة من ملوك الكفار من جملتهم كسرى ملك فارس.
وكسرى بفتح الكاف وفتحها والكسر أفصح فارسي معرب: لقبه، وأما اسمه فقيل: أنوشروان بن هرمز، والصحيح كما قاله ابن حجر في اسمه: ابرويز بن هرمز بن أنوشروان، قال: ووهم من قال: أنه أنوشروان (1) .
وملك كسرى الكافر سبعاً وأربعين سنة وسبعة أشهر، أرسل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابه مع عبد الله بن حذافة يدعوه إلى الدخول في الإسلام، فلما دفع إليه عبد الله بن حذافة الكتاب وقرئ عليه أخذه ومزقه، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك دعا عليه وقال: «اللهم مزق ملكه» (2) أي: فرقه وشتته، فمزق الله ملكه كل ممزق، وسلط الله عليه ولده فمزق بطنه.
فقد نقل علماء التاريخ: أن كسرى كان له ولد يقال شيرويه، أراد قتل كسرى
_________
(1) انظر فتح الباري (1/155) .
(2) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/259) .
(2/108)
لأجل الملك، فلما أيقن كسرى بالهلاك وكان مغلوباً فتح خزائنه فرأى خزانة الأدوية، فكتب على حق السم الدواء النافع للجماع، وكان ابنه مولعاً بذلك، فلما قتله فتح خزائنه فرأى خزانة الأدوية فتناول ذلك الحق منها فقرأه وفتحه وتناول منه شيئاً فأكله ومات من ذلك السم، ولم يقم لهم بعد دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم أمر نافذ، بل أدبر عنهم الأقبال، ومالت عنهم الدولة، وأقبلت عليهم النحوس، حتى انقرضوا.
وفي اتخاذه - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من فضة دليل على جواز اتخاذ خاتم الفضة للرجال، وقد ذكر العلماء: أن التختم بخاتم الفضة جائز بالإجماع، بل لبسه سنة لهذا الحديث.
والأفضل عند إمامنا الشافعي وأكثر العلماء جعله في اليد اليمنى لأنها أشرف وأفضل، فهي أحق بالزينة والإكرام.
لكن نقل ابن العماد عن المتولي أنه قال: لبسه اليوم في اليسار أولى لأن لبسه في اليمين قد صار شعاراً للرافضة، قال: وهذا الذي ذكره يوافقه ما حكاه الرافعي عن أبي هريرة: أن تستطيح القبر لا يستحب في هذا الزمان، بل التسنيم أولى، لأن التسطيح صار شعاراً للرافضة، فالأولى بنا الآن مخالفتهم وصيانة للميت وأهله من الاتهام بالبدعة، قال: ومما يشهد للمتولي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن في مواقف التهم» .
وقول علي - رضي الله عنه -: «إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فرب سامع نكراً لا تستطيع أن تسمعه عذراً» ، ولأنه إذا تشبه بهم خاض الناس فيه فيكون سبباً في إيقاع الناس في الإثم.
وأكثر العلماء قالوا: الأفضل لبسه في اليمنى وإن صار شعار الرافضة، قالوا: لأنا لو تركنا ما ثبت من السنة لإطباق المبتدعة عليه لجرنا ذلك إلى ترك سنن كثيرة.
وعند الإمام مالك جعله في اليسار أفضل، لأنه كان آخر الأمرين منه - صلى الله عليه وسلم - كما قاله البغوي في شرح السنة وكرهه في اليمنى.
والسنة جعل فصه من باطن كفه لأنه أبعد من الإعجاب، وأصون للفص، ومحل التختم خنصر اليمنى واليسرى، لأنه أبعد من الامتهان فيما يتعاطى باليد، لكونه طرفاً، ولأنه لا يشغل اليد عما يتناوله من أشغالها بخلاف غير الخنصر.
وهل يجوز للرجل أن يلبس الخاتم في غير الخنصر من باقي أصابعه؟
قال الأذرعي: الصحيح التحريم للنهي عن التشبه بالنساء، لكن قال النووي في شرح مسلم: لا يحرم لكن يكره كراهة تنزيه.
(2/109)
وروي النسائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي - رضي الله عنه -: «يا علي سل الله الهدى والسداد» قال علي: ونهاني عن الخاتم في هذه وهذه وأشار يعني بالسبابة والوسطي (1) .
ويجوز للرجل أن يتخذ خواتم يلبسها واحد بعد واحد.
وهل يجوز أن يلبس في وقت واحد أكثر من خاتم؟
قال المحب الطبري: لا يجوز.
قال الدرامي والخوارزمي: يجوز مع الكراهة.
واختلف العلماء في مقدار وزن الخاتم الذي يجوز لبسه للرجل من الفضة فقال ابن الرفعة والأذرعي: يجب نقصه عن المثقال لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «ولا تبلغه مثقالاً» .
وذهب الخوارزمي وغيره إلى أنه لا يتعين نقصه عن المثقال بل يجوز له أن يلبس خاتماً موافقاً لعرف الناس في لبسه، فإن جرى عرف الناس بلبس وزن دون مثقال تعين عليه ذلك، وإن جرى عرفهم بلبس خاتم فضة وزنه أكثر من مثقال جاز له أن يلبس خاتماً مقداره أكثر من مثقال، فالضابط في جوازه العرف.
بذلك أفتى كثيرين من المتأخرين من علمائنا الشافعية كالقاضي زكريا فهو المذهب.
وأما الحديث الذي قال فيه: «ولا تبلغه مثقالاً» فهو ضعيف كما قاله النووي، بل قال النسائي: منكر.
وأما المرأة فيجوز لها أن تلبس خاتم الفضة، بل ويجوز لها أن تلبس خواتم في أصابع من غير كراهة.
وفي الحديث دلالة على جواز نقش الخاتم ونقش اسم صاحبه عليه، وعلى جواز نقش اسم الله تعالى عليه من غير كراهة في ذلك، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقش على خاتمه محمد رسول الله، واتخذ كثير من السلف من العلماء والأنبياء وغيرهم خواتم نقشوا عليها.
فقد نقل عن الإمام مالك أنه اتخذ خاتماً نقش عليه: «حسبي الله ونعم الوكيل» (2) .
وعن إمامنا الشافعي أنه اتخذ خاتماً ونقش عليه: «الله ثقتي محمد بن إدريس» .
وعن موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أنه اتخذ خاتماً ونقش عليه:
_________
(1) أخرجه النسائي في سننه (8/177، رقم 5210) .
(2) أورده القرطبي في تفسيره (10/88) .
(2/110)
«لكل أجل كتاب» .
وقوله في الحديث في خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - نقشه: «محمد رسول الله» لم يبين في هذا الحديث كيفية كتابتها، ولا هل كانت سطراً واحداً أو أكثر، لكن بين في حديث آخر أنها كانت ثلاثة أسطر «محمد» سطر و «رسول» سطر و «الله» سطر، وقد صرح بذلك العراقي في ألفيته:
محمد سطر ورسول سطر ... والله سطر ليس فيه كبر
«محمد» منقوش أسفل السطر، و «رسول» في الوسط، و «الله» فوق السطرين قاله الأسنوي.
قال الحافظ البرهان الحلبي: الذي يظهر أن كتابة هذه الأسطر الثلاثة كانت مقلوبة حتى إذا ختم بها، ختم على استواء كما في خواتم الحكام اليوم والكبار والتجار والله أعلم، ولو كانت غير مقلوبة بل مستوية لختمت مقلوباً، ويتفق أنهم أعاجم والكتابة إليهم مقلوبة في الختم فيعسر عليهم ذلك جداً والله أعلم.
وقال: ولم أر أحداً ذكر هذه.
فائدة: قال بعض العلماء: لا يجوز للإنسان أن ينقش على خاتمه «محمد رسول الله» للنهي عن ذلك لما فيه من خوف حصول المفسدة والخلل، قال: وهذا من خصائصه.
فائدة أخرى: الخاتم الذي نقش عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «محمد رسول الله» وكان يختم به الكتب انتقل بعد وفاته إلى سيدنا أبي بكر، فكان في يده إلى أن مات، ثم انتقل إلى عمر بن الخطاب فكان في يده إلى أن مات، ثم انتقل إلى سيدنا عثمان بن عفان فكان في يده حتى وقع في بئر أريس (1) .
فائدة أخرى: قال البرهان الحلبي وغيره: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - من الخواتم خمسة:
الأول: خاتم من ذهب اتخذه قبل النهي عن خاتم الذهب للرجل، فتبعه الناس في لبسه فلما رآهم اتبعوه فرماه وحرمه على الذكور، لما فيه من الفتنة وزيادة المؤنة.
الثاني: خاتم من فضة فصه منه.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2202، رقم 5528) ، ومسلم في صحيحه (3/1656، رقم 2091) ، وأبو داود في سننه (4/88، رقم 4218) عن ابن عمر.
وأخرجه أبو داود في سننه (4/88، رقم 4215) عن أنس.
(2/111)
الثالث: خاتم من فضة فصه من جزع.
الرابع: خاتم من فضة فصه من عقيق، فإنه ورد في صحيح مسلم (1) أنه كان بفص حبشي، واختلف في المراد بالحبشي في الحديث فقيل: كان من جذع، وقيل: كان من عقيق.
الخامس: من حديد ملوي عليه فضة.
قال العلماء: خاتم الذهب حرام على الرجال حلال على النساء، وكما يحرم خاتم الذهب على الرجال يحرم اتخاذ سنه من ذهب، وهو الشعب الذي يستمسك بها الفص، دون النساء.
وأما خاتم الحديد والنحاس والرصاص فالأصح كما قاله النووي أنه لا يكره لبسها، وأما لبس خاتم العقيق فإنه جائز، وكذا الياقوت للرجال والنساء، بل قيل: إن العقيق يذهب الغم، والياقوت ينفي الفقر.
قال ابن العماد في شرح سيرته: وقد روي ابن غانم في كتابه الفائق في اللفظ الرائق: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «تختموا بالعقيق فإنه مبارك، تختموا بخواتم العقيق فإنه لا يصيب أحدكم غم ما دام ذلك عليه، تختموا بالياقوت فإنه ينفي الفقر» (2) .
قال الدميري: روى ابن عدي في ترجمة أحمد بن عبد الله بن حكيم أبو عبد الرحمن الفرياناني المروزي (3) عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اتخذ خاتماً فصه من ياقوت نفي عنه الفقر» (4) .
وقال ابن الأثير: يريد أنه إذا ذهب ماله باع خاتمه فوجد به غنى، قال: والأشبه إن صح الحديث أن يكون لخاصية فيه، كما أن النار لا تؤثر فيه ولا تغيره، وأن من تختم به أمن من الطاعون، وتيسرت له أمور المعاش، ويقوي قلبه، وتهابه الناس، ويسهل عليه
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1658، رقم 2094) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه في سننه (2/1202، رقم 3646) عن أنس.
(2) أخرجه العقيلي في الضعفاء (4/448، ترجمة 2076 يعقوب بن الوليد المديني) ، والخطيب (11/251) ، وابن عساكر في تاريخ دمشق (13/318) عن عائشة.
(3) وقع في الأصل: روى ابن عدي في ترجمة أحمد بن حنبل عن أنس ثم ذكر الحديث، ولعل الصواب ما أثبتناه من الكامل لابن عدي.
(4) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/172، ترجمة 9 أحمد بن عبد الله بن حكيم أبو عبد الرحمن الفرياناني المروزي) وقال ابن عدي: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد.
(2/112)
قضاء الحوائج.
قيل: إن الحجر الأسود أصله من ياقوت الجنة، ففي الكامل لابن عدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحجر الأسود من ياقوت الجنة، فمسحه المشركون فأسود من مسحهم» (1) .
وفي كتاب الخصائص لأبي الربيع سليمان بن سبع السبتي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى علياً فصاً من ياقوت، وأمره أن ينقش عليه لا إله إلا الله ففعل، وأتى به للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألم آمرك أن تنقش عليه لا إله إلا الله فلم زدت محمد رسول الله؟» فقال: والذي بعثك بالحق ما فعلت إلا ما أمرتني به، فهبط جبريل - عليه السلام - وقال: «إن الله يقول لك: أنت أحببتنا فكتبت، ونحن أحببناك فكتبنا اسمك» .
وإنما نقش - صلى الله عليه وسلم - على خاتمه اسم «محمد» دون «أحمد» وغيره من باقي أسمائه لأنه أشهر أسمائه - صلى الله عليه وسلم -.
فائدة: للنبي - صلى الله عليه وسلم - أسامي كثيرة نقل ابن العربي في شرح الترمذي عن بعض الصوفية أنه قال: إن لله تعالى ألف اسم ولرسوله ألف اسم، ولكن أشهرها «محمد» فلهذا نقشه على خاتمه دون باقي أسمائه لأنه أشهر.
وقد تكرر هذا الاسم في القرآن في مواضع قال تعالى: ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ? [الأحزاب: 40] .
وقال: ?مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? [الفتح: 29] .
وقال: ?وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ? [آل عمران: 144] .
وكان عمه أبو طالب يقول:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله من نور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال المؤذن في الخمس أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
قال البخاري في تاريخه الصغير: و «محمد» علم منقول من صفة الحمد، وهو بمعنى محمود، وفيه معنى المبالغة، سمي - صلى الله عليه وسلم - «محمداً» لأنه محمود عند الله وعند ملائكته، ومحمود عند إخوانه من المرسلين، ومحمود عند أهل الأرض كلهم وإن كفر به بعضهم،
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (3/387 ترجمة 814 سعيد بن ميسرة البكري) عن أنس.
(2/113)
فإن ما فيه من صفات الكمال محمودة عند كل عاقل، وكان كفار قريش يقلبون اسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجعلون مكان محمداً مذمماً.
فقد جاء في هذا الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً، وأنا محمد» (1) .
وكانت العوراء زوجة أبي لهب تقول: مذمماً قلينا، ودينه أبينا، وأمره عصينا.
وسماه «محمداً» جده عبد المطلب فقد نقل بعض العلماء: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ولدته أمه قيل لجده عبد المطلب: ما سميت ولدك؟ قال: محمد. فقيل له: كيف سميته باسم ليس لأحد من أبائك وقومك؟ قال: لأني أرجو أن يحمده أهل الأرض كلهم (2) .
وسبب تسميته بمحمد أنه رأي في المنام كان سلسلة من فضة خرجت من ظهره لها طرف في السماء، وطرف في المشرق، وطرف في المغرب، ثم عادت كأنها شجرة، على كل ورقة منها نور، وإذا أهل المشرق والمغرب كأنهم يتعلقون، فقصها عبد المطلب على المعبرين فعبروها له بمولود يتبعه أهل المشرق والمغرب، ويحمده أهل السماوات والأرض فلذلك سماه محمداً (3) .
وقالت أمة لجده عبد المطلب لما حملت به - صلى الله عليه وسلم -: سمعت قائلاً يقول: «إنك قد حملت سيد هذه الأمة، فإذا وضعتيه فسميه محمداً، فسماه محمداً (4) .
فائدة أخرى: قال القاضي عياض حمى الله هذين الإسمين يعني «محمد وأحمد» من أن يتسمى بهما أحد قبل زمانه.
أما اسمه «أحمد» الذي ذكره الله في كتابه، وبشر به عيسى بن مريم، فمنع الله بحكمته أن يسمى به أحد غيره، ولا يدعى به مدعواً قبله، حتى لا يدخل اللبس ولا الشك فيه على ضعيف القلب.
وأما اسمه «محمد» فلم يتسم به أحد من العرب ولا غيرهم إلا حين شاع قبيل
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1299، رقم 3340) ، والنسائي في سننه (6/159، رقم 3438) ، والحميدي في مسنده (2/481 رقم 1136) ، وأحمد في مسنده (2/369، رقم 8811) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/252، رقم 16920) .
(2) انظر: الروض الأنف (1/280) .
(3) انظر: الروض الأنف (1/280) .
(4) انظر: الروض الأنف (1/280) .
(2/114)
مولده أن نبيناً يبعث اسمه محمد، فسمى قوم قليل من العرب أسماء أبناءهم بذلك رجاء أن يكون أحدهم هو، والله أعلم حيث يضع رسالته.
وعدد من سمي من العرب محمداً قرب ولادته - صلى الله عليه وسلم - قال السهيلي: ثلاثة، وقال القاضي عياض: ستة، وأوصلهم شيخ الإسلام ابن حجر إلى خمسة عشر.
فائدة أخرى: ذكر حسين بن محمد الدمغاني في كتاب «سوق العروس وأنس النفوس» نقلاً عن كعب الأحبار أنه قال: اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أهل الجنة عبد الكريم، وعند أهل النار عبد الحميد، وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهار، وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق، وفي البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغياث، وعند الوحوش عبد الرزاق، وعند السباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وفي التوراة مؤذ مؤذ، وفي الإنجيل طاب طاب، وفي الصحف عاقب، وفي الزبور فاروق، وعند الله طه وياسين، وعند المؤمنين محمد.
وقد رتب بعض العلماء أسماؤه الشريفة على حروف المعجم فذكر مما جاء أوله الهمزة: «أحمد، الأبضحي، أتقى الناس، أجود الناس، أحسن الناس، الأزهر النير المشرق الوجه، الأخشى، أرجح الناس عقلاً، أرحم الناس بالعيال، أشجع الناس، أطيب الناس ريحاً، الأعلم بالله، أكثر الناس تبعاً، أكرم الناس، أكرم ولد آدم، إمام الخير، إمام الرسل، إمام المتقين، إمام النبيين، الأمي، الأمين، أول شافع، أول المسلمين، أول مشفع، الأول، الآخر» .
ومما جاء في أوله الباء: «البر، البشير، البصير، البليغ، البرهان، بشرى عيسى» .
ومما جاء في أوله التاء: «التقي، التالي، التهامي، التذكرة» .
ومما جاء في أوله الثاء: «ثاني اثنين» .
ومما جاء في أوله الجيم: «الجواد، الجامع» .
ومما جاء في أوله الحاء: «الحافظ، الحاشر، الحاكم بما أمر الله به، الحامد، حامل لواء الحمد، الحبيب، حبيب الرحمن، حبيب الله، الحجازي، الحجة البالغة، حجة الله على الخلائق، الحرمي، الحريص على الإيمان، الحفيظ، الحق، الحكيم، الحليم، الحمد» .
ومما جاء على الخاء: «الخبير، خاتم النبيين، خاتم المرسلين، الخاشع، الخاضع، الخالص، خطيب الأنبياء، خطيب الأمم، الخليل، خليل الرحمن، خير الأنبياء، خير البرية، خير خلق الله، خير العالمين طراً، خير الناس، خير هذه الأمة، خيرة الله» .
(2/115)
ومما أوله الدال: «الداعي إلى الله، دعوة إبراهيم، دعوة النبيين، دليل الخيرات، دار الحكمة» .
ومما أوله الذال: «الذاكر، ذكر الله، ذو الحوض المورود، ذو الخلق العظيم، ذو القوة، ذو المعجزات، ذو المقام المحمود، ذو الوسيلة» .
ومما أوله الراء: «الراضي، الراغب، راكب البراق، راكب البعير، الرحمة، رحمة الأمة، رحمة العالمين، الرحيم، الرسول، رسول الرحمة، رسول الله، رفيع الدرجات، روح القدس، ركن المتواضعين» .
ومما أوله الزاي: «الزاهد، الزكي، زين من وافي القيمة» .
ومما في أوله السين: «السابق بالخيرات، الساجد، السراج المنير، السعيد، سعد الخلائق، السلام، السيد، سيد ولد آدم، سيد المرسلين، سيد الناس، سيد الكونين، سيد الثقلين، سيف الله المسلول» .
ومما أوله الشين: «الشارع، الشافع، الشاكر، الشاهد، الشكور، الشمس، الشهيد» .
ومما أوله الصاد: «الصابر، صاحب الآيات، صاحب المعجزات، صاحب البرهان، صاحب التاج، صاحب الحوض المورود، صاحب الخير، صاحب الدرجة العالية الرفيعة، صاحب الأزواج الطاهرات، صاحب السجود للرب المعبود، صاحب العلو والدرجات، صاحب قول لا إله إلا الله، صاحب المغفرة، الصادق، الصبور، صراط الذين أنعمت عليهم، الصفوح عن الزلات» .
ومما أوله الضاد: «الضارب بالحسام المثلوم، الضاحك، الضحوك» .
ومما أوله الطاء: «الطاهر، الطيب، طه، الطبيب» .
ومما أوله الظاء: «الظاهر، الظفور، الظافر» .
ومما أوله العين: «العابد، العادل، العاقب، العالم، العاقل، علم الإيمان، العالم بالحق، العالم، عبد الله، عبد الحق، عبد الكريم، العدل، العربي، العروة الوثقي، العفو، عين العز، عبد الجبار، عبد الخالق، عبد المهيمن، عبد القدوس، عبد المؤمن، عبد الغفار، عبد الوهاب» .
ومما أوله الغين: «الغالب، الغني، الغفور، الغوث، الغياث» .
ومما أوله الفاء: «الفاتح، الفاروق، الفرط، الفصيح، فضل الله» .
ومما أوله القاف: «قائد الخير، قائد الغر المحجلين، قدم صدق، القرشي، القربي،
(2/116)
القمر، القثم ومعناه: الجامع الكامل وهو بالثاء المثلثة» .
ومما أوله الكاف: «الكامل في جميع أموره، الكريم» .
ومما أوله اللام: «اللسان» .
ومما أوله الميم: «محمد، الماجد، المزمل، الماحي، المبارك، المبشر، المبعوث بالحق، المبلغ، المبتسم، المتضرع، المجتهد، المجتبى، المحمود، المختار، المخصوص بالشرف، المخصوص بالعزة، المخلص، المدثر، مدينة العلم، المرتضى، المرسل، المرتجى، المصباح، المصطفي، المطاع، المعصوم، المفضل، مفتاح الجنة، مقيل العثرات، مقيم السنة، المكرم، المكي، المنذر، المنصور، المهاجر، المنير، المؤيد، المولى» .
ومما أوله النون: «الناشر، الناصح، الناصر، الناطق، الناهي، نبي الأحمر، نبي الأسود، نبي التوبة، نبي الحرمين، نبي الرحمة، النبي الصالح، نبي الله، نبي المرحمة، نبي الملحمة، النجم الثاقب، النذير، ناصح الأمة، نعمة الله، النور، نور الأمم أي: الهادي لها، نور الله الذي لا يطفئ» .
ومما أوله الهاء: «الهادي، هداية الله، الهاشمي» .
ومما أوله الواو: «الواصل، الواعد، الواعظ، الورع، الوسيلة، الوفي، الوافي، المولي، ولي الفضل» .
ومما أوله الياء: «اليثربي، ياسين» .
هذه بعض أسمائه المرتبة، وكنيته المشهورة: أبو القاسم، كنى بذلك لأنه يقسم الجنة بين أهلها ويكني أيضاً بأبي إبراهيم وبأبي الأرامل، وبأبي المؤمنين.
ولاسمه محمد - صلى الله عليه وسلم - خصائص منها: كونه على أربعة أحرف، والحكمة في جعله كذلك ليوافق اسم الله تعالى فإن عدد لفظ الجلالة أربعة أحرف كمحمد.
ومنها: أنه تعالى اشتقه من اسمه المحمود كما قال حسان بن ثابت:
أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله محمود وهذا محمد
ومنها: أن صورة الآدمي تشبه هذا الاسم إذا كتب، فالميم الأولى رأسه، والحاء جناحاه أي: يداه، والميم الثانية سرته، والدال رجلاه، وهذا مما أكرم به الآدمي، قيل: وإذا استحق العذاب ودخول النار أعاذنا الله منها فلا يدخلها إلا ممسوح الصورة إكراما لصورة اللفظ، قال ذلك بعض العلماء.
وقد سماه الله بهذا الاسم قبل الخلق بألفي عام كما ورد من حديث أنس بن مالك من طريق أبي نعيم في مناجاة موسى.
(2/117)
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: «إن الله أنزل على آدم - عليه السلام - عصياً بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني أنت خليفتي من بعدي فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين، كما أني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين، وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب، وبين أعين الملائكة، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها» (1) .
وإلى ذلك اشار من قال:
بدا مجده من قبل نشأة آدم ... فاسماؤه في العرش من قبل تكتب
ووجد على حجر بالخط العبراني: «باسمك اللهم جاء الحق من ربك بلسان عربي مبين لا إله إلا الله محمد رسول الله (كتبه موسي بن عمران) » .
وذكر في الشفا: أنه شوهد في بعض بلاد خراسان مولود وعلى أحد جنبيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وببلاد الهند ورد أحمر مكتوب عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وذكر في تاريخ ابن النديم عن علي بن عبد الله الهاشمي الرقي: أنه وجد ببعض قرى الهند وردة كبيرة طيبة الرائحة، سوداء مكتوب عليها بخط أبيض: «لا إله إلا الله محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق» قال: فشككت في ذلك وقلت: إنه معمول، فعمدت إلى وردة لم تفتح فكان فيها مثل ذلك، وأهل تلك القرية يعبدون الأحجار لا يعرفون الله تعالى.
ونقل اليافعي عن بعضهم أنه وجد ببعض بلاد الهند شجرة تحمل ثمراً كاللوز له قشرات، إذا كسر خرج منه ورقة خضراء مكتوب فيها بالحمرة لا إله إلا الله محمد رسول الله، كتابة جلية وهم يتكبرون بها.
واصطاد بعضهم سمكة فوجد على جنبها الأيمن مكتوب لا إله إلا الله، وعلى جنبها الأيسر محمد رسول الله، فقذفها في الماء احتراماً لها.
_________
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/281) .
(2/118)
ونقل في كتاب النطق المفهوم عن بعضهم: أنه رأى في جزيرة شجرة عظيمة لها ورق كبير طيب الرائحة، مكتوب فيه بالحمرة والبياض في الخضرة كتابة بينة واضحة خلقة ابتدعتها الله بقدرته، في الورقة ثلاثة أسطر الأول: لا إله إلا الله، والثاني: محمد رسول الله، والثالث: إن الدين عند الله الإسلام.
وقد خصه الله تعالى بأن سماه من أسمائه الحسني بنحو من ثلاثين اسماً.
لطيفة: نقل الإخباريون عن وهب بن منبه أن رجلاً عصى الله مائتي سنة، يتمرد ويجترئ عليه فيها كلها، فلما مات أخذ بنو إسرائيل برجله وألقوة على مزبله، فأوحى الله إلى موسى عليه الصلاة والسلام أن غسله وكفنه وصلي عليه في جمع بني إسرائيل، ففعل ما أمره الله تعالى به، فتعجب بنو إسرائيل من ذلك، فأخبروه أنه لم يكن في بني إسرائيل أعتى منه، ولا أكثر معاصي منه، فقال: قد علمت ولكن الله أمرنى بذلك، فقالوا: سل ربك فسأل موسى ربه - عز وجل - فقال: يارب قد علمت ما قالوا فأوحى الله إليه أن صدقوا ما قالوا، إنه عصاني مائتي سنه، إلا أن يوماً من الأيام فتح التوراة فنظر إلى اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - مكتوباً فقبله ووضعه بين عينيه، فشكرت له ذلك فغفرت له ذنوب مائتي سنة، وزوجته سبعين حوراء.
لطيفة أخرى: نقل بعض العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نظر يهودي بالشام في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة فوجد اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربعة مواضع فكشطه، ثم نظر في اليوم الثاني فوجده في ثمانية مواضع فكشطها، ثم نظر في اليوم الثالث فوجده في اثنى عشر موضعاً، فسار إلى المدينة فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - قد مات، فقال لعلي - رضي الله عنه -: أرني ثوب محمد، فأخرجه له فشمه وقام عند القبر الشريف وأسلم، وقال: اللهم أن كنت قبلت إسلامي فاقبض روحي سريعاً فوقع ميتاً فغسله علي - رضي الله عنه - ودفنه في البقيع رحمه الله.
وقوله في الحديث: «فاتخذ خاتماً» يجوز في خاتم فتح التاء وكسرها، وقد ذكر العلماء في الخاتم ست لغات الأولى: خاتم بفتح التاء، الثانية: خاتم بكسرها، الثالثة: خاتام، الرابعة: خيتام، الخامسة: ختام، السادسة: ختم.
فائدة: لما ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ختم بخاتم النبوة، واختلفت الروايات في صفته ومحله.
ففي صحيح البخاري: «أنه ختم النبوة بين كتفيه فكان ينم مسكاً مثل زر
(2/119)
الحجلة» (1) .
وفي الحلية لأبي نعيم: «كان عند كتفيه» (2) .
وفي صحيح مسلم: «أن الخاتم كان كبيضة الحمامة» (3) .
وفي مستدرك الحاكم: «شعر مجتمع» (4) .
وفي تاريخ ابن أبي خيثمة: «شامة خضراء مختمرة في اللحم» .
وفي كتاب الترمذي الحكيم: «كبيضة حمامة مكتوب في باطنها: الله وحده لا شريك له، وفي ظاهرها توجه حيث شئت فإنك منصور» .
وفي تاريخ نيسابور: «مثل البندقة من لحم مكتوب فيه باللحم محمد رسول الله» (5) .
قال السهيلي: والحكمة في ختمه بخاتم النبوة أنه لما ملئ قلبه حكمة ويقيناً، ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكاً أو زراً.
قال: وأما حكمة وضعه بين كتفيه فلأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس الشيطان لابن آدم.
سئل الحافظ برهان الدين الحلبي عن خاتم النبوة هل هو من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أن كل نبي مختوم بخاتم النبوة؟ فأجاب بما نصه: لا أستحضر في ذلك شيئاً، لكن الذي يظهر لي أنه من خواصه، لأنه ختم به لمعان:
أحدها: لأنه إشارة إلى أنه خاتم النبيين، وليس في ذلك لغيره.
والثاني: لأن باب النبوة قد ختم به فلا يفتح بعده، وقد رفع هذا الخاتم من بين كتفيه عند موته، فإن عائشه وقيل: أسماء بنت عميس وضعت يدها على خاتم النبوة في
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1301، رقم 3348) ، ومسلم في صحيحه (4/1823، رقم 2345) والترمذي في سننه (5/602، رقم 3643) ، والنسائي في السنن الكبرى (4/361، رقم 7518) .
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/191) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1823، رقم 2344) عن جابر بن سمرة.
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/663، رقم 4198) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه (14/209، رقم 6300) عن أبي زيد.
(5) أخرجه ابن حبان في صحيحه (14/210، رقم 6302) عن ابن عمر.
(2/120)
مرضه الذي مات فيه فلمسته فرأته قد رفع، فعرفت بذلك موته - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ومن أسمائه «الفاتح الخاتم» فقد ورد في حديث الإسراء عن أبي هريرة من طريق الربيع بن أنس: «أن الله تعالى قال: وجعلتك فاتحاً وخاتماً» (2) .
سمي بذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - فتح الله به باب الهدي بعد أن كان مرتجاً، وفتح به أعيناًٍ عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وفتح به أمصار الكفر، وفتح به أبواب الجنة، وفتح به طرق العلم النافع، والعمل الصالح، والدنيا والآخرة، والقلوب، والأسماع، والأبصار، والأمصار.
وقيل: سمي بذلك لأنه المبدأ المقدم في الدنيا والآخرة والخاتم له كما قال عليه الصلاة والسلام: «كنت أول النبيين في الخلق، وآخرهم في البعث» (3) .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، وزاده في الدارين تشريفاً وتعظيماً.
لطيفة أخرى: قال بعض المفسرين: كان ملك سليمان صلوات الله وسلامه عليه وعزه في خاتمه، ولهذا لما ابتلاه الله بسبب الملك سلب خاتمة فسلب ملكه، قال: فقد ذكر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ? [ص: 34] أن سليمان - عليه السلام - كان رجلاً غزاء يغزو في البحر والبر، فسمع بملك في جزيرة من جزائر البحر، فركب سليمان الريح هو وجنود من الجن والإنس حتى نزل تلك الجزيرة، فقتل ملكها وسبى من فيها، فوجد فيها جارية لم ير مثلها حسناً وجمالاً، وكانت ابنه الملك، فاصطفاها لنفسه، وكان يحبها أكثر من نسائه، وكان يؤثرها عليهم، فدخل عليها يوماً فقالت: إني أذكر أبي وملكه وما أصابه فيحزنني ذلك، فإني رأيت أن تأمر بعض الشياطين أن يصور لي صورة أبي في داري فأراه بكرة وعشياً، فيزول عني ما أجده، ويذهب عني حزني، فأمر سليمان «صخر» المارد فمثل لها أباها في هيئته من ناحية دارها لا ينكر منه شيء إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه فزينته وألبسته حتى تركته في هيئة أبيها ولباسه، وكانت إذا خرج سليمان من عندها تدخل عليه هي وجوارهَا وتطيبه وتسجد له، وتأمر الجوار بالسجود له ثم
_________
(1) أورده ابن كثير في البداية والنهاية (5/244) ، والسيوطي في الخصائص الكبرى (2/480) عن أسماء بنت عميس.
(2) أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (1/72) : رجاله موثقون إلا أن الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره فتابعيه مجهول.
(3) أخرجه الديلمي في الفردوس (3/282، رقم 4850) عن أبي هريرة.
(2/121)
تلثمه وترجع، وسليمان لا علم له بذلك، فاستمرت على هذا أربعين يوماً، حتى سمع الناس، فبلغ ذلك آصف بن برخيا وكان من المقربين عند سليمان والعلماء العارفين، فدخل عليه وقال: يا نبي الله قد أحببت أن تجمع الناس حتى أذكرهم بمن مضى من الأنبياء، وأثني عليهم بعلمي فيهم، فجمع سليمان الناس فقام آصف وذكر من مضى من الأنبياء وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر بما فضلهم الله به حتى وصل إلى سليمان، فذكر فضله وما أعطاه الله تعالى على صغر سنه، وسكت ولم يذكر باقى فضائله التي أعطيها في حال الكبر، فامتلأ سليمان غيظاً، فقام ودخل إلى منزله وأرسل خلف آصف بن برخيا فجاءه فقال: يا آصف ذكرت أنبياء الله فأثنت عليهم
بما كانوا في زمانهم كله، ولما ذكرتني ذكرت خبري في حال الصغر وسكت عن حال الكبر، فما الذي أحدثت في كبري؟ فقال له آصف: أحدثت أن غير الله يعبد في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتذكر سليمان تلك الصورة التي صورها صخراً لزوجته، فقام ودخل داره وكسر تلك الصورة التي هي على هيئة الصنم، وعاقب تلك المرأة ثم دعا بثياب الطهر فلبسها، وخرج إلى فلاة من الأرض ففرش له الرماد وجلس عليه، وجعل يتململ عليه متذللاً متضرعا يبكي، ويستغفر الله تعالى ويقول: يارب هذا جزاؤك من آل داود، أن يعبدوا غيرك وأن يقروا في دارهم عبادة غيرك، فلم يزل كذلك حتى أمسى ثم رجع، وكانت له جارية اسمها الأمينة، وكان إذا دخل الخلاء أو أراد جماع امرأة من نسائه وضع خاتمة عندها، وكان لا يلبسه إلا وهو طاهر، وكان الله جعل ملكه في ذلك الخاتم، فأراد يوماً أن يتوضأ فدفع الخاتم إلى الجارية، فجاء «صخر» المارد وسبق سليمان ودخل المكان الذي يتوضأ فيه سليمان، ولم يعلم به سليمان، فدخل سليمان ذلك المكان ليتوضأ فخرج الشيطان من ذلك المكان بصورة سليمان، ينفض لحيته من الوضوء كأنه سليمان لا ينكر منه شيء، فقال للجارية: هاتي خاتمي يا أمينة فناولته إياه، لا تحسب إلا أنه سليمان، فجعله في يده وجلس على سرير سليمان، فعكفت الطير عليه والجن والإنس، وخرج سليمان في غير هيئته وجاء إلى أمينة فطلب منها الخاتم فقالت: من أنت؟ قال: أنا سليمان وقد تغير حاله وذهب بهاؤه، قالت: كذبت إن سليمان قد أخذ الخاتم وهو جالس على سريره في ملكه، فذهب فرآه جالساً على كرسيه فقال للناس: أنا سليمان فأنكروه، فعلم أن ما حصل له بسبب تلك الصورة التي عبدت في بيته من دون الله، وأن الله عاقبه وامتحنه بسببها، فخرج هارباً خائفاً على نفسه، هائماً على وجهه، حافياً مكشوف الرأس في قميص وإزار، وكان صلوات الله عليه وسلامه يقوم على باب الرجل والمرأة ويقول: أطعموني فإني
(2/122)
سليمان فيطردونه
ويقولون: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان، وسليمان جالس على كرسيه، فمر في طريقه بباب في شارع وقد أجهده الجوع والعطش والحر، فطرق ذلك الباب فخرجت له امرأة فقالت: ما حاجتك؟ فقال قد أحترقت رجلاي من شدة الحر، وأجهدني الجوع والعطش، وأريد ضيافة ساعة لأستريح، فقالت: زوجي غائب ولا يسعني أن أدخل رجلاً غريباً علي، ولكن هذا البستان لنا فادخل إليه فإن فيه ثماراً وماء فكل من ثماره وتبرد من مائه، فإذا جاء زوجي أضفناك فدخل البستان فاغتسل ووضع رأسه ونام، فآذاه الذباب، فجاءت حية سوداء فأخذت ريحانه من البستان بفيها، ثم جاءت إلى سليمان فجعلت تذب عنه الذباب، حتى جاء زوج المرأة فقصت عليه القصة، فدخل على سليمان وهو نائم، فرأى الحية تنش عنه، فدعا امرأته وقال لها: انظري إلى العجب، ثم مشيا إليه فأيقظاه وكان لهما بنت من أجمل نساء زمانهما فقال له الرجل: هذه ابنتي قد زوجتكها، فتزوجها وأقام عندهم ثلاثاً، ثم قال: لابد لي من طلب المعيشة والكسب والحرفة، لأنفق علي وعلى أهلي، فخرج من عندهم حتى وصل إلى جماعة صيادين فقال لهم: أنا أعينكم فيما أنتم فيه، واجعلوا إلى سهماً من صيدكم، وكل أحد يرزقه الله فقالوا: لا حاجة لنا فيك، فمضى إلى جماعة آخرين صيادين وعرض نفسه عليهم فقبلوه وقالوا: لك العز والكرامة فأقام معهم، وفي آخر النهار يأخذ ما حصل له من الصيد وينصرف إلى أهله، واستمر سليمان مفارقاً لملكه أربعين يوماً، فلما فرغت الأربعون وتسلط ذلك الشيطان على جميع ما يملكه سليمان إلا على نسائه حفظهم الله لسليمان، وصار يقع من ذلك الشيطان أفعال تخالف أفعال سليمان وحكمه، فأنكرت الناس عليه هذه الأفعال، وقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هذه الأفعال هي أفعال سليمان وأحكامه؟ فقالوا: لا، فلما رأي الخبيث أن الناس قد علموا بأحواله انطلق بالخاتم فألقاه في البحر، فاستقبله حوت فابتلعه فأضاء جوف ذلك الحوت من نور الخاتم، ثم ساقه الله
تعالى إلى أن وقع في شباك الصيادين الذين كان سليمان معهم، فلما أمسوا قسموا السمك فطلع ذلك الحوت من قسم سليمان، فذهب به إلى أهله، فأمرهم أن يصنعوه فلما شقوا بطنه أضاء البيت نوراً من خاتمه، فدعت المرأة سليمان فأرته الخاتم، فتختم به وخر ساجداً لله وقال: إلهي لك الحمد على قديم بلائك، وحسن صنيعك إلى آل داود، إلهي أنت ابتداتهم بالنعم وأورثتهم الكتاب والحكم والنبوة فلك الحمد، إلهي تجود بالكثير وتلطف بالصغير، فلك الحمد على نعمائك، إذا ظهرت فلا تخفى، وإذا بطنت فلا تحصى فلك الحمد، إلهي فأتم نعمتك علي، واغفر لي ما سلف، وهب لي ملكاً لا ينبغي
(2/123)
لأحد من بعدي أي: لا ينبغي لأحد سواي، «فمن بعدي» هنا بمعنى سواي كقوله تعالى في الآية ?فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ? [الجاثية: 23] أي: سوى الله.
وهذا الذي ذكرناه هو معنى قوله تعالى ?وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ? أي: ابتليناه بسلب ملكه أربعين يوماً ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? الجسد هو ذلك الجني المسمي بصخر المارد أو غيره ?ثُمَّ أَنَابَ? [ص: 34] ثم رجع إلى ملكه بعد فراغ تلك المدة، ووصل إلى الخاتم فلبسه، ولما وصل إلى الملك أمر بحمل أهل ذلك البيت الذي تزوج منهم، فوضعهم في وسط بيته، قيل: ولم يكن قارب تلك المرأة حتى رد الله تعالى عليه ملكه (1) .
_________
(1) هذا الخبر ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص 179) من قول محمد بن إسحاق، والنكارة لائحة عليه، ولم يذكره من المفسرين سوى الثعلبي، فقد ذكر المفسرون أسباباً أخرى لفقد الخاتم غير هذا السبب الوارد هاهنا.
قال السيوطي في الدر المنثور (7/181) : أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد - رضي الله عنه - في قوله ?وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ? قال: شيطاناً يقال له: آصف فقال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فساح سليمان - عليه السلام - وذهب ملكه، وقعد آصف على كرسيه، ومنعه الله تعالى نساء سليمان - عليه السلام - فلم يقربهن ولا يقربنه وأنكرنه، وأنكر الناس أمر سليمان - عليه السلام -، وكان سليمان - عليه السلام - يستطعم فيقول: أتعرفوني أنا سليمان فيكذبوه، حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً ينظف لها بطنه فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، وفر الشيطان فدخل البحر فاراً.
رواه مجاهد في التفسير (2/550) ، وكذا الطبري في التفسير (23/157) من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ... به.
وقد أجمل ابن الجوزي في زاد المسير القول في هذه القصة وليس في كلامه ما في هذا الخبر لا من قريب ولا بعيد.
فقد قال ابن الجوزي (7/135) : اختلف العلماء في كيفية ذهاب خاتم سليمان على قولين:
أحدهما: أنه كان جالساً على شاطئ البحر فوقع منه في البحر قاله علي - رضي الله عنه -.
والثاني: أن شيطاناً أخذه.
وفي كيفية ذلك أربعة أقوال:
أحدها: أنه دخل ذات يوم الحمام ووضع الخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، وجعل الشيطان يقول: أنا نبي الله قاله سعيد ابن المسيب.
والثاني: أن سليمان قال للشيطان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فأعطاه إياه فنبذه في البحر فذهب ملك سليمان، وقعد الشيطان على كرسيه قاله مجاهد.
والثالث: أنه دخل الحمام ووضع خاتمه عند أوثق نسائه في نفسه، فأتاها الشيطان فتمثل لها في صورة سليمان، وأخذ الخاتم منها، فلما خرج سليمان طلبه منها فقالت: قد دفعته إليك فهرب سليمان، وجاء الشيطان فجلس على ملكه قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أنه دخل الحمام وأعطى الشيطان خاتمه، فألقاه الشيطان في البحر، فذهب ملك سليمان، وألقي على الشيطان شبهه قاله قتادة.
وأما قصة الشيطان فذكر أكثر المفسرين: أنه لما أخذ الخاتم رمى به في البحر وألقي عليه شبه سليمان فجلس على كرسيه وتحكم في سلطانه.
وقال السدي: لم يلقه في البحر حتى فر من مكان سليمان.
وهل كان يأتي نساء سليمان فيه قولان:
أحدهما: أنه لم يقدر عليهن قاله الحسن وقتادة.
والثاني: أنه كان يأتيهن في زمن الحيض فأنكرنه قاله سعيد ابن المسيب، والأول أصح.
قالوا: وكان يقضي بقضايا فاسدة ويحكم بما لا يجوز، فأنكره بنو إسرائيل فقال بعضهم لبعض: إما أن تكونوا قد هلكتم أنتم، وإما أن يكون ملككم قد هلك، فاذهبوا إلى نسائه فاسألوهن، فذهبوا فقلن: إنا والله قد أنكرنا ذلك، فلم يزل على حاله إلى أن انقضى زمن البلاء.
وفي كيفية بعد الشيطان عن مكان سليمان أربعة أقوال:
أحدها: أن سليمان وجد خاتمه فتختم به، ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان قاله سعيد بن المسيب.
والثاني: أن سليمان لما رجع إلى ملكه وجاءته الريح والطير والشياطين فر الشيطان حتى دخل البحر قاله مجاهد.
والثالث: أنه لما مضى أربعون يوماً طار الشيطان من مجلسه قاله وهب.
والرابع: أن بني إسرائيل لما أنكروه أتوه فأحدقوا به، ثم نشروا التوراة فقرؤوا فطار بين أيديهم، حتى ذهب إلى البحر فوقع الخاتم منه في البحر فابتلعه حوت قاله السدي.
وفي قدر مكث الشيطان قولان:
أحدهما: أربعون يوماً قاله الأكثرون.
والثاني: أربعة عشر يوما حكاه الثعلبي.
وأما قصة سليمان - عليه السلام - فإنه لما سلب خاتمه ذهب ملكه فانطلق هارباً في الأرض.
قال مجاهد: كان يستطعم فلا يطعم، فيقول: لو عرفتموني أعطيتموني أنا سليمان، فيطردونه حتى أعطته امرأة حوتا فوجد خاتمه في بطن الحوت.
وقال سعيد بن جبير: انطلق سليمان حتى أتى ساحل البحر فوجد صيادين قد صادوا سمكاً كثيراً، وقد أنتن عليهم بعضه فأتاهم يستطعم فقالوا: اذهب إلى تلك الحيتان فخذ منها فقال: لا أطعموني من هذا فأبوا عليه، فقال: أطعموني فإني سليمان، فوثب إليه رجل منهم فضربه بالعصا غضباً لسليمان، فأتى تلك الحيتان فأخذ منها شيئاً فشق بطن حوت فإذا هو بالخاتم.
وقال الحسن: ذكر لي: أنه لم يؤوه أحد من الناس، ولم يعرف أربعين ليلة، وكان يأوي إلى امرأة مسكينة، فبينا هو يوماً على شط نهر وجد سمكة فأتى بها المراة فشقتها فإذا بالخاتم.
وقال الضحاك: اشترى سمكة من امرأة فشق بطنها فوجد خاتمه.
ومن هذا الإجمال من ابن الجوزي رأينا أنه لم يذكر أن سبب فقد الخاتم ما أورده المصنف هاهنا، وبان لك أن ذلك بلاء من الله عز وجل لتأهيل سليمان - صلى الله عليه وسلم - لقيادة قومه، والله - عز وجل - يصطفي من عباده الأنبياء، ويضع فيهم أسباب تأهيلهم وتربيتهم على ما سيسسون به الأمم بعد ذلك. والله أعلم وهو أجل وأحكم.
(2/124)
المجلس الثاني والثلاثون
في ذكر اخنلاف العلماء في حياة الخضر، وفي ذكر فضائله
وفي ذكر سبب حياته، وفي ذكر حياة بعض الأنبياء غيره
باب ما ذكره في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر وقوله تعالى ?هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً? [الكهف: 66]
قال العلماء: الخضر بفتح الخاء وكسر الضاد ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها.
وسبب تلقيبه بالخضر: أن جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهز من خلفه خضراء (1) والفروة: وجه الأرض. وقيل: إنبات المجتمع اليابس.
وقيل: سبب تلقيبه بذلك أنه كان إذا صلى اخضر ما حوله.
وكنيته: أبو العباس واسمه بنيا بن ملكان، وهذا هو المشهور.
وقيل: كان اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وسمي بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين، ووهاه ابن الجوزي، وقيل: عامر، وقيل: أحمد، ووهاه ابن دحية بأنه لم يسم قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أحد أحمد، وقيل غير ذلك.
واختلفوا فيه هل كان نبيناً أو ولياً أم من الملائكة؟
_________
(1) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري في صحيحه (3/1248، رقم 3221) ، واللفظ له، والترمذي في سننه (5/313، رقم 3151) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/312، رقم 8098) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» .
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/209، رقم 12914) عن ابن عباس.
(2/126)
فقيل: كان ولياً وعليه القشيري وكثير من العلماء.
وقيل: كان من الملائكة، قال المارودي: وهذا القول باطل.
وقيل: كان نبياً، قال البرماوي: وجزم به جمع واستدلوا على نبوته بقوله تعالى: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? [الكهف: 82] أي بل بوحي من الله، والوحي لا يكون إلا للأنبياء، وبأنه أعلم من موسى - صلى الله عليه وسلم - ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، فلذا ينبغي أن يعتقد كونه نبياً، لئلا يتذرع بذلك أهل الباطن في دعواهم أن الولي أفضل من النبي مع أنه لا يصل إلى درجة النبي فضلاً عن أن يكون أفضل منه حاشا وكلا.
والقائلون بنبوته اختلفوا هل هو نبي مرسل أم لا على قولين، واختلفوا أيضاً في ابن من هو؟
فقيل: هو ابن آدم لصلبه رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقيل: إنه الرابع من أولاد آدم.
وقيل: إنه من ولد عيص.
وقيل: إنه ابن فرعون موسى، وهذا القول بعيد. وقيل غير ذلك.
قال الكرماني: وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان في زمن إبراهيم الخليل أم بعده بقليل أم بكثير.
وقال في الكشاف: إنه كان في أيام افريدون قبل موسى، وبقي إلى أيام موسى (1) .
واختلف العلماء فيه أيضاً هل هو حي أم ميت؟
والذي ذهب إليه الشيخ ابن الصلاح وجمهور العلماء والصالحين إلى أنه حي.
وقال الثعلبي: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار يعني عن أبصار أكثر الناس.
وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن.
وقال النووي والأكثرون من العلماء: إنه موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر (2) .
فائدة: ذكر البغوي في تفسيره أن أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض وهما
_________
(1) انظر: الكشاف لزمخشري (3/596) .
(2) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/135) .
(2/127)
الخضر وإلياس، واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (1) .
أما سبب حياة الخضر - عليه السلام - فهو أنه شرب من عين الحياة، وسبب شربه منها أن ذا القرنين كان عبداً صالحاً ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة اسمه «رِيَافِيل» يأتي ذا القرنين ويزوره، فبينما هما يوماً يتحدثان قال ذو القرنين: يا ريافيل أخبرني كيف عبادتكم في السماء؟ فبكى وقال: يا ذا القرنين وما عبادتكم في الأرض عند عبادتنا في السماوات، من الملائكة من هو قائم أبداً، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه أبداً، ومنهم الراكع لا يستوي قائما أبداً، ومنهم الواضع وجهه لا يجلس أبداً، ومنهم من يقولون: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، ربنا ما عبدناك حق عبادتك، فقال ريافيل: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فإن لله عينا في الأرض تسمى عين الحياة، فمن شرب منها شربة لن يموت حتى يكون هو الذي يسأل الموت، فقال: يا ريافيل هل تعلمون بمحل تلك العين؟ فقال: لا غير أننا نتحدث في السماء أن لله ظلمة لم يطأها أنس ولا جن، فنحن نظن أن تلك العين في الظلمة، فجمع ذو القرنين الحكماء والعلماء وسألهم عنها، وفي أي جهة هي، فقال له عالم كبير: إنها عند قرن الشمس فسار ذو القرنين يطلب مطلع الشمس إلى أن بلغ طرف الظلمة ثنتي عشر سنة، فإذا هي ظلمة ليست بليل، تثور مثل الدخان، فسلك ذو القرنين الظلمة ومعه الخضر وكان وزيره وابن خالته، وأخفى ذو القرنين عليه أمره، فوقع الخضر بالعين في واد فإذا ماء أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل الشهد، فشرب وتوضأ اغتسل ولبس ثيابه، وصلى شكر الله تعالى - عز وجل -، وأخفى ذلك على ذى القرنين، وجاوزها ذو القرنين واستمر ذو القرنين أربعين يوماً وليلة، حتى جاوزها إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وأرض حمراء ورمل، ثم رجع ولم يقع بها.
وأما سبب حياة إلياس - عليه السلام - فما روي أنه كان قد بعث إلى بني إسرائيل فرأى منهم أذىً شديد، وإنهم لا يزدادون إلا طغياناً، فسأل ربه أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا وكذا، فما جاءك من شيء فأركبه ولا تهابه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فركب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس فما تأمرني، فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى وكان ذلك
_________
(1) انظر: تفسير البغوي (3/200) .
(2/128)
علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به ورفع الله إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان ملكاً ارضياً سماوياً.
وأما سبب حياة عيسى ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن كعب الأحبار: أن رجلاً يهودياً منافقاً يحب عيسى في الظاهر ولا يؤمن به، وكان اليهود قد وكلوه في قتله غيلة، وكان إذا رأى منه المعجزات يقول في الباطن كل هذا سحر، وكان عيسى بن مريم يعلم منه النفاق، فلما أتى عيسى بيت المقدس واليهودي معه طلع اليهودي إلى اليهود، وقال: أدركوا عيسى بن مريم فهو في المكان الفلاني فاقتلوه، فحول الله تعالى صورة اليهودي على صورة عيسى، فلزمه اليهود وقالوا له: أنت عيسى وأخذوه وصلبوه، وهو يستغيث ويقول: أنا فلان ابن فلان أنا عدو عيسى الذي دللتكم عليه، فقالوا: تكذب، ورفع الله عيسى إلى السماء كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً? [النساء: 157، 158] فهو حي في السماء.
وقال بعض العلماء: إن عيسى لما كان في المكتب كان يقرأ لهم التوراة، ويخبر الصبيان بما في بيوتهم، وما خبأت لهم أمهاتهم، فيجيء الصبي إلى أمه فيخبرها بما أكلت، فتقول: من أعلمك بذلك؟ فيقول: عيسى، فقال الناس: هذا سحر نمنع أولادنا من المكتب وألا نسلك هذا المذهب، وكان عيسى يجيء إلى البيوت ويدعو الصبيان إلى المكتب والصبيان يختفون منه، فتقول الأمهات: ليس فلان في الدار، فيقول عيسى: بلى قد اختفى في التنور أو في المخدع أو في المسطح فيكون كما قال، وإذا قال للمرأة: ابنك في التنور فتقول: ما في التنور إلا خنزيراً فيقول عيسى: اللهم اجعله كذلك فتلحق ولدها فتجده كذلك خنزيراً، فصار في بيوتهم خمسمائه خنزير بدعائه عليهم، فعظم ذلك على بني إسرائيل وطلبوه ليقتلوه، فلما بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة كثرت أعداؤه، واشتد طلب اليهود له، ونادوه يا ساحر يا ابن الساحرة، قال: «إلهي إنك خلقتني، وإلى هؤلاء بعثتني، وبدعائهم إليك أمرتني، وأمي تلك الصالحة وقد قالوا في حقنا ما قالوا، فامسخهم خنازير» فمسخهم الله خنازير فعاشوا ثلاثة أيام وماتوا، فقصدت طائفة اليهود إلى ملك بني إسرائيل وقالوا: إن لم تقتل هذا وإلا فعل بنا كما فعل بغيرنا، فأرسل إليه رجلاً من المتمردين يقال له «مطيانوس» فقال أنا أقتله، فرفع الله عيسى.
(2/129)
قيل: إن جبريل شق له السقف فرفعه إلى السماء، وألقى شبهه على مطيانوس فقتلوه وصلبوه، فما وصل مطيانوس إلى الخشبة إلا وعيسى قد وصل إلى السماء الرابعة، وكان شبه عيسى على وجهه فقالت اليهود: هذا وجه عيسى والبدن بدن مطيانوس فأين رأسه، وهذا رأس عيسى فأين بدنه.
وقيل: إن قوماً من اليهود قالوا: إنا رأينا عيسى مرتفعاً إلى السماء، وما صلبنا إلا صاحبنا، فقتلهم اليهود لما قالوا هذا القول.
فائدة أخرى: قال العلامي في تفسيره في سورة مريم قال قتادة: لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء اجتمع أربعة من فقهاء قومه فقالوا للأول ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله أهبط إلى الأرض فخلق ما خلق ثم ارتفع إلى السماء، فتبعه قوم وكذبه الثلاثة، ثم قالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله فتبعه قوم وكذبه الآخران، ثم قالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال هو إله وأمه إله والله إله فتبعه قوم وكذبه الرابع وقال: بل هو عبد الله ورسوله، فاختصم القوم فقال: أتعلمون أن عيسى يأكل ويشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن الله لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن عيسى ينام؟ فقالوا: نعم، أتعلمون أن الله لا ينام؟ قالوا: نعم فغلبهم الرابع - رضي الله عنه -.
وها هنا سؤال وهو: أن يقال إن قوله تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ? [آل عمران: 55] يدل على أنه رفع إلى السماء بعد موته، أجاب العلماء عنه بأجوبة:
الأول: أن الواو لا تفيد الترتيب، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إني رافعك إلي ومتوفيك عند انقضاء أجلك، فإن اليهود لما هددوه بالقتل بشره الله بأني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، وقابضك بالوفاة لا بالقتل بأيدي اليهود.
الثاني: إن معنى «متوفيك» أني متوفي نفسك بالنوم كقوله تعالى: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا? [الزمر: 42] ورافعك إلى السماء وأنت نائم، حتى لا يلحقك خوف بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب.
سؤال: فإن قيل: كم كان عمر عيسى لما رفع إلى السماء؟
جوابه: أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.
سؤال آخر: فإن قيل متى أعطاه الله النبوة؟
(2/130)
فالجواب: قال ابن عباس: أرسله الله ابن ثلاثين أي: وستة أشهر فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله.
وأما سبب حياة إدريس ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن وهب بن منبه أنه قال: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فتعجب منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة بني آدم فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك، قال: فلي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه ورددها الله إليه بعد ساعة، ثم قال له: لي إليك حاجة أخرى قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها، وإلى الجنة والنار، فأذن له في رفعه، فلما قرب من النار قال: حاجة أخرى تسأل مالك حتى يفتح لي أبوابها فأوردها ففعل، ثم قال: وكما أريتني النار فأريني الجنة، فذهب به إلى الجنة واستفتح ففتحت أبوابها فدخلها، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها فبعث الله إليه ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى يقول: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران: 185] وقد ذقته، وقال: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا? [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: ?وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ? [الحجر: 48] فلست أخرج، فأوحى الله إلى ملك الموت: بأذني دخل وبأمري يخرج، فهو حي هناك (1) .
لطيفة أخرى: قيل يلتقي الخضر وإلياس كل سنة ببيت المقدس، ويصومان شهر رمضان، وقيل: يجتمعان على جبل عرفات.
قال العلامي في تفسيره: إن الخضر وإلياس باقيان إلى يوم القيامة، فالخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها، وإلياس يدور الجبال يهدي من ضل فيها، وهذا دأبهما في النهار، وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه (2) .
_________
(1) انظر: تفسير البغوي (3/200) .
(2) ورد بهذا المعنى حديث عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل» أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/866، رقم 926) ، والديلمي في الفردوس (2/202، رقم 3000) ، وذكره الحافظ في الإصابة (2/293) وقال: فيه عبد الرحيم، وأبان متروكان.
(2/131)
وعن ابن عباس قال الراوي: لا أعلمه إلا مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» قال ابن عباس في الكلمات التي يقولهن الخضر وإلياس عليهما السلام: «من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات أمنه الله من الغرق والحرق والسرق» قال الراوي: وأحسبه قال: «ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب» (1) .
لطيفة أخرى: ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في كتاب الإصابه في معرفة الصحابة قال: بينما الحسن جالس والناس حوله إذ أقبل رجل مخضرة عيناه فقال له الحسن: هكذا ولدتك أمك أم هي عرض؟ قال: أو ما تعرفني يا أبا سعيد؟ قال: من أنت؟ فانتسب له فلم يبق في المجلس أحد إلا عرفه، فقال له: ما قصتك؟ قال: عمدت إلى جميع مالي فألقيته في مركب، فخرجت أريد اليمن، فعصفت علينا ريح فغرقت السفينة، فخرجت إلى بعض السواحل على لوح، فعمدت أتردد نحو من أربعة أشهر آكل ما أصيب من الشجر والشعب، وأشرب من ماء العيون، ثم قلت: لأمضين على وجهي فإما أن أهلك وإما أن أنجو، فسرت فرفع لي قصر كأن بناؤه فضة فدفعت مصراعه فإذا داخله أروقة، وفي كل طاق منها صندوق من لؤلؤ، وعليها أقفال مفاتحيها رأي العين، ففتحت بعضها فخرج من جوفه رائحة طيبة، فإذا فيه رجال مدرجون في أثواب الحرير، فحركت بعضهم فإذا هو ميت في صفة حي فأطبقت الصندوق، وخرجت وغلقت باب القصر، ومضيت فإذا أنا بفارسين لم أر مثلهما جمالاً على فرسين أغرين محجلين، فسألاني عن قصتي فأخبرتهما فقالا: تقدم أمامك فإنك تصير إلى شجرة تحتها روضة، هناك شيخ حسن الهيئة يصلي فأخبره خبرك، فإنه سيرشدك إلى الطريق، فمضيت فإذا أنا بشيخ فسلمت عليه فرد علي السلام، وسألني عن قصتي فأخبرته بخبري كله، ففزع لما أخبرته بخبر القصر قلت: أطبقت الصناديق وأغلقت الأبواب، فسكت وقال لي: اجلس فمرت به سحابة فقالت: السلام عليك يا ولي الله فقال: أين تريدين؟ قالت: كذا وكذا فلم يزل تمر به سحابة بعد سحابة حتى
_________
(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/224، ترجمة 273 الحسن بن رزين) وقال: مجهول. وابن عدي في الكامل (2/328، ترجمة 462 الحسن بن رزين) وقال: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر. وابن عساكر في تاريخ دمشق (9/211) ، والديلمي في الفردوس (5/504، رقم 8895) .
(2/132)
أقبلت سحابة فقال: أين تريدين فقالت: البصرة، قال: إنزلي فنزلت فصارت بين يديه، فقال: إحملي هذا حتى تؤديه إلى منزله سالماً، فلما صرت على متن السحابة قلت: اسألك بالذي أكرمك هذه الكرامة ألا ما أخبرتني عن القصر وعن الفارسين وعنك، قال: أما القصر فقد كرم الله به شهداء البحر، ووكل بهم ملائكة يلقطونهم من البحر فيصيرونهم في تلك
الصناديق مدرجين في أكفان الحرير، والفارسان ملكان يغدوان ويروحان عليهم بالسلام من الله، وأما أنا فالخضر، وقد سئلت ربي أن يحشرني مع أمة نبيكم، قال الرجل: فلما صرت من السحابة أصابني من الفزع هول عظيم حتى صرت إلى ما ترى (1) .
ومن فضائل الخضر: ما رواه أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أحدثكم عن الخضر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «بينما الخضر يمشي في سوق من أسواق بني إسرائيل إذ لقيه رجل فقير، فقال له الرجل: تتصدق علي بارك الله فيك، فإني أرى الخير في وجهك، ورجوت الخير من قبلك، فقال له الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه، قال له السائل: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، قال الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه إلا أن تأخذ بيدي وتدخلني السوق فتبيعني، فقال له الرجل: وهل يكون مثل هذا؟ قال: الحق أقول إنك سألتني بعظيم، سألتني بوجه ربي، وقد أجبتك فخذ بيدي فأدخلني السوق فبعني، فأدخله السوق فباعه بأربعمائه درهم، فلبث الخضر عند المبتاع أياماً لا يستعمله في شيء، فقال له الخضر: استعملني، فقال له: إنك شيخ كبير وأكره أن أشق عليك، قال: لا يشق علي ذلك، قال: نعم فانقل هذه الحجارة من ها هنا إلى هنا، وكانت لا ينقلها إلا ستة نفر في يوم تام، فقام ونقلها في ساعة واحدة، وأيده الله تعالى بملك من الملائكة على نقلها، فتعجب الرجل منه وقال: أحسنت، ثم عرض للرجل سفر فقال للخضر: إني أراك أميناً ناصحاً فاخلفني في أهلي، قال: نعم إن شاء الله تعالى، فاستعملني في شيء قال: أكره أن أشق عليك قال: لا يشق علي ذلك، قال: اضرب لبنا أريده لقصر لي ووصفه له، ثم خرج لسفره فلما قضى حاجته ورجع من سفره إذا هو بالخضر قد شيد بنيانه على ما أراد، فازداد منه تعجباً وقال له: من أنت؟ قال: أنا المملوك
_________
(1) انظر: الإصابة (2/323: 325) .
(2/133)
الذي اشتريتني، قال: سألتك بوجه الله أن تخبرني من أنت؟ قال الخضر: إن هذا القسم أوقعني في العبودية، أما أني سأخبرك أنا الخضر، سألني سائل بوجه الله أن أعطيه فلم يكن معي شيء أعطيه، وأمكنته من نفسي حتى باعني، وبلغني أن من سأل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر على حاجته، وقف يوم القيامة بين يدي ربه وليس على وجهه لحم ولا جلد ولا عظم يتقعقع، قال: فكب الرجل عليه يقبله ويقول له: بأبي أنت وامي شققت عليك ولم أعرفك، فاحكم علي في أهلي ومالي أو تحب أن أخلي سبيلك؟ قال: بل أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، وكان الرجل كافراً فأسلم على يده وأعطاه أربعمائه دينار وخلى سبيله، فأوحى الله إليه: قد نجيتك من الرق وأسلم الكافر وأعطاك مكان كل درهم ديناراً، فلا يخسر على الله أحد» (1) .
ومن فضائله: ما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتاً، فرأيت رجلاً حسن الوجه، طيب الرائحة قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخرها وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدر قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلا الله، وبما جري به القلم من عند الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألا انصرفت، فوثب الفرس قائماً بإذن الله، وأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت، ولحقت بأصحابي، فلما كان من غداة غدٍ وظهرنا على العدو، فإذا هو بين أيدينا فقلت: سألتك بالله من أنت؟ فوثب قائماً فاهتزت الأرض خضراء فقال: أنا الخضر.
قال عبد الله: ما قلت هذه الكلمات على مريض إلا شفاه الله تعالى.
ومن فضائله: أن سليمان بن عبد الملك طلب رجلاً ليقتله فهرب منه، فكلما دخل بلد قيل له: جاءك الطلب قال: فخرجت إلى البرية فرأيت رجلاً فقال: لعل هذا الطاغي أخافك؟ قلت: نعم، قال: فما يمنعك من السبع؟ قلت: وما السبع؟ قال: قل: «سبحان الواحد الذي ليس غيره، سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان الذي يحي ويميت، سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى،
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/113، رقم 7530) وفي مسند الشاميين (2/13، رقم 832) قال الهيثمي (3/103) : رجاله موثقون إلا إن فيه بقية بن الوليد وهو مدلس ولكنه ثقة.
(2/134)
سبحان الذي كل يوم هو في شأن، سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم» احفظها فحفظها فألقى الله في قلبي الأمن، فرجعت ودخلت على سليمان، فلما رأني قال: ادن ادن حتى أجلسني على فراشهم، قال: اسحرتني؟ فقلت: لا والله ما أنا بساحر، وأخبرته بخبر الرجل، فقال: والله الذي لا إله إلا الله أنه الخضر، قال: اكتبوا له الأمان وأعطاني مالاً كثيراً.
ومن فضائله الدالة على حياته: ما نقله الثعلبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات وأخذوا في جهازه، خرج الناس وخلا الموضع قال ابن عباس قال علي: لما وضعته - صلى الله عليه وسلم - على المغتسل إذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً فإنه طاهر مطهر، قال: فوقع في قلبي شيء من ذلك، وقلت: يا ويلك من أنت؟ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلي صوته غسلوا محمداً، فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون، حسد محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يدخل قبره مغسولاً، قال علي: جزاك الله خيراً قد أخبرتني بأن ذلك هو إبليس، من أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(2/135)
المجلس الثالث والثلاثون
في الكلام على باب فضل من علم وعلم، وبيان ما في حديثه من الفوائد،
وفيه ذكر علماء السوء وغير ذلك
قَالَ البُخَارِي:
باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَء ِقَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «مثل» : المراد به الصفة العجيبة لا القول السائر.
قوله: «الهدى» : أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية.
قوله: «نقية» كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر «ثغبة» بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطأبي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق «نقية» بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم: «طائفة طيبة» . قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروى: «بقعة» قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية» .
قوله: «قبلت» : من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي: «قيلت» بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف.
قوله: «الكلأ والعشب» : هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معاً، والعشب للرطب فقط.
قوله: «إخاذات» : جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: «أجادب» جمع جدب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: «أحارب» قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: «أجارد» جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطأبي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي.
قوله: «فنفع الله بها» أي بالإخاذات. وللأصيلي «فنفع الله به» أي بالماء.
قوله: «وزرعوا» كذا له بزيادة زاي من الزرع، ولمسلم والنسائي وغيرهما «ورعوا» بغير زاي من الرعى، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية «زرعوا» تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية «رعوا» مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روى «ووعوا» بواوين، ولا أصل لذلك. وقال القاضي قوله: «ورعوا» راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات (انتهى) . ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت.
قوله: «فأصاب» أي الماء. وللأصيلي وكريمة: «أصابت» أي: طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد بالطائفة القطعة.
قوله: «قيعان» جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.
قال القرطبي وغيره: ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله: «نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها» . ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يرفع بذلك رأساً» أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلاً، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - «ولم يقبل هدى الله الذي جئت به» .
وقال الطيبي: بقى من أقسام الناس قسمان:
أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره.
والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره.
قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم: «من لم يرفع بذلك رأسا» والله أعلم. انظر فتح الباري (1/176 - 177) .
(2/136)
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ الْمَاءَ، قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ (1) .
اشتمل إسناد هذا الحديث على لطفيتين:
الأولى: أن رجاله كلهم كوفيون.
الثانية: رواية بريدة عن جدة وعن أبيه.
قال ابن الملقن: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه - صلى الله عليه وسلم - في السبر والتقسيم، ورد الكلام بعضه على بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان قال النووي: معنى الحديث أن الأرض على ثلاثة أنواع شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - كل نوع بنوع من أنواع الأرض:
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذه الفقرة فوائد منها:
قوله: «قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت» أي أن إسحاق بن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف.
قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة. وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزاً.
وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف.
قوله: «قاع يعلوه الماء. والصفصف المستوى من الأرض» هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جرياً على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. انظر فتح الباري (1/177) .
(2/138)
فالنوع الأول من الأرض: ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميت، ينبت الكلأ فينتفع به الناس، والدوآب بالشرب والرعي والزرع وغيرها، ومثل هذا النوع الأول من الناس وهو الذي يبلغه الهدي والعلم، فيحفظ ويحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع الناس.
والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة هي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدوآب وهي لا تنتفع، ومثل هذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم، يستنبطون به المعاني والأحكام فهم يحفظون حتى يجيء أهل النفع والانتفاع فيأخذه منهم، فهؤلاء نفعوا الناس بعلمهم وما انتفعوا.
النوع الثالث من الأرض: هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع به غيرها، ومثل هذا النوع النوع الثالث من الناس وهم الذين ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون ولا يحفظون لينفعوا غيرهم (1) .
فالحاصل: أن النوع الأول للمنتفع النافع، والنوع الثاني للنافع غير المنتفع، والثالث لغير النافع والمنتفع، وأعلى هذه الأنواع النوع الأول وهو المنتفع النافع.
قال الله تعالى ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً? [فصلت: 33] .
وقال: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [النحل: 125] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الناس المؤمن العالم الذي إذا احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذ إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا ومن فيها» (3) .
وقال: «من تعلم باباً من العلم ليعلم الناس أُعطي ثواب ستين صديقاً» (4) .
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/47، 48) .
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (45/303) بنحوه عن علي.
(3) أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (5/238، رقم 22127) .
قال الهيثمي (5/334) : رجاله ثقات إلا أن ذويد بن نافع لم يدرك معاذا.
(4) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/54) وعزاه للديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: وفيه نكارة.
(2/139)
وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: «من علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات والأرض» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها خير له من عبادة سنة» (2) .
وقال: «ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه» (3) .
وقال: «الدال على الخير كفاعله» (4) .
وقال عمر: «من حدث بحديث فعمل به فله مثل أجر ذلك العمل» (5) .
وروي أن سفيان الثوري قدم عسقلان فمكث أياماً ولا يسأله إنسان فقال: اكتروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم (6) .
وقال عطاء: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ليس يسئلني أحد عن شيء (7) .
وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمه محمد من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة (8) .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/93) .
(2) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/487، رقم 1386) عن زيد بن أسلم مرسلاً.
(3) أورده الذهبي في إحياء علوم الدين (1/10) قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من رواية محمد بن المنكدر مرسلا نحوه.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (6/186، رقم 5945) وفي الأوسط (3/34، رقم 2384) عن سهل بن سعد.
