ترجمة السفيري
نسبه وموطنة ومذهبه
هو: شمس الدين محمد بن الشيخ زين الدين عمر بن الشيخ شهاب الدين السفيري الحلبي الشافعي، الإمام العلامة ولد بحلب سنة سبع وسبعين وثمانمائة.
وعرف به ناسخ كتابه هذا فقال: العالم العلامة والبحر الفهامة المحدث شيخ الإسلام شمس الدين محمد بن أحمد بن زين الدين بن شهاب الدين السفيري.
ثم قال: السفيري الأصل، حلبي المنشأ، الشافعي المذهب.
شيوخه وعلمه وسفره في تحصيل العلم
ومن أشهر شيوخه الحافظ الإمام جلال الدين السيوطي المتوفى سنة911هـ، ونقل عنه كثيراً في شرحه على صحيح البخاري.
والعلاء الموصلي.
والكمال ابن أبي شريف.
وكمال الدين محمد بن علي القاهري الشافعي قاضي قضاة الشافعية بالديار المصرية، الشهير بالطويل، قال صاحب الشذرات: وأخذ بحلب عنه الشمس السفيري.
وخليل بن نور الله المعروف بمنلا خليل الشافعي نزيل حلب، قال صاحب الشذرات: وأكب على القراءة عليه بها جماعة منهم الشمس السفيري.
والبدر السيوفي، وغيرهم.
وأما عن طلبه للعلم وإقباله عن شيوخه فقد قال نجم الدين الغزي في كتابه الكواكب السائرة، فقد أدرجه في الطبقة الثانية وقال: لازم العلاء الموصلي والبدر السيوفي في فنون شتى، وقرأ على الكمال بن أبي شريف في حاشيته على شرح العقائد النسفية، ورسالة العذبة له، وقدم مع أخيه الشيخ إبراهيم بن أبي شريف إلى دمشق فأجاز له ولبعض الدمشقيين، ثم إلى حلب فقرأ عليه بها رسالة مختصر الرسالة القشيرية له، وقرأ على أبي الفضل الدمشقي في شرحه النزهة في الحساب، وعلى الشيخ محمد الداديخي في شرح الشاطبية لابن القاصح، وعلى غيره.
ودرس بالجامع الكبير بحلب، والعصرونية، والسفاحية، وجامع تغري بردي، وسافر إلى القاهرة سنة سبع وعشرين وتسعمائة، واجتمع بها بشيخ الإسلام زكريا الأنصاري، وحضر الصلاة عليه لما مات في تلك السنة، واجتمع بآخرين منهم: الشيخ نور الدين البحيري، وصحب في صغره الشيخ عبد القادر الدشطوطي، حين قدم(1/17)
حلب، وفي كبره الشيخ شهاب الدين الأنطاكي.
تلامذته الذين أجازهم
للسفيري تلامذة أجازهم لما اجتمعوا به وحملت لنا المراجع اسمين فقط.
فقد أجاز علاء الدين أبا الحسن علي بن سليمان بن أحمد بن محمد المرداوي السعدي ثم الصالحي الحنبلي.
وعبد العزيز بن عبد الواحد بن محمد بن موسى المغربي المكناسي المالكي وحدث أنه لما زار بيت المقدس ودمشق في سنة 951 هـ، ثم ورد حلب فاستجاز بها شمس الدين السفيري، وموفق الدين ابن أبي ذر.
مؤلفاته
له غير شرحه لصحيح البخاري كتاب بعنوان: «تحفة الأخيار في حكم أطفال المسلمين والكفار» ذكره صاحب كشف الظنون.
وفاته
توفي رحمه الله تعالى سنة ست وخمسين وتسعمائة (1) .
_________
(1) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (1/317) ، وشذرات الذهب في المواضع الآتية (4/38) ، (4/311) ، (4/113) ، (4/220) ، (4/340) ، (4/342) ، وكشف الظنون (6/234) ، والكواكب السائرة (2/56) ، والموسوعة الذهبية في العلوم الإسلامية (28/635) .(1/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليه أتوكل (1)
الحمد لله رب العالمين، وصلى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المجلس الأول
في ترجمة البخاري - رضي الله عنه - ونفعنا به وفي ذكر شيء من فضائله
فإنه كان من أكابر العلماء، والأولياء والصالحين، وبذكر الأولياء والعلماء والصحابة تنزل الرحمة، كما تنزل على مجالس العلماء، فإن مجالس العلماء روضة من رياض الجنة، تنزل عليهم الرحمة كما ينزل المطر من السماء، تدخل العصاةُ مذنبين وينصرفون مغفوراً لهم، الملائكة تستغفر لهم، ما داموا جلوساً عندهم، إن الله تعالى ينظر إليهم، فيغفر للعالم والمستمع والمحب لهم، فكيف لا تجب محبتهم وإكرامهم، والله تعالى بسببهم ينزل الرحمة على كل من حضر المجالس التي فيها ذكرهم، وكذا ذكر أهل الخير والصلاح فعليك بمجالسة العلماء تنتفع بالحضور عندهم، فإنه من جالس الأخيار سلم، ومن جالس الأشرار ندم، ومن جالس العلماء غنم، نفعنا الله بهم في الدارين.
نسب الإمام البخاري
ولنبدأ بنسبه فنقول:
أما نسبه فهو: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَة الجعفي.
وجده «بَرْدِزْبَة» كان فارسياً مجوسياً على دين قومه، مات ولم يسلم.
«بَرْدِزْبَة» لفظة بخارية ومعناه بالعربية: الزارع، وجده المغيرة والد «بَرْدِزْبَة» كان مجوسياً، ولكنه أسلم على يد اليمان الجعفي والى بخارى، فلهذا يقال للبخاري الجعفي لكون جده المغيرة أسلم على يد اليماني الجعفي بمذهب من يرى أن من أسلم
_________
(1) في الأصل: «توكل» ولعلها: «أتوكل» ، كما أثبتناه.(1/46)
على يد شخص كان ولاؤه له (1) .
وجده إبراهيم ولد المغيرة قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : لم نقف على شيء من أخباره.
وأما والده إسماعيل فإنه كان من خيار الناس - رضي الله عنه - حضر الأكابر، وسمع منهم كالإمام مالك، وحماد بن زيد، وصحب عبد الله بن المبارك ومات والبخاري صغير فنشأ في حجر أمه.
وكانت رضي الله عنها مجابة الدعوة، ومن كراماتها: أن البخاري ذهب بصره في صغره، فرأت أمه في المنام إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال لها: يا هذه قد رَدَّ الله على ابنك بصره بكثرة دعائك أو بكائك، فأصبح وقد رَدَّ الله بصره عليه.
ولد - رضي الله عنه - ببخارى بالإجماع يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشر ليلة خلت من شوال سنة أربع وتسعين ومائه، وحج - رضي الله عنه - مع أمه وأخيه أحمد.
مناقب البخاري
وكان أخوه أسنَّ منه، فأقام هو بمكة يطلب العلم مجاوراً، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى فمات بها.
وأما حفظة وسيلان ذهنه ففي الغاية والنهاية، نقل عنه ورَّاقُه (3) أنه قال: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل.
ونقل عنه أنه قال: أحفظ مائه ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح.
واتفق له حكاية عجيبة تدل على قوة حفظه وهي: أنه لما دخل بغداد سمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا الإسناد إلى إسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتن آخر، ودفعوها إلى عشرة نفس، لكل رجل عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري، فلما اجتمعوا وحضر في المجلس خلق كثير واطمأن المجلس
_________
(1) يراد به أن نسبة جد الإمام البخاري إلى الجعفي من باب الاعتراف بالفضل الذي صنعه اليماني من أنه كان سبباً في إسلام جد البخاري.
(2) هو: أبو الفضل، شهاب الدين أحمد بن على بن محمد الكناني العسقلاني ابن حجر، من أئمة الحديث وعلومه، وله باع في التاريخ والسير، أصله من عسقلان بفلسطين، مولده سنة (773هـ) بالقاهرة، كان صبيح الوجه، فصيح اللسان، له مؤلفات كثيرة منها: فتح الباري بشرح صحيح البخاري، وهو شرح عظيم الفائدة نقل منه السفيري بعض هذهه الفوائد في مواضع عدة من شرحه هذا، ولابن حجر أيضا في علم الرجال نهذيب التهذيب، وله جهود عظيمة ومباركة في خجمة السنة يعرفها القاصي والداني، وكانت وفاته بالقاهرة سنة (852هـ) .
انظر: الأعلام (4/95) .
(3) وهو: أبو جعفر محمد بن أبي حاتم وراق البخاري، والمراد بقوله «وراقه» أي: الذي يأتي له بالورق الذي يكتب عليه. انظر فتح الباري (9/568) .(1/47)
بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث، فقال البخاري: لا أعرفه، فمازال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول له: لا أعرفه، فكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل، من كان لم يدر القصة يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل أيضاً من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال: لا أعرفه، فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته، والبخاري يقول له: لا أعرفه، ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا.
فلما عرف أنهم قد فرغوا، التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا وصوابه كذا، والثالث والرابع على الولاة حتى أتى على تمام العشرة فرد كل سند إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقر الناس له بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: هنا [يخضع للبخاري] (1) فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة.
ذكر مشايخ البخاري
وأما مشايخه الذين كتب عنهم فقد نقل عنه أنه قال: كتبت عن ألف وثمانين نفساً، ليس منهم إلا صاحب حديث.
ونقل عنه أنه قال: ما قدمت على شيخ إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به.
وأما الجماعة الذين قرؤوا عليه وأخذوا عنه الحديث فخلق كثيرون نحو مائة ألف أو يزيدون، أو ينقصون، وكان يحضر مجلسه أكثر من عشرين ألفاً يأخذون عنه.
ذكر تعظيم الناس للبخاري
وأما ثناء الناس عليه وتعظيمهم له فقد قال ابن خزيمة: «ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث منه وأحفظ» (2) .
_________
(1) ما بين [] هكذا بالأصل، وفي مقدمة فتح الباري (ص 486) يقول ابن حجر: قلت: هنا يخضع العالمين ... إلى آخره. وانظر أيضاً تغليق التعليق (5/415) .
(2) انظر: التقييد (ص 32) ، وتذكرة الحفاظ (2/556) ، وابن حجر في تغليق التعليق (5/411) ، وفي مقدمة فتح الباري (ص 485) .(1/48)
وقال بعضهم: «هو آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض» (1) .
وقال له الإمام مسلم مؤلف الصحيح: «أشهد أنه ليس في الدنيا مثلك» (2) .
وكان مسلم كلما دخل يسلم ويقول: «دعني أقبل رجليك يا طبيب الحديث في علله، ويا أستاذ الأستاذين، ويا سيد المحدثين» (3) .
وقال أبو عيسي الترمذي: «لم أر مثله جعله الله زين هذه الأمة» (4) .
وقال عبد الله بن حماد: «وددت أن لو كنت شعرة في جسد محمد بن إسماعيل» (5) .
وحكي أن أهل بغداد كتبوا إلى البخاري كتاباً يثنون عليه فيه ومن جملته:
_________
(1) الذي قال ذلك رجاء الحافظ، قال الذهبي في السير (12/427) يقول أبو عمرو المستنير بن عتيق سمعت رجاء بن المرجى الحافظ يقول: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء، فقال له رجل: يا أبا محمد كل ذلك بمرة، فقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/25) من طريق محمد بن أبي حاتم، قال: سمعت أبا عمرو المستنير بن عتيق البكري، قال: سمعت رجاء بن المرجى يقول: ... فذكره.
(2) حدث بذلك أبو عيسى الترمذي صاحب السنن المشهورة، ونقله عنه الحافظ ابن حجر. انظر: تغليق التعليق (5/411) ، ومقدمة فتح الباري (ص 485) .
(3) رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث (1/113) قال: حدثني أبو نصر أحمد بن محمد الوراق قال سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار يقول سمعت مسلم بن الحجاج ... فذكره.
ورواه أيضاً: الخطيب البغدادي (13/102) ، وذكره ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص 488) ، وفي تغليق التعليق (5/429) ، وانظر: سير أعلام النبلاء (12/432) ، وابن مفلح في المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد (2/95) ، وتهذيب الأسماء (1/88) .
(4) ذكره الذهبي في السير (12/433) وعبارته: وقال أبو عيسى الترمذي: كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير، فلما قام من عنده قال له: «يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة» قال الترمذي: استجيب له فيه.
وذكره الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (9/45) بعبارة قريبة من هذا ففيه: قال له أبو عيسى الترمذي: «قد جعلك الله زين هذه الأمة يا أبا عبد الله» .
(5) رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/28) ، ونقله عنه الذهبي في السير (12/437) ، والنووي في تهذيب الأسماء (ص 88) .
وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري (ص485) .(1/49)
المسلمون بخير ما بقيت لهم ... وليس بعدك خير حين تفتقد (1)
قال الحاكم: «ولوفتحنا باب الثناء عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس، ونفذت الأنفاس، فذاك بحر لا ساحل له» (2) .
رحلته في طلب الحديث
وأما رحلته لأجل أخذ العلم والحديث من العلماء فقد رحل رحلات واسعات، وكتب عن شيوخ متوافرات، وافية متكاثرات، ونقل عنه أنه قال: «دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، لا أُحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين» (3) .
كتابه الصحيح وسبب تأليفه
وأما كتابة الصحيح فليس بعد القرآن كتاب أصح منه، وهو أصح من صحيح مسلم على الصحيح، واسمه «الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسننه وأيامه» كذا سماه هو - رضي الله عنه -.
وروي عنه أنه قال: «صنفت كتاب الصحيح في ستة عشر سنة، وخرجت من ستمائة ألف حديث، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل» (4) .
وسبب تصنيفه لهذا الكتاب ما نقل عنه أنه قال: «رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام كأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال: أنت تذب الكذب عن حديثه - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي حملني على إخراج الصحيح» (5) .
ونقل عنه أنه قال: «ما وضعت في كتابي هذا حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين» (6) .
_________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/22) من طريق يحيى بن عمرو بن صالح الفقيه يقول: سمعت أبا العباس محمد بن عبد الرحمن الفقيه يقول: كتب أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل ... فذكره.
وانظر: تهذيب الكمال (24/458) ، والتقييد (1/33) ، ومقدمة فتح الباري لابن حجر (ص485) .
(2) نقله عن الحاكم الحافظ ابن حجر في المقدمة (ص 485) وقال: ذكر ذلك في كتابه الكنى.
(3) انظر: سير أعلام النبلاء (12/407) .
(4) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 91) .
(5) ذكره النووي في تهذيب الأسماء (ص 92) .
(6) رواه عنه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) ،، والمزي في تهذيب الكمال (24/443) ، والذهبي في السير (12/402) ، وانظر: تهذيب التهذيب (9/42) ، (ص 92) ، وطبقات الحفاظ (ص 253) .(1/50)
قيل: كان تصنيفه لهذا الكتاب بمكة المشرفة، والغسل بماء زمزم، والصلاة خلف المقام.
وقيل: كان بالمدينة الشريفة، وترجم أبوابه في الروضة المباركة، وصلى لكل ترجمة ركعتين (1) .
وله تصانيف كثيرة غير الصحيح نقل عنه - رضي الله عنه - أنه قال: «أقمت بالبصرة خمس سنين مع كتبي، أصنف وأحج في كل سنة، وأرجع من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن الله يبارك للمسلمين في هذه المصنفات» ولقد بارك الله فيها.
زهده وورعه وفضله
وأما سيرته ومناقبه وشمائله وفضائله وزهده وروعة فكثيرة كلَّت الكتَّاب عن حصرها.
قيل: إنه كان عنده شيء من شعرات النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعله في ملبوسه.
ومن فضائله: أنه قال على سبيل التحدث بالنعمة: «إني لأرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحد من هذه الأمة» (2) .
اسمع واتعظ يا من يغتاب الناس ويمزق أعراضهم: «أوحى الله إلى موسى - عليه السلام - من مات تائباً من الغيبة، فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار» .
وجاء في الحديث: «من كف لسانه عن أعراض الناس قال الله عثرته يوم القيامة» (3) .
وحكي عن داود الطائي - رضي الله عنه - أنه مر يوماً بموضع فوقع مغشياً عليه فحل إلى
_________
(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/9) من طريق عبد القدوس بن همام يقول: سمعت عدة من المشايخ يقولون: حول محمد بن إسماعيل البخاري تراجم جامعه بين قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنبره، وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين.
(2) رواه عنه المزي في تهذيب الكمال (24/446) ، والحافظ ابن حجر من طريقه في تغليق التعليق (5/397) ، ونقله الذهبي في السير (12/439) . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص480) ، وصفة الصفوة (4/171) .
(3) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/279، رقم 454) عن أبي هريرة مرفوعاً: بطرف: «من أقال نادماً أقاله الله تعالى عثرته يوم القيامة ومن كف ... فذكره» .(1/51)
منزله فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: «ذكرت أني اغتبت رجلاً في هذا الموضع، فذكرت مطالبته إياي بين يدي الله تعالى» .
قال بعضهم: «الغيبة فاكهة الفقراء، وضيافة الفساق، وبساتين الملوك، ومراتع النساء، ومزابل الأتقياء» .
وقال حاتم الأصم: «المغتاب والنمام قردا أهل النار، والكذب كلب أهل النار، والحاسد خنزير أهل النار» .
وحكي: أن عيسي - عليه السلام - رأى إبليس وفي يده عسلاً، وفي الأخرى رماداً، فسأله عن ذلك فقال: العسل أجعله في شفاه المغتابين، والرماد أجعله في وجوه الأيتام، حتى يرمدوا فيستقذرهم الناس فلا يفعلون معهم خيراً.
ومنها: أن والده إسماعيل كان كثير المال، نقل عن والده أنه قال: لا أعلم في مالي درهماً من حرام، ولا درهما من شبهة، فلما مات والده إسماعيل انتقل المال إليه، فكان يعطيه مضاربة، فقطع له غريم خمسة وعشرين ألفاً، فقالوا له: استعن عليه بالوالي، فقال: لن أبيع ديني بدنياي، ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله (1) .
وحمل إليه بعض عماله بضاعة وكانت مطلوبة، فجاءت إليه التجار آخر النهار وطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم فردهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة، فجاءه من الغد تجاراً آخرون فطلبوا منه البضاعة تربح عشرة آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الأولين، فلا أغير نيتي ودفعها إليهم (2) .
ونقل عنه أنه قال: كنت استغل كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب، وما عند الله خير وأبقى (3) .
ومع كثرة هذا المال كان يأتي عليه نهار لا يأكل فيه، وكان أحياناً يأكل لوزتين أو ثلاثاً، وكان يتصدق بماله على الفقراء.
_________
(1) أورده الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق (5/394) حكاية عن محمد بن أبي حاتم وراق الإمام البخاري، وذكره أيضاً في مقدمة فتح الباري (ص 479) .
(2) ذكره ابن حجر في تغليق التعليق (5/395) وعزاه إلى غنجار في تاريخه، وانظر: صفة الصفوة (4/170) .
(3) انظر: تغليق التعليق (5/395) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) .(1/52)
طلبه العلم مع سعة ماله - رضي الله عنه -
وطلبه العلم مع سعة هذا المال نقل عنه أنه قال: ما أشريت من حين ولدت من أحد بدرهم ولا بعت أحداً شيئاً، فسئل عن الورق الذي يكتب فيه والحبر فقال: كنت أوكل أنساناً يشتري لي، فكيف لا يكون ولياً.
زهد البخاري
وقد زهد في الدنيا وآثر غيره على نفسه، وصبر على شدة الجوع مع كثرة ما معه من مال، وكل هذا من علامات الأولياء.
قال إبراهيم بن أدهم لرجل: أتحب أن تكون لله ولياً؟ قال: نعم، قال: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرِّغ نفسك لله، وأقبل عليه بوجهك ليقبل عليك ويواليك.
بل كثير من أولياء الله يأتيهم رزقهم من غير تعب ولا تكلف، كما حكي عن عتبة الغلام أنه دعا ربه أن يهب له ثلاث خصال في دار الدنيا، دعا أن يمن عليه بصوت حزين، ودمع غزير، وطعام من غير تكلف، فكان إذا قرأ بكى وأبكى، وكانت دموعه جارية دهره، وكان يأوي إلى منزله فيصيب قوته، ولا يدري من أين يأتيه.
وحكي أن رابعة العدوية كانت تطبخ قدراً فاشتهت بصلاً فجاء طائر في منقاره بصلة فألقاها إليها.
ومنها: أنه (1) وقف يصلي فلسعه زنبور سبع عشرة مرة، ولم يقطع صلاته (2) .
وفاة البخاري وما ظهر من الكرامات عند وفاته
وكانت وفاته (3) - رضي الله عنه - ليلة السبت ليلة عيد الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين، عن
_________
(1) الكلام على البخاري - رضي الله عنه -.
(2) رواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/12) عن أبي سعيد بكر بن منير يقول: كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات يوم فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة، فلما قضى صلاته قال: انظروا أي شيء هذا الذي آذاني في صلاتي؟ فنظروا فإذا الزنبور قد ورمه في سبعة عشر موضعاً، ولم يقطع صلاته.
ورواه المزي في تهذيب الكمال (24/446) ، وانظر: تهذيب التهذيب (9/43) ، وتغليق التعليق (5/398) ، ومقدمة فتح الباري (ص 480) ، وسير أعلام النبلاء (12/441) .
(3) وفي سبب وفاته قال ابن حجر في تغليق التعليق (5/441) : قال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري سمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه البخاري بخرتنك يقول: أنه أقام أياماً فمرض، واشتد به المرض، حتى وجه إليه رسول من سمرقند ليخرج، فلما وافى تهيأ للركوب، ولبس خفيه وتعمم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها، وأنا آخذ بعضده، ورجل آخر معي يقوده إلى الدآبة ليركبها فقال رحمه الله: أرسلوني فقد ضعفت، فدعا بدعوات ثم اضطجع، فقبض فسال منه عرق كثير، وكان أوصى أن يكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، قال: ففعلنا فلما دفناه فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ودامت أياما وجعل الناس يختلفون إلى القبر أياماً يأخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشباً مشبكاً.
وانظر: سير أعلام النبلاء (12/466، 467) .(1/53)
اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوماً وصفته: أنه كان نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير وحق أن ينشد فيه.
تراه من الذكاء نحيف الجسم ... عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعالي
... فليس يضيره الجسد الضئيل (1)
ولما دفن فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك، وكان الناس تأتي إلى قبره يأخذون التراب منه للتبرك به ولشمه، حتى ظهرت الحفرة للناس، ولم يكن يقدر على حفظ القبر بالحراس فنصبوا على القبر أخشاباً مشبكة منعوا الناس بها من الوصول إلى قبره، فكانت الناس تأخذ التراب والحصيات من حوالي القبر، دامت تلك الرائحة أياماً كثيرة، حتى توارت وشاعت في جميع تلك البلاد، ولا يبعد أن تكون هذه الرائحة رائحة صيامه الذي صامه في الحياة وأخفاه عن الناس، فأظهره الله لهم بعد موته، إظهاراً لفضله وعظيم منزلته عنده.
قال العلامة ابن رجب في «اللطائف» : ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكلما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه، ثم قال: لما دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرؤي في النوم فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره؟ فقال: تلك رائحة التلاوة والظمأ، ولله در من قال:
وكاتم الحب يوم البين منهتك ... وصاحب الوجد لا تخفى سرائره (2)
لم ينم الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم عليهم، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه
_________
(1) البيتان من بحر «الوافر» ، أنشدهما الشيخ أبو إسحاق الشيرازي. انظر: معجم السفر لأبي طاهر أحمد بن محمد السلفي (ص 124) .
(2) البيت للمتنبي. انظر: المدهش لأبي الفرج بن الجوزي (ص 441) .(1/54)
الله رداءها علانية، وما أحسن قول القائل:
كم أكتم حبكم عن الأغياري ... والدمع يذيع في الهوى أسراري
كم أستركم هتكتموا أستاري
... من يخفي في الهوى لهيب النار
وقيل: إن بعض العلماء رأي ليلة موته (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم، ومعه جماعة من أصحابه، وهو واقف في موضع قال: فسلمت عليه، وقلت: يا رسول الله ما وقوفك هاهنا قال: انتظر محمد بن إسماعيل.
ونقل عن الفربري أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريد محمد بن إسماعيل البخاري، فقال: اقرأه مني السلام (2) .
وقال أبو زيد المروزي الفقيه: كنت نائماً بين الركن والمقام، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام: فقال: يا أبا زيد إلى متي تدرس الفقه ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله وما كتابك؟ فقال: جامع ابن إسماعيل (3) .
وقال الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة المالكي نفعنا الله ببركاته: قال لي من لقيته من العارفين عن من لقي من السادة المقر لهم بالفضل: أن صحيح البخاري ما قريء في شدة إلا فرجت، ولا رُكب به في مركب فغرق (4) .
وحكي: أنه قريء مرة في حمص لرفع البلاء فرفعه الله.
وجملة ما في صحيح البخاري من الأحاديث مع المكرر سبعة ألاف ومائتان وخمس وسبعون حديثاً كما جزم به ابن الصلاح، وبإسقاط المكرر أربعة آلاف حديث (5) على
_________
(1) الكلام على الإمام البخاري.
(2) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/10) بسنده عن أحمد محمد بن محمد بن مكي الجرجاني يقول: سمعت محمد بن يوسف الفربري يقول: ... فذكره، وكذا المزي في تهذيب الكمال (24/445) ، وانظر: تغليق التعليق (5/422) ، ومقدمة فتح الباري (ص 489) ، وسير أعلام النبلاء (12/443) ، تهذيب الأسماء (ص 86) .
(3) رواه الرافعي في التدوين في أخبار قزوين (2/46) وفيه: «إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ... » ، وأورده ابن حجر في تغليق التعليق (5/422) وقال الحافظ ابن حجر عقبه: قلت: «إسناد هذه الحكاية صحيح ورواتها ثقات أئمة، وأبو زيد من كبار الشافعية، له وجه في المذهب، وقد سمع صحيح البخاري من الفربري، وحدث به عنه، وهو أجل من حدث به عن الفربري» . وانظر: مقدمة فتح الباري (ص 489) ، وتهذيب الأسماء (ص 92) .
(4) ذكره الحافظ السيوطي في تدريب الراوي (1/96) .
(5) انظر: تدريب الراوي (1/104) .(1/55)
ما قيل (1) .
ومن شعره - رضي الله عنه - وأرضاه:
اغتنم في الفراغ فضل الركوع ... فعسي أن يكون موتك بغتة
كم صحيح رأيت من غير سقم ... ذهبت نفسه صحيحة فلتنه (2)
وكم له من الكرامات - رضي الله عنه -، رفع الله ذكره الشريف وقد فعل، وجعل له لسان صدق في الآخرين وقد جعل.
* * *
_________
(1) قال سراج الدين الأنصاري في المقنع (1/64) : إلا أن هذه العبارة-يقصد عدد ما في صحيح البخاري- قد تندرج تحتها عندهم آثار الصحابة والتابعين وربما عد الحديث المروي بإسنادين حديثين.
قلت: ولذا قال المصنف: على ما قيل.
(2) ذكرهما ابن حجر في تغليق التعليق (5/400) ، ومقدمة فتح الباري (ص 481) .(1/56)
كتاب بدء الوحي
«قال الشيخ الحافظ الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم» .
قال العلماء (1) : «بسم الله» جار ومجرور متعلق بمحذوف اتفاقاً، قدره بعضهم فعلاً نظراً إلى أن الأصل في العمل الأفعال، وقدره بعضهم مصدراً مرفوعاً على الابتدا نظراً إلى أن المقام مقام الابتدا، والتقدير على الأول: «بسم الله ابتدئ» وعلى الثاني: «ابتدائي ببسم الله ثابت» فحذف المبتدأ وخبره، وبقي معمول المبتدأ والتقدير الأول أولى، لأن المصدر لا يعمل محذوفاً.
ولو قيل: إن «بسم الله» متعلق بالاستقرار على أنه في موضع الخبر لمبتدأ محذوف: والتقدير: «ابتدائي مستقر ببسم الله» لم يبعد وسلم من دعوى عمل المصدر في حالة حذفه، قاله في بعض المحققين، وقال: إنه لم يره مسطوراً.
ويقدر متعلق «بسم الله» في كل موضع بحسبه، فإن جعلت «بسم الله» للأكل، قدرت: بسم الله آكل أو أكلي، أو للشرب قدرت: بسم الله أشرب أو شربي، وما أشبه.
فالحاصل أن متعلق «بسم الله» إما «أبتدي» أو «ابتدائي» ، ويسمي «المجرور» حنيئذ «بالظرف اللغو» ، وإما أن يكون المتعلق الاستقرار ويسمي «بالظرف المستقر» ، والفرق بين الظرف اللغو والمستقر: أن الظرف اللغو ما كان عامله خاصاً كالابتداء ونحوه، والمستقر: ما كان عامله عاماً كالاستقراء ونحوه.
وإضافة «اسم» إلى «الله» قيل: من إضافه العام إلى الخاص «كخاتم حديد» .
وقيل: المضاف هنا مقتحم جيء به لإرشاد حسن الأداء.
وقيل: الاسم هنا بمعني التسمية.
وقيل: في الكلام حذف مضاف تقديره: باسم مسمى الله، «والله» علم على الذات المعبود بحق، وتفخم لامه وجوباً إذا ضم ما قبله، قال ابن الجزري:
وفخم اللام من اسم الله ... عن فتح أو ضم كعبد الله
و «الرحمن» على وزن فعلان مشتق من «رحم» بالكسر، «كغضبان» من غضب، وهو صفة مشبهة.
فإن قيل: كيف يأتي من «رحم» بالكسر وهو متعدد، وهي لا تأتي إلا من فعل لازم؟
_________
(1) انظر تفصيل ذلك أيضاً في التبيان في إعراب القرآن (1/1) .(1/57)
أجيب عنه: بأنها بنيت من «رحم» بالكسر بعد النقل إلى فعل بالضم، أو بعد تنزيل المتعدي منزلة الفعل اللازم، كما في قولك: «فلان يعطي» .
وههنا سؤال وهو: إن قيل: «الرحمن والرحيم» صفتان مشتقتان من الرحمة، والرحمة: رقة القلب، وهي في حق الله محال تعالى سبحانه عن أن يكون له قلب أو نحوه من صفات الأجسام؟
والجواب عنه: أن أسماء الله تؤخذ باعتبار الغايات، فإذا وصف الله بأمر ولم يصح وصفه به، يحمل على غاية ذلك، وهذه قاعدة في كل مقام، وغاية رقة القلب التفضل والإحسان فهو المراد هنا.
وابتدأ البخاري -رحمه الله تعالى- كتابه «ببسم الله الرحمن الرحيم» اقتداء بالقرآن الكريم العظيم، وعملاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (1)
أي: ذاهب البركة، رواه الخطيب بهذا اللفظ في كتابه الجامع،
_________
(1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14) ، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة.
قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وقد أشار السفيري -المصنف- إلى ذلك.
وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - والمشهور رواية أبي هريرة.
وهذا الحديث حسن، وروي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى: «أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه: «جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها.
والحديث حسنه برواياته العجلوني في كشف الخفاء (2/156) .
إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية.
وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما سبق أن قرأنا ذلك عند الإمام النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان (1/174، رقم 2) ، والدارقطني (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.
ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فإن الذي يبدأ بذلك فقد جمع بين الروايات وحاز فضل ذلك. قاله الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .(1/58)
فلهذا ابتدء بها المصنفون في أول كتبهم.
فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ابتدء القرآن العظيم بالبسملة؟
فالجواب: كما قاله البشفي: إنه فعل ذلك سبحانه ليعملنا بابتدائه بالرحمة رضاه عنا، فإن السيد إذا كتب لعبده الغائب كتاباً، عرف رضا سيده وسخطه من عنوان كتابه، والله تعالى جعل عنوان كتابه «بسم الله الرحمن الرحيم» ولم يقل: بسم الجبار والقهار، بل بدأ بالرحمة، وجعلها سابقة على الكل، إشارة لها إلى أن رحمته قبل غضبه، وأن رضاه قبل سخطه، فله الحمد والمنة على ذلك.
جاء في حديث: «أن الله تعالى كتب على نفسه قبل أن يخلق الخلق: إن رحمتي تغلب غضبي» (1) .
وجاء أيضا: «إذا كان يوم القيامة أخرج الله تعالى كتاباً من تحت العرش فيه مكتوب: إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين» (2) .
فيا أيها الرب الكريم وخير من ... ينادى به رباه رباه رباه
تفضل علينا يا كريم برحمة ... تعم جميع الخلق وتغشاه
وبارك لنا في الزرع والضرع دائماًً ... وغزر لنا شعب النبات وفرعاه
وأرخص لنا الأسعار في كل بلدة ... واغن جميع الخلق كلاً بمعناه
وسهل ونفس واقض كل إنابة ... وتب واعف واغفر كل ذنب عملناه
_________
(1) متفق عليه أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (6/2694، رقم 6969) ، والإمام مسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(2) رواه عبد الرزاق عن معمر في الجامع (11/411، رقم 20858) من رواية الحكم بن أبان أنه سمع عكرمة يقول: «إن الله تبارك وتعالى إذا فرغ من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش فيه: رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين» ، ومن طريقه ابن جرير الطبري في تفسيره (7/155) ووقع عند الطبري أن الحكم بن أبان قال: عن عكرمة وحسبته أسنده.(1/59)
لطيفة: قال الإمام الرازي: كتب عارف من العارفين لما دنا أجله «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك في هذا؟ قال: أقول يوم القيامة إلهي بعثت إلينا كتاباً وجعلت عنوانه «بسم الله الرحمن الرحيم» فعاملني بعنوان كتابك.
واختلف العلماء في البسملة (1) هل هي آية من الفاتحة، ومن كل سورة أم لا؟ فذهب إمامنا الشافعي إلى أنها آية من الفاتحة، ومن كل سورة إلا براءة، للأخبار ولإجماع الصحابة على إثباتها في المصحف أوائل السور سوى براءة، فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك، لأنه يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآناً.
بل ذكر الروياني من أصحابنا الشافعية في كتابة «البحر» : أن البسملة أفضل آي القرآن.
والحكمة في عدم ابتداء سورة براءة بالبسملة: أنها نزلت في الخوف والقتال بالسيف، والبسملة آية أمان، والأمان والخوف لا يجتمعان.
وذهب الأئمة الثلاثة إلى أنها ليست آية من كل سورة.
واختلاف العلماء فيها لا يكفر جاحدها ومنكرها بخلاف غيرها من أي القرآن إذا أنكره فإنه يكفر.
والبسملة التي في أثناء النمل آية من القرآن بالإجماع.
ومذهب الشافعي يستحب الجهر بها في الصلاة الجهرية (2) ، ومذهب أبي حنيفة وأحمد يسر بها مطلقاً، والإمام مالك لا يقرأها سراً ولا جهراً، وإذا قرأها خارج الصلاة ويأتي بها في أول الفاتحة وأول كل سورة إلا براءة، وإذا قرأ من أول الأجزاء لا من أول السورة فهو مخير بين البسملة وتركها.
وقد ذكر العلماء فوائد متعلقة بالبسملة (3) :
الأولى: أن كعب الأحبار قال: إن الباء من بسم الله بهاء الله، والسين سناوه، والميم ملكه.
الثانية: اشتملت البسملة على ثلاثة أسماء «الله، الرحمن، الرحيم» أما «الله» فهو المستحق للعبادة، وهذا معناه، وهو علم على الله غير مشتق كما قاله طائفة من العلماء منهم الإمام الشافعي، ومحمد بن الحسن، والغزالي.
ونقل عن الأشعري أنه رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بقولي: إن الله علم على ذات الله تعالى، وهو اسم الله الأعظم.
_________
(1) فصل الألوسي في تفسيره روح المعاني (1/39) هذه لمسألة تفصيلا بديعياً فقال: اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال: الأول: إنها ليست آية من السور أصلاً. الثاني: أنها آية من جميعها غير براءة. الثالث: أنها آية من الفاتحة دون غيرها. الرابع: أنها بعض آية منها فقط. الخامس: أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمناً وللفصل بينها. السادس: أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين. السابع: أنها بعض آية من جميع السور. الثامن: أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور. التاسع: عكسه. العاشر: أنها آيات فذة وإن أنزلت مراراً.
فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني. وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث. وأهل المدينة ومنهم مالك، والشام ومنهم الأوزاعي، والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس.
(2) انظر المجموع (3/280) وعبارته فيه: قال الشافعي والأصحاب: ويسن الجهر بالبسملة في الصلاة الجهرية في الفاتحة وفي السورة.
(3) ومن الفوائد التي لم يذكرها المصنف ما قاله في فتح المعين (1/147) : ويسن وقف على رأس كل آية حتى على آخر البسملة، خلافاً لجمع منها أي: من الفاتحة وإن تعلقت بما بعدها للاتباع.(1/60)
كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة، وأكثر مشايخ التصوف والعارفين، فإنه لا ذكر لصاحب مقام فوق الذكر باسمه مجرداً.
واستدلوا على ذلك بأشياء منها: أن الله تعالى لما خاطب موسي قال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه: 14] فلو كان له اسم أعظم منه لقاله.
ومنها: أنه لم يسم به غيره بدليل قوله تعالي {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} [مريم: 65] أي: هل تعلم أحد تسم غير الله.
وفي الاسم الأعظم خلاف كثير سيأتي في محله.
واسم الله أعرف المعارف، وقد ذكر هذا الاسم الشريف في القرآن في ألفين وثلاثمائة وستين موضعاً.
وأما اسم «الرحمن» فهو اسم خاص به سبحانه، لأنه صفة لمن وسعت رحمته كل شيء، ومن لم يكن كذلك لا يسمي رحماناً.
وتسمية مسيملة الكذاب برحمان فهو صادر من الكفار فلا عبرة بذلك، فلا يجوز للإنسان أن يسمي ولده بالرحمن بل بعبد الرحمن.
قال السبكي: المختص بالله هو المعرف باللام دون غيره، فعلي قوله يجوز التسمية برحمان لا بالرحمن.
وأما اسم «الرحيم» فإنه يطلق على غير الله أيضاً.
فإن قيل: إذا كانت البسملة من الفاتحة فما الحكمة في ذكر الرحمن الرحيم في الفاتحة، بعد ذكرهما في البسملة؟
فالجواب عنه من وجهين:
أحدها: أن الله تعالى لما ابتدء كتابه بالحمد لله رب العالمين بعد البسملة عَلِم سبحانه أن النفوس ترهب من ذلك، فعقبة بقوله «الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ» ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه فيكون أعون على طاعته وأمنع من معصيتة، ونظير هذا قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50] ، وقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] .(1/61)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» (1) قاله الغزالى في جواهر القرآن.
ثانيهما: كررهما تأكيداً للرحمة وعناية بها، ومع ذلك عقبهما بقوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4] لئلا يغتروا قاله النيابوري.
و «الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» اسمان من أسماء الله يجب على كل مكلف أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، وأرحم الراحمين.
واختلف العلماء فيهما هل هما بمعنى واحد أم لا؟
فقيل: هما بمعنى واحد وصححه ابن العربي.
والصحيح أن «الرحمن» أبلغ من «الرحيم» كما قاله الأكثرون، ومعنى كون «الرحمن» أبلغ: أن رحمته في الدنيا شاملة له وللكافر والصالح، وتلك الرحمة هي إيصال الرزق، وخلق الصحة والسلامة ورفع الأسقام والمصائب والدواهي.
و «الرحمن» أبلغ من الرحيم، لأن الرحمة الناشئة من الرحمن عامة في حق الولي والعدو والصديق والزنديق، والرحمة الناشئة من الرحيم مختصة بالمؤمنين.
وقد فرق العلماء بين: «الرحمن، والرحيم» بفروق:
الأول: أن «الرحمن» خاص بأهل السماء، و «الرحيم» بأهل الأرض.
الثاني: أن «الرحمن» هو الذي يرحم برحمته واحدة، و «الرحيم» بمائة رحمة فعلى هذا يكون «الرحمن» خاص بأهل الدنيا، و «الرحيم» بأهل الآخرة، ويدل عليه ما رويناه في صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» (2) .
_________
(1) أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2755) .
وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/549، رقم 3542) ، والإمام أحمد (2/334، رقم 8396) ، وابن حبان (2/56، رقم 345) ، وأبو يعلى (11/392، رقم 6507) ، والديلمي (3/349، رقم 5056) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الإمام مسلم (4/2109، رقم 2753) .
وأخرجه أيضاً: الطبراني في الكبير (6/255، رقم 6144) ، وابن المبارك في الزهد (ص 312، رقم 894) ، وهناد في الزهد (2/614، رقم 1319) عن سلمان - رضي الله عنه -.(1/62)
الثالث: أن «الرحمن» ذو الرحمة الشاملة، الني وسعت الخلق في أرزاقهم وأسباب معايشهم ومصالحهم، عمت الجميع المؤمن والكافر، وأما «الرحيم» فخاص بالمؤمنين، كما قال {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] .
وقيل غير ذلك.
قال العلماء: «الرحمن» خاص بالله تعالى، لا يجوز أن يسمى به غيره بخلاف «الرحيم» وأما مسيلمة الكذاب فقد سماه قومه بذلك حيث قالوا.
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أباً ... وانت غوث الورى لازلت رحماناً
عناداً وكفراً لزعمهم أنه كان نبياً، فهو استعمال باطل، صدر من الكفار فلا عبرة به.
وقد ذكر العلماء أن التسمية تستحب في مواضع منها:
في ابتداء المصنفات للتأسي والاقتداء بالقرآن والتبرك بها، قال في نزهة المجالس: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما كتب القلم: بسم الله الرحمن الرحيم، ذا كتبتم فاكتبوها أوله، وهي مفتاح كل كتاب أنزل، ولما نزل بها جبريل - عليه السلام - ها ثلاثاً وقال: هي لك ولأمتك وأمرهم لا يدعوها في شيء من أمورهم، فإني لم أدعها طرفة عين مذ نزلت على أبيك آدم - عليه السلام - وكذلك الملائكة» (1) .
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب أولاً «باسمك اللهم» فلما نزلت السورة هود فيها {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] كتب: «بسم الله» فلما نزلت سورة سبحان وفيها: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الاسراء: 110] كتب: «بسم الله الرحمن» فلما نزلت سورة النمل فيها {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] كتب: «بسم الله الرحمن الرحيم» (2) .
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) رواه أبو داود في مراسيله (ص 90، رقم 35) عن أبي مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذكره بهذا اللفظ الجصاص في أحكام القرآن (1/7) فقال: وروى أبو قطن عن المسعودي عن الحارث العكلي ... فذكره.
وذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (6/354) وعزاه إلى عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي شيبه وابن أبي حاتم عن الشعبي، وأعقبه برواية ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران ولفظها: «إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يكتب باسمك اللهم حتى نزلت ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» .
وذكره أيضا من ورواية قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر بلفظ: «لم يكن الناس يكتبون ... » .
وذكره القرطبي في التفسير (1/92) من رواية الشعبي والأعمش.
وانظر: تفسير البغوي (1/39) ، وفتح القدير (1/185) ، وروح المعاني (1/39) .
وقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه (6/337، رقم 31856) معناه عن عبد الله معبد الزماني قال: «لم تنزل بسم الله الرحمن الرحيم في شيء من القرآن إلا في سورة النمل: ? إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?» .(1/63)
واتفق العلماء على جواز كتابتها أول العلم والرسائل، ومنع جماعة من كتابتها في أول ديوان الشعر، إلا إذا كان فيه مواعظاً وحكماً.
وذكر الرازي -رحمه الله تعالى- وغيره فوائد متعلقة بالبسملة:
الفائدة الأولى: قيل: لما أنزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» على آدم قال: الآن آمنت على ذريتي من العذاب فلما مات ارتفعت، ثم نزلت على نوح فنجاها من الطوفان، ثم ارتفعت بعد موته ثم نزلت على إبراهيم، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، ثم نزلت على سليمان فاستقام ملكه، ثم نزلت على موسي فسلم في البحر، ثم ارتفعت ثم نزلت على عيسي، فأوحى الله إليه: قد نزلت عليك آية الأمان، فلما رفع ارتفعت، ثم نزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة يأخذ المؤمن كتابة بيمينه ويقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا هو أبيض لا شيء فيه، فيقال له: كان مملوءًا من السيئات ولكن محته «بسم الله الرحمن الرحيم» .
الفائدة الثانية: لما أرسل الله موسى إلى فرعون وتمادى في الطغيان، فدعا عليه مدة، فقال تعالى: يا موسي أنت تنظر إلى كفره وأنا إلى ما هو مكتوب على باب قصره، وذلك أن جبريل - عليه السلام - كتب عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» فلذلك وصفه الله بالمقام الكريم.
قال الرازي: ففي هذا إشارة إلى أن من كتب هذه الكلمة على باب داره أمن من الهلاك، وإن كان كافرًا، فكيف بالذي كتبها على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره لا يكون آمناً يوم القيامة من عذاب الله.(1/64)
وروي عن علي أنه نظر إلى رجل يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: جودها فإن رجلاً جودها فغفر له (1) .
واختلف الأئمة فيما إذا أرسل الإنسان كلباً له للصيد، ولم يقل «بسم الله الرحمن الرحيم» عند إرساله، وصاد الكلب هل يحل أكله أم لا (2) ؟
ذهب إمامنا الشافعي إلى أنه يحل أكله سواء ترك التسمية سواء ترك التسمية عمداً وسهواً، فإن التسمية عند إرسال الكلب ونحوه للصيد سنة عند الشافعي لا واجبة (3) .
وذهب أبو حنيفة إلى أن ترك التسمية ناسياً حل أكله، وإن تركها عامداً لا يحل.
مثل هذا ما إذا رمى الصيد بسهم فقتله فعلى مذهب الشافعي يحل، وعند أبي حنيفة كان ناسياً حل، وإن كان عامداً لا يحل.
ومثل هذا الذبيحة ما إذا ذبح الإنسان شاة مثلاً وترك التسمية عند ذبحها هل تؤكل أم لا؟
مذهب إمامنا الشافعي يجوز أكلها سواء ترك لتسمية عامداً أو سهواً (4) ، وعند أبي حنيفة إن تركها عمداً لا تؤكل لقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وإن تركها ناسياً تؤكل (5) .
وأجاب الشافعي عن الآية بأنها محمولة على الذي ذبح لغير الله، فإنه لا يحل أكله.
وأقل التسمية «بسم الله» وأكملها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ويسن أن يقول عند الذبح والقتال «بسم الله والله أكبر» لأن الوقت لا يليق به «الرحمن الرحيم» .
قال ابن العماد: وكيفية التسمية عليه أن يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسب الرحمة، ولا يقل: بسم الله واسم محمد.
الفائدة الثالثة: قال الحناطي من الشافعية في فتاويه: لا يجوز جعل الفضة والذهب في ورقة كتب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فإن فعل ذلك مع العلم بالمنع أثم.
الفائدة الرابعة: إذا رأى الإنسان ورقة ملقاة على الأرض وفيها البسملة، أو شيء من القرآن يستحب رفعها بل يجب، إذا خيف أن تداس بالأرجل.
قال ابن الجوزي: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» احتراماً لله تعالى حرم الله وجهه على النار» (6) .
_________
(1) ذكره القرطبي في تفسيره (1/91) .
(2) قد ذكر الجصاص في أحكام القرآن (3/316) الأصل في التسمية عند إرسال الكلب المعلم فقال: وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر ... فساق إسناده إلى الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أرسل كلبي؟ قال: «إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلباً آخر؟ قال: «لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك» .
قال الجصاص: فنهاه عن أكل مالم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه، فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال، وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه.
(3) انظر الأم (2/227) .
(4) انظر الأم (2/227) .
(5) انظر الهداية شرح البداية (4/63) .
(6) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/87) ضمن أحاديث باب ثواب من رفع قرطاساً من الأرض فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم» وروي أحاديثاً عن علي وأنس وأبي هريرة، فذكر الروايات عنهم، ولم يورد هذا الحديث الذي ذكره المصنف بهذا اللفظ، وبالنظر في الرويات التي رواها ابن الجوزي عن علي وأنس وأبي هريرة وجدنا أن أقرب الألفاظ للحديث الذي أورده المصنف حديث أنس فقد رواه بلفظ: «من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله أن يداس كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين» .
قال ابن الجوزي: وأما طريق أنس ففيه: العلاء بن مسلمة، قال ابن حبان: يروي الموضوعات والمقلوبات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به، وقال أبو الفتح الأزدي: كان العلاء رجل سوء لا يبالي ما روى لا يحل لمن عرفه أن يروي عنه، وفيه: أبو حفص العبدي، قال أحمد: حرقنا حديثه، وقال يحيى: ليس بشيء.
وحديث أنس أخرجه أيضاً: الخطيب في تالي تلخيص المتشابه (2/458، رقم 274) ، وأورده العجلوني في كشف الخفاء (2/328) وعزاه لأبي الشيخ عن أنس.
والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل (5/49، ترجمة رقم 1220) وهي ترجمة: عمر بن حفص أبو حفص العبدي، وقال: ليس بالقوي، وقال في آخر ترجمته: الضعف بين على رواياته.
وترجم له الذهبي في الميزان في (5/226، ترجمة 6081) ، قال الذهبي: قال علي: ليس بثقة، وقال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: ضعيف.
وزاد الحافظ ابن حجر على الذهبي في اللسان (4/299، ترجمة 832) فقال: وقال أبو نعيم الأصبهاني: روى عن ثابت المناكير، وقال الساجي: متروك الحديث، وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: أبو حفص العبدي يرفض حديثه.(1/65)
وإذا رفعها جاز له غسلها بالماء وجاز له حرقها بالنار، لكن قال ابن عبد السلام الأولى أن يغسلها بالماء أو يحرقها بالنار، ويجعلها في شق الحائط أو غيره، ولأنها قد تسقط فتوطأ.
وهل الحرق أولى أو الغسل بالماء؟ قال بعضهم: الحرق أولى من الغسل، لأنها بعد الغسل قد تقع على الأرض، ولا يكره الحرق إذا تعلق به غرض صحيح، كما إذا خاف أن توطأ تلك الورقة أو تستعمل في غير القراءة، فقد أحرق عثمان مصاحف، وكان فيها آيات وقرآن منسوخ ولم ينكر عليه.
قال الزركشي: نعم يكره الحرق لغير حاجة (1) .
الفائدة الخامسة: يحرم على الإنسان أن يضع على فراش أو نقش «بسم الله الرحمن الرحيم» أو بشيء من القرآن (2) .
لطيفة خاتمة: كتب قيصر إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن بي صداعاً لا يسكن، فإذا
_________
(1) وفي حكم ذلك يقول أبو بكر البكري في إعانة الطالبين (1/68) : عبارة فتوى ابن حجر -أي: في الورقة التي فيها ذكر الله هل تحرق أم تمزق أم تغسل؟ - تفيد أن المعتمد حرمة التمزيق مطلقاً، ونصها: سئل ابن حجر عمن وجد ورقة ملقاة في طريق فيها اسم الله تعالى ما الذي يفعل بها؟ فأجاب رحمه الله بقوله قال ابن عبد السلام: الأولى غسلها لأن وضعها في الجدار تعرض لسقوطها والإستهانة بها، وقيل: تجعل في جدار، وقيل: يفرق حروفها ويلقيها ذكره الزركشي.
فأما كلام ابن عبد السلام فهو متجه والذي يتجه خلافه وأن الغسل أفضل فقط، وأما التمزيق فقد ذكر الحليمي في منهاجه أنه لا يجوز تمزيق ورقة فيها اسم الله أو اسم رسوله لما فيه من تفريق الحروف وتفريق الكلمة وفي ذلك ازدراء بالمكتوب، فالوجه الثالث شاذ إذ لا ينبغي أن يعول عليه.
(2) قاله الشرواني في حواشيه (1/154) .(1/66)
كان عندك دواءًا ابعثه إليَّ، فبعث إليه عمر قلنسوه فكان إذا وضعها على رأسه سكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فتعجب من ذلك ففتش القلنسوة فإذا مكتوب فيها «بسم الله الرحمن الرحيم» .
الفائدة السادسة: ذكر ابن الملقن في شرحه على البخاري عن النقاش أنه قال: حين نزلت «بسم الله الرحمن الرحيم» سبحت الجبال فقالت قريش: سحر محمد الجبال (1) .
قال: فإن صح ما ذكره فلذلك معنى، وذلك: أنها آية نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح معه بنص القرآن العظيم.
وقد ورد في فضلها عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «من أراد أن ينجيه الله من الزبائية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» فيجعل الله له بكل حرف جنة من واحدة (2) .
وسنتكلم على التسمية وننقل فيها فوائد في باب الوضوء إن شاء الله تعالى.
* * *
_________
(1) ذكره الحلبي في سيرتة الحلبية (1/403) من قول النقاش، وقال: قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كان الجبال تسبح مع داود، وهذا هو ما قاله ابن الملقن كما نقله المصنف.
(2) ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه إلى وكيع والثعلبي عن ابن مسعود، وذكره القرطبي وابن كثير.
قال الحافظ ابن كثير: ذكره ابن عطية والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث: «لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها، لقول الرجل: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه» من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفاً وغير ذلك. انظر: تفسير القرطبي (1/92) ، وتفسير ابن كثير (1/18) .(1/67)
المجلس الثاني
في الكلام على قوله: كيف كان بدء الوحي (1) إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي قوله تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} [النساء: 163] .
وفيه طرف من خصائص سيدنا نوح وطرف من فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فإن قيل: لأي شيء لم يبتديء البخاري في أول صحيحه «بالحمد» (2)
وهو أمر مهم، وقد صح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (3) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ناقص البركة» رواه النسائي وابن ماجه (4) .
وأجاب عنه شيخ الإسلام سراج الدين ابن الملقن بسبعة أوجه:
الأول: أن هذا الحديث ليس على شرطه فإن قرة بن عبد الرحمن وهو ممن انفرد به مسلم عن البخاري.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/43) : قوله «بسم الله الرحمن الرحيم كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير «باب» وثبت في رواية غيرهما، فحكي عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه، وقال الكرماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب. فلا يكون له إعراب.
(2) لفظ الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولفظه المشهور هو ما بدأنا به، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.
وقد مر في المجلس الأول الكلام بإسهاب عن رواياته وحكمها، وهو بهذا اللفظ حديث حسن.
(3) هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، أسلم سنة (7هـ) عام خيبر، كان - رضي الله عنه - راوية الإسلام لكثرة روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكثرة ما نقله عن إخوانه من الصحابة فقد روي عنهم علماً كثيراً، قال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره، وبلغ مسنده وعدد أحاديثه (5326) حديثاً، وكانت وفاته بقصره بالعقيق سنة سبع وخمسين، وقيل: سنة ثمان وخمسين، وقيل: سنة تسع وخمسين.
انظر: الإصابة (7/444) .
(4) لفظ الحديث «كل أمر ذي بال لا يبدأ بحمد الله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» ، ولفظه المشهور هو ما بدأنا به، أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.
وقد مر في المجلس الأول الكلام بإسهاب عن رواياته وحكمها، وهو بهذا اللفظ حديث حسن.(1/68)
الثاني: أن المراد بالحمد الذكر والثناء، بدليل أنه جاء في رواية: «بذكر الله» (1) والتسمية مشتملة على ذلك، فاكتفي بها لأنها أبلغ الثناء.
الثالث: يحتمل أن البخاري حمد الله بلسانه، لأن الذي اقتضاه لفظ الحمد أن يحمد لا أن يكتبه، وقيل في الجواب غير ذلك (2) .
_________
(1) انظر التخريج السابق.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/43) : وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر:
منها: أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة، أو بالتسمية لم يعد مبتدئاً بالحمدلة فاكتفي بالتسمية.
وتعقب بأنه لو جمع بينهما، لكان مبتدئاً بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية، وهذه هي النكتة في حذف العاطف، فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز، فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسمية والحمد وتلوها، وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار، من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحة، ومن لا يقول ذلك.
ومنها: أنه راعى قوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ? [الحجرات: 1] فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا، واكتفى بها عن كلام نفسه.
وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى، وأيضاً فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية، وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث، والجواب عن ذلك: بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظاُ، لكنهما متأخران تقديراً فيه نظر.
وأبعد من ذلك كله، قول من ادعى: أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة، فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب، وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري، وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد في المسند، وأبي داود في السنن، إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة، ولم يزد على التسمية، وهم الأكثر، والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة، أفيقال في كل من هؤلاء: إن الرواة عنهم حذفوا ذلك؟ كلا، بل يحمل ذلك من صنيعهم، على أنهم حمدوا لفظاً.
ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد: أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كتب الحديث ولا يكتبها، والحامل له على ذلك إسراع أو غيره، أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصاً بالخطب دون الكتب، ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة، حمد وتشهد كما صنع مسلم، والله سبحانه وتعالي أعلم بالصواب.
وقد استقر عمل الأئمة المصنفين، افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعراً، فجاء عن الشعبي منع ذلك، وعن الزهري قال: مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم، وعن سعيد بن جبير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور. وقال الخطيب: هو المختار.(1/69)
وقوله «باب» قال الكرماني: يجوز فيه وفي نظائره ثلاثة أوجه:
الأول: «باب» بالرفع والتنوين.
والثاني: «بابُ» بالرفع بلا تنوين على الإضافة، وعلى التقديرين هو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا باب.
والثالث: «بابْ» بالسكون على سبيل التعداد للأبواب فلا إعراب له، قال البرماوي: ولا يخفى بُعده.
و «بدء الوحي» بالهمز مصدر «بدء» بمعنى البداية، يقال: بدو الوحي بلا همز مصدر بدا يبدي بمعنى ظهر.
و «الوحي» مصدر «وحى يحي» كوعد يعد، ويقال: «أوحى» رباعياً بمعناه، ولكن الأكثر في الاستعمال مصدر الثلاثي.
ومعنى الوحي في اللغة: الإعلام بخفاء، وقيل: بسرعة ومنه الوحا.
وأما في الشرع: فهو إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء بكتاب أو برسالة أو ملك أو منام أو إلهام أو نحو ذلك (1) .
واستعمل الوحي في كتاب الله بمعنى الأمر نحو: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ
_________
(1) فصل الحافظ ابن حجر في الفتح (1/45) معنى الوحي في اللغة والشرع والمراد به هنا فقال: قوله: «بدء الوحي» قال عياض: روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء، وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور.
قلت: ولم أره مضبوطاً في شيء من الروايات التي اتصلت لنا، إلا أنه وقع في بعضها «كيف كان ابتداء الوحي» ، فهذا يرجح الأول، وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ.
وقد استعمل البخاري هذه العبارة كثيراً، كبدء الحيض، وبدء الأذان، وبدء الخلق.
«والوحي» لغة: الإعلام في خفاء، والوحي أيضا: الكتابة والمكتوب والبعث والإلهام والأمر والإيماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء.
وقيل: أصله التفهيم، وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي.
وشرعاً: الإعلام بالشرع، وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي: الموحى، وهو: كلام الله المنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة، فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن، لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط.
وتعقب بأن المراد من بدء الوحي، حاله مع كل ما يتعلق بشأنه، أي: تعلق كان، والله أعلم.(1/70)
آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111] .
وبمعني التسخير نحو: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68] وهو اتخاذها من الجبل بيوتاً، ومن عبر عن ذلك بالإلهام أراد هدايتها لذلك، وإلا فالإلهام حقيقة إنما يكون للعاقل.
وبمعني الإشارة نحو: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَة وَعَشِياًّ} [مريم: 11] وقد يطلق الوحي بمعنى الموحى به كالقرآن والسنة، من إطلاق المصدر على المفعول قال تعالى {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] ، وسنذكر أقسام الوحي في المجالس الآتية.
وإنما صدر البخاري - رضي الله عنه - كتابه بالوحي لأنه مادة الشريعة وقصده أن جميع أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي (1)
لقوله الله سبحانه إخباراً عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] .
وقوله «إلى رسول الله» المراد: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنما قال: إلى رسول الله ولم يقل إلى الرسول لكراهة ذلك، فقد قال السخاوي (2)
في القول البديع: أسند البيهقي (3) من طريق الشافعي قال: يكره للرجل ان يقول قال الرسول، ولكن قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعظيماً له والله الموفق.
وصرح شيخنا السيوطي (4) في خصائصه بذلك أيضاً قال: وكره الشافعي أن يقول في حقه: الرسول بل رسول الله، لأنه ليس فيه من التعظيم ما في الإضافة.
فائدة: اختلف العلماء في الرسول والنبي هل هما بمعنى واحد؟
فقيل: هما بمعنى واحد فكل رسول نبي وكل نبي رسول.
والجمهور على أن الرسول أخص من النبي فكل نبي رسول ولا عكس، إذ النبي إنسان أوحى الله إليه بشرع ولم يؤمر تبليغه، فإن أمر تبليغه فرسول أيضاً.
وإنما قال: «إلي رسول الله» ولم يقل: إلى نبي الله، لأن الرسول المتصف بالرسالة، والنبي بالنبوة، والرسالة أفضل من النبوة، لأن الرسالة تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي كالعلم والعبادة.
وذهب ابن عبد السلام (5) إلى أن النبوة أفضل من الرسالة، واحتج بأن النبوة: الوحي بمعرفة الله وصفاته، فهي متعلقة بالله من طرفها، والرسالة الأمر بالتبليغ فهي
_________
(1) مراده من ذلك أن السنة بما تحويه من أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وإقراراته وصفاته، هي وحي من عند الله، وهذا أيضاً فيه رد المطاعن عن سنة نبينا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -، وصيانة للشريعة من كيد الغالين، وانتحال المبطلين الذين لا يقرون السنة ولا يأخذون بها بدعوى أنها قول بشر يخطئ وينسى، وقد غفلوا أن الله عصمه - صلى الله عليه وسلم - أن يخطئ في شرعه ووحيه فسبحانه القائل: ?وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى? [النجم: 3، 4] ، فالسنة بهذا وحي من الله سبحانه وتعالى.
وإذا أردت الزيادة فنقول لك:
يدل على ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ?وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً? [النساء: 113] ، والحكمة التي في الآية هي السنة، قال الشافعي في الرسالة (ص: 45) : فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفسير الحكمة بالسنة نقله الشافعي عن أئمة ارتضاهم في تفسير القرآن الكريم، وقد روي هذا التفسير تفسير الحكمة بالسنة عن الحسن وقتادة. انظر: الدر المنثور (1/193) ، والخطيب في الفقية (1/88) .
وتوجد آيات أخر تفيد أن السنة وحي من الله - عز وجل - وينضم إليها أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تؤكد ذلك، فقد روى أبو داود في سننه (4/200، رقم 4604) ، والمروزي في السنة (1/70، رقم 244) ، وأحمد في المسند (4/130) عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ... الحديث» .
ويوجد غيره من الأحاديث التي نشير إليها بهذا الحديث، وكلها دلالة قاطعة على أن السنة وحي أنزل من عند الله سبحانه وتعالى ولا يجادل في ذلك إلا معاند.
والعلماء قسموا الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - إلى قسمين:
الأول: وحي إعلامي، والثاني: وحي إقراري، وللوحي الإعلامي كيفيات متعددة وهي سبع:
الكيفية الأولى: أن يوحى إليه بواسطة الإلهام، فيلقي الله في قلبه المعاني، مع العلم اليقيني أن هذا من عند الله سبحانه، وهذه الكيفية هي المراد من قول الحق سبحانه وتعالى: ?وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً? [الشورى: 51] ، إذ يقابلها إجمال بقية الكيفيات في قوله بعد ذلك: ?أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ?، وبهذا قال أكثر المفسرين. انظر: السنة النبوية د. عبد المهدي بن عبد القادر (ص: 26) .
الكيفية الثانية: أن يكلمه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب، فلا يرى - صلى الله عليه وسلم - ربه، وإنما يسمع كلامه - عز وجل -، مع اليقين بأنه سبحانه يكلمه، وهذا هو مفهوم من قول الله سبحانه: ?وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ? فقوله سبحانه: ?أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ? هي الكيفية المذكورة هاهنا.
وتكليم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إما في اليقظة، كما في ليلة الإسراء والمعراج ين فرضت الصلاة، وإما في النوم كما في حديث: «رأيت ربي في أحسن صورة قال: يما يختصم الملأ الأعلى ... الحديث» . رواه الدارمي في الرؤيا (2/51، رقم 2155) ، وأخرجه أحمد في المسند عن عدة من الصحابة منهم ابن عباس، ومعاذ راجع المسند (1/368) ، (4/66) ، (5/243) ، (5/378) .
وفي بعض الروايات ما هو أصرح من هذا ففيها أنه رأى ربه مناماً.
الكيفية الثالثة: الرؤيا الصادقة فيرى - صلى الله عليه وسلم - الشيء في الرؤيا فهذا من الوحي، إذ رؤيا الأنبياء وحي، وهي حق كما جاء في هذا الحديث الذي معنا من هذا الشرح، وقد جاء ذلك مصرحاً به في روايات أخر نحو ما أخرجه البخاري في الصحيح (1/238، رقم 138) عن عبيد بن عمير بن قتادة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن رؤيا الأنبياء وحي» ثم قرأ: ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] .
وما ذكره السيوطي في الدر (5/280) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رؤيا الأنبياء وحي» .
فرؤياه المنامية - صلى الله عليه وسلم - حق لا يعتريها تخييل أو تلبيس، وكذا جميع الأنبياء، تجد هذا جلياً واضحاً في قصة ذبح إبراهيم ولده، وكيف أن ذلك كان بناء على رؤيا منامية، وتجده أيضاً في قصة يوسف، وأن رؤياه الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين قد تحققت بعد سنوات.
قال في الفتح (8/717) : قال ابن المرابط في تفسير الرؤيا الصالحة: هي التي ليست ضغثاً، ولا من تلبيس الشيطان، ولا فيها ضرب مثل مشكل أي لا يتوقف على تأويله.
الكيفية الرابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد تمثل له الملك رجلا، فيكلمه بما أمر به من الوحي.
فأحياناً كان جبريل - عليه السلام - يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صورة دحية الكلبي، فيبلغه عن الله سبحانه وتعالى به.
وأخرج حديث إتيان جبريل في صورة دحية الكلبي النسائي في الكبرى (8/101، رقم 4991) ، والبزار في مسنده (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبى هريرة.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفي المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر ولفظ الجميع: «كان جبرائيل يأتي النبي في صورة دحية الكلبي» .
ودحية صحابي جليل شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلا بدر، وكان جميل الهيئة.
وربما تمثل له الملك شخصاً آخر على نحو ما ورد في الحديث عند مسلم في الصحيح (1/37، رقم8) عن عمر بن الخطاب قال: «بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره» قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسئول عنها بأعلم من السائل» قال: فأخبرني عن إمارتها؟ قال: «أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» قال: ثم انطلق، فلبثت ملياً ثم قال لي: «يا عمر أتدري من السائل؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» .
وهذه الكيفية من أهون كيفيات الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في الحديث الذي معنا أيضا من رواية البخاري.
الكيفية الخامسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك ولا يرى الملك، وإنما يعلم بمجئ الوحي بعلامات تدل عليه من دوي كدوي النحل أو كصلصلة الجرس كما في الحديث هنا، فيكلمه الملك بالوحي، وهذه أثقل الكيفيات عليه - صلى الله عليه وسلم - حتى أن عائشة قالت في الحديث: «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً» .
ويدل على هذا أيضاً ما عند أحمد في المسند (1/34) من حديث عمر بن الخطاب: «كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل ... الحديث» .
وفيما يعانية النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الوحي له حكم متعددة، منها: ما يترتب على ذلك من المشقة من زيادة الأجر، ورفعه الدرجات، ومنها: أن يتفرغ - صلى الله عليه وسلم - للوحي وتتفرغ جوارحه لما سيلقى عليه.
ومن هذه الكيفية ما أخرجه البخاري في الصحيح (3/393) من حديث يعلى بن أمية أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة، وعليه جبة وعليه أثر الخلوق، وفيه أن يعلى رآه حال نزول الوحي محمر الوجه، يغط كما يغط البكر ... الحديث.
الكيفية السادسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، دون أن يرى الملك، ودون أن يكلمه، وإنما يلقي الملك في قلبه - صلى الله عليه وسلم - ما أمر به من الوحي.
ومن هذه الكيفية ما أخرجه الحاكم (2/4) والشافعي في الرسالة (ص: 53) ، وأبو نعيم في الحلية (10/26، 27) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن روح القدس نفس في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» .
الكيفية السابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد ظهر الملك على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كما عند البخاري في الصحيح (8/610) ، وفي رواية أخرى عند النسائي وابن مردوية كما في الفتح (8/611) : «له ستمائة جناح يتناثر منها تهاويل الدر والياقوت» ، وغيرهما من الروايات في أوصاف جبريل - عليه السلام -.
ومن هذه الكيفية رؤيتة - صلى الله عليه وسلم - جبريل في ليلة المعراج على صورته التي خلقه الله عليها، وفي هذه الليلة أبلغه عن الله ما أبلغه وأجابه ورافقه.
فهذه هي كيفيات الوحي الإعلامي، ورأينا أن منها ما هو بدون ملك، ومنها ما فيه ملك، ومنها ما يكون في اليقظة، ومنها ما يكون في النوم، والصفة العامة في كل هذه الكيفيات أنه - صلى الله عليه وسلم - يحدث عنده علم يقيني بأن هذا من الله - عز وجل -.
والوحي الإقراري وهو القسم الثاني من أقسام الوحي فهو: أن يجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر فيسلك فيه مسلكاً ما، فإن كان صواباً أقره الوحي، وإن كلن غير صواب نبهه الوحي، وحينئذ يكون إعلامياً، فالوحي التقريري هو: ما أقر الله سبحانه وتعالى نبيه فيه على صواب فعله من تلقاء نفسه.
وما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو إقرار دائر بين حالين: الأول: حال الإيحاء، والثاني حال عدم الإيحاء.
فأما الأول بأن يوحي الله إليه بالأمر ابتداء فيمثل، أو يوحي إليه انتهاء ليعرفه سبحانه ما يتفق وشريعته، ومثاله ما في حديث أسرى بدر، وهذا الحال الكثير الغالب، فكثيراً ما ابتدأه الوحي، وربما سئل عن الشيء فسكت حتى جاءه الوحي، كما في حديث المتلاعنين وهو عند البخاري في الصحيح (6/2663، رقم 6874) عن سهل بن سعد الساعدي، وسئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الروح فسكت حتى أخبره الوحي. أخرجه البخاري (1/58، رقم 125) ، وسئل عن توزيع التركة فسكت حتى نزلت آية الميراث. أخرجه البخاري (6/2666، رقم 6879) في باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل مما لم ينزل عليه الوحي فيقول: لا أدري أو لم يجب حتى ينزل عليه الوحي، ولم يقل برأي ولا بقياس.
وواضح من ترجمة البخاري لهذا الباب تأييداً لما قد قلناه أن هذا هو غالب حالته - صلى الله عليه وسلم -، ولو راجعت هذا الباب لاستقر ذلك، فراجعه إن شئت، وكل هذا أيضاً يثبت أن السنة وحي أنزل من عند الله.
الحال الثانية: حال عدم الإيحاء، وذلك يتحصل بتركه - صلى الله عليه وسلم - وشأنه فيتصرف صواباً فيقره الله سبحانه وتعالى على ذلك.
وهذا الحال من مستلزمات سلامة الدين، فما كان الله - عز وجل - ليترك خطأ يصر من رسوله المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعاً، وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل أن لا تكون للناس على الله حجة، فإن ذلك إنما يتم بعصمة هذا الرسول المبلغ عن ربه من الوقوع في أي خطأ وإلا نبهه، كما في حديث أبي قتادة أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول - صلى الله عليه وسلم -: «وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف قلت؟» ، قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر إلا الدَّين فإن جبريل - عليه السلام - قال لي ذلك» .
ولقد كان معلوماً لدى الصحابة أن إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إقرار من الله سبحانه وتعالى، وأنه لو حدث أمر يخالف الإسلام لجاء الوحي فأنكر عليهم ذلك، ولقد كانوا أن الوحي قريب وكثير، فلن يترك أمراً مخالفاً يمر، فما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون وحي فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحي.
ومجمل القول أن السنة وحي من الله - عز وجل - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الوحي منه إعلامي وله كيفيات متعددة، ومنه إقراري يقر الله نبيه على تصرف تصرفه صواباً، وقد كان الوحي يراقب تصرفات الأمة أيضاً، فينبه على ما ارتكبوه من أخطاء يظنونها صواباً أو لم يعرفوا مخالفتها، أما ما عرفت مخالفته ووقع فيه فاعله مدركاً تقصيره وعالماً حكمه فهذا ليس داخلاً في دائرة الوحي، وهذا من رحمة الله بالأمة.
قال الشاطبي في الموافقات (4/52) : كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق معتمد عليه فيما أخبر به عنه سواء علينا أنبني عليه في التكليف حكم أم لا، كما أنه إذا شرع حكماً أو أقر أو نهى فهو كما أخبر به الملك عن الله، وبين ما نفث في روعه وألقي في نفسه، أو رآه رؤية كشف، أو اطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان، فذلك معتبر يحتج به، وينبني عليه في الاعتقادات والأعمال جميعاً، لأنه - صلى الله عليه وسلم - مؤيد بالعصمة وما ينطق عن الهوي. انظر في هذا الموضوع بإسهاب: السنة النبوية (26 – 33) تأليف الدكتور: عبد المهدي بن عبد القادر بن عبد الهادي.
(2) السخاوي هو: شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد السخاوي الأصل، القاهري المولد، الشافعي المذهب، نزيل الحرمين الشريفين، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة وحفظ القرآن العظيم وهو صغير وصلى به في شهر رمضان، وحفظ عمدة الأحكام والتنبيه والمنهاج وألفية ابن مالك وألفية العراقي وغالب الشاطبية والنخبة لابن حجر وغير ذلك وكلما حفظ كتابا عرضه على مشايخه، وبرع في الفقه والعربية والقراءات والحديث والتاريخ، وشارك في الفرائض والحساب والتفسير وأصول الفقه وغيرها. ومسموعاته كثيرة جداً لا تكاد تنحصر، وأخذ عن جماعة لا يحصون يزيدون على أربعمائة نفس، وأذن له غير واحد بالافتاء والتدريس والاملاء وسمع الكثير على شيخه الحافظ ابن حجر العسقلاني ولازمه أشد الملازمة وحمل عنه ما لم يشاركه فيه غيره، وأخذ عنه أكثر تصانيفه وقال عنه: هو أمثل جماعتي وأذن له، وكان بينه وبين النبي عشرة أنفس وحج بعد وفاة شيخه ابن حجر مع والديه ولقي جماعة من العلماء وأخذ عنهم كالبرهان الزمزي وغيره، ثم حج سنة سبعين وجاور وحدث هناك بأشياء من تصانيفه وغيرها ثم حج في سنة خمس وثمانين وجاور سنة ست وسبع وأقام منهما ثلاثة أشهر، وفي يوم الأحد وقت العصر الثامن والعشرين من شهر شعبان سنة ثمانمائة واثنين حال مجاورته الأخيرة بها وعمره إحدى وسبعون سنة وصلي عليه بعد صلاة الصبح يوم الاثنين ثاني تاريخه بالروضة الشريفة ووقف بنعشه تجاه الحجرة الشريفة ودفن بالبقيع بجوار مشهد الإمام مالك.
انظر: شذرات الذهب (4/15) ، والنور السافر (1/18) .
(3) البيهقي: هو الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، أحد أعلام المحدثين الفقهاء، توفي سنة (458هـ) .
انظر: طبقات الشافعية (4/214) ، وتذكرة الحفاظ (3/1132) ، والبداية والنهاية (12/94) .
(4) هو: أبو الفضل، جلال الدين، عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر بن عثمان بن محمد الطولوني، المصري، الشافعي، عالم مشارك في العلوم ولد ونشأ في القاهرة يتيما، فقيه، محدث، أصولي، مفسر، له تصانيف كثيرة ورائعة منها: جمع الجوامع، والجامع الكبير، والإتقان وغيرها الكثير كانت وفاته سنة (911هـ) ، والسيوطي من شيوخ المصنف الذين نقل عنهم كثيراً.
انظر: الضوء اللامع (4/65) ، وشذرات من ذهب (8/51) ، والبدر الطالع (1/328) .
(5) هو: الشيخ عز الدين عبد العزيز عبد السلام الدمشقي السلمي، كان شيخاً للإسلام عالماً ورعاً زاهداً، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، قرأ الفقه على ابن عساكر، والأصول على الشيخ الآمدي، وولي خطابه دمشق فتعرض على سلطان في خطبته لأمر كان فحصل له تشويش انتقل بسببه إلى مصر فأكرمه ملك مصر وولاه خطابة الجامع العتيق والقضاء بها، واستقر بتدريس الصالحية بالقاهرة، وكان الحافظ زكي الدين مدرساً بالكاملية فامتنع من الفتوى مع وجوده، وكان كل منهما يأتي مجلس الآخر واستفاد منه ولم يزل مدرساً بالصالحية إلى أن مات في عاشر جمادي الأولى سنة ستين وستمائة.
انظر: طبقات الفقهاء (1/267) ، وشذرات الذهب (3/301) ، طبقات الشافعية (2/109، ترجمة: 412) ، وطبقات الشافعية الكبرى (8/209، ترجمة: 1183) ، وطبقات المفسرين (1/242، ترجمة: 290) .(1/71)
متعلقة بالله من أحد طرفيها، والرسالة الأمر بالتبليغ، فهي متعلقة بالله من أحد طرفيها وبالعباد من الطرف الآخر، والمتعلق بالله من الطرفين أفضل من المتعلق به من أحدهما.
ورد عليه بأن الرسالة أخص من النبوة، كما أن الرسول أخص من النبي فهي مشتملة على النبوة وزيادة.
فائدة أخرى: مبنية على الفرق بين الرسول والنبي أفادها علماء الحديث وهي: ما إذا وقع في الرواية قال رسول الله، أو عن رسول الله هل يجوز تغييره إلى قال النبي، أو عن النبي، وكذا لو ورد قال النبي، أو عن النبي هل يجوز يجوز تغييره إلى قال رسول الله، أو عن رسول؟
اختلف علماء الحديث في ذلك فقال ابن الصلاح (1) : والظاهر أنه لا يجوز وإن جازت الرواية بالمعنى، لاختلاف معنى النبي والرسول.
وقال النووي (2)
: الصواب الجواز لأنه لا يختلف به هنا معنى، وبه قال أحمد بن حنبل، وقد نبه العراقي (3) في ألفيته على ما ذكرنا فقال (4)
:
_________
(1) ابن لصلاح هو: الإمام الحافظ شيخ الإسلام تقي الدين، أبو عمرو عثمان ابن الشيخ صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان بن موسى الكردي، الشهرزوري، الشافعي، صاحب كتاب علوم الحديث، وشرح مسلم وغير ذلك. وسمع من ابن سكينة وابن طبرزد والمؤيد الطوسي وخلائق، ودرس بالصلاحية ببيت المقدس، ثم قدم دمشق وولي دار الحديث الأشرفية، وتخرج به الناس، وكان من أعلام الدين، أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه، مشاركاً في عدة فنون متبحراً في الأصول والفروع، يضرب به المثل، سلفياً زاهداً حسن الاعتقاد، وافر الجلالة، مات في خامس عشر من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
انظر: طبقات الحفاظ (1/503، ترجمة: 1107) ، وطبقات المحدثين (1/202، ترجمة: 2136) ، وشذرات الذهب (3/221) ، ووفيات الأعيان (3/243، ترجمة: 411) .
(2) النووي هو: أبو زكريا، محيى الدين، يحيى بن شرف الدين بن مري بن حسن الحزامي الحوزاني الشافعي، علامة الفقه والحديث، مولده ووفاته في نوا من قى حوران بسوريا، له مصنفات كثيرة منها: تهذيب الأسماء واللغات، وشرح مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، توفي سنة (676هـ) .
انظر: طبقات الشافعية (5/165) ، والنجوم الزاهرة (7/278) ، ومفتاح السعادة (1/398) .
(3) العراقي هو: الحافظ الإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي ولد بمنشأة المهراني بين مصر والقاهرة في جمادى الأولي سنة (725هـ) ، اشتغل بالعلوم وأحب الحديث، فأكثر من السماع وتقدم في فن الحديث بحيث كان شيوخ عصره يبالغون في الثناء عليه بالمعرفة كالسبكي والعلائي والعز بن جماعة والعماد بن كثير وغيرهم، وله تصانيف رائعة منها: ألفيتة في علوم الحديث، ونظم الاقتراح، والمغني عن حمل الأسفار في تخريج أحاديث كتاب إحياء علوم الدين للغزالى، وتفسير غريب القرآن، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في شهر شعبان سنة (806هـ) .
انظر: شذرات الذهب (4/55) ، وطبقات الحفاظ (1/543) ، وطبقات المفسرين (1/309) .
(4) لقد شرح الحافظ السخاوي في فتح المغيث (2/299) هذين البيتين فقال: «إن رسول» وقع في الرواية بأن قيل: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نبي» أي: بلفظ النبي «أبدلا» وقت التحمل والأداء والكتابة، «فالظاهر» كما قال ابن الصلاح «المنع» منه والتقيد بما في الرواية «كعكس فغلا» بأن يبدل الرواية فيه بلفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن جازت الرواية بالمعنى لأن المعنى هنا مختلف يعني بناء على القول بعدم تساوي مفهومهما، وقد كان الإمام أحمد بن حنبل فيما رواه عنه ابنه عبد الله إذا سمع من لفظ المحدث رسول الله ضرب من كتابه نبي الله، وكتب ذلك بدله، لكن قال الخطيب: إن ذلك ليس على وجه اللزوم بل على الاستحباب في اتباع المحدث في لفظه.
«وقد رجى جوازه ابن حنبل» نفسه حيث قال: إذ سأله ابن صالح إنه يكون في الحديث رسول الله، فيجعل الإنسان بدله النبي؟ فقال: أرجو أن لا يكون به بأس، وكذا جوزه حماد بن سلمة، بل قال لعفان وبهز لما جعلا يغيران «النبي» يعني الواقع في الكتاب «برسول الله» يعني الواقع من المحدث: أما أنتما فلا تفقهان أبداً.
«والإمام النووي» أيضاً «صوبه» أي: الجواز، «وهو جلي» واضح، بل قال بعض المتأخرين: إنه لا ينبغي أن يختلف فيه، وقول ابن الصلاح: إن المعنى فيهما مختلف لا يمنعه، فإن المقصود إسناد الحديث إلى سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو حاصل بكل واحد من الصفتين، وليس الباب باب تعبد في اللفظ، لا سيما إذا قلنا إن الرسالة والنبوة بمعنى واحد، وعن البدر بن جماعة أنه لو قيل بالجواز في إبدال النبي بالرسول خاصة لما بعد، لأن في الرسول معنى زائد على النبي وهو الرسالة، إذ كل رسول نبي ولا عكس، وبيانه أن النبوة من النبأ وهو الخبر، فالنبي في العرف هو المنبأ من جهة الله بأمر يقتضي تكليفاً فإن أمر تبليغه إلى غيره فهو رسول، وإلا فهو نبي غير رسول، وحينئذ فالنبي والرسول اشتركا في أمر عام وهو النبأ وافترفا في الرسالة، فإذا قلت: فلان رسول تضمن أنه نبي رسول، وإذا قلت: فلان نبي لم يستلزم أنه رسول.
ولكن قد نازع ابن الجزري في قولهم: كل رسول نبي حيث قال: هو كلام يطلقه من لا تحقيق عنده، فإن جبريل - عليه السلام - وغيره من الملائكة المكرمين بالرسالة رسل لا أنبياء، قلت: ولذا قيد الفرق بين الرسول والنبي بالرسول البشري، وحديث البراء في تعليم ما يقال عند النوم، إذ رد النبي - صلى الله عليه وسلم - إبداله لفظ النبي بالرسول فقال: «لا ونبيك الذي أرسلت» تمنع القول بجواز تغيير النبي خاصة بل الاستدلال به لمجرد المنع ممنوع بأن ألفاظ الأذكار توقيفية فلا يدخلها القياس، بل يجب المحافظة على اللفظ الذي جاءت به الرواية، إذ ربما كان فيه خاصية وسر لا يحصل بغيره، أو لعله أراد أن يجمع بين الوصفين في موضع واحد، ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - نبي مرسل فهو إذن أكمل فائدة، وذلك يفوت بقوله: «وبرسولك الذي أرسلت» وأيضاً فالبلاغة مقتضية لذلك لعدم تكرير اللفظ لوصف واحد فيه، زاد بعضهم: أو لاختلاف المعنى لأن برسولك يدخل جبريل وغيره من الملائكة الذين ليسوا بأنبياء.(1/72)
إن رسول نبي أبدلا ... فالظاهر المنع كعكس فعلا
قد رجي جوازه ابن حنبل ... والنووي صوبه وهو جلي
ونظير هذه مسألة ذكرها الحليمي وهي: ما إذا قال الكافر: آمنت بمحمد النبي فإنه يصح إيمانه، بخلاف ما إذا قال: بمحمد الرسول، قال: لأن النبي لا يكون إلا لله، والرسول قد يكون لغيره، وهذا موافق لما قاله ابن الصلاح.
قال ابن الملقن: وهو غريب.
وقوله «صلى الله عليه وسلم» فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن يكتب اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي ويسلم عليه عقب كتابته، كما يستحب أن يصلي ويسلم عقب ذكره.
فائدة: علامة كون الإنسان من أهل السنة كثرة صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر العلماء: أن الملائكة تصلي عليه على الدوام، وأن مهر آدم على حوآء كان الصلاة عليه، فإن الله لما خلق حوآء أراد آدم القرب منها، فطلبت منه المهر فقال: يا رب ماذا أعطيها؟ قال: يا آدم صلي على صفيّ محمد بن عبد الله عشرين مرة، ففعل ذلك.
وإن بكاء الصبي مدة صلاة عليه، فقد ورد في خبر: «لا تضربوا أطفالكم على بكائهم سنة، فإن أربعة أشهر منها يشهد أن لا إله إلا الله، وأربعة أشهر يصلي عليّ، وأربعة أشهر يدعو للوالدين» (1) .
_________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (11/337، ترجمة: 6171) علي بن إبراهيم بن الهيثم بن المهلب أبو الحسن البلدي) وأخرج الحديث من طريقه عن نافع رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: هذا الحديث منكر جداً، ورجال إسناده كلهم مشهورون بالثقة سوى أبي الحسن البلدي.
وترجم لأبي الحسن الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (4/191، ترجمة: 506) وقال نقلاً عن الذهبي: اتهمه الخطيب، ونقل الحافظ رواية الخطيب بإسنادها ثم نقل إنكار الخطيب للحديث ثم قال: قلت هو موضوع بلا ريب.
وذكره في الموضوعات الحافظ السيوطي في اللالئ المصنوعة في الأأحاديث الموضوعة (1/99) .(1/73)
وفي حديث آخر: «بكاء الصبي في المهد أربعة أشهر توحيد، وأربعة أشهر صلاة على نبيكم، وأربعة أشهر استغفار لأبويه» (1) .
وفي حديث آخر: «فإذا استسقى نبع الله له ضرع أمه عيناً من الجنة فيشرب فيجزيه عن الطعام والشراب» (2) .
وذكروا: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - تزكية للأعمال ورفع للدرجات، ومغفرة للذنوب، وكفاية الدنيا والآخرة، ومحق للخطايا، ونجاة من الأهوال، ويحصل بها رضا الله ورحمته، وأمان من سخطه، ووجوب الشفاعة، والدخول تحت ظل العرش، ورجحان الميزان، وورد الحوض، والأمان من العطش، والعتق من النار، والجواز على الصراط، ورؤية المقعد المقرب من الجنة قبل الموت، وكثرة الأزواج في الجنة، وتقوم مقام الصدقة للمعسر، وينمو المال ببركتها، تقضى بها مائة حاجة من الحوائج بل وأكثر، وهي عبادة وأحب الأعمال إلى الله، وتزين المجالس، وتنفي الفقر وضيق العيش، وتنفع الإنسان وولده وولد ولده، وتقرب إلى الله وإلى رسوله، وتنصر على الأعداء، وتطهر القلوب من النفاق، وتوجب محبة الناس ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وتمنع صاحبها من الغيبة، وتنفع عند الهم والكرب والشدائد والفقر والغرق والطاعون، وهي من أبرك الأعمال وأفضلها، وأكثرها نفعاً في الدنيا.
وتستحب في مواضع سنذكرها في محلها منها:
كلما ذكر، بل ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة عليه تجب كلما ذكر، واختار هذا القول الحليمي (3)
من الشافعية والطحاوي (4) من الحنفية، واللخمي (5) من المالكية وابن بطه (6) من الحنابلة، والصحيح عند إمامنا الشافعي (7)
: أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تجب إلا في الصلاة في التشهد الأخير، وهي فيه ركن من أركان الصلاة، وأما خارج الصلاة فإنها
_________
(1) ذكره في الموضوعات بمعناه الحافظ السيوطي في اللالئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (1/99) .
(2) لم نقف عليه بهذا اللفظ، وعلامات الوضع تلوح عليه كسابقيه.
(3) هو: العلامة البارع رئيس أهل الحديث بما وراء النهر، القاضي أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم البخاري الشافعي، من أصحاب الوجوه، كان من أذكياء زمانه، ومن فرسان النظر له يد طولى في العلم والأدب، أخذ عن القفال وغيره، وله تصانيف مفيدة، ولد سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعمائة.
انظر: طبقات الحفاظ (1/408، ترجمة: 923) .
(4) هو: أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي الطحاوي، أبو جعفر: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية بمصر، ولد ونشأ في «طحا» من صعيد مصر سنة: 239هـ، وتفقه على مذهب الشافعي، ثم تحول حنفياً، ورحل إلى الشام سنة 268 هـفاتصل بأحمد بن طولون، فكان من خاصته، وهو ابن أخت المزني، من تصانيفه: شرح معاني الآثار، في الحديث، وريالة تحت عنوان: بيان السنة، وكتاب: الشفعة، والمحاضر والسجلات، ومشكل الآثار طبع في أربعة أجزاء، في الحديث وأحكام القرآن، والمختصر في الفقه، وشرحه كثيرون، والاختلاف بين الفقهاء الجزء الثاني منه في دار الكتب وهو كبير لم يتمه، وتاريخ كبير منه مجلدات مخطوطة في اسطنبول باسم: مغاني الأخيار في أسماء الرجال ومعاني الآثار، ومناقب أبي حنيفة، وكانت وفاته بالقاهرة سنة: 321هـ.
(5) هو: عبد المعطي بن محمود بن عبد المعطي ابن عبد الخالق، أبو محمد، ابن أبي الثناء اللخمي الاسكندري: فقيه مالكي، صوفي ضرير، ولد وعاش بالأسكندرية سنة: 563هـ، وكان له فيها رباط مشهور به. توفي بمكة ودفن بالمعلى سنة: 638هـ، له كتب أملاها، منها: شرح الدلالة على فوائد الرسالة للقشيري، وشرح منازل السائرين للهروي، وشرح الرعاية للمحاسبي.
(6) هو: عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان، أبو عبد الله العكبري، المعروف بابن بطة: عالم بالحديث، فقيه من كبار الحنابلة، من أهل عكبرا ولد بها ابن بطة سنة: 304هـ، وتوفي أيضاً بها سنة: 387هـ، رحل إلى مكة والثغور والبصرة وغيرها في طلب الحديث، ثم لزم بيته أربعين سنة، فصنف كتبه وهي تزيد على مائة، منها: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة، ويسمى أيضاً: الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، وله: الإنكار على من قضى بكتب الصحف الأولى، والتفرد والعزلة.
(7) هو: أبو عبد الله، محمد بن إدريس بن العباس بن العباس بن شافع الهاشمي، أحد أئمة أهل السنة الأربعة، وإليه ينسب المذهب الشافعي، ولد في غزة بفلسطين سنة (150هـ) ، وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وزار بغداد مرتين، وهو صاحب المذهبين القديم والجديد، من آثاره: كتاب الأم، وإختلاف الحديث، وتوفي بمصر سنة (204هـ) .
انظر: الأعلام (6/26) ، وتذكرة الحفاظ (1/329) .(1/74)
تستحب.
واختلف القائلون بالوجوب كلما ذكر، هل هو على العين فيجب على كل فرد، أو على الكفاية فإذا صلى واحد من الحاضرين سقط عن الباقين، والأكثر قالوا: على العين.
قال ابن حجر: وتمسك القائلون بالوجوب كلما ذكر بأحاديث تدل على إبعاد تاركها وشقاوته وبخله وجفاه وغير ذلك، وهي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلي عليً، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، وغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة» (1) .
وروي البخاري في الأدب المفرد، والطبري (2) في تهذيبه، والدارقطني في الأفراد عن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقي المنبر، فلما رقي الدرجة الأولي قال: «آمين» ، ثم رقي الثانية فقال: «آمين» ، ثم رقي الثالثة فقال: «آمين» فقالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: «آمين» ثلاث مرات قال: «لما رقيت الدرجة الأولي جاءني جبريل فقال: شقى عبد أدرك رمضان فانسلخ منه ولم يغفر له، فقلت: آمين، ثم قال: شقى عبد أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، فقلت: آمين، ثم قال: شقى عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين» قال السخاوي: هو حديث حسن (3) .
وذكر في كتاب شرف المصطفى لأبي سعيد الواعظ (4)
: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أدلكم على خير الناس، وشر الناس، وأبخل الناس، وأكسل الناس، وألئم الناس، وأسرق الناس» قيل: يا رسول بلي، قال: «خير الناس من انتفع به الناس، وشر الناس من يسعي بأخيه المسلم، وأكسل الناس من أرق في ليلة فلم يذكر الله بلسانه وجوارحه، وألئم الناس من إذا ذكرت عنده فلم يصلي علي، وأبخل الناس من بخل
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/550، رقم 3545) عن أبي هريرة، وقال الترمذي عقبه: وفي الباب عن جابر وأنس، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وربعي بن إبراهيم هو أخو إسماعيل بن إبراهيم وهو ثقة، وهو ابن علية، ويروي عن بعض أهل العلم قال: «إذا صلى الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة في المجلس أجزأ عنه ما كان في ذلك المجلس» .
والحديث عند أحمد في مسنده (2/254، رقم 7444) ، وابن حبان في صحيحه (3/189، رقم 908) .
(2) هو: محمد بن جرير بن يزيد الطبري، أبو جعفر: المؤرخ المفسر الإمام. ولد في آمل بطبرستان 224هـ، واستوطن بغداد وتوفي بها سنة: 310هـ، وكان أسمر، أعين، نحيف الجسم، فصيحاً، قد عليه القضاء فامتنع، والمظالم فأبى، له: أخبار الرسل والملوك، وجامع البيان في تفسير القرآن، ويعرف بتفسير الطبري في 30 جزءاً، واختلاف الفقهاء، والمسترشد في علوم الدين، وجزء في الاعتقاد والقراءات وغير ذلك، وهو من ثقات المؤرخين، قال ابن الأثير: أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق، وكان مجتهدا في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 224) عن جابر.
(4) هو: مشهور بالخراز واسمه أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد، من مشايخ الصوفية، بغدادي، نسبته إلى خرز الجلود، قيل: إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. له تصانيف في علوم القوم منها: كتاب الصدق، أو الطريق إلى الله.
ومن كلامه: إذا بكت أعين الخائفين، فقد كاتبوا الله بدموعهم.
مات سنة 277هـ، وقيل: 286هـ.(1/75)
بالتسليم على الناس، وأسرق الناس من سرق صلاته» قيل: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ فقال: «لا يتم ركوعها ولا سجودها» (1) .
وفي شرف المصطفى أيضاً: أن عائشة (2) رضي الله عنها كانت تخيط شيئاً في وقت السحر، فسقطت الإبرة من يدها، وطفئ السراج، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فأضاء البيت بضوءه - صلى الله عليه وسلم - ووجدت الإيرة فقالت: ما أضوء وجهك يا رسول الله، قال: «ويل لمن لا يراني يوم القيامة» قالت: ومن لا يراك يوم القيامة؟ قال: «البخيل» قالت: ومن البخيل؟ قال: «الذي لا يصلي علي إذا سمع باسمي» (3) .
وفي حلية الأولياء لأبي نعيم (4) : أن رجلاً مر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه ظبية قد اصطادها، فأنطق الله الظبية -سبحانه الذي أنطق كل شيء- فقالت: يا رسول الله: إن لي أولاداً، وأنا أرضعهم وإنهم جياع، فأمر هذا أن يخليني حتى أذهب فأرضع أولادي وأعود، قال: «فإن لم تعودي» قالت: إن لم أعد فيلعنني الله كمن تذكر بين يديهم ولم يصلوا عليك، أو كنت كمن صلى ولم يدع، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أطلقها وأنا ضامنها» فذهبت الظبية، ثم عادت فنزل جبريل فقال: يا محمد الله يقرئك السلام ويقول لك: وعزتي وجلالي أنا أرحم بأمتك من هذه الظبية بأولادها، وأنا أردهم إليك كما رجعت الظبية إليك» (5) .
_________
(1) لم نقف عليه بهذا اللفظ.
(2) ستأتي ترجمتها في المجلس السادس من كلام المصنف.
(3) لم نقف عليه بهذا اللفظ.
(4) أبو نعيم هو: أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم: حافظ، مؤرخ، من الثقات في الحفظ والرواية، ولد سنة: 336هـ في أصبهان، وكانت وفاته بها سنة430هـ، من تصانيفه: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ومعرفة الصحابة، وطبقات المحدثين والرواة، ودلائل النبوة، وذكر أخبار أصبهان، وكتاب الشعراء.
(5) لم نجده في الحلية، ووقع في دلائل النبوة لأبي نعيم (ص 320) قصة كلام الظبية وليس فيه أن جبريل نزل بعد عود الظبية وكلام رب العزة على نحو ما في هذه الرواية، رواه أبو نعيم فيه عن أبي كثير بن أرقم.
ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (8/295) من حديث أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحراء فإذا مناد يناديه يا رسول الله فالتفت فلم ير أحداً، ثم التفت فإذا ظبية موثوقة فقالت: أدن مني يا رسول الله فدنا منها فقال: «حاجتك؟» فقالت: إن لي خشفين في هذا الجبل فخلني حتى أذهب فأرضعهما ثم أرجع إليك، قال: «وتفعلين؟» قالت: عذبني الله عذاب العشار إن لم أفعل، فأطلقها فذهبت فأرضعت خشفيها، ثم رجعت فأوثقها، وانتبه الأعرابي، فقال: ألك حاجة يا رسول الله؟ قال: «نعم تطلق هذه» فأطلقها فخرجت تعدو وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه أغلب بن تميم وهو ضعيف.
وذكر الحافظ السيوطي في الخصائص الكبرى (2/101) القصة بهذا اللفظ عن أم سلمة وعزاها إلى الطبراني في الكبير وأبي نعيم.
أما الرواية التي رواها أبو نعيم في الدلائل عن أبي كثير بن زيد بن أرقم فهي أشد وأنكر ضعفاً من رواية أم سلمة لذا لم نأت بلفظها، ففي سنده: يعلى بن إبراهيم الغزالي، ترجم له الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (6/311) وقال: لا أعرفه له خبر باطل عن شيخ واه، فساق الحديث بإسناد أبي نعيم إلى أبي كثير بن زيد بن أرقم ثم قال عقبه: هذا موضوع.(1/76)
وعن جابر (1) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حسب العبد من البخل إذا ذكرت عنده أن لا يصلي علي» رواه الديلمي (2) من طريق الحاكم (3)
في غير المستدرك (4) .
وعن قتادة (5) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من الجفاء أن أذكر عند الرجل فلا يصلي عليّ» (6) .
وفي حديث أنس بن مالك (7) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ذكرت بين يديه ولم يصل عليّ صلاة تامة فليس مني ولا أنا منه» ثم قال: «اللهم صل من وصلني، واقطع من لم يصلني» (8) .
قال السخاوي: وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يصل على فلا دين له» أخرجه محمد بن نصر المروزي (9) وفي سنده من لم يسم (10) .
_________
(1) هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الأنصاري، السلمي، يكنى: أبا عبد الله، وأبا عبد الرحمن، وأبا محمد أقوال أحد المكثرين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله ولأبيه صحبة، وكان مع من شهد العقبة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد والغزوات كلها عدا بدر، يقال: أنه مات سنة ثلاث وسبعين، ويقال: إنه عاش أربعا وتسعين سنة.
انظر: الإصابة (1/434) ، وتهذيب التهذيب (2/40-42) ، وتهذيب الكمال (4/443) ، وتذكرة الحفاظ (1/43) .
(2) هو: شهردار بن شيروية بن شهردار الديلمي الهمذاني، أبو منصور: من رجال الحديث، من أهل همذان، يتصل نسبه بالضحاك بن فيروز الديلمي الصحابي، مولده سنة: 483هـ، له: مسند الفردوس اختصر به كتاب فردوس الأخيار لوالده، وكانت وفاته سنة: 558هـ.
(3) محمد بن عبد الله بن حمدويه بن نعيم الضبي، الطهماني النيسابوري، الشهير بالحاكم، ويعرف بابن البيع، أبو عبد الله، مولده سنة: 321هـ، بنيسابور، من أكابر حفاظ الحديث والمصنفين فيه، رحل إلى العراق سنة 341 هـ، وحج، وجال في بلاد خراسان وما وراء النهر، وأخذ عن نحو ألفي شيخ، وولي قضاء نيسابور سنة 359 ثم قلد قضاء جرجان فامتنع، وكان ينفذ في الرسائل إلى ملوك بني بويه، فيحسن السفارة بينهم وبين السامانيين، وهو من أعلم الناس بصحيح الحديث وتمييزه عن سقيمه، صنف كتباً كثيرة جداً، قال ابن عساكر: وقع من تصانيفه المسموعة في أيدي الناس ما يبلغ ألفاً وخمسمائة جزء. منها: تاريخ نيسابور، قال فيه السبكي: وهو عندي من أعود التواريخ على الفقهاء بفائدة، ومن نظره عرف تفنن الرجل في العلوم جميعها، والمستدرك على الصحيحين، والاكليل، والمدخل، في أصول الحديث، وتراجم الشيوخ، والصحيح، في الحديث، وفضائل الشافعي، وتسمية من أخرجهم البخاري ومسلم، ومعرفة أصول الحديث وعلومه وكتبه المطبوع باسم: معرفة علوم الحديث. وكانت وفاته بنيسابور سنة: 405هـ.
(4) لم نجده في مسند الفردوس من حديث جابر وفيه عن غيره بلفظ متقارب.
(5) هو: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر، الأمير المجاهد، أبو عمر الأنصاري الظفري البدري، من نجباء الصحابة وهو أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وهو الذي وقعت عينه على خده يوم أحد فأتى بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فغمزها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفه فردها، فكانت أصح عينيه، له أحاديث، روى عنه أبو سعيد وابنه عمر ومحمود بن لبيد وغيرهم، وكان على مقدمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما سار إلى الشام وكان من الرماة المعدودين، عاش خمساً وستين سنة، توفي في سنة ثلاث وعشرين بالمدينة ونزل عمر يومئذ في قبره.
انظر: سير أعلام النبلاء (2/331، ترجمة: 66) ، وتقريب التهذيب (1/454، ترجمة: 5521) ، ومشاهير علماء الأمصار (1/27، ترجمة: 126) .
(6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (2/217، رقم 3121) عن قتادة مرسلاً.
قال المناوي في فيض القدير (6/7) : ورواه عنه أيضا النميري وعبد الرزاق في جامعه، قال القسطلاني: ورواته ثقات.
(7) هو: أنس بن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي - رضي الله عنه -، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خدمه عشر سنين، مات سنة (92هـ) وقيل: (93هـ) وقد جاوز المائة - رضي الله عنه -.
انظر: تقريب التهذيب (ص 115) .
(8) رواه بهذا اللفظ دون الزيادة التي في آخره الديلمي في مسند الفردوس (3/634، رقم 5986) .
والمشهور عن أنس في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مارواه النسائي في السنن الكبرى (6/21، رقم 9889) بلفظ: «من ذكرت عنده فليصل علي، ومن صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً» .
وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة (ص 165، رقم 61) ، والطبراني في المعجم الأوسط (3/153، رقم 2767) ، وأبو يعلى في المسند (7/75، رقم 4002) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/347) .
فائدة: ذكر الحافظ ابن حجر طرفاً من أحاديث فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح الباري (11/168) ثم قال: وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية، وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك.
(9) هو: محمد بن نصر المروزي، الفقيه أبو عبد الله الحافظ، روى عن يحيى بن يحيى النيسابوري، وعبدان بن عثمان، وأبي كامل الجحدري، وغيرهم.
وروى عنه: ابنه إسماعيل، ومحمد بن إسحاق الرشادي، وعبد الله بن محمد بن علي البلخي، وخلق كثيرون.
قال محمد بن عثمان بن سلم سمعته يقول: ولدت سنة اثنتين ومائتين، وكان أبي مروزيا وولدت أنا ببغداد، ونشأت بنيسابور، وقال الإدريسي: سمعت أبا بكر محمد بن محمد بن إسحاق الدبوسي، حدثنا أبي قال: رأيت محمد بن نصر بسمرقند وكان بحراً في الحديث، قال: وسمعت الفقيه أبا بكر الشاشي يقول: لو لم يصنف محمد بن نصر إلا كتاب القسامة لكان من أفقه الناس فكيف وقد صنف غيره، وقال عبد الله بن محمد بن مسلم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم يقول: كان محمد بن نصر المروزي عندنا إماماً.
قال الخطيب: صنف الكتب الكثيرة ورحل إلى الأمصار في طلب العلم وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم في الأحكام، واتفقوا على أنه مات سنة أربع وتسعين ومائتين.
وقال ابن حبان: كان أحد الأئمة في الدنيا ممن جمع وصنف، وكان من أعلم أهل زمانه بالاختلاف وأكثرهم صيانة في العلم، وكان مولده سنة مائتين قبل وفاة الشافعي بأربع سنين.
انظر: تهذيب التهذيب (9/432، ترجمة: 800) ، وتاريخ بغداد (3/315، ترجمة: 1416) ، وطبقات الفقهاء (1/192) ، وطبقات الشافعية (2/84، ترجمة: 29) .
(10) هذا الحديث فيه غلط في متنه فكلمة «عليَّ» مدرجة فيه، والصواب أنها ليست فيه، فالمروزي رواه في تعظيم قدر الصلاة (2/899، رقم 936) فقال: حدثنا عبد الله بن المسندي قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله قال: «من لم يصل فلا دين له»
وقال: حدثنا الحسين بن منصور قال: حدثنا عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عاصم عن زر قال كنا عند عبد الله - رضي الله عنه - جلوساً إذ جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله أي درجات الإسلام أفضل فقال: «الصلاة من لم يصل فلا دين له» .(1/77)
وعن عائشة مرفوعاً ولم أقف على سنده قال: «لا يرى وجهي ثلاثة أنفس: العاق لوالديه، وتارك سنتي، ومن لم يصل عليّ إذا ذكرت بين يديه» (1) .
ففي الأحاديث المذكورة تحذير من ترك الصلاة عليه ما يذكر، وإخبار بحصول الشقاء، وأن من ترك الصلاة عليه أبخل الناس، ولا دين له، ولا يرى وجهه الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأنشد بعضهم فقال:
من لم يصل عليه إن ذكر اسمه ... فهو البخيل وزده وصف جبان
وإذا الفتى صلى عليه مرة ... من سائر الأقطار والبلدان
صلى عليه الله عشراًً فليزد ... عبد ولا يجنح إلى نقصاني
جججج
والشافعي والجمهور أجابوا عن هذه الأحاديث بأنها خرجت مخرج المبالغة في تأكيد ذلك وطلبه، وأن الأمر فيها للندب لا للوجوب، وقالوا: إن الصلاة عليه لكلٍ تستحب في مواضع منها: كلما ذكر، ومنها: عند كتابة اسمه كما تقدم، فقد ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى عليّ في كتابه لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك الكتاب» (2) .
قال ابن العربي (3) بعده في رواية أخرى: «لم تزل الملائكة تكتب له الحسنات ما دام اسمي في ذلك الكتاب» (4) .
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (2/232، رقم 1835) ، والرافعي في التدوين (4/107) عن أبي هريرة.
قال العجلوني في كشف الخفاء (2/338) : رواه الطبراني في الأوسط وابن أبي شيبة والمستغفري في الدعوات بسند ضعيف.
قال السيوطي في تدريب الراوي (2/75) : وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً فهو مما يحسن إيراده في هذا المعنى، ولا يلتفت إلى ذكر ابن الجوزي له في الموضوعات، فإن له طرقاً تخرجه عن الوضع وتقتضي أن له أصلاً في الجملة، فأخرجه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأبو الشيخ الأصبهاني والديلمي من طريق أخرى عنه، وابن عدي من حديث أبي بكر الصديق، والأصبهاني في ترغيبه من حديث ابن عباس، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان من حديث عائشة.
(3) ابن العربي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع رحمه الله في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن. توفي سنة (543هـ) .
انظر: شذرات الذهب (4/141) ، وتذكرة الحفاظ (4/86) .
(4) لم نقف على هذه الرواية.(1/78)
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى في كتاب كتب الله تعالى له على مر الأيام فضل الصلاة» (1) .
وحكى ابن الملقن أن بعض أصحاب الحديث رؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل له: بماذا؟ قال: بصلاتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعن أبي بكر الصديق (2)
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كتب عني علماً فكتب معه صلاة عليّ، لم يزل في أجر ما قريء ذلك الكتاب» أخرجه الدارقطني (3) وغيره (4) .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة يجيئ أصحاب الحديث ومعهم المحابر فيقول الله لهم: أنتم أصحاب الحديث طال ما كنتم تكتبون الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - انطلقوا إلى الجنة» أخرجه الطبراني عن الديري عن عبد الزراق عن معمر بن راشد عن الزهري (5) عن أنس (6) .
وعن سفيان ابن عيينة (7) قال حدثنا خلف صاحب الخلقان قال: كان صديق يطلب معي الحديث، فمات فرأيته في المنام، وعليه ثياب خضر جديده يجول فيها فقلت له: ألست كنت تطلب معي الحديث؟ فما هذا الذي أري؟ فقال: كنت أكتب معكم الحديث فلا يمر حديث فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كتبت في أسفله - صلى الله عليه وسلم - فإني بهذا الذي ترى.
وإذا كتب الإنسان اسم النبي ينبغي أن يكتب معه - صلى الله عليه وسلم -، ويجمع بين الصلاة والسلام، ولا يقتصر على الصلاة فقط، بأن يكتب صلي الله عليه فقط، ولا يكتب وسلم فقط.
حكي ابن عساكر (8)
عن من حدثه عن أبي العباس بن عبد الدايم قال -وكان كثير النقل لكتب العلم على اختلاف فنونه- أنه حدثه في لفظه قال: كنت إذا كتبت في كتب الحديث وغيرها النبي أكتب لفظ الصلاة دون التسليم، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) هو: أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أفضل الأمة وخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثانيه في الغار، وصديقه الأشفق، ووزيره الأحزم، عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبى قحافة: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر وهو قريش بن مالك بن النضر.
وأم أبى بكر: أم الخير بنت صخر بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم.
استخلف في اليوم الذي مات فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم خطبهم اليوم الثاني من بيعته، وسموه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستقام له الأمر في السر والإعلان، فمضى أبو بكر - رضي الله عنه - على منهاج نبيه، باذلا نفسه وماله في إظهار دين الله والذب عن حرماته، والقيام بواجباته تجاه الدين إلى أن حلت المنية به ليلة الإثنين لسبع عشرة ليلة مضت من جمادى الآخرة وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً، وله يوم مات اثنتان وستون سنة ودفن بجنب رسول الله ليلاً.
انظر: تذكرة الحفاظ (1/2، ترجمة: 1) ، والثقات (2/151) ، ومعرفة الثقات (2/387، ترجمة: 2092) .
(3) هو: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني الشافعي، ولد في سنة: 306هـ، إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات وعقد لها أبواباً، ولد بدار القطن من أحياء بغداد، ورحل إلى مصر، فساعد ابن حنزابة وزير كافور الأخشيدي على تأليف مسنده، وعاد إلى بغداد فتوفي بها سنة: 385هـ، من تصانيفه: كتاب السنن، والعلل الواردة في الأحاديث النبوية، والمجتبى من السنن المأثورة، والمؤتلف والمختلف، والضعفاء، وأخبار عمرو بن عبيد.
(4) أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/270، رقم 564) من طريق أبي داود النخعي عن أيوب بن موسى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن أبيه عن جده به.
وأخرجه ابن عدي في الكامل في ترجمة أبو داود النخعي فأخرج الحديث من طريقه (3/249)
وقال في آخر ترجمته: اجتمعوا على أنه يضع الحديث.
(5) ستأتي ترجمته في المجلس الثامن من كلام المصنف.
(6) أخرجه من هذا الطريق أيضاً: السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (ص 152) إلا أن فيه قتادة بدل الزهري.
(7) ستأتي ترجمته في أول المجلس الثالث من هذا الكتاب.
(8) ابن عساكر هو: ابن الحسن بن هبة الله، أبو القاسم، ثقة الدين ابن عساكر بالدمشقي: المؤرخ الحافظ الرحالة، كان محدث الديار الشامية، ورفيق السمعاني في رحلاته، مولده سنة: 499هـ، ووفاته: سنة 571هـ بدمشق.
له: تاريخ دمشق الكبير، يعرف بتاريخ ابن عساكر، وهو تاريخ رائع ومن أوسع التواريخ التي صنفت كان مخطوطا ويسر الله من طبعه، واختصره البعض، ولابن عساكر كتب أخرى كثيرة، منها: الإشراف على معرفة الأطراف، في الحديث، وتبيين كذب المفتري في ما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، وكشف المغطى في فضل الموطا، وتبيين الامتنان في الأمر بالإختتان، وأربعون حديثاً من أربعين شيخاً من أربعين مدينة، وتاريخ المزة، ومعجم الصحابة، ومعجم النسوان، وتهذيب الملتمس من عوالي مالك بن أنس، ومعجم أسماء القرى والأمصار، ومعجم الشيوخ والنبلاء يقع في 46 ورقة في شيوخ أصحاب الكتب الستة في الظاهرية.(1/79)
فقال لي: تحرم نفسك أربعين حسنة قلت: وكيف يا رسول الله؟ قال: إذا جاء ذكري تكتب صلى الله عليه، ولا تكتب وسلم، وهي أربعة أحرف كل حرف بعشر حسنات، قال: وعدهن - صلى الله عليه وسلم - بيده.
وكما قال ابن الصلاح ينبغي أن يحافظ على كتابة الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره، ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره، فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته، ومن أغفل ذلك مرة حرم حظاً عظيماً.
ويتجنب أن يكتب «صلعم» مكان - صلى الله عليه وسلم - كما يفعله الكسالى والجهلة وعوام الطلبة، يأخذون من كل كلمة حرفاً الصاد من صلي، واللام من الله، والعين من عليه، والميم من وسلم، ويجمعونها «صلعم» .
ولنا عوده إلى الكلام على بقية المواضع والأوقات التي تستحب فيها الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى ذكر مسائل نفيسة متعلقة بذلك في مجلس آخر.
فائدة: من أكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة وغيرها ولو كان مسرفاً ثم استغاث به في الشدة فإنه يغيثه - صلى الله عليه وسلم -.
فقد حكى ابن الملقن عن أبي الليث عن سفيان الثوري (1)
أنه قال: كنت أطوف فإذا أنا برجل لا يرفع قدماً ولا يضع قدماً إلا ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا هذا إنك قد تركت التسبيح والتهليل، وأقبلت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل عندك من هذا شيء؟ فقال: من أنت عافاك الله؟ فقلت: أنا سفيان الثوري، فقال: لولا إنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي، ولا أطلعتك على سري، ثم قال: خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام، حتى إذا كنت في بعض المنازل مرض والدي، فقمت لأعالجه، فبينما أنا ذات ليلة عند رأسه إذ مات، فأسود وجهه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والدي فاسود وجهه، فجذبت الإزار على وجهه، فغلبتني عيناي فنمت، فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه وجهاً، ولا أنظف منه ثوباً، ولا أطيب منه ريحاً، يرفع قدماً ويضع أخرى، حتى دنا من والدي، فكشف الإزار عن وجهه، فمد يده الشريفة على وجهه، فعاد وجهه أبيض ثم ولي راجعاً، فتعلقت بثوبه، فقلت: يا عبد الله من أنت الذي مَنَّ الله على والدي بك في دار الغربة؟ فقال: أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله، وصاحب القرآن، أما إن والدك كان مسرفاً على نفسه، ولكن كان يكثر الصلاة عليّ فلما نزل به ما نزل فاستغاث بي، وأنا غياث من يكثر الصلاة عليّ، فانتبهت فإذا وجهه أبيض.
_________
(1) هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، روى عن أبيه، وزياد بن علاقة، وحبيب بن أبي ثابت، وأيوب وجعفر الصادق وخلق، وعنه: ابن المبارك ويحيى القطان وخلق وآخرهم موتا من الثقات علي ابن الجعد.
قال شعبة وغير واحد: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وقال ابن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان، وقال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، وقال شعبة: إن سفيان ساد الناس بالعلم والورع.
ولد سنة سبع وتسعين، ومات بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة.
انظر: طبقات الحفاظ (1/95، ترجمة: 188) ، والتاريخ الكبير (4/92، ترجمة: 2077) ، والجرح والتعديل (4/222، ترجمة: 972) ، وتهذيب التهذيب (4/99) .(1/80)
قال السخاوي في القول البديع: وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله سيارة من الملائكة، إذا سمعوا حلق الذكر قال بعضهم: اقعدوا فإذا دعا القوم أمنوا على دعائهم، فإذا صلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلوا معهم حتى يفرغوا، ثم يقول بعضهم لبعض: طوبى لهؤلاء يرجعون مغفور لهم» رواه أبو القاسم التميمي في ترغيبه (1) .
وحكي أن أبا العباس أحمد بن منصور يوم مات رآه رجل من أهل شيراز، وهو واقف بجامعها في المحراب، وعليه حلة وعلى رأسه تاج كامل بالجواهر، فقال له: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي وأكرمني وتوجني وأدخلني الجنة، فقال له: بماذا؟ قال: بكثرة صلاتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه النميري.
وقول البخاري: «وقول الله تعالى» يجوز فيه الجر عطفاً على محل الجملة التي هي كيف كان بدء الوحي، والرفع عطفاً على لفظ البدء قاله الكرماني.
قال البرماوي: وضعف بأن كلام الله لا يكيف، ثم قال: قلت: يصح على تقدير مضاف، أي: كيف نزول قول الله أو كيف فهم قول الله أو نحو ذلك.
أو أن المراد بكلام الله تعالى المنزل المتلو لا مدلوله، وهو الصفة القديمة القائمة بذاته.
وذكر البخاري هذه الآية الكريمة وهي قوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] لأن عادته أن يبتذل للترجمة بما وقع له من قرآن وسنة مسندة وغيرها، وأراد: أن الوحي سنة الله وأنبيائه.
ومعنى الآية: إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء وحي رسالة لا وحي إلهام فقط (2)
..
_________
(1) ذكره الهندي في كنز العمال (حديث رقم 1876) معزواً إلى ابن النجار عن أبي هريرة.
(2) فسر ابن حجر هذه الآية وتحدث عن وجه مناسبتها للحديث فقال: قوله: «وقول الله» هو بالرفع على حذف الباب عطفاً على الجملة، لأنها في محل رفع، وكذا على تنوين باب، وبالجر عطفاً على كيف، وإثبات باب بغير تنوين، والتقدير باب معنى قول الله كذا، أو الاحتجاج بقول الله كذا، ولا يصح تقدير كيفية قول الله، لأن كلام الله لا يكيف قاله عياض، ويجوز رفع «وقول الله» على القطع وغيره.
قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... الآية? قيل: قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل، أو أول نبي عوقب قومه، فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقاً.
ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة: أن صفة الوحي إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين.
ومن جهة: أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا، كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب ابن مسعود قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد في اليقظة. انظر الفتح (1/46) .(1/81)
وسبب نزول هذه الآية: أن الكفار أنكروا الوحي فنزلت رداً عليهم.
وخص نوحاً بالذكر ولم يذكر آدم مع إنه أبو البشر، وأول الأنبياء، بل هو أول المسلمين، فإنه نبي مرسل وإن رسالته بمنزلة التربية والإرشاد للأولاد، لأن نوحاً أول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول من عُذب أمته لردهم دعوته، وأُهلك أهل الأرض بدعائه، وأول مشرع عند بعض العلماء، وأول نبي عوقب قومه، فخصصه بالذكر تهديداً لقوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإعلاماً لهم أنكم ستعاقبون إذا خالفتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله «نوح» ونوح لفظ أعجمي معرب، ومعناه بالسريانية: الساكن، وهو لقب لهذا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واسم «نوح» عبد الغفار، وقيل: يشكر.
واختلف العلماء في سبب تلقيبه «بنوح» فقيل: لقب بذلك لكثرة نوحه على نفسه في طاعة ربه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي.
وقيل: لأنه مر بكلب فناح لذلك فقال: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب، فناح لذلك ولقب بنوح.
وقيل: لأنه رأى كلباً ميتاً فكرهه، فأوحي الله إليه: هذا خلقنا فاخلق أنت مثله، فصار يبكي وينوح، قاله البوني.
وقيل: إنه رأى كلباً له أربعة أعين فاستقبحه فقال له الكلب: يا نوح أتعيب لصنعتي، فلو كان الأمر إلىّ لم أكن كلباً، وأما الصانع فهو الذي لم يلحقه عيب فصار يبكي وينوح قاله في العقائق.
ففي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئاً من مخلوقات الله تعالى فإن الله لم يخلق شيئاً من العالم سدىً.
حكى الكمال الدميري (1)
عن القزويني (2) أن رجلاً رأي خنفساء فقال: ماذا يريد الله تعالى من خلق هذه؟ أحسن شكلها أم أطيب ريحها؟ فابتلاه الله بقرحه عجز عنها
_________
(1) الدميري هو: بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري، فقيه انتهت إليه رياسة المالكية في زمنه، مصري نسبته إلى ميرة قرية قرب دمياط ومولده بها سنة: 734هـ،. أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 - 792، وتوجه مع القضاة إلى الشام لحرب الظاهر وعاد الظاهر، فعزله بعد أن طعن في صدره وشدقه، وكان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة ولاسيما بعد صرفه عن القضاء.
له كتب منها: الشامل على نسق مختصر خليل في الفقه، وقام بشرحه بعد ذلك، والمناسك في مجلدة، وشرح في ثلاثة مجلدات، وشرح مختصر خليل في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح ألفية ابن مالك، والدرة الثمينة منظومة في نحو 3000 بيت، وشرحها، اطلع السخاوي على بعض هذه الكتب بخطه، وكانت وفاته سنة: 805هـ.
(2) هو: الإمام العلامة قاضي القضاة جلال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني ثم الدمشقي، ولد سنة 666هـ، حدث وأفتى ودرس وولي الخطابة ثم القضاء بدمشق، ثم انتقل إلى قضاء مصر ثم عاد إلى قضاء الشام صنف: تلخيص المفتاح في المعاني والبيان، وشرحه المسمى: الإيضاح، وصنف في الأصول كتاباً حسناً، توفى بدمشق سنة 739هـ.(1/82)
الأطباء حتى ترك علاجها، فسمع يوماً صوت طبيب من الطرقيين ينادي في الدرب فقال: هاتوه ينظر في أمري، فقالوا: ما تصنع بطرقي، وقد عجز عنك حذاق الأطباء؟ فقال: لابد لي منه، فلما أحضروه ورأى القرحة استدعى بخنفساء فضحك الحاضرون، فتذكر الرجل العليل القول الذي سبق منه فقال: احضروا ما طلب فإن الرجل على بصيرة، فاحضروا له الخنفساء ورد رمادها على قرحته فبريء بإذن الله تعالى، فقال للحاضرين ما وقع منه قال: إن الله أراد أن يعرفني أن أحسن المخلوقات أعز الأدوية.
وخص نوح -صلوات الله وسلامة- عليه بخصائص منها: أنه لم يسم أحد من الأنبياء باسمه.
ومنها: أنه كان أول أنبياء الشريعة، وأول داع إلى الله وأول من عُذبت أمته لعدم الإيمان به، وأهلك الله الأرض بدعوته، كما قال تعالى حكاية عنه {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 26، 27] .
ومنها: السفينة التي ركبها في الطوفان، وسنذكر قصة السفينة وكم كان طولها وعرضها، ومن أي شيء كانت، وكم أقام فيها في الكلام على عاشوراء.
ومنها: أنه كان أطول الأنبياء عمراً كما صرح به النووي في تهذيب الأسماء واللغات، ولهذا يقال له كبير الأنبياء، وشيخ المرسلين عاش ألفاً وخمسمائه سنة قاله الكسائي والثعالبي، أو مائه وخمسين سنة قاله كعب الأحبار، وقيل: غير ذلك، وباقي الأنبياء لم يبلغوا هذا العمر.
أما آدم فقيل: إنه عاش تسعمائه وستين سنة، لكن قال النووي في تهذيبه: اشتهر في كتب التاريخ أنه عاش ألف سنة، ولازالت أعمار الأنبياء في القصر والتناقص، فمنهم من عاش ثلاثمائه، ومنهم من عاش دون ذلك، وأما نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه عاش ثلاثاً وستين سنة، وهكذا أعمار غالب أمته ما بين الستين إلى السبعين كما ورد في الترمذي: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» (1) ، وفي
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/566، رقم 2331) ، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (2/1415، رقم 4236) ، والحاكم في المستدرك (2/463، رقم 3598) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (7/246، رقم 2980) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/85، رقم 5872) ، وأبو يعلى في مسنده (10/390، رقم 5990) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/412، رقم 1668) ، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/304، رقم 687) عن أبي هريرة.(1/83)
رواية: «وجعل أمته آخر الأمم وأقصر الأمم أعماراً حتى لا يطول مكثهم تحت التراب، ولا يجتمع عليهم الذنوب الكثيرة» (1) .
قال: ويدل على ذلك ما روي عن أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل - عليه السلام - عن ربه - عز وجل - قال: «إني مننت عليك بسبعة أشياء: أولها: أني لم أخلق في السماوات والأرض أكرم علي منك، والثاني: أن مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي كلهم مشتاقون إليك، والثالث: لم أعط أمتك مالاً كثيراً حتى لا يطول عليهم الحساب، والرابع: لم أطول أعمارهم حتى لا تجتمع عليهم الذنوب الكثيرة، والخامس: لم أعطهم من القوة كما أعطيت من قبلهم حتى لا يدَّعوا الربوبية كما ادعت الأمم السابقة، والسادس: أخرجهم في آخر الزمان حتى لا يطول مكثهم تحت التراب، والسابع: لا أعاقب أمتك كما عاقبت بني إسرائيل إذا أصابهم دم الحيض في ثيابهم أمرت بقطعه، ولا يجوز الغسل منه، وإذا أذنبوا ذنباً وجدوه مكتوباً على أبوابهم» (2) .
ومن خصائص نوح: أنه عاش هذا العمر الطويل فلم تنقص له قوة.
ومنها: أنه لم يبالغ أحد من الرسل في الدعوة مثل ما بالغ، فكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً سراً وإعلاناً كما قال تعالى حكاية عنه {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 5، 6] ولم يلق نبي من الضرب والشتم وأنواع الأذى والجفاء ما لقي.
ومنها: أنه جعل ثاني النبي - صلى الله عليه وسلم - في الميثاق وفي الوحي قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ، وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] .
ومنها: أنه أول من تنشق عنه الأرض بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أن الله حفظه ومن معه في الفلك من الغرق، وأجراه فوق الماء وسماه عبداً
_________
(1) لم نقف على هذه الرواية.
(2) لم نقف عليه.(1/84)
شكوراً فقال: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء: 3] .
وأكرمه بالسلام والبركة فقال: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] .
قال بعض العلماء: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
ومنها: أنه من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين، لا تضرة تلك الليلة حية ولا عقرب، والسر في ذلك: أنه لما صنع السفينة وأمر أن يصنع فيها من كل زوجين اثنين، حضرت الحية والعقرب وقالا: احملنا معك فقال: لا لأنكما سبب الضر للناس، فقالا: احملنا ونحن نحلف لك أن لا نضر أحداً ذكرك في ليل أو نهار، فحلفها على ذلك. نبه على ذلك الدميري واستدل عليه بأحاديث.
وكان له من الأولاد ثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج.
ويقال: لما حضرته الوفاة دعا ابنه ساماً فقال: يا بني أوصيك عن اثنين أو أنهاك عن اثنين فأما اللذان أنهاك عنهما فالإشراك بالله والكبر، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الشرك والكبر.
وقيل: قال له: فأما اللذان أنهاك عنهما فالشرك بالله والاتكال على غير الله، وكفى بالعبد خزياً أن يتكل في حاجة على غير الله، وأما اللذان أوصيك بهما فإني رأيتهما يكثران الولوج على الله تعالى قول لا إله إلا الله، وقول سبحان الله، فإن لا إله إلا الله لو جمعت السموات السبع والأرض السبع لخرقتها حتى تبلغ إلى ربها، ولو جعلت لا إله إلا الله في كفة ميزان وجيىء بالسماوات السبع وما فيها لرجحت لا إله إلا الله، وأوصيك بسبحان الله فإنها صلاة الخلق، وبها يرزقون، فلما فرغ من وصيته أتاه ملك الموت فقال: له السلام عليك يا نبي الله فارتعد نوح منه، وقال: وعليك السلام أيها الشخص من أنت؟ فقد ارتاع قلبي منك، فقال: أنا ملك الموت قد أتيت لقبض روحك، فتغير وجهه وتلجلج لسانه، فقال له ملك الموت: ما هذا الجزع يا نوح؟ أو لم تشبع من الدنيا طول عمرك؟ فقال نوح: يا ملك الموت ما شبهت ما مضى في عمري إلا بدار لها بابان، دخلت من هذا الباب، وخرجت من الآخر، قال: فالتفت نوح عن يمينه وشماله فلم يرى أحداً من أولاده، فناوله ملك الموت كأساً فيه شراب، وقال له: اشرب هذا حتى يسكن روعك فتناوله نوح - عليه السلام - فلما استوفى الشراب خر(1/85)
ميتاً.
لطيفه: سبب مجيىء أولاد حام سود أن نوحاً أمر أن لا يقرب ذكراً أنثى ما دام في السفينة، فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا الله نوح أن يغير نطفته، فجاء بالسودان.
وقوله «والنبيين» قريء بالهمز وتركه، وهو جمع نبي، و «النبيء» بالهمز مأخوذ من النبأ بمعنى الخبر، لأنه مخبر عن الله، وبلا همز وهو الأكثر، فقيل: إنه مخفف المهموز أي: قلبت الهمز ياء، وأدغمت الياء في الياء.
وقيل: إنه أصل مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة، لأنه مرفوع الرتبة عند الله على سائر الخلق.
قال العلماء: وأول الأنبياء آدم - عليه السلام - وآخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد نطق القرآن والحديث بأنه خاتم النبيين قال تعالى {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40] .
وعن العرياض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طنيته» رواه أحمد والبيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد (1) .
وقوله «لمنجدل» يعني طريحاً ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
لطيفه: ذكر ابن الجوزي (2) في مولده: أن الله تعالى قال لنور محمد - صلى الله عليه وسلم - من أنا؟ فمن حلاوة الكلمة اهتز العرش فخرج منه قطرات كالمطر المترادف، فكان مائة ألف قطرة، وأربعة وعشرين ألف قطرة، فكل قطرة قطرت منه خلق الله منها نبياً هذا في البداية مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي يسعون في خدمته، وفي الآخرة يكونون تحت رآيته، يطلبون شفاعته (3) قال بعضهم:
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/127، رقم 17190) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/134، رقم 1385) ، والحاكم في المستدرك (2/656، رقم 4175) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد عن العرباض بن سارية.
والحديث أخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (14/312، رقم 6404) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/340، رقم 1455) ، واأبو نعيم في حلية الأولياء (6/90) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/149) ، والبخاري في التاريخ الكبير (6/68) ، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/398، رقم 865) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/76، رقم 230) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/223) : رواه أحمد بأسانيد والبزار والطبراني بنحوه، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان.
(2) هو: الإمام العلامة الحافظ جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن القرشي التميمي البكري البغدادي، المعروف: بابن الجوزي له مؤلفات عظيمة يقول الإمام الذهبي: ما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل. ولد سنة 510 هـ بالبصرة وتوفي في ليلة السابع من شهر رمضان سنة 597هـ.
(3) هذا الكلام يحتاج إلى نقل صحيح فالمقام مقام الحديث عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم نقف على رواية في ذلك والله تعالى أعلى وأعلم وهو أجل وأحكم.(1/86)
لبست رداء الفخر في صلب آدم ... فما تنتهي إلا إليك المفاخر
ولله بدر في السماء منور ... وأنت لنا بدر على الأرض زاهر
وأما عدد الأنبياء والمرسلين فقد جاء في رواية مسند أحمد في حديث أبي ذر أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء منها قال: قلت: يا رسول الله كم عدد الأنبياء قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبي، الرسل من ذلك ثلاثمائه وخمسة عشر جماً غفيراً» (1)
وكلهم خلقوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لكن قال العلماء: الأولى أن لا يقتصر على عدد في التسمية، فقد قال الله تعالى: ?مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ? [غافر: 78] ، ولأنه لا يأمن في ذكر العدد أن يدخل فيهم من ليس منهم، إن ذكر عدد أكثر من عددهم، ويخرج منهم من هو منهم إن ذكر عدداً أقل من عددهم، وكلهم -صلوات الله عليهم وسلامه- كانوا مخبرين مبلغين عن الله تعالى صادقين ناصحين، وهم معصومون من الكبائر والصغائر، قبل النبوة وبعدها، عمداً سهواً.
وفي إرسال الرسل حكمة أي: مصلحة وعاقبة حميدة فإن الله تعالى أرسلهم مبشرين لأهل الإيمان والطاعة بالجنة والثواب، ومنذرين لأهل الشرك والطغيان بالنار والعقاب، ومبينين للناس ما يحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، فإن العقل لا يستقل بمعرفة كل ما يحتاج إليه الإنسان من أمور الدين والدنيا، فقد خلق الله الأجسام النافعة والضارة ولم يجعل للمعقول والمحسوس الاستقلال بمعرفتها، فكان من فضل الله ورحمته إرسال الرسل لبيان ذلك، كما قال {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
فائدة: لولا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخلق الله نبياً من الأنبياء ولا شيئاً من الأشياء، فإن الله لما
_________
(1) أخرجه أحمد في المسند (5/178، رقم 21586) عن أبي ذر.
وأخرجه أيضاً: الطيالسي في مسنده (ص 65، رقم 478) ، والطبراني في المعجم الكبير (8/217، رقم 7871) ، وابن حبان في صحيحه (2/76، رقم 361) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/32) ، وهناد بن السري في الزهد (2/516، رقم 1065) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/291، رقم 3576) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/159) : رواه أحمد والطبراني في الكبير، ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.(1/87)
خلق آدم - عليه السلام - قال له: ارفع رأسك فرفع آدم رأسه فرأى نور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - شبحاً تحت العرش، فقال آدم: يارب ما هذا الشبح النور؟ فقال: هذا الشبح سرادق نور خلق من ذريتك اسمه في السماء أحمد وفي الأرض محمد، لولاه ما خلقتك ولا خلقت سماءً ولا أرضاً ولا طولاً ولا عرضاً، قال: يارب لم سميته في السماء أحمد وفي الأرض محمد؟ قال: سميته في السماء أحمد لأن أحمد من حمدي، وسميته في الأرض محمد لأني جعلت كل من يحمدني يحمده (1) .
* * *
_________
(1) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولكن وجدنا معناه في حديث آخر عند الطبراني في المعجم الأوسط (6/313، رقم 6502) عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما أذنب آدم بالذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى الله إليه وما محمد ومن محمد؟ فقال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت، أنه ليس أحد أعظم عندك قدراً ممن جعلت اسمه مع اسمك، فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك، وإن أمته آخر الأمم من ذريتك، ولولا هو يا آدم ما خلقتك» .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/253) : رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم.(1/88)
المجلس الثالث
في الكلام على رجال إسناد حديث «إنما الأعمال بالنيات»
ونذكر فيه طرفاً من ترجمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ ...
قوله: «حدثنا الحميدي» هذا هو أحد مشايخ البخاري أبو بكر عبد الله بن عبد الله بن الزبير منسوب إلى جده الأعلى حميد، وهو إمام كبير مصنف رافق الشافعي في الطلب عن ابن عينيه وطبقته، وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر، ورجع بعد وفاته إلى مكة، وكانت وفاته بها سنة تسع عشرة ومائتين (1) .
وافتتح البخاري كتابة بالرواية عن الحميدي دون غيره من مشايخة لأنه قرشي، بل هو أفقه أهل قريش من أئمتنا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «قدموا قريشاً ولا تقدموها» (2) .
ولتقديمه مناسبة أخرى وهي أنه مكي فناسب أن يذكر في أول ترجمة الوحي لأن ابتداءه كان من مكة (3) .
_________
(1) ترجم الحافظ ابن حجر في الفتح (1/46) للحميدي فقال: هو: أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسي، منسوب إلى حميد بن أسامة، بطن من بني أسد بن عبد العزى بن قصي، رهط خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتمع معها في أسد، ويجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي، وهو إمام كبير مصنف، رافق الشافعي في الطلب.
(2) أخرجه البزار في مسنده (2/112، رقم 465) عن علي - رضي الله عنه -، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/64) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، والإمام الشافعي في المسند (1/278) عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره، وأخرجه ابن أبي عاصم في كتاب السنة (2/637، رقم 1519) عن عبد الله بن السائب - رضي الله عنه -.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/46) : فكأن البخاري امتثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قدموا قريشاً» فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي، لكونه أفقه قرشي أخذ عنه، وله مناسبة أخرى: لأنه مكي كشيخه، فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي، لأن ابتداءه كان بمكة، ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك، لأنه شيخ أهل المدينة، وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل، ومالك وابن عيينة قرينان، قال الشافعي: لولاهما لذهب العلم من الحجاز.(1/89)
وقوله: «قال حدثنا سفيان» هذ هو سفيان بن عينيه، ويجوز في سين سفيان الفتح والضم والكسر، والضم أشهر وهو هلالي كوفي، ثم مكي، وهو من تابع التابعين سكن بمكة ومات بها، وكان من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع والدين، ومن العلماء بكلام رب العالمين، وسنة سيد المرسلين.
ومن فضائله - رضي الله عنه - أنه قرأ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين، ولما بلغ خمس عشرة سنة قال أبوه يا بني اختلط بالخير تكن من أهله، واعلم أنه لن يسعد بالعلماء إلا من أطاعهم، فأطعهم وخذ منهم تقتبس من علمهم، قال: فجعلت لا أعدل عن وصية أبي.
وكان كثير التلاوة والحج، حج نيفاً سبعين حجة، وفي كل يوم يقول: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، حتى قال في المرة الأخيرة: قد استحييت من الله تعالى من كثرة ما أساله، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت غرة رجب سنه ثمان وتسعين ومائة ودفن بالحجون.
ومن مناقبة ما حكي عن بعض أصحابه أنه قال: دخلت عليه وبين يديه قرصان من شعير فقال: يا أبا يوسف إنهما طعامي منذ أربعين سنة.
وكان كثيراً ما ينشد:
خلت الديار فسرت غير مسود ... ومن الشقاء تفردي بالسودد
قال الشافعي في حقه: لولا مالك (1) وسفيان لذهب علم الحجاز وهو من مشايخ الشافعي ومن ينتهي إليه سلسلة أصحابه في الفقه ومنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتيا يلتفت إلى الشافعي ويقول: سلوا هذا.
وكان يوماً جالساً وعنده أصحابه، وإذا بصبي قد دخل المسجد فتهاون به أهل المجلس لصغره، فقال سفيان: لأصحابه كذلك كنتم من قبل، فمنَّ الله عليكم، ثم التفت إلى واحد من أصحابه وقال له: يا فلان لو رأيتني ولي عشر سنين طولي خمسة أشبار، وأنا كشعلة من نار، ثيابي صغار، وأكمامي قصار، وذيلي بمقدار، وبغلي كآذان الفار، أختلف إلى علماء الأمصار، مثل الزهري وعمرو بن دينار (2) ، أجلس بينهم كالمسمار، ومحبرتي كالجوزة، ومقلمتي كالموزة، وقلمي كاللوزة، فإذا جلست فيهم قالوا: وسعوا للشيخ الصغير، ثم ابتسم ابن عيينة وضحك، وإنما قال ذلك: حثاً لهم على إكرام الصغير، وإعلاماً لهم بأن العلم فضل الله يؤتيه من يشاء ولقد أحسن من قال: وكم من صغير وفقه الله في حال صغره، فغاب عليه الخوف من الله.
_________
(1) هو: إمام دار الهجرة مالك بن أنس بن مالك الأصبحي الحميري، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وإليه ينسب المذهب المالكي، كان صلبا في دينه، بعيدا عن الإمارة، شديدا على الأمراء بعيدا عنهم له: الموطأ في الحديث، والمدونة الكبري، ولد بالمدينة وكانت وفاته بها سنة (93هـ) .
انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) .
(2) عمرو بن دينار هو: عمرو بن دينار الجمحي بالولاء، أبو محمد الأثرم: فقيه، كان مفتي أهل مكة، فارسي الأصل، مولده بصنعاء سنة: 46هـ هـ، ووفاته بمكة سنة: 126هـ.
قال شعبة: ما رأيت أثبت في الحديث منه، وقال النسائي: ثقة ثبت، واتهمه أهل المدينة بالتشيع والتحامل على ابن الزبير، ونفى الذهبي ذلك، قال ابن المديني: له خمسمائة حديث.(1/90)
قال الحسن البصري (1) : رأيت صغير يبكي فقلت: يا صبي من ضربك أبوك أم أمك؟ قال: يا عم ما ضربني أبي ولا أمي، ولكن أبكي من خوف جهنم، فقلت له: يا بني مع صغر سنك تخاف من جهنم؟ قال: يا عم رأيت أمي إذا طبخت تترك الحطب الصغار تحت الكبار، فأبكاني ذلك، ثم قلت: له يا بني هل لك ان تصحبني حتى أعلمك مما علمني الله من العلم، فقال: على شرط إذا جعت تطعمني، وإذا عطشت تسقيني، وإذا مرضت تشفيني، وإذا زللت تغفر لي، وإذا مت تحييني، قلت: لا أقدر على ذلك، قال: أنا على باب ملك يقدر على ذلك كله.
قوله «قال حدثنا يحيى بن سعيد الانصاري» هذ هو سعيد بن سعيد ين قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري تابعي، اتفق العلماء على جلالته وعدالته وحفظه، وكانت وفاته سنه أربع أو ثلاث أو ست وأربعين ومائة بالعراق، وقيل: بالهاشمية.
والأنصاري نسبة إلى الأنصار الذي هو كالعلم للقبيلتين الأوس والخزرج، ولهذا جاز النسبة إلى لفظ الجمع.
وسموا أنصار لانهم نصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال: 72] وواحد الأنصار نصير كشريف وأشراف.
قوله: «قال أخبرنا محمد بن إبراهيم الشيمي» هذا هو عبد الله محمد بن إبراهيم الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن تميم بن مرة المدني القرشي التيمي، تابعي، وكانت وفاته بالمدينة سنة عشرين إحدى عشرين ومائة.
قوله: «سمع علقمة بن أبي وقاص الليثي» قال الكرماني: «علقمة» بفتح العين المهملة، توفي بالمدينة في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو منسوب إلى ليث بن عبد مناف، وهو تابعي على قول الأكثر، وقال ابن منده: إنه صحابي.
وقوله: «يقول سمعت عمر بن الخطاب» هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وقبل الكلام على نسبة ومناقبه نذكر نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - تبركاً به وتشرفاً، فإن نسب عمر - رضي الله عنه - يجتمع مع نسب - صلى الله عليه وسلم - فنقول:
هو - صلى الله عليه وسلم - محمد بن عبد الله، سمي محمد لكثرة خصاله المحمودة، وسنذكر في المجالس الآتية أن والديه هل ماتا مؤمنين أو كافرين؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك.
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لوئ، ولوئ يقرأ بالهمز وتركه.
_________
(1) هو: أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، من سادات التابعين وكبرائهم، وكان إمام أهل البصرة، وحبر الأمة في زمنه، قيل: كان جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً ناسكاً، من المشهود لهم بالفضل، قال عنه الإمام الغزالي: كان الحسن البصري أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء، وأقربهم هجياً من الصحابة، وكان غاية في الفصاحة، أقواله كثيرة، ومتناثرة، ومشهورة، توفي رحمه الله تعالى بالبصرة في مستهل شهر رجب سنة 110هـ.
انظر: الوفيات (ص: 109) ، والبداية والنهاية (5/301) ، تهذيب الكمال (4/297، ترجمة: 1198) ، والمناوي في الكزاكب الدرية (1/181) .(1/91)
ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانه بن مدركة بن إلياس، هو أول من أهدى البدن إلى بيت الله الحرام، وهو أول من وضع مقام إبراهيم للناس بعد غرق البيت وانهدامه زمن نوح، فكان إلياس أول من ظفر به فوضعه في زاوية البيت، ولم تزل العرب تعظم إلياس.
قال السهيلي (1)
: ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تسبوا إلياس فإنه كان مؤمناً» (2) ، وذُكر أنه كان يسمع من صلبه تلبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحج.
ابن مضر بن نزار: بكسر النون مشتق من النذر، وهو القليل، سمي «بنزار» لأن أباه حين ولد له نظر إلى نور النبوة بين عينيه الذي كان ينتقل في الأصلاب، ففرح فرحاً شديداً، ونحروا طعم، وقال: هذا نذر في حق هذا المولود.
ابن معد بن عدنان، إلى هنا أجمع العلماء على نسبه الشريف وحق أن ينشد فيه ينشد - صلى الله عليه وسلم -:
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً
... ومن فلق الصباح عمودا
ما فيه إلا سيداً وابن سيد ... حاز المكارم والتقى والجودا
وأما رفع نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى آدم فقد كرهه الإمام مالك، وقال: من أخبرك بذلك؟ ولكن الجمهور جوزوه لأنه يترتب عليه معرفة العرب من غيرهم، وقريش من غيرهم.
وقد تنتقل - صلى الله عليه وسلم - في الأصلاب الطاهره الزكية، وكلما انتقل إلى صلب واحد يلوح عليه أنواره البهية، ولقد أحسن من قال:
تنقلت في أصلاب قوم أعزة ... بك افتخروا في كل واحة ومحفل
وأشرقت الأنوار في كل بقعة ... وفاح الثناء في كل واد ومنزل
وأضحى لسان الدهر ينشد فرحة ... تنقل فلذات الهوى في التنقل
وأما عمر بن الخطاب فهو: أمير المؤمنين، أبو حفص عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لوي بن غالب الفهري العدوي القرشي، يتلقي نسبة بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - في حفص، كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما رواه بن الجوزي.
والحفص في اللغة: الأسد، واتفق العلماء على تسميته بالفاروق، قيل: لظهور
_________
(1) هو: الحافظ البارع أبو القاسم عبد لرحمن بن عبد لله بن أحمد السهيلي الخثعمي المآلقي الضرير، ويكنى أبا زيد وأبا الحسن، صاحب التصانيف منها: الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام، والإعلام بما أبهم القرآن من الأسماء الأعلام، وكتاب نتائج النظر. وكانت وفاته -رحمه الله تعالى- سنة (581هـ) .
انظر: طبقات المحدثين (1/179) ، وشذرات الذهب (2/271) ، وأبجد العلوم (2/331) .
انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) .
(2) لم نقف عليه.(1/92)
الفرق بين الحق والباطل بإسلامه.
وقيل: سبب تسميته بالفاروق ما روي عن الشعبي (1) أن رجلاً من المنافقين ويهودياً اختصما فقال اليهود: ننطلق إلى محمد بن عبد الله، وقال المنافق: إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، وأتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقضى لليهودي، فلما خرجا قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إليه فقصا عليه القصة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما فدخل البيت واشتمل على السيف، ثم خرج وضرب عنق المنافق، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزل جبريل فقال: إن عمر بن الخطاب فاروق الحق والباطل، فسمي الفاروق. خرجه الواحدي وأبو الفرج.
واختلف العلماء فيمن سماه بالفاروق فقيل: ربه وهو ضعيف، وقيل: أهل الكتاب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر المحب الطبري (2)
في كتابه الرياض النضرة أنه قال: روي عن ابن العباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ينادي مناد يوم القيامة أين الفاروق عمر فيؤتى به، فيقول الله تعالى مرحباً بك يا أبا حفص، هذا كتابك فإن شئت فاقرأه، وإن شئت فلا، فقد غفرت لك» (3) .
قال: وقد روي أن اسمه في السماء فاروق، وفي الإنجيل كافي، وفي التوراة منطق الحق.
وهو أول من سمي أمير المؤمنين، وكان يقال: لأبي بكر - رضي الله عنه - خليفة رسول الله، فلما ولي عمر - رضي الله عنه - قيل له: خليفة خليفة رسول الله - رضي الله عنه - فاستطالوا ذلك، فقيل: إنه سمى نفسه فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، وقيل: سماه غيره به.
واختلف العلماء في وقت إسلامه فقيل: أسلم بعد خمس من النبوة، وقيل: أربع، والراجح بعد ست، وكان مكملاً لعدة أربعين رجلاً فقد ورد عن ابن عباس (4)
قال: أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعة وثلاثون رجلاً ثم إن عمر أسلم فصاروا أربعين رجلاً فنزل جبريل - عليه السلام - بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64] خرجه الخلعي (5) والواحدي (6) .
كما روي: أنه أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشر امرأة.
وسبب إسلامه كما روي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: خرج علينا متقلداً السيف، فلقيه رجل من بني زهرة فقال: أين تعمد أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد أن أقتل محمداً،
_________
(1) هو: أبو عمرو، عامر بن شراحيل بن عبد ذي كبار الشعبي الحميري، راوية التابعين، يضرب المثل بحفظه، ولد ونشأ ومات فجأة بالكوفة، وكان -رحمه الله- سفير ورسول عبد الملك بن مروان إلى الروم، توفي سنة (102هـ)
انظر: تهذيب التهذيب (5/65) ، ووفيات الأعيان (1/244) ، وحلية الأولياء (4/310) .
انظر: الديباج المذهب (1/30) ، والوفيات (1/439) ، وتهذيب التهذيب (10/5) .
(2) محب الطبري: هو فقيه الحرم محب الدين أبى العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبى بكر بن محمد الطبري ثم المكي، شيخ الحرم بمكة وفقيهه ومفتيه وحافظ الحجاز بلا مدافعة، ولد في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة. قال البرزالي ولد بمكة في يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة.
له باع في الفتوى والتصنيف والتأليف، وهو من أئمة الفقه الشافعي وصنف فيه وبرع في مسائله وأفتى بمذهبه حتى قيل عنه شيخ الحرم ومفتيه، له من التصانيف: شرح التنبيه في فروع الشافعية وهو شرح مبسوط في عشرة أسفار كبار، ومسلك النبيه في تلخيص التنبيه وهو كبير، وتحرير التنبيه لكل طالب نبيه وهو مختصر صغير للتنبيه أيضاً، وعواطف النصرة في تفضيل الطواف على العمرة وهو كتاب في المناسك كما أشار إليه ابن قاضي شهبة، هذا في الفقه، أما في السير والتاريخ فله: الرياض النضرة في فضائل العشرة، وهو الذي نقل منه المصنف ههنا، وذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، والسمط الثمين في مناقب أمهات المؤمنين.
توفى في جمادى الآخرة، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي القعدة سنة أربع وتسعين وستمائة، وحكى البرزالي عن بعض علماء الحجاز أن الشيخ محب الدين توفى فى جمادى الآخرة وولده توفى بعده فى ذى القعدة.
انظر: شذرات الذهب (3/235، 236) ، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة (2/162، 163) ، والبداية والنهاية (13/340، 341) ، والدرر الكامنة (5/210) ، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/18، 19، 20) ، والنجوم الزاهرة 08/74) ، وتذكرة الحفاظ (4/1474) ، وطبقات المحدثين (1/221) ، ومعجم المؤلفين (1/22، 23) ، والرسالة المستطرفة (1/108) ، وذيل التقييد (1/318) ، وكشف الظنون (1/20، 79، 465، 491، 727) ، و (2/1177، 1178، 11613) .
(3) لم نقف عليه.
(4) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه، وهو أحد المكثرين من الصحابة في رواية الحديث، وأحد العبادلة، ومن فقهاء الصحابة، شهد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الجمل وصفين، وكف بصره في آخر حياته، وتوفي سنة (68هـ) .
انظر: تقريب التهذيب (1/309) ، وصفة الصفوة (1/314) ، وحلية الأولياء (1/61) .
(5) الخلعي هو: علي بن الحسن بن الحسين بن محمد، أبو الحسن الخلعي الشافعي: مسند الديار المصرية في عصره، أصله من الموصل، ومولده سنة: 405 هـ، ووفاته بها سنة: 492 هـ، فهو ينسب إليها لذلك.
ولي القضاء فحكم يوما واحداً واستعفى، وانزوى بالقرافة، حتى قيل له: القرافي، وكان قبره فيها يعرف بقبر: قاضي الجن والإنس، صنف كتاب: الفوائد في الحديث، ويعرف بفوائد الخلعي، وخرج أحمد بن الحسين الشيرازي أجزاء من مسموعاته في الحديث، سماها: الخلعيات.
(6) أخرجه الواحدي في أسباب النزول (ص: 196، رقم 496) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والواحدي هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، مفسر ومن علماء التأويل، أصله من ساوه، لزم الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي وأخذ وأكثر عنه في النقل، وكان الواحدي له باع طويل في العربية واللهجات، وتصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وله شعر رائق، له من التصانيف: أسباب النزول وهو مشهور، مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة.
انظر: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 70) ، البداية والنهاية (12/114) ، شذرات الذهب (3/330) ، طبقات الشافعية للسبكي (5/240) ، النجوم الزاهرة (5/104) ، العبر (3/267) ، وفيات الأعيان (2/464) .(1/93)
قال: وكيف تأمن من بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمد؟ فقال له عمر: ما أراك إلا قد صبأت وتركت دينك الذي أنت عليه، قال: أفلا أدلك على العجب يا عمر إن أختك وختنك قد صباءا وتركا دينك الذي أنت عليه، فمشى عمر حتى أتاهما وعندهما رجل من المهاجرين يقال له: خباب، فلما سمع خباب حس عمر توارى في البيت فدخل عليهما فقال: ما هذه الهيمنة التي سمعتها عندكم قال: وكانوا يقرؤون {طه} [طه: 1] فقالا: حديثاً تحدثناه بيننا، قال: قد صبوتما؟ فقال له ختنة: أرايت يا عمر إن كان الحق في دينك، فوثب عمر على ختنة فوطئه واشتدد عليه، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فدفعها دفعة بيده أدمى وجهها، فقالت وهي غضبى: يا عمر إن كان الحق في غير دينك أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلما تبين عمر قال: أعطوني هذا الكتاب الذي عندكم فأقرأه، وكان عمر يقرأ الكتب، فقالت أخته: إنك نجس، ولا يمسه إلا المطهرون فقام واغتسل وتوضأ، ثم أخذ الكتاب فقرأ {طه} [طه: 1] حتى إلى قوله تعالى {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] فقال عمر: دلوني على محمد، فلما سمع خباب قول عمر خرج من البيت فقال: أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك ليلة الخميس: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام» وقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا، فانطلق عمر حتى أتى الدار، قال: وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أقبل وجل القوم، قال حمزة: نعم هذا عمر، وإن يرد الله بعمر خيراً هداه إلى الإسلام، وإن يرد غير ذلك فقتله علينا هين.
فلما سمع به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعلم أنه جاء إلى الإسلام خرج إليه وأخذ بمجامع ثوبه نترة نترة، فما تمالك أن وقع على ركبتيه وقال: «ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل الله بالوليد بن المغيرة» ثم قال: «اللهم اهد عمر بن الخطاب، اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب» فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، فكبر المسلمون تكبيرة سمعها أهل مكة، ونزل جبريل وقال: يا محمد استسر أهل السماء بإسلام عمر (1) .
_________
(1) انظر: ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/268) وقد روى قصة إسلامه بنحو ما هاهنا عن أنس بن مالك أيضاً، وانظر نوادر الأصول (1/227) ففيه قصة إسلام عمر ولكن من حديث عائشة.
وروى الطبراني في المعجم الأوسط (2/240، رقم 1860) من هذه القصة: «عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عشية الخميس فقال: «اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام فأصبح عمر يوم الجمعة فأسلم» ، ورواه أيضاً الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (7/143، رقم 2576) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/62) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه القاسم بن عثمان البصري وهو ضعيف.(1/94)
وقال ابن عبد البر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب صدر عمر بن الخطاب حين أسلم ثلاث مرات وهو يقول: «اللهم أخرج ما في صدره من غل، وأبدله إيماناً» يقولها ثلاثاً (1) .
ولما أسلم قال: إني ذاهب إلى أبي جهل لأعلمه بإسلامي، فإنه أشد الناس عداوة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهب إليه وطرق عليه الباب فخرج إليه وقال: مرحباً بعمر، وظن أنه باق على دينه، ما حاجتك؟ قال: جئتك أخبرك أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فضرب الباب في وجهه، وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به.
وورد في الصحيح: «مازلنا أعزة منذ أسلم عمر» (2) .
وذكر المحب الطبري من خصائصه أن الله جعله مفتاح الإسلام فقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم إلى عمر فتبسم فقال: «يا ابن الخطاب أتدري لم تبسمت إليك؟» قال: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى
_________
(1) انظر: ابن عبد البر في الاستيعاب (3/1147) ترجمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
والحديث أخرجه: الحاكم في المستدرك (3/91، رقم 4492) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/305، رقم 13191) ، وفي المعجم الأوسط (2/20، رقم 1096) ، والأصبهاني في دلائل النبوة (ص 73، رقم 58) عن ابن عمر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/65) : رجاله ثقات.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1348، رقم 3481) عن عبد الله بن مسعود من قوله.
وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه (15/304، رقم 6880) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/354، رقم 31972) ، والبزار في مسنده (5/274، رقم 1888) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/165، رقم 8821) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (8/211) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/270) . وانظر: الإستيعاب (3/1149) .(1/95)
نظر إليك بالشفقة والرحمة ليلة عرفة، وجعلك مفتاح الإسلام» (1) .
وعن عمران بن حصين (2)
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا كان يوم القيامة وحشر الناس، جاء عمر بن الخطاب حتى يقف في الموقف فيأتيه شيء أشبه شيء به، فيقول: جزاك الله يا عمر خيراً، فيقول له من أنت؟ فيقول: أنا الإسلام، جزاك الله يا عمر خيراً ثم ينادي مناد: لا يدفعن لأحد كتاب حتى يدفع لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم يعطى كتابه بيمينه، ويؤذن به إلى الجنة» (3) فبكى عمر وأعتق جميع ما يملكه وهم تسعة.
وقال ابن مسعود (4)
: وكان إسلام عمر فتحاً وهجرته نصراً وإمامته رحمة، ولقد رأيتنا ما نستطيع أن نصلي في البيت حتى أسلم عمر، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه يصلون في البيت خفية، فقال عمر: يا رسول الله على من تخفي ديننا، ونحن على الحق وهم على الباطل، فقال: إنا قليلون، فقال والذي بعثك بالحق نبياً لا يبقى مجلس من المجالس التي جلست فيها إلا أقر الإيمان، ثم خرج عمر، وطاف بالبيت، وهو يظهر الشهادتين، فوثب إليه المشركون، فوثب عمر على واحد منهم وجلس على صدره، وأدخل أصبعيه في عينيه فصاح الرجل ففروا من عمر، ثم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: يا رسول لم يبق مجلس إلا وأظهرت فيه الإيمان فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدار وعمر أمامه وحمزة خلفه، حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر جهرة.
وهو من المهاجرين الأولين صلي إلى القبلتين، وشهد بدراً وبيعة الرضوان، وجميع المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بويع له بالخلافة يوم موت الصديق، وهو يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادي الآخر سنة ثلاث عشرة بوصية الصديق إليه فإن أبا بكر - رضي الله عنه - لما أيس من حياته دعا عثمان وأملى عليه كتاب أبي بكر - صلى الله عليه وسلم - فلما كتب ضم الصحيفة وأخرجها للناس يوم موت الصديق، وأمرهم أن يبايعوا لمن في الصحيفة، فبايعوا حتى مرت بعلي (5)
- رضي الله عنه - فقال: بايعنا لمن فيها وإن كان عمر، فوقع الاتفاق على خلافته، فسار بأحسن سيرة، وزين الإسلام بعدالته، وفتح في خلافته الفتوحات، وهو أول من ضرب
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) عمران بن الحصين هو: عمران بن حصين بن عبيد، أبو نجيد الخزاعي: من علماء الصحابة، أسلم عام خيبر سنة 7 هـ، وكانت معه رآية خزاعة يوم فتح مكة، وبعثه عمر إلى أهل البصرة ليفقههم في الدين، وولاه زياد قضاءها وتوفي بها عام: 52 هـ، وله في كتب الحديث 130 حديثاً.
والواحدي هو: أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي، مفسر ومن علماء التأويل، أصله من ساوه، لزم الأستاذ أبو إسحاق الثعالبي وأخذ وأكثر عنه في النقل، وكان الواحدي له باع طويل في العربية واللهجات، وتصدر للتدريس مدة وعظم شأنه، وله شعر رائق، له من التصانيف: أسباب النزول وهو مشهور، مات بنيسابور في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين وأربعمائة.
انظر: طبقات المفسرين للسيوطي (ص: 70) ، البداية والنهاية (12/114) ، شذرات الذهب (3/330) ، طبقات الشافعية للسبكي (5/240) ، النجوم الزاهرة (5/104) ، العبر (3/267) ، وفيات الأعيان (2/464) .
(3) لم نقف عليه بهذا اللفظ، ولكن وجدنا معناه عند محب الدين الطبري في الرياض النضرة (1/332) طرفاً منه عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أول من يعطى من هذه الأمة كتابه بيمينه عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس، فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله قال: هيهات زفته الملائكة إلى الجنان» قال محب الدين الطبري: خرجه صاحب الديباج.
(4) ابن مسعود هو: أبو عبد الرحمن، عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، أسلم قديما، ويقال: سادس من أسلم، وكان صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مات بالمدينة سنة (33هـ) .
انظر: الإصابة (4/233) .
(5) هو: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب الهاشمي القرشي، أبو الحسن: أمير المؤمنين، رابع الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين، وابن عم النبي وصهره، وأحد الشجعان الأبطال، ومن أكابر الخطباء والعلماء بالقضاء، وأول الناس إسلاماً بعد خديجة.
ولد بمكة، وربي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد، ولما آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه قال له: «أنت أخي» ، وولي الخلافة بعد مقتل عثمان ابن عفان سنة 35هـ، فقام بعض أكابر الصحابة يطلبون القبض على قتلة عثمان وقتلهم وتوقى علي الفتنة، فتريث حتى لا تقوم فتنة عظيمة، وما توقاه علي لم يقبله بعض الصحابة، فوقع المسلمون في فتنة عظيمة دخلها الوشاة وأصحاب النفوس المريضة فقلبوا الأمور، وخلطوا الصالح بالسيئ عداوة منهم لدين الإسلام، ولهذه الفتنة تفصيل في كتب التاريخ ليس محل ذكره ههنا، والمؤلف السفيري سيترجم لعلي وسيتعرض للكلا على هذه الفتنة وسوف نعلق عليها بما يقتضيه المقام.
ومن صفاته أنه كان أسمر اللون، عظيم البطن والعينين، أقرب إلى القصر، وكانت لحيته ملء ما بين منكبيه، وولد له 28 ولداً منهم 11 ذكراً و 17 أنثى.
وقد أقام علي بالكوفة دار خلافته إلى أن قتله عبد الرحمن بن ملجم المرادي غيلة في مؤامرة 17 رمضان المشهورة، واختلف في مكان قبره، فقيل: في قصر الإمارة بالكوفة، وقيل: في رحبة الكوفة، وقيل: بنجف الحيرة، وقيل: إنه وضع في صندوق وحمل على بعير يريدون به المدنية فلما كانوا ببلاد طيء أخذ بنو طيء البعير ونحروه ودفنوا علياً في أرضهم، ونقل عن المبرد، قال: أول من حول من قبر إلى قبر: علي - رضي الله عنه -.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجمعت خطبه وأقواله ورسائله في كتاب سمي: نهج البلاغة، وأكثر الباحثين شك في نسبته كله إليه، أما ما يرويه أصحاب الأقاصيص من شعره وما جمعوه وسموه: ديوان علي بن أبي طالب، فمعظمه أو كله مدسوس عليه.(1/96)
بالدرة وحملها، وكانت درته أهيب من السيف.
وله من الكرامات ما لا تحصى فمن كرامته أن العناصر الأربع وافقته، عنصر الماء والهواء والتراب والنار، وأما موافقة عنصر الماء له ففي قصة النيل، وذلك أن مصر لما انفتحت وتولى عمرو بن العاص بها في خلافه سيدنا عمر - رضي الله عنه - نائباً عنه، وجاء وقت زيادة النيل، اجتمع أهل مصر وجاءوا إلى عمرو بن العاص وقالوا: هذا النيل يحتاج في كل سنه إلى جارية بكر من أحسن الجوار من بنات مصر، وتحلى بأنواع الحلي والحلل، وتزين بأنواع الزينة كالعروس التي تزف إلى زوجها، ثم نلقيها فيه وإلا فلا يجري ويخرب البلاد، فقال لهم: لا أفعل شيئاً حتى أشاور أمير المؤمنين، فكتب كتاباً إلى عمر بن الخطاب يخبره فكتب إليه عمر كتاباً جواباً إليه عن كتابه وفيه رقعة مكتوب فيها: «من عبد الله عمر بن الخطاب أما بعد: فإن كنت تجري من قبلك، فلا تجر ولا حاجة بنا إليك، وإن كان الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك» وأمره أن يلقيها في النيل، فلما ألقى البطاقة في النيل، أصبحوا وقد أجرى الله النيل، وطلع ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، ببركة عمر بن الخطاب، وأراح الله المسلمين من هذه البدعة القبيحة، التي كانت تصنع كل سنة من زمن فرعون إلى خلافة عمر - رضي الله عنه - وأنشد بعضهم في المعنى فقال:
يا أيها النيل المبارك إن تكن ... من عند ربك تأت فاجر بأمره
وإن تكن من عند نفسك تأتنا ... فالله يبسط في بره
كم من بلاد ليس تعرف أرضها ... ملأ الإله بيوتها من بره
ووافقه عنصر الماء مرة أخرى وذلك: أنه بعث جيشاً إلى مدائن كسرى، وأمرَّ عليهم سعد بن أبي وقاص، وجعل قائد الجيش خالد بن الوليد، فلما بلغوا شط دجله ولم يجدوا سفينة تقدم سعد وخالد فقالا: يا بحر إنك تجري بأمر الله فبحرمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبعدل عمر خليفة رسول الله ألا ما خليتنا والعبور، فعبر الجيش بخيله وحماله ورجاله إلى المدائن ولم تبتل حوافرها.
وأما موافقه عنصر الهواء فذلك: أنه أرسل جيشاً وأمرَّ عليهم شخصاً يقال له: سارية، فلما قربوا من العدو كمنوا لهم وراء جبل وكانت نجاتهم في الصعود على الجبل، وكان نهار جمعة، فلما صعد المنبر للخطبة أطلعه الله على جيشه الذي أرسله، وعلى الكمين، وكشفت الحجب له من مسافة بعيدة، فبينما هو في الخطبة نادي: يا سارية الجبل مرتين أو ثلاثاً فاحتمل الهواء صوته حتى بلغ سارية فصعد الجبل وسلموا من(1/97)
العدو، ثم أقبل على خطبته، فلما قضى صلاته سأله عبد الرحمن بن عوف، وكان ينبسط معه وقال له: يا أمير المؤمنين ما هذا الذي وقع منك في حال الخطبة؟ ناديت يا سارية الجبل، وجعلت للناس عليك كلاماً بإتيانك بشيء في الخطبة ليس منها، فقال: رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤخذون من جهته من بين أيديهم ومن خلفهم، فلم أملك أن قلت: يا سارية الجبل ليلحقوا بالجبل، فلم تمض أيام قليلة حتى عاد الجيش فقالوا: صلينا الصبح إلى أن حضرت الجمعة، فسمعت صوت مناد ينادي إلى الجبل، فلحقنا بالجبل فلم نزل قاهرين لعدونا، حتى هزمهم الله تعالى.
وأما موافقة عنصر التراب له فذلك أن الأرض زلزلت في أيامه واضطربت، فضربها برجله، وقيل: بدرَّته وقال: أتزلزلين وأنا أعدل عليك، فما زلزلت في حياته بعد تلك المرة قط.
ونقل السبكي عن إمام الحرمين أنه قال: إن الأرض زلزلت على زمن عمر، فحمد الله، وأثنى عليه، والأرض ترتج ثم ضربها بدرته، وقال: أقري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت من وقتها.
قال السبكي: كان عمر على الحقيقة في الظاهر والباطن، وخليفة الله في الأرض، فهو يعزر الأرض ويؤدبها بما يصدر منها، كما يعزر ساكنيها على خطيأتهم.
فإن قيل: أيجب على الأرض تعزير وهي غير مكلفة؟
فالجواب: أن سيدنا عمر استوى عنده الظاهر والباطن، فجاز له تعزيرها لذلك، فإن ظاهر الشرع ما يبحث عنه الفقيه وباطن يطلع الله عليه بعض أصفيائه كعمر - رضي الله عنه - ونظير فعل عمر ما فعله موسى بن عمران بالحجر، لما مر بثوبه فلحقه وهو يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، وضربه ستاً أو سبعاً.
وقول سيدنا عمر للأرض: «ألم أعدل عليك» فيه إشارة إلى أن الظلم موجب الانتقام، وأن العدل موجب للرضا وأن الأرض مطيعة لله، وليس لها الارتجاج إلا في الوقت المعلوم وهو يوم القيامة كما قال تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] ، وكذلك وقت وقوع الجور من الحكام كما يدل ذلك قوله تعالى {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً} [مريم: 90، 91] فدلت الآية على أن الأرض لولا أن الله يمسكها لانشقت من الجور والظلم والفجور الكائن عليها.(1/98)
وأما موافقته عنصر النار فقد قال السبكي: إن ناراً كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما أصابت، فخرجت في زمن عمر فأمر أبو موسى الأشعري أو تميماً الدري أن يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه، حتى أدخلها الكهف فلم تخرج بعد.
قال: ولعله أراد بذلك منع أذاها.
وورد في الموطأ عن مالك بن أنس أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل رجلاً عن اسمه فقال: جمرة، فقال عمر: ابن من؟ قال: ابن شهاب فقال: ممن؟ قال: من الحرقة، فقال: واين مسكنك؟ فقال: بحرة النار، فقال: بأيها؟ قال: بذات لظى، فقال: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان الأمر كما قال عمر - رضي الله عنه - (1) .
فقد وافقه عنصر النار في هذه ايضاً.
وصفته - رضي الله عنه - أنه كان طوالاً جداً، جسيماً، كث اللحية، خفيف العارضين، أصلع شديد الصلع، أعسر يسر أي: قوة يديه على السواء، وكان يأخذ بيده اليمنى أذنه اليسرى، ثم يجمع أطرافه ويبث فكأنما خلق على ظهر فرسه، وكان يخضب بالحناء والكتم، وأنزل الله القرآن بموافقته في مواضع ستأتي في محلها، وشهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهادة والجنة، وسماع سراج أهل الجنة، وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه، وأن رضاه عز، وغضبه عدل، وسماه عبقرياً أي: سيداً، ومحدثاً، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لقد كان فيمن كان قبلكم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر» (2) .
_________
(1) رواه مالك في الموطأ (2/973، رقم 1753) عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب ... فذكره.
وأورد الحافظ ابن حجر في الإصابة (1/539، ترجمة1300 جمرة بن شهاب) فقال: له قصة مع عمر رويناها في فوائد أبي القاسم بن بشران من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر ... فذكره.
وأخرجه البخاري في صحيحه (3/1349، رقم 3486) عن أبي هريرة.
(2) يروى هذا الحديث عن أبي هريرة وعائشة:
أما حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري في صحيحه (3/1349، رقم 3486) ، والترمذي في سننه (5/622، رقم 3693) وقال: هذا حديث صحيح، وابن حنبل في فضائل الصحابة (1/361، رقم 529) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/583، رقم 1261) ، واللالكائي في كرامات الأولياء (1/93، رقم 41) .
أما حديث عائشة: فأخرجه مسلم في صحيحه (4/1864، رقم 2398) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/39، رقم 8119) ، وأحمد في مسنده (6/55، رقم 24330) ، وابن حبان في صحيحه (15/317، رقم 6894) ، والحميدي في مسنده (1/123، رقم 253) ، والخلال في السنة (2/311، رقم 387) .(1/99)
قال النووي (1) : اختلف في المراد «بمحدثون» فقيل معناه: ملهمون، وقيل: معناه مصيبون إذا ظنوا، وقيل: تكلمهم الملائكة ويؤيده أنه جاء في روايته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائه حديث وتسعة وثلاثون حديثاً اتفق البخاري ومسلم على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين، ومسلم بإحدى وعشرين، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة وغيرهم، وروى عنه نحو خمسين صحابياً منهم عثمان، وعلي، وطلحة، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف وخلائق من التابعين.
ولي الخلافة عشر سنين وخمسة أشهر أو ستة أشهر قولان، واستشهد يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.
واختلف في عمره على ثمانية أقوال ذكرها ابن الملقن في شرح هذا الصحيح وقال: الصحيح أنه مات ابن ثلاث وستين كسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، طلب من الله تعالى في آخر عمره فاستجاب له، فقد قال سعيد بن المسبب قال عمر: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط، وكان دعاؤه في أيام التشريق، فما انسلخ ذو الحجة حتى طعن.
طعنة أبو لؤلوة طعنة أبو لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبة نصراني، وقيل: مجوسي، وسبب طعنه لعمر - رضي الله عنه - أن المغيرة سيده كان يستغله أي: يأخذ منه كل يوماً أربعة دراهم، وكان يثقل على العبد أن يزن كل يوم أربعة دراهم، فجاء إلى عمر يشكو سيده، وقال يا أمير المؤمنين: إن المغيرة قد أثقل علىَّ غلتي فكلمه يخفف عني، فقال له عمر: اتق الله وأحسن إلى مولاك، فغضب العبد وقال: وسع الناس كلهم عدله غيري، وأضمر على قتله واصطنع خنجراً له رأسان، وقيل: سكينا ذا طرفين وسمهما، ثم جاء إلى عمر - رضي الله عنه - وهو في صلاة الصبح وطعنه ثلاث طعنات فقال: قتلني أو أكلني الكلب، وطعن معه ثلاثة عشر رجلاً مات منهم تسعة، وقيل: سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه فصار إلى لعنة الله وغضبه قال عمر - رضي الله عنه -: قاتله الله لقد أمرته بمعروف، ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام، ثم حمل عمر - رضي الله عنه - إلى منزله، وبقي ثلاثة أيام، وقيل: سبعة ومات - رضي الله عنه -.
_________
(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/166) .(1/100)
وقال الشعبي رحمه الله تعالى: لما طعن عمر بن الخطاب أتى بلبن فشرب منه، فخرج اللبن من طعنته، فقال: الله أكبر وعلم أنه يموت، وجعل جلساؤه يثنون عليه خيراً، فقال: وددت أن أخرج منها كفافاً كما دخلت، لا عليَّ ولا ليَّ، والله لو كان لي اليوم ما طلعت الشمس لافتديت به من هول المطلع، ولما احتضر غشي عليه، وكان رأسه على الأرض، فوضع ولده عبد الله رأسه في حجره، فلما أفاق قال له: ضع رأسي على الأرض فقال ابنه: يا أبت هل الأرض وحجري إلا سواء، قال: ضع رأسي بالأرض كما أمرتك، فوضعه فمسح خديه بالتراب، ثم قال: ويل لعمر، ويل لأم عمر إن لم يغفر الله لعمر، فإذا قبضت فأسرعوا بي إلى حفرتي، فإنما هو خير تقدموني إليه، أو شر تضعونه عن رقابكم.
ولما توفي - رضي الله عنه - أظلمت الأرض فجعل الصبي يقول: يا أماه أقامت القيامة؟ فتقول: لا يا بني ولكن قتل عمر.
وقال علي - رضي الله عنه - لما مات: وآعمراه قوَّم الأود، وأبر العمد، ومات تقي الثوب، قليل العيب.
وروي أنه لما احتضر قال لابنه: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك السلام عمر، ولا تقل أمير المؤمنين فإني اليوم لست للمؤمنين أميراً، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل ابنه عليه قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أُذنت، فقال: الحمد الله ما كان شيء أهم لي من ذلك، فإذا أنا قبضت فاحملوني ثم سلم وقل: يستأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإن أذن لي فأدخلوني فإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين.
غسله ولده الزاهد عبد الله الأكبر، وهو أفضل أولاده، وكان له عشرة أولاد ذكور، وكفنه في ثوبين سجوليين، ودفنه بالحجرة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام.
وكان له من البنات حفصه، وزينب، تزوج رسول - رضي الله عنه - بنته حفصه سنة ثلاث من الهجرة، وكان الإسلام في حياته كالرجل المقبل لا يزد إلا قرباً، فلما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر، لا يزداد إلا بعداً، ونظم بعضهم في هذا المعني فقال:
لقد أصبح الإسلام فيه كآبة ... لفقدك يا فاروق يا سيدي عمر
وقد كان في عز بوجهك مقبلاً ... فها هو قد ولى وها هو قد دبر(1/101)
ويكفيك أن الله أعطاك فضله ... لقربك بعد الموت من سيد البشر
ومن فضائله: أنه أول من يسلم عليه الحق جل جلاله يصافحه. أخرجه ابن ماجة عن أبي بن كعب (1) .
_________
(1) أبي بن كعب بن قيس بن عبيد، من بني النجار، من الخزرج، أبو المنذر: صحابي أنصاري، كان قبل الإسلام حبراً من أحبار اليهود، مطلعاً على الكتب القديمة، يكتب ويقرأ - على قلة العارفين بالكتابة في عصره، ولما أسلم كان من كتاب الوحي، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يفتي على عهده، وشهد مع عمر بن الخطاب وقعة الجابية، وكتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، وأمره عثمان بجمع القرآن، فاشترك في جمعه، وله في الصحيحين وغيرهما 164 حديثاً. وفي الحديث: «أقرأ أمتي أبي بن كعب» ، وكان نحيفاً قصيراً أبيض الرأس واللحية. مات بالمدينة سنة:21هـ.(1/102)
المجلس الرابع
في الكلام على حديث «إنما الأعمال بالنيات»
وفيما يتعلق بالنية وفيما يتعلق بالهجرة
ورأيت أن أفتح هذا المجلس بخطبة الألفية للعراقي للمناسبة وهي:
الحمد لله الذي قبل بصحيح النية حسن العمل، وحمل الضعيف المتقطع على مراسيل لطفه فاتصل، ورفع من أسند في بابه، ووقف من شذ عن جنابه وانفصل، ووصل مقاطيع حبه، وأدرجهم في سلسلة حزبه، فسكت نفوسهم عن الاضطراب والعلل، فموضوعهم لا يكون محمولاً ومقلوبهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له الفرد الأول، وأن سيدنا محمد عبده ورسوله، أرسله والدين غريب فأصبح عزيراً مشهوراً واكتمل، وأوضح به معضلات الأمور، وأزال به منكرات الدهور الأُول، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم، ما علا إسناده ونزل، وطلع نجم وأفل.
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي رحمه الله تعالى ورضي عنه:
«حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ، يَقُولُ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - عَلَى الْمِنْبَرِ ... » .
بكسر الميم مشتق من النبر، وهو الارتفاع، وهو بلفظ الآلة، لأنه آلة الارتفاع، والألف واللام فيه للعهد أي: منبر مسجد رسول الله - رضي الله عنه -، وكان عمل المنبر في السنة السابعة من الهجرة، وقيل: في السنة الثامنة، وهو أول منبر في الإسلام، والصانع له اسمه باقول، وقيل: باقوم، وقيل: إصباح، وقيل: إبراهيم، وقيل: تميم الداري، وكان درجتين والمقعد، فلما كان في خلافة معاوية بعث إلى مروان: أن ارفع المنبر فزاده ست درجات من أسفل، فلما كان في دولة بني العباس اتخذوا المنبر أمشاطاً للِّحى لأجل البركة من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال النووي: واتخاذ المنبر سنة، ويستحب أن يكون على يمين المحراب، قريباً منه.
وذكر البخاري في هذا الإسناد لفظ: «حدثنا» في ثلاثة مواضع، وذكر في الرابع: «أخبرني» (1)
، وفي الباقي: «سمعت» إشارة إلى الفرق بينهما، وهو قول
_________
(1) أفاد السيوطي في تدريب الراوي (2/16) أن حدثنا وأخبرنا ليس بمعنى وهذا ما ذهب إليه عبد الله ابن المبارك ويحيى بن يحيى التميمي، وأحمد بن حنبل، والنسائي وغيرهم.
قال الخطيب: وهو مذهب خلق كثير من أصحاب الحديث، وجوزها طائفة قيل: إنه مذهب الزهري ومالك وسفيان ابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري وجماعات من المحدثين، ومعظم الحجازيين والكوفيين كالثوري وأبي حنيفة وصاحبيه والنضر بن شميل ويزيد بن هارون وأبي عاصم النبيل ووهب بن جرير وثعلب والطحاوي وألف فيه جزء.
ومنهم من أجاز فيها سمعت ومنعت طائفة حدثنا وأجازت أخبرنا وهو مذهب الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق، وقيل: إنه مذهب أكثر المحدثين، وروي عن ابن جريج والأوزاعي وابن وهب، وروي عن النسائي أيضاً وصار هو الشائع الغالب على أهل الحديث.
وفي الفرق بين هذه الألفاظ قال طاهر الجزائري في توجيه النظر إلى أصول الأثر (2/691) : إن حدث المحدث جاز أن يقال: حدثنا، وإن قرئ عليه لم يجز أن يقال: حدثنا ولا أخبرنا، -وإنما يقول: سمعت-، وإن حدث جماعة لم يجز للمحدث عنه أن يقول: حدثني، وإن حدث بلفظه لم يجز أن يتعدى ذلك اللفظ، وإن كان قد أصاب المعنى.
وقال الزركضي في النكت على مقدمة ابن الصلاح (3/484) : وقال قوم: حدثنا دال على أنه سمعه لفظاً، وأخبرنا دال على سمع قراءة عليه، وهذا عندنا باب من التعمق والأمر في ذلك كله واحد ولا فرق بينهما عند العرب.
وقال في موضع آخر (3/2485) : وذكر ابن العربي في المسالك: أن بعضهم قال: حدثنا أبلغ من أخبرنا لأن أخبرنا قد تكون صفة للموصوف والمخبر من له الخبر.(1/103)
الجمهور من علماء الحديث، وإن سوى ابن عينيه بينهما.
ومن لطائف هذا الإسناد أن فيه ثلاثة من التابعين، يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى، ومحمد، وعلقمة، وقد يقع أطرف من هذا وهو أربعة من التابعين روي بعضهم عن بعض.
وفي هذا الإسناد لطيفة أخرى وهي: أن أوله مكيان والباقي مدينون.
قال (1) سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ «إِنَّمَا الأعمال بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» .
قال النووي: وقع هذا الحديث هاهنا وهو مختصراً وهو طويل مشهور ذكره البخاري في سبعة مواضع من كتابه، فذكره ههنا ثم في الإيمان، وفي النكاح، والعتق، والهجرة، وترك الحيل، والنذور.
وقال غيره: إنه سقط من رواية البخاري هنا ما هو ثابت في بقية الروايات وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله» .
وقال آخر: هذا الحديث ذكره البخاري في مواضع غير هذا الموضع، من غير طريق الحميدي (2) ، فجاء به كاملاً لم يسقط منه شيء، إلا في هذا الموضع، فإنه جاء به مجزؤاً قد ذهب جزؤه (3) .
_________
(1) القائل سيدنا عمر راوي هذا الحديث.
(2) الحميدي هو: عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي، أبو بكر: أحد الأئمة في الحديث، من أهل مكة، رحل منها مع الإمام الشافعي إلى مصر، ولزمه إلى أن مات، فعاد إلى مكة يفتي بها، وهو شيخ البخاري، ورئيس أصحاب ابن عيينة، روى عنه البخاري 75 حديثاً، وذكره مسلم في مقدمة كتابه، توفي بمكة سنة: 219هـ.
(3) قضية إسقاط البخاري جزءاً في هذا الحديث تكلم عليها ابن حجر في الفتح (1/56) فقال: قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ... إلى آخره» .
قال الخطابي: وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروماً قد ذهب شطره، ولست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟
فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى، وقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي تاماً، ونقل ابن التين كلام الخطابي مختصراً.
وفهم من قوله «مخروماً» : أنه قد يربد أن في السند انقطاعاً، فقال من قبل نفسه، لأن البخاري لم يلق الحميدي، وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري: «حدثنا الحميدي» وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب، وجزم كل من ترجمه بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث.
وقال ابن العربي في مشيخته: لا عذر للبخاري في إسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام.
قال: وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا فحدث عنه كما سمع أو حدثه به تاماً فسقط من حفظ البخاري. قال: وهو أمر مستبعد جداً عند من اطلع على أحوال القوم.
وقال الداودي الشارح: الإسقاط فيه من البخاري، فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى.
وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاماً، وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم، وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي، فإن كان الإسقاط من غير البخاري فقد يقال: لم اختار الابتداء بهذا السياق الناقص؟
والجواب: قد تقدمت الإشارة إليه، وأنه اختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة.
وإن كان الإسقاط منه، فالجواب ما قاله أبو محمد على بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري: إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال: لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدراً يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف، فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله، فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته، ونكب عن أحد وجهي التقسيم، مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام. (انتهى ملخصاً) .
وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة، والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أو لا، فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث، حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة، فراراً من التزكية، وأبقى الجملة المترددة المحتملة تفويضاً للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازي له بمقتضى نيته.
ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم، وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط، وإيثار الأغمض على الأجلى، وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره، استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متناً وإسناداً.
وقد وقع في رواية حماد بن زيد، في باب الهجرة تأخر قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» عن قوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها» ، فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة، كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث.
وعلي تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من أثنائه. وهذا هو الراجح، والله أعلم.
وقال الكرماني في غير هذا الموضع: إن كان الحديث عند البخاري تاماً لم خرمه في صدر الكتاب، مع أن الخرم مختلف في جوازه؟ قلت: لا جزم بالخرم، لأن المقامات مختلفة، فلعله -في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب- سمع الحديث تاماً، وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روي.
ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه، ثم إن كان منه فخرمه، ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار.
فإن قلت: فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده، وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله.
قلت: لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس. (انتهى)
وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث، ولا سيما كلام ابن العربي.
وقال في موضع آخر: إن إيراد الحديث تاماً تارة وغير تام تارة إنما هو اختلاف الرواة، فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد، ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له، (انتهى)
وكأنه لم يطلع حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه، فساقه في موضع تاماً وفي موضع مقتصراً على بعضه، وهو كثير جداً في الجامع الصحيح، فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه، لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحاً، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق، ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سنداً ومتناً في موضعين أو أكثر إلا نادراً، فقد عني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعاً.(1/104)
قال العلماء: وحديث «إنما الأعمال بالنيات» حديث صحيح مشهور، ومتفق على صحته، مجمع على عظم موقعه وجلالته، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم من حديث عمر بن الخطاب.
وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث، قال أبو عبد الله (1) : ليس في أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء أجمع ولا أكثر فائدة منه.
فلهذا جعله بعضهم ثلث العلم، وبعضهم ربع العلم، وبعضهم خمس العلم، فمن جعله ثلث العلم إمامنا الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وجماعة، ووجَّه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة، وغيرها يحتاج إليها (2) .
_________
(1) هو إمام أهل الحديث في عصره صاحب المذهب أحمد بن حنبل وستأتي في مجلس خاص عقده المصنف لترجمة أرباب المذاهب.
(2) بين الحافظ قدر هذا الحديث وتكلم على تواتره في الفتح (1/49) فقال: وقال ابن مهدي أيضاً: يدخل في ثلاثين باباً من العلم، وقال الشافعي: يدخل في سبعين باباً.
ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة، وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضاً: ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب، ووجه البيهقي كونه ثلث العلم، بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها، ومن ثم ورد: «نية المؤمن خير من عمله» فإذا نظرت إليها كانت خير الأمرين.
ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك.
وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً، لأنه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيي بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني.
وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما.
ثانيهما: السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: «يبعثون على نياتهم» ، وحديث ابن عباس: «ولكن جهاد ونية» ، وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: «رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته» أخرجه أحمد، وحديث عبادة: «من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.
وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيي بن سعيد: فحكي محمد بن على بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيي مائتان وخمسون نفساً، وسرد أسماءهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلاثمائة، وروى أبو موسي المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى.
قلت: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم.(1/106)
فائدة: روى أبو يعلى الموصلي (1) في مسنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقول الله
عز وجل للحفظة يوم القيامة اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: ربنا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا، فيقول: إنه نواه» (2) .
_________
(1) أبو يعلى هو: أحمد بن علي بن المثنى التميمي الموصلي، أبو يعلى: حافظ، من علماء الحديث، ثقة مشهور، نعته الذهبي بمحدث الموصل، عمر طويلاً حتى ناهز المائة، وتفرد ورحل الناس إليه وتوفي بالموصل سنة: 307هـ.
له كتب منها: المعجم في الحديث، ومسندان كبير وصغير.
(2) لم نقف عليه مرفوعاً ولم نقف عليه في النسخة التي بين أيدينا من مسند أبي يعلى، ووقفنا عليه من قول أبي عمران الجوني، رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/313) .(1/107)
فقد دل هذا على وحدها عبادة مستقلة، وقد أنشد الشيخ الفاضل شهاب الدين ابن حجر العسقلاني لنفسه:
إنما الأعمال بالنيات في ... كل أمر أمكنت فرصته
فانو خيراً وافعل الخير فإن ... لم تطفه أجزأت نيته
قال الدارقطني: أصول أحاديث الإسلام أربعة: حديث «إنما الأعمال بالنيات» ، وحديث «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» ، وحديث «الحلال بين والحرام بين» وحديث «ازهد في الدنيا يحبك الله» ، وقد نظم العلامة أبو الحسن الأشبيلي (1) هذه الأربعة فقال:
عمدة الدين عندنا كلمات ... أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وأزهد ودع ما
... ليس يعنيك وأعملن بنية
قال البرماوي: إنما صدر البخاري كتابة بحديث «إنما الأعمال» لأمور:
أحدها: أنه مناسب للآية المذكورة في الترجمة لأنه أوحي لكل الأنبياء الأمر بالنية قال تعالى ? وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [البينة: 5] والإخلاص: النية.
ثانيهما: أن أول واجبات المكلف القصد إلى النظر الموصل إلى معرفة الله، فالقصد سابق دائماً.
ثالثهما: بيان أن كل أمر ينبغي أن يكون بإخلاص ونية، حتى يكون مقبولاً منتفعاً به، فلذلك لما أخلص البخاري النية، وصفى الطوية، نفع الله بكتابه البرية.
رابعها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدنية خطب بهذا الحديث، لأن مبدأ لكمال ظهوره ونصره، فناسب الابتداء بذكره في ابتداء الوحي إليه، وافتتاح إخلاص العمل لله تعالى، المستحق الجامع للمحامد (2) .
_________
(1) هو: سلام به عبد الله بن سلام، أبو الحسن الأشبيلي الباهلي: أديب أندلسي الأصل، من إشبيلية، صنف: الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق، كانت وفاته بعد سنة: 839هـ.
(2) حديث إنما الأعمال صدر البخاري به كتابه، وأدخله في نفس الوقت في كتاب بدء الوحي وهو ما اعترض به البعض البعض على البخاري.
يقول ابن حجر: وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي، وأنه لا تعلق له به أصلاً، بحيث أن الخطابي في شرحه، والإسماعيلي في مستخرجه، أخرجاه قبل الترجمة، لاعتقادهما أنه: إنما أورده للتبرك به فقط، واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك.
وقال ابن رشيد: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف، وقد تكلفت مناسبته للترجمة، فقال: كل بحسب ما ظهر له. (انتهى)
وقد قيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب، لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة، فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر، صلح أن يكون في خطبة الكتب.
وحكى المهلب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب به حين قدم المدينة مهاجراً، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين، ويعقبه النصر والظفر والفتح. (انتهى)
وهذا وجه حسن، إلا أنني لم أر ما ذكره -من كونه - صلى الله عليه وسلم - خطب به أول ما هاجر- منقولا.
وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية ... الحديث» ، ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة، أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه، ولعل قائله استند إلى ما روي في قصة مهاجر أم قيس.
قال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبوية. انظر: فتح الباري (1/48) .(1/108)
ولصدور هذا الحديث سبب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صنف علماء كبار في أسباب الحديث، كما صنفوا في أسباب النزول للقرآن، والسبب في صدوره منه: أن رجلاً من أهل مكة خطب أمرأة بمكة تسمي أم قيس قبل أن يهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، فلما عزم - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة عزمت المرأة أن تهاجر معه - صلى الله عليه وسلم - وآثرته على أهلها ووطنها، فلما خطبها الرجل أبت أن تتزوج به حتى يهاجر معها، فهاجر لا لوجه الله، بل لقصد أن يتزوج بها، وكان يسمي «مهاجر أم قيس» (1) .
_________
(1) انظر الفتح (1/17) .(1/109)
وأم قيس التي هاجر الرجل لأجلها قالوا: يحتمل أن تكون أخت عكاشة، فإنها أسلمت بمكة، وهاجرت إلى المدينة، واسمها: آمنة، وقيل: جذامة، وكنيتها: أم قيس، وقيل: الذي هاجر الرجل لها كان اسمها: قيلة، وهي غير أخت عكاشة، وكانت تكنى أيضا: أم قيس.
وأما الرجل المهاجر فقال ابن حجر وغيره (1) : لم نقف على اسمه بل كان يسمى مهاجر أم قيس لعله للتستر عليه لم يعينوه.
فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وصل إلى المدينة، وجلس على المنبر فقال مخاطباً بالخطاب العام، فإنه كان - صلى الله عليه وسلم - لا يواجه أحداً بما يكره: «يا أيها الناس إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
واستشكل العلماء كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب على المنبر أول قدومه بأن المنبر إنما اتخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة في سنة سبع، وقيل: ثمان، وأجيب: بأن الاستشكال بأن المراد بالمنبر ما كان يخطب عليه إذ ذاك، وهو غير المعروف الذي اتخذه آخراً.
والكلام في هذا المجلس على شطر الحديث وهو: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» والكلام على شطره الثاني يأتي في المجلس الآتي.
فقوله «إنما الأعمال بالنيات (2)
، وإنما لكل امرئ ما نوى» جملتان أفادت الجملة
_________
(1) أوضح ابن حجر في الفتح (1/48) رواة قصة مهاجر أم قيس فقال: وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد من منصور قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله -هو ابن مسعود- قال: من هاجر يبتغي شيئاً فإنما له ذلك، هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس فكان يقال له: مهاجر أم قيس. ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها، فكنا نسميه مهاجر أم قيس. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك.
وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمناً وترغيباً في الإخلاص، لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره.
(2) بين ابن حجر في الفتح (1/51) الاختلاف الواقع في هذه الجملة فقال: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي: كل عمل بنيته.
وقال الخوبي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده. ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر، وهي متعددة فناسب جمعها، ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له، ووقعت في صحيح ابن حبان بلفظ: «الأعمال بالنيات» بحذف «إنما» وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي، ووصله في مسنده كذلك، وأنكره أبو موسى المديني، كما نقله النووي وأقره، وهو متعقب برواية ابن حبان، بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: «الأعمال بالنية» ، وكذا في العتق من رواية الثوري، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد، ووقع عنده في النكاح بلفظ: «العمل بالنية» بإفراد كل منهما.
كما أوضح ابن حجر معنى الباء في قوله: «بالنيات» فقال: قوله: «بالنيات» الباء للمصاحبة، ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى: أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده، وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله، قال النووي: النية: القصد، وهي: عزيمة القلب. وتعقبه الكرماني: بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد.
وأوضح أيضاً معني الألف واللام في نفس الكلمة فقال: الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير، والتقدير الأعمال بنياتها، وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلاً صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضاً أو نفلاً، ظهراً مثلاً أو عصراً، مقصورة أو غير مقصورة. وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث. والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلاً ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم. انظر فتح الباري (1/53، 54) .(1/110)
الأولى: أن الأعمال لا يترتب عليها الثواب والعقاب إلا بالنية، وأفادت الثانية: اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائت فقط، بل لابد من تعينها ظهراً مثلاً أو عصراً (1) .
_________
(1) هذه الجملة الثانية لم يتعرض لها السفيري بالشرح والحافظ ابن حجر الذي له اليد الطولى في شرح البخاري شرحها شرحاً بديعياً فإنه فرق بين «إنما» في الجملة الأولى «وإنما» في الجملة الثانية فقال: قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة.
وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى، لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك. والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه.
وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئاً يحصل له -يعني إذا عمله بشرائطه- أو حال دون عمله له ما يعذر شرعاً بعدم عمله، وكل ما لم ينوه لم يحصل له، ومراده بقوله: «ما لم ينوه» أي: لا خصوصاً ولا عموماً، أما إذا لم ينو شيئا مخصوصاً لكن كانت هناك نية عامة تشمله، فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء، ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى.
وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلي الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد، فإنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها، لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل، وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة، فإنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح، لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه، بخلاف تحية المسجد والله أعلم.
وقال النووي: أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة، لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهراً مثلاً أو عصراً، ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة.
وقال ابن السمعاني في أماليه: أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربة، كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة.
وقال غيره: أفادت أن النيابة لا تدخل في النية، فإن ذلك هو الأصل، فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره، فإنها على خلاف الأصل.
وقال ابن عبد السلام: الجملة الأولي لبيان ما يعتبر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتب عليها، وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له، كالأذكار والأدعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة.
ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع، أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا، ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثواباً.
ومن ثم قال الغزالي: حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب، لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة، بل هو خير من السكوت مطلقاً، أي المجرد عن التفكر. قال: وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب (انتهى) .
ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: «في بضع أحدكم صدقة» ثم قال في الجواب عن قولهم «أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر؟» قال: «أرأيت لو وضعها في حرام» .
وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام، وليس ذلك مراده. وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة، فإنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد، وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي، لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت، ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية.
ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ محيي الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية: بأن الترك فعل وهو كف النفس، وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك، وتعقب بأن قوله: «الترك فعل» مختلف فيه، ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه.
وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها؟
والذي أورده استدلاله الثاني فلا يطابق المورد، لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها؟
والتفاوت بين المقامين ظاهر، والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه، وإنما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس، فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفاً من الله تعالى، فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه، لا الترك المجرد، والله أعلم.
فائدة: قال الكرماني: إذا قلنا: إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» نوعان من الحصر: قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه، والتقديم المذكور. انظر: فتح الباري (1/55، 56) .(1/111)
واتفق العلماء المحققون على «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» تركيب مفيد للحصر، وأن معناه لا عمل بالنية، ولكن اختلفوا على استفادته من(1/112)
الأعمال، لأنه جمع، واللام فيه للاستغراق، وهو مستلزم للحصر، إذ معناه: كل عمل بالنية فلا عمل إلا بالنية، ولا يصدق كل عمل بالنية، وإنما على هذا القول لا تفيد إلا التأكيد، وهذا مثل: صديقي زيد، فإن الحصر فيه مستفاد من عموم المبتدأ المضاف إلى المعرفة وخصوص خبره، و «إنما الأعمال بالنيات» الحصر فيه من عموم المبتدأ باللام وخصوص خبره.
وقيل: الحصر فيه من «إنما» ، وهو حصر المبتدأ في الخبر، ويعبر عنه البيانيون بقصر الموصوف على الصفة، وربما عبروا عنه بقصر المسند إليه على المسند.
والقول بأن «إنما» تفيد الحصر هو ما ذهب إليه الأكثرين، ونقله البلقيني عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير منهم أن «إنما» تفيد الحصر استعمالها موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى ?إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? [التحريم: 6] وقوله ?أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ المُبِينُ? [المائدة: 92] وقال: ?مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ? [المائدة: 99] .
وهل «إنما» تفيد الحصر بالمنطوق وبالمفهوم قولان، الأكثر على أنها تفيده بالمنطوق قاله ابن السبكي.
وقال شرذمة قليلون: «إنما» تفيد بالمفهوم.
ومعنى الحصر في «إنما» إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه أي: أن العبادة إذا صحبتها النية صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح (1) .
_________
(1) زاد ابن حجر على هذا المبحث المتعلق بإنما مسائل مهمة فقال في الفتح (1/52) : واختلفوا: هل هي بسيطة أو مركبة، فرجحوا الأول، وقد يرجح الثاني، ويجاب عما أورد عليه من قولهم: إن «إن» للإثبات و «ما» للنفي، فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد، بأن يقال مثلاً: أصلهما كان للإثبات والنفي، لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما، بل أفادا شيئا آخر.
أشار إلى ذلك الكرماني قال: وأما قول من قال: إفادة هذا السياق للحصر، من جهة أن فيه تأكيداً بعد تأكيد، وهو المستفاد من «إنما» ومن الجمع. فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس، لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد، ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر.
وقال ابن دقيق العيد: استدل على إفادة «إنما» للحصر بأن ابن عباس استدل على أن الربا لا يكون إلا في النسيئة بحديث: «إنما الربا في النسيئة» ، وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم، ولم يخالفوه في فهمه، فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر.
وتُعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا. وأما من قال: يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله: «لا ربا إلا في النسيئة» لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور، فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر، بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد، وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه.
وأوضح من هذا حديث: «إنما الماء من الماء» فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه، وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث: «إذا التقى الختانان» .
وقال ابن عطية: «إنما» لفظ لا يفارقه المبالغة والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه، فجعل وروده للحصر مجازاً يحتاج إلى قرينة، وكلام غيره على العكس من ذلك، وأن أصل ورودها للحصر، لكن قد يكون في شيء مخصوص، كقوله تعالى: ? إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ? [المائدة: 171] فإنه سيق باعتبار منكري الوحدانية، وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدرة، إلى غير ذلك من الأمثلة، وهي -فيما يقال- السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقاً.(1/113)
فإن قيل: إن ظاهر الحديث يقتضي أن ذات العمل تنتفي عند انتفاء النية، وقد يوجد العمل ولا نية، إذ قد يفعل الإنسان العبادة بلا نية؟
فالجواب: أن ظاهر الحديث متروك، لأن الذوات غير منتفية، بل المراد أحكامها كالصحة، فلابد من تقدير مضاف.
واختلف العلماء في تقديره فالذين اشترطوا النية مطلقاً كالإمام الشافعي وكثير من العلماء قدروا لفظ صحته فقالوا: إنما صحة الأعمال بالنيات ليفيد أن الأعمال لا تصح عند انتفاء النية، ورجح هذا التقدير على غيره من المفردات، لأن الأقرب لنفي حقيقة الشيء نفي صحته، وإن كان الكل مجازاً، والذين لم يشترطوا النية في الوسائل كأبي حنيفة قدروا لفظ «كمال» فقالوا: إنما كمال الأعمال بالنيات، قالوا: نفي الصحة يستدعي نفي الكمال وغيره فيكثر المجاز، بخلاف تقدير كمال فإنه تقليل المجاز، قال البرماوي: وضعف بأن نفي الكمال إنما هو بعد وجود الصحة، فليس في تقدير نفي الصحة إلا مجاز واحد.
فإن قيل: إن قوله «إنما الأعمال بالنيات» يقتضي أن كل عمل يحتاج إلى نيات لا يكفيه نية واحدة، وليس كذلك.
فالجواب: أن هذا من قبل مقابلة الجمع بالجمع، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد أي: إنما كل عمل بنية، وهي قاعدة مفردة في كتب الأصول، يتخرج عليها كثير من المسائل.(1/114)
قال الكرماني (1)
: فإن قلت: النيات جمع قلة كالأعمال، وهي للعشرة فما دونها، لكن المعنى: إن كل عمل إنما هو بنية سواء كان قليلاً أو كثيراً.
قلت: الفرق بالقلة والكثرة إنما هو في النكرات لا في المعارف.
سؤال: فإن قيل: أهل النية أفضل من العمل أو العمل أفضل من النية؟
الجواب: قيل: العمل أفضل لأن نية الحسنة يثاب عليها حسنة واحدة، والفعل الحسن يثاب عليه عشرة، وما يثاب عليه عشرة أفضل مما يثاب عليه واحدة، ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له سيئة» (2) .
واستشكل هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نية المؤمن خير من عمله» (3) فإنه يدل على أن النية أفضل من العمل.
وأجيب عنه بأجوبة منها: أن المراد بهذا الحديث أن النية وحدها خير من عمل بلا نية إذ لو كان المراد خير من عمله مع النية، يلزم أن يكون الشيء خيراً من نفسه مع غيره، والقائل تفضيل العمل على النية مراده: العمل مع نيته أفضل من مجرد النية.
وقيل: إن هذا الحديث ورد على سبب وهو أن شخصاً من المسلمين نوى بناء
_________
(1) هو: محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي شمس الدين، الإمام العلامة في التفسير والحديث والفقه، كانت ولادته في سنة سبع عشرة وسبعمائة في شهر جمادي الآخرة، من مصنفاته: شرح البخاري، وشرح المواقف، وشرح مختصر ابن الحاجب، وأنموذج الكشاف، وحاشية على تفسير البيضاوي إلى سورة يوسف، وكانت وفاته في طريق الحج في شهر محرم سنة ست وثمانين وسبعمائة، ثم نقل نعشه إلى بغداد ودفن في قرب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي.
انظر: طبقات المفسرين (1/298) ، وشذرات الذهب (3/294) ، وطبقات الشافعية (3/180، ترجمة: 707) ، والنجوم الزاهرة (11/303) .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/279، رقم 2519) عن ابن عباس.
ورواه ابن حبان في صحيحه (14/45، رقم 6171) خلال قصة عن خريم بن فاتك الأسدي، وكذا الطبراني في المعجم الكبير (4/206، رقم 4152) .
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (6/185، رقم 5942) ، والديلمي في مسند الفردوس (4/285، رقم 6842) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (3/255) ، والخطيب في تاريخ بغداد (9/237) عن سهل بن سعد الساعدي.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/61) : رواه الطبراني في الكبير، ورجاله موثقون إلا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة.
ونقل المناوي في فيض القدير (6/292) كلام الهيثمي وزاد عليه فقال: وأطلق الحافظ العراقي أنه ضعيف من طريقه.
وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/119، رقم 148) عن النواس بن سمعان الكلابي، وضعفه ابن حجر في فتح الباري (4/219) .(1/115)
قنطرة على ساقية، يتضرر منها المارون فسبقه كافر فبناها، فعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «نية المؤمن خير من عمله» أي: من عمل الكافر، ولا يلزم منه تفضيل نية المؤمن على عمله، وإنما تفضيل عمله على عمل الكافر.
قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: وكون هذا الحديث ورد على هذا السبب باطل لا أصل له.
وذهب بعضهم إلى أن النية أفضل من العمل وقال: لأن العمل يدخله رياء بخلاف النية، ولأن النية فعل القلب، وفعل الأشرف أشرف، ولأن تخليد الله تعالى المؤمن في الجنة ليس بعمله، وإنما هو بنيته، إذ لو كان بعمله لكان خلوده فيها بقدر عمله، إلا أنه جازاه بنيته لأنه كان ناوياً أن يطيع الله أبداً، فلما اخترمته منيته دون نيته جازاه عليها فخلده أبداً، وكذا الكافر لو كان مجازى بعمله لم يستحق التخليد في النار إلا بقدر كفره، فلما إن نوى أن يقيم على كفره أبداً لو بقي فجازاه على نيته، وخلده أبداً.
فإن قلت: هل السيئة كالحسنة في أنه يعاقب عليها بمجرد النية كما يثاب على الحسنة بنيتها.
فالجواب: أن الكرماني قال: المشهور أنه لا يعاقب عليها بمجرد النية، واستدلوا بقوله تعالى ? لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ? [البقرة: 286] فإن اللام للخبر، فجاء بالكسب الذي يحتاج إلى تصرف، بخلاف على فإنها لما كانت للشر جاء فيها بالاكتساب الذي لابد فيه من التصرف والمعالجة.
ثم قال الكرماني: ولكن الحق أن السيئة أيضاً يعاقب عليها، بمجرد النية لكن على النية لا على الفعل، حتى لو عزم أحد على ترك صلاة بعد عشرين سنة يأثم في الحال وإن لم يتحقق ذلك أي: ترك الصلاة، لأن العزم من أحكام الإيمان، ويعاقب على العزم لا على ترك الصلاة.
والفرق بين الحسنة والسيئة: أنه بنية الحسنة يثاب الناوي على الحسنة، وبنية السيئة لا يعاقب عليها بل على نيتها (1) .
_________
(1) وقبل أن نمضي مع المصنف في السبعة أسئلة التي يتكلم عليها بعد هذا الموطن نسأل هل ينوي العبد للأقوال كما ينوي للأعمال كما هو ظاهر من لفظ الحديث؟
يقول ابن حجر: قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها، وأما التروك فهي وإن كانت فعل كف لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من يسمي القول عملاً لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملاً فقال قولاً لا يحنث.
وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف، والقول لا يسمى عملاً في العرف ولهذا يعطف عليه.
والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازاً، وكذا الفعل، وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل.
والمعرفة: وفي تناولها نظر، قال بعضهم: هو محال لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفاً قبل المعرفة.
وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله: إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلاً بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالاً. انظر: فتح الباري (1/54) .(1/116)
وههنا سبع سؤالات متعلقة بالنية نظمها الشيخ ولي الدين العراقي فقال:
سبع سؤالات لذي فهم أنت ... تحكي لكل عالم في النية
حقيقة حكم محل زمن ... وشرطها والقصد والكفية
الأول: يقال ما حقيقة النية؟
ويجاب: إن حقيقة النية لغة: انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مألاً، والشرع: خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتعاء رضا الله تعالى وامتثال حكمه.
والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده.
وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل (1) .
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي، ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل، والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية، إذ التقدير: لا عمل إلا بالنية، فليس المراد نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة.
وقال شيخنا شيخ الإسلام: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله في الحديث: «فمن كانت هجرته ... » إلى آخره. وعلي هذا يقدر المحذوف كوناً مطلقاً من اسم فاعل أو فعل. ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال.(1/117)
الثاني: يقال: ما حكم النية، هل هي ركن أو شرط؟
والجواب: جمهور الفقهاء على أنها ركن لأنها داخل العبادة.
وذهب جماعة على أنها شرط وإلا لافتقرت إلى نية أخرى، كما في أجزاء العبادة، والأولون أجابوا عن ذلك بلزوم التسلسل.
وفصل شيخ الإسلام ابن حجر بأن إيجادها أول العمل ركن، واستصحابها حكماً لأنه لا يأت بمناف لما شرط (1) .
والثالث: يقال ما محل النية؟
ويجاب: بأنها محل القلب في كل موضع، فلا يكفي التلفظ بها باللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط التلفيظ مع القلب، بل القلب كافٍ لكن يستحب أن يتلفظ بما ينوي بقلبه ليساعد اللسان القلب، فلو نوى بقلبه وتلفظ بلسانه واختلف اللسان القلب فالعبرة بما في القلب، فلو أراد الإنسان أن يصلي الظهر فنوى بقلبه الظهر وبلسانه العصر، صحت صلاته إذ العبرة بما في القلب، فلو نوى في هذه الصورة بقلبه العصر وبلسانه الظهر لم تصح عملاً بما القلب، ولو سبق لسان الإنسان إلى اليمين بلا قصد كأن قال: والله اشتريت ولم يكن اشترى لا ينعقد يمينه، ولا يلزمه كفاره يمين، وكذا لو قصد الحلف على شيء فسبق اللسان إلى غيره، هذا في الحلف بالله، أما إذا سبق اللسان إلى الحلف بالطلاق، فإنه يقع ولا يقبل قوله: «سبق لساني إليه» بلا قصد ظاهر لتعلق حق الغير، ومثله العتق فلو سبق لسان السيد إلى العتق كأن قال لعبده: «أنت حر» بلا قصد فإنه يعتق، ولو حلف الإنسان أن لا يسلم على زيد فسلم على قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، فإنه لا يحنث قال للكل سلام عليكم ونوى بقلبه إلا فلاناً، بخلاف ما لو حلف أن لا يدخل على زيد فدخل على
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/53) : واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط؟
والمرجح أن إيجادها ذكراً في أول العمل ركن، واستصحابها حكماً بمعنى: أن لا يأتي بمناف شرعاً شرط، ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقيل: تعتبر، وقيل: تكمل، وقيل: تصح، وقيل: تحصل، وقيل: تستقر.
قال الطيبي: كلام الشارع محمول على بيان الشرع، لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان، فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع، فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي.
وقال البيضاوي: النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقاً لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالاً أو مآلاً، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه.(1/118)
قوم هو فيهم واستثناه بقلبه، وقصد الدخول على غيره فإنه يحنث في الأصح، والفرق أن الدخول لا يدخله الاستثناء، إذا لا ينتظم أن يقال: «دخلت عليكم إلا على فلان» ، ويصح: «سلمت عليكم إلا على فلان» .
وذكر العلماء الشافعية صور لا تكفي فيها النية بالقلب، بل لابد فيه من التلفيظ بها ما لو نوى النذر بقلبه لا ينعقد.
ومنها: ما لو نوى الطلاق بقلبه ولم يتلفظ به لم يقع عليه.
ومنها: ما لو اشترى شاة بنية الأضحية لم تصر أضحية حتى يتلفظ.
ومنها: ما لو قال: أنت طالق ونوى بقلبه إن شاء الله وما تلفظ، وقع عليه الطلاق لا يقبل قوله: «أردت إن شاء الله» .
الرابع: يقال: ما زمن النية؟
ويجاب: بأن العبادات بالتسمية إلى النية على ثلاثة أقسام قسم تجب النية في أوله كالوضوء والغسل، وقسم تجب فيه تقديم النية عليه كالصوم الواجب لابد فيه من إيقاع النية ليلاً قبل الفجر، فلو نوى مع الفجر لم يصح في الأصح، وقسم يجوز فيه تأخير النية عن أوله كالصوم المندوب، فإنه يجوز فيه تأخير النية إلى قبيل الزوال، ويجوز في الزكاة تقديم النية فيها على الدفع للمستحقين، فإذا عزل الإنسان شيئاً من ماله بنية الزكاة ثم دفعه بعد ذلك لأربابه لا يشترط إعادة النية، ولا إعلام المستحق أنه زكاة حال الدفع.
الخامس: يقال: ما شروط النية؟
ويجاب بأن شروط أربعة:
الأول: الإسلام، فلا يصح العبادات من كافر لعدم صحة نيته، نعم لنا صور تصح من كافر فيها النية من الكافر منها: الذمية تحت المسلم إذا حاضت وانقطع دمها فلا يحل الزوج وطئها حتى تغتسل، فإذا اغتسلت ونوت صحت نيتها، وغسلها للضرورة، ومنها: الكفارة تصح من الكافر ولابد فيها من النية، ويصح منه.
الشرط الثاني: التمييز، فلا تصح عبادة صبي لا يميز ولا مجنون إذ لا نية لهما، نعم لنا صور تصح فيها عبادة غير المميز منها: الطفل في الإحرام بالحج إذا حرم عند وليه، ففي الطواف يوضأه وليه وينوي عنه، والمجنونة في الحيض إذ طهرت يغسلها سيدها وينوي عنها.(1/119)
الشرط الثالث: العلم بالمنوي، فلو جهل فرضيه العبادة كفرضيه الوضوء أو الصلاة لا يصح منه فعلها.
الشرط الرابع: أن لا يأتي بمناف للنية فلو ارتد في أثناء الصلاة أو الصوم أو غيرهما بطل ببطلان نيته أو في أثناء الوضوء أو الغسل لم يبطل ما فعل منها، فلو فعل شيئًا في زمن الرده لم يحسب، فإن عاد إلى الإسلام بني على ما تقدم، ولو ارتد بعد الفراغ من الوضوء والغسل لم يبطل أو بعد التيمم بطل لضعفه.
السؤال السادس: يقال: ما العبادة التي يجب تعينها؟
ويجاب: بأن التعين واجب فيما يلتبس من العبادات دون غيره، ودليل وجوب التعين من الحديث قوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» أي: ما عين لأن أصل النية فهم من أول الحديث فيجب تعيين النية في الفرائض لتساوي الظهر والعصر صورة وفعلاً فيميز بينهما إلا التعيين.
ويجب في الرواتب التي مع الفرائض بأن يضيفها إلى الفرائض، ويجب التعيين في العيدين، في عيد الفطر بأن يضيفه إلى الفطر، وفي عيد الأضحى بأن يضيفه إلى الأضحى أوالنحر، وكذلك يجب التعيين في التراويح، والضحى، والوتر، والكسوف، والاستسقاء، وكذلك ركعتا الإحرام، والطواف، بخلاف تحية المسجد وسنة الوضوء، فإذا قال داخل المسجد والمتوضئ: أصلي ركعتين لله تعالى كفى، وإن لم يقل تحية المسجد أو سنة الوضوء.
السؤال السابع: يقال: ما كيفية النية؟
ويجاب: بأن الكيفية تختلف باختلاف العبادات، فالوضوء لنيته كيفية، والغسل لنيته كيفية، والصلاة لنيتها كيفية، وسيأتي بيان ذلك في محله إن شاء الله تعالى.
وقد دل هذا الحديث الجليل على فوائد كثيرة فإنه يدخل في سبعين باباً من الفقه كما قاله الإمام الشافعي، ففيه دليل على أن الطهارة وهي الوضوء والغسل والتيمم لا يصح إلا بالنية، وهو مذهب إمامنا الشافعي، وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء والغسل، واحتج على ذلك بأن كل واحد منهما ليس مقصود النفس، لأن المقصود به النظافة فأشبه إزالة النجاسة، وعموم الحديث يرد عليه.
وفيه دليل على اشتراط النية لسجود التلاوة لأنه عبادة.(1/120)
وفيه دليل أن المتوضئ إذا نوى عند غسل الوجه يحصل له ثواب السنن السابقة وهو الأصح عندنا.
وفيه رد على زفر حيث ذهب إلى أن صيام رمضان لا تشترط فيه النية للصحيح المقيم، لتعين الزمان.
وفيه دليل على أن المطلق إذا أطلق بصريح لفظ الطلاق ونوى عدداً وقع ما نواه، وهو مذهب الشافعي ومالك وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقع إلا واحدة.
وفيه دليل وحجة لمالك في إسقاط الحيل كمن باع ماله قبل الحول فراراً من الزكاة، فإنها لا تسقط عنه عند مالك لهذا الحديث.
وتحرير القول في هذه المسألة أن الإنسان إذا ملك نصاباً ثم احتال في إسقاط الزكاة عنه بحيلة، بأن باع المال الزكوي أو ملكه لأحد من أولاده مثلاً قبل أن يحول عليه الحول ثم استرده فهل هذا الإسقاط مكروه أو حرام أو مباح؟
في المسألة خلاف عندنا قال الرافعي والنووي: إنه مكروه كراهة تنزية وليس بحرام، وتسقط الزكاة عنه.
قال ابن الصلاح: إن المحتال في إسقاط الزكاة يأثم بقصده لذلك لا بفعله وتسقط عنه.
وقال حجة الإسلام الغزالي (1)
: لا يبرأ ذمته في الباطن ولكن تبرأ في الظاهر قال بعض المتأخرين: وهو المختار.
وجزم بالتحريم جماعة، وقد نقل النسفي (2) في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام لله تعالى بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق.
وتدخل النية في الوطء، فإذا وطئ زوجتة أو أمته، على ظن منه أنها أجنبية يزني بها عصي ولا يعاقب عليه في الآخرة عقاب المجترئ على معاصي الله تعالى المخالف لأمره، وكذا لو أقدم على شراب على ظن منه أنه خمر، أو أقدم على استعمال ملكه على ظن أنه لأجنبي فإنه يأثم اعتباراً بنيته، ويحرم عليه حكم الفاسق كما قاله ابن عبد السلام لجرأته على الله، بخلاف ما لو وطئ امرأة أجنبية على ظن أنها زوجته أو أمتة فلا أثم عليه، ولو شرب خمراً على ظن أنه شراب حلال مثلاً فإنه لا يأثم عملاً بنيته.
فائدة: سئل بعض العلماء عمن يجامع زوجته ويفكر في حالة الجماع في غيرها
_________
(1) الغزالي هو: محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بالغزالي، ولد بطوس سنة (450هـ) وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكان له في طوس، وهو صوفي، متكلم، أصولي، فقيه شافعي، درس منذ صغره العلم وبرع في الجدل والكلام والفلسفة والمنطق وذلك عندما قدم نيسابور والتقى بها بإمام الحرمين الجويني، الذي اعتني به لما ظهر نبوغه ووصفه بأنه «البحر المغدق» ، ولازم إمام الحرمين إلى وفاته سنة (478هـ) ، ثم رحل إلى بغداد واشتهر بها ودرس بها الفقه والأصول، وظهر له أعداء في بغداد وهم الباطنية فكانوا يترصدونه لما أبطل مذهبهم وأبطل أدلتهم، ومكث في بغداد سنوات ثم خرج منها إلى مكة ثم إلى المدينة فدمشق فالأسكندرية ثم عاد إلى بغداد ثم رجع إلى نيسابور بعد مكوثه في هذه الأسفار مدة عشر سنوات وكان ذلك سنة (498هـ) ، وكان رجوعه بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك الذي كان وزيراً في نيسابور لسنجر حاكم خراسان، بعد أن ألح عليه في الرجوع للتدريس بالنظامية ولبي الغزالي طلبه ورجع. وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة (505هـ) ، وله من التصانيف الكثير منها: إحياء علوم الدين، الأربعين في أصول الدين، الاقتصاد في الاعتقاد، بداية الهداية، تهافت الفلاسفة.
انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/102وما بعدها) ، البداية والنهاية (12/173 – 174) .
(2) النسفي هو: أبو البركات، حافظ الدين، عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي، فقيه، حنفي، مفسر، من أهل إيذج من كور أصبهان، نسب إلى نسف من بلاد السند من تصانيفه: مدارك التنزيل، وهو تفسيره المشهور بتفسير النسفي، وله كنز الدقائق، وله الوافي في الفروع على مذهب الحنفية، وشرحه في الكافي الذي نقل عنه المصنف. وكانت وفاته بإذج سنة (701هـ) .
انظر: الدرر الكامنة (2/247) ، ووفيات الأعيان (1/392) ، ومفتاح السعادة (2/19) ، وكشف الظنون (2/1997) .(1/121)
حتى يتخيل أنه يطئ الأجنبية، هل يأثم بذلك فاعله أويستحب له أن يفعل ذلك لحديث: «إذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه» (1) .
فأجاب: بأنه لا يحرم عليه ذلك، ولا يؤاخذ به لقوله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها» (2) ولكن يكره ذلك، والله أعلم قاله الدميري (3) .
وفيه دليل على أن ما ليس بعمل تشترط فيه النية كالتروك مثل ترك الزنا والخمر وباقي المعاصي، نعم إذا أراد تحصيل الثواب ولابد له من القصد، فمن ترك الزنا مثلاً بعد أن خطر على باله خوفاً من الله يثاب على هذا الترك، أما من لم يقصد ترك المعصية لا يثاب على تركها فمن لم تخطر المعصية بباله أصلاً ليس كمن خطر في نفسه عنها خوفاً من الله.
وفيه دليل على أن النجاسة لا تجب إزالتها وهو الأصح لأنه من باب التروك (انتهى) .
وفيه دليل على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكارم الأخلاق حيث لم يصرح بالإنكار على من هاجر لأجل المرأة، بل أورده مورد الإيهام كقوله في حديث آخر: «ما بال أقوام يفعلون كذا» (4) وهذا من مكارم أخلاقه - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/1021، رقم 1403) ، وأحمد في مسنده (3/348، رقم 14786) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/38، رقم 9073) من حديث جابر.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2020، رقم 4968) ، ومسلم في صحيحه (1/116، رقم 127) ، والترمذي في سننه (3/489، رقم 1183) ، وأبو داود في سننه (2/264، رقم 2209) ، والنسائي في سننه (6/156، رقم 3433) ، وابن ماجه في سننه (1/658، رقم 2040) ، وأحمد في مسنده (2/425، رقم 9494) ، وأبو يعلى مسنده (11/278، رقم 6390) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (4/85، رقم 18062) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/82، رقم 6) ، والطيالسي في مسنده (ص: 322، رقم 2459) ، والحارث في مسنده (1/163، رقم 19) ، وابن منده في الإيمان (ص: 475، رقم 349) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (6/282) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/167، رقم 1114) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/350، رقم 14830) جميعاً عن أبي هريرة.
(3) الدميري هو: بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، أبو البقاء، تاج الدين السلمي الدميري القاهري، فقيه انتهت إليه رياسة المالكية في زمنه، مصري نسبته إلى ميرة قرية قرب دمياط ومولده بها سنة: 734هـ،. أفتى ودرس وناب في القضاء بمصر، واستقل به سنة 791 – 792، وتوجه مع القضاة إلى الشام لحرب الظاهر وعاد الظاهر، فعزله بعد أن طعن في صدره وشدقه، وكان محمود السيرة لين الجانب، كثير البر، انتفع به الطلبة ولاسيما بعد صرفه عن القضاء.
له كتب منها: الشامل على نسق مختصر خليل في الفقه، وقام بشرحه بعد ذلك، والمناسك في مجلدة، و (شرح) في ثلاثة مجلدات، وشرح مختصر خليل في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، وشرح ألفية ابن مالك، والدرة الثمينة منظومة في نحو 3000 بيت، وشرحها، اطلع السخاوي على بعض هذه الكتب بخطه، وكانت وفاته سنة: 805هـ.
(4) هذا ما كان يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في بذل النصيحة في الملأ بدون تصريح بالذين يقومون بالفعل المخالف الذي على أثره أتت النصيحة منه - صلى الله عليه وسلم -، وهو تعليم سديد ومنهج رشيد وأسوة حسنة، وكتب السنة فيها الأمثلة الكثيرة لذلك نحو ما رواه البخاري في صحيحه (2/981، رقم 2584) في قصة عن عائشة رضي الله عنها وفيه أنها قالت: ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له وإن اشترط مائة شرط» .
ونحو ما رواه مسلم في صحيحه (2/1020، رقم 1401) في قصة النفر الذين سألوا أزواج عن عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقصة رواها سيدنا أنس بن مالك وفيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمع كلام النفر، حمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» .(1/122)
وفيه دليل على استجاب التخلق بمكارم الأخلاق، وما أحسن قول الشيخ برهان الدين القيراطي حيث قال:
بمكارم الأخلاق كن متخلقا ... ليفوح مسك ثنائك العطر الشذي
وانفع صديقك إن صدقت صدقه ... وادفع عدوك بالتي فإذا الذي
وفيه دليل على أنه يستحب الستر على من وقع منه منكر.
وفيه دليل على أنه لا بأس للخطيب أن يورد أحاديث في أثناء الخطبة.
وفيه دليل على أن الإمام الأعظم يستحب له أن يخطب عند الأمور المهمة وتعليم الحكم المهمة، لأنه أبلغ في الإشاعة والإشتهار.
واستدل الحديث بعضهم على وجوب النية على غاسل الميت، وهو وجه عندنا، والأصح في النية لا تجب على الغاسل، بدليل أنه لو غسله كافر عندنا صح، وهو ليس من أهل النية.
وفيه دليل وحث على الإخلاص في النية، والإخلاص من أعمال القلب والفرق بينه وبين النية أن النية تتعلق بفعل العبادة، والإخلاص يتعلق بإضافه العبادة إلى الله تعالى فالنية لابد منها في صحة العمل، وأما الإخلاص فليس يتعين، فمن صلى ونوى ولم يضف الصلاة إلى الله تعالى صحت صلاته، لأن العبادة لا تكون إلا لله سواء أضافها إليه أم لا، نعم الإخلاص مع النية أكمل من النية وحدها.
وأما الرياء فقد قال العراقي في «الفروق» : إنه حرام محصل للإثم ومبطل لثواب العبادة.
الرياء على قسمين: أحدهما: أن يعمل الذي أمره الله ويقصد به وجه الله تعالى وأن تعظمه الناس أو بعضهم.
ثانيهما: أن يعمل الذي أمره الله ولا يريد وجه الله تعالى بالنية بل الناس فقط،(1/123)
ويسمى القسم الأول: رياء الشرك لأنه للخلق وللحق، والثاني: رياء الإخلاص لأنه لا شريك فيه بل هو خالص للخلق، ومقصود المرائي يعمله ثلاثة أشياء: تعظيم الخلق له، وجلب المنافع الدنيوية له، ودفع المضار الدنيوية عنه.
وإنما كان حراماً لأنه شرك وتشريك مع الله في طاعته، وقد صح في صحيح مسلم وغيره: «إن الله تعالى يقول: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته له، أو تركته لشريكي» (1)
فهذا الحديث ظاهر في عدم الاعتداد بذلك العمل عند الله تعالى.
وقد نقل أنه يقال يوم القيامة للمرائي بعمله: خذ ثواب عملك ممن كنت تعمل لأجلهم وهو حديث رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يقال لمن أشرك في عمله: خذ أجرك ممن عملت له» (2) .
وحمل حجة الإسلام الغزالي هذه الأخبار ونحوها على من يرد بعمله إلا الدنيا وهو القسم الثاني من الرياء، أما الأول فله فيه تفصيل حيث قال: والذي ينقدح لنا فيه -والعلم عند الله- أن ننظر إلى قدر قوة الباعث، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي تقاوما وتساقطا، فصار العمل لا له ولا عليه، وإن كان الباعث للرياء أغلب وأقوى فهو ليس بنافع بل هو مضر ومقتض للعقاب، نعم العقاب الذي فيه أخف من عقاب العمل الذي تجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب، وإن كان قصد التقرب أغلب بالإضافة إلى الباعث الآخر فله ثواب بقدر ما فضل من قوة الباعث الديني، وهذا كقوله تعالى ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة: 8] ، وكقوله ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ? [النساء: 40] فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير بل إن كان غالباً على قصد الرياء
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2289، رقم 2985) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (2/1405، رقم 4202) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/67، رقم 938) ، وأبو يعلى في مسنده (11/430، رقم 6552) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/324، رقم 6529) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/329، رقم 6815) ، والأصبهاني في طبقات المحدثين بأصبهان (4/275) .
(2) لم نقف عليه من رواية أبي هريرة وإنما وجدناه من رواية أنس بن مالك مرفوعاً عند هناد في الزهد (2/435، رقم 854) بلفظ: «يؤتى بابن آدم يوم القيامة إلى الميزان، فيقول الله: يا ابن آدم أنا خير شريك ما عملت لي فأنا أجزيك به، وما عملت لغيري فاطلب ثوابه ممن عملت له» .(1/124)
حبط من القدر الذي يساويه وبقيت زيادته، وإن كان مغلوباً أسقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد، نعم لنا تشريك في العبادة وتحصيل المال من الغنيمة فهذا لا يضره ولا يحرم عليه بالإجماع، لأن الله تعالى جعل له في هذه العبادة، نعم لا يساوي ثوابه من لا يلتفت قلبه إلى الغنيمة أصلاً، بخلاف ما لو جاهد ليقول الناس: إنه شجاع، وليعظمه الإمام، فيكثر عطاؤه من بيت المال، فإنه يحرم حنيئذ ويكون رياء، أو نظير المجاهد من حج وشرك في حجة بأن قصد التجارة فإنه لا يقدح في صحة الحج، ولا يوجد إثماً ولا معصية، ولكن أكمل منه كذلك لو صام ليصح جسده، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض، فلا يكون قادحاً في صومه، وكذلك وجود الوضوء ليحصل له التبرد فلا يكون قادحاً وضوءه، لأن جميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي تشريك أمور من المصالح، وما ليس للعظيم لا يقدح في العبادات وإن كان تشريك، نعم إن هذه المقاصد والأغراض الخالطة للعبادة قد
تنقص الأجر، وإن العبادة إذا تجردت عنها عظم الأجر والثواب.
ونختم المجلس بأخبار تطبيقية متعلقة بالإخلاص، وترك الرياء في العمل.
قال الفضيل (1) - رضي الله عنه -: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
وقال أبو سليمان الداراني - رضي الله عنه -: طوبي لمن صحت له خطوة واحدة، يريد بها وجه الله.
وقال ذو النون المصري (2) - رضي الله عنه -: من علامات الإخلاص استواء المدح والذم.
ونقل عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت أصليها في الصف الأول لأني تأخرت يوماً فصليت في الصف الثاني، فخجلت من الناس حيث رأوني في الصف الثاني على خلاف عادتي، فعرفت أن نظر الناس لي في الصف الأول كان يعجبني.
وذكر أن أعرابياً دخل المسجد وصلى صلاة خفيفة، فقام إليه علي بن أبي طالب بالدرة وقال: أعد الصلاة فأعادها، فقال: هذه خير أم الأولى؟ قال: الأولى لأني صليتها لله تعالى والثانية صليتها خوفاً من الدرة.
وذكر شرف الدين بن يونس (3) في مختصر الإحياء في باب الإخلاص: إن من أخلص لله تعالى في العمل ظهرت بركته عليه وعلى عقبه إلى يوم القيامة.
_________
(1) هو: الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر التميمي اليربوعي أبو علي الزاهد الخراساني، محدث ثقة، ومن أئمة التصوف توفى عام 187هـ، قال ابن سعد: ولد بخراسان بكورة «أبيورد» وقدم الكوفة وهو كبير فسمع الحديث من منصور وغيره، ثم تعبد وانتقل إلى مكة فنزلها إلى أن مات بها في أول سنة سبع وثمانين ومائة، وكان ثقة نبيلاً فاضلاً عابداً ورعاً كثير الحديث، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: أقام بالبيت الحرام مجاوراً مع الجهد الشديد والورع الدائم والخوف الوافر والبكاء الكثير والتخلي بالوحدة ورفض الناس وما عليه أسباب الدنيا إلى أن مات بها.
(2) هو: أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، ذو النون، وهناك خلاف بين العلماء في اسمه، كما أنه يوجد خلاف في سنة وفاته فقد قيل: إنه توفي في عام 425 هـ، وهو صوفي ومن أئمتهم الذين على أقوالهم بني التصوف، وكتب الصوفية مليئة بهذه الأقوال.