وأخرجه الطبراني (17/227، رقم 628) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/116، رقم 7656) وأبو عوانة في مسنده (4/478، رقم 7400) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/85، رقم 86) ، والخطيب في التاريخ (7/383) عن ابن مسعود.
(5) أخرجه الحاكم في المدخل إلى الصحيح (1/87) .
(6) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/279، رقم 1849) .
(7) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .
(8) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .
(2/140)
قال حجة الإسلام الغزالي (1) : وقال معاذ بن جبل ورأيته أيضاً مرفوعاً: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والأنس في الوحشة، وهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، وهداة يقتدى بهم، وأدلة في الخيرات تقتفى آثارهم، وترفق أفعالهم، ترغب الملائكة خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام، والعمل تابعه يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء» (2) .
والنوع الثاني: وهو الذي ينفع الناس ولا ينتفع، نوع كالأرض التي تمسك الماء فقط للناس، ينتفعوا به وهي لا تنتفع نفسها، فلا تنبت الكلأ، مذموم قبيح، فإنه يقبح بالعالم أن ينفع الناس بعلمه فيعملوا به وهو لا ينتفع به ولا يعمل به، بل ينبغي أن يكون فعله موافقاً لقوله، فإذا مر بشيء عمل به، وإذا نهى عن شيء انتهى عنه قبل غيره.
وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على ذم من علم الناس ولم يعمل بعلمه.
قال الله تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [البقرة: 44] .
وقال تعالى: ?كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 3] .
وقال تعالى في قصة شعيب: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ? [هود: 88] .
وقال تعالى لعيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام: «يا ابن مريم عظ نفسك، فإن
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .
(2) أخرجه الديلمي في الفردوس (2/41، رقم 2237) عن معاذ.
(2/141)
اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني» (1) .
وقال عليه الصلاة والسلام: «مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله» (2) .
وقال الفضيل: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان، وإليه أشار من قال:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عباد الأوثان
وقال أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولم يعمل سبع مرات (3) .
وقال الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله (4) .
وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الفطر عن الصفاء (5) .
ولله در القائل:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما ... إذا عبت منهم أموراً أنت تأتيها
وكان يحيى بن معاذ ينشد في مجلس:
مواعظ الواعظ لن تقبلا ... حتى نفيها نفسه أولاً
يا قوم من أظلم من واعظ ... خالف ما قد قاله في الملا
أظهر بين الناس إحسان ... وبارز الرحمن لما خلا
_________
(1) أخرجه أحمد في الزهد (1/54) وأبو نعيم في الحلية (2/382) .
(2) أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (3/120، رقم 12232) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/170، رقم 26) ، وأبو يعلى في مسنده (7/69، رقم 3992) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/283، رقم 1773) عن أنس.
(3) أخرجه أحمد في الزهد (1/142) وأبو نعيم في الحلية (1/211) .
(4) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/21، رقم 64) .
(5) أخرجه أحمد في الزهد (1/323) وأبو نعيم في الحلية (6/288) والبيهقي في شعب الإيمان (2/297، رقم 1841) .
(2/142)
وذكر ابن رجب في اللطائف أن عبد الواحد بن زيد لما جلس للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته:
يا واعظاً قام لاحتساب ... يزجر قوماً عن الذنوب
تنهى وأنت المريب حقاً ... هذا من المنكر العجيب
لو كنت أصلحت قبل هذا ... عيبك أو تبت عن قريب
كان لما قلت يا حبيبي ... موقع صدق من القلوب
تنهى عن الغي والتمادي ... وأنت في النهي كالمريب
وقال بعضهم: العالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، والجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة، ولم يجدها عنده.
وهذا مثل قوله تعالى: ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? [الأنبياء: 18] .
ولقد أحسن من قال:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا ... صفة وأنت من الرشاد عديم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا ... كيما تصح به وأنت سقيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي ... بالقول منك وينفع التعليم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال ابن السماك: كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله (1) .
وقال عيسى - عليه السلام -: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها فانفضحت، وكذلك من لم يعمل بعلمه يفضحه الله تبارك وتعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (2) .
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/313، رقم 1916) .
(2) أورده المناوي في فيض القدير (2/433) .
(2/143)
وقال معاذ: احذروا ذلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعوه على زلته.
وقال عمر- رضي الله عنه -: إذ ذل العالم زل بزلته عالم من الخلق. وقال: ثلاث يهدم به الإسلام ذلة العالم إحداهن.
أنشد بعضهم:
وقال
فساد كبير عالم متهتك ... وأكبر منه جاهل متنسك
هما فتنة للعالمين عظيمة ... لمن بهما في دينه ينتسك
الإمام فخر الدين الرازي: إذا اشتغل العالم بجمع الحلال، صار العوام آكلين الشبهات، وإذا صار العالم آكلاً للحرام، صار العامي كافراً، فالواجب على العالم كف نفسه عن صغائر المعاصي وكبائرها حتى لا يقتدي بها، والمعصية مع العلم فوق المعصية مع الجهل من وجوه، وإذا ابتلي بمعصية فليستتر صيانة لمنصب العلم.
وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
أيها العالم إياك الزلل ... واحذر الهفوة والخطب الجلل
هفوة العالم مستعظمة ... إذ بها أصبح في الخلق مثل
وعلى زلته عمدتهم فبها ... يحتج من أخطأ وزل
لا تقل يستر علمي زلتي ... بل بها يحصل في العلم الخلل
أن تكن عندك مستحقرة ... فهي عند الله والناس جبل
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً» (1) .
وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج الذي يضئ ويحرق نفسه» (3) .
_________
(1) أخرجه الديلمي في الفردوس (3/602، رقم 5887) عن علي بن أبي طالب بنحوه.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله.
(2/144)
ولله در أبي العتاهية (1) حيث قال:
وبخت غيرك بالعمى فأفدته ... بصراً وأنت مختم لعيناكا
وفتيلة المصباح تحرق نفسها ... وتضيء للأعشى وأنت كذاكا
وقال علي - رضي الله عنه -: «يا حملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله» (2) .
وقال بعض العلماء: رأيت في منامي كأني جالس بالعلم على عادتي وحولي كتبي، وإذا بخطاب فوق رأسي وقائل يقول لي: اكتب فأخذت القلم وورقة وقلت: ما الذي أكتب؟ فقال: اكتب:
تعلم ما استطعت لقصد وجهي ... فإن العلم من سفن النجاة
وليس العلم في الدنيا بفخر ... إذا ما حل في غير الثقات
ومن طلب العلوم لغير وجهي ... بعيد أن تراه من الهداة
قال الأئمة: من وجد لذة العلم والعمل به قل ما يرغب فيما عند الناس.
وأنشدوا فيه فقال:
من طلب العلم للمعاد ... قد فاز بالفضل والمراد
وباء بالذل من نحاه ... لنيل فضل من العباد
قال إمامنا الشافعي - رضي الله عنه -: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم -يعني علمه وكتبه- على أن لا ينسب إلي حرف منه (3) .
قال الرازي في تفسيره: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على خطر، وقول بلا فعل كالهدر، والمروءة بلا تواضع كشجرة بلا ثمر، وعلم بلا عمل كسحب بلا مطر.
قال الأصم: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعلموا به ولم
_________
(1) هو: محمد بن اسماعيل أبي العتاهية بن القاسم، أبو عبد الله، شاعر عراقي مطبوع، حذا طريقة أبيه في شعر الزهد، وتقدم في الأدب والفقه، وولي القضاء برهة، وأخذ عنه بعض كبار العلماء في عصره كالنسابة ابن أبي خيثمة وابن أبي الدنيا والمبرد والحافظ إبراهيم ابن إسحاق الحربي، وكانت وفاته في سنة: 244 هـ.
(2) أخرجه الدارمي في سننه (1/118، رقم 382) .
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/118) .
(2/145)
يعمل هو به (1) .
فائدة مناسبة لهذا: حكى أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق إلى الملك الخلاق عن بعض السادة أنه قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل ملك عبداً فعلمه شرائع الإسلام فأطاع وأحسن وعصى السيد، فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة وأمر بسيده إلى النار، فيقول عند ذلك: واحسرتاه واغبناه، أما هذا عبدي، أما كنت مالكاً لمهجته وماله، وقادراً على جميع ماله، فماله سعد، ومالي شقيت، فيناديه الملك الموكل: لأنه تأدب وما تأدبت، وأحسن وأسأت.
ورجل كسب مالاً فعصى الله سبحانه وتعالى في جمعه ومنعه، ولم يقدمه بين يديه حتى صار المال إلى وراثه، فأحسن في أنفاقه وأطاع الله سبحانه في إخراجه، وقدمه بين يديه، فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة وبصاحب المال إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا مالي، فمالي ما أحسنت به أحوالي، فيناديه الملك الموكل به: لأنه أطاع الله تعالى وما أطعت، وأنفق لوجهه وما أنفقت، فسعد وشقيت.
ورجل علم قوماً فوعظهم فعملوا بقوله ولم يعمل، فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة وأمر به إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا علمي فمالهم فازوا به وما فزت، وسلموا به وما سلمت، فيناديه الملك الموكل: لأنهم عملوا بما قلت وما عملت، فسعدوا وشقيت.
فائدة أخرى: تقدم بعض الصالحين ليصلي بالناس إماماً فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف، وقال لهم: استقيموا واستووا فغشي عليه، فسئل عن سبب ذلك فقال: لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها: فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين.
فائدة أخرى: ما ينبغي للإنسان ولو كان عاصياً أن يمتنع أن يعظ الناس بعد الرسول، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإنه لو لم يعظ الناس ويعلمهم إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحد، لأنه لا عصمة لأحد بعده.
وقيل للحسن: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول مالا أفعل فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحداً بمعروف ولم ينيه عن منكر، وقل من سلم من المعصية، من ذا الذي ما سآء قط، ومن له الحسنى قط فلا ينبغي لذلك سد باب الوعظ والتذكير. قال ذلك ابن رجب في أول اللطائف.
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/63) .
(2/146)
وأما النوع الثالث: وهم الذين لا علم عندهم ولا عمل، لا ينفعون ولا ينتفعون، فهم أشقى الخلق، لأنهم لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، لا حفظ عندهم ولا فهم، ولا رواية ولا دراية، ولا رعاية إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فهذه الطائفة هم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ليس همُّ أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة مع ذلك لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في رياسته والانتصار للنفس الغضبية.
فينبغي للعاقل أن يجمع بين العلم والعمل به فإن لم يقدر على ذلك فليكن عاملاً بما تعلمه منهم فإن لم يفعل ذلك كان من أشر الناس، ويكفي من لا علم ولا عمل ذماً أن يحرم درجة العلماء وعزهم وشرفهم، ودرجة العاملين بقول العلماء والمقتدين بهم، فإن الإنسان ولو بلغ في العز في الدنيا مهما بلغ إذا لم يكن عنده علم ولا عمل فهو حقير عند الله، وينتهى عزه إلى ذل.
قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك (1) .
وقال الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل مصيره (2) .
وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائه درهم واعتقني، فقلت: بأي حرفة أحترف، فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له (3) .
قال الزبير ابن أبي بكر: كتب لي أبي بالعراق عليك: بالعلم إن كنت فقيراً كان لك مالاً، وإن استغنيت كان جمالاً (4) .
وقال الزهري: العلم ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال (5) .
وبقي نوع آخر من الناس وهو لم يذكره هنا وهم: الذين يتعلمون العلم ويكتمون
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .
(3) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .
(4) انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .
(5) انظر إحياء علوم الدين (1/8) .
(2/147)
عن الناس، فهم ينفعون أنفسهم به ولا يعلمون الناس بخلاً، فهذا النوع من الناس أيضاً مذموم قبيح، فإن العلم فضل الله، ويحرم عليه أن يبخل بفضل الله على مستحقيه، ولله در القائل:
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستعن عنه ويذمم
قال تعالى: ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ? [آل عمران: 187] .
وقال تعالى: ?وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ? [البقرة: 146] .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما أتى الله عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ من النبيين، أن يبينه ولا يكتمه» (1) .
وقال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (2) .
ولو كتم العلم عمن لا يستحقه ككثير من الجهال الذين لا ينتفعون بالعلم ولا يلتفتون إلى العمل به أو يخاف عليهم من الفتنة بما يتعلمه فلا إثم عليه حينئذ في كتمه.
قال إمامنا الشافعي:
ومن منح الجهال علماً أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وكاتم علم الدين عمن يريده ... يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم
وقال بعضهم ونسب إلى زين العابدين:
إني لأخفي من علمي جواهره ... كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا
ورب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجلاً دينون دمى ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
_________
(1) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/104، رقم 141) ، وابن حجر في القول المسدد (1 /5) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (3/321، رقم 3658) ، والترمذي في سننه (5/29، رقم 2649) وقال: حسن. وابن ماجه في سننه (1/98، رقم 266) ، وأحمد في مسنده (2/344، رقم 8514) ، والحاكم (1/182، رقم 345) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/275، رقم 1743) عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/97، رقم 264) عن أنس. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10/128، رقم 10197) عن ابن مسعود.
قال الهيثمي (1/163) : فيه سوار بن مصعب وهو متروك.
(2/148)
وقد تقدم في هذا أبو حسن ... وأوصى حسينا بما قد أخبر الحسنا
والمراد بالمثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم» الصفة العجيبة الشأن لا القول السائر.
وقوله: «الهدى» الدلالة الموصلة إلى البغية.
«والعلم» المراد به معرفة الأدلة الشرعية.
وقوله: «كمثل الغيت الكثير» وهو المطر، وسمى المطر «غيثاً» لإغاثة الخلق.
فائدة: اختلف العلماء في الغيث الربيعي والغيث الشتوي أيهما ألطف على قولين، فقيل: الشتوي ألطف، لأن حرارة الشمس تكون حينئذ أقل، فلا تجذب من ماء البحر إلا الطفه، والجو صاف وهو خال من الأبخرة الدخانية، والغبار المخالط للماء، وكل هذا يوجب لطفه وصفائه وخلوه من مخالط.
وقيل: الربيعي ألطف، لأن الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة، وتوجب رقة الهواء ولطافته، فيخف بذلك الماء، وتقل أجزاؤه الأرضية وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء.
ووجه المشابهة بين العلم والغيث أن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت، وإنما اختار الغيث من بين سائر المطر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق حينئذ إليه - صلى الله عليه وسلم - كاضطرارهم إلى المطر.
قال الله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ? [الشورى: 28] .
وقد كانت الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - في جهل وضلال، امتحنوا بموت القلب حتى أصابهم الله برحمة من عنده، وأغاثهم به - صلى الله عليه وسلم - فأرسله إليهم رحمة.
قال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107] أي: لجميع الخلق: للمؤمنين بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب، فهداهم وزال ضلالهم، وعلم جاهلهم، وقوَّم مائلهم، وأحيا قلوبهم الميتة به، كما أحيا الأرض الميتة بالغيث المرسل إليها، وهذا يدل على شرفه وعلو قدره - صلى الله عليه وسلم - وعظيم قدره عند الله.
ويدل أيضاً على علو قدره - صلى الله عليه وسلم - أنه كان في حياته - صلى الله عليه وسلم - يستأذن رب العزة سبعون ألف ملك لينزلوا إلى الأرض لرؤيته، فكانوا ينزلون وينظرون إليه لما يعلمون من كرامته على الله - عز وجل -.
* * *
(2/149)
باب رفع العلم وظهور الجهل
قَالَ البُخَارِي: وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه (1) .
هذا تعليق من البخاري بصيغة الجزم الدالة على أنه من تصحيحات التعلقيات، لا من تمريضاته ومعناه: لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم ولو كان قليلاً أن يضيع نفسه، بأن لا يفيد الناس ولا يسعى في تعليم الخير.
وفيه دليل على أنه يندب للإنسان إذا كان في البلد مثله في العلم أن يقضي بين الناس إذ علم أنه يزول خموله وينتشر علمه بذلك.
حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا» (2) .
قوله: «إن من أشراط الساعة» أي: من علاماتها، فإن الأشراط جمع شرط بفتح الشين، والراء، وهي العلامة.
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد عظيمة منها:
قوله: «وقال ربيعة» : هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد.
ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم.
أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم.
أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.
وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا. وهذا معنى حسن. انظر فتح الباري (1/178) .
(2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد منها:
قوله: «أشراط الساعة» : أي علاماتها، وهذه العلامات منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة.
قوله: «أن يرفع العلم» : المراد برفعه موت حملته.
قوله: «ويثبت» : أي ينتشر.
قوله: «ويشرب الخمر» : المراد كثرة شرب الخمر واشتهاره.
قوله: «ويظهر الزنا» : أي يفشو. انظر فتح الباري (1/178) .
(2/150)
وقوله: «أن يرفع العلم» ليس المراد برفع العلم محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهب العلم لخلقه ثم ينتزعه منهم، بعد أن تفضل عليهم به تعالى الله أن يسترجع ما وهب من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بموت العلماء وعدم المتعلمين، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر عليه الصلاة والسلام بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.
والذي يدل على أن المراد برفع العلم موت العلماء ما يأتي في هذا الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتنخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (1) .
وقد جاءت أخبار من الكتاب والسنة وغيرها أن موت العلماء نقص في الدين، وعلامة لحلول البلاء المبين.
قال الله تعالى: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا? [الرعد: 41]
قال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء (2) .
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، ما اختلف الليل والنهار» (3) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/50، رقم 100) ، ومسلم في صحيحه (4/2058، رقم 2673) ، والترمذي في سننه (5/31، رقم 2652) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/20، رقم 52) ، وأحمد في مسنده (2/162، رقم 6511) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/505، رقم 37590) ، والدارمي في سننه (1/89، رقم 239) ، وابن حبان (10/432، رقم 4571) عن ابن عمر.
وأخرجه الخطيب في التاريخ (5/312) ، والبزار كما في محمع الزوائد (1/201) كلاهما عن عائشة. قال الهيثمي (1/201) : فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن سعيد بن الليث.
وأخرجه الطبراني في الأوسط (6/277، رقم 6403) ، قال الهيثمي (1/201) : فيه العلاء بن سليمان الرقي ضعفه ابن عدي وغيره. وابن عدي (5/223 ترجمة 379 العلاء بن سليمان الرقى) وقال: منكر الحديث ويأتي بمتون ولها أسانيد لا يتابعه عليها أحد. كلاهما عن أبي هريرة.
(2) أورده البغوي في تفسيره (3/24) .
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/268، رقم 1719) .
(2/151)
وقال أيضاً: «عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله» (1) .
وقال عمر - رضي الله عنه -: «موت ألف عابد صائم النهار قائم الليل أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه» (2) .
وقال علي - رضي الله عنه -: «إن مات العالم ثلم ثلمة في الإسلام ولا يسدها إلا خلف منه» (3) .
وقال: «إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد» .
وقال سلمان: «لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا أهلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس» (4) .
وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: «هلاك علمائهم» (5) .
قال علي بن موسى: «أعظم الرزايا موت العلماء» .
وقوله: «ويشرب الخمر» قال العلماء: شرب الخمر من الكبائر، سماها الله تعالى في كتابه الإثم.
قال تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ? [الأعراف: 33] .
قال الحسن: الإثم هو الخمر.
ويدل على إطلاق الإثم عليها قول لبيد:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تذهب بالعقول
وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة فإنه لا يشربها في الآخرة، مع أنها أطيب شراب الآخرة، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «كل مسكر حرام، وكل خمر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة، وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة أسقي
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/170، رقم 8845) ، قال الهيثمي (1/126) : رواه الطبراني في الكبير وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود.
وأخرجه عبد الرزاق عن معمر بن راشد في الجامع (11/252) .
(2) أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/813، رقم 842) .
(3) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/199، رقم 347) .
(4) أخرجه أحمد في الزهد (1/151) ، والدارمي (1/90، رقم 242) .
(5) أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/276) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/253، رقم 1662) ، وابن أبي شيبة (7/458، رقم 37206) ، والدارمي (1/90، رقم 241) .
(2/152)
من عرق أهل النار» (1) .
وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» أو قال: «عصارة أهل النار» (2) .
قال البغوي: جاء في الحديث: «أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة الفردوس بيده ثم قال: وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (3) .
فإن قيل: شرب الخمر كيف يكون من علاماتها والحال كان واقعاً في جميع الأزمان، وحذر - صلى الله عليه وسلم - من شربه؟
وأجيب: بأن المراد بشرب الخمر الذي هو من علامات الساعة أن تشرب شرباً فاشياً، كما جاء في رواية: «ويكثر شرب الخمر» ، أو المراد: أن الشرب وحده ليس علامة بل العلامة مجموع الأمور المذكورة.
وقوله: «ويظهر الزنا» أي: يفشو وينتشر.
قال ابن الملقن: والزنا يمد ويقصر، والأولى لغة نجد، والثانية لغة أهل الحجاز.
فائدة: ذكر في هذا الحديث من علامات الساعة أربعة وجاء في غيره من الأحاديث علامات أخرى كثيرة: كإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمارة الصبيان، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وكثرة الهرج، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1588، رقم 2003) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/327، رقم 3679) ، والترمذي في سننه (4/290، رقم 1861) ، وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/212، رقم 5093) ، والطيالسي في مسنده (ص: 260، رقم 1916) ، وأحمد في مسنده (2/29، رقم 4831) ، وابن حبان في صحيحه (12/188، رقم 5366) ، والطبراني في الكبير (12/294، رقم 13157) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1587، رقم 2002) . وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (8/327، رقم 5709) ، وأحمد في مسنده (3/360، رقم 14923) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/7، رقم 5579) .
(3) أخرجه الدارقطني في الصفات (1/26، رقم 28) وأبو الشيخ (5/1555) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.
وأخرجه الديلمي (1/181، رقم 675) عن علي.
(2/153)
وإن رضوا رضوا لأنفسهم وإن غضبوا غضبوا لأنفسهم، لا يغضبون لله ولا يرضون لله.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من علامات الساعة أربعة أشياء: كثرة المطر وقلة النبات، وكثرة القراء وقلة العلماء» أفاده ابن الجوزي.
ومن علاماتها إنكار الحق، قال علي - رضي الله عنه -: «يأتي على الناس زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم» (1) .
ولها علامات أخرى غير ذلك وهذه العلامات هي العلامات الصغار، والحكمة في إظهارها وإيجادها قبل الساعة تنبيه الناس على رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، فينبغي للناس بعد ظهورها أن يطهروا أنفسهم، وينفطموا عن الدنيا، ويستعدوا للساعة الموعود بها.
وقد وقعت هذه العلامات في هذه الأزمان كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - وتحقق بهذا الحديث معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصدقه في كل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -.
وأما العلامات الكبار: كخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة وغير ذلك، فإنها لا تظهر إلا قرب الساعة أو مصاحبة لها.
فائدة أخرى: ظهور اللواط وانتشاره بين الناس كظهور الزنا في أنه من علامات الساعة.
قال ابن الجوزي في كتابه سوق العروس: روى ابن ماجة عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله عمل عمل قوم لوط» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل
_________
(1) أخرجه أحمد في الزهد (1/130) ، وفي فضائل الصحابة (1/529، رقم 880) .
(2) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2563) وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (4/58، رقم 1457) وقال: حسن غريب. وأحمد في مسنده (3/382، رقم 15133) ، وأبو يعلى في مسنده (4/97، رقم 2128) ، والحاكم في المستدرك (4/397، رقم 8057) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في شعب الإيمان (4/354، رقم 5374) .
(3) أخرجه أحمد في مسنده (1/108، رقم 855) ، والطبراني في الكبير (11/218، رقم 11546) ، والحاكم في المستدرك (4/396، رقم 8052) ، وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16794) .
(2/154)
والمفعول به» (1) .
وقد اختلف العلماء في حكم من عمل عمل قوم لوط.
فقال الإمام مالك كما نقله القرطبي عنه: يرجم سواء كان محصناً أو غير محصن، قال: وكذا يرجم المفعول به إذا كان محلتماً (2) .
وقال أبو حنيفة: يعذر المحصن وغيره (3) .
وقال الشافعي: يجد حد الزنا إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً (4) .
وقال ابن عباس: ينظر إلى أعلى بناء بالقرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة (5) .
وقيل: يحرق بالنار.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثبت عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بذلك فاستشار الصحابة رضي الله عنهم فكان علي أشدهم قولاً فيه فقال: ما فعل هذا إلا فعل أمة من الأمم، وقد علمتهم ما فعل الله بهم، أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه (6) .
وقال بعض السلف: إذا ركب الذكر الذكر عجت الأرض إلى الله، وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت، وهرب الشيطان خوفاً من اللعنة أن تصيبه.
وأول من أظهر هذه الفاحشة للناس قوم لوط كما أشار الله إلى ذلك بقوله العزيز ?وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/158، رقم 4462) ، والترمذي في سننه (4/57، رقم 1456) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2561) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8047) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16796) ، وأحمد في مسنده (1/300، رقم 2732) ، وأبو يعلى في مسنده (4/348، رقم 2463) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/200، رقم 575) ، والدارقطني في سننه (3/124) عن ابن عباس.
(2) انظر: تفسير القرطبي (7/243) .
(3) انظر: تفسير القرطبي (7/243) .
(4) انظر: تفسير القرطبي (7/243) .
(5) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/357، رقم 5388) .
(6) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (8/232) .
(2/155)
العَالَمِينَ? [الأعراف: 80] .
وقال تعالى: ?أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ? [الشعراء: 165، 166] .
وكان فعلهم بهذه الفاحشة بتعليم إبليس لعنة الله.
وقال الحسن: لا ينكحون إلا الغرباء وكانت الغرباء يقصدون بلادهم لأنها كانت مخصبة.
وقيل: إن إبليس تمثل لهم في صورة شاب ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، فتعلموا منه واستمروا على هذه الفاحشة، فإبليس أول عمل هذه الفاحشة، فإنهم كانوا يدخرون الغلة ويطلبون بها الغلاء، فإذا عز الطعام قصد الناس إليهم من أطراف الدنيا فقال لهم إبليس لعنة الله: إني حكيم بأحوال السنين القادمة وسيكون فيها الغلاء الشديد، ولا تنبت الأرض لكم حب الحصيد، فاحفظوا ما عندكم، وامتنعوا من بيع غلتكم إن أردتم سلامة أنفسكم وأهليكم، فإذا انقضت المدة أعلمتكم وأمرتكم بالبيع فيحصل لكم الطعام الجزيل بالطعام القليل، فاقطعوا عنكم الغرباء وامنعوهم البيع والشراء، وإنهم لا ينقطعون حتى تفعلوا ما أقول لكم، كل غريب يأتي أرضكم فلوطوا به، شيخاً كان أو صبياً، سمحاً أو سرياً، ففعلوا ذلك بكل من يجئ، فلم يبق منهم أحد إلا وفعل ذلك.
فلهذا قيل: كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر عابر سبيل حذفوه بالحصى فأيهم أصابه كان أولى به، فيأخذ ما معه ويغرمه ثلاثة دراهم وينكحه، ولهم قاض بذلك.
هذا هو المنكر الذي نبه الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يفعلون بقوله جل ذكره: ?وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ? [العنكبوت: 29] .
وقيل: المنكر الذي كانوا يفعلون أنهم كانوا يسخرون بأهل الطريق.
وقيل: المنكر أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم.
وقيل: المنكر أنهم كانوا يبصق بعضهم على بعض.
وقيل: المنكر أنه كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم.
وكان لوطا - عليه السلام - يدعوهم فلا يجيبون، ويعظهم فلا يرجعون ولا يتعظون، ويزجرهم فلا ينزجرون، وكان إبراهيم الخليل يزور لوطاً في كل عام، ويحذرهم الله وهم مصرون على معصيته، ثم نزلت الملائكة على إبراهيم فقال: ?قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ
(2/156)
أَيُّهَا المُرْسَلُونَ? [الذاريات 31] يعني: في ماذا جئتم؟ ?قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ? [الذاريات 32، 33] .
فصار إبراهيم يجادل الملائكة من شفقته على العباد ويرجو صلاحهم قبل الهلاك، حتى قالت الملائكة: أتجادلنا في قوم لوط، وكان جدالة لهم أنه قال لهم: لو كان في البلد مائة مؤمن أكنتم تعاقبوهم؟ قالوا: لا. قال: فخمسون؟ قالوا: لا. فخمسة؟ قالوا: لا ?قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ? [العنكبوت 32] ثم مضت الملائكة إلى لوط وقالوا له: نحن ضيوفك وما عرف أنهم ملائكة وما قدر أن يرد الضيف، بل بقي محزوناً خائفاً عليهم من قومه، لعلمه بعادتهم وفسادهم، فإنهم دخلوا على لوط في صورة حسنة فقال لهم لوط: إن أهل البلد مفسدون، وكان الله تعالى قد أمر جبريل والملائكة أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يشهد عليهم لوط بالفساد ثلاث مرات، فلما قال: إنهم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة فلما أمسى قال لوط: إن هؤلاء القوم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة ثانية فكرر لوط القول، وكانت امرأته منافقة فذهبت إلى البلد وأخبرتهم وقالت لهم: إن عند لوط مرد لهم وجوه حسان، وأخبر أهل البلد بعضهم بعضاً فجاءوا إلى دار لوط وقالوا: ?أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ? [الحجر: 70] معناه: أما قلنا لك لا تضف أحداً، فقال لهم: هؤلاء بناتي إن أردتم زوجتكم بهن واتركوا الفاحشة ولا تفضحوني في ضيفي فقالوا كلهم: لنا نساء ولا نريد إلا الضيوف، فقال لهم: ليس لي دار مانعة ولا حصن حصين، وجعل يتضرع فلم ينفع، فدخل الملائكة بيتاً وأغلقوا عليهم باباً فما قدروا أن يدخلوا على الملائكة، حتى كسروا الباب فضرب جبريل بجناحه وجوههم فعميت عيونهم، فقالوا: غداً نريك ما نعمل يا لوط، هذا سحر منك يا لوط، قد أعميت أبصارنا وضاق صدر لوط لذلك فقال له جبريل: إنا رسل ربك قال لهم لوط: هم كثيرون وأنا وحدي، فقال جبريل: إني لأجل هلاكهم قد جئت إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب، فلما مضى من الليل
ثلثه قال جبريل: يا لوط خذ الأهبة للخروج فقد وجب العذاب، فقال لوط: إن لي صهراً وله حق على فأريد أن أعرفه ذلك فقال: الأمر لك، فلما أخبر لوط صهره قال له: أسوة بالقوم إن هلكوا هلكت، فلما قرب الوقت أشار جبريل إلى سور البلد فانفتح فيه باب وخرج لوط وأهله، وقال له جبريل: لا يلتفت منكم أحد إلى ورائه، ثم أهلكهم الله بالحجارة أمطر عليهم حجارة من السماء بعد أن قلب ديارهم وأدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس
(2/157)
مدائن، وكان فيها أربعمائه ألف إنسان، وقيل: أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونبيح الكلاب، ولم يكفأ لهم إناء، ولم ينتبه نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر الله بعد ذلك عليهم حجارة أي: على المسافرين منهم أينما كانوا في البلاد وكانت هذه الحجارة من سجيل أي: طين مطبوخ، وكانت صلبة وكان مكتوباً عليها اسم من يرمي بها كما قال تعالى: ?مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ? أي: معلمة باسم صاحبها، قيل: دخل رجل منهم الحرم قبل وصول الحجر إليه، فكان ذلك الحجر الذي أرسل إليه معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج من الحرم فأصابه فأهلكه، قال: ?وَمَا هِيَ? أي: عقوبتهم ?مِنَ الظَّالِمِينَ? أي: العاملين بعملهم ?بِبَعِيدٍ? [هود: 83] .
قال عليه الصلاة والسلام: «لا تذهب الأيام ولا الليالي حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال، كما استحلوا فروج النساء، فتصيب طوائف منهم حجارة من عند ربك» .
قال في نزهة المجالس جاء في الحديث: «أنه يؤتى يوم القيامة بأطفال ليس بهم رؤوس فيقول الله تعالى: من أنتم؟ فيقولون: نحن المظلومون، فيقول: من ظلمكم؟ فيقولون: آباؤنا كانوا يأتون الذكران من العالمين فألقوا في الأدبار، فيقول الله تعالى: سوقوهم إلى النار واكتبوا على وجوههم آيسين من رحمة الله» (1) .
ومن هذا القبيل سحاق النساء زنا بينهن.
وروي أن سليمان - عليه السلام - قال لإبليس: أي الأعمال أحب إليك، وأبغض إلى الله؟ قال: لولا منزلتك عند الله ما أخبرتك، إني لست أعلم شيئاً أحب إلىَّ وأبغض إلى الله من استغناء الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، وأول من علم النساء السحاق بنت إبليس وتسمى الدلهان، رأت الرجال قد استغنوا بالرجال فجاءت إلى النساء في صورة امرأة وشهت إليهن ركوب بعضهن على بعضهن وعلمتهن كيف يصنعن قاله الثعلبي.
قال المتولي من الشافعية: إذا كانت المرأة تميل إلى النساء، وخافت من النظر إلى وجه المرأة وكفيها الفتنة لم يجز لها النظر كما في الرجل مع الرجل.
قال الأذرعي: وهذا مما يبتلى به ذوات السحاق.
_________
(1) قال العجلوني في كشف الخفاء بعد أن ذكر الحديث (2/522) : نقل ابن حجر المكي في الفتاوي عن الحافظ السيوطي أنه موضوع.
(2/158)
فائدة: إتيان البهيمة حرام لكن هل يوجب الحد أم يعزر اختلف العلماء في ذلك.
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الداء والدواء: اختلف العلماء فيمن أتى بهيمة قيل: يعزر وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وقيل: حكمه حكم الزاني وهو قول الحسن، وقيل: حكمه حكم اللوطي نص عليه أحمد، فيخرج على الروايتين عنه في حده هل هو القتل حتماً أو هو كالزاني؟ ويشكل على قول الشافعي وغيره أنه يعزر فقط من غير قتل ولا حد ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة والحاكم (1) .
ويدل على تحريم إتيان البهيمة أيضاً ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول: ادخلوا مع الداخلين، الفاعل والمفعول به، والناكح يده، والناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، والجامع بين المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي جاره حتى يلعنه الناس» (2) .
دل الحديث على تحريم إتيان البهيمة وتحريم الاستمناء باليد، وتحريم بقية السبعة.
وإخراج المني باليد حرام في الكتاب والسنة قال الله تعالى: ?َالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ? [المؤمنون: 5، 6، 7] أي: الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.
قال البغوي: في الآية دليل أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول العلماء (3) .
قال ابن جريج: سئلت عطاء عنه فقال: «بلغني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى» وأظنهم هؤلاء (4) .
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/159، رقم 4464) ، والترمذي في سننه (4/56 رقم 1455) ، والنسائي في الكبرى (4/322، رقم 7340) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2564) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8049) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضا: البيهقي في سننه الكبرى (8/233 رقم 16812) ، وأبو يعلى في مسنده (4/347، رقم 2462) عن ابن عباس.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/378، رقم 5470) ، والديلمي في الفردوس (2/332، رقم 3497) عن أنس بن مالك.
(3) انظر: تفسير البغوي (3/303) .
(4) انظر: تفسير البغوي (3/303) .
(2/159)
وعن سعيد بن جبير: عذب الله أمة كانوا يعثبون بمذاكيرهم (1) .
والواجب على فاعله التعذير كما قاله ابن الملقن وغيره، نعم عند أبي حنيفة وأحمد إذا خاف على نفسه العنت نقله في الحلية عنهما ثم قال: وله وجه عندي، ويباح الاستمناء بيد زوجته أو جاريته، لكن قال القاضي حسين: مع الكراهة لأنه في معنى العزل.
* * *
_________
(1) انظر: تفسير البغوي (3/303) .
(2/160)
المجلس الرابع والثلاثون
في الكلام على حديث: «لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي»
وفيه ذكر شيء من فضل سيدنا علي - رضي الله عنه -
قَالَ البُخَارِي:
باب إثم من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -
«حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِىَّ بْنَ حِرَاشٍ ... »
وربعي بن حراش تابعي ثقة كوفي عابد ورع، وكان أعور، ويقال: من فضائله أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجاج فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه وسألته عنهما فأرسل إليه عنهما فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك.
ومن فضائله: أنه حلف لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة والنار، فما ضحك إلا بعد الموت.
وكان له أخوان أحدهما يقال له: مسعود، وهو الذي تكلم بعد الموت، والآخر ربيع وهو أيضاً: حلف أن لا يضحك حتى يعرف أهو في الجنة أم النار، فقال غاسله: إنه لم يزل بعد موته مبتسماً على سريره حتى فرغنا.
قال ابن المديني: لم يرو عن أخيه مسعود شيء إلا كلامه بعد الموت.
وربعي: منسوب إلى الربيع، أدرك علياً وحدث عنه، وكانت وفاته في خلافة عمر بن عبد العزيز.
«قال سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت علياً - رضي الله عنه -»
هذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يجتمع مع رسول الله - رضي الله عنه - في عبد المطلب الجد الأدنى، ينسب إلى هاشم فيقال: القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عم رسول الله لأبويه، ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام علياً، ويكني أبا الحسن وأبا تراب كناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحب أسمائه إليه.
وما نقله في الفصول المهمة لبعض المالكية من أن سيدنا علي بن أبي طالب ولدته أمة في جوف الكعبة، فهو ضعيف عند العلماء كما نقله النووي ولم يولد في جوف الكعبة سوى حكيم بن حزام دخلت أمة الكعبة وهي حامل، فضربها المخاض، فأتيت بنطع فولدته في الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره.
(2/161)
وأمه اسمها: فاطمة بنت أسد أسلمت وهاجرت، وهي أول هاشمية وضعت هاشمياً، ماتت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل في قبرها وتمعك فيه.
فقد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة قال: بينما هو - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه أتاه آت فقال: إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت، فقال: «قوموا بنا إلى أمي» قال: فقمنا كأن على رؤوسنا الطير، فلما انتهينا إلى الباب نزع قميصه وقال «إذا كفنتموها فأشعروه إياها تحت أكفانها» فلما خرجوا إلى القبر جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة يحمل ومرة يتقدم ومرة يتأخر، حتى انتهينا إلى القبر فتمعك اللحد، ثم خرج فقال: «ادخلوها بسم الله وعلى اسم الله» فلما دفنوها قام قائما وقال: «جزاك الله من أم ومن مربيه خيراً» وسألناه عن نزع قميصه وتمعكه في اللحد فقال: «أردت أن لا تمسها النار إن شاء الله تعالى، وأن يوسع الله عليها قبرها» وقال: «ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد» قيل: يا رسول الله ولا القاسم ابنك؟ قال: «ولا إبراهيم» (1) .
وجاء في رواية عن أنس أنه قال لما ماتت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعنها، دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عند رأسها فقال: «رحمك الله كنت بأبي وأمي بعد أمي تجوعين وتشبعين، وتعرين وتكسين، وتمنعي نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة» ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما أتى الماء الذي فيه الكافور سكبه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده، ثم خلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه وألبسها إياه وكفنها فوقه، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغلاماً أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه ثم قال: «الحمد لله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أنت ارحم الراحمين» وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم (2) .
_________
(1) أورده ابن أبي حاتم في العلل (1/365، رقم 1080) ، وقال: قال أبي: هذا حديث منكر جدا.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (24/351، رقم 871) ، وفي الأوسط (1/67، رقم 189) ، قال الهيثمي (9/257) : فيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأبو نعيم في الحلية (3/121) .
(2/162)
ودفنت بالبقيع وعليها قبة عظيمة بقرب سيدنا عثمان، وسنذكر في كتاب الجنائز حكمة عصر القبر للآدمي، وفوائد متعلقة بذلك إن شاء الله تعالى.
ومن فضائل علي - رضي الله عنه -: أنه أول من أسلم على قول، وقيل: أول أسلم أبو بكر، وقيل: خديجة، وقيل: زيد بن حارثة، وقيل: بلال.
قال العراقي: والصواب التفصيل، وهو أن يقال: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر. ومن النساء: خديجة. ومن الصبيان: على. ومن العبيد: بلال. ومن الموالي: زيد بن حارثه.
واختلف في عمره لما أسلم فقيل: كان عمره سبع سنين، وقيل: تسعة، وقيل: عشر، وقيل غير ذلك.
وكان يقول: سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي (1) .
وقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء قاله الطبري (2) .
ومن فضائله: أنه أول من صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال المحب الطبري: قال علي: «صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين» (3) .
وفي رواية: «صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سنين قبل أن يصلي معنا أحد من الناس» (4) أخرجه أحمد.
وجاء في حديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لقد صلت الملائكة عليَّ وعلى علي لأنا كنا
_________
(1) انظر التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/235) .
(2) ورد في ذلك أثر عن علي بن أبي طالب حيث قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. أخرجه أبو يعلى (1/348، رقم 446) ، قال الهيثمي (9/102) : فيه مسلم بن كيسان الملائي وقد اختلط.
(3) أخرجه النسائي في الكبرى (5/106، رقم 8395) ، وابن ماجه (1/44، رقم 120) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/20) : إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم (3/120، رقم 4584) ، وابن أبي شيبة (6/368، رقم 32084) .
(4) ما وقفنا عليه في مسند الإمام أحمد (1/99، رقم 776) . عن حبة العرني قال رأيت عليا رضي الله عنه ضحك على المنبر لم أره ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه ثم قال ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نصلي ببطن نخلة فقال ماذا تصنعان يا بن أخي فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام فقال ما بالذي تصنعان بأس أو بالذي تقولان بأس ولكن والله لا تعلوني أستي أبداً وضحك تعجباً لقول أبيه ثم قال: اللهم لا أعترف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك نبيك ثلاث مرات لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً.
(2/163)
نصلي وليس يصلي معنا أحد» (1) .
ويروى أن أبا طالب قال لعلي لما رآه يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال له: «يا أبت آمنت برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته» فزعموا أنه قال: «أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه» (2) .
وفي رواية قال له: «يا بني أطع ابن عمك، فإنه لا يأمرك إلا بخير، وأما أنا فلا أفارق دين آبائي» .
ومن خصائصه: أنه كان عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزله الرأس من الجسد، وبمنزلة هارون من موسى، فقد نقل الطبري عن البراء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «أنت مني بمنزلة رأسي من جسدي» (3) .
وود أنه قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (4) .
ومن فضائله وخصائصه: ما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه قال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخي بيني وبين أحد قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (5) .
فائدة: آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الصحابة مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وأنكر ابن تيمية المؤآخات التي كانت في المدينة بين المهاجرين والأنصار، وكان عددهم مائة، ويقال: تسعين، والحكمة في المؤآخات: أن تزول الوحشة عن المهاجرين.
ومن فضائله: ما أخرجه أحمد في المناقب عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «على باب الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أخو رسول الله قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام» (6) .
_________
(1) أخرجه الديلمي (3/433، رقم 5331) عن أبي أيوب.
(2) انظر: السيرة الحلبية (1/436) .
(3) أخرجه ابن عساكر (42/ 344) .
(4) أخرجه البخاري (3/1359 رقم 3503) ، ومسلم (4/1870، رقم 2404) ، والترمذي (5/641، رقم 3731) وقال: حسن. وابن ماجه (1/42، رقم 115) ، والطيالسي (1/28، رقم 205) ، وأحمد (1/179، رقم 1547) عن سعد بن أبي وقاص.
(5) أخرجه ابن عساكر (42/51) عن ابن عمر.
(6) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2/668، رقم 1140) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (5/343، رقم 5498) . قال الهيثمي (9/111) : فيه أشعث ابن عم الحسن بن صالح. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/238، رقم 379) وقال: لا يصح. وأبو نعيم في الحلية (7/256) ، والخطيب (7/387) والديلمي (4/123، رقم 6380) .
(2/164)
وقريب من هذه الفضيلة ما نقل عن ابن عباس قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا بطائر في فمه لوزة خضرة، مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله نصرته بعلي.
وأما زهده فقد نقل: أن قوته كان دقيق الشعير فيأخذ منه قبضه فيضعها في قدح، ثم يصيب ماء ويشرب.
وكان - رضي الله عنه - يوماً جالساً فجاءه التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء فقال: الله أكبر فقام ونادى في الناس فأعطى ما في بيت المال لفقراء المسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ها وها، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة (1) .
قال الأرقم: رأيت علياً - رضي الله عنه - وهو يبيع سيفاً له في السوق ويقول: من يشتري مني هذا السيف، فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به الحروب عن وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته.
وأما كرماته فكثيرة:
منها ما ذكره في شوارد الملح: أن رجلاً قال لعلي إني أريد السفر وأخاف من السبع، فدفع إليه خاتمة وقال له: إذا جاءك السبع فقل له: هذا خاتم علي بن أبي طالب. فلما سافر الرجل وجاءه السبع فقال له: هذا خاتم علي بن أبي طالب، فرفع السبع رأٍسه إلى السماء وهمهم، ثم نظر إلى الأرض وهمهم، ثم نظر إلى المشرق وكذلك إلى المغرب، ثم ذهب مهرولاً، فلما رجع الرجل من سفره أخبر علياً عن السبع بما فعل، قال: أتعرف ماذا قال بنظره إلى هذه الجهات الأربع؟ فقال: الله ورسوله أعلم وابن عم رسوله أعلم، فقال: إنه قال حين رفع نظره إلى السماء: وحق من رفعها، وحين نظر إلى الأرض: وحق من وضعها، وحين نظر إلى المشرق: وحق من أطلعها، وحين نظر إلى المغرب: وحق من غيبها ما أسكن في بلاد يشكوني فيها لعلي بن أبي طالب.
ومن كراماته التي ظهرت له وهو في بطن أمه ما ذكره النسفي: أن أمه لما حملت به كانت إذ ذاك تعبد الأصنام، فكانت إذا أرادت السجود للصنم يعترض في بطنها فيمنعها من السجود للصنم.
_________
(1) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/531، رقم 884) ، وأبو نعيم في الحلية (1/81) .
(2/165)
قال بعضهم: فذلك يقال له دون غيره من الصحابة: كرم الله أي: كرم الله وجهه من السجود للصنم في حال كونه حملاً وبعد انفصاله.
ومن كراماته التي وقعت له وهو رضيع ما ذكره ابن الجوزي: أنه كان - رضي الله عنه - في مهده فقصدته حية فانحدر من مهده ونزل إليها وقتلها، فتعجبت أمه من ذلك فسمعت هاتفاً يقول: هذا حيدرة انحدر من مهده إلى عدوه فقتله.
ومنها: ما ذكره النسفي أن فاطمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن علياً ينام ليلة الجمعة وهي ليلة فضيلة، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى تصدق عليه بنومه ليلة الجمعة، وإن الله تعالى يخلق من روحه إذا هو نام طيراً أخضر يسرح إلى طرق السماء، فما منها موضع شبر إلا وفيه لروح علي ركعة أو سجدة» .
قال النسفي فلذلك كان يقول: سلوني عن طريق السماوات فإني أعلم بها من طريق الأرض، فلما قال ذلك يوماً جاءه جبريل في صورة رجل ليختبره فقال: إن كنت صادقاً فأخبرني أين جبريل؟ فنظر علي - رضي الله عنه - في السماء يميناً وشمالاً ثم إلى الأرض كذلك فقال: ما وجدته في السماء ولا في الأرض، ولعله أنت.
وأما علمه - رضي الله عنه - فقد كان غزير العلم، ومما وقع له من الغرائب في العلم ما قاله ابن العماد في الذريعة والمحب الطبري وغيرهما قالا: جلس رجلان يأكلان ومع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة فخلطا الأرغفة فمر بهما رجل فسلم عليهما، فقالا له: اجلس وكل معنا، فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فلما فرغوا قام الرجل القادم عليهما وطرح لهما ثمانية دراهم وقال: خذا هذا عوضاً عما أكلت لكما من خبزكما، فتنازع صاحب الخمسة أرغفة وصاحب الثلاثة في الثمانية دراهم، فقال صاحب الخمسة أرغفة: لي خمسة دراهم ولك ثلاثة، فقال صاحب الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، لك أربعة ولي أربعة فارتفعا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقصا عليه القصة، فقال لصاحب االثلاثة: إرض بثلاثة دراهم فإن خبز رفيقك أكثر من خبزك، فخذ منه الثلاثة ودع له الخمسة، فقال: لا والله لا رضيت إلا بمر الحق، فقال علي - رضي الله عنه -: ليس لك بمر الحق إلا درهم واحد وله سبعة، فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين هو يعطيني ثلاثة وما أرضى بها وتقول الآن ليس لك إلا واحد، فقال له علي - رضي الله عنه -: أليس الثمانية أرغفة أربعة وعشرين ثلثاً أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس على السواء؟ قال: بلى قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث يبقي لك واحد، فإن لك تسعة أثلاث لأن لك ثلاثة أرغفة إذا جعلت أثلاثا كانت تسعة، وأكل صاحبك ثمانية
(2/166)
أثلاث وله خمسة عشر ثلثاً، لأن الخمسة أرغفة إذا جعلت أثلاثاً كانت خمسة عشر، أكل منها ثمانية يبقى له سبعة، وأكل الضيف
ثمانية أثلاث سبعة أثلاث لصاحبك، فاستحق السبعة، والثلث الذي لك فلك الدرهم، فقال الرجل: رضيت الآن.
والضابط في ذلك أن يوزع المبلغ على الأرغفة التي أكلها الدافع.
ومما وقع له أيضاً - رضي الله عنه -: أن رجلاً في زمانه تزوج امرأتين فولدتا في ليلة مظلمة، فأتت إحداهما بصبي والأخرى بأنثى، فاختصما في الصبي وكل منهما تقول: هذا ولدي، فارتفعا إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فأمر كل امرأة أن تجلب من لبنها شيئاً، ثم وزن الحليبين فرجح أحدهما على الآخر، فحكم بأن الصبي لصاحبة اللبن الراجح، فقيل: من أين أخذت هذا؟ قال من قوله تعالى: ?لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? [النساء: 11] فالله تعالى فضل الذكر على الأنثى في كل شيء حتى في غذائه.
والحديث المشهور على ألسنة الناس: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» قال ابن الملقن: إنه حديث منكر.
لكن قال شيخنا الحافظ العلامة الجلال السيوطي: هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث علي (1) .
والطبراني والحاكم وصححه من حديث ابن عباس (2) .
وحسنه الحافظ العلائي وابن حجر.
وجاء في رواية: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (3) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (4)
حديث صحيح كما قاله النووي
_________
(1) أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) بلفظ: «أنا دار الحكمة» . قال الترمذي: غريب منكر.
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (11/65، رقم 11061) ، قال الهيثمي (9/114) : فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم (3/137، رقم 4637) .
(3) أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) وقال: غريب منكر. وأبو نعيم في الحلية (1/64) عن علي.
(4) أخرجه الحاكم (3/143، رقم 4652) عن ابن عباس.
وأخرجه ابن أبي شيبة (6/374، رقم 32132) ، وأحمد (5/347، رقم 22995) ، والحاكم (3/119، رقم 4578) عن بريدة.
وأخرجه أحمد (4/281، رقم 18502) عن البراء.
وأخرجه الطبراني في الكبير (2/357، رقم 2505) عن جرير. قال الهيثمي (9/106) : فيه بشر بن حرب وهو لين ومن لم أعرفه أيضًا.
وأخرجه الترمذي (5/633، رقم 3713) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (5/130، رقم 8464) ، والطبراني في الكبير (3/179، رقم 3049) عن زيد.
وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32072) عن جابر. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32073) ، والطبراني في الكبير (4/173، رقم 4052) عن أبي أيوب.
وأخرجه الطبراني (19/291، رقم 646) عن مالك بن الحويرث. قال الهيثمي (9/106) : رجاله وثقوا.
(2/167)
في فتاويه.
واتفق من اللطائف الغرائب بسبب هذا الحديث ما ذكره القرطبي في تفسيره في سورة «سأل» أن شخصاً يقال له: «الحارث» لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كنت مولاه فعلي مولاه» يا محمد: أمرتنا بالشهادتين فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة الخمس عن الله فقبلنا منك، وذكر الزكاة والحج، ثم لم ترض حتى فضلت علينا علياً آلله أمرك بهذا أم من عندك؟ فقال: «والله الذي لا إله إلا هو إنه من عند الله» ، فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فنزل عليه حجر من السماء فقتله (1) .
وقد ورد في فضل من أحب سيدنا علياً وفي ذم من أبغضه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» .
وفي رواية: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله» (2) .
ولله در القائل:
علي حبه جنة ... إمام الناس والجنة
وصهر المصطفى حقاً ... ويقتسم للورى الجنة
_________
(1) انظر: تفسير القرطبي (18/278) .
(2) أخرجه الطبراني في الكبير (23/380، رقم 901) عن أم سلمة، قال الهيثمي (9/132) : إسناده حسن.
وأخرجه الحاكم (3/141، رقم 4648) عن سلمان، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(2/168)
فائدة: سئل العراقي - رضي الله عنه - من أحب علياً أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان هل يكون بذلك آثماً أم لا؟
أجاب: بأن المحبة قد تكون لأمر ديني،، وقد تكون لأمر دنيوي، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقد الإنسان أن أبا بكر أفضل ثم أحب علياً من جهة الدين أكثر، كان هذا تناقضاً وهو آثم بهذه المحبة، وأما المحبة الدنيوية فليست لازمة فإذا أحب علياً أكثر من أبي بكر لأمر دنيوي تكون من أقاربه وغير ذلك فلا تناقض في ذلك، وليس بآثم بهذه المحبة، إذ من اعترف بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر لكنه أحب علياً أكثر من أبي بكر فإنه كانت المحبة المذكورة محبة دينية فهذا لم يعترف بأفضلية أبي بكر إلا بلسان وأما بقلبه فهو مفضل لعلي لكونه أحب محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية ككونه من ذرية علي - رضي الله عنه - أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع من ذلك والله اعلم.
وسنذكر في كتاب الوضوء طرفاً آخر من ترجمة سيدنا علي.
« ... سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - «لاَ تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:
قوله: «لا تكذبوا علي» : عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله: «علي» لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: «من كذب على ليضل به الناس ... الحديث» الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ? [الأنعام: 144] والمعنى: أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: ?لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً? [آل عمران: 131] ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ? [الأنعام: 151] فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم.
قوله: «فليلج النار» جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ «من يكذب علي يلج النار» ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال: «الكذب علي يولج -أي يدخل- النار» . انظر فتح الباري (1/199 - 200) .
(2/169)
هنا فوائد:
الأولى: قال العلماء: الكذب عند الأشاعرة: الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً.
وعند المعتزلة: إنما يسمى كذباً في حالة العمد، ولا يسمى كذباً في حال السهو، بدليل أن الإجماع منعقد على أن الناسي لا إثم عليه.
وأجاب عنه الأشاعرة: بأنه لا يلزم من عدم الإثم عدم تسميته كذباً، وأما ما جاء في بعض الروايات: «من كذب عليَّ متعمداً» فهو لبيان أن إثم الكذب إنما في حال العمد لا في حال السهو، ولا لبيان أنه لايسمى كذباً إلا إذا كان عمداً.
الثانية: الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - حرام، وهو فاحشة عظيمة من الكبائر سواء أكان عمداً أو سهواً وليس كذلك، بل إنما يكون من الكبائر إذا كان عمداً، بدليل الرواية الأخرى: «من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (1)
فهو مطلق محمود على
_________
(1) حديث متواتر أخرجه البخاري (1/52، رقم 108) ومسلم (1/10، رقم 2) ، والترمذي (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه (1/13، رقم 32) ، والطيالسي (1/277، رقم 2084) ، وأحمد (3/98، رقم 11960) عن أنس.
وأخرجه أحمد (3/303 رقم 14294) والدارمي (1/87، رقم 231) ، وابن ماجه (1/13، رقم 33) وأبو يعلى (3/376، رقم 1847) عن جابر.
وأخرجه البخاري (1/52، رقم 107) ، وأبو داود (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبرى (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه (1/14 رقم 36) ، والطيالسي (ص: 27، رقم 191) ، وأحمد (1/165، رقم 1413) عن الزبير.
وأخرجه الترمذي (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه الطبراني في الكبير (8/35، رقم 7302) ، والحاكم (3/454، رقم 5712) عن صهيب.
وأخرجه أبو يعلى (2/7، رقم 631) ، والطبراني في الكبير (1/114، رقم 204) عن طلحة.
وأخرجه أبو يعلى (2/428، رقم 1229) ، وابن ماجه (1/14، رقم 37) عن أبي سعيد.
وأخرجه الترمذي (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود.
وأخرجه الطبراني في الكبير (12/293، رقم 13153) قال الهيثمي (1/143) : رجاله موثقون. والخطيب (7/418) عن ابن عمر.
وأخرجه البزار (7/202، رقم 2774) ، والطبراني (8/316، رقم 8181) قال الهيثمي (1/147) : فيه خلف بن خليفة وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه بعضهم. كلاهما عن أبي مالك الأشعري.
وأخرجه الطبراني في الكبير (12/36، رقم 12394) عن ابن عباس.
(2/170)
هذا الحديث المقيد بالعمدية.
الثالثة: ذهب الإمام أبو محمد الجويني إلى أن من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - عمداً يكفر ويراق دمه.
واختاره الإمام ناصر الدين ابن المنير (1) ووجهه: بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر والحمل على الكفر كفر.
قال ابن حجر: فيما قاله نظر لا يخفى، وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد ذلك واستحله، لكن يفسق كما يفسق مرتكب الكبيرة، قالوا: وما قال الجويني ضعيف، وممن ضعفه ولده إمام الحرمين وقال: من هفوات الوالد.
الرابعة: الكذب على غيره - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء كبائر أيضاً قياساً عليه كما نبه على ذلك القاضي زكريا في كتابه غاية الوصول.
وأما الكذب على غير نبي فهو من الصغائر إلا أن يقترن به ما يصيره كبيرة، كأن يعلم الكاذب على إنسان أنه يقتل بكذبه أو يحد فهو حينئذ من الكبائر.
قال ابن عبد السلام: وعليه يحمل خبر الصحيحين: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (2) .
الخامسة: من كذب عليه - صلى الله عليه وسلم - عمداً وحدث فسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها.
_________
(1) هو: ابن المنير السكندري واسمه: أحمد بن محمد بن منصور من علماء الأسكندرية وأدبائها ولي قضاءها وخطابتها مرتين. ولد سنة: 620 هـ، له تصانيف منها: تفسير حديث الاسراء على طريقة المتكلمين، والانتصاف من الكشاف، وله نظم، وكانت وفاته في سنة: 683 هـ.
(2) أخرجه البخاري (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلى (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان (1/508، رقم 273) ، والبيهقي (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود.
(2/171)
فلو تاب وحسنت توبته قال الإمام أحمد وجماعة من الشافعية: لا تقبل رواياته أبداً بل يحتم جرحه دائماً.
ورده النووي وقال: هذا مخالف للقواعد، والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها، قال: بدليل أن العلماء أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً وأسلم، وعلى قبول شهادة تحملها كافر ثم أداها بعد الإسلام، كما إذا تحملها صبي وأداها بعد البلوغ، وكما إذا تحملها وأداها بعد التوبة.
السادسة: لا فرق في تحريم الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - بعد ما كان في الأحكام وغيره كالترغيب والترهيب فكله حرام بإجماع من يعتد به.
وأما ما ذهب إليه الكرَّامية من جواز الوضع عليه - صلى الله عليه وسلم - في الترغيب والترهيب، فهو مذهب باطل.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان الإيجاب أو الندب وكذا مقابلتهما.
السابعة: من روى حديثاً ظن أو علم أنه موضوع، ولم يبين حال رواته وضعفهم فهو داخل في هذا الوعيد، وقد صرح بهذا في حديث آخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (1) .
الثامنة: يدخل في وعيد هذا الحديث من قرأ الحديث ولحن فيه، ولهذا قال العلماء: ينبغي للراوي أن يعرف من اللغة والنحو والأسماء ما يسلم من قول ما لم يقل.
وروى ابن الصلاح بسنده عن الأصمعي أنه قال: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار» لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/14، رقم 38) عن علي.
وأخرجه مسلم (1/8) ، وابن ماجه (1/15 رقم 39) ، والطيالسي (1/121 رقم 895) ، وابن حبان (1/211، رقم 29) عن سمرة.
وأخرجه مسلم (1/8) ، والترمذي (5/36، رقم 2662) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/15، رقم 41) ، وأحمد (4/250، رقم 18209) ، والطبراني في الكبير (20/422، رقم 1021) عن المغيرة.
(2/172)
حديثاً ولحنت فيه كذبت عليه.
التاسعة: قوله «فليلج النار» بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم: «من يكذب علي يلج النار» (1) المعنى: أن جزاءه على كذبه ولوج النار، وقد يجازى وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع بدخوله النار وكذا كل وعيد ككبيرة غير الكفر.
قال البرماوي وغيره: وإن جوزي بدخول النار فلا يخلد، بل لابد من خروجه بفضل الله ورحمته.
* * *
_________
(1) أخرجه مسلم (1/9، رقم 1) .
(2/173)
قَالَ البُخَارِي: «حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ ... »
المراد بأبيه عبد الله بن الزبير، ولنذكر شيئاً من ترجمته فتقول: هو الصحابي ابن الصحابي أمير المؤمنين وكان يكني بكنيتين أحديهما: أبو بكر، والأخرى: أبو حبيب بابنه حبيب، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، وهاجرت أمه أسماء بنت الصديق من مكة وهي حامل به فولدته في سنة ثتنتين من الهجرة، لعشرين شهراً من التاريخ ففرح به أهل المدينة فرحاً شديداً، وذلك أنهم قيل: إن اليهود قد سحرتكم ولا يولد لكم ولد، ثم أتت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعه في حجره فدعا بتمره فمضغها ثم تفل في فمه وحنكه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا له.
روى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير لما ولد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هو هو» فلما سمعت بذلك أسماء أمسكت عن إرضاعه فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أرضعيه ولو بماء عينيك» .
وكان وصولاً لرحمة، وكان - رضي الله عنه - فصيحاً، ذا أنفة، أطلس، لا لحية له ولا شعر في وجهه، وكان كثير الصوم والصلاة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات.
ومن فضائله: أنه كان إذا صلى صار كأنه عود من الخشوع، وكان إذا سجد يطول حتى تنزل العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جذماً، وكان مرة يصلي وإذا بحية سقطت من سقف البيت على ابنه ثم تطوقت على بطنه وهو نائم، فصاح أهل البيت ولم يزالوا بها حتى قتلوها وهو يصلي، وما التفت ولا عجل ولا علم، فلما فرغ بعد ما قتلت الحية فقال: ما بالكم فأخبروه.
قالت أمه: كان صواماً بالنهار قواماً بالليل، وكان يسمى خادم المسجد، وكان وصولاً لرحمة.
ومن فضائله: أنه كان عظيم المجاهدة، قسم الدهر ثلاث ليال، ليلة يصلي قائماً وليلة يصلي راكعاً وليلة يصلي ساجداً حتى الصباح.
ومن فضائله: أنه أحد العبادله الاًربعة وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والرابع هو رضي الله عنهم، وليس منهم عبد الله بن مسعود، وغلَّطوا الجوهري حين عده منهم.
تولى الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد ستة أربع وستين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ما عدا أهل الشام، وجدد عمارة الكعبة وجعل لها
(2/174)
بابين وحج الناس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى أن حصر.
قال الواقدي: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنين وسبعين ستة أشهر وسبع عشر بمكة المشرق، وكان حصره أشد الحصار، وكان المحاصر له الحجاج وجماعته، واستمر محاصراً إلى أن اصابته رمية حجر جاءته من ناحية الصفا فوقعت بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول:
لسنا على الأعقاب تدمي في كلومنا ... ولكن على أقدامنا يقطر الدم
فاجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه حتى قتلوه، وكان قتلة يوم الثلاثاء لست عشر ليلة خلت من جماد الأول سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنين وسبعين سنة في أيام عبد الملك بن مروان، وأمر الحجاج بصلب جثته وحمل رأسه إلى خراسان.
وقال يعلى بن حرملة: دخلت مكة بعد ما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام فإذا هو مصلوب، فجاءت أمه امراة عجوز كبيرة طويلة مكفوفة البصر تقاد فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال لها الحجاج: تقولين عن هذا المنافق، فقالت: والله ما كان منافقاً، ولكنه كان صواماً قواماً براً، قفال: انصرفي إنك عجوز قد خرفت، قالت: لا والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت المبير (1) .
ويروى أن عبد الله بن عمر مر على ابن الزبير وهو مصلوب فقال: رحمك الله فإنك كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، وإنى أرجو أن لا يعذبك الله - عز وجل -.
وقيل: إن الحجاج أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر بعد أن صلبه فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبنى بقروني، فأخذ الحجاج بغلته وانطلق إليها حتى دخل عليها فقال لها: كيف رأيتينى صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.
وكان السبب في إنزاله من الخشبه أخوه عروة فإنه ذهب إلى عبد الملك بن مروان فرغب إليه في إنزاله من الخشبة فاسعفه فأنزل، ثم أمرت أمه أسماء ابن أبي ملكية بغسله
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (24/101، رقم 272) ، قال الهيثمي (7/256) : رواه الطبراني وأبو المحياة وأبوه لم أعرفهما.
(2/175)
فقال: كنا لا نتناول عضواً إلا جاء معنا، وكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه، ونتناول العضو الذي يليه فتغسله ثم نضع في أكفانه حتى فرغنا منه، ثم قامت تصلي عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعه حتى ماتت.
«قال: أي عبد الله بن الزبير قلت للزبير»
هذا هو قاتل الأبطال، وباذل الأموال، صاحب السيف الصارم، والرأي الحازم أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.
قال العلماء: «الزبير» بضم الزاي «ابن العوام» بتشديد الواو لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام الزبير، ويكنى: أبي عبد الله، يجتمع نسبه بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي بن كلاب، وينسب إلى أسد بن عبد العزى فيقال: القرشي الأسدى، أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلمت وهاجرت، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ابن خاله، وكان إسلامه بعد أبي بكر رابعاً أو خامساً قاله المحب الطبرى.
وفي الكرمانى: أسلم رابع أربعة أو خامس خمسة على يد الصديق - رضي الله عنه - وكان عمره لما أسلم ستة عشر سنة، وقيل: اثنتى عشرة سنة.
ولما أسلم كان عمه يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.
وصفته: أنه كان طويلا تخط رجلاه الأرض إذا ركب، خفيف العارضين، أسمر اللون، قال الكرماني: كان أشعر الكتف.
ومن فضائله: أنه أحد العشرة المبشرون بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد المهاجرين الأولين إلى الحبشة والمدينة.
ومن خصائصه: أنه أول من سل سيفاً في سبيل الله - عز وجل -، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - لفعله ذلك وذلك أنه ورد عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول من سل سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينا هو بمكة إذ سمع نغمة يعني صوتاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قتل، فخرج عرياناً ما عليه شيء، في يده السيف صلتاً، فتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: «مالك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قد قتلت، قال: «فما كنت صانعاً؟» قال: أردت والله أن استعرض أهل مكة أي: أقتل ولا أسأل عن أحد قال: فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن فضائله: أنه حواري النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لكل نبى
(2/176)
حواري، وحواري الزبير» (1) .
وفي صحيح مسلم: «ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبي حواري وحواري الزبير» (2) ومعنى الحواري: الناصر والحواريون أنصار عيسى -عليه الصلاة والسلام-، ومعنى ندب فانتدب أي: دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجاب.
ومن فضائله: أنه كان على رأسه في غزوة بدر عمامة صفراء فنزلت الملائكة على رؤسهم عمائم صفر على سيماه قاله المحب الطبري.
والحكمة في نزولهم موافقين له أن هذه الحرب أول حرب للملائكة فنزلت على سيما أول محارب لله - عز وجل - وفي سبيله.
ومن فضائله: أنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي، وكان كثير الصدقة.
قال كعب: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فما يدخل بيته منها درهم واحد كان يتصدق بذلك كله، وكان - رضي الله عنه - تاجراً محظوظاً أي: له حظ في التجارة، وسئل عن ذلك فقال: لأني لم أشتري معيباً ولم أزد ربحاً والله يبارك لمن يشاء.
قتل - رضي الله عنه - في وقعة الجمل فإنه كان مع عائشة، قال أبو الأسود الدؤلى: لما دنا علي وأصحابه والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج علي على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنادى الزبير فأقبل حتى اختلف أعناق دوابهما فقال علي: يا زبير نشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكان كذا وكذا وقال: «يا زبير تحب علياً؟» قلت: ألا أحب علياً ابن خالي وعلى ديني؟ فقال: «يا علي أتحبه؟» فقلت: يا رسول الله: ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني؟ فقال: «يا زبير لتقاتلنه وأنت له ظالم» قال: بلى
_________
(1) أخرجه البخاري (3/1047، رقم 2692) ، ومسلم (4/1879، رقم 2415) ، والترمذي (5/646، رقم 3745) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/45، رقم 122) ، وأحمد (3/338، رقم 14675) ، وعبد بن حميد (1/328، رقم 1088) عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه الحاكم (3/408، رقم 5558) عن الزبير بن العوام، وقال: صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه الترمذي (5/646، رقم 3744) وقال: حسن صحيح. والطبراني في الكبير (1/119، رقم 228) ، وابن أبي شيبة (6/377، رقم 32168) ، والحاكم (3/414، رقم 5579) ، وأحمد (1/102، رقم 799) ، وأبو يعلى (1/445، رقم 594) عن علي.
(2) أخرجه مسلم (4/1879، رقم 2415) عن جابر بن عبد الله.
(2/177)
والله لقد أنسيته مذ سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، فرجع الزبير على دآبته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله، وقال مالك يعنى رجعت قال: ذكرني علي حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لتقاتلنه وأنت له ظالم» ولا أقاتله ثم رجع منصرفاً إلى المدينة (1) .
قيل: علم أنه يقتل في ذلك اليوم فأنشد في حال رجوعه:
ولقد علمت لو أن علمي نافعاً ... أن الحياة من الممات قريب
فلما وصل إلى مكان بناحية البصرة يقال له: وادي السباع لحقه ابن جرموز، ومعه شخصان فقتلوه، ثم قطع ابن جرموز رأسه وجاء به علياً - رضي الله عنه - واستأذن في الدخول عليه فلم يأذن له بل قال لشخص عنده وقد علم بأن معه رأس الزبير: بشر قاتل ابن صفية بالنار.
ورأى علي سيفه بعد ذلك فتأمل وقال: طالما فرج بهذا السيف الكرب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كان قتله - رضي الله عنه - يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة ستة وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، واختلف في سنة يوم قتل فقيل: سبع وستون سنة، وقيل: ست وستون سنة، وقيل: أربعة وستون، وقيل غير ذلك، ودفن في موضع قتله، ثم حول إلى البصرة، وقبره مشهور فيها.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيه وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على اثنين وانفرد البخاري بسبعة، أنشد فيه حسان بن ثابت:
أقام على هدي النبي وعهده ... حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام على منهاجه وطريقه ... يولي ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوماً يحجل
له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد موثل
فكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل
إذا كشفت عن ساقها الحرب هشها ... بأبيض سباق إلى الموت يرفل
فما مثله فيهم وما كان قبله ... وليس يكون الدهر ما دام يذبل
ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشميته أفضل
_________
(1) أخرجه الحاكم بنحوه من طريق آخر عن على (3/412، رقم 5573) .
(2/178)
« ... قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لاَ أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ. قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .
قال البرماوى: هذا الحديث في نهاية الصحة، وقيل: إنه متواتر، وقال بعضهم: روي عن أكثر من ستين صحابياً، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقال بعض آخر: رواه مائتان من الصحابة.
قال ابن الصلاح: ثم لم يزل عدده في إزدياد على الاستمرار، وليس في الأحاديث
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «كما يحدث فلان وفلان» : سمى منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود.
قوله: «أما إني لم أفارقه» أي لم أفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زاد الإسماعيلي: «منذ أسلمت» والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذى ذكره.
قوله: «من كذب علي» كذا رواه البخاري ليس فيه «متعمداً» وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: «من حدث عني كذبا» ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشى من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضى الله عنهم.
قوله: «فليتبوأ» أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضاً، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ «بنى له بيت في النار» .
قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء. انظر فتح الباري (1/200 - 201) .
(2/179)
ما في مرتبته من التواتر ولا للمتواتر مثال إلا هو، وتوافره معنوي، فإن اختلاف الروايات في الألفاظ مع الاشتراك في المعاني نحو: «من تعمد علي كذباً» ، و «من يقل علي ما لم أقل» ، و «من كذب علي متعمداً» يسمى مثله بالمتواتر من جهة المعنى أي: القدر المشترك الحاصل من جميع الألفاظ متواتر.