انظر في ترجمته: النجوم الزاهرة (2/134- 238) ، طبقات الصوفية (ص: 15) ، حلية الأولياء لأبي نعيم (9/331) ، دول الإسلام للذهبي (1/148) ، البداية والنهاية لابن كثير (5/347) ، صفة الصفوة (2/879) .
(3) هو: أحمد بن موسى بن يونس، أبو الفضل، شرف الدين الأربلي، ويقال له: ابن يونس، مولده سنة: 575هـ بالموصل، فقيه شافعي، من بيت رياسة وعلم. أصله من إربل، وولي التدريس بمدرسة سلطانها الملك المعظم، واختصر الإحياء للغزالي، وشرح التنبيه في الفقه وسماه غنية الفقيه، وقاته كانت بالموصل سنة: 622هـ.(1/125)
كما قيل لما هبط آدم - عليه السلام - إلى الإرض جاءته وحوش الفلاة تسلم عليه وتزوره، فكان يدعو الكل حبس بما يليق به، فجاءته طائفة من الظباء فدعا لهن ومسح على ظهورهن فظهر فيهن نوافح المسك، فلما رأى بواقيها ذلك قالوا: من أين هذا لكن؟ فقلن: زرنا صفي الله آدم فدعا لنا، ومسح على ظهورنا، فمضى البواقي إليه فدعا لهن ومسح على ظهورهن فلم يظهر بهن من ذلك شيء، فقال الذين ظهر فيهم ذلك: نحن كان عملنا لله من غير شوب.
فظهر ذلك في نسلهم وعقبهم إلى يوم القيامة ببركة الإخلاص.
فائدة: غزال المسك يحل أكله من الغزلان هو أسود وهو كالغزال إلا أن له نابين أبيضين خفيفين خارجين من فيه كنابي الخنزير، كل واحد منها دون الفتر.
وأصل المسك: دم يجتمع في سرتها في وقت معلوم، والمسك ثمر في كل سنة للشجرة التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والمسك أطيب الطيب وأفضله، وهو طاهر وإن كان أصله دماً إذا أخذ من الظبية، وهي حية يجوز استعمالها في البدن والثوب ويجوز بيعه، وهو مستثنى من قول الفقهاء: «ما أبين من حي فهو ميت» .
ومن خواص المسك أنه يقوي البصر، وينشف الرطوبات، ويقوي القلب والدماغ، ويجلو بياض العين، وينفع من الخفقان، وهو ترياق السموم، ويقوي الأعضاء الباطنة والظاهرة شماً وشرباً، ومنافعه كثيرة فلهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعمله كثيراً.
وحكى الإمام حجة الإسلام الغزالي: أن بعض العباد بلغه أن قوماً يعبدون شجرة من دون الله، فخرج العابد بنية قصد بها وجه الله، فاعترض له إبليس في صورة رجل وقال: إن قطعتها عبدوا غيرها فارجع إلى عبادتك، فقال: لابد من قطعها، فقاتله إبليس فصرع العابد إبليس وانتصر عليه، فقال له إبليس: أنت فقير ارجع إلى عبادتك، واجعل لك دينارين تحت رأسك كل ليلة، وقال للعابد: لو شاء الله لأرسل رسولاً يقطعها، وما عليك إذ لم تعبدها أنت، فمال العابد إلى قوله ورجع، فلما بات تلك الليلة وأصبح وجد دينارين، ثم في اليوم التالي وجدهما ثم في اليوم الثالث لم يجد شيئًا فخرج لقطعها لا لوجه الله، فعارضه إبليس في صفة رجل فقاتله فانتصر إبليس على العابد فقال العابد: كيف قدرت عليك في المرة الأولى بخلاف الثانية قال له إبليس: لأنك في المرة الأولى كان غضبك لله لا لأجل الدنيا بخلاف الثانية، فعرف من هذا أن الإنسان إذا أخلص في عمله قهر عدوه الشيطان، وإن لم يخلص كان مقهوراً مغلوباً مع الشيطان.(1/126)
قال العلماء: بحسن نية الملك أو نائبه للناس يدخل الله الخيرات والبركات على الناس، وبشؤم نيته لهم تقل بركاتهم وتغلو أسعارهم.
ويدل على ذلك ما نقله الغزالي في نصيحة الملوك عن وهب بن منبه أنه قال: إذا همَّ الوالي بالجور وعمل به أدخل الله تعالى النقص في أهل مملكته والزرع والضرع والثمر، وإذا همَّ بالعدل أدخل الله البركة في أهل مملكته، فقد كانت الحنطة في العصر الأول أكبر جرماً من هذا اليوم، وأكثر بركة، وأرخص سعراً.
وروي الإمام أحمد بإسناده أنه وجد في خزائن بعض الملوك من بني أمية صرة فيها حنطة أمثال نوى التمر مكتوب عليها: «هذا كان ينبت العدل» .
وحكي عن ابن عباس أنه قال: كان ملك من الملوك يخرج مستخفياً ليعلم أخبار مملكته، فنزل على رجل عنده بقرة تحلب حلاب ثلاثين بقرة، فلما أصبح حدث نفسه بأخذها فلم تحلب إلا الشيء اليسير الذي تدره له فقال له الملك: ما بال حلابها نقص عن عادتها، أرعت في غير موضعها الذي كانت فيه؟ فقال: لا ولكن ملكنا أظن أنه همَّ بالجور فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو همَّ بالظلم ذهبت البركة، فعاهد الملك الله تعالى في نفسه أن لا يأخذها ولا يظلم، فراحت بين الظعن فحلبت مثل عادتها الأولى، فتاب الملك إلى الله سبحانه وتعالى.
* * *(1/127)
المجلس الخامس
في بيان الهجرة والكلام على الشطر الثاني من حديث «إنما الأعمال بالنيات»
قوله: «فمن كانت هجرته» .
قال العلماء: الهجرة فعلة من الهجر ضد الوصل (1) ، ثم غلب ذلك على الخروج من أرض إلى أرض وترك الأولى للثانية، وتقسيم الهجرة إلى ثمانية أقسام كما أفاده العراقي:
الأولى: الهجرة الأولى إلى الحبشة عندما آذى الكفار الصحابة خرج من الصحابة سراً أحد عشر نسوة منهم: عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الثانية: الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثالثة: هجرة القبائل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتعلم الشرائع، ثم يرجعون إلى الأوطان، ويعلمون قومهم.
الرابعة: هجرة من أسلم من مكة ليأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يرجع إلى مكة.
الخامسة: هجرة ما نهي الله عنه.
السادسة: الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة مرتين، فإنهم هاجروا إلى أرض الحبشة مرتين كما هو معروف في السير، وجميع من هاجر إلى أرض الحبشة إثنان وثمانون رجلاً سوى النساء والصبيان.
السابعة: هجرة من كان مقيماً ببلاد الكفر ولا يقدر على إظهار الدين فإنه يجب عليه أن يهاجر إلى بلاد الإسلام كما صرح به العلماء.
الثامنة: الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/58) : الهجرة: الترك، والهجرة إلى الشيء: الانتقال إليه عن غيره.
وفي الشرع: ترك ما نهى الله عنه.
وقد وقعت في الإسلام على وجهين: الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً.(1/128)
ومعنى الحديث وحكمه يتناول جميع الأقسام لأن السبب الذي قدمنا ذكره يدل على أن المراد هنا بالهجرة الهجرة من مكة إلى المدينة.
فإن قيل: هل الهجرة باقية إلى يومنا هذا أو انقطعت بفتح مكة؟
فالجواب: أن الأحاديث تعارضت في ذلك ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (1) فهذا يدل على انقطاعها.
وقد روى أبو داود والنسائي مرفوعاً «لا تنقطع الهجرة حتى تقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» (2) فهذا يدل على عدم انقطاعها، وجمع بينهما بأن الهجرة كانت إلى الإسلام فرضاً، ثم صارت بعد فتح مكة مندوباً إليها غير مفروضة، فالمنقطعة هي الفرض والباقية هي الندب، وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما هو ثابت في بقية الروايات.
قوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» (3) يحتمل أن تكون «من» فيه شرطية فالفاء في «هجرته» داخلة في جواب الشرط، ويحتمل أن تكون «من» موصولة، وهي مبتدأ فالفاء في «هجرته» داخلة على الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وعلى الاحتمالين لابد من التغاير بين المبتدأ والخبر والشرط والجزاء، والظاهر هما هنا الاتحاد فلابد من تأويل التغاير بينهما، فقيل في تقدير
_________
(1) متفق عليه رواه البخاري في صحيحه (3/1025، رقم 2631) ، ومسلم في صحيحه (2/986، رقم 1353) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (3/3، رقم 2479) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/217، رقم 8711) ، وأبو يعلى في مسنده (13/359، رقم 7371) ، والطبراني في المعجم الكبير (19/381، رقم 895) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/156، رقم 7802) جميعاُ عن معاوية.
ورواه الإمام أحمد في مسنده (1/192، رقم 1671) عن ابن السعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل، فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ... فذكروا نحوه، وكذا رواه أيضاُ: الطبراني في المعجم الأوسط (1/23، رقم 59) ، ورواه أيضاُ في الصغير كما في مجمع الزوائد للهيثمي (5/251) قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات.
(3) سبق القول أن هذا الجزء لم يذكره البخاري في حديثه هنا، وقد أسهب ابن حجر في توجيه إسقاط البخاري لهذا الجزء ورد على المعارضين، وذلك قد مر بك في المجلس السابق، ولكن المصنف الإمام السفيري جاء به هنا من باب الإفادة، ولأنه يعلم أن الإمام البخاري أخرجه تاماً في مواضع أخرى، فتنبه هداك الله.(1/129)
التغاير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصداً، فهجرته إلى الله ورسوله حكماً وشرعاً، ويكون المقدر منصوباً على التمييز كقوله تعالى ?إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ? [الأنفال: 65] أي: رجالاً أو نحوه لا منصوباً على الحال لأن الحال المبينة لا تحذف، ولهذا منع بعض العلماء تعلق الجار في ?بِسْمِ اللَّهِ? بحال محذوفة أي: ابتدئ متبركاً، وقيل: تأويل التغاير أن خبر الثاني محذوف والتقدير: فهجرته إلى الله رسوله (1) .
وقيل: المراد ثواب من هاجر إلى الله ورسوله، فأقيم السبب مقام المسبب.
وقيل: المراد في الثاني ما عهد في الذهن، وفي الأول المشخص في الخارج مثل أنا أبو النجم، وشعري شعري أي: شعري الذي سمعتموه هو شعري المستقل المعهود في الأذهان فلا حاجة لتقدير محذوف.
فإن قيل: لأي شيء عدل عن الضمير إلى الظاهر حيث قال: «فهجرته إلى الله ورسوله» ولم يقل: «إليهما» مع إنه هو أخص.
فالجواب: أنه فعل ذلك إما لأن في الظاهر استلذاذاً بذكره صريحاً، ولذلك لم
_________
(1) قد ألمح الحافظ ابن حجر في ذلك ملمحاً طيباً، وهو أن هذا الحديث فيه إتحاد الشرط مع جوابه اتحاداً بليغاً وكيف لا وقد صادر عن خير من نطق بالضاد ومن أجرى الله على لسانه الفصاحة والبلاغة - صلى الله عليه وسلم -.
يقول ابن حجر: فإن قيل: الأصل تغاير الشرط والجزاء، فلا يقال مثلاً: من أطاع أطاع وإنما يقال مثلاً من أطاع نجا، وقد وقعا في هذا الحديث متحدين، فالجواب: أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر، وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق، ومن أمثلته قوله تعالى: ?وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً? [الفرقان: 71] ، وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس، كقولهم: أنت أنت أي: الصديق الخالص، وقولهم: هم هم أي: الذين لا يقدر قدرهم، أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب.
وقال ابن مالك: قد يقصد بالخبر الفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر:
خليلي خليلي دون ريب وربما
ألان امرؤ قولا فظن خليلا
وقد يفعل مثل هدا بجواب الشرط كقولك: من قصدني فقد قصدني، أي فقد قصد من عرف بإنجاح قاصده.
وقال غيره: إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير. انظر فتح الباري (1/59) .(1/130)
يأت مثله في الجملة بعده إعراضاً عن تكرار لفظ الدنيا، وإما لئلا يجمع بين اسم الله ورسوله في ضمير واحد، بل يفردان، ولهذا جمع الخطيب بينهم في ضمير واحد حيث قال: «ومن يعصهما» قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس الخطيب قل ومن يعص الله ورسوله» (1) كما سيأتي في محله.
وقوله: «فمن كانت هجرته إلى دنيا» قال العلماء: «دنيا» بضم الدال على المشهور، وحكى ابن قتيبة كسرها على وزن «فُعلا» من الدنو، وهو القرب سميت بذلك لدنوها إلى الزوال وجمعها دنى ككبرى، وهي مقصورة ليس فيها تنوين بلا خلاف.
واختلف علماء الكلام في حقيقة الدنيا على قولين: أحدهما: أنها على الأرض الجواهر والأعراض الموجودة، قبل الدار الآخرة.
قال ابن العطار (2) : وهو الأظهر، وتطلق الدنيا على كل جزء منها، فيقال للمال دنيا، وللقماش دنيا، وللأملاك دنيا، وأراد - صلى الله عليه وسلم - بدنيا متاعاً من متاعها (3) .
وقوله: «أو امرأة» من عطف الخاص على العام، لدخول المرأة في مسمي الدنيا بدليل حديث: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة» (4) .
واعترض النووي على من قال: إنه من عطف الخاص على العام، بأن لفظ «دينا» نكرة وهي لا تعم في الإثبات، فلا يلزم دخول المرأة فيها.
وأجيب عن الاعتراض: بأنها في سياق الشرط فتعم.
_________
(1) رواه مسلم في صحيحه (2/594، رقم 870) ، وأحمد في مسنده (4/256، رقم 18273) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/74، رقم 29574) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/86، رقم 406) عن عدي بن حاتم.
(2) هو: علاء الدين علي بن محمود بن علي بن محمود بن علي بن محمود، ثلاثة على نسق، ابن العطار الحراني، سبط الشيخ زين الدين الباريني، ولد بعد الستين وسبعمائة، وتفقه على المذهب الشافعي علي يد الشيخ أبي البركات الأنصاري وغيره، وبرع في النحو والفرائض، وتصدى لنفع الناس، وتصدر بأماكن وكانت دروسه فائقة، كان جيد الحفظ، ذكر القاضي علاء الدين في تاريخ حلب أنه حفظ ربع ألفية العراقي في يوم واحد، ولو عمر لفاق الأقران لكن مات عن نيف وثلاثين سنة في شهر رمضان.
انظر: شذرات الذهب (3/341) ، وطبقات المحدثين (1/235، ترجمة: 2401) .
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/60) : وقال التيمي في شرحه: قوله: «دنيا» هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف، لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيث.
وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف، وأما الوصفية فقال ابن مالك: استعمال دنيا منكراً فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل، فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى، قال: إلا أنها خلعت عنها الوصفية أو أجريت مجرى ما لم يكن وصفاً قط.
(4) رواه مسلم في صحيحه (2/1090، رقم 1467) ، والنسائي في سننه (6/69، رقم 3232) ، وابن ماجه في سننه (1/596، رقم 1855) ، وأحمد في مسنده (2/168، رقم 6567) ، وابن حبان في صحيحه (9/340، رقم 4031) عن عبد الله بن عمرو.(1/131)
لكن اعترض على من يقول: بأنه من عطف الخاص على العام أيضاً من جهة أن عطف الخاص على العام من الأحكام المختصة بالواو بين سائر حروف العطف، كما نص عليه ابن مالك (1) في شرح العمدة، وابن هشام (2)
في المغني (3) ، فالصواب أن «أو» على بابها للتقسيم، وجعلت «المرأة» قسماً مقابلاً للدنيا تعظيماً لأمرها لأنها أشد فتنة، وعلى تقدير: أنها عطف الخاص على العام فالنكتة في التصريح بها مع دخولنا في الدنيا أمران: أحدهما التنبيه على زيادة التحذير، لأن الافتتان بها أشد. الثاني: أنها سبب الحديث، فحسن التصريح بها.
وقال بعضهم: ذكر الدنيا تحذير للناس منها، وإفرد المرأة زيادة في التحذير، فقد ورد «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» (4) .
وفي وصية لقمان لابنه: «اتق المرأة فإنها تشيبك قبل الشيب، واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير، وكن من خيارهن على حذر» .
وذكر الدنيا في الحديث لأنها حقيرة لا يتبعها إلا الحقير فقد روى الترمذي وقال حسن صحيح عن سهل بن سعد (5) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً شربة ماء» (6) .
وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
إذ كان شيء لا يساوي جميعه ... جناح بعوض عند من أنت عبده
واشغل جزء منه كلك ما الذي ... يكون على ذا الحال قدرك عنده
معنى «هوان الدنيا على الله تعالى» : أن سبحانه لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقاً موصلاً إلى ما هو المقصود لنفسه، ولم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار بلاء، وإنه ملكها في الغالب للجهلة والكفرة، وحماها الأنبياء والأولياء والأبدال، وحسبك بها هو أنه سبحانه صغرها وحقرها وأبغضها أو أبغض أهلها
_________
(1) ابن مالك هو: العلامة حجة العرب، جمال الدين، أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجَيَّاني بفتح الجيم وتشديد التحتية ونون نسبة إلى جيان بلد بالأندلس، نزيل دمشق ولد سنة (600 أو 601هـ) كان شافعي المذهب، وقال الذهبي: صرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وحاز قصب السبق، وكان ينظم الشعر مع ما هو عليه من الدين المتين، وصدق اللهجة، وكثرة النوافل وحسن السمت، ورقة القلب، وكمال العقل، والوقار، والتؤدة، ومن تصانيفه: الألفية في النحو تسمي الخلاصة، وكتاب تسهيل الفوائد في النحو، وكتاب الضرب في معرفة لسان العرب، وكتاب الكافية الشافية وغيرها، وكانت وفاته رحمه -الله تعالى- في ثاني عشر شعبان سنة (672هـ) .
انظر: أبجد العلوم (3/33، 34) ، وطبقات الشافعية (2/149، 150) ، وكشف الظنون (1/405، 2/1369) .
(2) ابن هشام هو: أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري، ولد بالقاهرة سنة (708هـ) نحوي بارع، شافعي المذهب، أمام في اللغة، درَس ودرَّس، وانفرد بالفوائد، وبحث في الدقائق حتى خرج بالعجائب المستدركة، مع قدرته على توجيه الكلام التوجيه البديع، وكل ذلك واضح جلي من خلال مؤلفاته، له من المصنفات الكثير النافع منها: أوضح لمسالك إلى ألفية ابن مالك، وكتاب شذور الذهب في معرفة كلام العرب، وكتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، وغيرها من كتبه التي أثرت المكتبة العربية، وكانت وفاته في سنة (762هـ) .
انظر: الدرر الكامنة (2/208) ، بغية الوعاة (ص: 293) ، دائرة المعارف الإسلامية (1/295) .
(3) انظر أيضاً شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام (ص: 445) .
(4) متفق عليه رواه البخاري في صحيحه (5/1959، رقم 4808) ، ومسلم في صحيحه (4/2097، رقم 2740) من حديث أسامة بن زيد.
(5) هو: سهل بن سعد الخزرجي الأنصاري، من بني ساعدة: صحابي، ومن مشاهير الصحابة من أهل المدينة. عاش نحو مائة سنة. له في كتب الحديث 188 حديثاً، توفي في سنة: 91هـ.
(6) رواه الترمذي في سننه (4/560، رقم2320) عن سهل بن سعد، وقال: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
وأخرجه أيضاً: أبو نعيم في حلية الأولياء (3/253) ، والروياني في مسنده (2/214، رقم 105) ، وابن حنبل في كتاب الزهد (ص: 63، رقم 128) .(1/132)
ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها.
فائدة: قال ابن الجوزي خلق الله تعالى ستة أشياء وملأها سماً وجعل ترياقها ستة أشياء:
الأول: خلق الدنيا وجعل المساجد ترياقها. الثاني: خلق الشهور، وجعل ترياقها شهر رمضان. الثالث: خلق الأيام وملأها سماً، وجعل ترياقها يوم الجمعة. الرابع: خلق المعاصي وملأها سماً، وجعل ترياقها التوبة. الخامس: خلق الساعات وملأها سماً، وجعل ترياقها الصلوات الخمس. السادس: خلق الأمراض وملأها سماً، وجعل ترياقها بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا أردت أن تطيب فمك، وتطهر جسمك، وترفع اسمك، وتشفي سقمك فقل بسم الله الرحمن الرحيم.
ولله دراً بقائك:
كلامك والله يا سيدي ... ألذ وأحلى من العافية
وأشهى إلى العين من غمضها ... وأطيب من عيشة راضية
يا هذا: الدنيا دار غرور، ولا يدوم لها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، جديدها يبلي، وحبيبها يقلي، الدنيا قدر يغلي، وكنيف يملأ، لا يغرنكم علو الدور والقصور، فإن مآلها إلى الخراب ومآل إلى القبور، لا يغرنكم الثياب الفاخرة، والوجوه النضرة، فإن منقلبها إلى الحافرة، والعظام النخرة، وقد أحسن من قال:
أيا من قد تهاون بالمنايا ... ومن قد غره الأمل الطويل
ألم تر إنما الدنيا غرور ... وأن جميع ما فيها يزول
فلا يغررك من دنياك وعد ... فليس لوعدها أبداً حصول
وقال القرطبي (1) في التذكرة وذكره ابن أبي الدنيا (2) قال: حدثنا أبو إسحاق بن الأشعث سمعت فضيل بن عياض يقول: قال ابن عباس: «يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة شمطاء زرقاء أنيابها مكشرة مشوهٌ خلقها، فتشرف على الخلائق، فيقال: هذه فيقولون: نعوذ بالله معرفة هذه، فيقال: الدنيا التي تفاخرتم عليها بها، تقاطعتم الأرحام، ولها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم تقذف في جهنم فتنادي أي رب أتباعي وأشياعي فيقول الله: ألحقوا بها أتباعها وأشياعها» (3) .
_________
(1) القرطبي هو: محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، صالح متعبد، من أهل قرطبة، رحل إلى الشرق واستقر بمنية ابن خصيب في شمالي أسيوط بمصر، وتوفي فيها سنة: 671هـ، وكان ورعاً متعبداً، طارحاً للتكلف، يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية.
من كتبه: الجامع لأحكام القرآن يعرف بتفسير القرطبي، وقمع الحرص بالزهد والقناعة، والأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، والتذكار في أفضل الأذكار، والتذكرة بأحوال الموتى وأحوال الآخرة، والتقريب لكتاب التمهيد.
(2) ابن أبي الدنيا: عبد الله بن محمد بن عبيد البغدادي، أحد الحفاظ المكثرين من التصانيف الحديثية والأجزاء المسندة التي تدل على سعة حفظه وعلمه وهو مشهور بمؤلفاته، وكانت وفاته رحمه الله سنة (381هـ) .
انظر: تاريخ بغداد (10/89) ، وتهذيب التهذيب (6/12، 13) ، وتذكرة الحفاظ (2/224) .
(3) رواه من طريق ابن أبي الدنيا البيهقي في شعب الإيمان (7/383، رقم 10671) عن ابن عباس، وكذا أبو سعيد ابن درهم في الزهد وصفة الزاهدين (ص: 46، رقم 70) .(1/133)
وقال تعالى ?فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ? [التوبة: 38] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحمي عبده الدنيا، وهو يحميه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب» (1) .
وعن البراء بن عازب (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لله خواص يسكنهم الرفيع من الجنان في أعلى عليين كانوا أعقل الناس» قلنا: يا رسول الله كيف كانوا أعقل الناس؟ قال «كان همهم المسابقة إلى الله تعالى والمسارعة إلى ما يرضيه، زهدوا في الدنيا وفي فضولها في رياستها ونعيمها، فهانت عليهم فصبروا قليلاً فاسترحوا طويلاً» (3) .
وذكر القرطبي: أن رجلاً قال: يا رسول الله أخبرني بجلساء الله يوم القيامة؟ قال: «هم الخائفون الخاضعون المتواضعون الذاكرون الله كثيراً» قال: فهم أول الناس دخولاً الجنة؟ قال: «لا» قال: فمن أول الناس يدخلون؟ قال: «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فتخرج إليهم الملائكة فيقولون: ارجعوا إلى الحساب فيقولون: على ما نحاسب ما أُفيضت علينا من الأموال في الدنيا فنقبض ونبسط، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكن جاءنا أمر الله فعرفناه حتى أتانا اليقين» (4) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «اتقوا الله فإنه يقول يوم القيامة: أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة: من هم يا ربنا فيقول: الفقراء الصابرون الصادقون الراضون بقدري، أدخلوهم الجنة، فيدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، والأغنياء في الحساب يترددون» (5) .
قال العلامي في تفسيره (6)
: «إن إبليس يعرض الدنيا على من يريدها كل يوم،
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/321، رقم 10450) عن محمود بن لبيد، ولم نقف عليه عند غيره.
(2) هو: البراء بن عاز ب بن الحارث الخزرجي، أبو عمارة: قائد صحابي من أصحاب الفتوح، أسلم صغيراً وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة، أولها غزوة الخندق، ولما ولي عثمان الخلافة جعله أميراً على الري بفارس سنة 24هـ، فغزا أبهر غربي قزوين وفتحها، ثم قزوين فملكها، وانتقل إلى زنجان فافتتحها عنوة، وعاش إلى أيام مصعب ابن الزبير فسكن الكوفة واعتزل الأعمال. وتوفي في زمنه سنة:71 هـ، روى له البخاري ومسلم.
(3) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (1/17) ، والحارث في مسنده (2/814، رقم 844) عن البراء.
(4) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/143) ، وابن المبارك في كتاب الزهد (1/80، رقم 283) عن سعيد بن المسيب مرسلا.
(5) لم نقف عليه.
(6) هكذا بالأصل: «العلامي» ، ويوجد في المصادر أن هناك تفسيراً يسمى بتفسير العلامي وهو مشهور بهذا الاسم إلا أنه من تصنيف القطب الشيرازي، قال في كشف الظنون (2/1235) : فتح المنان في تفسير القرآن وهو كبير في أربعين مجلداً للعلامة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي المتوفى سنة عشر وسبعمائة وهو المعروف بتفسير العلامي، وانظر أيضاً في ذلك أبجد العلوم (2/186) .
ولم يترجم له الحافظ السيوطي في طبقات المفسرين (1/198، ترجمة: 239) وإنما ترجم لرجل آخر قال فيه: محمود بن محمد الشيرازي الشهير بابن العلائي، العالم الفاضل العلامة قطب الدين أبو الفضل كان ماهراً في التفسير وصنف: فتح المنان في تفسير القرآن، توفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
فيحتمل أن يكون قد وقع تصحيف في الأصل من ابن العلائي إلى العلامي، ويحتمل أن يكون الشيرازي نفسه مشهوراً بهذه النسبة فأطلقوا على تفسيره هذا الاسم، كما في أبجد العلوم وكشف الظنون، ومن الممكن أن يكونا شخص واحد وأخطأت المصادر في سنة الوفاة فالأول توفي سنة 710، والثاني سنة 581. والله أعلم.
انظر في ترجمة قطب الدين محمود بن مسعود الشيرازي طبقات الشافعية الكبرى (10/386، ترجمة: 1410) ، والدرر الكامنة (6/100، ترجمة: 2271) .(1/134)
فيقول: من يشتري شيئًا يضره ولا ينفعه، وبهيمة لا تسره؟ فيقول أصحابها وعشاقها: نحن، فيقول: إنها معيبة فيقولون: لا بأس فيقول ثمنها ليس بالدراهم ولا بالدنانير، ولكن بنصيبكم من الجنة، فإني أشتريتها بأربعة أشياء بلعنة الله وغضبة وسخطه وعذابه، وبعت الجنة بها، فيقولون رضينا ذلك، فيقول: أريد أن أريح بأن توطنوا قلوبكم على أن لا تدعوها أبداً، فيقولون: نعم، فيبيعهم إياها على ذلك، ثم يقول: بئست التجارة» .
وينبغي لكل أحد أن يرضى بما أعطاه الله من الرزق في الدنيا وقسمه له، ويشكر على ذلك ويراه كثيراً عليه، فإن فعل ذلك استراح وعظمت نعم الله في عينه، وإذا زاد من شكره وأجره، جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قال الله سبحانه تعالى: يا بني آدم وعزتي وجلالي لئن رضيت بما قسمت لك أرحتك، وأنت محمود، وإن لم ترض بما قسمت لك سلطت عليك الدنيا تركض فيها كركض الوحوش ثم لا يكون لك إلا ما قسمت لك وأنت مذموم» نقله الدميري في الوحش (1) .
ويكفي في ذمها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنها حيث قال: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما أولاه عالم أو متعلم» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب (2) .
ولا يعارض هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» (3)
لأن هذا محمول على ما كان من الدنيا يقرب من
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) رواه الترمذي في سننه (4/561، رقم 2322) ، وابن ماجه في سننه (2/1377، رقم 4112) عن أبي هريرة.
(3) رواه الشاشي في مسنده (1/387، رقم 383) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/10، رقم 7288) عن ابن مسعود.
والحديث ضعيف جداً فيه: إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي الخياط، ترجم له الذهبي في الميزان (1/368، ترجمة: 825) وقال: كذبه يحيى بن معين، وقال أحمد بن حنبل: كتبنا عنه عن هشام بن عروة، ثم روى أحاديث موضوعة عن فطر وغيره فتركناه، وقال البخاري: ترك أحمد والناس حديثه، قلت: ومن مناكيره ... فساق هذا الحديث، ثم قال: وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الثقات وهو، صاحب حديث السابع من ولد العباس يلبس الخضرة، وروى أحمد بن زهير عن ابن معين قال: وضع أحاديث على سفيان لم تكن.(1/135)
الله، ويعين على عبادته، فإنه محمود بكل لسان، محبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يراعى فيه ويحب، كما أشار إلى ذلك في الحديث بقوله: «فنعمت مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر» .
وأما المباح لعنة الله من الدنيا فهو ما كان مبعداً عن الله، وشاغلاً عنه كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله من مال ولد فهو شؤم عليك، وهو الذي نبه الله سبحانه عليه بقوله ?اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الحديد: 20] .
وفي فتاوى ابن عبد السلام الموصلية: أن الدنيا التي لعنت: هي الحرمة التي أخذت بغير حقها أو صرفت لغير مستحقها، فلا يلهينك يا هذا عن اكتساب دار القرار، والاغترار بشيء من زخرف هذه الدار، فوالله ما هي بدار مقام، بل دار إن أضحكت اليوم أبكت، وإن سرت أعقب سرورها ردى، وإن أخصبت أجدبت، وإن جمعت فرقت، وإن ضمت شتت، وإن غمرت دمرت، وإن وهبت سلبت، وإن ولت عزلت، وإن وصلت قطعت، دار الهموم والأحزان، والغموم والأشجان، والبين والفراق، والشقاء والشقاق، والرحلة والانتقال والزوال، قليلة الصفاء، وبيلة الجفاء، عديمة الوفاء، لا ثقة لعهدها، ولا وفاء لوعدها، ولا وصل لبعدها، محبها ثعبان، وعاشقها سكران، قد سترت معائبها، وكتمت مصائبها، وأخفت نوائبها، وخدعت بباطلها، وغيرت ببراطيلها، ونصبت شباكها، ووضعت إشراكها، وأبدت ملامح، وسترت قبائح الفعال، ونادت: الوصال أيها الرجال، فمن رام وصالها وقع في حبالها، وبدله سوء حالها، وشدة وبالها، فعض يديه ندماً، وبكى بعد الدموع دماً، وأسلمه ما طلب إلى سوء المنقلب، وجهد في الفرار فما أمكنه الهرب، فتيقظ لنفسك يا هذا قبل الهلاك، وأطلق نفسك من أسرها قبل ن يعسر الفكاك، وأقبل على ما فيه عظيم نجاحك، وما هو في الدارين سبب صلاحك، من عبادة الله، ومداومة ذكره، وملازمة حمده على ذلك وشكره، وافعل الخير ما وجدت سبيلاً، فقد انتظر المقام المهول، ولقد أحسن من يقول:
سألت عن الدنيا الدنيئة قيل له ... هي الدار فيها الدائرات تدور
فإن أضحكت أبكت وإن أحسنت أساءت ... وإن عدلت يوماً ما فسوف تجور
وقال آخر:(1/136)
يا خاطب الدنيا الدنيئة إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار إذا ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً بعداً لها من دار
وقد جاء أخبار في الزهد من هذه الدنيا الفائتة، وفضل الفقراء، وما يعطي الله الفقير الصابر.
فائدة: سبب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المدينة ما نقله المفسرون وغيرهم عن ابن عباس (1) وغيره: إذ قريش خافوا لما أسلمت الأنصار أن يعظم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه صار له شيعة وأنصاراً وأصحاباً من غيرهم، بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، وخافوا خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم وأن يحاربهم بالصحابة، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب، وكانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها، ليتشاورا في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه «بت» أي: طيلسان فقالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، فلما سمعت باجتماعكم أردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً فقالوا: ادخل فدخل فقال أبو البحتري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، حتى يملك فيه فصرخ الشيخ النجدي وقال: بئس الرأي هذا، والله لأن حبستموه يخرج أمره إلى أصحابه فيوشك أن ينقلبوا عليكم ويقاتلوكم، قالوا: صدق الشيخ النجدي فقال هشام بن عمرو: وأما أنا فأرى أن تحملوه على بعير فتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع إذا غاب عنكم واسترحتم، فقال إبليس: ما هذا برأي تعمدون إلى رجل قد أفسد سفهاؤكم فتخرجوه إلى غيركم فيفسدهم،
ألم ترو حلاوة منطقه، وطلاوة لسانه، وأخذه القلوب ما تسمع من حديثه، والله لأن فعلتم ذلك فيذهب ويستميل إلى قلوب قوم، ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم، قالوا: صدق الشيخ، فقال
_________
(1) رواية ابن عباس في ذلك أخرجها أحمد في مسنده (1/348، رقم 3251) ، والطبري في تفسيره (9/227) ، وعبد الرزاق في المصنف (5/389) ، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في المعجم الكبير (11/407، رقم 12155) ، والخطيب في تاريخ بغداد (13/191) .
ورواه محمد بن إسحاق في مغازيه كما في تفسير ابن كثير (2/303) .
وأورده الحافظ السيوطي في الدر المنثور (4/50) وعزاه إلى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والخطيب عن ابن عباس.(1/137)
أبو جهل: فوالله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شاباً نسبياً، ثم يعطى كل واحد منهم سيفاً صارماً، ثم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يطيقون حرب قريش كلها، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا ديته، فتودي قريش ديته، فقال إبليس: صدق هذا الفتى القول ما قال لا أرى غيره، فتفرقوا على قول أبي جهل فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله له عند ذلك بالهجرة إلى المدينة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي - رضي الله عنه - فنام في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وقال: تسجى ببردي هذا الأخضر فإنه لم يخلص إليك منهم أمر لكرهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - ينام في برده هذا إذا نام، فكان علي - رضي الله عنه - أول من جعل نفسه فداءً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أشار إلى ذلك بقوله:
وقيت بنفسي خير من وطئ الثرى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه الإله ذو الطول من المكر
وخلف علياً بمكة حتى يدفع الودائع إلى أهلها فإنه - صلى الله عليه وسلم - كانت توضع الودائع عنده لصدقه وأمانته، فلما أمره الله بالخروج للهجرة قال لجبريل: من يهاجر معي؟ قال: أبو بكر الصديق، ثم احتاط الكفار وقت العتمة بدار النبي - صلى الله عليه وسلم - يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما علم بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من تراب وخرج عليهم، وقد أخذ الله أبصارهم فلم يره منهم أحد وجعل ينثر التراب على رؤوسهم، وهو يقرأ قوله تعالى ?إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ? [يس: 8، 9] ولم يبق منهم رجل وقد وضع على رأسه تراباً.
وكان خروجه مهاجراً في شهر ربيع الأول، ويقال: في صفر يوم الاثنين، وصحب معه أبو بكر - رضي الله عنه - واستأجر عبد الله بن أريقط دليلاً وهو على شركه، ثم أسلم بعد ذلك وصحب، واستأجروا عامر بن فهيره خادماً وأما الكفار الذين أحاطوا بالدار فلما أصبحوا دخلوا على علي قالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري فعلموا أنه ذهب فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه استمر سائراً هو ومن معه، فجعل أبو بكر يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك؟ قال: يا رسول(1/138)
الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لآمن عليك، فمشى - صلى الله عليه وسلم - على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رأى أبو بكر أنها حفيت حمله على كاهله وجعل يسير به سيراً شديداً حتى وصل جبل ثور، وهو جبل بأسفل مكة فصعد عليه حتى أتى به الغار فأنزله عند بابه ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيناً لا تدخله حتى أدخله قبلك، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئاً فكنسه، فوجد فيه ثقوباً فيها حيات وأفاعي فشق إزاره وسد تلك الثقوب خوفاً أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقي ثقب كبير فسده أبو بكر بقدمه، وفي رواية فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضع رأسه في حجر أبي بكر ونام فجعلت الحيات والأفاعي تلسع رجل أبي بكر - رضي الله عنه - وهو لا يتحرك مخافة أن يتنبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعلت دموعه تتساقط على وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتبه وقال: «مالك يا أبا بكر؟» فقال: لذغت فداك أبي وأمي، فتفل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذهب ما يجده من الألم، وقال: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكنيته أي: طمأنينته على أبي بكر.
وقيل: إنه لما صعد الجبل لم ير فيه مكاناً يختفون فيه قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فانفتح في الجبل غار بقدرة الله فدخل ذلك الغار، ثم أمر الله العنكبوت فنسج على بابه في الحال، وأمر حمامتين وحيتين فعششتا على بابه.
قال السهيلي: وحمام الحرم من نسلهما، وأنبت الله في الحال على باب الغار شجرة يقال لها «الرآءة» مثل قامة الإنسان ولها زهر أبيض فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل لم يبق نسج العنكبوت على بابه، وبيض الحمام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع ما قالوا، فعلم أن الله - عز وجل - صدهم عن نبيه.
وجاء في الحديث: إن الكفار لما وقفوا على باب الغار، وقال أبو بكر يا رسول الله لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالهما.
قال الطبري: في هذا دليل على أن باب الغار كان من أعلى، وإلى ذلك أشار صاحب البرده بقوله:
وما حوى الغار من خير ومن كرم ... وكل طرف من الكفار عنه عمي
فالصدق في الغار والصديق لم يريا ... وهم يقولون ما بالغار من آدم(1/139)
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على ... خير البرية لم تنسج ولم تحم
وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عال من الأطم
ففي هذه إشارة إلى حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعدائه من الكفار وقعت بأضعف الأشياء مغنية عن أقوى الأشياء، وقعت بنسج العنكبوت وهو أضعف الأشياء قال تعالى ?وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ? [العنكبوت: 41] مغنية عن الدروع التي قال الله عنها: ?وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأْسِكُمْ? [الأنبياء: 80] .
قال العلماء: نسج العنكبوت على جماعة غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، الأول: شخص من الصحابة يقال له: «عبد الله بن أنيس» بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل قتل شخص من الكفار يقال خالد بن نبيح الهذلي، فذهب إليه وهو بالغرفة فقتله ثم احتمل رأسه ودخل في غار فنسجت عليه العنكبوت، وجاءوا لطلبه فلم يجدوا شيئاً، فلما وصلوا إلى باب الغار نسج العنكبوت فانصرفوا راجعين، ثم خرج وسار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما رأه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أفلح الوجه» قال: وجهك يا رسول الله، ووضع الرأس بين يديه، وأخبره الخبر فدفع إليه عصى كانت بيده وقال: «تُخص بهذه في الجنة» فكانت عنده إلى أن حضرته الوفاة ووصى أهله أن يدفنوها في كفنه ففعلوا، وكانت مدة غيبته ثمان عشرة ليلة.
الثاني: داود - عليه السلام - نسجت عليه مرتين حين كان جالوت يطلبه.
الثالث: زيد بن علي بن الحسين بن على بن أبي طالب (1)
لما انتهت إليه الخلافة وبايعه عليها خلق كثير حاربه والى العراق وهو يوسف بن عمر فظفر به وصلبه على خشبة عرياناً، ووجهه لغير القبلة، فدارت خشبته إلى القبلة وأرسل الله تعالى العنكبوت فنسج على عورته لبركة آبائه وإسلامه، وأقام مصلوباً أربع سنوات، ثم أحرقوا خشبته وجسده - رضي الله عنه - وكان ظهوره وخلافته في أيام هشام بن عبد الملك فقال له طائفة كثيرة من أهل الكوفة تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك فقال: لا، فقالوا: إذاً نرفضك، فمن ذلك اليوم سموا الرافضة.
فائدة: أسند الثعلبي (2) وغيره عن علي بن أبي طالب قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت، فإن تركه في البيوت يورث الفقر.
وقال أبو الليث السمرقندي (3) : تركه في الإصطبل يهزل الدوآب.
وقال الزركشي من علماء الشافعية: إنه يجوز قتله، لأنه من ذوات السموم،
_________
(1) هو: زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، الإمام، أبو الحسين العلوي الهاشمي القرشي، ويقال له زيد الشهيد، مولده في سنة: 79هـ، عده الجاحظ من خطباء بني هاشم، وقال أبو حنيفة: ما رأيت في زمانه أفقه منه ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، كانت إقامته بالكوفة، وقرأ على واصل بن عطاء رأس المعتزلة واقتبس منه علم الاعتزال، وأشخص إلى الشام، فضيق عليه هشام بن عبد الملك، وحبسه خمسة أشهر، وعاد إلى العراق ثم إلى المدينة، فلحق به بعض أهل الكوفة يحرضونه على قتال الأمويين، ورجعوا به إلى الكوفة سنة 120هـ، فبايعه أربعون ألفاً على الدعوة إلى الكتاب والسنة، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين، وإعطاء المحرومين، والعدل في قسمة الفيء، ورد المظالم، ونصر أهل البيت. وكان العامل على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي، فكتب إلى الحكم بن الصلت وهو في الكوفة أن يقاتل زيداً، ففعل، ونشبت معارك انتهت بمقتل زيد في الكوفة في عام: هـ 122هـ، وحمل رأسه إلى الشام فنصب على باب مشق. ثم أرسل إلى المدينة فنصب عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة، وحمل إلى مصر فنصب على الجامع، فسرقه أهل مصر ودفنوه.
قال في الأعلام: ووقف المجمع العلمي في ميلانو مؤخراً على مجموع في الفقه رواه أبو خالد الواسطي عن زيد بن علي، فإن صحت النسبة كان هذا الكتاب أول كتاب دوِّن في الفقه الإسلامي، ومثله: تفسير غريب القرآن، ولابد من التثبت من صحت نسبته إليه، وإلى صاحب الترجمة نسبة الطوائف: الزيدية.
(2) الثعلبي هو: أبو إسحاق، أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي: مفسر، من أهل نيسابور، له اشتغال بالتاريخ، ومن تصانيفه: العرائس في قصص الأنبياء، وقد نقل عنه المصنف في هذا الشرح في بعض المواضع وقد بينا وجه الحق فيها، وله أيضاً تفسيره المسمي الكشف والبيان في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة (427هـ) .
انظر: الأعلام (1/212) .
(3) هو: نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي، فقيه، مفسر، صوفي، توفى رحمه الله تعالى سنة (373هـ) ، وقيل: سنة (375هـ) ، وقيل: سنة (393هـ) ، وكانت وفاته في الحادي عشر من جمادى الآخرة. من مصنفاته التي تركها: تفسير القرآن، بستان العارفين، تنبيه الغافلين، خزانة الفقه على مذهب أبي حنيفة النعمان.
انظر: معجم المؤلفين (13/91) ، وتذكرة الحفاظ (3/169) ، وهدية العارفين (2/490) .(1/140)
وورد في حديث ضعيف «العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه» (1) .
فائدة لطيفة: روى أبو نعيم في الحلية في ترجمة مجاهد أنه قال في قوله تعالى ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? [النساء: 78] أنه قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة وكان لها أجير فولدت جارية، وقالت لأجيرها: اقتبس لنا ناراً، فخرج فوجد بالنار رجلاً فقال: ما ولدت هذه المرأة؟ فقال: جارية، فقال: أما إن هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمائة رجل ويتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت، فقال الأجير في نفسه: فأنا والله ما أريد هذه بعد أن تبغي بمائة رجل، لأقتلها وأخذ شفرة ودخل وشق بطن الصبية وخرج على وجهه، فركب البحر فخيط بطن الصبية وعولجت، فشفيت وشبت، فكانت تبغي ساحلاً من سواحل البحر فأقامت هناك تبغي، ولبث الرجل ما شاء الله ثم قدم ذلك الرجل ساحل البحر ومعه مال كثير فقال لامرأة من أهل ساحل البحر: اختاري لي امرأة في القرية أتزوج بها، فقالت: هاهنا امرأة من أجمل الناس ولكنها تبغي، قال: آتيني بها، فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير وقال لي: كذا، فقلت: كذا، فقالت: إني تركت البغاء ولكن إذا أراد تزوجته قال: فتزوجها فوقعت منه موقعاً، فبينما هو يوم عندها إذا أخبرها بأمره فقالت: أنا تلك الجارية وأرته الشق في بطنها، وقد كنت أبغي فما أدري بمائة أو أكثر أوأقل، قال: فإنه قال لي: يكون موتها بالعنكبوت، قال: نبني لها برجاً في الصحراء وشيده، فبينما هو يوماً في ذلك البرج إذا عنكبوت في السقف، فقال: هذا عنكبوت، فقالت: هذا يقتلني، لا يقتله أحد
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (6/313، ترجمة 1799 مسلمة بن علي أبو سعيد الخشني الشامي) وهذا الرجل هو آفة الحديث التي من أجلها عد ضعيفاً كما بين المصنف.
قال ابن عدي: قال يحيى بن معين: مسلمة بن علي ليس بشيء، وعن حماد قال: قال البخاري: مسلمة بن علي أبو سعيد الخشني الشامي منكر الحديث عن الأوزاعي، وقال النسائي مسلمة بن علي الخشني متروك الحديث، وذكر جملة من أحاديثه ومنها هذا الحديث وقال في آخر ترجمته: ولمسلمة غير ما ذكرت من الحديث وكل أحاديثه ما ذكرته وما لم أذكره كلها أو عامتها غير محفوظة.
وترجم له الذهبي في الميزان (6/423، ترجمة 8533) وقال: واه حدث عن يحيى بن الحارث الذماري وجماعة، تركوه، قال دحيم: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: لا يشتغل به، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك.(1/141)
غيري فحركته فسقط فأتته، فوضعت إبهام رجلها عليه فساخ سم بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها وماتت، فنزلت هذه الآية ?أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? (1) .
قال العلماء: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغار ثلاثة أيام وأبو بكر - رضي الله عنه - كل وقت من هذه الأيام الثلاثة عنده حزن خوف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا أو كما قال، وقد أشار إلى ذلك أبو بكر بقوله:
قال النبي ولم يجزع يوقرني ... ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخش شيئًا فإن الله ثالثنا ... وقد توكل لنا منه بإظهار
بعد الثالث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الغار.
فائدة: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغار ليلة الاثنين أول يوم من ربيع الأول حكاه ابن الجوزي عن الكلبي.
وقيل: خرج منه ليلة الاثنين أربع ليال خلون من ربيع الأول قاله ابن الملقن عن ابن سعد في الطبقات (2) .
وساروا والدليل أمامهم حتى مروا بمكان يقال له قديد يوم الثلاثاء، وهناك خيمة منصوبة لامرأة يقال لها: أم معبد واسمها عاتكة (3)
، وهي جالسة في خيمتها وعندها شاة ضعيفة مهزولة تخلفت عن المراعي لشدة هزالها، وذهب زوجها ببقية الأغنام إلى المرعي فاستضافها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي لا تعرفه، فقال لها: يا أم معبد هل عندك من لبن؟ فقالت: لو كان ما أحوجتكم إلى الطلب، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما في هذه الشاة لبن؟ فقالت: إنها هزيلة تختلف عن المرعى لذلك، فقال: أتأذنين لي في حلابها؟ قالت: والله ما ضربها من فحل قط فشأنك وإياها، فدعا بها فمسح رسول
_________
(1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (3/289) .
(2) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/232) ذكره من قول عبد الملك بن وهب بلاغاً.
(3) ترجم لها ابن حبان في الثقات (3/325، ترجمة: 1067) ونسبها فقال: أم معبد الخزاعية التي نزل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، اسمها: عاتكة بنت خالد بن خليف ويقال بنت خالد بن خلف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس الكعبية من خزاعة.
وانظر ترجمتها في الاستيعاب (4/1876، ترجمة: 4023) ، وفي الإصابة لابن حجر (8/305، ترجمة: 12259) وحديث الهجرة المروي عنها.(1/142)
الله - صلى الله عليه وسلم - ضرع الشاة وظهرها فحلب في الإناء، وكان إناء يفي رهطاً فشرب من لبنها وسقى أصحابه، ثم حلب في الإناء أيضاً وتركه عندها، واستمرت البركة في تلك الشاة ببركتة - صلى الله عليه وسلم - ومن نسلها ما هو باق إلى زماننا هذا.
وأما زوجها قال السهيلي: لا يعرف اسمه وقد ورد بأن اسمه: أكتم بن أبي الجون، فإنه جاء من المرعى وقت المساء، بعد أن سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى عندها لبناً في الإناء فقال لها: من أين هذا ولا حلوب عندك؟ قالت: يا أبا معبد مر بنا رجل ظاهر الوضاءة، متبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور، أكحل، أزج، أقرن، شديد، يخلو الشعر في عنقه سطع، وفي لحيته كثافة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما، وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، حلو المنطق، فصل لا نزر، ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنوؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإذا أمر تبادروا إلى أمره محفود، محشود لا عابث ولا مفند، قال هذه والله صفة صاحب قريش، ولو رأيته لاتبعته ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، ثم هاجرت بعد ذلك هي وزوجها فأسلما وكان أهلها يفرحون بنزول الرجل المبارك (1) .
ثم لما فارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم معبد وكان كفار مكة قد جعلوا لمن يقتل أو يأسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر دية كل واحد منهما، فبلغ ذلك سراقة بن مالك بن جعشم، وكذا قد بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ساروا على طريق السواحل،
_________
(1) انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد (1/231) وما هاهنا مستفاد من رواية أبو معبد الخزاعي التي عند ابن سعد.
ولأم معبد رواية فيها حديث الهجرة تاماً، فيه قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها وأوصافه نحو ما هاهنا بألفاظ متقاربة، رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/288) ، ورواه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/252، رقم 3485) .
والحديث أيضاً مروي عن حبيش صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أخو عاتكة أم معبد، قال ابن عبد البر في الاستيعاب (4/1876) ذكر أبو جعفر العقيلي ... فساق حديث أم معبد في هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال عقبه: وقد روي حديث أم معبد هذا بكماله عنها في رواية العقيلي هذه، وروي عن أبي معبد زوجها، وعن حبيش ابن خالد أخيها بمعنى واحد والألفاظ متقاربة.(1/143)
فطمع في المال فأخذ رمحه وركب فرسه وتتبعهم، فلما دنى منهم وأحسن به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليه، فعثرت فرسه وسط عنها، ثم ركبها وسار حتى قرب منهم وسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات، فساخت قوائم فرسه في الأرض حتى بلغت الركبتين فنزل عنها وزحف فلم تستطع النهوض فطلب الأمان فدعا له رسول - صلى الله عليه وسلم - ثم زجرها فنهضت، فلما استوت قائمة فركبها وسار نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووقع في نفسه ما لقي من الحبس عنهم وما اتفق لفرسه أنه سيظهر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وينتصر على أعدائه، فلما وصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرهم أخبار ما يريد الناس بهم وعرض عليهم الزاد والمتاع فلم يقبلوا منه شيئًا بل قالوا: أُخف عنا، ثم رجع سراقة إلى قومه إلى قومه بني مدلج، وأخبرهم بما اتفق له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: لابد وإن يظهر أمره فسمع بذلك أبو جهل فأنشد يقول:
بني مدلج إني أخاف سفهيكم ... سراقة يستغوي بنصر محمد
عليكم أن لا يفرق جمعكم ... فيصبح شتى بعد عز وسودد
فأجاب سراقة:
أبا حكم والات لو كنت شاهداً ... لأمر جوادي أن تسيخ قوائمه
عجبت ولن تشك بأن محمد ... نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
عليك بكف الناس عنه فإنني ... أري أمره يوماً ستبدوا معالمه
بأمر تود النصر فيه بأنها ... لو أن جميع الناس طراً تسالمه
وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه مضى إلى المدينة وكان المسلمون من أهل المدينة قد سمعوا خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وكان المسلمون كل يوم يخرجون إلى مكان يقال له: الحرة، ينتظرونه حتى يشتد الحر، ثم يرجعون فلما كان يوم قدومه وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة يوماً خلت من ربيع الأول، خرجوا ثم رجعوا إلى بيوتهم بعد ما طال انتظارهم وإذا يهودي صعد على جبل لحاجة فنظر من فوق فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فنادى بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه قد أقبل فخرجوا إليه سراعاً وتلقوه، فنزل بقباء على بني عمرو بن عوف، ولبث عندهم(1/144)
بضع عشر ليلة كما [رواه البخاري من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير] (1) ، وقيل: غير ذلك.
وأسس لهم المسجد الذي ذكر في القرآن أنه أسس على التقوى وصلى فيه، ثم ركب راحلته فسار يمشي ومعه الناس، وكلما مر على طائفه من أهل المدينة يقولون له: أقم عندنا فإننا أصحاب عدد وعدد ومتعة، وهو راكب ناقته وهم يحجزونها، فيقول لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلوا سبيلها فإنها مأموره، حتى بركت عند مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: نزلت على باب المسجد ثلاث مراراً بركت أول مرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها لم ينزل، ثم قامت وسارت غير بعيد، ثم رجعت إلى مبركها أول مرة ثم تحلحلت ثم عادت إليه فنزل عنها - صلى الله عليه وسلم - فقال حين بركت به: هذا إن شاء الله هو المنزل ثم اشتراه من اليتيمين بعشرة دنانير، ثم بناه مسجداً، وكان ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول:
هذا الحمال لا حمال خيبر ... هذا أبر بنا وأطهر
اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصار والمهاجرة
فائدة: وقال ابن سيد الناس (2)
قال عبد الله بن سلام (3) : ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فانجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه
_________
(1) ما بين [] في الأصل: «كما رواه أنس من طريق البخاري» وهو خطأ، وما أثبت من صحيح البخاري فقد رواه معلقاً من قول ابن شهاب الزهري كما أثبت. انظر: صحيح البخاري
(3/1421، رقم 3694) .
قال ابن حجر في الفتح (7/243) : قوله: «قال ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي الزبير في ركب» هو متصل إلى ابن شهاب بالإسناد المذكور أولاً، وقد أفرده الحاكم من وجه آخر عن يحيى بن بكير بالإسناد المذكور ولم يستخرجه الإسماعيلي أصلاً، وصورته مرسل لكنه وصله الحاكم أيضاً من طريق معمر عن الزهري قال أخبرني عروة أنه سمع الزبير به، وأخرجه موسى بن عقبة عن بن شهاب به وأتم منه.
قلت: والحديث من طريق معمر أيضاً عند عبد الرزاق في المصنف (5/395) .
والحديث رواه موصولاً أيضاً من طريق آخر: الطبري في التاريخ (1/571) قال: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة، قال: حدثني رجال قومي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره بنحوه.
(2) ابن سيد الناس هو: فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الشافعي الإمام الحافظ اليعمري الأندلسي الأشبيلي الأصل المصري المعروف بابن سيد الناس، ولد في ذي القعدة –وقيل: في ذي الحجة- سنة إحدى وسبعين وستمائة بالقاهرة، وسمع الكثير، وتفقه على مذهب الشافعي، وأخذ علم الحديث عن والده وابن دقيق العيد، ولازمه سنين كثيرة وتخرج عليه وقرأ عليه أصول الفقه، وقرأ النحو على ابن النحاس، وولى دار الحديث بجامع الصالح، وخطب بجامع الخندق، وكانت وفاته فجأة في حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ودفن بالقرافة، وصنف كتباً نفيسة: منها السيرة الكبرى سماها: عيون الأثر في مجلدين، واختصره في كراريس وسماه: نور العيون، وشرح قطعة من كتاب الترمذي إلى كتاب الصلاة في مجلدين، وصنف في منع بيع أمهات الأولاد مجلداً ضخما يدل على علمه الكثير.
انظر: شذرات الذهب (6/108) ، والحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ (ص: 16) ، وذيل طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 350) .
(3) هو: عبد الله بن سلام بن الحارث الإسرائيلي، أبو يوسف، صحابي، قيل: إنه من نسل يوسف بن يعقوب، أسلم عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وكان اسمه: «الحصين» فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله، وشهد مع عمر فتح بيت المقدس والجابية، ولما كانت الفتنة بين علي ومعاوية، اتخذ سيفاً من خشب، واعتزلها، وأقام بالمدينة إلى أن مات، له 25 حديثاً، وكانت وفاته سنة: 43هـ.(1/145)
ليس بوجه كذاب، فأول ما سمعته يقول: «أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (1) قال: أشرقت المدينة بقدومه - صلى الله عليه وسلم - وسرى السرور إلى القلوب بحلوله بها.
وعن أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول لله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء.
قال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وسنذكر كم كان له باب في زمانه، وكم كان طوله وعرضه وارتفاعه، وغيره إن شاء الله تعالى.
وأنزل الله تعالى في مشاورة قريش في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ?وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ? [الأنفال: 30] والمكر: التدبير، والمعنى: ويدبرون ويدبر الله خير المدبرين (2) .
_________
(1) الحديث رواه الترمذي في سننه (4/652، رقم 2485) عن عبد الله بن سلام، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
والحديث عند: ابن ماجه في سننه (1/423، رقم 1334) ، وأحمد في مسنده (5/451، رقم 23835) ، والحاكم في المستدرك (3/14، رقم 4282) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وابن أبي شيبة في المصنف (7/257، رقم 35847) ، والدارمي في سننه (1/405، رقم 1460) ، والطبراني في المعجم الأوسط (5/313، رقم 5410) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص: 179، رقم 496) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/418، رقم 719) ، وابن قانع في معجم الصحابة (2/132) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/235) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/433، رقم 404) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/502، رقم 4422) وفي شعب الإيمان (6/424، رقم 8749) .
(2) إلى هنا انتهى السفيري من شرح هذا الحديث، ولم يتعرض بالشرح لقوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» وحتى يتم المعنى وتعم الفائدة نستكمل الشرح من فتح الباري ففيه من الفوائد التي لا غنى عنها في هذا المقام.
يقول ابن حجر: قوله: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها، وإنما أبرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما، بخلاف الدنيا والمرأة، فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما.
وقال الكرماني: يحتمل أن يكون قوله: «إلى ما هاجر إليه» متعلقاً بالهجرة، فيكون الخبر محذوفاً والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلاً، ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت، انتهي.
وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضي أن تلك الهجرة مذمومة مطلقاً، وليس كذلك، إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضي التردد أو القصور عن الهجرة الخالصة كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر، وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة، وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصة، فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص، وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله، لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالإعفاف.
ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت: إني قد أسلمت، فإن أسلمت تزوجتك. فأسلم فتزوجته.
وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهه وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية، أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم.
واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر، أو الديني أجر بقدره، وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر، وأما إذا نوى العبادة وخالطها بشيء مما يغاير الإخلاص، فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء، فإن كان ابتداؤه لله خالصاً لم يضمره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب أو غيره. والله أعلم.
واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم، لأن فيه العمل يكون منتفياً إذا خلا عن النية، ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة الحكم، وعلى أن الغافل لا تكليف عليه، لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد.
وعلى أن من صام تطوعاً بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث، لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر.
ونظيره حديث: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها» أي: أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت، وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى، وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه، ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه، خلافاً لمن أعل بذلك، لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر، ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة.
واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لا تشترط النية فيه، ومن أمثلة ذلك: جمع التقديم، فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية، بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال: الجمع ليس بعمل، وإنما العمل الصلاة.
ويقوي ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به، واستدل به على أن العمل إذا كان مضافاً إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفي، كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره، لأن معنى الحديث: أن الأعمال بنياتها، والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب، وعلى هذا لو كانت عليه كفارة -وشك في سببها- أجزأه إخراجها بغير تعيين. وفيه زيادة النص على السبب، لأن الحديث سيق في قصة المهاجر لتزويج المرأة، فذكر الدنيا القصة زيادة في التحذير والتنفير.
وقال شيخنا شيخ الإسلام: فيه إطلاق العام وإن كان سببه خاصاً، فيستنبط منه الإشارة إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.(1/146)
المجلس السادس
مشتمل علي شيء من ترجمة الإمام مالك وبقية الأئمة الأربع
وترجمة عائشة وغيرها
والكلام على الحديث الذي سأله الحارث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول كيف يأتيك الوحي، يأتي في المجلس السابع.
قَالَ البُخَارِي:
«حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها ... » .
قوله: «قال حدثنا عبد الله بن يوسف» هذا هو أبو محمد التنيسي، أصله من دمشق، وكانت وفاته سنه سبع وثمان عشرة ومائتين.
ويجوز في يوسف ست لغات ضم السين وفتحها، وكسرها مع الهمزة تركها، وهذه اللغة جارية في يونس أيضاً.
«أنبأنا مالك» هذا هو الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة الأصبحي المدني، الإمام المجتهد أحد الأعلام الذي سارت به الركبان، ولد في خلافة الوليد بن عبد الملك، سنه أربع، وقيل: سنه ثلاث وتسعين، ومناقبه جمة أفردت بالتأليف، وثناء الناس عليه مشهور معروف، ولو سكتوا لأثنت عليه الحقائب، أخذ الرواية من تسعمائة شيخ منهم ثلاثمائه من التابعين وستمائة ممن تابعهم ممن اختاره وارتقى دينه وفقهه وقيامه بحق الرواية وشروطها، وسكنت النفس إليه، ومن مناقبه بل أجلها: أنه العالم(1/148)
الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «ينقطع العلم فلا يبقى عالم أعلم من عالم المدينة» رواه
الترمذي وغيره (1) .
وحديث آخر: «ليس على ظهر الدنيا أعلم منه، فتضرب الناس إليه أكباد الإبل» .
وفي لفظ آخر «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة» (2) .
فالمراد بعالم المدينة في الأحاديث المذكورة هو الإمام مالك كما قاله التابعون وتابعوهم، ولم يعرف أن أحداً ضربت إليه أكباد الإبل مثل ما ضربت إليه.
قال أبو مصعب (3) : كان الناس يزدحمون علي باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام لطلب العلم.
وقال يحيى بن شعبة: دخلت المدينة سنة أربع وأربعين ومائة ومالك أسود الرأس واللحية، والناس حوله سكوت لا يتكلمون هيبة له، ولا يفتي أحد في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، فجلست بين يديه، وسألته فحدثني فاستردته فزادني، ثم غمزني أصحابه فسكت.
وقال مالك: ما جلست للفتيا حتى شهد لي سبعون شيخاً من أهل العلم أني مرضاة لذلك.
ومن مناقبة ما حكاه محمد بن رمح قال: حججت مع أبي وأنا صبي لم أبلغ الحلم
_________
(1) هذا اللفظ ليس عند الترمذي وإنما اللفظ الذي عند الترمذي الآتي بعده بطرف: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل ... » ، وأما هذا الطرف «ينقطع العلم ... الحديث» لم نقف عليه بهذا اللفظ.
(2) رواه الترمذي في سننه (5/47، رقم 2680) عن أبي هريرة.
قال الترمذي: هذا حديث حسن، وهو حديث ابن عيينة، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال في هذا: سئل من عالم المدينة؟ فقال: إنه مالك بن أنس، وقال إسحاق بن موسى سمعت ابن عيينة يقول: هو العمري عبد العزيز بن عبد الله الزاهد، وسمعت يحيى بن موسى يقول: قال عبد الرزاق هو مالك بن أنس، والعمري هو عبد العزيز بن عبد الله من ولد عمر بن الخطاب.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (2/489، رقم 4291) ، والحاكم في المستدرك (1/168، رقم 307) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والحميدي في مسنده (2/485، رقم 1147) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/306) .
(3) أبو مصعب هو: أحمد بن القاسم أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، أبو مصعب الزهري المدني، ولد سنة 150هـ، شيخ أهل المدينة في عصره وقاضيهم ومحدثهم، لزم الإمام مالكاً وتفقه به، وروى عنه «الموطأ» ومات وهو قاض سنة 242هـ.
قال الدارقطني: أبو مصعب ثقة في الموطأ، وقال ابن حزم: آخر ما روي عن مالك: موطأ أبي مصعب، وموطأ أبي حذافة، وفيهما زيادة على الموطآت نحو مائة حديث.(1/149)
فنمت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الروضة بين القبر والمنبر، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خرج من قبره فقمت فسلمت عليه فرد علي السلام فقلت: يا رسول الله أين أنت ذاهب؟ فقال: أقيم لمالك الصراط المستقيم، فتنبهت وأتيت أنا وأبي فوجدت الناس مجتمعين علي مالك وقد أخرج الموطأ وكان أول خروجه.
ومن مناقبة الجليلة: أن امرأة غسلت امرأة بالمدينة في زمنه - رضي الله عنه - فوضعت الغاسلة يدها علي فرج الميتة، وقالت: طال ما عصى هذا الفرج ربه، فألتصقت يد الغاسلة في فرجها، فسألوا علماء المدينة عن أمرها، فبعضهم قال: تقطع يد الغاسلة، وبعض آخر قال: يشق فرج الميتة، وبعض آخر تحير في أمرها، فاستفتي الإمام مالك فقالوا: اسألوا الغاسلة ما قالت في حق الميتة لما وضعت يدها على فرجها؟ فسألوها فقالت: طالما عصى هذا الفرج، فقال مالك: هذا قذف اجلدوها ثمانين جلدة تتخلص يدها، فجلدوها فتخلصت يدها فمن ثم قيل: لا يفتى ومالك في المدينة.
ولما اشتهر - رضي الله عنه - بالعلم انتشر وصفه وذكره في البلاد، وحملت إليه الأموال لانتشار علمه فكان يفرقها على أصحابه، وأصحابه يفرقونها في وجوه الخير موافقة لفعله، وما كان يدخرها.
وكان يقول: ليس الزهد فقد المال، وإنما الزهد فراغ القلب عنه.
وكان يقول أيضاً: ما كان رجل صادقاً في حديثه لا يكذب إلا متعه الله بعقله ولم تصبه عند الكبر عند الهرم آفة ولا خرف.
وكان يقول أيضاً: إذا لم يكن للإنسان في نفسه خير لم يكن للناس فيه خير.
ومن مناقبة ما نقله في الحلية لأبي نعيم عن مالك أنه قال: ما بت ليلة إلا ورأيت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) .
ومن مناقبة ما قاله عبد الله بن المبارك (2)
قال: كنت عند مالك، وهو يحدثنا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يقطع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما تفرق الناس عنه قلت يا أبا عبد الله لقد رأيت اليوم منك عجب قال: نعم صبرت إجلالاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان يحب أن يعظم أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحدث بشيء من أحاديثه في الطريق أي: وهو قائم مستعجل، وكان إذا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك علي جلسائه، فقيل له: لم ذلك؟ فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ما
_________
(1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/317) .
(2) هو: أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، التميمي، المروزي، أحد الأئمة الأعلام، ومن كبار الحفاظ، روى عن إبراهيم بن طهمان، وأسامة بن زيد وغيرهما، وروى عنه: إبراهيم بن شماس السمرقندي، وبقية بن الوليد، وسعيد بن عمرو الأشعثي، وغيرهم.
أمه خوارزمية، وأبوه تركي، وكان عبداً لرجل من بني حنظلة، خرج إلى العراق سنة (141هـ) ، كان طالباً ومحباً للعلم حتى قال عنه أحمد بت حنبل: لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه.
له مؤلفات منها: كتاب الرقائق، وكتاب الجهاد، توفى رحمه الله سنة (181هـ) .
انظر: تهذيب الكمال (1/466، ترجمة رقم: 303) ، الوفيات (ص: 143) ، حلية الأولياء (8/162) ، الكاشف (2/123، ترجمة: 2975) .(1/150)
ترون.
وعن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال: رأيت على باب مالك دوآباً من فراس خراسان جاءته هدية مني إليك، وقيل: من مصر ما رأيت أحسن منها، فقلت له: ما أحسن هذه الدوآب فقال: هي هدية مني إليك دع لنفسك منها دآبة تركبها، فقال: إني لأستحي من الله تعالى أن أطأ تربة فيها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - بحافر دآبة حملت به أمه ثلاث سنوات، وكان يمنع من الصلاة بعد العصر فدخل يوماً الجامع فقال له: قم فاركع ركعتين، فقام وصلى، فقيل له: كيف خالفت مذهبك؟ فقال: خشيت أن أكون من الذين قيل لهم: اركعوا ولا يركعون، وكان نقش خاتمه: حسبي الله ونعم الوكيل.
ولما حضرته الوفاة تشهد ثم قال: لله الأمر من قبل ومن بعد، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين ومائة بالمدينة، عن خمس وثمانين سنة، ودفن بالبقيع وهو أحد الائمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة المشهورة.
وثانيهم إمام الأئمة الإمام الشافعي اسمه: محمد بن إدريس، أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً» (1)
، كما قاله العلماء من المتقدمين وغيرهم لأنه
_________
(1) رواه ابن أبي عاصم في السنة (2/637، رقم 1522) عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً بلفظ: «لا تسبوا قريشاً، فإن علم عالمها يملأ الأرض علماً» .
وأخرجه الطيالسي (ص: 39، رقم 309) وفيه زيادة في آخره، وكذا أخرجه الشاشي في مسنده (2/169، رقم 728) .
والحديث ضعيف فيه: النضر بن حميد الكندي يرويه عن أبي الجارود عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، ترجم له العقيلي في الضعفاء (4/289، ترجمة 1883) وروى حديثه هذا.
ولكن للحديث شواهد كلها تؤكد أنه حديث حسن فقد رواه أحمد بصيغة التمريض تحرزاً من ضعفه كما نقل عنه ذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق (51/339) قال: روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً قلت: فيها يقول الشافعي لأنه إمام عالم من قريش وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علماً» وروى أحمد بن حنبل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: ولا يتصور أن الأمام أحمد بجلالته في الحديث أن يستشهد بحديث موضوع، وقد ناقش هذه القضية العجلوني في كشف الخفا (2/69) وقال: قال الحافظ العراقي: ليس بموضوع كما زعم الصغاني إذ كيف يذكر الإمام أحمد حديثاً موضوعاً يحتج به، أو يستأنس به للأخد في الأحكام بقول شيخه الإمام الشافعي، وإنما أورده بصيغة التمريض احتياطاً للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو عن ضعف.
وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه: «لذة العيش في طرق الأئمة من قريش» وبه يعلم أنه حسن وصرح بذلك الترمذي ونقله النجم عن المدخل للبيهقي عند أحمد بلفظ: «عالم من قريش يطبق الأرض علماً» ثم قال: ورواه الحاكم والأبدي كلاهما في المناقب عن علي بلفظ: «لا تؤموا قريشاً وأئتموا بها ولا تقدموا على قريش وقدموها، ولا تعلموا قريشاً وتعلموا منها، فإن أمانة الأمين من قريش تعدل أمانة اثنين من غيرهم، وإن علم عالم قريش يسع طباق الأرض» وفي رواية الأبدي: «فإن علم عالم قريش مبسوط على الأرض» .
ورواه القضاعي عن ابن عباس بلفظ: «اللهم اهد قريشاً فإن علم العالم منهم يسع طباق الأرض، اللهم أذقت أولها نكالا فأذق آخرها نوالاً» ورجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن مسلم ففيه مقال.
وللحديث شواهد أخرى وكلها تنطبق كما قال العجلوني نقلاً عن الإمام أحمد تنطبق على إمامنا الشافعي.
قال البيهقي وابن حجر: طرق هذا الحديث إذا ضمت بعضها إلى بعض أفادت قوة وعلم أن للحديث أصلاً. انظر: كشف الخفا (2/69) .(1/151)
لم يكن في الأئمة قريشي قبل الشافعي، ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ولا بعده فهو العالم المبعوث في رأس المائة الثانية.
المشار إليه في حديث أبي داود «ويبعث الله على كل رأس مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها» (1) فإنه مات سنه أربع بعد مائتين.
وكان - رضي الله عنه - يختم القرآن في كل يوم مرة، وكان يختم في رمضان ستين مرة كل ذلك في الصلاة وكان بقول: من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وخالفها في قلبه فقد
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/109، رقم 4291) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (4/567، رقم 8592) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/323، رقم 6527) ، وأبو عمرو المقرئ في السنن الواردة في الفتن (3/742، رقم 364) ، والديلمي في الفردوس (1/148، رقم 532) .
قلت: وأما قول المصنف: إن إمامنا الشافعي هو المشار إليه بهذا الحديث، فقد ورد ذلك عن أفاضل العلماء وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، فقد روى الخطيب في تاريخ بغداد (2/62) من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي - رضي الله عنه -.
وقال الذهبي في السير (17/195) : قال ابن الصلاح والشيخ أبي حامد تأول بعض العلماء هذا الحديث فكان الشافعي على رأس المئتين.(1/152)
كذب، وكان يقول أيضاً: ما حلفت بالله في عمري لا كذاباً ولا صادقاً.
وسئل مرة عن مسألة فسكت، فقيل له: لم لا تجب؟ فقال: حتى أعلم الفضل في السكوت أم في الجواب.
وأما سخاؤه فقد روى الحميدي أن الشافعي - رضي الله عنه - خرج إلى اليمن في بعض أشغاله ثم انصرف إلى مكة ومعه عشرة آلاف درهم، فضرب خيمته خارج مكة فكان الناس يأتونه، فما راح من مكانه حتى فرقها جميعها، وخرج يوماً من الحمام وقد أتى بمال كثير فدفعه إلى الحمامي.
وسقط سوط من يده وهو راكب فرفعه إليه إنسان فأعطاه خمسين دينار.
وكان عفيفاً عن اللغو والكلام الفاحش، مر يوماً برجل يسفه على رجل من أهل العلم فالتفت الشافعي فقال: نزهوا أسماعكم عن سماع الخنا كما تنزهوا ألسنتكم عن النطق به فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه لينظر إلى أحب شيء في وعائه فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو ردت كلمة السفيه لشقي رادها كما يشقي قائلها.
ومن كلامه: أظلم الظالمين لنفسه الذي ارتفع جفاء أقاربه، وأنكر معارفه، واستخف بالأشراف، وتكبر علي ذوي الفضل.
قال بعضهم للشافعي ثلاث كلمات لم يسبق إلى واحدة منهن قوله: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقوله: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلى حرف منه، وقوله: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن يظهر الله الحق علي يديه.
وله شعر كثير يحتوي علي حكم ومواعظ، وله أدعيه كثيرة روى عبد الله بن مروان قال: كنت أجلس في حلقة العلم عند الإمام الشافعي، وأكتب ما أفهمه منه فآتيته سَحراً، فوجدته في المسجد وهو قائم يصلي فلبثت حتى فرغ من صلاته، ثم دعا بدعوات حفظتها منه فكان من جملة ذلك: اللهم امنن علينا بصفاء المعرفة، وهب لنا تصحيح المعاملة فيما بيننا وبينك على السنة، وارزقنا صدق التوكل عليك، وحسن الظن بك، وامنن علينا بكل ما يقربنا إليك مقروناً بالعافية في الدارين برحمتك يا أرحم الراحمين، قال: فلما فرغ من دعائه خرج من المسجد وخرجت خلفه فوقف ينظر إلى السماء ثم أنشد فقال:
بموقف زلي عند عزتك العظمى ... بمخفي لا نحيط به علما
بإطراق رأسي باعترافي بزلتي ... بمد يدي أسقط الجود والرحما(1/153)
بأسمائك الحسنى التي بعض وصفها ... لعزتها تستغرق النثر والنظما
بعهد قديم من ألست بربكم ... بمن كان مجهولاً فعلمته الأسما
أذقنا شراب الأنس يا من إذا سقى ... محباً شراباً لا يضام ولا يظما
قرأ بعضهم عنده يوماً قوله تعالى ?هَذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ? [المراسلات: 35، 36] فتغير لونه واقشعر جلده واضطربت مفاصله وخر مغشياً عليه، فلما أفاق قال: أعوذ بك من مقام الكاذبين، وإعراض الغافلين، اللهم خضعت لك قلوب العارفين، وذلت لهيبتك المشتاقون، إلهي هب لي جودك بسترك، واعف عني في تقصيرى بكرمك، يا ذا الجلال والإكرام.
كان هذا خوف الشافعي مع علمه ويح للجاهلين الغافلين، أعمارهم تنهب، وآثامهم تكتب.
وكان الإمام أحمد بن حنبل يعظم الشافعي ويذكره كثيراً ويثني عليه، وكانت له ابنة صالحة تقوم الليل وتقوم النهار، وتحب أخبار الصالحين الأخيار، وتود أن ترى الشافعي لتعظيم أبيها له، فاتفق مبيت الشافعي عند أحمد ففرحت البنت في ذلك طمعاً أن ترى أفعاله وتسمع، فلما كان الليل قام الإمام أحمد إلى وظيفة صلاته، وذكره والإمام الشافعي مستلق علي ظهره والبنت تراقبه إلى الفجر فقالت: لأبيها يا أبت أنت تعظم الشافعي وما رأيت في هذه الليلة منه لا صلاة ولا ذكراً ولا ورداً، فبينما هو في الحديث إذ قام الإمام الشافعي، فقال له الإمام أحمد: كيف كانت ليلتك فقال ما بت ليلة أطيب منها ولا أبرك ولا أربح، فقال: وكيف ذلك؟ قال: لأني رتبت في هذه الليلة مائة مسألة، وأنا مستلق علي ظهري كلها في منافع المسلمين ثم ودعه ومضى، فقال أحمد لابنته: هذا عمله الليلة وهو نائم أفضل من الذي عملته وأنا قائم.
كانت حركاتهم وسكناتهم لله دافعاً لهم، وأقوالهم لله وذكرهم وفكرهم في الله، فقيامهم طاعة، ونيامهم صدقة، وذكرهم تسبيح، وسكونهم فكر، وعلمهم شفاء ورحمة للأمة لا جرم أن الله ذكرهم ومنحهم ومدحهم وجعلهم أئمة الإسلام وقدوة الأنام.
وكان مولد الشافعي بغرة، وقيل: بعسقلان، وقيل: باليمن سنه خمسين ومائة وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأذن له مالك ابن أنس في الفتوى وهو ابن خمس عشرة سنة وكانت وفاته رحمة الله تعالى يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين كما تقدم، بمدينة مصر ودفن في الفسطاس، وله قبة عظيمة هناك، وأسف على موته أحمد بن حنبل، وكان لأحمد ولد يقال له: عبد الله(1/154)
قال لأبيه يوماً يا أبت أراك تكثر الثناء والمدح للإمام الشافعي وتكثر الدعاء، أي رجل كان الشافعي؟ فقال: يا بني إن الشافعي كالشمس للنهار، كالعافية للناس، فانظر هل لهذين خلف أو عنهما عوض.
عن تلميذه الربيع (1) قال رأيت الشافعي في المنام بعد وفاته فقلت: يا أبا عبد الله ما صنع بك قال: أجلسني على كرسي من ذهب وتبر على لؤلؤ الرطب رحمه الله.
وثالث الأئمة أرباب المذاهب: الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وأرضاه، وكان إمام أهل زمانه علماً وعملاً وورعاً.
قال الإمام الشافعي: خرجت من بغداد وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أروع ولا أعلم من أحمد بن حنبل، وكان يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، ودعا إلى الخلق، القول بخلق القرآن وإمكان الرؤية فامتنع، ضرب وسجن وهو مصر على الامتناع، وزلزلت الأرض يوم ضرب.
قال الهلال بن العلاء: مُنَّ على هذه الأمة بالشافعي تفقه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأحمد بن حنبل ثبت في المحنة، ولولا ذلك لكفر الناس.
ومن مناقبة العظيمة الجليلة ما حكاه ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن سلمه بن شيب قال كنا عند أحمد ابن حنبل فجاءه رجل فدق الباب أولاً وثانياً فقال أحمد: ادخل قال فدخل فسلم، وقال: أيكم فأشار بعضنا إليه قال: جئت من البحر من مسيرة أربعمائه فرسخ أتاني آت في منامي فقال: آت أحمد بن حنبل وسل عنه، فإنك تدل عليه، وقل له: إن الله عنك راض وملائكة سماواته عنك راضون، وملائكة الأرض عنك راضون، قال: ثم خرج فما سأله عن حديث ولا مسأله.
وسيأتي في مناقب سفيان الثوري شيء من مناقبة، وكانت وفاته سنة إحدي وأربعين ومائتين عن سبع وسبعين سنة.
قرأ على الإمام الشافعي كان إذا ركب الشافعي يمشي معه في ركابه أدباً، وكان كل منهما يزور الآخر فأنشد الشافعي في هذا المعنى:
قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت لفضائل ما تعدت منزله
إن زارني أو زرته فبفضله ... فلفضله فالفضل في الحالين له
ورابعهم: أبو حنيفة النعمان بن ثابت - رضي الله عنه - وكان من التابعين فإنه رأى أنس هكذا قيل، لكن قال ابن حجر في التهذيب: لم يثبت أنه رأى أحداً من الصحابة، وهو فقيه العراق، وإمام أهل الرأي قال فيه مالك: رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن
_________
(1) هو: أبو محمد الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل المرادي بالولاء، المصري، صاحب الإمام الشافعي وراوي كتبه، وأول من أملى الحديث بجامع ابن طولون، ولد سنة: 174هـ في مصر، كان مؤذناً، وفيه سلامة وغفلة ووفاته كانت أيضاً بمصر سنة: 270هـ.(1/155)
يجعلها ذهباً بحجته.
وقال ابن المبارك: ما رأيت رجلاً في الفقه مثله.
وقال الثوري: هو أفقه أهل الأرض.
وقال أبو نعيم: هو صاحب غوص في المسائل.
وقال الشافعي: الناس عيال علي أبي حنيفة في الفقه.
وقال أسد بن عمرو: صلى أبو حنيفة الفجر بوضوء العشاء أربعين سنة، وكان عامة الليل يقرأ جميع القرآن في ركعة، وكان يسمع بكاؤه في الليل حتى ترحمه الجيران.
وطلبه ابن هبيرة ليالي القضاء فأبى، فضربه مائه سوط وعشرة أسواط في كل يوم سبعين ألف مرة.
ومن مناقبة: أن امرأة جاءته وهو في الدرس فألقت له تفاحة نصفها أحمر ونصفها أصفر فأخذها وكسرها، وأعادها إليها ففهمت المرأة الجواب، فسئل عن ذلك فقال: قالت إنها ترى الحمرة والصفر فمتى اغتسل؟ فقلت لها: حتى ترى الطهر الأبيض كباطن التفاحة.
ونقل ابن جماعة في كتاب أنس المحاضرة عن علي بن ميمون قال: سمعنا الشافعي يقول: إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره في كل يوم يعني زائراً، فإذا عرضت له صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله الحاجة عنده فما تبعد عني حتى تقضي.
وكانت وفاته سنه إحدي وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة وهو وأحمد بن حنبل مدفونان ببغداد فهؤلاء الأربعة الأعلام أئمة الإسلام، اتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة.
قال بعض الصالحين رأيت في المنام أني دخلت الجنة فرأيت في وسطها عموداً من نور، ورأيت أربعة يجرونه بأربعة سلاسل وهو ثابت لا يتغير من مكانه، فقلت: يا لله العجب، وهؤلاء من جهة واحدة لكان أسهل عليهم، فسألت بعض الملائكة عن ذلك فقال: هذا العمود هو دين الإسلام وهؤلاء الأربعة الذين يجرون هم أئمة الإسلام الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ومالك رضي الله عنهم، فاتفاقهم حجة قاطعة وقولهم حق، واختلافهم رحمة للمسلمين.
هذه والله صفات العلماء الذين تبكي على فقدهم الأرض والسماء، فهم العلماء الزهاد، وأهل الإخلاص والسداد، حنت إليهم القلوب، وانقادت إليهم النفوس، وزلت لهم الصعاب، وخضعت لهم الرؤوس، فهم في الأقطار كالأقمار والشموس، لا جرم(1/156)
صار ذكرهم مكتوباً باقي القرون، وأما من تصنع بالرياء، وعمل لأجل الدنيا، وغرته أمانيه، ويشتهي أن يمدح بما ليس فيه، فذلك من أهل الأذهان المعكوسة، والأفكار المولوسة، نشد بعضهم في الأربعة فقال:
فالشافعي له علوم نشرت ... بين الورى وله ثناء يعبق
ولمالك نشرت علوم مالها ... حد كبحر زاخر يتدفق
ولأحمد تعزى العلوم لأنه ... يروي في الحديث وصدقه يتحقق
وأبو حنيفة سابق فلأجل ذا ... وآثاره وعلومه لا تستبق
فهم الأئمة خصهم رب العلى ... بالفضل منه فثناؤهم لا يلحق
قوله: «عن هشام بن عروة عن أبيه» أما هشام فهو تابعي، ولد سنة إحدى وستين وتوفي ببغداد في ولاية المنصور سنة ست أربعين ومائة، وأما أبوه عروة فهو: أبو عبد الله عروة بن الزبير بن العوام بن خويله بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي المدني التابعي الجليل، المجمع على إمامته، وتوثيقه ووفور علمه، وهو أحد فقهاء المدنية السبعة، وهم سعيد بن المسيب (1) ، وعروة بن الزبير (2) ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود (3)
، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - (4) ، وسليمان بن يسار (5) ، وخارجه بن زيد بن ثابت (6) ، وأبو بكر بن عبد الحارث بن هشام (7) ، وقد جمعهم بعض الفضلاء فقال:
ألا إن من لا يقتدي بأئمة فقسمته ... ضيزي عن الحق خارجة
فخذهم عبيد الله عروة وقاسم ... سعيد أبو بكر سليمان خارجة
فائدة: قال شيخ الإسلام كمال الدين الدميرى: من الفوائد المستغربه ما أخبرني به بعض أهل الخير أن أسماء الفقهاء السبعة الذين كانوا بالمدينة المشرفة إذا كتبت في رقعة وجعلت في القمح لا يسوس ما دامت الرقعة فيه.
قال: وأفاداني بعض أهل الخير والتحقيق أن أسماءهم إذا كتبت وعلقت على الرأس، وذكرت عليها أزالت الصداع العارض لها.
وأم عروة هي أسماء بنت أبي بكر الصديق، وجمع عروة الشرف من وجوه فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صهره، وأبو بكر جده، والزبير والده، وأسماء أمه، وعائشة خالته.
وقيل: كان عروة بحراً لا يدركه الدلاء.
وقال ولده هشام: صام أبي الدهر وما مات إلا وهو صائم.
_________
(1) هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي، أبو محمد، ولد سنة: 13هـ، سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الحديث والفقه والزهد والورع، وكان يعيش من التجارة بالزيت، لا يأخذ عطاءاً، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر بن الخطاب وأقضيته، حتى سمي راوية عمر. توفي بالمدينة سنة: 94هـ.
(2) هو: عروة بن الزبير بن العوام الأسدي القرشي أبو عبد الله، ولد سنة بن الزبير 22هـ، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان عالماً بالدين، صالحاً كريما، لم يدخل في شيء من الفتن، وانتقل إلى البصرة، ثم إلى مصر فتزوج وأقام بها سبع سنين وعاد إلى المدينة فتوفي فيها سنة: 93هـ، وهو أخو عبد الله بن الزبير لأبيه وأمه، و «وبئر عروة» بالمدينة منسوبة إليه.
(3) هو: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، مفتي المدينة، وأحد الفقهاء السبعة فيها، من أعلام التابعين، له شعر جيد أورد أبو تمام قطعة منه في: الحماسة، وأورد أبو الفرج كثيراً منه في الأغاني، وهو مؤدب عمر بن عبد العزيز.
قال ابن سعد: كان ثقة عالماً فقيهاً كثير الحديث والعلم بالشعر، وقد ذهب بصره. مات بالمدينة سنة: 98هـ.
(4) هو: القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أبو محمد، أحد الفقهاء السبعة في المدينة، ولد فيها سنة 37هـ، وتوفي «بقديد» بين مكة والمدينة حاجاً أو معتمراً سنة: 107هـ، وكان صالحاً ثقة من سادات التابعين، عمي في أواخر أيامه، قال ابن عيينة: كان القاسم أفضل أهل زمانه.
(5) هو: سليمان بن يسار، أبو أيوب، مولى ميمونة أم المؤمنين، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان سعيد بن المسيب إذا أتاه مستفت يقول له: اذهب إلى سليمان فإنه أعلم من بقي اليوم، ولد في خلافة عثمان سنة: 34هـ، وكان أبوه فارسياً، قال ابن سعد في وصفه: ثقة عالم فقيه كثير الحديث، وكانت وفاته سنة: 107هـ.
(6) هو: خارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري أبو زيد، من بني النجار، ولد سنة: 29هـ، وهو أحد الفقهاء السبعة في المدينة، وأحد التابعين، أدرك زمان عثمان وتوفي بالمدينة سنة: 99هـ.
(7) هو: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ابن هشام المخزومي القرشي، ولد في خلافة عمر، وهو أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، كان من سادات التابعين، وكان مكفوفاً، ويلقب براهب قريش توفي في المدينة سنة: 94هـ.(1/157)
ومن فضائله: أنه وقع له واقعة ومحنة عجيبة فلقاها بالصبر والرضا، وذلك أنه وقعت له أكلة في رجله فأمر الطبيب بقطعها فقال له: لا فعل لأن هذا شرفني الله به بل أصبر، فلما ارتفعت إلى الساق قيل له: إن ارتفعت إلى الركبة قتلتك، فأجاب إليه قطعها خوفاً من الله لئلا يكون قتل نفسه، فقال له الطبيب: اشرب دواء حتى لا تحس بالألم، فقال: لا امنع نفسي أجراً ساقه الله لي، فقيل لو أمسكك بعض أولادك، فقال: الرضا بقضاء الله يمنعني من ذلك فقطعها الطبيب، وهو يهلل ويكبر فلما رأى قدمه مع الطبيب خذها وقبلها، وقال: اللهم إنك تعلم أني ما مشيت في معصيتك، ثم بعد ساعة قيل له: أعظم الله أجرك فقال: إن كان في رجلي فقد احتسبتها عند الله، فقيل له: في ولدك فقال: اللهم إن كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت لي ثلاثة فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذت واحد وأبقيت لي ثلاثة.
وكان مولده سنه عشرين، وكانت وفاته سنة أربع وتسعين.
قوله: «عن عائشة» هذه الصديقة بنت الصديق والحبيبة بنت الحبيب أبي بكر عثمان بن عامر عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي التيمية.
كنيتها: «أم عبد الله» كناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير وقيل: بسقط لها (1) .
_________
(1) قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 25) : يروى أنها أسقطت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت والصحيح أنها كانت تكنى بابن أختها عبد الله (انتهى) .
قلت: والرواية التي فيها أنه كان لها سقط من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/313) بلفظ عن عائشة أنها قالت: «أسقطت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقطاً فسماه عبد الله وكناني به» ، وأخرجه أيضاً: الرافعي في في التدوين (1/464) .
قال ابن حجر في التلخيص (4/147) : في إسناده داود بن المحبر وهو كذاب، وجزم بعدم صحة الخبر المناوي في فيض القدير (4/112) .
ويؤيد عدم صحة الخبر ما أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/54، رقم 7117) عن عائشه وفيه أنها قالت: «فما زلت أكني به وما ولدت قط» أي: عبد الله ابن أختها.
وبما أخرجه عبد الرزاق في المصنف (11/42، رقم 19858) ، ومن طريقه أحمد في المسند (6/151، رقم 25222) ، والطبراني في المعجم الكبير (23/18، رقم 35) عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن عائشة قالت يا رسول الله كل نساءك لهن كنية غيري، فقال لها: «اكتني أنت أم عبد الله» ، فكان يقال لها: أم عبد الله حتى ماتت ولم تلد قط.
وبما أخرجه أبو داود (4/293، رقم 497) ، وأحمد في المسند (6/151، رقم 26285) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: كل صواحبي لهن كنى، قال: «فاكتني بابنك عبد الله» يعني ابن أختها. قال عبد الله بن الزبير: فكانت تكنى بأم عبد الله حتى ماتت.
قال ابن حجر في التلخيص (4/148) سنده صحيح.
وبما أخرجه الطبراني في الكبير (23/18، رقم 34) عن عائشة قالت: «كناني النبي - صلى الله عليه وسلم - أم عبد الله ولم يكن لي ولد قط» .
وبما أخرجه الطبراني أيضاً: (23/19، رقم 39) عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة ولم يولد لها» .
وبمجموع هذه الروايات والأحاديث التي يشد بعضها بعضاً بان لنا بطلان من يقول أن لها سقط وكنيت به استناداً إلى رواية داود بن المحبر، قال ابن حجر في التلخيص (4/148) وهذا كله يضعف رواية داود بن المحبر، وقد سبق أن الحافظ قال: إنه كذاب.(1/158)
تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبيل الهجرة سنتين وهي بنت ست ستين في شوال وبنى بها في المدينة بعد منصرفه من بدر في شوال أيضاً سنة ستين من الهجرة، وقيل: بعد سبعة أشهر من الهجرة، وهي بنت تسع سنين.
والأحاديث في فضلها كثيرة مشهورة وعائشة تقرأ بالهمز، وقال الزركشي وعوام المحدثين: تقرأ بياء صريحة، مأخوذة من العيش، ويقال في لغة فصحية: عيشة، وكنية أمها أم رومان بفتح الراء وضمها، واسمها: زينب، وكان لعائشة أخ يقال له: عبد الرحمن.
ولها فضائل وخصائص منها: أنها صورت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل عقده عليها، فقد ورد أن خديجة لما ماتت رضي الله عنها اغتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه جبريل كما في الترمذي بصورتها في خرفة حرير خضراء، قال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة (1) .
وقيل: جاءه بورقة من الجنة منقوش عليها صورة عائشة، وقال يا أحمد الجبار يقرئك السلام ويقول: إني زوجتك البكر التي تشبه هذه الصورة في السماء، فتزوجها أنت في الأرض، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - الدلالة وقال: هل تعرفين في مكة بكر تشبه هذه الصورة، قالت: نعم بنت أبي بكر تشبه هذه الصورة، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وقال: إن
_________
(1) رواه الترمذي في سننه (5/704، رقم 3880) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن عمرو بن علقمة، وقد روى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن علقمة بهذا الإسناد مرسلاً، ولم يذكر فيه عن عائشة، وقد روى أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من هذا.
وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (16/6، رقم 7094) .(1/159)
لك بنتاً تسمى عائشة زوجني الله بها في السماء، وأمرك أن تزوجني بها في الأرض قال: إنها صغيرة فقال: لو لم تكن صالحة ما زوجنيها الله، فعقد النكاح ورجع أبو بكر إلى منزله وأرسل مع عائشة طبقاً من التمر وقال: قولي له: هذا الذي سأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أدري هل يصلح فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرته بذلك فقال يا عائشة: قبلنا ثم قبلنا.
ومنها: أنها قالت يا رسول الله أدع الله أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر فرفع يده حتى رأت بياض إبطيه وقال: «اللهم اغفر لعائشة بنت أبي بكر مغفرة ظاهرة وباطنة، لا تغادر ذنباً ولا تكسب بعدها خطيئة ولا إثماً» ثم قال: «يا عائشة» قلت: إي والذي بعثك بالحق فقال: «والذي بعثني بالحق ما خصصتك بها من بين أمتي، وإنها لصلاتي في الليل والنهار، لمن مضى منهم ومن بقي إلى يوم القيامة، فأنا أدعو لهم والملائكة يؤمنون على دعائي» (1) .
ومن فضائلها كما قاله في نزهة المجالس: ما روي عن النعمان بن بشير قال: جاء أبو بكر يوماً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذن فأذن له في الدخول، فوجد عائشة رافعة صوتها فغضب وقال: يا بنت أم رومان ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد ضربها، فحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبينها، فلما خرج أبو بكر جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يتراضاها ويقول: ألا ترين قد حلت بينك وبينه، ثم عاد أبو بكر فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - يتراضاها ويضاحكها فقال
_________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (16/47، رقم 7111) عن عائشة بلفظ: «أنها قالت: لما رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - طيب نفس قلت: يا رسول الله ادع الله لي فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر ما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: والله إنه لدعائي لأمتي في كل صلاة» .
ورواه أيضاً: البزار كما في مجمع الزوائد (9/244) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن منصور الرمادي وهو ثقة.
ووقع عند ابن أبي شيبة في المصنف (6/390، رقم 32285) أن الذي طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعاء أبويها وهو من رواية أبو بكر بن حفص قال: جاءت أم رومان وهي أم عائشة وأبو بكر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: يا رسول الله ادع الله لعائشة دعوة نسمعها فقال عند ذلك: «اللهم اغفر لعائشة ابنة أبي بكر مغفرة واجبة ظاهرة وباطنة» .
ورواه الديلمي في الفردوس (1/498، رقم 2032) عن عائشة بلفظ: «اللهم اغفر لعائشة مغفرة ظاهرة وباطنة واسعة محللة لا تغادر دنساً ولا تكتسب بها إثماً» .(1/160)
رسول الله: أشركاني في سلمكما، كما أشركتماني في حربكما.
ونقل النسفي أن عائشة قالت: للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ما في بيتك شيء يؤكل، فغضب وخرج من البيت فأرادت مصالحته فسبقها بالخروج، فوضعت خدها على التراب وتضرعت إلى الله بالبكاء، فلما وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجله على باب المسجد وأراد الدخول جاء جبريل يطبق من الحلوى فقال: إن الله تعالى يقول: كان الصلح منا وطعام الصلح علينا.
وهي أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - روي لها من الأحاديث ألفاً حديث وعشرة أحاديث، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة عشر وسبعين حديثاً، وانفرد مسلم بثمانية وستين، والبخاري بأربعة وخمسين.
ومما اجتمع لها من الفضائل: أنها زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت خليفته - رضي الله عنه - وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتها ورأسه في صدرها، وجمع الله بين ريقه وريقها، ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهو في فراشها بخلاف غيرها، وخلقت طيبة ووعدت مغفرة، ولم يتزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بكراً غيرها، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقيم لها ليلتين وليلة سوده بنت زمعه لأنها وهبتها ليلتها لما كبرت، ولنسائه ليلة ليلة، وكان يدور علي نسائه ويختم بعائشة.
ومن فضائلها: أن الله أنزل برأتها من السماء لما تكلم في حقها أهل الإفك وقذفوها حيث قال ?إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ....? إلى آخر الآيات العشرة [النور: 11-20] ، وقذفها بعد نزول برأتها كفر، لأنه مكذب للقرآن.
ورد في بعض الأخبار عن ابن عباس أنه قال: لم يكن لنبي امرأة زانية.
وقال عروة: كانت عائشة أعلم الناس بالقرآن وبالحديث وبالشعر.
وقال أبو موسى الأشعري (1) : ما أشكل علينا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً، واستقلت بالفتوى زمن أبي بكر وعثمان فمن بعدهم.
وماتت رضي الله عنها في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين، وهي بنت ست وستين سنة، ودفنت بالبقيع ليلاً وصلى عليها أبو هريرة - رضي الله عنه - أقامت في صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمانية أعوام وخمسة أشهر وتوفي عنها وهي بنت ثمان عشرة.
_________
(1) أبو موسى هو: أبو عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولزمه وجاهد معه، وأرسله مع معاذ بن جبل - رضي الله عنه - والياً على شعب من اليمن، توفي - رضي الله عنه - سنة (44هـ) .
انظر: غاية النهاية (1/442) ، وحلية الأولياء (1/256) ، والطبقات الكبرى (7/302) ، وتهذيب الأسماء للنووي (2/298) .(1/161)
ونقل شيخنا الجلال السيوطي في الخصائص: أن في معاني الآثار للطحاوي قال أبو حنيفة: كان الناس لعائشة محرماً فمع أيهم سافرت فقد سافرت مع محرم، وليس لغيرها من النساء ذلك (1) .
وقول البخاري عن عائشة أم المؤمنين وصفها بأم المؤمنين مقتبس من قوله تعالى ?وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ? [الأحزاب: 6] المراد: أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - المدخول بهن وغير المدخول بهن يقال لهن: أمهات المؤمنين.
والقصد من تسميتهن بأمهات المؤمنين تحريم نكاحهن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوب احترامهن وطاعتهن، كما يحرم نكاح الأمهات، ويجب احترامهن وطاعتهن، وليس المقصود من تسميتهن بذلك أنه يجوز الخلوة بهن والنظر إليهن كما يجوز النظر والخلوة إلى الأمهات، بل كان نظر الأجنبي إليهن حراماً، وخلوته بهن كذلك، وكان نكاح بناته له جائز.
والحكمة في تحريم نكاحهن بعده - صلى الله عليه وسلم - على أمته حتى لا يكن يوم القيامة تحت غيره، فإن المرأة تكون مع آخر زوج لها على خلاف في ذلك سيأتي.
ويقال لهن: أمهات المؤمنين أيضاً على الراجح قاله ابن حجة.
وهل يقال لرسول الله: أبو المؤمنين كما يقال لنسائه أمهات المؤمنين؟ الأصح الجواز قال البغوي (2) : إنه - صلى الله عليه وسلم - كان أباً للرجال والنساء وأما قوله تعالى ?مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أحد مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ? [الأحزاب: 40] فالمراد منه: ما كان أبا أحدكم لصلبه، بل كان في الحرمة قال النووي: ولا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين، ولا بأيهن أجداد المؤمنين، ولا لأماتهن جدات المؤمنين، ولا لأخواتهن أخوال المؤمنين ولا لأخواتهن خالات المؤمنين.
ويختلف العلماء في عدد نسائه - صلى الله عليه وسلم - اللاتي دخل بهن، فقال القرطبي: جملتهن ثنتا عشرة فارقهن قبل الدخول وخطب بنساء من غير عقد عليهن، وكان له أربع سراري.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليها فينقلها للناس، وقد جاء عن عائشة في ذلك الكثير الطيب.
وزوجاته أفضل نساء العالمين، وأفضل زوجاته خديجة وعائشة واختلف العلماء فيهما ورجح جماعة من المتأخرين أن خديجة أفضل من عائشة، والذي يدل على أن
_________
(1) انظر: شرح معاني الآثار للطحاوي (2/116) .
(2) البغوي هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة (436هـ) من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة (516هـ) .
انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) .(1/162)
خديجة أفضل: أن عائشة أقرأها النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام من جبريل، وخديجة أقرأها جبريل السلام من ربها.
وهل فاطمة أفضل أم عائشة؟ قال شيخنا الجلال السيوطي تبعاً للسبكي قلنا: الصواب القطع بتفضيل فاطمة، وذهب بعضهم إلى أن عائشة أفضل لأنها يوم القيامة في الجنة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في درجته التي هي أعلى الدرجات بخلاف فاطمة.
قال السبكي (1) : وهذا القول ساقط مردود ضعيف لا سند له من نظر ولا نقل.
وهل هي أفضل أم أمها خديجة؟ قال السبكي: الذي نختاره وندين الله به: أن فاطمة أفضل ثم أمها خديجة ثم عائشة، واستدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فاطمة بضعه مني» (2) ولا أعدل ببضعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحداً.
وفي آخر: «فاطمة بضعه مني يربني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها» (3) .
ويدل علي تفضيلها أيضاً: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ساورها ثانية عند موته قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة» .
وثبت في الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة» (4) .
وهل مريم أفضل أم فاطمة؟ قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي: لم يتعرض أحد للتفضيل بين مريم وفاطمة، والذي نختاره بمقتضى الأدلة تفضيل فاطمة عليها.
فقد روى النسائي عن خديجة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «هذا ملك من الملائكة استأذن ربه ليسلم علي، وبشرني أن حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة، وأمهما سيدة نساء أهل الجنة» (5) .
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء
_________
(1) السبكي هو: أبو نصر، تاج الدين عبد الوهاب بن على بن عبد الكافي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري، الشافعي، السبكي، فقيه أصولي، مؤرخ، أديب، ناظم، ناثر، ولد بالقاهرة سنة (727هـ) وقيل: (728هـ) من تصانيفه: طبقات الشافعية الكبرى، والفتاوى، وكانت وفاته سنة (771هـ) .
انظر: معجم المؤلفين (2/343) .
(2) انظر تخريج الحديث الآتي بعده.
(3) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2004، رقم 4932) ومسلم في صحيحه (4/1902، رقم 2449) عن المسور بن مخرمة.
(4) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم في صحيحه (4/1905، رقم 2450) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(5) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5/80، رقم 8298) بلفظه عن حذيفة بن اليمان.
أخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (22/402، رقم 1005) .(1/163)
عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها» (1) .
وهل مريم أفضل أم خديجة؟ قال السبكي: مريم، واختلف في نبوتها، فإن كانت نبية فهي أفضل، وإن لم تكن فالأقرب أنها أفضل أيضاً، لذكرها بالقرآن، وشهادته بصديقتها.
وأفاد شيخنا العلامة الجلال السيوطي: أن علم الدين العراقي قال: إن فاطمة وأخاها إبراهيم أفضل من الخلفاء الأربعة باتفاق، ونقل عن مالك أنه قال: لا أفضل على بضعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد، وأفضل نسائه بعدها خديجة وعائشة وزينب كما قاله الشيخ برهان الدين الحلبي.
لكن ظاهر الكلام السبكي أن حفصة أفضل بعد عائشة فإنه قال بعد ذكره فاطمة وخديجة وعائشة، وأما بقية الأزواج فلا يبلغن هذه المرتبة، وان كن خير نساء هذه الأمة بعد هؤلاء الثلاثة، وهن متقاربات في الفضل، لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله، لكن نعلم بحفصة بنت عمر من الفضائل تعتبر فما أشبه أن تكون هي بعد عائشة.
_________
(1) أخرجه الحارث بن أبي أسامة (زوائد الهيثمي) (2/909، رقم 990) عن هشام بن عروة عن أبيه.(1/164)
المجلس السابع
في الكلام علي الحديث الذي سأله الحارث بن هشام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي (1)
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ - رضي الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الوحي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ -وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَىَّ- فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلاً فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ» .
قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ، فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا (2) .
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/64) : اعترض الإسماعيلي فقال: هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة، وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده، وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي.
قال الكرماني: لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي، أو عن كيفية ظهور الوحي، فيوافق ترجمة الباب.
قلت: سياقه يشعر بخلاف ذلك لإتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي، لكن يمكن أن يقال: إن المناسبة تظهر من الجواب، لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الأمرين فيشمل حالة الابتداء، وأيضاً فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة، فضلاً عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة، وأيضاً فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي، بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا، وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه، ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله، ناسب تقديم ما يتعلق بها، وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه، فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال، الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق، والله سبحانه وتعالي أعلم.
(2) هذا الحديث روته عائشة فهل سمعت سؤال الحارث أم هو أخبرها بذلك.
يقول ابن حجر: هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة، فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك، وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة.
ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة، وهو محكوم بوصله عند الجمهور.
وقد جاء ما يؤيد الثاني، ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث ابن هشام قال: سألت.
وعامر فيه ضعف، لكن وجدت له متابعاً عند ابن منده، والمشهور الأول. انظر: فتح الباري (1/64) .(1/165)
قوله: «حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها وعن أبيها وعن جدها أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ» هذا هو أخو أبي جهل عدو الله لأبويه، وابن عم خالد بن الوليد، شهد بدراً كافراً، وأسلم يوم الفتح، وحسن إسلامه وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين مائة من الإبل.
وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم، وكان لأبي جهل أربعة أخوة الحارث المذكور هنا، وسلمة وخالد والعاص وكلهم أسلموا علي الصحيح، وكذلك أمهم أسلمت واسمها: سلمى وهي صحابية، وكذلك بنت أبي جهل أسلمت صحابية، إلا الشقي الخاسر والعنيد الكافر أبا جهل لعنه الله فإنه لم يسلم، وقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيراً بالغاً مع شهد منه من المعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة.
ومما اتفق له مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قاله الماوردي في أعلام النبوة: «أن قريشاً كانوا مجتمعين مرة فكان بعضهم يحث بعضهم على قتله ويقول لهم: الموت لكم خير من الحياة إن بقي محمد، وكان بعضهم يقول: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل لعنه الله: هل محمد إلا رجلاً واحدًا أليس فيكم من يزهد في الحياة ويقتله ويريح قومه فقالوا: من فعل هذا ساد بيننا؟ فقال: أبو جهل أفعل هذا وليس محمد بأقوى رجل منا، وإذا جاء أقوم إليه بحجر فأشدخ رأسه فإن قتلته فقد أرحت قومي منه، وإن أبقيت فذلك الذي أبقي، فخرجوا على هذه النية، ففي اليوم الثاني اجتمعوا في الحطيم فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: قد جاء فتقدم - صلى الله عليه وسلم - إلى الركن وقام يصلي، فنظروا إليه وهو يطيل الركوع والسجود، فقام أبو جهل وقال: الآن أريحكم منه فأخذ مهراساً أي: حجراً عظيماً ودنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد لا يلتفت إليه ولا يهابه وهو يراه، فلما دنا ارتعد وأرسل الحجر على رجله فرجع وقد هرست أصابعه وهو يرتعد ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم فالتزموه وقد غشي عليه ساعة، فلما أفاق قال له أصحابه ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه أقبل عليَّ فحل واقف علي رأسه، فاتح فاه، فحمل عليَّ وصك أسنانه فلم أتمالك وأنا أرى(1/166)
محمد محجوباً» .
وسنذكر أخباره ونذكر في أي غزوة قتل ومن قتله في مجلس آتى إن شاء الله تعالى.
قوله: «سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الوحي؟» قال العلماء: يحتمل أن يكون سؤاله عن صفة الوحي نفسه، ويحتمل أن يكون سؤاله عن صفة حامله، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك.
وعلى كل تقدير فإسناد الإتيان إلى الوحي مجاز عقلي، ويسمى المجاز في الإسناد وأصله: كيف يأتيك حامل الوحي فأسند الإتيان إلى الوحي للملابسة التي بين الحامل والمحمول، وإما استعارة بالكناية أي: شبه الوحي برجل مثلاً وأضيف إلى المشبه الإتيان الذي هو من خواص المشبه به، فحاصل السؤال على أي كفيه ينزل عليك جبريل بالقرآن.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجواب «أَحْيَانًا» جمع حين، وهو الوقت يطلق علي الكثير والقليل حتى على الحظة (1) .
_________
(1) تكلم الحافظ ابن حجر في هذا المقام عن إتيان الوحي وكيفياته وقد سبق لنا أن تعرضنا لهذا الموضوع ونذكر كلام الحافظ اتماماً للفائدة:
قال ابن حجر: قوله: «أحيانا» جمع حين، يطلق على كثير الوقت وقليله، والمراد به هنا مجرد الوقت، فكأنه قال: أوقاتا يأتيني، وانتصب على الظرفية، وعامله «يأتيني» مؤخر عنه.
والبخاري رواه من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال: كل ذلك يأتي الملك، أي كل ذلك حالتان فذكرهما.
وروى ابن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون، أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه على كما يلقي الرجل على الرجل، فذاك ينفلت مني، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني» وهذا مرسل مع ثقة رجاله، فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? [القيامة: 16] كما سيأتي، فإن الملك قد تمثل رجلاً في صور كثيرة، ولم ينفلت منه ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك وكلها في الصحيح.
وأورد على ما اقتضاه الحديث -وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة.
وإما من صفة حامل الوحي، كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق.
والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدوي بالنسبة إلى الحاضرين -كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبهه هو - صلى الله عليه وسلم - بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه.
وأما النفث في الروع، فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفس حينئذ في روعه.
وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء.
وأما الرؤيا الصالحة فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره.
والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءاً من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبياً وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة، أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له - صلى الله عليه وسلم - في المنام أيضاً على الوجهين المذكورين لا غير، قاله الكرماني. وفيه نظر.
وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعاً -فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر، وحديث: «إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. انظر فتح الباري (1/66) .(1/167)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سأله الحارث عن كيفية نزول جبريل عليه بالقرآن فقال: «يأتيني جبريل بالقرآن وله صوت مثل صلصلة الجرس» أي: له صوت متدارك أي: متوال كتوالي صوت الجرس.
قيل: الحكمة في ذلك أن يتقرب سمعه - صلى الله عليه وسلم - ولا يبقى فيه مكان لغير صوت الملك ولا في قلبه، وكان جبريل ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الحالة أشد وأصعب من الحالات عليه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جميع حالات نزوله على النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت شديدة صعبة عليه (1) .
_________
(1) صلصلة الجرس وتشبيه الوحي بها من المسائل التي أسهب ابن حجر فيها فقال في الفتح (1/66) : قوله: «مثل صلصلة الجرس» في رواية مسلم «في مثل صلصلة الجرس» والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس الجلجل الذي يعلق في رؤوس الدوآب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس.
وقال الكرماني: الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوساً على البعير، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة.
وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته. وقوله: قطعة نحاس، معترض لا يختص به، وكذا البعير، وكذا قوله منكوساً، لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له.
فإن قيل: المحمود لا يشبه بالمذموم، إذ حقيقة التشبيه إلحاق ناقص بكامل، والمشبه الوحي وهو محمود، والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه، والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما، فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟
والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخص وصف له، بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريباً لأفهامهم.
والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان، ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر.
قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي، قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد، وقيل: بل هو صوت حفيف أجنحة الملك.
والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقي فيه مكان لغيره، ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.(1/168)
«وهو أشده عليَّ» فإنه كان يغشاه عند نزوله عليه كرب (1) ، وذلك لما يلقى عليه من القرآن قال تعالى ?إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً? [لمزمل: 5] فكان نزوله
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/67) : يفهم منه أن الوحي كله شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني: سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما في حديث ابن عباس: «كان يعالج من التنزيل شدة» قال، وقال بعضهم: وإنما كان شديداً عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع.
وقيل: إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد، وهذا فيه نظر، والظاهر أنه لا يختص بالقرآن، وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات.(1/169)
على هذه الحالة أشد الحالات عليه، ويدل عليه أنه كان عند نزول جبريل عليه في شدة البرد تصبب منه العرق، ويسيل منه كما قالت عائشة «ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليفصد عرقاً» (1) .
وجاء أنه كان يعتريه حالة كحالة المحموم، وجاء في رواية عن عائشة «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي يقطر رأسه ويتربد وجهه ويجد برداً في ثناياه، ويعرق حتى ينزل منه مثل الجمان» (2) .
_________
(1) قول عائشة هذا ورد في آخر متن هذا الحديث الذي نحن بصدد شرحه، ولم يقم أيضاً السفيري بشرحه وشرحه الحافظ ابن حجر فقال: قوله: «قالت عائشة» هو بالإسناد الذي قبله، وإن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيراً، وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف.
وقد أخرجه الدارقطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولاً عن الحديث الأول، وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام.
ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل، لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث، وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييداً للخبر الأول.
قوله: «ليتفصد» بالفاء وتشديد المهملة، مأخوذ من الفصد وهو: قطع العرق لإسالة الدم، شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق.
وفي قولها: «في اليوم الشديد البرد» دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي، لما فيه من مخالفة العادة، وهو كثرة العرق في شدة البرد، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية. وقوله: «عرقاً» بالنصب على التمييز، زاد ابن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل: «وإن كان ليوحي إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحي إليه» .
تنبيه: حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ «ليتقصد» بالقاف، ثم قال العسكري: إن ثبت فهو من قولهم: تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع، ولا يخفى بعده (انتهى) .
وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر، فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء، قال: فأصر على القاف، وذكر الذهبي في ترجمة ابن طاهر عن ابن ناصر أنه رد على ابن طاهر لما قرأها بالقاف، قال: فكابرني قلت: ولعل ابن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري. والله أعلم.
وفي حديث الباب من الفوائد -غير ما تقدم- إن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين، وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره، وأن المسؤول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضي التفصيل. والله أعلم.
(2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/379) عن عبد الحميد بن عمران بن أبي أنس عن أبيه، وفيه أن عائشة رضي الله عنها قالت هذا الكلام، ولكن الحديث من رواية عمران هذا.(1/170)
والحكمة في ذلك ليختبر صبره ويحسن تأديبه، لاحتمال ما يكلف به من أعباء النبوة.
وهذا الصوت هو كصوت الجرس يحتمل أن يكون صوت جبريل بالوحي أو أن يكون صوت أجنحته.
و «الجرس» بفتح الراء والسين والعامة «جرص» بالصاد.
فإن قيل: كيف شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت جبريل بصوت الجرس مع أن صوت جبريل محمود وصوت الجرس مذموم منهي عنه، فقد روينا في صحيح مسلم «إن الملائكة لا تصحب رفقة فيها كلب أو جرس» (1) ، وفيه «الجرس مزامير الشيطان» (2)
، والمحمود لا يشبه المذموم، ويلزم منه أن يفعل الملك من مثله الملائكة؟
فالجواب: أن المقصود تشبيه صوت شديد بصورة شديد على وجه خاص ولا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل يكفي اشتراكها في صفة ما.
والحاصل: أن صوت الجرس له جهتان جهة قوة وجهة طرب، فمن حيث القوة وقع التشبيه، ومن حيث الطرب وقع النهي عنه والتنفير منه، وعلل بكونه مزمار الشيطان.
فإن قيل: لأي شيء كانت هذه الحالة أشد الحالات عليه وأصعبها؟
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1672، رقم 2113) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» .
والحديث رواه أيضاً: الترمذي في سننه (4/207، رقم 1703) ، قال الترمذي: وفي الباب عن عمر وعائشة وأم حبيبة وأم سلمة وهذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى (5/251، رقم 8810) ، واحمد في مسنده (2/262، رقم 7556) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/146، رقم 2553) ، وابن حبان في صحيحه (10/554، رقم 4703) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/302، رقم 280) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/424، رقم 32592) والبغوي في الجعديات (1/391، رقم 2670) ، والدارمي في سننه (2/374، رقم 2676) ، والديلمي في الفردوس (5/75، رقم 7500) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1672، رقم 2114) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/372، رقم 8838) ، وأبو يعلى في مسنده (11/398، رقم 6519) ، والبيهقي في سننه الكبرى (5/253، رقم 10106) .(1/171)
فالجواب: أن الفهم من كلام جبريل وصوته مثل صلصله الجرس، أشكل من الفهم من كلامه وهو على صورة رجل يخاطبه ويعلمه كما يعلم الإنسان غيره، بيان ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ملكياً بشرياً فتارة يأتيه جبريل على صورة الملك، فينسلخ - صلى الله عليه وسلم - عن وصف البشرية ويتصف بصفة الملك بأن يغلب عليه الروحانية، وإنما يقع له ذلك لأجل المناسبة، فإن العادة جرت بالمناسبة بين القائل السامع، وتارة يأتيه الوحي على صفة رجل، ويتصف بصفة الرجل البشر ولا شك أن انسلاخه من طور البشر أشد عليه من بقائه عليه.
وفي صحيح مسلم «كان إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه، ونكس أصحابه رؤوسهم، فإذا أتلي عنه رفع رأسه» (1) .
وورد في حديث «إنه كان يسمع عنده لما ينزل عليه جبريل دوي كدوي النحل» (2) .
وروى أحمد والحاكم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي سمع عنده دوي كدوي النحل، فمكثنا ساعة ثم سري عنه فاستقبل القبلة ورفع يديه فقال: «اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وارضنا وارض عنا» ثم قال: «لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة، أي: من عمل بهن ولم يخالف ما فيهن» ثم قال: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ? [المؤمنون: 1، 2] قال الحاكم: صحيح الاسناد (3) .
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1817، رقم 2335) عن عبادة بن الصامت.
(2) انظر الحديث الآتي بعده فهو هو.
(3) أخرجه الترمذي في سننه (5/326، رقم 3173) وعقبه ساق إسناداً آخر فقال: حدثنا محمد بن أبان حدثنا عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري بهذا الإسناد نحوه بمعناه، قال أبو عيسى: هذا أصح من الحديث الأول، سمعت إسحاق بن منصور يقول: روى أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن يونس بن سليم عن يونس بن يزيد عن الزهري هذا الحديث، قال أبو عيسى: ومن سمع من عبد الرزاق قديماً فإنهم إنما يذكرون فيه عن يونس بن يزيد، وبعضهم لا يذكر فيه عن يونس بن يزيد، ومن ذكر فيه يونس بن يزيد فهو أصح، وكان عبد الرزاق ربما ذكر في هذا الحديث يونس بن يزيد وربما لم يذكره، وإذا لم يذكر فيه يونس فهو مرسل.
ورواه أحمد في مسنده (1/34، رقم 223) ، والحاكم في المستدرك (1/717، رقم 1961) وصححه.
وأخرجه أيضاً: عبد الرزاق في المصنف (3/383، رقم 6038) ، وعبد بن حميد (1/34، رقم 15) ، والبزار في مسنده (1/427، رقم 301) .(1/172)
وقوله «فيفصم عني» فيه ثلاث روايات الأولى: «فيفصم» بفتح الياء وكسر الصاد.
الثانية: «فيفصم» بضم الياء وفتح الصاد.
الثالثة: فيفصم بضم الياء وكسر الصاد، ومعنى الروايتين الأولتين، مأخوذة من الفصم وهو القطع قال تعالى ?لاَ انفِصَامَ لَهَا? [البقرة: 256] أي: لا انقطاع لها، ويقال: الفصم الصدع أو الشق من غير إبانة، والمعنى: أن جبريل كان إذا نزل علي بالقرآن وله صوت كصوت الجرس فيفصم أي: فيفارقني على نية أن يعود إليَّ ولا يفارقني إلا وقد وعيت أي: حفظت وجمعت عنه جميع ما قاله لي.
وأما الرواية الثالثة: فهي من أفصم المطر إذا أقلع.
قوله: «وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول» الألف واللام في الملك للعهد، والمراد به جبريل، أي: وأوقاتاً يتمثل لي جبريل في صورة رجل، وفي هذا دليل على أن الملائكة تتشكل بشكل البشر لها قوة على التشكل بأي شكل أراد، فقد قال أكثر العلماء: إنها أجسام لطيفة هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة (1) .
وفي «جبريل» تسع لغات قرئ ببعضها، أفصحها «جبريل» ومعناه بالعربية: عبد
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/68) : قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية، و «رجلا» منصوب بالمصدرية، أي: يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال والتقدير هيئة رجل.
قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد.
وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجباً لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حياً، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلاً، بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه، ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة.
وقال شيخنا شيخ الإسلام: ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه، بل يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأصلي، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشاً فإنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير. وهذا على سبيل التقريب.(1/173)
الله، فإن «الجبر» هو و «إيل» هو الله، ومعنى ميكائيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبد العزيز.
وههنا سؤالان مشهوران:
الأول: لما كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل فهيئته التي خلق الله عليها، ماذا يفعل بها؟
أجيب عن هذا السؤال بأجوبة:
الأول: يحتمل أن الله تعالى الزائد من خلقه حتى صار في صورة رجل ثم خلقه بعد تبليغ الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أنه لا يفنيه ويعدمه بل يزيله عنه ويدخره له حتى يبلغ الوحي، ثم يعيده إليه بعد التبليغ قاله إمام الحرمين.
الجواب الثاني: يجوز أن يكون إتيان جبريل بشكله الأصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإن بلغ الوحي عاد إلى هيئته ومثال ذلك: القطن إذا جمع بعد أن كان منفعاً فإن بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم يتغير قاله البلقيني الكبير.
الجواب الثالث: قال شيخ الإسلام ابن حجر: والحق إن تمثل الملك رجلاً ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلاً، ولكن معناه أنه ظهر بصورة الرجل تأنيساً لمن يخاطبه والظاهر أن القدر الزائد يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط والله اعلم.
السؤال الثاني: أبداه الشيخ عز الدين بن عبد السلام قال: ما إن كان لقي جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة رجل فأين تكون روحه، فإن كان في الجسد العظيم الذي خلقه الله عليه فالذي أتى لا روح جبريل ولا جسده، وإن كانت في هذه التي في صورة رجل فهل يموت الجسد العظيم الذي خلقه الله عليه أم يبقى خالياً من الروح المنتقلة عنه إلى الجسد الذي يشبه صورة رجل، ويبقى جسده العظيم حياً لا ينقص من معارفه شيء.
قال: وموت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلاً بل بعادة أجراها الله في بني آدم فلا يلزم في غيرهم، وإذا قلنا: بأن الذي أتى هو جبريل ظهرت في صورة تأنيساً للمخاطب، والله أخفى الزائد من خلقه على الرائي فقط سقط السؤال الثاني والله اعلم (1) .
وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانت تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كثير من المعاني، وكان - صلى الله عليه وسلم - يجمعهم ويعلمهم وكانت طائفة تسأل أخرى تحفظ وتؤدي وتبلغ حتى كمل الله دينه والحمد لله.
_________
(1) هذا السؤال الذي أبداه العز بن عبد السلام أورده الحافظ السيوطي في كتابه الحبائك (ص 217) .(1/174)
فائدة: ظاهر هذا الحديث يقضي أن الوحي ينقسم إلى قسمين أن يأتيه جبريل في مثل صلصلة الجرس، الثاني: أن يأتيه في صورة رجل.
وقال القاضي عياض (1) : إنه يقسم إلى ثلاثة أقسام، وقال السهيلي: أنه ينقسم إلى سبعة أقسام:
الأول: وحي المنام.
الثاني: أن يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس.
الثالث: وحي تلق بالقلب وهو أن ينفث في روعه الكلام، ويدل عليه ما ورد «إن روح القدس نفث في روعي» (2)
أي: في نفسي، قيل: كان هذا حال داود عليه الصلاة والسلام.
الرابع: أن يتمثل له الملك رجلاً، وقد كان كثيراً ما يأتيه في صورة دحيه الكلبي الصحابي (3) .
_________
(1) هو: أبو الفضل، عاض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي السبتي، المشهور بالقاضي
عياض، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث في وقته، ولي القضاء بسبتة، ثم غرناطة، له مصنفات كثيرة منها: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، وشرح مسلم، توفي بمراكش سنة (544هـ) .
انظر: وفيات الأعيان (1/392) ، ومفتاح السعادة (2/19) ، وقضاة الأندلس (ص: 101) .
(2) رواه عبد الرزاق في الجامع عن معمر بن راشد (11/125، رقم 20100) عن معمر عن عمران صاحب له قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تركت شيئاً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا قد بينته لكم، وإن روح القدس نفث في روعي وأخبرني أنها لا تموت نفس حتى تستوفى أقصى رزقها ... الحديث» .
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/166، رقم 7694) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/27) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/72) : رواه الطبراني في الكبير وفيه عفير بن معدان وهو ضعيف.
ورواه القضاعي في مسند الشهاب (2/185، رقم 1151) عن عبد الله بن مسعود.
ورواه الدارقطني في العلل عنه (5/273) وقال: فقال يرويه إسماعيل بن أبي خالد، واختلف عنه فقال هبيرة التمار: أبو عمر المقري عن هشيم عن إسماعيل عن زبيد عن مرة عن عبد الله، وغيره يرويه عن إسماعيل عن زبيد مرسلاً عن بن مسعود وهذا أصح، وقيل: عن عمر بن علي المقدمي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود.
(3) أخرج حديث إتيان جبريل فى صورة دحية الكلبى النسائى (8/101، رقم 4991) ، والبزار (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبى هريرة.
وأخرجه الطبرانى فى المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفى المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وأخرجه البيهقى فى شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة.
وأخرجه أبو الشيخ فى العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد.
وأخرجه ابن سعد فى الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر.(1/175)
لطيفة: قال في كتاب زهرة العلوم: ومن اللطائف ما روي أن جبريل كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحيه الكلبي، فتعلق به الحسن والحسين رضي الله عنهم فقال: يا محمد هل عرفاني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا وإنما يفعلان ذلك لأن الرجل الذي تأتيني فيه صورته، يحمل إليهما الفواكه فجاء جبريل برمانة فأكلاها ولو سقطت حبة منها لشفت أهل الأرض، ولكن الله جعلها رزقاً لهما.
الخامس: أن يترائى جبريل في صورته التي خلقها الله تعالى له ستمائه جناح ينتشر منهما اللؤلؤ والياقوت.
فائدة: قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي في الخصائص كان - صلى الله عليه وسلم - يسمع خفيق أجنحة وهو بعيد في سدرة المنتهى، ويشم رائحته إذا توجه إليه بالوحي.
السادس: أن يكلمه من وراء حجاب، إما في اليقظة كسماع نبينا - صلى الله عليه وسلم - الكلام من الله بلا واسطة ليلة الإسراء، وكسماع موسى بن عمران كما دل عليه نص القرآن أو في النوم كما جاء في الحديث «أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى ... الحديث» (1) .
السابع: وحي إسرافيل كما جاء عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكل به إسرافيل فكان يترائى له ثلاث سنين، ويأتيه بالكلمة من الوحي والشيء، ثم وكل به جبريل (2) .
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/367، رقم 3234) عن ابن عباس، وقال: حسن غريب. وأحمد في مسنده (1/368، رقم 3484) .
قلت: وقد وردت هذه الكيفية من كيفيات الوحي في عدة أحاديث مختلفة الموضوعات ونكتفي بالعزو للترمذي وأحمد في وقوع هذه الكيفية.
(2) رواه الطبري في التاريخ (1/573) ، وكذا ابن عبد البر في الاستيعاب (1/35) كلاهما عن الشعبي.
وأورده ابن حجر في فتح الباري (1/27) وعزاه إلى التاريخ للإمام أحمد بن حنبل وأسهب في مناقشة هذه المسألة فقال: وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم بن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدره بثلاث سنين وهي ما بين نزول «أقرأ» و «يا أيها المدثر» عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط، ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: «أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة» .
وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: «بعث لأربعين ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل» .
فعلى هذا فيحسن بهذا المرسل إن ثبت الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل: ثلاث عشرة، وقيل: عشر، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل (انتهى) .
ولا يخفى ما فيه فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم.
وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه - صلى الله عليه وسلم - بمكة فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفتره سنتان ونصف، وفي رواية أخرى: أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال ثلاث عشرة أضافهما، وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً.
انظر: أيضاً هذه المسألة عند ابن عبد البر في التمهيد (3/14) .(1/176)
وهذه المسألة مختلف فيها وهي أنه وكل بنبينا إسرافيل قبل جبريل أم لا؟ ذهب بعضهم إلى أنه وكل به إسرافيل أولاً ثلاث سنين ثم وكل به جبريل، واستدل عليه بأثر الشعبي فهو مرسل أو معضل.
وقال شيخنا السيوطي في كتاب الإعلام: إن جبريل هو السفير بين الله وبين أنبيائه، لا يعرف ذلك لغيره من الملائكة، واستدل على ذلك بدلائل منها ما أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة عن عائشة قالت: قال ورقة لخديجة جبريل أمين الله بينه وبين رسله (1) .
ومنها: ما في كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حيان عن ابن سابط قال في أم الكتاب: كل شيء هو كائن إلى يوم القيامة، وكل به ثلاث من الملائكة، فوكل جبريل بالكتب والوحي إلى الأنبياء، ووكل أيضاً بالهلكات، إذا أراد الله أن يهلك قوماً، ووكله بالنصر عند القتال، ووكل ميكائيل بالمطر، وملك الموت بقبض الأنفس، فإذا كان يوم القيامة عارضوا بين حفظهم، وما كتب الله في أم الكتاب فيجدونه
_________
(1) انظر دلائل النبوة (ص: 57) .(1/177)
سواء (1) .
ومنها ما أخرجه أبو الشيخ أيضاً عن عبد العزيز بن عمير قال: اسم جبريل في الملائكة خادم ربه (2) .
ومنها: ما أخرجه ابن أبي زمين في كتاب السنة عن كعب قال: إذا أراد الله أن يوحي أمراً جاء اللوح المحفوظ يصفق جبهة إسرافيل فيرفع رأسه فينظر فإذا الأمر مكتوب، فينادي جبريل فيلبيه، فيقول: أمرت بكذا أمرت بكذا، فيهبط جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيوحي إليه (3) .
ومنها: ما أخرجه أبو الشيخ أيضاً عن أبي سنان قال: اللوح المحفوظ معلق بالعرش فإذا أراد الله أن يقضي بشيء كتب في اللوح المحفوظ فيجيىء اللوح حتى يقرع جبهة إسرافيل فينظر فيه فإن كان إلى أهل السماء دفعه إلى ميكائيل، وإن كان إلى أهل الأرض دفعه إلى جبريل، فأول ما يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقول: من يشهد لك فيقول: إسرافيل، فيدعى إسرافيل فترعد فرائصه، فيقال: هل بلغك اللوح؟ فإذا قال: نعم، قال اللوح: الحمد لله الذي نجاني من سوء الحساب (4) .
ومنها ما أخرجه ابن المبارك في الزهد عن حيان بن أبي جبلة يسنده قال: أول من يدعى يوم القيامة إسرافيل فيقول الله له: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم ربي قد بلغت جبريل، فيدعى جبريل فيقال: هل بلغك إسرافيل عهدي، فيقول: نعم فتجلى عن إسرافيل، فيقول لجبريل: ما صنعت في عهدي؟ فيقول: يارب بلغت الرسل، فتدعى الرسل فيقال لهم: هل بلغكم جبريل عهده؟ فيقولون: نعم
_________
(1) طرفه الأول رواه ابن أبي شيبة في المصنف (7/159، رقم 34968) عن ابن سابط، وأما باقيه من قوله: «وكل به ثلاث من الملائكة ... إلى آخره» فلم نقف عليه، ولم نقف عليه بتمامه في كتاب العظمة لأبي الشيخ.
(2) رواه أبو الشيخ في العظمة (2/776) عن عبد العزيز بن عمير.
(3) لم نقف عليه، ولكن معناه في الأثر الذي يليه.
(4) رواه أبو الشيخ في العظمة (2/704) عن أبي سنان.(1/178)
فينجلي عن جبريل ... الحديث (1) .
فعرف بمجموع هذه الآثار اختصاص جبريل من بين الملائكة بالوحي إلى الأنبياء وعرف بها أيضاً أن جبريل إنما يتلقي الوحي عن الله تعالى بواسطة إسرافيل، وإن إسرافيل إنما يتلقي عن الله بواسطة اللوح المحفوظ، فالعباد يتلقون الأحكام الشرعية وغيرها عن الرسل، والرسل عن جبريل، وجبريل عن إسرافيل، وإسرافيل عن اللوح، واللوح عن الحق سبحانه وتعالى.
فائدة: نقل الواحدي في تفسبره: «أن اللوح المحفوظ من درة بيضاء، ودفتاه ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابته نور الله فيه كل يوم ثلاثمائه نظرة» (2) .
وزاد غيره: «يخلق فيها ويرزق ويحيى ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء فذلك قوله تعالى ?كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ? [الرحمن: 29] » .
وذكر غيره: «أن طوله ما بين السماء والأرض سبع مرات، معلق بالعرش مكتوب فيه إلى يوم القيامة» (3) .
فائدة أخرى: قال بعض العلماء: نزل جبريل - عليه السلام - على آدم اثنتي عشرة مرة ونزل على إدريس أربع مرات، ونزل على نوح خمسين مرة، ونزل على إبراهيم أربعين مرة منها مرتان في صغره، ونزل على موسى أربعمائه مرة، ونزل على عيسى عشر مرات ثلاثاً في صغره وسبعاً في كبره ونزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أربعة وعشرين مرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فائدة أخرى: أشرف الملائكة وأكرمهم أربعة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، ويدل ذلك ما أخرجه أبو الشيخ عن عكرمة بن خالد أن رجلاً قال: يا رسول الله أي: الملائكة أكرم على الله؟ فقال: «جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، فأما جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين، وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة تنبت، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض روح كل عبد في بر وبحر هو عزرائيل (4) .
أما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم وجبريل أشرف الملائكة لوجوه:
الأول: أنه صاحب الوحي إلى الأنبياء كما وصفه الله بذلك بقوله ?نَزَلَ بِهِ
_________
(1) رواه ابن المبارك في الزهد (ص: 557، رقم 1598) عن حيان بن أبي جبلة.
ورواه أيضاً: الطبري (2/10) في تفسيره عنه.
(2) رواه البغوي في تفسيره (4/472) عن ابن عباس.
(3) رواه البغوي في تفسيره أيضاً (4/472) عن ابن عباس.
(4) رواه أبو الشيخ في العظمة (3/811) عن عكرمة بن خالد.(1/179)
الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ? [الشعراء: 194] .
الثاني: أنه سبحانه وتعالى ذكره قبل سائر الملائكة في القرآن في قوله تعالى ?قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ? [البقرة: 97] .
والثالث: أن الله تعالى جعله ثاني نفسه قال تعالى ?فإن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ? [التحريم: 4] .
الرابع: سماه روح القدس كما قال تعالى في حق عيسى ?إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ? [المائدة: 110] .
الخامس: أنه تعالى مدحه بصفات ستة فقال له: ?إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ? [التكوير: 19، 20، 21] الوصف الأول: «رسول» فهو رسول الله إلى جميع الأنبياء، فجميع الأنبياء والرسل أمته.
الوصف الثاني: «كريم» وكرمه على ربه أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده وهم الأنبياء.
الوصف الثالث: «ذي قوة عند ذي العرش» وبلغ من قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بما اتصل بها من الجبال دفعه واحدة إلى السماء وقلبها، ويشاركه غيره من الملائكة في القوة كإسرافيل، وإن بلغ من القوة أنه بنفخه واحدة منه في الصور يصعق من في السماوات والأرض، وبالنفخة الثانية يعودون أحياء، فاعرف عظيم هذه القدرة وحملة العرش العظيم، الذي السموات والأرض وما فيها بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، ومع هذه يحمله ثمانية كما نطق بذلك القرآن فأي قوة أعظم من هذه القوة.
الوصف الرابع: «مكين» ومكانته عند الله أنه جعله ثاني نفسه في قوله ?فإن اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ?.
الوصف الخامس: «مطاع» ووصف ذلك لأنه إمام الملائكة ومقتداهم.
الوصف السادس: «أمين» ووصف بذلك هنا، وفي آية أخرى وهي ?نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ? [الشعراء: 194] لأنه أمين الله بينه وبين رسله كما تقدم.
فائدة أخرى: في الحديث دلالة على إثبات الملائكة والرد على من أنكرهم من الملاحدة والفلاسفة، وقد نقل إلينا بالتواتر عن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- بإجماعهم أثبتوا الملائكة قال - صلى الله عليه وسلم -: «أطت السماء أي: صوتت وحق لها أن(1/180)
تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفية ملك ساجد أو راكع» (1) .
واختلف العلماء في أكثر الأجناس المخلوقة عدداً فقيل: الملائكة ويدل عليه ما روي: أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكل في ملائكة الكرسي نذر قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السرادق الواحد من سرادقات العرش، التي عددها ستمائة ألف، طول كل سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السموات والأرض وما فيها وما بينهما فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً، وما من مقدار موضع إلا وفيه ملك ساجد وراكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة لا يعلم عددهم الله تعالى ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ? [المدثر: 31] وكلهم سامعون لا يفترون، مشتغلون بعبادته وبذكره يتسابقون في عبادته، ولا يستكبرون عنها آناء الليل ولا يسأمون، لا يعلم أجناسهم، ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عباداتهم.
وقيل: الملائكة أكثر خلق الله لما روي في المستدرك للحاكم من حديث عبد الله بن عمر «إن الله عز وجل جزأ الخلق عشرة أجزاء فجعل تسعة أجزاء الملائكة وجزءاً سائر الخلق ... الحديث» (2) كلهم يصلون على سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - بنص القرآن
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/556، رقم 2312) وقال: وفي الباب عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وأنس. ثم قال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (2/1402، رقم 4190) ، وأحمد في مسنده (5/173، رقم 21555) ، والحاكم في المستدرك (2/554، رقم 3883) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/236) ، وأبو الشيخ في كتاب العظمة (3/982) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/77، رقم 233) ، والبيهقي في السنن الكبرى (7/52، رقم 13115) جميعاً عن أبي ذر.
وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (3/201، رقم 3122) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/422، رقم 597) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/217) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/258، رقم 250) عن حكيم بن حزام.
وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/269) عن أنس بن مالك.
وأخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/261، رقم 255) عن العلاء بن سعد.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/536، رقم 8506) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأخرجه أيضاً: الطبري في التفسير (17/13) .(1/181)
وهذا مما خصه الله بدون سائر الأنبياء والمرسلين.
وكل الله تعالى بقبره كل يوم وليلة ملائكة ينزلون إليه ويصلون عليه فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال: «ما من فجر إلا نزل سبعون الفاً من الملائكة حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا أمسوا عرجوا، وهبط سبعون ألف حتى يحفوا بالقبر يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم -، سبعون ألفاً بالليل وسبعون ألفاً بالنهار، حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفاً يزفونه» وفي لفظ «يوقرونه» رواه البيهقي في الشعب وغيره (1) .
وقد وكل بكل آدمي عشرة ملائكة بالليل وعشرة بالنهار، واحد عن يمينه وواحد عن شماله، واثنان من بين يديه، ومن خلفه، واثنان على شفتيه، واثنان على جبينه، وآخر قابض على ناصيته فإن تواضع رفعه وان تكبر وضعه، والعاشر يحرسه من الحيتان تدخل يعني إذا نام.
وقيل: إن كل إنسان معه ثلاثمائة وستون ملكاً.
فائدة أخرى: سئل الحافظ العلامة ولي الدين العراقي بمكة المشرفة فقيل له: هل الملائكة خلقوا دفعة واحدة ويكون موتهم كذلك أم خلقوا شيئًا فشيئًا ويكون موتهم شيئًا فشيئًا؟
فأجاب: بأنه لم يثبت في ذلك شيء ولا يجوز الهجوم عليه بمجرد الاحتمال، ولا مجال للظن فيه.
فائدة أخرى: هل يقع نكاح بين والجن وبين الإنس والملائكة؟
قال الدميرى: أفاد بعض العلماء أن التناكح قد يقع بين الإنس والجن بدليل قوله تعالى ?وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الاسراء: 64] قال: فإن نساء الجن إذا عشقت رجال الإنس تتعرض لصرعهم لأجل الجماع، وكذلك رجال الجن لنساء الإنس، قال: وأما الإنس والملائكة فلا يقع بينهم نكاح لعدم الشهوة فيهم وذهب بعضهم إلى أنه يقع بدليل أن ذا القرنين كانت أمة آدمية وأبوه من الملائكة.
قال أبو الفرج بن الجوزي: خلق الله الخلق على أربعة أصناف، صنف منهم
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/492، رقم 4170) عن كعب الأحبار.
وأخرجه أيضاً: الدارمي في سننه (1/57، رقم 94) ، وأبو الشيخ في العظمة (3/1019) ، وابن المبارك في الزهد (1/558، رقم 1600) .(1/182)
ركب فيه الشهوة دون العقل وهي البهائم والأنعام، وصنف ركب فيهم العقل والشهوة وهم بنو آدم وذريته، وصنف ركب فيهم العقل دون الشهوة وهم الملائكة، وصنف لا عقل فيهم ولا شهوة وهم الجمادات.
خاتمة: قد اشتهر على ألسنة الناس أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال العلامة شيخنا الشيخ جلال الدين السيوطي -رحمه الله تعالى-: وهذا شيء لا أصل له، ومن الدليل على بطلانه ما أخرجه الطبراني الكبير عن ميمونة بنت سعد قالت: يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال لها: «أحب أن يرقد حتى يتوضأ، فإني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل» (1)
فهذا الحديث يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض، ويحضر موت كل مؤمن حضره الموت وهو على الطهارة.
ثم قال وقفت على حديث نزول جبريل إلى الأرض وهو ما أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن والطبراني من حديث ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وصف الدجال قال: «فيمر بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقولوا: من أنت؟ فيقول: أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعه من حرمه، ويمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم فيقول: من أنت فيقول: أنا جبريل بعثني الله لأمنعه من حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (2) .
قال: ثم رأيت في قوله تعالى ?تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ... ? [القدر: 4] الآية عن الضحاك أن الروح هنا جبريل، وأنه ينزل هو الملائكة في ليلة القدر، ويسلمون على المسلمين، وذلك في كل سنة.
فعلم من هذه الأخبار أن جبريل نزل إلى الأرض بعد موت نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما اشتهر بين
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (25/36، رقم 65) عن ميمونة بنت سعد ولفظه: قلت: ثم يا رسول الله هل يأكل أحدنا وهو جنب؟ قال: «لا يأكل حتى يتوضأ» قالت: قلت: يا رسول الله هل يرقد الجنب؟ قال: «ما أحب أن يرقد وهو جنب حتى يتوضأ، ويحسن الدفع، وإني أخشى أن يتوفى فلا يحضره جبريل - عليه السلام -» .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/275) : رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عثمان بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن يزيد، وعثمان بن عبد الرحمن هو الحراني الطرائقي، وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال أبو عروبة الحراني وابن عدي: لا بأس به يروي عن مجهولين، وقال البخاري وأبو أحمد الحاكم: يروي عن قوم ضعاف، وقال أبو حاتم: يشبه بقية في روايته عن الضعفاء.
(2) أخرجه نعيم بن حماد في كتاب الفتن (2/543، رقم 1527) في حديث طويل راجعه بتمامه فيه عن عبد الله بن مسعود، وظاهر صنيع المصنف أنه أتى بموطن الشاهد فقط.(1/183)
الناس من أنه حرم على نفسه نزول الأرض بعد موت نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو باطل، وعلم من هذه الأخبار أيضاً أنه يحضر عند موت كل مؤمن دنا أجله إذا كان على طهارة، وينزل عند خروج الدجال ويمنعه من الدخول إلى المدينة الشريفة، وينزل كل سنة ليلة القدر والله أعلم بالصواب.
* * *(1/184)
المجلس الثامن
في ترجمة الليث وخديجة الكبرى والزهري
والكلام على بعض حديث: أول ما بُدِئَ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤية لصالحة في النوم
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أم الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّهَا قَالَتْ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْوَحْىِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إليه الْخَلاَءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ -وَهُوَ التَّعَبُّدُ- اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ، فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ? قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لِخَدِيجَةَ: وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ
لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي. فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ -وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ- فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ. قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ.
قوله: «حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير» هذا هو أبو زكريا يحيى بن عبد الله بن(1/185)
بكير القرشي المخزومي المصري، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وكانت وفاته سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وبكير مصغر البكر (1) .
قال «حدثنا الليث» هذا هو أبو الحارث الليث بن سعد عبد الرحمن الفهمي المصري، عالم أهل مصر من تابعي التابعين، ولد بقرقشنده على نحو أربع فراسخ من مصر سنة ثلاث أو أربع وتسعين، واتفق العلماء على إمامته وبراعته وجلالته وحفظه وإتقانه وفضله وورعه وعبادته، وغير ذلك من المحاسن والمكارم، ووصفه الشافعي بكثره الفقه إلا أنه ضيعه أصحابه، ولم يعتنوا بكتبه ونقلها والتعليق عنه، ففات الناس معظم علمه، قال يحيى بن بكير: كان الليث أفقه من مالك، ولكن كان الخطوة لمالك ورأيت من رأيت فما رأيت مثل الليث، كان عربي اللسان، حسن القراءة، ويحفظ الحديث والقرآن والشعر، حسن المذاكرة، وما زال يعدد خصالاً حميدة جميلة حتى عقد عشرة.
وقال الإمام أحمد عنه: كان كثير العلم صحيح الحديث ما في هؤلاء المصريين أثبت منه ولا أصح حديثاً منه.
وقال ابن سعد: استقل بالفتوى في زمانه.
وكان ثرياً نبيلاً سخياً، ومناقبة جمة قال الشافعي: وما ندمت على أحد ما ندمت على الليث، وكان دخله في كل سنة ثمانين ألف دينار، وما وجبت عليه زكاة قط لعدم إمساكها حتى يجول عليها الحول، ولما قدم المدينة أهدى له مالك من ظرفها فبعث إليه ألف دينار.
وقال بعضهم: إن جماعة من أصحاب الليث وقفوا على باب الإمام مالك - رضي الله عنه - فامتنع من الخروج إليهم فقال بعضهم: هذا ليس ببشر صاحبنا فسمعه الإمام فخرج إليهم وقال: من صاحبكم؟ قال: الليث بن سعد، قال: أتشبهوني برجل كتبنا إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب أولادنا فأرسل إلينا شيئاً صبغنا به ثياب أولادنا وثياب جيراننا وثيابنا، والفاضل بعناه بألف دينار.
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/70) : نسبه إلى جده لشهرته بذلك، وهو من كبار حفاظ المصريين، وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين، «وعقيل» بالضم على التصغير، وهو من أثبت الرواة عن ابن شهاب، وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه، نسب إلى جد جده لشهرته، الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب، وهو من رهط آمنة أم النبي - صلى الله عليه وسلم - على إتقانه وإمامته.(1/186)
ومن الغرائب الدالة على سعة كرمة - رضي الله عنه - ما نقل عن منصور بن عمار وكان واعظاً عظيماً بالحجاز مشهوراً قال: دخلت إلى مصر في أيام الليث، ووعظت في الجامع، وكان إذا تكلم أحد في مصر واعظاً نفاه فلما وعظت سمع بي، فأرسل في طلبي، وقال لي الرسول: أجب الليث، فآتيته خائفاً منه، فقال: أنت الواعظ؟ قلت: نعم، قال: أعد علينا كلامك، فتكلمت فبكى ثم قال: ما اسمك؟ قلت: منصور، فأعطاني ألف دينار، وقال: صن هذا الكلام أن تقف به على أبواب السلاطين، ولك في كل سنة مثلها فتكلمت في الجامع في الجمعة الثانية أرسل في طلبي، وقال: أعد علينا ما قلت، فتكلمت فبكى بكاء كثيراً ثم قال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت خمسمائة دينار، فلما كان في الجمعة الثالثة آتيته مودعاً قاصداً بيت الله الحرام، فقال: انظر ما تحت الوسادة فرأيت ثلثمائة دينار، ثم قال: يا جارية هاتي ثياب إحرام منصور فأتت بأربعين ثوباً فقلت: يرحمك الله أنا يكفيني ثوبان فقال: أنت رجل كريم فيصبحك قوم فأعطهم، ثم قال: خذ الجارية أيضاً ومعها ألف دينار ولا تخبر ولدي فيراه قليلاً - رضي الله عنه -.
وكانت وفاته في شعبان سنة خمسين وسبعين ومائة، وقبره بمصر يزار وعليه من الجلالة والبهاء ما هو لاق به، وليس في الكتب الستة من اسمه الليث بن سعد سواه.
«عن عقيل» بضم العين المهملة وفتح القاف، هذا هو عقيل الحافظ بن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي بفتح الهمزة والياء المثناة التحتانية القرشي الأموي مولى عثمان بن عفان الحافظ.
«عن ابن شهاب» هذا هو الإمام أبو بكر محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي الزهري، المدني، سكن الشام، وهو تابعي صغير كذا في شرح ابن الملقن، وفي الكرماني هو تابعي كبير، سمع عشرة من الصحابة بل أكثر سمع أنساً وخلقاً من الصحابة، وسعيد بن المسيب وخلقاً من كبار التابعين ورأى ابن عمرو، وروى عنه، وصح عنه أنه قال: «ما استودعت حفظي شيئاً فخانتي» ، وصح عنه أيضاً أنه حفظ القرآن في ثمانين ليلة» كما قاله البخاري في التاريخ.
قال الليث: ما رأيت عالماً أجمع من الزهري ولا أكثر علماً منه.
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أتقن للحديث من الزهري، وما رأيت أحداً الدنيار والدرهم أهون عنده، إن كانت الدراهم والدنانير عند بمنزلة البعر.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: لولا الزهري لذهبت السنن من المدينة، والعلماء(1/187)
متفقون على إمامته وجلالته وحفظه وإتقانه وضبطه وعرفانه، وقد وصفوه بأنه جمع علم جميع التابعين.
وكانت وفاته بالشام سابع عشر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ابن اثنين وسبعين سنة وأوصى بأن يدفن على الطريق بقرية يقال لها: «شغب وبدا» لينال من المارين بقربة، ولله القائل:
بقارعة الطريق جعلت قبري ... لأحظى بالترحم من صديقي
فيا مولى أنت أولى ... برحمة من يموت على الطريق
«عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين» رضي الله عنهما، وعن أبويها وجديها «أنها قالت أول ما بدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي (1) الرؤيا الصالحة (2) في النوم (3) ، فكان لا يرى إلا وجاءت في مثل فلق الصبح (4) »
قال الإمام النووي: هذا الحديث من مراسيل الصحابة فإن عائشة لم تدرك زمان وقوع هذه القصة فروتها إما سماعاً من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من صحابي آخر.
قال الطيبي (5) : والظاهر أنها سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقولها قال: «فأخذني فغطني» ، ومرسل الصحابة حجة عند جميع العلماء، إلا ما انفرد به أبو إسحاق الإسفرايني.
قول عائشة «أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم» تصريح منها بأن رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة أقسام الوحي، وهذا متفق عليه، وإنما بُدئ - صلى الله عليه وسلم - بالوحي في المنام قبل جميع أقسام الوحي السبعة ليكون تمهيداً وتوطئه بمجيىء الملك إليه في اليقظة بالوحي لئلا يأتيه بصريح النبوة بغتة، فهذا لا يتحمله القوى البشرية.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : يحتمل أن تكون «من» تبعيضية، أي: من أقسام الوحي، ويحتمل أن تكون بيانية، ورجحه القزاز.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «الرؤيا الصالحة» وقع في رواية معمر ويونس عند البخاري في التفسير «الصادقة» وهي التي ليس فيها ضغث، وبدئ بذلك ليكون تمهيداً وتوطئة لليقظة، ثم مهد له في اليقظة أيضاً رؤية الضوء، وسماع الصوت، وسلام الحجر.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/70) : قوله: «في النوم» لزيادة الإيضاح، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازاً.
(4) قال ابن حجر في الفتح (1/71) قوله: «مثل فلق الصبح» بنصب مثل على الحال، أي: مشبهة ضياء الصبح، أو على أنه صفة لمحذوف، أي: جاءت مجيئاً مثل فلق الصبح، والمراد بفلق الصبح: ضياؤه. وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه.
(5) هو: أحمد بن أحمد بن بدر الدين، شهاب الدين الطيبي الصالحي الدمشقي، ولد سنة: 910هـ،، تفقه على مذهب الإمام الشافعي، وأصبح من أئمته، وكان متصوفاً، كان إماماً بجامع بني أمية، له: زاد الابرار وسلاح الأخيار، وله نظم وليس بشاعر، وكانت وفاته سنة: 979هـ.(1/188)
وكانت مدة وحي المنام كما قاله البيهقي ستة أشهر.
قال ابن حجر: على هذا فابتداء النبوة بالرؤيا من شهر مولده، وهو ربيع الأول، وابتداء الوحي يقظة وقع في رمضان.
فائدة لغوية: «الرؤيا» مصدر الوحي كالرجعى مصدر رجع، ويختص برؤيا المنام كما اختص الرأي بالقلب، والرؤية بالعين.
والصالحة يجوز أن يكون صفة موضحة للرؤيا، بناءً على أن غير الصالحة لا تسمى رؤيا تسمى بالحلم، كما ورد الرؤيا من الله والحلم من الشيطان، ويجوز أن يكون صفة مخصصة بناءً على أن السنة تسمى بالرؤيا قال العلماء: الرؤيا على قسمين صالحة وتسمى صادقة، وهي بشارة من الله يبشرها عبده ليحسن بها ظنه، ويكثر عليها شكره، وكاذبة وتسمى: بالحلم وبأضغاث أحلام، وهي من الشيطان يراها الإنسان ليحزنه فيسوء ظنه بربه، ويقل حظه من شكره، ولذلك أمر بالنفوذ من شره وغيره كما سيأتي ليطرده.
والرؤيا الصالحة لا تختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل يشاركه غيره فيها لكن خص - صلى الله عليه وسلم - بأن جميع ما كان يراه في منامه حق وصدق، ولهذا قالت عائشة «وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» وفلق: بفتح أولهما وثانيهما ضياؤه أي: جاءت مثل الوضوح والبيان.
قال الكرماني: والصحيح أنه بمعنى المفلوق، وهو اسم للصبح، فأضيف أحدهما إلى الآخر لاختلاف اللفظين، والذي يدل على أن الفلق هو الصبح استعماله وحدة قال تعالى ?قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ? [الفلق: 1] ، وإنما عبرت عن صدق الرؤيا بفلق الصبح ولم تعبر بغيره: لأن شمس النبوة كان مبادئ أنوارها الرؤيا إلى أن تم نورها وبرهانها، وظهرت أشعتها وإلى هذا صاحب البرده أشار بقوله:
لا ينكر الوحي من رؤياه أن له ... قلباً إذا نامت العينان لم ينم
بخلاف رؤيا غيره - صلى الله عليه وسلم - فإنها قد تكون صادقة، وقد تكون أضغاث أحلام.
وحقيقة الرؤيا الصالحة: أن الله يخلق في قلب النائم وفي حواسه الأشياء كما يخلقها في اليقظان، وهو سبحانه يفعل ما يشاء لا يمنعه نوم ولا غيره عنه فربما يقع ذلك في اليقظة كما رآه في المنام، وربما جعل ما رآه علماً على أمور أُخر يخلقها في ثاني الحال، أو كان قد خلقها فتقع تلك، كما جعل الله الغيم علامة للمطر وصلاح الرؤيا إما باعتبار تعبيرها.(1/189)
وقال القاضي عياض: صلاحها حسن ظاهرها أو صحتها أو فسادها، إما بسوء ظاهرها وإما بسوء تأويلها.
فائدة: ورد في الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة» (1) .
وفي رواية: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة» (2) .
وفيه كثير غموض عن كثير من الناس وإيضاحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش ثلاثاً وستين سنة على الصحيح، ومدة نبوته منها ثلاث وعشرون سنة لأنه نبئ على رأس الأربعين، وكان نصف سنة يرى الوحي في المنام إلى المدة التي رآه فيها في اليقظة كانت نصف جزء من ثلاث وعشرين سنة، وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة.
لكن المشكل رواية مسلم «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوة» (3)
_________
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (6/2562، رقم 6582) ، ومسلم في صحيحه (4/1774، رقم 2264) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(2) هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2568، رقم 6593) من حديث أنس أيضاً بزيادة في أوله، وعند مسلم في الصحيح (4/1774، رقم 2263) عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت بلفظه.
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1775، رقم 2265) عن ابن عمر.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/383، رقم 7626) ، وابن ماجه في سننه (2/1283، رقم 3897) ، وابن أبي شيبة (6/173، رقم 30455) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/410، رقم 714) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/186، رقم 4757) عن ابن عمر.
والحديث جاء أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس:
فأما رواية أبي سعيد فعند ابن ماجه في سننه (2/1282، رقم 3895) من طريق عطية عن أبي سعيد الخدري ... به.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/153) : هذا إسناد ضعيف لضعف عطية العوفي.
وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه البزار في مسنده (5/250، رقم 1864) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/217، رقم 9057) ، وأخرجه أيضاً: في المعجم الصغير (2/141، رقم 928) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/173) : رواه الطبراني في الكبير والصغير وقال فيه جزء من سبعين جزءا والبزار ورجال الصغير رجال الصحيح.
وأما حديث ابن عباس فأخرجه أحمد في مسنده (1/315، رقم 2896) ، وأبو يعلى (4/466، رقم 2598) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/277، رقم 11727) .
ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (7/172) قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.(1/190)
فإنها لا يظهر لها وجه، وللرؤيا الصادقة شروط متى اختل شرط منها كانت أضغاث أحلام لا يصح تأويلها.
منها: أن لا يكون الرائي خائفاً من شيء أو راجياً، وفي معنى الخوف والرجاء الحزن على شيء والسرور بشيء، فإذا نام من اتصف بذلك كذلك رأى في نومه ذلك الشيء بعينه.
ومنها: أن لا يكون خالياً من شيء هو محتاج إليه كالجائع والعطشان يرى في نومه كأنه يأكل ويشرب.
ومنها: أن لا يكون ممتلئاً من شيء فيرى كأنه يجتنبه، كالممتلئ من الطعام يرى أنه يقذفه.
ومنها: أن لا يرى ما لا يكون كالمحالات وغيرها مما يعلم أنه لا يوجد، بأن يرى الله سبحانه وتعالى على صفة مستحيلة عليه، أو يرى نبياً يعمل عمل الفراعنة.
ومنها: أن لا يكون ما رآه في النوم قد يراه في اليقظة، وإدراك حسه بعهد قريب قبل نومه، وصورته باقية في خياله فيراها بعينها في نومه.
ومنها: أن لا يكون قد حدثته نفسه به في اليقظة وتفكر فيه قبل النوم بمدة قريبة.
ومنها: أن لا يكون موافقاً ومناسباً لما هو عليه من تغيير المزاج، بأن تغلب عليه الحرارة من الصفراء فيراها في نومه نيراناً شمساً محرقة، أو تغلب عليه البرودة فيرى الثلوج، أو تغلب عليه الرطوبة فيرى الأمطار والمياه، أو تغلب عليه اليبوسة والسوداء فيرى الأشياء المظلمة والأهوال، فمتي اختل شرط مما ذكرنا كانت الرؤيا فاسدة لا تعبير لما ورد، وإذا وجدت هذه الشروط في رؤيا الإنسان غلب على الظن سلامة رؤياه من الفساد، وصح تعبيرها خصوصاً إذا انضم إلى ذلك كون الرائي من أهل الصدق والصلاح، فإن الظن يقوي بأنها صادقة صالحة، ففي الحديث «أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً» (1) .
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود في سننه (4/304، رقم 5019) ، وابن ماجه في سننه (2/1289، رقم 3917) ، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والحاكم في المستدرك (4/432، رقم 8174) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (13/404، رقم 6040) ، والدارمي في سننه (2/168، رقم 2144) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/291، رقم 955) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) جميعاً عن أبي هريرة.(1/191)
ومن علامات صدق الرؤيا من حيث الزمان كونها في الأسحار، وكونها عند اقتراب الزمان ففي الحديث «إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب» (1) واقتراب الزمان هو اعتداله وقت استواء الليل والنهار، وقيل: اقتراب الزمان قرب قيام الساعة.
وعن جعفر الصادق (2) أنه قال: أصدق رؤيا النهار وقت القيلولة، لأن الحسين بن على رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «أتسرعون السير بكم إلى الجنة» فقال الحسين - رضي الله عنه -: يا أبت لا حاجة إلى الرجعة إلى دار الدنيا بعد رؤيتك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني لابد لك من الرجعة وهي ساعة لم يكذب فيها، ثم صلى الظهر وقتل شهيداً» (3) .
ومن علامات صلاحها: أن تكون تبشيراً بالثواب على الطاعة أو تحذيراً من المعصية، وليس المراد من قولنا بأن هذه الرؤيا الصالحة أنها صالحة على سبيل القطع بل على غلبة الظن.
قال ابن الصلاح: ومعلوم أن إدراك ما هو حق منها مما هو باطل، وعسر الطريق أن يظن إلا ظناً.
فإن قيل: بأي شيء يرى الإنسان المنام بالروح أو بغيرها؟
فالجواب: أن مقاتلاً ذكر في تفسير قوله تعالى ?وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ? [الانعام: 60] أن الإنسان له حياة وروح ونفس، فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء، ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع كشعاع الشمس فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد، فيها ينقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه أسرع من طرفه عين، فإذا رجعت أخبرت الروح القلب فيصبح فيعلم أنه رأى رؤيا صالحة فيعرف بما رأى في منامه فتحيا النفس وتحيا الروح وتخبر الروح القلب، فإذا أراد الله تعالى أن يميت هذا الرائي في المنام يمنع النفس التي خرجت منه العود إلى البدن، ويقبض الروح إليها، فيموت في منامه.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1773، رقم 2263) ، والترمذي في سننه (4/532، رقم 2270) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأحمد في مسنده (2/507، رقم 10598) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4762) عن أبي هريرة.
(2) جعفر الصادق هو: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي أبو عبد الله المدني الصادق، وأمُّه: أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر وأمها: أسماء بنت عبد الرحمن ابن أبي بكر، فلذلك كان يقول ولدني أبو بكر مرتين. توفى رضي الله عنه عام 148هـ.
قال عمرو بن أبي المقدام: «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد علمت أنه من سلالة النبيين» ، وقال عنه ابن حبان في الثقات: «كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا ... » ، وقال مالك: «اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصل وإما صائم وإما يقرأ القرآن ما رأيته يحدِّث إلا على طهارة» .
(3) لم نقف عليه.(1/192)
ونقل بعض علماء التعبير عن دانيال - عليه السلام - أنه قال: الأرواح يعرج بها إلى السماء السابعة حتى تقف بين يدي رب العزة فيؤذن لها بالسجود، فما كان طاهراً سجد تحت العرش، وما كان غير طاهر سجد قاصياً فلذلك، يستحب لمن أراد أن ينام، أن ينام على طهارة.
فائدة: قال العلماء: وإذا كان الإنسان يقرع في منامه فليقل ما رواه ابن السني أنه قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا أنه يفزع في منامه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا أويت إلى فراشك فقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه، ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فقالها فذهب عنه» ، وكان عبد الله بن عمرو (1) يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل كتبهن فعقلهن عليه، نقل ذلك أبو داود وغيره (2) .
وإذا رأى في نومه ما يحب فليحمد الله تعالى وليحدث بها، وإذا رأى ما يكرهه فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها لأحد فقد ورد في هذا الصحيح عن أبي سعيد الخدري - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله تعالى عليها وليحدث بها» ، وفي رواية (3) «ولا يحدث بها إلا من يحب، وإن رأى غير ذلك مما يكره إنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا
_________
(1) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص، من قريش ولد قبل الهجرة بسبع سنوات، معدود في الصحابة، من النساك، من أهل مكة، كان يكتب في الجاهلية، ويحسن السريانية، وأسلم قبل أبيه، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يكتب ما يسمع منه فأذن له، وكان كثير العبادة حتى قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن لجسدك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لعينيك عليك حقاً ... الحديث» ، وكان يشهد الحروب والغزوات، ويضرب بسيفين، وحمل رآية أبيه يوم اليرموك، وشهد صفين مع معاوية، وولاه معاوية الكوفة مدة قصيرة، ولما ولي يزيد امتنع عبد الله من بيعته، وانزوى كما في إحدى الروايات بجهة عسقلان، منقطعاً للعبادة، وعمي في آخر حياته، توفي سنة: 65هـ، واختلفوا في مكان وفاته، له 700 حديث.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/12، رقم 3893) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/191، رقم 10602) ، وفي عمل اليوم والليلة (ص: 453، رقم 766) وفيه اسم الرجل الذي يفزع، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان خالد بن الوليد بن المغيرة رجلاً يفزع في منامه فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اضطجعت فقل باسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» فقالها فذهب ذلك عنه.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/181، رقم 6696) ، والحاكم في المستدرك (1/733، رقم 2010) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/50، رقم 23598) ، وأبو بكر الإسماعيلي في معجم شيوخه (1/462، رقم 116) .
(3) هذه الرواية وردت في حديث آخر غير حديث أبي سعيد الآتي فهي عند البخاري في الصحيح (6/2582، رقم 6637) عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة يقول: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت أرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره» .
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10730) .(1/193)
يذكرها لأحد فإنها لا تضره» (1) .
وينبغي إن رأى في منامه ما يكرهه أن ينفث أي: ينفخ عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ من الشيطان، فقد روينا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الرؤيا الصالحة» وفي رواية «الرؤيا الحسنة من الله والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئاً يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثاً، وليتعوذ من الشيطان فإنها لا تضره» ، وفي رواية «فليبصق» بدل «فينفث» .
قال النووي: والظاهر المراد من النفث: وهو نفخ خفيف لا ريق معه.
وكذلك لمن رأى ما يكره أن يتحول عن جنبه الذي كان عليه فقد روينا في صحيح مسلم عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» (2) .
كذلك ينبغي لمن رأى ما يكره أن يقوم ويصلي ويحصل التعوذ المذكور في هذه الأحاديث بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لكن الأحسن أن يقول عند رؤية ما يكره: اللهم أعوذ بك من عمل الشيطان، وسيئات الأحلام كما ورد ذلك، والسنة للإنسان إذا قص عليه أحد رؤيا أن يقول له: «خيراً رأيت وخيراً يكون، وخيراً تلقى، وشرا توقى، خيراً لنا، وشراً لأعدائنا، الحمد لله رب العالمين» .
وقول عائشة رضي الله عنها «ثم حبب إليه الخلاء» (3)
أي: حبب الله له الخلوة
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2563، رقم 6584) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/223، رقم 10729) ، وأحمد في مسنده (3/8، رقم 11069) ، وأبو يعلى في مسنده (2/513، رقم 1363) عن أبي سعيد.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1772، رقم 2262) عن جابر.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (4/390، رقم 7653) ، وابن ماجه في سننه (2/1286، رقم 3908) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/179، رقم 30494) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص: 319، رقم 1047) ، وأبو يعلى في مسنده (4/180، رقم 2263) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/188، رقم 4761) .
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «حبب» لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك، وإن كان كل من عند الله، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
والخلاء بالمد: الخلوة، والسر فيه: أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له.
وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح، وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكي أيضاً، وحكي فيه غير ذلك جوازاً لا رواية، هو جبل معروف بمكة.
والغار: نقب في الجبل وجمعه غيران.(1/194)
فإن الخلاء بالمد الخلوة وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين، وإنما حبب إليه الخلوة لأن فيها فراغ القلب وهي معينة على الفكر، وينقطع بها عن مألوفات البشر ويخشع قلبه، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة فلطف الله تعالى به في بدء أمره، فحبب إليه الخلوة وقطعه عن مخالطة البشر، ليجد الوحي له متمكناً كما قيل:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وكان دخوله الخلوة بإلهام من الله تعالى لا من تلقاء نفسه، قال بعض أهل العلم: ففيه دليل على أن الإنسان إذا قصد الخلوة والانقطاع عن الناس فلابد له من إذن شيخه له في ذلك، وقد صرح بذلك العارف بالله الزاهد الكامل زين الدين أبو بكر الحراني الخراساني نفعنا الله به في وصيته لأصحابه حيث قال فيها ما معناه: من قصد سلوك طريق الأولياء وقصد الانقطاع والتبتل في الخلوة وترك الاختلاط فلا بد أن يكون ذلك بحضور الشيخ، وأمره الظاهر وأمره الباطن فإن المريد إذا صحت رابطتة مع شيخة وكان مسلماً لأوامره وإشاراته يرى شيخة في واقعته فيأمره وينهاه ويحل واقعته، ثم قال في وصيته: ولا ينبغي لمن أراد دخول الخلوة أن يقصد بدخوله أن يصير مكاشفاً أو ذا كرامة عيانية فإن من رحل على هذا القصد رأى الأشياء الباطلة في صورة الحق.
ثم قال: دخل واحد من أصحابنا في خراسان الخلوة بغير إذن ولا وقت استحقاق دخولها، فجاء الشيطان إليه على صورة الخضر فقال له: أتريد أن تحصل لك العلوم الدينية فقال: نعم وكان مائلاً أن يتكلم في العلوم وأن يجري على لسانه، فقال له: افتح فاك فرمى الشيطان بزاقة في فمه، ثم بعد ذلك صنف كتاباً مشتملاً على أبواب من المعارف فلما وصل إلى الملاقاة والاجتماع بي عرض ما صنفه علي وحكى واقعته فقلت له: يا مسكين ذلك أن الشيطان جاء إليك في صورة الخضر ولعب بك وشغلك عن طاعة الله وذكره، إذهب واغتسل وتب إلى الله.
والشيطان يجيىء على صورة الصالحين كثيراً ولا يقدم على التمثيل بصورة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بصورة الشيخ إذا كان الشيخ تابعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأذوناً له بالإرشاد من شيخة المأذون وهكذا إلى حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(1/195)
ثم قالت عائشة: «فكان يخلو بغار حراء» الغار: نقب في الجبل وهو قريب من معنى الكهف، ويجمع الغار على غيران وحراء بكسر الحاء وتخفيف الراء جبل بينه وبين مكة شرفها الله تعالى نحو ثلاثة أميال عن يسارك إذا سرت إلى من شرفها الله، وفي «حراء وقباء» ست لغات المد والقصر والصرف وعدمه والتذكير والتأنيث، وقد نظم بعضهم ذلك فقال:
قباء وحراء اذكروا أنثهما معاً ... ومد واقصر واصرفن وامنع الصرفا
فمن صرف أراد أن اللفظ علم للمكان ونحوه، فيكون فيه االعلمية فقط، وهي وحدها لا تمنع الصرف، ومن منع الصرف أراد اللفظ علم للبقعة، فيكون فيه علتان العلمية والتأنيث، وكذا كل اسم مكان إن جعلت اللفظ علماً للبقعة أو الجهة فهو غير منصرف، وإن جعلته علماً للمكان ونحوه فهو منصرف فهي قاعدة كلية نبه عليها الكرماني وغيره.
«فيتحنث فيه وهو التعبد (1)
الليالي ذات العدد» مرادها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين كان يخلو بغار حراء يتحنث أي يتعبد، ويتحنث بمعنى يتعبد، وإن تعبده كان في ليال معدودة في كل سنة فضمير «وهو التعبد» راجع إلى التحنث الذي دل عليه لفظ «فيتحنث» فهو كقوله تعالى ?اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة: 8] فتفسير التحنث بالتعبد إما من كلام عائشة وهو الظاهر، وإما من كلام الزهري في الحديث على عادته.
وحقيقة التحنث في الأصل التجنب عن الحنث أي: الإثم فكان المتعبد يلقي الإثم عن نفسه بالعبادة.
والمراد بقوله: «الليالي ذوات العدد» مع أيامهن على سبيل التغليب لأنها أنسب للخلوة، وكانت هذه الليالي التي يعبد فيها مع أيامها إلى شهر رمضان وأيامه في كل سنة.
فائدة: إنما خصص - صلى الله عليه وسلم - جبل حراء بالخلوة والتعبد فيه دون غيره من جبال مكة
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/71) : قوله: «فيتحنث» هي بمعنى يتحنف، أي يتبع الحنفية وهي دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم. وقد وقع في رواية ابن هشام في السيرة «يتحنف» بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم، كما قيل: يتأثم ويتحرج ونحوهما.
قوله: «وهو التعبد» هذا مدرج في الخبر، وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله. نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الإدراج.(1/196)
كجبل أبي قبيس مع أنه أول جبل وضعه الله على الأرض حين صارت قاله مجاهد، وكجبل شبير وغيره، لأن جبل حراء نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين صعد على جبل بمكة يقال له: شبير وكان قد طالبه الكفار فقال له شبير بلسان القال لا بلسان الحال: انزل عن ظهري فإني أخاف أن تقتل على ظهري فيعاقبني الله تعالى فقال له جبل حراء: إليَّ يا رسول الله.
وقيل: خصصه بذلك لأنه يرى بيت ربه منه وهو عبادة، كما اختلفوا في عبادته - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة.
فائدة أخرى: قال البغوي في تفسيره: لما تجلى الله للجبل وصار دكاً طار منه ست أجبل وقعت ثلاثة بمكة وهي ثبير وحراء وثور، وثلاثة بالمدينة، وهي أحد وورقان ورضوي (1) .
فائدة أخرى: اختلف العلماء رضوان الله عليهم في الغار بأي شيء كانت، كما اختلفوا في عبادته - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة فقيل: كان يعبد بشريعة إبراهيم، وقيل: بشريعة موسى، وقيل: بشريعة عيسى، وقيل: بشريعة نوح، وقيل: بشريعة آدم، وقيل: بشريعة غير ذلك، والذي عليه جمع وحذاق أهل السنة أنه لم يتعبد بشرع أحد بل كان يتعبد كما قاله ابن الملقن بالتفكر قال: ولاخلاف بين أهل التحقيق أنه عليه الصلاة والسلام قبل نبوته هو وسائر الأنبياء منشرح الصدر بالتوحيد والإيمان فانهم لا يليق بهم الشك في شيء من ذلك، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك.
وقولها «قبل أن ينزع إلى أهله» أي: كان تعبده في الغار قبل أن يحن إلى أهله
_________
(1) انظر تفسير البغوي (2/198) .
قلت: وقد روي ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/314) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/440) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/150، رقم 4407) عن معاوية بن قرة عن أنس مرفوعاً.
وأورده ابن كثير في تفسيره (2/246) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وقال عقبه: وهذا حديث غريب بل منكر.
وآفته أن فيه: الجلد بن أيوب ذكره ابن حبان في المجروحين (1/210، ترجمة 176) وأخرج حديثه هذا وقال: موضوع لا أصل له.
وأورده ابن حجر في فتح الباري (6/430) فقال: وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق أبي مالك رفعه ... فذكر الحديث وقال عقبه: وهذا غريب مع إرساله.(1/197)
ويشتاق إليهم، فيرجع إليهم.
وقولها «ويتزود لذلك» مرفوعاً عطفاً على فيتحنث، وذلك إما إشارة إلى الخلاء وإما إلى التعبد، أو كان - صلى الله عليه وسلم - يتعبد في غار حراء، ويتزود لمدة خلوته وتعبده والتزود اتخاذ الزاد، والزاد هو الطعام الذي يستصحبه المسافر.
وقولها «ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها» أي: كان بعد الفراغ من التعبد في هذه الليالي يرجع إلى خديجة، فإذا جاء وقت الليالي يتزود لمثلها أي: يصحب معه زاد يكفيه لمثل تلك الليالي.
وخديجة هي: أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشية، كانت تدعي في الجاهلية بالطاهرة (1)
، وكانت أكثر قريش مالاً وأعظمهم شرفاً، وهي التي وآزرته على النبوة، وهاجرت معه وواسته بنفسها ومالها، فإن العرب كانت تتمادح بكسب المال ولاسيما قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة في التجارة، وخديجة كانت تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء معلوم فلما بلغها حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعظيم أمانته، وكرم أخلاقه بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج مالها تاجراً إلى الشام، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره.
وفي سيرة ابن مغلطاى: أنها استاجرته على أربع بكرات فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخرج في مالها مع غلام يقال له: ميسره، قال البرهان: وميسره هذا لا علم أحداً ذكر له إسلاماً، وكأنه توفى قبل النبوة، ولو أدرك النبوة لأسلم، فلما أرسلت ميسرة معه - صلى الله عليه وسلم - قالت له: لا تعص لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أمراً حتى قدم به سوق بصرى وهي مدينة حوران من أرض الشام.
فإنه - صلى الله عليه وسلم - دخل أرض الشام أربع مرات:
المرة الأولى: مع عمه أبي طالب وكان عمره اثنتى عشر سنة على أصح الأقوال الثلاثة فرآه بحيرا الراهب قال الذهبي في تجريده: بحيرا رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل المبعث وآمن به ذكره ابن منده في الصحابه.
واسم بحيرا «جرجيس» فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفه بصفته فأخذ بيده وقال هذا سيد العالمين هذا يبعثه الله للعالمين فقيل له: وما علمك بذلك فقال: إنكم حين أشرفتم
_________
(1) قاله الزبير بن بكار رواه عنه الطبرانى في الكبير (22/447، رقم1091) من قوله، وكذا ابن عساكر في التاريخ (3/131) .
انظر ترجمتها في: (الثقات 1/44، والاستيعاب 4/1817 ترجمة: خدبجة بنت خويلد برقم: 3311، والإصابة 7/600، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 11086) .(1/198)
به من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجدان إلا لنبي وإنا نجده في كتبنا وسأل أبا طالب أن يرده خوفاً عليه من اليهود.
المرة الثانية: مع ميسره وكان عمره خمساً وعشرين سنة ويقال استاجرت معه رجلاً من قريش فلما دخلوا نزلوا تحت ظل شجرة بقرب نسطور الراهب، قال البرهان الحلبي: ولا أعلم أحداً ذكره في الصحابة بخلاف بحيرا فلما رآه نسطور قال: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي، وفي رواية: ما نزل تحتها قط إلا نبي.
المرة الثالثة: ليلة الإسراء وصل إلى بيت المقدس.
المرة الرابعة: إلى تبوك، فأما دمشق فإنه لم ينقل أنه دخلها - صلى الله عليه وسلم -.
فلما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر تجارة خديجة إلى مكة ونظرت خديجة ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - بربح كثير فحدثها ميسره بقول الراهب.
وذكر في كتاب شرف المصطفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رجع من بصرى وقرب من مكة قال له ميسرة: عجل إلى خديجة وبشرها بالربح الكثير، وكانت خديجة تصعد على سطح دارها أوقاتا لتنظر هل قدموا من السفر أم لا، فصعدت يوماً فرأت محمداً - صلى الله عليه وسلم - على بعيره وعلى يمينه ملك شاهر سيفه وعلى شماله ملك شاهر سيفه والغمامة على رأسه، فلما تحققت أمره امتلأ قلبها فرحاً ورغبت في التزوج به.
قال العراقي: ورغبت فخطبت محمداً فيالها من خطبة ما أسعدها، فأرسلت إليه وعرضت نفسها عليه، ثم أرسلت شيئاً ليرسله لأبيها ليرغب فيزوجه، فذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأعمامه فخرج حمزة وأبو طالب (1) ، ورؤساء الحرم إلى خويلد بن أسد
_________
(1) نقل محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص: 15) عن ابن إسحاق أنه قال: «وحضر أبو طالب ورؤساء مضر فخطب أبو طالب فقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضيء معد، وعنصر مضر، وجعلنا حضنة بيته، وسواس حرمه، وجعل لنا بيتاً محجوباً، وحرماً آمناً وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجلاً إلا رجح به، فإن كان في المال قل، فإن المال زائل، وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته، وقد خطب خديجة بنت خويلد، وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا نبأ عظيم، وخطر جليل فتزوجها» .
قلت: لم نقف عليه من رواية ابن إسحاق ووقفنا عليه من قول أبي الحسين بن فارس كما في السيرة الحلبية (1/226) ، وأورده ابن الجوزى في صفوة الصفوة (1/74) بقوله: «وقد ذكر بعض العلماء أن أبا طالب حضر العقد ومعه بنو مضر فقال أبو طالب ... فذكره» كما ذكره الإمام أحمد في مسائله (ص: 19) ولم يعزه إلى أحد.(1/199)
وخطبوها فزجها أبوها، وقيل: أخوها، وقيل: عمها، ويجمع الأقوال بأن الثلاثة حضر وزوجها أبوها على الراجح (1)
فنسب الفعل إلى كل واحد منهم.
وأصدقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشر أوقية ونبشاً (2) ، وقيل: عشرين بكره (3) ، وكان عمره حين التزوج بها خمسة وعشرين سنة على الراجح من الأقوال الستة (4)
، وكان عمر خديجة أربعين سنة على الراجح من الأقوال (5)
_________
(1) صوب ابن سعد أن عمها عمرو بن أسد هو الذى زوجها له - صلى الله عليه وسلم -، وقد أورد ابن سعد الروايات التى ورد فيها أن أباها هو الذى زوجها إياه ثم قال: هذا كله عندنا غلط، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أن أباها خويلد بن أسد مات قبل الفجار وأن عمها عمرو بن أسد زوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال مثله الطبري في التاريخ نقلاً عن الواقدي. انظر: الطبقات الكبرى (1/133) ، والطبري في التاريخ (1/522) .
(2) ورد ذلك في رواية أخرجها الدولابي في الذرية الطاهرة (ص30، رقم 14) بلاغاً.
(3) هذا هو قول ابن إسحاق نقله عنه الحافظ الذهبي في السير (2/14) . وانظر السيرة لابن هشام (2/9) ، (6/57) ، والكلاعي في الاكتفاء (1/156) .
(4) انظر: كلام أبو عمر ابن عبد البر في كتابه الإستيعاب (4/1818، 1819) وقوله بأنه - صلى الله عليه وسلم - حين تزوجها كان ابن خمس وعشرين سنة، وقد صرح في موضع آخر (1/35) أن من قال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وله إحدى وعشرين سنة هو الزهري. وقال: قال أبو بكر بن عثمان وغيره: كان ابن ثلاثين.
وممن روى أن سنه كان وقت ذاك خمس وعشرين سنة ابن سعد في الطبقات (8/17) عن أبي حبيبة مولى الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن خمس وعشرين سنة، وكانت خديجة أسن مني بسنتين ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة وولدت أنا قبل الفيل بثلاثة عشرة سنة.
(5) تجارته - صلى الله عليه وسلم - في مال خديجه وسفره بالتجارة وقصة بحيرا ورغبة خديجة رضي الله عنها في الزواج به - صلى الله عليه وسلم - ورد من رواية محمد بن إسحاق فقد قال: كانت خديجة رضى الله عنها امرأة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم عليه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش قوما تجاراً فلما بلغها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بلغها من صدق حديثه، وعظم أمانته، وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يتجر لها في مالها، ويخرج إلى الشام وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، مع غلام لها يقال له ميسرة، فقبله منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها ميسرة، حتى قدم الشام فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب من الرهبان فأطلع الراهب إلى ميسرة فقال: من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال له ميسرة: هذا رجل من قريش من أهل الحرم، فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، ثم باع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلعته التي خرج بها، واشترى ما أراد، ثم أقبل قافلاً إلى مكة ومعه ميسرة، وكان ميسرة فيما يزعمون يقول: إذا كانت الهاجرة واشتد الحر نزل ملكان يظلانه من الشمس، وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريباً، وحدثها ميسره عن قول الراهب وعن ما كان يرى من إظلال الملكين إياه، بعثت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له فيما يزعمون: يا ابن عم إني قد رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك، وسطتك فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها، وكانت امرأة حازمة لبيبة شريفة، وهي يومئذ أوسط قريش نسباً، وأعظمهم شرفاً، وأكثرهم مالاً، كل قومها قد كان حريصاً على ذلك منها، لو يقدر على ذلك، فلما قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قالت، ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأعمامه، فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب، حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها إليه فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: أخرجه الدولابى (ص 26، رقم 8) عن محمد بن إسحاق، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات (8/16) عن نفيسة بنت أم أم أمية أخت يعلى بن أمية. وانظر السيرة لابن هشام.(1/200)
ومن فضائلها ما ذكره في عقائق الحقائق: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج خديجة كثر كلام الحساد فيها فقالوا: إن محمداً فقير قد تزوج بأغنى النساء فكيف رضيت خديجة بفقره فلما بلغها ذلك أخذتها الغيرة على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يعير بالفقر، فأحضرت سادات الحرم، وأشهدتم أن جميع ما تملكه لمحمد، فإن رضي بفقري فذلك من كرم أصله فتعجب الناس منها، وانقلب القول فقالوا: محمد أمسى من أغنى أهل مكة وخديجة أمست من أفقر أهلها فأعجبها ذلك، وإلى ذلك أشار الله بقوله جل ذكره ?وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى? [الضحى: 8] على قول.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بم أكافئ خديجة؟ فجاءه جبريل وقال: إن الله يقرئك السلام ويقول: مكافأة خديجة علينا فانتظر النبي - صلى الله عليه وسلم - المكافأة فلما كان ليلة المعراج ودخل الجنة وجد قصراً مد البصر فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فقال: يا جبريل لمن هذا القصر؟ قال: لخديجة، فقال: هنيئاً لها لقد أحسن الله مكافآتها.
ومن فضائلها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة: هذا جبريل يقرئك السلام من ربك فقالت: الله السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام، إنما قالت: السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1389، رقم 3609) ، ومسلم في صحيحه (4/1887، رقم 2432) عن أبي هريرة، قال مسلم عقبه: قال أبو بكر في روايته عن أبي هريرة ولم يقل: «سمعت» ، ولم يقل في الحديث: ومني.
وأخرجه أيضاً: أحمد (2/230، رقم 7156) ، وأبو يعلى (10/477، رقم 6089) ، وابن أبي شيبة (6/390، رقم 32287) ، وابن عساكر في التاريخ (50/11) .(1/201)
قال السهيلي في الروض: لأنها علمت بفهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين.
وفي رواية: قال جبريل: «يا محمد هذه خديجة قد أتتك بإناء فيه طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» (1) والقصب: اللؤلؤ المجوف، والصخب: الصياح، والنصب: التعب.
والحكمة في كون البيت من قصب أنها أجازت قصب السبق إلى الإيمان فإنها أول من آمن من النساء بل أول من آمن مطلقاً على قول.
ومن فضائلها: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر خديجة لم يكن يسأم من ثناءه عليها والاستغفار لها، فذكرها ذات يوم فأدركتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، فرأيته غضب غضباً شديداً فندمت وقلت: اللهم إن
_________
(1) الحديث عند النسائى في فضائل الصحابة (ص 75، رقم 254) عن أنس بلفظ: جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده خديجة فقال: «إن الله يقرئ خديجة السلام فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك السلام ورحمة الله وبركاته» .
وأخرجه الطبرانى في المعجم الكبير (23 /15، رقم 25) من حديث سعيد بن كثير عن أبيه.
قال الهيثمى (9/225) : فيه محمد بن الحسن بن زبالة وهو ضعيف.
وأخرج نحوه الفاكهي في أخبار مكة (4/93، رقم 2429) من حديث ابن عباس والقاسم بن أبي بزة من طريقين في موضع واحد خلال قصة وفيه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: وهو أى جبريل يقرئك السلام من الرحمن الرحيم ثم يقرئك السلام فقالت رضي الله عنها: «إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام» .
وأخرجه ابن عساكر في التاريخ (70/118) من حديث ابن عمر أن جبريل قال: معي إليها رسالة من الرب تبارك وتعالى يقرئها السلام، ويبشرها ببيت في الجنة من قصب بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب. قالت: الله السلام، ومنه السلام، والسلام عليكما ورحمة الله وبركاته على رسول الله. وانظر السيرة النبوية (2/79) .
وذكره الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 37، رقم 27) بقوله: قال ابن هشام وحدثني من أثق به أن جبريل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ... فذكره.(1/202)
ذهب غيظ رسولك لم أعد أذكرها بسوء، ثم قال: «صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد إذ حرمني أولاد النساء» (1) .
وفي رواية: فذكرها يوماً فقلت: يا رسول الله هل كانت إلا عجوز قد أخلفك الله خيراً منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب، ثم قال: «لا والله ما أخلف الله لي خيراً منها» فقلت في نفسي: لا أذكرها بسوء أبداً (2) .
هي أم أولاده كلهم خلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية ولم يتزوج غيرها قبلها ولا عليها حتى ماتت، فقامت معه أربعاً وعشرين سنة وأشهراً، توفت قبل الهجرة بثلاث سنين على الأصح، وقيل: بخمس، وقيل: بأربع، وكانت وفاتها بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام عن خمس وستين سنة، ودفنت بالحجون، ونزل النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبرها.
وكان يسمى العام الذي ماتت فيه هي وعمه عام الحزن، فطمعت قريش بموتها في النبي - صلى الله عليه وسلم - وبالغوا في آذاه وتزوجت قبل، النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلين أولهما: عتيق بن عابد، ثم تزوجها أبو هالة (3)
، فولدت منه هاله والظاهر وهند، فعاش هند (4)
وأدرك الإسلام
_________
(1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (ص 32، رقم 19) ، والطبرانى في المعجم الكبير (23/13، رقم 21) .
قال الهيثمى (9/224) : رواه الطبراني وأسانيده حسنة.
(2) أخرجه أبو عمر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1824) . وأورده الحافظ في الإصابة (7/604) وعزاه إلى أبي عمر.
(3) للمحب الطبري كلاماً طيباً في هذه المسألة نذكره ونوثقه إتماماً للفائدة فنقول:
قال محب الدين الطبري في السمط الثمين (ص 11) : قال ابن شهاب: «تزوجت خديجة قبل النبى - صلى الله عليه وسلم - رجلين، الأول منهما: عتيق بن عابد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فولدت له حارثة، ثم خلف عليها بعده أبو هالة التيمى، وهو من بني أسيد بن عمير فولدت له رجلاً» .
قلت: رواه عن الزهري ابن عساكر في التاريخ (3/174) ، والطبراني في الكبير (22/445، رقم 1087) .
وأخرج ابن عساكر نحوه (3/69) عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه.
وقال المحب الطبري: قال ابن إسحاق: «تزوجت وهي بكر: عتيق بن عابد ثم هلك عنها فتزوجها: أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة أحد بني عمر بن تيم، حليف بني عبد الدار فولدت له رجلاً وامرأة ثم هلك عنها فتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» .
قلت: أخرج ذلك الدولابي في الذرية الطاهرة (ص: 25، رقم 4) ، وابن إسحاق في كتاب السيرة المسمى: المبتدأ والمبعث والمغازي (5/229، رقم 340) .
وقال المحب: قال الدارقطنى: «أبو هالة مالك بن النباش بن زرارة» .
قلت: بين الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب (11/63) : أن الدارقطني حكاه في كتاب الأخوة، ونقل عن الزبير بن بكار مثله في الإصابة (6/517، ترجمة: هالة بن هالة بن أبي هالة التميمي برقم 8919) .
وقال المحب الطبري: وعن قتادة قال: «أبو هالة هند بن زرارة بن النباش فولدت له هند بن هند» .
قلت: أورد قول قتادة هذا الحافظ في الإصابة (6/557، ترجمة: هند بن أبي هالة التميمي برقم 9013) .
وقال المحب الطبري: وروى عن ابن شهاب: «أنها تزوجت أولاً أبو هالة ثم عتيق، ذكره الدولابي، وأبو عمر وصحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» ولم يذكر ابن قتيبة غير الأول.
قلت: وقول ابن شهاب أخرجه الدولابي (ص 26، رقم 7) قال: كانت خديجة قبل النبي تحت أبي هالة أخي بني تميم وكانت بعد أبي هالة عند عتيق بن عابد المخزومي ثم تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله «صحح أبو عمر قول ابن شهاب الثاني» وهو قوله: بأنها تزوجت أولاً بأبي هالة، وقد سبق قوله: بأنها تزوجت أولاً بعتيق بن عابد.
ورجح زواجها بأبي هالة أولاً ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1817، ترجمة: خديجة بنت خويلد برقم 2311) .
(4) قال أبو عمر بن عبد البر في الإستيعاب (4/1545) كان - رضي الله عنه - وصافاً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد شرح أبو عبيدة وابن قتيبة وصفه ذلك لما فيه من الفصاحة وفوائد اللغة. وقول أبو عمر حكاه عنه الدارقطني في كتاب الأخوة. انظر: الإصابة (6/557) .
قال المزي في تهذيب الكمال (30/315) : وحديثه من أحسن ما روي في وصف حلية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي إسناد حديثه بعض من لا يعرف، وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود وذكر حديث ابن أبي هالة فقال: أخشى أن يكون موضوعاً. انتهى. قلت: قد أجاب أبو حاتم الرازى عن ذلك فيما نقله الحافظ في تهذيب التهذيب (11/63) فقال: قال أبو حاتم الرازي: روى عنه قوم مجهولون فما ذنب هند حتى أدخله البخاري في الضعفاء. انظر: الكامل في ضعفاء الرجال (7/134، ترجمة 2050 هند بن أبي هالة) ونقل عن البخارى قوله: هند بن أبي هالة روى عنه الحسن بن علي بن أبي طالب يتكلم في حديثه.
وأما عن حديثه في صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - فيقول الحافظ ابن حجر في الإصابة (6/557) روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه الحسن بن علي صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرجه الترمذي والبغوي والطبراني وغيرهم من طرق عن الحسن بن علي، ووقع لنا بعلو في مشيخه أبي علي بن شاذان من طريق أهل البيت، وأخرجه البغوي أيضاً وأخرجه ابن منده من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس أنه قال لهند بن أبي هالة صف لي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: فحديثه في صفة النبى - صلى الله عليه وسلم - يروى من طريق الحسن وابن عباس كما قال الحافظ، فالحديث عند الترمذى في الشمائل المحمدية (ص، رقم 8) .
ورواه في موضع آخر (ص 184، رقم 226) مختصراً.
ورواه في موضع ثالث (ص 276، رقم 337) ولفظه أطول وجميعها من طريق الحسن بن على.
ورواه من طريقه أيضاً: الطبرانى في المعجم الكبير (22/155، رقم 414) .
قال الهيثمى في المجمع (8/278) : فيه من لم يسم.
ورواه البيهقى في شعب الإيمان (2/154، رقم1430) ، وابن عدى في الكامل (7/134) ، وابن حبان في الثقات (2/145) في باب ذكر وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/422) .
وأما حديث هند من طريق يعقوب التيمي عن ابن عباس فأخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/437، رقم 1231) ، والبغوي وابن منده كما قال الحافظ. انظر: الإصابة (6/557) .(1/203)
وكان يقول: أنا أكرم الناس أباً وأماً وأختاً أبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمي خديجة وأخي القاسم وأختي فاطمة.
قال السهيلي: مات بالطاعون، طاعون البصرة (1) ، وكان قد مات في ذلك اليوم نحو من سبعين ألفاً فشغل الناس بجنائزهم عن جنازته فلم يوجد من يحملها فصاحت نادبته: واهند بن هنداه، ربيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبق جنازة إلا تركت واحتملت جنازته على أطراف الأصابع إعظاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل: قتل مع على يوم الجمل والأول هو الصحيح (2) .
* * *
_________
(1) انظر: الإستيعاب (4/1545) قال ابن عبد البر: هكذا قال الزبير. وغيره يقول: إن هند ابن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة مجتازاً إذ مر بها فلم يقم سوق البصرة يومئذ وقالوا مات أخو فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحيح ما قاله الزبير في ذلك والله أعلم بأن هند بن أبي هالة قتل يوم الجمل وأن ابنه هند بن هند بن أبي هالة هو الذي مات بالبصرة في الطاعون.
(2) قاله الزبير بن بكار. انظر: الإستيعاب (4/1545) ، وتهذيب الكمال (30/316) ، والإصابة (6/557) .(1/205)
المجلس التاسع
في الكلام على بقية حديث أول ما بدئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من الوحي الرؤيا في النوم
قول عائشة «حتى جاءه الحق (1)
وهو في غار حراء» مرادها بالحق الوحي الكريم.
وقولها «فجاءه الملك» أي: جبريل.
فإن قيل: إن قوله له فجاءه الملك بالفاء التعقبية بعد قوله حتى جاءه الحق يقتضي مجيىء جبريل إليه بعد مجيىء الوحي مع أن جبريل هو النازل بالوحي؟
فالجواب: أن هذه الفاء تسمي بالفاء التفسيرية نحو قوله تعالى ?فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ? [البقرة: 54] إذ قتل النفس التوبة وهنا مجيىء الملك إليه هو
_________
(1) تحدث الحافظ ابن حجر عن اختلاف الرويات في إتيان الملك فقال:
قوله: «حتى جاءه الحق» أي: الأمر الحق، وفي التفسير: حتى فجئه الحق - بكسر الجيم - أي بغته، وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحي إليه بذلك في المنام أولاً قبل اليقظة، أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام.
وسمي حقاً لأنه وحي من الله تعالى.
وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول شأنه يري في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد، صرخ جبريل: «يا محمد» فنظر يمينا وشمالاً فلم ير شيئا، فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: «يا محمد، جبريل جبريل» فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئاً، ثم خرج عنهم فناداه فهرب، ثم استعلن له جبريل من قبل حراء، فذكر قصة إقرائه «اقرأ باسم ربك» ورأي حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر، وهذا من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود، وابن لهيعة ضعيف.
وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا: «لم أره - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين» ، وبين أحمد في حديث ابن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها، والثانية عند المعراج.
وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة: «لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين: مرة عند سدرة المنتهي، ومرة في أجياد» وهذا يقوي رواية ابن لهيعة، وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين، وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته، والعلم عند الله تعالى.
ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حراء وأقرأه «اقرأ باسم ربك» ثم انصرف، فبقي متردداً، فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمراً عظيماً. انظر: الفتح (1/72) .(1/206)
عبارة عن مجيىء الوحي بالتفصيلية أيضاً لأن مجيىء الملك.
وقوله «اقرأ» إلى آخر ما سيأتي تفصيل للمجمل الذي هو مجيىء الحق، والمفصل نفس المجمل، ومقصود عائشة أنه وحي المنام، وهو ستة أشهر كما تقدم، لما فرغت نزل عليه جبريل بالوحي في اليقظة، وهو في غار حراء، وكان نزوله عليه يوم الاثنين بعد مضي سبع عشر ليلة خلت من رمضان ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين سنة وستة أشهر فقال: أول ما نزل عليه جبريل نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - «اقرأ» قال: قلت له: «ما أنا بقارئ» .
قال العلماء: «ما» هنا نافية واسمها «أنا» و «بقارئ» خبرها، والباء زائدة لتأكيد النفي أي: ما أحسن القراءة.
قال ابن الملقن وغيره: وغلط من جعلها استفهاميه لدخول الباء في خبرها.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «فأخذني لما قلت له: ما أنا بقارئ فغطني» أي: ضمني وعصرني «حتى بلغ مني الجهد» أي: الطاقة «ثم أوصلني» أي: أطلقني من العصر «فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني الثالثة ثم أرسلني» .
والحكمة في عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشغله عن الالتفات إلى شيء من أمور الدنيا ولبيالغ في أمره بإحضار قلبه لما يقول له.
قيل: والحكمة في ذلك أن جبريل أراد بالعصر أن يوقفه على أن القراءة ليست من قدرته ولو أكره عليها، وكان كلما أمره بالقراءة فلم يفعل شدد عليه بالعصر لينبهه على أن القراءة ليست من قدرته ولا من طاقته ووسعه.
والحكمة في عصره ثلاثاً مبالغة في التنبيه على ذلك.
وقيل: الحكمة في فعل ذلك ثلاثاً الإشارة إلى أنه يبتلى بثلاث شدائد ثم يأتي الفرج، ولقي ذلك - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه حصل لهم شدة من الجوع في الشعب حين تعاقدت قريش أن لا يبيعوا منهم ولا يصلوا إليهم، وشده أخرى من الخوف والإبعاد بالقتل، وشدة أخرى من الإجلاء عن أحب الأوطان إليهم، ثم كانت العاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.
قال العلماء: في عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم، وأن يأمره بإحضار مجامع قلبه، وأن يكرر له ما يعلمه ثلاثاً، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا تكلم بكلمته أعادها ثلاثاً لتفهم عنه.
وقد ورد في فضل تعليم القرآن وتعلمه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/207)
«يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه للناس، ولا تزل كذلك حتى يأتيك الموت، فإذا أتاك الموت وأنت كذلك حجت الملائكة إلى قبرك كما يحج المؤمنون إلى بيت الحرام» (1) .
وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً، فيقرأ صبياً من صبيانهم في الكتاب ?الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ? [الفاتحة: 2] فيسمع الله عز وجل فيرفع عنهم العذاب أربعين سنة» (2) .
وكذلك الواعظ ينبغي له أن يحتاط في أمر الحاضرين بإحضارهم قلوبهم ليفهموا ما يلقى إليهم، واستنبط القاضي شريح (3) من هذا الحديث أن مؤدب الأطفال لا يزيد على ضرب الصبي على التعلم على ثلاث ضربات، كما عصر جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً وفي صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عصره جبريل تنبيه على أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لمعلمه وإن كان أصغر منه.
قالوا: العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي.
وقال ابن عباس: ذللت طالباً ففزت مطلوباً.
وقال الإمام علي كرم الله وجهه: من حق المعلم عليك أن تسلم على الناس عامة، وتخصه من دونهم بالتحية وأن تجلس أمامه ولا تشيرن عنده بيدك، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تغمزن بعينيك، ولا تقولن قال فلان خلافاً لقوله، ولا تساور في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذ كسل، ولا تعرض أي: تشبع من طول صحبته.
قال النووي قدس الله سره: ولا نعلم إلا ممن كملت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهر صيانته، فقد قال السلف الصالحون: هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فقال: جبريل غط النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات ويقول له: اقرأ وهو يقول: ما أنا بقارئ في المرة الرابعة ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 1، 2، 3] فقوله ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ? معناه: لا تقرأ القرآن بقوتك، ولا بمعرفتك، بل بحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومغمز الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى
_________
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (5/345، رقم 8385) عن أبي هريرة.
(2) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/256) وعزاه إلى الثعلبي وكثير من المفسرين عن حذيفة، ثم قال: حديث موضوع كما قاله الحافظ العراقي وغيره، وقيل: إنه ضعيف.
وذكره البيضاوي في التفسير (1/84) ، وأبو السعود في تفسيره (1/20) .
(3) هو: شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي، أبو أمية، من أشهر القضاة الفقهاء في صدر الإسلام، أصله من اليمن، ولي قضاء الكوفة في زمن عمر وعثمان وعلي ومعاوية، واستعفى في أيام الحجاج، فأعفاه سنة 77 هـ، وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، له باع في الأدب والشعر، وعمر طويلاً، ومات بالكوفة سنة: 78 هـ.(1/208)
صارت تكتب بالقلم يعني أنها كانت أمية.
وقوله: ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? فيه إذن وإعلام بأن الإنسان أشرف المخلوقات.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله تعالى خلقه حياً عالماً قادراً مريداً حكيماً وهذه صفات الرب سبحانه وتعالى.
وينبني على كون الإنسان أحسن المخلوقات سؤال وهو: ما لو قال شخص لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق هل تطلق زوجته بذلك إن لم تكن أحسن من القمر أم لا؟
قال العلماء: إنها لا تطلق وإن كانت زنجية لقوله تعالى ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? [التين: 4] إذ المراد به إحكام الخلقة وكمال العقل.
وقد وقعت هذه الواقعة في أيام الملك المنصور (1) لموسى بن عيسى الهاشمي كان يحب زوجته حباً شديداً فقال لها: يوماً أنت طالق ثلاثاً إن لم تكوني أحسن من القمر، فنهضت واحتجبت عنه وقالت: طلقني فإن القمر أحسن مني وبات في ليلة عظيمة، فلما أصبح ذهب إلى دار المنصور فأخبره الخبر، وأظهر للمنصور حزناً عظيماً إذ طلب المنصور العلماء واستفتاهم في ذلك، فقال جميع من حضر وقع عليه
الطلاق، إلا واحد من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتاً فقال المنصور: مالك لا تتكلم؟ فقال: لا تطلق يا أمير المؤمنين لأن الله تعالى قال: ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? يا أمير المؤمنين الإنسان أحسن الأشياء ولا شيء أحسن منه، فقال المنصور لعيسى بن موسى الأمر كما قال الرجل، أقبل على زوجتك، وأرسل المنصور إلى زوجته أن أطيعي زوجك ولا تعصيه، فما طلقكي.
وهذا الجواب ينقل عن إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - هذا إن أريد بالحسن إحكام العقل، وكما أن العقل فإن أريد به الجمال الظاهر أنها إذا كانت قبيحة الشكل تطلق، نبه عليه الأذرعي.
فإن قيل: الإنسان مخلوق من علقه واحدة كما في آية أخرى من نطفة ثم من علقة فكيف قال في هذه الآية ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?؟
فالجواب: أن المراد جنس الإنسان خلق من علق فهو في معنى الجمع.
فإن قيل: أي: مناسبة بين الخلق العلق، والتعليم بالعلم؟
فالجواب: إن الله سبحانه وتعالى نبه لقوله ?الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 4، 5] بعد قوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? على أن أدنى مراتب
_________
(1) المنصور العباسي هو: عبد الله بن محمد بن علي بن العباس، أبو جعفر، المنصور: ثاني خلفاء بني العباس، هو أول من عني بالعلوم من ملوك العرب، كان عارفاً بالفقه والأدب، مقدماً في الفلسفة والفلك، محباً للعلماء، ولد في الحميمة من أرض الشراة قرب معان سنة: 95هـ، وولي الخلافة بعد وفاة أخيه السفاح سنة 136هـ، وهو باني مدينة «بغداد» أمر بتخطيطها سنة 145هـ، وجعلها دار ملكه بدلا من «الهاشمية» التي بناها السفاح، ومن آثاره مدينة «المصيصة» و «الرافقة» بالرقة، وزيادة في المسجد الحرام، وفي أيامه شرع العرب يطلبون علوم اليونانيين والفرس، وعمل أول أسطرلاب في الإسلام، صنعه محمد بن إبراهيم الفزاري، وكان بعيداً عن اللهو والعبث، كثير الجد والتفكير، وله تواقيع غاية في البلاغة، وهو والد الخلفاء العباسيين جميعاً، وكان أفحلهم شجاعة وحزماً إلا أنه قتل خلقاً كثيراً حتى استقام ملكه، توفي ببئر ميمون من أرض مكة محرماً بالحج، ودفن في الحجون بمكة سنة: 158هـ، ومدة خلافته 22 عاماً، يؤخذ عليه قتله لأبي مسلم الخراساني سنة 137هـ، ومعذرته أنه لما ولي الخلافة دعاه إليه، فامتنع في خراسان، فألح في طلبه، فجاءه، فخاف شره، فقتله في المدائن، وكان المنصور أسمر نحيفاً طويل القامة خفيف العارضين معرق الوجه، رحب اللحية يخضب بالسواد، عريض الجبهة، كأن عينيه لسانان ناطقان، تخالطه أبهة الملوك بزي النساك " أمه بربرية تدعى سلامة. وكان نقش خاتمه «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .(1/209)
الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالماً، فالله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بنقله من أحسن المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهي العلم.
فإن قيل: لأي شيء خص الإنسان بالذكر بقوله ?خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ? مع أن جميع الحيوانات مخلوقات من علق؟
فالجواب: أنه إنما خصه بالذكر ليبين قدر نعمته عليه فأعلمه أن خلقه من نطفه مهينة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً مميزاً.
وقوله تعالى: ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? قال العلماء: القلم نعمة من الله على عبادة، وهو من أشرف المخلوقات لله، ولذا أقسم به في كتابه العزيز فقال: ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? [القلم: 1] .
والقلم أول ما خلقه الله تعالى في الحديث عن أبي هريرة قال سمعت رسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أول ما خلق الله القلم، ثم خلق النون وهي الدواة وذلك قوله تعالى ?ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ? ثم قال له: اكتب قال: وما اكتب؟ قال: ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة» (1) .
وفي الحديث «من عمل أو أجل أو رزق أو أثر، فجرى القلم بما هو كائن إلى
_________
(1) أخرجه الديلمي في الفردوس (1/12، رقم 3) ، والسمعاني في أدب الاملاء والاستملاء (1/158) عن أبي هريرة.
وهو حديث باطل فقد أخرجه ابن عدي في الكامل (6/269، ترجمة 1753 محمد بن وهب بن عطية الدمشقي) قال ابن عدي بعد أن أخرج الحديث: وهذا بهذا الإسناد باطل منكر، وقال في نهاية الترجمة: ولمحمد بن وهب بن عطية غير حديث منكر ولم أر للمتقدمين فيه كلاما وقد رأيتهم قد تكلموا فيمن هو خير منه.
وترجم له الذهبي في الميزان (6/362، ترجمة 8304) وقال: قال ابن عدي: له غير حديث منكر، وقال أبو القاسم بن عساكر: ذاهب الحديث. وانظر: لسان الميزان (5/419، ترجمة 1379) .
وقد فرق الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (9/446) ، بينه وبين رجل آخر في الثقات فقال: «محمد بن وهب بن مسلم القرشي ... أورد له بن عدي حديثه عن الوليد عن مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعة ... فذكر الحافظ الحديث ثم قال: قال بن عدي: هذا باطل، لكن ظن ابن عدي أنه الأول فقال هو: محمد بن وهب بن عطية وليس كما ظن وقد فرق بينهما أبو القاسم بن عساكر فأصاب.
قلت فالضعيف منهما: محمد بن وهب بن مسلم القرشي.
والحديث ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/309) وعزاه إلى الحكيم الترمذي.(1/210)
يوم القيامة» (1)
ففي هذا الحديث دلالة على أن القلم هو المأمور بالكتابة.
قال ابن عباس: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.
قال القرطبي: ويقال خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين فقال: اجر، فقال: يا رب بم أجرى؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى على اللوح المحفوظ، ووضع الله هذا القلم فوق عرشه.
وهل خلق قلماً واحداً لكتابه المقادير أو أقلاماً سيأتي بيان ذلك في حديث المعراج.
وفي قوله ?عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ? بعد قوله ?عَلَّمَ بِالْقَلَمِ? تنبيه على أنه كما يحصل التعلم بالقلم يحصل بتعليم الله تعالى بلا واسطة لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يكتب حتى تعلم بالقلم.
ومعنى قوله ?اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? [العلق: 3] الذي له الكمال في زيادة كرمه على كل كريم، وينعم على عباده النعم التي تحصى، ويحلم عليهم فلا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمته وارتكابهم المناهي، وتركهم الأوامر، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم، فما لكرمه غاية ولا مد.
وفي الحديث دليل على أن أول ما نزل من القرآن ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ?
[العلق:1-5] .
وللعلماء في هذه المسألة أقوال أصحها أن أول ما نزل أوائل السورة ?اقْرَأْ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ?.
وقيل: أول ما أنزل سورة الفاتحة، وقيل: بسم الله الرحمن الرحيم.
واختلف العلماء في آخر آية نزلت فقيل آية الربا وهي قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا? [البقرة: 278] ، وقيل: آية الدين، وقيل: ?لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ... ? إلى آخر السورة [التوبة: 128، 129] ،
_________
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/39) ، والحكيم في نوادر الأصول (2/354) عن علي ابن أبي طالب.
قلت: وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة السابق ورد هذا الخبر على أنه تمام له، كما في رواية السمعاني في أدب الإملاء والاستملاء (1/158) .(1/211)
والأرجح كما قاله ابن حجر وغيره: إن آخر ما أنزل قوله تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ? [البقرة: 281] لما فيها من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.
وقسم العلماء القرآن باعتبار نزوله إلى مكي ومدني وسفري وحضري وليلي ونهاري، وبين الليل والنهار، وسماوي وأرضي، وإلى ما نزل بين السماء والأرض، وما نزل تحت الأرض، وإلى صيفي وشتائي، وإلى فراشي ونومي.
فأما المكي والمدني فالناس فيه اصطلاحات أشهرها المكي: ما نزل قبل الهجرة، والمدني: ما نزل بعدها سواء نزل بمكة وبالمدينة أم الفتح أو عام الوداع أم بسفر من الأسفار.
ومن فوائد معرفة القلب الفرق بينهما العلم فيكون ناسخاً أو مخصصاً، قال ابن الحصار: فالمدني باتفاق عشرون سورة، والمختلف فيه اثنتى عشرة سورة، والباقي مكي باتفاق.
وأما الحضري فأمثلته كثيرة.
وأما السفري فقليل بالنسبة إلى الحضري، ومن أمثلته قوله تعالى ?وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ? [محمد: 13] ، وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما توجه مهاجراً إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فنزلت.
ومن أمثلته أيضاً ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ? الآية [الحجرات: 13] نزلت بمكة يوم الفتح لما رقى بلال على ظهر الكعبة وأذن، فقال بعض الناس: هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة.
وأما النهار فهو كثير نزل القرآن نهاراً.
وأما الليلي فهو قليل بالنسبة إلى النهار ومن أمثلته أيضاً ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس في أول الأمر ليلاً حتى نزلت، وخرج رأسه من القبة فقال: يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله، ومن أمثلته أيضاً سورة الأنعام ومريم فإنها نزلت ليلاً.
وأما الذي بين الليل والنهار أي: في وقت الصبح فمن أمثلته آية التيمم في المائدة، وقوله تعالى ?لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ? [آل عمران: 128] .
وأما الأرضي فكثير.
وأما السماوي فمن أمثلته قوله تعالى ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ(1/212)
وَالْمُؤْمِنُونَ ... ? [البقرة: 285] إلى آخرها نزلت هذه الآية ليلة الإسراء بقاب قوسين لما انتهى إلى سدرة المنتهي.
وأما ما نزل بين السماء والأرض فأربع آيات فقط في الصافات ?ومنا وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ... ? الآيات الثلاث [الصافات: 164 - 166] ، وواحدة في الزخرف ?وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ... ? الآية [الزخرف: 45] .
وأما ما نزل تحت الأرض هو في الغار فسورة المرسلات كما في الصحيح عن ابن مسعود.
وأما الصيفي والشتائي فمن أمثلتها آية الكلالة قال الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين أحدهما في الشتاء، وهي أول النساء، والأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها.
وأما الفراشي فمن أمثلته ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] ، وآية الثلاثة الذين خلفوا في الأرض (1) .
وأما النومي فمن أمثلته سورة الكوثر فقد روى مسلم عن أنس قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إذا غفي إغفأة، ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل على آنفاً سورة فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ?إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ... ? إلى آخرها.
ومن القرآن ما أنزل مرتين تعظيماً لشأنه وخوفاً من نسيانه فمن ذلك آية الروح، ومنه قوله تعالى ?وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ? [هود: 114] ، وذكر قوم منهم الفاتحة وسورة سبحان.
وقيل: منه قوله تعالى ?قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ? [الإخلاص: 1] فإنها نزلت جواباً للمشركين بمكة ونزلت بأهل الكتاب بالمدينة.
ومن القرآن ما نزل آيات مفرقة وهو غالب القرآن ومنه ما نزل جمعاً أي: السورة بكمالها من غير تفريق آياتها كسورة الفاتحة والإخلاص والمعوذتين نزلتا معاً والمرسلات والأنعام من القرآن ما نزل مفرداً على يد جبريل فقط.
ومنه ما نزل مشيعاً أي: معه ملائكة كثيرون كسورة الأنعام نزلت ومعها سبعون
_________
(1) وهي قوله تعالى في سورة التوبة الآية (118) : ?وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?.(1/213)
ألف ملك كما ورد عن أنس مرفوعاً بسند ضعيف أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب قال: «نزلت سورة الأنعام ومعها موكب من الملائكة يسد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح والتقديس والأرض ترتج» (1) .
وكذلك سورة الكهف سبعون ألف ملك.
ومن القرآن ما نزل على بعض الأنبياء كـ ?سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ? [الأعلى: 1] .
فائدة: قوله تعالى ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58] نزلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في جوف الكعبة ولم ينزل في جوف الكعبة آية سواها، كما نبه على ذلك الدميري في أول كتاب الوديعة من شرح المنهاج.
ثم قالت عائشة: «فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» بالآيات التي علمه جبريل وهي ?اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ... ? إلى قوله ?مَا لَمْ يَعْلَمْ? [العلق: 1 - 5] قاصداً بيت خديجة يرجف فؤاده أي: يخفق ويضرب فالرجف من شدة الحركة، والفؤاد هو القلب، وقيل: إنه عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب.
فإن قيل: أين علمت خديجة برجفان فؤاده؟
فالجواب: إما إنها رأته حقيقة، وإما إنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال، وإما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرها بذلك.
«فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني» أي: دثروني، وجاء في رواية أخرى: «دثروني وصبوا على ماءاً بارداً» (2) وقال ذلك - صلى الله عليه وسلم - لشدة ما لحقه من هول الأمر وشدة الضغط، ولولا ما جبل - صلى الله عليه وسلم - من الشجاعة والقوة ما استطاع على تلقي ذلك لأن الأمر جليل.
«فزملوه حتى ذهب عنه الروع» أي: الفزع.
«فقال لخديجة وأخبرها الخبر» أي: خبر ما وقع له من مجيىء الملك وغطه وقوله له
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/470، رقم 2433) .
ورواه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/20) قال الهثيمي: رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي ولم أعرفها وبقية رجاله ثقات.
وأخرجه أيضاً: معجم شيوخ (2/552) .
(2) هذه الرواية عند البخاري أيضاً في الصحيح (4/1874، رقم 4638) من حديث جابر.
وأيضاً: عند أحمد في مسنده (3/392، رقم 15251) ، وابن حبان في صحيحه (1/220، رقم 34) .(1/214)
اقرأ أو غير ذلك.
«لقد خشيت على نفسي» أي: خفت عليها، وهو جواب قسم محذوف أي: والله لقد خشيت، وهو مقول قال، أي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أخبرها بخبر ما وقع مع جبريل، لقد خشيت على نفسي.
قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر: اختلف العلماء في مراده - صلى الله عليه وسلم - بالخشية المذكورة على اثنى عشر قولاً:
فقيل: خشي أن يحصل له عند رؤية جبريل وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة.
وقيل: خشي من العجز على أعباء النبوة.
وقيل: خشي أن يعجز عن النظر إلى الملك من الرعب.
وقيل: خشي من عدم الصبر على أذي قومه.
وقيل: خشي من أن يقتلوه.
وقيل: خشي من مفارقة الوطن وقيل خشي من تكذيبهم إياه.
وقيل: خشي من تعييرهم إياه.
والراجح: كما قاله ابن حجر من الأقوال أنه خشي من الموت من شدة الرعب أو من المرض أو دوام المرض (1) .
فائدة: يستفاد من كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر خديجة إلا بعد أن ذهب عنه الفزع أن العالم في حال خوفه ينبغي أن يسأل عن شيء حتى يزول عنه فزعه، وكذلك القاضي ينبغي أن لا يقض في حال فزعه، ولا يرفع إليه أمر في تلك الحال حتى أن الإمام مالك - رضي الله عنه - قال: إن الخائف المذعور لا يصح بيعه ولا إقراره، ولا غيره.
قال: «لقد خشيت على نفسي قالت له: خديجة كلا والله ما يحزنك الله أبداً» معنى «كلا» هنا النفي والإبعاد أي: لا والله ما يخزيك الله أبداً أي: ما يفضحك ويهينك، ورواه مسلم «يحزنك» من الحزن خلاف السرور، ويجوز على هذا فتح الياء وضمها فيقال «يَحزيك ويُحزيك» ، فإنه جاء: «أحزنه وحزنه» لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع قال تعالى ?لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ? [الأنبياء: 103] من حزن ?قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ? [يوسف: 13] من أحزن على قراءة من قرأ بضم الياء.
فائدة: الفرق بين الهم الحزن أن الحزن يكون على أمر قد وقع، كأن مات له ميت
_________
(1) انظر الفتح (1/74) .(1/215)
فيحزن عليه، واما الهم فإنه يكون على أمر مستقل متوقع الوقوع ولم يقع.
ثم قالت له خديجة: «إنك لتصل الرحم» أي: لتحسن إلى أقاربك، فيه دلالة على استجاب صلة الرحم، وهو الإحسان إلى الأقارب، فتارة تكون صلة الرحم بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيادة، وتارة بالسلام، وتارة بغير ذلك.
«وتحمل الكل» أي: الثقل، والمعنى: أنك تعين الضعيف، وترفع ما عليه من الثقل.
«وتكسب المعدوم» الرواية الفصيحة (1) الكثيرة المشهوه «تكسب» بفتح الياء واختلف في معناه على خمسة أقوال:
فقيل: معناها وتعين المحتاج، فإن الرجل المحتاج العاجز عن الكسب كالمعدوم البت، أي: تعين هذا الذي كالمعدوم لعجزه فتعينه، وقيل في معناها غير ذلك.
وروي «تكسب» بضم أوله بمعنى تكسب غيرك المال المعدوم، أي: تعطيه إياه فحذف أول مفعوله، وقيل: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من مكارم الأخلاق العلوم وغير ذلك.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/75) : في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله، وعليها قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير، لأن المعدوم لا يكسب.
قلت: ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له، والكسب هو الاستفادة، فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجوداً رغبت أنت أن تستفيد رجلاً عاجزاً فتعاونه.
وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: قوله يكسب معناه: ما يعدمه غيره ويعجز عته يصيبه هو ويكسبه.
قال أعرابي يمدح إنساناً: كان أكسبهم لمعدوم، وأعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب «كسوب كذا المعدوم من كسب واحد» أي: مما يكسبه وحده، (انتهى) .
ولغير الكشميهني «وتكسب» بفتح أوله، قال عياض: وهذه الرواية أصح.
قلت: قد وجهنا الأولى، وهذه الراجحة، ومعناها: تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، ويقال: كسبت الرجل مالاً وأكسبته بمعنى.
وقيل: معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك. وكانت العرب تتمادح بكسب المال، لا سيما قريش.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة محظوظاً في التجارة. وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به، من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات.(1/216)
«وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (1) أي: على حوادث الحق، ومعنى كلام خديجة: أنك لا يصيبك مكروه لما جعله الله فيك من مكارم الأخلاق وجميل الصفات، فخصال الخير سبب للسلامة من مصارع السوء، والمكارم سبب لدفع المكارة، وفي هذا دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه لمصلحة نظراً.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «احثوا في وجوه المداحين التراب» (2) فهو محمول على المدح بباطل أو يؤديه باطل.
وفيه دليل على أنه ينبغي لمن حضر عند من حصل له مخافة من شيء أن يذكر له أسباب السلامة، وأن يذكر ما فيه من الفضائل كما فعلت خديجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفيه أبلغ دليل على كمال خديجة وجزالة رأيها وقوة نفسها وعظمتها، جمعت رضي الله عنها جميع أنواع المكارم وأمهاتها.
ويدل على كمال عقلها وقوة معرفتها ما ذكره ابن إسحاق أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أي ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به فجاءه جبريل - عليه السلام - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخديجة رضى الله عنها: هذا جبريل - عليه السلام - قد جاءني، قالت: قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى قال: فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عليها فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : وقولها: «وتعين على نوائب الحق» هي كلمة جامعة لأفراد ما تقدم ولما لم يتقدم.
وفي رواية البخاري في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة: «وتصدق الحديث» وهي من أشرف الخصال.
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة «وتؤدي الأمانة» .
وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر، بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه، وأن من نزلت به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/124، رقم 339) ، ومسلم في صحيحه (4/2297، رقم 3002) ، والترمذي في سننه (4/599، رقم 2393) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في سننه (2/1232، رقم 3742) ، وأحمد في مسنده (6/5، رقم 23875) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/227، رقم 295) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/239، رقم 565) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/297، رقم 26259) ، وفي مسند الشاميين (1/274، رقم 479) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/413، رقم 711) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/242، رقم 20926) جميعاُ عن المقداد بن عمرو.(1/217)
واقعد على فخذي الأيمن فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قال: فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها، ثم قالت له: هل تراه؟ قال: لا، قالت: يا ابن عم أثبت وأبشر فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان» (1) .
وجاء في رواية أخرى: أنه لما كمل من العمر أربعون سنة قال لخديجة دعيني أتحنث، فكانت تصنع له الكعك والزبيب ثم يخرج إلى أجياد الأصغر، وقيل إلى غار حراء، فخرج يوماً فهتف به جبريل - عليه السلام - ولم يبد له، فغشي عليه، فجاء المشركون إليها وقالوا: دونك يا خديجة قد تزوجت مجنوناً فضمته إلى صدرها ووضعت رأسه في حجرها، وقبلته بين عينيه وقالت: تزوجت نبياً مرسلاً، فلما أفاق قالت: بأبي أنت وأمي ما الذي أصابك هل رأيت شيئاً أنكرته؟ فقال: ما أصابتي إلا أني سمعت صوتاً أفزعني، ففرحت خديجة واستبشرت ثم قالت: من الغد فعد إلى الموضع الذي كنت فيه بالأمس فإن يك ملكاً فسيرجع لك، وإن يك شيطان فليس براجع، فلما كان اليوم الآخر خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى الموضع، فهتف جبريل ولم يبد له، فغشي عليه فحملوه إليها قال: وفرحت قريش بذلك وقالوا: يتخطبه الشيطان، فحملوه إليها وقالوا مثل القول الأول، فردت عليهم مثل القول الأول، فلما أفاق سألته وقالت: بأبي وأمي رأيت اليوم شيئاً فقص عليها القصة ففرحت وقالت: إذا كان من الغد فارجع فرجع من الغد إلى موضعه فبدا له جبريل في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول لك أنت رسولي إلى الثقلين الإنس والجن، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله، ثم قال: ألا تعرفني؟ قال: لا، قال: أنا جبريل وأنت محمد، ولا نبي بعدك، وعرج جبريل إلى السماء، وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أجياد الأصغر وما مر بحجر أو شجر إلا وهو ينادي: السلام عليك يا رسول الله، حتى ذهب إلى خديجة وأخبرها بالكرامة التي أكرمه الله بها من الرسالة، فغشي عليها من الفرح، فنضح عليها الماء حتى أفاقت فآمنت بالله ورسوله وانشدوا في المعنى:
رموا بالجنون نبي الورى ... وتاج الكرام ومزن الأوام
وقالوا خديجة هذا الذي ... ملأت به قلبك المستهام
_________
(1) أخرجه الدولابي في الذرية الطاهرة (1/35) ، والطبري فى التاريخ (1/533) كلاهما من طريق ابن إسحاق.
وانظر: السيرة لابن هشام (2/75) .(1/218)
أصابته من بيننا غشية ... فها هو ما إن يبين الكلام
فقالت لهم أنتم بالذي ... تقولون أحرى برب الأنام
فخلوا حبيبي وسيروا فما ... يؤثر فيه عندي الملام
فضمته شوقاً إلى صدرها ... وقالت محمد ماذا الهيام
فقال لها جاءني آنفاً ... من الله جبريل يقرئ السلام
علي ويخبرني أنني ... رسول الإله لهذا الأنام
ألا فأسلمي تسلمي من لظى ... فإنك أولى بهذا المقام
فقالت له إنني قد شهدت ... بأن الإله قديم الدوام
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه أو تكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بخديجة إذا رجع إليها، فثبته وتخفف عنه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس.
جاء في رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: خرجت أي: من الغار حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتاً من السماء يقول: يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل فرفعت رأسي فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، فلا أنظر في ناحية إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفاً ما تقدم أمامي ولا أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ثم انصرف عني وانصرفت إلى أهلي، فقالت خديجة: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو الله لقد بعثت رسلي في طلبك، فحدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر واثبت فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة (1) .
وقولها «فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة (2) » .
_________
(1) هذه رواية ابن إسحاق فى السيرة (2/100، رقم 140) .
وأخرجه الطبري فى التاريخ (1/532) ، وابن عساكر فى التاريخ (63/12) ، والفاكهي فى أخبار مكة (4/86، رقم 2420) جميعاً من طريق ابن إسحاق.
وأورده ابن كثير فى البداية والنهاية (3/11) بقوله: «وقال ابن اسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي وكان داعية عن بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد الله كرامته … فذكره» .
وانظر السيرة النبوية (2/69) ، والسيرة الحلبية (1/385) ، والإكتفاء للكلاعى (1/202) .
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فانطلقت به» أي مضت معه، فالباء للمصاحبة. وورقة بفتح الراء. وقوله: «ابن عم خديجة» هو بنصب ابن ويكتب بالألف، وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان، ولا يجوز جره فإنه يصير صفة لعبد العزى، وليس كذلك، ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين.
قوله: «تنصر» أي: صار نصرانياً، وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل، لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين، فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر، وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل، ولهذا أخبر بشأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والبشارة به، إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل.(1/219)
إنما كان ورقة ابن عم خديجة لأنها: خديجة بنت خويلد بن أسد، وهو: ورقة بن نوفل بن أسد، وورقة كان من علماء قريش وشعرائهم، وكان يدعى القس، وكان يعرف اللسان العربي والعبراني أي: صار نصرانياً وترك عبادة الأوثان، وفارق طريق الجاهلية.
والجاهلية: المدة التي قبل نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانوا عليه من فاحش الجهالات، وقيل: هو زمن من الفترة مطلقاً.
«وكان أي: ورقة يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب» هكذا وقع هنا ووقع في كتاب «التصبير» وفي مسلم (1) : «وكان يكتب الكتاب العربي بالعربية» (2) .
قال النووي: وحاصلة أنه تمكن من معرفة دين النصارى وكتابتهم، وتصرف حتى
_________
(1) انظر صحيح مسلم (1/139، رقم 160) .
وحديث بدء الوحي وما كان من خديجة وورقة ابن عمها عند أبو عوانة في مسنده (1/102، رقم 328) ، وابن منده فى الإيمان (2/689، رقم 681) ، والبيهقي فى السنن الكبرى (9/5، رقم 17499) ، والدولابي في الذرية الطاهرة (ص 33، رقم 22) .
وانظر: السيرة لابن هشام (2/217) .
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/76) : قوله: «فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية» .
وفي رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية، ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربي، والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي، لتمكنه من الكتابين واللسانين.
ووقع لبعض الشراح هذا خبط فلا يعرج عليه وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسراً، كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة، فلهذا جاء في صفتها: «أناجيلها صدورها» .(1/220)
صار يكتب الإنجيل إن شاء بالعربية، وإن شاء بالعبرانية.
قال ابن الملقن: فيه دليل على جواز ذكر العاهة بالشخص ولا يكون ذلك غيبة.
«فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك» وفي رواية «يا عم» (1) .
قال الكرماني: وكلاهما صحيح فإن ورقه كان ابن عم خديجة حقيقة كما في رواية البخاري، وسمته عمها كما في رواية مسلم مجازاً للاحترام، وهذا عادة العرب يخاطب الصغير الكبير بقوله له يا عم احتراماً له ورفعاً لمرتبته.
وقول خديجة لورقة «اسمع من ابن أخيك» يقضي أن ورقة كان عماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ليس من أعمامه لكن أولو ذلك بأنها جعلته عماً له - صلى الله عليه وسلم - احتراماً له واستعطافاً على سبيل المجاز، وقيل غير ذلك.
«فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس» اتفق على أن جبريل يسمي الناموس، وعلى أنه المراد في هذا الحديث، ومعنى الناموس في اللغة: صاحب سر الخير، والجاسوس: صاحب سر الشر، سمي جبريل بذلك لأنه تعالى خصه بالغيب والوحي الذي يطلع عليه غيره، وإنما قال ورقة هذا الناموس الذي أنزل الله موسى، ولم يقل على عيسى مع أنه الأقرب وورقة قد تنصر وكتب الإنجيل، لأن موسى متفق عليه على رسالته بين اليهود والنصارى بخلاف عيسى فإن بعض اليهود ينكرون نبوته، أو لأن النصارى يتبعون أحكام التوارة
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/77) : قولها: «يا ابن عم» هذا النداء على حقيقته، ووقع في مسلم «يا عم» وهو وهم، لأنه وإن كان صحيحاً لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد، فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة، وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة، واختلفت المخارج فأمكن التعداد، وهذا الحكم يطرد في جميع ما أشبهه.
وقالت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اسمع من ابن أخيك» لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته.
أو قالته على سبيل التوقير لسنه، وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسؤول، وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة: «اسمع من ابن أخيك» أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك أبلغ في التعليم.
قوله: «ماذا ترى؟» فيه حذف يدل عليه سياق الكلام، وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال: فأتت به ورقة ابن عمها، فأخبرته بالذي رأى.(1/221)
ويرجعون إليها (1) .
ثم قال ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ياليتني فيها» أي: في أيام نبوتك أو دعوتك أو دولتك «جذعاً» يعني شاباً فتياً قوياً حتى أبالغ في نصرتك، ويكون لي كفاية تامة لذلك.
وها هنا سؤالان:
أحدهما: فإن قيل: كيف أدخل حرف النداء في «يا ليتني» على حرف التمني، وحرف النداء من خواص الاسم، ويأتي السؤال في قوله تعالى ?يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا? [مريم: 23] .