وادعى بعض العلماء: أنه ليس في الأحاديث حديث اجتمع على روايته إلا هذا ورده البرماوي وقال: قد اجتمع العشرة في حديث رفع اليدين والمسح على الخفين، وقال البرماوى أيضاً: المحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه متعمداً، وقد روي عن الزبير أنه قال: «والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً» (1) .
قوله: «فليتبوأ» أمر للغائب يجوز فيه كسر اللام، والمشهور سكونها، والتبوء: اتخاذ المبأة أي: المنزل، فليتخذ له منزلاً من النار، وهو أمر معناه الخبر، وحينئذ فمعنى «فليتبوأ مقعده من النار» : أن الله يبوئه مقعده من النار، قال الكرماني: ويحتمل أنه أمر على حقيقته وأنه يلزم بالتبوء.
قال الطيبى: الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إذ لو قيل: كان مقعده النار لم يكن فيه هذا التغليظ.
* * *
_________
(1) أخرجه الشاشي (1/97، رقم 34) .
(2/180)
قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثاً كَثِيراً أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِباً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .
قال الكرماني: قوله: «كذبا» عام في جميع أنواع الكذب، لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم.
* * *
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «حديثا» : المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة.
قوله: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم -» : هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل «يمنعني» وإنما خشى أنس مما خشى منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب مولى هرمز، سمعت أنسا يقول: «لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» الحديث أخرجه أحمد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله: «لولا أن أخطئ» . وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام.
قوله: «كذبا» : هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب. انظر فتح الباري (1/201) .
(2/181)
قال البخاري: حَدَّثَنَا مَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . (1) .
قال ابن حجر: هذا أول ثلاثي وقع في البخاري، فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً والحديث الثلاثي هو ما كان فيه بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين البخاري ثلاثة.
* * *
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
هذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً.
قوله: «من يقل» : أصله يقول وإنما جزم بالشرط.
قوله: «ما لم أقل» أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم هذه الأحاديث، فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهى عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/201 - 202) .
(2/182)
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: َ «تَسَمَّوْا بِاسْمِى وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى، وَمَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِى، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» إيضاحه أنه يجوز التسمية باسم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يتكني بكنيته بل يكون التكني بغير كنيته - صلى الله عليه وسلم -.
والكنية: ما صدر بأب أو أم كأبي بكر وأم هانيء.
واللقب: ما أشعر بمدح أو ذم نحو: مجد الدين وكمال الدين، وأنف الناقة.
والاسم: كمحمد وزيد وغيرهما.
فاسم النبي - صلى الله عليه وسلم - المشهور: «محمد» ، وكنيته: «أبو القاسم» ، ولقبه: «رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن في الحديث دلالة على جواز التسمي باسمه - صلى الله عليه وسلم - محمد أو غيره من أسمائه فإن ذلك نافع في الدنيا والآخرة.
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: ذكر البخاري هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره، والمعاصى قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحداً أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فليتبوأ» على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره. انظر فتح الباري (1/202 - 203) .
(2/183)
وقد ورد في فضل التسمي باسمه أخبار كثيرة روى عن أبي أمامة الباهلى - رضي الله عنه - عن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ولد له مولود فسماه محمدا حباً لي وتبركاً باسمي، كان هو ومولوده في الجنة» (1) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يوم القيامة ناد مناد من قبل الله - عز وجل - ألا من اسمه محمد فيلقم، فإذا اجتمعوا بين يدي الله - عز وجل - أمر بهم إلى الجنة كرامة لاسم النبي - صلى الله عليه وسلم -» .
وروي عن الحسن البصري أنه قال: «إن الله ليوقف العبد بين يديه يوم القيامة اسمه أحمد أو محمد قال: فيقول الله تعالى له: عبدى أما استحييتني وأنت تعصينى واسمك اسم حبيبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فينكس العبد رأسه حياء ويقول: اللهم إني قد فعلت، فيقول - عز وجل -: يا جبريل خذ بيد عبدي فأدخله الجنة، فإني استحي أن أعذب بالنار من اسمه اسم حبيبى محمد - صلى الله عليه وسلم -» .
وعن علي بن موسى الرضي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سميتم الولد محمداً فعظموه ووقروه وبجلوه ولا تذلوه ولا تحقروه ولا تجبهوه، ولا تردوا له قولا تعظيماً لمحمد - صلى الله عليه وسلم -» (2) .
وجاء في الحديث: «إن البيت إذا كان فيه من اسمه محمد اتسع بأهله، وكثر خيره، وحضرته الملائكة، وبعد منه الشيطان» .
وجاء في حديث آخر: «ما اجتمع قوم في مشورة ومعهم رجل اسمه محمد فلم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم» (3) .
وأما التكني بكنيته أبي القاسم فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب إمامنا الشافعي وأهل الظاهر إلى أنه لا يحل لأحد أن يتكنى بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمد أو غيره، كان في زمنه أو بعده، وحمل الشافعي ومن تبعه النهي على العموم، ومنع قوم
_________
(1) أخرجه الرافعي (2/343) عن أبي أمامة.
(2) أخرجه الخطيب (3/91) . وأورده الذهبي في الميزان (4/59، ترجمة 4205 عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه) وذكر أنه حدث بنسخة موضوعة باطلة ما تنفك عن وضعه أو وضع أبيه.
وأخرجه بنحوه الديلمي (1/340، رقم 1354) عن جابر.
(3) أخرجه ابن عدي (1/168، ترجمة 4 أحمد بن كنانة شامى) ، وقال: منكر الحديث. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/174، بعد رقم 267) عن علي.
(2/184)
من القائلين بهذا المذهب تسميته الولد بالقاسم، كي لا يكون سبباً لتكنيته والده بأبي القاسم، ويؤيد هذا قوله في الحديث: «إنما أنا القاسم» (1) فأخبر بالمعنى الذي اقتضى اختصاصه بهذا الكنية.
وذهب الإمام مالك إلى جواز التكني به بعد زمانه، وجعل النهي مختصاً بحياته - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن الحديث ورد على سبب وهو: أن اليهود في زمانه تكنوا بهذه الكنية، وكانوا إذا رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادون يا أبا القاسم فيلتفت - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: لم نعنك، إظهاراً للإيذاء، قال: وقد زال ذلك المعنى.
وذهب بعضهم إلى: أنه لا يجوز هذه التكنية لمن اسمه محمد ويجوز لغيره، واختار هذا المذهب الرافعي وقال: يشبه أن يكون هذا أصح، لأن الناس لم يزالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار.
ورد النووي في الأذكار هذا المذهب وقال: فيه مخالفة لظاهر الحديث، واختار ما ذهب إليه الإمام مالك من تخصيص التحريم بحياته - صلى الله عليه وسلم - أخذاً من السبب المذكور.
وقال في الروضة: إنه أقرب المذاهب أخذاً من سبب النهي، وضعفه البيهقي ومع أنه مخالف لقاعدة: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: بل الأقرب ما رجحه الرافعي، وقال الأسنوي: إنه الصواب لما فيه من الجمع بين خبر الصحيحين المذكور وخبر: «من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي» (2) وهذا الحديث رواه ابن حبان وصحح البيهقي إسناده.
فإن قيل: يشكل على ما قاله الرافعي تكنية سيدنا علي ولده محمد بن الحنفية بأبي القاسم، فإنه جمع بين الاسم والكنية، وأجابوا عنه بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص له في
_________
(1) جزء من حديث صحيح متفق عليه ورد عن أكثر من صحابي فأخرجه البخاري (5/2290، رقم 5843) ، ومسلم (3/1682، رقم 2133) ، وأحمد (3/385، رقم 15169) ، والبيهقي (9/308، رقم 19107) عن جابر.
وأخرجه البخاري (1/39، رقم 71) ، ومسلم (2/719، رقم 1037) ، وأحمد (4/99، رقم 16956) عن معاوية.
(2) أخرجه البيهقي (9/309، رقم 19111) وأخرجه أيضًا: أبو داود (4/292، رقم 4966) ، وأحمد (3/313، رقم 14396) ، والطيالسي (ص 241، رقم 1750) عن جابر.
وأخرجه أحمد (2/312، رقم 8094) ، وأبو يعلى (10/449، رقم 6063) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/146، رقم 1409) عن أبي هريرة.
(2/185)
ذلك كما قاله الشافعي وأصحابه، فإنه ورد في سنن أبي داود أن علياً قال يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد اسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال: «نعم» (1) .
وقال أحمد بن عبد الله: ثلاثة تكنوا بأبي القاسم رخص لهم: محمد بن الحنفية، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله قاله ابن الملقن.
فإن قيل: يشكل على قول الرافعي أيضاً ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني قد ولدت غلاماً فسميته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك فقال: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو ما الذي أحل كنيتي وحرم اسمي» (2) .
أجاب شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر عنه وقال: يشبه إن صح أن يكون قبل النهي لأن أحاديث النهي أصح يعني هذا الحديث المذكور ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل النهي عن التكنية بكنيته، وحينئذ فلا يشكل لأن المتاخر نسخه.
فائدة: لم ينه عن التسمية باسمه - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان لا ينادى به غالباً ولو نودي به لم يجب إلا لضرورة قاله القاضي زكريا.
فائدة أخرى: التكني بغير أبي القاسم جائز بلا خلاف.
فائدة أخرى: المستحب إذا خاطب أهل الفضل ومن قاربهم أن يخاطبهم بالكنية، وكذا إذا كتب إلى شخص رسالة، وكذا إذا روى عنه روايته فيقول في الرسالة: السلام على أبي فلان. وفي الرواية: حدثنا الشيخ أو الإمام أبو فلان بن فلان. ومن الأدب أن الإنسان إذا كتب رسالة شخص أن لا يكتب كنيته فيها، بل ولا في غير الرسالة إلا أن لا يعرف إلا بالكنية، أو كانت الكنية أشهر من اسمه فله أن يكتبها، قال بعضهم: إذا كانت أشهر كتب اسمه وكتب بعده: المعروف بأبي فلان، ولنا عود إلى ذكر فوائد متعلقة بالكنية في محل آخر إن شاء الله تعالى.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» فقد اختلف العلماء في معناه فقال القاضي الباقلاني: معنى الرؤية أنها رؤية
_________
(1) أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4967) . وأخرجه أيضا الحاكم (4/309، رقم 7737) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (9/309) ، وابن أبي شيبة (5/263، رقم 25914) .
(2) أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4968) ، وأخرجه أيضا: البيهقي (9/309، رقم 19114) ، وأحمد (6/135، رقم 25084) .
(2/186)
صحيحة ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان، ويدل على أن الرؤية في قوله: «فقد رآني» مؤوله برؤيا المنام لأنها رؤية حقيقية أن الرائي قد يراه على خلاف صفته المعروفة، كان يراه أبيض اللحية، وأنه قد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فيراه كل منهما في مكانه.
قال حجة الإسلام الغزالي: ليس معنى «فقد رآني» : أنه رأى جبهتى وبدني بل رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في النفس إليه، بل البدن في اليقظة أيضاً ليس إلا آلة النفس، فالحق أن ما يرى حقيقة روحه المقدسة التي هي محل النبوة فما رآة من الشكل ليس هو روح النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا شخصه بل مثال له.
قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته منزهه عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله في المنام لا بمعنى أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره.
وقال ابن العربي القاضي (1) : إن رآه على صفته فهي هو حقيقة، وإن رآه على غير صفته فهي رؤيا تأويل لا حقيقة، والراجح كما قال الكرماني وغيره وصوبه النووي: حمل الحديث على ظاهره بأن يقال: معنى «فقد رآني» رؤيا حقيقية لا منامية وما مثالية، ولو رآه على غير صفته المعروفة أو في مكانين وليس لمانع أن يمنع ذلك، لأن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل.
فإن قيل: كيف تكون الرؤية حقيقية إذا رآه على غير صفته أو في مكانين؟
فالجواب: إن التغير المذكور ليس في ذاته بل في صفاته، وتكون ذاته مرئية وصفاته مستحيلة، والرؤية أمر يخلقه الله في الحي ولا يشترط أن يكون بمواجهته ولا تحديق بصر، ولا كون المرئي ظاهراً بل الشرط كون موجودا فقط حتى تجوز رؤية أعمى الصين من في قبة الأندلس، ولم يقم دليل على فناء جسمه - صلى الله عليه وسلم - بل الحديث يقتضي بقاءه.
سؤال: فإن قيل: الحديث المسموع منه في المنام هل هو حجة يستدل به أم لا وإذا أمر أحد بشيء هل يجب عليه امتثال أم لا.
فالجواب: أن الحديث المسموع منه - صلى الله عليه وسلم - في المنام ليس بحجة، إذا يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطاً عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وإذا أمر أحد بشيء لا يجب عليه امتثاله على الأصح لكن يستحب.
_________
(1) ابن العربي القاضي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع -رحمه الله- في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن توفي سنة: 543هـ.
انظر: شذرات الذهب (4/141) ، وتذكرة الحفاظ (4/86) .
(2/187)
سؤال: فإن قيل: إذا رآه شخص في المنام قلنا إنه هو حقيقة فهل يطلق على الشخص الرائي أنه صحابي أم لا؟
فالجواب: لا يطلق عليه بمجرد رؤيته في المنام أن صحابي، لأن الصحابي مسلم رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرؤية المعهودة الجارية على العادة، أو رآه في حياته في الدنيا، لأنه أخبر - صلى الله عليه وسلم - الناس عن الله تعالى في الدنيا لا في القبر، فالصحبة إنما تثبت وتعتبر حال كونه مخبراً عن الله تعالى.
وقوله: «فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» يحتمل أن يراد بالشيطان هنا إبليس شخصه، فتكون الألف واللام للعهد، ويحتمل أن يراد غيره من نوعه، فالألف واللام للجنس.
والشيطان: إما مشتق من «شاط» بمعنى هلك فيكون على وزن «فعلان» ، وإما من «شيطان» أي: بعد على وزن «فيعال» .
ومعنى: «لا يتمثل في صورتي» لا يتصور في صورتي، وعدم تصور الشيطان بصورة النبي - صلى الله عليه وسلم - معدود من خصائصه، والحكمة في ذلك حتى لا يكذب لعنه الله على لسانه - صلى الله عليه وسلم - في النوم.
لطيفة: قال في الروض الفائق عن أبي محمد بن العلاء رحمة الله تعالى أنه قال: دخلت المدينة وقد غلب علي الجوع، فزرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت عليه وعلى الصحابيين أبي بكر وعمر رضى الله عنهما، وقلت يا رسول الله جئت وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلا الله - عز وجل -، وأنا ضيفك في هذه الليلة، ثم غلبني النوم فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه، ثم انتبهت من المنام ونصفه الآخر في يدي فتحقق عندي قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي» ثم نوديت يا أبا عبد الله لا يزور قبري أحد إلا غفر له، ونال شفاعتي غداً.
فائدة: جميع الأنبياء كنبينا - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخصوصية وهي: أن من رآهم في المنام فهم هم، ولا يتمثل الشيطان في صورتهم، كما نبه على ذلك الكرماني نقلاً عن محيي السنة، فمن عد هذه الخاصة من خصائص نبينا أراد بها الخاصة الإضافية أي: بالنسبة إلى الأمة لا حقيقية لمشاركة الأنبياء له فيها.
وقال الدماميني (1) في خصائصه: لم أقف على أن جميع الأنبياء كنبينا في هذه الخاصة، ولكن جلالة مقام النبوة تقتضي أن لا يتسلط الشيطان على التمثيل بصورة أحد من أهلها المصطفين الأخيار، كائناً من كان لكراماتهم على الله، ورفعة منزلتهم عنده
_________
(1) الدماميني هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن أبي بكر الدماميني، قاض مالكي قرشي مخزومي من أهل من أهل الاسكندرية، ولي قضاءها أكثر من ثلاثين سنة، قال السخاوي: صار وجيها ضخم الرياسة مع نقص بضاعته في العلم، وقال العيني: لم يكن له اشتغال بالعلم بل ان يخدم الناس كثيراً. قلت: والناظر إلى نموذج خطه، لا يجرده من العلم، وحسبه ثلاثون سنة في القضاء، وكانت وفاته سنة: 845 هـ.
(2/188)
فينبغي تحرير النقل في ذلك، هذه عبارته وكأنه لم يقف على عبارة الكرماني.
فائدة أخرى: ورد في الحديث: «إن أول ما يرفع من الأرض رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في المنام والقرآن والحجر الأسود» .
فائدة أخرى: قال علماء التعبير من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نومه فإن كان مغموماً ذهب غمه، وإن كان مديوناً قضى الله دينه، وإن كان مغلوباً نصره الله تعالى، وإن كان محبوساً أطلق، وإن كان عبداً أعتق، وإن كان غائباً رجع إلى أهله سالماً، وإن كان معسراً أغناه الله تعالى، وإن كان مريضاً شفاه الله تعالى، وإن رآه في أرض حرب فإن أولئك الجند ينتصرون على عدوهم، وإن رآه في أرض مقحطة فإن أهلها يخصبون ويرفع عنهم القحط.
قيل: وإن رآه في صورة شاب طويل فإنه يكون فتنه في الناس وقتلاً كثيراً، وإن رآه في صورة شيخ كبير فإن الناس في عافية، وإن رآه وهو أبيض يعلوه حمرة وعليه ثياب بيض، فإنه يتوب إلى الله تعالى ويحسن عمله وتستقيم طريقته.
فائدة أخرى: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي» (1) .
قوله: «فسيرانى في اليقظة» زيادة على الحديث الذي ساقه البخاري هنا، وقد اختلف العلماء في معناه.
فقيل: معناه أن من رآني في منامه فسيراني يوم القيامة، ورد هذا بأن كل أمته يوم القيامة يراه من رآه منهم في منامه ومن لم يره، فلا فائدة لتخصيص ذلك بمن رآه.
وقيل: معناه أن من آمن به في حياته ولم يره لكونه غائباً عنه، فإذا رآه في النوم يكون مبشراً له أنه لابد وإن يراه في اليقظة قبل موته.
والصحيح: حمل الحديث على ظاهرة بأن يقال: إن كل من رأى النبي في منامه لابد وأن يراه في اليقظة بعيني رأسه، وهو عام شامل لكل من رآه في النوم في حياته وبعد مماته، وشامل لمن فيه الأهلية كالخواص ومن لا أهلية له كالعوام.
واستشكل الحديث من جهة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في عالم الغيب فكيف يراه الحي وهو في عالم الشهادة، ورد هذا الإشكال ابن أبي جمرة وقال: في هذا القول من
_________
(1) أخرجه البخاري (6/2567، رقم 6592) ، ومسلم (4/1775، رقم 2266) ، وأبو داود (4/305 رقم 5023) . وأخرجه أيضا: أحمد (5/306، رقم 22659) .
(2/189)
المحذور وجهان خطران
أحدهما: عدم التصديق بقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى.
والثاني: الجهل بقدرة القادر وتعجيزها فإنه تعالى قادر أن يجعل رؤيته في النوم - صلى الله عليه وسلم - سبباً لرؤيته في اليقظة.
قال شيخنا جلال الدين السيوطي في كتابه تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - والملك: ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحة، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وقال: قال الأستاذ أبو منصور عبد الظاهر بن طاهر البغدادي من المتكلمين المحققين من أصحابنا: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - حي بعد وفاته، وأنه يبشر بطاعات أمته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته، وقال: إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنه رآه في قبره مصلياً (1) .
وقال البيهقي: النبي - صلى الله عليه وسلم - حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء وأنه غيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد الكرامة برؤيته فيراه على هيئته التي هو عليها فلا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال، وأكثر ما يقع هذه الرؤية للعامة قبيل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روح من رآه في منامه حتى يراه في اليقظة، وفاء بوعده - صلى الله عليه وسلم - وأما غير العامه وهم الخواص فتحصل لهم هذه الرؤية في طول حياتهم، إما كثيراً وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، فالإخلال بالسنة مانع كبير.
وقد نقل عن كثير من السلف والخلف ممن كانوا رأوه - صلى الله عليه وسلم - في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث، فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها فرجها، فجاء الأمر
_________
(1) أخرجه مسلم (4/1845، رقم 2375) ، والنسائي (3/215، رقم 1631) ، وابن حبان (1/242، رقم 50) ، وابن أبي شيبة (7/335، رقم 36575) ، وأحمد (3/148، رقم 12526) ، وأبو يعلى (6/71، رقم 3325) ، وعبد بن حميد (1/362، رقم 1205) ، وأبو نعيم في الحلية (6/253) عن أنس.
(2/190)
كذلك بلا زيادة ولا نقص.
حكي عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم فتذكر هذا الحديث، وبقي يفكر فيه، ثم دخل على بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ميمونة فقص عليها قصته، فقامت وأخرجت له مرآته - صلى الله عليه وسلم - قال - رضي الله عنه -: فنظرت في المرأة فرأيت صورة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم أر لنفسي صورة.
وعن الشيخ عفيف الدين اليافعي عن الشيخ الكبير قدوة الشيوخ العارفين وبركة أهل زمانه أبي عبد الله القرشي قال: لما جاء الغلام الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو فقيل لي: لا تدعو لا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل - عليه السلام - تلقاني الخليل أي: في اليقظة فقلت: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم ففرج الله عنهم، قال اليافعي: فقوله: «تلقاني الخليل» قول حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى موسى في الأرض، وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي.
وحكى الشيخ الإمام سراج الدين ابن الملقن في طبقات الأولياء عن الشيخ الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الظهر أي: في اليقظة فقال: يا بني لم لا تتكلم قلت يا أبتاه أنا رجل عجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك، قال: فقتحنه، فتفل فيه سبعاً، وقال: تكلم على الناس، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير، فارتج علي فرأيت علياً قائماً بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستاً، فقلت: لم لا تكملها سبعاً؟ قال: أدباً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على دار المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان، فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع.
* * *
(2/191)
المجلس الخامس والثلاثون
في قصة موسى مع الخضر صلوات وسلامه عليهما
الحمد لله الذي جعل العلم للعلماء نسباً، وأغناهم به وإن عدموا مالاً ونسباً، ولأجله فاز إدريس بالجنة واخبتا، ولطلبه قام الكليم ويوشع وانتصبا، فسار إلى أن لاقيا في سفرهما نصباً، وبسببه خلق الله آدم للبشر أباً، وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أبى، واستخرج من ذريته قبائل وشعباً، وأجرى عليهم قلم القضا، وجعل لكل شيء سبباً، وفق أهل العلم بعنايته فقاموا في خدمته رغباً ورهبا، وفقهم إذ عرفهم أحكامه فأحرزوا به رتبا، وجعلهم في الدنيا كالأعلام وهداة للأنام فاقتفوا به جداً وأبا، وقذف في قلوبهم من المشكلات ما كان بعيداً محتجبا، وكساهم به عزاً وجلالة وسمتاً ومهابة فغدا كل منهم مكرماً ومجتبى، وأذاقهم حلاوة أحكامة فما وجدوا في سفر طلبه تعبا، فإذا وفدوا إليه في القيامة ألبسهم تيجان الكرامة وناداهم أهلاً وسهلاً ومرحبا.
قَالَ البُخَارِي:
بَاب مَا يُستَحبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ خَطِيباً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتاً فِى مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلاَ حُوتاً فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَباً، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أُمِرَ بِهِ. فَقَال لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ - أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ - فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ
وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ فَقَالَ أَنَا
(2/192)
مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلاَ أَعْصِى لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِى الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ. فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً. فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا،
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ» . قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» (1) .
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر وفي قصة موسى والخضر من الفوائد:
أن الله يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث.
وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن ذلك راجع إلى الشرع: فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح.
وإن لله تعالى فيما يقضيه حكماً وأسراراً في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف. فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة.
ولننبه هنا على مغلطتين:
الأولى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى - عليه السلام - من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وإن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: ?إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? [الأعراف: 144] .
قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلاً ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة.
قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحاناً لموسى ليعتبر.
ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور: «استفت قلبك وإن أفتوك» قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى: ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? [الحج: 75] وقال: ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام: 124] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدى. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفث في روعي» .
قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت.
وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق.
وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحاً، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعاً وعقلاً، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/219 – 222) .
(2/193)
قوله: «إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ» : قال العلماء: نوفا هذا هو ابن فضالة، وكنيته أبو زيد وقيل: أبو رشيد، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه.
قال ابن رجب: وهو ممن أسلم من أحبار اليهود، وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير، فلهذا يقال له البكالي، وكان من علماء التابعين.
«يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ» : معنى هذا: أن سعيد بن جبير قال لابن عباس أن نوفا يزعم أن موسى الذي قص الله تعالى لنا قصته مع الخضر في سورة الكهف، ليس موسى بنى إسرائيل الذي هو موسى بن عمران، بل هو موسى آخر موسى بن ميشا (1) ، فلما سمع ذلك ابن عباس عن نوفا قال عنه: «كذب عدو الله» حيث قال: إنه ليس موسى بن عمران.
وقد استشكل العلماء قول ابن عباس في حق نوفا: «كذب عدو الله» وقالوا: كيف يكون عدو الله وهو مؤمن، وكان عالماً قاضياً إماماً لأهل دمشق.
وأجابوا عنه بأجوبة: أحدها: أن المراد كذب شيطانه الحامل له على هذه المقالة.
ثانيها: أن قول ابن عباس كذب عدو الله خرج مخرج التنفير من كلامه حيث قال: «إن موسى الذي قصد الخضر ليس موسى بن عمران بل موسى آخر» وليس المراد القدح فيه.
ثالثها: أن ابن عباس قاله في حالة الغضب، وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا يراد بها حقائقها.
«قال ابن عباس: حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ» : هذا هو الصحابي الجليل الأنصاري الخزرجي، وكان رجلاً قصيراً نحيفاً أبيض الرأس واللحية، شهد العقبة الثانية وبدراً وما بعدها من المشاهد، وكان كاتب الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده أيضاً.
ومن فضائله: أنه أقرأ الصحابة لكتاب الله تعالى.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/219) : قوله: «انما هو موسى آخر» كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو علم على شخص معين قالوا: إنه موسى بن ميشا بكسر الميم وبالشين المعجمة، وجزم بعضهم أنه منون مصروف لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالاً للعلم إذا نكر تخفيفاً.
(2/195)
ومن فضائله ومناقبه التي لم يشاركه فيها أحد من الصحابة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أمرني الله تعالى أن أقرأ عليك القرآن» (1) وسنذكر في المجالس الآتية حكمة أمر الله له بالقراءة عليه.
سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأنصار، وسماه عمر سيد المسلمين روى له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائه حديث وأربعة وستون حديثاً، ذكر البخاري منها سبعة أحاديث مات سنة تسع عشرة أو عشرين أو ثلاثين بالمدينة.
«عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ» : قال العلماء: كان موسى صلوات الله وسلامه عليه من ذرية إبراهيم الخليل، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاو بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان عمره حين مات كما قاله ابن الملقن مائة وعشرين سنة.
واختلف العلماء في السبب الذي قصد موسى لأجله الخضر، فقيل سببه: أن موسى سئل ربه فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال: فهل في عبادك في الأرض أعلم مني؟ قال: نعم، قال: رب من هو؟ قال: الخضر ثم نعته له ودله على مكانه فقصده.
وقيل سببه: أن موسى لما ظهر على فرعون وغلبه وأخذ مصر من القبط، وأهلكهم الله واستقر هو وبنو إسرائيل، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام «موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه» أي: لم يرض الله بقوله أنا أعلم، فإنه كان من حقه أن يرد العلم إلى الله، بأن يقول: الله أعلم به أو يرد برد الملائكة أن يقول: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن مخلوقات الله لا يعلمها إلا الله قال الله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] .
وليس معنى العتب هنا المؤاخذة وتغير النفس، فإن ذلك في حق الله مستحيل.
«فأوحى الله إليه» : لما لم يرد العلم إليه.
_________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (2/88، رقم 1337) عن أبي بن كعب.
وأخرجه البخاري (4/1896، رقم 4676) ، ومسلم (1/550، رقم 799) ، والنسائي في الكبرى (5/66، رقم 8238) ، وأحمد (3/218، رقم 13310) عن أنس.
(2/196)
وقال: «إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين» أي: عند ملتقى البحرين وهما بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق.
«هو أعلم منك، قال: يارب كيف به» أي: على أي حال يكون الطريق إلى ملاقاته، وجاء في رواية: «قال يارب فدلني عليه حتى أتعلم منه» .
«فقيل له: احمل حوتاً في مكتل» أي: إذا أردت الاجتماع به فاحمل معك حوتاً سمكة في مكتل أي: في زنبيل واذهب إليه.
قال: «فإذا فقدته فهو ثم» أي: إذا فقدت الحوت فالعبد الذي هو أعلم منك هناك، فجعل فقد الحوت علامة ودليلاً على مكانة.
«فانطلق» أي: موسى، «وانطلق بفتاه» أي: بصاحبه «يوشع بن نون» قاصدين الخضر.
قال أبو عبد الله: «يوشع» يجوز أن يقال: بالشين المعجمة وإن يقال بالسين المهملة، يوشع كان نبياً في زمن موسى صلوات الله وسلامه عليهما سواء.
فإن قيل: عدوا من جملة شروط النبوة أن يكون النبي أكمل أهل زمانة، وهذا يستلزم عدم جواز إرسال نبيين في عصر واحد، فكيف أرسل يوشع في زمن موسى وهارون أخوه أيضاً في زمنه، فإن إرسال موسى وأخيه ثابت بنص القرآن قال الله تعالى: ?اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ? [طه: 43] . وقال: ?فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا? [الشعراء: 15] . وقال: ?فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ? [طه: 47] .
جوابه: أن معنى هذا الشرط والمراد منه أنه يشترط أن يكون أكمل أهل زمانه ممن ليس نبياً فهو شرط عام، ولكنه مخصوص كما أفاد ذلك ابن الهمام وشيخنا ابن أبي الهمام في المسايرة وشرحها.
«وحملا حوتاً في مكتل» أي: تزودا عند سفرهما لأجل الخضر بسمكة مالحة وضعاها في مكتل وسارا.
«حتى كانا عند الصخرة» أي: حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين أي: بين البحرين قيل: وكانت هذه الصخرة دون نهر الزيت بالمغرب.
والحكمة في أنهما اجتمعا بمجمع البحرين: أنهما بحران في العلم، وكان عند الصخرة عين ماء تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئاً ميتاً إلا حي بإذن الله تعالى، وكان قد أكلا من ذلك الحوت أحد جنبيه، وبقي الجنب الآخر، فلما وصلا إلى الصخرة «وضعا رؤوسهما فناما» .
(2/197)
قيل: قام يوشع بن نون وتوضأ من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش.
وقيل: أصابه روح الماء وبرده فاضطرب في المكتل وعاش.
«فانسل الحوت من المكتل» أي: فخرج منه فسقط في البحر كما قال تعالى: ?فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً? [الكهف: 61] أي: ذهب في البحر ذهاباً.
قيل: وأمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق أي: مثل عقد البناء وهو: ما ترك تحته خالياً وعقد أعلاه بالبناء.
فائدة: اتفق هنا معجزتان:
إحداهما: حياة السمكة المملوحة المأكول منها.
والثانية: صيرورة الماء مثل السرب المحفور تحت الأرض كما جاء في رواية: «فجعل الماء لا يلتئم حتى صار كالكوة» .
وهاتان المعجزتان إما موسى أو للخضر. «وكان لموسى وفتاه عجباً» .
فائدة: قال الدميرى: قال أبو حيان الأندلسي: رأيت سمكة بقرب مدينة «سبته» من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه بصفته، فأحياه الله تعالى فاتخذ سبيله في البحر سرباً، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد أحد جنبيها شوك وعظام، وجلد رقيق على أحشائها وعينها ورأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استنفرها، ويحسب أنها مأكوله، ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة.
ومن غريب ما روى أيضاً: أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً وإن موسى مشى عليه تبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر فيها وجد الخضر.
فلما استيقظ موسى نسى صاحبه يوشع أن يخبره بالحوت.
«فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما» وفي رواية في البخاري في التفسير وفي مسلم أيضاً: «فانطلقا بقية يومهما وليلتهما» (1) وهو الصواب وكما قاله البرماوي وابن الملقن لقوله: «فلما أصبح» .
_________
(1) أخرجه البخاري (4/1752، رقم 4448) ، ومسلم (4/1847، رقم 2380) ، والترمذي (5/309، رقم 3149) .
(2/198)
وجاء في رواية: «حتى إذا كان من الغد وارتفع النهار حتى جاء وقت الظهر» .
«قال موسى لفتاه آتنا غدآءنا» والغداء: بفتح الغين المعجمة والممدودة الطعام الذي يؤكل أول النهار.
«لقد لقينا من سفرنا هذه نصبا» أي: تعباً، وإنما حصل لسيدنا موسى التعب والجوع بعد مفارقة الحوت لا قبله، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولم يجد موسى مساً من النصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به» .
والحكمة في حصول التعب له والجوع بعد مفارقة الحوت حتى يطلب الغداء، فيذكر فيه نسيان الحوت، فيرجع إلى محله فيجتمع بمراده.
قال أبو الفضل الجوهري: مشى موسى - عليه السلام - للمناجاة أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع.
«فقال لفتاه» يوشع لما طلب منه الغداء «أرأيت إن أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت» أي: لما نمنا عند الصخرة نسيت الحوت.
سؤال: فإن قيل: كيف نسى يوشع الحوت ومثله لا ينسى، لكونه أمارة على مرادهما.
جوابه: أن الشيطان قد شغله بوسواسه حتى نسي، ولذلك قال: ?وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ? [الكهف: 63] .
«قال موسى» له لما استمع قوله: فإني نسيت الحوت «ذلك ما كنا نبغ» أي: فقدنا للحوت هو الذي كنا نطلبه، لأنه علامة على وجود مطلوبنا.
«فارتدا على آثارهما قصصاً» أي: فرجعا يقتصان الآثار حتى وصلا إلى الصخرة.
«فلما أتيا إلى الصخرة» أراه مكان فقد الحوت.
«إذا برجل مسجى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه» أي: فلما وصل إلى الصخرة وإذا بالخضر مغطىً بثوب كله كتغطية الميت وجهه ورجله وجميعه، كما جاء في رواية أخرى: «قد تسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه» .
وقال الثعلبي: فانتهى موسى وفتاه إلى الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء، على وجه الماء، وهو مسجي بثوب أخضر.
وفي صحيح البخاري (1) : «فأتيا جزيرة فوجدا الخضر قائماً يصلي على طنفسة
_________
(1) وقع في الأصل صحيح مسلم ولم نقف على هذه الرواية في صحيح مسلم فلعل الصواب ما أثبتناه.
(2/199)
خضراء على كبد البحر» (1) أي: وسطه.
«فسلم موسى» على الخضر، «فقال» له «الخضر وأنى بأرضك السلام» أي: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام، فأني اسم استفهام بمعنى: من أين هنا، كما في قوله تعالى: ?أَنَّى لَكِ هَذَا? [آل عمران: 37] فإنها نكون بمعنى: من أين، وبمعنى: متى وحيث وكيف.
وتعجب الخضر من وقوع السلام إما لأن السلام لم يكن معروفاً عندهم إذ ذاك، إلا بين الأنبياء والأولياء، وإما لأن تلك البلاد كانت بلاد كفر وهم لا يعرفون السلام.
فلما قال له الخضر: «وأنى بأرضك السلام» تحقق موسى أن الخضر عرفه فعرَّفه بنفسه «فقال: أنا موسى فقال» له الخضر: أنت «موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم» .
وقال بعض العلماء: إن موسى لما سلم عليه وهو مغطى عرَّفه أنه موسى، فرفع رأسه واستوى جالساً وقال: عليك السلام يا نبي بنى إسرائيل، قال: ما الذي أدراك بي، ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي، ثم قال الخضر: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك، وأن الوحي يأتيك، قال موسى: إن ربي أرسلني لأتبعك وأعلم من علمك.
ثم «قال» موسى للخضر: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً» أي: صواباً أرشد به، وإنما سأله ذلك لأن الزيادة إلى العلم مطلوبة.
سؤال لصاحب الكشاف وهو: فإن قيل: دلت حاجته إلى العلم من الخضر أنه ليس موسى بن عمران بل موسى بن ميشا لأن موسى بن عمران نبي، والنبى يجب أن يكون أعلم أهل زمانه.
وأجاب: أنه لا نقص بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله.
وقال الكرماني: وهذا الجواب لا يتم على القول بولاية الخضر، ثم أجاب: بأن موسى لم يسأل الخضر عن شيء من أمر الدين، والأنبياء لا يجهلون ما يتعلق بدينهم الذي يعبدون الله به، وإنما سأله عن شيء ليس عنده علمه مما ذكر في السورة.
فلما سأل موسى الخضر أن يتبعه حتى يتعلم منه «قال» له الخضر: «إنك لن
_________
(1) أخرجه البخاري (4/1754، رقم 4449) .
(2/200)
تستطيع معي صبراً» يعني: إنك سترى مني شيئاً ظاهره منكر فلا تصبر عليه.
ثم قال له الخضر أيضاً: «يا موسى إني أعلم علم من علم الله علمينه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه إياه الله لا أعلمه» أنا.
جاء في رواية: «أن الخضر قال له: فما شأنك إن الوحي يأتيك يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه» .
ثم قال له: «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً» يعني: على ما لم تعلمه.
«قال» له موسى: «ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً» : إنما قال موسى إن شاء الله لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم من عدم عصيانه، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين.
فقال الخضر: «فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً» يعني: إذا رأيت مني ما تنكره باطناً بحسب علمك، فاصبر حتى أبينه لك بعلته بحسب علمي، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
«فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهما، فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول» .
سؤال: فإن قيل: كيف قال «فحملوهما» مع أنهم كانوا ثلاثة الخضر وموسى ويوشع، ويدل عليه قوله: «فكلموهم» .
فالجواب: أن يوشع لما كان تابعاً اكتفي بذكر الأصل عن الفرع، وهذا نظير قوله تعالى: ?فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى? [طه: 117] ولم يقل فتشقيان، بل ثنى ثم أفرد، لأن آدم هو الأصل فأفرد بالذكر، وحواء كانت تابعة فلم تذكر اكتفاءً بذكر الأصل عن الفرع.
فالحاصل: أن أهل السفينة حملوا الثلاثة في سفينتهم بغير أجرة.
«فجاء عصفور» وذكر بعضهم: أنه الصُّرَد قاله الزركشي.
«فوقع على حرف السفينة» أي: على طرفها «فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور» نقص علمي وعلمك من علم الله عز وجل لاكتفون هذا العصفور في البحر.
استشكل العلماء هذا وقالوا: إن ظاهره يقتضي أن علم الله يدخله النقص مع أن الزيادة والنقص لا يدخلان في علم الله تعالى؟
(2/201)
وأجابوا عن الاستشكال المذكور بأجوبة:
أحدهما: أن هذا على جهة التمثيل، والمعنى: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقر العصفور من البحر، فإنه لقلته وحقارته لا يظهر، وكأنه لم يأخذ شيئا.
الثاني: أن «إلا» هنا بمعنى «ولا» كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك شيئاً من علم الله، ولا ما أخذ العصفور من هذا البحر، أي: أن علم الله لا يدخله النقص ومثل هذا قوله تعالى ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً? [النساء: 92] .
والثالث: أن «إلا» على بابها، والمراد بالنقص: التفويت الذي له أثر محسوس، ونقر العصفور ليس ينقص البحر بهذا المعنى، فكذلك علمنا لا ينقص من علم الله شيئاً.
وهذا كقول الشاعر:
ولا عيب فيه غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
أي: ليس فيهم عيب.
الرابع: أن العلم هنا بمعنى: المعلوم كالعمل في قوله تعالى: ?وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ? [البقرة: 256] ولولا ذلك لما صح دخول التبعيض فيه، لأن الصفة القديمة لا تبعض.
الخامس: لابن رجب وهو جواب حسن قال: إن البحر لا ينقص البتة من العصفور، بل ولا بشرب غيره من الحيوانات، بل ولا بالاستسقاء منه، ولو نزف منه جميه أهل الأرض لم ينقص شيئاً في الحقيقة، وذلك أن البحر يمده جميع أنهار الدنيا، ومياهها الجارية، فلا يؤخذ منه شيء، إلا وفي تلك الحال يستخلف فيه ما هو أكثر مما أخذ منه، فلا يتصور نقصه مع ذلك.
وشبه ذلك بما في الجنة من طعام وشراب وثمار وغيرها قال: فإنها لا تنقص أبداً مع تناول أهل الجنة منها، فإنه يستخلف في الحال مثل المأخوذ منه أو أكثر فالمعنى: إن علمي وعلمك لا ينقص من علم الله شيئاً كما لا ينقص هذا العصفور من هذا البحر شيئاً، وهذا كقوله تعالى: ?لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاماً? [مريم: 62] أي: لا يسمعون فيها لغو البتة.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة» أي: بعد أن توسطوا البحر.
«فنزعه» وقيل: نزع لوحين منها.
(2/202)
وقد جاء في رواية في الصحيح: «أنه وتد فيها وتداً» .
وفي رواية أخرى: «أنه عمد إلى قدوم» أي: فأس «فخرق لوحاً من السفينة حتى دخلها الماء» .
«فقال موسى» بعد أن دخل الماء السفينة وحشا الخرق بثوبه، وقيل: إن الماء لم يدخلها وسدها موسى بثوبه خوفاً من دخوله.
«قوم حملونا بغير نول» وأحسنوا إلينا.
«فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها» أي: ما هذا جزاؤهم منا.
«لقد جئت شيئاً إمراً» أي: لقد فعلت فعلاً عظيماً منكراً.
فقال الخضر لموسى: «ألم أقل إنك لم تستطيع معي صبراً» فاعتذر إليه موسى وقال: «لا تؤاخذني بما نسيت» أي: غفلت.
«ولا ترهقني من أمري عسراً» يعني عاملني في صحبتي إياك بالعفو والتيسير، ولا تضيق علي وتعاملني بالعسر.
«فكانت الأولى» أي: المسألة الأولى «من موسى نسياناً» أي: فلهذا اعتذر، وأما الثانية: فإنه لم ينس فلهذا لم يعتذر، وجاء في رواية في الصحيح: «فكانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً» .
فائدة: قال الثعلبي: قال ابن عباس: «لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحيته ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل، كنت في بني إسرائيل أتلو عليهم كتاب الله غدوة وعشية، وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم، قال: قلت كذا وكذا، قال: «صدقت» .
«فانطلقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان على الساحل فإذا غلام» لطيف ظريف وضيئ.
«يلعب مع الغلمان» أي: مع الأطفال، وكانوا عشرة فأخذه الخضر وقتله بلا ذنب في الظاهر، وموسى ينظر إليه.
وفي مسلم: «فذعر موسى ذعرة منكرة عندها» (1) .
واختلف العلماء في كيفية قتله إياه:
فقيل: أخذه فضجعه ثم ذبحه بالسكين.
_________
(1) أخرجه مسلم (4/1850، رقم 2380) .
(2/203)
وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله.
وقيل: أدخل أصبعه في سرته أي الصبي فاقتلعها فمات.
وقال في هذا الحديث: «فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده» .
واختلفوا في اسمه أيضاً، فقيل: جيسور، وقيل: حسين، وقيل جنتور، وقيل غير ذلك.
«فقال موسى أقتلت نفسا ذكية» أي: طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث.
وأكثر العلماء والمفسرين على أنه كان دون البلوغ، والذي يدل عليه أنه كان دون البلوغ قوله: «إذا غلام يلعب مع الصبيان» فإن الغلام يطلق على من دون البلوغ فقد قال العلماء: المولود يسمى غلاماً وصبياً وطفلاً إلى البلوغ، فإذا بلغ يسمى شاباً إلى الثلاثين، فإذا وصل إلى الثلاثين يسمى كهلاً إلى الأربعين، فإذا وصل إلى الأربعين يسمى شيخاً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه كان بالغاً لما قتله الخضر، واستدلوا على ذلك بقوله: «بغير نفس» فإن المعنى: قتلت نفساً ذكية من غير أن يصدر منها قتل يوجب القصاص، والصبي لو قتل لا قصاص عليه، فدل على أنه كان بالغاً.
وأجاب الكرماني عنه: بأن المراد بقوله: «بغير نفس» التنبيه على أنه قتل بغير حق، أو إن شرعهم كان يقضي إيجاب القصاص على الصبي.
«قال موسى: للخضر لقد جئت» بقتلك الصبي
«شيئاً نكراً» أي: منكراً فلما قال له هذا الكلام غضب الخضر، ثم اقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم منه، فإذا عظمة كتفه مكتوب عليها كافر لا يؤمن بالله أبداًً، فلما اعترض على الخضر في فعله الثاني، وأنكر عليه كما أنكر عليه أولاً.
«قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال ابن عينية: وهذا أوكد» يعني: زيادة لك هنا أوكد في عتاب موسى، وفي عدم حفظه للوصية وقلة صبره، وفي ذلك أيضاً تنبيه على أنه لا عذر لموسى في هذه المرة الثانية بخلاف الأولى، ولهذا قال للخضر: «إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني بعد هذه المرة» أي: لا تتركني أتبعك وفارقني قد بلغت من لدني عذراً في فراقك إياي.
«فانطلقا يمشيان حتى إذا أتيا أهل قرية» واختلف العلماء في هذه القرية التي أتاها الخضر وموسى.
(2/204)
فقيل: هي «أنطاكية» وعليه ابن عباس وأكثر العلماء والمفسرين.
وقيل: هي قرية من قري الروم تسمى «الناصورة» وإليها ينسب النصاري.
وقيل: «آيلة» وهي: أبعد الأرض من السماء.
وكان دخولهما قبل غروب الشمس، وكانوا محتاجين إلى الطعام مفتقرين إلى تحصيله، إما بكسب أو سؤال، وقد مستهما الحاجة إليه، لأن ذلك الوقت كان وقت جدب واضطرار.
فلما دخلا القرية «استطعما أهلها» أي: طلبوا منهم الطعام ضيافة، «فأبوا أن يضيفوهما» فإنهم كانوا لئاماً.
وقد روى أبي بن كعب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله: ?فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا? [الكهف: 77] قال: «كانوا أهل قرية لئاماً» قال قتادة: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه.
فلم يجدوا تلك الليلة في تلك القرية قرى (1) ولا مأوى، وكانت ليلة باردة فالتجئوا إلى حائط على شارع «يريد أن ينقض» أي: يقرب أن يسقط لميلانه كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ? [الكهف: 77] ، ولم يزل أهل القرية وغيرهم من الناس يمر تحته على خوف منه، وكان قد بناه رجل صالح.
قال الثعلبي: وكان سمك ذلك الحائط مائتي ذراع بذارع ذلك القرن، وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وكان عرضه خمسون ذراعاً فأقامه الخضر لما رآه مائلاً.
واختلف العلماء في كيفية إقامته، فقيل: هدمه ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده فقام، وقيل: مسحه بيده فاستقام كما قال في هذا الحديث: «قال الخضر بيده، فأقامه» أي: أشار إليه بيده فأقامه، قيل: في هذا الذي فعله الخضر دلالة على أنه نبي، لأن إقامة هذا الجدار بإشارة من يده معجزة عظيمة، وأجاب عنه الكرماني: بأنه يحتمل أن يكون ذلك كرامة تصدر من الولي، فلا دلالة فيه على أنه نبي.
«فقال له موسى» لما أقام الجدار وأصلحه: قوم استضفناهم فلم يضيفونا مع شدة احتياجنا إلى الطعام فأصلحت جدارهم بلا ضيافة منهم.
_________
(1) المراد به إكرام الضيف.
(2/205)
«لو شئت لاتخذت عليه أجراً» أي: لاتخذت على ذلك أجرة لتكون لنا قوة وبلغة على سفرنا.
قال الخضر: «هذا فراق بيني وبينك» أي: لهذا الاعتراض الثالث علي سبب للفراق بيني وبينك يا موسى (1) .
ثم قال له: ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً? [الكهف: 78] أي: سأخبرك عن سبب خرق السفينة وقتل الغلام وإصلاحي الجدار، لتعلم أنه لا إنكار علي.
ثم أخذ يبين له ذلك فقال كما قال الله تعالى حكاية عنه: ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ? أي: لعشرة مساكين أخوة، ولم يكن لهم معيشة غيرها ورثوها من أبيهم، وكانت تساوي ألف دينار.
ثم قال له الخضر: فأردت أن أعيب هذه السفينة قطعاً لطمع الطامعين فيها، ودفعاً لشرهم، فإنه كان ?وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً? قال: فخرقتها وعبتها لئلا يتعرض لها ذلك الملك ويدعها لعيبها، فإذا جاوزوه صلحوها فانتفعوا بها، وقد أصلحها الخضر بعد مجاوزة الملك.
فائدة: استدل ابن عبد السلام بخرق السفينة مخافة أخذ الغاصب على أنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون، وخاف عليه أن يأخذه ظالم، أنه يجب أن يعيبه لأجل حفظها، وقريب من هذه المسالة ما لو خاف الوصي على المال الذي تحت يده من استيلاء ظالم عليه فله تخليصه بشيء منه، والله يعلم المفسد من المصلح، ونظير هذا ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلاً وعلم أنه لو لم يبذل منه شيء لقاضي سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض خونته وأدي ذلك إلى ذهابه، فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئاً ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به، والقول قوله إذا نازعه المحجور عليه بعد رشده في بذل ذلك، وإن لم تدل القرائن عليه، وكذلك القول من عيب مال اليتيم قوله ونحوه إذا نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه لم يفعله لهذا الغرض، كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة أنه الأوجه، قال: لأن ذلك لا يعلم إلا منه غالباً.
ثم أخذ الخضر يبين له ما فعله بالغلام فقال كما قال الله حكاية عنه ?وَأَمَّا الغُلامُ
_________
(1) إلي هنا انتهت الرواية التي عند البخاري وبعدها أكمل السفيري القصة بنحو ما جاء في سورة الكهف من الآية (79) إلي الآية (81) .
(2/206)
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ? وكان هو كافراً، وكان ابن عباس يقرأ هذه الآية ?وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ?.
وفي صحيح مسلم: «وأما الغلام فطبع يوم طبع كافراً، وكان أبواه قد عطفاً عليه فلو أنه أدرك أرهقهما طغياناً وكفراً» .
وهذا بمعنى قول الخضر ?فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً? أي: فعلمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعى أبويه إلى الكفر، فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه فيدخلان النار، والطغيان: الزيادة في الضلال.
ثم قال الخضر: ?فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? أي: وأوصل للرحم وأبر بوالديه.
قال الثعلبي: فأبدلهما الله جارية مؤمنة أدركت يونس بن متى، فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم.
وري عن جعفر الصادق عن أبيه أنه قال: أبدلهما جارية ولدت سبعين نبياً.
ثم أخذ يبين له حال الجدار فقال كما قال الله تعالى: ?وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ? وكان اسم الغلامين: «أصرم، وصريم» .
?وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا? واختلف العلماء في ذلك الكنز أي شيء كان:
فقيل: كان صحفاً مدفونة تحته فيها علم.
وقيل: كان لوحًا من ذهب مكتوب في أحد شقية: «بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي شقه الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه» رواه عطاء عن ابن عباس.
وقال أكثر العلماء: إن الكنز كان ملآناً بذهب وفضة وهو الظاهر من إطلاقه.
ثم قال: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا? شيخاً ?صَالِحاً? أي: أميناً تقياً، فحفظا بصلاح أبيهما ولن يذكر منهما صلاحاً، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء.
قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي
(2/207)
هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ وستر (1) .
لطيفة: حكي عن بعض العلوية أنه دخل على هارون الرشيد وقد همَّ بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله، فقيل له: بما دعوت حتى أنجاك الله منه قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي (2) .
قال الخضر: ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا? المدفون تحت الجدار ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? وإنما فعلته بأمر الله ?ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً?.
لطيفة: قال الثعلبي: لما أنكر موسى على الخضر خرق السفينة مخافة غرق أهلها، وقتل الغلام، وإقامة الجدار محتسباً بدون أجر، قال له: يا موسى أتلومني على خبر السفينة مخافة غرق أهلها ونسيت نفسك حين ألقتك أمك وأنت صغير في اليم ضعيف فحفظك الله، وتلومني على قتل الغلام الكافر بلا أمر، ونسيت نفسك حين قتلت القبطي بغير أمر، تلومني على ترك أخذ الأجرة في إقامة الجدار، ونسيت نفسك حين سقيت أغنام شعيب لأجل الله تعالى (3) .
قال الثعلبي: وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أو غيره: أن موسى لما أرد فراق الخضر قال له الخضر: استودعك الله، فقال له موسى: أوصني، فقال له الخضر، لا تكن مشاء في غير حاجة، وإياك واللجاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد (4) .
«قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يرحم الله موسى لوددنا لوصبر حتى يقص علينا من أمرهما» .
«لوددنا» جواب قسم محذوف، «ولو صبر» في تأويل المصدر أي: والله لوددنا صبر موسى، لأنه لو صبر لأبصر أعجب العجائب.
وروي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب العجاب، ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت
_________
(1) أورده ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/187) .
(2) انظر: قصص الأنبياء المسمي عرائس المجالس (ص 129) .
(3) انظر: قصص الأنبياء السابق.
(4) انظر: قصص الأنبياء السابق.
(2/208)
من لدني عذراً» .
استنبط الإمام النووي وغيره من قصة موسى والخضر فوائد كثرة:
قالوا: فيه دلالة على استحباب الرحلة للعلم وفضيلة طلبه.
وفيه: دلالة على جواز النزول للسفر.
وفيه: دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الأدب مع العالم، وأن يحترم المشايخ، وأن يترك الاعتراض عليهم، وأن يؤول ما لم يفهم ظاهره من أقوالهم وأفعالهم، وأن يوفي بما عاهدهم عليه، وأن يعتذر لهم عند مخالفتهم.
وفيه: دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يطلب من غيره الطعام عند احتياجه إليه.
وفيه: دليل على إثبات كرامات الأولياء.
وفيه: دليل على جواز الإجازة، وعلى جواز ركوب السفينة، وعلى جواز ركوبها بغير أجرة برضا صاحبها.
وفيه: دليل على أن الشرع إنما يحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه.
وفيه: دليل على أن الكذب: الإخبار على خلاف الواقع عمداً أو سهواً خلافاً للمعتزلة (1) .
وفيه: دليل على أنه إذا تعارضت مفسدتان على شيء واحد جاز دفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، كمسئله ابن عبد السلام السابقة وغيرها، ولهذا خرق الخضر السفينة لدفع غصبها، فإن الخرق أهون من الغضب.
وفيه: دليل على جواز فساد بعض المال لإصلاح باقيه.
قال العلماء: يجوز خصاء صغار الحيوان المأكول لأجل أن يطيب لحمه، ولا يجوز خصاء كبار المأكول ولا خصاء غير المأكول مطلقاً، وعليهما يحمل حديث النهي عن خصاء البهائم.
وقالوا: يجوز قطع بعض آذان الأنعام للتمييز، قاله ابن الملقن.
وفيه: دليل على جواز التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه كل الناس، ولو كان ظاهره منكراً، واستفيد هذا من قتل الغلام وخرق السفينة، فإن صورتهما صورة المنكر، وفي نفس الأمر كانا صحيحين
_________
(1) فإنهم يشترطون الكذب عن طريق العمد فقط، ولكن المذهب الحق أن الإخبار بغير الواقع سواء كان عمداً أو سهواً أو غلطاً. قاله النووي في شرح مسلم (1/94) .
(2/209)
ولهما حكمة كانت خفية عن الخلق، فلما أعلمهم الخضر بها بعد أن أعلمه الله بها علموها، ولهذا قال: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي?.
وفيه: دليل على أنه يجب الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع.
وفيه: دليل على أنه يجب على العالم الرغبة في الزيادة من العلم والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، ولهذا لم يكتف موسى بعلمه بل طلب الزيادة.
وفيه: دليل على أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول، ويقضي له حاجته، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب، بل من مروءات الأصحاب، وحسن العشرة، ودليل هذا: حمل فتى موسى وهو يوشع الغداء.
وفيه: دليل على أنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم ولا أدري.
جاء في الخبر: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري» (1) .
وقال الشعبي: «لا أدري» نصف العلم.
وقال الإمام مالك: جنة العالم «لا أدري» فإذا أخطأها فقد أصيبت مقالته.
وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة: من أين أجبت؟.
وكان ابن عمر يقول: يريدون أن يجعلونا جسراً يعبرون علينا.
وكان ابن عمر أيضاً يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسعة.
ونقل عن الإمام مالك أنه سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: «لا أدري» .
وكذلك قال إمامنا الشافعي «لا أدري» في مسائل.
وكذلك أبو حنيفة سئل عن تسع مسائل فقال فيها: «لا أدري» .
وكذلك كان أحمد بن حنبل يكثر من قول: «لا أدري» .
حتى نقل عن جبريل أنه قال: «لا أدري» .
وكذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أدري» .
_________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/299، رقم 1001) عن ابن عمر، قال الهيثمي (1/172) : رواه الطبراني في الأوسط، وفيه منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه.
(2/210)
قال حجة الإسلام الغزالي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا أدري أعزير نبي أم لا، وما أدري تبع ملعون أم لا، وذو القرنين نبي أم لا» (1) .
ولما سئل عن خير بقاع الأرض وشرها؟ قال: «لا أدري» حتى نزل جبريل فسأله فقال: «لا أدري» إلى أن علمه الله تعالى أن المسجد خير البقاع، وشرها السوق (2) .
وكان في الفقهاء من يقول: «لا أدري» أكثر من أن يقول: «أدري» منهم: الثوري، ومالك، وأحمد، والفضيل، وبشر بن الحارث.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلي: «أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين صحابياً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك» (3) .
وفي لفظ آخر: «كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول» (4) .
وفي الحديث: دليل على أنه ينبغي للعالم التواضع مع الناس كلهم، خصوصاً مع المتعلمين، فيرفق بهم ويلين لهم الكلام، ويبذل لهم النصيحة، كما أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لعلمه، ويجلس بين يديه متأدباً، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه، وقد أمر الله سيد المتواضعين نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - بخفض الجناح قال الله تعالى: ?وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ? [الحجر: 88] .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري فيقول: مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً ليأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا آتوكم فاستوصوا بهم خيراً» رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما (5) .
_________
(1) أخرجه أبو داود (4/218، رقم 4674) ، والحاكم (1/92، رقم 104) ، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (8/329، رقم 17373) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (7/154، رقم 7140) عن أنس، قال الهيثمي (2/6) : فيه عبيد بن واقد القيسي، وهو ضعيف.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/19، رقم 58) ، والدارمي (1/65، رقم 135) .
(4) أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1/70) .
(5) أخرجه الترمذي (5/30، رقم 2650) ، وابن ماجه (1/91، رقم 249) ، وأخرجه أيضًا: الطبراني في الشاميين (1/226، رقم 405) ، وأبو نعيم في الحلية (9/253) .
(2/211)
وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لينو لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه» (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أكرم الناس جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي، لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت» (2) .
وفي رواية قال: «إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني» .
وقال أيوب السجستاني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله تعالى.
وفي قول الخضر لسيدنا موسى - عليه السلام -: «إني على علم من علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه» دليل على أن موسى علمه الله الشريعة دون الحقيقة.
قال شيخنا جلال الدين السيوطي: إنما جمعت الحقيقة والشريعة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر وقوله: «إني على علم ... » إلى آخره.
قال البلقيني: قول الخضر لموسى: «إني على علم ... » إلى آخره، ظاهره أنه يمتنع تعليم العلمين معاً وهو مشكل، فإنه لا يمنع جمعها. ثم أجاب بجوابين:
أحدهما: بين فيه وجه امتناع الجمع بين الحقيقة الشريعة فقال: جواب هذا الإشكال: أن علم الحقائق والكشوف ينافي علم الظاهر، فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي، لأنه إذا وجد غلاماً ظاهر الشرع يقتضي امتناع قتله، والحقيقة تقتضي أن يقتل، فلا ينبغي له أن يعلم هذا لما قررناه من التنافي، وأما العالم بالحقيقة فلا ينبغي له أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفاً به، والذي ينافي ما عنده من الحقيقة، فإنه إذا اطلع بمقتضى الحقيقة على أن هذا الغلام يقتل كان منافياً للظاهر الشريعة.
الجواب الثاني: أنه يمكن حمل العلم على تنفيذه أي: العمل به لا على امتناع تعلمه والمعنى: أن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه لتعمل به، ولأن العمل به مناف لمقتضى الشرع، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه لأن مقتضاه منافي لمقتضى الحقيقة، قال: فعلى هذا لا يجوز للولي التابع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اطلع على حقيقة شيء أن ينفذ ذلك بمقتضى الحقيقة، وإنما عليه تنفيذ الحكم للظاهر، قال: ولا أر من تعرض لذلك، والله تعالى أعلم.
_________
(1) أخرجه الديلمي (1/79، رقم 238) ، وابن عدي (4/335 ترجمة 1165 عباد بن كثير الثقفي) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/86، رقم 9569) .
(2/212)
المجلس السادس والثلاثون
في الكلام على قوله تعالى:
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ? [الإسراء: 85]
وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالروح
قَالَ البُخَارِي:
باب قول الله تعالى: ? وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ? [الإسراء: 85]
حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ تَسْأَلُوهُ لاَ يَجِىءُ فِيهِ بِشَىْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً? [الإسراء: 85] . قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا (1) .
يتعلق بهذا الحديث وهذه الآية فوائد كثيرة في الروح وغيره:
الفائدة الأولى: «الروح» تذكر وتؤنث فيقال: روح طيب، وروح طيبة.
الفائدة الثانية: تطلق «الروح» في القرآن وغيره على معان، تطلق ويراد بها: ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة.
وتطلق ويراد بها: ملك له سبعون ألف لسان يسبح الله بها ويقدسه.
وتطلق ويراد بها: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش.
_________
(1) قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/224) : قوله: «خرب» : جمع خربة ويقال بالعكس والخرب ضد العامر.
قوله: «عسيب» : أي عصا من جريد النخل.
قوله: «لا تسألوه لا يجيء» : لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء.
قوله: «لنسألنه» جواب القسم المحذوف.
قوله: «الروح» : الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل: عن جبريل. وقيل: عن عيسى. وقيل: عن القرآن. وقيل: عن خلق عظيم روحاني.
قوله: «هكذا في قراءتنا» أي قراءة الأعمش وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش والله أعلم.
(2/213)
وتطلق ويراد بها: خلق كخلق بني آدم له أيد وأرجل.
وتطلق ويراد بها: عيسى - عليه السلام -.
ونطلق ويراد بها: القرآن.
وتطلق ويراد بها: الوحي.
وتطلق ويراد بها: خلق من خلق الله، لا ينزل ملك إلى الأرض إلا نزل معه.
وتطلق ويراد بها: مَلَك عظيم يقوم وحده فيكون صفاً، وتقوم الملائكة صفاً، قال تعالى: ?يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ? [النبأ: 38] .
وتطلق ويراد بها الروح التي في الجسد.
فهذه أحد عشر معنى للروح.
والفائدة الثالثة: اختلف العلماء في المراد بالروح المسئول عنها في الآية من هذه المعاني، فقيل: عيسى بن مريم، كأنهم سألوه عنه فقال لهم: هو من أمر الله لا كما تقوله النصارى فيه.
وأكثر المفسرين والعلماء على أن الروح المسئول عنها هي: الروح التي في الجسد سألوه عن حقيقتها وكيفية امتزاجها في الجسم فقال لهم في الجواب: «هي من أمر ربي» أي: ما استأثر الله بعلمه، أي: اختص بعلمه ولم يطلع عليها أحد من خلقه.
قال بعضهم: قال أكثر أهل العلم: وليس في الآية دليل على أن الروح أي: روح الجسد لا تعلم، ولا أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها، ولكن إنما أمره الله تعالى أن يقول لهم: «هي من أمر ربي» ولم يعينها لهم لأمرين:
أحدهما: أنه كان عندهم في التوراة أن الروح من أمر الله تعالى، لا يطلع عليها أحداً، فقالت اليهود: نسأله عنها فإن أجاب فليس بنبي، وإن لم يجب فهو صادق، فلما سألوه لم يجبهم بل انتظر حتى نزلت عليه الآية، فأخبرهم أنها من أمر الله، فقالوا: هكذا نجده عندنا.
الأمر الثاني: إنما قال لهم: «هي من أمر الله» لأنهم قصدوا تعجيزه وتغليطة، فإن الروح لما كانت مشتركة بين المعاني التي قدمنا ذكرها، قصدوه أن يسألوه فبأي معنى من المعاني أجاب قالوا: ليس هذا، فأمره الله تعالى أن يجيبهم جواباً مجملاً، فإن أمر ربي يصدق على كل واحدة من مسميات الروح.
واعلم أنه قد افترق الناس فيها فرقتين، فرقة أمسكت عن الكلام فيها، لأنها سر من أسرار الله تعالى لم يؤت علمه لبشر، وهذه الطريقة هي المختارة.
(2/214)
قال الجنيد: الروح شيء استاثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود.
وعلى هذه الطريقة ابن عباس وأكثر السلف (1) .
وها هنا سؤال على هذه الطريقة وهو: فإن قيل: ما الحكمة في عدم اطلاع عباده على حقيقة الروح؟
جوابه: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم بحقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق سبحانه وتعالى من باب أولى قاله القرطبي.
وقال ابن بطال: الحكمة في ذلك تعريف الخلق عجبهم من علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم ذلك إلى رد العلم إليه.
والفرقة الثانية: تكلمت فيها وبحثت عن حقيقتها.
قال النووي: وأصح ما قيل في ذلك قول إمام الحرمين: إنها جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر.
وقال جمهور الأطباء: هو البخار اللطيف الساري في الأبدن.
وقيل: هي بعض الجسم.
وقال أبو الحسن الأشعري (2) : الروح النفس الداخل والخارج. قال ابن الملقن وهذا أشهر الأقوال.
وقيل: الروح الدم.
وقيل: جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الإنسان.
قال ابن الملقن: وذكر بعضهم فيها سبعين قولاً.
الفائدة الرابعة: اختلف العلماء هل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الروح وأمره الله أن لا يطلع عليها أحداً، أو ما علمها؟
فقيل: إنه قبض ولم يعلمها.
وقيل: أطلعه الله عليها ولم يأمره أن يطلع عليها أمته، وهذا نظير الخلاف في علم الساعة.
الفائدة الخامسة: وقع الاختلاف في الروح هل هي جسم أو عرض.
_________
(1) وهذه الطريقة في الوقوف عند تعريف الروح أن حقيقتها مما استأثر الله بعلمه، قال ابن حجر في الفتح (1/224) أنه هو الصحيح.
(2) أبو الحسن الاشعري هو: علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن، من نسل الصحابي أبي موسى الاشعري، مؤسس مذهب الأشاعرة، كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين، ولد في البصرة سنة: 260 هـ، وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم، وتوفي ببغداد سنة: 324 هـ، قيل: بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب، منها: إمامة الصديق، والرد على المجسمة، ومقالات الإسلاميين، والإبانة عن أصول الديانة، ورسالة في الايمان، ومقالات الملحدين، والرد على ابن الراوندي، وخلق الأعمال، والأسماء والأحكام، واستحسان الخوض في الكلام، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، يعرف باللمع الصغير.
(2/215)
فذهب كثير من الصوفية كما قاله الرزكشي إلى أنها ليست بجسم ولا عرض، بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا خارج عنه. وهذا هو رأي الفلاسفة.
وذهب كثير من المتكلمين وأهل المعتزلة إلى أنها عرض وأنه الحياة التي صار البدن بوجودها حياً.
وأكثر المسلمين على أنها جسم كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، لوصفها في الأحاديث والآيات بالترقي والقبض والإمساك والإرسال والإخراج والخروج والتنعم والتعذيب والتردد في البرزخ، وأنها تأكل وتشرب وتسرح وتنطلق وتعرف، وهذه صفات الأجسام، والعرض لا يتصف بها.
الفائدة السادسة: اختلف العلماء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو مختلفان؟
والذي عليه أكثر العلماء: أن الروح والنفس بمعنى واحد، وذهب بعض العلماء إلى أنها غير النفس، وبه قال السهيلي، وفرقوا بينهما بأن النفس طينية نارية، والروح نورية روحانية، وبأن النفس لا تريد إلا الدنيا، والروح تدعو إلى الآخرة.
الفائدة السابعة: اختار ابن عبد السلام أن الروح في القلب، وبه جزم الغزالي في كتابه الانتصار، وقال بعض المتكلمين: الذي يظهر أن الروح بقرب القلب، والذي قاله إمام الحرمين وقال النووي إنه أصح ما قيل: إن الروح في سائر البدن لا في القلب فقط كما قدمنا ذلك.
الفائدة الثامنة: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الروح محدثة مخلوقة، ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة، ويدل على حدوثها حديث: «الأرواح جنود مجندة» (1) والمجندة
_________
(1) بقية الحديث: « ... فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»
أخرجه البخاري (3/1213، رقم 3158) ، وأبو يعلى (7/344، رقم 4381) ، والقضاعي (1/185، رقم 274) عن عائشة.
وأخرجه مسلم (4/2031، رقم 2638) ، وأبو داود (4/260، رقم 4834) ، وأحمد (2/295، رقم 7922) ، وابن حبان (14/42، رقم 6168) عن أبي هريرة.
وأخرجه الطبراني في الكبير (10/230، رقم 10557) عن ابن مسعود. قال الهيثمي (8/87) : رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/198) ، والحاكم (4/466، رقم 8296) ، وقال: صحيح الإسناد. والطبراني في الكبير (6/263، رقم 6169) ، وفي الأوسط (2/160، رقم 1577) عن سلمان.
(2/216)
لا تكون إلا مخلوقة.
الفائدة التاسعة: اختلف العلماء في الروح هل خلقت قبل الأجساد أو بعدها؟
فقيل: بعدها واستدل بحديث: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة امثال الذر» (1) أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة.
و «النسمة» : الروح.
وبحديث: «إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (2) .
لكن قال شيخنا الجلال السيوطي سنده ضعيف جداً.
الفائدة العاشرة: ذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم إلى أن الروح تبقى بعد موت البدن، فهي أبدية، وخالف في ذلك الفلاسفة.
وإذا قلنا ببقائها فهل تفنى عند القيامة ثم تعاد توفيه بظاهر قوله تعالى: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? [الرحمن: 26] أو لا تفنى؟ حكاهما السبكي في تفسيره المسمي «بالدر النظيم» .
وقال: والأقرب منهما أنها لا تفنى، وإنما تكون حينئذ ممن استثنى الله في قوله: ?إِلاَّ مَن شَاءَ? [النمل: 87] (3) كما قيل في الحور العين.
وأما قوله تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران 185] فالمراد بموت النفوس: مفارقتها الأجساد وخروجها منها، لا أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، بل هي باقية بعد مفارقة الأجساد في نعيم أو في عذاب، وحينئذ فلا إشكال على من يقول ببقائها وعدم فنائها.
الفائدة الحادية عشر: فإن قيل: بأي شيء تتمايز الأرواح بعد مفارقة الأشباح
_________
(1) أخرجه الحاكم (2/355، رقم 3257) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضا: الترمذي (5/267، رقم 3076) وقال: حسن صحيح. وأبو يعلى (11/263، رقم 6377) .
(2) أورده ابن القيم في كتاب الروح من طريق ابن مندة (1/160) عن عمرو بن عبسة.
(3) والآية بتمامها تدل على هذا المعنى قال الله تعالى: ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ? [النمل: 87] .
(2/217)
حتى تتعارف، وهل تتشكل بشكل؟
فالجواب: أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وقد شاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرواح الأنبياء ليلة الأسراء في مثال الأجساد.
وقال جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيدي وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.
قال العلامة ابن القيم: بل تمييزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيراً، وأما الأرواح فقل ما تشبته.
قال: وقل أن ترى بدناً قبيحاً وشكلاً شنيعاً إلا وكانت روحة المتعلقة به تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى شكلاً حسناً وصورة جميلة وتركيب لطيف إلا وكانت روحه المتعلقة به مناسبة له (1) .
قال: وإذا كانت الملائكة تتميز من غير أبدان تحملهم، وكذلك الجن فالأرواح البشرية أولى (2) .
الفائدة الثانية عشر: وقع في كلام الغزالي في «الدرة الفاخرة» أن روح المؤمن على صورة النحلة، وروح الكافر على صورة الجرادة.
قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه «شرح الصدور» : وهذا شيء لا يعرف له أصل، ولا يُستدل على ما قاله الغزالي بما وقع في حديث الصور من أن إسرافيل يدعو الأرواح فتأتيه جميعاً، أرواح المؤمنين تتوهج نوراً، والأخرى مظلمة فيجمعها جميعاً فيلقيها في الصور ثم ينفخ فيه، فيقول الرب جل جلاله: «وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها» فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فتأتي كل روح إلى جسدها فتدخل تمشي في الأجساد مثل السم في اللديغ (3) .