وأجيب عنه بجوابين
أحدهما: أنه محمول على حذف المنادى تقديره: يا محمد ليتني كنت فيها حياً وضعفه ابن مالك بأن القائل قد يكون وحده لا يكون معه منادي ثابت، ولا محذوف كما في الآية.
ثانيهما: أن «يا» حرف تنبيه كـ «ألا» في قول من قال: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة.
_________
(1) فصل القول ابن حجر في هذه المسألة فقال: وقوله: «على موسى» ولم يقل: على عيسى مع كونه نصرانياً، لأن كتاب موسى - عليه السلام - مشتمل على أكثر الأحكام، بخلاف عيسى.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى.
كذلك وقعت النقمة على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - بفرعون هذه الأمة وهو: أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر، أو قاله تحقيقاً للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب، بخلاف عيسى فإن كثيراً من اليهود ينكرون نبوته.
وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال، لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل. على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ عن الزهري في هذه القصة أن ورقة قال: ناموس عيسى.
والأصح ما تقدم، وعبد الله بن معاذ ضعيف، نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة، أن خديجة أولاً أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال: «لئن كنت صدقتني، إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم» فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة، قال لها: ناموس عيسى، بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - له قال له: ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح. والله سبحانه وتعالى أعلم. انظر: الفتح (1/78) .(1/222)
السؤال الثاني: فإن قيل: كيف وقع «جذعاً» هنا منصوباً وليت عملها تنصب الاسم وترفع الخبر، وجذعاً خبرها؟
أجيب عنه بأجوبة:
الأول: أنه منصوب بليت بناء على نصبها الجزئين كما في قول الشاعر: «يا ليت أيام الصبا» وهو قول الكسائي.
والثاني: أنه منصوب على الحال وخبر «ليت» فيها، وهذا القول للقاضي عياض والسهيلي، وقال النووي: أنه الصحيح الذي اختاره المحققون، وقيل: محذوف تقديره: يا ليتني فيها أو موجوداً في حال فتوة.
الثالث: أنه منصوب على أنه خبر كان مقدر أي: ليتني كنت فيها جزعاً، يؤيده قوله بعده: «ليتني أكون حياً» قاله الخطابي (1) ، ورد بأن كان الناقصة إنما يطرد حذفها بعد إن ولو.
الرابع: ليت أتمنى فنصب الجزئين قاله الفراء، ورد بأنه راجع للأول.
ثم قال ورقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - «ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك» استعملت «إذ» هنا موضع «إذا» للاستقبال، من باب تنزيل المستقبل المقطوع بوقوعه منزلة الماضي الواقع (2) .
_________
(1) هو: حمد بن محمد بن إبراهيم ابن الخطاب البستي، أبو سليمان، فقيه محدث، من أهل بست، من بلاد كابل، من نسل زيد بن الخطاب، أخي عمر بن الخطاب له: معالم السنن شرخ فيه سنن أبي داود وبيان إعجاز القرآن، وإصلاح غلط المحدثين، وغريب الحديث، وشرح البخاري في كتاب أسماه: تفسير أحاديث الجامع الصحيح للبخاري، وله شعر أورد منه الثعالبي في اليتيمة نتفاً جيده، وكان صديقاً له، توفي في بست في رباط على شاطئ هيرمند سنة: 388هـ.
(2) في هذا المقام لمحة لغوية لطيفة أوردها ابن حجر في الفتح (1/79) فقال: قوله: «إذ يخرجك» قال ابن مالك: فيه استعمال «إذ» في المستقبل كإذا، وهو صحيح، وغفل عنه أكثر النحاة، وهو كقوله تعالى: ?وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ? [مريم: 39] هكذا ذكره ابن مالك وأقره عليه غير واحد.
وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام: بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده، وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا: استعمل الصيغة الدالة على المضي لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته، ويقوي ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير «حين يخرجك قومك» وعند التحقيق ما ادعاه ابن مالك فيه ارتكاب مجاز، وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز، ومجازهم موسى، لما ينبني عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضي، تحقيقاً لوقوعه أو استحضاراً للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام، وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولاً على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال.
وفيه دليل على جواز تمني المستحيل إذا كان في فعل خير، لأن ورقة تمنى أن يعود شاباً، هو مستحيل عادة.
ويظهر لي أن التمني ليس مقصوداً على بابه، بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به، والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به.(1/223)
فلما قال ذلك قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أو مخرجي هم؟» هذا استفهام إنكاري على وجه التفجع والتألم، كأنه استبعد - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه من حرم الله وجوار بيته، وبلدة أبيه إسماعيل من غير سبب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه فيما مضى ولا فيما سيأتي سبب يقتضي إخراجاً، بل كانت منه المحاسن الظاهرات والكرامات المقتضية لإكرامه وإنزاله بأعلى الدرجات، أنفسنا له الفداء - صلى الله عليه وسلم -.
فلما قال: «أو مخرجي هم (1) ؟ قال له ورقة: نعم لم يأت رجل قط مثل ما جئت به إلا عودي (2) » يعني: أن أهل الحق لا يخلون من أهل الباطل يعادونهم ولله در القائل:
إن العرانين تلقاها محسدة ……ولا ترى للئام الناس حساداً
«وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أي: إن بقيت إلى يوم انتشار نبوتك أو يوم يخرجك قومك أنصرك نصراً قوياً بليغاً.
«ثم لم ينشب ورقة» أي: لم يلبث (3) .
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «أو مخرجي هم» بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فهم مبتدأ مؤخر، ومخرجي خبر مقدم، قاله ابن مالك، واستبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرجوه، لأنه لم يكن فيه سبب يقتضي الإخراج، لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها. وقد استدل ابن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/79) : قوله: «إلا عودي» وفي رواية يونس «إلا أوذي» فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه لهم بالانتقال عن مألوفهم، ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك، وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم، وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه المقام.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/80) : قوله: «ثم لم ينشب» بفتح الشين المعجمة أي: لم يلبث. وأصل النشوب التعلق، أي: لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات.
وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام.
فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح، وإن لحظنا الجمع أمكن أن يقال: الواو في قوله: وفتر الوحي، ليست للترتيب، فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكراً بعد ذلك في أمر من الأمور، فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع.
وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان، وكان ذلك ليذهب ما كان - صلى الله عليه وسلم - وجده من الورع، وليحصل له التشوف إلى العود، فقد روى البخاري في كتاب التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك.(1/224)
«أن توفى وفتر الوحي» أي: احتبس بعد تتابعه في النزول، وسنذكره في المجلس الآتي ببيان مدة الفترة.
فائدة: قال الكرماني: فإن قلت: ما قولك في ورقة أيحكم بإيمانه؟
قلت: لا شك أنه كان مؤمناً بعيسى، وأما الإيمان بنبينا - صلى الله عليه وسلم - فلم يعلم أن دين عيسى قد نسخ عند وفاته أم لا، ولئن ثبت أنه كان منسوخاً في ذلك الوقت فالأصح أن الإيمان التصديق، وقد صدقه من غير أن يذكر ما ينافيه والله اعلم.
وقال البرماوي: علم من هذا أي: من قوله: «يا ليتني فيها جذعاً» إلى قوله: «وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً» أن ورقة آمن، لتصديقه رساله بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال كما قاله البلقيني، خلافاً لما قاله العراقي في سيرته من أنه ثاني من أسلم حيث قال:
فهو الذي آمن بعد ثانياً ... وكان براً صادقاً مواتياً
ومنع بعضهم من إيمانه وقال: إنه أدرك نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا رسالته، وهذا مردود في كتب السير من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما حضر عنده قال له: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل موسى، وأنك نبي مرسل وأنك ستؤمر بالجهاد وإن أدرك ذلك لأجاهدن معك.
فإن هذا يدل على إيمانه بعد رسالته، ويدل عليه أيضاً ما في المستدرك الحاكم «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين» (1) .
وفي حديث آخر «رأيته وعليه حلة خضراء يدخل في الجنة» (2) .
وكان يذكر الله في شعره في الجاهلية ويسبحه، ومن قوله كما قاله الجوزي رحمه لله تعالى:
_________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/666، رقم 4211) عن عائشة، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه أيضاً: الديلمي في الفردوس (5/13، رقم 7297) .
وأخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (9/416) قال الهيثمي: رواه البزار متصلا ومرسلا وزاد في المرسل: «كان بين أخي ورقة وبين رجل كلام فوقع الرجل في ورقة ليغضبه ... » والباقي بنحوه ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح.
وأورده الحافظ في فتح الباري (8/720) وسكت عنه.
(2) لم نقف على هذه الرواية.(1/225)
سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به ... وقبل سبحه الجودي والجمد
مسخر كل ما تحت السماء له ... لا ينبغي أن ينادي ملكه أحد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقي الإله يودي المال والولد
أين الملوك التي كانت لعزتها ... من كل أوب إليها وافد يفد (1)
وأنشد أيضاً حين أتته خديجة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -:
فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل
قال ابن الملقن وغيره: اشتمل هذا الحديث على درر وفوائد:
منها: أن الدراية منه - صلى الله عليه وسلم - لا بسبب، لأنه - صلى الله عليه وسلم - جبل على الخير ابتداء من غير أن يكون معه من يحضره عليه، فحبب إليه الخلوة لأنها عبادة.
ومنها: أن التبتل الكلي والانقطاع الدائم ليس من السنة، فإنه عليه الصلاة والسلام لم ينقطع بالكلية بل في شهر رمضان، ثم يرجع إلى أهله.
ومنها: أن العبادة لا تكون على إعطاء الحقوق الواجبة وتوقيتها، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يرجع إلى أهله لإعطاء حقهم، فكذا غيره من الحقوق.
ومنها: أن الرجل إذا كان صالحاً لنفسه تابعاً للسنة، يرجو أن الله يؤنسه الله بالمرائي الحميدة، إذا كان في زمان مخالفة وبدع.
ومنها: أن البداية ليست كالنهاية لأنه - صلى الله عليه وسلم - أول ما بدئ في نبوته بالرؤيا ثم ترقى حتى جاءه الملك يقظة، ثم ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدني كذلك الاتباع يترقون في مقام الولايات ما عدا مقام النبوة حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا فمن نال مقاماً فدام عليه بأدبه ترقى إلى ماهو أعلى منه، ويشهد لذلك ما حكي عن بعضهم أنه ما زال في الترقي حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فنودي: هنا سُري بذات محمد السنية حيث سَرى سيرك، ولا يصل ولي أن يعرج بروحه وجسده في حال اليقظة إلى السماء، ومن ادعي ذلك فهو زنديق كافر يقتل.
ومنها: أن فيه دليلاً على أن المربي أفضل من غيره.
ومنها: أنه يدل على أن الأولى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، ويدل على أن
_________
(1) أورد هذه الأبيات لورقة الكلاعي في الإكتفاء (1/194) ، والسهيلي في الروض الأنف (1/330) ، والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (2/298) .(1/226)
الخلوة عون الإنسان على تعبده وصلاحه.
ومنها: أن فيه دلالة على مشروعيه الزاد لدخول الخلوة إذ يحصل بسببه إظهار وصف العبودية، ويحصل بتركه العجب والادعاء، ولهذا كان بعض أهل الطريق إذا دخل لخلوته أخذ رغيفاً وألقاها تحت وسادته وواصل أياماً.
حكى الكمال الدميري في «المهر» من حياة الحيوان عن أبي عبد الله محمد بن حسان البسري أنه كان إذا جاء رمضان دخل بيتاً وقال لامرأته: غلقي على الباب وألقي على كل ليلة من الكوة رغيفاً، فإذا كان يوم العيد فتحت الباب، ودخلت فوجدت الثلاتين رغيفاً في زاوية البيت، فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام - رضي الله عنه -.
وحكي من كراماته أنه كان في غزوة في فلاة من الأرض، فمات مهرة الذي كان يركبه فقال: اللهم أعرنا إياه فقام المهر فلما وصل بيته أخذ السرج عنه فسقط ميتاً، وهو منسوب إلى بصرى قرية الشام فأبدلت الصاد سينا.
وفي اتخاذ الزاد في الخلوة فائدة أخرى وهي قطع تشوف النفس وقلقها اتخاذه لينافي التوكل فقد اتخذه سيد المتوكلين - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أن فيه دليلاً على أن الإنسان إذا خرج لتعبده أن يعلم أهله لأنه معرض للآفات.
ومنها: أن فيه دلالة وإشارة إلى التسلي والصبر عند الحوادث، والوعد بالنصر كما في خلقه من علقه ثم طوره وإخرجه إلى الوجود.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز تأديب المعلم للمتعلم، وأن كتاب الله لا يؤخذ بقوة لأن جبريل ضمه -عليه الصلاة والسلام- إليه لتلقي ما يلقى عليه من القرآن بقوة، قال الله تعالى ليحيى ?يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ? [مريم: 12] .
ومنها: أن فيه دلالة لما يقول الصوفية من أن التحلي لا يكون إلا بعد التخلي فيتخلى أولاً عن القبائح والرذائل، ثم يتحلى بالخصال الحميدة.
وفيه دلالة على أن التحلي قسمان: مكتسب، وفيض من الرب جل جلاله، وقد جمعا له -عليه الصلاة والسلام- بالتحنث والغط، وقد يجتمعان لأفراد من أمته وقد ينفرد بعض بالكسب وبعض بالفيض، كالفضيل بن عياض وابن أدهم وكثيراً ما هم.
ومنها: أنه يدل على أن الفكر أفضل الأعمال ولهذا ورد «تفكر ساعة خير من(1/227)
عبادة سنة» (1) ، وفي رواية «من عبادة الدهر» لأن المرء إذا تفكر قوي إيمانه.
ومنها: أن فيه دلالة على أن الإنسان إذا أصابه هم ينبغي له أن يحدث بذلك أهله، ومن يعتقد من أصحابه إذا كانوا أصحاب دين ونظر، وأن الإنسان إذا وقع له واقع يسأل أهل العلم والنُهى، كما عرضت خديجة ما وقع للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ورقة.
ومنها: أن فيه دلاله على أنه ينبغي للإنسان أن يتمنى الخير لنفسه كما تمنى ورقة أن يكون جزعاً في أيام رسالة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وفي الحديث فوائد كثيرة غير ذلك (2) .
_________
(1) أورده بهذا اللفظ علي القاري في المصنوع (1/82، رقم 94) وقال ليس بحديث إنما هو من كلام السري السقطي رحمه الله تعالى، وكذا قال العجلوني في كشف الخفاء (1/370) فقال: في لفظ «ستين سنة» عن ابن عباس، وذكره الفاكهاني بلفظ: «فكر ساعة» وقال: إنه من كلام سري السقطي.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/80) : «فائدة» : وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي، أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكي البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر، وعلي هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة، وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان، وليس المراد بفترة الوحي المقدرة بثلاث سنين وهي ما بين نزول «اقرأ» و «يا أيها المدثر» عدم مجيء جبريل إليه، بل تأخر نزول القرآن فقط، ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد، ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة. وأخرجه ابن أبي خيثمة من وجه آخر مختصراً عن داود بلفظ: بعث لأربعين، ووكل به إسرافيل ثلاث سنين، ثم وكل به جبريل. فعلى هذا فيحسن - بهذا المرسل إن ثبت - الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة، فقد قيل ثلاث عشرة، وقيل عشر، ولا يتعلق ذلك بقدر مدة الفترة، والله أعلم. وقد حكى ابن التين هذه القصة، لكن وقع عنده ميكائيل بدل إسرافيل، وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل، انتهى. ولا يخفي ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم.
وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فإنه قال: جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة سنتان ونصف. وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر، فمن قال: مكث عشر سنين، حذف مدة الرؤيا والفترة، ومن قال: ثلاث عشرة، أضافهما. وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياماً.(1/228)
المجلس العاشر
في بيان فتر الوحي، وفي ترجمة ابن عباس وسعيد بن جبير وغير ذلك
قَالَ البُخَارِي:
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي أبو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ، قَالَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْىِ، فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ بَيْنَا أَنَا أَمْشِي، إِذْ سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض، فَرُعِبْتُ مِنْهُ، فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ زَمِّلُونِي فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ?يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ? إِلَى قَوْلِهِ ? وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ? فَحَمِيَ الْوَحْيُ وَتَتَابَعَ.
تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ. وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ «بَوَادِرُهُ» (1) .
قوله: «قال ابن شهاب» هذا هو: الزهري وقد قدمنا ترجمته.
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/82) : خرَّج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة، ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله «تتابع» : قال عروة -يعني بالسند المذكور إليه- وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت لخديجة بيتا من قصب، لا صحب فيه ولا نصب» قال البخاري: يعني قصب اللؤلؤ.
وشرح ابن حجر هذا الجزء الأخير من الحديث وقد تركه المصنف فقال:
وقوله: «تابعه» الضمير يعود على يحيى بن بكير، ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى وفيه من اللطائف: قوله: عن الزهري: سمعت عروة.
قوله: «وأبو صالح» هو عبد الله بن صالح كاتب الليث، وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات، وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه.
ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا الحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير، ووهم من زعم - كالدمياطي - أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني، فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث.
وقوله: «وتابعه هلال بن رداد» بدالين مهملتين الأولى مثقلة، وحديثه في الزهريات للذهلي.
قوله: «وقال يونس» يعني ابن يزيد الأيلي، ومعمر هو ابن راشد.
«بوادره» يعني: أن يونس ومعمراً رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلاً عليه، إلا أنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره، والبوادر: جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق، تضطرب عند فزع الإنسان، فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع، ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق، والله الموفق.(1/229)
«وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن» هذا هو عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، وهو فرضي زهري مدني إمام جليل أحد فقهاء المدينة السبعة على قول، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وتسعين عن اثنين وتسعين سنة في خلافة الوليد.
وهذا الإسناد فيه سقط من أوله، وعند علماء الحديث إذا سقط من أول الإسناد واحد وأكثر يسمى تعليقاً (1) ، والقاعدة عند البخاري - رضي الله عنه - أن التعليق إذا كان صحيحاً عنده يأتي به بصيغة الجزم «قال» مثلما قال هنا «قال ابن شهاب» ، وإن كان ضعيفاً يأتي به بصيغة التمريض كقيل وروي، وصرح بذلك علماء الحديث فقالوا: إذا كان الحديث ضعيفاً لا يقال فيه، لأنه من صيغ الجزم بل يقال حكي أو قيل أو يقال بصيغة التمريض، وقد اعتنى البخاري بهذا الفرق في صحيحه فقال تارة بلفظ الجزم وأخرى بلفظ التمريض، وهذا مما يزيدك اعتقاداً في جلالته وتحققه.
فقوله: «قال ابن شهاب وأخبرني» أتى «بقال» ليدل على أنه تعليق صحيح، وبالواو ليعلم أنه مبني على سند متقدم فكأنه قال: «حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أنه قال: أخبرني أبو سلمة» ، فيكون الأول مما حدث به ابن شهاب عن عروة، والثاني مما حدث به عن أبو سلمة.
قالوا: الواو في «وأخبرني» عاطفة لما رواه شهاب عن أبي سلمة لما رواه أولاً عن عروة قال اخبرني عروة بكذا، وأخبرني أبو سلمة بكذا.
«أن جابر بن عبد الله الانصاري» هذا هو جابر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري المدني، وهو من كبار الصحابة، وهو أحد الستة المكثرين الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى ألف حديث وخمسمائه حديث وأربعون حديثاً اتفقا منها على ثمانية وخمسين، وانفرد البخاري بستة وعشرين، ومسلم بمائة وستة وعشرين، شهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/81) : وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق، ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة، فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، وقد تقدم قوله: عن ابن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال: قال ابن شهاب -أي: بالسند المذكور- وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا، ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن اقرأ، ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر، فجزم من جزم بأن «يا أيها المدثر» أول ما نزل، ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الإشكال.(1/230)
تسع عشر غزوة، وكانت وفاته بعد أن عمي بالمدينة سنة ثلاث، وقيل: ثمان وسبعين وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان أبيض الرأس واللحية يصفرهما بالورس، وكان يحفي شاربه، ويؤم قومه وهو آخر الصحابة موتاً بالمدينة.
«قال: أي: جابر بن عبد الله وهو يحدث عن فترة الوحي» جملة حالية من ضمير جابر أي: قال جابر في حالة التحديث عن فترة الوحي.
قال العلماء رضي الله عنهم: فترة الوحي هي عبارة عن تأخر نزول القرآن عليه عليه الصلاة والسلام مدة من الزمان، واختلف في مدة الفترة، فقال السهيلي كانت سنتين ونصف كما جاء في حديث مسند.
وأفاد شيخ الإسلام ابن حجر أنه وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كان ثلاث سنين، وبه جزم بن إسحاق وقال: ليس المراد بفترة الوحي المقدر بثلاث سنين عدم مجيىء جبريل، بل المراد بها عدم نزول القرآن عليه فيها فقط.
وأما جبريل فإنه كان يتراءى له في هذه المدة كما ذكره البخاري في التعبير (1) عن معمر أنه قال وفترة الوحي فترة حتى حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا غدا منه مراراً كي يتردى رؤس الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه يتراءى له جبريل - عليه السلام - فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه وتقر عينه، حتى يرجع فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل جعل يتراءى له جبريل فقال له مثل ذلك.
وفي آخر هذا الصحيح أيضاً أنه -عليه الصلاة والسلام- حين فتر الوحي كان يأتي شواهق الجبال أي: أعاليها يهم بأن يلقي نفسه فكان جبريل يتراءى له بين السماء والأرض فيقول له: يا محمد أنت رسول الله (2) .
وإنما فتر الوحي وانقطع نزول القرآن عليه هذه المدة بعد تتابعه في النزول عليه ليذهب ما حصل له - صلى الله عليه وسلم - من الخوف والفزع عند نزول جبريل عليه بالقرآن، كما أشار لذلك البخاري وهو في غار حراء ويتشوق إلى عود الوحي إليه ثم بعد مضى مدة الفترة نزل عليه جبريل بالقرآن كما أشار إلى ذلك البخاري بقوله: فقال أي: جابر بن عبد الله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت
_________
(1) انظر صحيح البخاري (6/2561، رقم 6581) كتاب التعبير باب: أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة.
(2) انظر الموضع السابق من صحيح البخاري.(1/231)
بصري فإذا الملك الذي جاء بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله - عز وجل - ?يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ? [المدثر: 1 - 5] .
«فحمي الوحي وتتابع» أي: كثر نزوله بعد ذلك وازداد.
قوله «وتتابع» تأكيد «لحمي» لأنه بمعناه.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه سبحانه وتعالى أقدر الملائكة على التشكل والتصور بصور مختلفة من صور بني آدم وغيرهم، وأن لهم صوراً في أصل خلقهم مخصوصة بهم من بني آدم، وأن الله جعل الهواء لهم يتصرفون فيه كيف شاءوا، كما جعل الأرض لبني آدم يتصرفون فيها كيف شاءوا وهو ممسكم في الهواء بقدرته كما أنه سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض بقدرته وقول الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ?يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ? لاطفه في الخطاب من الكريم إلى الحبيب، إذ ناده بحاله وعبر عنه بصفته، ولم يقل له يا محمد أو يا فلان، ليتشعر الملاطفة من ربه - عز وجل - ونظيره قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي لما خرج من بيته مغاضباً لفاطمة رضي الله عنها وجاء إلى المسجد ونام فيه فسقط رداءه وأصابه ترابه فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصابه التراب فقال له ملاطفاً ومسكناً لغضبه: «قم يا أبا تراب» ، وكان أحب الأسماء إلى علي - رضي الله عنه -.
ومعنى الآية: قم يا ذا الذي قد تدثر أي: تعطي بثيابه ونام، وأصل المدثر المتدثر، فإذا أدغمت التاء في الدال لتجانبها.
?قُمْ فَأَنذِرْ? أي: خوف أهل مكة وحذرهما العذاب إن لم يسلموا وقيل معنى أنذر: أعلمهم بنبوتك وقيل معناه: أدعهم إلى التوحيد.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي: عظم سيدك ومليكك ومصلح أمرك أي: صفه بأنه أكبر من أن تكون له صاحبة وولد.
قيل لما نزلت هذه الآية قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر فكبرت خديجة وعلمت أنه الوحي من الله تعالى.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى ?وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ? على أقوال ثمانية: فقيل: المراد بالثياب: العمل، أي: عملك فطهر فأصلح، فإن العرب كانت تقول إذا كان الرجل خبيث العمل فلان خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا فلان طاهر الثياب.
وقيل: المراد بالثياب القلب، أي: قلبك فطهر من الإثم والمعاصي أي: فطهره من(1/232)
الغدر أي: لا تغدر فتكون دنس الثياب.
وقيل: المراد بالثياب النفس، أي: طهر نفسك من الذنوب.
وقيل: المراد بها الأهل، أي: طهر أهلك من ارتكاب الخطايا بأن تعظهم وتؤدبهم، فإن الأهل يسمون بالثياب واللباس قال الله تعالى ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] .
وقيل: المراد بالثياب النساء، أي: طهر نساك بأن تختار حال التزويج بهن النساء العفائف المؤمنات، وأن تستمتع بهن في الطهر لا في الحيض.
وقيل: المراد بالثياب الخُلق، أي: حسن خلقك.
وقيل: المراد بها الدين.
وأكثر المفسرين على أن المراد بالثياب: ما يلبس على البدن.
واختلفوا في تأويله على أربعة أقوال:
الأول: أن المراد بالتطهير الإنقاء أي: وثيابك فأنق.
الثاني: المراد بالتطهير من النجاسة.
الثالث: المراد بالتطهير اللبس من الحلال أي: طهر ثيابك من لبس الحرام ولا تلبس ثيابك إلا من كسب الحلال.
الرابع: المراد بقوله ?فَطَهِّرْ? فقصر فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة لأنها إذا أبحرت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها ما ينجسها.
قال علي كرم الله وجهه: قصر ثيابك فإنه أتقى وأنقى.
والمراد بقوله ?وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ? الأوثان فاترك، وقيل: المأثم.
فائدة: انقطع جبريل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة أيام، قيل: اثنا عشر يوماً، وقيل: خمسة عشر يوماً، وقيل: خمسة وعشرين يوماً، وقيل: أربعين يوماً وسببه كما ذكره المفسرون أن اليهود سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعن الروح فقال سأخبركم غداً ولم يقل: إن شاء الله، فانقطع جبريل عنه هذه المدة، فقال المشركون: إن جبريل محمداً ودعه وقلاه أي: تركه ربه وبغضه، وقالت أم جميل امرأة أبي لهب أبطأ عليه شيطانه فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم ?وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى? [الضحى: 1 - 3] فأراد الله بقوله: ?وَالضُّحَى? جميع النهار لأنه قابله بالليل، وقيل: أراد وقت ارتفاع الشمس لأنه وقت شريف كلم الله فيه موسى بن عمران، وخرت فيه سحرة فرعون سجداً لله - عز وجل - فلهذا أقسم الله به، فإن(1/233)
قوله ?وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى? قسم بتقدير مضاف أي: ورب الضحى ورب الليل إذا سجى، ومعنى سجى سكن أي: سكن الناس فيه، ومعنى الآية ورب الضحى ورب الليل إذا سجى ?مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ? يا محمد كما تقول الكفار ?وَمَا قَلَى? أي: ما تركك ربك منذ اختارك ولا أبغضك منذ أحبك، وأنزل الله مع هذه الآية ?وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ? تحريضاً وتعليماً لمن عزم على فعل شيء مستقبل أن يقدم المشيئة ليقدره الله ببركة المشيئة على فعله، ويقضي حاجته وتنجح طُلبته.
* * *(1/234)
باب
يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أبو عَوَانَةَ (1) ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابن عباس، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ? قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابن عباس: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَرِّكُهُمَا.
وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابن عباس يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ? قَالَ جَمْعُهُ لَهُ فِي صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ? قَالَ فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ ?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا قَرَأَهُ.
قوله: «حدثنا موسى بن إسماعيل» هذا هو أبو سلمة المنقري البصري التبوذكي قيل: له التبوذكي لأنه اشترى دار بتبوذك، وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وعشرين.
«حدثنا موسى بن أبي عائشة» هذا هو أبو الحسن الكوفي الهمداني.
«حدثنا سعيد بن جبير» هذا هو الإمام المجمع على جلالته وثقته وعلو مرتبته في العلوم تفسيراً أو حديثاً وفقهاً وكان ابن عباس إذا أتى أهل الكوفة إليه يقول لهم: أليس فيكم سعيد بن جبير، وكان يقال له: جهبذ العلماء، وهو كوفي أسدي والبي، منسوب إلى «بني والبة» بالولاء.
سمع سعيد بن جبير خلقاً من الصحابة منهم العبادلة، وأخذ عنه خلق من التابعين منهم الزهري، قتله الحجاج صبراً ولم يعش بعدها أياماً.
قيل: إن الحجاج لما أرسل رسله في طلب سعيد بن جبير وحضروه بين يديه قال: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، قال: أنت شقي بن كسير، قال: كانت أمي أعلم باسمي منك، قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال: لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إليها، ثم أحضر الحجاج ألآت
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/83) : «أبو عوانة» هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري، كان كتابه في غاية الإتقان.(1/235)
الملاهي فبكى سعيد، فقال الحجاج ويلك يا سعيد، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار فقال: اختر يا سعيد أي قتله تريد أن أقتلك، قال: اختر لنفسك يا حجاج فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: فتريد أن اعفو عنك؟ فقال: إن كان العفو فمن الله لي، وأما أنت فلا، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج من الباب ضحك فأخبر الحجاج بذلك فأمر برده فقال: ما أضحكك قال: عجبت من جرأتك على الله وحلم الله عليك، فأمر بالنطع فبسط بين يديه فقال: اقتلوه، فقال سعيد: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، قال: وجهوه لغير القبلة، قال سعيد: أينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله قال: كبوه لوجهه، فقال سعيد: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى، فقال الحجاج: اذبحوه، فقال سعيد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي، فذبح على النطع -رحمه الله-.
وعاش الحجاج بعده خمسة عشر ليلة، وكان الحجاج لا يصبر على سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه: أن أكبر لذاته سفك الدماء، وارتكاب أمور لا يقدر عليها غيره.
وقيل: أحصى ما قتل صبراً فبلغ مائة ألف وعشرين ألفاً كذا رواه الترمذي في جامعه (1) ، وعرضت سجونه بعده فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب.
قال خلف بن خليفة: حدثنا بواب الحجاج قال رأيت رأس سعيد بن جبير بعد ما سقط على الأرض يقول: لا إله إلا الله (2) .
وقيل: إنه كان له ديك يقوم من الليل بصياحه فلم يصيح ليلة أصبح فلم يصل سعيد تلك الليلة فشق ذلك عليه فقال: مال قطع الله صوته فلم يسمع له صوت بعد
_________
(1) أخرج الترمذي في سننه (4/499، رقم 2220) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «في ثقيف كذاب ومبير» قال الترمذي: يقال «الكذاب» المختار بن أبي عبيد، و «المبير» الحجاج بن يوسف، ثم قال: حدثنا أبو داود سليمان بن سلم البلخي، أخبرنا النضر بن شميل، عن هشام بن حسان ... فذكره.
(2) رواه أسلم الواسطي في تاريخ واسط (ص:91) حدثنا أسلم قال: حدثنا محمد بن إبان قال: حدثنا خلف بن خليفة قال: حدثني بواب الحجاج ... به.
وأورده المزي في تهذيب الكمال (10/361) ، والنووي في تهذيب الأسماء (ص210) .(1/236)
ذلك.
وسنذكر بعض أخبار الحجاج في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا التقى المسلمان بسيفهما» (1) .
وكانت وفاة سعيد بن جبير سنة خمس وتسعين عن تسع وأربعين سنة.
«عن ابن عباس» هذا هو الحبر عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمه أم الفضل أخت ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإنما قيل: الحبر البحر لكثرة علومه، وكان يقال له: ترجمان القرآن وهو والد الخلفاء وأحد العبادلة الأربعة المشهورين الذي شاع ذكرهم وانتشر فضلهم وسارت الركبان نفعنا الله بهم وهم: عبد الله ابن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن الإمام عمر بن الخطاب.
دعا له الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة والتفقه في الدين وتعلم التأويل أي: تأويل القرآن فأخذ عنه الصحابة ذلك ودعا له مرة أخرى فقال: اللهم بارك فيه وانشر منه واجعله من عبادك الصالحين، اللهم زده علماً وفقهاً وفي هذا الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام ضمه إليه وقال: «اللهم علمه الكتاب» وهو أحد الستة الذين الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الإمام أحمد بن حنبل: ستة من الصحابة أكثروا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمرو، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأنس، وأبو هريرة أكثرهم حديثاً.
وقال أحمد بن حنبل أيضاً: ليس أحد من الصحابة أكثر فتيا من عبد الله ابن عباس ومناقبة في الصحيح وغيره جمة أفردت بالتأويل منها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنكة بريقة.
ومنها: أنه رأى جبريل فقد روى مجاهد عنه أنه قال: رأيت جبريل مرتين ودعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحكمة مرتين.
ومنها: أنه كان كثير البكاء، وكان لموضع الدمع من خديه أثر لكثرة بكائه، وكان عمر بن الخطاب يعظمه ويقدره على الكبار والصغار، وكان إذ ذكره يقول: ذاك فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول.
_________
(1) متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (1/20، رقم 30) ، ومسلم في صحيحه (4/2214، رقم 2888) من حديث أبي بكرة.(1/237)
ومن مناقبة الدالة على غزارة علمه أن الناس كانوا يقصدون منزله من الآفاق، ويزدحمون على منزلة، ويسألون عن جميع العلوم فقد نقل عن أبي صالح أنه قال رأيت عند ابن عباس جلساء لو أن جميع قريش افتخرت به لكان لها فخر، ورأيت الناس اجتمعوا على باب منزله، ويسألوه من أنواع العلوم، حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر على المجيىء من ذلك الطريق والذهاب من كثرة الناس، قال أبو صالح: فدخلت عليه فأخبرته بالناس الواقفين على بابه، فقال: ادع لي بوضوء فتوضأ وجلس، ثم قال: لا تدخل على جميع الناس بل أخرج وقل من كان يريد أن يسأل عن القرآن وحروفه وما أراد منه فليدخل، قال: فخرجت فأعلمتهم فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة، فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم عنه وزادهم مثل ما سألوا عنه وأكثر، ثم قال انصرفوا حتى يدخل إخوانكم، ثم قال: لي أخرج فقل من أراد أن يسأل عن الحلال أو الحرام والفقه فليدخل، فقلت لهم: فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجر فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به، وزادهم بمثله، ثم قال انصرفوا حتى يدخل إخوانكم فخرجوا، ثم قال: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن الفرائض وما أشبهها فليدخل، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم به وزادهم مثله، ثم قال: انصرفوا حتى يدخل إخوانكم، ثم قال: أخرج فقل: من أراد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام فليدخل، فدخلوا حتى ملأوا البيت والحجرة فما سألوه عن شيء إلا أخبرهم وزادهم مثله، قال أبو صالح: فلو أن قريشاً كلها فخرت بذلك لكان فخراً فما رأيت مثل هذا لأحد.
وكان ابن عباس جميلاً قال عطاء: ما رأيت القمر ليلة الرابع عشر إلا ذكرت وجه ابن عباس من حسنه.
وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث وستمائه وستين حديثاً، اتفقا منها على أربعة خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بمائة وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين وقد عمي في آخر عمره وكذا أبوه العباس وجده عبد المطلب، ولما سقط في عينيه الماء، وذهب بصره قيل له: خلي بيننا وبين عينيك نسيل ماءها ولكنك تمسك خمسة أيام لا تصلي فقال: لا والله ولا ركعة إني حدثت: «أنه من ترك صلاة واحدة متعمداً لقي الله وهو عليه غضبان» (1) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (11/294، رقم 11782) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (4/828، رقم 1535) من حديث ابن عباس.
ورواه أيضاً: البزار كما في مجمع الزوائد (1/295) قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني في الكبير وفيه: سهل بن محمود، ذكره ابن أبي حاتم، وقال: روى عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي، وسعدان بن يزيد، قلت: وروى عنه محمد بن عبد الله المخرمي ولم يتكلم فيه أحد، وبقية رجاله رجال الصحيح.(1/238)
ولد - رضي الله عنه - بالشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث عشر سنة على المشهور، وكانت وفاته بالطائف وقبره فيها مشهور يزار سنة ثمان وستين عن إحدى وسبعين على الصحيح، في أيام ابن الزبير، وصلى عليه محمد بن الحنفية وقال: اليوم مات رباني هذه الأمة، ولما بلغ جابر بن عبد الله وفاته صفق بإحدى يديه على الأخرى وقال: مات أعلم الناس وأحكم الناس، ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة.
ومن مناقبة الجليلة التي اتفقت له بعد موته ما نقل عن ميمون بن مهران قال: شهدت جنازة ابن عباس بالطائف فلما وضعت ليصلى عليه جاء طائراً أبيضاً من السماء، لم ير على خلقته حتى وقع له على أكفانه ثم دخل فيها، فالتمس فلم يوجد فلما سوى عليه التراب سمعنا صوتاً: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر: 27 - 30] .
وقيل: إن هذا الطائر الأبيض علمه كما أفاده السيوطي في كتابه شرح الصدور.
قوله «عن موسى بن أبي عائشة حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ? لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ? قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج (1)
من لتنزيل شدة
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/84) : المعالجة محاولة الشيء بمشقة، أي: كان العلاج ناشئاً من تحريك الشفتين، أي: مبدأ العلاج منه، أو «ما» موصولة وأطلقت على من يعقل مجازاً، هكذا قرره الكرماني، وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك، والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيراً ما يفعل ذلك، وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا: «كان مما يقول لأصحابه: من رأي منكم رؤيا» .
الفم قلت: ويؤيده أن رواية البخاري في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه» . فأتى بهذا اللفظ مجرداً عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني، فظهر ما قال ثابت.
ووجه ما قال غيره: إن «من» إذا وقع بعدها «ما» كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على القليل والكثير، وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. والله أعلم.
ومنه حديث البراء: «كنا إذا صلينا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - مما نحب أن نكون عن يمينه ... الحديث» ، ومنه حديث سمرة: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا» .(1/239)
فكان مما يحرك شفيه، وقال ابن عباس: فأنا أحركها لك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركها، وقال سعيد بن جبير: أنا أحركها كما رأيت ابن عباس يحركها، فحرك شفتيه فأنزل الله عز وجل ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ? (1)
قال: جمعه له في صدرك (2) ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ? قال فاستمع له ونصت ?ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? ثم إن علينا أن تقرأه»
معنى الآية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحرك شفتيه بما يسمعه من جبريل قبل إتمام جبريل الوحي استعجالاً لحفظه وخوفاً من تفلته ونسيانه، وقيل: إنهما كان يذكره إذا نزل عليه من حبه وحلاوته في لسانه، فإن القرآن له حلاوة في اللسان.
قال عياض: لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
_________
(1) قال ابن حجر (1/84) : قوله: «فحرك شفتيه» وقوله: فأنزل الله ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? [القيامة: 16] لا تنافي بينهما، لأن تحريك الشفتين، بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان.
أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم، وكل من الحركتين ناشئ عن ذلك، وقد مضى أن في رواية جرير «يحرك به لسانه وشفتيه» فجمع بينهما.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة، ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء، قاله الحسن وغيره.
ووقع في رواية للترمذي: «يحرك به لسانه يريد أن يحفظه» ، وللنسائي: «يعجل بقراءته ليحفظه» ، ولابن أبي حاتم «يتلقى أوله، ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره» ، وفي رواية الطبري عن الشعبي «عجل يتكلم به من حبه إياه» وكلا الأمرين مراد، ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك، فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره، ونحوه قوله تعالى: ?وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ? [طه: 114] أي: بالقراءة.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/85) : قوله: «جمعه لك صدرك» كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز، كقوله: أنبت الربيع البقل، أي: أنبت الله في الربيع البقل، واللام في «لك» للتبيين أو للتعليل. وفي رواية كريمة والحموي «جمعه لك في صدرك» وهو توضيح للأول، وهذا من تفسير ابن عباس.
وقال في تفسير «فاتبع» أي: فاستمع وأنصت، وفي تفسير «بيانه» أي: علينا أن تقرأه.
ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته، فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول.(1/240)
وَالإِحْسَانِ? [النحل: 90] قال: والله إن له لحلاوة، وإن له لطلاوة، وإن أسلفه لمغدق، وإن أعلاه لمثمر وما هو بقول بشر.
قال ابن حجر: وكلا الأمرين مرادفاً فأمره الله تعالى بالإنصات حتى يتم جبريل الوحي، ووعده بأنه آمن من تفلته بالنسيان وغيره بقوله ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ? أي: بالقرآن قبل فراغ جبريل منه لتعجل به خوفاً من أن يتفلت منك إن علينا جمعه وأن نجمعه لك في صدرك، فتقرأه ولا يفوتك منه شيء، فإذا قرأه رسولنا جبريل عليك فاستمع قرآنه أي: فاستمع وأنصت ?إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? أي: ثم إن علينا أن تقرأه مرة أخرى.
وفي صحيح مسلم: «علينا أن نبينه بلسانك» (1) ، وقيل المعنى: علينا أن نحفظك، وقيل المعنى: علينا أن نبين لك ما فيه من حلال وحرام، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما قرأه جبريل - عليه السلام -.
قول ابن عباس: «فأنا أحركهما لك كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركها» (2) استشكل به العلماء من جهة أنه لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرك شفتيه لم يره ابن عباس على تلك الحالة إذ لم يكن إذ ذاك ولد، لأن مولده قبل الهجرة بثلاث سنين أو أقل، وقضية تحريك الشفتين كانت قبل ذلك في أول البعثة.
وأجابوا عنه بأنه يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أن شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك.
قال ابن حجر: والأول هو الصواب لثبوتها في خبر.
_________
(1) انظر صحيح مسلم (1/330، رقم 448) في روايته لهذا الحديث عن سعيد بن جبير عن بن عباس ... به.
(2) قال ابن حجر (1/84) في هذه المسأله: قوله: «فقال ابن عباس فأنا أحركهما» جملة معترضة بالفاء، وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول، وعبر في الأول بقوله: «كان يحركهما» ، وفي الثاني برأيت، لأن ابن عباس لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة، لأن سورة القيامة مكية باتفاق، بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر، وإلي هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي، ولم يكن ابن عباس إذ ذاك ولد، لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، لكن يجوز أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره بذلك بعد، أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - الأول هو الصواب.
فقد ثبت ذلك صريحاً في مسند أبي داود الطيالسي قال: حدثنا أبو عوانة بسنده، وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من ابن عباس بلا نزاع.(1/241)
فوائد بعضها مستفاد من الحديث والبعض الآخر ذكر بطريق المناسبة:
الأولى: مثل هذا الحديث يسمى بالمسلسل بالتحريك، لكن في الطبقة الأولى طبقة الصحابة والتابعين لقول ابن عباس: إذا حركهما كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما، وقول سعيد بن جبير: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما لا في جميع الطبقات.
الثانية: أن الحديث فيه دلالة على أنه يستحب للمعلم أن يتمثل للمتعلم بالفعل، فإنه أبلغ من القول، فكم من متعلم لا يفهم الشيء بالقول والوصف أي: لا يفهمه ولا يستقر، وإذا صور يحضره واستقر عنده.
الثالثة: وقع في الكرماني هنا في الكلام على قوله «فاستمع» ما نصه: قال الفقهاء: سجدة التلاوة للمستمع لا للسامع، واعترضه البرماوي بأن الذي قاله وجه ضعيف عند الشافعية، مشى عليه صاحب الحاوي الصغير تبعاً للمحرر والمنصوص عليه عند الشافعي أن سجدة التلاوة تسن للسامع أيضاً، والفرق بين السامع والمستمع: أن المستمع من ألقى سمعه لآية سجدة التلاوة، والسامع من وقع في سمعه آية السجدة من غير قصد، وكلاهما يستحب السجود لعموم قوله ?وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ? [الإنشقاق: 20] .
الرابعة: هل الإسراع في القرآن أفضل أم الترتيل أفضل؟
فذهب بعضهم إلى أن الإسراع أفضل استكثاراً للأجر، إذ يحصل بكل حرف عشر حسنات، إذا لم يفرط في الإسراع فإن فرط كره بالاتفاق، وإن أسرع بحيث ينتهي إلى عدم إقامته الأحرف فإنه غير جائز بخلاف، وذهب الأكثرون إلى أن الترتيل أفضل وقد صرح العلماء باستحبابه قال تعالى ?وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزمل: 4] .
وروى أبو داود وغيره عن أم سلمة «أنها نعتت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة مفسرة حرفاً حرفاً» (1) .
_________
(1) أخرجه أبو داود (2/73، رقم 1466) عن أم سلمة.
وأخرجه أيضاً: البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 53) ، والترمذي في سننه (5/182، رقم 2923) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، والنسائي في سننه (2/181، رقم 1022) ، وأحمد في مسنده (6/294، رقم 26569) ، وابن خزيمة في صحيحه (2/188، رقم 1158) ، والحاكم في المستدرك (1/453، رقم 1165) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (23/292، رقم 645) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/391، رقم 2156) ، وابن المبارك في كتاب الزهد (ص 421، رقم 1195) .(1/242)
وعن ابن مسعود: «لا تنثروه نثر الرمل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة» (1) .
قال النووي: وقراءة جزء بترتيل أفضل من قراة جزئين في قدر ذلك الزمان بلا ترتيل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّّ من أن أقرأ القرآن كله» .
وعن مجاهد (2) - رضي الله عنه -: أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران، والآخر البقرة وحدها وزمنها وركوعهما وسجودهما وجلوسهما سواء، قال: الذي قرأ البقرة وحدها أفضل قال: واستحباب الترتيل للتدبر ولأنه أقرب إلى الأجل والتوقير، وأشد تأثيراً في القلب، ولهذا استحب للأعجمي الذي لا يفهم معناه.
وقال بعضهم: وأحب أن ثواب قراءة الترتيل أجل قدراً، وثواب الكثرة أكثر عدداً.
الخامسة: في الحديث دلالة على أن أحداً لا يحفظ القرآن العظيم إلا بعون الله وفضله وكرمه، قال تعالى: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ? [القمر: 17] بخلاف التوراة والإنجيل فإنه لم يكن متيسراً لحفظهما كتيسر حفظ القرآن العظيم الذي خصت به هذه الأمة المحمدية.
خاتمة غريبة: قال بعض الصالحين كان رجل يحفظ القرآن، وكان يحب الدنيا ويسعى لها، فلا تزداد منه إلا بعداً فجاء إلي وقال: قد أصابني أمر أريد أن تكتمه على فقلت: ما هو؟ فقال: قد كنت ترى مني حب الدنيا وطلبها فرأيت الليلة في منامي قائلاً يقول لي تبيعني أربع سور مما تحفظه من القرآن بهذه بعشرين ديناراً، فقلت: نعم فطرح الدنانير في كفي، ثم انتبهت فلم أر شيئاً فطلبت أن أقرأ شيئاً من السور التي عينها فلم استطع، وقد جئتك لتلقينها في خلوة، قال: فخلوت به وجعلت أقرأ الآية من السور فيقرأها معي فإذا أمسكت عجز عن القراءة فبقينا على ذلك مدة فلم يحفظ منها آية، فقال لي بعد مدة: لا تتعب معي فإنها نزعت مني.
السادسة: ذكر الغزالي في أسرار القرآن فيمن يطرأ عليه نسيان القرآن بعد حفظه
_________
(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/256، رقم 8733) من قول عبد الله بن مسعود.
وأورده السيوطي في الدر المنثور (5/158) وعزاه إلى ابن أبي شيبة.
(2) هو: مجاهد بن جبير، ويقال: ابن جبير المكي، كان فقيهاً عابدًا ورعًا، من أئمة التفسير، روى عن جمع من الصحابة، توفي رحمه الله بمكة وهو ساجد سنة (102هـ) ، وقيل (103هـ) .
انظر: مشاهير علماء الأمصار (ص 82) ، وتهذيب التهذيب (10/284) ، وحلية الأولياء (3/279) .(1/243)
عن الكلبي أنه قال: كان لي ولد يقرأ القرآن وكلما قرأ منه شيئاً نسيه، فرأيت في المنام قائلاً يقول لي أكتب في إناء سورة ?الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ? [الرحمن: 1 - 5] ?لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ? [القيامة: 16 - 19] ?بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ? [البروج: 21 - 22] وألق عليه من ماء زمزم واسقه ولدك يحفظ القرآن، فحفظ القرآن.
السابعة: هل الجهر بالقراءة أفضل أم السر؟
قال النووي - رضي الله عنه -: الإخفاء أفضل إن خاف الرياء أو كان يتأذى به مصلون، أو من ينام، والإجهار أفضل في غير ذلك، لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته تتعدى على السامعين، ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع إلى الفكر ويصرف سمعه إليه ويطرد عنه النوم ويزيده في النشاط.
وقال بعض العلماء: يستحب الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المرء قد يمل فيأنس بالجهر، والجهر قد يشكل فيستريح بالإسرار.
الثامنة: وهي مشتملة على مسائل:
يكره قطع القراءة لمكالمة أحد، لأن كلام الله لا ينبغي أن يؤثر كلام أحد عليه.
ويكره أيضاً: الضحك والعبث، والنظر إلى ما يرى.
ويستحب تقبيل المصحف قياساً على تقبيل الحجر الأسود، ولأنه هدية من الله فشرع تقبيله، كما يستحب تقبيل الولد الصغير.
ويستحب تطيبه، وجعله على كرسي ويحرم توسده لأن فيه إذلالاً وامتهاناً، وكذا يحرم مد الرجلين إليه كما قاله الزركشي، ويجوز تحليته بالفضة إكراماً له على الصحيح.
وأما القيام للمصحف إذا حضر فقال النووي: إنه يستحب لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به، كما يستحب القيام لأهل الفضل إكراماً لهم خلافاً لما قاله ابن عبد السلام أن القيام بدعة.
ولا ينبغي للإنسان أن يصغر المصحف ويقول: مصيحف فقد أخرج أبو داود عن ابن المسيب قال: «لا يقول أحدكم مصحيف ولا مسيجد فما كان الله فهو عظيم» .
التاسعة: في فضل القرآن وفضل حملته:(1/244)
دل الكتاب والسنة على ذلك قال الله ?إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ... ? الآية [فاطر: 29] .
قوله ?يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ? أي: يقرأونه ويداومون على تلاوته وقوله
?يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ? لن تكسد ولن يتعذر الربح فيها، وهو إشارة إلى الإخلاص أي: يفعلون تلك الأفعال من التلاوة، والصلاة والإنفاق يقصدون بذلك وجه الله لا الرياء ولا السمعة.
وروينا في هذا الصحيح عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (1) .
وروي في البلدانيات عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا أبا هريرة تعلم القرآن وعلمه الناس، فإنك إن مت أنت كذلك زارت الملائكة قبرك» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» متفق عليه (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» رواه
_________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح (4/1919، رقم 4739) عن عثمان.
وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (2/70، رقم 1452) ، والترمذي في سننه (5/173، رقم 2907) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/19، رقم 8036) ، وابن ماجه في سننه (1/76، رقم 211) ، وأحمد في مسنده (1/57، رقم 405) ، وابن حبان في صحيحه (1/324، رقم 118) .
(2) رواه الخطيب في تاريخ بغداد (4/380) ، والديلمي في مسند الفردوس (5/345، رقم 8385) عن أبي هريرة.
(3) هاكذا وقع في الأصل «متفق عليه» إلا أن البخاري رواه معلقاً صحيح البخاري (6/2743) فقال: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، وزينوا القرآن بأصواتكم» .
قال الحافظ في فتح الباري (13/518) : وأصل الحديث تقدم مسنداً في التفسير لكن بلفظ: «مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة» (انتهى)
وربما قال المصنف: «متفق عليه» باعتبار هذا الوجه الذي قاله الحافظ في الفتح.
قلت: وأخرجه البخاري بهذا اللفظ مسنداً في كتاب خلق أفعال العباد (ص 73) : قال البخاري: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن زرارة، عن سعد بن هشام، عن عائشة ... به.
والحديث أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ (1/549، رقم 798) .(1/245)
مسلم (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اقرؤ القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» رواه مسلم (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الرب سبحانه وتعالى: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، ففضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه» رواه الترمذي وقال حديث حسن (4) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح (5) .
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/559، رقم 817) عن عمر - رضي الله عنه -.
وأخرجه أيضاً: ابن ماجه في سننه (1/79، رقم 218) ، والدارمي في سننه (/536، رقم 3365) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/89، رقم 4904) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1/553، رقم 804) عن أبي أمامة الباهلي.
وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (1/150، رقم 468) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/395، رقم 3862) ، وفي الصغرى (1/547، رقم 998) ، وفي الشعب (2/451 رقم 2372) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه (5/175، رقم 2910) عن أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن كعب القرظي قال سمعت عبد الله بن مسعود ... به مرفوعاً.
قال الترمذي: ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود، ورواه أبو الأحوص عن ابن مسعود رفعه بعضهم ووقفه بعضهم عن ابن مسعود، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، سمعت قتيبة يقول: بلغني أن محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحمد بن كعب يكنى أبا حمزة.
(4) أخرجه الترمذي في سننه (5/184، رقم 2926) عن أبي سعيد الخدري، وقال: هذا حديث حسن غريب.
وأخرجه أيضاً: الدارمي في ستته (2/533، رقم 3356) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/353، رقم 2015) .
(5) أخرجه الترمذي في سننه (5/177، رقم 2913) عن ابن عباس قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/223، رقم 1947) ، والحاكم في المستدرك (1/741، رقم 2037) ، والدارمي في سننه (2/521، رقم 3306) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/232) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/328، رقم 1943) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/537، رقم 525) ، والجرجاني في تاريخ جرجان (1/412) .(1/246)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «من قرأ القرآن وعمل به ألبس والده تاجاً يوم القيامة ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا» رواه أبو داود (1) .
وروي الدارمي عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال «اقرأ القرآن فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن» (2) .
وروى الدارمي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن دخل فيه فهو آمن» (3) .
وروى الدارمي عنه أيضاً: «من أحب القرآن فليبشر» (4) .
وفي حديث «القرآن غنى لا فقر بعده، ولا غنى دونه» (5) .
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (2/70، رقم 1453) عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه.
وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (1/756، رقم 2085) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) رواه الدارمي في سننه (2/524، رقم 3319) عن أبي أمامة من قوله.
ورواه أيضاً: البخاري في خلق أفعال العباد (ص: 87) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/133، رقم 30079) .
(3) رواه الدارمي في سننه (2/525، رقم 3322) عن عبد الله بن مسعود من قوله.
(4) أخرجه الدارمي في سننه (2/525، رقم 3323) عن عبد الله بن مسعود من قوله.
وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة في المصنف (6/133، رقم 30080) .
(5) أخرجه أبو يعلى في مسنده (5/159، رقم 2773) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/186، رقم 276) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/229، رقم 4677) عن أنس بن مالك مرفوعاً.
قال المناوي في فيض القدير (4/535) رواه أبو يعلى وكذا الطبراني في الكبير، قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف، وبينه تلميذه الهيثمي فقال: فيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف. انظر مجمع الزوائد للهيثمي (7/158) .(1/247)
مثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانه، ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن مثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر» رواه البخاري ومسلم وذكره النووي في كتابه (1) .
فائدة: حكي عن بعض القراء أنه اشتد به الفقر حتى ضاق به ذرعاً، فرأى في المنام كأن قائلاً يقول: إن نسيناك سورة الأنعام لك ألف دينار قال: لا، قال: فسورة هود، قال: لا، قال: فسورة يوسف، قال: لا، قال: فمعك قيمة ألف دينار وأنت تشكو فأصبح وقد سري عنه.
وسنذكر فوائده متعلقة بالقرآن وشيئاً من فضائله أيضاً في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى.
* * *
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (4/1917، رقم 4732) ، ومسلم في صحيحه (1/549، رقم 797) من حديث أبي موسى.(1/248)
المجلس الحادي عشر
في قصة هرقل وما فيها
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ قُلْتُ هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟
قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ، قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ، فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ(1/249)
يَنْقُصُونَ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ
الإيمان حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإيمان حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ وَ ?يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ?.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: حِينَ أُخْرِجْنَا لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَىَّ الإِسْلاَمَ، وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ، يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلاَّ الْيَهُودُ فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ الْعَرَبِ فَقَالَ هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مَلِكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْىَ
هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاَحِ(1/250)
وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ، فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإيمان قَالَ رُدُّوهُمْ عَلَىَّ، وَقَالَ إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ. رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ وَيُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
قوله: «حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره» .
قال العلماء: أبو سفيان بن حرب هو أبو معاوية وأخوه واسمه صخر بن حرب وهو قرشي أموي مكي، وكما يكنى بأبي سفيان يكنى بأبي حنظلة أيضاً، ولد قبل الفيل بعشر سنين، وأسلم ليلة فتح مكة، وكان شيخ مكة حينئذ ورئيس قريش، وشهد مع الله - صلى الله عليه وسلم - حنيناً وفتح الطائف وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين مائة من الأبل وأربعين أوقية، وفقئت عينه الواحدة يوم الطائف والأخرى يوم اليرموك تحت رآية يزيد قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذهبت عينه وهي في يده: «أيهما أحب اليك عين في الجنة، وأدعو الله أن يردها عليك، قال: بل في الجنة» (1) ولو طلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها لردها.
فإنه كان من معجزاته - صلى الله عليه وسلم - إبراء المريض فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - رد عين قتادة بن النعمان يوم أحد بعدما ما وقعت جبينه وكانت أحسن عينيه (2) .
وتفل في عين علي - رضي الله عنه - يوم خيبر فشفيت.
هذا الذي رد عيناً بعد ما قلعت ... وريقة قد شفا عين الإمام علي
وقطع أبو جهل يد معوذ بن عفراء، وجاء يده فبصق عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) ذكر ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1680) في ترجمة أبي سفيان مسألة فقء عينه ولم يذكر الحديث الذي أورده المصنف هاهنا.
(2) رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/187) عن زيد بن أسلم وغيره كذا قال.
وأورده ابن عبد البر الإستيعاب (3/1275) من رواية عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر بن عبد الله قال أصيبت عين قتادة بن النعمان يوم أحد وكان قريب عهد بعرس فأتى النبى - صلى الله عليه وسلم - فأخذها بيده فردها فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً.
ورواه الطبري في التاريخ (2/66) عن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ... به. وانظر: السيرة لاين هشام (4/31) .(1/251)
وألصقها فلصقت (1) .
ورد الله على أعمي بصره بتوسله به - صلى الله عليه وسلم - فقد روى النسائي عن عثمان بن حنيف: «أن أعمي قال: ادع لنا الله أن يكشف لي عن بصري فقال له: انطلق فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قال: اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بحرمه محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري، اللهم شفعه فيَّ قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره» (2) .
إن كان عيسى أبرأ الأعمي بدعوته ……فكم بتفلة قد رد من بصر
نزل أبو سفيان المدينة ومات بها سنة إحدى وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين وهو بن ثمان وثمانين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع.
_________
(1) بينت الروايات والأخبار أن اللقاء بين معوذ وأبو جهل كان في غزوة بدر الكبري، وبينت الأخبار أيضاً أن معوذ استشهد في نفس الغزوة بعد أن ساهم في قتل أبي جهل هو وأخوه عوف أجهدا أبو جهل حتى وقع على الأرض صريعاً وبعدها قتله عبد الله بن مسعود، ولم نقف على ما أورده المصنف هاهنا.
يقول ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/492) : معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم، وأمه عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار، شهد العقبة مع السبعين من الأنصار في رواية محمد بن إسحاق وحده، وشهد بدراً وهو الذي ضرب أبا جهل هو وأخوه عوف بن الحارث حتى أثبتاه وعطف عليهما أبو جهل لعنه الله يومئذ فقتلهما، ووقع أبو جهل صريعاً فذفف عليه عبد الله بن مسعود رحمه الله، وليس لمعوذ بن الحارث عقب.
وقال ابن عبد البر في الإستيعاب (4/1442، ترجمة 2473) شهد بدراً مع إخوته معاذ وعوف بني عفراء هو الذي قتل أبا جهل بن هشام يوم بدر ثم قاتل حتى قتل يومئذ ببدر شهيداً قتله أبو مسافع.
وانظر أيضاً في ذلك الإصابة (6/193) .
(2) رواه النسائي في السنن الكبرى (6/168، رقم 10494) عن عثمان بن حنيف بلفظ: «أن رجلا أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رجل أعمى فادع الله أن يشفيني قال: «بل أدعك» قال: أدع الله لي مرتين أو ثلاثا قال: «توضأ ثم صل ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة» فقال: يا محمد إني أتوجه بك إلى الله أن يقضي حاجتي أو حاجتي إلى فلان أو حاجتي في كذا وكذا: اللهم شفع في نبيي وشفعني في نفسي.
وأخرجه أيضاً: أحمد (4/138، رقم 17280) ، والحاكم في المستدرك (1/700، رقم 1909) ، والطبراني في المعجم الكبير (9/30، رقم 8311) ، وفي المعجم الصغير (1/306، رقم 508) .(1/252)
«أن هرقل» : هذا هو ملك الروم، و «هرقل» اسمه بكسر الهاء وفتح الراء كدمشق، ويقال: «هرقل» بإسكان الراء وكسر القاف، والهرقل بلغتهم وهو لا ينصرف للعلمية والعجمية وهو صاحب حروب الشام.
أقام في الملك إحدى وثلاثين سنة وفي ملكه مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقبه قيصر، وكذا كل من ملك الروم يقال له قيصر، ومن ملك الفرس يقال له: كسرى، وكل من ملك الترك يقال له: خاقان، وكل من ملك الحبشة يقال له: النجاشي، وكل من ملك مصر يقال له: العزيز، وكل من ملك حمير يقال له: تبع.
واما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» (1) فالمراد منه: أنه لا قيصر بعده بالشام ولا كسرى بعده بالعراق، بل يكونان في غير هذين الأقليمين قاله إمامنا الشافعي في المختصر.
ومعنى قيصر: «البقير» ، ولقب بذلك لأن أمة لما أتاها الطلق به ماتت وبقي يضطرب في جوفها فبقر بطنها أي: شق فخرج حياً وكان يفخر بذلك لأنه لم يخرج من فرج، وكان شجاعاً جباراً مقداماً في الحروب وهو أول من ضرب الدنانير وأحدث البيعة.
وسئل الشافعي عنه هل يقال هرقل أم قيصر؟ فقال: هرقل هو وقيصر الأول علم له والثاني لقباً، كما يقال على أمير المؤمنين.
«أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام» قال ابن عسار: الشام مهموز، ويجوز تخفيفه، وفي لغة يجوز فيقال: شأم بفتح السين والمد وهو مذكر وجوز ثأنيثه، وحد الشام طولاً من العريش إلى الفرات، وقيل: إلى بالس ورجحه ابن حبان في صحيحه فقال: أول الشام بالس، وآخره العريش (2) ، وعرضاً من جبل طيء من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما سامت ذلك من البلاد وهو ديار الأنبياء، وقدمنا ان نبينا - صلى الله عليه وسلم - دخل أرض الشام أربع مرات مرتين قبل النبوة ومرتين بعدها، ودخله عشرة آلاف صحابي.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري (3/1325، رقم 3422) ، ومسلم في صحيحه (4/2236، رقم 2918) من حديث أبي هريرة.
(2) قاله ابن حبان في الصحيح (16/294) عقب حديث (رقم 7305) عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ستخرج عليكم نار في آخر الزمان من حضرموت تحشر الناس» قال: قلنا بما تأمرنا يا رسول الله قال: «عليكم بالشام» قال أبو حاتم: أول الشام بالس وآخره عريش مصر.(1/253)
«في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها أبا سفيان كفار قريش فآتوه وهم بإيلياء» وإيلياء هو بيت المقدس، وفيه أربع لغات إيلياء بالمد موزون كبرياء، وإيلياء بالقصر والياء بوزن إعطاء، وإيلياء بتشديد الياء ومعناه بيت الله.
ولمسجد بيت المقدس فضائل وخصوصيات منها: أنه أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» (1) .
ومنها: أن الله تعالىسماه مباركاً حيث قال ?إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ? [الإسراء: 1] قال مجاهداً: سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة، وقيل: سماه مباركاً من بركة نشأت منه فعمت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها انفجارها كان من تحت الصخرة.
ومنها: أن الدجال لا يدخله قال - صلى الله عليه وسلم - «إن الدجال يدخل الأرض إلا أربعة مساجد: مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور» (2)
رواه أحمد بن حنبل في المسند.
ومنها: أن الصلاة فيه بألف صلاة فقد أخرج ابن ماجه وأبو داود عن ميمونة مولاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها قالت في بيت المقدس قال: «أرض المحشر والمنشر إتيوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة» (3) .
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/398، رقم 1132) ، ومسلم في صحيحه (2/1014، رقم 1397) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (5/364، رقم 23139) عن جنادة بن أبي أمية قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلنا عليه فقلنا حدثنا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تحدثنا ما سمعت من الناس، فشددنا عليه فقال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فينا فقال: «أنذركم المسيح وهو ممسوح العين أحسبه قال: العين اليسرى، تسير معه جبال الخبز وأنهار الماء، علامته يمكث في الأرض أربعين صباحاً يبلغ سلطانه كل منهل لا يأتي أربعة مساجد الكعبة ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى والطور» .
وأخرجه أيضاً: ابن أبي شيبة أبي شيبة في المصنف (7/495، رقم 37506) .
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/343) : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
وقال ابن حجر في فتح الباري (13/105) : رجاله ثقات.
(3) أخرجه أبو داود في سننه (1/125، رقم 457) ، وابن ماجه (1/451، رقم 1407) عن ميمونة.
وأخرجه أيضاً: إسحاق بن راهويه في مسنده (1/106، رقم 1) ، وأبو يعلى في مسنده (12/523، رقم 7088) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/216، رقم 3448) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/32، رقم 54) ، ومحمد بن عبد الواحد المقدسي في فضائل بيت المقدس (ص 49، رقم 16) ، والديلمي في الفردوس (2/25، رقم 2159) مختصراً.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/14) : وإسناد طريق ابن ماجة صحيح رجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود فإن بين زياد بن أبي سودة وميمونة: عثمان بن أبي سودة كما صرح به ابن ماجة في طريقه، وكما ذكره العلاء بن صلاح الدين في المراسيل.(1/254)
ومنها: أن من زاره حط الله عنه أوزاره، ومن صلى فيه كفر الله عنه ذنوبه، ولنا عوداً إلى كلام على فضائله في المجالس الآتية.
قال العلماء: حديث هرقل الذي ساقه البخاري هنا حديث جليل مشتمل على كثير من الفوائد، قال ابن رجب (1) : من أظن أن هذا الحديث سمر من الأسمار وخبر من الأخبار لا يتضمن علماً كما يحكى عن بعض المتأخرين فهم في غاية الجهل والعمى والطغيان، وإنما أخرجه البخاري في بدء الوحي إن لم يكن فيه بدء الوحي لتضمنه من أعلام النبوة وبراهنيها.
فائدة: هرقل قيل: كان ساكناً في مدينة في مدينة حمص، وكانت دار ملكة وكانت في زمانهم أعظم من دمشق وكان فتحها على يد أبي عبيدة بن الجراح سنه ستة عشر بعد قصة هرقل بعشر سنين، سميت بحمص باسم رجل من العمالقة اسمه: حمص بن المهر بن حاف، كما سميت حلب بحلب بن المهر، قاله ابن الملقن.
فائدة: دخل مدينة حمص من الصحابة تسعمائة رجل قاله الثعلبي.
فائدة أخرى: حمص هي إحدى مدائن الجنة الخمسة ورد عن كعب الأحبار: «خمسة مدن في الدنيا في الجنة مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق وحمص، وخمسة مدن في الدنيا في النار رومية وقسطنطينية وهي أسطنبول وأنطاكيه وصنعاء وتدمر» قيل: المراد بأنطاكية المحترقة لا هذه، وبصنعاء بلد بأرض الروم لا صنعاء اليمن.
فائدة أخرى: ورد في مسند أحمد بن حنبل لكن ضعيف أن من أهل حمص سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب (2) .
_________
(1) ابن رجب هو: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي، أبو الفرج، زين الدين: حافظ للحديث، من العلماء. ولد في بغداد سنة: 736 هـ، ونشأ وتوفي في دمشق في سنة: 795 هـ، من كتبه: شرح جامع الترمذي وجامع العلوم والحكم في الحديث، وهو المعروف بشرح الأربعين، وفضائل الشام، والإستخراج لأحكام الخراج، والقواعد الفقهية، ولطائف المعارف، وفتح الباري شرح صحيح البخاري لم يتمه، وذيل طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى، والاقتباس من مشكاة وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس، وأهوال القبور، وكشف الكربة في وصف حال أهل الغربة رسالة في شرح حديث بدأ الإسلام غريباً، والتوحيد، ورسالة في معنى العلم.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (1/19، رقم 120) عن حمزة بن عبد كلال قال سار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ... فذكر قصة لعمر فيها: فسمعته يقول: ردوني عن الشام بعد أن شارفت عليه لأن الطاعون فيه، ألا وما منصرفي عنه مؤخر في أجلي، وما كان قدومه معجلي عن أجلي، ألا ولو قد قدمت المدينة ففرغت من حاجات لا بد لي منها فيها لقد سرت حتى أدخل الشام ثم أنزل حمص فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليبعثن الله منها يوم القيامة سبعين ألفاً لا حساب ولا عذاب عليهم، مبعثهم فيما بين الزيتون وحائطها في البرث الأحمر منها» .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/61) رواه أحمد وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو ضعيف.
وأخرجه أيضاً: البزار (1/449، رقم 317) بنحو لفظ أحمد إلا أنه قال: «تسعين ألفاً» .
وأعله الهيثمي في مجمع الزوائد (10/408) بعد عزوه للبزار بأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم أيضاً.
وأخرجه من طريق آخر ليس فيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الحلكم في المستدرك (3/95، رقم 4504) من طريق راشد بن سعد أن أبا راشد حدثهم يرده إلى معدي كرب بن عبد كلال أن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سافرنا مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - آخر سفره إلى الشام ... فذكره وأعقبه بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(1/255)
ومشي هرقل مرة من حمص إلى بيت المقدس، قال العلماء: وقصة هرقل وسبب مشية إلى بيت المقدس كما ذكره الطبري وغيره أن كسرى أرسل جيشه إلى بلاد هرقل فخربوا كثيراً منها ثم استبطأ كسرى الأمير الذي أرسله إلى بلاد هرقل واسمه: «شهر براده» فعزله وأضم على قتله، وولي أمير غيره يقال له فارخان فسمع المعزول أن كسرى عزله فصالح هرقل واتفق معه على كسرى، وانهزم عنه بجنود فارس فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكر الله تعالى على كشف جنود فارس عنه، وكان يبسط البسط ويوضع عليها رياحين فيمشي.
فلما وصل إلى بيت المقدس سنة ست من الهجرة، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك فقال: «من ينطلق بكتابي هذا إلى قيصر فله الجنة» قالوا: وإن لم يقيل يا رسول الله قال: «وإن لم يقبل» فانطلق به دحية إلى أمير بصرى وهو: الحارث بن أبي شمر الغساني، فأرسله أمير بصرى إلى هرقل فوصل دحية بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل فقال هرقل قبل قراءة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبعض بطارقته: «قلب لي الأرض ظهراً والبطن وأتني بمن يعرف هذا الرجل» يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: فتش لي على أحد يعرف هذا النبي الذي أرسل لنا هذا الكتاب حتى نسأله عن أحواله وعلامته الثابتة عندنا في التوراة والإنجيل، فذهب ذلك البطريق إلى غزة فرأى في غزة أبا سفيان ومعه جماعة من أهل مكة يبلغون ثلاثين، وقيل: عشرين وكلهم كانوا إذ ذاك كفاراً أو خرجوا من مكة إلى غزة للتجارة، فإن أهل مكة إذ ذاك يسافرون إليها للتجارة وكان(1/256)
أبو سفيان كبيرهم، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صالح أهل مكة على ترك القتال عشر سنين، وذلك في الحديبية في أخر السنة السادسة، فخرج أبو سفيان ومن معه إلى غزة فرآهم البطريق هناك.
هذا معنى قول البخاري: إن هرقل أرسل إلى أبي سفيان في ركب من قريش أي: حال كونه في ركوب وكانوا تجاراً بالشام.
«في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماد فيها كفار قريش» أي: مصالحاً فيها أبا سفيان وكفار فريش، «وماد» فعل ماض من المفاعلة وهو الاتفاق على مدة مأخوذ من المداد ومن المدة.
فلما رأى البطريق أبا سفيان ومن معه ساقهم إلى بيت المقدس حتى أحضرهم عند هرقل كما قال البخاري وهم بإيلياء.
«فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم» ، والمراد: فدعاهم حال كونه جالساً في محل حكمه لا في خلوة ولا في الحرم أي: أمر بإحضارهم.
وجاء في رواية: أنه كان على رأسه التاج وعظماء الروم مطبقون به من جوانبه.
فائدة: الروم اسم لهذا الجبل المعروف من ولد الروم بن عيصوا فكأنه اسم أبيهم عليهم.
«ثم» حضروا مجلسة ودعاهم أي: أستدعاهم.
«ودعا ترجمانه» والترجمان: بفتح الياء والجيم وقد تضم التاء اتباعاً لها هو الذي يعبر لغة بلغة.
فقال هرقل للترجمان قل لهم «أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبا به» وإنما كان أقربهم لأنه من بني عبد مناف، وعبد مناف الأب الرابع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا لأبي سفيان.
قال أبو سفيان: وليس في الركب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيرى، وإنما خص هرقل الأقرب بالسؤال عن حال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مطلع على أمره ظاهراً أو باطناً أكثر من غيره، وإلا يعد لا يؤمن أن تحمله العداوة على الكذب والقدح فيه بخلاف القريب فإن نسبه يمنعه من ذلك.
«قال: أي هرقل لأصحابه أدنوه مني» أي: قربوا أبا سفيان مني «وقربوا أصحابه فأجعلوهم عند ظهره» ، والحكمه في جعل أصحابه وراء ظهره أنه إذا سأله عن شيء من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - فكذب ردوا عليه أصحابه وبينوا كذبه، بخلاف ما إذا(1/257)
جلسوا مواجهين له فقد يمنعهم الحياء من أن يواجوه بالتكذيب، إذا المقابلة بالتكذيب في الوجه صعبة.
«ثم قال» أي: هرقل «لترجمانه قل لهم» أي: لأصحاب أبي سفيان «إني سائل هذا» أي: صاحبكم أبا سفيان «عن هذا الرجل» أي: الذي يزعم أنه نبي «فإن كذبني» أي: نقل إلى عن محمد بأن قال فيه خلاف الواقع «فكذبوه» أي: لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه بل كذبوه.
«قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً بالكذب عليه» ، وفي نسخة «لكذبت عنه» وهي إما بمعنى لأخبرت عنه بالكذب، وإما بمعنى: على أي: لكذبت عليه.
معنى كلام أبي سفيان: لولا الحياء من أن رفقتي يرون عني ويحكون في بلادي كذباً فأعاب به لأن الكذب قبيح وإن كان على العدو، لكذبت عليه لبغضي إياه ولمحبتي نقصه، ويعلم من هذا أن الكذب كان قبيحاً في الجاهلية.
فائدة: صرح فقهاؤنا بأن شهادة العدو على عدوة لا تقبل للتهمة، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - «لا تقبل شهادة ذي غمر» (1)
بكسر الغين أي: عدو حقود على أخيه ويفرح بمصيبته
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/545، رقم 2298) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حداً ولا مجلودة ولا ذي غمر لأخيه ... الحديث» .
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث ولا يعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه، وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، قال: ولا نعرف معنى هذا الحديث ولا يصح عندي من قبل إسناده، والعمل عند أهل العلم في هذا أن شهادة القريب جائزة لقرابته، واختلف أهل العلم في شهادة الوالد للولد، والولد لوالده، ولم يجز أكثر أهل العلم شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد.
وقال بعض أهل العلم إذا كان عدلاً فشهادة الوالد للولد جائزة، وكذلك شهادة الولد للوالد ولم يختلفوا في شهادة الأخ لأخيه أنها جائزة، وكذلك شهادة كل قريب لقريبه.
وقال الشافعي: لا تجوز شهادة الرجل على الآخر وإن كان عدلاً إذا كانت بينهما عداوة، وذهب إلى حديث عبد الرحمن الأعرج عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا: «لا تجوز شهادة صاحب إحنة» يعني صاحب عداوة، وكذلك معنى هذا الحديث حيث قال: «لا تجوز شهادة صاحب غمر لأخيه» يعنى صاحب عداوة.
والحديث رواه أبو داود (3/306، رقم 3600) من طريق سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه» .
وأخرجه أيضاً: سنن ابن ماجه (2/792، رقم 2366) إلا أنه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ... به.
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (3/54) : هذا إسناد ضعيف لتدليس حجاج بن أرطأة، رواه من طريقه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده ... به، وله شاهد من حديث عائشة رواه الترمذي في الجامع.(1/258)
ويحزن لمسرته، والعداوة وقد تكون من الجانبين وقد تكون من أحدهما، نعم لنا صورة تصح فيها شهادة العدو على عدوه، وهي ما كان بينهما عداوة دينية كشهادة المسلم على الكافر، والسني على المبتدع، فإن البغض لله ليس قادحاً في الشهادة فيمن أبغضته لفسقه قبلت شهادتك عليه، وأما الشهادة للعدو فأنها تقبل إذا لم يبغضه لعدم التهمة، والفضل ما شهدت به الأعداء.
قال أبو سفيان: «ثم كان أول ما سألني عنه هرقل على لسان الترجمان أن قال: كيف نسبه فيكم» يعني هل من أشرافكم «قلت: هو فينا ذو نسب» أي: صاحب نسب عظيم.
«قال» أي: هرقل «فهل قال هذا القول منكم أحد قط» يعني هل أدعى النبوة من قومكم قريش أو العرب أحد قط قبله؟ «قلت: لا» .
«قال: فهل كان من آبائه من ملك» أي: من تولي الملك «قلت: لا» .
«قال: فأشراف الناس» أي: كبارهم وأهل الأحساب منهم «اتبعوه أم ضعفاءهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم» .
قول أبي سفيان أن الضعفاء اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - دون الأكابر نظراً إلى غالب أتباعه، فلا يشكل بمن سبق إلى أتباعه من أكابر أشراف دينه كالصديق والفاروق وحمزه وغيرهم، وإنما كان أتباع الرسل الضعفاء دون الأشراف، لأن الأشراف يأنفون من تقديم مثلهم عليهم والضعفاء لا يأنفون بل يسرعون إلى الانقياد أتباع الحق.
«قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه» أي: كرهه له بعد أن يدخل فيه، «قلت: لا» أي: لا يرتد أحد منهم لأجل كراهته لدين الإسلام بل إما مكرهاً وإما رغبة في غيره لحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن حجش.
وارتد بعد الصحابة أيضاً جماعة لحظ نفساني كما يحكى أن مؤذناً أذن في منارة أربعين سنة فصعد يوماً وأذن حتى بلغ حي على الصلاة فوقع بصره على امرأة نصرانية(1/259)
فذهب عقله ولبه، وترك الأذان وذهب إليها وخطبها فقالت: مهري ثقيل عليك، فقال وما هو؟ فقالت: تدخل في ديني فكفر بالله ودخل في دينها، فقالت: إن أبي في أسفل الدار فأنزل إليه واخطبني منه فنزل وزلت رجله فسقط ومات كافراً ولم يقض شهوته نسأل الله تعالى أن يمتنا على الإسلام بمنه وكرمه.
«قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا» أي: لا نتهمه بالكذب، لكن ذكر ابن سيد الناس في السيرة أنه يروى في خبر أبي سفيان أنه قال لقيصر قد كذب قال: وما هو؟ قال: أنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيليا ورجع في تلك الليلة قبل الصباح قال: وبطريق إيليا عند قيصر، فقال: صدق ما قال، وما أعلمك بهذا قال إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني فاستعنت بعمالى ومن يحضرني فلم نستطيع أن نحركه، كأنما نزاول جبلاً فدعوت النجاري فنظر إليه فقال: هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان فلا تستطيع أن نحركه حتى نصبح، فنظر من أين أتى فرجعت وتركت البابين مفتوحين فلما أصبحت غدوت عليها، فإذا الجبل الذي في زاوية المسجد منقوب، وإذا فيه أثر ربط الدآبة، فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا هذا، فقال قيصر: يا معشر الروم أنتم تعملون أن بين عيسى وبين الساعة نبياً بشركم به عيسى ترجون أن يجعله الله فيكم قالوا: بلى قال: فإن الله قد جعله في غيركم في أقل منكم عدداً وأصغر منكم بلاداً وهي رحمة يضعها حيث شاء.
«قال فهل يغدر» أي: ينقض العهد «قلت: لا، قال أبو سفيان: ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها» .
يعنى: صالحناه على ترك القتال مدة لا ندري ما يفعل في هذه المدة، وهذا منه أشارة إلى عدم الجزم بغدره.
«قال أي: أبو سفيان ولم تملكني كلمة أدخل فيها شيئاً» أي: انتقصه به غير هذه الكلمة يعني قوله «ونحن في مدة منه لا ندري ما هو فاعل» فيها من قبيل إطلاق الكلمة على الكلمة.
قال ابن مالك:
* وكلمة بها كلام قد يؤم *
ولم يمكنه أن ينتقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان يعلم من أخلاقه - صلى الله عليه وسلم - الوفاء والصدق.(1/260)
«قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال» أي: نوبة لنا ونوبة له، ولله درمن قال:
يوم علينا ويوم لنا ويوم نساء يوم لنرى
السجال: جمع سجل وهو الدلو الكبير، والمتحاربين كالمستقين يستقي هذا دلو ذاك.
وقوله: «ينال منا وتنال منه» قال البلقينى: هذا فيه دسيسة لأنهم لم ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - قط والذي وقع في أحد أن بعض المقاتلين قتل وكان العزة والنصر للمؤمنين.
«قال ماذا يأمركم قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول أباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» أي: الكف عن المحارم وخوارم المرؤة.
«والصلة» أي: صلة الرحم، وكم أمر الله به أن يوصل بالبر والإكرام والمراعاة ولو بالسلام والترحم، وأشار بقوله: «لا تشركوا، واتركوا» إلى التخلي عن الرذائل، وبقوله: «يأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف» إلى التحلي بالفضائل، ومحصله أنه ينهانا عن النقائص ويأمرنا بالكمالات.
«فقال» أي: هرقل فرغ من أسألته لأبي سفيان «للترجمان قل له» لأبي سفيان «سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب وكذا الرسل تبعث في قومها» .
يعني يكونون أفضل القوم أشرفهم لأن من شرف نسبه كان أبعد من انتحال الباطل وأقرب الانقياد الناس إليه.
«وسألتك هل قال أحد منك هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل تأسى» وفي رواية «يتأسى» ومعنى كل منهما يقتدي ويتبع بقول قيل قبله.
«وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم، فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل» .
معناه: أن أتباع الرسل في الغالب أهل الإستكانة لا أهل استكبار، الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبي جهل وأشياعه إلى أن أهلكهم الله تعالى، وأنقذ بعد(1/261)
حين من أراد سعادته منهم، وكذلك أتباع العلماء العاملين هم أهل الاستكانة، لا أهل الذين جعلوا الدنيا نصب أعينهم.
«وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم» .
قال العلماء: وزيادتهم دليل على صحة النبوة لأنهم يرون كل يوم يتجدد فيدخل فيه كل يوم طائفة.
«وسألتك أيرتد منهم أحداً سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب»
فإن الإيمان لا يدخل قلباً فيخرج منه فإنه يظهر نوراً، ثم لا يزال حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وغيرها.
لطيفة: حكى الإخباريون أنه كان في زمن فرعون امرأة ماشطة مؤمنة بموسى في الباطن، فبينما هي تمشط جارية من جواري فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت تعساً لفرعون ومن يعبده، فقالت لها الجارية: يا هذه ما هذا الكلام الذي سمعت؟ فقالت: هو كما سمعت، فقالت الجارية لها: فكلامك هذا يدل على أن ربك غير فرعون، فقالت: ورب الكعبة الله ربي وربك ورب فرعون ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يشركون، قالت الجارية: وأين يكون ربك هذا؟ قالت: في السماء قدرته وفي الأرض سلطانه، قالت لها الجارية: فأنا أخبر فرعون بهذا، قالت الماشطة: دونك وفرعون فأخبريه بما شئت، فدخلت الجارية على فرعون وخرت له ساجده وقالت له: إن فلانة الماشطة تزعم أن لها رباً غيرك فغضب فرعون وبعث إلى زوجها وقال: ما هذا الذي تقول زوجتك؟ قال: وما الذي تقول؟ قال فرعون: تزعم أن لها رباً سواي، قال زوج الماشطة: صدقت، الله ربنا وربك ورب الخلائق أجمعين لا إله إلا الله هو رب العرش العظيم، فاشتد غضبه من كلامه، وقال: لئن لم تنهيا عن هذا الكلام لأغلين لكما الزيت ولأطرحنكما فيه، قال: دونك فأصنع ما أنت صانع، فأمر فرعون بإحضار قدرة ثم ملئت زيتا ثم غلي الزيت، فلما نظرت المرآة إلى غليانة أيقنت بالهلاك والموت، فأقبلت على فرعون وقالت له: إن لي عندك حاجة فقال لها: تقضى، فقالت: إن كان ولابد من عذابنا فقدم أولادي أمامي وفعلت ذلك ليعظم أجرها بصبرها، فأمر فرعون بأولادهم في الزيت وهي تنظر إليهم، فنادها الولد الصغير: يا أماه العجل العجل فإنك على الحق وفرعون على الباطل، وهو من يعبده في النار،(1/262)
فألقت نفسها على أثر أولادها، ثم تبعها أبو أولادها (1) .
فانظر إلى هذا الثبات على الإيمان والصبر على العذاب لحصول النعيم االأبدي.
«قال هرقل لأبي سفيان وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر» .
أي: لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر، وبخلاف من طلب الآخرة فإنه لا يرتكب غدراً ولا غيره من القبائح.
«وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف» .
ثم قال هرقل بعد فراغه من الأسئلة وأجوبتها «فإن كان ما تقول يا أبا سفيان حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين» .
أي: بيت المقدس وأراد الشام وفي مسلم: «فإن يك ما يقوله حقاً فإنه نبي وقد كنت أعلم أنه خارج فلم أكن أظن أنه منكم معاشر العرب» (2) كأنه استبعد أن يتنبأ من العرب.
فإن قيل: من أين كان يعلم بخروج المصطفي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال: كنت أعلم أن خارج؟
فالجواب: أن الكرماني قال في هذا: اعلم أن كل الذي قاله هرقل مأخذه إما من القرائن العقلية، وإما من الأحوال العادية، وإما من الكتب القديمة.
وقال ابن الملقن: إنما علم ذلك من التوراة والإنجيل.
وقال المازري (3) : هذه الأشياء الذي يسأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة إلا أنه يحتمل أنه كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه، لأنه قال: وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم.
ثم قال هرقل «فلو أني أعلم أني أخلص إليه» أي: أصل إليه «لتجشمت لقاؤه» أي: لتكلفت لقاؤه على خطر ومشقة، وحملت نفسي على الارتحال إليه لو كنت أتيقن الوصول إليه، لكني أخاف أن يعوقني عائق فأكون قد تركت ملكي، ولم أصل إلى خدمته.
«ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه» أي: مبالغة في العبودية والخدمة، واقتصاره على غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذ وصل إليه ولاية، ولا منصباً وإنما
_________
(1) هذا مشهور بماشطة وله ألفاظ متقاربة فأخرجه أحمد في مسنده (1/309، رقم 2822) ، وابن حبان في صحيحه (7/163، رقم 2903) ، والحاكم المستدرك على الصحيحين (2/538، رقم 3835) ، وأبو يعلى (4/394، رقم 2517) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/450، رقم 12279) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/243، رقم 1636) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/275، رقم 288) عن ابن عباس.
(2) انظر: رواية الإمام مسلم للحديث في صحيحه (3/1393، رقم 1773) .
(3) المازري هو: محمد بن علي بن عمر التميمي المازري، أبو عبد الله، محدث، من فقهاء المالكية مولده سنة: 453 هـ، نسبته إلى «مازر» بجزيرة صقلية، ووفاته بالمهدية له: المعلم بفوائد مسلم في الحديث، وهو ما علق به على صحيح مسلم، حين قراءه، ومن كتبه: التلقين في الفروع، والكشف والانباء في الرد على الإحياء للغزالي، وإيضاح المحصول في الأصول، وكتب في الأدب، وكانت وفاته سنة: 536هـ.(1/263)
يطلب ما يحصل البركة.
قال العلماء: ولا يحكم بإيمانه بقوله هنا: إني أخاف أخلص إليه لتجشمت لقاؤه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ولا بقوله فيما سيأتي، حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروجه - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي، ولا بقوله: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي، وإنما لم يحكم بإيمان بذلك لأنه ظهر منه ما ينافيه حيث قال: قلت: مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فعلمنا أن ما صدر منه لم يصدر عن التصديق القلبي والاعتقاد الصحيح، بل لامتحان الرعية، بخلاف إيمان ورقة بن نوفل فإنه صحيح لأنه لم يظهر منه ما ينافيه.
وقال النووي: لا عذر له في قوله: لو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاؤه» لأنه قد عرف صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما شح بالملك ورغب بالسياسة، وآثرها على الإسلام كما ورد في هذا الصحيح، ولو أراد الله لوفقه كما وفق النجاشي ومازالت عنه الرئاسة.
وقال الخطابي: إذا تأملت معاني استقراؤه من أوصافه تبينت قوة إدراكه، فلله درة من رجل ما كان أعقله لو ساعد معقوله مقدوره.
وقال شيخ الإسلام ابن حجر: يقوي أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين.
ويدل على عدم إيمانه أيضاً ما رواه ابن حبان في صحيحة أنه قارب الإجابة ولم يجب (1) .
وورد أيضاً في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني مسلم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كذب بل هو باق على نصرانيته» (2) .
_________
(1) لم نقف عليه عند ابن حبان بهذا اللفظ وسيأتي في تخريج الحديث الآتي لفظ آخر عند ابن حبان، وربما رواه في غير الصحيح، وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (1/37) وعزاه إليه من حديث أنس بن مالك قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أيضاً من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب.
(2) لم نقف عليه في مسند أحمد وأورده أيضا الحافظ في الفتح (1/37) ، إلا أننا وقفنا على رواية لابن حبان بمعناه (10/357، رقم 4504) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ينطلق بصحيفتي هذه الى قيصر وله الجنة» فقال رجل من القوم: وإن لم أقتل؟ قال: «وإن لم تقتل» فانطلق الرجل به فوافق قيصر، وهو يأتي بيت المقدس قد جعل له بساط لا يمشي عليه غيره، فرمى بالكتاب على البساط وتنحى فلما انتهى قيصر إلى الكتاب أخذه ثم دعا رأس الجاثليق فأقرأه فقال: ما علمي في هذا الكتاب إلا كعلمك فنادى قيصر: من صاحب الكتاب فهو آمن، فجاء الرجل فقال: إذا أنا قدمت فأتني فلما قدم أتاه فأمر قيصر بأبواب قصره فغلقت، ثم أمر مناديا ينادي ألا إن قيصر قد اتبع محمدا - صلى الله عليه وسلم - وترك النصرانية فأقبل جنده وقد تسلحوا حتى أطافوا بقصره، فقال لرسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترى إني خائف على مملكتي، ثم أمر مناديا فنادى ألا إن قيصر قد رضي عنكم وإنما خبركم لينظر كيف صبركم على دينكم، فارجعوا فانصرفوا وكتب قيصر الى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني مسلم وبعث إليه بدنانير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قرأ الكتاب: «كذب عدو الله ليس بمسلم وهو على النصرانية» وقسم الدنانير.(1/264)
وورد أيضاً بطريق ضعيف كما قاله الطبراني أنه قال: أعرف أنه كذلك، أنه نبي ولكن لا أستطيع أن أفعل أن أبايعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم (1) .
قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : لو تفطن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابه: «أسلم تسلم» وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.
وأما قول صاحب الاستيعاب: «آمن» فمحمول على أنه أظهر الإيمان لكنه لم يستمر عليه، وشح بملكه وخاف أن يقتله قومه وآثر الفانية على الباقية والله الموفق.
وقال أبو سفيان «ثم دعا هرقل بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي بعث» أي: أرسله «مع دحية إلى عظيم بصرى» أي: أميرها «فدفعه إلى هرقل» .
قال العلماء: يجوز في دال دحية الفتح والكسر، ويقال له دحية الكلبي وهو دحية بن خليفة، وكان - رضي الله عنه - من أجمل الصحابة وجهاً ومن كبارهم وكان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا على صورته (3) .
_________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/225، رقم 4198) عن دحية الكلبي.
ورواه أيضاً: الأصبهاني في دلائل النبوة (ص 153، رقم 168) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/306) : رواه الطبراني وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف.
(2) انظر: فتح الباري (1/37) .
(3) حديث إتيان جبريل في صورة دحية الكلبي أخرجه النسائي (8/101، رقم 4991) والبزار (9/419، رقم 4025) كلاهما من حديث أبي هريرة.
وأخرجه الطبراني فى المعجم الكبير (1/260، رقم 758) ، وفي المعجم الأوسط (1/7، رقم 7) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/175، رقم 6257) من حديث عائشة.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة (2/780، رقم 18) من حديث شريح بن عبيد.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات لكبرى (4/250) من حديث ابن عمر جميعاً بلفظ: «كان جبريل يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة دحية الكلبي» .(1/265)
وذكر السهيلي عن ابن عبد السلام في قوله تعالى ?أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا? [الجمعة: 11] قال: كان اللهو ونظرهم إلى وجه دحية لجماله.
وروي أنه كان إذا قدم الشام لم تبق امرأة مخدرة إلا خرجت تنظر إليه، أسلم قديماً ولم يشهد بدراً وشهد المشاهد بعدها، وبقي إلى خلافة معاوية وسكن «المزة» قرية بقرب دمشق.
«فأخذ هرقل الكتاب فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله» إنما قال: عبد الله تعريضاً ببطلان ما تقوله النصارى من أن المسيح هو ابن الله، لأن حكم الرسل كلهم واحد في كونهم عباد الله، وقال: عبد الله ورسوله ولم يعكس من باب الترقي.
«إلى هرقل عظيم الروم» إنما قال - صلى الله عليه وسلم - عظيم الروم، ولم يقل ملك الروم لأنه معزول عن الملك بحكم دين الإسلام، ولا سلطنة لأحد إلا من قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكن لم يُخْلِه - صلى الله عليه وسلم - من نوع الإكرام في المخاطبة، ليكون أخذ بأدب الدين في تليين القول لمن يدعوه إلى دين الحق، فلهذا قال: عظيم الروم، أي: الذي تعظمه الروم ولم يقل إلى هرقل فقط وقد أمر الله بتليين القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [الإسراء: 125] .
«سلام على من اتبع الهدى» لم يقل - صلى الله عليه وسلم -: سلام عليك، إذ الكافر لا سلام عليه دون لأنه مخزي في الدنيا بالحرب والقتل والسبي، وفي الآخرة معذب بالعذاب الأبدي، وفيه إشعار بأنه إذا اتبع الهدى كان من أهل السلامة.
فائدة: قال العلماء: لا يجوز للمسلم أن يسلم على الكافر لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك بقوله «لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام» (1) .
وليس المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «على من اتبع الهدى» التحية بل معناه: سلم من
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1707، رقم 2167) ، والبخاري في الأدب المفرد (ص 380، رقم 1111) ، والترمذي في سنن الترمذي (4/154، رقم 1602) ، وأحمد في مسنده (2/266، رقم 7606) جميعاً عن أبي هريرة.(1/266)
عذاب الله لمن أسلم، فلو سلم على من لم يعرفه فبان ذمياً أُستحب أن يسترد سلامة بأن يقول: استرجعت بسلامي تحقيراً له، نعم يجوز للمسلم أن يحيي الذمي بغير السلام بأن يقول: هداك الله أو أنعم الله صباحك، ولو سلم الذمي على المسلم وجب أن يرد عليه ولم يزد في الرد على قوله وعليك لخبر الصحيحين «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» (1) ، وفي هذا الصحيح «إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليكم فقولوا وعليك» (2) .
«أما بعد» يجوز في دال أما بعد أربعة أوجه الضم والفتح والرفع مع التنوين والنصب معه أيضاً، واختلف العلماء في أول من نطق بها على أقوال: فقيل: داود، وقيل: قس بن ساعده، وقيل: كعب بن لؤي، وقيل: يعرب بن قحطان، وقيل: سحبان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولها في خطبة وشبهها روى ذلك عنه عدة من الصحابة.
«فأنا أدعوك بدعائه الإسلام» أو بدعوة الإسلام، أي: آمرك بكلمة التوحيد وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله التي يدعى إليها الأمم.
وفي هذا الصحيح في الجهاد: «أدعوك بدعاية الإسلام» أي: بالكلمة الداعية إلى الإسلام «أسلم تسلم» أي: إن أسلمت تبق سالماً وهذا من محاسن الكلام وبليغة وإيجازه واختصاره، وفيه نوع من البديع وهو الجناس فهو كقوله تعالى ?وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ? [النمل: 44] .
«يؤتك الله أجرك مرتين» جواب ثاني للأمر إن أسلمت تسلم يؤتك الله أجرك مرتين عند الإسلام، كونه كان مؤمناً بعيسى ثم آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال البرماوي آخر كتاب النكاح: «فائدة: قال العلماء: في قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه الذي كتبه إلى قيصر: «أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين» هذا يدل على أن قيصر كان على دين عيسى - عليه السلام - حين كان حقاً قبل التبديل والنسخ، وإلا فلم يكن له أجره مرتين لو أسلم» .
ويدل على أنه وأصحابه أهل كتاب لأنه خاطبه بيأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ويحتمل أنه يكون تضعيف الأجر له مرتين من جهة إسلامه ومن
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2309، رقم 5903) ، ومسلم (4/1705، رقم 2163) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
(2) انظر: صحيح البخاري (5/2309، رقم 5902) رواه البخاري عن ابن عمر.(1/267)
جهة أن إسلامه يكون سبباً لدخول اتباعه في دين الإسلام.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فإن توليت» أي: أعرضت عن الإسلام «فإن عليك إثم الأَرِيسِيِّينَ» أي: الأكارين وهم الفلاحون، وأرد - صلى الله عليه وسلم - أن عليك إثم جميع رعاياك الذين يتبعونك وينقادون لأمرك، وإنما اقتصر على الزارعين منهم لأنهم كانوا هم الأغلب فيهم، لأنهم أسرع في الانقياد، فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا، حذره - صلى الله عليه وسلم - إذا كان رئيساً متبوعاً مسموعاً أن يكون عليه إثم الكفر وإثم من عمله، قال عليه الصلاة والسلام: «من عمل سيئة كان له إثمها وإثم من عمل بها إلى يوم القيامة» (1)
وتقديم لفظ عليك على اسم أن مفيد للحصر أي: ليس أثمه إلا عليك.
قال شمس الأئمة الكرماني: فإن قلت: فكيف يكون إثم غيره عليه وقال تعالى ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الزمر: 7] قلت: المراد إثم الإضلال عليه والإضلال أيضاً كالضلال على أنه معارض لقوله تعالى ?وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ? [العنكبوت: 13] .
قال ابن حجر: وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو فإن عليك مع إثمك إثم الأَرِيسِيِّينَ لأنه إذا كان إثم الأتباع عليه بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر، فلأن يكون عليه إثم نفسه.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ? وهو عطف على بسم الله الرحمن الرحيم ?تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ? [آل عمران: 64] .
والحكمة في تخصيص هذه الآية بالإرسال إلى هرقل دون غيرها من الآي أنه نصراني، والنصارى جمعت هذه الأمور الثلاثة عبدوا غير الله وهو عيسى، وأشركوا بالله فقالوا إنه ثالث ثلاثة، واتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، قال الله تعالى ?اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ? [التوبة: 31] .
قال أبو سفيان «فلما قال» يعني هرقل «ما قال» أي: من الأسئلة والأجوبة
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2059، رقم 1017) عن جري بطرف: «من سن سنة ... » .
وأخرجه أيضاً: الترمذي (5/43، رقم 2675) ، والنسائي في سننه (5/75، رقم 2554) ، وابن ماجه (1/74، رقم 203) ، وأحمد في مسنده (4/361، رقم 19223) ، والدارمي في سننه (1/141، رقم 514) .(1/268)
«وفرغ من قراءة الكتاب» أي: كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، «كثر عنده» أي: عند هرقل، «الصخب» أي: اللغط وهو أصوات مختلفة مبهمة لا تفهم، فلا أدري ما قالوا، «وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي: أخرجنا» أي: من مجلسه «لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة» هذا جواب لقسم محذوف تقديره: والله قد أمر أي: أعظم أمر أبن أبي كبشه أي: أمر محمد.
وأختلف العلماء في أبي كبشه الذي نسبه إليه أبو سفيان هنا فقيل كان رجلاً من خزاعة خالف قريشاً في عبادة الأوثان، وكان يعبد الشعرى، ولم يوافقه أحد من العرب على ذلك، فشبهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلوه ابناً له لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشه.
وقيل: أبو كبشة جد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل أمه من الرضاع، وقيل: من قبل أمة وإنما نسبوه إلى هذا الجد تحقيراًٍ له بنسبته إلى غير نسبه المشهور، فإنه كان من عادة العرب إذا انتقضت أحداً نسبه إلى جد غامض.
فائدة: لم يقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده قط أحداً سوى أبي بن خلف قاله في البرهان في شرح السيرة، ولما طعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: طعنني ابن أبي كبشة قاله ابن الملقن.
ثم قال أبو سفيان «إنه يخافه ملك بني الأصفر» أي: ملك الروم وسمى الروم الأصفر فقيل: لأن جدهم روم بن غيص بن إسحاق بن إبراهيم تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد، فقيل له: الأصفر، وقيل لأولاده بنو الأصفر، وقيل: لهم بني الأصفر لأن جيشًا من الحبشة غلب على ناحيتهم في وقت، فوطئ نساءهم فولدن أولادًا صفرًا من سواد الحبشة وبياض الروم.
قال أبو سفيان «فمازالت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام» وتقدم أنه أسلم ليلة الفتح، قال بعضهم: لم يسلم ليلة الفتح إلا في الظاهر فلهذا أظهر النفاق بعدها في غزوة حنين، ثم حسن إسلامه في الطائف، وإيمانه - رضي الله عنه - صحيح خلافاً لما يقع في بعض التواريخ، وتقدم أن أبا سفيان كان يسمى بصخر، وكان يسمى أبوه حرب، وكان جده يسمى بأميه بن أبي الصلت، وكان أميه شاعراً وكان شعره مشتملاً على الوحدانية والبعث، وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - شعره فقال: «لقد كاد أن يسلم» قال ذلك لما سمع قوله:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... فلا شيء أعلا منك حمداً وأمجدا
وكان أبوه قد قرأ التوراة والإنجيل في الجاهلية، وكان يعلم بأمر - صلى الله عليه وسلم - قبل مبعثه(1/269)
فطمع أن يكون هو، فلما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وصرفت النبوة عن أميه حسده وكفر وأنزل في حقه كما قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ?وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ? [الأعراف: 175] ، وأما ولده حرب جده معاوية فإن الجن قتلوه بمفازة وأنشدوا فيه.
وقبر حرب بمكان فقر وليس قرب قبر حرب قبر
ولقتله سبب ذكره الكمال الدميرى في الغراب.
قال الإمام النووي - رضي الله عنه -: اعلم أن هذه القطعة أي: من قصة هرقل مشتملة على جميل من القواعد ومهمات من الفوائد:
منها: جواز مكاتبة الكفار وقد كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة من ملوك الكفار غير هرقل كما سنذكرهم في محلهم إن شاء الله تعالى.
ومنها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم.
ومنها: استحباب تصدير الكتب بسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافراً، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر قبل نزول البسملة يصدر كتابه باسمك اللهم على طريقة قريش حتى نزلت ?بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا? [هود: 41] فكتب بسم الله حتى نزلت ?قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ? [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن حتى نزلت ?إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ? [النمل: 30] فكتبها.
ومنها: أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن بيد الكتاب بنفسه فيقول من فلان إلى فلان، وإن كان المرسل إليه أعظم من المرسل كما عليه الأكثر، قال الربيع بن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان أصحابه يكتبون إليه مبتدين بأنفسهم وهم مقتدون في ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه بدأ بنفسه لما كاتب هرقل وغيره فقال: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
وروى: أن هرقل لما أخرج كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقرأه فرأى أخو هرقل أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بنفسه فأخذ الكتاب ليمزقه فأخذه هرقل وقال: أنت أحمق صغير وأحمق كبير , وقرأه.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز معاملة الكفار بالدراهم المنقوشة فيها بسم الله للضرورة، ونقل عن مالك الكراهة.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز مسافرة المسلم إلى أرض الكفار.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز بعث آية من القرآن ونحوها إليهم، نعم لا يجوز المسافرة بالمصحف إلى دار الكفر، وكذلك لا يجوز المسافرة بحمله منه خوفاً من وقوعه(1/270)
في أيدي الكفار، وعليه يحمل النهي عن المسافرة بالقرآن إلى بلاد العدو.
ومنها: أن فيه دلالة على أن العدو لا يؤمن أن يكذب على عدوه.
ومنها: وجوب العمل بخبر الواحد، وإلا لما بعثه مع دحية وحده، وذلك بإجماع من يعتد به.
ومنها: أن فيه دلالة على جواز مس الجنب أو الكافر ما في الكتاب وغيره إذا كان غير القرآن أكثر.
ومنها: أنه لابد من استعمال الورع في الكتابة، فلا يفرط ولا يفرط، ولهذا قال له: هرقل عظيم الروم.
ومنها: استحباب البلاغة والإيجاز، وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة، فإن قوله: أسلم تسلم في نهاية الاختصار والبلاغة وجمع المعاني.
ومنها: أن من أدرك نبيين متبعاً لهما فله أجره مرتين.
ومنها: أن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلاماته كان معلوماً لأهل الكتاب علماً قطعيًا، وإنما ترك الإيمان منهم من تركه عنادًا وخوفًا على فوات مناصبهم.
ومنها: أن من كان سببًا للضلالة أو منع هداية كان إثما.
ومنها: استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات ونحوها.
فائدة: ذكر بعض شراح البخاري أن دحية لما قدم على هرقل قال له: يا قيصر أرسلني من هو خير منك، والذي أرسله خير منه ومنك، فاسمع بذل وأجب تنصح، فأنك إن لم تذل لم تفهم، وإن لم تنصح لم تنصف، قال: هات، قال: هل تعلم أكان المسيح يصلي؟ قال: نعم، قال فأني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي له، وأدعوك إلى من خلق السماوات والأرض، والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأمي الذي بشر به موسى وبشر به عيسى بن مريم بعده، وعندك من ذلك آثار من علم يكفي من العيان، ويشفي من الخبر، فإن أحببت كان لك الدنيا والآخرة وإلا ذهبت عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، اعلم أن لك رباً يقصم الجبابرة ويقرر النعم، فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينه ورأسه وقلبه، ثم قال: والله ما تركت كتاباً إلا قرأته ولا عالماً إلا سألته، فما رأيت إلا خيراً فأمهلني حتى انظر من كان المسيح يصلي له، وأنا أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غداً ما هو أحسن منه، فأرجع عنه فيضرني ولا ينفعني، أقم حتى انظر فلم يلبث أن أتته وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
خاتمة: روي أن هرقل وضع كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في قصعة من ذهب تعظيماً(1/271)
له، وأنهم لم يزالوا يتوارثون كابرًا عن كابر في أرفع صوان وأعز مكان.
قال شيخ الإسلام ابن حجر: أنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين المنصوري قال: أرسلني ملك الإفرنج في شفاعة فقبلها وعرض على الإقامة عنده فقال: لأتحفنكم بتحفة سنية، فأخرج لي صندوقًا مصحفًا بذهب، فأخرج منه مقلمة ذهب فأخرج منه كتابًا قد زالت أكثر حروفه، وقد ألصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم لجدي قيصر، مازلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا أباؤنا عن أبائهم إلى قيصر أنه ما دام هذا الكتاب عندنا لا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصاري ليدوم الملك فينا.
ويؤيد هذا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جاء جواب هرقل قال: «ثبت ملكه» (1) .
قال ابن حجر: ثم قال البخاري «وكان ابن الناظور» روي بالطاء المهلمة وبالظاء المعجمة ومعناه: حافظ الزرع والناظز إليه، وهو معطوف على وأخبرني عبيد الله، والتقدير: عن الزهري، وأخبرني عبيد الله ... فذكر الحديث، ثم قال الزهري: «وكان الناظور صاحب إيلياء وهرقل أسقفاً على نصارى الشام» ، وهرقل مجرور بالعطف على إيلياء أي: كان ابن الناظور صاحب إيلياء وصاحب هرقل أسقفًا.
قال الكرماني: ولفظ الصاحب هذا بالنسبة إلى هرقل حقيقة فإنه بمعني الصديق وبالنسبة إلى إيلياء مجازًا إذا المراد الأحكام فيه، وإرادة المعنى الحقيقي والمعنى المجازي من لفظ واحد باستعمال واحد جائز عند الشافعي، وإما عند غيره فهو مجاز بالنسبة إلى المعنيين باعتبار معنى شامل لهما، ومثله يسمى بعموم المجاز، ويجوز في صاحب النصب على الاختصاص أي: على الحال، والرفع على أنه مبتدأ محذوف، وقوله «يحدث» خبر «كان» .
فائدة: النصارى جمع نصراني سمو بذلك لنصره بعضهم بعضاً، أو لأنهم نزلوا موضعاً يقال له نصرانه أو ناصره، أو لقوله تعالى ?مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [الصف: 14] والمعنى: أن هرقل لما وصل إلى بيت المقدس، وكان إذ ذاك ببيت المقدس حاكم يقال له ابن الناظور وكان صاحب هرقل وكان أسقفاً على نصارى الشام أي: عالمهم وقاضيهم ومقتداهم «وكان يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء» أي: في الأيام التي انتصرت جنوده على جنود فارس وأخرجهم من بلاده , «وأصبح يوماً خبيث
_________
(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/177، رقم 18386) من قول الشافعي.(1/272)
النفس» أي: رديء النفس غير طيبها أي: أصبح ما غير نشط ولا منبسط «فقال له بعض بطارقته» أي: خواص دولته وأهل الرأي والشورى منهم «قد استنكرنا هيئتك» أي: أنكرنا حالتك أي: رأيناها مخالفة لسائر الأيام «قال ابن الناظور: وكان هرقل حَزَّاءً ينظر في النجوم» يحتمل أن يكون خبراً ثانياً لكان لأنه ينظر في الأمرين، ويحتمل أن يكون تفسيراً لحزاء، فإن الكهان تارة تستدل إلى اللقاء الشيطان الشياطين، وتارة يستفاد من إحكام النجوم، وكان كلاً من الأمرين في الجاهلية شائعاً ذائعاً، إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأبطأ الشرع الاعتماد عليهم.
وقال لهم هرقل حين سألوه أي: عما استنكره منه «إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان» أي: رأيت الطائفة الذين يقطعون الجلدة التي فوق الحشفة «قد ظهر» أي: غلبوا وملكوا يعني له نظره في النجوم، أن الملك ينتقل عنهم إلى الطائفة الذين يختتنون، فإن النصارى لا تختتن، وكان أدرك ذلك وحصله من حساب المنجمين، فإنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب، وهم يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفي المثلثة بروجها في ستين سنة، فكان في ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور، وعند تمام العشرين الثانية مجيىء جبريل بالوحي، وعند تمام الثالثة فتح خيبر ومكة ظهور الإسلام، وعندهم أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون وكان دليلاً على انتقال الملك للعرب.
فإن ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية قول المنجمين والاعتماد على ما يدل أحكامهم.
فالجواب: أنه قصد أن يبين أن البشارات بالنبي جاءت من طريق، وعلى كل لسان رفيق من كاهن أو منجم محق أو مبطل.
ثم سأل هرقل «فمن يختتن من هذه الأمة» أي: من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز «قالوا: ليس يختتن إلا اليهود» والحصر في قوله «إلا اليهود» بمقتضي علمهم لأن اليهود كانوا بإيليا تحت الذل مع النصاري بخلاف العرب، ثم قالوا: «فلا يهمنك شأنهم» أي: هم أحقر من أن تهتم لهم أو تبالي بهم «واكتب مدائن ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود فبينما هم على أمرهم» أي: في هذه المشورة أبي هرقل برجل أرسل إليه به أي: صاحب بصرى واسمه الحارث بن أبي شمر هلك على كفره، وكان من ملوك اليمن سكنوا الشام «يخبر عن خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استخبره هرقل» أي: سأله عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره عنها قال:(1/273)
«اذهبوا به» أي: بالرجل المخبر «فانظروا أمختتن أو لا» أي: أمختونا هو أم لا «فنظروا إليه فحدثوه انه مختتن» .
قال الكرماني: وهذا صحيح وصريح في أن العرب قبل البعثة كانوا يختتون.
«وسأله عن العرب فقال: هم يختتون فقال هرقل هذا ملك هذه الأمة» أي: ملك أهل العرب قد ظهر، «ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية» ويجوز فيها تخفيف الياء وتشديدها كما ضبطه الكرماني بذلك؟
وقال ابن الملقن: رومية بضم الراء تخفيف الياء مدينة معروفة بالروم وكانت مدينة رياستهم، ويقال: إن روماس بناها.
قال البلقيني (1) : اسم صاحبه برومية ضغاطر الأسقف الرومي، وقيل: بقاطر آمن برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقتل بين يدي هرقل أي: كتب إليه من بيت المقدس يسأله عن هذا الأمر «وكان نظيره في العلم وسار هرقل إلى حمص فلم يرم حمص» يفارقها حتى «أتاه كتاب من صاحبه» أي: الذي برومية «يوافق رأي هرقل على خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه نبي» .
قال شيخ الاسلام ابن حجر: هذا يدل على أن هرقل وصاحبه أقرا بنبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لكن هرقل لم يستمر على ذلك بخلاف صاحبه، «فأذن حينئذ هرقل لعظيم الروم في دَسْكَرَةٍ له بحمص» والدسكرة بفتح الدال والكاف والراء وسكون السين بينهما بناء كالقصر حواليه بيوت ومنازل للخدم والحشم، والمعنى: أذن هرقل لعظماء الروم في دخول الدسكره، وكانه دخل القصر ثم أغلقه وفتح أبواب البيوت التي حوله، وأذن للروم في دخولها ثم أغلقها بعد دخولهم ثم أطلع عليهم كما صرح بذلك بقوله «ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم أطلع» أي: خرج من حرمه وظهر للناس «فقال يا معشر الروم هل لكم في الفلاح» أي: في الفوز «والنجاة والرشد» أي: الخير «أن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي» هكذا أكثر الأصول في البيعة، وفي بعضها «فتتابعوا» من المتابعة، وهو الاقتداء «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ» أي: نفروا حين سمعوا منه هذا الكلام وكروا راجعين نفرة الوحوش، وشبههم بالحمر دون غيرها من الوحوش لمناسبة الجهل، وعدم الفطنة بل هم أضلوا حتى وصلوا إلى الأبواب فوجدها قد غلقت «فلما رأى» أي: هرقل «وأيس من الإيمان» أي: إيمانهم لما أظهروه، وايمانه أنه كان شح بنفسه بملكه، وكان يحسب أن يطيعوه فيستمر ملكه «قال: ردوهم علي فقال: إني قلت مقالتي الساعة» ويجوز فيه المد وهو الأكثر الأشهر ويجوز القصر «اختبر بها شدتكم
_________
(1) البلقيني هو: صالح بن عمر بن رسلان البلقيني الشافعي شيخ الاسلام، مولده سنة: 791 هـ، قاض، من العلماء بالحديث والفقه، مصري، تفقه بأخيه عبد الرحمن بالقاهرة، وناب عنه في الحكم، ثم تصدر للافتاء والتدريس بعد موته سنة 824 هـ، وولي قضاء الديار المصرية سنة من سنة 825 إلى 827، وعزل وأعيد ست مرات، وتوفي وهو على القضاء، من كتبه: ديوان خطب، والغيث الجاري على صحيح البخاري، والجوهر الفرد فيما يخالف فيه الحر العبد، وهي رسالة، وتتمة التدريب، أكمل به كتاب أبيه، والتجرد والاهتمام بجمع فتاوي الوالد شيخ الإسلام، والتذكرة، والقول المقبول فيما يدعى فيه بالمجهول، توفي بالقاهرة سنة: 868 هـ.(1/274)
على دينكم» أي: امتحن فيها رسوخكم في دينكم «وقد رأيت منكم الذي أحببت، فسجدوا له ورضوا عنه وكان ذلك آخر شأن هرقل» أي: في حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصته.
وقد ذكر البخاري حديث هرقل في كتابه في عشر مواضع والله أعلم (1) .
قال ابن رجب: قوله «وكان آخر شأن هرقل» الظاهر أنه من كلام الزهري ومراده: أن هذا آخر ما بلغه من خبره والله اعلم بالحال وإليه المرجع وإنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
* * *
_________
(1) بالإستقراء وجدناه في أحد عشر موضعاً:
الأول: هاهنا، والثاني: (1/28، رقم 51) ، والثالث: (2/952، رقم 2535) ، والرابع: (3/1032، رقم 2650) ، والخامس: (3/1074، رقم 2782) ، والسادس: (3/1087، رقم 2816) والسابع: (3/1158، رقم 3003) ، والثامن: (4/1657، رقم 4278) ، والتاسع: (5/2230، رقم 5635) ، والعاشر: (5/2310، رقم 5905) ، والحادي عشر: (6/2632، رقم 6771) وهو في هذه المواضع مسنداً في بعضها بتمامه وفي أكثرها بأجزاء منه. ورواه معلقاً في ثلاثة مواضع:
الأول: (1/116) باب: تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ... وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم و ? يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة ... ? الآية.