وإنما لم يستدل به: لأن قوله: «مثل النحل» ليس المراد به أن الأرواح تخرج من الصور في صورة النحل وهيئتها، بل المراد: أن هيئة خروجها من الصور كهيئة خروج
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/40) .
(2) انظر: الروح لابن القيم (1/40) .
(3) أخرجه إسحاق بن راهويه (1/84، رقم 10) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/312) عن أبي هريرة.
(2/218)
النحل فالتشبيه راجع إلى هيئة الخروج لا إلى الصورة وهيئتها، وهذا نظير قوله تعالى: ?كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ? [القمر: 7] .
الفائدة الثالثة عشر: لا تزال الخصومة بين الناس حتى يختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، وأنت كنت، لولاك لم أستطع أعمل شيئاً، ويقول الجسد للروح: أنت أردت، وأنت سولت، ولولاك كنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يداً ولا رجلاً، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً لكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: أركبني فتناولهما، فإيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتها على أنفسكما، يعني: أن الروح للجسد كالمطية وهو راكبه.
مسألة مهمة: وهي هل الروح أفضل من الجسد أو الجسد أفضل منها؟
فالجواب: أن الإمام الرازي صرح في كتابه «لوامع البينات» : أن الروح أفضل منه في الكلام على مسألة الفكر والذكر أيهما أفضل؟
الفائدة الرابعة عشر: في مستقر الأرواح بعد مفارقة أجسادهما.
اعلم أن ابن عبد البر نقل عن جمهور العلماء أن الأرواح تكون عند مفارقة الأجساد على أفنية القبر (1) .
_________
(1) أورد ابن القيم كلام ابن عبد البر في كتابه الروح (ص 100) وناقش كلام ابن عبد البر مناقشة بديعة نذكرها إتماماً للفائدة.
قال ابن القيم: وأما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبداً فهذا خطأ، ترده نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة، وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتاً، أو لها إشراف على قبورها وهي في مقرها، فهذا حق ولكن لا يقال: مستقرها أفنية القبور وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر ابن عبد البر قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي» وقد استدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.
قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا، ومثل حديث البراء ابن عازب، وفيه: «هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ، ومثل حديث أنس: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إانه ليسمع قرع نعالهم» وفيه: «أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعاً، ويضيق على الكافر» ، ومثل حديث جابر: «إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، أتاه ملك ... الحديث، وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبداً» ، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم.
وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدافع لها، وكل ما ذكره من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى، وعرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن الروح شأناً آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك، وروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرفيق الأعلى دائماً ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه، وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موسى - عليه السلام - قائماً يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة.
(2/219)
قال شيخ الإسلام ابن حجر وغيره: إن أرواح المؤمنين في عليين، وهو مكان في السماء السابعة تحت العرش وأرواح الكفار في سجين وهو مكان تحت الأرض السابعة، وهو محل إبليس وجنوده.
قال: ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً، قال: وبهذا يجمع ما ورد أن مقرها في علين أو سجين وبين ما نقله ابن عبد البر عن الجمهور أنها عند أفنية قبورها.
وقال: بعضهم أرواح المؤمنين كلهم في الجنة، الشهداء وغيرهم إذا لم تحبسهم كبيرة.
وعلى هذا القول يسأل ويقال: ما الفرق بين أرواح الشهداء وغيرهم من المؤمنين في الجنة؟
ويجاب: بأن بينهم فرقاً من وجهين:
الأول: أن أرواح الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله، فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.
والثاني: أنهم يرزقوا من الجنة وغيره لم يثبت في حقه مثل ذلك.
(2/220)
قال ابن القيم: والصحيح أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت بحسب درجاتهم في السعادة والشقاوة.
فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهم الأنبياء، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج.
ومنها أرواح في حواصل طير تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم فإن منهم من يحبس عن دخول الجنة لدين أو غيره، ومنهم من يكون على باب الجنة، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تصل روحه إلى الملأ الأعلى (1) .
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة، وأرواح في نهر الدم.
قال: فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد.
قال: وكلها على اختلاف حالها لها اتصال بأجسادها في قبورها ليحصل له من النعيم أو العذاب ماكتب له، فإن الروح إذا كانت في الرفيق الأعلى فهي متصلة بالبدن أي: نورها مشرق على البدن كاتصال شعاع الشمس بالأرض، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد عليه السلام وعرفه بذلك الاتصال، وهي في مكانها وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً بُلِّغْتُه» (2) .
وأفاد ابن حجر أن الأرواح وإن كانت في عليين فهي مأذون لها في التصرف، ثم تأوي إلى محلها من عليين أو سجين.
قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر، وكذلك إذا تفرقت أجزاؤه.
وسنذكر في كتاب الجنائز ما يحبس الروح عن مقامها الكريم، وما يمنع الميت من الكلام مع الموتى.
الفائدة الرابعة عشر: أفاد النسقي في كتابه «بحر الكلام في أصول الدين» : أن الأرواح على أربعة أوجه أرواح الأنبياء وتخرج من جسدها وتصير صورتها مثل المسك الكافور، وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة،
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/115) .
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/218، رقم 1583) ، والخطيب (3/292) عن أبي هريرة.
(2/221)
تأكل وتتنعم يدل عليه قوله تعالى: ?بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ? [آل عمران: 169، 170] وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.
وهنا سؤال: وهو أن يقال كيف يجعل أرواح الشهداء في حواصل طير خضر إكراماً لها مع أن ذلك حصر لها وتضيق عليها لا إكرام؟
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: أن في قوله: «في حواصل طير خضر» بمعنى: على والمعنى: أن أرواحهم في جوف طير خضر كقوله تعالى: ?وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ? [طه: 71] وجائز أن يسمى الطير جوفاً إذ هو محيط به ومشتمل عليه.
الثاني: أنه لا مانع من أن يكون في الأجواف حقيقة، ويوسعها الله لها حتى تكون أوسع من الفضاء.
وأرواح المطيعين من المؤمنين برياض الجنة لا تأكل ولا تتمتع، ولكن تنظر في الجنة، وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار فهي في أجواف طير سود في سجين، وسجين تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها فتعذب أرواحها ويتألم ذلك الجسد، كالشمس في السماء ونورها في الأرض.
الفائدة الخامسة عشر: قال بعضهم: إن ملك الموت إذا نزل على العبد المؤمن لقبض روحه فلو جذبها بألف سلسلة ما خرجت، فيقول الله تعالى: دعها فإنها لا تخرج إلا بسماع يطيب لها، فيناديها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك، فتخرج بحلاوة الخطاب إلى يوم القيامة، يقول لها: ارجعي أي: إلى جسدك فتفرح بالجسد ويفرح بها فتقول: أنا ما قرَّ لي قرار، ويقول الجسد: أنا اكلني الدود والتراب، فيناديهما مناد: وليس بعد هذا الاجتماع فراق.
قيل: إنه يأتي إلى جسد الميت قبل إعادة الروح إليه ملك فيقول: أبشر كلما أندرست عظامك محيت آثامك، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الموت كفارة لكل مسلم» (1) .
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/121) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/171، رقم 9886) ، والخطيب (1/347) ، والقضاعي (1/133، رقم 171) ، والديلمي (4/239، رقم 6717) عن أنس.
(2/222)
لطيفة: قال في الروض الفائق: جاء في الأثر: «أن الروح إذا خرج من الجسد ومضى عليه سبعة أيام تقول: يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي، فيقول: اذهبي فتأتي الروح إلى القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه متغيراً، يسيل من منخره ماء، ومن فمه ماء، ومن عينيه ماء، ومن أذنية ماء، فكأنه في وسط الماء، فتقول له: صرت إلى هذا الحال بعد نضارة جسمك، ثم تمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى، فتقول: يارب ائذن لي أن انظر إلى جسدي ملحة له فيقول: اذهبي فتأتي القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه قد تغير وقد صار الماء الذي في فيه صديداً، والذي في عينيه قيحاً، والذي في أنفه دماً، فتقول: هل صرت إلى هذا الحال، ثم يمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى فتقول يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي ما حاله؟ فيقول: اذهبي فيأتيه فينظر إليه من بعيد وقد صار الصديد دوداً، وقد سقط حدقتاه على وجهه، والدود يدخل في فمه ويخرج من منخره، فتقول صرت إلى هذا الحال بعد النعيم والدلال.
فانظروا إلى أحوالكم كيف تصيرون بعد الموت، وكيف تطلبون العود، وقد حصل الفوت، وأنتم عما يراد بكم غافلون، وفي بحر الأمل غارقون، أصم في الآذان عن النصائح، عمي في القلوب عن جميع المصالح، تالله ما ينفع المرء في قبره إلا التقى والعمل الصالح، ولله در القائل:
الموت بحر موجه طافح ... يجير فيه العائم السابح
يا نفس إني ناصح فاقبلي ... مني فإني مشفق صالح
ما ينفع الإنسان في قبره ... إلا التقى والعمل الصالح
الفائدة السادسة عشر: قال ابن القيم: للروح خمسة أنواع من التعلق متغايرة، الأول: تتعلق بالبدن وهو في بطن الأم.
الثاني: تتعلق به بعد الولادة.
الثالث: تتعلق به في حال النوم، فلها تعلق به من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: في البرزخ، فإنها وإن كانت فارقته بالموت، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لم يبق لها إليه التفات.
الخامس: تعلقها به يوم البعث، وهو أكمل أنواع التعلقات ولا نسبه لما قبله إليه، ولا يقبل البدن معه موتاً ولا فساداً (1) .
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/43 - 44) .
(2/223)
الفائدة السابعة عشر: هل للشخص روح واحدة أم أكثر؟
قال ابن عبد السلام في كل جسد روحان:
أحدهما: روح اليقظة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظاً، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك الروح المنامات.
والأخرى: روح الحياة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حياً فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حي، قال: وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف مقرهما، إلا من أطلعه الله على ذلك، فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة.
وقال ابن القيم: وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكفار روح واحدة.
وقال بعضهم: للأنبياء والصديقين خمسة أرواح.
ورد هذا ابن القيم وقال: الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس، وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى: ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ? [المجادلة: 22] .
وكذلك الروح التي أيدها الله روح المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ? [المائدة: 110] .
وكذا الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده غير الروح التي في البدن.
قال: وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضاً أرواحاً فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشاهد، فهذه الأرواح قوى موزعة في البدن، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهي قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيدها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح قصبة فارغة فالعمل روح، وللأجساد روح، وللإخلاص روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت، فمنهم من تغلب هذه الأرواح عليه فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها فيصير أرضياً والله المستعان (1) .
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/219 - 220) .
(2/224)
الفائدة الثامنة عشر: هل النفس واحدة أم أكثر؟
وقع كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن من الناس من يغلب عليه واحدة من الثلاث، واستدل القائل بالثلاث بذكر الله لها في كتابة العزيز بقوله تعالى: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ? [الفجر: 28] .
وقوله: ?لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة 1، 2] .
وقوله: ?إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ? [يوسف: 53] .
قال ابن القيم: والتحقيق أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم.
فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، والرضا به والسكون إليه (1) .
ولله در القائل فيها:
إلا يا نفس ويحك ساعديني ... بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي ... بطيب العيش في تلك العوالي
وتسمى لوامة إما لأنها كثيرة التقلب والتلون، تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة أي: تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتسخط وتطيع، وتعصي وتتقي، وغير ذلك في كل وقت، وإما لأنها توقع الإنسان في الذنب ثم تلومه عليه، وهذا اللوم لا يكون إلا من السعيد، بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه عن ذنب، بل يلومها وتلومه في فواته.
وقالت طائفة: إن هذا اللوم يقع من النوعين السعيد والشقي، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها، وإما لأن كان واحد يلوم نفسه يوم القيامة إن كان مسيئاً يلوم نفسه على إساءته، وإن كان محسناً يلوم على تقصيره.
قال ابن القيم: وهذه الأقوال والأوجه كلها حق، فإن النفس موصوفة بهذا كله، باعتباره سميت لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة، أما اللوامة الملومة: فهي النفس الجاهلة الظالمة التي تلوم صاحبها في تقصيره في معصية الله، أما الغير ملومة: فهي التي تلومه في تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/220) .
(2/225)
وأشرف الأنفس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت لوم اللائمين في مرضاته، فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه تخلصت من لوم الله لها (1) .
والنفس اللوامه بهذا الاعتبار محمودة ولهذا أقسم الله بها في قوله ?وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة: 2] .
وتسمى أمارة باعتبار أنها تأمر بكل شيء، فلا يلوح لها طمع إلا تعرضت له، ولا يبدو لها شهوة إلا اتبعتها، فهي مذمومة، فما تخلص أحد من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته.
قال تعالى في حقها حاكيا عن امرأة العزيز: ?وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [يوسف: 53] فما يسلم من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته وأعانه.
كما قال تعالى: ?وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً? [النور: 21] .
فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه خطبة الحاجة وهي: «الحمد لله نستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» (2) .
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أما النفس فحسبك ما تشاهد من حالاتها، ورداءة إرادتها، وسوء اختيارها، ففي حال الشهوة بهيمة، وفي حال الغضب سبع، وفي حال المصيبة تراها طفلاً، وفي حال النعمة تراها فرعوناً، وفي حال الجوع تراها مجنوناً، وفي حال الشبع تراها مختلاً، إن أشبعتها بطرت ومرحت، وإن جوعتها صاحت
_________
(1) انظر: الروح لابن القيم (1/226) .
(2) أخرجه أبو داود (2/238، رقم 2118) ، والترمذي (3/413، رقم 1105) وقال: حسن. والنسائي (3/104، رقم 1404) ، وابن ماجه (1/609، رقم 1892) ، وأحمد (1/392، رقم 3720) ، والحاكم (2/199، رقم 2744) ، والبيهقي (3/214 رقم 5594) ، والطيالسي (1/45، رقم 338) ، وعبد الرزاق (6/187، رقم 10449) ، وابن أبي شيبة (4/34، رقم 17508) ، والدارمي (2/191، رقم 2202) ، وابن الجارود (1/170 رقم 679) ، وأبو يعلى (9/168، رقم 5257) ، والطبراني في الكبير (10/98، رقم 10080) ، وفي الأوسط (3/42، رقم 2414) عن ابن مسعود.
(2/226)
وجزعت.
كما قال فيها بعضهم:
كحمار السوء إن أقضمته ... رمح الناس وإن جاع نهق
ولقد صدق بعض الصالحين حيث قال: إن هذه النفس الخبيثة إذا همت بمعصيته أو انبعثت بشهوة، لو تشفعت إليها بالله سبحانه وتعالى، ثم برسوله - صلى الله عليه وسلم - وبجميع أنبيائه عليهم السلام، وبكتابة، وبجميع السلف الصالح من عباده، ويعرض عليها الموت والقبر والقيامة والجنة والنار، لا تعطي القياد ولا تترك الشهوة، نعم إذا استقبلتها بمنع رغيف تسكن وتترك شهوتها، وتعلم حسنتها وجهلها، فإياك أيها الرجل تغفل عنها، فإنها كما قال خالقها العالم بها جل جلاله الأمارة بالسوء، فكفى بقوله لمن غفل، ولقد صدق القائل:
توق نفسك لا تأمن غوائلها ... فالنفس أخبث من سبعين شيطاناً
فتنبه رحمك الله لهذه الخداعة الأمارة بالسوء، ووطِّن على مخالفتها بكل حال تصب وتسلم إن شاء الله تعالى، فإنه لا يقدر أحد على قهرها إلا بمخالفتها.
لطيفة: عن إبراهيم الخواص (1) - رضي الله عنه - قال: لقيت غلاماً في التيه كأنه سبيكة فضة قلت: إلى أين يا غلام؟ قال: إلى مكة، قلت: بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السماوات والأرض يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا زاد ولا راحلة، فلما دخلت مكة فإذا هو بالطواف يقول: يا نفس سبحي أبداً، ولا تحبي أحداً، إلا الخليل الصمدا، يا نفس موتى كمداً، فلما رآني قال: يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين.
ولقد أحسن من قال:
يا نفس كم بخفي اللطف عاملني ... وقد رآني على ما ليس يرضاه
يا نفس كم ذلة ذلت بها قدمي ... وما أقال عثاري ثم إلا هو
يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي ... عسى تنالي رضاه عند لقياه
إخواني: إذا كان صفاء المواعظ لا يؤثر في قلوبكم الكدرة، ومعاول التخويف لا تقطع في نفوسكم المتجبرة، فهذا كلام ربكم يتلى عليكم في آياية المطهرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة 7، 8] ويا غافلاً عما نهاه وأمره، يا مضيعاً في البطالة عمره، إلى متى تلهو وذنوبك مكتوبة
_________
(1) إبراهيم الخواص هو: إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل، أبو إسحاق الخواص، صوفي، وكان أوحد المشايخ في وقته، وهو من أقران الجنيد، مات في جامع الري سنة: 291 هـ، قال الخطيب البغدادي: له كتب مصنفة والخواص: بائع الخوص.
(2/227)
متسطرة، كيف حياتك في سفرك وطريقك خطرة، وشاهدت ميزانك الذي يرجح بالذره الحقرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? ويا غافلاً فالموت يقفو أثره، كيف بك إذا شاهدت السماء منفطرة، وحافظاك قد أحصيا عليك ما عملت من خير وشر وحصره، وقد تركت عليك الحجة وتعذرت المعذرة، فهنا يجد كل إنسان من الإحسان والعصيان ما أحضره ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ?.
ولقد أحسن في وعظ النفس من قال:
يا نفس توبي عن فعال منكرة ... واسعي إلى دار البقاء مستبشرة
يا نفس فاز القوم من رب العلا ... بالعفو عن زلاتهم والمغفرة
يا نفس قد قطعوا النهار لربهم ... بصيامهم وقيامهم ما أكثره
يا نفس ويحك للمتاب فبادري ... من قبل تأتيك الذنوب مسطرة
يا نفس إن القوم زادوا خيفة ... من مكروه وقلوبهم متذكرة
يا نفس جدي في التقى وتزودي ... عجلاً وكوني للقاء مستشعرة
يا نفس كم قوم على الدنيا احتووا ... ظلماً ومالهم إذاً من آخرة
يا نفس كم أمم تفانوا في البلى ... وعظامهم ضحت عظاماً ناخرة
يا نفس توبي اليوم من قبل الردى ... فعسى تكوني في غد مستبشرة
يا نفس آه من ذنوب كلها ... يوم القيامة في الكتاب محررة
يا نفس ما ينجيك في يوم اللقاء ... من عظم أهوال الحساب المحضرة
إلا شفاعة أحمد الهادي الذي ... يرجى لديه العفو عند المقدرة
فهو النبي الهاشمي المصطفى ... والمحبتى من خلقه إذ طهره
يا نفس جدي في المسير لقبره ... واسعي إلى أبوابه مستصغرة
وتمتعي بجماله ووصاله ... كيلا تكوني في الوري منحسرة
وإذا وصلت إلى رباه فعظمي ... تلك المواقف ادخلي متوقرة
(2/228)
فعسى تنالي الفوز من رب العلا ... وتعود زلات الذنوب مكفرة
وتشاهدي ذاك الضريح وقد ... أنواره للكائنات منورة
هو صفوة الرحمن من كل الورى ... وبأحسن التكوين حقاً صوره
صلى عليه الله ربي دائماً ... ما أشرقت شمس ولاحت مسفرة
* * *
(2/229)
المجلس السابع والثلاثون
في بيان فضائل الوضوء وأركانه وشرائطه
وفي بيان فوائد كثيرة متعلقة بذلك
وأحببت أن أفتحه بخطبة ذكرها الغزالي في أول كتاب أسرار الطهارات من كتابه أحياء علوم الدين وهي:
الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة، وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وإلطافه، وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المستغرق بنور الهدي أطراف العالم وأكنافه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين صلاة تحمينا بركاتها يوم المخافة، وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة (1) .
قَالَ البُخَارِي:
كِتَابُ الوُضُوءِ
قال البلقيني: وإنما ذكر البخاري كتاب الوضوء بعد كتاب العلم وقبل كتاب الصلاة، لأن بعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة.
«الوضوء» بضم الواو اسم للفعل أعني: غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين، وبفتحها اسم للماء الذي يتوضأ به هذا هو المشهور فيهما، ومثله «الطهور والطهور» سمي هذا الفعل «وضوء» لحصول النظافة والنضارة به، فإنه مشتق من الوضاءة بالمد، وهو النظافة والنضارة، فإذا غسل المتوضئ هذه الأعضاء صار وضيئاً أي: نظيفا ذا ضياء وحسن.
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/125) .
(2/230)
باب مَا جَاءَ فِي قَولِ اللهِ - عز وجل -
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ ? [المائدة: 6] (1)
استدل البخاري بهذه الآية على وجوب الوضوء.
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
الوضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران. وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا.
وأشار بقوله: «ما جاء» : إلى اختلاف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوباً. ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث. ولمسلم من حديث بريدة: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. فقال: عمدا فعلته» أي لبيان الجواز.
واختلف العلماء أيضا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا، وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معا ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» واستنبط بعض العلماء من قوله تعإلى: ?إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ? [المائدة: 6] إيجاب النية في الوضوء لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله. وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: «دخلت فاطمة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي قالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك. فقال: ائتوني بوضوء. فتوضأ ... الحديث» . قلت: وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه أن جبريل علم النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه.
وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند.
وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انظر فتح الباري (1/232 - 233) .
(2/231)
سؤال: فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن الوضوء يجب لكل صلاة، سواء كان الإنسان محدثاً أو متوضأ، مع إنه لا يجب عليه إذا كان متوضأ وأراد الصلاة أن يتوضأ؟
فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أنه لابد من تقدير في الآية، وهو أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين كذا قال الجمهور.
الثاني: لا حاجة إلى التقدير فإن الوضوء كان في أول الإسلام يجب لكل صلاة فرض عملاً بظاهر الآية، ثم نسخ هذا الحكم يوم فتح مكة، حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك اليوم الصلوات الخمس بوضوء واحد، فوجوب الوضوء لكل فرض المستفاد من الآية كان في أول الإسلام ثم نسخ، لكن ضعف هذا النووي في شرح مسلم.
الثالث: أن الأمر بوجوب الوضوء لكل صلاة محمول في حق المتوضئ على الندب، وفي حق المحدث على الوجوب، وإن تجديده لكل صلاة مندوب إليه، فالحاصل: أنه يجوز للإنسان أن يصلي الصلوات الخمس وما شاء من الفوائت والنوافل بوضوء واحد، ودليله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله قال: «ياعمر فعلته عمداً» أي: لبيان الجواز رواه مسلم (1) .
لكن الأفضل والمستحب أن يتوضأ لكل صلاة وإن كان على طهارة.
فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء» (2) .
وروي الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» (3) .
_________
(1) أخرجه مسلم (1/232، رقم 277) . وأخرجه أيضا: أبو داود (1/44، رقم 172) ، والترمذي (1/89، رقم 61) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/86، رقم 133) ، والدارمي (1/176، رقم 659) ، وابن خزيمة (1/9، رقم 12) ، وابن الجارود (1/13، رقم 1) ، وعبد الرزاق (1/54، رقم 158) ، وأحمد (5/351، رقم 23023) ، وابن حبان (4/607، رقم 1708) عن بريدة.
(2) أخرجه أحمد (2/258، رقم 7504) ، قال الهيثمي (1/221) : فيه محمد بن عمر بن علقمة، وهو ثقة حسن الحديث. والنسائي في الكبرى (2/197، رقم 3039) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه الترمذي (1/87، رقم 59) وقال: هذا إسناد ضعيف. وأخرجه أيضا: أبو داود (1/16، رقم 62) ، وابن ماجه (1/170، رقم 512) ، والطحاوي (1/42) ، وابن أبي شيبة (1/16، رقم 53) ، وعبد بن حميد (ص 271، رقم /859) عن عمر.
(2/232)
وقال: «الوضوء على الوضوء نور على نور» قاله الغزالي قال العراقي في تخريج الأحياء ولم أجد له أصلاً (1) .
قال العلماء: وإنما يستحب تجديد الوضوء بالأول صلاة ما فرضاً كانت أو نفلاً، وإلا فلا يستحب.
سؤال: فإن قيل: إن هذه الآية مدنية بإجماع العلماء، والوضوء فرضه الله تعالى بمكة مع فرض الصلاة؟
قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، فكيف استدل البخاري وغيره من العلماء على وجوب الوضوء بهذه الآية وهي مدنية؟
فالجواب: أن هذه الآية من الآيات التي تأخر نزولها عن حكمها.
قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله: من القرآن ما تأخر حكمه عن نزوله، ومنه ما تأخر نزوله عن حكمه.
يعني: أن النزول قد يكون سابقاً على الحكم كقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى? [الأعلى: 14، 15] فإنها نزلت في زكاة الفطر، وكان نزولها بمكة وزكاة الفطر فرضها الله تعالى في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، لأنه لم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم، فقد تأخر الحكم فيها عن النزول، وإن الحكم قد يكون سابقاً على النزول، ومثل له بآية الوضوء قال: والحكمة في نزول آية الوضوء بالمدينة بعد تقدمة العمل به وفرضه بمكة، ليكون فرضه متلواً في التنزيل.
فائدة: اختلف العلماء في الوضوء متى يجب؟
فقيل: يجب بالحدث وجوباً موسعاً.
وقيل: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة، والأصح أنه يجب بهما أي: بالحدث وإرادة القيام إلى الصلاة، فعلى هذا لا يجب قبل دخول الوقت لكن يستحب، بل هو أفضل
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/135) ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/98) : لا يحضرني له أصل من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعله من كلام بعض السلف، والله أعلم. وقال ابن حجر في فتح الباري (1/234) : حديث ضعيف. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/447) : ذكره في الإحياء وقال مخرجه العراقي لم أجد له أصلا، وسبقه لذلك المنذري، وقال الحافظ ابن حجر: حديث ضعيف، ورواه رزين في مسنده.
(2/233)
من فعله بعد دخول الوقت، وإن كان فعله بعد دخول الوقت واجباً فهذه سنة أفضل من فرض، وهي أحد المسائل الثلاث التي السنة فيها أفضل من الفرض.
الثانية: ابتداء السلام فإن رده فرض، والابتداء أفضل من الرد.
الثالثة: إبراء المعسر من كل الدين أو بعضه فإنه سنة، وهو أفضل من الصبر عليه إلى ميسرة وهو فرض، وقد ورد في فضل من انظر معسراً وإبراءه من الدين كله أو بعضه عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أنظر معسراً ووضع له أظلم الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل لا ظله» رواه الترمذي (1) .
وفي ذلك أيضاً نفع لمن عليه الدين وتنفيس كربه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة» (2) .
وقال: «الخلق كلهم عيالاً لله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» (3) .
وقال: «من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين حسنة، واحدة يصلح بها آخرته ودنياه، والباقي في الدرجات» (4) .
وقد نظمها شيخنا العلامة السيوطي فقال:
الفرض أفضل من تطوع عابد ... حتى ولو قد جاء منه بأكثر
إلا الله التطهر قبل وقت وابتداء ... للسلام كذاك إبراء المعتسر
لطيفة في المعنى: قال في نزهة المجالس: إذا كان يوم القيامة أمر بطبقات المصلين إلى الجنة.
فتأتي أول زمرة وجوهم كالشمس فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت.
ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالبدر فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن
_________
(1) أخرجه الترمذي (3/599، رقم 1306) وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضا: أحمد (2/359، رقم 8696) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه ابن المبارك (1/239، رقم 685) عن عبيد الله بن زحر عن بعض أصحابه مرسلاً.
(3) أخرجه أبو يعلى (6/65، رقم 3315) ، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار، وفيه يوسف بن عطية الصفار، وهو متروك. والبيهقي شعب الإيمان (6/43، رقم 7445) عن أنس.
(4) أخرجه أبو يعلى (7/255، رقم 4266) ، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار وفي إسنادهما زياد بن أبي حسان وهو متروك. والبيهقي في شعب الإيمان (6/120، رقم 7670) عن أنس.
(2/234)
المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت.
ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالكوب فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلوات، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ بعد الأذان.
فقد تبين لك من هذا أن الوضوء قبل الوقت أفضل، إذ الزمرة التي كانت تتوضأ قبل الوقت جاءت وجوهها كالقمر ليلة البدر، والتي كانت تتوضأ بعد الوقت جاءت وجوهها كالكوكب، ولا شك في تفضيل القمر على سائر الكواكب، فالذي جاء على صورته كذلك، وأفضل من الزمرتين المذكورتين الزمرة الأولى، وهى التي جاءت وجوههم على صورة الشمس، فإن هذه الزمرة كانت تتوضأ قبل الوقت وتذهب إلى المسجد وتنتظر الأذان، فلهذا سبقت الزمر كلها، وجاءت على صورة الكوكب الأعظم وهو الشمس.
لكن لنا وضوء لا يصح إلا بعد دخول الوقت وهو: وضوء صاحب الضرورة كما سنذكره.
واعلم أن الوضوء له فرائض وشرائط وفضائل وسنن وآداب:
أما فرائضه: فقد اختلف أرباب المذاهب:
فعند أبي حنيفة فرائض الوضوء أربعة: غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح بعض ربع الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين.
وعند إمامنا الشافعي إمام الأئمة -قدس الله سره ونور ضريحه- فرائض الوضوء ستة:
الفرض الأول: النية في الوضوء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات» (1) .
وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء ولا في الغسل، ويصحان عنده بدونها،
_________
(1) أخرجه البخاري (1/3، رقم 1) ، ومسلم (3/1515، رقم 1907) ، والترمذي (4/179، رقم 1647) ، وأبو داود (2/262، رقم 2201) ، والنسائي (6/158، رقم 3437) ، وابن ماجه (2/1413، رقم 4227) ، والحميدي (1/16، رقم 28) ، وأحمد (1/25، رقم 168) ، والبيهقي (1/41، رقم 181) ، وابن خزيمة (1/73، رقم 142) ، والدارقطني (1/50) ، وأبو عوانة (4/487، رقم 7438) ، والبزار (1/380، رقم 257) ، وهناد (2/440، رقم 871) عن عمر بن الخطاب.
(2/235)
ويحتاج إلى الجواب عن الحديث.
نعم عند علمائنا الشافعية وضوء وغسل لا يحتاج كل منهما إلى النية وهو وضوء الميت وغسله فإنهما يصحان بلا نية من الغاسل.
بل لنا وضوء آخر مستقل، وغسل آخر مستقل غير وضوء الميت وغسله فيهما النية، بل يصح الوضوء وحده بدونهما، وكذا الغسل وصورته في الوضوء، والغسل من ماء السيل فإن العلماء قالوا: يستحب إذا سال الماء في الوادي أن يغتسل منه وأن يتوضأ، فإن لم يجمعهما وأراد الاقتصار على أحدهما فالاقتصار على الغسل أفضل وبعده الوضوء.
قال الأسنوي: وهل هما عبادتان يشترط فيهما النية أو لا؟ المتجه الثاني أي عدم اشتراط النية فيهما فهذا وضوء لا يجب فيه النية وغسل كذلك، وقد نظمت هذا السؤال فقلت:
يا عالما قد حاز كل الفضل ... بين لنا ما صورة في الغسل
خالية عن نية معتبرة ... في غير غسل ميت مصورة
وفي وضوء مستقل مثله ... فأنت بمن شاع فينا فضله
أبقاك ربي دائماً مفيدا ... مؤيداً على العدا فريدا
ومحل النية: القلب، ويكفي الاقتصار عليه ولو نوى بلسانه وقلبه غافل لا يكفيه ذلك، نعم الأكمل أن ينوي بقلبه ويتلفظ بلسانه، والنية في الوضوء لها ثلاث كيفيات:
الكيفية الأولى: أن يقول المتوضئ: نويت رفع الحدث.
قال فقهاؤنا: ولو كان على الإنسان أحداث كأن بال ولمس ونام ونوى رفع أحديهما بأن قال: نويت رفع حدث النوم مثلاً كفته هذه النية وارتفع حدثه، قال: وإن نوى غير ما عليه كأن نوى رفع حدث النوم مع أنه لم ينم وإنما بال فهل يصح وضوءه بهذه النية وهل يرتفع حدثه؟ فيه تفصيل وهو أن يقال: إن فعل ذلك عمداً لم يصح وضوءه، وإن فعله غلطاً صح.
الكيفية الثانية: أن ينوي استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، والشيء المفتقر إلى الطهر الصلاة واستباحة الطواف أو استباحة مس المصحف أو نحو ذلك صح وضوءه.
سؤال: فإن قيل: إذا نوى استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، ولكن يتعذر فعله بذلك الوضوء في ذلك الوقت، كمن نوى استباحة الطواف وهو «بحلب» مثلاً، أو استباحة صلاة العيد وهو في «رجب أو شعبان» مثلاً فهل يصح وضوءه أم لا؟
(2/236)
فالجواب: أنه يصح وضوءه بهذه النية، ويصلي بها جميع الصلوات لأنه نوى ما لا يستباح إلا بالوضوء، وإذا قال: نويت استباحة قراءة القرآن، ودخول المسجد لم يصح وضوءه بهذه النية، فإن قرأته للقران من غير مس المصحف تباح بدون وضوء، وكذلك دخول المسجد يباح بدون الوضوء، نعم يستحب الوضوء لقراءة القرآن ولداخل المسجد، وسنذكر في المجالس الآتية أن الوضوء يستحب في أكثر من أربعين صورة.
الكيفية الثالثة: أن يقول: إني نويت أداء فرض الوضوء، ويكفي أن يقول: «إني نويت أداء الوضوء» بإسقاط لفظه «الفرض» ، ويكفي أن يقول: «نويت فرض الوضوء» بإسقاط لفظه «أداء» ، بل يكفي أن يقول: «نويت الوضوء» .
سؤال: فإن قيل: كيف يصح الوضوء بقول الإنسان: «نويت فرض الوضوء» إذا توضأ قبل دخول الوقت، مع أن وقت الوضوء قبل دخول الوقت سنة وليس بفرض؟
وسؤال آخر وهو: أن يقال: كيف يصح وضوء الصبي بقوله: «نويت فرض الوضوء» والوضوء في حقه ليس بفرض؟
فالجواب عن السؤالين: أنه ليس المراد بالفرض هنا: لزوم الإتيان به، وإلا لامتنع وضوء الصبي بهذه النية بل المراد كونه شرط للصلاة، وشرط الشيء يسمى فرضاً.
هذه الكيفيات الثلاث هي المشهورة، ولنا كيفية أخرى يصح الوضوء بها وهي أن يقول: «نويت الطهارة عن الحدث» ، أو «نويت الطهارة للصلاة» .
فإن قال: «نويت الطهارة» ولم يزد على ذلك، قيل: لا يصح وضوءه لأن الطهارة تكون عن خبث وعن حدث فلا يحصل التميز بقوله: «نويت الطهارة» إلا إذا قال عن الحدث أو للصلاة، ورجحه صاحب الروض.
وقيل: يصح وهو ظاهر كلام الرافعي وقواه النووي في المجموع.
وهذه الكيفيات يتخير فيها السليم وهو من سلم من سلس البول ونحوه، وأما الضرورة كمن حدثه دائم أي: كمن به سلس البول والمستحاضة فلا يكفيه أن يقول: «نويت رفع الحدث» لأن حدثه لا يرتفع بل يكفيه أن يقول: «نويت استباحة الصلاة» مثلاً، أو يقول: «نويت أداء الوضوء» كما صرح في الحاوي الصغير، وحكمه حكم المتيمم، فإذا نوى استباحة الفرض استباحه واستباح النفل، وإن نوى استباحة النفل استباح النفل فقط ولا يصلي به الفرض.
فائدة: يصح الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات بالنية من غير إضافة إلى الله تعالى، فإن العبادة لله تعالى وإن لم يضفها إليه.
(2/237)
قال العلماء: ويجب أن تكون النية عند أول مغسول من الوجه لتقترن بأول الفرض كنية الصلاة، وإذا نوى عند غسل الوجه ولم ينو قبل ذلك لم يحصل له ثواب السنن السابقة على الصحيح، فينبغي أن ينوي في ابتداء الوضوء عند غسل كفية ليثاب على السنن السابقة فيقول: «نويت الطهارة للصلاة» فإذا وصل إلى غسل الوجه ينوي رفع الحدث، أو أداء فروض الوضوء، واستباحة الصلاة كما تقدم.
ولو نوى عند المضمضة مثلاً رفع الحدث، فإن استصحب هذه النية إلى غسل الوجه جاز بل هو الأفضل ليثاب، على السنن السابقة، وإن كانت قبل غسل الوجه فلا تكفيه هذه النية، بل لابد من إعادتها عند غسل الوجه، ولا يجب على المتوضئ أن ينوي عند كل عضو، بل تكفي هذه النية عند غسل الوجه عن الكل، نعم لو فرقها على أعضائه جاز، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه بأن يقول عند غسل الوجه: نويت رفع حدث الوجه، وعند اليدين: نويت رفع حدث اليدين، وهكذا.
الفرض الثاني: غسل الوجه، سمي «وجهاً» لحصول المواجهة به، وله طول وعرض، فحده طولاً من منابت شعر رأسه غالباً إلى منتهي لحييه، وحده عرضاً من الأذن إلى الأذن، وإذا أنبت على جبهته شعر يسمى «الغمم» يجب غسله مع الوجه، كما يجب غسل الحاجب معه، وسمي «حاجباً» لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس، ويجب مع غسل الوجه غسل «الهدب» بالدال المهملة وهو: الشعر النابت على جفن العين، وغسل «الشارب» وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وسمي شارباً: لملاقاته فم الإنسان عند الشرب، وغسل «العنفقة» : وهو الشعر النابت تحت الشفة السفلى، وغسل «العذار» وهو: ما حاذى الأذن بين الصدع والعارضين.
وغسل هذه الشعور مع بشرتها واجب، سواء أخفت أم كثفت.
وأما «اللحية» فإن كانت خفيفة وجب غسل ظاهرها وباطنها، وإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط ولا يجب غسل باطنها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - غسل وجه بغرفة واحدة كما رواه البخاري، وكانت لحيته الشريفة كثيفة، وبعضهم عبر: بعظيمة، وبعضهم: بغزيرة.
والكثة: هي التي لا ترى بشرتها في مجلس التخاطب، بخلاف الخفيفة، ولو كان بعض اللحية خفيفاً وبعضها كثيفاً أو تميزا فلكل حكمه، وإن لم يتميزا وجب غسل الكل ظاهراً وباطنا، نعم لنا لحية كثة يجب غسل ظاهرها وباطنها وهي: ما إذا أنبت للمرأة والخنثى المشكل لحية كثة لندرتهما أو ندرة كثافتها، ولأنه يندب للمرأة إزالتها
(2/238)
لأنها مثله في حقها.
فالحاصل: أنه يجب غسل باطن شعور الوجه كما يجب غسل ظاهر باطن اللحية الكثة، إلا إذا كانت من المرأة والخنثى، هذا إذا كانت في حد الوجه، وأما الشعور الخارجة عن حده كشعر اللحية النازل وشعر العذار والسبال فإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط، وإن كانت خفيفة وجب غسل الظاهر والباطن منها.
أما النزعتان وهما بياضان يكتنفا الناصية والصدغين، وهما فوق الأذنين متصلان بالعذرين فليسا من الوجه.
فائدة: لو خلق للإنسان وجهان وجب غسلهما، ولو خلق للإنسان رأسان كفاه المسح على بعض أحديهما، والفرق أن الواجب في الوجه غسل جميعه فيجب غسلهما، لحصول المواجهة بهما، والواجب في الرأس مسح بعض ما يسمى رأساً، وذلك يحصل ببعض أحدهما.
الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين.
فائدة: في المرفقين لغتان: أحدهما: كسر الميم وفتح الفاء، والثانية: فتح الميم وكسر الفاء.
سؤال: فإن قيل: ما الدليل على وجوب غسل المرفقين مع اليدين؟
فالجواب: الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ? [المائدة: 6] والإجماع، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين للوضوء المأمور به، فإنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد.
فإن قيل: لا دليل في الآية على وجوب غسل المرفقين مع اليدين، لأن «إلى» لنهاية الغاية، والغاية لا تدخل في المغيا؟
فالجواب: أن اليد حقيقة من رؤوس الأصابع إلى المنكب على الأصح، فإما أن تجعل اليد في الآية مجازاً إلى المرفق، وتدخل الغاية في المغيا هنا بقرنيتي الإجماع والاحتياط للعبادة، وإما أن تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب، وتجعل حينئذ غاية الغسل وتدخل الغاية في المغيا أيضاً لما تقدم كما قال بذلك جماعة، أو تجعل «إلى» حينئذ للترك المقدر، وتخرج الغاية حينئذ عن المغيا كما قال به كما قال جماعة أخرى، والمعنى على الأول: اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، وعلى الثاني: اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق.
وأوضح من هذا الجواب أن يقال: إن «إلى» في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى ?
(2/239)
مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [آل عمران: 52] أي: مع الله، وفي قوله تعالى: ?وَلاَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ? [المائدة: 2] أي: مع أموالكم.
قال العلماء: فإن قطع شيء من يد الإنسان وجب غسل ما بقي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (1) وإن قطعت من مرفقه وجب غسل رأس عظم العضد لأنه من المرفق، وإن قطعت من فوق المرفق سقط هذا الفرض، وندب غسل باقي عضده، لئلا يخلو العضو عن طهارة.
سؤال: فإن قيل: من القواعد المشهورة أن التابع يسقط بسقوط المتبوع، كسقوط رواتب الفرائض عن المجنون تبعاً للفرائض، فلأي شيء قالوا هنا يستحب غسل باقي عضده مع سقوط غسل اليد عنه؟
فالجواب: أن سقوط المتبوع عن المجنون رخصته فالتابع أولى به، وسقوطه هنا ليس رخصته بل لتعذره، فحسن الإتيان بالتابع محافظة على العبادة بقدر الإمكان، ولأن التابع للفرائض شرع تكملة لنقصها، فإذا لم يكن متبوع فلا تكملة، وهنا لم يشرع تكملة للمتبوع، لأنه كامل بالمشاهدة، فتعين أن يكون مطلوباً لنفسه.
ويجب غسل اليدين ما عليهما من شعر، وغسل يد زائدة إن نبت بمحل الفرض، وإن نبت بغير محل الفرض غسل ما حاذى منها محل الفرض، لوقوع اسم اليد عليه، ولو خلق له يدان أصليتان أو أحدهما أصلية والأخرى زائدة ولم تتميز وجب غسلهما، أما إذا تميزت الزائدة بفحش قصر ونقص أصابع وضعف بطش ونحوه فلا يجب غسلها إذا كانت في غير محل الفرض.
سؤال: فإن قيل: قالوا في السرقة إذا خلق له يدان أصليتان يقطع إحداهما فقط فلأي شيء قالوا هنا إذا خلق له يدان يجب غسلهما؟
فالجواب: أن الوضوء مبناه على الاحتياط لأنه عبادة، وأما السرقة فإنه حد والحد مبناه على الدرء لأنه عقوبة.
قال الفقهاء: ولو كشطت جلدة العضد ونزلت منه لم يجب غسلها مع غسل اليدين ولا غيره، لأن اسم اليد لا يقع عليها، ولو كشطت جلدة الذراع منه وجب غسلها لأنها من اليد سواء المحاذي وغيره، إلا إذا التصقت بعد كشطها من أحدهما
_________
(1) أخرجه ابن حبان (9/18، رقم 3704) ، وابن خزيمة (4/129، رقم 2508) عن أبي هريرة.
(2/240)
بالآخر فإنه يجب غسل المحاذي للفرض دون غيره، وإن تجافت بعد أن التصقت عن محل الفرض لزمه غسل ما تحتها أيضاً لندرته، ولو كشطت جلدة أحدهما وانتهى كشطها إلى الآخر ثم تدلت منه، فالاعتبار بما تدلت منه، فإذا بلغ كشطها من العضد إلى الذراع وجب غسلها معه، لأنها صارت جزءاً من محل الفرض، وإذا انتهى كشطها من الذراع إلى العضد فلا يجب، لأنها صارت جزءاً من غير محل الفرض.
الفرض الرابع: بعض الرأس سواء أمسح على بشرته أو على شعره الذي لا يخرج عن حده ولو قدر رأس أبرة، حتى لو أخذ أبرة وغمسها في الماء ووضعها على رأسه كفاه عند علمائنا الشافعية.
أما إذا مسح على الشعر الذي يخرج عن حد الرأس بالمد من جهة سفله فإنه لا يكفي، ولو قطر الماء على رأسه كفى.
قال في الأنوار: ولو قطرت على خمارها ووصلت رطوبتها إلى شعرها حصل الفرض، ولو وقف تحت المطر فنزل على رأسه كفى، ولو غسل رأسه بدل مسحه كفاه ولم يكره ولم يستحب، بخلاف ما لو غسل الخف بعد لمسه فإنه يكره، لأنه يعيبه، ولو مسح رأسه ببرد وثلج لا يذوبان كفى لحصول المقصود به، ولو كان عنده ثلج أو برد فذاب فتوضأ به واغتسل كفاه، بل يجب استعماله إن لم يجد غيره، واختلف الروايات عن أبي حنيفة في مسح الرأس، ففي رواية: أنه يجزئ قدر ربع الرأس، وهو الراجح عندهم، وفي رواية أخرى: مقدار الناصية، وفي رواية أخرى: قدر ثلاث أصابع، ومذهب الإمام أحمد والإمام مالك وجوب استيعاب الرأس فلا يجزئ سواه، واكتفى الشافعي بمسح البعض، لأن المفهوم من المسح عند إطلاقه، والله تعالى قال ?وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ? [النائدة: 6] وأطلق فدل على الاكتفاء بالبعض، وأيضاً الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غيره كما في قوله تعالى: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ? [الحج: 29] تكون للإلصاق.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء وجب تعميم مسح الوجه واليدين في التيمم ولم يجب تعميم الرأس في الوضوء مع أن آية التيمم وهي: ?فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ? [النساء: 43] كآية مسح الرأس؟
فالجواب: إنما وجب الإستيعاب في التيمم لثبوت ذلك بالسنة، ولأنه يدل عن الوضوء فاعتبر مبدله، ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.
فإن قيل: لأي شيء لم يجب تعميم مسح الخف بالماء مع أنه بدل عن غسل
(2/241)
الرجلين؟
فالجواب: أن التعميم يفسده، مع أن مسحه مبني على التخفيف لجوازه مع القدرة على الغسل، بخلاف التعميم.
الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ولا يجب غسل الرجلين في حق لابس الخفين عيناً، بل هو مخير بين الغسل وهو أفضل لأصالته، ولمواظبة النبي - صلى الله عليه وسلم - غالباً، وبين المسح، وذهبت الشيعة إلى أن الواجب في الرجلين في الوضوء المسح لا الغسل، واستدلوا على ذلك بقرأة من قرأ ?وَأَرْجِلِكُم? بالجر وقالوا أنه معطوف على ?بِرُءُوسِكُمْ? فوجب فيهما المسح كوجوبه في المعطوف عليه.
واستدل أهل السنة على وجوب غسل الرجلين بقوله تعالى: ?وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ? [المائدة: 6] على قراة النصب والجر، أما على قراءة النصب فإنه معطوف على ?وُجُوهَكُمْ? لفظاً، وأما قراءة الجر فإنه معطوف أيضاً على ?وُجُوهَكُمْ? لمجاورته لرؤوسكم، ويسمى جر الجوار فهو كقوله تعالى: ?عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ? [هود: 26] والأليم صفة للعذاب وإنما جر بالمجاورة، وكقولهم: «حجر ضب خرب» فهو وإن كان مجرور لفظاً فهو منصوب معنى عطفاً على ?وُجُوهَكُمْ? والمعطوف على المغسول مغسول، فبطل ما قاله الشيعة من أنه معطوف على الممسوح فوجب مسحه.
الفرض السادس: الترتيب في أفعاله خلافاً لأبي حنيفة دليلنا عليه فعله - صلى الله عليه وسلم - المبين للوضوء المأمور به قال الإمام الرازي: إنما أوجب الشافعي الترتيب في الوضوء لوجوه عديدة مستنبطة من الآية وساقها وذكر منها:
أن الترتيب لو لم يكن واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يبدأ الله تعالى في الآية بالرأس ويختم بالرجلين، فلما بدأ بالوجه وختم بهما دل على وجوبه.
وأيضاً: لو لم يكن الترتيب واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يميز الممسوح من المغسول فلما ذكر سبحانه ممسوحاً بين مغسولات، وتفريق للتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة، وفائدته هنا وجوب الترتيب لا ندبه بقرينة الأمر في قوله: ?فَاغْسِلُوا? وإنما بدأ الله دل على وجوبه.
ها هنا فوائد:
الأولى: بين القفَّال في كتابه محاسن الشريعة حكمة ترتيب هذه الأعضاء فقال: قدم الوجه لشرفه ثم اليدين لأنهما بارزتان، ويعمل بهما غالباً بخلاف الرأس والرجلين،
(2/242)
ثم الرأس.
الثانية: قيل الحكمة في وجوب غسل هذه الأعضاء ومسح الرأس: أن آدم مشى إلى الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها برجليه، ونظر إليها بعينه متوجهاً إليها بواجهة وأخذ منها بيديه، ولمس رأسه ورقها.
وكان ابن عباس يقول بوجوب غسل باطن العين في الوضوء والغسل، والصحيح أنه لا يجب غسل باطن العين بل لا يستحب بل يكره.
وقيل: الحكمة في اختصاص هذه الأعضاء أن أكثر معاصي ابن آدم من هذه الأعضاء الأربعة.
الثالثة: لو توضأ الإنسان منكوساً أربع مرات أجزأه لحصول غسل كل عضو في مرة.
الرابعة: لو اغتسل محدث بنية رفع الحدث أو نحوه أجزأه عن الوضوء، ولو لم يمكث في الانغماس زمناً يمكن فيه الترتيب، لأن الغسل يكفي للأكبر فالأصغر، ولأن الترتيب يقدر في لحظات.
سؤال: فإن قيل: لو أغفل لمعة من غير أعضاء الوضوء في هذا الغسل هل يكفي هذا الغسل عن وضوءه أم لا؟
قال القاضي حسين: لا يكفي.
ولو اغتسل المتوضئ ونوى رفع الجناية أو نحوها هل يكفيه عن وضوءه أم لا؟
جوابه: إن نوى ذلك غالطاً ورتب كفاه وإلا فلا.
الخامسة: لنا وضوء صحيح خال عن غسل الرجلين أو عن غسل اليدين، وصورته: ما إذا اغتسل جنب إلا يديه أو إلا رجليه مثلاً، ثم أحدث ثم غسلهما عن الجنابة توضأ، ولا تجب عليه إعادة غسلهما لارتفاع حدثهما بغسلهما عن الجنابة، فهذا وضوء خال عن غسل الرجلين أو اليدين، وهما مكشوفان بلا علة.
وزعم ابن القاضي أنه خال عن الترتيب أيضاً، وغلطه الأصحاب بأنه غير خال عنه بل لم يجب فيه الغسل الرجلين أو اليدين.
السادسة: لنا وضوء خال عن الترتيب، وصورته: ما إذا غسل الجنب بدنه إلا أعضاء الوضوء ثم أحدث لم يجب ترتيبها أفاده القاضي زكريا في شرح الروض.
السابعة: لو نوى بعد الفراغ من الوضوء قطعه لم يبطل، ولو نوى في أثنائه قطعة لم يبطل ما مضى له من الوضوء، ولكن انقطعت نيته فيعيدها للباقي.
(2/243)
الثامنة: إذا بطل وضوءه في أثنائه بحدث أو غيره يثاب على الماضي أم لا؟
قيل: أن يثاب كما في الصلاة، ويحتمل أن يقال: إن بطل باختباره فلا، أو بغيره فنعم.
قال النووي عن الماوردي: ومن أصحابنا من قال: لا ثواب له بحال، لأنه لا يراد لغيره بخلاف الصلاة.
التاسعة: لو توضأ فقطعت يده أو تثقب لم يجب غسل ما ظهر، لأن ذلك ليس ببدل عما تحته، إلا إذا أحدث بعده ونظيره ما لو خلق رأسه بعد مسحه فإنه لا يعيد المسح.
العاشرة: إذا كان الإنسان متوضئاً أو أراد تجديد الوضوء ماذا ينوي، لا يستقيم أن ينوي رفع الحدث لأن حدثه مرتفع، ولا استباحة الصلاة لأنه مستبيح لها بوضوءه الأول، ولا فرض لأنه ليس بفرض عليه، قال الأسنوي قد يقال: يكتفى بنية الرفع أو الاستباحة كالصلاة المعادة، ثم قال غيره: إن ذلك مشكل خارج عن القواعد، لكن قال ابن العماد: وتخريجه على الصلاة ليس ببعيد، لأن قضيته التجديد أن يعيد الشيء بصفته الأولى، وإلا لم يكن تجديداً.
الحادية عشر: أي عضو من أعضاء الوضوء يجب غسله في بعض الأزمان دون بعض، وليس عليه جبيرة ولا خف وقد نظم هذا السؤال بعضهم فقال:
يا إماماً قد فاق أهل الزمان ... بفنون من العلوم حسان
ما الذي أنت قائل في سؤال ... هو من فنك الكثير المعاني
أي عضو من الوضوء يغسل ... في زمان قد خص دون زمان
لم يكن موضع الجبائر والخف ... ولكنه خفي المكان
فأتنا بالجواب عما سألناك ... سريعاً فيه بغير ثوان
وصورته في موضع اللحية الكثيفة، فإنه قبل نبات الشعر عليه يجب غسله بعد كثافته مع نباته لا يجب غسله، وإذا خف بعد كثافته وجب غسله، وقد أجاب السائل عنه نظماً فقال:
خد جواباً عما سألت سريعاً ... حسن اللفظ في بديع المعاني
إن هذا المكان يعرف منا ... بمحل اللحى من الأذقان
شعر الوجه إن تكاثف فيه ... لم يجب غسله على الإنسان
(2/244)
وهو قبل الإنبات يغسل أو ... أخف نبات من فوق هذا المكان
هاك درراً بأعلى الدر في ... النظم إذا كان من نحور الغوان
وأما شرائط الوضوء: فقد اختلف العلماء في عددها، فمنهم من جعلها عشرة، ومنهم من زاد على ذلك، ومنهم من نقص عن ذلك، ومنهم من وصلها إلى مائة وست وخمسين شرطاً، ثم رد الجميع إلى شرط واحد، وهو لا يقترن بمانع.
قال العلماء: معرفة شروط العبادات واجبة على كل مخاطب، لتوقف العبادات على معرفتها والإتيان بها على الوجه المشروع، إذ لا يغتفر فيها الجهل ولا النسيان، فمن توضأ مع الجهل بكيفية الوضوء لم يصح.
فمن شروط الوضوء: الإسلام، فلا يصح وضوء الكافر.
ومنها: الماء الطهور، فلا يصح الوضوء بل ولا الغسل ولا إزالة النجاسة بغير الطهور، كالماء المستعمل ولو كان المستعمل له صبياً أو من لا يرى وجوب النية في الوضوء والغسل وهو الحنفي، وإنما يصح بالطهور وهو الماء المطلق، والمطلق ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد، أما إذا تقيد الماء كأن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء طاهر مخالط تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه فإنه لا يصح الوضوء منه، ولا الغسل ولا إزالة النجاسة، كما إذا وقع في الماء زعفران فغير لونه، أو صابون أدخل فغير لونه، أو مسك فغير رائحته، وإنما كان غير طهور لأنه: لا يسمى ماء، ولهذا لو حلف أن لا يشرب الماء فشرب هذا المتغير بطاهر لا يحنث، خلافاً لأبي حنيفة فإنه جوز الوضوء بالماء المتغير بالزعفران أو نحوه.
ولنا شخص توضأ بماء متغير لا يقع عليه اسم الماء، ولا هو باق على أصل خلقته ويصح وضوءه، وصورته: في الماء المتغير بما في مقره أو ممره أو بمجاوره كعود أو دهن أو نحو ذلك.
ومنها: العلم بأنه طهور، فإذا لم يعلم من أراد الوضوء من ماء أنه طهور لا يصح الوضوء منه.
ومنها: التمييز، فلا يصح وضوء غير المميز كالمجنون والصبي الذي لا يميز.
ولنا شخص غير مميز ويصح وضوءه، وصورته: فيما إذا حج الإنسان ومعه صبي غير مميز أو مجنون فإن الولي يحرم عنه بالحج لينال أجر الحج، وعند الطواف يوضئه وينوي عنه ويصح وضوءه في هذه الصورة.
ومنها: طهارة المحل عن الخبث إن لم يصلح الغسل لإزالة الحدث، كالسادسة في
(2/245)
الكلبية، فإذا تنجس وجه الإنسان مثلاً نجاسة كلبيه فغسله خمس مرات، ثم أراد أن يتوضأ فيشترط لصحة الوضوء أن يغسله مرة أخرى لتصير سادسة، فإن السادسة كالتي قبلها لا تصح لإزالة الحدث، إذ لا يزال الخبث باق اتفاقاً بخلاف السابعة بعد الترتيب فإنها صالحة لإزالتها، أفاد هذا الشرط الجوهري وغيره.
ومنها: أن لا يكون على أعضاء الوضوء شيء مانع من وصول الماء إليه، يسمى «بالمانع الحببي» كشمع ونحوه، فإذا يجعل الإنسان في شقوق رجليه دهن شمع ووضع على يده أو رجليه حناء أو نحو ذلك وجب عليه في الوضوء أو الغسل إزالة عينه، فإن لم يزله لم يصح وضوءه ولا غسله حتى يغسل ذلك المحل، ويغسل ما بعده في الوضوء، نعم لا يضر بقاء لون الحناء فإنه ليس بحائل، ولو كان على عضوه دهن مائع فجرى عليه الماء فلم يثبت بل قطع صح وضوءه، وأما الوسخ الذي تحت الأظافر فقال جمهور العلماء: إنه مانع من صحة الوضوء والغسل، وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي: لا يمنع من صحته لمشقة الاحتراز عنه، وما أحسنها من رخصة فإنه قل من سلم من وسخ تحت أظافره خصوصاً أرباب الصنائع والحرف.
سؤال: فإن قيل: أي شيء على أعضاء الوضوء أو الغسل مانع من وصول الماء إلى ذلك العضو لا يضر.
جوابه: الوسخ الذي نشوءه من البدن، فإذا تجمد من عرق الإنسان وسخ، فإنه ليس بمانع من صحة الوضوء ولا الغسل، وإن منع من وصول الماء إلى العضو، لأنه جزء من البدن، أما إذا تجمد الوسخ من الغبار فإنه يضر، لأنه ليس جزءاً منه.
ومنها: معرفة كيفيته.
ومنها: أنه لا يميز بين فرض الوضوء ونفله، فمن اعتقد أن جميع أفعال الوضوء سنة لا يصح وضوءه، كما أنه لو اعتقد أن جميع أفعال الصلاة سنة، فإن صلاته لا تصح، ولو اعتقد بعض أفعال الوضوء ولم يميز بين الفرض والسنة لم يصح أيضاً وضوءه، كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها لا تصح، وإن كان بعضها سنة.
وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض، فإنه لا يصح، كما قال الغزالي: العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها تصح صلاته بشرط: أن لا يقصد النفل بما هو فرض، أما لو اعتقد أن جميع أفعال الوضوء فرض فإنه يصح، وإن كان بعضها سنة كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها تصح، وإن كان بعضها سنة، وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض وذلك لا يضر.
(2/246)
ومنها: استحباب النية حكماً، فمن نوى قطع الوضوء في أثنائه بطلب نيته بالنسبة إلى بقية الأعضاء فيجب استئنافها، وأما ما مضى فهو صحيح كما تقدم.
ومنها: جريان الماء على العضو المغسول، فلا يكفي إيصال الماء إلى العضو المغسول من غير جريان، فكم من إنسان عند غسل الوجه مثلاً يمسح وجهه بالماء مسحاً من غير أن يسيل عليه الماء، فهذا وضوء باطل، لأن الواجب في الوجه واليدين الغسل لا المسح، ولا يتميز الغسل عن المسح إلا يجريان الماء.
ومنها: استيعاب العضو للمغسول بالغسل، فلا يكفي غسل بعضه قال - صلى الله عليه وسلم -: «ويل للأعقاب من النار» (1) .
ومنها: أن يغسل مع المغسول جزءاً يتصل به من غيره، فإذا غسل وجهه فلابد أن يغسل شيئاً من الرأس والرقبة ليتقين أنه استوعبه، وإذا غسل يديه فلابد أن يغسل معهما شيئاً من الساقين لما تقرر في علم الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به، وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب.
ومنها: أن لا يقترن بمانع شرعي، فمن وضأته امرأة أجنبية وكانت تلمس أعضاءه فإن وضوءه لا يصح عندنا، وكذلك من توضأ وريحه أو بوله خارج منه لاقترانه بمانع شرعي، نعم لنا شخص توضأ وبوله يسيل منه ووضوءه صحيح، وصورته: فيمن به سلس البون مثلاً إذا تعذر عليه حبسه فإن وضوءه صحيح وصلاته أيضاً وإن قطر بوله على الحصير، ويشترط في صحة وضوء صاحب الضرورة أيضاً دخول الوقت، وأن يحشو فرجه بقنطه وغيرها، وأن يقدم الاستنجاء على الوضوء، وأن يتوضأ لكل فريضة، فمن حدثه دائم كمن به سلس البول لا يصح وضوءه إلا بعد دخول الوقت كالمتيمم، ولا يصح وضوءه إلا بعد حشو فرجه والاستنجاء، وإذا توضأ لكل فرض
_________
(1) أخرجه أحمد (3/316، رقم 14432) ، وابن أبي شيبة (1/32، رقم 268) عن جابر.
وأخرجه البخاري (1/33، رقم 60) ، ومسلم (1/214، رقم 241) ، وأبو داود (1/24، رقم 97) ، والنسائي (1/77، رقم 111) ، وابن ماجه (1/155، رقم 455) عن ابن عمرو.
وأخرجه البخاري (1/73، رقم 163) ، ومسلم (1/214، رقم 242) ، والترمذي (1/58، رقم 41) ، وابن ماجه (1/154، رقم 453) ، وعبد الرزاق (1/20، رقم 58) ، وأحمد (2/482، رقم 10253) ، وابن حبان (3/368، رقم 1088) عن أبي هريرة.
وأخرجه مالك (1/19، رقم 35) ، والشافعي (1/175) ، وعبد الرزاق (1/23، رقم 69) ، ومسلم (1/213، رقم 240) وابن ماجه (1/154، رقم 451) عن عائشة.
(2/247)
يجب عليه أن يدخل قطنته في إحليله فإن انقطع وإلا عصب مع ذلك رأس الذكر.
فائدة: من به سلس المني يغتسل لكل فرض.
وأما فضائل الوضوء فكثيرة:
منها: أن المتوضئ يحبه الله كما يحب التائب قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ? [البقرة: 222] بالماء من الأحداث والنجاسات.
وقال تعالى: ?فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ? [التوبة: 108] .
ومنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الطهارة نصف الإيمان أو نصف الصلاة، فقد روينا في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الطهور شطر الإيمان» (1) .
واختلف بالمراد بالإيمان في هذا الحديث:
فقيل: المراد به الصلاة، فإن الإيمان يطلق عليها قال الله تعالى: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
وقيل: المراد به معناه الحقيقي وهو المقابل للكفر، وعلى المعنيين فيه دلالة على فضل الوضوء، بل على فضل مطلق الطهارة، أما على الأول فإنها جعلت نصف الصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية.
وهنا سؤال وهو: الطهارة بعض شرائط الصلاة، فكيف جعلت نصف الصلاة؟
جوابه: أن الطهارة أقوى شرائط الصلاة فجعلت كأنها الشرط كله، فأطلق عليها الشطر بهذا الاعتبار.
وأما على الثاني فإنها جعلت نصف الإيمان الحقيقي باعتبار أنها طهارة عن الشرك، وأنها طهارة عن الأحداث، فهما طهارتان إحداهما تختص بالباطن، والأخرى بالظاهر، فما أعظمها من فضيلة حيث جعلت نصف الإيمان الذي هو السبب في سعادة الدارين.
_________
(1) أخرجه مسلم (1/203، رقم 223) ، والترمذي (5/535، رقم 3517) وقال: صحيح. والدارمي (1/174، رقم 653) ، وأحمد (5/342، رقم 22953) ، وأبو عوانة (1/189، رقم600) ، والطبراني في الكبير (3/284، رقم 3423) ، وابن منده (1/374، رقم 211) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/3، رقم 2709) عن أبي مالك الأشعري.
(2/248)
ومنها: أنه مفتاح الصلاة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «مفتاح الصلاة الطهور» (1) .
ومنها: أنه سبب للنظافة التي بُني الدين عليها، قال - صلى الله عليه وسلم -: «بني الدين على النظافة» (2) .
ومنها: أنه مكفر للذنوب والخطايا ورفع الدرجات، روينا في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» (3) .
ومعنى «إسباغ الوضوء على المكاره» إتمامه في شدة البرد.
فائدة: ذكر أهل العلم في معنى قوله: «فذلكم الرباط» وجهين:
أحدهما: أنه شبه الذي يتوضأ في شدة البرد، ويكثر الذهاب إلى المسجد، وينتظر الصلاة بعد الصلاة في الأجر بالمرابط في سبيل الله قبالة أعدائه.
والثاني: أنه رباط صاحبه عن إثم الخطيئة، فكأنه عقله عنها بفعله.
وروينا في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره» (4) .
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/167 رقم 618) والترمذي (1/8، رقم 3) وقال: هذا الحديث أصح شىء في هذا الباب. وابن ماجه (1/101 رقم 275) ، وأبو يعلى (1/456، رقم 616) ، والدارقطني (1/360) ، والضياء (2/341، رقم 718) وقال: إسناده حسن. والشافعي (1/34) ، وابن أبي شيبة (1/208، رقم 2378) ، وأحمد (1/123، رقم 1006) عن على.
وأخرجه ابن أبي شيبة (1/208، رقم 2380) ، والحاكم (1/223، رقم 457) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقي (2/85، رقم 2386) . أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (3/36، رقم 390) عن أبي سعيد.
(2) أورده الرافعي في التدوين (1/176) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه مسلم (1/219، رقم 251) . وأخرجه أيضا: الترمذي (1/72، رقم 51) ، والنسائي (1/94، رقم 139) ، ومالك (1/161، رقم 384) ، وعبد الرزاق (1/520، رقم 1993) ، وأحمد (2/235، رقم 7208) ، وابن حبان (3/313، رقم 1038) ، وابن خزيمة (1/6، رقم 5) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه مسلم (1/216، رقم 245) . وأخرجه أيضاً: أحمد (1/66، رقم 476) ، والبزار (2/82، رقم 433) ، وأبو عوانة (1/194، رقم 615) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/12، رقم 2731) عن عثمان.
(2/249)
وروينا أيضاً في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل يديه خرج كل خطيئة بطشها يداه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب» ، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: هذا حديث حسن صحيح (1) .
رواه النسائي وزاد فيه: «وإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافله له» (2) .
ومنها: كما قاله في نزهة المجالس: إن العبد إذا غسل وجهه صار في الآخرة كوجه يوسف، وإذا غسل يديه أخذ كتابه بيمينه، كما أخذ موسى الألواح بيمينه، وإذا مسح رأسه يوضع عليه تاج العز، كما وضع على سليمان، وإذا غسل رجليه ركب النجائب، كما ركب محمد - صلى الله عليه وسلم - البراق.
ومنها: أنه ينجو من عذاب القبر، ويدل على ذلك الحديث الطويل الذي رواه الطبراني في الكبير والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والأصبهاني في الترغيب وهو حديث كثير الفوائد وسنذكره في المجالس الآتية فإنه ذكر فيه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت رجلاً من أمتي قد سلط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه منه» (3) .
فائدة: إذا أراد العبد العاصي أن يتوب إلى الله تعالى فينبغي له أن يتوضأ قبلها، ويأتي بأركان التوبة، ويصلي ركعتين، فقد نص علماؤنا الشافعية على استحباب ركعتين عند التوبة لخبر رواه الترمذي وحسنه: «ليس عبد يذنب ذنباً فيقوم فيتوضأ
_________
(1) أخرجه مسلم (1/215، رقم 244) ، والترمذي (1/6، رقم 2) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضاً: مالك (1/32، رقم 61) ، والدارمي (1/197، رقم 718) ، وابن خزيمة (1/5، رقم 4) ، وأبو عوانة (1/207، رقم 669) ، والبيهقي (1/81، رقم 386) ، وابن حبان (3/315، رقم 1040) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) عن عبد الله الصنابحي.
(3) أورده الحكيم (3/231) ، وأخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/180) قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف. كلاهما عن عبد الرحمن بن سمرة
(2/250)
يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له» (1) ثم فراغه يتوسل إلى الله في قبول توبته، فقد قيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يتوب على آدم، أمره جبريل أن يتوضأ ويتوسل إلى الله تعالى.
كما نقل عن ابن عباس أنه قال: «لما أصاب آدم الزلة أهبط على الأرض إلى جبل «سرنديب» وهو يبكي، فلما طال بكاؤه وهبط إليه جبريل فقال: يا آدم كم هذا البكاء ألم تعلم أن الله تعالى جعل الماء طهوراً، والإيمان نوراً؟ فقال: نعم، قال: قم واغسل الأعضاء التي قصدت بها الزلة، وتوجه إليه، وتوكل عليه، فقام آدم وتوضأ وصلي وجعل يقول: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فتقبل منه وغفر له» .
وقيل: إن آدم في مدة بكائه كان واضعاً وجهه على الأرض لله وهو يبكي حتى نبت العشب حول وجهه من دموعه وغطى رأسه، وكلما ذكر زلته يتأوه ويصيح فيخرج من فمه نفس يُسوِّد العشب، فلما أراد أن يتوب عليه ناداه يا آدم يا صفوتي فلم يجب ربه، فناداه ثانيا فلم يجبه، فناداه ثالثاً فلم يجبه، فارتعدت الملائكة من الخوف وقالوا: أهلكنا فإن آدم لم يجب ربه، فنزل جبريل وقال: يا آدم ألم تسمع نداء ربك؟ قال آدم: نعم أسمع نداءه وهو يقول: يا صفوتي، فكيف أكون صفياً وأنا قد عصيت، وظننت أنه خلق غيري وهو يناديه، فإن كان النداء لي فلبيك اللهم لبيك، فنودي وهو على تلك الحال: يا آدم ما كنت تقول في قلبك قبل ندائي لك وأنا علام الغيوب؟ قال: يارب كنت أقول: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وكلما تذكرت ذنبي انكسر قلبي، فقال الله تعالى: يا آدم ألم تعلم أني عند المنكسرين من أجلي إذا لم يقطع عبدي الرجاء.
في صحيح مسلم في حديث مطول عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا
_________
(1) أخرجه الترمذي (2/257، رقم 406) وقال: حسن. وأخرجه أيضا: أبو داود (2/86، رقم 1521) ، ووالنسائي في الكبرى (6/109، رقم 10247) ، وابن ماجه (1/446، رقم 1395) ، وابن حبان (2/389، رقم 623) ، وأبو يعلى (1/25، رقم 15) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/401، رقم 7077) ، والضياء في الأحاديث المختارة (1/82، رقم 7) وقال: إسناده صحيح. والطيالسي (1/2، رقم 1) ، وابن أبي شيبة (2/159، رقم 7642) ، وأحمد (1/2، رقم 2) ، والحميدي (1/4، رقم 4) عن أبي بكر.
(2/251)
غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» (1) .
وقال الغزالي في الإحياء قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فمه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفاره، ثم كان مشية إلى المسجد وصلاته نافلة له» (2) .
ويروى: «إن الطاهر كالصائم» (3) .
وقال عمر - رضي الله عنه -: «إن الوضوء الصالح يطرد عنك الشيطان» (4) .
* * *
_________
(1) أخرجه مسلم (1/569، رقم 832) . وأخرجه أيضاً: أحمد (4/112، رقم 17060) ، والبيهقي (1/81، رقم 387) ، وأبو عوانة (1/206، رقم 668) ، وابن سعد (4/217) عن عمرو بن عبسة.
(2) أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) ، وابن ماجه (1/103، رقم 282) ، ومالك (1/31، رقم 60) ، وأحمد (4/349، رقم 19091) ، والحاكم (1/220، رقم 446) وقال: صحيح. والبيهقي في شعب الإيمان (3/13، رقم 2734) عن عبد الله الصنابحي.
(3) أخرجه الديلمي (2/463، رقم 3981) عن عمرو بن حريث. قال المناوي (4/289) : قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف.
(4) انظر: إحياء علوم الدين (1/135 - 136) .
(2/252)
المجلس الثامن والثلاثون
في بيان أسباب الحدث
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةً بِغَيْرِ طَهُورٍ
هذه الترجمة هي لفظ حديث صحيح رواه مسلم في صحيحه من طريق ابن عمر بزيادة: «ولا صدقة من غلول» (1) والغلول: الخيانة في المغنم.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِىُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم (1/204، رقم 224) . وأخرجه أيضاً: الطيالسي (ص: 255، رقم 1874) ، وأحمد (2/19، رقم 4700) ، وابن الجارود (1/28، رقم 65) ، وابن خزيمة (1/8، رقم 8) ، وأبو عوانة (1/198، رقم 635) ، والبيهقي (2/255، رقم 3196) .
(2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «لا تقبل» المراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة وهو الإجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة. ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الإجزاء الذي القبول ثمرته عبر عنه بالقبول مجازا، وأما القبول المنفي في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة» فهو الحقيقي، لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع، ولهذا كان بعض السلف يقول: لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلى من جميع الدنيا، قاله ابن عمر. قال: لأن الله تعالى قال: ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ? [المائدة: 27] .
قوله: «أحدث» : أي وجد منه الحدث، والمراد به الخارج من أحد السبيلين، وإنما فسره أبو هريرة بأخص من ذلك تنبيها بالأخف على الأغلظ، ولأنهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، وأما باقي الأحداث المختلف فيها بين العلماء - كمس الذكر ولمس المرأة والقيء ملء الفم والحجامة - فلعل أبا هريرة كان لا يرى النقض بشيء منها. وقيل إن أبا هريرة اقتصر في الجواب على ما ذكر لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك، وفيه بعد.
واستدل بالحديث على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريا أم اضطراريا، وعلى أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء، وما بعدها مخالف لما قبلها فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقاً.
قوله: «يتوضأ» : أي بالماء أو ما يقوم مقامه، وقد روى النسائي بإسناد قوي عن أبي ذر مرفوعاً «الصعيد الطيب وضوء المسلم» فأطلق الشارع على التيمم أنه وضوء لكونه قام مقامه، ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة من كان محدثاً فتوضأ أي: مع باقي شروط الصلاة. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/235) .
(2/253)
هذا الرجل الذي سأل أبا هريرة لا يعرف اسمه، وجاء أنه أعرابي.
قوله: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» القبول يطلق شرعاً ويراد به حصول الثواب، ولا يلزم في بقية نفي الصحة، بل نفي الثواب مع حصول الصحة، بدليل صحة صلاة العبد الآبق وصلاة شارب الخمر إذا لم يسكر ما دام في جسده شيء منها، والصلاة في الدار المغصوبة عند الشافعية، فلا ثواب لواحد منهم.
ويطلق ويراد به وقوع الفعل صحيحاً، وحينئذ يلزم من نفيه نفي الصحة، وهذا المعنى هو المراد هنا بقرينة الإجماع، فمعنى الحديث: لا تصح صلاة من أحدث حتى يتوضأ، وإذا لم يكن صحيحه فلا ثواب لها.
سؤال: فإن قيل: تقبل الصلاة وتصح بالتيمم أيضاً فكيف قال: لا تقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ فقط؟
فالجواب: أن المراد حتى يتوضأ أو ما يقوم مقامه كالتيمم، واقتصر على الوضوء لأنه الأصل، والوضوء يطلق على التيمم بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين» (1) .
فقوله: «حتى يتوضأ» أي: بالماء والتراب.
والحدث ينقسم إلى حدث أصغر وهو ما أوجب الوضوء، وإلى أكبر وهو ما أوجب الغسل كالجنابة ونحوها.
وقال بعض العلماء: الحدث ينقسم إلى حدث أصغر وكبير وأكبر، فالأصغر: ما أوجب الوضوء، والكبير ما أوجب الغسل كالجنابة والجماع، والأكبر ما أوجبه لحيض ونفاس.
والمراد «بالحدث» في الحديث أي: الخارج من أحد السبيلين فيمنع من صحة الصلاة، وله أربعة أسباب.
_________
(1) أخرجه الترمذي (1/211، رقم 124) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/171، رقم 322) ، وابن حبان (4/140، رقم 1313) ، والدارقطني (1/186) ، والبيهقي (1/212، رقم 962) ، وعبد الرزاق (1/238، رقم 913) ، وأحمد (5/155، رقم 21408) ، والحاكم (1/284، رقم 627) وقال: صحيح. جميعا عن أبي ذر.
(2/254)
فإن قيل: لأي شيء اقتصر أبو هريرة حين سأله الرجل عن الحدث على بعض الأسباب وقال له في الجواب: «فساء أو ضراط» مع أن الحدث يحصل بغيرها كما ستسمعه؟
فالجواب: أن أبا هريرة إنما اقتصر على ذلك لأنه الذي كان يجهله هذا الرجل الأسباب فعلمه ما يجهله منها أو أنه أجابه عما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر، أو أنه عما يقع من الأسباب في الصلاة غالباً، ولم يذكر غيرها كالبول مثلاً لأنه لا يعهد وقوعه فيها، بدليل قوله في الحديث الآخر الآتي: لما سئل عن الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء أي الحركة التي يظن بها أنها حدث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفتل ولا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً» (1) أي لا يخرج من صلاته حتى يعلم وجود أحدهما يقيناً بالسماع وبالشم.
والانفتال: بمعنى الانصراف.
وقوله: «لا ينفتل» بالرفع على أنه نفي، وبالجزم على أنه نهي.
«أو لا ينصرف» شك من الراوي وهو عبد الله بن زيد بن عاصم المازني.
السبب الأول (2) : خروج شيء من قبله أو دبره ولا فرق بين أن يكون صوتاً أو ريحاً، ولا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، ولا فرق بين أن يكون الخارج طاهراً كالحصاة أو نجساً، ولا بين أن يكون معتاداً كالبول والغائط، أو نادراً كالدم، ولا فرق في الخارج من قبل المرأة بين أن يكون من مخرج أو من غيره كمدخل الذكر، ولو أخرجت دودة رأسها من فرجها ثم رجعت انتقض الوضوء، ودبر الخنثي المشكل ينتقض الخارج منه كغيره والخارج من قبليه جميعاً، أما الخارج من أحدهما فإنه لا ينتقض.
ومن خلق له ذكران فإن كان يبول منهما انتقض الوضوء بالخارج من أحدهما، وإن كان يبول من أحدهما فالحكم له أي: ينقض الخارج منه فقط، والآخر زائد لا يتعلق به نقض قاله الأسنوي وغيره.
_________
(1) أخرجه البخاري (1/77، رقم 175) ، ومسلم (1/276، رقم 361) ، وأبو داود (1/45 رقم 176) ، والنسائي (1/98 رقم 160) ، وابن ماجه (1/171، رقم 513) ، وأحمد (4/40، رقم 16497) ، وابن خزيمة (1/17، رقم 25) ، والحميدي (1/201، رقم 413) ، وأبو عوانة (1/201، رقم 650) .
(2) أي من أسباب الحدث أو خروج شيء من أحد السبيلين وقد مر أنها أربعة أسباب.
(2/255)
قال القاضي زكريا: الحكم في الحقيقة منوط بالأصالة لا البول، حتى لو كانا أصليين ويبول بأحدهما ويطأ بالآخر نقض كل منهما، أو كان أحدهما أصلياً والآخر زائداً نقض الأصلي فقط وإن كان يبول بهما، إلا إذا كان الزائد على سنن (1) الأصلي فإن الوضوء ينتقض بالبول منه، قال: وإن التبس الأصلي بالزائد فالظاهر أن النقض منوط بهما معاً لا بأحدهما.
ولو خلق للمرأة فرجان فبالت وحاضت بهما انتقض الوضوء بالخارج من كل منهما فإن بالت وحاضت بأحدهما اختص الحكم به، ولو بالت بأحدهما وحاضت بالآخر فالوجه تعلق الحكم بكل منهما.
ويستثني من الخارج «المني» فإنه لا ينقض الوضوء ولكن يوجب الغسل، ويتصور خروجه من غير جماع بما إذ نام وهو قاعد على وضوء ممكن مقعده من الأرض، أو نزل بفكر أو نظر، وإنما لم ينقض لأنه أوجب أعظم الأمرين وهو الغسل بخصوصه أي: بخصوص كونه منياً.
ولنا مني ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل، وصورته: فيما إذا استدخلت المرأة منيها أو مني غيرها بعد انفصاله، ثم توضأت ثم خرج منها فإنه ينقض وضوءها ولا يوجب الغسل.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء نقض الحيض الوضوء، مع أنه أوجب أعظم الأمرين بخصوصه، فما الفرق بينه وبين المني؟
جوابه: أنهم فرقوا بينهما من وجوه:
الأول: أن الحيض مانع من صحة الوضوء في الاستدامة، فلا يبقى معه في الابتداء بخلاف الجنابة فإنها لا تمنع صحة الوضوء في الاستدامة، ولا يمتنع بقائه في الابتداء.
الثاني: أن المني خارج طاهر ودم الحيض خارج نجس، فلا يصح إيراده نقضاً لعدم المساواة وقيام الفرق.
الثالث: أن الحيض وخروج المني يختلف أحكامها في التغليظ والتخفيف، فلا يلزم من كون الحيض ناقضاً أن يكون المني ناقضاً قياساً عليه، لأن حدث الحيض استغلظ من حدث الجنابة، لأنه يحرم به أشياء لا تحرم بالمني، وقد ذكر علماء الأصول: أن شرط القياس أن لا يختلف المقيس والمقيس عليه في التغليظ والتخفيف، وحيئنذ فلا يرد
_________
(1) هاكذا بالأصل ومعناه: على صفته من حيث أنه يؤدي به ما يوديه الأصلي.
(2/256)
السؤال لعدم المساواة بينهما في العلة.
قال العلماء: ولو انسد مخرج الإنسان وانفتح له مخرج بدله تحت معدته أي: تحت سرته، فخرج منه شيء انتقض وضوءه، إذ لابد للإنسان من مخرج فأقيم هذا مقامه، أما إذا انفتح له مخرج تحت المعدة، والأصلي منفتح أو فوقها أي: فوق المعدة، بأن انفتح في السرة فما فوقها، والأصلي من محاذيها يشبه القيء، والقيء لا ينقض، وما انفتح تحت المعدة والأصلي منفتح لا ضرورة إلى جعله مخرجاً مع انفتاح الأصلي، هذا إذا طرأ الانسداد على الأصلي، أما لو خلق الإنسان منسداً ففي أي: موضع انفتح له مخرج ينقض الخارج منه سواء فوق المعدة أو تحتها.
فائدة: حيث جعلنا الأصلي المنفتح كالأصلي في النقض بخروج الخارج منه فلا نجعله مثله في أجزاء الحجر فيه عند الاستنجاء، ولا في نفض الوضوء بمسه، ولا في وجوب الغسل وغيره من أحكام الوطئ بالإيلاج فيه، ولا في حرمة النظر إليه حيث كان فوق العورة، وأما الأصلي فأحكامه باقية إذا طرأ عيله الانسداد، أما إذا كان منسداً أصالة كعضو زائد من الخنثي لا يجب بمسه وضوءه إلا بإيلاجه والإيلاج فيه غسل.
السبب الثاني: زوال العقل وزوال التمييز بجنون أو إغماء أو سكر أو نوم أو غير ذلك، فإذا نام المتوضئ أو جن أو أغمي عليه أو سكر أو نحو ذلك انتقض وضوءه، وإنما انتقض الوضوء بالنوم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «العينان وكاء السَّة فمن نام فليتوضأ» (1) رواه أبو داود وابن السكن في صحاحه.
كني - صلى الله عليه وسلم - «بالعينين» عن اليقظة.
«الوكاء» بكسر الواو بالمد الخيط الذي يربط به الشيء، والمراد الحفاظ.
«والسة» : الدبر.
والمعنى: أن اليقظة هي الحافظة لما يخرج، والنائم قد يخرج منه الشيء ولا يشعر، وإذا ثبت النقض بالنوم ثبت بالجنون والاغماء والسكر ونحوها، لأنها أبلغ منه في الذهول الذي هو مظنة لخروج شيء من دبره، لأن النوم يستر العقل، والجنون يزيله، والإغماء يغمره، ولا ينقض النعاس المسمى «بالسنة» ، ولا حديث النفس، ولا أوائل
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/52، رقم 203) . وأخرجه أيضاً: أحمد (1/111، رقم 887) ، وابن ماجه (1/161، رقم 477) ، والدارقطني (1/161) ، والبيهقي (1/118، رقم 575) ، والضياء (2/255، رقم 632) عن علي.
(2/257)
نشوة السكر، لعدم زوال الشعور.
ويحصل الفرق بين النوم والنعاس بسماع كلام الحاضرين، وإن لم يفهمه وبالرؤيا، فإن سمع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه فذلك نعاس لا ينقض، وإن رأى رؤيا ذلك نوم ناقض، ولو شك هل نام أو نعس لم ينتقض وضوءه.
وللنوم أربع علامات سنذكرها في محلها إن شاء الله تعالى.
ويستثنى ما إذا نام ممكناً مقعده من مقره فإن وضوءه لا ينتقض ولو كان مستنداً إلى شيء لو أزيل عنه لسقط، وكذا لو نام محتبياً أي: جالساً على إليته رافعاَ ركبتيه محتوياً عليهما بيديه أو غيرهما.
والذي يدل على أن من نام قاعداً ممكناً مقعده من مقرة لا ينتقض وضوءه ما ورد في صحيح مسلم عن أنس: «أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون، ثم يصلون ولا يتوضؤون» (1) .
وهو محمول على أنهم كانوا ينامون ممكنين مقعدهم من مقرهم، جمعاً بينه وبين ما رواه أبو داود والترمذي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا وضوء على من نام قاعداً إنما الوضوء على من نام مضجعاً» (2) فإن من نام مضطجعاً استرخت مفاصله.
سؤال: فإن قيل: يحتمل أن يخرج ممن نام ممكنا مقعده من الأرض من مقره الريح من قبله، فلم قلتم لا ينتقض وضوءه مطلقاً؟
فالجواب: أن خروج الريح من القبل نادر فلم يرتفع به أصل الطهارة، نعم يستحب لمن نام قاعداً ممكناً مقعده أن يتوضأ للخروج من الخلاف قاله في الروضة.
قال العلماء: وإذا نام ممكناً مقعده من الأرض فمال في نومه حتى زالت إحدي إليتيه عن الأرض هل ينتقض وضوءه أم لا؟
فيه تفصيل وهو أن يقال: إن زالت قبل انتباهه انتقض، وإن لم تقع يده على الأرض لمضي لحظه وهو نائم غير ممكن، وإن زالت مع انتباهه أو بعد أو شك هل زالت قبل انتباهه أو بعده فلا ينتقض وضوءه، لأن الأصل بقاء الطهارة، ولو تيقن النوم وشك هل كان ممكن أم لا؟ يجب عليه الوضوء، ولو نام على قفاه ملصقاً مقعده من
_________
(1) أخرجه مسلم (1/284، رقم 376) .
(2) أخرجه أبو داود (1/52، رقم 202) وقال: منكر. والترمذي (1/111، رقم 77) . وأخرجه أيضاً: الطبراني (12/157، رقم 12748) ، والبيهقي (1/121، رقم 592) عن ابن عباس.
(2/258)
الأرض انتقض وضوءه، لأنه غير ممكن مقعده منها، نعم لنا شخص نام قاعداً ممكناً مقعده من الأرض وانتقض وضوءه، ولنا آخر نام على جنبيه أو قفاه ولم ينتقض وضوءه، أما الأول فهو الهزيل النحيف فإنه وإن اجتهد في مقعده من مقره لابد وأن يبقى بينهما بعض تجاف يخرج منه شيء من دبره هكذا قاله المارودي وأقره الرافعي، وقال الأذرعي: إنه الحق، لكن قال النووي في الروضة وغيرها: أنه لا ينتقض. وقال ابن الرفعة: إنه المذهب.
وأما الثاني فهو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
السبب الثالث من أسباب الحدث: التقاء بشرتي الرجل والمراة، فإذا وقعت ملامسة بين الرجل والمراة انتقض وضوء الملامس والملموس، ولو كان الرجل خصيا أو عينياً أو ممسوحا لقوله تعالى: ?أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ? [النساء: 43] هذا مذهب إمامنا الشافعي.
وعند أبي حنيفة لا ينتقض بلمس الرجل والمرأة لا وضوء للملامس ولا الملموس، وأجاب عن قوله تعالى: ?أَوْ لامَسْتُمُ? بأن المراد: جامعتم.
وقال إمامنا الشافعي حمل ?أَوْ لامَسْتُمُ? على جامعتم خلاف الظاهر، بدليل قراءة الآخر «أو لمستم» واللمس الجس باليد وبغيرها، أو الجس باليد وألحق غيرها بها.
ومما يدل على أن اللمس لا يختص بالجماع قوله تعالى: ?فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ? [الأنعام: 7] .
والمعنى في انتقاض الوضوء بالتقاء بشرتي الرجل والمرأة: أن الالتقاء مظنة التلذذ المثير للشهوة، وينتقض عندنا الوضوء بالملامسة سواء أوقعت عمداً وسهواً بشهوة أو بغيرها بإكراه أو بغيره، بعضو أصلي أو زائد بعضو سليم، أو أشل بأعضاء الوضوء أو غيرها، هذا إذا وقعت الملامسة بين بشرتي الرجل والمرأة أي: من غير حائل.
والبشرة: ظاهر الجلد، ومنها: اللسان واللثة فإذا لمس لسانها أو لحم أسنانها أو لمست هي ذلك انتقض الوضوء، أما إذا وقعت الملامسة مع الحائل فإنها لا تنقض، ولو كان رقيقاً.
نعم لنا شيء حائل بين اللامس والملموس وينقض، وصورته: فيما إذا كثر الوسخ على البشرة من العرق فإنه حائل مع أن لمسه ينقض لأنه صار كالجزء من البدن، بخلاف ما إذا كان من غبار.
قال العلماء: ولا نقض بين التقاء بشرتي رجلين، ولا امرأتين، ولا خنثتين، ولا
(2/259)
خنثى ورجل، ولا خنثى وامرأة لاحتمال التوافق في الخنثتين، والخنثى مع الرجل أو المرأة، وتنقض ميتة، وذكر ميت، وعجوز، وهرم، وتستثنى من النساء المحارم بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فإذا لمس الإنسان محارمه كأمه وعمته وخالته لا ينتقض وضؤه، ولو لمسها بشهوة لأنها ليست في مظنة الشهوة وهو بالنسبة إليه كالرجل.
وضابط المحارم التي لا ينقض الوضوء بلمسها ويجوز النظر إليها والخلوة والمسافرة بها: كل امرأة حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها، فخرج بالتأبيد أخت الزوجة وعمتها وخالتها فإنه لا يحرم نكاحهن على التأبيد، بل إلى أن يفارق الزوجة فلسن بمحارم له فينقضن الوضوء، وخرج أيضاً: المرتدة والمجوسية والوثنية فإنهن لا يحرم نكاحهن على التأبيد، لأنهن إذا أسلمن حل نكاحهن.
والمراد بالسبب المباح: العقد والدخول وخرج به ما إذا وطئ امرأة بشبهة كوطئ من ظنها زوجته فإن أمهاتها وبناتها وإن حرمن عليه على التأبيد لا تثبت الحرمة لهن فلمسهن ينقض الوضوء، لأن سبب التحريم ليس مباحاً، لأن وطئ الشبهة في الفاعل لا يوصف بالإباحة ولا بالتحريم، نعم إذا تزوج تلك الموطوءة بشبهة ودخل بها تثبت المحرمية في أصولها وفي فروعها ولا ينقض لمسهن الوضوء.
قال الأسنوي: وترد هذه على الضابط، إذ السبب المباح وهو العقد والدخول لم يحرمهن لسبق تحريمهن بوطئ الشبهة، ويستحيل تحصيل الحاصل.
وخرج بقوله في الضابط لحرمتها: الملاعنة فإن تحريمها على التأبيد لحرمتها لا لمحرميتها، ولا تنقض أم الزوجة ولا بنتها لصدق الحد عليهما.
ولو شك هل لمس محرمة أم أجنبية؟ لم ينقض إذ الأصل بقاء الطهارة.
ولا تنقض صغيرة لا تشتهى، لأنها ليست محلاً للشهوة، ومثلها الصغير الذي لا يشتهى.
ولا ينقض شعر ولا سن ولا ظفر لأنها ليست مظنة للشهوة.
ولا ينقض وضوء الرجل بلمس الأمرد الحسن ولو كان بشهوة، لأنه لم يدخل في قوله: ?أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ? [النساء: 43] .
نعم قال في الإفصاح: قال الإمام مالك: ينقض، وبه قال الأصطخري من الشافعية، فالأفضل المستحب في حق من لمسه أن يتوضأ خروجاً من الخلاف.
ولا ينقض العضو المبان أي المقطوع فإذا قطعت يد المرأة مثلاً فلمسها الرجل، أو يد الرجل مثلاً فلمستها المرأة فلا ينتقض الوضوء، لأن العضو المقطوع لا يسمى امرأة
(2/260)
ولا رجل.
السبب الرابع من أسباب الحدث: مس جزء من فرج الآدمي بجزء من بطن الكف بلا حائل سواء كان الفرج الممسوس قبلاً أو دبراً من نفسه أو غيره عمداً أو سهواً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مس ذكره فليتوضأ» رواه الأربعة وصححه الترمذي (1) .
والمراد: المس ببطن الكف لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ» رواه ابن حبان وغيره (2) .
والإفضاء لغة: المس ببطن الكف.
فإن قيل: الحديث الأول والثاني يدلان على أن من مس فرجه ينقض دون فرج غيره؟
فالجواب: أن من مس فرج غيره ينقض قياساً على مس فرجه لأن مسه أفحش من فرجه لهتكه حرمة غيره، ولهذا لا يتعدى النقض إليه.
والمراد ببطن الكف الراحة مع بطون الأصابع، فلو مس بظهر الكف لم ينقض وكل ما يستر عند وضع اليدين على الأخرى بتحامل يسير فهو بطن الكف.
وينقض المس ببطن أصبع زائدة إن كانت على استواء الأصابع وإلا فلا، وقبل المرأة الناقض ملتقى شفريها، فإن مست ما وراء الشفر لم ينتقض بلا خلاف.
ومس الذكر المنفصل كالمتصل لبقاء اسم الذكر عليه بعد الإبانة، بخلاف فرج المرأة إذا قطع فإنه لا ينقض لأنها جلدة لا تتميز غالباً، فلا يصدق عليها اسم الفرج، وإذا قطع بعض الذكر فلمسه انتقض وضؤه، وقلفة الصبي وهي الجلدة التي تقطع في الختان ينقض مسها قبل القطع لا بعده، ولو خلق للإنسان كفان فإن اتفقا في العمل وعدمه نقضا، وإن كانت إحداهما عاملة والأخرى غير عاملة فإن كانتا على معصم
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/46، رقم 181) ، والترمذي (1/126، رقم 82) ، والنسائي (1/216، رقم 447) ، وابن ماجه (1/161، رقم 479) . وأخرجه أيضاً: مالك (1/42، رقم 89) ، وأحمد (6/406 رقم 27334) ، وابن أبي شيبة (1/150، رقم 1725) ، والطيالسي (ص: 230، رقم 1657) ، وابن الجارود (1/18، رقم 18) ، وابن حبان (3/400، رقم 1116) ، والحاكم (1/231، رقم 474) ، والبيهقي (1/129، رقم 613) عن بسرة بنت صفوان.
(2) أخرجه ابن حبان (3/401، رقم 1118) . وأخرجه أيضاً: أحمد (2/333، رقم 8385) ، والشافعي (1/12) ، والدارقطني (1/147) ، والطبراني في الأوسط (2/237، رقم 1850) ، والبيهقي (1/133، رقم 630) ، والطبراني في الصغير (1/84، رقم 110) عن أبي هريرة.
(2/261)
واحد نقضت الزائدة كالأصلية، بشرط أن تكون الزائدة كالأصلية كالأصبع الزائدة، وإن كانتا على معصمين نقضت الأصيلة فقط، ولا تنقض الزائدة، ولو خلق له ذكران فإن اتفقا في العمل وعدمه نقضا، وإن كان أحدهما عاملاً دون الآخر نقض مس العامل، وغير العامل إن كان على سنن العامل نقض مسه وإلا فلا.
والمراد بالدبر الناقض ملتقى المنفذ دون ما ورأه.
قال العلماء: فلا ينقض الوضوء بمس العانة ولا بمس الانثيين ولا بمس الإليين ولا بمس ما بين القبل والدبر، لأنه لا يسمى فرجاً.
ولا ينتقض الوضوء بمس الذكر، برأس الأصابع وبما بينهما.
ولا ينقض بمس فرج البهيمة، كما لا يجب ستره ولا يحرم النظر إليه.
ولا ينتقض بقهقهة مصل ويدل عليه ما أخرجه ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: «ليس من ضحك في الصلاة إعاده وضوء» (1) وإنما كان ذلك لهم حين ضحكوا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وما روي من أنها تنتقض ضعيف، ولهذا قال علماؤنا: ولو افتصد الإنسان في صلاته فخرج منه الدم ولم يلوث بشرته لم تبطل صلاته لعدم بطلان طهارته، وعند أبي حنيفة - رضي الله عنه - ينتقض الوضوء بالقهقهة في كل صلاة ذات ركوع وسجود، لا في صلاة جنازة، ولا ينتقض الوضوء بالنجاسة الخارجة من غير الفرج كدم الرعاف من جميع المأكول.
وأما ما ورد في مسلم من إيجاب الوضوء مما مست النار (2) فمنسوخ أيضاً بالخبر
_________
(1) أخرجه ابن عساكر (61/389) . وأخرجه أيضا: الدارقطني (1/175) عن جابر.
(2) أخرجه مسلم (1/273، رقم 353) ، وابن ماجه (1/164، رقم 486) ، وأحمد (6/89، رقم 24624) عن عائشة.
وأخرجه مسلم (1/272، رقم 352) ، والنسائي في الكبرى (1/104، رقم 179) ، وابن ماجه (1/163، رقم 485) ، وعبد الرزاق (1/173، رقم 668) ، وابن أبي شيبة (1/53، رقم 549) ، وأحمد (2/265، رقم 7594) ، وابن حبان (3/426، رقم 1147) عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن ماجه (1/164، رقم 487) ، قال البوصيري (1/70) : هذا إسناد مختلف فيه من أجل خالد بن يزيد ولم ينفرد به. والطبراني في الأوسط (7/16، رقم 6720) . قال الهيثمي (1/249) : فيه خالد بن يزيد بن أبي مالك وهو كذاب. كلاهما عن أنس.
وأخرجه أبو داود (1/50، رقم 195) ، والنسائي في الكبرى (1/105، رقم 186) ، وعبد الرزاق (1/172، رقم 665) ، وأحمد (6/426، رقم 27439) ، وابن أبي شيبة (1/53، رقم 550) ، والطبراني (23/244، رقم 488) عن أم حبيبة.
(2/262)
الصحيح في أبي داود عن جابر - رضي الله عنه - كان آخر الأمرين من رسول الله - رضي الله عنه - ترك الوضوء مما غيرت النار (1) .
فائدة: في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» دليل على بطلان الصلاة مع الحدث، وفيه دليل على أنه يحرم على المحدث حدثاً أصغر الصلاة ولو كانت نفلا أًو صلاة جنازة، هذا في غير فاقد الطهورين، ودائم الحدث، ويحرم عليه خطبة الجمعة والطواف ولو نفلاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله تعالى قد أحل فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير» رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم (2) .
ويحرم عليه سجود التلاوة أو الشكر لأنه في معنى الصلاة.
قال ابن الصلاح: وأما ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ محدثين فهو من العظائم، ولو كان بطهارة إلى القبلة قال: وأخشى أن يكون كفراً.
وأما قوله تعالى: ?وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً? [يوسف: 100] فهو منسوخ أو مؤول، ويحرم عليه مس المصحف ولو كان بغير أعضاء الوضوء، ولا فرق بين مس كتابته وورقه وحواشيه وما بين سطوره، لأن اسم المصحف يقع على الجميع وقوعاً واحداً، وكذلك يحرم مسه من وراء ثوبه أو ثوب غيره، وكذا يحرم مسه على فاقد الطهورين، ودليل تحريم مسه قوله تعالى ?لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ? [الواقعة: 79] أي: إلا المتطهرون وهو خبر بمعنى النهي، ولو كان باقياً على أصله من الخبرية لزم الخلف في كلامه تعالى، لأن غير المتطهر يمسه.
فإن قيل: ما المانع من جعله نهياً لا خبراً بمعناه؟
فالجواب: أنه لو كان نهياً لزم منه وقوع الطلب صفة وهو ممتنع.
وأما مس جلد المصحف فإن كان متصلاً به حرم مسه لأنه كالجزء منه، ولهذا يتبعه في البيع، وإن كان منفصلاً عنه حرم مسه.
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/49، رقم 192) . وأخرجه أيضا: النسائي (1/108، رقم 185) .
(2) أخرجه الحاكم (1/630، رقم 1686) . وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة (3/37، رقم 12808) ، والطبراني (11/34، رقم 10955) ، وأبو نعيم في الحلية (8/128) ، والدارمي (2/66، رقم 1847) ، وابن أبي شيبة (3/37، رقم 12808) ، وابن الجارود (1/120، رقم 461) ، وابن حبان (9/143، رقم 3836) ، والبيهقي (5/85، رقم 9074) عن ابن عباس.
(2/263)
فقال الأسنوي: يحل مسه، ونقل الزركشي عن الغزالي: أنه يحرم مسه أيضاً ولم ينقل ما يخالفه، وقال ابن العماد: إنه الأصح إبقاءً لحرمته قبل انفصاله.
قال العلامة القاضي زكريا: محل تحريم مسه إذا لم تنقطع نسبته عن المصحف، فإن انقطعت كأن جعلت جلد كتاب لم يحرم مسه قطعاً، وكما يحرم مسه يحرم حمله لأنه أبلغ من مسه سواء حمله وحده أو في غلافه أو بعلاقته، هذا مذهب إمامنا الشافعي والإمام مالك.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمحدث حلمه بعلاقته أو في علاقته، نعم يجوز لنا حمله في أمتعة أو متاع واحد إذا لم يكن مقصوداً بالحمل، لعدم الإخلال بتعظيمه حينئذ أما إذا كان مقصوداً بالحمل ولو مع الأمتعة فإنه يحرم حمله.
ولا تحرم كتابة القرآن على المحدث من غير مس ولا حمل، بأن يضع الورقة مثلا بين يديه ويكتب فيها، ولا يحرم عليه قلب ورق المصحف بعود، لأنه ليس بحمل ولا مس، ويجوز مس التوراة والإنجيل وحملها، ويجوز مس وحمل ما نسخت تلاوته وإن لم ينسخ حكمه لزوال حرمته بالنسخ، كزوال حرمة التوراة والإنجيل بالتبديل، أما ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته فيحرم مسه وحمله، ويحرم على بالغ مس وحمل ما كتب بلوح ونحوه، ولو بعض آية لدراسة، بخلاف الصبي فإنه إذا كان مميزاً لا يجب على وليه ومعلمه مع الحدث الأصغر أن يمنعه من مس وحمل المصحف أو اللوح الذي يتعلم منه، لأنه يحتاج إلى الدراسة والتعلم، وتكليفه استصحاب الطهارة مما تعظم فيه المشقة، هذا إذا حمله لأجل الدراسة والتعلم، أما إذا لم يكن له غرض في حمله أو حمله بغرض آخر فإنه يجب على معلمه ووليه منعه من ذلك، وإذا كان البالغ محدثاً فقال للصبي: انقل هذا المصحف من هذا المكان إلى مكان آخر أو احمله معك فإنه حرام يأثم ببذلك البالغ، لأن الصبي يمنع من حمله ومسه إلا لحاجة التعلم، كما يمنع المجنون وهذا يقع فيه كثير من الناس الجهال خوفاً من مسه مع الحدث.
وإذا كان الصبي جنباً وأراد حمل المصحف ومسه للدراسة هل يمنع من ذلك أم لا؟
قال النووي: لا يمنع، وجزم به ابن السبكي، لكن قال الأسنوي: القياس المنع لأنها نادرة، وحكمها أغلظ، واستحسن كلامه كثير من المتأخرين.
قال العلماء: وإن أبيح للصبي المميز مع الحدث مس المصحف وحمله أو اللوح الذي فيه شيء من القرآن لأجل، الدراسة فيندب لوليه ومعلمه منعه منه، وأمره بالوضوء، ويجوز مع الكراهة مس وحمل كتب التفسير مع الحدث، إلا إذا كان القرآن
(2/264)
أكثر منه، فإنه حينئذ في معنى المصحف، ويجوز حمل الدراهم والدنانير والثياب التي كتب عليها شيء من القرآن، لأن هذه الأشياء لا يقصد بإثباب القرآن فيها قراءته، فلا يجري عليها أحكام القرآن، وسنذكر حكم الحروز في الكلام على آداب داخل الخلاف.
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» أيضاً دلالة على رفع الشك والعمل باليقين، فإذا تيقن الإنسان أنه متوضئ وشك في الحدث بعده، عمل بيقينه وطرح الشك وصلى بوضوئه وصلاته صحيحة، وإذا تيقن أنه محدث وشك في أنه توضأ بعده عمل بيقينه أيضاً على الراجح وطرح الشك وتوضأ وصلى، وإن تيقن أنه وقع منه طهر وحدث وجهل السابق منهما نظر فيهما، فيما قبلهما فإن كان محدثاً فهو الآن متطهر، وإن كان متطهراً فهو الآن محدث إن اعتاد تجديد الوضوء وإن لم يعتد تجديده فهو الآن متطهر.
ويتضح ذلك بالمثال فإذا وقع من الإنسان بعد طلوع الشمس مثلاً طهر وحدث ولم يعرف أسبقهما فلينظر فيما قبل طلوعها فإن تذكر أنه كان حينئذ محدثاً فهو الآن متطهر، وإن تذكر أنه كان متطهراً فإن كان له عادة بتجديد الوضوء فهو الآن متطهر وإن لم يتذكر ما قبلهما وجب الوضوء، وتعليل هذه المسائل مقررة في كتب الفقه فلا نطول بذكرها.
* * *
(2/265)
المجلس التاسع والثلاثون
في ذكر شيء من فضائل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وشيء من خصائصها، وخصائص نبينا - صلى الله عليه وسلم - وذكر اختلاف العلماء في الوضوء هل هو من خصائص هذه الأمة أم لا؟
الحمد لله الذي أتقن كل شيء بحكمته فاحتبك، وبعث حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنار به كل حلك، وآتاه من المعجزات والخصائص ما لم يؤته نبي ولا ملك، وجعل جنده الملائكة تسير معه حيث سلك، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ما سار ملك ودار فلك.
باب فضل الوضوء والغر المحجلين من آثار الوضوء
جاء في أكثر الروايات والغر المحجلين بالرفع ووجِّه بأوجه:
الأول: مبتدأ وخبره محذوف، وهو مفضلون فكأنه قال: والغر المحجلون مفضلون على غيرهم، أو لهم فضل ونحوه.
الثاني: أن يكون «الغر» مبتدأ أيضاً وخبره من آثار الوضوء، ومعناه: من الغر المحجلون منشأهم آثار الوضوء.
الثالث: أن «الغر» مرفوع على سبيل الحكاية فقد ورد في بعض طرق الحديث: «أنتم الغر المحجلون» (1) .
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم (1/216، رقم 246) عن أبي هريرة.
وأخرجه أبو يعلى (4/118، رقم 2162) عن جابر. قال الهيثمي (10/344) : رجاله رجال الصحيح.
(2) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «رقيت» : صعدت.
قوله: «فتوضأ» : كذا لجمهور الرواة، وللكشميهني يوما بدل قوله فتوضأ وهو تصحيف.
وقد رواه الإسماعيلي وغيره من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بلفظ «توضأ» وزاد الإسماعيلي فيه «فغسل وجهه ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه» وكذا لمسلم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال نحوه، ومن طريق عمارة بن غزية عن نعيم وزاد في هذه: أن أبا هريرة قال: «هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ» فأفاد رفعه، وفيه رد على من زعم أن ذلك من رأى أبي هريرة بل من روايته ورأيه معا.
قوله: «أمتي» : أي أمة الإجابة وهم المسلمون، وقد تطلق أمة محمد ويراد بها أمة الدعوة وليست مرادة هنا.
قوله: «يدعون» : ينادون أو يسمون.
قوله: «غرا» : جمع أغر أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وغرا منصوب على المفعولية ليدعون أو على الحال، أي أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة.
قوله: «محجلين» : من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضا النور.
واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أيضاً أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام، فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضاً مرفوعا قال: «سيما ليست لأحد غيركم» وله من حديث حذيفة نحوه. و «سيما» : أي علامة.
وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة.
قوله: «من آثار الوضوء» : بضم الواو، ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد.
قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» : أي فليطل الغرة والتحجيل. واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى نحو ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين، ولفظه «فليطل غرته وتحجيله» .
وقال ابن بطال: كنى أبو هريرة بالغرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، وفيما قال نظر لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا.
ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل. ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع ... الخ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من قول أبي هريرة، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه والله أعلم.
واختلف العلماء في القدر المستحب من التطويل في التحجيل فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا.
وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى فوق ذلك.
وقال ابن بطال وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرفق لقوله - صلى الله عليه وسلم - «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» وكلامهم معترض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب فلا تعارض بالاحتمال. وأما دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك فهى مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية. وأما تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء فمعترض بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرح برفعه إلى الشارع - صلى الله عليه وسلم - وفي الحديث معنى ما ترجم له من فضل الوضوء، لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب؟ وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره، وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد لكن إذا لم يحصل منه أذى للمسجد أو لمن فيه. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/235 - 237) .
(2/266)
في إسناد هذا الحديث لطيفتان:
إحداهما: أن جميع رجاله رجال من فرسان الصحيحين وباقي الكتب الستة إلا يحيى بن بكير فإنه من رجال البخاري ومسلم وابن ماجه.
الثانية: أن النصف الأول من إسناده مصريون، والنصف الثاني مدنيون.
قال ابن الملقن: هذا الحديث رواه مع أبي هريرة سبعة من الصحابة: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن بسر المازني، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم.
قوله: «رقيت» بكسر القاف بمعنى صعدت، وحكي فتحها مع الهمز ودونه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أمتي» قال الكرماني: «الأمة» : الجماعة، وهو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع.
قال العلماء: أمة محمد تطلق على أمة الدعوة، وهم جميع من أرسل إليهم من مسلم وكافر على اختلاف أنواعه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - دعى الجميع إلى كلمة التوحيد، فلا إنكار على من قال في حق يهودي معين أو نصراني وغيره أنه من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنه من أمة
(2/268)
الدعوة، وتطلق أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على أمة الإجابة إلى قسمين إلى أمة الطاعة وهم: من أسلم وأطاع، وإلى أمة المعصية وهم: من أسلم وعصى، والمراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الإجابة بقسميها كما قاله ابن حجر لا أمة الدعوة.
وقوله: «يدعون» إما من الدعاء بمعنى النداء، وإما من الدعاء بمعنى التسمية، والمعنى على الأول: إن أمتي ينادون يوم القيامة، وعلى الثاني: يسمون يوم القيامة.
وأصل القيامة: «القوامة» قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.
وقوله: «غراً محجلين» إذا قلنا منصوبان إما على الحال من ضمير «يدعون» إن كان بمعنى النداء، ويعدى «يدعون» بإلى، وإما على المفعولية إن كان بمعنى التسمية.
سؤال: فإن قيل: إلى أين ينادون يوم القيامة إذا قلنا أن «يدعون» بمعنى ينادون؟
جوابه: أنهم ينادون إلى موقف الحساب أو إلى الميزان أو إلى غير ذلك، حال كونهم على هذا الوصف فيقال لهم: يا أمة محمد أقبلوا إلى الحساب أو الميزان أو إلى الصراط أو إلى الحوض أو إلى الجنة أو غير ذلك.
فيأتون وهم غر محجلون أي: على جباههم وأيديهم وأرجلهم نور ساطع كالغرة البيضاء في جبهة الفرس، والتحجيل الذي في يديها ورجليها، فإن «الغرة» في اللغة: بياض في جبهة الفرس، «والتحجيل» بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غراً وتحجيلاً تشبيها بذلك.
وأما إذا كان «يدعون» بمعنى يسمون فمعنى الحديث: أن الملائكة تسمي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاسم تشريفاً لهم وتكريماً من بين سائر الأمم، فيقولون لهم: يا غر المحجلين أو يا أصحاب الغرة والتحجيل، حين يرون عليهم هذا النور الحاصل لهم من الوضوء.
وقوله: «من آثار الوضوء» يجوز قراءته بضم الواو، فإن النور حصل من هذا الفعل، ويجوز قراءته بفتح الواو بناء على أن هذا النور حصل من آثار الماء المستعمل في الوضوء.
والحاصل: أن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منهما.
وفي هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: أن فيه دلالة على استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، والمراد بإطالة الغرة عند العلماء غسل ما فوق الواجب من جميع جوانب الوجه، وغايته أن يغسل صفحة العنق من مقدمات الرأس، والمراد بإطالة التحجيل غسل ما فوق الواجب من
(2/269)
جميع جوانب الرجلين واليدين، وغايته استيعاب العضدين والساقين أي: غسل اليدين إلى المنكبين والرجلين إلى الركبتين.
وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يستوعب في وضوءه العضدين والساقين حتى يوصل الماء إلى إبطيه.
وهكذا نقل عن عبد الله بن عمر عملاً بظاهر قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» .
واقتصر على ذكر الغرة في قوله «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته» ولم يقل وتحجيله لدلالتها عليه كما في قوله تعالى: ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] ولم يذكر البرد لدلالة الحر عليه.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء لم يقتصر - صلى الله عليه وسلم - بذكر التحجيل عن ذكر الغرة لأنه مذكر وهي مؤنثة والمذكر أشرف من المؤنث؟
جوابه: أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما اقتصر بذكر الغرة عن ذكر التحجيل دون العكس لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة.
ومنها: أن فيه دلالة على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء:
الأول: أنه من خصائص هذه الأمة، وبهذا القول جزم الحليمي في منهاجه، واستدل على ذلك بهذا الحديث.
الثاني: أنه ليس من خصائص هذه الأمة بل كان مشروعاً في سائر الأمم، والذي اختصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن حجر وقال أنه الظاهر قال: ويؤيده ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «لكم سيما -أي علامة- ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء» (1) .
الثالث: أنه من خصائص هذه الأمة ولم يشاركها فيه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا القول لهذه الأمة شرف عظيم حيث استوو مع الأنبياء في هذه الخصوصية وامتازوا عنهم بالغرة والتحجيل ولقد أحسن من قال في المعنى:
_________
(1) أخرجه مسلم (1/217، رقم 247) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (2/1431، رقم 4282) ، وأبو يعلى (11/72، رقم 6209) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 42) ، وابن حبان (3/324، رقم 1048) عن أبي هريرة.
(2/270)
ستأتي الناس في العرصات سكرى ... بلا أثر يكون لهم مزيننا
وتتأتي أمة المختار غدا ... بآثار الوضوء محجلينا
لأيديهم وأرجلهم وميض ... فوجههم تروق الناظرينا
فكونوا يا عباد الله قوماً ... مدى أعماركم متطهرينا
تفوزوا بالطهارة ما حييتم ... وفي غدكم تفوقوا العالمينا
وهل هذا النور الذي في أعضاء الوضوء المعبر عنه بالغرة والتحجيل ثابت لكل واحد من هذه الأمة يوم القيامة، سواء توضأ في الدنيا أم لم يتوضأ، أو يكون لمن يتوضأ في الدنيا؟
قال ابن الملقن في شرحه على هذا الصحيح: ظاهر الأحاديث يقتضي أن ذلك خاص بمن توضأ منهم، فقد ورد في صحيح ابن حبان: يا رسول الله كيف تعرف من يرد من أمتك؟ قال: «غر محجلون بلق من آثار الوضوء» (1) .
وأما ما نقل عن بعض المالكية أنه نقل عن العلماء: أن الغرة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لم يتوضأ، كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وأن أهل القبلة كل من آمن من أمته سواء صلى أم لم يصلي، فهو كما قاله ابن الملقن نقل غريب.
ومنها: أن فيه دلالة على استحباب المحافظة على الوضوء وسننه المشروعة.
ومنها: أن فيه دلالة على ما أعد الله من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز الوضوء على ظهر المسجد، وإذا جاز على ظهره جاز فيه، فإن حرمة أعلاه وظاهره كحرمة داخلة، وعلى هذا أكثر العلماء.
وكره جماعة الوضوء فيه تنزيها له كما ينزه عن البصاق والنخامة، وممن كره الوضوء ابن سيرين، ونقل عن الإمام مالك وعن سحنون.
قال ابن الملقن: وقد صرح جماعة من أصحابنا بجوازه فيه، وإن الأولى أن يكون في إناء.
_________
(1) أخرجه ابن حبان (3/323، رقم 1047) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (1/104، رقم 284) قال البوصيري (1/42، رقم 4) : هذا إسناد حسن. وأحمد (1/453، رقم 4329) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 40) ، والشاشي (2/107، رقم 629) ، وأبو يعلى (8/462، رقم 5048) ، والطبراني في الأوسط (3/366، رقم 3419) عن ابن مسعود.
(2/271)
وأما رش المسجد بالماء المستعمل فقد اختاره النووي في شرح المهذب أنه جائر كما يجوز الوضوء فيه، وتبعه على اختياره الأسنوي، والشيخ إسماعيل بن المقرئ في «روضه» فإنه قال فيه: ويجوز نضحه بمستعمل.
لكن قال البغوي: إنه لا يجوز لأن النفس إنما تعافه، وتبعه على ذلك الخوارزمي وصاحب الأنوار في كتاب الاعتكاف، وضعف النووي قوله، ورد تعليله بأن النفس إنما تعاف شربه ونحوه لا نضحه في المسجد.
قال الزركشي والبغوي وغيره: إن يفرقوا بين جواز الوضوء فيه وبين نضحه بالماء بأن المتوضئ إنما يفعل ذلك لحاجته إليه، بخلاف النضح فإنه يقع قصداً، والشيء يغتفر ضمناً ما لا يغتفر قصداً، وبأن ماء الوضوء بعضه غير مستعمل بخلاف ماء النضح، وظاهر قول القاضي زكريا في شرح الروض يقتضي ترجيح قول البغوي فلينظر في كلامه أي: في شروط الصلاة في بحث المسجد.
ومنها: أن فيه دلالة على كمال فضل نبينا - صلى الله عليه وسلم - أطلعه الله تعالى على أمور من المغيبات مستقبلة من أمور الآخرة، وما يقع فيها لم يطلع عليه نبياً غيره، فأخبر بها في الدنيا أمته، وستقع كما أخبر فإنه صادق مصدوق، لاينطق عن الهوى، فمن ما أخبر به من أمور الآخرة ما ذكره في هذا الحديث أن أمته تأتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وكأنك بهذا وقد وقع، وكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل.
وأما ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - عن أمور مغيبة مستقبلة من أمور الدنيا فكثير وهو معجزة من معجزاته الباهرة وآية من آياته الظاهرة.
ونقل عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً فما ترك شيئاً يقوم في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فهو مما أعلمه الله به (1) .
قال العلماء: النبي لا يعلم من المغيبات إلا ما أعلمه الله تعالى به، ويدل عليه قوله تعالى: ?عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ?
[الجن: 27] .
قال شيخنا العلامة الشيخ كمال الدين بن أبي شريف في شرح المسايرة: ذكر
_________
(1) أخرجه مسلم (4/2217، رقم 2891) ، وأبو داود (4/94، رقم 4240) ، وابن حبان (15/5، رقم 6636) .
(2/272)
الحنفية في فروعهم تصريحاً بتكفير من اعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغيب، لمعارضته قوله تعالى: ?قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ? [النمل: 65] وقد وقع كثير مما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - من المغيبات المستقبلة، فإن أردت تحقيق ذلك لديك فاستمع وتوجه إلى ما نتلو عليك فنقول:
مما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - ووقع أنه أخبر قبل فتح مكة أن أصحابه تظهر على أهل مكة وتفتح لهم مكة وقد وقع ذلك.
ومنه: أنه أخبر عن أمته أنها تفترق على ثلاثة وسبعين فرقة الناجية منها واحدة وقد وقع ذلك.
ومنه: ما رواه عبد الله بن عباس قال كنت قاعداً عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبل عثمان فلما دنى منه قال: «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، تقع قطرة من دمك على فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم» (1) وقد وقع ذلك.
ومنه: أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: «إنك أول بيتي لاحقة بي» فقالت: ونعم السلف أنا لك فكانت أول من مات بعده من أهل بيته (2) .
ومنه: أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن عماراً تقتله الفئة الباغية» (3) فقتله أصحاب معاوية.
ومنه: أنه خرج يوماً إلى أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وعمار وأبو ذر رضي الله عنهم وهو يبكي فقيل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، فجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه» (4) .
ومنه: أن أبي ابن خلف كان يلقي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها، فيقول عليه الصلاة والسلام: «بل أنا أقتلك إن شاء الله» فحصل لهذا الملعون في عنقه خدش غير كبير، فاحتقن الدم فلما رجع إلى
_________
(1) أخرجه الحاكم وصححه (3/110، رقم 4555) .
(2) متفق عليه أخرجه البخاري (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم (4/1905، رقم 2450) عن عائشة.
(3) أخرجه مسلم (4/2236، رقم 2916) ، وابن أبي شيبة (7/548، رقم 37851) ، والنسائي في الكبرى (5/155، رقم 8543) ، وإسحاق بن راهويه (1/110، رقم 63) عن أم سلمة.
(4) أخرجه الطبراني في الكبير (3/107، رقم 2814) عن عائشة، قال الهيثمي (9/188) : فيه ابن لهيعة.
(2/273)
قريش قال: والله قتلني محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك من بأس قال: إنه قد كان قال لي: والله أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني فمات «بسرف» وهم قافلون به إلى مكة (1) .
ومنه: أن عمه العباس لما خرج من مكة مع الكفار في غزوة بدر لأجل قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لزوجته أم الفضل: إن أصبت -أي: قتلت- فهذا المال إعط منه للفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا، وقسمه على أولاده ولم يطلع على هذا المال أحد غيرها وغيره، ولم يعلم به أحداً إلا الله، فلما أسر العباس مع الأسارى قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عم أفد نفسك» فقال: ليس لي مال فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أين المال الذي دفعته بمكة لأم الفضل وقلت لها: إعط لولدي الفلاني كذا، ولولدي فلان كذا» فقال العباس: من أعلمك بهذا وما علم به أحد غيري وغيرها؟ أشهد أنك رسول الله حقاً (2) .
وأما ما أخبر به عن أمور مغيبة مستقبلة في الدنيا ولم تقع إلى الآن فكثيرة:
منها: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم - عليه السلام - وغير ذلك، وستقع كما أخبر.
وفي الحديث دليل على فضل أمة محمد زادها الله شرفاً وتعظيماً.
قال العلماء: خص الله تعالى هذه الأمة ونبيها بخصائص كثيرة منها:
الوضوء على أحد الأقوال كما تقدم.
ومنها: التيمم.
ومنها: المسح على الخف.
ومنها: جعل الماء مزيلا للنجاسة.
ومنها: تحية السلام وهي تحية الملائكة وأهل الجنة في الجنة.
ومنها: صلاة الجمعة.
ومنها: صلاة الجماعة.
ومنها: أن إجتماعهم حجة واختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً.
ومنها: أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم قبلهم عذاباً.
ومنها: أن ما دعوا به استجيب لهم.
_________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/33) .
(2) أخرجه أحمد (1/ 353، رقم 3310) والحاكم (3/366، رقم 5409) وقال: صحيح على شرط مسلم.
(2/274)
ومنها: أنه يغفر لهم الذنب بالوضوء.
ومنها: أنهم يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويثابون عليها.
ومنها: أنه يعجل لهم الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة.
ومنها: أن الجبال والأشجار تتباشر بمرورهم عليها لتسبيحهم وتقديسهم.
ومنها: أن أبواب السماء تفتح لأعمالهم وأرواحهم وتتباشر بهم الملائكة.
ومنها: أن الله وملائكته يصلون عليهم.
قال سفيان بن عيينه: أكرم الله أمة محمد فصلى عليهم كما صلى على الأنبياء فقال: ?هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ? [الأحزاب: 43] .
ومنها: أن المائدة توضع بين أيديهم فما يرفعونها حتى يغفر لهم.
ومنها: أنه لا تزال طائفة منهم على الحق حتى يأتي أمر الله.
ومنها: أن فيهم أقطاباً وأوتاداً ونجباءً وأبدالاً.
قال الحسن: لولا الأبدال لخسفت الأرض بما فيها، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا، ولولا الحمقى لخربت الأرض، ولولا الريح لأنتن ما بين السماء والأرض.
ومنها: أن علماءهم كأنبياء بني إسرائيل فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «العالم في قومه كالنبي في أمته» (2) .
ومنها: أن الملائكة تسمع في السماء آذانهم وتلبيتهم.
_________
(1) قال المناوي في فيض القدير (4/384) : سئل الحافظ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: العلماء ورثة الأنبياء. وهو حديث صحيح. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/83) : قال السيوطي وابن حجر والدميري والزركشي: لا أصل له.
(2) أخرجه الرافعي في التدوين (3/95) عن أبي رافع.
وأخرجه الديلمي (2/373، رقم 3666) عن ابن عباس.
وأخرجه ابن حبان في الضعفاء (2/39، ترجمة 571 عبد الله بن عمر بن غانم) .
قال القاري في المصنوع (1/115) : ضعيف جدا، وفي المقاصد: جزم شيخنا وغيره بأنه موضوع، وإنما هو كلام بعض السلف.
(2/275)
ومنها: أنه ليس منهم أحد إلا مرحوماً.
ومنها: أنهم يلبسون ثياب أهل الجنة.
ومنها: أن الملائكة تحضرهم إذا قاتلوا.
ومنها: أنهم نودوا في القرآن بيا أيها الذين آمنوا، ونوديت الأمم في كتبها بيا أيها المساكين، وشتان ما بين الخطابين.
ومنها: أنهم يكونون على كوم عال في الموقف يوم القيامة، ولهم نور كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فله من كل شعرة من رأسه نور، ووجهه نور، وليس للأنبياء إلا نوران.
ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود.
ومنها: أن ذريتهم تسعى بين أيديهم.
ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.
ومنها: أنهم يمرون على الصراط كالبرق الخاطف والريح العاصف.
ومنها: أنهم يشفع محسنهم في مسيئهم.
ومنها: أن الله عجل لهم عذابها في الدنيا وفي البرزخ لتأتي يوم القيامة بلا ذنوب.
ومنها: أنها تدخل قبورها بذنوبها وتخرج منها بلا ذنوب، يمحص الله عنها باستغفار المؤمنين.
ومنها: أن أطفالهم كلهم في الجنة، وليس ذلك لسائر الأمم في أحد الاحتمالين للسبكي في تفسيره.
ومنها: أن الله يتجلى على هذه الأمة فيرونه ويسجدون له بإجماع أهل السنة، وفي الأمم السابقة احتمالان لابن حمزة.
ومنها: أنه يدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بلا حساب.
ومنها: أنهم جمعت لهم الصلوات الخمس ولم تجمع لأحد من الأنبياء، وبأنهن كفارات ما بينهن.
ومنها: أنه اشتق لهم اسمان من أسماء الله تعالى المسلمون والمؤمنون، وسمى دينهم الإسلام ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء.
وخفف الله عن هذه الأمة ما لم يخففه عن غيرها من الأمم.
ومنها: أنه وضع عنها قتل النفس في التوبة، وكانت توبة الأمم السابقة بقتل أنفسهم كما نطق الله به في القرآن.
ومنها: فقأ العين من النظر إلى ما لا يحل.
(2/276)
ومنها: قرض موضع النجاسة ولا يطهرها الماء.
ومنها: ربع المال في الزكاة.
ومنها: أنه كان من عمل من اليهود شغلاً يوم السبت يصلب، ولم يجعل علينا يوم الجمعة مثل ذلك.
ومنها: أنه كان من سرق استرق عبداً.
ومنها: أنه كان من قتل نفسه حرمت عليه الجنة، وليس هذا في هذه الأمة.
ومنها: أن جميع الأمم افتضحت عند هذه الأمة ولم يفضحوا عند أمة من الأمم، وهكذا يستر الله على هذه الأمة يوم القيامة ولا يفضحها ورد في مسند الفردوس للديلمي عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سئلت ربي أن يجعل حساب أمتي إلي لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي يا محمد بل أنا أحسابهم فإن كان منهم زلة سترناها عليك، حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن لأجلهم قلبك» (1) .
ومنها: أنه ستر على من لم يتقبل عمله منهم، وكان من قبلهم يفتضح إذا لم تأكل النار قربانهم، وغفر لهم الذنوب بالاستغفار، والندم توبة لهم.
قال رزين: روي أن آدم قال: إن الله أعطى أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أربع كرامات لم يعطينها كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان، وسلبت ثوبي حين عصيت وهم لا يسلبون، وفرق بيني وبين زوجتي، وأخرجت من الجنة.
قال: وكان بني إسرائيل إذا أخطأ أحدهم حرم عليه طيب الطعام، وتصبح أخطائه مكتوبة على باب داره (2) .
ومنها: أنهم لا يعذبون بعذاب عذب به من قبلهم.
ومنها: إذا شهد الاثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السابقة إذا شهد منهم مائة لعبد بخير وجبت له الجنة.
ومنها: أنهم أقل الأمم عملاً وأكثرهم أجراً وأقصرهم أعماراً، وكان الرجل من الأمم السابقة أعبد منهم بثلاثين ضعفاً وهم خير منه بثلاثين ضعفاً.
ومن فضائلهم وخصائصهم: أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الأمم يوم القيامة أن رسلهم بلغوهم الرسالة، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
_________
(1) أخرجه الديلمي (2/312، رقم 3409) .
(2) انظر: فيض القدير (5/6) .
(2/277)
شَهِيداً? [البقرة: 143] .
معنى قوله ?أُمَّةً وَسَطاً? عدول خيار.
وقال ابن الملقن: أنا أرى أن وسطاً في هذا الموضع بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل: وسط الدار، وأرى أن الله تعالى إنما وضعهم بذلك لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه كالنصارى، ولا أهل تقصير فيه كاليهود، ومعنى قوله: ?لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? أي: على الأمم أن رسلهم بلغوهم الرسالة، ومعنى: ?وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً? أي: ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - معدلاً ومزكياً لكم، وذلك أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: كذبوا فقد بلغناهم، فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وأنهم أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون: أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت إلينا كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فيسأل عن حال أمتهم فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
ومن فضائل هذه الأمة: أن الله تعالى سماها صالحين فقال: ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ? [الأنبياء: 105] أي: كتبنا في الكتب المنزلة من بعد اللوح المحفوظ أن الأرض أي: أرض الجنة، وقيل: الأرض التي فتحها المسلمون كالحجاز والعراق وغيرها، يرثها عبادي الصالحون أي: أمة محمد، فسماهم صالحين كما في الآية الأخرى: ?وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ? [المائدة: 84] .
ومن فضائلها: أنه وصفها بالفلاح فقال تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? [المؤمنون: 1] .
ووصفها بالخير فقال: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وقيل: معناه كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ.
قال بعض المفسرين: معنى الآية: أنتم خير أمة أخرجت للناس لأنكم تأمرونهم بالمعروف وتنهوهم عن المنكر، وتردونهم إلى الإسلام، وتدخلوا إلى الجنة وتمنعوهم دخول النار.
ومن فضائلها: أنه يعطى كل منهم يهودياً أو نصرانياً فيقال له: يا مسلم هذا
(2/278)
فداؤك من النار، ويدل عليه ما رواه ابن ماجه في سننه (1) عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمتي أمة مرحومة فإذا كان يوم القيامة يدفع إلى كل رجل رجل من أهل الشرك، فقيل: هذا فداؤك من النار» (2) .
قال القرطبي: قال علماؤنا: ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في هذا المعنى الإطلاق والعموم، وليست كذلك وإنها هى في ناس مذنبين تفضل الله عليهم بمغفرته ورحمته، فأعطى كلا منهم فكاكاً من النار من الكفار.
واستدلوا على هذا بحديث مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» (3) .
قالوا: ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيغفرها لهم» أنه يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا، ومعنى وضعها على اليهود والنصارى أنه يضاعف عليهم عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين، أو أخذوا بذلك وإلا فالله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره كما قال تعالى: ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأعراف: 164] وله سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفف عن من يشاء بحكم إرادته ومشيئته، إذ لا يسأل عما يفعل.
فائدة: جميع الأمم سبعون أمة وهذه الأمة هي خاتمتها وأفضلها، كما ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» (4) .
وروى الطبراني في المعجم الأوسط وحسنه الهيثمي (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن
_________
(1) وقع في الأصل: ما رواه مسلم في صحيحه. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه ابن ماجه عن أنس، وعلق عليه البوصيري في مصباح الزجاجة، وهذا يدل على تفرد ابن ماجه برواية الحديث عن باقي أصحاب الكتب الستة، ومنهم الإمام مسلم.
(2) أخرجه ابن ماجه (2/1434، رقم 4292) عن أنس، قال البوصيري (4/257) : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة.
(3) أخرجه مسلم (4/2120، رقم 2767) عن أبي موسى.
(4) أخرجه مسلم (2/585، رقم 855) عن أبي هريرة.
(5) وقع في الأصل: ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد، وهو لا يعلق إلا على الأحاديث التي لم ترد في الكتب الستة ومنها سنن الترمذي وابن ماجه.
(2/279)
الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» (1) .
فائدة: أمة محمد في الجنة أكثر من نصف أهل الجنة، ويدل عليه ما رواه الترمذي عن بريدة مرفوعاً وحسنه: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون منها من سائر الأمم» (2) .
أفاد هذا الحديث أنهم أكثر من النصف، وأنهم ثلثا أهل الجنة.
سؤال: فإن قيل: جاء في الصحيحين ما يدل على أن هذه الأمة شطر أهل الجنة فقط، ونص الحديث فيهما عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أنم تكونوا شطر أهل الجنة وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة سوداء في ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في ثور أسود» (3) فما الجمع بين هذا الحديث والحديث الذي رواه الترمذي، فإنهما متنافيان في الظاهر.
فالجواب: كما قاله البرماوي وغيره: أنه - صلى الله عليه وسلم - طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعطاه الله تعالى ذلك، فأخبر أمته ثم زاده على الشطر وأخبره به، فأخبر أمته ثانيا، فاندفع الثاني وزال الإشكال والحمد لله على كل حال.
وإنما قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول مرة: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة»
_________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/289، رقم 942) قال الهيثمي (10/69) : فيه صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه جماعة، فإسناده حسن. وابن عدي (4/127، ترجمة 969) والذهبي في الميزان (4/175 ترجمة 4541) كلاهما في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب.
(2) أخرجه الترمذي (4/683، رقم 2546) وقال: حسن. وأخرجه أيضًا: ابن ماجه (2/1434، رقم 4289) ، والدارمي (2/434، رقم 2835) ، وابن حبان (16/498، رقم 7459) ، والحاكم (1/155، رقم 273) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأحمد (5/347، رقم 22990) .
(3) أخرجه البخاري (5/2392، رقم 6163) ، ومسلم (1/200، رقم 221) ، والترمذي (4/684، رقم 2547) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (2/1432، رقم 4283) ، والطيالسي (1/43، رقم 324) ، وأحمد (1/386، رقم 3661) ، والبزار (5/237، رقم 1850) ، وأبو عوانة (1/84، رقم 250) ، والبيهقي (3/180، رقم 5410) .
(2/280)
وثانياً: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» وثالثاً: «أما رضيتم أن تكونوا شطر أهل الجنة» لأن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به، وأيضاً له حكمة أخرى وهو أنهم في كل مرة كانوا يشكرون الله ويكبرونه ويحمدونه على إعطائهم ذلك، كما يدل عليه قوله: «فكبرنا» أي: عظمنا ذلك أي قلنا: الله أكبر، ففي التكرار رحمة بهم على تحديد شكر الله وتكبيره وحمده على كثرة نعمه.
ومن فضائلها ما ذكره الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال موسى - عليه السلام - يارب هل خلقت أمة أكرم عليك من أمتي؟ قال الله: يا موسى إن فضل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال: يارب ليتني رأيتهم. قال: يا موسى إنك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك. قال: يارب فإني أريد أن أسمع كلامهم. قال الله - عز وجل -: يا أمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمهاتنا، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، وقد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني، من جاء في يوم القيامة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسولي وعبدي جعلت الجنة مأواه، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر» .
وذكر الثعلبي أيضاً عن كعب الأحبار: أن موسى عليه الصلاة والسلام نظر في التوراة فقال: إنى أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب أجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يا موسى.
فقال رب إني أجد أمة هي الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: ربي إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار، وهم المستجيبون والمستجاب لهم، الشافعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شِرف كبر الله، وإذا هبط وادياً حمد الله، الصعيد لهم طهر، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء
(2/281)
فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: رب إني أجد أمة إذا همَّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة بمثلها، وإن عملها ضعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة مثلها فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحد منهم إلا مرحوماً فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يلبسون ثياب أهل الجنة، يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار أحد منهم أبد، إلا من رمي الحساب مثل ما يرمي الحجر من وراء الشجر فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأمته قال: ياليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله - عز وجل - إليه ثلاث آيات: ?يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? إلى قوله: ?دَارَ الفَاسِقِينَ? [الأعراف: 144، 154] ?وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ? [الأعراف: 159] قال: فرضي موسى كل الرضا.
لطيفة: وهي خاتمة قال في نزهة المجالس: جاء في الخبر: أنه يؤتى يوم القيامة برجل من أمتي له ذنوب كعدد رمل عالج، فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول له: انطلقوا به الى النار، فيلتفت فيقول الله: مالك تلتفت؟ فيقول: يارب خرجت من الدنيا، وما انقطع رجائي منك، وأمرت بي إلى النار رجائي منك، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي ما كان هذا ظن عبدي بي، ولكن هذه دعوة دعاها علي أشهدكم يا ملائكتي أني قد قبلت دعوته وغفرت له.
* * *
(2/282)
المجلس الأربعون
في ذكر ما في حديث ابن عباس من الفوائد، وذكر بعض فضل قيام الليل،
وذكر بعض فضل ميمونة أم المؤمنين
الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه وعمر قلوبهم بنور الدين وفضائله، وتفضل على الغارقين في معصيته برأفته ورحمته وعواطفه، وأشغل العارفين بخدمته وأمنهم من مخاوفه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له شهادة عابد لربه وعارفه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله نبي قام الليالي حتى تورمت قدماه، ودعاه ربه الى حضرته وأدناه، - صلى الله عليه وسلم - أبداً، وعلى إله وأصحابه بحار الندى، ومفاتيح الهدى.
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ التَخفِيفِ فِي الوضُوءِ
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِى كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَامَ حَتَّى نَفَخَ –أي حتى غط- ثُمَّ صَلَّى -وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ- ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءاً خَفِيفاً - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى فَتَوَضَّأْتُ نَحْواً مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاساً يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «وربما قال اضطجع» : أي كان سفيان يقول تارة نام، وتارة اضطجع، وليسا مترادفين بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرد إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام أي مضطجعا أو اضطجع أي نائما.
قوله: «ثم حدثنا» : يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرا ثم صار يحدثهم به مطولا.
قوله: «ليلة فقام» : كذا للأكثر، ولابن السكن: «فنام» بالنون بدل القاف وصوبها القاضي عياض لأجل قوله بعد ذلك «فلما كان في بعض الليل قام» انتهى.
ولا ينبغي الجزم بخطئها لأن توجيهها ظاهر وهو أن الفاء في قوله «فلما» تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل.
قوله: «فلما كان» : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. «في بعض الليل» وللكشميهني «من» بدل «في» ، فيحتمل أن تكون بمعناها ويحتمل أن تكون زائدة وكان تامة، أي فلما حصل بعض الليل.
قوله: «شن» : أي القربة العتيقة.
قوله: «معلق» : ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ معلقة.
قوله: «يخففه عمرو ويقلله» : أي يصفه بالتخفيف والتقليل. وقال ابن المنير: يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة. قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك، لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره، لكنه لم يختصره. انتهى. وهي دعوى مردودة، فإنه ليس في الخبر ما يقتضي الدلك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك.
قوله: «نحوا مما توضأ» : قال الكرماني. لم يقل مثلاً لأن حقيقة مماثلته - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليها غيره انتهى.
وقد ثبت في هذا الحديث كما سيأتي «فقمت فصنعت مثل ما صنع» ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة.
قوله: «فآذنه» : بالمد أي أعلمه، وللمستملي «فناداه» .
قوله: «فصلى ولم يتوضأ» : فيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث لأنه - صلى الله عليه وسلم - كانت تنام عينه ولا ينام قلبه فلو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم وربما لم يتوضأ.
قال الخطابي: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحي الذي يأتيه في منامه.
قوله: «رؤيا الأنبياء وحى» : رواه مسلم مرفوعاً، وسيأتي في التوحيد عن أنس. ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيا لما جاز لإبراهيم - عليه السلام - الإقدام على ذبح ولده. وأغرب الداودي الشارح فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاري بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلا فممنوع والله أعلم. انظر فتح الباري (1/239) .
(2/283)
«ميمونة» هي أم المؤمنين ببت الحارث رضي الله عنها، كان اسمها «برة» فسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - «ميمونة» تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر، لما توجه الى مكة معتمراً سنة سبع.
قال المحب الطبري لما خطبها النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلت أمرها الى العباس - رضي الله عنه - زوج أختها لبابة الكبرى أم الفضل، فزوجها إياه وهو محرم، فلما رجع عليها قبل وصوله - صلى الله عليه وسلم -
(2/284)
تزوجها وهو حلال.
وحمل الطبرى رواية: «وهو محرم» على أنه تزوجها وهو داخل الحرم أي: لا في الإحرام، لأن العقد في الإحرام لا يصح فلابد من تأويله بذلك.
واعترض عليه بأنه كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أن نكاحه ينعقد في الإحرام كما قال في الروضة، بخلاف غيره من أمته.
وكانت قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متزوجة بإبراهيم بن عبد العزى.
ماتت بمكان بين مكة والمدينة يقال له «سرف» وهو الموضع الذي دخل عليها فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ست وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها هو وعبد الله بن شداد وكل منهما ابن أختها، وهي آخر أمراة تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال القرطبي: والحاصل أن ابن عباس قال: «بت عند خالتى ميمونه ليلة فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - من الليل، فلما كان من بعض الليل» .
وجاء في رواية: «في بعض الليل» .
وحينئذ يحتمل أن تكون «كان» هنا ناقصة واسمها مستتر فيها، راجع الى النبي - صلى الله عليه وسلم - وخبرها قوله: «في بعض الليل» ، ويحتمل أن تكون تامة وفاعلها المستتر فيها العائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أما على رواية: «من بعض الليل» فتكون «من» زائدة «وبعض الليل» هو الفاعل «بكان» .
«قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ من شن معلق» أي: قربة عتيقة معلقة، وقال: «معلق» بالتذكير دون التأنيث بتأويل الجلد أو السقاء أو الوعاء.
وجاء في رواية: «معلقة» بالتأنيث باعتبار القربة.
فائده: هذه القربة التي توضأ منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عباس أصلها من جلدة شاة ميمونة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن شاتها لما ماتت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هلا انتفعهم بأهابها» (1) .
ثم دبغ أهابها بعد ذلك وجعل منه شناً، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ منه. (ذكر
_________
(1) أخرجه البخاري (2/543، رقم 1421) ، ومسلم (1/276، رقم 363) ، والنسائي (7/172، رقم 4235) ، ومالك (2/498، رقم 1062) ، والشافعي (1/10) ، وأحمد (1/329، رقم 3052) ، وابن حبان (4/100، رقم 1284) ، وأبو عوانة (1/179، رقم 552) ، والبيهقي (1/23، رقم 81) عن ابن عباس.
(2/285)
هذه الفائدة أبو بكر بن العربي) .
«وضوءاً خفيفاً -يخففه عمر ويقلله- وقام يصلي فتوضأت نحو ما توضأ» وإنما قال: «نحو ما توضأ» ولم يقل: «مثل مما توضأ» لأن حقيقة مماثلثه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليه غيره.
«ثم جئت فقمت عن يساره، وربما قال سفيان: عن شماله. فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلنا لعمرو: إن ناساً يقولون: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنام عينه ولا ينام قلبه؟ قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] » .