الثاني: (1/135) باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء وقال بن عباس حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: يأمرنا يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة والصدق والعفاف.
والثالث: (6/2742) باب: ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب الله بالعربية وغيرها ... وقال ابن عباس أخبرني أبو سفيان بن حرب أن هرقل دعا ترجمانه ثم دعا بكتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأه.(1/275)
المجلس الثاني عشر
كتاب الإيمان
في الكلام على الإيمان وشروط الإسلام وفيه فوائده ولطائف كثيرة
وأفتح هذا المجلس بخطبة فتح الباري لشيخ الإسلام ابن حجر لمناسبتها وانساجمها فأقول:
الحمد لله الذي شرح صدور أهل الإيمان بالهدى، ونكت في قلوب أهل الطغيان فلا تعي الحكمة أبدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً فرداً صمداً وأشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله، ما أكرمه عبداً وسيداً وأعظمه أصلاً ومحتداً، وأطهره مضجعاً ومولداً، وأبهره صدراً ومورداً صلى الله عليه وسلم وعلى إله وصحبه غيوث الندا، وليوث العدا، صلاةً وسلاماً دائمين من اليوم وإلى أن يبعث الناس غدا.
«كتاب الإيمان» لما فرغ البخاري رحمه الله من كتاب بدء الوحي عقبة بذكر الإيمان، وقدوم الإيمان على الصلاة وغيرها لأنه أصل لجميع العبادات، أو شرط لصحتها فالعبادات كلها مبينة عليه، وبه النجاة في الدارين.
والكتاب: في اللغة الضم والجمع، وأما الكتاب في اصطلاح المصنفين فهو اسم لضم مخصوص، أو لجملة مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول، أو مسائل غالباً، وهو مصدر كتب لكنه اسم مفعول مجاز أي: المكتوب فهو على حد قوله تعالى ?هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي? [لقمان: 11] أي: مخلوقه.
والإيمان في اللغة: التصديق مطلقاً، مصدر أمن، وأصله: «أمان» قلبت الهمزة الثابتة ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها في علم الصرف من أن الهمزتين إذا التقتا في كلمة واحدة ثانيتهما ساكنة وجب قبلها بحركة ما قبلها، «وأمن» أصله «أمن» قلبت الثانية ألفاً لانفتاح ما قبلها وهمزة «أمن» يجوز أن تكون للتعدية بمعنى: أن المصدق جعل الغير آمنا من تكذيبه، ويجوز أن تكون للضرورة بمعنى: أن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوباً، وهو تارة يتعدى باللام وتارة يتعدى بالياء باعتبار تضمنه معنى الإذعان، والقول يعدى باللام كما في قوله تعالى ?فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ? [العنكبوت: 26] وباعتبار تضمنه معنى الإقرار والاعتراف يعدى بالباء كما في قوله: ?آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ? [البقرة: 285] وقوله ?يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ? [البقرة: 3] كأنه قال يؤمنون معترفين وهو حكم واحد لكنه يقع تعليقه بمتعلقات متعددة(1/276)
باعتبارات مختلفة، مثل: آمنت بالله بأنه واحد متصف بكل كمال منزه عن كل وصف لا كمال فيه، وآمنت بالرسول بأنه مبعوث من الله، وآمنت بالملائكة أي: بأنهم عباد الله المكرمون المعصومون، وآمنت بكتب الله أي: بأنها منزلة من عند الله وبكل ما تضمنته حق وصدق.
وأما الإيمان في الشرع ففيه أقوال والمشهور منها أربعة:
الأول: أنه التصديق بالقلب فقط أي: قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد - صلى الله عليه وسلم -، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، كالوحدانية والنبوة والبعث والجزاء وجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها، ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالاً كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلاً كجبريل وميكائيل وموسي وعيسي والتوراة والإنجيل، حتى أن من لم يصدق الواحد منها فهو كافر، وهذا القول هو المختار عند جمهور الأشاعرة، والتلفيظ بالشهادتين على هذا القول من القادر عليه شرط لإجراء أحكام الدين من الصلاة خلفه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين وعصمة الدم ونكاح المسلمة ونحوها شرطاً لصحة الإيمان، وإنما كان الإقرار شرطاً لاجراء الأحكام: لأن التصديق أمر باطن لا اطلاع لنا عليه فلابد من علامة فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله، وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق فهو مؤمن في أحكام الدنيا، وإن لم يكن مؤمناً عند الله، والنصوص معاضدة مقوية لهذا القول قال الله تعالى ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ? [المجادلة: 22] وقال تعالى ?وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106] وقال تعالى ?وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ? [الحجرات: 14] .
وقال - صلى الله عليه وسلم - «اللهم ثبت قلبي على دينك» (1)
، وقال لأسامة حين قتل من قال لا إله إلا
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/448، رقم 2140) عن أنس.
قال الترمذي: وفي الباب عن النواس بن سمعان وأم سلمة وعبد الله بن عمرو وعائشة، وهذا حديث حسن، وهكذا روى غير واحد عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس وروى بعضهم عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديث أبي سفيان عن أنس أصح.
وأخرجه أيضاً: ابن ماجه (2/1260، رقم 3834) ، وأحمد في مسنده (3/112، رقم 12128) ، وأبو يعلى (6/359، رقم 3687) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/168، رقم 30405) ، والطبري في تفسيره (3/189) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/478، رقم 1954) .(1/277)
الله: «هل شققت قلبه» (1) .
الثاني: أنه تصديق بالقلب واللسان معاً ويعبر عنه: بأنه تصديق بالجنان وإقرار باللسان، وهذا القول منقول عن أبي حنيفة مشهور عن أصحابه، وقال به كثير من المحققين كما قاله في شرح المقاصد.
فماهية الإيمان على هذا من أمرين إقرار باللسان وتصديق بالجنان، فمن أخل بواحد منهما فهو كافر فالإقرار باللسان على هذا شطر، وعلى الأول كما تقدم شرط فلا يثبت الإيمان على هذا القول إلا بهما عند العجز عن النطق والإكراه، فإنه يثبت بتصديق القلب فقط فالتصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمله كما في العاجز عن النطق والمكره.
الثالث: أنه التصديق بالقلب والاقرار باللسان وعمل سائر الجوارح فماهيتة على هذا مركبة من أمور ثلاثة الإقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا القول للخوارج، ولذا كفروا بالذنب فقالوا: إن مرتكبه مطلقاً كافر لانتفاء جزء الماهية، والذنوب كلها عندهم كبائر، وهذا القول مردود باطل لأنه ورد في الكتاب السنة عطف الأعمال عليه كقوله تعالى ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ? [البقرة: 277] مع القطع بأن العطف يقتضي المغايرة، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، ورد أيضاً بجعل الإيمان شرطاً لصحة الأعمال كما في قوله تعالى ?وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ? [طه: 112] مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء بنفسه، ورد أيضاً بإثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا? [الحجرات: 9] مع القطع بأنه لا تحقق للشيء بدون ركنه.
نعم جمهور السلف من المتكلمين والمحدثين والفقهاء ذهبوا إلى أن الأعمال شرط في كمال الإيمان وفي صحته.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/96، رقم 96) ، والنسائي في السنن الكبرى (5/176، رقم 8594) ، وأحمد في مسنده (5/207، رقم 21850) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/556، رقم 28932) ، وأبو عوانة في مسنده (1/68، رقم 192) ، وابن منده في الإيمان (1/206، رقم 61) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2/119) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/19، رقم 15625) جميعاً عن أسامة بن زيد.(1/278)
ونقل هذا المذهب عن الإمام الشافعي وهو مذهب البخاري - رضي الله عنه - فإنه عقد أبواباً بإطلاق الإيمان على الأعمال، فالسلف أرادوا إطلاق الإيمان على الأعمال كما قاله ابن حجر على أنها شرط في كماله لا في صحته.
والخوارج أرادوا بذلك أن الأعمال ركن من أركانه كما تقدم، فعند السلف متى فسد العمل بطل كمال الإيمان لا أصله وهو مقصود البخاري بإطلاق الإيمان على الأعمال.
الرابع: الإيمان تصديق باللسان فقط أي: الإتيان بكلمتي الشهادة، وهذا قول الكرامية، وهذا القول أيضاً مردود باطل، ويدل على بطلان صحة نفي الإيمان عن بعض المقرين باللسان قال الله تعالى ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ? [البقرة: 8] ، وقال الله تعالى: ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا? [الحجرات: 14] .
قال المولى سعد الدين: وأما المقر باللسان وحده فلا نزاع في أنه يسمى مؤمناً لغة وتجري عليه أحكام الإيمان ظاهراً، وأما النزاع في كونه مؤمناً بينه وبين الله، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بكلمة الشهادة، وكانوا يحكمون بكفر المنافق، فدل على أن المعتبر في الإيمان إقرار اللسان فقط، وأيضاً الإجماع منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد الإقرار باللسان فمنعه مانع من خرس ونحوه.
فائدة: تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء سمي إيماناً لأن العبد إذا صدقه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك أمن من القتل الدنيوي، والعذاب الأخروي.
فائدة: ذكر العلماء من الشافعية لصحة الإسلام أي: للإقرار بالشهادتين من الكافر سواء جعلناه شطراً أو شرطاً ست شرائط نظمها بعضهم فقال:
شرائط إسلام حقيقاً بصحة ... نعم ستة تعزى لأهل البصيرة
بلوغ وعقل واختيار ولفظة ... وقول مجهرالترتب تمت
الشرط الأول: البلوغ فلا يصح إسلام صبي استقلالاً كما قاله في الروضة.
وأما الصبي المميز ففيه أوجه الصحيح المنصوص عليه أنه لايصح إسلامه، لكن يشكل ذلك بإسلام سيدنا علي كرم الله وجهه فإنه كان قبل البلوغ، ولهذا كان بدر الدين بن جماعة قاضي مصر يقضي بصحة إسلامه، وبصحة إسلامه قال الأئمة الثلاثة قالوا: إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا علياً إلى الإسلام فأجابه، قالوا أولاً يلزم من كون غير مكلف لا يصح منه الإسلام فإن عباداته من صلاة وصيام ونحوها صحيحة فكذلك(1/279)
إسلامه.
وقال إمام الحرمين (1) : قد صححوا إسلامه، والمعتمد عند الشافعية عدم الصحة، وأجابوا عن إسلام سيدنا علي بأجوبة من أحسنها ما نقله البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار، وهو أن الأحكام إنما علقت بالبلوغ بعد الهجرة عام الخندق.
وقال ابن العماد في شرح سيرته (2) : إنما علقت به عام خيبر، وعبارته: «وفي عام خيبر رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم، وكان قبل ذلك موضوعاً على ما نقل عن البيهقي أنه قال: واستمر عليهم التكليف إلى عام خيبر ثم رفع قال: ولهذا صح إسلام علي - رضي الله عنه - في حال الصبا لأنه كان في قبل رفع القلم والصبيان إذ ذاك مكلفون وظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثة» (3)
يشهد لما قاله فإن الرفع يدل على سبق وضع (انتهى) .
فانظروا إلى هذا التنافي في النقل عن البيهقي، وأما قبل ذلك فكانت متعلقة بالتمييز فصح، وحنيئذ فيسقط الإشكال، وأجابوا عن القياس على الصلاة ونحوها بأن صلاة الصبي وصومه ونحوهما يقع نفلاً، والإسلام لا ينتقل له، قاله أمامنا الشافعي - رضي الله عنه -.
وإذا نطق الصبي من أولاد الكفار بالشهادتين لا يصح إسلامه، لكن يحال بينه
_________
(1) هو: العلامة الفقيه الأصولي أبو محمد عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله الجويني إمام الحرمين، كان مولده سنة 419هـ، ومن آثاره: نهاية المطلب في معرفة المذهب في الفقه، قال ابن خلكان: لم يؤلف في الإسلام مثله، وكانت وفاته سنة 487هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/475) ، ومعجم البلدان (2/193) ، وأبجد العلوم (3/119) ، ووفيات الأعلام (3/168) ، والنجوم الزاهرة (5/121) ، وشذرات الذهب (3/360) .
(2) ابن العماد هو: أحمد بن عماد بن يوسف بن عبد النبي، أبو العباس، شهاب الدين الأقفهسي ثم القاهري، مولده سنة: 750هـ، فقيه شافعي، كثير الإطلاع، في لسانه بعض حبسة. له: التعقبات على المهمات للأسنوي، وشرح المنهاج، والسر المستبان مما أودعه الله من الخواص في أجزاء الحيوان، وكانت وفاته سنة: 08 هـ.
(3) رواه البخاري معلقاً في صحيحه (5/2019) بقوله: «وقال علي ألم تعلم أن القلم رفع عن ثلاثة» .
والحديث مسنداً إلى سيدنا علي عند أبو داود في سننه (4/141، رقم 4403) ، والترمذي في سننه (4/32، رقم 1423) وقال: حديث علي حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر بعضهم: «وعن الغلام حتى يحتلم» ولا نعرف للحسن سماعاً من علي بن أبي طالب، وقد روي هذا الحديث عن عطاء بن السائب عن أبي ظبيان عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا الحديث، ورواه الأعمش عن أبي ظبيان عن بن عباس عن علي موقوفاً ولم يرفعه، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم، قال الترمذي: قد كان الحسن في زمان علي وقد أدركه ولكنا لا نعرف له سماعاً منه، وأبو ظبيان اسمه حصين بن جندب.
والنسائي في السنن الكبرى (4/324، رقم 7346) ، وابن ماجه في سننه (1/659، رقم 2042) ، وأحمد في مسنده (1/116، رقم 940) ، وابن حبان في صحيحه (1/356، رقم 143) ، وابن خزيمة في صحيحه (4/348، رقم 3048) ، والطيالسي في مسنده (ص: 15، رقم 90) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (2/41، رقم 415) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/99، رقم 87) .(1/280)
وبين أبويه وأهله الكفار استحباباً، لئلا يفتنوه، ولأنه ربما يثبت على ما وصفه من الإسلام إلى ما بعد بلوغه، فإن بلغ ووصف الكفر هدد فإن أصر رد إليهم، وينبغي أن يتلطف بوالديه ليؤخذ منهما، فإن أبيا فلا حيلولة هذا في أحكام الدنيا، وأما في الآخرة، فإذا أضمر الصبي كما أظهر ثم مات بعدها كان من الفائزين بالجنة، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطناً لا ظاهراً نعم قال العلماء: يحكم بصحة إسلام الصبي بطريق التبع في ثلاث صور:
الأولى: تبعية الدار فإذا وجد الصبي لقيط في دار الإسلام لا يعرف له أهل يحكم بإسلامه، وان كان فيها أهل ذمة تغليباً للإسلام، أما إذا وجد اللقيط في دار الكفر لم يكن فيها مسلم فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره.
الثانية: تبعية السابي فإذا سبي المسلم طفلاً منفرداً عن أبويه حكم بإسلامه تبعاً للسابي، لأنه صار تحت ولايته كالأبوين، سواء كان السابي بالغاً أو غير بالغ، أو مجنوناً أما إذا سباه ومعه أبواه أو أحدهما فإنه لا يحكم بإسلامه، وكذا لو سباه ذمي لا يحكم بإسلامه ولو باعه لمسلم.
الثالثة: تبعية أصوله فمن كان أحد أبويه مسلماً يوم علوقه، حكم بإسلامه لأنه جزء من مسلم، وكذا إذا كانا كافرين يوم العلوق، ثم أسلما أو أحدهما قبل بلوغ الولد حكم بإسلامه في الحال، وفي معنى الأبوين الجد والجدة سواء الجد للأب وللأم تبعه الطفل سواء كان الأب حياً أو ميتاً لأن التبعية للفرعية، وهي لا تختلف بحياة الأب أو بموته.
الشرط الثاني من شروط الإسلام: العقل فلا يصح إسلام المجنون استقلالاً بل بطريق التبع كما في الصبي، سواء بلغ مجنوناً أو عاقلاً ثم جن.
الشرط الثالث من شروط الإسلام: الاختيار فلا يصح إسلام المكره على الإسلام، وظاهر النظم يقتضي أانه لا فرق بين الذمي وغيره، وليس كذلك بل يقال إذا أكره الذمي على التلفيظ بالشهادتين لا يصح إسلامه في الأصح، بخلاف ما إذا أكره الحربي أو المرتد على الإسلام فإنه يصح إسلام كل منهما، صرح بذلك النووي في الأذكار فقال: لو أكره مسلم كافراً على الإسلام فنطق بالشهادتين، فإن كان الكافر حربياً صح إسلامه، لأنه إكراه بحق، وإن كان ذمياً لم يصر مسلما لأنا إلتزمنا الكف عنهم فأكرهه بغير حق.
الشرط الرابع: التلفيظ بالشهادتين فلا يصح إسلام من صدق بقلبه ولم يتلفظ(1/281)
بلسانه، وهل يتعين في صحة الإسلام التلفيظ بالقول المعروف أعني: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، أو يحصل الإسلام بما يؤدي معناها؟
فال الروياني والماوردي: يتعين اللفظ المعروف ولا يحصل الإسلام بغيره، والمذهب المعتمد أنه لا يتعين اللفظ المعروف بل يحصل الإسلام به وبغيره مما يؤدي معناه، كما قاله الحليمي في منهاجه وأقروه عليه.
فلو قال: لا إله سوى الله، أو لا إله ما عدا الله، أو ما من إله إلا الله، ولا إله إلا الله الرحمن، أو لا رحمن إلا الله، أو لا إله الله البارئ، أو لا بارئ إلا الله كان كقوله: لا إله إلا الله، ولو قال: أحمد رسول الله أو أبو القاسم رسول الله كان كقوله محمد رسول الله، ولو قال كافر: آمنت بالله أو أسلمت بالله أو أسلمت وجهي لله فإن كان يشرك بالله غيره لم يصر مؤمناً بدون ذلك، ولو قال آمنت بالله وبمحمد كان مؤمناً بالله لإثبات الإله، ولا يكون مؤمناً بنبوة محمد حتى يقول بمحمد النبي أو محمد رسول الله، ولو قال: آمنت بمحمد النبي صح إيمانه برسول الله بخلاف ما لو قال: آمنت بمحمد الرسول، لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى، والرسول قد يكون لغيره، ولو قال: الكافر لا إله إلا الملك أو لا إله إلا الرازق لم يكن مؤمن لأنه قد يريد بذلك السلطان الذي له جند يرتب أرزاقهم، بخلاف ما لو قال لا ملك إلا الله ولا رازق إلا الله فإنه يحكم بإسلامه، وهو قال يهودي إني بريء من اليهودية أو نصراني أنا بريء من النصرانية لم يحكم بإسلامه لأن ضد اليهودية والنصرانية غير منحصر في الإسلام.
ولو قال الكافر الإسلام وحق لم يكن مؤمناً، لأنه قد يقر بالحق ولا ينقاد له، ولو نطق الكافر بالشهادتين بغير إكراه فإن كان على سبيل الحكاية بأن قال: سمعت زيداً يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يحكم بإسلامه، وإن نطق بهما بعد استدعاء مسلم بأن قال له مسلم قل لا إله إلا الله محمد رسول الله فقالهما صار مسلماً، وكذا لو نطق بهما ابتداء من غير استدعاء ولا حكاية فإنه يحكم بإسلامه كما قاله الجمهور.
ولو نطق الكافر بالشهادتين صح إسلامه وإن لم يقل وأنا برئ من كل دين يخالف دين الإسلام، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، فلا يحكم بإسلام العيسوية من اليهود وهم أبتاع أبي عيسى الأصبهاني اليهودي يقولون: إنه أرسل إلى العرب خاصة، دون بني إسرائيل فلا يكفي في إسلام واحد منهم الإتيان بالشهادتين فقط، بل لابد من البراءة المذكورة، أو يقول محمد رسول الله إلى جميع الخلق.(1/282)
ولو قال الكافر: الصلاة واجبة علي الصوم أو غيره من أركان الإسلام وهو على خلاف عقيدته التي كان عليها لا يصير بذلك مسلماً على الأصح، ولو اقتصر الكافر على قول لا إله إلا الله لا يكون مسلماً على الأصح الذي عليه الجمهور.
وقيل: ويطالب بالشهادة فإن أبي جعل مرتداً ولو أشار الأخرس الكافر بالشهادتين إشارة مفهمة إسلامه، وقيل: لا يحكم بإسلامه إلا إذا صلى.
فائدة: يصح إسلام الكافر بجميع اللغات كما ذكره النووي في الروضة في الظهار، فلو نطق أعجمي بلسان صح إسلامه، وإن كان قادراً على النطق بالعربية لوجود الإقرار، ولكن إذا لقن الكافر الأعجمي كلمتي الإسلام بالعربية فنطق فصح بشرط أن يعلم معنى الشهادتين، فإن لم يعرف معناها لم يحكم بإسلامه، وكذا إذا نطق بهما بغير لغته أيّ لغة كانت يصح إسلامه بشرط أن يعرف المعنى.
قال في الأنوار: وأن يعرفه غيره ويكفي واحد.
فائدة أخرى: لو قال الكافر لا إله إلا الله عيسى رسول الله وموسى رسول الله وكذا غيره من الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم بإسلامه، لأن الإقرار برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إقرار برسالة من قبله لأنه شهد لهم وصدقهم.
قال الرافعي (1) : ويتوجه أن يقال كما أن محمد - صلى الله عليه وسلم - شهد لهم وصدقهم فقد شهدوا له وبشروا به أي: فينبغي الصحة بذلك.
وأجاب القاضي زكريا عن ذلك: بأن شريعته ناسخة لما قبلها باقية بخلاف شريعة غيره.
الشرط الخامس: الجهر بما تلفظ به، قال المولى سعد الدين في شرح المقاصد: ولا يخفى أن الإقرار لأجل الأحكام لابد، وأن تكون على وجه الإعلان والإظهار للإمام وغيره.
الشرط السادس: الترتيب بين كلمتي الشهادة، بأن يقول أولاً لا إله إلا الله ثم يقول محمد رسول الله، فلو قال الكافر أولاً محمد رسول الله ثم قال ثانياً لا إله إلا الله لا يصح إسلامه.
قال ابن الملقن: وهذا الشرط اشترطه القاضي أبو الطيب من أصحابنا ولم أر من وافقه ولا من خالفه.
_________
(1) الرافعي هو: عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم، أبو القاسم الرافعي القزويني ولد سنة: 557 هـ، فقيه، من كبار الشافعية، كان له مجلس بقزوين للتفسير والحديث، وتوفي فيها سنة: 623 هـ، نسبته إلى رافع بن خديج الصحابي. له: التدوين في ذكره أخبار قزوين، والإيجاز في أخطار الحجاز، والمحرر في الفقه، وفتح العزيز في شرح الوجيز للغزالي في الفقه أيضاً، وشرح مسند الشافعي، وغيرها من المصنفات المفيدة في بابها.(1/283)
وقال شيخ الإسلام ابن حجر (1) : اشترط الباقلاني في صحة الإسلام تقدم الإقرار بالتوحيد على الرساله، ولم يتابع مع أنه إذا دقق فيه بأن وجهه ويزداد اتجاهاً إذا فرقهما فليتأمل.
وسمعت من بعض مشايخي شرطاً سابعاً للإسلام وهو: أن يأتي بكلمة الشهادة بصيغة التنجيز دون التعليق فإن أتى بصيغة كأن قال: إذا فرغ الشهر فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله لا يحكم بإسلامه، وقد صرح بالمسألة في الأنوار فقال: والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام حتى لو قال الكافر: أنا أسلم لا يحكم بإسلامه في الحال.
وأما المولاة بين الشهادتين فلا تشترط كما ذكره الحليمي وغيره، فلو قال كافر: أول النهار لا إله إلا الله ثم قال في آخره محمد رسول الله حكم بإسلامه.
وقد ردد بعض العلماء للمؤمن علامات يتميز بها عن غيره وهي في الحقيقة موعظة فقالوا: المؤمن إذا أدب تأدب، وإذا أهذب تهذب، المؤمن خفيف له من الله معونة كالنحلة إذا وقعت على عود لا تكسره، وهي تأكل طيبها، ويصدر عنها طيب، والمؤمن يأكل الحلال، فيصدر عنه صالح الأعمال، النحلة لعابها صاف، وشرابها شاف، والمؤمن رؤيته شفاء وموعظته دواء، ينتفع برؤيته قبل روايته، خيره بادر وشره نادر.
قال الفضيل: المؤمن قليل الكلام كثير العمل، والمنافق كثير الكلام قليل العمل.
وقال: المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه، أوسع شيء صدراً، وأحقر كل شيء قدراً، زاجر عن كل شر، حاضر على كل خير، لا حقود ولا حسود، ولا مرتاب ولا سباب ولا مغتاب، يكره الرفعة ويبغض السمعة، طويل الهم كثير الغم، حليف الصمت عزيز الوقت، لا متافك ولا متهتك، ضحكه تبسم، واستفهامه تعلم، ومراجعته تفهم، لا يبخل ولا يعجل، ولا يضجر، ولا يجهر، لا جزع، ولا هلع، ولا صلف، ولا عنف، قليل المنازعة، جميل المراجعة، عدل إن غضب، دقيق إن طلب، خليص الود، وثيق العهد، وفي الوعد شفوق، وصول حليم، حمود قليل الفضول، راض عن مولاه، مخالف لهواه، لا يغلظ على من يؤذيه، ولا يخوض فيما لا يعنيه، إن سب أو أوذي لم يسب، وإن طلب ومنع لم يغضب، لا يشمت بمصيبة، ولا يذكر أحد بعيبه، هشاش بشاش، لا فاحش ولا غشاش، كظام بسام صوام قوام، دقيق النظر، عظيم الحذر، وهذا هو المؤمن حقاً.
_________
(1) انظر: فتح الباري (1/50) .(1/284)
وجاء في الحديث: «المؤمن كالجمل الأنوف إن قيد انقاد، وإن أنيخ على جمرة استناخ» (1) ومعناه: أن المؤمن إذا دعي لخير أجاب بسهولة كالجمل المخروم في أنفه ولله در القائل في المعنى.
ومازال بي شوقي إليك يقودني ... يذلل مني كل ممتنع صعب
إذا كان قلبي سائراً بزمامه ... فكيف بجسمي بالمقام بلا قلب
وكما الجمل الأنوف إذا أُنيخ على جمرة استناخ، كذلك المؤمن مقيم على باب مولاه صابر على بلواه، تارك لشكواه، مقبل عليه بقلبه، ملازم لذكره وحبه، كلما ازداد المؤمن من بلواه ضراً، أكثر لمولاه طاعة وشكراً.
حكاية في المعنى: قال عبد الواحد بن زيد مررت في بعض الجبال بشيخ أعم أصم مقطوع اليدين والرجلين وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي متعتني بجوارحي حيث شئت، وأخذتها حيث شئت، وتركتني حسن الظن والأمل فيك، يا برياً يا وصول، فقلت في نفسي: أي بر من الله على هذا وأي وصل فقال: إليك عني أليس ترك لي قلباً يعرفه، ولساناً يذكره، فهو نعيم الدارين، فمن أكثر الشكوى، ولم يصبر على البلوى فليس عنده من الغرام سوى الدعوى، ولقد أحسن من من قال في المعنى:
خيانه أهل الحب أن يظهروا شكوى ... وأن يسأموا من صحبة الضر والبلوى
ومن لم يذق هجر الحبيب كوصله ... فما ذاق من طعم الغرام سوى الدعوى
ويقال: الإيمان كخاتم سليمان، العزم في جوده والذل عند فقده، الإيمان كعصى موسى تلقف عصى السحره وتطرد العصاة والبغاة والفجرة وكذلك الإيمان عنده الشبهات والتخيلات، وتغفر مع صحبته الخطايا والسيئات، الإيمان كالماء والطهور يطهر الوسخ والدرن، وكذلك الإيمان يغسل الذنوب ما ظهر وما بطن.
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه (1/16، رقم 43) ، وأحمد في مسنده (4/126، رقم 17182) ، والحاكم في المستدرك (1/175، رقم 331) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/247، رقم 619) ، واللالكائي في إعتقاد أهل السنة (1/74، رقم 79) ، وابن أبي عاصم في السنة (1/19، رقم 33) جميعاً عن العرباض بن سارية.
وقال محققه الألباني: حديث صحيح رجاله كلهم ثقات لولا أن عبد الله بن صالح ويكنى بأبي صالح فيه ضعف لكنه لم يتفرد به فالحديث صحيح، وأبو مسعود هو: أحمد بن الفرات الضبي الرازي وهو ثقة حافظ، والحديث أخرجه الحاكم من طريقين آخرين عن أبي صالح ... به وأخرجه أحمد وعنه الحاكم وسنده صحيح وابن ماجه أيضاً.(1/285)
خرج أبو حفص النيسابوري يوماً فرأى يهودياً مغشياً عليه فلما أفاق سئل عن ذلك فقال: رأيت رجلاً عليه لباس العدل، ورأيت عليّ لباس الفضل، فخشيت أن يبدل الله لباسي بلباسه.
لطيفة: دخل يهودي على بعض الصالحين، وفي يديه قلم يبريه فقال الرجل الصالح لليهودي: أسلم وإلا أقطع رأس القلم فامتنع اليهودي من الإسلام، وقال للرجل الصالح: اقطع رأس القلم فقطعه فوقع رأس اليهودي عن جسده، قالها في روض الأفكار.
لطيفة أخرى: قال النسفي: مر بعض العباد على رجل يعبد بقرة من دون الله تعالى فقال: قل لا إله إلا الله، فقال: لا، فقال العابد: بحق لا إله إلا الله يا بقرة كوني جمرة نار فكانت بإذن الله تعالى، فقال له: قل لا إله إلا الله وإلا فتصير مثلها.
لطيفة غريبة: ذكر ابن جماعة في كتابه أنس المحاضرة: أن يهودياً كان له دين على شخص من الصالحين يقال له: إبراهيم الآجري كان يصنع «الكلس» (1) ، فجاء اليهودي إليه وطلب من دينه فقال له إبراهيم: أسلم، فقال له: أرني شيئاً أعرف به شرف الإسلام وفضله على ديني قال له: وتفعل، قال: نعم، قال: هات رداءك، فأخذ رداء اليهودي فجعله في رداء نفسه ولف رداءه عليه ورمى الردائين في النار، نار الأتون، ثم دخل بعد أن ألقاه في الأتون وداس على جمر النار، واليهودي ينظر إليه فأخذ الردائين وخرج من النار ففتح رداء نفسه فإذا هو صحيح، وأخرج رداء اليهودي من وسط ردائه فإذا هو حراق أسود فلما رأى اليهودي ذلك أسلم.
حكاية في المعنى: نقل الإخباريون أنه كان ببلد الهند شيخ كبير يعبد صنماً دهراً طويلاً، ثم حصل له أمر مهم وشده يوماً من الأيام فاستغاث به فلم يغثه فقال: أيها الصنم ارحم ضعفي، فقد عبدتك دهراً طويلاً، فلم يجب فانقطع عند ذلك رجاؤه منه، ونظر الله بعين الرحمة فخطر بباله بأن يدعو الصمد، فرمق بطرفه نحو السماء، وقد وقع في الخجل وقال: يا صمد فسمع صوتاً من الهواء يقول: لبيك يا عبدي أطلب ما تريد فأقر لله بالوحدانية فقالت الملائكة: ربنا دعى صنمه دهراً طويلاً ولم يجبه، ودعاك مرة واحدة فأجبته، فقال يا ملائكتي: إذ دعى الصنم فلم يجبه، ودعى الصمد فلم يجبه فأي
_________
(1) قال ابن منظور في لسان العرب (6/197) : «الكِلْسُ» : مثل الصَّارُوج يُبْنَى به، وقيل: الكِلْسُ الصَّارُوجُ، وقيل: الكِلْسُ ما طُلِيَ به حائط أَو باطن قصْر شِبْهُ الجِصِّ من غير آجُرَ.(1/286)
فرق بين الصنم والصمد.
وحكاية غريبة: مر بعض حواري عيسى عليه الصلاة والسلام على أولاد يلعبون وفيهم ابن وزير كافر، فلعب معهم ثم أخذه ابن الوزير إلى أبيه وأحضر له طعاماً قال له: يا أبت هذا غريب، فحضرت الشياطين ليأكلوا من الطعام، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم فهربت الشياطين، فسأله الوزير عن أمره وقال له: من أين أتيت ومن أنت؟ فقال: أنا من أصحاب عيسى أرسلني إليكم لتؤمنوا بالله وتتركوا عبادة الأصنام، فأسلم الوزير ولم يعلم الملك بذلك، ثم بعد مدة مات فرس للملك فقال له الوزير: قد مات فرس للملك وكان عزيزاً عنده فقال له صاحب عيسى: قل له: إن أطاعني أحيا الله فرسه، فأخبره الوزير بذلك، فقال له الملك: نعم، فأحضر الوزير عند الملك، فقال: خذ أيها الملك بعضو الفرس، وأبوك بعضو، وولدك بعضو، وأمك بعضو: وقولوا: لا إله إلا الله فلما قالوا تحرك كل عضو بيد قائليها، ووثب الفرس حياً بإذن الله تعالى.
* * *(1/287)
المجلس الثالث عشر
في بيان زيارة الإيمان ونقصانه وفيه فوائده كثيرة متعلقة بالإيمان
قَالَ البُخَارِي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الإيمان
باب الإِيمَانِ وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ» وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْل، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
قَالَ اللَّهُ تعالى: ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?. وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ (1) .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: إِنَّ للإيمان فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُوداً وَسُنَناً، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا (2) لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/112) قوله: «والحب في الله والبغض في الله من الإيمان» هو لفظ حديث أخرجه أبو داود من حديث أبي أمامة ومن حديث أبي ذر ولفظه: «أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله» ، ولفظ أبي أمامة: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» .
وللترمذي من حديث معاذ بن أنس نحو حديث أبي أمامة، وزاد أحمد فيه: «ونصح لله» ، وزاد في أخرى: «ويعمل لسانه في ذكر الله» ، وله عن عمرو بن الجموح بلفظ: «لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله» .
ولفظ البزار رفعه: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» ، وسيأتي عند البخاري: «آية الإيمان حب الأنصار» .
واستدل بذلك على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن الحب والبغض يتفاوتان.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/113) : قوله: «فإن أعش فسأبينها» أي: أبين تفاريعها لا أصولها، لأن أصولها كانت معلومة لهم جملة، على تجويز تأخير البيان عن وقت الخطاب إذ الحاجة هنا لم تتحقق.
والغرض من هذا الأثر أن عمر بن عبد العزيز كان ممن يقول بأن الإيمان يزيد وينقص حيث قال: استدل ولم يستدل.
قال الكرماني: وهذا على إحدى الروايتين، وأما على الرواية الأخرى فقد يمنع ذلك لأنه جعل الإيمان غير الفرائض. قلت: لكن آخر كلامه يشعر بذلك وهو قوله: «فمن استكملها» أي: الفرائض وما معها «فقد استكمل الإيمان» وبهذا تتفق الروايتان، فالمراد أنها من المكملات، لأن الشارع أطلق على مكملات الإيمان إيماناً.(1/288)
بِحَرِيصٍ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: ?وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? (1) .
وَقَالَ مُعَاذٌ: اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً (2) .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْيَقِينُ الإِيمَانُ كُلُّهُ (3) .
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال إبراهيم عليه السلام: ولكن ليطمئن قلبي» أشار إلى تفسير سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما لهذه الآية، فروى ابن جرير بسنده الصحيح إلى سعيد قال: قوله: «ليطمئن قلبي» أي: يزداد يقيني.
وعن مجاهد قال: لأزداد إيماناً إلى إيماني، وإذا ثبت ذلك عن إبراهيم - عليه السلام - مع أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أمر باتباع ملته كان كأنه ثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - ذلك.
وإنما فصل البخاري بين هذه الآية وبين الآيات التي قبلها، لأن الدليل يؤخذ من تلك بالنص ومن هذه بالإشارة. والله أعلم.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/114) : قوله: «وقال معاذ» هو ابن جبل، وصرح بذلك الأصيلي، والتعليق المذكور وصله أحمد وأبو بكر أيضاً بسند صحيح إلى الأسود بن هلال قال: قال لي معاذ بن جبل: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، وفي رواية لهما: كان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه: «اجلس بنا نؤمن ساعة» ، فيجلسان فيذكران الله تعالى ويحمدانه.
وعرف من الرواية الأولى أن الأسود أبهم نفسه، ويحتمل أن يكون معاذ قال ذلك له ولغيره.
ووجه الدلالة منه ظاهرة، لأنه لا يحمل على أصل الإيمان لكونه كان مؤمناً وأي مؤمن، وإنما يحمل على إرادة أنه يزداد إيمانا بذكر الله تعالى.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: لا تعلق فيه للزيادة، لأن معاذاً إنما أراد تجديد الإيمان، لأن العبد يؤمن في أول مرة فرضاً، ثم يكون أبداً مجدداً كلما نظر أو فكر، وما نفاه أولاً أثبته آخراً، لأن تجديد الإيمان إيمان.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله» هذا التعليق طرف من أثر وصله الطبراني بسند صحيح، وبقيته: والصبر نصف الإيمان.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً، ولا يثبت رفعه.
وجرى البخاري على عادته في الاقتصار على ما يدل بالإشارة، وحذف ما يدل بالصراحة، إذ لفظ النصف صريح في التجزئة.
وفي الإيمان لأحمد من طريق عبد الله بن عكيم عن ابن مسعود أنه كان يقول: «اللهم زدنا إيماناً ويقينا وفقها» وإسناده صحيح، وهذا أصرح في المقصود، ولم يذكره المصنف لما أشرت إليه.(1/289)
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ?شَرَعَ لَكُمْ? أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِيناً وَاحِداً (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ?شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً? سَبِيلاً وَسُنَّةً (3) .
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/115) : قوله: «وقال ابن عمر ... إلى آخره» المراد بالتقوى: وقاية النفس الشرك والأعمال السيئة والمواظبة على الأعمال الصالحة.
وبهذا التقرير يصح استدلال المصنف. وقوله: «حاك» بالمهملة والكاف الخفيفة أي: تردد، ففيه إشارة إلى أن بعض المؤمنين بلغ كنه الإيمان وحقيقته، وبعضهم لم يبلغ.
وقد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم من حديث النواس مرفوعاً، وعند أحمد من حديث وابصة، وحسن الترمذي من حديث عطية السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس» وليس فيها بشيء على شرط البخاري، فلهذا اقتصر على أثر ابن عمر، ولم أره إلى الآن موصولاً.
وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي الدرداء قال: «تمام التقوى أن تتقي الله حتى تترك ما ترى أنه حلال خشية أن يكون حراماً» .
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال مجاهد» وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم.
«تنبيه» : قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: وقال مجاهد: «شرع لكم» أوصيناك يا محمد وإياه ديناً واحداً. والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه.
كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم، وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة (انتهى) .
ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع، لأن نوحاً أفرد في الآية فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكوراً عند المصنف بالمعنى. والله أعلم.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/116) : قوله: «وقال ابن عباس» وصل هذا التعليق عبد الرزاق في تفسيره بسند صحيح.
والمنهاج: السبيل: أي: الطريق الواضح.
والشرعة والشريعة بمعنى، وقد شرع أي: سن، فعلى هذا فيه لف ونشر غير مرتب.
فإن قيل: هذا يدل على الاختلاف والذي قبله على الاتحاد، أجيب: بأن ذلك في أصول الدين وليس بين الأنبياء فيه اختلاف، وهذا في الفروع وهو الذي يدخله النسخ.(1/290)
«بسم الله الرحمن الرحيم» ابتداء البخاري - رضي الله عنه - كتاب الإيمان وكذا غيره من الكتب الآتية عملاً بالحديث الذي أسلفناه وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» (1) .
فإن قيل: البسملة في أول الكتاب مغنية عن إعادتها في كتاب الإيمان وغيره.
_________
(1) ذكره النووي بهذا اللفظ في شرحه على صحيح مسلم (1/43) وعزاه إلى عبد القادر الرهاوي في كتابه «الأربعين» ، وكذا الحافظ السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير (5/14) ، قال المناوي: ورواه كذلك الخطيب في تاريخه عن أبي هريرة.
قلت: ولم أقف عليه في تاريخ بغداد، وإنما أورده الخطيب بدون إسناد في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69، رقم 1209) وكما أن المصنف قال ذلك أيضاً (محقق) .
وقد عدد النووي في شرحه على مسلم (1/43) الروايات في هذا الحديث فقال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله فهو أقطع» ، وفي رواية: «بحمد الله» ، وفي رواية: «بالحمد فهو أقطع» ، وفي رواية: «أجذم» ، وفي رواية: «لا يبدأ فيه بذكر الله» ، وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم» وقال: روينا كل هذه في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي سماعاًٍ من صاحبه الشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن سالم الإنباري عنه، وروينا فيه أيضاً من رواية كعب بن مالك الصحابي - رضي الله عنه - والمشهور رواية أبي هريرة وهذا الحديث حسن، روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى: «أقطع» : قليل البركة، وكذلك «أجذم» بالجيم والذال المعجمة ويقال منه: «جذم» بكسر الذال «يجذم» بفتحها والله أعلم.
والحديث حسنه برواياته هذه العجلوني في كشف الخفاء (2/156) .
إلا أن الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/220) قال: الرواية المشهورة فيه بلفظ: «حمد الله» وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية.
وإنما حكم بأنه حديث حسن مع اختلاف لفظه بين حمد وتسمية وذكر لله كما عدد ذلك النووي، لأن اللفظ الذي فيه «الحمد» هو المشهور كما أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح، وهذا اللفظ المشهور أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/127، رقم 10328) ، وابن ماجه في سننه (1/610، رقم 1894) ، وابن حبان في صحيحه (1/174، رقم 2) ، والدارقطني في سننه (1/229) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/208، رقم 5559) جميعاً عن أبي هريرة.
ولكن يمكن الجمع بين الروايات في ذلك بأن البدء يكون بالجميع بالتسمية والتحميد وذكر الله، فبذلك قد عمل بالروايات وحيز فضل ذلك. انظر في هذا: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/69) .(1/291)
فالجواب: أن البخاري - رضي الله عنه - كررها في كل كتاب لزيادة الاعتناء بها، ولأجل المحافظة التمسك بالسنة وظهر وجه آخر في إعادتها في كل كتاب، وهو أن صحيح البخاري ليس بعد كتاب الله كتاب أصح منه وابتدأ الله تعالى سورة منه بالبسملة إلا براءة فابتدأ البخاري كل كتاب من صحيحة بها إقتداء بالكتاب العزيز، ليكون مزيد اعتناء، ومتمسكاً مزيد تمسك بالكتاب والسنة.
ولشدة الاعتناء بها افتتح شيخ الإسلام أبو الفرج ابن الجوزي في بعض مصنفاته كل مجلس بذكرها والوعظ بها، فقال في بعض المجالس: «بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله في الغدو والآصال، نسأل الله القرب والاتصال، قل بسم الله مع الإخلاص تظفر بالنجاة والإخلاص، هي كلمة القرب والوصال، كلمة تنفصل لها الأوصال، كلمة تخشع له القلوب وتهرب منها الذنوب، كلمة هي للصدور شفاء، كلمة فيها نيل الأماني، وتوجب القرب والتدابير، من سمع الله على الحقيقة طاش، ومن سمع الرحمن الرحيم على الحقيقة عاش، بسم من تحيا القلوب بآلائه، وتحيا الأجسام بنعمائه، وتحيا الأرواح بعطائه، وتحيا الأسرار بلقائه، أين المشتاقون إلى الله، أين الخائفون من الله، علامة المشتاق إلى الله إذا ذكر الله طار قلبه شوقاً إلى الله، وعلامة المحب لله إذا سمع ذكر الله هام قلبه سروراً بالله، بسم الله يزول الهموم وتستر السرائر، بسم الله من بأمره أقدار تجري، وبمشيئة النجوم تسري، بسم من يعلم الخطرات، ويحصي عدد القطرات، بسم من حارت في صفته عقول العلماء، وارتعدت من خيفته الجبال والماء.
«باب الإيمان قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: نبي الإسلام على خمس» (1) هذا بعض حديث سيأتي تمامة قريباً، ويجوز الاقتصار على بعض الحديث إذا تعلق به غرض صحيح.
قال ابن رجب في شرحه على هذا الكتاب: إنما صدر البخاري كتاب الإيمان بباب بني الإسلام على خمس لأنه يرى أن الإسلام والإيمان واحد، فصدره به لينبه على ذلك، والبخاري - رضي الله عنه - رتب كتابه ترتيباً حسناً لم يسبقه أحد في مثل ذلك، ترتيبه ومحاسنه كثيرة منها أنه بعد ذكر الوحي ذكر كتاب الإيمان ثم بكتاب الصلاة بسوابقها من الطهارة وغيرها، ثم باب الزكاة وما يتعلق بها، ثم بكتاب الحج وأبوابه، ثم بكتاب الصوم، وإنما رتبه هذا الترتيب ليوافق الترتيب الذي رتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/111) : قوله: «باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس» ، سقط لفظ «باب» من رواية الأصيلي، وقد وصل الحديث بعد تاماً، واقتصاره على طرفه فيه تسمية الشيء باسم بعضه، والمراد باب هذا الحديث.(1/292)
«بني الإسلام على خمس» الذي فيه قواعد الدين وأركان الإسلام، وسنذكر في الكلام على الحديث المذكور وحكمه الترتيب المذكور وسره.
ومن محاسنه أيضاً أنه يميز بين الأجناس بالكتب وبين أنواع كل جنس بالأبواب.
ثم قال البخاري «وهو قول وفعل ويزيد وينقص» (1)
الضمير عائد إلى الإيمان أو
_________
(1) فصل معنى ذلك ابن حجر في الفتح (112) فتحدث عن الأقول في زيادة الإيمان ونقصانه والكلام عن الفرق المخالفة والرد عليها فقال: قوله: «وهو» أي: الإيمان «قول وفعل ويزيد وينقص» ، وفي رواية الكشميهني: «قول وعمل» وهو اللفظ الوارد عن السلف الذين أطلقوا ذلك، ووهم ابن التين فظن أن قوله: «وهو ... إلى آخره» مرفوع لما رآه معطوفاً، وليس ذلك مراد المصنف، وإن كان ذلك ورد بإسناد ضعيف.
والكلام هنا في مقامين: أحدهما: كونه قولاً وعملاً، والثاني: كونه يزيد وينقص.
فأما القول: فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل: فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح، ليدخل الاعتقاد والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى، فالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالأركان. وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله. ومن هنا نشأ ثم القول بالزيادة والنقص.
والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط. والكرامية قالوا: هو نطق فقط. والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد.
والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته. والسلف جعلوها شرطاً في كماله، وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا، ولم يحكم عليه بكفر إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم، فإن كان الفعل لا يدل على الكفر كالفسق فمن أطلق عليه الإيمان فبالنظر إلى إقراره، ومن نفى عنه الإيمان فبالنظر إلى كماله، ومن أطلق عليه الكفر فبالنظر إلى أنه فَعَل فِعل الكافر، ومن نفاه عنه فبالنظر إلى حقيقته.
وأثبتت المعتزلة الواسطة فقالوا: الفاسق لا مؤمن ولا كافر.
وأما المقام الثاني فذهب السلف إلى أن الإيمان يزيد وينقص، وأنكر ذلك أكثر المتكلمين وقالوا متى قبل ذلك كان شكاً.
قال الشيخ محيي الدين: والأظهر المختار أن التصديق يزيد وينقص بكثرة النظر ووضوح الأدلة، ولهذا كان إيمان الصديق أقوى من إيمان غيره بحيث لا يعتريه الشبهة. ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
وقد نقل محمد بن نصر المروزي في كتابه: «تعظيم قدر الصلاة» عن جماعة من الأئمة نحو ذلك، وما نقل عن السلف صرح به عبد الرزاق في مصنفه عن سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وابن جريج ومعمر وغيرهم، وهؤلاء فقهاء الأمصار في عصرهم.
وكذا نقله أبو القاسم اللالكائي في «كتاب السنة» عن الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم من الأئمة، وروى بسنده الصحيح عن البخاري قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وأطنب ابن أبي حاتم واللالكائي في نقل ذلك، بالأسانيد عن جمع كثير من الصحابة والتابعين، وكل من يدور عليه الإجماع من الصحابة والتابعين.
وحكاه فضيل بن عياض ووكيع عن أهل السنة والجماعة.
وقال الحاكم في مناقب الشافعي: حدثنا أبو العباس الأصم أخبرنا الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وأخرجه أبو نعيم في ترجمة الشافعي من الحلية من وجه آخر عن الربيع وزاد: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
ثم شرع البخاري يستدل لذلك بآيات من القرآن مصرحة بالزيادة، وبثبوتها يثبت المقابل، فإن كل قابل للزيادة قابل للنقصان ضرورة.(1/293)
إلى الإسلام إن قلنا: أنهما بمعنى واحد، كما مال إليه البخاري أي: الإيمان قول وفعل ويزيد وينقص، وإنما قال البخاري الإيمان قول وفعل، ولم يقل: واعتقاد بالقلب مع أن الاعتقاد بالقلب هو الأصل في الإيمان إما لأن الاعتقاد بالقلب متفق عليه بين العلماء في أنه إيمان، وإنما وقع النزاع بينهم في القول واللسان والعمل بالجوارح هل يصدق عليهما الإيمان أم لا؟ فذكر المتنازع فيه وسكت عن المتفق عليه، وإما لأن الفعل صادق على فعل الجوارح وعلى فعل القلب.
واعترض على هذا بأن القول أيضاً على فعل اللسان، فلا حاجة إلى ذكره لدخوله في الفعل.
واختلف العلماء في الإيمان هل يزيد وينقص أم لا؟
فذهب الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وجماعة كثيرون من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأكثر الأشاعرة إلى أنه يزيد بزيادة الطاعات، وينقص ينقصانها للقطع بأن إيمان آحاد الأمة ليس كأيمان أبي بكر فضلاً عن إيمان الأنبياء والملائكة.
قال النووي: المختار أن التصديق يزيد وينقص لكثرة النظر ووضوح الدلالة، ولهذا(1/294)
كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريه الشبهة.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قلنا: يا رسول إن الإيمان يزيد وينقص قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» (1) .
وقال سفيان بن عينيه: الإيمان قول وفعل ويزيد ينقص، فقال له أخوه إبراهيم: لا تقل ينقص فغضب، وقال: أسكت يا صبي ينقص حتى لا يبقى منه شيء.
وممن قال بزيادة الإيمان ونقصانه حافظ العصر البخاري، روي عنه أنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واستدل البخاري على ذلك بآيات وآثار مصرحة بذلك.
«قال الله تعالى ? لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ?، ? وَزِدْنَاهُمْ هُدًى?، ? وَيَزِيدُ اللَّهُ لَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى?، ? وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ?، ? وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً? وقوله ? أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً ?، وقوله جل ذكره ?فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً?، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ?وَمَا زَادَهُمْ إلا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً?»
وإسناد الزيادة إلى غير الله في بعض هذه الآيات من قبيل المجاز إذ لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى.
فإن قيل: هذه الآيات دلت على زيادة الإيمان فقط، والمقصود زيادته ونقصانه.
فالجواب: أن كل ما قبل الزيادة لابد وأن يكون قابلاً للنقصان ضرورة.
وذهب أبو حنيفة والصحابة وإمام الحرمين وجمع كثير من الأشاعرة إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقالوا: متى كان قبل الزيادة كان شكاً وكفراً.
مسائل مفيدة متعلقة بالإيمان
المسألة الأولى: اختلف العلماء في الإيمان والإسلام هل هما بمعنى واحد أومختلفان؟ فذهب البخاري وجماعة إلى أن معناهما فيهما ويؤيده قوله تعالى ?فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ? [الذاريات: 35، 36] .
وذهبت طائفة إلى أن الإسلام غير الإيمان واحتجوا بقوله: تعالى ?قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا? [الحجرات: 14] .
قال الخطابي: والصحيح في هذا أن يقيد الكلام، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً
_________
(1) لم نقف عليه بهذا اللفظ.(1/295)
في بعض الأحوال ولا يكون في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال وكل مؤمن مسلم ولا عكس.
المسألة الثانية: هل يوصف الإيمان بأنه مخلوق أو ليس بمخلوق؟
اختلف مشايخ الحنفية وغيرهم في هذه المسألة فنقل عن أهل سمرقند وجماعة أنه مخلوق، ونقل عن البخاريين من مشايخ الحنفية وعن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنه غير مخلوق، ومال إلى هذا القول إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري وقال: إن إطلاق القول بأنه مخلوق يصدق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى لأن من صفات الله تعالى الحسنى «المؤمن» كما نطق به القرآن العظيم، ولا يقال إيمان الله تعالى محدث ولا مخلوق تعالى أن يقوم به حادث.
قال بعض المحققين المتأخرين: الصواب التفضيل في هذه المسألة، وهو أن يقال: إن إيمان العبد مخلوق لأنه فعل قلبي يكتسب بمباشرة أسباب يحصله المخلوق فلا يتجه خلاف في كونه مخلوقاً، وأن إيمان الله سبحانه وتعالى الذي دل عليه اسم المؤمن قديم غير مخلوق، ومعنى إيمان الله أنه المصدق بوحدانيته في قوله ?شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ? [آل عمران: 18] ، وقوله: ?أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا? [طه: 14] ، ولا يتجه تصديقه رسله بإظهار المعجزات على أيديهم فهو من صفات الأفعال، والخلاف فيها معلوم بين الأشاعرة والماتريدية.
المسألة الثالثة: هل الإيمان باق مع النوم والإغماء والغفلة والموت أو ليس بباق؟ ذهبت المعتزلة إلى أنه ليس بباق مع هذه الأمور لأنها تضاد التصديق.
وذهب أهل السنة إلى بقائه حكماً معها، وقالوا: المؤمن من آمن في الحال وفي الماضي لأنه حقيقة فيه، بل لأن الشارع يعطي الحكم حكم المحقق، واستدلوا لبقائه حكماً ببقاء وصف النبوة معها، فإنا إذا قلنا: إن النبوة من الأنبياء، والنبي معناه: المنبئ عن الله تعالى ولا شك أنه ليس منبئاً في حال النوم، ولا مبلغاً في حال السكوت والموت، مع أن الحكم بالنبوة باق إلى الأبد وإن لم يبلغ عن الله إلا مرة واحده، واستدلوا على بقائه حكماً ببقاء أحكام العقود حيث قالوا: الاتفاق واقع على أن حكم النكاح وحكم سائر العقود باق بعد فناء الإيجاب والقبول، الذي هو مسمى العقد لحاجة الناس إلى ذلك قالوا: والحاجة فيما نحن فيه من الإيمان إلى بقاء حكمه أمس وآكد، لأن عصمه الدم والمال منوطة به.(1/296)
المسألة الرابعة: اختلف العلماء في إيمان المقلد، والمقلد هو أن يسمع إنسان الناس يقولون: إن للخلق رباً خلقهم وخلق كل شيء، ويستحق العبادة عليهم وحده لا شريك له، فيجزم بما سمعه منهم، والمختار الذي عليه الفقهاء وكثير من العلماء صحته من غير نظر واستدلال، لحصول الجزم بالإيمان الذي يحصله الاستدلال، ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون إيمان عوام الأمصار التي فتحوها من العجم حال كون إيمانهم صادراً تحت السيف، ولا استدلال.
ومنع كثير من المعتزلة صحته وورد عليهم بأنه يلزم من قولهم تكفير العوام وهو غالب المؤمنين.
المسألة الخامسة: اختلف في أنه هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله
تعالى؟
فذهب أبو حنيفة وأصحابه وكثير من العلماء إلى أنه ليس له أن يقول: ذلك، وإنما يقول: أنا مؤمن حقاً.
والذي ذهب إليه الإمام الشافعي وأصحابه والإمام مالك وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه وأكثر العلماء وأكثر السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى جواز قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى وبه قالت الأشعرية هذا إذا كان جازماً بالإيمان حال التكلم، أما إذا شك في إيمانه حال التكلم وقال: إن شاء الله للشك في إيمان فإن إيمانه يكون منفياً لأن الشك في ثبوته الحال كفر وليس محل قول إن شاء الله بالاتفاق بل محل النزاع بين الفريقين إنما هو إيمان الموافاة وهو الذي يموت العبد عليه، ويأتي متصفاً به آخر حياته أول منازل آخرته، وهو المعتبر في النجاة في الدار الآخرة، وهو الملحوظ عند المتكلم بالمشيئة، فإذا جزم الإنسان بالإيمان في الحال ولكن لا يعلم هذا الحال يبقى هذا الإيمان إلى الوفاة أم، فله عند الفريق الثاني أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى أي: أنا أموت على الإيمان إن شاء الله وهو أمر مستقبل فالقائل: أنا مؤمن إن شاء الله مقتد بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعامل بقوله تعالى ?وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ? [الكهف: 23، 24] أيضاً يقول: إن شاء الله للتبرك بالمشيئة خوفاً من سوء الخاتمة، مع جزمه بالإيمان في الحال فكان القائل: أنا مؤمن إن شاء الله يقول: أطلب حسن الخاتمة، فكم من إنسان سلب الإيمان عند موته، نسأل الله العظيم أن يختم لنا وللمسلمين بخير في عافية بلا محنة.
وحكى الإمام الغزالي حجة الإسلام قدس الله روحه في منهاج العابدين: أن تلميذ(1/297)
الفضيل بن عياض حضرته الوفاة فدخل عليه الفضيل وجلس عند رأسة وقرأ سورة ياسين فقال يا أستاذ ألا تقرأ هذه؟ فسكت ثم لقنه، وقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: لا أقولها آناء نهاري ومات على ذلك، فدخل الفضيل منزله وجعل يبكي أربعين يوماً ولم يخرج من البيت، ثم رآه في النوم وهو يسحب إلى جهنم أجارنا الله منها بمنه فقال: بأي شيء نزع الله المعرفة عنك وكنت أعلم تلاميذي؟ فقال: بثلاثة أشياء أولها: النميمة فإني قلت لأصحابي بخلاف ما قلت لك، والثاني: الحسد حسدت أصحابي، والثالث: كان بي علة وجئت إلى طبيب وسألته عنها فقال: تشرب في كل سنة قدحاً من خمر فإذا لم تفعل تبقى في تلك العلة، فكنت أشربه نعوذ بالله من سخطه الذي لا طاقة لنا به.
وقال في الروض الفائق: يروى أن أخوين كان أحدهما عابداً والآخر مسرفاً على نفسه، وكان العابد يتمنى أن يرى إبليس في محرابه فتمثل به إبليس فقال: له وأسفا عليك ضيعت عمرك أربعين سنة في حصر نفسك وإتعاب بدنك، وقد بقي من عمرك ما مضى، فأطلق نفسك في شهواتها وتلذذ، ثم تب بعد ذلك وعد إلى العبادة فإن الله غفور رحيم فقال: العابد لعلي نزل وحي في أسفل الدار أوافقه على اللهو واللذات عشرين سنة، ثم أتوب وأعبد الله في العشرين التي تبقى من عمري فنزل، وقال أخوه المسرف على نفسه: قد أفنيت عمري في المعاصي وأخي العابد يدخل الجنة، وأنا أدخل النار والله لأتوبن وأصعد إلى أخي العابد وأوفقه في العبادة ما بقي من عمري، فلعل الله أن يغفر لي، فطلع على نية التوبة ونزل أخوه على نية المعصية فزلت المعصية رجله فوقع على أخيه، فماتا جميعاً في السلم، فحشر العابد على نية المعصية وحشر المسرف المسلم على نية التوبة.
ففرغوا قلوبكم للاعتبار فيما يجري في الليل والنهار، كم من بعيد قرب وكم من قريب أبعد، وجفاه الأهل والجيران، كان حظ الأول الجنة، وحظ الثاني النار فاعتبروا يا أولي الإبصار، ندم العابد على تغيير نيته بلا شك ولا خفاء، وبكى على تفريطه بعد عبادته إذ زل، وهنا يود لو أن يرد ويرجع إلى الوفاء، وسيعلم أنه كان يبني على شفا جرف هار فاعتبروا الإبصار، ولقد أحسن من قال:
أناس عرضوا عنا ... بلا جرم ولا معنى
أساؤا ظنهم فينا ... فهلا أحسنوا الظنا
فإن عادوا لما عدنا ... وإن خانوا فما خنا(1/298)
وإن كانوا قد استغنوا ... فأنا عنهم أغنى
وقال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى: خرج ثلاثة من الزهاد يريدون الحج إلى بيت الله الحرام في وسط السنة متوكلين بغير زاد، فنزلوا قرية بها نصارى فوقع نظر رجل منهم على محاسن امرأة فتعلق بها، فلما عزموا على السفر احتال بحيلة، فقعد وسار صاحباه وتركاه في القرية، فأفشى سره لأبي المرآة وخطبها منه فقال: مهرها كثير لا تقدر عليه فقال: وما هو فقال: تترك دين الإسلام وتدخل في دينها دين النصرانية، فتنصر وتزوجها وولد له منها ولدان ومات على دين النصرانية، فرجع صاحباه من سياحتهما وسألا عنه فقيل لهما: إنه توفى على دين النصرانية ودفنوه في مقابرهم، فذهبا إلى المقبرة فوجد امرأته وولديه يبكيان عليه، فجعل صاحباه يبكيان من بعيد فقالت لهما المرآة: مما تبكيان من بعيد، فقصا عليها القصة وذكرها عبادته وزهده وصلاحه، فلما سمعت رق قلبها إلى الإسلام فأسلمت هي وولداها فقال الشيخ أبو محمد: سبحان الله مات من كان مسلماً على الكفر وأسلم من كان كافراً، فلذلك ينبغي أن يخاف المسلم عاقبة أمره ويسأل الله حسن الخاتمة ولله در القائل:
سبحان من خلف الأشياء وقدرها ... ومن يجود على العاصي يستره
يخفي القبيح ويبدي كل صالحة ... ويغمر العبد إحسانا ويشكره
ويغفر الذنب للعاصي ويقبله ... إذا تاب وبالغفران يجبره
ومن يلوذ به في دفع نائبة ... يعطيه من فضله عزاً وينصره
ولا يضيع مقالاً لمجتهد ... في ماله بل يربيه ويدخره
ومن يكن قلبه من ذنبه فاسداً ... فبالمدامع والتقوى طهره
فليس للعبد تصريف وأن له ... مولاه إن شاء يغنيه ويفقره
فلا الحذار ينجي العبد من قدر ... يريده الله وأمر يدبره
فنسأل الله حقاً حسن خاتمة ... عند الممات وصفواً لا يكدره
وعن أبي يزيد البسطامي -رحمه الله- أنه كان إذا توضأ وقعت الزلزلة على أعضائه إلى أن يقوم إلى الصلاة ويكبر فيسكن عنه ذلك، فقيل في ذلك فقال: أخاف أن تدركني الشقاوة فأخطي إلى كنائس اليهود والنصارى وبيعهم، فتعوذ بالله من مكر الله.
وعن سفيان الثوري -رحمه الله- أنه خرج إلى مكة حاجاً فكان يبكي من أول الليل إلى آخره في المحمل فقال له شيبان الراعي: يا سفيان، فما بكاؤك فإن كان لأجل(1/299)
المعصية فلا تعصه فقال: أما الذنوب فما خطرت ببالي قط كبيرها وصغيرها، وليس بكائي يا شيبان من أجل المعصية ولكن خوف العاقبة، لأني رأيت شيخاً كبيراً كتبنا عنه العلم، وكان تلتمس بركته ويستقى به الغيث، فلما مات تحول وجهه عن القبلة ومات على الشرك كافراً، فما أخاف إلا من سوء الخاتمة فقال له: إن ذلك من شؤم المعصية والإصرار على الذنوب، فلا تعص ربك طرفة عين.
وقال منصور بن عمار -رحمه الله-: إذا دنا موت العبد قسم حاله على خمسة أقسام المال للوارث، والروح لملك الموت، واللحم للدود، والعظم للتراب، والحسنات للخصوم، ثم إن ذهب الوارث للمال يجوز، وإن ذهب ملك الموت بالروح يجوز، فيا ليت الشيطان لا ينهب بالإيمان عند الموت، فيكون فراقاً من الرب سبحانه وتعالى، نعوذ بالله من ذلك، فإن كل فراق إلى اجتماع، وفراق الرب سبحانه صعب لا يدركه أحد.
وعن محمد بن نعيم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جاءني جبريل - عليه السلام - إلا وهو رعد فرقاً وخوفاً من الجبار - عز وجل -» (1) .
وقيل: لما ظهر على إبليس ما ظهر من المخالفة والطرد بعد القرب والعبادة، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما ما لكما تبكيان هذا البكاء وإني لا أظلم أحداً قالا: يا رب لا نأمن مكرك أي: ما نأمن أن تقضي علينا بالبعد بعد القرب، وبالشقاوة بعد السعادة فقال: الله تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خرج إلى صلاة الجمعة فلقيه إبليس في صورة شيخ عابد فقال: له إلى أين يا عمر؟ فقال له: إلى الصلاة، فقال: قضينا الصلاة وفاتتك الجماعة، والجمعة فعرفه فمسكه بتلابيبه وخنقه وقال له: ويلك ألم تك رأس العابدين وقدوة الزاهدين، فأمرت بسجدة واحدة فأبيت واستكبرت وكنت من الكافرين، وطردت وأبعدت إلى يوم القيامة فقال: تأدب يا عمر هل كانت الطاعة بيدي أم الشقاوة بمشيئتي، إني كنت أبسط سجادة عبادتي تحت قوائم العرش، ولم أترك في السماوات بقعة إلا فيها سجدة وركعة ومع هذا القرب قيل لي: أخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، فإن كنت يا عمر أمنت مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، فقال له عمر: اذهب فلا طاقة لي بكلامك، أين الذين كانوا في اللذات يتقلبون ويتجبرون على الخلق ويتكبرون، مزجت لهم كؤوس المنون، فهم لها يتجرعون، وتركوا الأموال التي كانوا لها يجمعون، وفارقوا الذي كانوا به، وفاتهم النعيم الذي كانوا به ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون، فلو رآهم يا هذا في حلل الندامة
_________
(1) لم نقف عليه.(1/300)
يرفلون، ويساقون يوم القيامة إلى العذاب وهم ينظرون أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وأنشدوا في المعنى:
إليك من مكرك يا سيدي ... محل البرايا بذا يحذرون
فكم ذنوب في عيوب مضت ... ونحن عنها سيدي غافلون
نضيع العمر نكسب الخطأ ... فنحن في أوقاتها لاعبون
نشاهد الموتى ولا نعتبر ... ولا تنبهنا الريب المنون
فنحن يا رب الورى كلنا ... إليك من زلاتنا هاربون
لكننا نسأل رب السماء ... عفواً وصفحاً كي تقر العيون
فائدة: إبليس عبد الله ثمانين ألف سنة ثم قيل له: أخرج منها فإنك رجيم صرح بذلك الغزالي في منهاج العابدين.
فائدة أخرى: رأى إسرافيل - عليه السلام - في اللوح المحفوظ أن عبداً يعبد ربه ثمانين ألف عام، ثم ترد عليه عبادته ويلعنه فبكى إسرافيل خوفاً أن يكون هو ذلك العبد، فسألته الملائكة عن ذلك فأخبرهم بما رآه في اللوح فبكوا جميعاً فكل منهم يخاف أن يكون هو ذلك العبد، ثم قالوا: نذهب إلى عزرائيل فإنه مجاب الدعوة فيدعو لنا، فأخبروه فدعا لهم وقال: اللهم لا تغضب عليهم ونسي أن يدعو لنفسه معهم ولم يقل: اللهم لا تغضب علينا.
وقيل: إنه رأى على باب الجنة مكتوباً: إن لله عبداً يعبده من المقربين يأمره فلا يمتثل أمره فقال: ائذن لي أن ألعنه فلعن نفسه بنفسه ألف عام، وكان اسمه في سماء الدنيا العابد، وفي الثانية الراكع، وفي الثالثة الساجد، وفي الرابعة الخاشع، وفي الخامسة القانت، وفي السادسة المجتهد، وفي السابعة الزاهد، ثم بعد ذلك سمي إبليس لأنه أبلس من رحمه الله.
وذكر الغزالي في الإحياء عن عيسى أنه قال: نبياً من الأنبياء شكى الجوع والعري والقمل سنتين، فأوحى الله إليه ما رضيت أن عصمت قلبك أن يكفر بي حتى تسألني الدنيا، فأخذ التراب وجعله على رأسه وقال: قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر.
خاتمة مشتملة على فوائد: قال النووي في الأذكار يحرم أن يقول الشخص: إني إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني، أو برئ من الإسلام ونحو ذلك، فإن قال ذلك وأراد حقيقة تعليق خروجه عن الإسلام ذلك صار كافراً في الحال، لأن تعليق الكفر كفر، في الحال لابد له أن يرجع عن معصيته ويندم على ما فعل وأن يعزم أن لا يعود إليه أبداً ويستغفر الله تعالى ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله.(1/301)
قال: ويحرم عليه تحريماً مغلظاً أن يقول للمسلم: يا كافر، بل قال العلماء إذا قال للمسلم: يا كافر بلا تأويل كفر لأنه سمى الإسلام كفراً.
روينا في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بهما أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه» (1) .
وروينا في الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دعا رجلاً بالكفر أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا جاء عليه» هذا اللفظ رواه مسلم، ولفظ البخاري بمعناه، ومعنى «جاء عليه» رجع عليه (2) .
قال: ولو دعا مسلم على مسلم فقال: اللهم أسلبه الإيمان، عصى بذلك وأصح الوجهين أنه لا يكفر بذلك، ومثل هذا قال: لا ختم الله له بخير.
قال: ولو أكره الكفار مسلماً على كلمة الكفر فقالها وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر بنص القرآن قال تعالى ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106] وأجمع المسلمون على ذلك، ولكن هل الأفضل في هذه الحالة أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل أو لا؟
في المسألة خمسة أوجه فقيل: الأفضل أن يتكلم بها ليصون نفسه عن القتل، وقيل: إن كان في بقائه مصلحة للمسلمين بأن كان يرجو النكاية في العدو والقيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتكلم، وإن لم يكن كذلك فالصبر على القتل أفضل، وقيل: إن كان من العلماء ونحوهم ممن يقتدي بهم، فالأفضل الصبر ولئلا يغتر به العوام، وقيل: يجب عليه التكلم لقوله تعالى ?وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195] والصحيح: أن الأفضل أن يصبر على القتل ولا يتكلم بالكفر، والأحاديث الصحيحة وفعل الصحابة رضي الله عنهم مشهورة.
حكاية غريبة في المعنى وهي خاتمة المجلس: حكي أن عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته أرسل أصحابة إلى الروم لأجل الغزاة فانهزمت أصحابه وأسر عشرون منهم،
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2264، رقم 5753) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 60) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2247، رقم 5698) ، ومسلم في صحيحه (1/79، رقم 61) عن أبي ذر.
قلت: لفظ البخاري بمعناه كما قال المصنف فقد رواه البخاري بلفظ: «لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك» .(1/302)
وأحضروا بين يدي ملك الروم فأمر ترجمانه أن يسألهم عن من هو أكبرهم، فأشاروا إلى ثلاثة منهم، فأمر الملك واحداً من الثلاثة أن يدخل في دينه وأن يعتقد أن المسيح ابن الله، وأن النظر إلى الصليب عبادة، وقال: إن فعلت ذلك أعطيتك كذا وأخلع عليك الخلع، وأجعلك أقرب من في حضرتي، وإن أنت أبيت ولم وتدخل في ديني وإلا ضربت عنقك فقال المسلم: معاذ الله أن أبيع ديني بالدنيا، فأمر بضرب عنقه، فلما ضرب عنقه وطار رأسه في الميدان دار ثلاث مرات وهو يقول: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي? [الفجر: 27 - 30] فغضب الملك الخاسر، وأمر الثاني بمثل ما أمر الأول وقال: أعمل معك كذا وكذا ووعد ومناه، فأبي وقال: معاذ الله أن أبيع ديني بدنياك فأمر بضرب عنق الآخر بحضرته فلما ضرب عنقه وطار رأسه دار في الميدان ثلاثة دورات وهو يقرأ قوله تعالى ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 21 - 24] فسكن عند الرأس الأول فغضب الملك الكافر غضباً شديداً، وأمر الثالث فأحضر بين يديه فقال له: ما تقول أنت أتدخل في ديني حتى أجعلك أميراً وبين يدي مشيراً وإلا قتلتك كصاحبيك، فقال الثالث: أدخل في دينك، وأبيع ديني بدنياك، وأبلغك في ذلك مناك، وغلبت عليه الشقاوة، وقال الملك لوزيره: اخلع عنه الخلع، وكتب له مثالاً بالحكم والتولية والإمرة فقال الوزير: ليس هذا من العقل أن تبادر بإكرام هذا وتوليته من غير تجربة فقال: الملك جربه، فقال الوزير له: يا هذا لا نأمنك ولا نصدقك حتى تقتل
رجلاً من أصحابك، فقام وأخذ واحداً من المسلمين فقتله لغلبة الشقاوة عليه، فقال الملك: الآن استحق المثال والإماره والخلع فقال الوزير: أيها الملك هذا ليس صواباً إذا كان الرجل فعل مع الذي ولد معه ونشأ معه وتربى معه هكذا وقتله بيده ولم يرع حقه، فكيف يرعانا حقاً، أو كيف يبدي لنا صدقاً والرأي عندي أن تقتله وتلحقه بإخوانه فقال الملك: نعم الوزير أنت ونعم المشير افعل ما بدا لك، فأمر بضرب عنقه وطار رأسه في الميدان ودار ثلاث مرات وهو يقرأ قوله تعالى ?أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ? [الزمر: 19] ثم سكن وسط الميدان، ولم يخالط أخويه وصار إلى عذاب الله وغضبه، ونعوذ بالله من مكر الله، ولقد أحسن من قال في المعنى:
وكم من بائع دنيا بدين ... فلم تحصل الدنيا ولم يحصل الدين
ولو حصلت ما فات منها بطائل ... وأصبح مغبوطاً بها وهو مجنون
* * *(1/303)
المجلس الرابع عشر
في ترجمة عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ونفعنا به بمنه وكرمه
الحمد لله الذي تعزز في وحدانيته فهو الواحد العزيز، وتفرد في أزليته وأغرق العالم في بحر الحيرة والتعجيز، أتقن خلق الموجودات فليس في إتقان صنعته نقص ولا تعويذ، زين شقة حلة السماء بنعوت إليها وطرزها بالكواكب المشرقة أي تطريز، ورقم كميها برقم الشمس والقمر كالفضة النقية والذهب الإبريز، وحرسها من استراقاق السمع بالشهب الثواقب أتم وأمنع تحجيز، وجلاها على عيون المعتبرين أولى العقل والتميز، وسطح الأرض على تيار الماء وأبرزها بقدرته أحسن تبريز، وثبتها برواسي الجبال وجعلها مسكناً للرجال والأقطاب والصالحين والأنجاب وخلع عليهم التكريم والتعزيز، صرف عنهم الدنيا فلم يعرفوا الإدخار والتكنيز، وجعلهم قائمين بحقه خلفاء على خلقه لمن فهم الأشاير والتلفيز، وخص منهم من شاء بالرفق في بلاده، والنصيحة لعباده كالصحابة ومن تابعهم مثل عمر بن عبد العزيز.
قال البخاري «وكتب عمر بن عبد العزيز» هذا هو الإمام العادل خامس الخلفاء عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي القرشي التابعي، الخليفة الراشد المجمع على جلالته وزهده وعلمه وشفقته على المسلمين.
ترجمته أفردت بالتأليف، ويكنى أبا حفص، وكان مولده بالمدينة سنة ثلاث وستين وهي السنة التي ماتت فيها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان كثير الخوف - رضي الله عنه -.
وقال يزيد بن حوشب: ما رأيت أكثر خوفاً من الحسن ومن عمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما.
وقال الحارث بن زيد جار عمر بن عبد العزيز رحمه الله: لقد سمعت عمر بن عبد العزيز لما أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو يتململ كالسقيم، ويبكي بكاء الحزين وهو يقول: يا دنيا إليَّ تعرضت أم إليً تشوقت، هيهات هيهات غري غيري قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك فعمرك قصير، وغنيك فقير وعيشك حقير وخطرك كبير.
وكان - رضي الله عنه - إذا صلى الصبح أخذ المصحف في حجره، ودموعه تنحدر تبل لحيته، فكلما مر بآية تخيفه رددها فلا يتجاوزها من كثرة البكاء حتى تطلع الشمس، أنشد بعضهم:(1/304)
وآسفا فراق قوم ... هم المصابيح والحصون
والمزن والأمن والتمني ... والخير والعقل والسكون
بعدهم العيش ليس يصفوا ... كيف تغلبيهم المنون
فكل نار لنا قلوب ... وكل ماء لنا عيون
وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله.
وروي أنه قرأ يوماً ?وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ? [يونس: 61] فبكى بكاء شديداً حتى بكى معه أهل الدار، فجاءته زوجته فجلست تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ولده عبد الملك فدخل عليهم وهم يبكون فقال: يا أبت ما يبكيك؟ قال يا بني ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار.
يا هذا إذا كان عمر بن عبد العزيز يخاف مع عدله وأنت تأمن مع جورك وظلمك.
ورؤي في المنام بعد اثنى عشر سنة فقال: الآن تخلصت من حسابي.
اسمع يا من أمن الأقدار، وليس له عند مولاه اعتذار ولله من قال:
تشاغل بالدنيا أناس فأصبحوا ... عن الباب محجوبين قد منعوا القربا
وأهل التقى لله تسري قلوبهم ... إلى غاية نالوا بها الشرب العذبا
فجاءوا بنور العلم في روضة التقى ... بها نفس الأبرار قد ملئت حبا
هم قطعوا الدنيا بخوف وعبادة ... فذكرهم للموت ورثهم كربا
وعن عطاء رحمه الله قال: كان عمر بن عبد العزيز يجمع الفقهاء كل ليلة ويتذاكرون الموت والقيامة والآخرة، فلا يزالون يبكون حتى كان بين أيديهم جنازة.
وعن ابن حيان -رحمه الله- قال: صليت الصبح خلف عمر بن العزيز فقرأ ?وَقِفُوَهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ? [الصافات: 24] فجعل يكررها ولا يستطيع أن يتجاوزها من البكاء.
وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتفكر في أهل الجنة كيف يتزاورون، وفي أهل النار كيف يطرحون فيها، ثم بكى، وكان إذا بكى فوق غرفة تتحدر دموعه من الميزاب.(1/305)
وعن الحسن بن الحسين قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز يبكي حتى رأيته بكى الدم، وكان خوفه بعد أن ولي الخلافة أشد وأعظم مما قبلها، فإنه كان رجلاً جسيماً فلما ولي الخلافة صار نحيفاً خوفاً من عدم القيام بحقوق العباد والمطالبة بذلك في الدار الآخرة.
قال ابن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز وهو يطوف البيت وإن ربطة إزاره لغائبة في بدنه من سمنه، ثم رأيته بعد ما استخلف ولو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسها.
لطيفة مناسبة: نقل في كتاب لطائف المعارف عن عون بن عقبة أنه قال: بنى ملك من الملوك ممن كان قبلكم مدينة فتأنق في بنائها، ثم صنع طعاماً ودعا الناس إليه وأقعد على أبوابها أناساً يسألون كل من خرج هل رأيتم فيها عيباً؟ فيقولون: لا، حتى جاء في آخر الناس قوم أكسية فسألوهم: هل رأيتم فيها عيباً؟ فقالوا عيبين اثنين فأدخلوهم على الملك فقال لهم: هل رأيتم فيها عيباً؟ قالوا: رأينا فيها عيبين، قالوا: وما هما؟ قالوا: تخرب ويموت صاحبها، ثم دعوه وشوقوه إليها فأجابهم وانخلع من ملكه وتعبد معهم إلى أن مات، فحدث عون بهذا الحديث لعمر بن عبد العزيز فوقع منه موقعاً عظيماً، واشتد خوفه بسبب ذلك وهمَّ أن يخلع نفسه من الملك، فأتاه ابن عمه مسلمة فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فوالله لئن فعلت لتقتلن الناس بأسيافهم فقال: ويحك يا مسلمة حملتني ما لا أطيق وجعل يرددها، ومسلمة يناشده حتى سكن.
وعن أبي حازم الخناصري الأسدي قال: قدمت دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة والناس رائحون إلى الجمعة فقلت: إذا إن صرت إلى الموضع الذي أريد نزوله فاتتني الصلاة ولكن أبدأ بالصلاة فصرت إلى باب المسجد، فأنخت بعيري ثم علقته ورحت المسجد، فإذا أمير المؤمنين على الأعواد يخطب الناس فلما أن أبصرني عرفني فناداني: يا أبا حازم إليَّ مقبلاً، فلما أن سمع الناس نداء أمير المؤمنين إليَّ أوسعوا لي فدنوت من المحراب، فلما أن نزل أمير المؤمنين فصلى بالناس التفت إليَّ فقال: يا أبا حازم متى قدمت بلدنا؟ قلت: الساعة وبعيري معقول على باب المسجد، فلما أن تكلم عرفته فقلت: أنت عمر بن عبد العزيز قال: نعم، قلت له: بالله لقد كنت عندنا بالأمس بخناصرة أميراً لعبد الملك بن مروان فكان وجهك وضاء، وثوبك نقياً، ومركبك وطياً، طعامك شهياً، وحرسك شديداً فما الذي غير بك وأنت أمير المؤمنين فقال: يا أبا حازم أناشدك الله إلا حدثيني الحديث الذي حدثني بخناصرة قلت: نعم(1/306)
سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن بين أيديكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول» (1) قال أبو حازم: فبكى أمير المؤمنين بكاء عالياً حتى علا نحيبه ثم قال: يا أبا حازم فتلومني أن أضمر نفسي لتلك العقبة، لعلي أن أنجوا منها، وما أظنني منها بناج قال أبو حازم: فأغمي على أمير المؤمنين فبكى بكاءً عالياً حتى علا نحيبه ثم ضحك ضحكاً عالياً حتى بدت نواجذه، وأكثر الناس فيه القول فقلنا: اسكتوا وكفوا فإن أمير المؤمنين لقي أمراً عظيماً قال أبو حازم: ثم أفاق من نحيبه فبدرت الناس إلى لومه فقلت: يا أمير المؤمنين لقد رأيت منك عجباً قال: أرأيتم ما كنت فيه؟ قلت: نعم، قال: إني بينما أنا أحدثكم إذ غمي عليَّ فرأيت أن القيامة قد قامت وحشر الله الخلائق،
وكانوا عشرين ومائه ألف أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ثمانون صفاً وسائر الأمم من الموحدين أربعون صفاً، إذا وضع الكرسي ونصب الميزان ونشرت الدواوين، ثم نادى المنادي أين عبد الله بن أبي قحافة؟ فإذا بشيخ طوال يخضب بالحناء والكتم، فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه إمام الله تعالى فحوسب حساباً يسيراً، ثم أمر ذات اليمن إلى الجنة ثم نادى المنادي: أين عمر بن الخطاب؟ فإذا بشيخ طوال يخضب بالحناء فأخذت الملائكة بضبعية فأوقفوه إمام الله تعالى فحوسب حساباً يسيراً، ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى مناد: أين عثمان بن عفان؟ فإذا بشيخ طوال يصفر لحيته فأخذت الملائكة بضبعيه فأوقفوه إمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة، ثم نادى مناد: أين علي بن أبي طالب؟ فإذا بشيخ طوال أبيض الرأس واللحية عظيم البطن رقيق الساقين، فأخذت الملائكة بضبعية فأوقفوه إمام الله فحوسب حساباً يسيراً ثم أمر به ذات اليمين إلى الجنة فلما رأيت الأمر قد قرب مني، اشتغلت بنفسي فما أدري ما فعل الله بمن كان بعدي، إذ نادني المنادي أين عمر بن عبد العزيز؟ فقمت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي ثم قمت فوقعت على وجهي وأتاني ملكان فأخذا بضبعي فأوقفاني إمام الله تعالى فسألني عن النقير والقطير والفتيل، وعن كل قضية قضيت بها حتى ظننت أني لست بناج ثم إن ربي تفضل عليَّ وتداركني منه برحمته وأمر بي ذات اليمين إلى الجنة، فبينما أنا مار مع الملكين الموكلين بي فمررت بجيفة ملقاة على رماد فقلت: ما هذه الجيفة؟ قالوا: أدن منه وسله يخبرك، فدنوت منه فوكزته برجلي فقلت له: من أنت؟ فقال لي: من أنت؟ قلت: أنا عمر بن عبد العزيز، قال لي: ما فعل الله بك وبأصحابك؟ قلت: أما أربعة
_________
(1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/299) ، والقصة بتمامها عنده عن أبي حازم الخناصري.(1/307)
فأمر بهم ذات اليمين إلى الجنة ثم لا أدري بمن كان بعد علي فقال لي: أنت ما فعل الله بك؟ قلت: تفضل علي ربي وتداركني برحمته، وقد أمر بي ذات اليمين إلى الجنة،
فقال: أنا كما صرت ثلاثاً، قلت له: من أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف، قلت له: الحجاج أرددها ثلاثاً، قلت: ما فعل الله بك قال لي قدمت على رب شديد العقاب ذي بطشة فقتلني بكل قتلة قتلت بها مثلها، ثم ها أنا موقوف بين يدي ربي أنتظر ما ينتظره الموحدون من ربهم، إما إلى الجنة وإما إلى نار.
قال أبو حازم فأعطيت الله عهداً بعد رؤيا عمر بن عبد العزيز أن لا أوجب لأحد من هذه الأمة ناراً.
وروي أنه - رضي الله عنه - منذ ولي الخلافة لم يضع لبنة على لبنة ولا أحدث له دآبة ولا امرأة ولا جارية، حتى لحق بالله.
قال له بعض أصحابه: لأي شيء لا تحدث لك بناء؟ قال هذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من الدنيا ولم يضع لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة.
وعن أبي داود الرومي قال: كان لعمر بن عبد العزيز درجة يصعد عليها، وكانت تتحرك كلما نزل وطلع، وكان يرتاع منها ويرتعب، فأصلحها بعض أصحابه وشدها بطين في غيبته بغير إذنه، فلما صعد عمر ورآها قد ثبتت فسأل عمن أصلحها؟ فقيل له: إن فلاناً أصلحها، فقال: أعيدوها إلى ما كانت عليه فإني عاهدت الله منذ وليت أن لا أضع لبنة على لبنة ولا أجرة على أجرة.
اسمع واتعظ يا من أفنى في عمارة الدنيا عمره، وأقل من فعل الخيرات فيها وأكثر فيها ضرره، وكان السلف لصالح يخربون الدنيا ويعمرون بها الآخرة، ولا أنت يا مسكين عكست ذلك وغفلت أنك عن قريب ستصل إلى الحافرة ولله در من قال.
زيادة المرء في دنياه نقصان ... وفعله غير فعل الخير خسران
يا عامر لخراب الدار مجتهداً ... تالله هل لخراب الدار عمران
يا مستأنساً بالمنازل والدور، وكاسات الموت عليه تدور، يا مظلم القلب وما للقلب نور، الباطن خراب والظاهر معمور، لو ذكرت الأجداث والقبور، لأبطلت عمارة الدنيا أيا المغرور، ستحاسب على الأيام والشهور، يا من يصلي بلا حضور، ويصوم والصوم بالغيبة مغمور، كم نتلطف بك يا نفور، كم ننعم عليك يا كفور، تبارز بالمعاصي وأنت مستور، ويحلم عليك إنه حليم غفور، يعلم خائنه الأعين وما تخفي الصدور، إلى متى تلهى بدار الغرور، وفي تمادي الغي تفنى الدهور، يا ناسياً الموت يا(1/308)
غافلاً عليه كاسات المنايا تدور، وما تزودت ليوم النشور، فانهض وتب من كل ذي ذنب متى تحظى برضوان العزيز الغفور.
ومن فضائله: أنه كان يعجبه ويحب من يذكر له شيئاً قصر فيه أو نسيه ويرى له الفضل في ذلك.
قال عمرو بن مهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلابيبي ثم هزني وقل: يا عمر ما تصنع.
فانظر يا هذا إلى خوف عمر بن عبد العزيز مع اجتهاده، فكيف بك مع تقصيرك، الدنيا مزرعة الآخرة، فما عملته في هذه وجدته في تلك.
فأنت اليوم تعمل وغداً ترى، فإن كنت غافلاً فأبك على ما قد جرى، وإذ كنت نائماً فستذهب عنك لذة الكرى، لو بكت عيناك يا هذا دماً ما تقدمت إلينا قدماً، كيف يصفوا لك ود بعد ما نشر العذر علينا علماً، إنما يصفوا وداد مرء حفظ العهد وراعى الذمما، لو أردناك لنا ما فتنا، ووصلنا حبلنا ما انصرما، ما رأينا منصفاً عامله منصف في صفقة إلا فاختصما، كانت الدنيا إذا قدمت على الصالحين قدموها إلى الآخرة.
كان عمر بن عبد العزيز يأتيه خراج اليمن فيدخله بيت المال، ويبيت في الظلام.
وكان يقول: إذا سهرت في أمر العامة أشعلت سراجاً من بيت المال، وإذا سهرت في أمر نفسي أسرجت عليَّ من مالي.
وأما عدله - رضي الله عنه - فإنه قد ملأ الأرض قسطاً وعدلاً وخضعت الوحوش لعدله وصارت الذباب في أيامه ترعى الغنم مع المغنم.
فقد حكي مالك بن دينار أنه لما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز قال رعاء الشاة من رؤوس الجبال: من هذا الخليفة الصالح الذي قد قام على الناس، فقيل لهم: من أعلمكم بصلاحه؟ قالوا: إنه قد قام خليفة صالح كفت الذئاب والأسد عن شائنا (1) .
قال جسر القصاب: مررت في خلافة عمر بن عبد العزيز بشياه، وفيها نحو ثلاثين وحشاً أحسبهم كلاباً فقلت للرعاة لقد أكثرتم من الكلاب بين أغنامكم، فقالو: إنهم ذئاب فقلت لهم: العجب، فقالوا: إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس (2) .
_________
(1) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/255) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (5/386) .
(2) رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/255) .(1/309)
صلى أنس بن مالك خلفه قبل خلافته ثم قال: ما رأيت أحد أشبه صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا الفتى.
وكان - رضي الله عنه - عفيفاً زاهداً ناسكاً مؤمناً تقياً صالحاً رضياً وهو الذي أزال ما كان يذكر به علياً على المنابر، فإن بني أمية كانوا يلعنون علياً على المنابر، فأزاله عمر بن عبد العزيز ووضع مكانه: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر، وإلي هذا أشار كثير عزة بقوله:
وليت لم تسب علياً ولم تخف ... بريئا ولم تقبل مقالة مجرم
وصدقت بالقول الفعال مع الذي ... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
فما بين شرق الأرض والغرب كلها ... منا ينادى من فصيح وأعجم
يقول أمير المؤمنين ظلمني ... بأخذك ديناري ولا أحد يهم
فاربح بها من صفقة لمبايع ... وأكرم بها أكرم بها ثم أكرم
وهو الذي بعثه الله على رأس المائة الأولى لهذه الأمة ليصح لها دينها، فقد قال أحمد بن حنبل يروي هذا الحديث: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة دينها» (1)
فنظرنا في المائة الأولى فإذا عمر بن عبد العزيز.
وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2) : حمله العلماء في المائة الأولى على عمر بن عبد العزيز، وفي الثانية على الشافعي وفي الثالثة على ابن شريح، وقيل: على الشيخ أبي الحسن الأشعري، وفي الرابعة على أبي سهل الصعلوكي وقيل: على القاضي الباقلاني، وقيل: على أبي حامد الإسفرائيني، وفي الخامسة على الغزالي.
قال الكرماني: ولا يبعد أن يكون مع السادسة الإمام الرازي، وقال: كيف لا
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/109، رقم 4291) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاُ: الحاكم في المستدرك (4/567، رقم 8592) ، والطبراني في المعجم الأوسط (6/323، رقم 6527) ، وأبو عمرو المقرئ في السنن الواردة في الفتن (3/742، رقم 364) ، والديلمي في الفردوس (1/148، رقم 532) .
وكلام الإمام أحمد رواه الخطيب في تاريخ بغداد (2/62) من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل راس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي راس المائتين الشافعي - رضي الله عنه -.
(2) انظر: تهذيب الأسماء (ص 27) للنووي.(1/310)
ولولاه لامتلأت الدنيا من شبه الفلاسفة فهو الداعي إلى الله في إثبات القواعد الحقانية، وحجة الحق على الخلق في تصحيح العقائد الإيمانية.
وأفاد الكرماني: أن المراد بالمصحح لهذه الأمة دينها في رأس كل مائة سنة، من انقضت المائة وهو حي عالم مشار إليه قال: وقد كان قبيل كل مائة أيضًا من يصحح ويقوم بأمر الدين قال: ويحتمل التعدد في المصحح.
وأما شيخنا الجلال السيوطي قال: إن هذا البعث من خصائص هذه الأمة، وإن عيسى ابن مريم يبعث في آخر مائة ليجدد لهذه الأمة أمر دينهم.
وكان يترنم بهذه الأبيات:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
يغرك ما يغني وتشغل بالمنى ... كما غر باللذات في النوم حالم
ويشغل فيما سوف يكره غبه ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
ومن فضائله وزهده ما قاله مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في مرضه فإذا عليه قميص وسخ فقلت لزوجته فاطمة بنت عبد الملك: اغسلي قميص أمير المؤمنين فقالت: نفعل إن شاء الله، ثم عدته فإذا القميص على حاله فقلت: يا فاطمة لم أمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه فقالت: والله ما له قميص غيره.
وكان مرضه الذي مات فيه أول شهر رجب سنة إحدى ومائة.
وروي أن مسلمة بن عبد الملك دخل عليه في مرضه الذي مات فيه فقال: يا أمير المؤمنين من توصي بأهلك، وكان له من الأولاد الذكور بضعة عشر وإذ ذكر فقال: إن ولييَّ فيهم الله وهو يتولى الصالحين.
ويروي أنه قال: يا أمير المؤمنين إنك افتقرت ولدك من هذا المال، وتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إلىّ فقال: اسندوني ثم قال: أما قولك: إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال، فوالله ما منعتهم حقاً هو لهم ولم أعطهم ما ليس لهم، وأما قولك: لو أوصيت فاعلم أن وصيتي وولييَّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم قال: بني أحد رجلين إما رجل يتقي الله تعالى فسيجعل له مخرجاً، وإما رجل منكب على المعاصي فلم أكن مقويه على معاصي الله تعالى، ثم بعث إليهم فلما حضروا ونظر إليهم فزرفت عيناه وقال: بنفسي أفدي الفتية الذين تركتهم لا شيء لهم، فإني بحمد الله تركتهم بخير، أي بني: إن أباكم بين أمرين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار،(1/311)
وتفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فلأن تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، قوموا عصمكم الله تعالى، ولما وكلهم إلى مولاهم فتح الله عليهم بالمال الكثير.
حكى الكمال الدميري في الحمام: أن بعض العلماء الأكابر اجتمع بالمنصور وأمير المؤمنين فقال المنصور لذلك الرجل العالم يوماً من الأيام: عظني وأخبرني بأعجب ما رأيت، قال له: يا أمير المؤمنين من غريب ما رأيت أن عمر بن عبد العزيز مات وخلف إحدى عشر ولداً فبلغت تركته سبعة عشر دينار تصدق بخمسة دنانير واشترى له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً.
ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابنا فورث كل واحد منهم ألف ألف دينار ثم إني رأيت رجلاً من أولاد عمر بن عبد العزيز حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله ورأيت رجلاً من أولاد هشام يسأل أن يتصدق عليه قال: وهذا غير عجيب فإن عمر بن عبد العزيز وكلهم إلى ربه فكفاهم وأغناهم، وهشام وكلهم إلى دينارهم فأفقرهم مولاهم.
وعن الأوزاعي أنه قال: إن عمر بن عبد العزيز قال ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لأنه آخر ما يرفع للمؤمن من الأجر.
وفي رواية قال: ما أحب أن يخفف سكرات الموت لأنه آخر ما يكفر به عن المؤمن.
وروي أنه لما ثقل عليه المرض قال لمسلمة بن عبد الملك: خذ من مالي دينارين فاشتري لي كفنا فقال: يا أمير المؤمنين أن الدينارين لا يحصل بهما كفن بمثلك فقال: يا مسلمة إن كان الله - عز وجل - عني راضياً فسيبدلني لي بما هو خير منه، وإن كان ساخطاً فإنما أكون حطباً للنار.
ويروى أنه دخل عليه شخص يقال له: سابق في مرضه فقال: له يا سابق عظني وأوجز فأنشد:
إذا أنت لم ترحل بزاد التقى ... وافيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون شريكه ... وأرصدت قبل الموت ما كان أرصدا
فبكى عمر حتى وقع مغشياً عليه ودخل سابق مرة أخرى عليه فأنشده قصيدة طويلة:
فكم من صحيح بات للموت آمناً ... أتتة المنايا بغتة بعدما هجع
فلم يستطيع إذ جاءه الموت بغتة ... فراراً ولا منه بقوته امتنع(1/312)
فأصبح تبكيه النساء مقنعا ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله ... وفارق بعدما كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله ... ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
فلم يزل عمر يضطرب ويبكي حتى غشي عليه.
وكان بوجهه شجة فلهذا كان يقال له: شجيج بني أمية لأن ضربته دآبة في وجهه.
وهو منسوب إلى عمر بن الخطاب لكن من جهة النساء.
ومن كرامات عمر بن الخطاب أنه كان يقول: من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلاً هو عمر بن عبد العزيز فإنه - رضي الله عنه - من أولاد عمر بن الخطاب من جهة الأم فإن أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
لطيفة: مر عمر بن الخطاب ليلة ببيت فسمع امرأة تقول لابنتها: أخلطي الحليب بالماء فقالت البنت: يا أماه أو ليس نادى عمر بن الخطاب أن لا يخلط أحد الحليب بالماء؟ قالت: إنه لا يرانا، فقالت: نطيعه في الملأ ونعصيه في الخلاء، فلما أصبح عمر دعا أولاده عبد الله وعبيد الله وعاصماً وعرض عليهم الجارية وقال: لو كان لأبيكم من حركة ما سبقه إليها من أحد، فتزوجها عاصم فولدت بنتا ثم ولدت الثانية عمر بن عبد العزيز.
وقال ابن رجب في اللطائف: خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها، فيها: إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معاد ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله من قضي نحبه وانقضى أجله فتودعونه، وتدعونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما أسلف، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت، وانقضاء مواقيته وإني لا أقول لكم هذه المقالة وما أعلم على أحد من الذنوب أكثر ما أعلم عندي، ولكني استغفر الله وأتوب إليه، ثم رفع طرف درائه فبكى حتى شهق، ثم نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله تعالى.
وعن عبيدة بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني فلا(1/313)
يبقى عندى أي أحد وكان عنده مسلمة بن عبد الملك، فخرجوا وقعد مسلمة وأخته فاطمة زوجة عمر على باب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان، قال سمعنا صوتا من ناحية الباب يقول: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص: 83] ثم دخلوا عليه وقد مات رحمة الله واستقبل القبلة وغمض عينيه وطبق فاه (1) .
قيل: إن بعض الجان بعد موته رثاه فقال:
عنا جزاك مليك الناس صالحة ... في جنة الخلود والفردوس يا عمر
أنت الذي لا نرى عدلاً نسر به ... من بعده ما جرت شمس ولا قمر
ورثاه جرير فقال:
تنعي النعاة أمير المؤمنين لنا ... مفضل حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به ... وسرت فيهم بحكم الله مؤتمرا
ورثاه الفرزدق بقصيدة طويلة منها:
لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه ... لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة حق قد نعت لهم ... كادت تموت وأخرى منك تنتظر
قال الأوزاعي: شهدت جنازة عمر وخرجت إلى مدينة «قنسرين» فمررت على راهب يسير على ثورين أو حمارين فقال: يا هذا ما أحسبك شهدت جنازة هذا الرجل فقلت له: نعم فبكى فقلت وما يبكيك ولست من أهل دينه قال إنما أبكي على نور كان في الأرض فطفيء.
_________
(1) روى ابن المبارك في الزهد خبر موته (ص 309، رقم 887) عن مغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم أخف عليهم موتى ولو ساعة من نهار قالت: فقلت له يوماً: يا أمير المؤمنين ألا أخرج عنك عسى أن تغفي شيئاً فإنك لم تنم، قالت: فخرجت عنه إلى بيت غير البيت الذي هو فيه، قالت: فجعلت اسمعه يقول: ?تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ? [القصص: 83] يرددها مراراً ثم اطرق فلبث طويلاً لا أسمع له صوتا فقلت لوصيف له كان يخدمه: ويحك انظر، فلما دخل صاح، قالت: فدخلت عليه فوجدته ميتاً قد أقبل بوجهه على القبلة، ووضع إحدى يديه على فيه والأخرى على عينه.
ورواه أيضاً: ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/406) ، والطبري في التاريخ (4/72) .
وانظر: سير أعلام النبلاء (5/141) .(1/314)
ويوم موته وثب ذئب على شاه فقال: الرعاة كأن الرجل الصالح قد مات فنظروا فوجدوا عمر قد مات تلك الليلة - رضي الله عنه -، ولي الخلافة بعده ابن عمه سليمان بن عبد الملك سنة تسع وتسعين.
وكانت خلافته مثل خلافة أبي بكر الصديق سنتين وخمسة أشهر، وكانت وفاته يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وستة أشهر، ومات بدير سمعان قرية من قري حمص، وكان قد أرسل لصاحب الأرض الذي يساومه على موضع قبره فقال: يا أمير المؤمنين والله إني لأتبرك بقبرك وقد حاللتك منه فأبى أن يقبله إلا بثمن، وبايعهم على موضع قبره بدينارين، وقال لهم: إنما أريد بطن الأرض، فإذا دفنت فاحرثوا أرضكم وأزرعوا فيها وابنوا وانتفعوا فلا يضرني ذلك، ودفن هناك وكان عنده شيء من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظفاره فأوصى أن تدفن معه.
لطيفة: قال يوسف بن ماهك: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر إذا سقط علينا من السماء رق مكتوب عليه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار.
وقال خالد الربعي: مكتوب في التوراة أن السماء تبكي على عمر بن عبد العزيز أربعين صباحاً.
لطيفة أخرى: قال الغزالي في منهاج الفائزين روي أن بعض الصالحين قال: كان لي ولداً استشهد فلم أره في المنام إلا ليلة توفي عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -، إذا تراءى إليَّ تلك الليلة فقلت: يا بني ألم تك ميتاً فقال: لا ولكني استشهدت وأنا حي عند الله أرزق، فقلت ما جاء بك فقال: نودي في السماء أن لا يبقى نبي ولا صديق ولا شهيد إلا وحضر الصلاة على عمر بن عبد العزيز فجئت لأشهد الصلاة ثم جئتكم لأسلم عليكم.
قال البخاري «وكتب بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي» (1) هذا هو السيد
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/113) : قوله: «وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي» أي: ابن عميرة الكندي، وهو تابعي من أولاد الصحابة، وكان عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة فلذلك كتب إليه، والتعليق المذكور وصله أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان لهما من طريق عيس بن عاصم قال: حدثني عدي بن عدي قال: كتب إلى عمر بن عبد العزيز: «أما بعد فإن للإيمان فرائض وشرائع ... إلى آخره» .
وقوله: «إن للإيمان فرائض» كذا ثبت في معظم الروايات باللام، وفرائض بالنصب على أنها اسم إن. وفي رواية ابن عساكر: «فإن الإيمان فرائض» على أن الإيمان اسم إن وفرائض خبرها، وبالأول جاء الموصول الذي أشرنا إليه.
وقوله: «فرائض» أي: أعمالاً مفروضة، «وشرائع» أي: عقائد دينية، «وحدوداً» أي: منهيات ممنوعة، «وسنناً» أي: مندوبات.(1/315)
الجليل أبو فروة الكندي الجزري التابعي، وقد اختلفوا في أنه صحابي أم لا، والصحيح أنه تابعي.
وسبب الاختلاف في أنه روى أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فظنه بعضهم صحابياً.
وكان عدي عامل عمر بن عبد العزيز على الجزيرة والموصل، واستعمال عمر له يدل على أنه ليس بصحابي لأنه عاش بعد عمر، ولم يبق أحد من الصحابة في خلافته واتفقوا على جلالة عدي.
فقال البخاري: عدي سيد أهل الجزيرة.
وقال أحمد بن حنبل: عدي لا يسئل عن مثله وتوفي في ستة عشرين ومائة.
«أن للإيمان فرائض وشرائع وحدودتا وسننا» هذا الذي قاله البخاري من قوله «وكتب عمر بن عبد العزيز أن للإيمان ... إلى آخره» تعليق ذكره بصيغة الجزم وهو حكم منه بصحته، ومقصود البخاري بهذا الأثر المنقول عن عمر بن عبد العزيز الاستدلال على مذهبه من زيادة الإيمان ونقصانه، وأن عمر بن عبد العزيز كان قائلاً بأن الإيمان قول وفعل، وكان قائلاً: بأنه يزيد وينقص حيث قال: «فمن استكملها فقد ستكمل الإيمان» واستدل بكلامه لأنه جمعها بجلالته وفضله وعلمه كما قدمنا ذلك، والفرق بين الفرائض والشرائع والسنن ظاهر، وذلك أن المراد بالفرائض: الأعمال المفروضة، وبالشرائع: العقائد الدينية، وبالحدود: المنهيات، وبالسنن: المندوبات، هكذا فسرها الكرماني والبرماوي.
قال البرماوي: وفسرناها بذلك حذراً من التكرار فيكون ذلك وفاء بالاعتقاد وبالعمل والترك واجبين ومندوبين.
* * *(1/316)
المجلس الخامس عشر
في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى? [البقرة: 260] وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالسيد إبراهيم صلاة الله وسلامه عليه
«وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي?» مقصود البخاري بهذه الآية الاستدلال أيضاً على مذهبه من زيادة الإيمان ونقصانه، وهي دليل ظاهر على قبول الزيادة، وفصل هذه الآية عن الآيات التي استدل بها على زيادة الإيمان ونقصانه لأن تلك دلت على الزيادة بالصريح، وهذا بطريق اللزوم، ففصل ليشعر بالتفاوت، ووجه الاستدلال أن السيد إبراهيم سئل أن يريه إحياء المولي فقال: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى?، وإنما سأل ليزداد يقيناً وبصيرة، فإنه إذا انضم عين اليقين إلى علم اليقين لا شك أن الإيمان يكون أقوى فلما سأل ذلك قال الله تبارك وتعالى ?أَوَلَمْ تُؤْمِن? ألم تصدق بأني أحي الموتى، وهو سبحانه عالم بأن إبراهيم يصدق بذلك ولكن قال له ذلك ليظهر إيمانه لكل سامع فقال إبراهيم في جواب ربه: بلى ومن بأنك تحي الموتى ولكن سألتك ?وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? أي: ليزداد يقيني إذ ليس سمع كمن رأى وليس الخبر كالعيان ولله در القائل:
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل
فطلب -صلوات الله وسلامه عليه- رؤية إحياء الموتى ليصير علم اليقين عنده بالاستدلال عين اليقين بالمشاهدة، فإنه ليس ما يصل إلى القلب بالخبر كالدي يصل إليه بالنظر لأن الكذب في الخبر ممكن وفي العيان غير ممكن.
وذهب بعض أهل التصوف إلى أن السيد إبراهيم - عليه السلام - إنما قصد بالسؤال رؤية الباري جل وعلا، وجعل السؤال عن كيفية إحياء الموتى وسيلة إلى ذلك فكأنه قال: رب أرني ذاتك وأنت تحي الموتى، فلما سأل من ربه أن يريه كيف يحي الموتى ليزداد يقينه
قال الله تعالى ?فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ? قيل: خذ الطاووس والديك والغراب والنسر، قيل: الحمامة بدل النسر والبطة بدل الطاووس.
?فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ? أي: ضمهن إليك ولتبرهن واعرف هيئتهن ثم قطعهن ثم اخلط لحمهن ورشهن ودمهن بعضه ببعض، ثم أمسك رؤوسهن عندك، ثم جزئهن ثم اجعل على كل جبل من جبال أرضك وكانت سبعة، وقيل: أربعة أجزاء.
?ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً? أي: قل لهم تعالين بإذن الله يأتينك ساعيات(1/317)
مسرعات في طيرهن أو مشيهن على رجلهن، ففعل إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- كما أمره الله تعالى أخذ هذه الطيور الأربعة وذبحها وقطع رؤوسها ووضع الرأس عنده ثم قطع لحمها قطعاً قطعاً، وخلط الجميع وقسمه سبعة أقسام على عدد الجبال، ووضع على كل جبل منها جزءاً كما أمره الله تعالى، ثم قال لهذه الأجزاء تعالين بإذن الله فعاد كل جزء إلى جسده، وأتى كل جسد إلى رأسه الذي معه وقيل: قال: أيتها الطيور المنقطعة والأعضاء المتفرقة عودي كما كنت بإذن الله تعالى، فعادت أجنحة هذا إلى مكانها ورأس هذا إلى بقيته وأعضائه والتأم هذا إلى هذا، وإبراهيم ينظر إليها وأقبلت أربعتها تسعي بإذن الله تعالى فعندها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فقال: له عند ذلك ربه ?أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ? [البقرة: 131] .
وقال بعضهم: لما قال السيد إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قيل: له أنت شاك في قدرتنا حتى تقف في حقيقتنا وتقول: أرني فقال: يا رب أنت أريتني بعين بصيرتي فأرني بعين بصري لأجمع بين النظريين، فأمره الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحها ويفرق أجزائها ويجعل على كل جبل منهن جزء وأمره أن يأخذ رؤؤس الأربعة فيجعلها بين أصابعه، ويدعوها ففعل ذلك، فهب بنسيم من جانب القدرة، وجمع تلك الأجزاء المتفرقة وأتوا نحوه واختطف كل منها رأسه من بين أصابعه، وطار حياً بقدرة الله سبحانه وتعالى فعكفوا على رأس إبراهيم، ونادوه بلسان فصيح وقلب جريح: يا إبراهيم أي شيء أردت بنا حتى سفكت دمنا، يا إبراهيم تأدب فربما باسطك ربك بمثل ما باسطته، ففي تلك الليلة رأى إبراهيم ربه في المنام يقول له: اذبح ولدك كأنه يقال له إبراهيم نحن أريناك أحياء الموتى فأرنا أنت إماتة الأحياء.
فائدة: قال ابن العماد في الذريعة لم يتعرض المفسرون لوجه الحكمة في كونها أربعة، وظهر لي والله اعلم أن العناصر لما كانت أربعة ناسب الحصر في الأربعة، ويؤيد ذلك ما قاله أن الله أوحى إليه أن يأخذ بطة خضراء وغراباً أسود وحمامة بيضاء وديكا أحمراً، فإن الأخضر بمثابة الصفراء أو الأسود بمنزلة السود والأبيض كالبلغم والأحمر الدم والله أعلم.
والحكمة في أمره بالأخذ من الطير دون غيره من الحيوانات: أن الطير أقرب إلى الإنسان، وأجمع لخواص الحيوان.
قال بعض العلماء: وإنما أخذ هذه الطيور الأربعة دون غيرها من الطيور لنكتة لطيفة وهي: أن أعداء الآدمي أربعة: الدنيا والهوى والنفس والشيطان كما أشار إليه(1/318)
بعضهم بقوله:
إني بليت بأربع ما سلطوا ... إلا لعظم بليتي وعنائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى ... كيف السبيل وكلهم أعدائي
فكأنه أشار بأخذه لهذه الطيور ووضعها على الجبال أن ينفي عنه ما أتصف كل واحد منها من هذه الأعداء الأربعة، فأشار بالطاووس إلى نفي نية الدنيا لأنه أكثر الطيور زينة، وأشار الغراب إلى نفي الحرص لأنه أكثر الطيور روضاً، وأشار بالديك إلى نفي الشهوة لأنه أكثر الطيور شهوة، وأشار بالنسر إلى نفي العجب لأنه أكثر الطيور عجباً، فكأنه تعالى بقوله: خذ هذه الأربعة واجعل كل منها على جبل، فالحرص على جبل الترك، والزينة على جبل الزهد، والعجب على جبل التواضع، والشهوة على جبل الإخلاص.
فائدة في أحكام هذه الطيور: أما الطاووس فهو طائر معروف في طبعه العفة وحب الزهو والخيلاء والإعجاب بريشة، يلقي ريشة في الخريف كما يلقي الشجر ورقة، فإذا بدأ طلوع الأوراق من الشجر طلع ريشة، ومع حسنة يتشأم به ونكره الناس إقامته في البيت.
وسببه: أنه لما كان سبباً لدخول إبليس الجنة وخروج آدم منها، وسبباً لخلو تلك الدار من آدم مدة دوام الدنيا كرهت أقامته في الدور، وكان غير مبارك فيها، ويحرم أكله لخبث لحمه، ويصح بيعه للتفرج على لونه.
وأما الديك فكنيته أبو اليقظان ويسمى الأنيس والموأنس، وقد ذكر العلماء أنه يجوز الاعتماد على الديك المجرب في أوقات الصلوات، وكانت الصحابة يسافرون معهم بالديك تعرفهم أوقات الصلاة.
ويحل أكله ويكره سبه كما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة عن زيد بن خالد الجهني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة» (1)
حديث إسناده جيد.
_________
(1) أخرجه أبو داود (4/327، رقم 5101) عن زيد بن خالد الجهني.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/234، رقم 10781) ، وأحمد في مسنده (5/192، رقم 21723) ، والحميدي في مسنده (2/356، رقم 814) ، والطيالسي في مسنده (ص 129، رقم 957) ، وعبد بن حميد (1/117، رقم 278) ، والطبراني في المعجم الكبير (5/240، رقم 5210) ، وأبو الشيخ في العظمة (5/1758) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/299، رقم 5172) .(1/319)
قال الحليمي في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنه يوقظ للصلاة» على أن كل ما استفيد منه خير لا ينبغي أن يسب، بل حقه أن يكرم ويشكر ويتلقى بالإحسان.
ويروى في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل - عليه السلام - يحرس بيته وستة عشر بيتاً أبيض» (1) .
وأما الغراب فهو من الفواسق الخمس يستحب قتله في الحل والحرم، ويحرم أكل الغراب الأبقع والغراب الأسود الكبير الجبلي، وأما غراب الزرع فإن أكله حلال ويسمى غراب الزيتون لأنه يأكله.
وأما النسر فهو عريف الطيور يقول: في صياحه ابن آدم عش ما شئت فإن الموت ملأ قلبك كذا قاله الحسن بن على.
وفي هذا مناسبة لما خص به النسر من العمر الطويل فقد قيل: يعيش ثمانين سنة وهو سيد الطيور لحديث ورد في ذلك ذكره الدميري في النسر وسنذكره في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى ويحرم أكله لاستنجاسه بأكله الجيف.
وأما الحمام فإنه يصدق على الذكر والأنثى من الفواخت والقمارى والقطا والوراشين واليمام والقلاب والمنسوب وأشباه ذلك، ويحل أكله بجميع أنواعه لأنه من الطيبات، وتربية الحمام لأجل البيض والإفراخ والأنس وحمل الكتب جائز بلا كراهة، وأما اللعب بها والتطير والمسابقة فقيل: يجوز لأنه يحتاج في الحرب لنقل الأحبار، والأصح كراهته فقد روي عن سفيان الثوري أنه قال: كان اللعب بالحمام من عمل قوم لوط.
وقال النخعي: من لعب بالحمام الطيارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر.
_________
(1) رواه أبو الشيخ في العظمة (5/1757) عن أنس مرفوعاً.
وهو حديث منكر فيه: أحمد بن محمد بن أبى بزة المقرئ، أورده العقيلي في الضعفاء (1/127، ترجمة: 155) وأخرج الحديث من طريقه وقال: وقال منكر الحديث ويوصل الأحاديث ومن حديثه ... فساق حديثه هذا.
وترجم له الذهبي في الميزان (1/288، ترجمة 563) وقال: أحمد لين الحديث ونقل قول العقيلي فيه، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث لا أحدث عنه، وقال ابن أبي حاتم: روى حديثاً منكراً.
وانظر ترجمته أيضاً في لسان الميزان (1/283، ترجمة 843) ، ومع أنه منكر في الحديث، إلا أنه ثبت في القراءة قاله الذهبي في المغني في الضعفاء (1/55، ترجمة 428) .
وعموماً فحديثه هذا أنكره العلماء انظر في ذلك كشف الخفاء (1/497، رقم 1323) .(1/320)
وروى ابن وهب (1) أن حمام مكة أظلت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة فدعا لها بالبركة.
ومما يدل على كراهة اللعب بالحمام الطيارة ما في سنن أبي داود وابن ماجة والطبراني وابن حبان بإسناد جيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يتبع حمامة فقال: «شيطان يتبع شيطانة» (2) .
وهو محمول على إدمان صاحب الحمام على طيرانه والاشتغال به، والارتقاء بسببه إلى السطوح التي يشرف منها على بيوت الجيران وحرمتهم لأجله، وسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحمام شيطاناً لأنه لا يكاد يخلو من عصيان العاصي يقال له: شيطان قال تعالى ?شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ? [الأنعام: 112] وأطلق على الحمامة شيطان مجاورة، ولا ترد الشهادة بمجرد اللعب عندنا بها، خلافاً لأبي حنيفة ومالك فإن انضم إليه قماراً ونحوه ردت الشهادة.
واستشكل العلماء سؤال السيد إبراهيم إحياء الموتى ليزداد يقينه وإيمانه يقول سيدنا علي: لو كشف الغطاء ما ازدادت يقيناً أي: لو كشف لي الغطاء عن الأمور المغيبة، من الحشر والنشر والحساب وكيفية إحياء الموتى ونحوها بأن شدتها واقعة ما ازددت بسبب وقوعها يقيناً بها.
ووجه الإشكال أن قول سيدنا علي يقتضي أنه لا يزداد يقينه عند رؤية إحياء الموتى ولا عند جميع الأمور المغيبة، والسيد إبراهيم طلب ذلك لأجل يقينه وإيمانه فيلزم أن يكون مقام سيدنا علي أعلى من مقام السيد إبراهيم مع أن مقام إبراهيم أعلى بالإجماع للقطع بأنه لا يصل ولي إلى درجة الأنبياء، وقد جمع العلماء بين القولين بما لا نطول بذكره.
«وإبراهيم» سرياني معناه بالعربية «أب راحم» ، وقيل: «رحيم» ذكره الله تعالى في القرآن في إحدى وسبعين موضعاً، وفيه سبع لغات أشهرها إبراهيم، ويقال: «إبراهام» وبها قرئ في السبعة، وكان مولده -صلوات الله وسلامه عليه- ببابل من أرض السواد بناحية يقال لها: «كوش» كما صححه ابن الملقن في زمان النمروذ بن
_________
(1) ابن وهب هو: أحمد بن سليمان بن وهب، أبو الفضل: كاتب له شعر، من أهل بغداد، من بيت وزارة وفضل. تقلد أعمالاً منها النظر في جباية الأموال، وله ديوان شعر، وديوان رسائل. وكانت وفاته في سنة: 285 هـ.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/285، رقم 4940) ، وابن ماجه في سننه (2/1238، رقم 3765) ، وابن حبان في صحيحه (13/183، رقم 5874) عن أبي هريرة.
والحديث عند البخاري في الأدب المفرد (1/441، رقم 1300) ، وأحمد في المسند (2/345، رقم 8524) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/213، رقم 20730) ، وفي شعب الإيمان (5/244، رقم 6534) .(1/321)
كنعان.
وكان بين الطوفان ومولد إبراهيم ألف مائة سنة ومائتان وثلاث وستون سنة، وبينه وبين آدم ثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثون سنة، والنمروذ عليه اللعنة كان جباراً عنيداً دعا الناس إلى عبادته وهو أحد الملوك الأربعة الذين ملكوا الأرض كلها ورد في الحديث: «ملك الأرض أربعة: مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان بن داود والإسكندر ذو القرنين عليهما السلام، وأما الكافران فنمرود عليه اللعنة وبخت نصر» (1) .
وكان عند النمروذ كهان ومنجمين فلما أراد الله إيجاد السيد إبراهيم قالوا: إنا نجد في علمنا أنه يولد في بلدك هذه السنة غلام يغير أهل الأرض، ويكون هلاكك وزوال ملكك على يده، فأمر يذبح كل مولود يولد في تلك الناحية في تلك السنة، فلم يولد فيها غلام إلا ذبحه.
وأما أم إبراهيم فإنه لما حملت به لم يعلموا بحبلها، فإنها كانت جارية حديثة السن تعلم الحبل، ولم يستبن في بطنها شيء، فلما حملت به أمه قالت الكهان للنمرود: إن المولود الذي أخبرناك قد حملت به أمه هذه الليلة، فلما عظم بطنها خشي آزر أن يعلموا بها فيذبحوها وولدها، فانطلق بها إلى أرض بين البصرة والكوفة فأنزلها في سرب من الأرض، وجعل عندها ما يصلحها وجعل يكتم ذلك من أصحابه، فولدت إبراهيم فيه وشب فكان ابن سنة كابن ثلاثين سنة، وكانت أمه كلما دخلت عليه وجدته يمص أصابعه فقالت ذات يوم نظرت إليه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبناً ومن إصبع عسلاً ومن إصبع زبداً ومن إصبع سمناً.
لطيفة وقعت لشخص في الصغر نظير ما وقع للسيد إبراهيم: نقل الشيخ كمال الدين الدميري عن عبيد بن واقد الليثي البصري قال: كنت أريد الحج فوقفت على رجل بين يديه غلام أحسن الغلمان وأكثرهم حركة فقلت: من هذا؟ قال لي ابني وسأحدثك عنه، خرجت مرة حاجاً ومعي أم هذا الغلام وهي حامل به، فلما كنا في بعض المنازل ضربها الطلق فولدت هذا وماتت، وحضر الرحيل فأخذت الصبي فلففته في خرقة وجعلته في غار وبنيت عليه أحجاراً، وارتحلت وأنا أرى أنه يموت من ساعته، فقضيت الحج فلما نزلنا ذلك بادر بعض رفقتي إلى الغار فنقض الأحجار فإذا بالصبي
_________
(1) رواه الطبري في تاريخه (1/142) فقال: عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/322)
ملتقم إبهامه فنظرنا فإذا اللبن يخرج منها، فاحتملته معي فهو هذا الذي ترى.
واختلف في إقامة إبراهيم في الغار وقيل: سنة، وقيل: خمسة عشر شهراً، وقيل: سبعة أشهر فلما شب إبراهيم في السرب، وتكلم قال لأمه من ربي؟ قالت: أنا، فقال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ فقالت: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ قالت: اسكت فسكت، ثم رجعت إلى أبيه فقالت: المولود الذي يغير دين أهل الأرض هو ولدك وأخبرته بما قال، فأتاه أبوه فقال له إبراهيم: يا أبتاه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: النمروذ، قال: فمن رب النمروذ؟ فلطمه لطمةً وقال: اسكت فسكت.
وهذا هو الرشد الذي أشار إليه بقوله ?وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ? [الأنبياء: 51] أي: هديناه وأصلحناه من قبل موسى وعيسى وقيل: معنى قبل أي: من قبل بلوغه.
ولما كان في السرب لم ير شيئاً مما على الأرض من الحيوانات أو غيرها ولا السماء وما فيها من الشمس والقمر والنجوم فقال لأبويه: أخرجاني فأخرجاه آخر النهار حين غابت الشمس، فنظر إلى الإبل والبقر والغنم والخيل فسأل عن أسمائها فسماها له، قال هذا الجنس يقال له: غنم، وهذا يقال له: بقر، وهذا يقال له: إبل، فقال: ما لهذه لابد أن يكون لها من خالق إله خالق ورازق.
وقيل: إنه قال لأمة: هذه الخلائق هذا طويل وهذا قصير، وهذا قوي وهذا ضعيف، وهذا غني وهذا فقير، وهذا صحيح وهذا مريض، من صنع هذا كله؟ فقالت له: النمروذ، قال لها: ومن خلق النمروذ؟ فلطمته وقالت: اسكت.
ثم رق قلبها له وقالت: ألك حجة على أنه ليس برب؟ قال: نعم، قالت: وما هي؟ قال: له زيادة ونقصان، وتحريك وإسكان، وهل يقوم ويقعد، ويأكل ويشرب، ويستيقظ وينام؟ فقالت: نعم، قال: هذا صفات الأجسام، المفتقر إلى الشهوة والطعام، وعزل سلطنته قريب، وورآه من الموت يوم عصيب، يا أمي من تؤلمه بقة وتقتله شرقة وتوجعه إبره وتجعله الحوادث عبرة، ويجوع ويظمأ، ويسمن ويضنأ، ويعمل فيه البرد والحر، وليس بيده نفع ولا ضر، لا يكون إلهاً كأنك بملكه قد تناهى، قالت: فمن إله السماوات والأرض، قال: الذي لا يغلب ولا يقهر، ولا ينام ولا يسهر، ولا عرض ولا جوهر، يعلم ما يسر من القول ما يجهر، خالق الليل الدامس، ومخرج الثمرة من اليابس، قالت له: فأين هذا الرب؟ قال: لا يوصف بأين ثم انظر وتفكر في خلق(1/323)
السماوات والأرض، وقال: إن الذي خلقني ورزقني وأطعمني أسقاني ربي، مالي إله غيره، ثم نظر إلى السماء فإذا المشترى قد طلع، وقيل: الزهرة، وكانت الليلة في النصف الثاني من الشهر فرأى الكوكب قبل القمر فقال: هذا ربي فلما أفل أي: غاب قال: لا أحب الآفلين، ثم طلع القمر قال هذا ربي كما قال تعالى ?فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ? [الأنعام: 77] ثم طلعت الشمس فلما رآها قال هذا ربي كما قال: ?فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ? [الأنعام: 78، 79] .
قال القاضي عياض: استدلال إبراهيم بالكواكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمسة عشر شهراً واسم أبيه تارح، ولقبه آزر كما نطق بذلك القرآن في قوله تعالى ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ? [الأنعام: 74] ومعناه الشيخ الكبير، وقيل: معناه قبيح الفعل، وقيل: سمي آزر لشدة كفره، وقيل: آزر اسم لصنم الذي كان يعبده فلقب به لملازمته لعبادته، وقيل: أطلق عليه بحذف مضاف أي: لأبيه عابد آزر، وكان نجاراً يصنع الأصنام، فلما بلغ إبراهيم من العمر سبع سنين كان أبوه يعطيه الأصنام ليبيعها، فيذهب بها إبراهيم فينادي عليها من يشتري شيئاً يضره ولا ينفعه فلا يشتري أحداً منه شيئاً، فإذا بارت عليه ذهب بها إلى آزر فيضرب رأسها فيه ويقل: اشربي ثلاث مرات استهزاء منه بها وبقومه وما هم عليه من الضلال والجهالة، حتى فشي أمره بين الناس فاستهزأ به قومه وأهل بلدته.
وقال بعضهم: كان آزر ينحت الأصنام لفرط حبه لها فإذا كثرت عليه يبيعها وكان يعطيها لأولاده ويبيعوها، وكان يعطي إبراهيم الصنم ليبيعه فيربط إبراهيم في رقبته حبلاً ويبله في الماء ويسحبه على التراب ويرميه تحت أرجل الكلاب، ويلطخها بالعذرة ويقول: من يشتري ما يضره ولا ينفعه فقال له: أبوه ويحك لم لا يشترون منك؟ فقال: سوق آلهتكم كاسد، فقال له أبوه: فامدحه حتى يشترون منك لنأكل من ثمنه الخبز قال إبراهيم: كيف أمدحه إن قلت: سميع كذبت وإن قلت: بصير كذبت ?يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً? [مريم: 42] ، قال آزر: ?أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ? [مريم: 46] قال: نعم، قال آزر: ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? أي: حينا من الدهر حتى لا يجر عليك مني ما لا تريد فقال(1/324)
إبراهيم: ?سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي? [مريم: 47] معناه إنك مني سالم لا أوذيك لو آذيتني سألت الله تعالى لا يعاقبك بأذيتي، وإنما قال ?وَاهْجُرْنِي مَلِيَّاً? لأنه أعاب الصنم عنده بثلاثة أشياء قال: لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عن عبده فلا تصلح له الربوبية، إنما الربونية لرب يأتي إليه في ليلة ظلماء فيقضي حاجته، ويراه في ظلمة الليل ويسمع قوله ويعلم، ثم قال: وأما ما طلبت من الهجر بقولك اهجرني فقد هجرتك ولن تراني قط عندك، هذا فراق ليس بعده تلاق، ووداع ليس بعده اجتماع.
وقيل: إن إبراهيم أقام عند أبيه سبع عشرة سنة كاشف قومه وقال لهم: ?مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ? [الأنبياء: 52] يعني ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها قالوا: ?وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ? [الأنبياء: 53] يعني إننا نقتدي في عبادتها بأباءنا ونقلدهم قال: ?لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ? [الأنبياء: 54] .
ثم اظهر دينه -صلوات الله عليه وسلامه- قال: ?أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ العَالَمِينَ? [الشعراء: 75، 76، 77] فقالوا: من تعبد أنت يا إبراهيم؟ قال: رب العالمين، فقالوا: يعني النمروذ قال لا ?الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ? [الشعراء: 78 - 82] .
فلما ظهر أمره للناس حتى بلغ النمروذ الجبار دعاه: يا إبراهيم إلهك الذي بعثك وتدعوا الناس إلى عبادته وتذكر من قدرته، وتعظمها له على غيره صفة لنا فقال إبراهيم: ?رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ?، قال النمروذ: ?أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ? قال له إبراهيم: كيف تحي وتميت؟ قال: أخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته ثم أعفو عن الآخر فأكون قد أحييته فقال له إبراهيم عند ذلك إلزاماً على وجه يعجز الإتيان بنظيره ?فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ? فبهت عند ذلك النمروذ ولم يرد جواباً ولزمته الحجة كما قال تعالى ?فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ? [البقرة: 285] .
ثم إن إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله، وعجزها إلزاماً للحجة، فجعل ينظر وقتاً يخل فيه مكان الأصنام إلى أن حضرهم عيد، فإنهم كان لهم في كل سنة عيد يخرجون إليه يجتمعون فيه، وكانوا إذا رجعوا من(1/325)
عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان العيد قال آزر لإبراهيم: يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فخرج إبراهيم معهم، فلما كان في أثناء الطريق ألقى إبراهيم نفسه إلى الأرض، وقال إني سقيم أي: ضعيف اشتكي برجلي، فتوهموا صدقه وهو صريع على الأرض، فلما مضوا نادى واحداً منهم في آخرهم ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ? [الأنبياء: 57] فسمعه ذلك ثم رجع إبراهيم من الطريق إلى بيوت الأصنام والآلهة، فرآهم في مكان عظيم، واختلف في عدد تلك الأصنام فقيل: كانت اثنين أو ثلاثة وسبعين صنماً وقيل: كانت ثلاثمائة وستين صنماً، وكان بعض هذه الأصنام بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من نحاس وبعضها من حديد وبعضها من حجارة، وكان فيهم صنم عظيم من الذهب على رأسه تاج مرصع بالجوهر وعيناه ياقوتتان، والأصنام عن يمينه وشماله نصفان، فأصنام الفضة أقرب إليه من الحديد، والحديد أقرب إليه من الحجارة، وهم قد وضعوا بين يدي الأصنام طعاماً وقالوا إذا رجعنا وقد باركت الآلهة في طعامنا أكلنا، وهذه كانت عادتهم وكانت الشياطين تأكله فيزداد القوم بذلك طغياناً ويقولون: ربنا أكل طعامنا، وقيل: أنفا منا، فلما نظر إبراهيم إليهم وإلي ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء: ألا تأكلون، فلما لم يجيبوه قال لهم ?مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ? [الصافات: 92، 93] أراد باليمين القسم التي كان أقسم بها في قوله: ?وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم? أي: مال عليهم ضرباً لأجل اليمين التي أقسم بها، وجعل
يكسرهن بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الأكبر علق الفأس في عنقه، ثم خرج كما قاله تعالى ?فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ? [الأنبياء: 58] ضمير إليه راجع إلى كبيرهم، إلا الصنم الكبير فإنه تركه لعلهم يرجعون إليه فيظنون أنه فعل ذلك، وقيل: ضمير إليه راجع إلى إبراهيم أي: كسرهم السيد إبراهيم لعلهم يرجعون إليه أي: إلى دينه، فلما جاء القوم من عيدهم جاءوا إلى بيت آلهتهم فرأوها على تلك الحالة قالوا: ?قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ? [الأنبياء: 59، 60] وهو الذي صنع هذا، فبلغ النمروذ ذلك وأشراف قومه ?فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ? [الأنبياء: 61] عليه أنه هو فعل ذلك وكرهوا أن يأخذوه بغير ذنبه.
وقيل: معناه لعلهم يشهدون ما صنع به ونعاقبه، فلما أحضروه قالوا: ?قَالُوا أَأَنْتَ(1/326)
فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا? [الأنبياء: 62، 63] فإنه غضب من أن تعبدوا معه هذه الأصنام الصغار، وهو أكبر منها فكسرهم ?فَاسْأَلُوَهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 63] .
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات في قوله إنه سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم، وقوله: عن سارة زوجته هي أختي» (1) .
قال العلماء: ما قاله السيد إبراهيم في هذه الثلاث يشبه الكذب وليس كذباً في الحقيقة، لما قدمنا من أن الأنبياء معصومون من الكبائر والصغائر عمداً وسهواً قبل النبوة وبعدها، وقوله صدق عند البحث عنه والتفتيش، وإطلاق الكذب باعتبار فهم السامعين لا باعتبار الحقيقة، أما قوله: إني سقيم فمعناه أنه ساقم، لأن الإنسان عرضة للأسقام وسقيم لما قدر على من الموت، أو كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت، أو سقيم القلب أي: مغتم بسبب ضلالتهم، وأما قوله: بل فعله كبيرهم فمعناه أنه سبب في الفعل لا أنه فعل حقيقة فالإسناد إليه باعتبار السببية، أو الإسناد إلى الكبير مشروط بقوله: ?إِن كَانُوا يَنطِقُونَ? أو الوقف عند قوله: ?بَلْ فَعَلَهُ? أي: فعله فاعله وكبيرهم هذا ابتداء كلام، وأما قوله في حق زوجته سارة هي أختي فمعناه: أنها أخته في الإسلام.
قال ابن العماد: ويجوز أن يكون الله أذن له لقصد الصلاح وتوبيخهم والاحتجاج عليهم كما أذن يوسف - عليه السلام - حين آمر منادياً فقال لإخوته: أيتها العير إنكم لسارقون، على أن العلماء اجمعوا على أن الكذب جائز وواجب في صور عند الحاجة كما سنذكر ذلك في باب علامات المنافق.
فلما قال لهم إبراهيم ذلك، ?فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ? [الأنبياء: 64] اختلفوا في معنى هذه الآية فقيل: معناها إنكم الظالمون لهذا الرجل في سؤالكم إياه وهذه ألهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فأسالوهم، وقيل: معناها إنكم أنتم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير، ?ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ? [الأنبياء: 65] متحيرين مكسورين منكوسين وعلموا إنها لا تنطق ولا تبطش فقالوا: ?لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ? [الأنبياء: 65] فلما اتجهت له الحجة
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1225، رقم 3179) ، ومسلم في صحيحه (4/1840، رقم 2371) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/327)
عليهم فقال لهم إبراهيم: ?أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ? [الأنبياء: 66، 67] فلما ألزمهم الحجة وعجزوا عن الجواب قالوا: ?حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ? وسنذكر تحريقه بالنار في الكلام على السواك إن شاء الله تعالى.
فائدة: أفاد ابن الملقن أن إبراهيم كان يتكلم أولاً بلغة السريانية فبلغه يوماً أن النمروذ يريد قتله، فهرب منه فأرسل رسله في طلبه فقالوا: لا نعرفه، فقال: إذا رأيتم فتى يتكلم بالسريانية فردوه، وكان هناك نهر فعبر إبراهيم النهر فأدركه رسل النمروذ، واستنطقوه فحول الله لسانه عبرانياً وهو لا يعرف فكلمهم باللغة العبرانية، وكان ذلك التحويل حين عبر النهر فسميت تلك اللغة بذلك.
فائدة أخرى: إبراهيم -صلوات الله والسلام عليه- من أولي العزم من الرسل الذي أشار الله لهم بقوله العزيز: ?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ? [الأحقاف: 35] واختلف في عددهم على أقوال أصححها: أنهم خمسة قاله شيخنا الجلال السيوطي في الإتقان: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، وقد نظمتهم في بيت فقلت:
أولي العزم إبراهيم موسى محمد ... وعيسى ونوح ذا الصواب المحمود
وسموا بأولي العزم لثباتهم وصبرهم على الشدائد أكثر من غيرهم.
قال العلماء: أفضل الأنبياء بعد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد اتفاقهم على أن نبينا أفضل المخلوقات فقيل: آدم، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى.
لكن قال شيخنا العلامة الشيخ جلال الدين السيوطي في شرح نظمه لجمع ألوامع أفضل الخلق بعده - صلى الله عليه وسلم - إبراهيم الخليل نقل بعضهم الإجماع على ذلك، وبعد الخليل موسى وعيسى ولم أقف على نقل أيهم أفضل، والذي يقدح تفضيل موسى، ثم عيسى ثم نوح وهؤلاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أولوا العزم المذكورون في سورة الأحقاف أي: أصحاب الجد والاجتهاد ثم بعدهم سائر الرسل فهم أفضل من الأنبياء.
وذكر الشيخ عز الدين ابن جماعة أن ابن عبد السلام في كتابة شجرة المعارف فيما نقله عنه البرهان الفزاري أن المرسلين أفضل من النبيين، ثم الأنبياء فهم أفضل من الملائكة عند الجمهور.
وذهب المعتزلة وبعض أصحابنا كالقاضي والأستاذ أبي إسحاق وأبي عبد الله الحكم والإمام في المعالم وليس المراد فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو عليه.(1/328)
وقال السبكي: لو أقام الإنسان عمره لم يخطر بباله مسألة المتفضل بين الملائكة والأنبياء لم يسأله الله عن ذلك، وسنذكر الأدلة من الطرفين في محله أن شاء الله تعالى.
وقد قدمنا أن إبراهيم - عليه السلام - عاش مائة سنة على خلاف في ذلك.
فائدة أخرى: أفاد البغوي في تفسير قوله تعالى ?يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ ... ? [آل عمران: 65] الآية، أنه كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة صلى الله عليهم وسلم.
ويشكل على اتفاق العلماء على أن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل المخلوقات ما ورد في الصحيح: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا خير البرية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ذاك إبراهيم - عليه السلام -» (1) .
فإن هذا الحديث يدل على أن نبينا إبراهيم أفضل من نبينا ومن سائر الأنبياء.
وأجاب النووي عنه بوجهين الأول: أنه قال تواضعاً وأدباً، الثاني: أنه قال ذلك قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به.
خاتمة: لما أراد الله تعالى قبض روح إبراهيم أرسل إليه ملك الموت في صورة رجل هرم، وكان إبراهيم لا يأكل إلا مع الضيف، فبينما هو جالس يأكل مع الضيف، فإذا هو بشيخ يمشي في الخلوة فبعث إليه حماراً فركبه حتى وصل، فأجلسه على الطعام وقال له: كل، والملائكة لا يأكلون ولا يشربون، فجعل الشيخ يريد يأخذ اللقمة حتى يجعلها في فيه فيدخلها في عينه ومرة في أذنه ثم يدخلها، وكان إبراهيم سأل أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت فقال إبراهيم حين رأى حاله: ما بالك يا شيخ تصنع هكذا؟ قال الشيخ: من الكبر، فقال له: إبراهيم ابن كم أنت؟ فأخبره،
_________
(1) أخرجه أبو داود (4/218، رقم 4672) ، والترمذي في سننه (5/446، رقم 3352) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في السنن الكبرى (6/520، رقم 11692) ، وأحمد في مسنده (3/184، رقم 12930) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/315) ، والطبراني في المعجم الأوسط (2/100، رقم 1382) ، والخلال في السنة (1/192، رقم 207) .
قال الخلال عقب هذا الحديث: قد روي غير هذا أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض» وقال الله عز وجل: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وذهب فيه إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد التواضع به.
قلت: ومراد الخلال أن يشير بذكر الآية أنه إذا كانت الأمة خير أمة أخرجت فنبي الأمة خير الأمم التي خلقها الله.(1/329)
فوجد إبراهيم عمر الشيخ قد يزيد على عمره بسنتين فقال: يا بني إنما بيني وبينك سنتان فإذا بلغت عمرك صرت مثلك، فحينئذ قال إبراهيم: اللهم اقبضني إليك قبل ذلك فقام الشيخ فقبض روحه قدسها الله تعالى في الحال.
* * *(1/330)
المجلس السادس عشر
في الكلام على حديث «بني الإسلام على خمس»
وذكر بعض ترجمة عبد الله بن عمر وذكر فوائد ولطائف
وأفتتح هذا المجلس بخطبة مناسبة: الحمد لله الذي رفع قدر من أقر بالشهادتين، ونصب الدليل على وجود ذاته، وخفض قدر من لم يجزم بوحدانيته، ولم يعترف بقدم صفاته، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي - صلى الله عليه وسلم -، الذي جاء بالدين، وجاءه الفتح المبين، وكسر جيش الكافرين وأسكن الرعب في قلوب المارقين، ببركاته وعلى آله وصحبه وزوجاته وذريته صلاة وسلاماً دائمين.
باب دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ
قَالَ البُخَارِي:.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» .
قوله «حدثنا عبيد موسى قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان (1)
عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر» هذا الإمام الصالح عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المكي، زاهد الصحابة وعالمهم، أسلم بمكة قديماً مع أبيه وهو صغير، وهاجر معه، ذكره البخاري في الهجرة.
قال ابن الملقن: ولا يصح قول من قال: إنه أسلم قبل أبيه وهاجر واستصغر في غزوة أحد فلم يحضرها، وحضر الخندق وما بعدها من الغزوات.
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/117) قوله: «حنظلة بن أبى سفيان» هو قرشي مكي من ذرية صفوان بن أمية الجمحي.
وعكرمة بن خالد هو: ابن سعيد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ثقة متفق عليه، وفى طبقته عكرمة بن خالد بن سلمة بن هشام بن المغيرة المخزومي، وهو ضعيف، ولم يخرج له البخاري، نبهت عليه لشدة التباسه، ويفترقان بشيوخهما، ولم يرو الضعيف عن ابن عمر.
زاد مسلم في روايته عن حنظلة قال: سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوساً أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت.. فذكر الحديث.(1/331)
ومن فضائله: أنه أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، من العبادلة الأربعة، وهو أكثر الصحابة رواية بعد أبي هريرة، وهو أحد الساردين للصوم فإنه كان في الصحابة جماعة يسردون الصوم أي: يصومون الدهر عبد الله بن عمرو والده عمر بن الخطاب وعائشة وأبو طلحة وحمزة.
ومن فضائله: أنه كان لا ينام إلا قليلاً وروي عنه أنه قال: رأيت في المنام كان ملكين أخذاني وذهبا بي إلى النار، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، فلقينا ملك آخر فقال لي: لم ترع، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل» (1) ، وكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلاً.
ومن فضائله: أنه كان إذا اشتد عجبه بشيء من ماله قربه لربه، وكان أرقاءه قد عرفوا ذلك منه فربما شمر أحدهم ولزم المسجد، فإذا رآه ابن عمر على تلك الحالة الحسنة أعتقه، فيقول أصحابه: والله ما بهم إلا أن يخدعوك، فيقول: من خدعنا بالله انخدعنا.
وكان له عبد يقال له: نافع قال ابن الملقن: أعطى فيه عشرة آلاف دينار فامتنع من بيعه فقيل له: لم تمتنع أتنتظر أكثر من ذلك فقال: بل ما هو خير من ذلك هو حر لوجه الله.
وقيل: إن إعتاقه لنافع كان وهو واقف يصلي، فقد ذكر ابن الجوزي: أن عبد الله بن عمر كان قائماً يصلي ومولاه نافع قام ناحية فأشار ابن عمر إلى مولاه نافع بيده وهو في الصلاة، فلم يفهم نافع إشارته، فلما سلم من صلاته قال له نافع: يا مولاي رأيتك تشير إلي في صلاتك ولم أفهم إشارتك قال: إني قرأت ?لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ? [آل عمران: 92] ولم يكن في بهذه الساعة شيء أحب إليَّ منك فأشرت إليك أنت حر لوجه الله تعالى.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/388، رقم 1105) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كأن بيدي قطعة إستبرق، فكأني لا أريد مكاناً من الجنة إلا طارت إليه، ورأيت كأن اثنين أتياني أرادا أن يذهبا بي إلى النار، فتلقاهما ملك فقال: لم ترع خليا عنه، فقصت حفصة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إحدى رؤياي ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (15/547، رقم 7070) ، وإسحاق بن راهوية (1/191، رقم 7) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (4/147) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/501، رقم 4417) .(1/332)
وأما زهده وكرمه وكثرة صدقاته فقد شاع ذلك عنه وذاع، فإن الله قد فتح عليه بالمال الكثير.
وروي عن ميمون بن مهران قال: أتت ابن عمر اثنان وعشرين ألف دينار في مجلس، فلم يقيم حتى فرقها، وربما تصدق في المجلس الواحد بثلاثين ألفاً.
وما مات حتى أعتق ألف إنسان أو يزيدون على ذلك، وكان لا يأكل طعاماً إلا على خوانه.
وكان يحيي الليل ثم يقول: أسحرنا فيقال: لا فيعاود الصلاة ثم يقول: أسحرنا فيقال: نعم فيقعد ويستغفر ويدعو حتى يصبح.
وكان إذا سبح قال: اللهم اجعلني من أعظم عبادك نصيباً في كل خير تقسمه الغداة، ونور تهدي به، ورحمة تنشرها، ورزق تبسطه، وضر تكشفه، وبلاء ترفعه، وفتنة تصرفها.
وشرب - رضي الله عنه - يوماً ماء مبرداً فبكى فقيل له: ما يبكيك قال: ذكرت آية في كتاب الله وهي ?وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ? [سبأ: 54] فعرفت أن أهل النار لا يشتهون شيئاً شهوتهم الماء البارد.
وقال جابر - رضي الله عنه -: ما أدركت أحداً إلا مالت به الدنيا ومال بها إلا عبد الله بن عمر.
وفضائله في المتابعة للآثار وإعراضه للدنيا ومقاصده واحتياطه في الفتوى وعلمه بالمناسك غزيرة، ومناقبة لا تحصى شهد له الشارع بالصلاح، وعاش بعد ذلك بزيادة على ستين سنة يترقى في الخيرات.
ومن فضائله: ما رواه ابن سبع السبتي في شفاء الصدر عنه - رضي الله عنه -: أنه خرج في بعض أسفاره فبينما هو يسير إذ بقوم وقوف فقال: مال هؤلاء قالوا: أسد على الطريق قد أخافهم فنزل عن دآبته ثم مشى إليه حتى أخذ بإذنه ونحاه عن الطريق حتى جاءت القافلة، وقال: إني استحي من ربي - عز وجل - أن يرى من قلبي أني أخاف غيره قال: ما كذب عليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما سلطت على ابن آدم من مخافته غير الله، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم تسلط عليه ولو أنه لم يرى إلا الله لما وكله إلى غيره نقله الدميري في الأسد.
ووقع له مرة واقعة لطيفة قال نافع: خرجت مع ابن عمر رضي الله عنهما إلى بعض نواحي المدينة المشرفة ومعه أصحابه، فنزلنا بواد فوضعوا سفرة لهم يأكلون(1/333)
طعاماً إذ مر عليهم قطيع غنم يتبعهم عبد أسود صغير السن فقال له: عبد الله بن عمر هلم للعيش فأصب معنا، قال: يا سيدي أنا صائم، فتعجب منه وقال له: في مثل هذا اليوم في هذا الحر العظيم خلف هذا الغنم في هذه الأودية والشعاب؟ قال: نعم يا سيدي اغتنم الأيام الفانية لأيام الباقية، فتعجب عبد الله من كلام هذا العبد وحسن نيته وأدبه فقال له: يا أسود بعنا من غنمك شاة نذبحها ونطعمك من لحمها ونعطيك ثمنها فقال: يا سيدي الغنم ليست لي وإنما هي لسيدي فقال ابن عمر: إذا سألك سيدك عنها فقل له: أكلها الذئب فقال: العبد إذا قلت له أكلها الذئب فأين الله، فبكى ابن عمر وجعفر يقول: قال الراعي فأين الله يعني إذا كذبت على مخلوق فكيف بي إذا كذبت على مخلوق، عرضت على الخالق فلما دخل ابن عمر المدينة سأل عنه فاشتراه وأعتقه.
ومن فضائله: نقل عن نافع أن ابن عمر كان مرضياً فاشتهى سمكه فالتمست له المدينة فلم توجد حتى وجدت بعد كذا وكذا فاشتريت بدرهم ونصف وشويت وحملت له على رغيف، فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها إليه فقال له الغلام: أصلحك الله اشتهيتها منذ كذا فلم نجدها وجدناها واشتريناها بدرهم ونصف، أمرت بدفعها نحن نعطيه ثمنها فقال: لفها وادفعها إليه فقال: الغلام للسائل بعد أن دفعها إليه هل لك أن تأخذ درهماً وتضع هذه السمكة، فأخذ منه درهماً وردها فعاد الغلام إلى عبد الله وقال له: دفعت درهماً وأخذتها منه ثم وضعها بين يديه وقال: إني دفعتها إليه فرأيته محتاجاً إلى ثمنها فاشتريتها منه بدرهم ورأيته أشتد سروراً بالدرهم منه بالسمكة فقال: فادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيما أمريء اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر الله له» (1) .
_________
(1) أخرجه ابن عدي في الكامل (5 /126، ترجمة 1289 عمرو بن خالد أبو خالد الكوفي) وقال: عن وكيع قال: كان عمرو بن خالد في جوارنا يضع الحديث، فلما فطن به تحول إلى واسط.
وعن يحيى قال: عمرو بن خالد كوفي كذاب غير ثقة ولا مأمون حدث عنه أبو حفص الأبار وغيره، يروي عن زيد بن علي عن آبائه وقال في موضع آخر: عمرو بن خالد الواسطي ليس بثقة.
وروي عن يحيى بن معين قال: عمرو بن خالد الذي يروي عنه أبو حفص الأبار شيخ كوفي كذاب يروي عن زيد بن علي عن آبائه عن علي - رضي الله عنه -.
وروي عن أحمد بن حنبل قال: عمرو بن خالد الواسطي كذاب، سمعت بن حماد يقول: عمرو بن خالد كوفي روى عنه إسرائيل منكر الحديث، وقال النسائي: عمرو بن خالد يروي عن حبيب بن أُبي، روى عنه الحسن بن ذكوان كوفي ليس بثقة.
ثم أخرج الحديث من طريقه، وترجم له أيضاً ابن حبان في المجروحين (2/76، ترجمة 624) وقال: كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها من غير أن يدلس، كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأورد له هذا الحديث.
وانظر ترجمته أيضاً وأقوال العلماء فيه في: الميزان للذهبي (5/311، ترجمة 6365) .(1/334)
روى لعبد الله بن عمر من الأحاديث ألفاً حديث وستمائة حديث وثلاثون حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها على مائه وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بإحدى وثلاثين.
مات - رضي الله عنه - بفخ قرب مكة يسمى واد الزاهر سنة ثلاث وقيل: أربع وسبعين بعد قتل ابن الزبير بثلاثة أشهر عن أربع وثمانين سنة وقيل: وثمانين سنة.
فائدة: مذهب البخاري أن أصح الأسانيد ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر وهذه المسألة وقع فيها خلاف في علوم الحديث فقيل: أصح الأسانيد ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه وقيل: أصحها ما رواه ابن سيرين عن عبيدة عن علي وقيل: أصحها ما رواه الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه علي وقيل: أصحها كما قاله إمام الصنعة الحافظ البخاري: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر.
فعلى هذا إذا زيد في الإسناد راو بعد مالك، فأصح الأسانيد ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، ولاجتماع الأئمة الثلاثة في هذا الإسناد يسمى سلسلة الذهب.
لكن المعتمد المختار كما قاله النووي: أنه لا يحكم في إسناد أنه أصح الأسانيد مطلقاً، وفي هذا الإسناد الذي ساقه البخاري أعني قوله: حدثنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر من الطريف أن رواته مكيون قرشيون، إلا عبيد الله فإنه كوفي.
«قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»
قال النووي: أدخل البخاري هذا الحديث في هذا الباب لينبئ أن الإسلام يطلق على الأفعال وأن الإسلام والإيمان قد يكونان بمعنى واحد، فقوله: «بني الإسلام على(1/335)
خمس» بدون دعائم أو قواعد أو خصال (1) .
وفي صحيح مسلم «بني الإسلام على خمسة» (2) مقدرة بخمسة أشياء، أو أركان، أو أصول، وها هنا دقيقة جليلة نحوية وهي: أن أسماء العدد إنما يكون تذكيرها بالتاء، وتأنيثها بسقوط التاء، إذا كان المميز مذكوراً أما لو لم يكن مذكوراً فيجوز فيها الأمران صرح به النحاة.
قال الكرماني: فإن قيل: الإسلام هو الإتيان بالشهادتين فقط، ولهذا حكم بإسلام من تلفظ بها، فلما ذكر الأخوات أعني أقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان معهما؟
فالجواب: أنه ذكر الأخوات معهما تعظيماً لأخواتها، قال النووي: حكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين وإنما أضيف الصلاة ونحوها لكونها إظهار شعائر الإسلام تعظيمها، وقيامه بها ينم عن استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله.
فإن قيل: الإسلام هو هذه الأمور الخمسة والمبني لابد أن يكون غير المبني عليه، وإلا يلزم عليه بناء الشيء على نفسه.
فالجواب: أن الإسلام عبارة عن المجموع والمجموع غير كل واحد من أركانه وأحسن من هذا الجواب ما أجاب به الشمني في حواشي مغني اللبيب: ولا يرد معه السؤال أصلاً وهو أن يقال: إن على هنا بمعنى من أي: بني الإسلام من خمس، وبه
_________
(1) قال ابن حجر في فتح الباري (1/117) قوله: «على خمس» أي: دعائم. وصرح به عبد الرزاق في روايته، وفي رواية لمسلم «على خمسة» أي: أركان.
فإن قيل: الأربعة المذكورة مبنية على الشهادة، إذ لا يصح شيء منها إلا بعد وجودها، فكيف يضم مبني إلى مبنى عليه في مسمى واحد؟
أجيب: بجواز ابتناء أمر على أمر ينبني على الأمرين أمر آخر.
فإن قيل: المبني لا بد أن يكون غير المبني عليه.
أجيب: بأن المجموع غير من حيث الانفراد، عين من حيث الجمع، ومثاله البيت من الشعر يجعل على خمسة أعمدة أحدها أوسط والبقية أركان، فما دام الأوسط قائما فمسمي البيت موجود، ولو سقط مهما سقط من الأركان، فإذا سقط الأوسط سقط مسمى البيت، فالبيت بالنظر إلى مجموعه شيء واحد، وبالنظر إلى أفراده أشياء، وأيضاً فبالنظر إلى أسه وأركانه، والأس أصل، والأركان تبع وتكملة.
(2) انظر الحديث عند مسلم بهذا اللفظ في صحيحه (1/45، رقم 16) من حديث عبد الله بن عمر أيضاً.(1/336)
يندفع ما أورد على أمثاله.
فإن قيل: الأربعة الأخيرة مبنية على الشهادتين، لا يصح شيء منها إلا بعد الشهادة فالأربعة مبنية والشهادة مبنى عليها فلا يجوز إدخالها في سلك واحد.
فالجواب: أنه لا محذور في أن يبنى أمر على أمر ثم الأمران يكون مبنياً عليهما شيء آخر.
قال قيل: مفهوم هذا الحديث يقتضي إن لم يباشر الإسلام لا يصح منه، فيشكل عليه الصور التي يصح فيها إسلام الصبي بطريق التتبع ولم يباشر الإسلام بنفسه.
فالجواب: أن عموم هذا الحديث مخصوص بمنطوق قوله تعالى ?وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم? [الطور: 21] ويكون في الحديث دليل على تخصيص عموم مفهوم السنة بخصوص منطوق القرآن.
فإن قيل: لأي شيء لم يذكر الجهاد معها.
فالجواب عنه: بأنه فرض كفاية ولا يعين إلا في بعض الصور.
فإن قيل: ظاهر الحديث يقتضي أن من ترك شيئاً من الأربعة الأخيرة لا يكون مسلماً.
فالجواب: أن الإجماع صرف الحديث عن ظاهره فإن الإجماع قائم على أن الإنسان يدخل في الإسلام بالشهادتين، وإنما ذكر الباقي معها تعظيماً للشأن كما تقدم، فلا يخرج عن الإسلام بترك واحد منها.
قال البرماوي وغيره: أجمعوا على أنه لا يكفر بترك الصوم والصلاة، وأما قول أحمد بن حنبل بكفر تارك الصلاة فدليل آخر نحو «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» وسنذكر الجواب عنه في محله.
وقوله «شهادة أن لا إله إلا الله» وما عطف عليه مجرور بأنه بدل من خمس، بدل الكل من الكل، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: في أحدها شهادة أن لا إله إلا الله، أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره: منها شهادة أن لا إله إلا الله.
و «أن» في «أن لا إله إلا الله» مخففة من الثقيلة ولهذا عطف عليه «أن محمد رسول الله» .
والمراد بإقام الصلاة: المداومة أو مطلق الإتيان بها، والمراد بإيتاء الزكاة: إخراج جزء من المال على وجه مخصوص، وتسمى هذه الخمسة أركان الإسلام ودعائمه.
قال العلماء: شبه - صلى الله عليه وسلم - الإسلام بشيء له دعائم فذكر المشبه وأسند إليه ما هو(1/337)
خاص بالمشبه به، وهو البناء ويسمى ذلك استعارة بالكناية.
ووجه انحصار الإسلام في الخمسة المذكورة: أن العبادة إما قولية وهي الشهادتين، وغير قولية، وغير القولية إما روحي وهو الصوم، وإما فعلي وهو الصلاة، وإما مالي وهو الزكاة أو مركب منهما، وهو الحج.
وقدم - صلى الله عليه وسلم - الشهادتين على باقي الأركان لأنهما الأصل لبقية الأركان، لتوقف كل من الصلاة والزكاة وغيرهما عليهما، فقطب الأركان ومدارها على الشهادة فهما مكفرات للذنوب، وشفاء للقلوب من الأمراض والعيوب (1) .
لطيفة: مرض الشبلي فأرسل له الخليفة طبيباً نصرانياً وأوصاه به فعالجه فازداد مرضه، فتحير النصراني وقال للشبلي: يا شيخ المسلمين لو علمت أن شفاك في قطع عضو من أعضائي لفعلت فقال: شفائي في قطع زنارك فقطعه وأسلم، فوثب الشبلي كأن لم يكن به مرض، فلما سمع الخليفة قال: ظنت أني أرسلت الطبيب إلى المريض، وإنما أرسلت المريض إلى الطبيب.
لطيفة أخرى: قال الجنيد قدس الله روحه: خرجت يوماً من الأيام إلى الحج إلى بيت الله الحرام ووجهت الناقة إلى جهة الكعبة، فتحولت إلى طريق القسطنطينية فرددتها نحو الكعبة، فتحولت نحو المدينة المذكورة، فتركتها وقلت في نفسي: لله في هذا سر عظيم خفي، وقلت: إلهي وسيدي ومولاي ليس لي حيلة إن كنت تريد أن تزودني عن بيتك فالأمر إليك كله لك، وجعلت الناقة تسير سيراً سريعاً حتى دخلت
_________
(1) قال ابن حجر في فتح الباري (1/118) : وقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة عن ابن عمر بتقديم الصوم على الحج، قال: فقال رجل: والحج وصيام رمضان. فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما لأنه لم يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه، ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجهين، ونسي أحدهما عند رده على الرجل، ووجه بعده أن تطرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة -من وجه آخر عن حنظلة- أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أنه روي بالمعنى.
ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة، أفيقال: إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد، والله أعلم.(1/338)
البلد فرأيت أهلها في قيل وقال، فسئلت عن ذلك فقيل: إن ابنة الملك قد أصابها الجنون، وهم يطلبون لها طبيباً يداويها فقلت في نفسي وعزة ربي لهذا صرفت عن بيته في هذا العام فقلت: أنا أداويها فأدخلوني فنادت من داخل الباب: يا جنيد كم تجذبك الناقة إلينا وأنت تردها، فلما رأيتها فإذا هي من أجمل النساء، والفل في عنقها ورجليها فقالت: ما أحسنك من طبيب يا طبيب القلوب صف لي صفة ننجو بها من الكروب قال: فقلت لها: قولي: لا إله إلا الله محمد رسول الله فرق صوتها ذلك فسقط الفل من عنقها ورجليها فقال أبوها: ما أحسنك من طبيب فداوني بدوائك، فقلت له: قل كما قالت، فأسلم وأسلم معه خلق كثير، ثم أتت أمها وفرحت وأسلمت وأسلم كل من كان في البلد معهم، قال الجنيد: فحمدت الله على ذلك وعزمت على الخروج، فقالت الجارية: يا جنيد لا تعجل بالخروج فإني سألت الله أن يتوفاني وأنت حاضر حتى تصلي على وتحضر جنازتي، ثم تشهدت وخرت ميتة رحمة الله تعالى عليها، ولله در من قال:
يا منقذ الجهالة من ظلماتها ... يا خير من حطت النزال
من ذاق حبك لم يزل متلهجاً ... أنت الإله القادر الفعال
انشأتني وهديتني ورحمتني ... فاغفر فأنت المنعم المفضال
ومننت منك تفضلاً وتكرماً ... أنت الإله وما عداك محال
وروي أن الفرزدق الشاعر كان مقصراً في طاعة الله، فماتت زوجته فخرج في جنازتها وجهاء البصرة وفيهم الحسن، فلما دفنت قام الفرزدق على قبرها يقول:
إذا جاء يوم القيامة قائداً ... عنيفاً وسواقاً ليسوق الفرزدق
أخاف وراء القبر إن لم تعاقبني ... أشد من القبر التهاباً وأضيفا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى ... إلى النار مغلول القلادة أزرقا
فلما فرغ ونهض الناس لينصرفوا قال الفرزدق للحسن: يا أبا سعيد أما تسمع ما يقول الناس؟ قال: ما يقولون؟ قال يقولون: اجتمع في بهذه الجنازة خير الناس وشر الناس يعنوك ويعنوني، فقال الحسن: ما أنا بخيرهم وما أنت بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم فقال: شهادة إن لا إله إلا الله منذ ستين سنة فبكى الحسن ثم التزمه وقال له الفرزدق: لقد كنت من أبغض الناس إلي، وإنك اليوم من أحب الناس إلي.
بشارة: ورد في الحديث «إن العبد إذا قال لا إله إلا الله يصعد بها الملك إلي السماء فيتقبله في السماء ملك آخر فيقول: من أين؟ فيقول: وأنت إلى أين؟ فيقول(1/339)
أنا صاعد بشهادة فلان إلى الله تعالى فيقول الآخر: وإنا نازل إليه من عند الله ومعي براءة من النار» (1) .
يقول الله تعالى: عبادي سارعوا إلى بابي أكتبكم من أحبابي، سارعوا إلى خدمتي أسبغ عليكم نعمتي، سارعوا إلى دعائي وسؤالي غفر لكم ولا أبالي، سارعوا إلى الطاعة أغفر لكم في الحال والساعة، يا عبدي كل من قصد باب ملك وجد عليه بواباً ثم المرتب ثم الحاجب، ثم صاحب الستر قبل أن يصل إلى الملك، وأنا يا عبدي ليس على بابي بواب ولا دوني حجاب، متى أتيت بابي وقصدتني وصلت إلي ووجدتني، وإلى ذلك أشار من قال:
إذا ما الليل غلق كل باب ... وأسدلت الملوك لها ستورا
أتاك القاصدون بكل معنى ... أصابوا الباب مفتوحاً منيرا
من أركان الإسلام الصلاة، وهي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين، بل أفضل العبادات البدنية فرضها ونفلها، فلهذا ذكرها - صلى الله عليه وسلم - بعد الشهادتين وقدمها على بقية الأركان، وإنما قلنا أفضل العبادات البدنية الصلاة احتراز عن شيئين، عن العبادات القلبية كالأيمان والمعرفة والتوكل ونحوهما، فإنها أفضل من العبادات البدنية، وعن العبادات المالية فإن العلماء اختلفوا فيها في العبادات البدنية.
فذهب الفارقي إلى أن المالية كالزكاة أفضل من البدنية «الصلاة» لتعدي النفع بها، ونازعة في ذلك ابن عبد السلام، ورجح أن الصلاة أفضل من الزكاة قال: ويؤيده أن البيهقي نقل عن الشافعي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الصلاة أعظم من الزكاة» (2) والله أعلم.
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) هذا الخبر لم نقف عليه عند البيهقي، وربما رواه الشافعي في مذهبه القديم وأسنده، فإننا وجدنا أن الشافعي رحمه الله أتى به في الأم (1/255) ولكن لم يشر إلى أنه حديث وذلك في: فصل الحكم في تارك الصلاة، أخبرنا الربيع قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: من ترك الصلاة المكتوبة ممن دخل في الإسلام قيل له: لم لا تصلى؟ فإن ذكر نسياناً قلنا: فصل إذا ذكرت وإن، ذكر مرضاً قلنا: فصل كيف أطقت قائماً أو قاعداً أو مضطجعاً أومومئاً، فإن قال: أنا أطيق الصلاة وأحسنها، ولكن لا أصلى وإن كانت علي فرضاً، قيل له: الصلاة عليك شيء لا يعلمه عنك غيرك، ولا تكون إلا بعملك، فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك، «فإن الصلاة أعظم من الزكاة» والحجة فيها ما وصفت من أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال: «لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه لا تفرقوا بين ما جمع الله» .(1/340)
ولها فضائل كثيرة منها: أنها تنهى من دوام عليها عن الفحشاء والمنكر ويرزقة الله التوبة ببركتها قال الثعلبي في قوله تعالى ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ? [العنكبوت: 45] .
قال أنس - رضي الله عنه -: كان رجل يصلي الخمس مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه فأخبروا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: «إن صلاته تنهاه يوماً» ، فلم يلبث أن تاب وحسنت توبته وحسن حاله فقال: «ألم أقل لكم إن صلاته تنهاه» (1) .
واتفق من الوقائع كما حكاه النيسابوري: أن رجلاً رواد امرأة عن نفسها فأخبرت بذلك زوجها فقال: قولي له: صل خلف زوجي أربعين صباحاً حتى أطيعك، فقالت له: ففعل ثم دعته إلى نفسها فقال: إني تبت إلى الله تعالى فأخبرت زوجها فقال: صدق الله تعالى في قوله الحق ?إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ?.
قال في روض الأفكار: واعلم أن مثل الصلاة مثل ملك اتخذ عرساً، واتخذ وليمة هيأ فيها ألوان الأطعمة والأشربة، لكل لون لذة، وفي كل لون منفعة، فكذلك الصلاة دعاهم الرب سبحانه وتعالى إليها وهيأ لهم فيها أفعالاً مختلفة تعبدهم بها، ليلذذهم بكل نوع من العبادة فالأفعال كالأطعمة، والأذكار كالأشربة.
قال العلامي في تفسيره: الصلاة عرس الموحدين، فإنه يجتمع فيها ألوان العبادة كما أن العرس يجتمع فيه ألوان الطعام، فإذا صلى العبد ركعتين يقول له الله تعالى: عبدي مع ضعفك أتيت بألوان العبادة قياماً وركوعاً وسجوداً وقرأةً وتهليلاً وتحميداً وتكبيراً وسلاماً، فأنا مع جلالي وعظمتي لا يجمل مني أن أمنعك جنة فيها ألوان النعيم، أوجبت لك الجنة بنعيمها كما عبدتني بأنواع العبادة، وأكرمك برؤيتي كما عرفتني بالوحدانية، فإني لطيف، أقبل عذرك وأقبل منك الخير برحمتي، فإني أجد من أعذبه من الكفار، وأنت لا تجد إليها غيري، يغفر سيئاتك ويكفر عنك الذنوب والأوزار، عبدي لك بكل ركعة قصر في الجنة، وبكل ركوع حوراء، وبكل سجود نظرة إلى وجهي الكريم، ولله در القائل:
إلا في الصلاة الفضل والخير جمع ... لأن بها الأبواب لله تخضع
ومن قام بالتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد مولاه يقرع
وأول شرع من شرائع ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
_________
(1) لم نقف عليه.(1/341)
نرفع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديناً يبقى ولا ما نرفع
أيها العبد العاصي كلما أمرتك النفس بالمعاصي والشهوات فاستعن عليها بالصلوات، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، من داوم عليها شرب من الحوض والكوثر، والصلاة تنهى عن المنكرات، الصلاة تكفر الخطيئات، الصلاة ترفع الدرجات، الصلاة تقضي الحاجات، الصلاة فيها القرب والمناجات.
الركن الثالث من أركان الإسلام: الزكاة وإنما ذكرها - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة لكونها قرينة الصلاة في كتاب الله - عز وجل - فإن الله تعالى لم يذكر الصلاة في القرآن إلا وقرنها بالزكاة غالباً قال الله تعالى ?وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ? [المزمل: 20] وقال تعالى ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ? [الحج: 41] إلى غير ذلك من الآيات.
وإنما قرنها بها لأن الصلاة حق الله تعالى والزكاة حق عباده، ومرجع جميع العبادات إليهما يحصل التعظيم لأمر الله والشفقة على خلقه، لأنها قنطرة الإسلام وكم ورد في فضائلها من آيات أحاديث.
وكم ذكر العلماء لها فضائل وفوائد منها: أنها تطهر صاحبها من الذنوب والخطايا ويدل على ذلك القرآن العظيم قال تعالى ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا? [التوبة: 103] ، والصدقة تشمل الزكاة والصدقة المستحبة، قال العلماء: الكافر يحرم دمه وماله بأخذ الجزية، ومن كرم الله تعالى أن المؤمن يحرم لحمه ودمه على النار في الآخرة إذا أخرج الزكاة بطيب نفس.
ومن فوائد الصدقة أيضاً: أنها تطهر المال قال - صلى الله عليه وسلم - «يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة» (1) .
ومن فوائدها أنها ترفع البلاء والأمراض قال - صلى الله عليه وسلم -: «الصدقة تسد سبعين باباً من الشر» (2) .
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/477، رقم 15962) عن أبي وائل يحدث عن قيس بن أبي غرزة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبيع في السوق ونحن نسمي السماسرة فقال ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الكبير (18/355، رقم 905) .
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/274، رقم 4402) عن رافع بن خديج.
ورواه الديلمي في الفردوس (2/413، رقم 3835) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/109) : رواه الطبراني في الكبير وفيه: حماد بن شعيب، وهو ضعيف.
وحماد بن شعيب ترجم له ابن عدي في الكامل (2/242، ترجمة 419 حماد بن شعيب الحماني التميمي) قال أحمد بن سعد سألت يحيى بن معين عن حماد بن شعيب فقال: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وعن يحيى قال: حماد بن شعيب ليس بشيء، يقال له: أبو شعيب الحماني وهو كوفي، وفي موضع آخر قال: حماد بن شعيب ضعيف.
روي عن البخاري قال: حماد بن شعيب التميمي أبو شعيب الحماني كوفي عن أبي الزبير فيه نظر، وقال النسائي: حماد بن شعيب كوفي ضعيف.
ثم أخرج له ابن عدي هذا الحديث، وفي آخر ترجمته قال: ولحماد بن شعيب غير ما ذكرت من الحديث، وأحاديثه أكثرها مما لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه مع ضعفه.(1/342)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «داووا مرضاكم بالصدقة» (1) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/128، رقم 10196) ، وفي المعجم الأوسط (2/274، رقم 1963) عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/64) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير وفيه: موسى بن عمير الكوفي وهو متروك.
والحديث من طريقه عند الخطيب في تاريخ بغداد (6/333) وقال: تفرد بروايته موسى بن عمير، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/237) وقال: غريب، والقضاعي في مسند الشهاب (1/401، رقم 691) ، والبيهقي في السنن الكبرى (3/382، رقم 6385) وقال عقبه: تفرد به موسى بن عمير، وإنما يعرف هذا المتن عن الحسن البصري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً.
ورواه ابن عدي في الكامل (6/340، ترجمة 1819 موسى بن عمير القرشي) وروى ابن عدي هذا الحديث مع حديثين آخرين وقال: وهذه الأحاديث الثلاثة عن الحكم بهذا الإسناد ولا أعلم يرويها عن الحكم غير موسى بن عمير، وهي بهذا الإسناد أحاديث غير محفوظة، وقال في آخر ترجمته: وموسى بن عمير هذا له غير ما ذكرت أحاديث وعامة ما يرويه مما لا يتابعه الثقات عليه.
وأخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/493، رقم 815) قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، تفرد به موسى بن عمير، قال يحيى: ليس بشيء، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابعه الثقات عليه، قلت: وإنما روي هذا مرسلاً.
وكما رأينا أن البيهقي وابن الجوزي كلاهما قال: إن هذا الحديث يروى مرسلاً فوجدناه كما قالا عن الحسن رواه أبو داود في المراسيل (ص: 127، رقم 105) .
والحديث يروى من طرق أخرى فأخرجه البيهقي في شعب الإيمان (3/282، رقم 3556) عن ابن عمر.
ورواه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (3/282، رقم 3558) عن مطرف بن سمرة بن جندب عن أبيه مرفوعاً.(1/343)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كسى مسلماً ثوباً لم يزل في ستر الله ما دام عليه منه خيط أو سلك» (1) رواه الحاكم.
ولكونها قنطرة الإسلام شدد الله على المقصرين بقوله العزيز: ?وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ? [التوبة: 34، 35] .
قال ابن عمر كل مال تؤدي زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً، وكل مال لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن لم يكن مدفوناً.
ومعنى قوله: ?وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ? لا يخرجون الزكاة عنها، قال العلماء الأعلام: على الإنسان ولا أثم عليه إذا كان معه مال كثير وأخرج عنه الزكاة الواجبة فيه فقد قال عبد بن الله بن عمر: ما أبالي لو كان لي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وزكاته وأعمل بطاعة الله فيه.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نعم المال الصالح للرجل الصالح» (2)
فالمال الصالح هو
_________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/217، رقم 7422) عن حصين قال: كنت عند ابن عباس فجاء سائل فسأل فقال له ابن عباس: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: وتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، وتصلي الخمس؟ قال: نعم، قال: وتصوم رمضان؟ قال: نعم، قال: أما أن لك علينا حقاً، يا غلام اكسه ثوباً فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص 112، رقم 299) عن موسى بن علي قال: سمعت أبي يقول: سمعت عمرو بن العاص قال: بعث إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن آخذ علي ثيابي وسلاحي، ثم آتيه ففعلت، فأتيته وهو يتوضأ فصعد إلى البصر ثم طأطأ ثم قال: «يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله، وأرغب لك رغبة من المال صالحة» قلت: إني لم أسلم رغبة في المال إنما أسلمت رغبة في الإسلام فأكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده (4/197، رقم 17798) ، وابن حبان في صحيحه (8/6، رقم 3210) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/22، رقم 9012) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/91، رقم 1248) ، والديلمي في الفردوس (4/257، رقم 6757) جميعاً عمرو بن العاص.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/64) تعليقاً على هذا الحديث: رواه أحمد، وقال كذا في النسخة «نعما» بنصب النون وكسر العين، قال أبو عبيدة: بكسر النون والعين، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط وقال فيه: «ولكن أسلمت رغبة في الإسلام، وأكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم ونعما بالمال الصالح للمرء الصالح» ، ورواه أبو يعلي بنحوه، ورجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح.(1/344)
الزكي والرجل الصالح هو المزكي، نعم الملام والإثم على مانع الزكاة وإن كان ماله قليلاً، فإن ذا المال إذا لم يؤد حق الله وتصرف في ماله، فقد تصرف في حق المستخفين فيخشى عليه من تلفه في الدنيا وعقابه في الآخرة، فلهذا قال تعالى ?يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا? أي: على الكنوز نار جهنم فتكوى بها جباههم أي: فتحرق بها جباه كانزها وجنوبهم وظهورهم، وقال - صلى الله عليه وسلم - «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت عيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» (1) .
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يوضع دينار على دينار ودرهم على درهم، ولكن يوسع له حتى يوضع كل درهم ودينار في موضع على حده.
فإن قيل: لم خص الله سبحانه وتعالى الجباه والجنوب والظهور بالكي، دون باقي البدن؟
فالجواب: إنما حض الله هذه بالكي لأن الغني صاحب الكنز إذ رأى الفقير قبض جبهته، ووارى ما بين عينيه وعبس بوجهه في وجهه فإذا ألح عليه الفقير جنبه إليه معرضاً عنه، فإذا وقف ولم يبرح أعطاه وتركه وانصرف، فعاقب الله هذه الأعضاء لذلك.
وبعض الصوفية ذكر لذلك توجيهاً آخر فقال: إنما خص الله الجباه والجنوب والظهور بالكي، لأن أصحاب الأموال لما طلبوا المال والجاه متوجهين إليه، ولم يخرجوا حق الله منه شاه الله وجوههم، ولما طووا كشحاً عن الفقير إذا جالسهم كويت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتماداً عليها كويت ظهورهم.
وقوله: ?هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ? أي: يقال لمانعي الزكاة يوم القيامة على جبهة التوبيخ هذا ما كنزتم لأنفسكم ?فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ? أي: ما كنتم تمنعون حقوق الله في أموالكم.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/680، رقم 987) ، وأبو داود في سننه (2/124، رقم 1658) ، والنسائي في سننه (5/12، رقم 2442) ، وأحمد في مسنده (2/383، رقم 8965) . عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/345)
لطيفة: كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقيراً اسمه: ثعلبة بن حاطب فشكى فقره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأل من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرزقه الله مالاً ويؤدي منه كل ذي حق حقه، فدعا له فوسع عليه، فانقطع عن الجمعة والجماعة، ومنع الزكاة فجمع مالاً عظيماً ودعا له بالبركة، وعاهده على إخراج حق الله منه، فكثر ماله فطلب منه النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة فقال: إن الجزية تؤخذ من اليهود والنصارى لا من قريش، فطلب منه ثانياً وقال له: - صلى الله عليه وسلم - «إما الزكاة وإما السيف» فأرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أغناماً صفافاً فنزل جبريل وقال: يا محمد الله قد نزع لباس الإيمان عنه ولبس لباس الكفر، والي هذا أشار الله بقوله العزيز ?وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? [التوبة: 75 - 77] .
قال بعض المفسرين (1) : جاء بعد نزول هذه الآية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاته فقال: «إن الله منعني أن أقبل منك» ، فجعل يحثوا التراب على رأسه، ثم جاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها، ثم إلى عمر فلم يقبلها، ثم إلى عثمان فلم يقبلها ومات.
وروينا في هذا الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه، ثم يأخذ بلهزمته يعني شدقيه ثم يقول: أنا ملكك أنا كنزك، ثم تلى ?وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ? [آل عمران: 180] » (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما من رجل يموت يترك غنماً أو إبلاً أو بقراً لم يؤد زكاتها، إلا جاءته يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه، حتى تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها حتى يقضى بين الناس كلما تقدمت أخراها عادت عليه أولاها» (3) .
_________
(1) روى قصة ثعلبة وما كان منه ورجوعه بعد نزول الآيات الطبري في تفسيره (10/190) من حديث ابن عباس.
وانظر: تفسير ابن كثير (2/375) .
(2) انظر رواية البخاري في صحيحه (2/508، رقم 1338) عن أبي هريرة.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/530، رقم 1391) ، ومسلم في صحيحه (2/686، رقم 990) من حديث أبي ذر.(1/346)
وروينا في سنن ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لم تظهر الفاحشة في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولا نقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنن، وشدة المؤنة، وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم فأخذ بعضهم ما كان في أيديهم، وإذا لم يحكم بينهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (1) .
وذكر العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في بعض مصنفاته أنه جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أدى زكاة ماله سمي في سماء الدنيا سخياً، وفي الثانية جواداً، وفي الثالثة مطيعاً، وفي الرابعة باراً، وفي الخامسة وفياً، وفي السادسة مباركاً محفوظاً منصوراً، وفي السابعة مغفوراً له، ومن منع زكاة ماله سمي في سماء الدنيا بخيلاً، وفي الثانية لئيماً، وفي الثالثة ممسكاً، وفي الرابعة مقتراً، وفي الخامسة عاصياً، وفي السادسة منزوعاً عنه بركة ماله، وفي السابعة مردوداً عليه عمله مضروباً به وجهه» (2) .
وروى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السخي قريب من
_________
(1) أخرجه ابن ماجه في سننه (2/1332، رقم 4019) عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: الحاكم في المستدرك (4/583، رقم 8623) / والطبراني في مسند الشاميين (2/390، رقم 1558) ، وفي المعجم الأوسط (5/61، رقم 4671) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/196، رقم 3314) ، وأبو عمر القاري في السنن الواردة في الفتن (3/691، رقم 327) .
قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/186) : رواه الحاكم أبو عبد الله الحافظ في كتابه المستدرك في آخر كتاب الفتن مطولاً من طريق عطاء بن أبي رباح ... به، قال: هذا حديث صحيح الإسناد، هذا حديث صالح للعمل به، وقد اختلف في ابن أبي مالك وأبيه، فأما الولد فاسمه خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك الدمشقي، فوثقه أبو زرعة الدمشقي وأبو زرعة الرازي وأحمد بن صالح المصري، وضعفه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني، وأما أبوه فهو قاضي دمشق وكان من أشمة التابعين، وثقه ابن معين وأبو زرعة الرازي وابن حبان والدارقطني والبرقاني، وقال يعقوب بن سفيان في حديثهما ليث يعني خالد وأبوه، ووراه البزار والبيهقي من هذا الوجه، ورواه الحاكم بنحوه من حديث بريدة وقال: صحيح الإسناد، ورواه مالك بنحوه موقوفاً على ابن عباس، ورفعه الطبراني وغيره إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(2) لم نقف عليه.(1/347)
الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد عن الله بعيد عن الناس بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهل سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل» (1) ، وفي رواية «من العالم البخيل» .
فائدة: اختلف العلماء في البخيل من هو؟
فنقل الرافعي عن صاحب «التتمة» : أن البخيل من لا يؤدي الزكاة، ولا يقري الضيف.
وقال الأسنوي: العرف يقتضي أن البخيل من لا يقري الضيف.
فعلى القول الأول كان من أدى لزكاة ماله وقرى الضيف فليس ببخيل، ومن لم يفعل شيئاً من ذلك فهو بخيل، وعلى القول الثاني من قرى الضيف وإن لم يؤدي زكاة ماله فليس ببخيل.
واختلف العلماء في البخل والشح فقيل: هما بمعنى واحد، وفرق بعض العلماء بينهما فقال: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يؤد ما في أيدي الناس في يده بالحل والحرمة.
والسخاء والكرم سبب لستر العيوب، والبخل والشح سبب جالب لكشفها كما أشار إليه بعضهم بقوله:
ويظهر عيب المرء في الناس بخله ... ويستره عنهم جميعاً سخاؤه
تغط بأثواب السخاء فإنني ... أرى كل عيب فالسخاء غطاؤه
خاتمة لطيفة مناسبة: قال الشبلي قال لي خاطري يوماً: أنت بخيل فقلت: ما أنا بخيل فقال: نعم أنت بخيل، فنوديت أن أول شيء يفتح أن أرفعه لأول فقير ألقاه، فما
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/342، رقم 1961) وقال: غريب.
وأخرجه أيضاً ابن عدي (3/403) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/429، رقم 10851) جميعاً عن أبي هريرة.
وروي من طريق أخرى عند البيهقي في شعب الإيمان (7/428، رقم 10848) عن جابر بن عبد الله.
وأخرجه أيضاً: البيهقي في شعب الإيمان (7/428، رقم 10847) والطبراني في المعجم الأوسط (3/27، رقم 2363) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/27) : فيه سعيد بن محمد الوراق وهو ضعيف.(1/348)
تم خاطري حتى دفع إلى رجل خمسين ديناراً فخرجت، فرأيت فقيراً أعمى بين يدي حلاق يحلق رأسه فناولته إياها فقال: ادفعها للمزين فقلت: إنها دنانير فقال: ما قلنا لك إنك بخيل فدفعتها للمزين فقال: أنا حلقت له لله تعالى فتعجب الشبلي - رضي الله عنه - من زهدهما وأخذها.
وسيأتى الكلام على الركن الرابع والخامس وهما الحج وصوم رمضان في محله إن شاء الله تعالى.
* * *(1/349)
المجلس السابع عشر
في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان بضع وستون شعبة» وفيه ترجمة لأبي هريرة - رضي الله عنه - مع فوائد ولطائف
الحمد لله الذي نور قلوب العارفين بضياء الإلهام، وأيقظ أسرار القاصدين فلاح لهم الأعلام، وشغل أسماعهم بلذة خطابة عن سماع الملام، واستنهض عزائمهم فساروا في جنح الظلام، حاديهم الوجد ودليلهم القصد وسائقهم الغرام، شمروا حتى وصلوا وطلبوا حتى حصلوا ووقفوا حتى قبلوا، وأهل الغفلة نيام، ليس المقبول كالمطرود، ولا المحبوب كالمردود، ولا الوصال كالصدود، ولا الخلي المستهام، أفلا تستحي ممن وجدك وأحياك وعرفك وهداك وأيدك وولاك وخاطبك وناداك ووعدك بشرف المقام، أحمده على ما ألهم وأنعم وأكرم وأبرم من الأحكام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له إله انتظمت أفعاله بحسن الإتقان والإحكام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أقام به أركان الإسلام، وأبطل به الأنصاب والأزلام، صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه هداة الأنام، صلاة دائمين باقية على مر الأيام.
قَالَ البُخَارِي:
باب أُمُورِ الإِيمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ? لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ?. وَقَوْلِهِ ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? الآيَةَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ» .
قوله «باب أمور الإيمان» (1) الإضافة فيه بيانية أي: الأمور التي في الإيمان لأن
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/119) : قوله: «باب أمور الإيمان» ، وللكشميهني «أمر الإيمان» بالإفراد على إرادة الجنس، والمراد بيان الأمور التي هي الإيمان والأمور التي للإيمان.(1/350)
الأعمال والأقوال هي الإيمان عنده، ويجوز أن تكون الإضافة بمعنى اللام أي: الأمور التي للإيمان في تحقق حقيقته واكتمال ذاته.
وساق البخاري هذه الترجمة للدلالة على إطلاق اسم الإيمان على الأعمال، وقصد به الرد على المرجئة القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل فلا تضر المعصية مع الإيمان.
فائدة: للعلماء مذاهب في المعصية مع الإيمان:
الأول: مذهب المرجئة يقولون: إن المعصية لا تضر مع الإيمان ولا يستحق صاحبها العذاب.
الثاني: مذهب المعتزلة يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر فيثبتونه المنزلة بين المنزلتين، ويقولون في مثله: فاسق مخلد في النار.
الثالث: مذهب الخوارج يقولون: إنها تضر وإن مرتكب الكبيرة مخلد، بل ومرتكب الصغيرة أيضاً كافر يخلد في النار، ومذهبهم كمذهب المعتزلة مبني على أن الأعمال ركن من حقيقة الإيمان.
والخوارج سبع فرق أولهم الذين خرجوا على علي بن طالب وكفروه.
الرابع: مذهب الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق.
الخامس: مذهب أهل السنة والجماعة يقولون: إن مرتكب الكبيرة لا يكفر بها بل هو باق على إيمانه ولا يخلد في النار إن عذب، ولابد من دخوله الجنة هذا هو المذهب الحق، فالمعصية عند أهل السنة لا تضر في أصل الإيمان في كماله فيقال: الشارب الخمر مثلاً عندهم مؤمن ناقص الإيمان، وعند المعتزلة يقال: إنه فاسق ولا مؤمن ولا كافر، وعند الخوارج كافر، وعند الحسن البصري منافق.
واستدل البخاري - رضي الله عنه - على أن الإيمان يطلق على الأعمال يأتي من كتاب الله تعالى حيث قال «وقول الله عز وجل ?لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... ? الآية، وتمام الآية الشريفة ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ? [البقرة: 177] .
وفي قوله: ?وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ? مضاف مقدر، إما في البر تقديره ولكن صاحب البر من آمن، وإما من تقديره لكن البر من آمن ليصبح المعنى.(1/351)
ووجه الاستدلال بالآية: أنها حصرت المتقين على أصحاب هذه الصفات والأعمال والمراد: المتقون من الشرك وهم المؤمنون الكاملون.
وقوله - عز وجل -: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ ... ? الآية، وتمام هذه الآية الشريفة:
?الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ?.
أفلح: فعل لازم بمعنى دخل في الفلاح، قال الكرماني: فعلم منها أن الإيمان الذي به الفلاح والنجاة الإيمان الذي فيه الأعمال المذكورة.
قال ابن حجر: وكأن المؤلف أشار إلى مكان عدد الشعب من هاتين الآيتين (1) .
«حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عامر العقدي قال: حدثنا سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح، عن أبي هريرة» قال: اختلف العلماء في اسم أبي هريرة واسم أبيه على نحو ثلاثين قولاً أصحها عند أكثر العلماء: عبد الرحمن بن صخر.
وسبب الاختلاف في ذلك أنه قتل شخصاً في الجاهلية وهرب، وصار كلما دخل
_________
(1) وللحافظ كلام طيب في الفتح (1/119) عن هاتين الآيتين فقد قال: قوله: «وقول الله تعالى» بالخفض، ووجه الاستدلال بهذه الآية ومناسبتها لحديث الباب، تظهر من الحديث الذي رواه عبد الرزاق وغيره، من طريق مجاهد أن أبي ذر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فتلا عليه: ? لَيْسَ الْبِرَّ ... ? إلى آخرها، ورجاله ثقات.
وإنما لم يسقه المؤلف لأنه ليس على شرطه، ووجهه: أن الآية حصرت التقوى على أصحاب هذه الصفات، والمراد المتقون من الشرك والأعمال السيئة، فإذا فعلوا وتركوا فهم المؤمنون الكاملون.
والجامع بين الآية والحديث: أن الأعمال مع انضمامها إلى التصديق داخلة في مسمى البر، كما هي داخلة في مسمى الإيمان.
فإن قيل: ليس في المتن ذكر التصديق؟
أجيب: بأنه ثابت في أصل هذا الحديث كما أخرجه مسلم وغيره، والمصنف يكثر الاستدلال بما اشتمل عليه المتن الذي يذكر أصله ولم يسقه تاماً.
قوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? ذكره بلا أداة عطف، والحذف جائز، والتقدير: وقول الله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ?، وثبت المحذوف في رواية الأصيلي، ويحتمل أن يكون ذكر ذلك تفسيراً لقوله المتقون، أي: المتقون هم الموصوفون بقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? إلى آخرها.(1/352)
إلى قرية وبلد يسمي نفسه وأباه باسم غير الاسم السابق.
قال ابن عبد البر: لم يختلف في اسم في الجاهلية ولا في الإسلام كالاختلاف في اسمه، روي عنه أنه قال: «كان اسمي في الجاهلية عبد شمس، وسميت في الإسلام عبد الرحمن» .
واسم أمه ميمونة وقيل: أميمة وقد أسلمت بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها بعد أن كانت تتكلم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما لا يليق.
قيل: إن أبا هريرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن أمي أسمعتني فيك ما أكره، فقال: «اللهم اهد أم أبي هريرة» (1) قال: فخرجت أعدو لأبشرها فرأيت الباب مردوداً فلما أحست بي خرجت وهي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فرجعت وأنا أبكي من الفرح كما كنت أبكي من الحزن، وقلت: يا رسول الله قد استجاب الله دعاك، أدع لي أن يحببني أنا وأمي إلى المؤمنين، فما من مؤمن ولا مؤمنة إلا وهو يحبنا.
وهو أزدي دوسي يماني مدني، قال - رضي الله عنه - نشأت يتيماً وهاجرت مسكيناً وكنت أجير البرة بنت غزوان خادماً لها في مالها، فزوجنيها الله فالحمد لله الذي جعل الدين قواماً، وجعل أبي هريرة إماماً.
وكان يخطب على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ويشكر الله على ما أعطاه فيقول: «الحمد لله الذي هدى أبي هريرة في الإسلام، وعلمه القرآن ومنَّ عليه بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الحمد لله الذي أطعمني الخمير، وألبسني الحبير، الحمد لله الذي زوجني بنت غزوان بعد ما كنت أجيراً لها بطعام بطني.
قدم المدينة عام خيبر وأسلم بها سنة ستة، وشهد خيبر مع رسول الله صلى - صلى الله عليه وسلم - ثم لزمه وواظب عليه أناء الليل والنهار، ولا يشغله عنه أهل ولا مال، وصبر على الفقر الشديد حتى أفضى به إلى الظل المديد، وكان عريف أهل الصفة، وكان يدور مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في هذا الصحيح، وكان - رضي الله عنه - حريصا على سماع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ورد في هذا الصحيح عنه - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1938، رقم 2491) ، وأحمد في مسنده (2/319، رقم 8242) عن أبي هريرة.(1/353)
يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه أو نفسه» (1) .
وكان - رضي الله عنه - آدم اللون ذا ضفيرتين محفياً لشاربه مزاحاً، وكان ينزل بذي الحليفة بقرب المدينة، وله دار تصدق بها على مواليه.
قال إمامنا الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث.
ومن فضائله: أنه كان يسبح كل يوم اثنا عشر تسبيحه ويقول: أسبح بقدر ديتي يعني أن دية الآدمي اثنا عشر ألف درهم، فهو يسبح بعددها لتكون فكاكه من النار، وكان له خيط فيه ألفا عقدة فلا ينام حتى يسبح.
قال - رضي الله عنه -: ما وجع أحب إلىّ من الحمى لأنها تعطي كل عضو قسطه، وإن الله يعطي كل مفصل قسطاً من الأجر، وتحمل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلم شيء كثيراً، وهو أكثر الصحابة رواية بإجماع العلماء رضي الله عنهم.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسة آلاف حديث وأربع وسبعون حديثاً، اتفقا على ثلاثمائه وخمسة وعشرين، وانفرد البخاري ومسلم بمائة وتسعين.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: ثم يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً فأنساه قال: «أبسط رداءك» ، فبسطته قال: فغرف بيديه ثم قال «ضمه» فضممته فما نسيت بعد ذلك من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/49، رقم 99) ، والنسائي في السنن الكبرى (3/426، رقم 5842) ، وأحمد في مسنده (2/373، رقم 8845) ، وابن منده في الإيمان (2/862، رقم 905) ، وابن أبي عاصم في السنة (2/394، رقم 825) قال محققه الألباني: إسناده جيد على كلام يسير في ابن حميد، والحديث أخرجه البخاري وابن خزيمة، والآجري وأحمد من طريق إسماعيل بن جعفر أخبرنا عمرو بن أبي عمرو ... به، وتابعه معاوية بن معتب عن أبي هريرة ... به، وأخرجه ابن خزيمة ورجاله ثقات كلهم غير معاوية بن معتب قال الحسيني: وثقة ابن حبان وهو مجهول وأقره الحافظ في التعجيل. (انتهى) ؟
ويلاحظ أن كلام الألباني خاص بكل مصدر يعزوك إليه فرب حديث صحيح عند البخاري ضعيف عند ابن خزيمة لجهالة معاوية بن معتب فتنبه هداك الله.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (1/56، رقم 119) ، والترمذي في سننه (5/684، رقم 3835) وقال: هذا حديث حسن صحيح، قد روي من غير وجه عن أبي هريرة.
ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2/362) . وانظر: الاستيعاب (4/1771) ، والإصابة (7/436) ، وسير أعلام النبلاء (12/174) .(1/354)
روى عنه الحديث أكثر من ثمانمائة رجل من صاحبي وتابعي، منهم ابن عباس وجابر وأنس.
وروي أنه بكى في مرضه فقيل: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنياكم هذه ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وإني أصبحت في صعود أو أهبط على جنة أو نار، لا أدري في أيهما يأخذني.
وكانت وفاته - رضي الله عنه - بالمدينة الشريفة، وقيل: بالعقيق سنة سبع وخمسين، وتوفيت عائشة رضي الله عنها قبله في السنة التي مات فيها، وصلى عليها وكان سنة يوم موته ثمانية وسبعين سنة، ودفن بالبقيع، وما اشتهر من أن قبره بقرب عسقلان، قال ابن الملقن: لا أصل له فاجتنبه، ثم قال: نعم هناك قبر «جندرة بن خشينة» الصحابي فاعلمه.
ومن كراماته التي ظهرت بعد موته: ما روى عن عمر بن حبيب قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فوقعت عنده مسألة، وتنازع فيها الخصوم، وعلت أصواتهم فاحتج بعض العلماء الحاضرين على دعواه بحديث رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد بعض الخصوم الحاضرين المنازعين الحديث وقال: أبو هريرة غير مقبول فيما يرويه، ومال الرشيد نحو هذا البعض القائل هذا القول ونصر قوله، قال عمر بن حبيب: فرددت قول هذا القائل وقلت: الحديث صحيح وأبو هريرة صحيح النقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه قال: فلما قلت هكذا نظر إليَّ الرشيد نظر مغضب، فقمت من المجلس إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب فدخل إليَّ فقال: أجب أمير المؤمنين إجابه مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دافعت عن صاحب نبيك - صلى الله عليه وسلم - فأجللت نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن يطعن في أصحابه، فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على الكرسي من ذهب حاسر عن ذراعيه، بيده السيف وبين يديه النطع، فلما رأني قال: يا عمر بن حبيب ما تلقاني أحد بالرد ودفع قولي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي حاولت عليه فيه إزراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء إذا كان أصحابه كذا فالشريعة باطلة والفرائض والأحكام من الصلاة والصيام والنكاح والحدود كلها مردودة غير مقبولة، فرجع الرشيد إلى نفسه ثم قال: احييتني يا ابن حبيب حياك الله ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم.
كرامة أخرى له - رضي الله عنه -: حكي في تاريخ ابن النجار عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه قال: سمعت القاضي أبا الطيب يقول: كنا في حلقة النظر بجامع المنصور فجاء شاب(1/355)
خراساني حنفي المذهب يسأل الشافعية عن مسألة المصراة وطالب بالدليل فقال له شخص من الشافعية: الدليل عليها ما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصرو الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر» (1) فقال الشاب الحنفي: أبو هريرة غير مقبول الحديث، قال القاضي: فما أتم كلامه حتى سقطت عليه حيه عظيمة من سقف الجامع فهرب الناس، وتبعت الشاب دون غيره فقيل له: تب تب فقال: تبت فغابت الحية، كأن لم يكن لها أثر.
يحتمل أن تكون هذه الحية ملكاً تشكل في صورة الحية وجاء ناصراً لأبي هريرة - رضي الله عنه - كرامة له، فقد أيد الله نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - كثيراً بذلك.
فقد ذكر العلماء من ذلك: أن أبا جهل لعنه الله اشترى من رجل جملاً وماطله، فأتى الرجل نادى قريش مستعيناً بهم في تخليص ثمن الجمل فأحالوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - استهزاء وقالوا له: إذهب إلى محمد يخلص حقك منه، فجاء الأعرابي إليه - صلى الله عليه وسلم - وقص عليه قصته مع أبي جهل فمضى معه النبي - صلى الله عليه وسلم - فطرق باب أبي جهل فخرج فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصل له دهشته ورعب، فأوسعه إلا أن قال أهلاً بأبي القاسم فقال: «إعط هذا حقه» فأعطاه من فوره، فحدث قومه فقال: إني رأيت ما لم تروا رأيت والله على رأسي تنيناً فاتحاً فاه ولو أبيت لالتهمني.
ومن نصرة الله لنبيه أن معمر بن زيد كان أشجع قومه استعانت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان شجاعاً مطاعاً فقال لهم: إني قادم عليكم بعد ثلاثة أيام أريحكم منه، وعندي عشرون ألف مقاتل فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي، وإن سألوا الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة، وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس، فلبس سلاحه ولبس درعين، وجاء في اليوم الذي واعد قريشاً فرآهم في الحطيم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجحر يصلي وقد عرفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما التقت ولا تزعزع ولا قصر في صلاته فقالت قريش لعمر بن زيد: هذا محمد ساجد فسل سيفه واقبل نحوه فلما دنى منه وإذا به قد رمى سيفه ورجع مسرعاً مهرولاً، حتى وصل إلى باب الصفا عثر بدرعه فسقط، فقام وقد أدمى وجهه بالحجارة التي سقط عليها وهو يعدو كأشد
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/755، رقم 2041) ، ومسلم في صحيحه (3/1159، رقم 1524) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/356)
العدو، حتى بلغ البطحاء وهو لا يلتفت إلى الخلف، فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ما شأنك ماذا أصابك قال: ويحكم المغرور من غررتموه، ما رأيت كاليوم دعوني حتى ترجع إليَّ نفسي، فتركوه ساعة ثم قالوا له: ما الذي أصابك قال: إني لما دنوت من محمد فأردت أن أضربه بسيفي فرأيت عند رأسه شجاعين أقرعين ينفخان بالنيران تلمع أبصارهما، قصداني فعدوت منهما، ولست بعد هذا اليوم أعود إلى مقربة محمد بشيء.
فالشجاعان الأقرعان كانا ملكين من الملائكة فكذلك الحية التي سقطت من سطح المسجد وتبعت من سب أبا هريرة لا يبعد أن يكون ملكاً.
وأبو هريرة أول من كني بهذه الكنية واختلفوا فيمن كناه بها فروي عنه - رضي الله عنه - أنه قال: كنت أرعى غنماً وكان لي مهرة صغيرة ألعب بها فكنوني بها، وقيل: كان المكني له بذلك أبوه، وقيل: رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي كمه هرة فقال: يا أبا هريرة، وكان - رضي الله عنه - يحب الهرة ويحملها ويألفها وكان يقول: بعدم جواز بيعها، والصحيح جواز بيعها وحل أكل ثمنها كما ذهب إليه إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - وكافة العلماء.
أما ما ورد في صحيح مسلم وغيره بسند صحيح من أن رسول الله - رضي الله عنه - نهى عن أكل الهرة وأكل ثمنها (1) ، فهو محمول على الوحشي الذي لا نفع فيه كذا قاله الشافعي والجمهور.
وهاهنا فوائد ولطائف مناسبة:
الفائدة الأولى: قال العلماء اتخاذ الهرة وتربيتها مستحب قالوا: وإنها تشبه الإنسان في أمور وهي أنها تعطس وتتثاوب وتتمطى، وتتناول الشيء بيدها وتمسح وجهها، وإذا تلطخ شيء من بدنها نظفته.
الثانية: قيل: إنها مخلوقة من عطسة الأسد وسببه أن أهل سفينة نوح تأذوا من الفأر، فمسح نوح - عليه السلام - جبهة الأسد فعطس ورمي الهرة، من ذلك كانت أشبه شيء بالأسد بحيث لو قيل للمصور صور لي هرة فلا تخرج إلا صورة الأسد.
الثالثة: سئل بعض العلماء عن حكمة ستر الهرة إذا هي بالت دون غيرها من
_________
(1) أخرجه أيضاً: أبو داود (3/278، رقم 3480) ، وابن ماجه في سننه (/1082، رقم 3250) ، والحاكم في المستدرك (2/40، رقم 2246) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، والدارقطني في سننه (4/290) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 319، رقم 1044) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/16، رقم 835) من حديث جابر - رضي الله عنه -.(1/357)
الحيوانات فأجاب: إن الله تعالى خلقها لأجل الفأر، وقد طبع الفأر الخوف منها، بحيث أن الفأرة إذا رأت الجمل لا تهرب، وإذا رأت الهرة أو شمت رائحتها تهرب منها خوفاً، فألهم الله تعالى الهرة إذا بالت أن تستر بولها حتى لا يشم رائحته الفأر فيهرب، فإذا بالت الهرة تشم رائحة بولها أولاً فإن كان له رائحة شديدة غطته، وبالت في غطائه وإلا اكتفت بأيسر التغطية.
الرابعة: الهرة على ثلاثة أنواع أهلية ووحشية وهرة الزباد ويحرم أكل الجميع على الأصح، وأما الزباد فالصواب كما قاله النووي: طهارته وصحة بيعه إلا إذا اختلط بشيء من شعر الهرة.
الخامسة: قال العلماء إذا أخذت الهرة حمامة مثلاً، وهي حية في فمها جاز ضرب فمها أو قطع أذنها لترسلها، وإذا قصدت الحمام أو غيرها، وكانت ضارية مفسدة فقتلها الإنسان في حال إفسادها دفعاً جاز ولا ضمان عليه ولا إثم إذا لم تكن حاملاً، إما إذا كانت حاملاً فعندها قال الدميري: لا يجوز قتلها لأن في قتل الحامل قتل أولادها، ولم يتحقق منهم جناية، وأمَّا قتلها في غير حالة الإفساد فغير جائز على الأصح خلافاً للقاضي حسين حيث جوزه من غير ضمان وألحقها بالفواسق الخمس.
السادسة: قال العلماء: سؤرها طاهر لطهارة عينها فلا يكره وورد في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات» (1)
فإن تنجس فمها بأن أكلت شيئاً نجساً ثم ولغت في الحال في ماء قليل أو غيره من المائعات، فإنها تنجسه إذا غابت بعد أن أكلت النجس، واحتمل ولوغها في ماء طاهر يطهر فمها في غيبتها فإنها لا تنجس ما ولغت فيه.
السابعة: روى صاحب الإستيعاب عن سلمان الفارسي خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بالهرة وقال: «إن امرأة عذبت في هرة ربطتها ... » (2) الحديث، قال
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1/19، رقم 75) عن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت بن أبي قتادة أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء، حتى شربت قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، فقال ... فذكره مرفوعاً.
وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (1/55، رقم 68) ، وأحمد في مسنده (5/296، رقم 2258) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/478) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1760، رقم 2243) ، وأحمد في مسنده (2/424، رقم 9478) ، والطيالسي في مسنده (ص 199، رقم 1400) ، وأبو يعلى في مسنده (11/12، رقم 6152) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه (2/305، رقم 546) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(1/358)
العلماء: وهذه المرأة كانت كافرة فاستحقت العذاب بكفرها، لا بحبسها للقطة حتى ماتت، فإن المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة، على ذلك ما روي في مسند أبي داود الطيالسي من حديث الشعبي عن علقمة قال: كنا عند عائشة ومعنا أبو هريرة فقالت: يا أبي هريرة أنت الذي تحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة» فقال: أبو هريرة نعم سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت عائشة: المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة قالت: إنما كانت المرأة مع ذلك كافرة يا أبا هريرة، إذا حدثت عن رسول الله فانظر كيف تحدث (1) .
لطيفة: حكى ابن خلكان وغيره عن الشيخ الإمام أبي الحسن بن باب شاذ النحوي وكان من أكابر العلماء وكان فقيراً جداً فلازم بعض السلاطين وخدمه لأجل فقره وقعت بعد ذلك واقعة ترك بسببها خدمة السلطان، كما حكي عنه أنه كان يوماً في سطح جامع مصر يأكل شيئاً وعنده بعض أصحابه فحضر قط فرموا له لقمة فأخذها في فيه وغاب عنهم، ثم عاد إليهم فرموا له شيئاً فأخذه وذهب ثم عاد ففعل ذلك مراراً كثيرة وهم يرمون له وهو يأخذ ويغيب يعود من فوره فتعجبوا منه فتبعوه فإذا هو يأخذ الطعام، ويدخل إلى خزنة فيها شبه البيت الخراب في سطح ذلك البيت قط أعمى فإذا هو يصح الطعام بين يديه فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ ابن باب شاذ: إذا كان حيواناً أخرس قد سخر له هذا القط، وهو يقوم بكفايته ولم يحرم الرزق فكيف يضيع مثلي ثم قطع الشيخ علائقه، وترك خدمة السلطان ولزم بيته مشتغلاً متوكلاً على الله إلى أن مات.
لطيفة أخرى: وروى ابن عساكر في تاريخه عن بعض أصحاب الشبلي قال رأيت الشبلي في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك فقال: أوقفني بين يديه وقال: يا أبا بكر أتدري بماذا غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي فقال: لا، فقلت بإخلاصي في عبوديتي، قال: لا، فقلت: بحجي وصومي وصلاتي، ثم قال: ما غفر لك بذلك، فقلت: بهجرتي إلى الصالحين، قال: لا، فقلت: بإدامة أسفاري في طلب العلم فقال: لا، فقلت
_________
(1) ورواه أيضاً أحمد في مسنده (2/519، رقم 10738) عن الشعبي عن علقمة ... به.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/116) : رجاله رجال الصحيح.(1/359)
يارب هذه المنجيات التي كنت أعقد عليها خنصري ظناً أنك بها تعفو عني، قال: كل هذه لم أغفر لك، فقلت: إلهي بماذا؟ قال: أتذكر حين كنت تمشي في دروب بغداد، فوجدت هرة صغيرة قد أضعفها البرد تنزوي من جدار إلى جدار من شدة البرد والثلج، فاخذتها رحمة بها فإذا دخلتها في فرو كان عليك، وقاية لها من البرد، فقلت: نعم، قال: برحمتك لتلك الهرة رحمتك.
«عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الإيمان بضعة وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» .
قوله: «بضعة» بالهاء هو الواقع في أكثر نسخ البخاري، وفي بعض النسخ «بضع» بلا هاء، والبضع والبضعة بكسر الياء على اللغة المشهورة، وبها جاء القرآن العظيم، ويجوز فتحها في لغة قليلة: هو عدد مبهم مستعمل فيما بين الثلاثة والتسعة على الراجح، فإذا قلت له: عندي بضعة عشر درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة عشر فأربعة عشر وهكذا إلى تسعة عشر، وإذا قلت له: عندي بضعة وأربعين درهماً يحتمل أن يكون ثلاثة وأربعين أو أربعة وأربعين، وهكذا إلى تسع وأربعين وهكذا.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وستون شعبة» (1)
يحتمل أن يكون ثلاثة وستين أو أربعة
_________
(1) شرح الحافظ ابن حجر في الفتح (1/120) هذه الجملة شرحاً بديعاً فقال: قوله: «بضع» بكسر أوله، وحكي الفتح لغة، وهو عدد مبهم مقيد بما بين الثلاث إلى التسع كما جزم به القزاز. وقال ابن سيده: إلى العشر، وقيل: من واحد إلى تسعة، وقيل: من اثنين إلى عشرة، وقيل: من أربعة إلى تسعة، وعن الخليل: البضع: السبع.
ويرجح ما قاله القزاز ما اتفق عليه المفسرون في قوله تعالى: ?فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ? [يوسف: 42] ، وما رواه الترمذي بسند صحيح: أن قريشاً قالوا ذلك لأبي بكر، وكذا رواه الطبري مرفوعاً.
ونقل الصغاني في العباب أنه خاص بما دون العشرة وبما دون العشرين، فإذا جاوز العشرين امتنع. قال: وأجازه أبو زيد فقال: يقال: بضعة وعشرون رجلاً وبضع وعشرون امرأة. وقال الفراء: وهو خاص بالعشرات إلى التسعين، ولا يقال: بضع ومائة ولا بضع وألف. ووقع في بعض الروايات بضعة بتاء التأنيث ويحتاج إلى تأويل.
قوله: «وستون» لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلف في ذلك، وتابعه يحيى الحماني -بكسر المهملة وتشديد الميم- عن سليمان بن بلال، وأخرجه أبو عوانة من طريق بشر بن عمرو عن سليمان بن بلال فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهيل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا: «بضع وسبعون» من غير شك، ولأبي عوانة في صحيحه من طريق: «ست وسبعون أو سبع وسبعون» ، ورجح البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضاً لكن يرجح بأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ: «أربع وستون» فمعلولة، وعلي صحتها لا تخالف رواية البخاري، وترجيح رواية بضع وسبعون لكونها زيادة ثقة -كما ذكره الحليمي ثم عياض- لا يستقيم، إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لاسيما مع اتحاد المخرج.
وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري، وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن.
قوله: «شعبة» بالضم أي: قطعة، والمراد الخصلة أو الجزء.
قوله: «والحياء» هو بالمد، وهو في اللغة: تغير وانكسار يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه.
وفي الشرع: خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، ولهذا جاء في الحديث الآخر: «الحياء خير كله» .
فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جعل شعبة من الإيمان؟
أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثاً على فعل الطاعة وحاجزاً عن فعل المعصية. ولا يقال: رب حياء يمنع عن قول الحق أو فعل الخير، لأن ذاك ليس شرعيا.
فإن قيل: لم أفرده بالذكر هنا؟
أجيب: بأنه كالداعي إلى باقي الشعب، إذ الحي يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر.(1/360)
وستين.
فائدة: لا يستعمل بضع ولا بضعة إلا مع عشراً مع العشرين أو مع الثلاثين وهكذا إلى التسعين، ولا يستعمل مع المائة ولا مع الألف، فلا يقال بضع ومائه، ولا بضع ألف.
و «شعبة» بضم الشين هي في أصل الوضع غصن الشجرة وفرع كل أصل وهي هنا بمعنى خصلة.
قال العلماء: شبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بشجرة ذات أغصان وشعب، كما شبه الإسلام في حديث «بني الإسلام» أنه ذا أعمدة، وحاصل معنى الحديث أن الإيمان يتشعث من شعب كثيرة كما تتشعب من الشجرة أغصان كثيرة ضبطها - صلى الله عليه وسلم - هنا في رواية البخاري وحصرها في بضع وستين شعبة منها الإيمان فيقال: لا إله إلا الله شعبة من شعب الإيمان، ويقال للصلاة من شعب الإيمان، ويقال للأمر بالمعروف شعبة من شعب(1/361)
الإيمان، ويقال للحياء شعبة من شعب الإيمان، ويقال لإزالة الحجر من طريق المسلمين شعبة من شعب الإيمان.
ولم يبين هنا - صلى الله عليه وسلم - أعلا شعب الإيمان أو أدناها لكن بين - صلى الله عليه وسلم - أعلاها وأدناها في حديث آخر كما ثبت في الصحيح أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: «أعلاها لا إله إلا الله» (1) ، وفي رواية: «أفضلها لا إله إلا الله» (2) ، وفي رواية: «أعظمها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق» (3) ، وفي رواية: «إماطة العظم عن الطريق» (4) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن أعلا الشعب التوحيد على كل مكلف، والذي لا يصح غيره من الشعب إلا بعد صحته وإن أدناها ما يتوقع منه ضرر للمسلمين، وبقي بينهما تمام العدد فيجب علينا الإيمان به، وإن لم نعرف أعيان جميع أفراده كما نؤمن بالأنبياء والملائكة وإن لم نعرف أعيانهم وأسمائهم.
وقد صنف العلماء في تعيين هذه الشعب كتباً كثيرة من أعظمها منهاج الحليمي (5) .
_________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (1/420، رقم 191) ، والطبراني في المعجم الأوسط (9/20، رقم 9004) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/169، رقم 30416) ، وابن منده في الإيمان (1/334، رقم 171) عن أبي هريرة.
(2) هذه الرواية عند البخاري في الأدب المفرد (ص 209، رقم 598) ، وأبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، والنسائي في سننه (8/110، رقم 5004) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) ، وابن منده في الإيمان (1/297، رقم 147) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/429، رقم 428) .
(3) هذه اللفظ عند ابن أبي شيبة في المصنف (5/212، رقم 25339) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الإيمان بضع وستون باباً أو بضع وسبعون باباً أعظمها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» .
(4) هذه الرواية عند أبو داود في سننه (4/219، رقم 4676) ، وأحمد في مسنده (2/414، رقم 9350) .
(5) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/121) : قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان.
ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه.
وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن.
فأعمال القلب: فيه المعتقدات والنيات، وتشتمل على أربع وعشرين خصلة: الإيمان بالله، ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء، واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر، ويدخل فيه المسألة في القبر، والبعث، والنشور، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقاد تعظيمه، ويدخل فيه الصلاة عليه، واتباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء والتوكل، والرحمة، والتواضع، ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير، وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغصب.
وأعمال اللسان: وتشتمل على سبع خصال: التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر، ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو.
وأعمال البدن: وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة، منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حساً وحكماً، ويدخل فيه اجتناب النجاسات، وستر العورة، والصلاة فرضاً ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود، ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضا ونفلاً، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين، ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الإيمان، وأداء الكفارات.
ومنها ما يتعلق بالاتباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين، وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد.
ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس، ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر، ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد، ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة، وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه، ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذي عن الناس، واجتناب اللهو وإماطة الأذي عن الطريق، فهذه تسع وستون خصلة، ويمكن عدها تسعاً وسبعين خصلة باعتبار أفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم.(1/362)
وقد ورد في فضل من أزال من طريق المسلمين ما يضرهم من حجر أو شوك أو عظم أو غير ذلك أحاديث.
وورد أن فعل ذلك مكتوباً لفاعله في ديوان الصدقة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائه مفصل، فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله، وعزل حجراً عن طريق الناس أو شوكة أو عظم وآمن(1/363)
فنهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائه، فإنه يمسي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، ونصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (3) .
لطيفة: وروي عن أبي حفص النيسابوري أنه اشتغل قلبه بحب جارية، فاستشار بعض أصحابه كيف يتحيل إليها حتى يصل إليها، فأشار إليه أن يمضي إلى فلان اليهودي ليحتال له في أمرها فمضى إليه وأطلعه على حاله فأمره اليهودي أن لا يصلي أربعين يوماً ولا يعمل عملاً يرضاه الله تعالى، ففعل ذلك ثم ذهب إلى اليهودي بعد الأيام الأربعين وأعلمه بما فعل فشرع اليهودي في حيلة يحتال بها في أمره ليجمع بينه وبين الجارية، فلم يقدر على ذلك فقال اليهودي: أظن أنك قد عملت في هذه المدة شيئاً يرضاه الله تعالى من أفعال البر، فتفكر أبو حفص وقال: والله ما عملت شيئاً غير
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/698، رقم 1007) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/209، رقم 10673) ، وابن حبان في صحيحه (8/173، رقم 3380) ، والبيهقي في السنن (4/188، رقم 7611) ، وفي شعب الإيمان (7/511، رقم 11161) ، وأبو الشيخ في العظمة (5/1620) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/820، رقم 816) جميعاً من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/307، رقم 891) ، وابن حبان في صحيحه (2/287، رقم 529) ، والترمذي في سننه (4/339، رقم 1956) وقال: وفي الباب عن ابن مسعود وجابر وحذيفة وعائشة وأبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب.
ورواه البزار في مسنده (9/457، رقم 4070) جميعاً من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -.
(3) بهذا اللفظ رواه أبو بكر البغدادي في تكملة الإكمال (1/495) عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -.
ورواه الطبراني في المعجم الصغير (2/131، رقم 907) حذيفة بن اليمان مرفوعاً بلفظ: «من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لا يصبح ويمسي ناصحاً لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم» .
ورواه أبو نعيم في حلية الأولياء (3/48) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/361، رقم 10586) عن أنس بن مالك مرفوعاً بلفظ: «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم للمسلمين فليس منهم» . قال البيهقي: إسناده ضعيف.(1/364)
أني أزلت حجراً عن طريق المسلمين برجلي فقال اليهودي: هذا رب كريم لم يضيع لك هذا المقدار، وعصمك بسبه من هذه الأوزار، فكيف يليق بك أن تعصيه.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «والحياء شعبة من الإيمان» إنما أافرد - صلى الله عليه وسلم - هذه الخصلة من خصال الإيمان في هذا الحديث وخصها بالذكر دون غيرها من باقي شعب الإيمان، لأن الحياء كالداعي إلى باقي الشعب، فإن صاحب الحياء يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فيأتمر وينزجر، فلما كان الحياء كالسبب لفعل باقي الشعب خص بالذكر ولم يذكر غيره معه.
واستشكل العلماء جعل الحياء من شعب الإيمان فقالوا: إن الحياء من الأمور التي طبع الإنسان وغرز عليها، وليس من كسبه فكيف يعد من شعب الإيمان وشعب الإيمان كسبيه لا غريزة فيها؟
وأجيب عن هذا الإشكال بأن: الحياء قد يكون غريزة وقد يكون تخلقاً واكتساباً كسائر أعمال البر، وأيضا يقال: وإن كان غريزياً ولكن استعماله على وفق الشرع وقانونه يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان بهذا الاعتبار.
لطيفة في الحياء: قال في الروض الفائق: قال مالك بن دينار: كان لي جار مسرف على نفسه فاجتمع الجيران إليَّ يشكونه، فأحضرته وقلت له: إنته عن عصيانك، واتق الله فإما أن تتوب وإما أن تخرج من هذه المحلة، قال: أنا في ملكي ما أخرج منه، قلت له: نشكوك إلى سلطان فقال: أنا من أصحابه، قلت: فندعو الله عليك، قال: ربي أرحم بي منكم ثم نهض، فلما كان الليل رفعت يدي وقت السحر وقلت: سيدي قد آذانا هذا الرجل فافعل به ما شئت، فهتف بي هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا قال: فقمت من ساعتي وطرقت عليه الباب فخرج، وظن أني قد خرجت لأخرجه من المحلة، فخرج وهو يبكى ويقول: يا سيدي السمع والطاعة أنا أخرج من المحلة قال: فقلت: يا حبيبي ما جئتك لهذا، وإنما الساعة تضرعت إلى الله فهتف هاتف لا تدع عليه فإنه من أوليائنا، فبكى بكاء شديداً وتاب وحسنت توبته، فأصبح الناس يزورونه ويتبركون به كثيراً، فخرج إلى مكة شرفها الله تعالى ماشياً وأقام بها فحججت في العام فبينما أنا في وقت الظهيرة في المسجد الحرام بحائط وإذا بجماعة قد اجتمعوا في جانب المسجد فقمت إليهم فإذا هم قد أحدقوا برجل فتأملته فإذا هو صاحبي وهو ملقى على التراب وهو يجود نفسه، فجلست عند رأسه أبكي ففتح عينيه فرآني فقال: يا مالك أترى يعفوا عن تلك السيئات، ويرحم هذه العبرات، إنما خرجت من تلك المحلة،(1/365)
وفارقت وطني حياء منك وأنت مخلوق، فكيف أقف غداً بين يدي الخالق، ثم تنفس وتحسر ومات، رحمة الله تعالى عليه.
ولله در القائل:
«من كان وكان، ما كل واصل مواصل، ولا العناء يدني المنى، هذي سوابق لواحق، لمن يشاء الوهاب، قل لي إذا لم تصبر وتحتمل، إيش لك عمل، تقدر بقوة عزمك تغالب الغلاب، سلم قيادك تسلم، واخضع لمالك مهجتك تغنم، إذا اعتنى بك أتاك من أقرب الأبواب،، كم من موفق تائب، قد بان له سبل الهدى، وكم شقي وعاص، إلى السعة ما تاب، ويحك عروس المنايا، لبيت لحدك خبئت، وذا مشيبك وافى في جملة الخطاب، كأس المنايا دائر على البرايا كلهم، فقل لمن هو حاضر يخبر لمن قد غاب، غداً تبين الفضائح، ويشتهر ما قد خفي، وفي القيامة ينادى هل من قصدنا خاب؟» .
فائدة: الحياء محمود وحقيقته: خلق يبعث على اجتناب القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق، فيستفاد من هذا أن الحياء خير لأنه يبعث الإنسان على فعل الخير ويمنعه من فعل المعصية، فلهذا جاء في حديث: «الحياء خير كله» (1) ، وفي حديث آخر: «الحياء لا يأتي إلا بخير» (2) .
واستشكل العلماء هذا أيضاً بأن الحياء قد يمنع من الخير ومن قول الحق، وما يمنع من فعل الخير وقول الحق كيف يكون خير.
وأجابوا عن هذا أيضاً: بأن هذا ليس بحياء حقيقي شرعي بل هو عجز، وجوزوا تسميته حياء بطريق المجاز، سماه بعض أهل العرف حياء الشبهة بالحياء الحقيقي.
وقد ورد في فضل الحياء وفضل من تخلق به أحاديث قال - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم لأصحابه: «استحيوا من الله» قالوا: إنا نستحي من الله يا رسول الله والحمد لله فقال: «ليس
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/64، رقم 37) ، وأبو داود في سننه (4/252، رقم 4796) ، وأحمد في مسنده (4/426، رقم 19830) ، والبزار في مسنده (9/29، رقم 3537) ، والروياني في مسنده (1/128، رقم 127) ، والطيالسي في مسنده (ص 114، رقم 854) ، والطبراني في المعجم الكبير (18/171، رقم 387) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/76، رقم 70) عن عمران بن حصين.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2267، رقم 5766) ، ومسلم في صحيحه (1/64، رقم 36) من حديث عمران بن حصين أيضاً.(1/366)
ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة وله نية الدنيا، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء» (1) .
ومعنى «أن تحفظ الرأس وما وعى» حفظه من السمع والبصر واللسان، فلا يستعملها إلا فيما يحل، وقوله: «والبطن وما حوى» يريد لا يجمع فيه إلا الحلال ولا يأكل إلا الطيب، ويحتمل أن يراد بما حوى الفرج والقلب والرجل.
وفي بعض كتب الله المنزلة يقول الله: ما انصفني ابن آدم يدعوني فأستحي أن أرده، ويعصيني ولا يستحي مني.
وفيها أيضاً يقول الله تعالى: عبدي إنك ما استحيت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت من أم الكتاب زلاتك، ولم أناقشك يوم الحساب يوم القيامة.
وفيها أيضاً يقول الله تعالى: إن كنتم لا تعلمون أني أنظر إليكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعملون أني أنظر إليكم فلم جعلتموني أهون الناظرين.
وكان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: يا مسكين تغلق بابك وترخي سترك وتستحي من الناس ولا تستحي من الملكين الذين معك، ولا تستحي من القرآن الذي في صدرك، ولا تستحي من الجليل سبحانه وتعالى وهو لا يخفي عليه خافية، ولله در القائل في المعنى حيث يقول:
كن حييا إذا خلوت بذنب ... ليس يخفى عن الرقيب الشهيد
أتهاونت بالإله ... وتواريت عن عيون العبيد
يروى أن رجلاً حبشياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كنت أعمل الفواحش فهل لي من توبة؟ قال: «نعم» ، قال: فهل كان الله يراني؟ قال: «نعم» ، فصاح الحبشي ووقع ميتاً.
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/637، رقم 2458) وقال: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد، وأحمد في مسنده (1/387، رقم 3671) ، والحاكم في المستدرك (4/359، رقم 7915) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (8/461، رقم 5047) ، والطبراني في المعجم الكبير (10/152، رقم 10290) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/354، رقم 10561) عن عبد الله بن مسعود.(1/367)
لطيفة: مر منصور بن عمار فوجد شاباً يحدث امرأة فانصرف الشاب، لما رأى منصور بن عمار فتقدم منصور فكلمها أن تذهب فمشت خلفه حتى دخلت منزله، فقعدت في منزله ووقف منصور يصلي فطول عليها، فلما سلم قالت: يا هذا طولت عليَّ فقال لها: ما تقولين في رجل عليه حق بأربعة شهود، والحاكم يعلم به هل يقدر أن يمتنع منه بجحود؟ قالت: لا والله، قال: فإن معي ملكين ومعكي ملكين، والحاكم يعلم بنا ويرانا، فاضطربت المرأة ووقعت ميتة.
وقيل: إن المنافق إذا لم ير أحداً دخل مدخل السوء، وإذا لم ير أحداً بطش، إنما يراقب الناس ولا يراقب الله عز وجل، وإن المؤمن يعلم أن الله يراه ويعلم سره ونجواه فإنما قلبه بين يدي الله.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثر غلطه، ومن كثر غلطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ودعه مات قلبه.
فسبحان من تفضل على قوم فعرفهم ورفعهم، واختصهم لخدمته واصطعنهم، وتكبر على قوم فأذلهم بحجابه، وضعهم وطردهم عن بابه، ومنعهم وختم عنهم باب الوصل وقطعهم، ولقد جاءهم الإنذار فما نفعهم ولو علم فيهم خيراً لأسمعهم، يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم.
لطيفة: كان طاووس بمكة فراودته امرأة عن نفسها فلم يزل بها حتى أتى بها إلى المسجد الحرام، والناس مجتمعون فقال لها: قصي ما كنت تردين قالت: أفي هذا الموضع والناس ينظرون، قال لها فالحياء من نظر الله حق، فتابت المرأة وحسنت توبتها ولقد أحسن من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل ... خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
* * *(1/368)
المجلس الثامن عشر
في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»
الحمد لله المنفرد بالكمال والكبيراء والجلال، والبقاء والعز الذي لا نفاد له، الملك الكريم الذي يغفر لمن استغفره، ويقبل من استقاله، ويجيب من سأله الجميل، الذي غمر العباد ببره فبحار عطائه سائلة، الغفور الذي ستر عباده عند المسألة، القريب الذي قرب أحبابه فوجدوا لذة المعاملة، فقلوبهم لذكره حاضرة، وعيونهم في خدمته ساهرة، وأبدانهم من مخافته ناحلة، العزيز الذي قطع المبعدين عن بابه، وأذابهم بأليم حجابه، السعيد من قربه المولى الكريم، والطريد من أبعده الملك الحكيم، والقلوب بسر تدبيره جاهله، استوى على العرش من غير تكييف، علو عظمته وقهره، وكيف يحمل العرش حامله، القلوب تعرفه بصفته، والرقاب خاضعة لعزته، والعقول في تعظيمه حائرة ذاهلة، صفاته قديمة وتخيلات المشبهين والمعطلين باطلة، لا يرد أفعاله كم ولا كيف، ولا ينسب شيء من أحكامه إلى حين، فاقطع لسان الاعتراض وكف كف المجادلة، فكلما تصوره وهمك فهو حادث مخلوق، وكيف يشبه المفعول فاعله، أحمده على ما أسبغ علينا من نعمه الكاملة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله ضمن الربح الجزيل لمن عامله، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي أوضح كل مشكل، وبين حكم كل نازلة، فأضحت شمس الإيمان مشرقة، ونجوم البهتان آفلة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابة صلاة دائمة متواصلة وسلم.
قَالَ البُخَارِي:
باب الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ (1)
حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ (3) ، وَإِسْمَاعِيلَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله «باب» سقط من رواية الأصيلي وكذا أكثر الأبواب، وهو منون ويجوز فيه الإضافة إلى جملة الحديث لكن لم تأت به الرواية.
وقوله: «المسلم ... » استعمل لفظ الحديث ترجمة من غير تصرف.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي إياس» اسمه ناهية بالنون وبين الهاءين ياء أخيرة، وقيل اسمه: عبد الرحمن.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/123) : قوله: «أبي السفر» اسمه سعيد بن يحمد، وإسماعيل مجرور بالفتحة عطفاً عليه، والتقدير: كلاهما عن الشعبي.(1/369)
«الْمُسْلِمُ (1) مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» (2) .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ (3) : حَدَّثَنَا دَاوُدُ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (123) : قوله: «المسلم» قيل: الألف واللام فيه للكمال، نحو زيد الرجل أي: الكامل في الرجولية، وتعقب بأنه يستلزم أن من اتصف بهذا خاصة كان كاملاً، ويجاب: بأن المراد بذلك مراعاة باقي الأركان.
قال الخطابي: المراد أفضل المسلمين من جمع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين.
وإثبات اسم الشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أن يبين علامة المسلم التي يستدل بها على إسلامه، وهي سلامة المسلمين من لسانه ويده، كما ذكر مثله في علامة المنافق، ويحتمل أن يكون المراد بذلك الإشارة إلى الحث على حسن معاملة العبد مع ربه، لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فأولى أن يحسن معاملة ربه، من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/125) : هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم، بخلاف جميع ما تقدم من الأحاديث المرفوعة، على أن مسلماً أخرج معناه من وجه آخر، وزاد ابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث أنس صحيحاً: «المؤمن من أمنه الناس» وكأنه اختصره هنا لتضمنه لمعناه، والله أعلم.
(3) قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/125) : قوله: «وقال أبو معاوية حدثنا داود» هو ابن أبي هند، وكذا في رواية ابن عساكر عن عامر وهو الشعبي المذكور في الإسناد الموصول.
وأراد بهذا التعليق بيان سماعه له من الصحابي، والنكتة فيه رواية وهيب بن خالد له عن داود عن الشعبي عن رجل عن عبد الله بن عمرو، حكاه ابن منده، فعلى هذا لعل الشعبي بلغه ذلك عن عبد الله، ثم لقيه فسمعه منه.
ونبه بالتعليق الآخر على أن عبد الله الذي أهمل في روايته هو عبد الله بن عمرو الذي بين في رواية رفيقه، والتعليق عن أبي معاوية وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريقه ولفظه: «سمعت عبد الله بن عمرو يقول: ورب هذه البنية لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده» فعلم أنه ما أراد إلا أصل الحديث.
والمراد بالناس هنا: المسلمون كما في الحديث الموصول، فهم الناس حقيقة عند الإطلاق، لأن الإطلاق يحمل على الكامل، ولا كمال في غير المسلمين، ويمكن حمله على عمومه على إرادة شرط وهو إلا بحق، مع أن إرادة هذا الشرط متعينة على كل حال، لما قدمته من استثناء إقامة الحدود على المسلم، والله سبحانه وتعالي أعلم.(1/370)
عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ دَاوُدَ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: «عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما» هذا هو الزاهد العابد الصحابي أبي عبد الله بن عمرو بن العاص السهمي، كنيته أبو محمد على الأصح، أسلم قبل أبيه، وكان بينه وبين أبيه في السن اثنتا عشر سنة، وقيل: إحدى عشر سنة، قالوا: ولا نعرف أحداً بينه وبين هذا القدر غيره، وكان غريزاً في العلم مجتهداً في العبادة وكان أكثر حديثاً من أبي هريرة لأنه كان يكتب، وأبو هريرة لا يكتب، ومع ذلك فالذي روى له قليل بالنسبة إلى ما رواه أبو هريرة.
روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعمائه حديث، اتفقا منهما على سبعة عشر وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وكان - رضي الله عنه - أحمر عظيم البطن، وعمي في آخر عمره، واختلفوا في أي مكان توفى، فقيل: بمكة، وقيل: بالطائف وقيل: بمصر في شهر ذي الحجة سنة خمس وستين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين عن ستين وسبعين سنة
«عن النبي - صلى الله عليه وسلم -» اشتمل هذا الحديث على جملتين الأولى قوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» واختلف العلماء في معنى هذه الجملة فقيل: معناها المسلم الكامل من سلم المسلمون من لسانه ويده، فتكون الألف واللام في المسلم للكمال نحو زيد الرجل الكامل في الرجولة، فإن إثبات الشيء للشيء على معنى إثبات الكمال له مستفيض في كلامهم، فقد صرح سيبوية بأن الجنس إذا أطلق محمولاً على الكامل ويسقط ما استشكل منه إذا المفهوم من الحديث: أن من لم يسلم المسلمون من لسانه لا يكون مسلماً، نعم يخرج عن الإسلام الكامل إذا لم يسلم المسلمون من لسانه ويده، ولم يخرج عن أصل الإسلام.