قوله: «وضوءاً خفيفاً -يخففه عمرو ويقلله-» هذا إدراج بين ألفاظ ابن عباس من سفيان بن عيينة، والمعنى: أن عمرو بن دينار وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي توضأ هذه الليلة حين نام بالتخفيف والتقليل.
سؤال: فإن قيل: ما الفرق بين التخفيف والتقليل؟
جوابه: أن التخفيف من باب الكيف ويقابله الثقيل من باب الكم، ويقابله التكثير وإيضاًحه: أراد بالتخفيف أن كيفية وضوءه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان مخففاً أي: اقتصر فيه على تمام غسل الأعضاء دون إمرار اليد عليها، ولو أمر يده عليها لم يكن مخففاً بل مكثراً.
وأراد بالتقليل أن كمية غسل كل عضو مرة مع أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً للفضل، والمرة الواحدة بالنسبة الى الثلاث تقليل.
واعلم أن هذا حديث جليل مشتمل على فوائد كثيرة:
منها: أن فيه دلالة على أن نومه - صلى الله عليه وسلم - مضطجعاً لا ينقض وضوءه، وكذلك سائر الأنبياء، لأن يقظة قلوبهم تمنعهم من الحدث، لأنهم كانوا تنام أعينهم، وقلوبهم لا تنام، وإنما كانت قلوبهم لا تنام لأن الوحي قد ينزل عليهم في المنام فأيقظ الله قلوبهم لذلك ليفهموا الوحي.
واستشكل العلماء ذلك بنومه - صلى الله عليه وسلم - في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس، فلو كان قلبه مستيقظاً لما نام حتى خرج الوقت.
وأجاب عنه العلماء: بأن الفجر والشمس إنما يدركان بالعين لا بالقلب، فلهذا لم يحس بطلوعهما لأن عينه التي يدرك بها كانت نائمة.
(2/286)
وأما الجواب عنه: بأن قلبه كان ينام في بعض الأوقات فنام في ذلك الوقت، قال ابن الملقن: لكن قال القاضي زكريا في شرح الروض حكاه الشيخ أبو حامد عن بعض أصحابنا قال كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - نومان أحدهما: ينام قلبه وعينه، والثاني: عينه دون قبله، فكان نوم الوادي من النوع الأول ولم يستبعده.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بغير جماع بحضرة بعض محارمها، وإن كان مميزاً كما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ميمونه بحضرة ابن أختها عبد الله بن عباس.
وجاء في بعض الروايات أنها كانت حائضاً، ولم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة فيها حاجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الجماع.
ومنها: أن فيه دلالة على صلة الرحم، وعلى فضل ابن عباس وحذقه على صغر سنة، حيث قام بالليل واقتدى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل كفعله، وكان عمره آنذاك عشر سنوات.
ومنها: أن فيه دلالة على صحة الاقتداء في النافلة وصحة الجماعة فيها، فإن ابن عباس اقتدى به في صلاة الليل.
ومنها: أن فيه دلالة على أن الجماعة تصلى بإمام ومأموم.
ومنها: أن فيه دلالة على صحة صلاة الصبي المميز.
ومنها: أن فيه دلالة على موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وهذه المسألة مختلف فيها.
فمذهب إمامنا الشافعي أن السنة أن يقف الذكر بالغاً كان أو صبياً عن يمين الإمام، ولو وقف عن يساره وخلفه لم تبطل صلاته، لكن يستحب للإمام إذا اقتدى به واحد ووقف عن يساره يحوله إلى يمينه، كما حول النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس إلى يمينه.
فائدة: ذكر الشيخ برهان الدين المحدث أن المحولين من اليسار إلى اليمين في الصلاة ثلاثة عبد الله، وهو في الصحيحين (1) .
وجابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري (1/64، رقم 138) ، ومسلم (1/528، رقم 763) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (1/166، رقم 610) ، وابن ماجه (1/312، رقم 973) .
(2) أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) .
وأخرجه أيضاً أبو داود (1/171، رقم 634) ، وابن حبان (5/572، رقم 2197) .
(2/287)
وجبار بن صخر كما في مسند أحمد (1) .
وزاد الشيخ أبو ذر رابعاً وهو حذيفه بن اليمان، وقال: إنه في معجم الطبرانى الأوسط (2) .
وذهب أبو حنيفة إلى أن موقف المأموم الواحد خلف الإمام لا عن يمينه وهذا الحديث يرد عليه.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن المأموم الواحد إذا وقف عن يسار الإمام تبطل صلاته وهذا الحديث يرد عليه.
لكن عند الشافعي إذا أردت المرأة أن تقتدي بالرجل فالسنة أن تقف خلفه لا عن يمينه، ولو وقفت عن يمينه جاز لكنه خلاف السنة.
قال العلماء: وإذا اقتدى بالإمام ووقف عن يمينه ثم جاء آخر وقف عن يساره، وحينئذ يستحب أن يتقدم الإمام أو يتأخر ليصيروا وراءه صفاً، وتأخرهما أفضل، هذا إذا لحق الثاني الإمام في القيام أما إذا لحقه في التشهد أو السجود فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا.
نعم لنا شخص لا يستحب له الوقوف عن يمين الإمام ولا عن يساره ولا خلفه، بل يؤمر بالوقوف في جهة أخرى، والحال أن كلاً من الإمام والمأموم يصلي في أرض مستوية خارجة عن مكة شرفها الله تعالى، وصورته: فيما إذا اقتدى الإنسان بإمام عجز عن الصلاة قائماً وقاعداً فصلى مضطجعاً على جنبه، فلا يأتي للمأموم أن يقف عن يمينه أو يساره لأن يمين الإمام إلى جهة الأرض، ويساره إلى السماء، أو بالعكس ولا خلف الإمام لأن الانفراد مكروه، فتعين أن يقف إما عند رجلي إمامه، وإما عند رأسه وهو الأولى.
ومنها: أن فيه دلالة على أن يستحب للإمام أن يعلم المأموم إذا قصر في شيء من السنن وإن كان في الصلاة، كما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن عباس في الصلاة لما وقف عن يساره وحوله إلى يمينه.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمؤذن أن يعلم الإمام بقرب إقامة
_________
(1) أخرجه أحمد (3/421) ، قال الهيثمي (2/95) : فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (6/26، رقم 5689) ، قال الهيثمي (2/107) : رجاله موثقون.
(2/288)
الصلاة، وأن الإمام إذا أعلمه المؤذن بذلك يستحب له أن يقوم معه، هذا إذا لم يكن الإمام حاضراً في المسجد، أما إذا كان في المسجد فالسنة أن لا يقيم المؤذن الصلاة إلا بإذنه.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي بالوضوء الواحد فرضاً ونوافل، وهذا لا شك في جوازه، بل يجوز أن يصلي فروضاً عديدة ونوافل بوضوء واحد.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز أن يصلي الفريضه بوضوء النافلة، كما إذا توضأ الإنسان لصلاة الضحى مثلاً فله أن يصلي به فرضاً، بل فروضاً ونوافل، بل يجوز لمن توضأ لمس المصحف أن يصلي به الفرض والنفل وغير ذلك.
نعم لنا شخص توضأ لنافلة أو صلاة جنازة أو مس مصحف ولا يجوز له أن يصلي به الفرض، وصورته: في دائم الحدث كمن به سلس البول إذا نوى بوضؤه استباحة الفرض استباحه، واستباح معه النفل استباحه دون الفرض، لأن الأقوى لا يتبع الأضعف، لكن يباح له أن يصلى به صلاة الجنازة، لأنها كالنفل في جواز الترك، وأن يمس به المصحف، أما إذا نوى استباحة مس المصحف فإنه لا يباح له به الفرض ولا النفل، ولا صلاة الجنازة، وإنما يباح له به مس المصحف، وإن دائم الحدث كالمتيمم في ذلك كله.
ومنها: أن فيه دلالة على أن النوم الخفيف لا ينقض الوضوء، وهو المسمى بالنعاس كما قدمنا ذلك، وقد قدمنا أن من طرأ عليه النوم إن سمع كلام الحاضرين إذ لو كانوا عنده فهو نعاس لا ينتقض به الوضوء، وإلا فهو نوم ينقض.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمتهجد أن يضطجع على جنبه بعد التهجد.
ومنها: أن فيه دلالة على أن المأموم إذا تقدم على الإمام تبطل صلاته، قال العلماء: والعبرة في التقدم والتأخر في حق القائم بالعقب، فإذا تقدم بالعقب المأموم على عقب الإمام بطلت صلاته، ولو وقف المأموم بجانب الإمام وشك في التقدم عليه صحت صلاته، لأن الأصل عدم التقدم.
نعم لنا شخص تقدم على الإمام بعقبية، ومع ذلك تصح صلاته وصورته: أن يصلي الإمام قاعداً لمرض، وكذلك المأموم فإن الإعفاء بالتقدم والتأخر في المصلي قاعداً بمحل القعود، وهو الإلية فإذا ساوى محل قعود المأموم محل قعود الإمام صحت
(2/289)
الصلاة، وإن قدم المأموم رجليه على الإمام.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب المبيت عند العالم ليراقب أفعاله فيقتدي به وينقلها.
ومنها: أن فيه دلالة على أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام فيها.
ومنها: أن فيه دلالة على أن من الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل.
ومنها: أن فيه دلالة على أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة بخلاف الكثير، فالفعل القليل كالضربتين والخطوتين، والكثير كثلاث ضربات وثلاث خطوات.
نعم لنا شخص خطى في صلاته خطوة واحدة بل بعض خطوة بطلت صلاته، ولنا آخر خطى عشرين خطوة بل ألف خطوة وأكثر لم تبطل.
وصورة الأولى: إذا نوى أن يخطو ثلاث خطوات متواليات فخطى منها خطوة بطلت صلاته، وكذا لو شرع فيها عملاً بنيته.
وصورة الثانية: إذا خطى في صلاته خطوتين مثلاً ووقف ثم خطوتين ووقف وهكذا إلى مائة خطوة وأكثر لا تبطل لأن الثلاثة تبطل إذا توالت، وإن تفرقت فلا.
من القليل الإشارة برد السلام، واللبس الخفيف كلبس خاتم أو نعل، وقتل قمله فلا تبطل الصلاة بشيء من ذلك، ودم القملة معفو عنه بخلاف جلدها فلا يعفى عنه.
ومنها: أن فيه دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يفتل أذن المتعلم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن عباس لما أداره وحوَّلة إلى جهة يمينه، كما جاء في بعض الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ بأذنه اليمنى ففتلها (1) .
وإنما فتل النبي - صلى الله عليه وسلم - أذنه ليحرضه على الفهم، ولينفي عنه النوم، فإنه أعجبه قيامه معه مع صغر سنه.
ويقال: إن المعلم إذا تعهد فتل أذن المتعلم كان أذكى لفهمه.
قال الربيع تلميذ الشافعي: ركب الشافعي يوماً فمشيت بركابه، ولصقت بسرجه، فجعل يفتل شحمة أذني فاستعظمت ذلك منه حتى وقفت على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله مع ابن عباس، فعلمت أنه فعله عن أصل.
_________
(1) هذه الرواية أخرجها ابن خزيمة (3/88، رقم 1675) وأحمد (1/242، رقم 2164) .
(2/290)
ومنها: أن فيه دلالة على استحباب قيام الليل، وكان واجبا عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً? [الإسراء: 79] ثم نسخ على الأصح.
وقد جاءت أخبار وآثار عن السلف الصالح في فضل قيام الليل:
قال بعض العارفين: ليس في الدنيا شيء يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجات، فحلاوة المناجات ثواب عاجل لأهل الليل (1) .
قال أبو سليمان رحمه الله: أهل الليل في ليلتهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (3) .
وقال بعضهم: أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - كذب من ادعى محبتي وإذا جن ليله نام عني.
وقال الفضيل - رضي الله عنه -: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم إنك محروم
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .
(3) أخرجه أحمد (5/343، رقم 22956) ، قال الهيثمي (3/192) : رجاله ثقات. وابن خزيمة (3/306، 2136، 2137) وقال: إن صح الخبر. وابن حبان (2/262، رقم 509) ، والطبراني في الكبير (3/301، رقم 3466) ، قال الهيثمي (2/254) : رجاله ثقات. والبيهقي في شعب الإيمان (3/404، رقم 3892) ، وفي السنن الكبرى (4/300، رقم 8262) عن أبي مالك الأشعري.
وأخرجه الترمذي (4/354، رقم 1984) وقال: غريب. والبيهقي في شعب الإيمان (3/215، رقم 3360) ، وأحمد (1/155، رقم 1337) ، وأبو يعلى (1/337، رقم 428) ، والبزار (2/281، رقم 702) عن علي.
وأخرجه أحمد (2/173، رقم 6615) ، والطبراني في الكبير (13/46، رقم 103) ، قال الهيثمي (2/254) : إسناده حسن. والحاكم (1/153، رقم 270) وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي في شعب الإيمان (3/128، رقم 3090) عن ابن عمرو.
(2/291)
قد كثرت خطيئتك (1) .
وقد أشار إلى هذا بعضهم بقوله:
أرانى بعيد الدار لا أقرب الحمى ... وقد نصبت الساهرين خيام
علامة طردي طول ليلي نائم ... وغيري يرى أن المنام حرام
وقيل: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء أن لي عباداً يحبوني وأحبهم، ويشتاقون إلي وأشتاق لهم، ويذكروني وأذكرهم، وينظرون لي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عن ذلك مقتك، قال: يارب ما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى وكارها، فإذا جنهم الليل أي: سترهم، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم، وافترشوا إلي وجوههم، وناجوني بكلامي وتلهفوا لي بإنعامي، فمنهم صارخ وباكي، ومنهم متأوه وشاكي، ومنهم قائم وقاعد، ومنهم راكع وساجد، فأول ما أعطيهم ثلاث خصال، الأولى: أن أقذف في قلوبهم من نوري، الثانية: أقبل بوجهي الكريم عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه، الثالثة: لو كانت الأرض والسماوات في موازينهم لاستقللتها لهم (2) .
ولله در القائل:
فإن لم يكن جفني ووجهي على الثرى ... بأبوابكم لا كان وجهي ولا جفني
ونقل عن بعض الصالحين أنه كان يقوم الليل فنام ليلة فقيل: قم فصل أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل فهم خزانها.
ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: نمت ليلة وإذا بجارية أيقظتني وقالت لى: تنام وأنا أراك في الجنة منذ خمسين عاماً.
ومن كلامه - رضي الله عنه - كن نجماً فإن لم تستطع فشمساً.
قيل: معناه إن قدرت أن تقوم الليل كله فافعل كالنجم فإنه يطلع في الليل كله، فإن لم تستطع فصل بعض الليل كالقمر يطلع بعض الليل، فإن لم تستطع فكن كالشمس تطلع نهاراً أي: فلا تعص الله في النهار.
ونقل اليافعي عن بعض الصالحين أنه كان يحيي الليل فنام ليلة عن ورده، فرأى في
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/355) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .
(2/292)
منامه حوراً قد دخلن عليه من محرابه وهن حسان وفيهن جارية سوداء قبيحة المنظر فسألهن من أنتن؟ فقلن: نحن لياليك الماضية في العبادة، وهذه السوداء هي الليلة التي نمت فيها.
ويروى عن أم سليمان نبي الله صلوات الله وسلامة عليه قالت: له يا بني لا تكثر من النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة.
لطيفة: قال في الروض الفائق دخل أبو زيد البسطامي رحمه الكتاب وهو صغير فلما وصل إلى قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً? [المزمل: 1، 2] فقال لأبيه طيفور بن عيسى يا أبت من ذا الذي يقول له الحق سبحانه وتعالى هذا الخطاب فقال: يا بني ذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم خفف عنه في سورة طه، فلما قرأ ووصل إلى قوله تعالى: ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ? [المزمل: 20] قال: يأبت إني أسمع أن طائفة كانو يقومون من الليل، قال أبوه: نعم أولئك أصحابه عليه الصلاة والسلام، قال: يا أبت فأي خير في ترك شيء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فكان أبوه بعد ذلك يقوم الليل كله، فانتبه أبو يزيد ليلة فقال: يا أبت علمني أصلي معك فقال: يا بني أرقد فإنك صغير بعد، فقال: يا أبت إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، وقال لي ربي - عز وجل - ما فعلت؟ أقول لربي: قلت لأبي: علمني أصلي معك قال: أرقد فإنك صغير بعد، فقال أبوه: لا والله ما أريد أن تقول ذلك، ثم علمه يصلي معه وكان بعد ذلك يقوم الليل ويصلي عامته.
ولله در القائل:
أيها القائمون في سندس الليل ... وقد أسبلت ذيول الظلام
قد وصلتم إلى الوصال فطيبوا ... وانزلوا وأبشروا بمرام
هذه دارنا ونحن كرام ... ربحت عندنا ضيوف الكرام
إن طلبتم قرباً وجدتم لدينا ... كل ما تشتهي نفوس الأنام
قد رفعنا حجابنا فاشهدونا ... وادخلوا خلوة الرضا بسلام
ولقد أحسن إمامنا الأعظم الإمام الشافعي حيث قال:
إذا هجع النوم أسبلت عبرتي ... وأنشدت بيتاً وهو من أعظم الشعر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمرى
(2/293)
المجلس الحادي والأربعون
في الكلام على باب التسمية على كل حال، وفي ذكر فوائد كثيرة متعلقة بالتسمية والجماع وغير ذلك
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ومنَّ عليه بنطق اللسان، وحفظه بأسمائه الحسان ليطرد عنه كيد الشيطان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وربيعة وقحطان، وعلى آله وأصحابه الشجعان الفرسان.
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ التَّسْمِيةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاعِ
أي باب في بيان استحباب التسمية على كل حال أي: في الوضوء والغسل والتيمم والذبح وغير ذلك، حتى عند الوقاع، واستدل البخاري على عموم استحباب التسمية حتى عند الوقاع بالحديث الآتي.
سؤال: أفاده الكرماني وغيره وهو: فإن قيل: لأي شيء لم يذكر البخاري هذا الباب قبل ابتداء الوضوء الذي هو محله فإن التسمية أي: قول بسم الله إنما تستحب في الوضوء قبل غسل الوجه لا بعده، فكيف ذكرها بعد باب غسل الوجه؟
جوابه: أن البخاري لا يقصد حسن الترتيب بين الأبواب، ولهذا ذكر باب ما يقوله عند الخلاء بين أبواب الوضوء، ولو كان قصده المناسبة وحسن الترتيب لذكره قبل كتاب الوضوء، بل قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير، ونعم المقصد.
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «لم يضره» : في رواية شعبة عند مسلم وأحمد «لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره الشيطان» ، وفي مرسل الحسن عن عبد الرزاق «إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ولا تجعل للشيطان نصيبا فيما رزقتنا، فكان يرجى إن حملت أن يكون ولدا صالحا» واختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما جاء في بدء الخلق «إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثنى» فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، مع أن ذلك سبب صراخه. ثم اختلفوا فقيل المعنى: لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] ويؤيده مرسل الحسن المذكور، وقيل: المراد لم يطعن في بطنه، وهو بعيد لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا، وقيل: المراد لم يصرعه، وقيل: لم يضره في بدنه.
وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضره في دينه أيضاً، ولكن يبعده انتفاء العصمة. وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمداً وإن لم يكن ذلك واجبا له.
وقال الداودي معنى: «لم يضره» أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية.
وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه كما جاء عن مجاهد: «أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه» ولعل هذا أقرب الأجوبة، ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه عند إرادة المواقعة والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادراً لم يبعد.
وفي الحديث من الفوائد أيضاً:
1- استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتي في حالة الملاذ كالوقاع.
2- فيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء.
3- وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه.
4- فيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله.
4- فيه رد على منع المحدث أن يذكر الله، ويخدش فيه الرواية المتقدمة: «إذا أراد أن يأتي» وهو نظير ما وقع من القول عند الخلاء، وقد ذكر المصنف ذلك وأشار إلى الرواية التي فيها: «إذا أراد أن يدخل» . انظر فتح الباري (9/228 - 229) .
(2/294)
في إسناد هذا الحديث ثلاثة من التابعين، وقال ابن الملقن: رواته ما بين مكي ومدني وكوفي ورازي وبصري.
قوله: «يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم -» كلام كريب أي: تقبل ابن عباس بالحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومقصود كريب وغرضه: أن هذا الحديث ليس موقوفاً على ابن عباس، بل مسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إما بواسطة بأن سمعه من صحابي من الرسول، وإما بدونها ولما لم يكن قاطعاً بأحدهما ولم يرد بيانه ذكره بهذه العبارة.
(2/295)
وقوله: «إلى أهله» كناية عن الجماع أي: جماع حلاله، زوجته أو أمته.
وقوله: «ما رزقتنا» مفعول ثاني «لجنب» والعائد على الموصول محذوف، وهو ضمير مفعول الثاني للرزق، والمراد به الولد، وإن كان اللفظ أعم من ذلك أي: احفظ الولد الذي رزقناه من الشيطان.
وقوله: «فقضي بينهما» ضمير راجع إلى الأحد والأهل والقضاء يأتي لمعانٍ ذكر العسكرى أنه أتى منها في القرآن اثنى عشر معنى، والمناسب من معاينة هنا التقدير أو الحكم، فمعنى: «فقضي بينهما ولد» أي: فحكم أو فقدر.
وقوله: «لم يضره» جواب «لو» وهو بضم الراء على الأفصح والضمير المستتر راجع إلى الشيطان، والبارز إلى الولد أي: لو ثبت قول أحدكم «بسم الله» عند إتيان الأهل لم يضر الشيطان ذلك الولد أي: لا يكون له عليه سلطان ببركة اسمه - عز وجل -، ويكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] .
وقيل: معنى «لم يضره» لم يصرعه وهو بعيد.
وقيل: معناه لم يطعن فيه الشيطان عند ولادته، وهو بعيد أيضاً، لأنه لم يسلم من طعنة الشيطان عند الولادة أحد سوى مريم بنت عمران وولدها عيسى عليهما السلام، كما يفيد ذلك ظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان إلا مريم وابنها» (1) .
قال النووي: ظاهر هذا الحديث اختصاص هذه الفضيلة بعيسى وأمه، لكن أشار القاضي عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركونهما فيها.
وقيل: معناه لم يضره في بدنه ويحتمل وفي دينه، ورد بأنه غير معصوم.
وقيل: معنى «لم يضره» لم يفتنه بالكفر.
ويستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة بعضها متعلق بالتسمية، وبعضها متعلق بالجماع، وبعضها متعلق بالولد، وبعضها متعلق بالشيطان لا بأس من ذكرها وذكر فوائد أخرى معها مناسبة:
الأولى: في الحديث دلالة على استحباب التسمية والوضوء والدعاء في ابتداء
_________
(1) أخرجه مسلم (4/1838 رقم 2366) ، وأحمد (2/233، رقم 7182) ، وابن أبي شيبة (6/288، رقم 31496) عن أبي هريرة.
(2/296)
الجماع بأن يقول لمن يريد الجماع قبله: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا.
قال الغزالي: وينبغي أن يقرأ بعد بسم الله سورة الإخلاص ويكبر ويهلل ويقول: بسم الله العلي العظيم اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدرت ولداً يخرج من صلبي، ثم بعد ذلك يجامع (1) .
قال: فإذا قرب الإنزال فقل في نفسك ولا تحرك به شفتيك: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً (2) .
الثانية: قال النووي: لا يكره للإنسان أن يجامع مستقبل القبلة، ولا يستدبرها، لا في البنيان ولا في الصحراء.
لكن قال الغزالي: ينبغي أن لا يستقبل القبلة به إكراماً لها وإن يتغطيا بثوب، وأن يأتيها في كل أربع ليال مرة، وأن يزيد وينقص على حسب حاجتهما في التحصين فإن تحصينها واجب، وإن لم تثبت المطالبة بالوطء (3) .
قال: ويكره الوطء في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة نصفه فيقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي، ويقال: إنه يجامع (4) .
قال: وإذا قضى وطره فيمهل عليها حتى تقضى وطرها، ويكره الجماع أول الليل لئلا ينام على غير طهارة (5) .
كما استدل البخاري بالحديث المذكور على استحباب التسمية في كل حال فلهذا قال في الترجمة: باب التسمية على كل حال وعند الوقاع.
سؤال: فإن قيل: الحديث يدل على استحبابها عند الجماع فقط، فمن أين يستفاد العموم من كلامه حتى يصح استدلاله للترجمة به؟
جوابه: أن العموم وإن لم يكن ظاهر من الحديث لكنه يستفاد من باب أولى، لأنها إذا شرعت في حالة الجماع وهي حالة يؤمر فيها الإنسان بالصمت، فشروعها في غيرها أولى، وظاهر الحديث يقتضي شروعها واستحبابها في كل حال أمر الشرع به
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (2/49) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .
(3) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .
(4) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .
(5) انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .
(2/297)
كوضوء وغسل وتيمم وذبح مناسك وأكل وشرب وجماع وصلاة وأذان.
أو نهى الشرع عنها كشرب خمر وأكل مغصوب وغيره، وليس كذلك بل هو محمول على استحبابها في حال لم ينه الشرع عنها، وفي حال أمر الشرع بها لا في جميع أفعال الطاعة.
قال ابن عبد السلام: أفعال العبد على ثلاثة أقسام: قسم يسن فيه التسمية، وقسم لا تسن فيه، وقسم تكره فيه.
فالقسم الذي تسن فيه التسمية: كالغسل والوضوء والتيمم وذبح المناسك وقراءة القرآن والأكل والشرب والجماع.
والذي لا تسن فيه كالصلاة والأذان والحج والعمرة والأذكار والدعوات.
والذي تكره فيه كالمحرمات لأن الغرض من التسمية التبرك في الفعل المسمي عليه، والحرام لا تراد بركته وكثرته، وكذلك المكروه أيضاً لا يسمى عليه.
وقد اختلف علماؤنا فيمن قرأ القرآن على ضرب الدف هل يكفر بذلك أم لا؟
فقال في الأنوار: يكفر.
وتبعه الحصني (1) في كتابه قمع النفوس.
لكن صوَّب النووي أنه لا يكفر، هذا في ضرب الدف.
أما من سمى أو قرأ القرآن على الطنبور أو شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك، فقد قال الشيخ سعد الدين في شرح العقائد: لإنه يكفر، وهو مذهب أبي حنيفه.
وعند علمائنا الشافعية يكفر به إذا كان على وجه الاستخفاف، كما قال الرافعي والنووي.
وقال بعضهم: فائدة التسمية حالة الأكل والشرب والجماع واللبس وغيرها طرد الشيطان عن هذه الأشياء، فإنه يستحلها ويشارك الإنسان فيها إذا لم يسم الله تعالى.
ذكر الغزالي في الإحياء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا بشيطان الكافر سمين دهين كاس، وإذا شيطان المؤمن مهزول أشعث عار، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى فأظل جائعاً، وإذا شرب سمى فأظل عطشاناً، وإذا أدهن سمى فأظل أشعث، وإذا لبس سمى فأظل عرياناً. قال شيطان الكافر: لكنى مع رجل لا يصنع شيئاً من ذلك فأنا أشاركه
_________
(1) هو: تقي الدين الحصني، واسمه: أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن معلى الحسيني الحصني، فقيه ورع من أهل دمشق ولد بها 752هـ، ووفاته أيضاً بها سنة: 829هـ. نسبته إلى الحصن من قرى حوران، وإليه تنسب زاوية الحصني، بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، له تصانيف كثيرة، منها: كفاية الأخيار، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب التشبيه إلى الإمام أحمد، وتخريج أحاديث الإحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك، وقمع النفوس الذي أشار إليه المصنف.
(2/298)
في طعامه وشرابه ولباسه (1) .
وروى عن جعفر بن محمد في قوله تعالى: ?وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الإسراء: 64] أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل، فإذا لم يقل: «بسم الله» أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل.
الثالثة: وكيفية التسمية على الذبح أن يقول الذابح: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسبه الرحمة.
قال بعض العلماء: وكذا إذا سمى عند الأكل يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» قال: لأن الطعام يستهلك، والرحمة لا تذكر على مستهلك.
قال ابن العماد في الذريعة: وما قاله لا دليل عليه بل في الحديث ما يخالفه.
روي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كلوا بسم الله الرحمن الرحيم» .
وروي أن عيسى - عليه السلام - لما نزلت المائدة قال لأصحابة: كلو بسم الله خير الرازقين.
واختلف العلماء في التسمية في الوضوء هل هي سنة أو واجبة؟
فذهب إمامنا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه إلى أنها سنة.
وذهب أهل الظاهر إلى أنها واجبه، واستدلوا عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (2) .
وأجاب إمامنا الشافعي والجمهور عنه بأجوبة أحسنها: أنه ضعيف. الثاني: أنه مقدر بنفي الكمال أي: لا وضوء كاملاً كقوله في الحديث الآخر: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (3) .
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (3/37) .
(2) أخرجه الترمذي (1/38، رقم 25) عن سعيد بن زيد.
وأخرجه ابن ماجه (1/139، رقم 397) ، وأحمد (3/41، رقم 11388) ، وابن أبي شيبة (1/12، رقم 14) ، وعبد بن حميد (1/285، رقم 910) ، والدارمي (1/187، رقم 691) ، وأبو يعلي (2/324، رقم 1060) ، والدارقطني (1/71) ، والحاكم (1/245، رقم 518) عن أبي سعيد.
(3) أخرجه الدارقطني (1/419) عن جابر.
وأخرجه الدارقطني (1/420) ، والبيهقي (3/57، رقم 4724) ، والحاكم (1/373، رقم 898) عن أبي هريرة.
(2/299)
الثالث: أن المراد بالذكر فيه: النية أي: لا وضوء صحيح لمن لم ينو فيه.
قال علماؤنا: والتسمية في الوضوء سنة مؤكدة، فلو نسيها في ابتدائه أتى بها متى ذكرها في الوضوء، ولو عند غسل الرجلين ويقول: «بسم الله على أوله وآخره» ، كما إذا ترك الإنسان التسمية في أول الأكل يأتي بها في آخره، ولو تركها في ابتدائه عمداً فهل يشرع له تداركها في أثنائه فيه خلاف، والراحج: نعم.
جاء في حديث لكنه ضعيف: «من توضأ وذكر اسم الله كان طهوراً لجميع بدنه، وإن لم يذكر اسم الله كان طهوراً لأعضاء وضوءه» رواه الدارقطنى والبيهقى وضعفه من جميع طرقه (1) .
فائدة: قال ابن العماد في الذريعة: عدد زبانية جهنم تسعة عشر قال الله تعالى: ?عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ? [المدثر: 30] وهؤلاء خزنة النار مالك ومعه ثمانية عشر ذكره البغوي في تفسيره (2) .
قال: وجاء في الأثر أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيدميهم حيث شاء من جهنم، وهؤلاء رؤسائهم الزبانية، وإلا فلهم أتباع غير محصورين، بدليل قوله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] ، وقوله: ?وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا? [المدثر: 31] .
لطيفه: قال في نزهة المجالس: قال النسفي: تأخذ الزبانية يوم القيامة عبد فيقال لهم: ردوه فينظر إلى أعضاءه فلا يوجد فيها خير، فيقال له: أخرج لسانك فإذا عليه بخط أبيض «بسم الله الرحمن الرحيم» فيقال له: اذهب فقد غفرت لك.
فائدة أخرى: قال ابن مسعود: «من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن حروفها تسعة عشر حرفاً» (3) .
_________
(1) أخرجه الدارقطني (1/73) وقال: يحيي بن هشام ضعيف. والبيهقي (1/44، رقم 199) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن مسعود.
وأخرجه الدارقطني (1/74، رقم 13) . والبيهقي (1/44، رقم 200) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن عمر.
(2) انظر: تفسير البغوي (4/417) .
(3) أورده السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه لوكيع والثعلبي عن ابن مسعود.
(2/300)
وقال غيره: كلماتها أربعة والذنوب أربعة: ذنوب الليل والنهار والسر والعلانية، فمن قالها كفر الله عنه الذنوب الأربع.
لطيفة: كان بمكة رجل صائم لم يره أحد يأكل ولا يشرب، غير أنه يخرج من جيبه ورقة فينظر فيها عند إفطاره، فلما مات أخرجها الغاسل من جيبه فوجد فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم» فتعجب من ذلك، فهتف به هاتف لا تعجب فإنا بالتسمية ربيناه، وبالرحمانية وفقناه، وبالرحيمية غفرنا له.
الرابعة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالجماع.
قال العلماء: الجماع في الأصل وضع لثلاثة أمور وهي مقاصده الأصلية:
أحدها: حفظ النسل ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتفاظه بجملة البدن.
الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة بخلاف الفائدتين الأوليتين.
فإنه لا تناسل في الجنة على خلاف في ذلك يأتي، ولا احتباس للمني فيها ولا احتقان حتى يحتاج إلى استخراجه بالإنزال.
وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة، وإذا ثبت فضل المني فلا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل أو إخراج المحتقن منه فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضاً ردية منها: الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك.
وإخراج المني يبرئ من هذه الأمراض.
ومن منافع الجماع: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في ديناه وأخراه، وينفع المرأة.
ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعاهده ويحبه ويقول: «حبب إلي من ديناكم النساء والطيب» (1) .
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد في الحديث زيادة لطيفة وهي: «أصبر عن
_________
(1) أخرجه النسائي (7/61، رقم 3939) ، وأحمد (3/128، رقم 12315) ، وأبو يعلى (6/237، رقم 3530) ، والحاكم في المستدرك (2/174، رقم 2676) وقال: صحيح علي شرط مسلم. والبيهقي (7/78، رقم 13232) ، والضياء في المختارة (4/427، رقم 1608) عن أنس.
(2/301)
الطعام والشراب ولا أصبر عنهن» (1) .
قال العلماء: ويسن أن يقدم الإنسان قبل الجماع مداعبة المرأة وتقبيلها، ومص لسانها فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يداعب أهله ويقبلها.
وروى أبو داود في سننه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقبل عائشة ويمص لسانها (2) .
ويذكر عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول - صلى الله عليه وسلم - عن المواقعة قبل الملاعبة (3) .
وأنفع الجماع ما حصل بعد الهضم، وعند اعتدال البدن في حره وبرده، ويبوسته ورطوبته، وخلائه وامتلائه، وضرره عند امتلاء البدن أسهل وأقل من ضرره عند خلوه.
وإنما ينبغي أن يجامع إذا اشتدت الشهوة وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ولا فكرة في صورة ولا نظر متتابع.
ولا ينبغي أن يستدعي شهوة الجماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليبادر به إذا هاج به كثرة المني.
والإكثار منه يسقط القوة، ويضر بالعصب، ويضعف البصر، وسائر القوى، ويطفئ الحرارة الغريزية، ويوسع المجاري.
وأنفع أوقاته ما كان بعد إنهضام الغذاء من المعدة، وفي زمان معتدل على جوع فإنه يضعف، ولا على شبع فإنه يوجب أمراضاً، ولا على تعب، ولا أثر حمام، ولا بعد استفراغ كفصد حجامة، ولا بعد غم وحزن، وشده فرح.
قالوا: وجماع المرأة المحبوبه في النفس يقل إضعاف البدن مع كثرة استفراغ المني، وجماع البغيضة ينحل البدن، ويوهن القوى مع قلة استفراغه.
وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشاً لها بعد الملاعبة والقبلة،
_________
(1) قال المناوي في فيض القدير (3/371) : زعم الزركشي أن للحديث تتمة في كتاب الزهد لأحمد هي: أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن. وتعقبه المؤلف أي: السيوطي بأنه مر عليه مراراً فلم يجده فيه، لكن في زوائد الزهد لابنه عبد الله بن أحمد عن أنس مرفوعاً: «قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب والجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من النساء» . فلعله أراد هذا الطريق.
(2) أخرجه أبو داود (2/311، رقم 2386) . وأخرجه أيضاً: البيهقي (4/234، رقم 7891) ، وأحمد (6/123، رقم 24960) عن عائشة.
(3) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/220) .
(2/302)
وبهذا سميت المرأة فراشاً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «الولد للفراش» (1) .
وهذا مأخوذ من قوله تعالى ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] .
وأشار إلى ذلك بعض الشعراء فقال:
إذا رممتها كانت فراشا يقلني ... وعند فراغي خادم تملق
وأردأ أشكاله: أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره، وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة، وفيه من المفاسد أن المني يتعسر خروجه كله، فربما بقي في العضو منه بقية فيتعفن ويفسد ويضر.
وسنذكر في كتاب الغسل فوائد أخرى متعلقة بالجماع.
الخامسة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالولد:
الفائدة الأولى: دل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «وجنب الشيطان ما رزقتنا» على أن الولد معدود من رزق الإنسان، وأن الرزق ليس مخصوصاً بالغد (2) .
الفائدة الثانية: قال النسفي: جاء في الخبر إذا أرادت المرأة الولادة أرسل الله إليها ملكين عن يمنيها وشمالها، فإذا أراد صاحب اليمين إخراجه زاغ إلى جهة الشمال، وإذا أراد صاحب الشمال إخراجه زاغ إلى جهة اليمين، فتتوجع المرأة فيخاف الملكان ويقولان: ربنا عجزنا عن إخراجه فيتجلى الله تعالى فيقول: يا عبدي من أنا؟ فيقول الولد: أنت الله الذي لا إله إلا أنت ويسجد، فيخرج في سجوده على رأسه.
وقيل: ينزل عليه ملك مكتوب في يده الله الله، فإذا رأى الولد ذلك خرج سريعاً.
_________
(1) أخرجه البخاري (2/724، رقم 1948) ، ومسلم (2/1080، رقم 1457) ، وأبو داود (2/282، رقم 2273) ، والنسائي (6/180، رقم 3484) ، وابن ماجه (1/646، رقم 2004) عن عائشة.
وأخرجه البخاري (6/2499، رقم 6432) ، ومسلم (2/1081، رقم 1458) ، والترمذي (3/463، رقم 1157) وقال: حسن صحيح. والنسائي (6/180، رقم 3482) ، وابن ماجه (1/647، رقم 2006) عن أبي هريرة.
(2) أي رزق الإنسان في يوم غده الآتي عليه فهو في علم الله تعالي قال تعالي: ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً? مراد المصنف أن الررزق ليس فقط الرزق الذي لا يعلمه إلا الله في الغد بل من الرزق الولد، والصديق، والزوجة، وكل ما وجدت فيه نعمة من الله عليك فهو من رزق الله أتاك الله إياه فوجب حمده وشكره.
(2/303)
ونظير هذا ما أفاده النسفى أيضاً قال: إذا احتضر العارف نزل عليه ملك الموت قبل وجهه فيدفعه الذكر، فيأتي من قبل يديه فتدفعه الصدقة، فيأتي من قبل رجليه فتدفعه الصلاة، فيقول: يارب قد حيل بيني وبينه، فيقول: أكتب إسمي على كفك وأره إياه، فيكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأته روح المؤمن طارت شوقاً إلى ربها.
وفي رواية: تقول الروح لملك الموت: أأنت أسكنتني في هذا الجسد؟ فيقول: لا. فتقول: لا يخرجني إلا الذي أسكتني. فيقول: أنا رسول. فيقول: آتني بعلامة؟ فيقول الله: خذ تفاحة من الجنة فيأخذ تفاحة عليها: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأتها روحه طارت شوقاً إلى الجنة.
الفائدة الثالثة: قال العلامة ابن القيم: لبكاء الصبي حال خروجه إلى هذه الدار سببان أحدهما: باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء، والثانى: ظاهر.
فأما السبب الباطن فهو: أن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من أولاد آدم شيطاناً، فشيطان المولود قبل انفصاله محبوس عنه، ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعن في خاصرته تغيظاً عليه، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بينه وبين الأبوين قديماً فيبكي المولود من تلك الطعنة.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان» (1) .
والسبب الظاهر: مفارقته للمألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب، فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد، ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقه وطنه ومألفه.
وقيل: سبب بكائه انتقاله إلى دار يلقى فيها الشدائد والآلام، والمخاوف والأسقام كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:
ويبكي بها المولود حتى كأنه ... بكل الذي يلقاه فيها يهدد
وإلا فما يبكيه فيها وإنها ... لأوسع مما كان فيه وأرغد
الفائدة الرابعة: الحكمة في قبض المولود كفه عند خروجه إلى الدنيا، الإشارة إلى
_________
(1) أخرجه مسلم (4/1838، رقم 2367) . وأخرجه أيضاً: ابن حبان (14/62، رقم 6183) ، والطبراني في الأوسط (2/244، رقم 1872) ، وفي الصغير (1/39، رقم 29) .
(2/304)
أنه خرج إليها مركباً على الحرص والجمع، والحكمة في فتح كفه عند خروجه منها الإشارة إلى أنه فارق الدنيا صفر اليدين منها، ونظم بعضهم هذا فقال:
وفي قبض كف المرء عند ولادة ... دليل على الحرص الذي هو مالكه
وفي فتحها عند الممات إشارة ... إلى فرقة المال الذي هو تاركه
الفائدة الخامسة: سأل بعضهم فقال: كيف يكون للوالدين على الولد إنعام وإحسان ويستحقان ميراثه، وقد طلبا اللذة بالجماع لأنفسهما، فلزم منه دخول الولد في دار الهموم والأحزان والآفات والتبعات.
قيل للإسكندر: أستاذك أعظم منه عليك أم والدك فقال: الأستاذ أعظم منةً لأنه تحمل عني أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي، فأوقعني في نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب اللذة فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد.
وأجيب عن السؤال: بأن العاقل لا يقدم على الوقاع لأجل اللذة في أول الأمر، إلا أنه إذا حصل الولد اهتم به بإيصال الخيرات، ودفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه فقد استحق الميراث، وانقطعت هذه الشبهات، وثبت له عليه الفضل والإحسان.
الفائدة السادسة: أكثر العلماء على أن الجنة فيها جماع ولا يولد فيها لأحد ولد، واستدل على ذلك بدلائل منها:
قوله تعالى: ? وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ? [البقرة: 25] قال عطاء: المعنى مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول.
ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحمل والولاة مع الحيض والمني، فلو كان النساء يحملن لم ينقطع عنهن الحيض والإتزال.
ومنها: أن الله تعالى قدر التناسل في الدنيا لأنه قدَّر الموت وإخراجهم إلى هذه الدار قرنا بعد قرن، وجعل لهم أمد ينتهون إليه، ولولا التناسل لبطل النوع الإنساني.
ولهذا الملائكة لا يتناسلون فإنهم لا يموتون كما يموت الإنس والجن، فإذا كان يوم القيامة أخرجهم الله سبحانه وتعالى كلهم من الأرض وأنشأهم للبقاء لا للموت فلا يحتاجون إلى تناسل لحفظ النوع الإنساني، إذ هو منشأ للبقاء الدوام، فلا أهل الجنة يتناسلون ولا أهل النار.
وذهب بعض العلماء إلى أن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة واستدل على ذلك بحديث خرَّجه الترمذي وابن ماجه وقال
(2/305)
الترمذي: إنه حسن غريب (1) لكن رد أكثر العلماء هذا القول وقالوا: بأنهم لا يشتهون ذلك.
الفائدة السابعة: وهي مشتمله على فوائد متعلقة بالشيطان:
الأولى: قوله: «وجنب الشيطان» دل على أن الشيطان ملازم لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته، أعاذنا الله تعالى منه فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم أعاذنا الله.
الثانية: دل الحديث أيضاً على أن التسمية والدعاء المذكور سبب للاعتصام من الشيطان، وسبب لدفع ضرره عن المولود، بل دل على أن ذكر الله مطلقاً سبب عظيم لطرد الشيطان وكف شره.
قال قتادة في تفسيره قوله تعالى: ? الخَنَّاسِ ? [الناس: 4] ما نصه: «الخناس» : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكاتب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس.
ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا لم يذكر رجع ووضع رأسه فذلك معنى قوله تعالى: ?الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ? [الناس: 5، 6] .
أي: بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع.
وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان على صورة ضفدع قاعدة على منكبه الأيسر بين منكبه، وأذنه خرطوم طويل دقيق قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له إليه، فإذا ذكر الله تعالى خنس (2) .
وقال كعب الأحبار: ذكر الله تعالى في جنب الشيطان كالأكله في جنب ابن آدم.
وقال أيضاً: حصون المؤمن من الشيطان ثلاثة: ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والمسجد.
وكان يحيى بن معاذ يقول: اللهم إن إبليس لك عدو ولنا عدو، وإنك لا تعظه
_________
(1) أخرجه الترمذي (4/695، رقم 2563) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2/1452، رقم 4338) . وأخرجه أيضاً: أحمد (3/9، رقم 11078) ، والدارمي (2/434، رقم 2834) ، وأبو يعلى (2/317، رقم 1051) ، وابن حبان (16/417، رقم 7404) عن أبي سعيد.
(2) انظر: إحياء علوم الدين (3/40) .
(2/306)
بشيء نكالا له، فاعف عنا يا أرحم الراحمين.
وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوبنا، مطلعاً على عوراتنا، يرانا هو وقبيلة من حيث لا نراهم، اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطة منا كما قنطة من عفوك، وأبعد بيننا وبينه كما أبعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير.
قال: فتمثل له اللعين يوماً في طريق المسجد فقال له: يا ابن واسع هل تعرفني؟ قال له: ومن أنت؟ قال: أنا اللعين. قال: وما تريد؟ قال: أريد أن لا تعلم أحداً هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك أبداً. فقال له ابن واسع: والله لا أمنعها من أرادها فاصنع الآن ما شئت.
ومن دعاء بعضهم: اللهم إنك خلقتني وخلقته، وسلطته علي فلا يقدر علي إلا بتقديرك، ولا أقدر عليه إلا بإعانتك، فأعني عليه يا عزيز يا جبار بعزتك وجبروتك.
الثالثة: المراد بالشيطان في الحديث شيطان الجن فقط، فإنه هو الذي يتعرض للمولود عند ولادته، لا شيطان الإنس.
وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على وجود شيطان الإنس والجن قال الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً? [الأنعام: 112] .
قال قتادة ومجاهد والحسن: دلت الآية على أن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين.
«والشيطان» : العاتي المتمرد من كل شيء.
قالوا: إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز عن أغوائة ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس، فأغواه بالمؤمن ليفتنه، يدل على ذلك ما روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس» قلت: يا رسول الله
(2/307)
وهل للأنس من شياطين؟ قال: «نعم شر من شياطين الجن» (1) .
وقال مالك بن دينار: شياطين الإنس أشر عليَّ من شياطين الجن، وذلك أني إن تعوذت بالله ذهبت عني شياطين الجن، وشياطين الإنس تجيئني وتجرني إلى المعاصي (2) .
* * *
_________
(1) أخرجه النسائي (8/275، رقم 5507) ، والحاكم (2/310، رقم 3115) وقال: صحيح الإسناد. والطيالسي (1/65، رقم 478) ، وأحمد (5/178، رقم 21586) قال الهيثمي (1/160) : فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط. والبيهقي في شعب الإيمان (2/457، رقم 2390) ، وعبد الرزاق (2/84، رقم 2579) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/195، رقم 53) عن أبي ذر.
وأخرجه أحمد (5/265، رقم 22342) ، والطبراني (8/217، رقم 7871) قال الهيثمي (1/159) : مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة.
(2) انظر: تفسير القرطبي (7/68) .
(2/308)
المجلس الثاني الأربعون
في آداب داخل الخلاء ومستحباته
قَالَ البُخَارِي:
بَابَ مَا يَقُول عِنْدَ الخَلاء
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ. وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (1) .
قوله: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم -» قال العلماء: «كان» في هذا التركيب تفيد تكرار ذلك الفعل، وبيان كونه عادة له أي: كان كلما دخل يقول الدعاء المذكور.
وقوله: «إذا دخل» أي: إذا أراد أن يدخل لأن اسم الله مستحب الترك بعد
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «الخبث» جمع خبيث. والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما. وقد يكون معناه: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره «أعوذ بالله من الخبث والخبيث» أو «الخبث والخبائث» هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ إظهاراً للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال: «إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث» وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية.
والكلام هنا في مقامين: أحدهما هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت؟ الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة.
الثاني متي يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصل: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلاً وهذا مذهب الجمهور.
وقالوا فيمن نسى: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقاً كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. انظر فتح الباري (1/243 - 244) .
(2/309)
الدخول.
وجاءت رواية أخرى مصرحة بفعل الإرادة، وهذا مثل قوله تعالى: ?فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ? [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة.
وقوله: «الخلاء» قال العلماء: «الخلاء» بفتح الخاء المعجمة وبالمد موضع قضاء الحاجة، سمى بذلك لخلائة في غير أوقات قضاء الحاجة.
وقال الحكيم الترمذي سمى الخلاء خلاء باسم شيطان موكل بذلك الموضع اسمه خلاء، وأورد فيه حديثاً مرفوعاً من رواية بريدة.
ويقال للخلاء: «الكنيف، والحش، والمرفق، والمرحاض» .
وأما «الخلاء» بالقصر فيطلق على معنيين على الحشيش الرطب، وعلى الكلام الحسن.
وأما «الخلاء» بكسر الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل.
وقوله: «اللهم» أصل «اللهم» يا الله على الأصح فحذف حرف النداء، وعوض عن الميم.
وقوله: «إني أعوذ بك» معناه: استجير واعتصم بك.
وقوله: «من الخبث والخبائث» جمع خبيثة.
قال العلماء: «الخبث» بضم الخاء والباء ويجوز إسكان الباء جمع خبيث، وهم ذكور الشياطين، والخبائث إناثهم، فكأن الداعي بهذا عند دخوله الخلاء استعاذ من ذكور الشياطين وإناثهم.
وخص - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة منهم بيوت الخلاء لأنها مأواهم ويحضرونها، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله فقدم لها الاستعاذة احترازاً منهم.
ومما يدل على أن الشيطان يحضر الأخلية قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه الحشوش محتضرة -أي: تحضرها الشياطين- وإذا دخل أحدكم الخلاء فليتعوذ بالله» (1) .
قال ابن الملقن: الظاهر أن سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول هذا الدعاء إظهاراً للعبودية وتعليماً للأمة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس، بدليل
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/2، رقم 6) ، والنسائي في الكبرى (6/23، رقم 9903) ، وابن ماجه (1/108، رقم 296) ، والطيالسي (1/93، رقم 679) ، وأحمد (4/369، رقم 19305) ، وأبو يعلى (13/180، رقم 7218) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 69) ، وابن حبان (4/252، رقم 1406) ، والطبراني في الكبير (5/205، رقم 5100) ، والحاكم في المستدرك (1/298، رقم 669) وقال: على شرط الصحيح. والبيهقي (1/96، رقم 459) عن زيد بن أرقم.
(2/310)
أنه ربط عفريتاً على سارية من سواري المسجد (1) .
وفي الحديث دليل على مراقبته - صلى الله عليه وسلم - لربه ومحافظته على ضبط أوقاته وحالاته، واستعاذاته عندما ينبغي أن يستعاذ منه، ونطقه عندما ينبغي أن ينطق به، وسكوته عندما ينبغي أن يسكت عنده.
وفيه دليل على استحباب الدعاء المذكور لكل متخل سواء تخلى في البنيان أم في الصحراء، لأن مكان قضاء الحاجة في الصحراء يصير مأوى لهم.
وقد ذكر علماؤنا أنه يستحب أن يقول قبله: «بسم الله» ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء قدمت التسمية هنا على التعوذ، وفي قراءة القرآن يستحب تقديم التعوذ على التسمية؟
جوابه: أن التعوذ عند قراءة القرآن لأجل القراءة، والبسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلافة هنا فقدمت البسملة عليه.
فإن دخل قبل أن يتعوذ ناسياً، تعوذ بقلبه كما يحمد العاطس، ويستحب عقب الخروج أن يقول: غفرانك الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني، وأن يكرر غفرانك ثلاث مرات، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: أسالك غفرانك.
سؤال: فإن قيل: أي ذنب وقع من داخل الخلاء حال قضاء الحاجة حتى يطلب من ربه غفرانه عند خروجه منه؟
وجوابه من وجوه:
الأول: لم يقع منه ذنب، ولكن لما ترك ذكر الله تعالى فسأل الله تعالى أن يسامحه عليه (2) .
الثاني: إنما دخل الغفران لأنه لما رأى نعم الله تعالى عليه التي أنعمها عليه حيث أطعمه ثم هضمه ثم يسهل خروجه، رأى شكره قاصراً عن بلوغ حقه هذه النعم عد ذلك ذنباً فتداركه بالاستغفار.
الثالث: ليس طلب المغفرة لذنب وقع في حال قضاء الحاجة، بل طلبها لذنوبه الصادرة منه قبل ذلك، فكأنه لما تخلص مما يثقل البدن، سأل التخلص مما يثقل القلب وهو الذنب لتكمل الراحة.
_________
(1) أخرجه البخاري (1/176 رقم 449) ، ومسلم (1/384 رقم 541) عن أبي هريرة.
(2) فإن الإنسان عندما يدخل الخلاء كما سبق الإشارة إليه يهجر ذكر الله فهو يطلب المغفرة لذلك وهذا هو مراد المصنف.
(2/311)
فائدة: في مسند عبد الرزاق وابن أبي شيبة أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان يقول أي: إذا فرغ من قضاء الحاجة وخرج من الخلاء: «الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عنى أذاه» (1) .
وعند الحنفية يستحب أن يقول إذا دخل الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج يقول: «الحمد لله الذي أذهب عنى ما يؤذينى، وأمسك عني ما ينفعنى» .
وقد ذكر العلماء رضى الله عنهم أداباً كثيرة لقضاء الحاجة:
منها: أنه يبعد عن الناس في الصحراء أو نحوها إن كان هناك غيره إلى مكان لا يسمع للخارج منه شيء، ولا يشم له ريح، فإن تعذر عليه الإبعاد عنهم لمرض ونحوه استحب لهم الإبعاد عنه إلى مكان لا يسمعون.
ومنها: أن يستتر عن أعينهم بشيء مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي المعتدل فأقل، هذا إن كان بصحراء أو بناء لا يمكن تسقيفه، كأن جلس في وسط مكان واسع كبستان، فإن كان ببناء مسقف أو يمكن تسقيفه حصل الستر به، ولو تستر في الصحراء ونحوها براحلته وأرخى ذيله أو نحو ذلك كفى.
قال القاضي زكريا: ولو تعارض التستر والإبعاد فالظاهر رعاية التستر، يعني لو أبعد عن العيون لم يستتر، ولو لم يبعد لاستتر فالستر أولى وإن لم يبعد.
لطيفه: ذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فنظر فلم يجد شيئاً يستتر به، فإذا بشجرتين في شاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادى معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها فقال: «انقادي معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى إذا كانت بالنصف مما بينهما لأم بينهما فقال: «إلتئما علي بإذن الله تعالى» فلتأمتا ثم بعد قضاء حاجته افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق (2) .
وقال فيه أيضاً: وروي عن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه: «هل ترى لي مكاناً لحاجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» فقلت: إن الوادي ما فيه موضع بالناس، فقال: «هل ترى من نخل أو حجارة؟» فقلت: أرى نخلات متقاربات قال: «انطلق فقل لهن إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقل
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/12، رقم 9) .
(2) أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) وابن حبان (14/455، رقم 6524) عن جابر.
(2/312)
للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهن فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته قال: «قل لهن يفترقن» فوالذي نفسي بيده لقد رأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن (1) .
ومنها: أن يصحب معه ثلاثة أحجار إن أراد الاستنجاء بها، ويصحب معه الماء إن أراد الاستنجاء به.
ومنها: أن يقدم رجله اليسرى في دخوله واليمنى في خروجه، كما يفعل ذلك في الحمام، عكس المسجد لأن كل ما كان للتكريم يبدأ فيه باليمين وخلافه باليسار، روى عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «من بدأ برجله اليمنى قبل يساره إذا دخل الخلاء أُبتلي بالفقر» .
ومنها: أن لا يدخل حافياً ولا مكشوف الرأس فقد صرح جماعة بكراهتهما قاله في الوسيط.
وروى البيهقي في ذلك حديثاً مرسلاً (2) .
واتفق العلماء على أن الحديث الضعيف والمرسل والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه.
قال النووي في المجموع: نعم يكفي ستر رأسه بكمه.
ومنها: أن لا يحمل شيئاً مكتوباً عليه قرآن أو اسم الله أو اسم نبي أو اسم معظم، سواء كان مكتوباً على ورقه أو درهم أو فلس أو غير ذلك، أي: يستحب له أن لا يحمل شيئاً من ذلك عند قضاء حاجته، فإن حمله كره له ذلك.
فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء وضع خاتمه كما رواه الترمذي وغيره وصححوه (3) .
وكان نقش خاتمة كما تقدم: «محمد رسول الله» .
فائدة: لو كان اسم الإنسان كاسم نبي من الأنبياء كمحمد أو موسى ونقشه على خاتمه وأراد به نفسه لا ذلك النبي لم يكره استصحابه.
_________
(1) أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (2/60) وقال: أخرج أبو يعلى، والبيهقي بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية عن أسامة ابن زيد.
(2) أخرجه البيهقي (1/96، رقم 461) عن حبيب بن صالح مرسلاً.
(3) أخرجه أبو داود (1/5، رقم 19) وقال: منكر. والترمذي (4/229، رقم 1746) وقال: حسن غريب. والنسائي (8/178، رقم 5213) وابن ماجه (1/110، رقم 303) عن أنس.
(2/313)
فائدة أخرى: لو كان معه شيء مكتوب عليه اسم الله تعالى كخاتم فدخل به الخلاء ناسياً أو عامداً حتى قعد لقضاء حاجته ضم كفه عليه أو وضعه في عمامته أو غيرها.
فائده أخرى: قال الأذرعي: والمتجه تحريم إدخال المصحف ونحوه الخلاء من غير ضرورة إجلالاً له وتكريماً.
فائدة أخرى: ولو تختم في يسراه بما عليه ذكر الله تعالى أو اسم الرسول حوَّله في الاستنجاء تنزيهاً له عن تنجيسه قاله القفال.
فإن تركه حتى تنجس إثم بذلك قاله الأسنوي.
ومنها: أن لا يتكلم بذكر ولا غيره، أي: يكره له ذلك.
قال أبو الليث: يكره الكلام في خمسة مواضع: خلف الجنازة، وعند قراءة القرآن، وعند الخطبة، وفي الخلاء، وعند الجماع.
وجاء في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» (1) رواه الحاكم وصححه.
ومعنى: «يضربان الغائط» يأتيان.
«وكاشفين» منصوب على الحال، وروى: «كاشفان» بالألف مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هما كاشفان.
«والمقت» البغض، وقيل: هو أشد البغض.
والمقت وإن كان على المجموع من كشف العورة والتحدث، فبعض موجباته مكروه، نعم لا يكره الكلام لضرورة كأن رأى أعمى قد دنا من قرب بئر فأنذره حتى لا يقع فيه، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من الحيوانات المحترمة فأنذره من ذلك، بل يجب الإنذار في هذه.
سؤال: فإن قيل: قراءة القرآن في الخلاء مكروهة أو حرام؟
جوابة: أن ظاهر قول الفقهاء: «يكره التكلم في الخلاء» أنها مكروهة.
_________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/260، رقم 560) وقال: صحيح. وأخرجه أيضاً أبو داود (1/4، رقم 15) ، والنسائي في الكبرى (1/70، رقم 33) ، وابن ماجه (1/123، رقم 342) ، وأحمد (3/36، رقم 11328) ، وابن خزيمة (1/39، رقم 71) ، وابن حبان (4/270، رقم 1422) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/99، رقم 487) عن أبي سعيد.
وأخرجه النسائي في الكبرى (1/70، رقم 31) ، والطبراني في الأوسط (2/65، رقم 1264) عن أبي هريرة.
(2/314)
لكن صرح ابن كج (1) بأنها حرام.
قال الأذرعي: والتحريم حال قضاء الحاجة ظاهر، أما بعده وقبله فمحتمل، واللائق بالتعظيم المنع.
فائدة أخرى: إذا عطس عند قضاء الحاجة والجماع حمد الله بقلبه، ولا يحرك لسانه.
فائدة أخرى: إذا سلم عليه أحد وهو في الخلاء يكره رد السلام عليه، وقد ذكر العلماء مواضع لا يستحق فيها المسلم الرد، وسيأتي في الكلام على الحمام.
فائدة: قال أبو الليث: روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه كان إذا أراد الدخول في الكنيف بسط رداءه ويقول: «أيها الملكان الحافظان علي اجلسا هاهنا فإني قد عاهدت الله تعالى أن لا اتكلم على الخلاء» .
ومنها: أن يعتمد على رجله اليسرى وينصب اليمن بأن يضع أصابعها على الأرض ويرفع باقيها فإن، ذلك أسهل لخروج الخارج سواء قضى حاجته قائماً أو قاعداً.
ومنها: أن لا ينظر إلى فرجه بلا حاجة ولا إلى الخارج منه، نعم قال بعض المالكية: يندب أن ينظر إلى ما يخرج منه اعتبار بمآل الدنيا.
قال الأذرعي: ولا يعبث بيده ولا يلتفت يمنياً وشمالاً.
ومنها: أن لا يطيل المكث في المحل بل تكره الإطالة لما روي عن لقمان أنه قال: إن ذلك يتولد منه الباسور أو يورث وجعاً في الكبد.
ومنها: أن لا يتخلى في طريق الناس لما ورد في صحيح مسلم: «اتقو اللعانين» قالوا: وما اللعنان؟ قال: «الذي يتخلى في طريق أو في ظلهم» (2) .
_________
(1) ابن كج هو: يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي أحد أئمة الشافعية، صاحب أبي الحسين ابن القطان وحضر مجلس الداركي أيضا قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة، وكان من أئمة المذهب، قال ابن كثير: له في المذهب وجوه غريبه، وقد وجمع بين رياسة الفقه والدنيا، وله مصنفات كثيرة منها: «التجريد قال في المهمات» وضبط اسمه ابن خلكان فقال: «وكج» بكاف مفتوحة وجيم مشدودة وهو في اللغه: الجص الذي تبيض به الحيطان.
انظر ترجمته في: البداية والنهاية (11/355) ، وطبقات الفقهاء (1/127) ، وطبقات الشافعية (2/198) .
(2) أخرجه مسلم (1/226، رقم 269) وأخرجه أيضاً أبو داود (1/7، رقم 25) ، وأحمد (2/372، رقم 8840) ، وأبو يعلى (11/369، رقم 6483) ، والبيهقي (1/97، رقم 473) عن أبي هريرة.
(2/315)
وفي رواية لابن مندة: «في طريق المسلمين ومجالسهم» (1) .
«واللعنان» بالتشديد أصله اللاعنان فحول للمبالغة، وإنما إطلق على الذي يتخلى في الطريق والذي يتخلى في الظل لعنانان لأنهما تسببا بذلك في لعن الناس لهما كثيراً عادة، فأضيف الفعل اليهما بصيغة المبالغة، والمعنى: احذروا سبب اللعن المذكور.
قال الخطابى: وقد يكون اللاعن بمعنى المعلون أي: اتقوا الملعونين فاعلمهما.
فائدة: التخلي في طريق الناس ببول أو غائط مكروه كراهة تنزيه كما قال أصحاب الشافعي.
لكن قال النووي: ينبغي تحريمه للأخبار الصحيحة ولإيذاء المسلمين.
وقال الأذرعي في «التوسط» : يجب الجزم بأن التخلي فيها حرام، وهو الصواب مذهباً ودليلاً، قال: ويتعين من إطلاق الكراهة أي: في كلام الأصحاب على التحريم.
وقال صاحب العدة: إن التغوط في الطريق حرام نقله الشيخان عنه في كتاب الشهادة وأقراه فأُفهم كلامهم أن البول فيها ليس بحرام، لأن الغائط أغلظ منه.
وجاء في حديث رواه البيهقي: «من سل سخيمته على طريق عامر من طريق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (2)
«والسخيمة» بفتح السين المهملة وكسر الخاء المعجمة هي الغائط.
ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس، «والمتحدث» بفتح الدال مكان الاجتماع للحديث، ويسمى النادى، أي: يكره التخلي فيه، وفي معناه كل موضع يقصد كظل شمس أو لمعيشة أو لمقيل مسافر ونحوها، وينبغي على قول النووي أن يحرَّم التخلى فيه لإيذاء الناس.
ومنها: أن لا يتخلى عند قبر محترم احتراماً له، أي: يكره له ذلك، وتشتد الكراهة عند قبور الأولياء والشهداء، وأما قبور الأنبياء فالتخلي عندها حرام كما قال الأذرعي.
وكذلك يحرم التخلي بين القبور المتكرر نبشها لاختلاط ترتبها بأجزاء الميت،
_________
(1) عزاه أيضاً ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/163) لابن منده.
(2) أخرجه البيهقي (1/98، رقم 475) وأخرجه أيضاً الحاكم (1/296، رقم 665) ، والطبراني في الأوسط (5/320، رقم 5426) قال الهيثمي (1/204) : فيه محمد بن عمرو الأنصاري ضعفه يحيى بن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. جميعاً عن أبي هريرة.
(2/316)
وكذا يحرم التخلي عند القبر المحترم.
قال الأذرعي في «التوسط» : والظاهر أن البول إلى جداره كالبول عليه إذا مسته النجاسة.
ومنها: أن لا يبول بقرب جدار المسجد احتراماً له، فإن بال بقربه كره له ذلك.
فائدة: البول في المسجد في إناء من غير ضرورة حرام، وأما البول في رحبة المسجد وهو كل ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه، فإن جعلناها من المسجد حرم وإلا فلا.
قال الأذرعي في «التوسط» : ويحتمل أن يقال بالتحريم مطلقاً، وإن لم يجعلها من المسجد. قال: ويجب الجزم به إذا كانت متروكة.
فائدة أخرى: قال صاحب الذخائر: يستحب للمرء أن يتخذ إناء يبول فيه بالليل لحديث ورد فيه (1) .
ولأن دخول الحشوش بالليل يخشى منه.
ومنها: أن لا يبول في ماء راكد ولو كان كثيراً أي: يكره له ذلك لخبر مسلم: «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبال في الماء الراكد» (2) .
والكراهة في القليل الراكد أشد لتنجيسه.
وكذا يكره في جارٍ قليل، وأما الجاري الكثير فلا يكره فيه ذلك، لكن الأولى اجتنابه.
وكذا يكره البول بقربه، والبول فيه بالليل أشد كراهة، لما قيل: إن الماء بالليل للجن، فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغتسل خوفاً من آفة تصيب من جهتهم، والتغوط أشد كراهة من البول.
ومنها: أنه لا يبول تحت شجرة مثمرة أي: يكره له قضاء الحاجة تحتها.
قال الأذرعي: قال الأصحاب: يكره التغوط والبول في مساقط الثمار مملوكة كانت الشجرة أو مباحة.
قال: وأما غير المثمرة فإن كانت ظلاً ونحوه فعلى ما سبق، وإلا فلا تحريم ولا كراهة.
ولا يكره قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة ولو في غير وقت الثمرة.
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 24) والحاكم (1/272، رقم 593) وقال: صحيح الإسناد وسنة غريبة. وابن حبان (4/274، رقم 1426) عن أميمة بنت رقيقة.
(2) أخرجه مسلم (1/235، رقم 281) عن جابر.
(2/317)
ومنها: أن لا يتخلى في مستحم وهو المغتسل، مأخوذ من الحميم، وهو: الماء الحار، أي: يكره له ذلك، لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسلة وقال: «لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه» رواهما أبو داود وغيره (1) .
ومحل الكراهة إذا لم يكن له منفذ ينفذ منه البول أو الماء، وإلا فلا يكره.
ومنها: أنه يستحب له أن يرفع ثوبه عن عورته بلا قعود لقضاء الحاجة شيئاً فشيئاً، نعم إن خاف تنجس ثوبه رفع قدر حاجته، وبسبله أيضاً شيئاً فشيئاً إذا قام قبل انتصابه.
ومنها: أن لا يبول في مكان صلب لئلا يترشرش بالبول فقد رود: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين (2) .
فإن لم يجده مكاناً غيره دقة بحجر أو نحوه حتى يلين.
فائدة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب إلى الخلاء يحمل أنس بن مالك معه «العنزة» والعنزة عليها عصا زج.
وقال الكرمانى: «العنزة» بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفي طرفها «زج» كزج الرمح، «والزج» الحديدة التي في أسفل الرمح يعنى السنان.
وقال ابن رجب: كانت هذه «العنزة» تحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار، وفي يوم العيدين يصلي إليها حيث لم يكن هناك جدار ليستتر به.
وجاء في الصحيحين عن ابن عمر: «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر» (3) .
قال ابن رجب: والذي كان يحمل العنزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالباً عبد الله بن
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 27) ، والترمذي (1/33، رقم 21) وقال: غريب. والنسائي (1/34، رقم 36) . وابن ماجه (1/111، رقم 304) ، والحاكم (1/273، رقم 595) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وعبد الرزاق (1/255، رقم 978) ، وأحمد (5/56، رقم 20582) ، وعبد بن حميد (ص 181، رقم 505) ، وابن الجارود (1/21، رقم 35) عن عبد الله بن مغفل.
(2) أخرجه الحاكم (1/293، رقم 653) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة. وأخرجه أيضاً الدارقطني (1/128) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري (1/187، رقم 472) ، ومسلم (1/359، رقم 501) .
(2/318)
مسعود، فإنه كان خادم نعليه فيلبسه النعلين ثم يمشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والحكمة في حملها معه ليحفر بها الأرض، ويلين التراب ليبول في موضع لين لئلا يصيبه الرشاش، وهذه العنزة أهداها النجاشى للنبى - صلى الله عليه وسلم -.
قال الحليمى: وقال ابن سيد الناس: كانت للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة فأخذها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بقي من هذه «العنزة» قطعة موجودة بمصر في الآثار الشريفة.
ومنها: أن لا يبول في ثقب وهو النجش المستدير في الأرض، ولا في سرب وهو الشق في الأرض والبول فيهما مكروه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، لأنها مساكن الجن.
فائدة: وقع لسعد بن عبادة - رضي الله عنه - أنه سافر من المدينة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر إلى أن وصل إلى مدينة حوران، فنزل بها وأقام فجلس يوماً ليبول في ثقب في الأرض فضربه الجن فوقع ميتاً، وذلك سنة خمس عشرة فغسل ودفن بحوران، ولم يعلم أهل المدينة بموته حتى سمعوا قائلاً من الجن في بئر يقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، رميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده، فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه (1) .
ومنها: أن لا يبول في مهب ريح أي: موضع هبوبها. أي: يكره له استقباله بالبول كما قاله النووي في المجموع لئلا يعود عليه رشاش البول، بل يستدبرها كما في المجموع.
قال الأذرعي في «التوسط» : وجاء في الحديث: «أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يتمخر الريح» (2) .
أي: ينظر أين مجراها فلا يستقبلها لئلا ترد عليه البول ولكن يستدبرها، ولا فرق في كراهة استقبال مهبة الريح بين حال هبوبها، وحال سكونها إذ هي تهب بعد شروعه في البول فترد الرشاش عليه، أفاد ذلك ابن شهبة.
ومنها: أن لا يبول قائماً بل يكره البول قائماً لما رواه الترمذي وغيره عن عائشة أنها قالت: «من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا
_________
(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (20/266: 269) .
(2) أورده ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/45) وقال: غريب.
(2/319)
قاعداً» (1) .
نعم يجوز البول قائماً لعذر بلا كراهة ولا خلاف الأولى، فقد ورد في الصحيحين: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائماً» (2) .
واختلف العلماء في سببه:
فقيل: كان به وجع في صلبة والعرب كانت تستشفى بالبول قائماً لوجع الصلب.
وقيل: لأنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود.
وقيل: كان بباطن ركبتيه علة فما قدر يجلس فبال قائماً.
قال النووي: ويجوز أن يكون فعل ذلك بياناً للجواز.
سؤال: فإن قيل: كيف بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سباطة القوم بغير إذنهم مع أنه لا يجوز لأحد أن يستجمر في حائط غيره بغير أذنه؟
جوابه: إما أنه - صلى الله عليه وسلم - علم رضاهم بذلك وأذنوا له، أو أنها لم تكن مختصة بهم، بل عامة أضيفت إلى القوم لقربها منهم.
ومنها: أن يستبرئ من البول عند انقطاعه وقبل قيامه إن كان قاعداً، لئلا يقطر عليه، ويحصل بتنحنح ونثر ذكر ثلاث مرات.
وكيفية النثر: أن يمسح بيسراه العروق من دبره إلى رأس الذكر وينثره بلطف، ليخرج ما بقي إن كان، ويكون ذلك بالابهام والمسبحة، ويحصل أيضاً بالمشي خطوات أكثرها سبعون خطوة.
قال النووي: ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يحصل له الاستبراء بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرره، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، المقصود أن يظن الإنسان أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه.
والاستبراء مستحب فلو تركه الإنسان فاستنجاؤه صحيح ووضوءه كامل، وإنما لم يجب لأن الظاهر من انقطاع البول عدم عودة.
قال الأذرعي: نعم إذا تحقق أن في المجرى شيئاً يخرج منه، أو غلب على ظنه
_________
(1) أخرجه الترمذي (1/17، رقم 12) وابن ماجه (1/112، رقم 307) ، وابن حبان (4/278، رقم 1430) .
(2) أخرجه البخاري (1/90، رقم 222) ، ومسلم (1/228، رقم 273) ، وأبو داود (1/6، رقم 23) ، والترمذي (1/19، رقم 13) ، والنسائي (1/25، رقم 26) ، وابن ماجه (1/111، رقم 305) عن حذيفة.
(2/320)
بمقتضى عادته أنه يخرج منه شيء، وجب أن يستبرئ بعده، ووافقه ابن البرزي على ذلك.
ويكره لغير حاجة أن يحشو ذكره بقطن أو نحوه، أما لحاجة فإنه لا يكره، بل يجب كمن به سلس البول.
وينبغي لكل أحد في الاستبراء أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة فإنها مذمومة، والناس مختلفون في الوسواس.
فمنهم من يوسوس في الاستنجاء والوضوء والغسل، فيؤديه ذلك إلى الإسراف في الماء.
ومنهم من يوسوس في الصلاة فيؤدية ذلك إلى عدم جزم النية، وتكرير لفظ نويت نويت أصلي أصلي ونحو ذلك، وهذا نقص في العقل وحيل من الشيطان.
فقد روى ابن ماجة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بسعد وهو يتوضأ فقال له: «لا تسرف» فقال له: يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: «نعم وإن كنت على نهر جار» (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» (2) رواه الترمذي.
قال ابن العماد: معناه أنه يشككه في خلاء الوضوء، أو بعد الفراغ منه في أنه نوى أو ما نوى، أو في أنه لم يستوعب غسل الوجه في المرات الثلاث ونحو ذلك.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: «شيطان الوضوء يدعى الولهان ويضحك بالناس في الوضوء» .
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيمي قال: «أول ما يبدأ الوسواس من الوضوء» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (4) .
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/147، رقم 425) عن عبد الله بن عمرو.
(2) أخرجه الترمذي (1/85، رقم 57) ، وقال: غريب وليس إسناده بالقوي. وأخرجه أيضاً ابن ماجه (1/146، رقم 421) ، وأحمد (5/136، رقم 21276) ، وابن خزيمة (1/63، رقم 122) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 578) ، والطيالسي (ص: 74، رقم 547) عن أبي بن كعب.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة (1/67، رقم 725) .
(4) أخرجه أبو داود (1/24، رقم 96) ، وابن ماجه (2/1271، رقم 3864) ، وأحمد (4/86، رقم 16842) ، وابن حبان (15/166، رقم 6763) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 579) ، وابن أبي شيبة (6/53، رقم 29411) ، والبيهقي (1/196، رقم 900) عن عبد الله بن مغفل.
(2/321)
قال الشيخ موفق الدين ابن قدامه رحمة الله: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لادخرها الله لرسوله وأصحابه، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم أحد من الصحابة لبدعهم.
قيل: إن بعض الصوفية جلس ليلة يتوضأ لصلاة العتمة، فصار يصب الماء عليه حتى مضى شطر الليل فلم تطب نفسه، ولم يذهب الوسواس من قلبه، فبكى وقال: يارب العفو، فسمع هاتفاً يقول له: اترك ما أنت فيه، واستعلم العلم.
ومن آدابه أن لا يأكل ولا يشرب في الخلاء، كما قاله القاضي زكريا عن المحب الطبري.
ومنها: أنه لا يستاك، فقد نقل عن ابن عباس: أنه يورث النسيان، ونقل عنه أيضاً أنه قال: «من فعل ذلك فذهب بصره فلا يلومن إلا نفسه» .
ومنها: أن لا يمسك البول بعد ما أخذه فإن ذلك يضر بالمثانة قاله الغزالي.
ويقال: إن حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سد مجراه.
ومنها كما قال الغزالي في الإحياء: أن يقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم طهر قلبي من النفاق، وحصن فرجي من الفواحش (1) .
خاتمة: قال الترمذي الحكيم: إذا أتيت الخلاء فاعلم أنك تقصد الشيطان فاحذر من كيده، وأقل من إتيانه بقلة الطعام، وكن رجلاً مستحيياً من خالقك، مستحقراً لنفسك.
فقد قال الفضيل بن عياض: إني لأمقت نفسي من كثرة ترددي إلى الخلاء.
وغط نفسك حياءً من ربك، وامش متواضعاً متفكراً في نعم الله عليك، حين أطعمك وأسقاك، وأخرجه عنك حين أذاك، وقف على باب الخلاء وقل: اللهم اجعل دخولي عبرة، وأمط الأذى عني رحمة ترحمني بها، فعن أنس: «إن الشيطان يتباعد إذ ذاك» .
قال: ولا تبصق في بولك ولا على ما يخرج منك من العذرة، فقد روي أنه من فعل ذلك يبتلى بالوسوسة وصفرة الأسنان.
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/132) .
(2/322)
وعن عطاء أنه قال: «من بصق على ما يخرج منه بلي بالدم هو وأولاده أو أحد عقبه.
ولا يتمخط فعن أنس: «أنه يورث الصمم» .
ولا تقلب خاتمك مرة بعد أخرى فقد روي: أنه من فعل ذلك يأوي إليه الشيطان.
قال: وينبغي أن تقوم مولِّيا عما يخرج منك فقد روي: «أنه فيه شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها البرص والجذام» .
قال: واجتهد أن تجعل بينك وبين السماء سترة.
فعن الضحاك: «أن من فعل ذلك أمطرت عليه الرحمة من عنان السماء» .
قال: ولا تقتل قملة بل ادفنها.
فقد روى محمد بن أبي طالب أنه قال: «من قتل القمل وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان، ينسيه ذكر الله تعالى أربعين صباحاً» .
قال: ولا تلقي ما تستنجي به على رأس ما يخرج منك من بول وعذر؟
فعن مكحول: «أنه من فعل ذلك تدودت أسنانه، وغلبت عليه الرياح» .
ولا تقم حتى تشد سراويلك فعن قتادة: «أن من داوم على ذلك» أي: من قام قبل أن يشد سراويله «غلب الدم عليه حتى يكون موته منه» .
قال: ولا تغمض عينيك، فإن ذلك يورث النفاق في القلب، كما قاله الحسن.
قال: ولا تحمل الماء معك إلى الخلاء بيسارك.
فعن كعب: «أن ذلك فعل الشيطان ويفقد ثواب وضوءه» .
قال: ولا تضع يديك على صدغك، وتجعل رأسك بينهما.
فعن أويس القرني: «أن ذلك يورث قساوة القلب والبرص، ويذهب الرحمة والحياء» .
قال: ولا تسنده إلى حائط وغيره كفعل الجبابرة والشيطان، فإنه يذهب ماء الوجه وينفح البطن.
(2/323)
قَالَ البُخَارِي:
بَابٌ: لا تُسْتَقْبَلُ القِبْلَةُ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ إِلا عِنْدَ البِنَاءِ: جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ
حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ ... »
في هذا الإسناد من اللطائف أن رجاله كلهم مدنيون، وأبو أيوب الأنصاري صحابي جليل، واسمه: خالد بن زيد، ولكن غلبت عليه كنيته، وهو خزرجي أنصاري مدني، ثم شامي، شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن فضائله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة نزل عليه شهراً، حتى بنت مساكنه ومسجده - صلى الله عليه وسلم -.
وقدم مرة إلى البصرة وكان فيها ابن عباس ففرح به وقال له: إني أخرج من مسكني لك، كما خرجت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مسكنك، ولما رحل منها أعطاه عشرين ألفاً وأربعين عبد.
هو من نجباء الصحابة ومناقبه جمة، وكان مع علي في حروبه.
ومن فضائله: أنه خرج مرة للغزاة بالقسطنطينية فمرض فلما ثقل قال لأصحابه: احملوني فإذا صففتم العدو فارموني تحت أرجلكم.
قال ابن الملقن: قال الكرماني قال لأصحابه: إذا مت فاحملوني فإن صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم، ففعلوا فقبره قريب من سور بالقسطنطينية، معروف إلى اليوم وهم هناك يستقون به فيسقون، مات سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، روي له من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث.
« ... عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «فلا يستقبل» بكسر اللام لأن «لا» ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة.
قوله: «ولا يولها ظهره» : ولمسلم «ولا يستدبرها» وزاد «ببول أو بغائط» والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازاً من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام.
والظاهر من قوله «ببول» اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر: «إذا هرقنا الماء» . وقيل مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ: «لا تستقبلوا القبلة بفروجكم» ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعاً بين الروايتين والله أعلم. انظر فتح الباري (1/246) .
(2/324)
في هذا الحديث دلالة على أنه يحرم على الإنسان أن يستقبل لقبلة ببول أو غائط أو يستدبرها، فإن قوله: «فلا يستقبل القبلة» نهي، وكذا قوله: «ولا يولها ظهره» نهي أيضاً.
والأصل في النهي أن يكون للتحريم وهذا المسألة فيها أربعة مذاهب للعلماء:
الأول: التحريم مطلقاً في البنيان والصحراء وهو قول أبي أيوب الأنصارى، راوي الحديث، وحكي عن جماعة منهم أبو حنيفة، وهؤلاء حملوا النهي على العموم، وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة، فإن موضعها للصلاة وللدعاء والبر والخير.
الثاني: الجواز مطلقاً.
الثالث: تحريم الاستقبال دون تحريم الاستدبار.
الرابع: وهو قول إمامنا الشافعي وبه قال مالك وجمهور العلماء: أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان.
سؤال: فإن قيل: قوله في هذا الحديث: «فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره» يقتضي التحريم في الصحراء والبنيان؟
جوابه: أن إمامنا الشافعي حمله على الصحراء، وحمل غيره من الأحاديث الدالة على الجواز مطلقاً على البنيان، جمعاً بين الأخبار.
فائدة: إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرطين:
أحدهما: أن يستتر بشيء بينه وبين القبلة مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، كجدار أو حجر أو تراب أو إرخاء ذيل أو نحوه.
الثاني: أن يقرب منه على ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي، فإن كان الساتر أقل من ثلثي ذراع أو كان أكثر، ولكن بعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع فيحرمان حينئذ كالصحراء.
نعم إذا كان في الأخلية المعدة لقضاء الحاجة وإن بعد الساتر عنه، أو قصر من ثلثي ذراع فأكثر وقربه منه، لا حرمة فيه ولا كراهة ولا خلاف الأولى قاله النووي.
لأن الضرورة قد تدعو إلى توسيعه لوضع أواني الماء ونحوها، وإنما يحرمان بالصحراء إذا لم يكن بينها وبينه ساتر، فإذا استتر بمرتفع قدر ثلثى ذراع فأكثر، وقرب
(2/325)
منه على ثلاثة أذرع فأقل لم يحرم.
فائدة أخرى: إذا جاز للإنسان استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط بالشروط المذكورة في غير الأخلية المعدة لذلك فهل هو جائز مع الكراهة أو بلا كراهة؟
جزم الرافعي تبعاً للمتولي أن الكراهة موجودة.
واختار النووي أن الكراهة منتفية قال: لكن الأدب والأفضل الميل عن القبلة إذا أمكن بلا مشقة احتراماً لها.
فائدة أخرى: إذا قلنا بتحريم الاستقبال والاستدبار لفقد الشروط المذكورة، فيجب على قاضي الحاجة حينئذ إما أن يتوجه إلى ناحية الشرق، وإما إلى ناحية الغرب كما أشار إلى ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «شرقوا أو غربوا» .
فإن معنى شرقوا الالتفات إلى ناحية الشرق، وغربوا الالتفات إلى ناحية الغرب، ولقد أحسن من قال:
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
وينبغي أن يعلم أن وجوب التشريق والتغريب في حق من ليست قبلته في ناحية المشرق أو المغرب كأهل المدينة الشريفة وأهل الشام وغيرهما.
ويعلم ذلك من قوله في الحديث: «شرقوا أو غربوا» فإنه خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، أما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال.
فائدة أخرى: لو كانت الريح تهب عن يمين القبلة ويسارها، ولو بال لغير القبلة لرد الريح عليه البول جاز له في هذه الحالة أن يستقبل القبلة بالبول أو يستدبرها للضرورة قاله القفال.
فائدة أخرى: إذا قلنا لا يكره استقبال القبلة ولا استدبارها حال الاستنجاء ولا حال الجماع ولا حال إخراج الريح، فإن النهي عنهما إنما ورد في البول والغائط، وهذا لم يفعله.
(2/326)
فائدة أخرى: يكره استقبال الشمس والقمر وبيت المقدس واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء والبنيان إكراماً لها قاله صاحب الروض تبعاً للرافعى.
لكن نقل النووي في الروضة عن الجمهور: أن الكراهة في الشمس والقمر مخصوصة بالاستقبال فقط.
وقال في المجموع: هو الصحيح المشهور.
وأفاد بعض العلماء: أن استقبال القمر لا يكره إلا في وقت سلطنته وهو الليل، أما النهار فلا.
ثم سأل وقال: فإن قيل: ينبغي أن يكره استقباله مطلقاً لأن في حافتيه ملكاً؟
ثم أجاب: بأنا لو نظرنا إلى هذا لكره أن يستقبل زوجته، فإن معها الحفظة ولم يقل أحد به.
* * *
(2/327)
المجلس الثالث والأربعون
في بيان عنزة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكم حملها معه وبيان عصا موسى
وبيان توبة سحرة فرعون وعددهم وفوائد كثيرة
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الاسْتِنْجَاءِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِى مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُ الْخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً، يَسْتَنْجِى بِالْمَاءِ. تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ. الْعَنَزَةُ عَصاً عَلَيْهِ زُجٌّ (1) .
معنى الحديث أن أنس بن مالك خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد أن يدخل الخلاء ليقضي حاجته فيه أنه كان يحمل هو وغلام الإداوة
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «يدخل الخلاء» : المراد به هنا الفضاء لقوله في الرواية الأخرى «كان إذا خرج لحاجته» ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها.
وأيضا فإن الأخلية التي في البيوت كان خدمته فيها متعلقة بأهله.
وفهم بعضهم من تبويب البخاري أنها كانت تحمل ليستتر بها عند قضاء الحاجة، وفيه نظر لأن ضابط السترة في هذا ما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك.
نعم يحتمل أن يركزها أمامه ويضع عليها الثوب الساتر.
أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه.
أو تحمل لنبش الأرض الصلبة.
أو لمنع ما يعرض من هوام الأرض، لكونه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعد عند قضاء الحاجة.
أو تحمل لأنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، وهذا أظهر الأوجه.
وسيأتي التبويب على العنزة في سترة المصلي في الصلاة. واستدل البخاري بهذا الحديث على غسل البول كما سيأتي.
وفيه جواز استخدام الأحرار - خصوصا إذا أرصدوا لذلك - ليحصل لهم التمرن على التواضع.
وفيه أن في خدمة العالم شرفا للمتعلم، لكون أبي الدرداء مدح ابن مسعود بذلك.
وفيه حجة على ابن حبيب حيث منع الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم لأن ماء المدينة كان عذبا.
واستدل به بعضهم على استحباب التوضؤ من الأواني دون الأنهار والبرك، ولا يستقيم إلا لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد الأنهار والبرك فعدل عنها إلى الأواني. انظر فتح الباري (1/252) .
(2/328)
التي فيها الماء والعنزة لأجل أن يستنجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال العلماء: «الإداوة» بكسر الهمزة: إناء صغير من جلد يتخذ للماء كالسطحية ونحوها، وتجمع على «أداوى» والمراد بالغلام في هذا الحديث ونحوه: أبو هريرة قاله بعض العلماء.
وفيه أشكال وهو: أن الغلام الذي كان يحمل الإداوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار، بدليل ما جاء في بعض الروايات: فانطلقت أنا وغلام من الأنصار، فإن الأنصار كما تقدم لقب على الأوس والخزرج، وأبو هريرة ليس من القبيلتين بل هو دوسي يماني.
وجواب هذا الإشكال: أنه أطلق عليه أنصاري مجازاً كما قاله ابن حجر، فإن الأنصار حقيقة من كان من الأوس والخزرج، فإطلاقه على من ليس منهما مجازاً.
وهكذا يجاب عن كل من أطلق عليه بأنه من الأنصار وليس من القبيلتين كأبي بكر الصديق.
فإنه ورد في هذا الحديث الصحيح أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم ضرب وجهي رجل من أصحابك، فقال: «من؟» قال رجل: من الأنصار (1) .
قال العراقى: الضارب في هذا الحديث «أبو بكر» ، والمضروب «فيحاص بن عاذوراء» مع أن أبا بكر من المهاجرين لا من الأنصار، لكنه أطلق عليه بأنه منهم مجازاً كما قاله ابن حجر لوجود معنى النصر فيه، وأي ناصر من الصحابة كأبي بكر.
وقال شيخنا العلامة الشيخ محمد البازلي الكردي (2) : وجه تسمية أبي هريرة بأنه أنصاري لأنه نصر سيد الخلق بكثرة رواية الحديث.
قال: وأي نصرة أقوى من حمل الحديث وإظهاره على رؤوس الأشهاد، فهو نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلسانه بسبب كثرة الأحاديث التي رواها عنه، فإنه أكثر الصحابة رواية.
ويدل على أن ذلك يسمى نصرة وجهاد قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ? [التوبة: 73] أي: جاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بإظهار الحجة، وبيان المحجة باللسان، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قط ما جاهد منافقاً بالسيف بل باللسان.
_________
(1) أخرجه البخاري (2/850، رقم 2281) ، ومسلم (4/1845، رقم 2374) عن أبي سعيد الخدري.
(2) البازلي هو: محمد بن داود بن محمد البازلي، أبو عبد الله، شمس الدين، فاضل، من الشافعية. كردي الاصل، من العمادية. ولد في جزيرة ابن عمرو سنة: 845 هـ، وتعلم في أذربيجان، وأقام في حماة من سنة 895 إلى أن توفي سنة: 925 هـ، من كتبه: غاية المرام في رجال البخاري، وتقدمة العاجل لذخيرة الآجل، وحاشية على شرح جمع الجوامع للمحلي.
(2/329)
وها هنا إشكال آخر وهو: كيف أطلق أنس على أبي هريرة أنه غلام، والغلام يسمى به الصبي إلى بلوغه، وأبو هريرة لما أسلم كان عمره ثمان عشرة، أو تسع عشرة سنة.
وجواب هذا الإشكال أيضاً: أن الغلام يطلق على معان:
يطلق على الولد من حين يولد إلى أن يبلغ وليس مراداً هنا.
ويطلق على الذي طرَّ شاربه أي: نبت.
ويطلق على الكهل، كما قال ذلك صاحب القاموس وقال: إنه من الأضداد، أي: يطلق على الكبير والصغير.
وحينئذ يقال: إنما أطلق أنس الغلام على أبي هريرة لأنه كان إذ ذاك ابن ثمان عشر سنة، وذلك زمن ينبت فيه الشارب، غالباً ومن طر شاربه يسمى غلاماً كما تقدم.
ومما يدل على جواز إطلاق الغلام على من جاوز البلوغ، بل على الرجل الكامل المسن بما ورد في حديث المعراج أن موسى - صلى الله عليه وسلم - أطلق لفظ الغلام على نبينا - صلى الله عليه وسلم - فإنه لما مر على موسى بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمتة أكثر ممن أن دخلها من أمتي (1) .
وسنذكر في موضعه حكمة إطلاق الغلام على نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
«والعنزة» التي كانت تحمل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخلاء وغيره: عصا في أسفلها زج كزج الرمح، و «الزج» الحديد التي في أسفل الرمح، يعني السنان.
واختلف فيها هل كانت قصيرة أو طويلة؟
فقيل: إنها عصا مثل نصف الرمح.
وقيل: هو أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفيها زج.
قال الداودي (2) : «العنزة» : العكاز أو الرمح أو الحربة أو نحوها، يكون في أسفلها زج أو قرن.
فائدة: قال ابن الملقن: هذه العنزة أهداها النجاشى - صلى الله عليه وسلم - له.
وقال ابن سيد الناس: كانت للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة، فأخذها منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت تحمل معه إلى الخلاء، ويستصحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر
_________
(1) أخرجه البخاري (3/1410، رقم 3674) ، ومسلم (1/149، رقم 164) ، وابن حبان (1/236، رقم 48) عن أنس.
(2) الداودي هو: أحمد بن نصر، أبو حفص الداودي، فقيه مالكي، له كتاب: الأموال، في أحكام أموال المغانم والأراضي التي يتغلب عليها المسلمون، توفي سنة: 307 هـ.
(2/330)
وغيره.
فائدة أخرى: قد بقي من هذه العنزة قطعة في مكان في مصر يقال له: «الآثار» سمي بذلك لأن فيه شيئاً من آثار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشيخ برهان الدين المحدث: زرت الآثار مراراً، ورأيت فيه قطعة من هذه العنزة، ومعه المرود الذي كان يكتحل به - صلى الله عليه وسلم - والمخصف، وقطعة من القصعة، ومنقاشاً صغيراً وكأنه لإخراج الشوك من الرجل وغيرها، قال: واكتحلت بالمرود، وشربت من ماء وضعت فيه القطعة من العنزة، فهنيئاً لمن رأى آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبركاً به، فإن من رأها فكأنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد أحسن من قال:
يا عين إن بعد الحبيب وداره ... ونآت مرابعه وشط فراره
فلك الهنا فلقد ظفرت بطائل ... إن لم تريه فهذه آثاره
فائدة أخرى: الحكمة في استصحابة - صلى الله عليه وسلم - هذه العنزة إلى الخلاء هي: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد يأتي إلى أرض صلبة فيحفر بها تلك الأرض، ويلين ترابها ليبول في موضع لين كيلا يصيبه الرشاش.
وإنما كانت تحمل معه في السفر وغيره لأجل أن يصلي إليها في الفضاء، ويتقي بها الكافرين واليهود، فإنهم كانوا يريدون قتله واغتياله بكل حالة.
قال ابن رجب: هذه العنزة كانت تحمل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار وفي يومي العيدين، يصلي إليها حيث لم يكن هناك جدار يستتر به.
وجاء في الصحيحين عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر، وكان يحمل هذه ويمشي بها أمامه عبد الله بن مسعود (1) .
قال ابن رجب: كان عبد الله بن مسعود يلبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعليه ثم يمشي بالعصا أمامه، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه ثم مشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أجل هذا اتخذ الأمراء من يمشي أمامهم قاله ابن الملقن.
_________
(1) أخرجه البخاري (1/187، رقم 472) ، ومسلم (1/359، رقم 501) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (1/183، رقم 687) .
(2/331)
وذكر بعض العلماء للعصا فوائد كثيرة:
منها: دفع العدو.
ومنها: إتقاء السبع.
ومنها: نبش الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة خشية الرشاش.
ومنها: تعليق الأمتعة بها.
ومنها: التوكؤ عليه خصوصاً لمن كبر سنه وضعفت قوته.
ولله در القائل:
تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوسي
فامشى والعصا تمشي أمامي ... كأن قومها وترًا لقوسي
ومنها: السترة بها في الصلاة.
قال الله حكاية عن موسى - عليه السلام -: ?وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى? [طه: 18] .
وقيل للإمام الشافعي: مالك تدمن إمساك العصا؟ قال: حتى أتذكر أني مسافر.
وقال ابن عباس رضى الله عنهما: التوكؤ على العصا من أخلاق الأنبياء، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوكأ عليها ويأمر بالاتكاء عليها.
وجاء في حديث: «حمل العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء» (1) .
ومن خرج في سفر ومعه عصا من لوازمه: أمنه الله من كل سبع ضار، ولص عاد، ومن كل ذات حمة حتى يرجع إلى أهله ومنزله، وكان معه سبعة وسبعون من المعقبات، يستغفرون له حتى يرجع ويضعها قاله العلامي في تفسيره.
والمراد «بالمعقبات» : الملائكة.
و «بذات حمة» بضم المهملة: ذات السم كالحية والعقرب نقله البرماوي.
ونقل عن الحسن البصرى وغيره أنه قال: «في العكاز خمسة: سنة الأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون الضعفاء، ويهرب من صاحبها، ويخشع منه الفاجر، وتكون لصاحبها قبلة إذا صلى، وقوة إذا تعب» .
وورد في حديث أنه قال: «من بلغ أربعين سنة ولم يأخذ العصا عُدَّ له من الكبر
_________
(1) أخرجه الديلمى (2/147، رقم 2750) عن أنس.
(2/332)
والعجب» (1) .
فائدة: قال في الروض الفائق: قال بعض الصالحين: كنت في البادية فتقدمت القافلة فرأيت قدامي شخصاً، فسارعت حتى أدركته، فإذا هي امرأة بيدها عكاز، وهي تمشى على الهوينى، فظننت أنها أعييت، فأدخلت يدي في جيبي وأخرجت عشرين درهماً، فقلت: خذيها وامكثى حتى تلحقك القافلة فتكتري بها. ثم أتيني الليلة حتى أصلح أمرك، فقالت: بيدها في الهواء هكذا فإذا في كفها دنانير من الغيب فقالت: أنت أخذت الدراهم من الجيب، وأنا أخذت الدنانير من الغيب، ثم أخذت تقول:
كم نعمة لك في العبادة ومنة ... موجودة في ذاتها لا تعدم
كم آية لك في الخلائق والنهى ... مشهورة أسرارها لا تفهم
كم حالة حولتها فتحولت ... فينا بنا عما تريد فترحم
فائدة أخرى في بيان عصا موسى وما فيها من المآرب وما اتفق له فيها من المعجزات والعجائب:
قال العلماء من المفسرين وغيرهم: لما تزوج موسى بابنة شعيب وصار يرعى له الأغنام، أمر شعيب ابنته أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه، وكانت عصا الأنبياء عنده فوقع في يدها عصا آدم، فأمرها بردها وأخذ غيرها، ففعلت ذلك سبع مرات وما يقع في يدها إلا هذه العصا، فعلم أن لها شأناً عظيماً، وكانت من الجنة على قول أكثر العلماء، وكان طولها عشرة أذرع على طول موسى، حملها آدم معه من آس الجنة إلى الأرض، فتوارثها صاغر عن كابر إلى أن وصلت إلى شعيب، فأعطاها موسى.
واختلف العلماء في اسمها، فقيل: ماسا، وقيل: نفعة، وقيل: غياث، وقيل: عليق.
وأما صفتها: فقيل: كانت لها شعبتان ومحجن في أسفل الشعبتين وسنان حديد في أسفلها.
وأما المآرب التي كانت فيها فقد ذكر علماء التفسير وغيرهم:
أن موسى صلوات وسلامة عليه كان إذا دخل مغارة ليلاً ومعه العصا ولم يكن قمر تضيئ شعبتاها كالشعلتين من نار تضيئان له مد البصر في رأسها.
وكان إذا أعوزه الماء دلاها في البئر، فتمتد على قدر البئر ويصير في رأسها شبه
_________
(1) أورده العجلوني في كشف الخفاء (1/383) وبين أنه موضوع.
(2/333)
الدلو فيستقي بها.
وكان إذا احتاج إلى الطعام ضرب الأرض بها فتخرج ما يأكل يومه.
وكان إذا اشتهى فاكهة من الفواكه غرسها في الأرض فتخرج أغصان تلك الشجرة التي اشتهى موسى فاكهتها وأثمرت له من ساعتها.
وكان إذا قاتل عدوه يظهر على شعبتيها تنينان عظيمان.
وكان يضرب بها على الجبل الوعر المرتقى على الحمر وعلى الحجر والشوك فينفرج له.
وكان إذا أراد عبور نهر من الأنهار بلا سفينة، ضرب عليه بها فانفلق وصار له طريقاً يمر عليه.
وكان يشرب أحياناً من إحدى شعبتها العسل، ومن الآخر اللبن.
وكان إذا تعب في طريقه يركبها فتحمله إلى أي موضع شاء من غير ركض ولا تحريك رجل.
وكانت تدله على الطريق إذا أخطأ الطريق، وتقاتل أعداءه عنه.
وكان إذا احتاج موسى إلى الطيب يفوح منها الطيب حتى يتطيب ويطيب ثوبه.
وكان إذا مشى في طريق فيه لصوص يخاف الناس منهم كلمته العصا وتقول له: اذهب في طريق كذا ولا تذهب في طريق كذا.
وكان يهش بها على غنمه أي: يخبط بها ورق الشجر على غنمه فتأكله.
وكان يدفع بها السباع والحيات والحشرات.
وكان إذا سافر وضعها على عاتقه، وعلق عليها جهازه ومتاعه ومخلاته ومقلاعه وكساؤه وطعامه وشرابه.
وروي أن شعيباً قال لموسى: حين زوجه ابنته وسلم إليه أغنامه ليرعاها: اذهب بهذه الأغنام فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك، وإن كان الكلأ بها أكثر فإن هناك تنيناً عظيماً أخاف عليك وعلى الأغنام منه، فذهب موسى بالأغنام فلما بلغ مفرق الطريق فأخذت الأغنام ذات اليمين، فاجتهد موسى على ردها وصرفها ذات الشمال فلم تطعه، فطاوعها موسى ثم نام والأغنام ترعى، فإذا بالتنين قد جاء فقامت عصا موسى وحاربت التنين فقتلته، ورجعت فاستلقت إلى جنب موسى وهي دامية، فلما استيقظ موسى رأى العصا دامية والتنين مقتولاً فعلم أن تلك العصا قوة وعزاً وإن لها شاناً.
(2/334)
فهذه مآرب موسى في العصا إذا كانت بيده.
وأما إذا ألقاها فيروى: أنها كانت تنقلب حية كأعظم ما يكون من الثعابين سوداء مدلهمة تدب على أربع قوائم، فتصير شعبتاها فماً، فيه اثنتى عشر ناباً وضرساً، قيل: كان بين لحييها أربعون ذراعاً، لها صريف وصرير، يخرج منها لهب النار، وعيناها تلمعان كما يلمع البرق، يهب من فمها ريح السموم، لا تصيب شيئاً إلا أحرقته، تمر بالصخرة فتبتلعها، وتمر بالشجرة فتحطمها بأنيابها وتبتلعها، وتتلمظ وتتبرم كأنها تطلب شيئاً تأكله، وكانت في عظم الثعبان، وخفة الجان، ولين الحية، لذلك ذكرت في القرآن في مواضع قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى? [طه: 20] .
وقال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] .
وقال تعالى: ?كَأَنَّهَا جَانٌّ? [النمل: 10] .
قال الإمام فخر الدين الرازى في تفسيره الكبير في تفسير قوله تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] ما نصه: والثعبان الحية الضخمة الذكر في قول جميع أهل اللغة، ثم قال في وصف ذلك الثعبان يكون مبيناً وجوه:
الأول: تمييز ذلك عما جاء السحرة من التمويه الذي يلتبس على من لا يعرف سببه، وبذلك تتميز معجزات الأنبياء عن الحيل والتمويهات.
الثاني: المراد أنهم شاهدوا كونه حية ولم يشبه الأمر عليهم.
الثالث: المراد أن ذلك الثعبان أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب.
ومعنى الآية: أن فرعون لما طلب من موسى آية أي معجزة تدل على نبوته كما قال تعالى حكاية عنه: ?قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [الأعراف: 106] .
فالقى موسى عصاه في تلك الساعة فانقلبت ثعباناً عظيماً كما قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ? [الشعراء: 32] .
أي: حية عظيمة فاتحة فاها ما بين لحيها ثمانون ذراعاً ثم قامت على ذنبها، وشدت على فرعون لتبتلعه، فوثب فرعون عن سريره هارباً.
وقيل: إنها وضعت لحيها الأسفل على الأرض، والأعلى على سطح القصر الذي فيه فرعون فوثب فرعون هارباً وأحدث أي: أخذه الإسهال في ذلك اليوم أربعمائه مرة، ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى خذها فأومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا.
(2/335)
وأظهر لهم موسى معجزة أخرى وهي أنه أخرج يده من جيب جبته الصوف فغدا لها نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض، ويغلب نورها شعاع الشمس كما قال تعالى حكاية عنه: ?وَنَزَعَ يَدَهُ? [الأعراف: 108] أي: أخرجها، ?فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ? [الأعراف: 108] .
أي: فإذا هي بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن الاعادة تجتمع الناس للنظر إليه كما تجتمع للنظر في العجائب.
قال الرازى: ولما كان البياض كالعيب بين تعالى في غير هذه الآية أنه كان من غير سوء.
سؤال: فإن قيل: إن المعجزة الواحدة كانت كافية فما الحكمة في الجمع بينهما؟
جوابه: أن كثرة الدلائل توجب القوة في اليقين وزوال الشك.
قال الرازى: فلما أظهر موسى هذين النوعين من المعجزات قال قوم فرعون له: إن هذا يعنى موسى لساحر عليم بالسحر.
قال الرازى: وكان السحر غالباً في ذلك الزمان، وكانت مراتب السحرة متفاضلة متفاوتة، ومنهم من وصل فيه إلى غاية الكمال في ذلك العلم، فزعموا وظنوا أن موسى من السحرة، وأنه وصل إلى غاية الكمال من علم السحر، وأنه إنما أتى بذلك لكونه طالباً للملك والرياسة، وأنه يريد أن يخرجهم من أرضهم كما حكى الله ذلك عنهم بقوله: ?إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ? [الأعراف: 109، 110] .
ولم يظهر لهم أنه أمر إلهي، ثم قالوا له: اجمع السحرة من مدائن ملكك ليعارضوه في سحرة ويعطلوا سحره.
فائدة: قال الإمام الرازى: جعل الله تعالى معجزة كل نبي من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان.
فلما كان السحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته شبيهة بالسحر، وإن كانت مخالفة للسحر في الحقيقة.
ولما كان الطب غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطب.
ولما كانت الفصاحة غالبة على أهل زمان محمد - صلى الله عليه وسلم - لا جرم كانت معجزته من جنس الفصاحة.
ثم أرسل فرعون وجمع السحرة من مدائن الصعيد، وكانت سبع مدائن فاجتمعوا
(2/336)
عنده بالأسكندرية.
فائدة: اختلف العلماء في عدد السحرة:
فقيل: كانوا ثمانين ألفاً.
وقيل: سبعين ألفاً.
وقيل: بضعة وثلاثين ألفاً، وكانوا صفوفاً.
فقد ذكر بعضهم في تفسير قوله تعالى: ?ثُمَّ ائْتُوا صَفاًّ? [طه: 64] أنهم كانوا صفوفاً كل صف ألف.
فعلى القول الأول: كانوا ثمانين صفاً.
وعلى الثاني: سبعين صفاً.
وعلى الثالث: بضعة وثلاثين.
وكان متقدمهم شمعون أبو حنة فلما اجتمعوا قالوا لفرعون: أتجعل لنا جُعْلاً إن غلبنا موسى؟ فقال لهم: نعم لكم علي جُعْل وتصيرون عندي من المقربين في مجلسي، وأول من يدخل علي وآخر من يخرج، هذا معنى قوله تعالى: ?وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المُقَرَّبِينَ? [الشعراء: 41، 42] .
فلما أرادوا إلقاء سحرهم وإظهاره راعوا حسن الأدب مع سيدنا موسى، حيث لم يتقدموا عليه بل قالوا له كما قال الله تعالى حكاية عنهم: ?إِمَّا أَن تُلْقِيَ? [الأعراف: 115] أي: عصاك ?وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ المُلْقِينَ? [الأعراف: 115] أي: ما معنا من الحبال والعصي، وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا.
قال أهل التصوف: لما راعوا هذا الأدب رزقهم الله الإيمان.
وقال لهم موسى عليه - عليه السلام -: ألقوا ما أنتم ملقون.
وهنا سؤال: وهو كيف أمرهم موسى بإلقاء حبالهم وعصيهم، وفي الإلقاء معارضة للمعجزة بالسحر، وذلك كفر والأمر بالكفر كفر.
وجوابه: أنه - عليه السلام - كان يريد إبطال ما أتوا به من السحر، وإبطاله ما كان ليمكن إلا بإقدامهم على إظهاره، فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ويمكنه الإقدام على إبطاله قاله الرازى.
فلما ألقوا أي: حبالهم وعصيهم وكانت حبالاً غلاظاً، وخشباً طوالاً سحروا أعين
(2/337)
الناس واسترهبوهم أي: قلبوها عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات.
وقيل: إنهم لطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصا، أثر تسخين الشمس فيها تحركت وصارت حيات كأمثال الجبال، فملأت الوادي، وركب بعضها بعضاً.
قيل: ملأت ميلاً في ميل من الأرض.
وأفاد الإمام الرازى: أن تلك الحبال والعصا كانت حمل ثلاثمائه بعير.
ووصف الله سحرهم بأنه عظيم كما قال الله تعالى: ?وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ? [الأعراف: 116] .
قال الرازى: روي أن السحرة قالوا: لقد علمنا سحر لا يطيق سحرة أهل الأرض، إلا أن يكون من أهل السماء، فإنه لاطاقة لنا به، وحصل للعوام من تلك الحيات خوف عظيم.
ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن ألق عصاك فألقاها فصارت حية عظيمة، حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعاً، وصارت تبتلع حبالهم وعصيهم واحداً بعد واحد حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا، فوقع الزحام عليهم فهلك منهم في الزحام خمسة وعشرون ألف، ثم أخذها موسى فصارت عصا.
فقالت السحرة: لو كان ما يصنع موسى سحراً لبقيت حبالنا وعصينا، فلما نفدت علموا أن ذلك من أمر الله كما قال تعالى: ?فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ? [الأعراف: 117] أي: تبتلع ما يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزدرونه.
?فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون? [الأعراف: 118] .
سؤال: فإن قيل: تلك الحبال والعصي أين ذهبت؟
جوابه: يحتمل أن الله أعدمها، ويحتمل أن الله تعالى فرق بينها بين تلك الأجزاء وجعلها ذات غير محسوسة، وأذابها في الهواء، وعلى كلا الاحتمالين فلا يقدر على هذه الحالة أحد إلا الله سبحانه وتعالى.
وقال بعض العلماء: كان كبير السحرة رجلاً أعمى فقال لهم: أرى موسى يقدم علينا مع كثرتنا، وما ذاك بقوته وأخاف أن يكون الأمر سماوياً، فاحترموه وعظموه، فإن غلبناه فلا يضر بنا ذلك، وإن غلبنا فنكون قد قدمنا للصلح مقدمة فيكون شفيعاً لنا عند ربه، قالوا: وكيف نحترمه قال: نستأذنه ونقول له: إما أن نلقي وإما أن تكون أول من ألقى، فلما قالوا له ذلك وأحسنوا معه الأدب، كان سببا لسعادتهم، فضحك
(2/338)
موسى فقال له هارون: أتضحك مع كثرتهم، فقال: شممت منهم رائحة الإيمان، فلما قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى سمع قائلاً يقول: ألقوا يا أولياء الله فعند ذلك أوجس في نفسه خيفته موسى، لأن أولياء الله لا يغلبهم أحد فلما غلبهم موسى سجدوا لربهم، وقالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهرون فرأوا في سجودهم منازلهم في الجنة، ثم إن السحرة لما تحققوا أن ما فعلته عصا موسى خارج عن السحر، وأنه أمر إلهي، فإنهم وصلوا إلى منتهى السحر، ورأوا معجزة موسى ليست من السحر بل من عند إله قادر قاهر، خروا سجداً لله تعالى كما قال تعالى: ?وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ? [الأعراف: 120، 121، 122] .
وإنما قالوا: ?رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ? لأنهم لما سجدوا وقالوا: آمنا برب العالمين. قال لهم فرعون: إياي تعنون؟ فقالوا: رب موسى وهارون. ?قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ? [الأعراف: 123 - 126] .
قال الرازى: واختلفوا في أنه هل قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم أم لا؟
فنقل عن ابن عباس أنه فعل ذلك قال: وهو الأظهر.
ونقل عن آخرين: أنه لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله لهم الدعاء في قولهم: ?وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ? [الأعراف: 126] لأنهم سألوه تعالى أن تكون وفاتهم من جهته لا لهذا القتل والقطع.
وقال الكلبى: إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم، ومعنى القطع من خلاف أنه قطع من كل شق عضواً خلاف ما قطعة من الآخر، كاليد اليمنى والرجل اليسرى، أو اليد اليسرى والرجل اليمنى، وهو أول من قطع من خلاف وصلب.
فهؤلاء السحرة خلقهم الله تعالى لجنته لا لخدمته، فإنهم عاشوا في الدنيا كفاراً ثم ختم لهم بالإيمان.
كانوا أول النهار يحلفون بعزة فرعون أنهم غالبون، ثم بعد ساعة يحلفون بالله تعالى
(2/339)
ويقولون: ?وَالَّذِي فَطَرَنَا? [طه: 72] .
كانوا يطلبون الجزاء من فرعون ويقولون ?إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ? [الأعراف: 113] ثم بعد ساعة يقولون: ?لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ? الدالة على صدق موسى ?وَالَّذِي فَطَرَنَا? أي: وحق الذي خلقنا ?فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا? [طه: 72] أي: اصنع بنا ما قلته من القطع والصلب في هذه الدنيا فإنما تصنع شيئاً في الدنيا وستجازى عليه في الآخرة ?إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا? [طه: 73] أي: الإشراك وغيره، ويغفر لنا ?وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه: 73] أي: خير منك ثواباً إذا أطيع، وأبقى منك عذابا إذا عصي.
واستدل العلماء بحمل أنس - رضي الله عنه - والغلام الذي معه الإدواة التي فيها الماء والعنزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أنه يستحب للإنسان خدمه الصالحين، وأهل الفضل، والتبرك بذلك، وتفقد حاجاتهم، خصوصاً المتعلق بالطهارة.
وعلى أنه يجوز للرجل الفاضل أن يستخدم بعض أتباعه الأحرار ويستعين بهم فيما يتعلق بالطهارة وغيرها، خصوصاً إذا علم منهم أنهم يرصدون بذلك ويتمنونه، وأنهم يحصل لهم الشرف بذلك.
وقد اختلف العلماء في مسألة مناسبة لهذا وهي: أنه هل يجوز للإنسان أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه؟
فقال الروياني من الشافعية: يجوز ذلك، وقيل: لا يجوز لأن ذلك هبة لمنافعه وذلك لا يجوز، كما لا يجوز إعارة ماله.
وحمل النووي قوله على خدمة تقابل بأجرة، أما ما كان لا يقابل بها فالظاهر والذي يقتضيه أفعال السلف جوازه، إذا لم يضر بالصبي.
وقال بعض المتأخرين: إنما يتمتع إعارة الصبي ليمنع غيره ليخدم من يتعلم به منه إذا انتفت المصلحة، أما إذا وجدت كما لو قال لولده الصغير: اخدم هذا الرجل في كذا ليتمرن على التواضع ومكارم الأخلاق فلا مانع منه، قال ابن الملقن: وهذا حسن بالغ (انتهى) .
* * *
(2/340)
المجلس الرابع والأربعون
في بيان فوائد متعلق بالاستنجاء بالحجر وغيره
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ الاسْتِنذْجَاءُ بِالحِجَارَةِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّىُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّىُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: «ابْغِنِى أَحْجَاراً أَسْتَنْفِضْ بِهَا -أَوْ نَحْوَهُ- وَلاَ تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ» . فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «اتبعت» : أي سرت وراءه.
والواو في قوله «وخرج» حالية.
وفي قوله «وكان» استئنافية.
قوله: «فدنوت منه» : زاد الإسماعيلي «أستأنس وأتنحنح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة» .
قوله: «أبغني» : بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي: طلبته لك. وفي رواية بالقطع أي: أعني على الطلب، يقال: أبغيتك الشيء أي: أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني.
قوله: «أستنفض» : قال القزاز: قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال: وهذا موضع استنظف، أي: بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي. انتهى.
والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجي، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال: الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف. انتهى.
ووقع في رواية الإسماعيلى «أستنجي» : بدل «أستنفض» وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته.
قوله: «ولا تأتني» : كأنه - صلى الله عليه وسلم - خشى أن يفهم أبو هريرة من قوله أستنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصاً بالأحجار -كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية- لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معني، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها.
وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له - صلى الله عليه وسلم - لما فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: هما من طعام الجن. والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما.
نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياساً من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم.
ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجساً ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجاً فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس.
ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجي بروث أو بعظم، وقال: «إنهما لا يطهران» . وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهياً عنه.
قوله: «وأعرضت» : كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني «واعترضت» بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب.
قوله: «فلما قضى» : أي حاجته.
قوله: «أتبعه» بهمزة قطع أي ألحقه، وكنى بذلك عن الاستنجاء.
وفي الحديث: جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك.
واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. والله تعالى أعلم. انظر فتح الباري (1/255) .
(2/341)
أي: مشيت خلفه، ويجوز «اتبعته» أي: لحقته.
قال في المحكم: «تبع واتبع وأتبع» بمعنى واحد.
قال في التنزيل: ?أَتْبَعَ سَبَباً? [الكهف: 89] أي: تبع.
قوله: «فدنوت منه فقال: ابغني أحجاراً» أي: قال أبو هريرة فدنوت من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: لأستأنس به وانظر حاجته.
وجاء في رواية: فدنوت منه استأنس وأتتنحنح فقال: «من هذا؟» فقلت: أبو هريرة، فقال: «ابغني أحجار استنفض بها» .
أفاد الكرمانى: أنه يجوز أن تكون همزة «أبغني» همزة وصل، والفعل ثلاثي مجرد، والمعنى: اطلب لي أحجار أستنفض بها أي: أستنظف بها أي: انظف نفسي بها من الحدث.
وأن تكون همزة قطع والفعل مزيد ومعناه: أعني على الطلب.
واعلم أن ها هنا فوائد نافعة متعلقة بالاستنجاء مستفاداً بعضها من هذا الحديث:
الأولى: اختلف العلماء رضى الله عنهم في الاستنجاء هل هو واجب أو مستحب؟
(2/342)
فذهب الإمام مالك والكوفيون إلى أنه سنة.
وذهب إمامنا الشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء إلى أنه واجب وشرط لصحة الصلاة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن النجاسة إن كانت أقل من الدرهم فالاستنجاء يكون سنة، وإن كانت مقدار الدرهم فالاستنجاء يكون واجباً، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم فالاستنجاء يكون فريضة.
الثانية: الاستطابة والاستنجاء والاستجمار بمعنى إزالة الأذى أي: الخارج.
لكن الاستجمار لا يكون إلا بالأحجار مأخوذ من الجمار، وهي: الأحجار الصغار.
والاستنجاء والاستطابة يكونان بالماء والحجر، وسمى الاستنجاء بالاستطابة لطيب نفس المستنجي بخروج الخارج عنه.
و «الاستنجاء» مأخوذ من نجوت الشجرة إذا قطعتها، فقيل لهذا الفعل استنجاء لحصول قطع الذي عنه به، وقيل لغير ذلك.
الثالثة: يحوز الاستنجاء قبل الوضوء وبعده، وإذا استنجأ بعده لف على يده خرقة لئلا ينتقض وضوءه ونظف المحل وصلى، بخلاف التيمم، فإنه لابد من تقديم الاستنجاء عليه، ولا يصح قبله لأنه طهارة ضرورة، بل لا يصح التيمم وعلى البدن نجاسة في أي موضع كانت حتى يزيلها.
نعم لنا وضوء لا يصح تقديمه على الاستنجاء، وبعبارة أخرى وهي المناسبة لنا استنجاء لابد من تقديمه على الوضوء وصورته في وضوء دائم الحدث.
الرابعة: الاستنجاء واجب عند إرادة القيام إلى الصلاة لا على الفور، كما أفاد القاضي زكريا في شرح الروض تبعاً للأسنوى وغيره، وإنما يجب بخروج الخارج الملوث سواء كان معتاداً كالبول والغائط، أو نادراً كالدم والمذي والودي.
فلا يجب بخروج دود ونحوه، ولا بخروج بعر لا يلوث لعدم النجاسة، نعم يستحب الاستنجاء من ذلك خروجاً من خلاف من أوجبه.
ولا يجب من خروج ريح بالإجماع ولو كان المحل رطباً، بل لا يستحب بل هو مكروه بل بدعة يأثم فاعله كما قال النووي.
فائدة: يستثنى من الملوث المني فإنه لا يوجب الاستنجاء لعدم نجاسته، ولا يجب أيضاً من الاستيقاظ من النوم، فإذا نام الإنسان مستنجياً ثم استيقظ لا يجب عليه إعادة
(2/343)
الاستنجاء، وبعض العوام يعتقد وجوبه وهو خطأ.
الخامسة: يجزئ الاستنجاء بالماء وحده وبثلاثة أحجار وحدها.
أما إجزاءه بالماء فلأنه الأصل في إزالة النجاسة.
وأما إجزاءه بثلاثة أحجار وحدها فلأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله كما رواه البخاري في هذا الحديث، وأمر بفعله بقوله فيما رواه الشافعي وغيره: «ويستنج بثلاثة أحجار» (1) وعدها.
وفيما رواه أبو داود وغيره: «إذا ذهب أحدكم إلى لغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإن يجزئ عنه» (2) .
فائدة: أفاد بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستنج بالماء إلا مرتين أو ثلاثة مرات، بل كان يستنجي غالباً بالأحجار.
فائدة أخرى: يجزئ الاستنجاء بماء زمزم ولكن مع الكراهة.
وكذا يجزئ الاستنجاء بحجارة الذهب والفضة والجوهر على الأصح.
وأما حجارة الحرم فإنه لا يجوز الاستنجاء بها لحرمتها، فإن استنجأ بها أساء وأجزأ.
وكذا المطبوع من الذهب والفضة قاله الماوردي والروياني.
قال العلماء: وإذا أراد استعمال الأحجار وحدها، فالواجب عليه أن يمسح ثلاث مسحات إما بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أطراف، ولا يكفي أقل من ثلاث مسحات، ولو حصل الإنقاء بمسحة واحدة لخبر مسلم عن سلمان - رضي الله عنه - «نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستنجي بأقل من ثلاث أحجار» (3) وفي معناها ثلاثة أطراف لحجر.
قالوا: ولو مسح ذكره مرتين ثم خرجت منه قطرة وجب أن يأتي بثلاث، لبطلان
_________
(1) أخرجه الشافعي (1/13) ، وابن حبان (4/288، رقم 1440) ، والبيهقي (1/91، رقم 435) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود (1/10، رقم 40) ، والنسائي (1/41، رقم 44) ، والدارقطني (1/54) وقال: إسناده صحيح. والدارمي (1/180، رقم 670) ، وأبو يعلى (7/340، رقم 4376) ، وأحمد (6/133، رقم 25056) ، والبيهقي (1/103، رقم 503) عن عائشة.
(3) أخرجه مسلم (1/223، رقم 262) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/3، رقم 7) ، والترمذي (1/24، رقم 16) وقال: حسن صحيح.
(2/344)
المسح الأول بخروج القطرة، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاث وجب الزيادة عليها إلى أن يحصل الإنقاء، فإن نقي برابعة يسن له أن يزيد أخرى لتصير خمسة، فإن الإيتار (1) سنة وإن انقى بسادسة يستحب سابعة.
قال النبي: «من استجمر فليوتر» متفق عليه (2) .
فائدة: إذا استعمل حجراً ثم غسله وجف جاز له استعماله ثانياً، ولو استعمل حجراً في المرة الثانية ولم يتلوث جاز استعماله أيضاً بلا كراهة، بخلاف ما إذا رمى حجراً في الجمار ثم أخذه ورمى به ثانياً وهكذا إلى السابع، فإنه وإن جاز لكن مع الكراهة، فإنه ورد: «أن ما تقبل من الحصيات رفع وما لا ترك» .
السادسة: قال العلماء: لا يتعين الحجر للاستنجاء بغير الماء، بل يقوم مقامه كل جامد طاهر قالع غير محترم كالخشب والخزف والحشيش لحصول الغرض به كالحجر.
سؤال: فإن قيل: الوارد في الحديث إنما هو ذكر الحجارة لا غيرها، فكيف يقوم غيرها مقامها؟
جوابة: أنه إنما جرى ذكر الحجارة في الأحاديث ونسب الحكم إليها كقوله: «فليستنج بثلاثة أحجار» كما تقدم لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجأ بها وجوداً وأقربها تناولاً، لأنها كانت تتناول بلا مشقة فيها ولا كلفة في تحصلها.
فقولهم في ضابط ما يقوم مقام الحجر: «كل جامد» احترزوا به عن المائع غير الماء الطهور كماء الورد ونحوه، فلو استنجأ بماء الورد مثلاً لم يكف وتعين استعمال الماء بعده ولا يكفي الحجر.
واحترزوا «بالجامد» أيضاً: عن الحجر المبلول، فإنه لا يصح الاستنجاء به، لأن البلل الذي عليه يتنجس بملاقاة النجاسة إياه، ويعود بعضه إلى المحل فيحصل عليه نجاسة أجنبية.
_________
(1) أي يكون عدد المسحات وتراً فتكون ثلاث مسحات أو خمس أو سبع وهاكذا.
(2) أخرجه البخاري (1/71، رقم 159) ، ومسلم (1/212، رقم 237) . وأخرجه أيضاً النسائي (1/66، رقم 88) ، وابن ماجه (1/143، رقم 409) ، ومالك (1/19، رقم 34) ، وأحمد (2/518، رقم 10729) ، وابن حبان (4/286، رقم 1438) ، وإسحاق بن راهويه (1/454، رقم 527) ، وأبو عوانة (1/208، رقم 673) ، والطيراني في الأوسط (2/363، رقم 2238) ، والبيهقي (1/51، رقم 238) عن أبي هريرة.
(2/345)
واحترزوا «بطاهر» عن النجس والمتنجس كالروث الجامد والحجر المتنجس ونحوهما فلا يكفي الاستنجاء بذلك.
واحترزوا «بقالع» عما لا يقلع النجاسة لملاسته كالقصب والزجاج، أو للزوجته أو لتناثر أجزائه كالفحم الرخو أو التراب المتناثر فلا يكفي الاستنجاء به، أما إذا كان الفحم والتراب صلبين فإنه يكفي الاستنجاء بها.
واحترزوا «بغير محترم» عن الجامد المحترم كأوراق كتب العلم، سواء كان شرعياً كالفقة والحديث أم لم يكن، كالنجوم والعروض فالاستنجاء بها حرام ولا يجزئه، بخلاف أوراق علم المنطق والفلسفة والإنجيل المبدل فإنها إذا لم يكن اسم الله تعالى فيها فهي غير محترمة فيجوز الاستنجاء بها ويجزئه.
ومن المحترم الذي لا يجوز الاستنجاء به ولا يجزئه مطعوم الآدمي كالخبز، ومطعوم الجن كالعظم.
وقد دل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة - رضي الله عنه - في هذا الحديث الذي ساقه البخاري هنا: «أبغني أحجاراً ولا تأتني بعظم ولا روث» على أن الاستنجاء بالروث وبالعظم لا يجوز.
أما العظم فالحكمة في النهي عن الاستنجاء به أنه زاد إخواننا من الجن.
وأما الروث فقيل: نهى عنه إما لأنه نجس لا يزيل النجاسة بل يزيدها، وفي المثل: «ليت الفحل يهضم نفسه» ، وإما لأنه طعام دوآب الجن.
قال الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة: «إن الجن سألوه هدية منه - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوآبهم» .
فإذًا لا يستنجى بهما، وإما لأنه طعام الجن أنفسهم فإن الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنسان.
وقال بعضهم: إن صنفاً منهم يأكلون ويشربون، وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول ساقط.
وقال بعضهم: أكلهم وشربهم عبارة عن شم واستنشاق رائحة لا مضغ ولا بلع، وإلى هذا القول ذهب الغزالي، وهذا قول لا دليل عليه.
وأكثر العلماء على أن أكلهم وشربهم كالإنسان مضغ وبلع، وقد دلت الأخبار على ذلك منها قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث لأبى هريرة: «ولا تأتني بعظم ولا روث» .
وجاء في رواية في هذا الصحيح أن أبا هريرة قال للنبى - صلى الله عليه وسلم -: ما بال الروث والعظم؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن،
(2/346)
فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً» (1) .
وروى أبو عبد الله الحاكم في الدلائل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود ليلة ذهابه لجن نصيبين: «الجن أولئك جن نصيبين جاؤني فسألوني الزاد فمتعتهم بالعظم والروث» فقال: وما يغني منهم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان فيه يوم أكله» (2) .
ونبه - صلى الله عليه وسلم - بذكر العظم على أنه لا يجوز الاستنجاء بجميع المطعومات، ولا بجميع المحترمات قاله ابن الملقن.
نعم لنا شيء محترم ويجوز الاستنجاء به وهو ماء زمزم، فإنه محترم ولو استنجأ به أجزأ.
فائدة: لو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم ففي جواز الاستنجاء به وجهان:
أحدهما: يجوز لأن النار أحالته.
والثاني: لا يجوز.
وأصحهما: أنه لا يجوز لعموم النهي عن أرمة وهي العظم البالي، فإنه لا فرق في البلى بين أن يكون بالنار أو بمرور الزمان قاله ابن الملقن في شرح هذا الحديث، والقاضى زكريا في شرح الروض.
ثم قال القاضي: وإنما لم يجز إذا أحرق كالجلد إذا دبغ لأنه بالإحراق لم يخرج عن كونه مطعوماً بخلاف الجلد إذا دبغ.
فائدة أخرى: قال الأذرعي في «الوسيط» : يحرم أن يبول على ما يحرم الاستنجاء به كعظم المذكى ونحوه، وتبعه القاضي في شرح الروض.
السابعة: يشترط لإجزاء الاستنجاء بالحجر ونحوه شروط:
الأول: أن لا يجف النجس الخارج، فإن جف تعين الماء، لأنه إذا جف لا يزيله
_________
(1) أخرجه البخاري (3/1401، رقم 3647) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/107، رقم 524) عن أبي هريرة.
(2) أورده ابن كثير في تفسيره (4/169) وقال: رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم.
(2/347)
الحجر.
الثاني: أنه لا ينتقل النجس عن الموضع الذي أصابه عند الخروج واستقر فيه، فإن انتقل تعين الماء، وإن لم يجاوز صفحته وحشفته، كان المحل قد طرأ عليه نجاسة لا بسبب الخروج.
الثالث: أن لا يطرأ على المحل المتنجس بالخارج نجس أجنبي، فإن طرأ عليه نجس أجنبي، كما لو استنجى بنجس أو عاد على المحل شيء من رشاش بوله الخارج منه تعين الماء.
الرابع: أن لا ينقطع النجس الخارج، فإن انقطع بعد خروجه متصلاً تعين الماء في المتقطع، وإن كان في باطن الإليتين، والمتصل بالمخرج يكفي فيه الحجر.
الخامس: أن لا يجاوز الخارج النجس حشفته وصفحته، فإن جاوزهما متصلاً تعين الماء في المتقطع الداخل والخارج، فإن تقطع أي: صار بعضه باطن الإلية وبعضه خارجها تعين الماء في المتقطع، وكفى الحجر في غيره.
فائدة: لنا صورة جف فيها الخارج النجس ويكفي فيها الحجر، وهي ما إذا جف بوله الخارج ثم بال ثانياً، فوصل بوله إلى ما وصل إليه بوله الأول، فيكفي فيه الحجر، قاله القاضي والقفال، وكذا في الغائط إن كان مائعاً.
الثامنة: في مسائل شتى تستحب في الاستنجاء بين الماء والحجر:
المسألة الأولى: قال النووي وغيره: يستحب أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر بأن يقدم الحجر أولاً ثم الماء بعده، لأن الحجر يزيل العين والماء يزيل الأثر، فإن قدم الماء لم يستحب الحجر بعده، فإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يزيل العين والأثر.
المسألة الثانية: قال النووي والحليمى: يستحب في الاستنجاء بالماء أن يبدأ بقبله قبل دبره، وفي الاستنجاء بالحجر أن يبدأ بدبره قبل قبله، والحكمة في تقديم الدبر بالحجر أن النجس الأغلظ أهم والبدأة بالأهم أولى، أو أنه قد ينزل منه بول فلا يحتاج إلى إعادة الاستنجاء منه إذا بدأ بالدبر.
لكن أطلق ابن الملقن في الروض القول باستحباب تقديم القبل.
قال المحب الطبرى: ويسن النظر إلى الحجر المستنجى به قبل رميه ليعلم هل قلع أم لا.
المسألة الثالثة: في كيفية الاستنجاء بالحجر في الدبر.
(2/348)
قال العلماء: المستحب والأفضل أن يضع الحجر أولاً على مقدم الصفحة اليمنى، على محل طاهر قرب النجاسة، ثم يمرره على المحل ويديره قليلاً حتى يرفع كل جزء منه جزءاً منها، إلى أن يصل إلى المبدأ، وأن يضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى مثل ما تقدم، وأن يمر الثالث على الصفحتين والمسربة.
وقيل: الأفضل أن يجعل واحد للصفحة اليمنى وآخر لليسرى والثالث للوسط.
وقيل: الأفضل واحد للوسط مقبلاً وآخر له مدبراً ويحلق بالثالث.
ولابد في كل قول أن يعم بكل مسحة جميع المحل ليصدق أنه مسح جميع المحل ثلاث مسحات.
المسألة الرابعة: يستحب أن يستنجي بيساره، سواء استنجى بالماء أو بالحجر أو بهما، لأنها الأليق بذلك، ولأنه ورد في خبر لأبي داود عن عائشة رضى الله عنها: «كانت اليد اليمنى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطهوره وطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (1) .
وقد ورد النهي عن الاستنجاء باليمين.
وقال جمع: لا يجوز باليمين لصريح النهي وأولَّه النووي على أنه ليس مباحاً مستوى الطرفين بل مكروه.
ويستحب أن يحمل أحجار الاستنجاء بيساره، وإذا استنجى بالماء يغسل باليسرى ويصب باليمنى.
ويستحب إذا أراد مسح الذكر من البول على جدار أو حجر عظيم أو نحوهما أن يمسك ذكره بيساره، وأن يمسحه على ثلاثة مواضع قاله في الروضة.
وقال المتولى في كيفية المسح على الجدار أو نحوه: طريقته أن يقرب ذكره منه ويضعه عليها وضعاً من غير مسح، حتى تنتقل الرطوبة إليه، قال: لأن المسح ينشر البول على المحل، ثم يضع ذلك ثانياً ثم يمسح الذكر في الثالثة، قلت: فلا يخشى انتشارها.
قال الأذرعي: وهو حسن وإن لم يتعرض له الجمهور، لأنه لا كلفة فيه بخلاف الأول.
وإذا أراد أن يستنجي بحجر صغير فالسنة أن يجعله بين عقبيه أو بين إبهامي رجليه
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/9، رقم 33) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/113، رقم 547) .
(2/349)
أو يتحامل عليه إن أمكنه، ويكون الذكر في يساره ويمسح بها، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك واضطر إلى إمساك الحجر بيده أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى وحرك اليسار وحدها فإن حرك اليمين أو حركهما جميعاً كره، لأنه يكون مستنجياً باليمنى.
وإنما لم يضع الحجر في يساره والذكر في يمينه لأن مس الذكر بها مكروه، ولخبر الصحيحين: «إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه» (1) .
ويستحب للمستنجي بماء أن يدلك يده بالأرض أو نحوها بعد الاستنجاء ثم يغسلها.
وأن ينضح بعده أيضاً فرجه وإزاره من داخله دفعاً للوسواس.
وأن يعتمد على غسل الدبر على أصبعه الوسطى من يسراه إن أمكن، ولا يتعرض للباطن لأنه منبع الوسواس، فإن استعمل الماء فغلب على ظنه زوال النجاسة كفى ذلك في إزالتها، ولا يضر شم ريحها من يده بعد ذلك، فإن ذلك لا يدل على بقائها على المحل وإن حكمنا على يده بالنجاسة وعلته: أن المحل قد خفف فيه في الاستنجاء بالحجر، فخفف فيه هنا.
وقول أبي هريرة: «اتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج لحاجته فكان لا يلتفت» أي: من عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى لا يلتفت، وهذا يدل على أمنه - صلى الله عليه وسلم - وعدم خوفه من أحد من خلق الله، لأن الله تعالى عصمه وكفاه شر من أراده بسوء، وقد نطق بذلك القرآن الكريم والحديث.
قال الله تعالى: ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? [الطور: 48] .
وقال: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمو: 36] أي: بكاف محمداً أعداءه المشركين.
وقال: ?إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ? [الحجر: 95] .
وقال: ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية:
_________
(1) أخرجه البخاري (1/69، رقم 153) ، ومسلم (1/225، رقم 267) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/8، رقم 31) ، والترمذي (1/23، رقم 15) ، والنسائي (1/25، رقم 24) ، وابن ماجه (1/113، رقم 310) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 68) ، وابن حبان (4/283، رقم 1434) ، وأحمد (4/383، رقم 19438) ، والدارمي (2/161، رقم 2122) عن أبي قتادة.
(2/350)
فقيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام إلا بحرس، حتى نزلت هذه الآية، فأخرج - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم: «أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمنى ربي - عز وجل -» (1) .
وقيل: سبب نزولها ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابى أي: بعد ما نام تحت الشجرة فاخترط سيفه قال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» فارتعدت يد الأعرابى، وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى سأل دماغه فنزلت هذه الآية (2) .
وهذا الأعرابي اسمه: «غورث بن الحارث» كما ورد في ذلك الصحيح، وعفا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
وقيل: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخاف قريشاً فلما نزلت هذه الآية استلقى ثم قال: «من شاء فليخذلني» (3) .
وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غطفان نزل تحت شجرة فأتاه رجل اسمه: «دعثور بن الحارث» فاخترط سيفه فقال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» ، فسقط السيف من يده، فأسلم فلما رجع إلى قومه وكان سيدهم وأشجعهم فقالوا: أين ما كنت تقول إن أمكنني وقد أمكنك، فقال: إني نظرت إلى رجلٍ أبيضٍ دفع في صدري، فوقعت لظهري وسقط السيف، فعرفت أنه ملك فأسلمت، ونزل في ذلك كما قيل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ? [المائدة: 11] (4) .
ومما يدل على عصمته وحفظه من أعداءه ما ذكره عبد بن حميد قال: كانت حمالة الحطب وهي زوجة أبي لهب تضع «الغضاة» وهي جمر النار على طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يطاؤها ولا يصيبه شيء.
وذكر ابن اسحاق عنها أنها لما بلغها ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ? [المسد: 1]
_________
(1) أخرجه الترمذي (5/251، رقم 3046) وقال: غريب. والحاكم (2/342، رقم 3221) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (9/8، رقم 17508) عن عائشة.
(2) انظر: تفسير الطبري (6/308) . والقصة متفق عليها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله.
(3) انظر: تفسير الطبري (6/308) .
(4) القصة بنحوها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله.
(2/351)
وذكرها بما ذكره الله مع زوجها من الذم، أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من الحجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر، وأخذ الله ببصرها عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر فاه (1) .
فمن عصمه من الأعرابى والسيف في يده، ومن ضرر جمر النار، ومن الفهر الذي في يد حمالة الحطب إلا الله، فلهذا كان لا يلتفت في مشيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومما ورد في عصمته ما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن أبا جهل أتاه بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون لطرحها، فلزقت بيده ويبست يداه في عنقه، وأقبل يرجع بهذا الفهر إلى خلفه، ثم سأله أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه.
وكان قد تواعد مع قريش بذلك وحلف لئن رآه ليدمغنه، فسألوه عن شأنه فقالوا له لأي شيء رجعت القهقرى بعد أن حلفت أنك إن رأيته لتدمعنه، فذكر أنه عرض له دونه فحل ما رأيت مثله قط همَّ بي أن يأكلني.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذلك جبريل لو دنا لأخذه» (2) .
وقريب من هذا ما ذكره أهل التفسير عن أبي هريرة: أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمد يصلي ليطأن رقبته فلما صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولي هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيده، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوءٍ من نار كدت أهوي فيه، وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «تلك الملائكة لو دنا لاختطفته عضواً عضواً» (3) .
ثم أنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك: ?كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى? إلى آخر السورة [العلق 6 - 19] .
_________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/393، رقم 3376) والحميدي (1/153، رقم 323) وأبو يعلى (1/53، رقم 53) عن أسماء بنت أبي بكر.
(2) أخرجه ابن اسحاق في السيرة (4/180) ، وابن هشام (2/136) ، والبيهقي وأبو نعيم على ما عزاه السيوطي في الخصائص (1/211) ، والقصة أصلها في صحيح البخاري (4/1896، رقم 4675) ، وسنن الترمذي (5/443، رقم 3348) ، ومسند أحمد (1/368، رقم 3483) ومسند أبي يعلى (4/471، رقم 2604) عن ابن عباس.
(3) أخرجه مسلم (4/2154، رقم 2797) ، وابن حبان (14/532، رقم 6571) ، والنسائي في الكبرى (6/518، رقم 11683) ، وأبو يعلى (11/70، رقم 6207) عن أبي هريرة.
(2/352)
ومن عصمته أيضاً ما ذكره السمرقندى: أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه.
وفي هذا أنزل الله تعالى: ?إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? [يس: 8، 9] .
ومن عصمته هداية الله تعالى من أراد قتله للإسلام ما روي: أن رجلاً يعرف بشبيبة بن عثمان أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين، وكان حمزة قد قتل أباه وعمه، فقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ورفع سيفه ليصيبه علَيْه، قال: فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق، فوليت هارباً، وأحس بي النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إلي، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي، وقال لي: «ادن فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، وأقيه بنفسي ولو لاقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه (1) .
فانظر كيف عصمه الله من هذا وهداه بسببه للإسلام، وصار أحب الخلق إليه.
ونظير هذا ما ورد عن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، وهو يطوف بالبيت فلما دنوت منه قال: يا فضالة قلت: نعم، قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء، فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه (2) .
فائدة: دانيال عصمه الله أيضاً من أعداءه من الآدميين والسباع وغيرهم وكان دانيال في أيام بخت نضر، وكان الله أعطاه النبوة والحكمة واتفق له غرائب في حال صغره وحال كبره.
فمما اتفق له في حال الصغر ما روى ابن أبي الدنيا: أن الملك الذي كان دينال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (7/298، رقم 7192) قال الهيثمي (6/184) : فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف.
(2) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/308) ، والسيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي (3/56) .
(2/353)
يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة، فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه فنجاه الله تعالى بذلك.
فانظر ما أعظم هذه العصمة.
ومما وقع له في الكبر ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال طرح في جب وألقيت عليه السباع تلحسه ويتبصبصن إليه فأتاه رسول فناداه فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول ربك إليك أرسلني بطعام فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره (1) .
والذي ألقاه في الجب وألقى عليه السباع بخت نصر.
فقد روى ابن أبي الدنيا أن بخت نصر أمسك أسدين وألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فمكث ما شاء الله له، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام أن يذهب إلى دانيال بطعام وهو بأرض العراق، فذهب إليه حتى وقف على الجب، وقال: دانيال، دانيال. فقال: من هذا؟ قال: أرميا، قال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك، فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاةً وغفراناً، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاءنا حين تنقطع الحيل عنا.
ثم أخرجه بخت نصر من الجب بسبب رؤيا رآها عجز الناس عن تفسيرها، ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه ونقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.
وقبره بنهر السوس ووجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه ثم قَبَرَه في نهر السوس، وأجرى عليه الماء فأخذ خاتمه ولبسه في يده قاله الدميرى.
فائدة: روى عن ابن السني في عمل اليوم والليلة من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد» .
قال الدميرى: لما ابتلى دانيال أولاً وآخراً بالسباع، جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع الذي لا يستطاع.
* * *
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/116، رقم 1338) عن سالم. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في الشكر (1/60، رقم 176) عن علي بن أبي طالب.
(2/354)
المجلس الخامس والأربعون
في بيان شيء من سنن الوضوء
وذكر شيء من فضائل سيدنا عثمان ابن عفان - رضي الله عنه -
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ الوُضُوءِ ثَلاثَاً
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «دعا بإناء» : وفي رواية شعيب الآتية قريباً «دعا بوضوء» ، وكذا لمسلم من طريق يونس.
وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء، وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به.
قوله: «فأفرغ» : أي صب.
قوله: «على كفيه ثلاث مراراً» : كذا لأبي ذر، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطاً.
قوله: «ثم أدخل يمينه» : فيه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفياً ولا إثباتاً.
قوله: «فمضمض واستنثر» : وللكشميهني «واستنشق» بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد. نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري، وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة.
قوله: «ثم غسل وجهه» : فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطاً للعبادة. قوله: «ويديه إلى المرفقين» : أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها: تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضاً.
قوله: «ثم مسح برأسه» : ليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. وقال الشافعي: يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول.
قال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. وكذا قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء.
وبالغ أبو عبيدة فقال: لا نعلم أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما.
وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة.
قوله: «نحو وضوئي هذا» : قال النووي: إنما لم يقل «مثل» لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
قلت: لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه «من توضأ مثل هذا الوضوء» وله في الصيام من رواية معمر «من توضأ وضوئي هذا» ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: «توضأ مثل وضوئي هذا» وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً، لأن «مثل» وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. والله تعالى أعلم.
قوله: «ثم صلى ركعتين» : فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء.
قوله: «لا يحدث فيهما نفسه» : المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه يقتضي تكسباً منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه.
ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلاً ورأساً، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ: «لم يسر فيهما» .
ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلاً أعلى درجة بلا ريب. ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقاً.
ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث «لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا» . وهي في الزهد لابن المبارك أيضاً والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبياً أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا.
قوله: «من ذنبه» : ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك.
وفي الحديث:
التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم.
الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم.
الترغيب في الإخلاص.
تحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها.
ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تغتروا» أي: فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك. انظر فتح الباري (1/259 – 261) .
(2/355)
قال البخاري: «حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ»
قال العلماء: «حمران» اسم أبيه «أبان» وهو مدني قرشي، سباه خالد بن الوليد من عين التمر، فوجده غلاماًَ كيساً، فوجهه إلى عثمان فأعتقه، وكان كاتب سيدنا عثمان وحاجبه، ولِي نيسابور من الحجاج، وغرمه الحجاج بسبب هذه الولاية مائة ألف، ثم ردها عليه بشفاعة عبد الملك، وهو تابعي وكذا الاثنان قبله.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه اشتمل على ثلاثة تابعين يروي بعضهم عن بعض، وكانت وفاة حمران خمس وسبعين.
«أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه -» هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين أبو عبد الله بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس ين عبد مناف الأموي القرشي، أسلم في أول الإسلام على يد الصديق، روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، أخرج البخاري منها إحدى عشر.
استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وفي خلافته صارت الأموال والأرزاق في أيدي الناس كثيرة، وربحت الناس ربحاً كثيراً، حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف درهم، وكل ذلك بحسن قصده لرعيته ولنفسه، ولم يزل
(2/357)
اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان، ويكنى أبا عمرو وأبا عبد الله.
ومن فضائله: أنه يجتمع نسبه بنسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عبد مناف.
ومن فضائله: أنه كان يسمى بذي النورين دون غيره من الصحابة، بل لم يعرف واحد من خلق الله يسمى بهذا الاسم غيره.
واختلفت في سبب تسميته بذلك على خمسة أقوال:
أحدها: تسمى بذلك لأنه تزوج بنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، ولا يعلم أحد تزوج بنتى نبي غيره، ولاشك أنه - صلى الله عليه وسلم - نوراً وبناته وجميع أولاه كانوا كذلك.
الثاني: سمي بذلك لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين.
الثالث: سمي بذلك لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور، وقيام الليل نور.
الرابع: سمي بذلك لأنه كان سخياً قبل الإسلام وبعد الإسلام.
الخامس: سمي بذلك لأنه ذو كنيتين يكنى أبا عمرو وأبا عبد الله.
ومن فضائله: أنه كان من السابقين الأولين صلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فاراً بدينه ومعه زوجته رقية بنت سيد الأولين والآخرين.
ومن فضائله: أنه عد من البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ولم يحضرهما، وسبب غيبته عن غزوة بدر أن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تحته، وهي مريضة فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجلوس عندها، وقال له: «لك أجر رجل شهد بدراً وسهمه» (1) .
وأما سبب غيبته عن بيعة الرضوان فهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان قد بعثه إلى مكة، ولو كان عنده أحد أعز من عثمان لبعثه، فوقعت البيعة في غيبته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن رفع يده اليمني: «هذه يد عثمان» (2) فكانت أحسن من أيدي الصحابة عن أنفسهم.
ومن فضائله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له بخصوصه غير مرة فأثرى وكثر ماله، ومن
_________
(1) أخرجه البخاري (3/1139، رقم 2962) ، والترمذي (5/629، رقم 3706) وقال: حسن صحيح. كلاهما عن ابن عمر.
(2) أخرجه البخاري (3/1352، رقم 3495) .
(2/358)
دعائه له: «اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه ثلاث مرات» (1) .
ودعا له مرة أخرى فقال: «غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة» (2) .
ومن فضائله: أنه كان متواضعاً ذا شفقة، وازداد تواضعه وخوفه ورفقه برعيته حين تولى الخلافة.
قيل: كان له عبد وكان عثمان قد مسك أذنه يوماً وعركها فقال له: إني كنت قد عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه فقال له: اشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة.
وقال علي - رضي الله عنه -: كان عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا واتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين.
حكاية وقعت بين عمر وعثمان رضى الله عنهما: قال في الروض الفائق: قيل إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما كانا في بعض أشغال النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركتهما العصر، فقال عمر بن الخطاب لعثمان: تقدم فصل بنا. فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنت أولى بالتقدم مني يا عمر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدمك، وأثنى عليك. فقال عمر: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «نعم الرجل عثمان صهري، وزوج ابنتي، ومن جمع الله به نوري» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر أكمل الله به دين الإسلام» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عثمان تستحي منه الملائكة» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر أكمل الله به الدين، وسماكم المسلمين» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عثمان يجمع القرآن وهو حبيب الرحمن» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عمر نعم الرجل عمر يتفقد الأرامل والأيتام ويحمل لهم الطعام وهم نيام» . فقال عمر - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حقك: «غفر الله لعثمان مجهز جيش العسرة» . فقال عثمان - رضي الله عنه -: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم أعز الإسلام بعمر»
_________
(1) أخرجه ابن عساكر (39/52) عن عائشة. وأخرجه ابن عساكر (39/54) عن أبي سعيد.
(2) أخرجه الديلمي (3/99، رقم 4275) عن أبي موسي الأشعري.
(2/359)
وسماك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاروق، وفرق الله تعالى بك بين الحق والباطل. فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا لهما وشكرهما على حسن أدبهما مع بعضهما بعضاً.
وقد وقع نظير هذا بين أبي بكر وعلي رضى الله عنهما، وسنذكره في محله.
ومن فضائله: أنه اشترى بئر رومة، وكانت ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب دلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنتي عشرة ألف درهم، فجعله للمسلمين ثم اتفق عثمان واليهودي على أن يكون له يوم وللمسلمين يوم، فكان إذا كان يوم للمسلمين استقوا ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت على ركيتي فاشترى النصف الآخر فاشتراه منه بثمانية آلاف درهم (1) .
ومن فضائله: أنه اشترى أرضاً وزادها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن فضائله: أنه جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً، وأتم الألف بخمسين فرساً، وجيش العسرة كان في غزوة تبوك.
وقيل: حمل في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرساً.
ومن فضائله وخصائصه: أنه تزوج ببنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأمر الله نبيه بذلك فقد أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان يعني رقية وأم كلثوم» (2) .
وفي حديث: «أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان ابنتي» .
وجاء في حديث: أن رقية لما ماتت لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان عند باب المسجد فقال: «يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها» أخرجه ابن ماجة وغيره (3) .
_________
(1) ذكره البخاري (2/829) مختصراً. وأورده ابن عبد البر في الإستيعاب (3/1040) ، والمزي في تهذيب الكمال (19/450) .
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط (4/18 رقم 3501) وفي الصغير (1/253 رقم 414) قال الهيثمي (9/83) : فيه عمير بن عمران الحنفي، وهو ضعيف بهذا الحديث وغيره. وابن عدي (5/70، ترجمة 1249 عمير بن عمران الحنفي) .
(3) أخرجه ابن ماجه (1/40، رقم 110) ، قال البوصيري (1/18) : هذا إسناد ضعيف. والطبراني في الكبير (22/436، رقم 1063) عن أبي هريرة.
(2/360)
وعن أبي هريرة أنه قال: قال عثمان: لما ماتت امرأتي بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكيت بكاء شديداً فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يبكيك؟» فقلت: أبكي على انقطاع صهري منك، فقال: «فهذا جبريل يأمرني بأمر الله - عز وجل - أن أزوجك أختها» .
وفي حديث: «والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء، هذا جبريل أخبرني أن الله - عز وجل - يأمرني أن أزوجك أختها، وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها» أخرجه الفضائلي.
ومن فضائله وخصائصه: أنه نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض والجنة، فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قوموا بنا نعود عثمان بن عفان» قلنا: عليل يا رسول الله؟ قال: «نعم» فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعناه حتى أتى منزل عثمان فاستأذن فأذن له، فدخل ودخلنا فوجدنا عثمان مكبوباً على وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مالك يا عثمان لا ترفع رأسك؟» فقال: يا رسول الله إني استحي، يعني من الله تعالى، قال: «ولم ذلك؟» قال: أخاف أن يكون علي غضباناً فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألست حافر بئر رومة، ومجهز جيش العسرة، والزائد في مسجدي، وباذل المال في رضا الله ورضائي، ومن تستحي منه ملائكة السماء، هذا جبريل يخبرني عن الله - عز وجل - أنك نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض وأهل الجنة» أخرجه الملا.
وله من الفضائل والخيرات ما يطول ذكره - رضي الله عنه -.
وحصر - رضي الله عنه - في داره وقتل مظلوماً، والذي تولى ذلك جماعة الخوارج من أهل مصر وغيرهم، واختلف في قدر مدة حصره وقتله ظلماً - رضي الله عنه -، ويستفاد من الأخبار أنه لما ولي الخلافة كره ولايته نفر من الصحابة بسبب أنه كان يحسب قومه بنى أمية، وكان كثيراً ما يوليهم الإمارة على البلاد ويخصهم بذلك دون غيرهم من الصحابة، بل عزل غيرهم وولاهم، عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولاها عبد الله بن عامر، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولحق بالمشركين، فأهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - دمه بعد الفتح، إلى أن أخذ له عثمان الأمان ثم أسلم، وعزل عمار بن ياسر عن الكوفة، وغيرهم وله عذر واضح في عزلهم رضى الله عنهم وتولية المذكورين كما هو مذكور في محله.
وكان يولي منهم من لم تكن له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبة، وكان يقع من أمراءه ما يكرهه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان الناس من الصحابة وغيرهم يأتون إليه ويستغيثون منهم ويخبرونه بأفعالهم فلا يغيث أحداً، ولا يسمع فيهم كلام أحد، لعلمه بأنهم
(2/361)
يكرهونهم لحبه لهم وتوليتهم دون غيرهم، وإنما كان عثمان يولي أقاربه ويحبهم ويوصلهم بالعطاء كثيراً لأن الإنسان جبل على حبه لأقاربه وعلى حب الخير لهم، فمحبة الإنسان لأقاربه صفة جبلية لم يودعها الله تعالى إلا في خيار خلقه، فلما ولى على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح جاء أهل مصر يشتكوه إلى عثمان، فخرج جيش من أهل مصر وقدره سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعله ابن أبي سرح معهم، وأنه قتل منهم واحداً، وجاءوا يطلبون أن يقتص عثمان من عامله، فدخل علي بن أبي طالب على عثمان فكلمه بسبب مجيئهم، وأنهم جاءوا يطلبون منك أن تقتله عوضاً عن الرجل المقتول، ثم قال له علي: اعزله عنهم وإن وجب عليه حق فانصفهم من عاملك، فقال لهم: اختاروا رجلاً حتى أوليه مكانه فأشاروا إلى محمد بن أبي بكر، فكتب له عهده وولاه وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار، لينظروا فيما وقع بين أهل مصر وبين أبي السرح، فلما بعدوا عن المدينة ثلاثة أيام وإذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، حتى كأنه يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب، فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، فقال له: رجل من الجماعة هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا الذي أريد ثم ذهبوا وأخبروا محمد بن أبي بكر بأمره، فبعث في طلبه رجالاً فأخذوه فجاءوا به إليه، فقال له: يا غلام من أنت؟ فصار تارة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، وتارة يقول: أنا غلام مروان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال:
بماذا قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، قال: ففتشوه فإذا معه كتاب من عثمان إلى ابن أبي السرح، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه إذا أتاك فلان وفلان، ومعهم محمد بن أبي بكر ومعه كتاب عهد فاحتل لقتلهم وأبطل كتابه، وقف على عملك حتى يأتيك أمري أن شاء الله تعالى.
وفي رواية: معه كتاباً على لسان عثمان مختوماً بخاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فلما قرأوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمد بن أبي بكر الكتاب ودفعه إلى واحد من الصحابة، فلما قدموا المدينة جمعوا الصحابة كعلي والزبير وطلحة وغيرهم، وفكوا الكتاب وقرأوه عليهم وأخبروهم بقصة العبد، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منازلهم ما منهم من أحد إلا مغتم بسبب ذلك، ثم تقدموا لحصاره، فلما
(2/362)
رأى علي ذلك جمع طلحة والزبير وسعيداً وعماراً ونفراً من الصحابة، ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي - رضي الله عنه - هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به ولا علمت به، ولا وجهت به هذا الغلام إلى مصر، قال: وأنتم تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على نقش خاتمه، وكان - رضي الله عنه - صادقاً فيما قال، فإن مروان زور عليه هذا الكتاب، وكتبه على لسانه وختمه بختمه من غير علمه، وأمره وأرسله مع عبده وعرف علي وغيره ممن رأى الكتاب أن الخط خط مروان، ولكن ظنوا أنه كتبه بأمره وإرادته، فلما حلف تحققوا من صدقه وقالوا له: سلمنا مروان وكان معه في الدار فأبى وخشي عليه القتل، فخرج أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاضبين من عنده فحاصره الأعداء ومنعوه من
الماء، ومن الصلاة في المسجد أنشدت زينب بنت العوام:
وعطشتم عثمان في جوف داره ... شربتم مشرب الهيم شرب الحميم
فأشرف عليهم في تلك الحال وقال: السلام عليكم، فما رد عليه أحد، فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة من مالي وسبلتها على المسلمين قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني شرب مائها، وأفطر على الماء المالح، ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت كذا وكذا من أرض فزدته في المسجد، قيل: نعم، قال: فهل علمتم أن أحد منع أن يصلي فيه قبلي.
وفي رواية: أشرف عليهم فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا، فقال: أفيكم سعد؟ فقالوا: لا، فقال: ألا أحد يسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما وصلت إلا بعد جهد، ثم بلغ علياً أنهم يريدون قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان لا قتله، وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحد يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من الصحابة أبناءهم لأجل أن يمنعوا الناس من الدخول عليه.
وذكر العلامة الحافظ ابن الجوزى: أن الذين خرجوا على عثمان هجموا على المدينة، وكان عثمان يخرج فيصلي بالناس وهم يصلون خلفه شهراً، ثم خرج من آخر جمعة خرج فيها فحصبوه بالحجارة وهو على المنبر حتى وقع عنه، ولم يقدر أن يصلي بهم فصلى بهم يومئذ أبو أمامة بن سهل، ثم حصروه ومنعوه الصلاة في المسجد.
وروي أن الجهجاه الغفاري بعد أن حصبوه ونزل من المنبر، أخذ العصا التي كانت
(2/363)
في يده، وهي عصا النبي - صلى الله عليه وسلم - التي كان يمسكها بيده في حال خطبته، فكسرها بركبته فوقعت الأكلة في ركبتيه.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة أنه قال: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار فقال: إنهم يتوعدونني بالقتل: قال: فقلنا يكفيهم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلوني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفساً فيقتل بها» فوالله ما أحببت بديني بدلاً منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في الجاهلية ولا في الإسلام قط، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلوني (1) .
وقال شداد بن أوس: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار رأيت علياً - رضي الله عنه - خارجاً من منزله، متعمماً بعمامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متقلداً بسيفه أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل والمدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتلينك، فمرنا لنقاتل، فقال عثمان: أنشد الله رجلاً رأى لله حقاً وأقر أن ما عليه حقاً أن يهريق مني ملء محجمة من دم أو يهراق دمه علي، فأعاد علي عليه القول فأجابه بمثل ما أجاب، ومنعه أن يقاتل معه، فرأيت علياً خارجاً من الباب، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا له: يا أبا الحسين تقدم فصلى بالناس، فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف.
وروي أنه دخل الحسن بن علي على عثمان وهو محصور فقال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت، فقال: يا ابن أخي ارجع واجلس حتى يأتي الله بأمره، فخرج ثم دخل عليه عبد الله بن عمر فسلم عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعت وأطعت، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت، ثم عمر فرأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يدك يا أمير المؤمنين، فمرني بما شئت، فقال عثمان: جزاكم الله يا آل عمر خيراً مرتين، لا حاجة لى في إراقة الدم، ثم دخل أبو هريرة متقلداً بسيفه فقال: الآن طاب الضراب، فقال له عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة لما
_________
(1) أخرجه أحمد (1/61، رقم 437) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (4/170، رقم 4502) ، والطيالسي (ص: 13، رقم 72) .
(2/364)
ألقيت سيفك، فقال: ألقيته فما أدري من أخذه.
وروي أيضاً أن أبا هريرة أنه قال: إني لمحصور في الدار مع عثمان قال: فرمى رجل منا أي: قتل، قلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضراب، قتلوا منا رجلاً، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ألا رميت بسيفك فرميت بسيفي لا أدري أين هو حتى الساعة.
وقد أفاد المحب الطبري أن عثمان - رضي الله عنه - رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة التي قتل في يومها، وأنه سقاه الماء وأنه خيره في الانتصار عليهم وفي الفطر عنده فاختار الفطر عنده.
ونقب في ذلك أخبار منها: عن عبد الله بن سلام أنه قال: «أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً يا أخي، أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الخوخة فإذا خوخة في البيت، فقال: حصروك؟ فقلت: نعم، فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم، فأدلى دلوا من ماء فشربت حتى رويت، وإني لأجد برداً بين كتفي وبين ثدي، قال: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا، قال: فاخترت أن أفطر عنده» (1) خرجه القروينى.
وأعتق صبيحة تلك الليلة عشرين مملوكاً وصار يحدث الناس برؤيته - صلى الله عليه وسلم - ويقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - البارحة وأبا بكر وعمر، فقالوا: اصبر فإنك تفطر عندنا، فقتل ذلك اليوم.
واختلفت الروايات هل دخلوا عليه من الباب أم لا؟
فقيل: دخلوا عليه من دار رجل من الأنصار، وكان معه في الدار ستمائة رجل وكلهم كانوا فوق البيت، ولم يكن عنده في البيت إلا امرأته، فدخلوا عليه فقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، ولم يعلم بذلك أحد ممن معه في الدار لاشتغالهم بالحصار، حتى صرخت امرأته وصعدت إلى الناس، وأعلمتهم بأنه قتل، فدخل عليه الحسن والحسين ومن كانوا معهما فوجدوه مذبوحاً، فانكبوا عليه يبكون، وأنشد أبو القاسم بن أمية بن أبي الصلت فأحسن:
لعمرى لبئس الذبح ضحيتم به ... وخنتم رسول الله في قتل صاحبه
فبلغ علياً قتله ومن كان في المدينة فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا.
وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتم على الباب، ورفع يده فلطم
_________
(1) أخرجه أيضاً سعيد بن منصور في كتاب السنن (2/389، رقم 2946) .
(2/365)
الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان.
وقيل: إنهم دخلوا عليه من الباب فإنه - رضي الله عنه - لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: أفطر عندنا الليلة، أصبح ذلك اليوم صائماً، فطلب المصحف ووضعه بين يديه، وقال لامرأته: افتحى الباب ففتحت الباب فدخل عليه رجل، فقال له عثمان: بيني وبينك كتاب الله تعالى، والمصحف بين يديه قال: فأهوى إليه بالسيف فاتقاه بيده فقطعها، فقال الراوي: -فلا أدري أبانها أم لم يبنها- فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المصحف.
وروي عنه أنه جعل يقول حين ضرب والدماء تسيل من على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستهديك وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على بليتي.
ونقل عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال: سمعت صوتاً يوم قتل عثمان يقول: أبشر يا ابن عفان بروح وريحان، أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان، أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان، قال فالتفت فلم أر أحداً (قاله ابن عبد البر) .
وأكثرهم يروي: أن قطرة أو قطرات من دمه سقطت على المصحف على قوله تعالى: ?فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ? [البقرة: 137] .
وورد عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة يؤتى بعثمان وأوداجه تشخب دماً اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يكسى حلتين من نور، وينصب له منبر على الصراط، فيجوز المؤمنون بنور وجهه، ليس لمبغضة من نصيب» خرجه الملا في سيرته.
واختلف العلماء فيمن باشر قتله بنفسه:
فقيل: محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص.
وقيل: رومان بن سرحان دخل عليه وكان رجلاً قصيراً أزرق معه خنجر، فاستقبله به وقال: على أي دين أنت يا نعثل، فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: كذبت وضربه على صدغه الأيسر فقتله فخر، وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة فدخل رجل من أهل مصر معه السيف مسلطاً فقال والله لأقطعن أنفه فعالج المرأة فكشف عن ذراعيها، وقبضت على السيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام
(2/366)
عثمان يقال له «رباح» ومعه سيف عثمان: أعني على هذا وأخرجه عني فضربه الغلام بالسيف فقتله.
وقيل: الذي باشر قتله: جبلة بن الأيهم من أهل مصر، وطاف بالمدينة ثلاثة أيام يقول: أنا قاتل نعثل.
وقيل: رومان اليماني، وقيل: بل رومان رجل من جبل أسد.
وقيل: يسار بن عياض.
وقيل: قتله الأسود النجيبي، وبه جزم الكرمانى.
قال ابن عبد البر في الإستيعاب: أول من دخل على عثمان محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته، فقال: دعها يا ابن أخي فوالله كان يكرمها أبوك فاستحيا وخرج (1) .
وقيل: لما أخذ لحيته هزها وقال له: ما أغني عنك معاوية وما أغنى عنك ابن أبي سرح وما أغنى عنك ابن عامر، فقال له: يا ابن أخي إنك لتجذب لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فيقال: إنه حينئذ تركه وخرج عنه.
ويقال: إنه حينئذ أشار إلى من معه فطعنه أحدهم وقتلوه والله أعلم.
واختلف في اليوم الذي قتل فيه:
فقال ابن اسحاق: قتل يوم الأربعاء بعد العصر ودفن يوم السبت قبل الظهر.
وقيل: قتل يوم الجمعة.
وقيل: قتله في وسط أيام التشريق في المدينة الشريفة.
وقيل: قتله يوم التروية، وقيل غير ذلك.
ولقد أحسن القائل:
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى ... فأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا
وأي كفر سن أولهم ... وباب شر على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل الله سعيهم ... بسفك ذاك الدم الذكي الذي سفحوا
وأما السنة التي قتل فيها فهى سنة خمس وثلاثين.
واختلف أيضاً في مدة إقامته بعد موته مطروحاً قبل دفنه:
_________
(1) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/1044) .
(2/367)
فقيل: أقام يومه ذلك مطروحاً إلى الليل، فحمله رجال على باب ليدفنوه فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبراً كان قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلى عليه جبير بن مطعم.
وروى عن مالك أنه قال: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، فلما كان في الليل أتاه اثنى عشر رجلاً منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير واحتملوه فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه، ناداه قوم من بني مازن: والله لئن دفنتموه ها هنا لنخبرن الناس غداً، فاحتملوه حتى ساروا إلى «حش كوكب» فاحتفروا له «وكوكب» اسم رجل من الأنصار «والحش» البستان، وكان عثمان قد اشتراه منه وزاده في البقيع (1) ، فكان أول من قبر فيه هو، وكان رضى الله عنه إذا مر «بحش كوكب» يقول: يدفن ها هنا رجل صالح، حتى دفن هو فيه.
ونقل عن الحسن أنه قال: شهدت عثمان بن عفان وقد دفن في ثيابه بدمائه، واختلف هل صلى عليه أم لا؟
فروي أنه أقام في «حش كوكب» ثلاثاً مطروحاً لا يصلى عليه، حتى هتف بهم هاتف: ادفنوه ولا تصلوا عليه فإن الله - عز وجل - صلى عليه.
وقيل: صلى عليه وغشيهم في الصلاة عليه وفي دفنه سواد، فلما فرغوا منه نودوا: أن لا روع عليكم اثبتوا، وكانوا يرون أنهم الملائكة حضروا جنازته.
ونقل المحب الطبرى عن الحسن عن الحسن بن على قال: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعاً يده على منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأيت عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر ورأيت دماً دونه، فقلت: ما هذا؟ قال: دم عثمان يطلب الله به. (أخرجه الديلمى في كتابه الشفا) .
وأنشد حسان فيه:
قلتم ولي الله في جوف داره ... وجئتم بأمر جائر غير مهتدى
فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا ... على قتل عثمان الرشيد المسدد
وأنشد كعب بن مالك فيه وقال:
يا للرجال لأمر هاج لي حزنا ... لقد عجبت لمن يبكي على الزمن
_________
(1) أي وسع به أرض البقيع قاله الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/458) .
(2/368)
إني رأيت قتيل الله مضطهداً ... عثمان يهدي إلى الأجداث في كفن
قاتل الله قوماً كان أمرهم ... قتل الإمام الزكي الطيب الردن
ما قتلوه على ذنب ألم به ... إلا الذي نطقوا زوراً ولم يكن
وأنشد حسان أيضاً، وقيل: كعب بن مالك حين منع عثمان الناس من القتال معه:
فكف يده ثم أغلق بابه ... وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم ... عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله ألقى عليهم ... العداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده ... عن الناس أدبار الرياح الحوافل
وقالت ليلى الأخيلية:
قتل ابن عفان الإمام ... وضاع أمر المسلمينا
وتشتت سبل الرشاد ... بصادرين أو واردينا
قال العلماء: عرف عثمان أنه يقتل عرَّفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
روي عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادعوا لى بعض أصحابي» فقلت: أبو بكر؟ فقال: «لا» فقلت: عمر؟ فقال: «لا» فقلت: ابن عمك؟ فقال: «لا» فقلت له: عثمان؟ قال: «نعم» فلما جاء قال بيده فتنحيت، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلى عهداً وأنا صابر نفسي عليه (1) .
وكانت ولايته كما قاله ابن اسحاق اثنتى عشرة سنة وإحدى عشر شهراً وأربعة عشر يوماً، وقيل: ثمانية عشر يوماً.
ومن كراماته ما رواه الطبري عن أبي قلابة قال: كنت في رفقة بالشام فسمعت رجلاً يقول: يا ويلاه النار، قال: فقمت إليه، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين أعمى العينين منكباً لوجهه، فسألته عن حاله فقال إني كنت ممن دخل على
_________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/42، رقم 113) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/19) : هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. والحاكم (3/106، رقم 4543) ، وقال: صحيح الإسناد. وابن حبان (15/356، رقم 6918) .
(2/369)
عثمان الدار، فلما دنوت منه خرجت زوجته فلطمتها، فقال: مالك قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، فأخذتنى رعدة عظيمة وخرجت هارباً فأصابني ما ترى، ولم يبق من دعائه إلا النار، قال: فقلت له: بعداً لك وسحقاً. خرجه الملا في سيرته.
«عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» .
دل هذا الحديث على أحكام كثيرة أوصلها ابن الملقن إلى نيف وعشرين حكماً فمن أحكامه:
أن فيه دلالة على استحباب غسل اليدين في الوضوء إلى الكوعين، وعلى استحباب غسلهما قبل إدخالهما في الإناء.
قال علماؤنا: من سنن الوضوء غسل الكفين إلى الكوعين قبل المضمضة والاستنشاق تأسيا بالنبى - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يتيقن الإنسان من طهارة يده بسبب نوم أو غيره كره له إدخالها في ماء دون قلتين أو مائع قبل غسلهما.
والعلة في هذه الكراهة توهم النجاسة، فإنه قد يكون في جسده قروح أو دماميل فيضع يده عليها فتنجس وقد يضع يده على دبره أو غير ذلك، فإن صادفت ماء قليلاً أو مائعاً نجسته.
وقد ورد النهي عن غمس اليد في الإناء عند الاستيقاظ من النوم قبيل غسلهما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده» (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري (1/72، رقم 160) ، ومسلم (1/233، رقم 278) ، وأبو داود (1/25، رقم 105) ، والترمذي (1/36، رقم 24) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/99، رقم 161) ، وابن ماجه (1/138، رقم 393) ، ومالك (1/21، رقم 37) ، والشافعي (1/10) ، وابن حبان (3/345، رقم 1062) ، وابن أبي شيبة (1/94، رقم 1047) ، وأحمد (2/253، رقم 7432) ، وابن خزيمة (1/74، رقم 145) ، والدارقطني (1/50) ، والبيهقي (1/46 رقم 209) عن أبي هريرة.
(2/370)
قال النووي في كتابه «البستان» : حكي أن بعض المبتدعين سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه لا يدري أين باتت يده» ، فقال المبتدع: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد أدخل يده في دبره حتى ذراعه.
قال الإمام النووي: ومن هذا المعنى ما وجد في زماننا وتواترته الأخبار وثبت عند القضاة: أن رجلاً في قرية من بلاد البصرة في أوائل سنة خمس وستين وستمائة، كان سيئ الاعتقاد فيهم، فجاءه ابنه من عند شيخ صالح معه سواك، فقال: ما أعطاك شيخك مستهزئاً؟ فقال: هذا السواك فأخذه وأدخله في دبره احتقاراً له، فبقى مدة ثم ولد ذلك الرجل أي: الذي أدخل السواك في دبره جرواً قريب الشبه بالسمكة فقتله ومات الرجل في الحال، أو بعد يومين عافانا الله من بلائه.
ولا تزول هذه الكراهة إلا بغسل اليدين ثلاثاً ولا يكره غسلهما في البرك والحياض، وكذا لا يكره في الإناء إذا تيقن طهارتهما.
ولابد في حصول سنة غسل اليدين إلى الكوعين أن يغسلهما قبل المضمضة والاستنشاق، فلو غسلهما بعدهما لا يكون محصلاً للسنة لقوله في الحديث: «فغسلهما حتى أدخل يمينه في الإناء فمضمض» فأتى بالفاء المقتضية للترتيب وزيادة وهو التعقيب.
وفي الحديث دلالة على جواز الاستعانة في إحضار الماء.
قال العلماء: ترك الاستعانة في الوضوء سنة، لأنها نوع من التنعم والتكبر، وذلك لا يليق بحال المتعبد، والأجر على قدر النصب.
والاستعانة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يستعين بغيره ليصب عليه الماء لغير عذر، فهذه الاستعانة خلاف الأولى، أما إذا كانت لعذر كمرض ولو كان خفيفاً، فلا يكون خلاف الأولى، بل مباحاً دفاعاً للمشقة، ولو كان بالإنسان مرض شديد أو أقطع لزمه أن يستأجر إنساناً ليعينه على الطهارة إن لم يحصل له متبرع، وإن حصل له متبرع وجب عليه القبول.
القسم الثاني: أن يستعين بمن يغسل له الأعضاء بلا عذر ترفعاً فهذه مكروهة قطعاً.
(2/371)
القسم الثالث: الاستعانة بإحضار الماء والإناء والدلو فمباحة بالإجماع من غير كراهة فلا خلاف الأولى، فلهذا طلب عثمان الإناء فتوضأ منه.
وفي الحديث دلالة على استحباب غسل الأعضاء المغسولة.
قال العلماء: من سنن الوضوء أن يغسل المتوضئ كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وهذه سنة بالإجماع، فقد صح أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثا ثلاثا، كما دل عليه الحديث المذكور وغيره.
وتكره الزيادة على الثلاث ويكره النقص عنها لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم» رواه أبو داود وغيره (1) .
قال النووي: أنه حديث صحيح ومعناه: فمن زاد على الثلاث أو نقص منها فقد أساء وظلم في كل من الزيادة والنقص.
وقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة.
وقيل: عكسه.
سؤال: فإن قيل: كيف يكون النقص من الثلاث إساءة وظلماً ومكروهاً وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه توضأ مرة وتوضأ مرتين؟
جوابه: أنه فعل ذلك بياناً للجواز، وكان فعله لذلك في ذلك الحال أفضل، لأن البيان جائز، وليس معنى «أساء وظلم» ارتكب محرماً، بل معنى «أساء» ترك الأولى وتعدى حد السنة، ومعنى «ظلم» وضع الشيء في غير موضعه.
وأما مسح الرأس فهل يستحب تثليثه أم لا؟
ظاهر الحديث أنه لا يستحب فإنه قال فيه: «ثم مسح برأسه» ولم يقل ثلاثاً، والذي ذهب إليه إمامنا الشافعي أنه يستحب مسحه ثلاثاً كما يستحب ذلك في المغسول، فقد ورد: «أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ثلاثاً» رواه البيهقي والحاكم وقال: إنه حسن (2) .
وذهبت الأئمة الثلاثة إلى عدم استحبابه.
فائدة: إنما تحصل فضيلة تثليث مسح الرأس إذا أورد المسح ثانياً وثالثاً على ما
_________
(1) أخرجه أبو داود (1/33، رقم 135) ، والنسائي (1/88، رقم 140) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2) أخرجه البيهقي (1/63، رقم 299) .
(2/372)
أورده أولاً، فلو مسح ثانياً وثالثاً غير ما مسحه أولاً لم يكن ذلك تكراراً، بل هو محاولة على استيعاب الرأس، أفاد ذلك العلامة الجوجري.
قال العلماء: ولو شك في العدد في أثناء الوضوء أخذ بالأقل وكمل كالركعات، أما لو شك بعد الفراغ منه فإنه لا عبرة به.
قالوا: وإنما تكره الزيادة على الثلاثة إذا أتى بها بقصد نية الوضوء، فلو زاد بقصد نية التبرد مثلاً لم يكره.
قال الزركشي: ومحل كراهة الزيادة أيضاً إذا توضأ بماء مباح أو مملوك له، فإن توضأ من ماء موقوف على من يتطهر أو يتوضأ منه كالمدارس والربط، حرمت الزيادة بلا خلاف، لأن الزيادة غير مأذون فيها.
فائدة: لو توضأ وضوء كاملاً مرة مرة، ثم توضأ أخرى كذلك، ثم ثالثاً لتأكيد ذلك حصلت له فضلية التثليث كما قاله الروياني والإمام.
قال الجوجري: وهو ظاهر المعنى، لكن قال الشيخ إسماعيل صاحب الروض: إنها لا تحصل بل لابد من تثليث كل عضو قبل الانتقال إلى غيره.
فائدة أخرى: ذكر العلماء مسائل لا يستحب فيها التثليث:
الأولى: لوضاق الوقت عنه، ولو ثلث لخرجت الصلاة أو بعضها عن الوقت، فإنه يقتصر على الفرض وهو مرة.
الثانية: لو كان عطشاناً ولو اقتصر على الفرض فضل له فضلة يشربها فيقتصر عليه.
الثالثة: لوكان الماء يكفي لفرض فقط، ولو ثلث لا يكفيه، فلا يستحب له التثليث لئلا يحتاج إلى التيمم، فلو ثلث وتيمم للباقي في قضاء عليه.
الرابعة: لو خاف فوت الجماعة لو ثلث، فإنه يقتصر على الغرض ليدرك الجماعة فإنها أهم من التثليث.
لطيفة: قال في نزهة المجالس: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - على سرير من ذهب، قوائمة من فضة، مفصص بالياقوت، فاستقر على الأرض ببطحاء مكة، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - واقعده معه على السرير، ولجبريل أربعة أجنحة، جناح من لولؤ، وجناح من ياقوت، وجناح من زبرجد، وجناح من نور رب العالمين، بين الجناح والجناح ما بين المشرق والمغرب، ومعه سبعون ألف ملك، فضرب بجناحه الأرض فنبعت فتوضأ جبريل وغسل أعضاءه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاُ واستنشق ثلاثاً، ثم قال: أشهد أن لا إله
(2/373)
إلا الله وحدة لا شريك له وأنك رسول الله بعثك بالحق، يا محمد قم وأفعل كما فعلت، ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، فقال: يا محمد قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويغفر الله لمن يصنع مثل صنيعك ذنوبه حدثيها وقديمها وسرها وعلاينتها وعمدها وخطاها وحرم لحمه ودمه على النار.
فائدة: هل فرض الله الوضوء بمكة أو بالمدينة؟
قال ابن العماد في شرح سيرته: ونقل الباجي في شرح الموطأ عن بعض العلماء: أن فريضة الوضوء كانت بالمدينة، وأنه لم يكن واجباً مكة، بل كان سنة.
وكذا نقل القاضي عياض قال: والأكثرون على أنه كان واجباً بمكة لكنهما لم يعينوا وقته.
وفي دلائل النبوة للبيهقي: «أن جبريل صلوات الله وسلامة عليه علمه الوضوء في أول الإسلام» .
وذكر ابن الرفعة في الكفاية في باب الجهاد: أن جبريل - عليه السلام - نزل بأعلى مكة، فهمز في ناحية الوادي فانفجرت فيه عين فتوضأ جبريل - عليه السلام - ليريه كيف الطهور، فتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها، ثم قام جبريل يصلي وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاته، فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه كما قاله الماوردي.
ثم جاء إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل عليهم الصلاة والسلام، فكانت أول من توضأ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الحديث دلالة على استحباب ركعتين فأكثر عقب كل وضوء، ينوي بها سنة الوضوء، وهي سنة مؤكدة، ويستحب فعلها في كل وقت توضأ فيه، حتى في أوقات الكراهة، لأن لها سبباً مقدماً عليها.
قال النووي: ولو صلى بعد الوضوء فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له فضيلة سنة الوضوء، كما تحصل تحية المسجد بذلك، بل لو دخل المسجد على وضوء في وقت الظهر مثلاً، وصلى ركعتين ونوى بهما سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ثواب الجميع.
قال النووي: إنما قال - صلى الله عليه وسلم -: «نحو وضوئي» ولم يقل: مثل وضوئي لأن حقيقة مما ثلثه - صلى الله عليه وسلم - لا يقدر عليها غيره.
وفي الحديث دلالة وبشارة لمن صلى سنة الوضوء بمغفرة الذنوب المتقدمة، وهذا الغفران للصغائر دون الكبائر، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، وينبغي أن يعلم أن
(2/374)
غفران الذنوب الصغائر المتقدمة لمن صلى سنة الوضوء عقبه مشروطة بشرطين:
أحدهما: أن يتوضأ على النحو المذكور في الحديث وهو أن يغسل كل عضو ثلاث مرات.
الثاني: أن لا يحدث نفسه في الصلاة التي صلاها بعد الوضوء بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة.
فإن يتوضأ على النحو المذكور أولم تسلم صلاته من الخواطر الدنيوية التي لا تتعلق بالصلاة، لم يحصل له الغفران المذكور، نعم لو عرض له حديث دينوي فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عنه ولا يحرم فضيلة سنة الوضوء إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من فعله، وقد يعفى لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر (قاله النووي) .
فائدة: يستحب للإنسان إذا تيمم أو اغتسل أن يصلي ركعتين عقبه، كما يستحب أن يصليهما عقب الوضوء كما اختار ذلك البلقيني، وقاسهما على الوضوء، ولم ير من تعرض له.
ويمكن أن يستنبط من استحباب الصلاة عقب التيمم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم» (1) .
فإنه إذا صدق على التيمم أنه وضوء فقد دخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «نحو وضوئي هذا» .
فائدة أخرى وبشارة: قال في نزهة المجالس: ينبغي لمن أحدث أن يتوضأ عقب حدثه، ولمن توضأ أن يصلي ركعتين عقب وضوئه، ولمن صلى أن يدعو الله عقب صلاته، فقد ورد في الخبر يقول الله: «من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يصلي فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يدعني فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ وصلى ودعاني فلم أستجب له فقد جفوته، ولست برب جافي» (2) .
وقد عقد البخاري - رضي الله عنه - في كتاب التهجد باباً في فضل الطهور بالليل والنهار،
_________
(1) أخرجه الترمذى (1/211، رقم 124) وقال: حسن صحيح. والنسائى (1/171، رقم 322) ، وعبد الرزاق في المصنف (1/238، رقم 913) ، وأحمد (5/155، رقم 21408) ، وابن حبان (4/140، رقم 1313) ، والدارقطنى (1/187) ، والحاكم (1/284، رقم 627) وقال: صحيح. والبيهقى (1/212، رقم 961) عن أبي ذر.
(2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/292) : قال الصغاني في موضوعاته: حديث موضوع.
(2/375)
وروى حديثاً عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عن صلاة الفجر: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي (1) .
وروى أبو داود عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فأحسن وضؤه ثم صلى ركعتين لا يسهوا فيها غفر له ما تقدم من ذنبة» (2) .
وفي رواية عنده: «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجه عليهما إلا وجبت له الجنة» (3) والله أعلم.
* * *
_________
(1) أخرجه البخاري (1/386، رقم 1098) . وأخرجه أيضا: مسلم (4/1910، رقم 2458) ، وأحمد (2/439، رقم 9670) ، وابن خزيمة (2/213، رقم 1208) ، وابن حبان (15/560، رقم 7085) .
(2) أخرجه أبو داود (1/238، رقم 905) ، والطيالسي (ص: 189، رقم 1331) ، وأحمد (4/117، رقم 17095) ، وعبد بن حميد (1/118، رقم 280) ، والطبراني في الكبير (5/249، رقم 5242) ، والحاكم في المستدرك (1/222، رقم 451) .
(3) أخرجه أبو داود (1/43، رقم 169) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) .
(2/376)
المجلس السادس والأربعون
في ذكر بعض مسائل تتعلق بغسل الميت، وذكر سنن الوضوء،
وذكر آدابه الباطنة
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ التَيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغَسْل
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَهُنَّ فِى غُسْلِ ابْنَتِهِ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» .
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِى تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
أورد البخاري من الحديث طرفاً ليبين به المراد بقول عائشة: «يعجبه التيمن» إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول.
قوله: «كان يعجبه التيمن» : قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد البخاري في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة: «ما استطاع» فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع.
وقوله: «في تنعله» : أي لبس نعله.
وقوله: «وترجله» : أي ترجيل شعره وهو تسريحه ودهنه.
قال في المشارق: رجل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة: «وسواكه» .
قوله: «في شأنه كله» : كذا للأكثر من الرواة بغير واو. وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو وهي التي اعتمدها صاحب العمدة.
قال الشيخ تقي الدين: هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقوله: «في شأنه كله» متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك.
وقال الطيبي قوله: «في شأنه» بدل من قوله «في تنعله» بإعادة العامل. قال: وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل.
قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: «في شأنه كله» على قوله: «في تنعله الخ» وعليها شرح الطيبي، وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق الوارد هنا.
لكن بين البخاري في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصراً على قوله: «في شأنه كله» وتارة على قوله: «في تنعله الخ» .
وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة أن عائشة أيضاً كانت تجمله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله: «في شأنه كله» وكأن الرواية المقتصرة على: «في شأنه كله» من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم «في طهوره ونعله» بفتح النون وإسكان العين أي هيئة تنعله. وفي رواية ابن ماهان في مسلم «ونعله» بفتح العين.
وفي الحديث:
استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، ولا يقال هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق.
وفيه البداءة بالرجل اليمنى في التنعل وفي إزالتها باليسرى.
وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرجل، وبالشق الأيمن في الغسل.
واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين.
قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر. قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه، انتهى. انظر فتح الباري (1/269 - 270) .
(2/377)
قال العلماء: أم عطية راوية الحديث الأول اسمها «نسيبة» بضم النون وفتح المهملة وسكون التحتانية وبالموحدة.
وقيل: «نسيبة» بفتح النون وكسر السين.
وقيل: «حقة» وهي: بنت كعب ويقال: بنت الحارث، وهي: بصرية صحابية، أنصارية جليلة، كانت تغسل الموتى، وتغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزت معه سبع غزوات، وشهدت خيبر، وكان علي يقيل عندها، وكانت تمرض المرضى، وتداوي الجرحى.
روى لها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون حديثاً، للبخاري منها سبعة.
(2/378)
وبنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبهمة في هذا الحديث:
قيل: هي زينب، وبه صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وصرح به في صحيح مسلم، وقال القاضي عياض: إنه الصواب.
وقيل: هي أم كلثوم زوج عثمان بن عفان، قاله ابن الملقن، ولما دفنت أم كلثوم قال عليه الصلاة والسلام: «دفن البنات من المكرمات» .
وقيل: إنه قال هذا حين ماتت رقية فقد روى الطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عباس قال: لما عزى النبي - صلى الله عليه وسلم - بابنته رقية قال: «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» (1) .
لكن ذكر ابن الجوزي في موضوعاته أن حديث: «دفن البنات من المكرمات» لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وليس المراد بالبنات في هذا الحديث فاطمة لأنها ماتت بعده، والمذكور هنا ماتت في حياته، فأمر أم عطية الغاسلة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب أن يغسلنها، وأن يبدأن في غسلها بميامنها أي: بالجانب الأيمن منها، لشرفه.
فائدة: كان له من البنات أربعة:
الأولى: فاطمة البتول، وكانت وفاتها بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر.
الثانية: زينب، وكانت وفاتها في السنة الثامنة من الهجرة، وكانت زوجة لأبي العاصي بن الربيع، واسمه لقيط.
وقيل: هشيم.
وقيل: مهشم.
الثالثة والرابعة: رقية، وأم كلثوم زوجاً عثمان بن عفان رضي الله عنهم.
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/366، رقم 12035) 7) ، وفي الأوسط (2/372، رقم 2263) ، قال الهيثمي (3/12) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير والبزار، وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وهو ضعيف. والقضاعي (1/172، رقم 250) ، والخطيب (5/67) ، والديلمي (2/219، رقم 56) . وأورده الذهبي في الميزان (6/231 ترجمة 7849) ، ووافقه الحافظ في اللسان (5/247 ترجمة 854 محمد بن عبد الرحمن بن طلحة) ، وقالا: قال ابن عدي: يسرق الحديث. جميعا عن ابن عباس. وأخرجه الخطيب (7/291) ، وابن عدي (2/278، ترجمة 442 حميد بن حماد بن أبي الخوار) كلاهما عن ابن عمر.
(2/379)
وأم كلثوم كانت وفاتها في السنة التاسعة من الهجرة.
ورقية كانت وفاتها في السنة الثانية من الهجرة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ببدر، وليس في بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - من له نسل وعقب سوى فاطمة.
قاله العراقي في ألفيته:
وليس في بناته من أعقبا ... إلا البتول طاب أماً وأباً
فائدة أخرى: أفضل بناته - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها بل هي أفضل نساء العالمين كما قدمنا ذلك.
ومن فضائلها وخصائصها: أنها لم ترد قط دم حيض ولا دم نفاس حتى لا يفوتها صلاة، ولذلك سميت بالزهراء.
قال محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: إن فاطمة طاهرة مطهرة لا تحيض، ولا يرى لها دم في طمث، ولا ولادة وأورد في ذلك حديثين.
قال في نزهة المجالس: قالت أسماء: لما ولدت فاطمة ولدها الحسن لم أر لها دماً، فقلت: يا نبي الله لم أر لفاطمة دماً من حيض أو نفاس، فقال: «أما علمتي أن ابنتي فاطمة طاهرة مطهرة» .
وفي هذا الحديث فوائد منها:
أن فيه دلالة على أنه يستحب لغاسل الميت أن يوضئه كما يتوضأ الحي ثلاثاً ثلاثاً، مع المضمضة والاستنشاق قبل الغسل هذا مذهب الشافعي.
وعند أبي حنيفة: يوضئه من غير مضمضة ولا استنشاق، قال: لأن إخراج الماء من فمه متعذر.
وعند إمامنا الشافعي يميل رأسه في المضمضة والاستنشاق لئلا يصل الماء إلى باطنه، فإذا فرغ من وضوءه غسل رأسه ثم لحيته، ثم ينتقل إلى الشق الأيمن قبل الأيسر، ففي الحديث دلالة على استحباب غسل الميامن قبل المياسر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لغاسلات ابنته: «إبدأن بميامنها» .
وقد ذكر العلماء لغسل الميامن والمياسر كيفيات:
أولاها كما قال الجمهور: أن يغسل شقه الأيمن من عنقه وصدره وفخذه وساقه وقدمه، ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يحول إلى جنبه الأيسر فيغسل الأيمن مما يلي القفا والظهر من كتفه إلى قدمه ثم يحوله إلى جنبه الأيمن فيغسل شقه الأيسر ثم يعيد غسل
(2/380)
رأسه ولحيته ووجهه لحصول الغرض بغسلها أولاً، بل يبدأ بصفحة عنقه فما تحتها هذا كله غسلة واحدة.
فائدة: يحرم كب الإنسان في حال الغسل على وجهه احتراماً له، بخلاف ما إذا نام الإنسان على وجهه فإنه ليس بحرام بل مكروه.
ويستحب للمغسل أن يغسله ثلاثاً، فإن لم تحصل النظافة زاد حتى تحصل، وهذا بخلاف الحي فإنه لا يزاد فيها على الثلاث لأن طهارته محض تعبد، والغسل لميت نظافة فلا بأس بالزيادة.
وفي الحديث دلالة أيضاً على أن النساء أحرى بغسيل المرأة من الزوج، ومن رجال المحارم كما أن الرجال أحرى بغسل الرجل من زوجته ومن نساء المحارم.
نعم يجوز للزوج عند إمامنا الشافعي إن يغسل زوجته المسلمة أو الذمية لأن حقوق النكاح لا تسقط بالموت، بدليل أنه يرثها، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة: «لو مت قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» أخرجه النسائي وابن ماجه (1) .
وقد غسل علي فاطمة الزهراء، لكن في مسند أحمد وغيره: أنها لما احتضرت غسلت نفسها وأوصت أن لا يكشفها أحد فدفنها علي بغسلها ذلك.
وللزوجة أيضاً أن تغسل زوجها بالإجماع ولقول عائشة: «أيم الله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه» رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم (2) .
ولو طلق زوجته ومات أحدهما ليس للآخر أن يغسله حتى لو كان الطلاق رجعياً وإن حصل الموت في العدة، لتحريم النظر.
ولو غسل أحد الزوجين الآخر لف على يده خرقة ولا يمس، فإن غسل من غير
_________
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/252، رقم 7079) ، وابن ماجه (1/470، رقم 1465) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً: البيهقي (3/396، رقم 6451) ، وابن حبان (14/551، رقم 6586) .
(2) أخرجه أبو داود (3/196، رقم 3141) ، والحاكم (3/61، رقم 4398) ، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه (1/470، رقم 1464) ، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
(2/381)
حائل انتقض وضوء الغاسل، وأما وضوء المغسول فلا ينتقض.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء ينتقض وضوء الملموس الحي كما ينتقض وضوء اللامس بخلاف الملموس الميت؟
جوابه: أن الميت غير مكلف فلا ينتقض وضوءه بخلاف الحي فافترقا.
فائدة أخرى: يجوز للسيد أن يغسل أمته، ولو كانت مدبرة وأم ولد ومكاتبة، لأنهن مملوكات له، إلا إن كانت أمته مزوجة أو معتدة أو مستبرأة أو مشركة أو مبعضة بتحريم بعضها عليه.
وأما الأمة فليس لها إذا مات سيدها أن تغسله لانتقال ملكه عنها.
فائدة أخرى: يجوز لرجال المحارم أن يغسلوا المرأة مع وجود النساء، كأن يغسل الرجل ابنته أو أخته أو نحوها، ويجوز لنساء المحارم أن يغسلوا الرجل مع وجود الرجال، كأن تغسل الأم ولدها وإن وجد رجل.
وقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الثاني: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن» أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يستحسن البدآة باليمنى في تنعله أي: في لبسه النعل، وترجله أي: في تمشيطه الشعر.
«وطهوره» : بضم الطاء أي: في تطهيره، فيه دليل على استحباب تقديم اليمنى على اليسرى في اليدين والرجلين، فلو غسل يده اليسرى قبل اليمين أو رجله اليسرى قبل اليمين صح وضوءه بالإجماع كما قاله المنذري، ولكن ارتكب المكروه فقد روي ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتعاطى أحدنا شيئاً بشماله» (1) .
ولم يقل أحد بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى إلا الشيعة، وما نقله الرضى الشيعي عن الشافعي في القديم من وجوب تقديم اليمنى على اليسرى فهو كما قال ابن الملقن: غريب.
سؤال: ما السر والحكمة في جعل الفضل لليمنى ولم يكن لليسار، فكل يمن وبركة مختص باليمين كتناول المأكل والكتاب ودخول الجنة وغير ذلك، وكل ما كان من شقاوة فهو للشمال؟
أجاب عنه في العقائق: بأن نور المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عبر على يد آدم اليمنى فنالت اليمنى
_________
(1) أخرجه ابن حبان بنحوه (12/30، رقم 5226) .
(2/382)
المنى، ووجدت اليمن والبركة إلى الأبد، وبقى هذا الاسم عليها بإرادة الصمد.
قال النووي في الأذكار: يستحب أن يبتدئ في لبس النعل والثوب والسراويل وشبهها باليمين، من كميه ورجلي السراويل، وإذا خلعتها يستحب أن يخلع الأيسر قبل الأيمن.
وكذلك يستحب الابتداء باليمين في الاكتحال، والسواك، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، ودخول المسجد، والخروج من الخلاء، والوضوء، والغسل، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وأخذ الحاجة من إنسان دفعها إليه وما أشبه ذلك، فكله يفعله باليمنى، وضده باليسار.
وقوله: «وفي شأنه كله» معناه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب التيمن في جميع أموره.
سؤال: فإن قيل: يشكل على قوله وفي شأنه كله دخول الخلاء، والخروج من المسجد، فإن المستحب فيهما ونحوهما البدآة باليسار كما قدمنا أنه فعله - صلى الله عليه وسلم -.
جوابه: أنه عام خص منه دخول الخلاء، والخروج من المسجد ونحوهما بالأدلة الخارجية.
قال الكرماني: وما من عام إلا وقد خص، والله بكل شيء عليم.
سؤال آخر: يشكل أيضاً على قوله: «وفي شأنه كله» الخدان والكفان والأذنان، فإنه لا يستحب فيها التيامن ولا التياسر، بل من السنة فيها غسل الكفين معاً، وغسل الخدين معاً ومسح الأذنين معاً إلا إذا كان أقطع اليد أو به علة تمنعه من ذلك، فإنه يستحب له التيامن حينئذ.
جوابه: أن هذه خارجة بالدليل فهو مخصوصة من عموم الحديث.
فائدة: دلت محبته - صلى الله عليه وسلم - التيامن في شأنه كله أن اليمين أشرف من اليسار، ويدل عليه أيضاً أن السعيد في الدار الآخرة هو الذي يتناول كتابه بيمينه.
قال القرطبي: أول من يتناول كتابه بيمينه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد ذكر أبو بكر أحمد بن علي الخطيب عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات زفته الملائكة إلى الجنات» (1) .
_________
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/202) . وأخرجه أيضاً: أبو جعفر الطبري في الرياض النضرة (1/332) ، والديلمي (1/17، رقم 16) . وانظر تفسير القرطبي (18/269) .
(2/383)
وروي الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: ?يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ? [الإسراء: 71] قال: «يدعي أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد في جسمه ستون ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم، ويقول لهم: أبشروا فإن لكل مسلم مثل هذا. قال: وأما الكافر فيسوء وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم، فيلبس تاجاً من نار، فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا به قال: فيأتيهم، فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1) .
قال العلماء: إذا تناول العبد كتابه بيمينه يوم القيامة يعلم أنه من أهل الجنة، فيقول للناس اقرؤوا كتابيه.
قال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ? [الحاقة: 19] وذلك حين يؤذن الله تعالى بقراءة كتابه، فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعو إليه ويأمر به، فيكثر تبعه عليه، ودعي باسمه واسم أبيه، فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيصفر لونه ويخف من ذلك، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك وقد غفرت لك فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحاً حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه حسنات قد ضوعفت لك، فيفرح فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويكسى حلتين، ويحلي كل مفصل منه ويطول ستون ذراعاً وهي قامة آدم - عليه السلام - ويقال له: انطلق إلى أصحابك وبشرهم وأخبرهم: أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فإذا أدبر قال: ?هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ? [الحاقة: 19، 20] .
قال الله تعالى: ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ? [الحاقة: 21، 22]
_________
(1) أخرجه الترمذي (5/302 رقم 3136) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضا: أبو نعيم في الحلية (9/15) ، وأبو يعلى (11/3، رقم 6144) ، وابن حبان (16/346، رقم 7349) عن أبي هريرة.
(2/384)
قطوفها وثمارها وعناقيدها دانية أدنيت، فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: لقد غمرتك كرامة الله تعالى من أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا.
?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 24] أي: ما قدمتم في أيام الدنيا.
وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إلية ويأمر به فيكثر تبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود، في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه الحسنات ردت إليك فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم ينقلب كتابه فيقرأ سيئاته، فلا يزداد إلا حزناً ولا يزداد وجهه إلا سواداً، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه السيئات قد ضوعفت عليك أي: يضاعف عليه العذاب وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: ?يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ? [الحاقة: 25، 26، 27] يعني: الموت ?مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ? [الحاقة: 28، 29] أي: هلكت عن حجتي.
قال الله تعالى: ?خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ? [الحاقة: 30، 31، 32] .
قال الحسن: الله اعلم بأي ذراع هذه السبعون.
واختلف في معنى «فاسلكوه» :
فقيل: تدخل من فمه حتى تخرج من دبره.
وقيل: بالعكس.
وقيل: يدخل عنقه فيها، ثم يجر بها جراً، ولو أن حلقه وضعت على جبل لذاب، فينادي أصحابه فيقول: هل تعرفوني؟ فيقولون: لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي العظيم، فمن أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذه.
واختلف في معنى: ?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ? [الإنشقاق: 10] .
فقيل: معناه أنه يخلع كتفه الأيسر فتجعل يده خلفة فيأخذ كتابه.
(2/385)
وقيل: يحول وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك.
فائدة أخرى: هل يتناول كل أحد من المؤمنين كتابه بيمينه يوم القيامة؟ وهل ذلك مخصوص بالناجين من النار؟
حكى النووي والقاضي عياض في المسألة قولان:
أحدهما: أن جميع المؤمنين من الأمم يأخذون كتبهم بإيمانهم، ثم يعذب الله من يشاء من عصاتهم.
والثاني: إنما يأخذ بيمينه الناجون من النار خاصة وقد ورد في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قسم الخلائق قسمين وجعلني من خير القسمين، فذلك قوله: ?وَأَصْحَابُ اليَمِينِ? [الواقعة: 27] ثم جعل القسمين ثلاثاً، فجعلني من خيرها ثلاثاً وذلك قوله: ?أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ? [البلد: 18] ، ?وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ? [الواقعة: 9] ، ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ? [الواقعة: 10] ، فأنا من السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خير قبيلة فذلك قوله تعالى: ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] ، أنا أتقي ولد آدم، وأكرمهم ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً? [الأحزاب: 33] » (1) .
إخواني كأنكم بهاذم الذات قد هجم، ونقلك إلى بيت الديوان والظلم، وفرق من شمل من الأحباب ما انتظم، وقد ندم المفرط حيث لا ينفع الندم، على الأعمال في الأيام الخالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، أما تحذر من بوعيده حذرك، أما تستحي ممن وجدك وصورك، كأني بك والله وقد نسيك الحبيب وأفردك، وإلى ضيق قبرك أوردك، وعادت قلوب حزنت عليك سالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
ولقد أحسن من قال: واحسرتي واشقوتي في يوم نشر كتابيه، وأطول حزني إذا أوتيته بشماليه، وإذا سئلت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه، وأحر قلبي أن يكون مع القلوب القاسية، كلا ولا قدمت له ولا ليوم حسابيه، بل إنني لشقاوتي وقساوتي
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/56، رقم 2674) قال الهيثمي (8/215) : فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وعباية بن ربعي، وكلاهما ضعيف. وأورده ابن أبي حاتم في العلل (2/394، رقم 2693) وقال قال أبي: هذا حديث باطل. وذكره الحكيم (1/330) عن ابن عباس.
(2/386)
وعذابيه، بارزت في الزلات في أيام دهر خالية، من ليس يخفى عنه من قبح المعاصي خافية، استغفر الله العظيم وتبت من أفعاليه، فعسى الله يجود لي بالعفو ثم العافية.
فائدة: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق، واختلف العلماء فيهما هل هما واجبان في الوضوء والغسل أو سنتان؟
فقال الشافعي ومالك: هما سنتان في الوضوء والغسل.
وقال أبو حنيفة: هما فرضان في الطهارة الكبرى، سنتان في الصغرى.
وقال أحمد: هما واجبان فيهما.
وأقل المضمضة والاستنشاق جعل الماء في فمه وأنفه، ولا يشترط مجة ولا إدارته في الفم، وتسن فيهما المبالغة في غير حق الصائم، وأما الصائم فتكره المبالغة، والمبالغة في المضمضة أن يوصل الماء إلى أقصى الحنك، مع إمرار الأصابع على ذلك، والمبالغة في الاستنشاق أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم مع إدخال إصبع يده اليسرى وإزاله ما فيه من الأذى.
والحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق على فروض الوضوء: ليعلم المتوضئ أوصاف الماء هل تغيرت أم لا، فيعلم الطعم بالمضمضة والرائحة بالاستنشاق.
ولا بد في تحصيل سنه الاستنشاق من تقديم المضمضة عليه، فلو استنشق قبل أن يمضمض لا يثاب على سنته الاستنشاق.
والحكمة في تقديم المضمضة على الاستنشاق كما قاله عز الدين بن عبد السلام: أن منافع الفم أنفع من منافع الأنف، فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين هما قوام الحياة، وهو محل الأذكار الواجبة والمندوبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك.
وللمضمضة والاستنشاق أربع كيفيات:
أفضلها كما قاله النووي: أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرف، يتمضمض بكل غرفة ثم يستنشق.
ومنها: تخليل اللحية الكثة من الرجل، وهي التي ترى بشرتها في مجلس التخاطب، فيجب غسل ظاهرها وباطنها.
ومنها: استيعاب الرأس بالمسح خروجاً من خلاف من أوجه، فلو مسح بعض الرأس وكمل الباقي على العمامة، وحصل له سنة مسح جميع الرأس، أما لو اقتصر على مسح العمامة من غير أن يمسح على الرأس شيئاً، فلا يكفي.
(2/387)
ومنها: مسح الأذنين ظاهرها وباطنها بماء جديد، ويستحب أن يأخذ لصماخيه ماء جديد.
وأيضاً منها: تخليل أصابع اليدين بالتشبيك، وتخليل أصابع الرجلين، وتحصل سنه تخليلها بأي وجه كان، ولكن الأفضل أن يخللها بخنصر يده اليسرى.
فائدة: ينبغي أن يتوضأ المتوضئ للوسخ الذي بين أصابع رجليه، فإن كان حاصلاً من تراب ونحوه فلا بد من إزالته، لأنه يشترط لصحة الوضوء أن لا يقترن بمانع، والتراب ونحوه مانع، أما إذا كان الوسخ من عرق فليس بمانع.
ومنها: الموالاة وهي: التتابع بحيث لا يحصل بين العضوين تفرق، والضابط في ذلك: تطهير العضو بحيث لا يحصل قبله قبل شروعه فيه مع اعتدال الهواء، ومزاج الشخص.
وعند الإمام مالك: الموالاة واجبه، وعند الإمام أحمد في الروايتين.
ومنها: ترك النفض لأنه كالمتبرئ من العباءة.
ومنها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً.
ومنها: أن يستصحب النية في جميع أفعال الوضوء، وأن يجمع فيها بين القلب واللسان.
ومنها: أن يتعهد الموقين بالسبابتين، وأن يحرك الخاتم، وأن يبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمته، وفي الرجل بأطراف الأصابع إن صب على نفسه، وإن صب عليه أحد غيرة بدأ بالمرفق والكعب.
ومنها: أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف ولا يتكلم في أثناءه لغير حاجة، أما الحاجة فقد يجب الكلام، وأن لا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع رشاش الماء.
ومنها: أن يمر يده على الأعضاء.
ومنها: أن يقول بعد الفراغ وهو مستقبل القبلة رافعا طرفه إلى السماء: أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فقد ورد أنه: «من قال هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها
(2/388)
شاء» (1) .
وأما الدعوات على الأعضاء:
كقوله عند السواك: اللهم بيض به أسناني وشد به لثاتي وبارك فيه يا أرحم الراحمين.
وعند المضمضة: اللهم اسقني من حوض نبيك كأساً لا أظمأ بعده.
وعند الاستنشاق: اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك.
وعند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
وعند اليمنى: اللهم اعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً.
وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري.
وعند الرأس: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام.
فقد قال النووي: لا أصل لها يعني لم يرد فيها حديث صحيح فهو دعاء حسن، فلا ينبغي تركة لاشتماله على مهمات كتبييض الوجه، وتناول الكتاب باليمين، وتثبيت الأقدام على الصراط وغير ذلك.
قال: وإذا أتى به الإنسان فلا يعتقد أنه سنه، بل دعاء حسن يتبرك به.
وقال النووي: وإن لم يكن له أصل فلا بأس به، فإنه دعاء حسن.
وأما مسح الرقبة فقد قال الرافعي تبعاً للغزالي: إنه سنة.
واستدل الرافعي على ذلك في الشرح الكبير بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مسح الرقبة أمان من الغسل» (2) .
لكن قال النووي: والصواب أنه ليس بسنه، لأنه لم يثبت فيه شيء.
قال: ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدموا الأصحاب.
قال: وأما الحديث فهو موضوع والله تعالى أعلم.
_________
(1) أخرجه مسلم (1/209، رقم 234) ، وأبو داود (1/43، رقم 169) والنسائي (1/92، رقم 148) ، وابن ماجه (1/145، رقم 419) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن خزيمة (1/110، رقم 222) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/280، رقم 3334) ، وفي شعب الإيمان (3/20، رقم 2753) عن عمر.
(2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/272) : قال النووي: موضوع.
(2/389)
وأما تنشيف الوجه بمنديل ونحو فالسنة تركه، لأنه يزيل أثر العبادة، لأن هذا الماء الذي تطهر به نور يضيء يوم القيامة كما ورد، فلا ينبغي إزالته، لكن لا تكره إزالته، وإنما يستحب ترك التنشيف إذا لم يكن به غرض في إزالته، أما إذا كان لغرض وخشي من الهواء أن يلصق به النجاسة، أو كان يتيمم عقب الوضوء، فإنه يستحب التنشيف بل يتأكد استحبابه كما قال الأذرعي.
وإذا نشفها فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه، فقد ذكر الشيخ برهان الدين الناجي رحمه الله في كتابه عقائد العبان: إن مما يورث الفقر ويمنع الرزق تجفيف الوجه بالثوب.
ويدل على عدم كراهه التنشيف ما قيل: أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - منديل يمسح به وجهه من الوضوء (1) .
وقيل: كانت له خرقة يتنشف بها.
فائدة: قيل: كان عند أنس منديل إذا اتسخ ألقاه في النار فيتنظف، ويقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح به وجهه، والنار لا تأكل شيئاً مر على وجوه الأنبياء.
وأما قراءة سورة إنا أنزلناه عقب الوضوء فقد صرح علماء الحنفية في كتبهم أنها مستحبة، وقالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها.
وأورد أبو الليث من الحنفية في فضل قراءتها حديثين:
أحدهما: روي عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ سورة إنا أنزلناه في ليلة القدر على أثر الوضوء مرة واحدة، أعطاه الله تعالى ثواب خمسين سنه صيام نهارها وقيام ليلها، ومن قرأها مرتين أعطاه الله تعالى ما أعطاه الخليل والكليم والحبيب والرفيع، ومن قرأها ثلاث مرات يفتح الله تعالى له ثمانية أبواب الجنة فيدخلها من أي باب شاء بلا حساب ولا عذاب» .
الحديث الثاني: روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قرأ إنا أنزلناه في ليله القدر على أثر الوضوء مرة واحدة كتب من الصديقين، ومن قرأها مرتين كتب من الشهداء والصالحين، ومن قرأها ثلاث مرات يحشره الله يوم القيامة في محشر الأنبياء» (2) .
_________
(1) قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (1/144) : أخرجه النسائي في الكنى بسند صحيح.
(2) قال العجلوني في كشف الخفاء (2/355) : لا أصل له.
(2/390)
فائدة في آداب الوضوء الباطنة: في نزهه الناظرين: اعلم أنك إذا أردت أن تتوضأ فإنك تريد زيارة ربك - عز وجل -، فينبغي لك أن تتوب من ذنوبك، لأن الله تعالى جعل الغسل بالماء علامة للغسل من الذنوب، فأبدأ بتسمية الله تعالى.
فإذا تمضمضت وطهرت فمك بالماء فطهر لسانك من الكذب والغيبة والنميمة، فإن اللسان خلق لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، ولترشيد خلق الله إلى طريقة، وتطهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت بنعمة الله فيه، فإن جوارحك نعمه من الله عليك، والاستعانة بنعم الله على معصيتة غاية الكفران.
وإذا استنشقت بالماء وأزلت ما في فتوحك من الأذى فطهرها من أن تشم محرماً كطيب مغصوب، وطبيب النساء الأجنبيات والحسان فإنه حرام كما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (1) .
وإذا طهرت وجهك بالماء فطهر نظرك من ثلاث: أن تنظر إلى محرم، وإلى معلم بعين الاحتقار، وإلى عيب مسلم، فإنما خلقت العينان لتهتدي بهما في الظلمات، وتستعين بهما في الحاجات، وتنظر بهما في عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيها من الآيات، ولم يخلق نظرك لتنظر به إلى محرم أو إلى مسلم بعين الاحتقار، ولا إلى عيب مسلم.
ولله در إمامنا الشافعي حيث يقول:
إذا شئت أن تحيى سليما من الأذى ... وعرضك محفوظ ودينك صين
لسانك لا تذكر به سوءة امرئ ... ففيك لسان وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً ... فقل يا عيني للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ... ولا تلق إلا بالتي هي أحسن
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصرة
_________
(1) أخرجه مسلم (1/328، رقم 444) ، وأبو داود (4/79، رقم 4175) ، والنسائي (8/190، رقم 5263) ، وأحمد (2/304، رقم 8022) ، وأبو عوانة (1/360، رقم 1300) ، والبيهقي (3/133، رقم 5157) عن أبي هريرة.
(2/391)
عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» (1) .
قال الإمام الغزالي: فعليك وفقك الله وإيانا بحفظ العين فإنها سبب كل فتنة وآفة، فقد ذكر عن عيسى صلوات الله عليه وسلم: «إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفي لصاحبها فتنه»
ولقد أحسن من قال:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً ... لقلبك يوماً أتعبتك النواظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضة أنت صابر
فإن لم تغمض عينيك وأرخيت عنانه بنظرك إلى ما لا يعنيك، فلا يخلو إما أن تقع عينك على حرام، فإن تعمدت فذنب فكبيرة، وربما تعلق قلبك بذلك فتهلك إن لم يرحم الله - عز وجل -، وإن كان مباحاً فربما يشتغل قلبك به، فجاءك الوسواس والخواطر بسببة، ولعلك لا تصل إليه فتبقى مشغول القلب، منقطعاً عن الخير، وقد كنت مستريحاً من ذلك كله.
وإذا طهرت يديك بالماء فطهرها من أن تضرب بهما مسلماً، وأن تتناول بهما مالاً حراماً، وتكتب بهما مما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين كما قدمنا ذلك، فاحفظه عما يجب حفظ اللسان منه.
وإذا رفعته رأسك بالماء فاعلم أنك إنما تفعل ذلك امتثالاً لأوامر الله تعالى، فإن العبادات كلها لها معان، فإن الشرع لا يأمر بعبث وقد يفهمه المكلف وقد لا يفهمه المكلف.
وإذا مسحت أذنيك بالماء فطهرها من الإصغاء إلى بدعه أو غيبة أو خوض في باطل، فإنهما لم يخلقا إلا لتسمع بهما كلام الله تعالى وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وحكمة أوليائه، فعليك بصيانة سمعك عن الخنا والفضول، فإن المستمع شريك المتكلم كما قال بعضهم:
تحرمن الطرق أواسطها ... وعد عن الجانب المشبته
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه.
_________
(1) ذكره الحكيم (3/181) عن علي.
(2/392)
وإذا طهرت رجليك بالماء فطهرها عن المشي إلى حرام، والسعي بهما إلى أبواب الظلمه، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من عبد يخطو خطوة إلا يسال عنها، ماذا أراد بهما» (1) .
وقال: «العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناهما البطش، والرجل زناهما الخطا» (2) .
* * *
_________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/376) عن ابن مسعود.
(2) أخرجه مسلم (4/2047، رقم 2657) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/365، رقم 5428) عن أبي هريرة.
(2/393)