وقيل: معنى الحديث والمراد به الإشارة إلى حسن معاملة العبد ربه لأنه إذا أحسن معاملة إخوانه فالأولى أن يحسن معاملة ربه من باب التثنية بالأدنى على الأعلى.
فإن قيل: إن قوله: «من سلم المسلمون من لسانه ويده» يقتضي ويفهم أنه لا يحب الكف عن الكفار في تحصيل الإسلام الكامل بل يحصل له الإسلام الكامل إن لم يكف لسانه ويده عنهم وليس كذلك.
والجواب: أن هذا الحديث خرج مخرج الغالب أن يكف مفهوم له، وخص المسلمون بالذكر لأجل أنه يتأكد على المسلم أن يكف الأذى عن أخيه المسلم، لا لأجل أنه لا يجب الكف عن الكافر.(1/371)
أو يقال في الجواب: الكفار بصدد أن يقاتلوا وإن كان فيهم من يجب الكف عنه فصح الاحتراز عنهم بالمسلمين.
فإن قيل: قوله «المسلمون» بصيغة جمع التذكير يقتضي أنه لا يجب الكف عن المسلمات في تحصيل الإسلام الكامل، وليس كذلك بل ولابد وإن يكف لسانه ويده عن المسلمين والمسلمات ليحصل له الإسلام الكامل.
جوابه: أن الإتيان بجمع التذكير هنا للتغليب فالمسلمات يدخلن في ذلك.
فائدة: إنما خص - صلى الله عليه وسلم - اللسان واليد بالذكر مع أن الأذي قد يحصل بغيرهما إلا أن الإيذاء باليد واللسان أكثر من غيرهما، فاعتبر الغالب أيضاً.
وخص اللسان لأنه يعبر عما أضمره الإنسان في نفسه، وخصت اليد بالذكر لأن سلطته الأفعال إنما تظهر باليد إذ بها البطش والقطع والأخذ والمنع والإعطاء ونحوه.
وقال أبو ذر ابن الشيخ برهان الدين المحدث في شرحه: وإنما جمع بينهما - صلى الله عليه وسلم - ولم يقتصر على أحدهما لأن كف اليد قد يكون بسبب الضعف والبعد، فإذا انضم إليه كف اللسان علم أن كف اليد كان للإسلام قاله السخاوي.
وأفاد الشيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر في الفتح هنا مناسبة لطيفة فقال (1) : في ذكر اليد دون غيرها من الجوارح نكته وهي لأجل أن يدخل فيها اليد المعنوية، فإن اليد على قسمين: يد الجارحة، وهي معلومة، واليد المعنوية وهي الاستيلاء على حق الغير بغير حق فإنه يقال: وضع فلان يده على مال فلان أي: استولى عليه باليد المعنوية، فعلى هذا يشترط في تحصيل الإسلام الكامل سلامه المسلمين من لسانه ويده أعم من تكون يد الجارحة أو يد المعنى، فمن استولى على أموال الناس بغير حق يصدق عليه أنه لم يسلم المسلمون من يده فلا يكون مسلماً كاملاً، وإن لم يؤذهم بلسانه ويد الجارحه.
فائدة أخرى: إنما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اللسان على اليد لأن أذى اللسان أعم من أذى اليد، واللسان يمكنه القول في الماضين والموجودين والحادثين بخلاف اليد فإنها تختص بالموجود.
قال شيخ الإسلام ابن حجر (2) : نعم يشارك اللسان في ذلك الكتابة، وإن أثرها في
_________
(1) انظر الفتح (1/124) .
(2) انظر الفتح (1/124) .(1/372)
ذلك عظيم فإنه يمكن أن يؤدي الإنسان بكتابة الماضين والموجودين والحادثين كما يؤدي بلسان ذلك.
وهذا الذي قاله - رضي الله عنه - أخذه من قولهم المشهور: القلم أحد اللسانين، بل ربما يترتب على الكتابة من الضرورة والنكاية عظيم ما يترتب على النطق باللسان، كما يقع ذلك من شهود الزور، ومن دواوين الملوك، ومن الموقعين عند القضاء، أما الشهود فهم قوم غالب المعاش وحقوق الناس متعلقة بكتابتهم، فإذا كتب الشاهد على شخص مسطور بمبلغ من الدراهم مثلاً لشخص آخر، والحال أنه ليس عليه من ذلك الحق شيء، بل زود عليه كثير من الفساق الذي يبيع دينه بدنيا غيره فقد ضره وآذاه بشهادته، وكتابته الزور ضرراً أعظم من ضرر النطق باللسان فكيف مثل هذا الشاهد المزور القيامة بين يدي الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، وقد نص العلماء على أن قول الزور من الكبائر والكتابة قائمة مقام ذلك قال الله تعالى: ?وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ? [الفرقان: 72] ، وجاء في حديث: «لا تزول قدما شاهد الزور يوم القيامة حتى تجب له النار» (1) قال العلماء: شاهد الزور ارتكب ذنوباً:
أحدها: الكذب والافتراء على من شهد عليه والله تعالى يقول في كتابه ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ? [غافر: 28] .
وثانيها: أنه ظلم الذي يشهد عليه حتى أخذ بشهادته ماله وعرض روحه للهلاك.
وثالثها: أنه ظلم الذي شهد له، بأن ساق له المال الحرام فأخذه ووجبت له النار قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من قضي له من مال أخيه بغير حق فلا يأخذه، فإنما اقتطع قطعة من النار» .
ورابعها: أنه أباح ما حرم الله ومعصيته من المال والدم والعرض وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» (2) متفق عليه.
وقد ذم الشهود جماعة من الصالحين ونظموا فيها أبياتاً: قال سفيان الثوري: الناس
_________
(1) أخرجه أبو يعلى في مسنده (10/39، رقم 5672) ، والطبراني في المعجم الأوسط (8/191، رقم 8367) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/264) عن ابن عمر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/336) : في إسناده محمد بن الفرات وهو كذاب.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/939، رقم 2511) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.(1/373)
كلهم عدول إلا العدول.
وقال عبد الله بن المبارك: الشهود هم السفلة.
وقال بعض الفضلاء فيهم:
قوم إذا غضبوا كانت رماحهم ... بث الشهادة بين الناس بالزور
هم السلاطين إلا أن حكمهم ... على السجلات والأملاك والدور
وقال آخر:
إياك أحقاد الشهود فإنما ... أحكامهم تجري على الحكام
أقوم إذا خافوا عداوة فادر ... سفكوا الدماء بأسنة الأقلام
وقال آخر:
احذروا نية الشهود ... الأخسرين الأرذلينا
قوم لئام يسرقون ... ويحلفون ويكذبونا
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:
شهود ولكن آبين عن الهدى ... عدول عن الحق المبين عدول
وقال ابن السبكي: ومن سلك من الشهود أمر به، واجتنب ما نهى عنه، فهو محمول مأجور غير أنه غلب على أكثرهم التسارع إلى تحمل الشهادة من غير تأمل وتحرير لما يشهد به، وذلك مذموم.
وأما أخذ الشاهد من الأجر على الشهادة عند القاضي فهو حرام، وإنما يستحق الأجرة على تحمل الشهادة، وكتابة السطور، وأما قسمته ما يتحصل للشهود في الحانوت، فهي غير جائزة لأنها شركة أبدان، وأما دواوين الملوك ودواوين نوابهم فمن حقهم الواجب عليهم إذا وقف أحد إلى الملك في واقعة ان يتلطفوا ويواصلوا تلك الواقعة إلى ذهن الملك، ويكرروها عليه ليفهمها، وإلا فمتى ظلم الملك واحداً في واقعة لعدم فهمه، ككثير من هؤلاء الأتراك وكان كاتب السر والموقع هو الذي قرأ عليه القصة في تلك الواقعة، كان شريكاً له في ذلك الظلم، ومن حقهم أيضاً أن يحترزوا عن الكتابة في قطع الأرزاق، فإن يقطع أحد رزق أحد بلسانه وقلمه ما أفلح قط، خصوصاً في أرزاق أهل العلم الشريف، وما أحسن ما نقشه بعض الدواوين على دواته حيث قال:
حلفت من يكتب بي ... بالواحد الفرد الصمد(1/374)
أن لا يمد مده ... في قطع رزق لأحد
وللشيخ تاج الدين السبكي بيتان قريبان من هذين البيتين نقشهما بعض الأمراء على دواته فقال:
حلفت من يكتب بي ... بالله رب العالم
أن لا يمد مد ... تؤلم قلب عالم
وأيضاً يقال: إنما قدم - صلى الله عليه وسلم - اللسان على اليد لأن نكايته أعظم وأشد تأثيراً في القلب من نكاية اليد، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «أهج المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبل» (1) وقال الشاعر:
جراحات السنان لها التأم ... ولا يلتأم ما جرى اللسان
وقد ورد في شؤم اللسان، وفي فضل كفه، وفي الأمر بإمساكه، وفي النهي عن التكلم به بما لا يفيد أحاديث وآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين روينا في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها –أي: ما يتفكر في أنها خير أم لا-، يزل بها إلى النار أبعد ما بين المشرق والمغرب» (2) .
وروينا في هذا الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً، رفع الله بها درجات» أي: يرفع الله بها درجاته أو يرفعه الله بها درجات «وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم» (3) .
وروينا في كتاب الترمذي والنسائي وابن ماجة عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به قال: «قل ربي الله ثم استقم» قلت: يا
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (4/38، رقم 3582) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/238، رقم 20895) عن عائشة بطرف: «اهجوا قريشاً فإنه أشد عليهم من رشق النبل» .
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6112) ، ومسلم في صحيحه (4/2290، رقم 2988) عن أبي هريرة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2377، رقم 6113) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/164، رقم 16442) ، وفي شعب الإيمان (4/246، رقم 4955) .(1/375)
رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا» (1)
. قال الترمذي حديث حسن صحيح.
وروينا في كتاب الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي» (2) .
وروينا أيضاً عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك وليسعك بينك، وأبك على خطيئتك» (3) قال الترمذي: حديث حسن.
روينا فيه أيضاً عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي: تخضع له فتقول اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإذا اعوججت اعوججنا» (4) .
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2410) وقال: هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي، والنسائي في السنن الكبرى (6/458، رقم 11489) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3972) .
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/413، رقم 15454) ، والحاكم في المستدرك (4/349، رقم 7874) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه (3/221، رقم 942) ، والطيالسي في مسنده (ص 171، رقم 1231) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3/222، رقم 1584) ، والطبراني في المعجم الكبير (7/69، رقم 6396) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2406) وقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (4/148، رقم 17372) ، والروياني في مسند (1/146، رقم 157) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/239، رقم 4930) جميعاً عن عقبة بن نافع.
(3) أخرجه الترمذي في سننه (4/607، رقم 2411) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب.
(4) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2407) عن شيخه محمد بن موسى، ثم ساق اسناداً عقبه فقال حدثنا هناد، حدثنا أبو أسامة عن حماد بن زيد نحوه، ولم يرفعه، وهذا أصح من حديث محمد بن موسى، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث حماد بن زيد، وقد رواه غير واحد عن حماد بن زيد ولم يرفعوه حدثنا صالح بن عبد الله حدثنا حماد بن زيد عن أبي الصهباء عن سعيد بن جبير عن أبي سعيد الخدري قال أحسبه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر نحوه.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/95، رقم 11927) ، وأبو يعلى في مسنده (2/403، رقم 1185) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 302، رقم 979) ، الطيالسي في مسنده (ص 293، رقم 2209) .(1/376)
قال الغزالي: معناه والله أعلم أن نطق اللسان يؤثر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخزلان والله اعلم.
هذا المعنى ما حكي عن مالك بن دينار أنه قال: إذا رأيت قساوة في قلبك، ووهنا في بدنك، وحرمانا في رزقك، فاعلم أنك قد تكلمت بما لا يعنيك.
وروينا في كتاب الترمذي وابن ماجة عن أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل كلام ابن آدم عليه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر الله تعالى.
وروينا في هذا الصحيح عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة» (1) .
وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من وقاه الله شر ما بين لحيية وشر ما بين رجليه دخل الجنة» (2) قال الترمذي حديث حسن.
وروينا في كتاب الترمذي عن معاذ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار؟ قال: «لقد سئلت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت» ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير؟» قالت: بلى قال: «الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل» ثم تلى ?تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ ... ? حتى بلغ ?يَعْمَلُونَ? [السجدة: 16، 17] ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه؟» قلت: بلى يا رسول الله، قال: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟» قلت: بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه قال: «كف عليك هذا» فقلت: يا نبي الله وإنا المؤاخذون بما
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2376، رقم 6109) ، والترمذي في سننه (4/606، رقم 2408) ، وأحمد في مسنده (5/333، رقم 22874) ، وأبو يعلى في مسنده (13/548، رقم 7555) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/235، رقم 913) عن سهلا بن سعد.
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/606، رقم 2409) عن أبي هريرة، قال الترمذي: أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة الأشجعية، وهو كوفي وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعيد هو أبو حازم الزاهد مدني، واسمه سلمة بن دينار وهذا حديث حسن غريب.(1/377)
نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم» (1) . قال الترمذي: حديث حسن.
وحصائد الألسن ما حصلة الإنسان واكتسبه من الإثم بالكلام فيما لا ينفع، وهذا الكلام استفهام إنكاري تقديره: ما يكب الناس إلا حصائد ألسنتهم.
فإن قيل: هذا الحديث يقتضي أن كل من يكب في النار فسبب كبه فيها اللسان مع أن بعض الناس يكب في النار بعمله لا بلسانه؟
فالجواب: أنه عام قيد خاص.
فائدة: قال ابن القيم في كتابه أقسام القرآن: فإن قيل: ما الحكمة في جعل الله سبحانه وتعالى اللسان عضواً لحمياً لا عظم فيه ولا عصب؟
ثم أجاب بإذن الله خلقه كذلك لتسهل حركته، ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه، فأي عضو من الأعضاء حركته كما يحرك اللسان لم يطاوعك كما يطاوعك اللسان، بل لابد أن يحصل التعب والملل إلا اللسان فلو كان عظماً لم ينتهي منه الكلام التام ولا الذوق التام.
ثم قال فإن قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى جعل على اللسان علقين أحدهما الأسنان والثاني الشفتان، وجعل على العين غطاء واحد ولم يجعل على الأذن غطاء، ثم أجاب بأنه سبحانه وتعالى جعل ذلك إشارة إلى أن آفة الكلام أكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع، فجعل الأكثر آفات طبقتين لخطره وشرفه، وخطر حركاته، وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وجعل، للمتوسط طبقة واحدة، وجعل الأقل آفة بلا طبقة فتبنه لهذه اللطيفة الإلهية والحكمة الربانية.
وقال ابن جماعة في شرح الأربعين فإن قيل: لم تعددت العين والأذن والأنف والخد دون اللسان.
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/11، رقم 2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/428، رقم 11394) ، وابن ماجه (2/1314، رقم 3973) ، وأحمد في مسنده (5/231، رقم 22069) ، والحاكم في المستدرك (2/447، رقم 3548) ، والطيالسي في مسنده (ص 76، رقم 560) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 68، رقم 12) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/73، رقم 137) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/38، رقم 2806) ، وهناد في الزهد (2/529، رقم 1090) ، والديلمي في الفردوس (4/341، رقم 6986) .(1/378)
ثم أجاب: بأن الله صنع ذلك إشارة إلى مطلوبية قلة الكلام.
قال العلماء: في الحديث دلالة على التحذير من أذى اللسان ومن آفاته، وآفاته كثيرة لا تنحصر، وأكثر معاصي ابن آدم فيه من أقبحها وأضرها للناس وأفحشها الغيبة.
والغيبة: أن يذكر الإنسان غيره بما يكرهه وإن كان فيه، حتى أن قلت عن طويل: فلان طويل أو عن قصير: فلان قصير، وكان يكره ذلك فإنه حرام ويعد غيبة، وهي حرام سواء بلقبك أو لسانك أو خطك أو إشارتك بعين ورأس أو نحوها، وسواء كان في ماله أو ولده أو زوجته أو نحو ذلك.
والذي يدل على إنها محرمة الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال الله تعالى ?وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ? [الحجرات: 12] .
?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 36] .
واختلف العلماء رضي الله عنهم فيها: هل هي من الكبائر أو من الصغائر فقال صاحب «العدة» وأقره الرافعي: أنها من صغائر الذنوب لعموم البلوى.
وقال القرطبي في تفسير القرآن: إنها من الكبائر بلا خلاف، قال الزركشي: وقد ظفرت بنص الإمام الشافعي على إنها من الكبائر فالقول: بأنها صغيرة ضعيف أو باطل.
لكن قال القاضي زكريا: يمكن حمل نص الشافعي على ما إذا أصر على الغيبة، فإنها تصير من الكبائر بلا خلاف، وكذا لو اغتاب عدلاً.
قال الشيخ ولي الله تقي الدين الحصيني: وقد يحتقر الشخص بالكلمة الواحدة من الغيبة، لكثرة إدمانه عليها، وتعود لسانه بها ومخالطته من الاعتناء له بحفظ أمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا سيما المتفقهة والصوفية، فإن غيبتهم غالباً تكون في المساجد، والربط المبنية لذكر الله تعالى وعبادته، فيرتكبون مخالفة أمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أطهر البقاع مع علمهم بأن الكلمة الواحدة من الغيبة عظيم أمرها، فقد صح في الحديث أن عائشة رضي الله عنها اغتابت ضرتها صفية وقالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية إنها كذا أي: يكفيك منها إنها امرأة قصيرة فقال - صلى الله عليه وسلم -: «قلت كلمة لو مزجت(1/379)
بماء البحر لمزجته» (1) أي: خالطتة مخالطة يتغير بها طعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها. رواه الترمذي وحسنه وصححه.
فهذا حديث من أبلغ الزواجر عن الغيبة إذا كان هذا شأن كلمة هي في المقول فيها، فإن عائشة قالت عنها: إنها قصيرة وكانت قصيرة، فكيف حال من يتكلم في غيره بكلمة مفتراه فيه، إنا لله وإنا إليه راجعون من كلمة توقع الإنسان في الهلاك.
وجاء في حديث عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» (2) رواه أبو داود.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله» (3) رواه مسلم.
قال العلماء: وسامع الغيبة شريك المغتاب فكما تحرم الغيبة يحرم استماعها، ويجب إنكارها إن لم يخف ضرراً وإن خاف ضررا فارق ذلك المجلس، فإن لم يقدر على المفارقة بذكر أو غيره لا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع، فيجب على كل من سمع غيبة أخيه أن يرى باباً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من فعل ذلك فقد فار فوزاً عظيما، فقدر ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة» (4)
رواه الترمذي وقال حديث حسن.
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/269، رقم 4875) ، والترمذي في سننه (4/660، رقم 2502) ، وأحمد في مسنده (6/189، رقم 25601) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/301، رقم 6721) عن عائشة.
(2) أخرجه أبو داود فس سننه (4/269، رقم 4878) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/224، رقم 13364) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/7، رقم 8) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/299، رقم 6716) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/430، رقم 5319) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (6/265، رقم 2286) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1986، رقم 2564) ، والترمذي في سننه (4/325، رقم 1927) ، وابن ماجه في سننه (2/1298، رقم 3933) ، وأحمد في مسنده (2/277، رقم 7713) ، والبيهقي في السنن الكبرى (6/92، رقم 11276) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(4) أخرجه الترمذي في سننه (4/327، رقم 1931) عن أبي الدرداء وقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/449، رقم 27576) ، والحارث في مسند (2/836، رقم 881) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/110، رقم 7634) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (7/258) .(1/380)
وإن لم يرد غيبة أخيه، أو كان من عادته عدم اعتنائه بالدين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا وأمثاله قد وقعوا في شر عظيم، يوجب غضب الله تعالى وغضب رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر العلماء: أن الغيبة تباح بل تجب في صور منها الفاسق المجاهر بالفسق، والمبتدع المجاهر ببدعة كشارب الخمر المجاهر به، فيجوز غيبة تلك العصبة دون غيرها إلا كان لجواز ذكره بغيرها سبب آخر.
قال في الإحياء: إلا أن يكون المجاهر بها عالما يقتدى به فتمتنع غيبته لأن الناس إذا اطلعوا على زلته تٍساهلوا في ارتكاب الذنب، وغيبة الكافر محرمة أيضاً إن كان ذمياً لأن فيها تنفير لهم عن قبول الجزية وتركاً لوفاء الذمة، ومباحة إن كان حربياً لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر حسان أن يهجوا المشركين.
ومنها: أن الإنسان إذا استشار في امرأة يريد أن يتزوجها أو امرأة في رجل تريد أن تتزوجه فيجب عليه ما ذكر فيها أو فيه من الغيبة، وليس ذكر هذا من باب الغيبة، بل من باب النصيحة، فيشترط للرجل إذا استشير في ذلك أن يذكر للخاطب أو للمخطوبة ما فيها أو فيه، على وجه النصيحة لا الوقيعة، فإن الدفع يمجرد قوله لا نفعل هذا أو لا تصلح لك فلانه، أو قال لها: لا يصلح لك فلان، أو خير لك فيه أو نحوه، ولم تجز الزيادة بذكر باقي عيوبه، وإذا استشير في أمر نفسه بالنكاح فإن كان فيه ما ثبت الخيار فيه وجب ذكره للزوجة، وإن كان فيه ما يعدل الرغبة عنه ولا يثبت الخيار كسوء الخلق والشح استحب، وإن كان فيه شيء من المعاصي وجب عليه التوبة في الحال وستر نفسه.
وتجوز الغيبة في صور أخرى غير ما ذكر، وقال حجة الإسلام الغزالي: من لم يصن لسانه وأكثر الكلام يقع لا محال في غيبة الناس كما قيل: من كثر لغطه كثر سقطه.
والغيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعة على ما قيل: إن مثل من يغتاب الناس مثل من نصب منجنيقاً لحسنات فهو يرمي بها شرقاً وغرباً ويميناً وشمالاً.
وبلغنا عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قيل: له يا أبا سعيد إن فلاناً اغتابك فبعث إليه بطبق فيه رطب، وقال: بلغني أنك اهديت إليَّ حسناتك فأحببنا أن نكافئك.
وذكروا: فات بعض الصالحين قيام الليل فعزته زوجته فقال: إن أقواماً صلوا الليل البارحة، فلما أصبحوا نالوا مني فتكون صلاتهم يوم القيامة في ميزاني.
قال سفيان الثوري: لا تتكلم بلسانك ما تكسر به أسنانك.(1/381)
وقال آخر: لا تبسط لسانك فيفسد عليك شأنك.
وقال ابن المبارك: احفظ لسانك إن اللسان سريع إلى المرء في قتله، وإن اللسان دليل الفؤاد يدل الرجال على عقله.
وقال آخر:
لسان المرء ليث في كمين ... إذا خلى عليه له إغارة
فصنه عن الخنا بلجام صمت ... يكن لك من بليته ستارة
وقال آخر:
احفظ لسانك أيها الإنسان ... لا يلدعنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه ... قد كانت تهاب لقاءه الشجعان
لطيفة: ذكر ابن الجوزي أبو نعيم عن الشعبي أنه قال: مرض الأسد فعادته السباع خلا الثعلب، فنم عليه الذئب وقال له: إن جميع السباع عادوك إلا الثعلب فقال: إذا حضر فأعلمني، فلما حضر عليه فعاتبه في ذلك فقال: كنت في طلب الدواء لك، قال: أي شيء أصبت؟ فقال: خرزة في ساق الذئب ينبغي أن تخرج فضرب الأسد مخالبه في ساق الذئب فمر به الذئب بعد ذلك ودمه يسيل فقال له الثعلب: يا صاحب الخف الأحمر إذا قعدت عند الملوك فانظر إلى ما يخرج من رأسك.
قال أبو نعيم: يقصد الشعبي من هذا سوي ضرب المثل تعليم للعقلاء وتنبيه الناس وتأكيد الوصية في حفظ اللسان في تهذيب الأخلاق والأدب بكل طريق، وفي ذلك قيل:
احفظ لسانك لا تقل فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق
قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أنت أيها المتكلم لا يخلوا إما أن تتكلم بكلام حرام كالغيبة، أو مباح من فضول الكلام الذي لا يعنيك، فإن تكلمت بكلام حرام كأن وقعت بين المسلمين ففيه عذاب الله تعالى الذي لا طاقة لك به، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليلة أسري بي نظرت في النار قوماً يأكلون الجيف، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس» (1) .
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/257، رقم 2324) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/550، رقم 544) عن ابن عباس - رضي الله عنه -.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/92) : رواه أحمد وفيه قابوس وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.(1/382)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: «اقطع لسانك عن حملة القرآن وطلاب العلم، لا تمزق الناس بلسانك فتمزقك كلاب النار» (1) .
روى أبو قلابة - رضي الله عنه -: إن في الغيبة خراب القلب من الهدى، فنسأل الله العصمة بفضله وكرمه قال.
وإن تكلمت بكلام غير مباح ففيه أربعة صور:
أحدها: شغل الكرام الكاتبين بما لا خير فيه ولا فائدة، وحق للمرء أن يستحي منهما فلا يؤذيهما قال تعالى ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 8] .
والثاني: إرسالهم كتاب إلى الله - عز وجل - من اللغو والهذر، فليحذر العبد من ذلك، وليخش الله - عز وجل -.
وذكر أن بعضهم نظر إلى رجل تكلم بالخنا فقال: يا هذا إنما تملي كتاباً إلى ربك سبحانه فانظر ماذا تملي.
الثالث: قراءته بين يدي الملك الجبار جل جلاله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بين الشدائد والأهوال، وأنت جوعان عطشان عريان منقطعاً عن الجنة محبوساً عن النعمة.
والرابع: اللوم والتعيير بقول الله: يا عبدي لما قلت كذا وكذا فتقطع حجته، ويحصل له الحياء من رب العزة جل جلاله، ولهذا قيل: إياك والفضول فإن حسابه يطول.
وقال الإمام الشافعي لصاحبه الربيع: يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا
_________
(1) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/38، رقم 59) ضمن حديث طويل روي عن معاذ - رضي الله عنه - فيه أن رجلاً قال حدثني حديثاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت، ثم سكت ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لي: «يا معاذ» قلت له: لبيك بأبي أنت وأمي قال: «إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك، وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلق السماوات فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بواباً عليها ... الحديث» .
قال المنذري: رواه ابن المبارك في كتاب الزهد عن رجل لم يسمه عن معاذ، ورواه ابن حبان في غير الصحيح والحاكم وغيرهما، وروي عن علي وغيره وبالجملة فآثار الوضع ظاهرة عليه في جميع طرقه وبجميع ألفاظه.(1/383)
تكلمت بالكلمة ملكتك ولا تملكنا.
فقال: بعضهم اللسان كالسبع إن لم توثقه أكلك.
وقال الغزالي في الإحياء: كان أبو بكر - رضي الله عنه - يضع في فمه حجراً ليمنع نفسه من الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد.
وقال ابن مسعود: والذي لا إله إلا الله هو ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وقال لقمان: قال لي سيدي: اذبح هذه الشاة وائتنا بأطيب ما فيها، فجاء بالقلب واللسان، وقال له مرة أخرى إذبح شاة وائتنا بأخبث لحمها، فأتى بالقلب واللسان، فقيل له في ذلك فقال: ليس في الجسد مضغتان أطيب منها إذا طابا، ولا أخبث إذا خبثا.
ونقل عن إمامنا الشافعي أنه قال: المؤمن إذا أراد أن ينور الله قلبه فليترك الكلام فيما لا يعنيه.
وقال أيضاً: ثلاثة تزيد في العقل مجالسة العلماء أو مجالسة الصالحين، وترك الكلام فيما لا يعنيه.
وقال معروف الكرخي: الكلام فيما لا يعنيك خذلان من الله.
وقال وهب بن منبه: العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت، واحدة في الهرب من الناس.
ولقد أحسن من قال:
وكم ساكن طال المنى بسكوت ... وكم ناطق يجني عليه لسان
قال سليمان - عليه السلام -: إذا كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب.
فائدة: روى قس بن ساعده وأكتم بن صيفي اجتمعنا فقال أحدهما لصاحبه: وجد في ابن آدم من عيب فقال: عيوب ابن آدم أكثر من أن تحصى، الذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجد خصلة إن استعملها ستر العيوب، كأنه قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: يا لسان قل خيراً تغنم أو أسكت تسلم من قبل أن تندم.
قيل: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء تقوله من عندك أو شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟(1/384)
قال: بل سمعته يقول: «إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه» (1) .
لطيفة: قال رجل لنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله لا أزيد على الصلوات الخمس ورمضان، وليس لي مال أتصدق به ولا أحج، أين أنا إن مت؟ قال: «في الجنة» ، قال: معك تبسم وقال «نعم إن حفظت قلبك من الحسد، ولسانك من الكذب، وعينيك من النظر إلى محارم الله، وأن لا تزدري بها مسلماً، دخلت الجنة معي على راحتي هاتين» (2) وينبغي للإنسان الحلم والصفح عن عثرات الإخوان، فإذا بلغه عن أحد أنه تكلم في حقه بكلام فاحش أن يعفو عنه، ولا يقابله بإسأته، بل يسكت أو يقابله بحسن الخلق، ولين الكلام ?وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ? [آل عمران: 134] .
وورد في الحديث: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً، فاعفو يعزكم الله» (3) .
وجاء في حديث آخر عن ابن عباس أنه قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أؤنبئكم بأشراركم» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «إن أشراركم الذي ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «من يبغض الناس ويبغضونه أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال: «الذين لا يقيلون عثرة، ولا يقبلون معذرة، أفلا أنبئكم بشر من ذلك» قالوا: بلى يا رسول الله قال:
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/197، رقم 10446) ، والشاشي في مسنده (2/82، رقم 602) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (4/107) ، وابن المبارك في الزهد (ص 128، رقم 378) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/240، رقم 4933) ، والخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/458) جميعاً عن عبد الله - رضي الله عنه -.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/300) : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
(2) لم نقف عليه.
(3) رواه ابن عدي في الكامل (2/34، ترجمة 470 الحسن بن عبد الرحمن بن عباد بن الهيثم) المعروف بالاحتياطي وضعفه ابن عدي وقال في آخر ترجمته: لا يشبه حديثه حديث أهل الصدق.
والحديث أورده أبو الفرج ابن الجوزي في صفوة الصفوة (1/214) ضمن أحاديث ساقها في جوامع كلمه - صلى الله عليه وسلم -.
وأفاد العجلوني في كشف الخفاء (1/384، رقم 1028) أنه جزء من حديث: «التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله» وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في ذم الغضب فقال: عن محمد بن كثير العبدي بزيادة: «والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم» .(1/385)
«من لا يرجى خيره ولا يؤمن من شره» (1) .
وجاء في حديث آخر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من العرش ثلاثة أصوات يا معشر الموحدين لله قد عفا الله عنكم فليعف بعضكم عن بعض» (2) .
وحكي عن علي - رضي الله عنه - كان له غلام فدعاه فلم يجبه فدعاه ثانياً فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعاً قال: ما حملك على ترك جوابي؟ قال: آمنت من عقوبتك فقال: أنت حر لوجه الله.
ونقل عن زين العابدين من ذرية الحسين بن علي أن رجلاً اغتابه فقال له: إن كنت صادقاً في قولك فغفر لله لي، وإن كنت كذاباً في قولك فغفر الله لك.
وخرج يوماً إلى الجامع فسبه رجل، فأقبل عليه فقال: ما خفي عليك من أمرنا أكثر ثم قال له: ألك حاجة فاستحى الرجل فدفع إليه زين العابدين ألف درهم وألقى عليه ثوبه فذهب الرجل وهو يقول: إنني أشهد أنك ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ونقل بعضهم: أن الله أوحى إلى موسى - عليه السلام - أتحب أن يدعو لك كل شيء طلعت عليه الشمس والقمر؟ قال: نعم، قال: اصبر على خلقي كما صبرت على من كفر ويعبد غيري.
وقال بعضهم: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقلت: يا رسول الله أخالط الناس أم أعتزلهم؟ فقال: خالط الناس واحتمل أذاهم.
ونقل عن عمر بن الخطاب أو غيره أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقال: يا ابن الخطاب تمنى عليّ، فسكت فقال في الثانية: يا ابن الخطاب أعرض عليك ملكي وملكوتي وأقول لك تمنى عليَّ وأنت إلى ذلك تسكت؟ فقلت: يا رب شرفت الأنبياء بكتب أنزلتها عليهم فشرفني بكلام منك بلا واسطة فقال: يا ابن الخطاب من أحسن إلى من أساء إليه فقد أخلص لله شكراً، ومن أساء إلى من أحسن إليه فقد بدل نعمة الله كقراً.
ويُرجى من كرم الله وفضله أن يكفر ما وقع من اللسان من الآفات، بما يقع منه
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (10/318، رقم 10775) ، وأحمد في كتاب الزهد (ص 295) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/183) : رواه الطبراني وفيه عنبس بن ميمون وهو متروك.
(2) لم نقف عليه.(1/386)
من الفوائد.
فتكفر الغيبة ونحوها بذكر الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقراءة القرآن وغيرها من فوائد اللسان، فإن كرم الله واسع وحلمه عظيم.
فائدة: ينبغي لمن هو فاحش اللسان أن يلازم الاستغفار فقد ورد في الحديث: شكى رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذرب اللسان فقال: «أين أنت من الاستغفار، إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة» (1) .
لطيفة: حكي عن الشبلي رحمه الله تعالى قال: مات رجل من جيراني، فرأيته في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: يا شبلي مرت بي أهوال عظيمة، وذلك أني ارتج عليَّ عند السؤال فقلت في نفسي من أين أوتي عليَّ، ألم أمت على الإسلام، فنوديت هذه عقوبة إهمالك للسانك في الدنيا، فلما أتاني الملكان حال بيني وبينهما رجل جميل الوجه طبيب الرائحة، فذكرني حجتي فذكرتها فقلت: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا شخص خلقت لكثرة صلاتك على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرت أن أنصرك في كل كرب. ذكره ابن بشكوال.
فتأمل رحمك الله تعالى بركة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفعها في وقت الحاجة والشدة.
ورد في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من صلى علي َّفي اليوم مائة مرة قضى الله له مائة حاجة، سبعين من حوائج الآخرة، وثلاثين من حوائج الدنيا» (2) أخرجه ابن منده.
ولقد أحسن من قال:
يا من أتى ذنباً وقارف زلة ... ومن يرتجي الرحماء من الله والقربى
تعاهد صلاة الله في كل ساعة ... على خير مبعوث وأكرم من نبا
فتكفيك هماً أي هم تخافه ... وتكفيك ذنباً جئت أعظم به ذنباً
ومن لم يكن يفعل فإن دعائه ... يجد قبل أن يرقى إلى ربه حجبا
_________
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (6/117، رقم 10282) ، وأحمد في مسنده (5/396، رقم 23410) ، والحاكم في المستدرك (1/691، رقم 1882) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والبيهقي في شعب الإيمان (1/439، رقم 643) عن حذيفة - رضي الله عنه -.
(2) رواه البيهقي في شعب الإيمان (3/111، رقم 3035) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.(1/387)
عليك صلاة الله ما لاح بارق ... وما طاف بالبيت الحجيج وما لبى
لطيفة أخرى: يروى أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: دخلت على مريض من الأنصار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في سكرات الموت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تب» فلم يقدر، فحال بطرفه نحو السماء، فتبسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فسئل عن ذلك فقال: «لما لم يعمل بلسانه أومئ بقلبه نحو السماء وندم قال الله تعالى: يا ملائكتي عبدي عجز عن التوبة بلسانه فندم بقلبه، أشهدكم أني قد غفرت له ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر» (1) .
في قوله - صلى الله عليه وسلم - «من سلم المسلمون» من أنواع البديع تجنيس الاشتقاق كما في «أسلم تسلم» (2) ، وأما الجملة الثانية أعني قوله - صلى الله عليه وسلم - «والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه» فقد اختلف معناها فقيل: معناها أن مكة لما فتحت وانقطعت الهجرة وفواتها على من يدركها من الصحابة، فطيب قلوبهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلمهم بأن حقيقة الهجرة تحصل بهجر ما نهى الله عنه.
وقيل في معناها: أن هذه الهجرة على ضربين ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان، والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن.
وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلموا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - أن المهاجر الكامل من هجر وترك ما نهي الله عنه، مع مفارقته الوطن، وليس المهاجر الكامل من فارق وطن فقط.
قال ابن الملقن: اشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام وفي الحديث: الحث على ترك أذى المسلمين، بكل ما يؤذي، ليكون الإنسان بذلك حسن التخلق مع العالم، ومعدوداً من الأبرار، وقد فسر الأبرار بأنهم الذين لا يؤذون الذر ولا يرضون بالشر.
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/124) : قوله: «والمهاجر» هو بمعنى الهاجر، وإن كان لفظ المفاعل يقتضي وقوع فعل من اثنين، لكنه هنا للواحد كالمسافر، ويحتمل أن يكون على بابه لأن من لازم كونه هاجراً وطنه مثلاً أنه مهجور من وطنه، وهذه الهجرة ضربان: ظاهرة وباطنة، فالباطنة: ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء والشيطان. والظاهرة: الفرار بالدين من الفتن. وكأن المهاجرين خوطبوا بذلك لئلا يتكلوا على مجرد التحول من دارهم حتى يمتثلوا أوامر الشرع ونواهيه، ويحتمل أن يكون ذلك قيل بعد انقطاع الهجرة لما فتحت مكة تطييباً لقلوب من لم يدرك ذلك، بل حقيقة الهجرة تحصل لمن هجر ما نهى الله عنه، فاشتملت هاتان الجملتان على جوامع من معاني الحكم والأحكام.(1/388)
المجلس التاسع عشر
في الكلام على حديث «لا يؤمن أحدكم حتى يجب لأخيه ما يجب لنفسه» وفيه شيء من ترجمة أنس بن مالك - رضي الله عنه -
قَالَ البُخَارِي:
باب مِنَ الإِيمَانِ (1) أَنْ يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وَعَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلِّمِ، قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى يُحِبَّ لأخيه مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» .
قوله: «باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه» فاعل يحب مضمر في الفعلين تقديره المكلف أو المؤمن أو الرجل.
«حدثنا مسدد» هذا هو مسدد بن مسرهد بن مسربل بن مغربل بن مرعبل بن أرندل بن سرندل بن عرندل بن ماسك بن مستورد الأسدي البصري، الحافظ الثقة، وكان أبو نعيم يقول عند سماع نسبه هذا: رقية للعقرب، وقيل: لو كان في هذه النسبة بسم الله الرحمن الرحيم كانت رقية عقرب، ويقارب هذا النسب في الغرابة: حجدب بن جرعب أبو أصعب الكوفي.
«حدثنا يحيى» هذا هو الإمام الحافظ يحيى بن سعيد القطان التميمي البصري، والإجماع قائم على جلالته وإمامته وعظم علمه وإتقانه وبراعته، أقام عشرين يختم القرآن في كل يوم وليلة ولم يفته الزوال في المسجد أربعين سنة، ورأى في المنام وعلى قميصه مكتوب بين كتفيه: بسم الله الرحمن الرحيم براءة ليحيى بن سعيد من النار، وبشر قبل موته وله عشرين سنة بأمان من الله من النار يوم القيامة، ولد سنة عشرين ومائة، ومات سنة عشرين ومائتين.
قال إسحاق بن إبراهيم الشهيدي: كنت أرى يحيى القطان يصلي العصر ثم يستند
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «من الإيمان» قال الكرماني قدم لفظ الإيمان بخلاف أخوته من حيث قال: «إطعام الطعام من الإيمان» إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان.
قلت -أي ابن حجر-: وهو توجيه حسن إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معاً وهو قوله: «باب حب الرسول من الإيمان» فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقدمه، والله أعلم.(1/389)
إلى أصل منارة مسجده فيقف بين يدية: على بن المديني وسليمان بن داود وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألون عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد: اجلس ولا يجلسون هيبة وإعظاماً.
«عن شعبه عن قتادة عن أنس» هذا هو السيد الجليل أنس بن مالك الأنصاري البخاري البصري، خادم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خدام كثيرون كربيعه بن كعب صاحب وضوءه، وابن مسعود حامل نعليه، وعقبة بن عامر يقود بغلته، وأيمن بن أم أيمن صاحب مطهرته وغيرهم، ولكن أنس كان ألزمهم لرسول لله - صلى الله عليه وسلم - كما قال العراقي، فأنس ألزمهم لخدمته - صلى الله عليه وسلم -، وأمه هي: أم سليم بنت ملحان.
ولما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدية قال: وكانت والدتي امرأة أرملة فقيرة، وكان عمري سبع سنين فأخذتني أمي وذهبت بي إلى باب مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونادت السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا صفوة أنارت الظلمات وانكشف بك الغمام، لم يبق أحد بالمدينة إلا وأهدى إليك هدية، وأنا امرأة ضعيفة ما لي شيء أحب ولا أعز علي من ولدي وقد أهديته لك يا رسول الله، بالذي بعثك بالحق نبياً اقبل هديتي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قد قبلناها، وما وقع هدية أقرب إلى قلبي وأحب إليَّ من هديتك يا أمة الله» فقربني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي قط لشيء صنعته لم صنعته ولا شيء تركته لم تركته، بل كان يقول: «لو قضى الله بشيء لكان» (1) رواه الترمذي وغيره.
ودعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطول العمر وكثرة الأموال والأولاد والمغفرة، فقد روى عنه أنه قال: جاءت بي أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت يا رسول خادمك أنس أدع الله له، فوضع يده المباركة على رأسي وقال: «بارك الله لك في عمرك ونسلك ومالك وغفر لك» فاستجاب الله دعاء نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيما دعا له.
أما في طول عمره فإنه عاش كما قيل: مائة سنة وزيادة، ونقل عن أنه قال: ولقد بقيت حتى سئمت الحياة.
وأما في النسل فقد رزقه الله تعالى مائة ولد قال - رضي الله عنه -: إن ولدي وولد ولدي
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/368، رقم 2015) وقال: وفي الباب عن عائشة والبراء وهذا حديث حسن صحيح.
والحديث عند مسلم في الصحيح (4/1805، رقم 2309) .(1/390)
ليعادون اليوم عليَّ نحو المائة، ولقد دفنت بيدي هاتين من ولدي مائة غير اثنين، أو قال مائة واثنين.
وقال الكرماني عنه: ولقد دفنت من صلبي مائة إلا اثنين.
وأما في المال فقد نقل عنه أنه قال: فوالله إن مالي لكثير ما أعلم أحد أصاب من رخاء العيش ما أصبت، وكان له بستان يحمل الثمر كل سنة مرتين، وكان في البستان ريحان يشم منه رائحة المسك.
وأما في المغفرة فقد نقل عنه أنه قال: وأنا أرجوا الرابعة أي: المغفرة فإنها لله تعالى ليست بيد العبد.
فائدة: قال ابن قتيبة ثلاثة من أهل البصرة لم يمت أحد منهم حتى يرى مائة ولد من صلبه: أنس وأبو بكر وخليفة بن بدر.
وكنية أنس: أبو حمزة، وروي له ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثاً، اتفقا على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بإحدى وسبعين، وهو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية، ومناقبه جمة، وكانت وفاته بالبصرة سنة ثلاث وتسعين زمن الحجاج، ودفن في قصره على نحو فرسخ ونصف من البصرة وهو آخر من مات من الصحابة بالبصرة.
«وعن حسين المعلم (1)
قال حدثنا قتادة عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يؤمن (2)
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/129) : قوله: «وعن حسين المعلم» هو ابن ذكوان، وهو معطوف على شعبة، فالتقدير عن شعبة وحسين كلاهما عن قتادة، وإنما لم يجمعهما لأن شيخه أفردهما، فأورده المصنف معطوفاً اختصاراً، ولأن شعبة قال: عن قتادة، وقال حسين: حدثنا قتادة.
وأغرب بعض المتأخرين فزعم أنه طريق حسين معلقة، وهو غلط، فقد رواه أبو نعيم في المستخرج من طريق إبراهيم الحربي عن مسدد شيخ المصنف عن يحيى القطان عن حسين المعلم، وأبدى الكرماني كعادته بحسب التجويز العقلي أن يكون تعليقاً أو معطوفاً على قتادة، فيكون شعبة رواه عن حسين عن قتادة، إلى غير ذلك مما ينفر عنه من مارس شيئاً من علم الإسناد.
وأضاف ابن حجر لطيفة في الإسناد فقال: المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها فهو: «لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ولجاره» ، وللإسماعيلي من طريق روح عن حسين: «حتى يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير» فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة عن يحيى القطان: «والذي نفسي بيده» ، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس، فانتفت تهمة تدليسه.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «لا يؤمن» أي: من يدعي الإيمان، أحد، ولابن عساكر: «عبد» ، وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم كقولهم: فلان ليس بإنسان.
فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا وإن لم يأت ببقية الأركان.
أجيب: بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: «لأخيه المسلم» ملاحظة بقية صفات المسلم.
وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي عن حسين المعلم بالمراد ولفظه: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان» ومعنى الحقيقة هنا الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافراً، وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان، وهي داخلة في التواضع.(1/391)
من أحدكم حتى يحب (1) لأخيه ما يحب لنفسه (2)
»
الحديث محمول على نفي الكمال لا على نفي الصحية، فإن نفي اسم الشيء على معنى الكمال عنه مستفيض من كلامهم، والمعنى لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «حتى يحب» بالنصب لأن «حتى» جارة، وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون «حتى» عاطفة فلا يصح المعنى، إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبة.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/130) : قوله: «ما يحب لنفسه» أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي، وكذا عند ابن منده من رواية همام عن قتادة أيضاً.
«والخير» : كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتخرج المنهيات لأن اسم الخير لا يتناولها.
«والمحبة» : إرادة ما يعتقده خيراً، قال النووي: المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر.
والمراد «بالميل» هنا: الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضاً أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال.
وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل، لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين.
قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر، إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة، لأن المقصود الحث على التواضع، فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد والغل والحقد والغش، وكلها خصال مذمومة.
فائدة: قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه، فترك التنصيص عليه اكتفاء، والله أعلم.(1/392)
لأخيه ما يحب لنفسه أي: من الخير كما جاء ذلك في رواية النسائي.
و «اللام» في قوله: «لأخيه» تدل أيضاً على أن المراد: الخير والمنفعة، وكذلك قوله «ما يحب لنفسه» يدل عليه أيضاً، إذ الشخص لا يحب لنفسه إلا الخير، والخير كلمة جامعة لجميع أنواع البر والطاعات أو المباحات الدنيوية والأخروية وتخرج المنهيات.
وليس المراد بالحديث أنه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب أن يحصل لأخيه عين ما يحصل كما قاله ابن الصلاح، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحملين محال، بل المراد حتى يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا لعينه، سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية.
قال الكرماني: ومن الإيمان أيضاً أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه أي: من الشر ولم يذكره، لأن حب الشيء مستلزم بغض نقيضه، فيدخل تحت ذلك، وإما لأن الشخص لا يبغض خيراً لنفسه فلا يحتاج لذكره، وليس المراد بالأخ في هذا الحديث الأخ في النسب فقط بل المراد كل أخ في الإسلام، رجلاً كان أو امرأة تعميما للحكم، قال الله تعالى ?إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ? [الحجرات: 10] شملت الآية كل أخ سواء كان في النسب أو في الله تعالى، أو في الإسلام.
ففي الحديث دليل وحث على أنه للإنسان أن يحب لأخيه المؤمن من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه، فإن فعل ذلك فهو كامل الإيمان، وإن لم يفعله فهو ناقص الإيمان.
وقد ورد بذلك أحاديث أخر: روى الطبراني في معجمه عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أوصيك بتقوى الله فإنها رأس أمرك، وعليك بتلاوة القرآن، وذكر الله فإن ذلك لك نور في السماوات ونور في الأرض» قال قلت: زدني يا رسول الله قال: «لا تكثر من الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه» قلت: زدني يا رسول الله قال: «عليك بالصمت فإنه مرد للشيطان وعون لك على أمر دينك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «انظر إلي من هو دونك ولا تنظر إلى من فوقك، فهو أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «صل قرابتك ولو قطعوك» قلت: يا رسول الله زدني قال: «لا تخف في الله لومة لائم» قلت: يا رسول الله زدني قال: «تحب للناس ما تحب لنفسك» ثم ضرب بيده على صدري فقال: «يا أبا ذر لا عقل إلا بالتدبير، ولا ورع إلا بكف النفس، ولا حسب إلا(1/393)
حسن الخلق، وحصل زادك ليوم معادك» (1) .
وقال في كتاب إيقاظ القارئ والمستمع: وقال لقمان لابنه يا بني إني موصيك بست خصال، ليس منها خصلة إلا تقربك إلى الله تعالى، وتباعدك من سخطه؛ الأولى: أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً. الثانية: الرضا بقدر الله تعالى فيما أحببت أو كرهت. الثالثة: أن تحب في الله وتبغض في الله. الرابعة: أن تحب للناس ما تحب لنفسك. الخامسة: كظم الغيظ والإحسان إلى من أساء إليك. السادسة: ترك الورى ومخالفة الهوى.
وكما ينبغي للإنسان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ينبغي له إذا رأى أخاه المؤمن صالحاً مواظباً على الطاعات تاركاً للمعاصي والمنكرات أن يحبه في الله، وإذا رآه تاركاً للطاعات، مصراً على المعاصي والمنكرات، أو مرتكباً لشيء من البدع القبيحات أن يبغضه في الله وينبغي له أن يتخذ له أحباباً وإخواناً صالحين صادقين ناصحين مخلصين في المحبة تحبهم ويحبون في الله لا لعلة ولا لغرض دنيوي، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة، جاءت أخبار في فضل الحب الله والبغض في الله، وفي فضل اتخاذ الأحباب والإخوان في الله:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الأعمال الحب في الله، والبغص في الله» (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (2/157، رقم 1651) عن أبي ذر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/216) : رواه الطبراني وفيه إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/198، رقم 4599) ، والبزار في مسنده (9/461، رقم 4076) ، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/405، رقم 394) ، والديلمي في مسند الفردوس (1/355، رقم 1429) جميعاً عن أبي ذر.
(3) أخرجه أبو داود في سننه (4/220، رقم 4681) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/130، رقم 34730) ، والطبراني في مسند الشاميين (2/239، رقم 1260) ، وفي المعجم الكبير (8/134، رقم 7613) ، وفي المعجم الأوسط (9/41، رقم 9083) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/492، رقم 9021) عن أبي أمامة الباهلي.
وأخرجه أحمد في مسنده (3/440، رقم 15676) عن سهل بن معاذ الجهني عن أبيه بنحوه.(1/394)
ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» (1) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (2) رواه مسلم.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء» (3) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» (4) رواه مالك الموطأ بإسناد صحيح.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/14، رقم 16) ، ومسلم في صحيحه (1/66، رقم 43) من حديث أنس.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2566) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (2/338، رقم 8436) ، وابن حبان في صحيحه (2/334، رقم 574) ، والدارمي في سننه (2/403، رقم 2757) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/232، رقم 20856) .
(3) أخرجه الترمذي في سننه (4/597، رقم 2390) عن أبي مسلم الخولاني حدثني معاذ بن جبل ... به.
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي الدرداء وابن مسعود وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وأبي مالك الأشعري، وقال: هذا حديث حسن صحيح وأبو مسلم الخولاني اسمه عبد الله بن ثوب.
وأخرجه أيضاً: ابن حبان في صحيحه (2/338، رقم 577) ، والحاكم في المستدرك (4/466، رقم 8296) ، والحارث في مسنده (2/991، رقم 1108) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/87، رقم 167) .
(4) أخرجه مالك في الموطأ (2/953، رقم 1711) عن معاذ بم جبل.
وأخرجه أيضاً: أحمد في المسند (5/233، رقم 22083) ، وابن حبان في صحيحه (2/335، رقم 575) ، والحاكم في المستدرك (4/186، رقم 7314) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد جمع أبو إدريس بإسناد صحيح بين معاذ وعباد بن الصامت في هذا المتن.
ورواه أيضاً: عبد بن حميد (ص 72، رقم 125) ، والطبراني في المعجم الكبير (20/80، رقم 150) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/322، رقم 1449) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3/587) .(1/395)
ويستحب للإنسان إذا أحب شخصاً في الله أن يعلمه بذلك وأن يقول له: إني أحبك في الله.
روينا في سنن الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه» (1) قال الترمذي حديث حسن صحيح.
ويستحب لمن قال له إنسان: إني أحبك في الله، يقول في جوابه: أَحبَك الذي أحببتني فيه.
وروينا في سنن أبي داود عن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فمر رجل فقال يا رسول الله إني لأحب هذا فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أعلمته؟» قال: لا، قال: «أَعلمه» فلحق به فقال: إني أحبك في الله فقال: أَحبك الذي أحببتني له (2) .
وفي سنن أبي داود والنسائي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده وقال: «يا معاذ إني لأحبك، فقال: أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (3) .
وفي المعارف أن أبا مسلم الخولاني قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنهما: إني أحبك في الله، قال: أبشر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لطائفه من الناس كراسي حول العرش يوم
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه كما في تحفة الأحوذي (7/60) عن المقدام بن معدي كرب.
والحديث عند البخاري في الأدب المفرد (ص 191، رقم 542) ، وأبو داود في سننه (4/332، رقم 5124) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/59، رقم 10034) ، وأحمد في مسنده (4/130، رقم 17210) ، والحاكم في المستدرك (4/189، رقم 7322) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/282، رقم 491) ، وفي المعجم الكبير (20/279، رقم 661) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/393، رقم 2440) .
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/333، رقم 5125) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (6/54، رقم 10010) ، وأحمد في مسنده (3/140، رقم 12453) ، وابن حبان في صحيحه (2/330، رقم 571) ، والطبراني في المعجم الأوسط (3/227، رقم 2994) .
(3) أخرجه أبو داود في سننه (2/86، رقم 1522) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/32، رقم 9937) ، وأحمد في مسنده (5/244، رقم 22172) ، وابن خزيمة في صحيحه (1/369، رقم 751) ، وابن حبان في صحيحه (5/364، رقم 2020) ، والحاكم في المستدرك (1/407، رقم 1010) ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير (20/60، رقم 110) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/241) جميعاً عن معاذ.(1/396)
القيامة، وجوهم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «هم المتحابون في الله» (1) .
وينبغي أن يكثر كل من المتحابين المتواخين في الله الدعاء للآخر بظهر الغيب، وأن يقول أحدهم للآخر لا تنسانا من دعائك، فإن دعاء الإنسان لأخيه بظهر الغيب مستجاب.
فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أربعة دعوتهم مستجابة: الإمام العادل، والرجل يدعو لأخيه بظهر الغيب، ودعوة المظلوم ورجل يدعو لوالديه» (2) .
وأخرج الطبراني في الكبير عن أنس عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب دعوة المظلوم، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب» (3) .
وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أسرع الدعاء إجابة دعاء غائب لغائب» (4) .
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية كما في فيض القدير (1/470) عن واثلة بن الأسقع، ولم نجده بعد طول بحث عن ثوبان.
قال المناوي: وفيه مخلد بن جعفر جزم الذهبي بضعفه، وفيه محمد بن حنيفة الواسطي قال في الميزان: قال الدارقطني: غير قوي،، وفيه أيضاً: أحمد بن الفرج أورده الذهبي في الضعفاء، وضعفه أبو عوف.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (10/152) عن ابن عباس.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي وهو ضعيف.
وقال المنذري في الترغيب والترهيب (3/130) : رواه الطبراني وله شواهد كثيرة.
(4) أخرجه الخاري في الأدب المفرد (ص 218، رقم 623) عن عبد الله بن عمرو.
وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (2/89، رقم 1535) ، والترمذي في سننه (4/352، رقم 1980) وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والأفريقي يضعف في الحديث، وهو عبد الله بن زياد بن أنعم وعبد الله بن يزيد هو أبو عبد الرحمن الحبلي، وعبد بن حميد في مسنده (1/133، رقم 327) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/265، رقم 1328) ، والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (1/369، رقم 1490) .(1/397)
وأخرج أحمد عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «إن دعوة المرء المسلم مستجابة لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه قال: آمين، ولك مثل ذلك» (1) .
بل هي أسرع الدعوات إجابة كما ورد ذلك في حديث.
وأما أهل المعاصي والبدع فقد ورد في تجنبهم وبغضهم والإعراض عنهم وترك السلام عليهم أخبار وآثار.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعرض عن صاحب بدعة بغضاً له لله ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن انتهره صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن سلم على صاحب بدعة ولقيه بالبشرى، واستقبله بما يسره فقد استخف بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (2) .
وقال الفضيل: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه.
قال في نزهة المجالس: وقال عيسى -عليه الصلاة والسلام- تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتوبوا إلى الله بالتباعد منهم، والتمسوا رضا الله بسخطهم قالوا: يا روح الله فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يذكركم الله رؤيته، ومن يزيد في عملكم كلامه، ومن يرغبكم في الآخرة عمله.
ففي هذا زجر عن صحبته أهل المعاصي والبدع، وعن مجالستهم وحث على صحبته أهل الخير والصلاح ومجالستهم لنفعهم في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرجل ليقول في الجنة ما فعل صديقي فلان، وصديقه في الجحيم، فيقول الله تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنة، فيقول من بقي في النار ما لنا من شافعين ولا صديق حميم» (3) .
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/195، رقم 21755) عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -.
وأخرجه أيضاً: مسلم في الصحيح (4/2094، رقم 2732) ، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 19، رقم 625) ، وأبو داود (2/89، رقم 1534) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/98، رقم 201) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (6/133، رقم 3356) .
(2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/200) ، والخطيب في تاريخ بغداد (10/263) عن ابن عمر.
(3) لم نقف عليه.(1/398)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استكثروا من الإخوان فإن ربكم حييٌ كريم، يستحي أن يعذب عبده بين إخوانه يوم القيامة» (1) .
وقال علي كرم الله وجهد: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألم تسمع إلى قول أهل النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم.
وقال إمامنا الشافعي رحمه الله:
وأكثر من الأخوان ما اسطعت إنهم ... بطون إذا استنجدتهم وظهور
وليس كثير ألف خل وصاحب ... وإن عدواً واحداً لكثير
وقال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة، ومن علامة صدق الأخوة والمودة: أن يكون نفس المتآخين كنفس واحدة امتزاجاً وائتلافاً حتى أن كل واحد يجد في فمه لذة ما يأكل أخوه.
فائدة: ذكر بعض الحنفية في كتاب شَرَعَهُ آداباً للمآخاة والصحبة فقال منها: أن لا يؤاخي ويصادق إلا من يثق به وأمانته ويعرف صلاحه وتقواه فإن المرء يكون مع من أحب، ويحشر على دين خليله قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (2) ولله در القائل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى
قال ابن جماعة في أنس المحاضرة: قال قس بن محمد لولده يا بني إياك ومصاحبة الأندال فإن مصافاتهم إلى زوال، وهم أهل خلاف واختلاف، وسرعة إقبال وانصراف، إن رأوك بخير كرهوك، وإن رأوك في غبطة حسدوك، ولا تقبل قول واش أي: نمام في حق أخيك، ولا تفش سر أخيك لأحد كما قال الشاعر:
إذ الواشي نعى إليك صديقاً ... فلا تجف الصديق بقول واشي
ولا تصحب قرين السوء وانظر ... لنفسك من تجالس وتماشي
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/259، رقم 4833) ، وأحمد في مسنده (2/334، رقم 8398) ، وصححه الحاكم في المستدرك (4/188، رقم 7319) ، والطيالسي في مسنده (ص 335، رقم 2573) ، وعبد بن حميد (ص 418، رقم 1431) ، وأبو هريرة في حلية الأولياء (3/165) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(1/399)
ولا تخبر بسرك كل سر ... إذا ما جاوز الاثنين فاشي
ومنها: أن لا يغلو في الحب والبغض فيكون حبه كلفاً، وبغضه تلفاً، بل يكون مقتصداً فيهما.
ومنها: أن ينظر في وجه أخيه حباً له وشوقاً إليه، ففي الحديث: «نظر المؤمن إلى المؤمن عبادة، وتبسم الرجل في وجه أخيه المسلم يحط الخطايا عنهما» (1) .
ومنها: ينبغي أن يحذر كل منهما عما يوجب الفرقة بينهما، ففي الحديث: «ما تحاب اثنان ففرق بينهما إلا بذنب يصيبه أحدهما» (2) .
ومنها: أن يخلص له الود، ففي الحديث: «ثلاث يصفين لك ود أخيك، تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه» (3) .
ومنها: أن يوافق أخاه فيما أباح الشرع، فإن ذلك خير من الشفقة عليه، فإذا قال أخوه في شيء لا، يقول: لا، وإذا قال في شيء: نعم، قال: نعم وقد نظم عبد الله بن المبارك فقال:
وإذ صاحبت فاصحب صاحبا ... ذا حياء ووفاء كريم
قوله للشيء لا إن قلت ... وإذا قلت نعم قال نعم
وإذا قال له أخوه: قم بنا لا يقول: إلى أين؟ وإذا طلب منه شيئاً من ماله لا يقول له: كم تريد؟ أي شيء تصنع به؟.
ومنها: أن يفرح بما يرى عليه من النعم ويغتم بما يلقى عليه من الكرب والغم، ويسعى في تفريجه عنه.
ومنها: أنه ينبغي أن يستعمل مع أخيه بشاشة الوجه، ولطف اللسان، وسعة القلب، وكظم الغيظ، وإسقاط الكبر، وملازمة الحرمة، وقول المعذرة الكاذبة
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) لم نقف عليه.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (3/485، رقم 5815) عن شيبة بن عثمان الحجبي عن عمه عثمان بن طلحة.
ووراه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (8/192، رقم 8369) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/82) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبد الملك ابن عمير وهو ضعيف.(1/400)
والصادقة.
ومنها: أن يرى لأخيه من الحق والفضل على نفسه أكثر مما يرى له أخوه.
ومنها: أن يهدي إلى أخيه المسلم مما تيسر عن طيبة نفسه، ويقبل منه ما يهدي إليه وإن قل، ويزد له حباً ويكافئه بخير من ذلك أن وجد ويشكر له ويثني عليه خيراً، ويدعو له ويقول: جزاك الله خيراً، فإنه أبلغ الثناء والدعاء، ولا يكتم صنيعه.
ومنها: أن يزور أخاه المسلم غباً إن خاف سآمته، أو كل يوم إن من ذلك طالباً بذلك جزيل الثواب من الله.
ومنها: أنه إذا أتى باب أخيه استأذن الدخول عليه، ولا يقوم قبالة الباب ويستأذن ثلاثاً يقول: في كل مرة السلام عليكم يا أهل البيت، أيدخل فلان ويمكث بعد كل مرة مقدار يفرغ الأكل والمتوضئ والمصلي بأربع، فإذا أذن له وإلا رجع سالماً، وإذا نودي من داخل البيت: من على الباب لا يقول: أنا، فإنه ليس بجواب بل يقول: فلان.
قال النووي في الأذكار: ويستحب استحباباً مؤكداً زيارة الصالحين والإخوان، والجيران والأصدقاء والأقارب وغيرهم، وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وينبغي أن يكون زيادته لهم على وجه لا يكرهون وفي وقت يرتضونه.
وقد ورد في فضل زيارة الإخوان في الله في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلاً زار أخاً له في قرية أخرى، فأرصد على مدرجته أي: على طريقه ملكاً قال أين تريد؟ قال: أريد أخاً في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تربها أي: تحفظها وترعاها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى قال: فإني رسول الله تعالى إليك فإن الله قد أحبك كما أحببته فيه» (1) .
وفي كتاب الترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أيضاً قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في لله تعالى نادى مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلاً» (2) .
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1988، رقم 2567) عن أبي هريرة.
وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 128، رقم 350) ، وأحمد في مسنده (2/462، رقم 9959) ، وابن حبان في صحيحه (2/331، رقم 572) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/365، رقم 2008) عن أبي هريرة، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه في سننه (1/464، رقم 1443) .
وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص 126، رقم 345) ، وأحمد في مسنده (2/344،
رقم 8517) ، وابن حبان في صحيحه (7/228، رقم 2961) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/423، رقم 1451) ، وابن المبارك في الزهد (ص 246، رقم 708) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/493، رقم 9026) .(1/401)
ويستحب أن يطلب الإنسان من صاحبه الصالح أن يزوره، وأن يكثر من زيارته فقد ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام -: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت ?وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ? [مريم: 64] » (1) .
ومن آداب المزور أن يكرم الزائر، ومن مستحباته: أن يكرم الزائر، وأن يلقي السجادة أو نحوها تحته، وأن يقوم بخدمته، ولا ينبغي للزائر أن يرد كرامة المزور عليه، وأن يقول أحدهما للآخر: كيف أصبحت وكيف حالك؟ فيقول له: صاحبه أصبحت مؤمناً أو في خير وعافية والحمد لله رب العالمين، ثم إذا استقر به المكان قدم له ما حضر من طعام أو شراب لله در القائل:
قدم لزائرك الطعام وحيه ... حتى يراه كأنه في حيه
والبيت إن لم يلق مأكول به ... لا فرق بين الميت فيه وحيه
ومنها: أنه يتهيأ للقاء الإخوان ويتجمل لهم فيلبس من أنظف ثيابه، ويتطيب ويتوضأ وضوء للصلاة، ويتزين لهم ما استطاع ثم يخرج إليهم.
قال صاحب الأنوار في آخر كتاب الغسل، ويستحب لمن يصحب الناس التنظيف بالسواك، وأخذ الشعر، واستعمال الطيب، وقطع الروائح الكريهة، وحسن الأدب معهم، لتزويد المودة والوقار، وأن يتمسك بصحبته الصديق الصدوق.
فقد كان السلف إذا ظفروا بما يصلح للصداقة يتمسكون به ولم يضيعوه، علماً بأن الصديق الصدوق أعز من الكبريت الأحمر.
ومنها: أن يكون أولاد أخيه في الله أولاده فقد كان كثير من السلف الصالح يقوم بكلفة أولاد إخوانهم في الله، ويصرفون إليهم كسيهم كما يصرفونها إلى أولادهم.
كما حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: أتيت بعض البلاد فنزلت في مسجد،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (4/1760، رقم 4454) عن ابن عباس.
وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (5/316، رقم 3158) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/394، رقم 11319) ، وأحمد في مسنده (1/357، رقم 3365) ، والطبراني في المعجم الكبير (12/33، رقم 12385) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (5/116) .(1/402)
فلما كان وقت العشاء وصلينا أتاني الإمام بعد انصراف الناس، وقال: قم وأغلق باب المسجد، فقلت له: أنا رجل غريب، وهذه الليلة باردة أبيت هاهنا ولك الخير والأجر والثواب، فقال: قم ولا تكثر الكلام، فإن الغرباء يسرقون الحصر والقناديل، فقلت له: أنا إبراهيم بن أدهم فقال: قد أكثرت عليَّ الحديث وعلا على رجلي وقبضها وجعل يجرني على وجهي، حتى مر بي على باب أتون الحمام فدخلت الأتون وإذا أنا بالوقاد يقد النار فقلت: السلام عليك ورحمة الله فلم يرد علي السلام، بل أشار لي أن اجلس فجلست وأنا خائف منه لما رأيته تارة ينظر عن يمينه وتارة ينظر شماله، فلما فرغ من وقوده التفت إلى وعليك السلام فقال لي: يا هذا إنني أجير قوم فخفت أن أسلم عليك فأنشغل بالسلام فآثم وأخون، فقلت: رأيتك تنظر عن يمينك وشمالك أتخاف من أحد؟ قال: نعم قلت: ممن؟ قال: من الموت لا أدري من أين يأتيني أمن يميني أو من شمالي، فهو أكبر همي قلت له: بكم تعمل كل يوم قال: بدرهم ونصف، قلت: وما تصنع به؟ قال: آكل منه النصف وانفق الدرهم على أولاد أخي، قلت: أخوك من أمك وأبيك؟ قال: لا بل أحببته في الله تعالى، ومات وأنا أقوم بأهله وأولاده، فقلت له: عملك هذا عمل المتقين، هل دعوت الله في حاجة فأجابك؟ قال: لي حاجة عنده منذ عشرين سنة أدعوه بها وما قضاها، قلت: وما هي؟ قال: بلغني أن في الغرب رجلاً قد تميز على الزاهدين وفاق العابدين يقال له: إبراهيم بن أدهم دعوت الله - عز وجل - أن يجمع بيني وبينه حتى أراه وأموت، فقلت له أبشر يا أخي قد قضى الله حاجتك وما رضي أن يأتي بي إليك إلا سحباً على وجهي، قال فوثب من مكانه وعانقني وسمعته يقول: اللهم كما قضيت
حاجتي وأجبت دعوتي فارفعني إليك، قال: فنظرت إليه فإذا هو يرجف فتمدد على الأرض فأتيت إليه فحركته فإذا هو قد مات رحمه الله عليه، وهو مشهور بعبد الله الوقاد.
واعلم أن أنفع الأصدقاء هو الذي يوافق فعله قوله، وألا يكون كمن قال الله فيه ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] أنشد بعضهم:
لا ترض من رجل حلاوة قوله ... حتى يصدق ما يقول بفعال
فإذا وزنت فعاله بمقاله ... فتوازنا فإخاء ذاك جمال
* * *(1/403)
المجلس العشرون
في قوله - صلى الله عليه وسلم - «والذي نفسي بيده لا يؤمن من أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»
قَالَ البُخَارِي:
باب حُبُّ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الإِيمَانِ
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ (1) ، قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أحدكم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» .
قوله «باب حب الرسول من الإيمان» (2) والمراد بالرسول، سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا جنس الرسول ولا لاستغراق بقرينه قوله - صلى الله عليه وسلم -.
«حتى أكون» وإن كانت محبة الرسل واجبه فاللام في الرسول للعهد.
قوله «والذي نفسي بيده» أي: وحق الذي نفسي بيده وهو الله - عز وجل - وفي هذا دليل على جواز الحلف على الأمر المهم توكيداً له وإن لم يكن هناك مستحلفاً.
قال الرازي: وقد تواتر النقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: «والذي نفسي بيده» وإطلاق اليد على الله في أحاديث أخر منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي» (3) .
_________
(1) قوله: «شعيب» هو ابن أبي حمزة الحمصي، واسم أبي حمزة دينار. وقد أثمر المصنف من تخريج حديثه عن الزهري وأبي الزناد.
ووقع في غرائب مالك للدارقطني إدخال رجل -وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن- بين الأعرج وأبي هريرة في هذا الحديث، وهي زيادة شاذة، فقد رواه الإسماعيلي بدونها من حديث مالك، ومن حديث إبراهيم بن طهمان.
وروى ابن منده من طريق أبي حاتم الرازي عن أبي اليمان شيخ البخاري هذا الحديث مصرحاً فيه بالتحديث في جميع الإسناد، وكذا النسائي من طريق على بن عياش عن شعيب. انظر الفتح (1/131) .
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/131) : قوله: «باب حب الرسول» اللام فيه للعهد، والمراد سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرينة قوله: «حتى أكون أحب» ، وإن كانت محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2700، رقم 6986) ، ومسلم في صحيحه (4/2107، رقم 2751) من حديث أبي هريرة.(1/404)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يفتح أبواب السماء في ثلثي الليل الباقي، فيبسط يده فيقول: ألا من عبد فيسألني فأعطيه، قال: فما يزال كذلك حتى يطلع الفجر» (1) للعلماء فيه قولان:
أحدهما: إلحاقة بالمتشابه والسكوت عنه وتفويض علمه للعليم الخبير، وهو أسلم.
والثاني: تأويله بما يليق بجنابه الكريم بأن يقال: ليس المراد باليد هنا حقيقتها وهي الجارحة، فإنها في حقه سبحانه وتعالى محال، بل المراد القدرة فإن اليد تستعمل في القدرة مجازاً فإنه يقال: يد السلطان فوق يد الرعية أي: قدرته عالية فوق قدرتهم، ويقال: هذه البلدة في يد الأمير وإن كان مقطوع اليد، بمعنى في قدرته.
فقوله: «والذي نفسي بيده» مؤول بقدرته، وهذا القول أحكم ونزول الآيات الواقعة في كتاب الله بهذا التأويل مثل قوله تعالى ?بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ? [المائدة: 64] ، وقوله: ?يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ? [الفتح: 10] .
وقوله: «لا يؤمن أحدكم» محمول على نفي الكلام أي: لا يكمل إيمان أحدكم حتى أكون أجب إليه من والده وولده، فمن لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده فهو ناقص الإيمان.
قال الخطابي معناه: لا تصدق في حبي حتى تفني في طاعتي نفسك، وتؤثر رضائي على هواك وإن كان فيه هلاكك.
وقال ابن بطال (2) : معنى الحديث: أن من استكمل الإيمان علم أن حق الرسول آكد عليه من حق ولده ووالده والناس أجمعين، لأنه به استنقذنا من النار وهدينا من الضلال.
قال العلماء: هذا الحديث من جوامع الكلم الذي أوتيه - صلى الله عليه وسلم -، فإن المحبة ثلاث أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الولد للوالد، ومحبة شفعة ورحمة كمحبة الوالد لولده، ومحبة مشاكله واستحسان كمحبة سائر الناس فجمع أصناف المحبة في محبته.
وليس المراد بمحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو حبه اعتقاد وتعظيمه وإجلاله فإنه لا شك في كفر من لم يعتقد ذلك، وتنزيل هذا الحديث على هذا المعنى غير صحيح، لأن اعتقاد الأعظمية ليس بالمحبة ولا الأحبية ولا مستلزماً لها، إذ قد يجد الإنسان من نفسه إعظام
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/446، رقم 4268) ، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (3/449، رقم 765) عن عبد الله بن مسعود.
(2) ابن بطال هو: سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، أبو أيوب، فقيه باحث، له أدب وشعر، تعلم بقرطبة، واشتهر بكتابه: المقنع في أصول الاحكام، قالوا فيه: لا يستغني عنه الحكام، وكان من الشعراء أيضاً، كانت وفاته سنة: 404هـ.(1/405)
شخص ولا يجد محبته، بل المراد بالمحبة: الميل إلى المحبوب وتعلق القلب بعد اعتقاد تعظيمه.
وإنما اقتصر في هذا الحديث على ذكر الولد والوالد ولم يذكر غيرهما من الأهل، لأنهما أعز على العاقل من الأهل والمال، بل ربما يكونان عنده أعز من نفسه، ولهذا لم يذكر النفس في هذا الحديث أيضاً.
وإنما لم يذكر «الأم» - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إما لأنها تدخل في لفظ «الوالد» إن أريد به من له الولد، وإما أنه لم يذكر الأم اكتفاء بذكر الأب في هذا الحديث عهنا، كما يكتفي بذكر أحد الضدين عن الآخر.
وإنما قدم - صلى الله عليه وسلم - لفظ «الوالد» على الولد في هذا الحديث مع أن محبة الإنسان لولده أعظم من والده غالبا ًللأكثر، فإن كثير من الناس لا ولد له، وكل واحد له والد فلذلك قدما الأعم الأكثر وقوعاً على غيره.
وجاء في تقديمه رواية الولد على الوالد وسببه أن محبة الإنسان لولده أعظم من محبته لوالده غالباً، فلذلك قدم فيها.
وجاء في رواية زيارة: «الناس أجمعين» وهو من عطف العام على الخاص وهو كثير.
وهل تدخل النفس في عموم قوله: «والناس أجمعين» قال ابن حجر: الظاهر دخولها مع أنه وقع التنصيص على النفس في حديث.
فائدة: ورد في هذا الصحيح في الأيمان والنذور أن عمر بن الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفيك فقال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم» أي لا يكمل إيمانك «حتى أكون أحب إليه من نفسه» (1) فقال له عمر: فإنه الآن أنت أحب لي من نفسي فقال: الآن يا عمر أي: الآن كل إيمانك.
فاستفيد من جميع الروايات أنه يحب على الإنسان أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من نفسه وأهله وماله، وأن الإيمان لا يكمل إلا بذلك فإن الإنسان إذا تأمل من
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2445، رقم 6257) عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال ... فذكره.
وأخرجه أحمد في مسنده (4/233، رقم 18076) ، والبزار في مسنده (8/383، رقم 3459) ، والطبراني في المعجم الأوسط (1/102، رقم 317) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (8/189) .(1/406)
النفع له من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، على أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الإشفاعات فاستحق لذلك أن تكون محبته أفرض من غيره لأن النفع الذي تأت به المحبة حاصل أكثر من غيره.
فائدة: كل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إيماناً صحيحاً لم يخل عن محبته - صلى الله عليه وسلم - غير أن الناس متفاوتون في تلك المحبة، فمنهم من أخذ منها بالحظ الأوفر كالصحابة رضي الله عنهم أجمعين لما فازوا من رؤية ذاته الشريفة، والاطلاع على معجزاته وأحواله فمحبتهم له أعظم من غيرهم.
ومن الناس من يكون مستغرقاً بالشهوات محجوباً بالغفلات عن ذكره، ومحبته - صلى الله عليه وسلم - أوقاته لكنه إذا ذكر - صلى الله عليه وسلم - أو شيء من فضائله اهتاج لذكره واشتاق لرؤيته، يؤثر رؤيته بل رؤية قبره ومواضع آثاره على أهله وماله وولده ووالده ونفسه والناس أجمعين، ثم يزول عن ذلك سرعة لغلبته شهوته وتوالي الغفلات، فهذا داخل فيمن أحبه - صلى الله عليه وسلم - لكن يخاف عليه بسبب غلبته الشهوات وتوالي الغفلات، من ذهاب أصل تلك المحبة.
وقد دل الكتاب والسنة على وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - وكثرة ثوابها وفضلها كما دل على وجوبها الحديث المذكور وقال الله تعالى ?قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ? [التوبة: 24] .
قال القاضي عياض: فيكفي بهذه الآية حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوبها وعظم خطرها واستحقاقه لها - صلى الله عليه وسلم -، إذ قرع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله: ?فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ? فسقهم بتمام الآية وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله.
وروى أنس أن رجلاً أتى للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: متى الساعة يا رسول الله؟ قال: «ما أعددت لها؟» فقال: ما أعددت لها من كثير صوم ولا صلاة ولا صدقة، ولكن أحب الله ورسوله قال: «أنت مع من أحببت» (1) .
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (3/1349، رقم 3485) ، ومسلم في صحيحه (4/2032، رقم 2639) من حديث أنس بن مالك.(1/407)
وورد عن صفوان بن قدامة قال هاجرت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فآتيته فقلت: يا رسول الله ناولني يدك أبايعك، فناولني يده فقلت: يا رسول أحبك، قال: «المرء مع من أحب» ، وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن حجر:
وقائل هل عمل صالح ... أعددته يدفع عنك الكرب
فقلت حسبي خدمة المصطفى ... وحبه فالمرء من أحب
وروي أن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان شديد الحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما غير لونك» فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتوحش وحشة شديدة، حتى ألقاك، وإني لأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإني ذكرت موتي وموتك، فعرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلتها لا أراك فأنزل الله تعالى ?وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً? [النساء: 69] فدعا به قرأها عليه.
وأما محبة السلف من الصحابة والتابعين وابتاع التابعين والأئمة والأعلام فمن بعدهم له - صلى الله عليه وسلم - فقد نقل إلينا من ذلك شيء كثير.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رأني بأهله وماله» (1) .
ويروي أن امرأة قالت لعائشة بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكشفي قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكشفته لها فبكت حتى ماتت.
وسئل على بن أبي طالب - رضي الله عنه - كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ.
وخرج عمر ليلة فرأى مصباحاً في بيت وإذا عجوزاً تنفش صوفاً، وتقول:
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد بكيت بكاء في الأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل تجمعني وحبيبي الدار
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2178، رقم 2832) ، وأحمد في مسنده (2/417، رقم 9388) ، والخطيب في تاريخ بغداد (5/358)(1/408)
تعني النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فائدة: لمحبته - صلى الله عليه وسلم - علامات، فإن من أحب شيئاً ظهرت عليه آثاره وعلامات محبته عليه، وإلا فلا يكون صادقاً في حبه، وكان مدعياً.
فمن علامات محبته - صلى الله عليه وسلم -: استكمال سنتة ونصرها والذب عنها، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطة ومكرهه.
قال أنس بن مالك قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا بني إن استطعت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل» ثم قال لي: «يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة» (1) .
قال أبو القاسم نفعنا الله به: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقال أيضاً: طريق السادات المقربين السابقين مقيد بالكتاب والسنة الصوفية على الحقيقة، والعلماء العاملون بالشريعة والطريقة، وهم وراث النبي - صلى الله عليه وسلم - المتبعون له في أقواله وأفعاله وأخلاقه وأحواله أعاد الله علينا من بركاتهم، ومن إيثار ما شرعه حض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى ?وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [الحشر: 9] .
ومنها: إسخاط العباد في رضاه ورضى الحق سبحانه وتعالى، بأن يفعل شيئا يرضي
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/46، رقم 2678) عن سعيد بن المسيب قال: قال أنس بن مالك قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قال الترمذي: وفي الحديث قصة طويلة، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ومحمد بن عبد الله الأنصاري ثقة وأبوه ثقة وعلي بن زيد صدوق إلا أنه ربما يرفع الشيء الذي يوقفه غيره قال وسمعت محمد بن بشار يقول: قال أبو الوليد قال شعبة حدثنا علي بن زيد وكان رفاعاً ولا نعرف لسعيد بن المسيب عن أنس رواية إلا هذا الحديث بطوله.
وقد روى عباد بن ميسرة المنقري هذا الحديث عن علي بن زيد عن أنس ولم يذكر فيه عن سعيد بن المسيب.
قال الترمذي أيضاً: وذاكرت به محمد بن إسماعيل فلم يعرفه ولم يعرف لسعيد بن المسيب عن أنس هذا الحديث ولا غيره، ومات أنس بن مالك سنة ثلاث وتسعين ومات سعيد بن المسيب بعده بسنتين ومات سنة خمس وتسعين.
والحديث بقصته التي أشار إليها الترمذي عند الطبراني في المعجم الأوسط (6/123، رقم 5991) .(1/409)
الله ورسوله، وإن كان فيه إسخاط العباد، فمن أرضى الله واسخط العباد كان محباً للمولى الجواد، ومحباً لسيد العباد - صلى الله عليه وسلم -، أنشد مشايخي بيتين في هذا المعنى:
لا تغضب الحق وترضي الورى ... وقدم الخوف ليوم الوعيد
وأرضي الله فأشقى الورى ... من أسخط المولى وأرضى العبيد
ومنها: كثرة ذكره له فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره.
ومنها: كثرة شوقة إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه، ولما قدم الأشعريون المدينة من فرحهم كانوا يقولون: غدا نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
ومنها: تعظيمه وتوقيره عند ذكره وإظهار الخشوع والانكسار عند سماع اسمه فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يذكرونه إلا خشوعاً واقشعرت جلودهم وبكوا، وكذلك كثير من التابعين منهم من يقم ذلك له وشوقاً إليه، ومنهم من يفعله تعظيماً له وتوقيراً له، ومنهم من يفعله لحبه لمن كان يحبه - صلى الله عليه وسلم -، وبغضه لمن كان يبغضه، كحب آل بيته وصحابته من المهاجرين والأنصار، وعداوة من عاداهم، وبغض من أبغضهم وسبهم، كما كانت الصحابة تحب الذي يحبه - صلى الله عليه وسلم -، ويبغضون الذي يبغضه - صلى الله عليه وسلم -.
قال أنس بن مالك: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل الديك ويحبه قال: فما زلت أحبه لمحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تواتر النقل عن أصحابه أنهم أحبوه وقاتلوا آباءهم في مرضاته.
ومنها: أنه يحب القرآن الذي أتى به - صلى الله عليه وسلم - وأن يهتدي به، وحبه للقرآن بتلاوة والعمل به.
قال عبد الله: علامة حب الله حب القرآن، وعلامة حب القرآن حب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلامة حب النبي - صلى الله عليه وسلم - حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا لا يدخر منها إلا زاداً.
ومنها: شفقتة على أمته ومحبته لهم وسعيه في مصالحهم ودفع المضار عنهم كما كان - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً.
ومنها: تمني حضور حياته فيبذل ماله ونفسه بين يديه - صلى الله عليه وسلم -، حكى الإمام القشيري - رضي الله عنه - عن عمرو بن الليث أحد ملوك خراسان أنه رؤي بعد موته في النوم فقيل له: ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لي فقيل: بماذا؟ قال صعدت ذروة جبل فأشرفت على جنودي فأعجبتني كثرتهم فتمنيت أني لو كنت حياً في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرت القتال معه ونصرته فشكرت الله على ذلك وغفر لي.(1/410)
ومحبته - صلى الله عليه وسلم - والإيمان به والإيمان بنبوته ورسالته وقعت لكثير من الحيونات والجماد.
فائدة: وهي معجزة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - روى الدارقطني والبيهقي وشيخه ابن عدي عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضباً وجعله في كمه ليذهب إلى رحلة فرأى جماعة محتفين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما بال هؤلاء الجماعة؟ فقالوا: هذا محمد فأتى فقال: يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك، فلولا أن تسميني العرب عجولاً لقتلك فسررت بقتلتلك الناس أجمعين فقال عمر: يا رسول الله دعني أقتله فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً» ثم أقبل الأعرابي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: واللات والعزى لما آمنت بك أو يؤمن بك هذا الضب، وأخرج الضب من كمه، فطرحه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن آمن بك آمنت بك فقال - صلى الله عليه وسلم -: «يا ضب» فكلمه الضب بلسان فصيح عربي يفهمه القوم جميعاً: لبيك وسعديك يا رسول العالمين فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعبد؟» قال: أعبد الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه، قال: «فمن أنا يا ضب؟» قال: أنت رسول رب العالمين خاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله حقاً، والله لقد أتيتك وما على وجه الأرض أحد هو أبغض لي منك، والله لأنت الساعة أحب إليَّ من نفسي ومن ولدي، فقد آمن بك شعري وبشري وداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحمد لله هداك لهذا الدين، الذي يعلوا ولا يعلى عليه ولا يقبله الله إلا بصلاة، ولا يقبل الصلاة إلا بقرآن» قال: فعملني، فعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة الحمد، وقل هو الله أحد، فقال: يا رسول الله ما سمعت في البسيط ولا في الرجز أحسن من هذا فقال
- صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا كلام رب العالمين وليس بشعر، إذا قرأت قل هو الله أحد قرأت ثلث القرآن، وإن قرأتها مرتين فكأنما قرأت ثلثي القرآن، وإن قرأتها ثلاثاً فكأنما قرأت القرآن كله» فقال الأعرابي: إن إلهنا يقبل اليسير ويعطي الكثير، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألك مال فقال: ما في بني سليم قاطبة رجل أفقر مني، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه: أعطوه، فأعطوه فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله إني أعطيته ناقة عشراً أهديت لي يوم تبوك فقال: «قد وصف ما تعطي، أو أصف لك ما يعطيك الله جزاء لك» قال: نعم قال: «لك ناقة من درة بيضاء جوفاء فوائمها من زمرد أخضر، عيناها من زبرجد أخضر، عليها هودج وعلى الهودج السندس والإستبرق تمر بك على الصراط كالبرق الخاطف» .(1/411)
فخرج الأعرابي من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقي ألف أعرابي على ألف دآبة بألف سيف وألف رمح فقال لهم: أين تريدون؟ فقالوا: نريد الذي يكذب ويزعم أنه نبي، فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا له: صبوت فحدثهم بحديثه، فقالوا كلهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، قالوا: يا رسول الله مرنا بأمرك فقال: «كونوا تحت رآية خالد بن الوليد» فلم يؤمن من العرب ألف غيرهم (1) .
نقل ابن الجوزي في بعض مصنفاته عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الضب أنشأ يقول:
ألا يا رسول إنك صادق ... فبوركت مهدياً وبوركت هاديا
شرعت لنا دين الحنفية بعد ما ... عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا
فيا خير مدعي ويا خير مرسل ... إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا
أتيت ببرهان من الله واضح ... فأصبحت فينا صادق القول داعيا
فبوركت في الأحوال حياً وميتاً ... وبوركت مولوداً وبوركت ناشئا
والضب حيوان بري معروف يعيش سبعمائه سنة فصاعداً، ويبول في كل أربعين يوم قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: إنه سنة قطعة واحدة وأكله حلال بالإجماع، لكن ما أكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى الشيخان عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أحرام هو؟ قال: «لا ولكنه لم يكن بأرض قومي» (2) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في المعحم الأوسط (6/126برقم 5996) ، وفي المعجم الصغير (2/153برقم 948) ، والأصبهاني في دلائل النبوة (ص:321) عن ابن عمر.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/294) : رواه الطبراني في الصغير والأوسط عن شيخه محمد بن علي بن الوليد البصري قال البيهقي: والحمل في هذا الحديث عليه، قلت -أي الهيثمي -: وبقية رجاله رجال الصحيح.
ومحمد بن على بن الوليد ترجم له الذهبى فى المغنى (2/616رقم 5837) ، والميزان (6/263رقم7970) وقال: يروي عن العدني، وروى عنه الطبراني وابن عدي، وروى البيهقي حديث الضب من طريقه بإسناد نظيف، ثم قال البيهقي: الحمل فيه على السلمي هذا، وصدق البيهقي فالخبر باطل، وتبع الحافط ابن حجر الذهبى فى اللسان (5/292) وزاد عليه بقوله: وروى عنه الإسماعيلي في معجمه، وقال: بصري منكر الحديث.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2060، رقم 5076) ، ومسلم في صحيحه (3/1543، رقم 1945) من حديث ابن عباس.(1/412)
وفي رواية لمسلم «لا آكله ولا أحرمه» (1) .
وفي أخرى «كلوه فإنه من حلال لكنه ليس من طعامي» (2)
، ولا يكره أكله عندنا خلافاً لبعض أصحاب أبي حنيفة.
لطيفة: ذكر حجة الإسلام الغزالي في الإحياء عن أبي جعفر الصيدلاني قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ومعه جماعة وإذا بملكين نزلا من السماء مع أحدهما طست والآخر إبريق فغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يده ثم واحد بعد واحد حتى أتوا إليّ فقال أحدهم: ليس هو منهم، فقلت: يا رسول الله أنت قلت: المرء مع من أحب، وأنا أحب هؤلاء فقال - صلى الله عليه وسلم -: صبوا على يده فإنه منهم.
فائدة: محبة الله أعظم القربات، وأفضل الطاعات، وهي متوقفة على امتثال أوامره واجتناب نواهية، ويدل على ذلك قول الله تعالى ?قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [آل عمران: 31] .
وعلامة محبة العبد لله طاعة له وعدم عصيانه كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... إن المحب لمن يجب مطيع
فمحبة العبد للرب طاعة ومحبة الرب سبحانه وتعالى للعبد عفوه عنه، وإنعامه عليه برحمته.
قال في الروض الفائق: كان داود - عليه السلام - يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومن
_________
(1) الرواية عند مسلم في الصحيح (3/1542، رقم 1943) عن نافع عن ابن عمر قال سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضب ... فذكره.
ورواه البخاري معلقاً (6/2677) في «باب الأحكام التي تعرف بالدلائل» .
(2) هذه الرواية عند البخاري في الصحيح (6/2652، رقم 6839) عن توبة العنبري قال: قال لي الشعبي أرأيت حديث الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاعدت ابن عمر قريباً من سنتين أو سنة ونصف فلم أسمعه يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هذا قال: كان ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد فذهبوا يأكلون من لحم فنادتهم امرأة من بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه لحم ضب فأمسكوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلوا أو اطعموا فإنه حلال أو قال لا بأس به شك فيه ولكنه ليس من طعامي» .
وأخرجه أيضاً مسلم في صحيحه (3/1542، رقم 1944) .(1/413)
الماء البارد.
وقال أنس بن مالك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحب الله فليحبني ومن أحبني فليحب أصحابي، ومن أحب أصحابي فيلحب القرآن، ومن أحب القرآن فليحب المساجد فإن المساجد أبنية الله، وأبنية أذن الله برفعها وتطهيرها، بارك فيها فهي ميمونة بأهلها فهم في صلاتهم والله تعالى في قضاء حوائجهم، وهم في مساجدهم والله تعالى في حج مقاصدهم» (1) .
وعن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى: إذا أحب عبداً نادى جبريل» (2) ، وفي رواية: إن جبريل ينادى في أهل السماء والأرض، إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فعند ذلك يلقي حبه في الأرض، ويقع في الماء فيشربه البر والفاجر فيحبه البر والفاجر، وإذا بغض الله عبداً أمر الله تعالى جبريل أن ينادي بالعكس من ذلك فيبغضه البر والفاجر.
وكان أبو يزيد البسطامي يقول في مناجاته: إلهي لست أعجب من حبي لك، وأنا عبد حقير، وإنما أعجب من حبك لي وأنت رب جليل، تحب عبداً ذليلاً.
وجرت مسألة المحب بين الشيوخ بمكة، فتكلموا فيها ثم قالوا للجنيد: هات ما عندك يا عراقي فقال: المحب عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه ناظراً إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده بالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى المشايخ.
قال ابن الجوزي: من ادعى أربعاً من غير أربع فهو كذاب: من ادعى حب الجنة ولم يعمل بالطاعة فهو كذاب، ومن ادعى خوف النار ولم يترك المعصية فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ولا يجالس الفقراء والمساكين فهو كذاب، ومن ادعى حب الله تعالى وهو يشكو لأحد من البلاء فهو كذاب.
من أطاع الله تعالى وأحبه عاش، ومن التفت إلى الخلق حجب عن الحق، ومن أقبل على غير الله سقط من عين الله، ومن بذل نفسه لله وصل إلى الله، ومن وصل إلى الله عرف الله، ومن ألف إلى الله نظر بقلبه إلى الله، ومن كان يعرف مولاه وقدرته
_________
(1) لم نقف عليه.
(2) سبق تخريجه.(1/414)
فليس تغمض طول الليل عيناه، ورد في الحديث يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: «قربوا مني أهل لا إله إلا الله فإني أحبهم» (1) .
أهل التوحيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر، سبقت محبتهم لي قبل خلقهم، وطاعتهم لي قبل إيجادهم فصاروا أولياء بالموهبة القديمة لا جرم جاء مدحهم في الآيات المكنونة يحبهم ويحبون ولقد أحسن من قال:
نالوا مرادهم بحب حبيبهم ... وتمتعوا بدنو وصاله
وعليهم ظهر الجمال لأنهم ... بقلوبهم نظروا لحسن جماله
وبحبه قد اشتغلوا ويا طوبى لمن ... قد أصبح المحبوب من أشغاله
* * *
_________
(1) لم أقف عليه.(1/415)
باب (1)
بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ، عَائِذُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - وَكَانَ شَهِدَ بَدْراً، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» .
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ (3) .
«عبادة بن الصامت» هذا هو أبو الوليد عبادة بضم العين بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي، شهد العقبتين الأولى والثانية وبدراً وأحداً وبيعة الرضوان والمشاهد كلها وهو أول من ولي فلسطين، ولاه عمر وكان طويلاً جسيماً فاضلاً
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله «باب» كذا هو في روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلاً، فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضاً، لأن الباب إذا لم تذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء. ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار، لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لما توافقوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عند عقبة منى في الموسم.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «عائذ الله» هو اسم علم أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله ابن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير، وقد ذكر في الصحابة لأن له رؤية، وكان مولده عام حنين. والإسناد كله شاميون.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : وقد أخرج البخاري حديث هذا الباب في مواضع أخر: في باب من شهد بدراً لقوله فيه: «كان شهد بدراً» ، وفي باب وفود النصارى لقوله فيه: «وهو أحد النقباء» ، وأورده هنا لتعلقه بما قبله.
ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين: أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر.
وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار.(1/421)
جميلاً خيراً.
قال الإستيعاب: وجهه عمر إلى الشام قاضياً ومعلماً فأقام بحمص ثم انتقل إلى فلسطين، وكان معاوية قد خالفه في شيء من مسائل الربا أنكره عليه عبادة فأغلظه معاوية في القول فقال له عبادة: لا أسكنك بأرض واحد أبداً ورحل إلى المدينة، فقال له عمر: ما أقدمك فأخبره فقال: ارجع إلى مكانك فقبح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك، وكتب إلى معاوية: لا أمره لك عليه.
روي له مائة حديث وواحد وثمانون حديثاً أتفق منهما على ستة، وانفرد كل واحد بحدثين.
روى عنه جمع من الصحابة منهم أنس وكانت وفاته بفلسطين، وقيل: بالرملة ستة أربع وثلاثين عن ثنتين وسبعين سنة، وقبره ببيت المقدس معروف.
وإنما قال البخاري: في حق عبادة «وكان شهد بدراً» أي: غزوة بدر مع أنه شهد غيرها من المشاهد لأن غزوة بدر كانت أفضل الغزوات كما قاله البرماوي وغيره، وتسمى «بدر الكبرى وبدر العظمى» ، أما «بدر القتال» فهي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها.
قيل: سميت غزوة بدر لبئر هناك يسمى بدراً باسم حافره بدر بن الحارث.
وقيل: بدر بن كلدة، وقيل: كالبدر وقيل: لرؤية البدر فيه.
فائدة: قال ابن كثير (1) : انتصار المسلمين على الكفار في غزوة بدر في يوم يسمى يوم الفرقان، الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وحزبه، هذا مع قلة عدد المسلمين وكثرة العدو، مع ما كانوا فيه من سوابغ الحديد والعدة الكاملة والخيل المسومة والخيلاء الزائد، فأعز الله وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبيله، وأخزي الشيطان وجيله، ولهذا قال الله تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين: ?وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ? [آل عمران: 123] أي: قليل عددكم لتعلموا أن النصر هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد.
فقد كانت هذه الغزوة أعظم غزوات الإسلام إذ منها كان ظهوره، وبعد وقوعها أشرق على الأفاق نوره، ومن حين وقوعها أذل الله الكفار وأعز من حضرها من المسلمين فهو عنده من الأبرار، وكان خروجهم يوم السبت لثنتي عشر خلت من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً، وكان عدد المسلمين في غزوة بدر
_________
(1) ابن كثير هو: إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضو بن درع القرشي البصروي ثم الدمشقي، أبو الفداء، عماد الدين حافظ مؤرخ فقيه، ولد في قرية من أعمال بصرى الشام سنة 701هـ، وانتقل مع أخ له إلى دمشق سنة 706هـ، ورحل في طلب العلم، وتوفي بدمشق سنة: 774 هـ، تناقل الناس تصانيفه في حياته، من كتبه: البداية والنهاية في التاريخ على نسق الكامل لابن الأثير والكتاب مطبوع شائع بين الناس، وشرح صحيح البخاري لم يكمله، وله: طبقات الفقهاء الشافعيين، وتفسير القرآن الغظيم، وجامع المسانيد، واختصار علوم الحديث وهي رسالة في المصطلح شرحها أحمد محمد شاكر في كتابه الباعث الحثيث إلى معرفة علوم الحديث.(1/422)
ثلاثمائه وخمساً، وحضر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها الأنصار ولم تكن قبل ذلك خرجت معه، وكان عدد المشركين فيها ألفاً وقيل: غير ذلك، وكانت من غير قصد المسلمين إليها ولا ميعاد كما قال تعالى: ?وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً? [الأنفال: 42] .
واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلاً من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقتل من المشركين سبعون وأسر سبعون وأنهزم الباقون، وغنم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متاعهم وكان العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأسارى السبعين.
لطيفة أخرى: قال علماء السير وغيرهم: لما التقى الناس في غزوة بدر ودنا بعضهم من بعضهم بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء أي: من التراب فاستقبل بها قريشاً ثم قال: «شاهت الوجوه» (1) ثم نفخهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا، فكانت تلك الحصباء عظيم شأنها، لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه فانهزموا، وجعل المسلمون يقتلون ويأسرون وبادر كل واحد من الكفار مكباً على وجهه لا يدري أين يتوجه، يعالج التراب حتى ينزعه من عينيه، وكانت الملائكة تقاتل مع المسلمين في هذه الغزوة.
قال ابن سيد الناس: ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر بل كانوا يحضرون من غير قتال عدداً ومدداً لا يضربون أحداً بخلاف غزوة بدر فإنهم كانوا يقاتلون فقد نقل عن أبي داود المازني: وكان شهد بدراً قال: إني لاتبع رجلاً من المشركين يوم بدر لأضربه إذ تقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري أي: من الملائكة.
وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراء، وكان على جبريل ذلك اليوم عمامة صفراء وكان شعارهم: «أحد» .
وسبب نزول الملائكة في غزوة بدر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى المشركين وهم
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (1/303، رقم 2762) ، وابن حبان في صحيحه (14/430، رقم 6502) ، والحاكم في المستدرك (1/268، رقم 583) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (10/218، رقم 230) عن ابن عباس.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/228) : رواه أحمد بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح.(1/423)
ألف وأصحابه ثلاثمائة وخمسة أو سبعة عشر رجلاً فاستقبل نبي الله - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف: «اللهم أنجز لي ما وعدتني» فأنزل الله عند ذلك: ?إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ? [الأنفال: 9] أي: فأمده الله بألف من الملائكة.
وروي أن جبريل نزل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة في صور الرجال، على خيل بلق عليهم ثياب بيض، وعلى رؤوسهم عمائم بيض قد أرخوا أطرافها بين أكتافهم.
وقال ابن عباس: كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض، ويوم حنين عمائم خضر.
وروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن شماله يوم بدر رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام يقاتلان كأشد القتال (1) .
فلما انهزم الكفار قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من لقي العباس فلا يقتله وإنه خرج مستكرها» فلما أسره المسلمون مع جملة الأسرى السبعين وأوثقوهم في تلك الليلة، فجعل العباس يئن من شدة الوثاق، فترك النبي - صلى الله عليه وسلم -: النوم، فقيل: ما يسهرك يا رسول الله قال: «أقلقني أنين العباس فقام الرجل وأرخى وثاقه» (2) .
ونقل بعض أهل السير: أن العباس لما كتف وانتصف الليل وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ألماً وضراً فجعل يشتكي منه ويتضرع إلى الله، فهبط جبريل وقال: يا سيد البشر إن كنت تريد أن يزول عنك هذا البأس فسارع في حل كتاف العباس فقال: يا جبريل هو من جملة الأساري التاركين دين الإسلام فقال: جبريل بل يقول لك ربك: إنه
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1802، رقم 2306) عن سعد.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/171، رقم 1468) ، وابن حبان في صحيحه (15/446، رقم 6987) ، وابن أبي شيبة في المصنف (6/376، رقم 32153) ، والشاشي في مسنده (1/185، رقم 133) ، والطيالسي في مسنده (ص 28، رقم 206) ، واللالكائي في كرامات الأولياء (ص 128، رقم 77) ، والدورقي في مسند سعد (ص 137، رقم 77) .
(2) أخرجه ابن سعد في الطبقات االكبرى (4/13) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/89، رقم 17924) عن ابن عباس.(1/424)
شيخ كبير وللشيخ عندنا حرمة، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه جماعة من أصحابه قاصدين نحو العباس فلما رآهم ظن أنهم إلى قتلة قاصدين فواقعة الخوف فقال: يا ابن أخي ما جاء بك بالليل فقال: لا بأس عليك يا عمي قد عاتبني ربي من أجلك، فجعل العباس يبكي ويقول: يا مولاي أنا أحيد عن توحيدك وأنت تطلف بأقل عبيدك، ثم قال: يا سيد الأكوان أشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ففرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه فخلع عمامته عليه وضجت الملائكة والصحابة بالصلاة والسلام عليه، ونزل جبريل فقال: يقول لك الله عز وجل: جعلت على العباس العمامة ونحن لأجلك نخلع عليه الخلافة إلى يوم القيامة.
فائدة أخرى: ذكر العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكث ثلاث سنين في أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة، فأظهر نفسه ودعى الناس إلى الإسلام عشر سنين في كل عام في الموسم لعله يجد أحد يعينه وينصره فلا يجد أحداً ينصره، حتى أنه كان يسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة، ويعرض نفسه عليها لعله يجد لعل أن يأووه عندهم وينصروه حتى يبلغ رسالة ربه، فيأتي إليهم الشيطان فيصدهم عن إيوائه - صلى الله عليه وسلم - ونصرته فيرددون عليه أقبح رد، ويؤذونه ويسخرون به ويقولون قومك أعلم بك.
ولما أراد الله إظهار دينه ساقة إلى هذا الحي من الأنصار، فأقبل منهم اثنان إلى مكة فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلما، ثم أقبل منهم في العام القابل ستة فدعاهم فأسلما، ثم لا زالوا يزدادون حتى فشا فيهم الإسلام ولم تبق دار من الأنصار بالمدينة الشريفة إلا وفيها ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قال البخاري في حق عبادة ابن الصامت: «وهو أحد النقباء ليلة العقبة» (1) و «النقباء» جمع «نقيب» وهو الناظر على القوم، وضمينهم وعريفهم، والمراد بالنقباء هاهنا الأنصار الذين تقدموا البيعة - صلى الله عليه وسلم -.
والمراد «بالعقبة» في ليلة العقبة التي تنسب إليها جمرة العقبة، وعندها وقعت «المبايعة» ، و «المبايعة» هي المعاقدة والمعاهدة، شبهت بعقود المال لأن كلاً يعطي ما
_________
(1) هنا لطيفة ذكرها ابن حجر في الفتح (1/140) فإنه قال: يحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلاً، إذا حمل على أنه سمع ذلك من عبادة، أو الزهري فيكون منقطعاً. وكذا قوله: «وهو أحد النقباء» .(1/425)
عنده بما عند الآخر، فما عند النبي - صلى الله عليه وسلم - الثواب والخير الكثير، وما عندهم إلتزام الطاعة.
وحقيقة المبايعة: أن يعقد الإمام العهد مع رعيته بما يأمرهم كما عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه.
قال العلماء: وبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات:
البيعة الأولى: للأنصار وكانوا اثنا عشر رجلاً وكانت هذه المبايعة بمنى، وتسمى البيعة الأولى من بيعتي العقبة، بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام دون القتال لأنه لم يفرض يومئذ وسماهم بالأنصار.
والثانية: للأنصار أيضاً وكانوا سبعين رجلاً جاءوا للحج بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفية بالليل أوسط أيام التشريق، قال لهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: «أخرجوا إلىّ منكم اثنا عشر نقيباً حتى أبايعهم، وإنما طلب - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر نقيباً إقتداء بقول الله تعالى في قوم موسى: ?وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً? [المائدة: 12] فأخرجوا له منهم اثنا عشر نقيباً، وأسماءهم معروفة في كتب السير منهم: عبادة بن الصامت كما قال البخاري: «وهو أحد نقباء ليلة العقبة» فتقدموا لمبايعته - صلى الله عليه وسلم - فبايعهم فيها على القتال وعلى حرب الأحمر والأسود، وكان أول آية أنزلت في الإذن بالقتال: ?أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ? [الحج: 39] وجعل ثوابهم الجنة، وهذه البيعة الثانية من بيعتي العقبة.
والبيعة الثالثة: بعد هاتين البيعيتين «بيعة الرضوان» بايعهم - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة وكانوا ألفاً وثلاثمائة بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفروا.
وإلى هذه البيعة أشار الله تعالى بقوله: ?لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً? [الفتح: 18] وهذه البيعة كانت بعد الهجرة بخلاف البيعتين الأولتين.
وذكر البخاري هنا كيفية الأولى بقوله: «عن عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله (1) عصابة من أصحابه» (2) أي: جماعة من أصحابه والعصابه بكسر
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قوله: «وحوله» بفتح اللام على الظرفية.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/140) : قوله: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» سقط قبلها من أصل الرواية لفظ «قال» وهو خبر أن، لأن قوله: «وكان» وما بعدها معترض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف «قال» خطأ لكن حيث يتكرر في مثل «قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية البخاري لهذا الحديث بإسناده هذا في باب من شهد بدراً فلعلها سقطت هنا ممن بعده.
ولأحمد عن أبي اليمان بها الإسناد أن عبادة حدثه.(1/426)
العين ما بين العشرة إلى الأربعين، وكانوا في هذه البيعة اثنا عشر كما تقدم.
«بايعوني» أي: عاهدوني وعاقدوني (1) .
«على أن لا تشركوا بالله شيئا» (2)
أي: على أن تعبدوه وتوحدوه ولا تشركوا به شيئاً والشرك بالله تعالى هو أن تجعل لله نداً وتعبد معه غيره من حجر وبشر أو شمس أو قمر أو نبي أو شيخ أو جني أو ملك أو نجم أو غير ذلك وهو ذنب عظيم لا يغفر قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48] ، وقال الله تعالى: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13] ، وهو أكبر الكبائر فلهذا أبايعهم على تركه قبل غيره.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: الإشراك بالله» (3) فمن أشرك بالله ثم مات مشركاً فهو من أصحاب النار قطعاً.
وأيضاً إنما بايعهم عل ترك الشرك أولاً لأن المبايعة على التوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساس الإسلام.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تسرقوا» والسرقة من الكبائر قال تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سميت بذلك تشبيها بالمعاوضة المالية.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر وهو الرياء، ويدل عليه تنكير شيئاً أي: شركاً أيا ما كان.
وتعقب بأن عرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يريد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك. ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفاً.
ولكن يعكر عليه أيضاً أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك وأنه مخصوص.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2229، رقم 5631) ، ومسلم في صحيحه (1/91، رقم 87) عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه.(1/427)
حَكِيمٌ? [المائدة: 83] .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده» (1) .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» (2) .
قيل: وينبغي إن يقال عند سماع هذا أعاذنا الله من ذلك، وإنما تكون السرقة من الكبائر إذا سرق ما قيمته ربع دينار أما سرقة ما دون ذلك فهو من الصغائر، إلا إذا كان المسروق منه مسكيناً لا غنى له عن ذلك، فيكون كبيرة لا من جهة السرقة بل من جهة الأذى، وحد السارق قطع اليد إذا كان المسروق ربع دينار.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تزنوا» الزنا أيضاً من الكبائر قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً? [الإسراء: 32] .
وقال تعالى: ?الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ َأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ? [النور: 2] .
وأجمع أهل الملل على تحريمه ولهذا كان حده أشد الحدود لأنه جناية على الأعراض والأنساب.
فائدة: قال النووي: يكره للإنسان إذا ابتلي بمعصية أو نحوها أن يخبر غيره بذلك، بل ينبغي له أن يستر على نفسه وأن يتوب إلى الله تعالى، فإن أخبر بمعصيتة شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلمه مخرجاً من معصيتة، أو يعمله ما يسلم من الوقوع في مثلها، أو يعرفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعو له ونحو ذلك فلا بأس به بل هو حسن، وإنما يكره إذا انتفت هذه المصلحة.
روينا في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» (3)
من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (6/2489، رقم 6401) ، ومسلم في صحيحه (3/1314، رقم 1687) من حديث أبي هريرة.
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1282، رقم 3288) ، ومسلم في صحيحه (3/1315، رقم 1688) من حديث عائشة.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2254، رقم 5721) ، والبيهقي في السنن الكبرى (8/329، رقم 17377) ، والديلمي في الفردوس (3/267، رقم 4795) عن أبي هريرة.
وأخرجه الطبراني في المعجم الصغير (1/378، رقم 632) عن أنس بن مالك عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنهما.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/192) : فيه عون بن عمارة وهو ضعيف.(1/428)
يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ويصبح يكشف ستر الله عليه.
وفي حديث: «من أتى بهذه القاذورات فليستتر بستر الله، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه الحد» (1) رواه الحاكم.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تقتلوا أولادكم» (2) إنما بايعهم على ترك قتل الأولاد مع أن قتل غير الأولاد بغير حق حرام لأن قتل البنات كان فاشياًَ أكثر من قتل غيرهم، وهو المسمى بوأد البنات الذي نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال» (3) متفق عليه.
ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تأتوا ببهتان» أي: بكذب يبهت سامعه أي: يدهشه لفظاعته.
_________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7615) عن عبد الله بن عمر، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وأخرجه أيضاً: البيهقي في السنن الكبرى (8/330، رقم 17379) .
وأخرجه مالك في الموطأ (2/825، رقم 1508) عن زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول - صلى الله عليه وسلم - فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسوط، فأتي بسوط مكسور فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته، فقال: «دون هذا» فأتي بسوط قد ركب به ولان فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلد، ثم قال: «أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ... » فذكره بنحوه.
وأخرج رواية مالك في الموطأ البيهقي في السنن الكبرى (8/326، رقم 17352) من طريق مالك.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/141) : قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعاً فيهم، وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم.
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (2/848، رقم 2277) ، ومسلم في صحيحه (3/1341، رقم 593) من حديث المغيرة بن شعبة.(1/429)
«تعترونه» أي: تختلقونه.
«بين أيدكم وأرجلكم» فإن قيل: كيف أضاف - صلى الله عليه وسلم - البهتان إلى الأيدي والأرجل مع أنها لا مدخل لها في البهتان، فإنه يكون باللسان فقط؟
أجيب عنه بأوجه:
منها: أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل، ثم يبرزه بلسانه (1) .
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تعصوا في معروف» (2) قال في النهاية: «المعروف اسم جمع
_________
(1) شرح الحافظ ابن حجر هذه الجملة شرحاً بديعاً في الفتح (1/141) حيث قال: قوله: «ولا تأتوا ببهتان» البهتان: الكذب يبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء لأن معظم الأفعال تقع بهما، إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك.
ويحتمل أن يكون المراد لا تبهتوا الناس كفاحاً وبعضكم يشاهد بعضاً، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، قاله الخطابي، وفيه نظر لذكر الأرجل.
وأجاب الكرماني: بأن المراد الأيدي، وذكر الأرجل تأكيداً، ومحصله أن ذكر الأرجل إن لم يكن مقتضياً فليس بمانع.
ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحداً بكذب تزورونه في أنفسكم ثم تبهتون صاحبه بألسنتكم.
وقال أبو محمد بن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قوله: «بين أيديكم» أي: في الحال، وقوله: «وأرجلكم» أي: في المستقبل، لأن السعي من أفعال الأرجل.
وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكني بذلك -كما قال الهروي في الغريبين- عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أولاً. والله أعلم.
(2) إلى هنا انتهت المنهيات المبايع عليها وقد يسأل سائل لما نص على المنهيات دون المأمورات وقد تكلم على هذه المسألة الحافظ ابن حجر فقال: فإن قيل: لم اقتصر على المنهيات ولم يذكر المأمورات؟
فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله: «ولا تعصوا» إذ العصيان مخالفة الأمر.
والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات: أن الكف أيسر من إنشاء الفعل، لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل.
انظر الفتح (1/142) .(1/430)
لكل ما عرف من طاعة الله والإحسان إلى الناس، وما ندب الشرع إليه من حسن ونهى عنه من قبيح» .
وقال النووي: يحتمل أن يكون المعنى ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقاً بشيء بعده.
ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فمن وفى منكم» أي: ثبت على ما بايع عليه.
«فأجره على الله» أي: بطريق التفضل والإحسان كما يقوله أهل السنة، لا بطريق الاستحقاق والوجوب كما يقوله المعتزلة، فإن الله لا يجب عليه إثابة المطيع ولا تعذيب العاصي، إن أثاب المطيع فبفضله، أو عذب العاصي فبعدله (1) .
ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب من ذلك» إشارة إلى غير الشرك بقرينة قوله: «ثم ستره» أي: فمن فعل من الذي بويع على تركه «شيئاً» غير الشرك كأن سرق أو زنى أو قتل أو أتى بهتان أو عصى الله في معروف.
«فعوقب في الدنيا» أي: بذلك الذي فعله قطعت يده في السرقة أو حد في الزنا أو استوفى منه القصاص في القتل، أو حد في القذف وغير ذلك.
«فهو كفارة له» أي: فالعقاب الذي استوفى منه في الدنيا فهو كفارة له فلا يطالب به في الدار الآخرة، وإن لم يتب وهذا هو مذهب الأكثرين (2) .
_________
(1) في هذا المعنى قال الحافظ في الفتح (1/142) : قوله: «فأجره على الله» أطلق هذا على سبيل التفخيم، لأنه لما أن ذكر المبايعة المقتضية لوجود العوضين أثبت ذكر الأجر في موضع أحدهما. وأفصح في رواية الصنابحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: «الجنة» ، وعبر هنا بلفظ «على» للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/143) : قال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف لحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا» ، لكن حديث عبادة أصح إسناداً.
ويمكن -يعني على طريق الجمع بينهما- أن يكون حديث أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يعلمه الله، ثم أعلمه بعد ذلك.
قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر، وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله. قلت: وقد وصله آدم ابن أبي إياس عن ابن أبي ذئب وأخرجه الحاكم أيضاً فقويت رواية معمر، وإذا كان صحيحاً فالجمع -الذي جمع به القاضي حسن-، لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة، لما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيعة الأولي بمنى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدماً؟
وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - قديماً ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف.
ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك.
والحق عندي أن حديث أبي هريرة صحيح وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن حضر من الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.(1/431)
سئل النووي - رضي الله عنه - فقيل له: ما تقول في إنسان قتل فاستوفى منه القصاص أو الديه في الدنيا هل تبقى عليه العقوبة في الآخرة؟
قال: فأجاب بسقوط العقوبة عنه وعدم المطالبة في الآخرة، قال: وظواهر الشرع تدل على ذلك واستدل عليه بحديث البخاري وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب شيئا من هذه القاذورات فعوقب به كان كفارة له ... الحديث» .
واستشكل العلماء ذلك بقوله: تعالى: ?ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [المائدة: 33] فإن الآية تدل على أن الطلب لا يسقط في الآخرة وإن حد في الدنيا؟
أجاب العلماء عن الآية بوجهين:
أحدهما: أنها في حق الكفار، فإن عقابهم في الدنيا لا يسقط العقاب عنهم في الآخرة.
والثاني: أن حديث البخاري مخصص لها.
وذهب بعض العلماء إلى أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لا يسقط عنه الطلب في الآخرة، لأن المقتول لم يصل إليه حقه فالطلب له باق في الآخرة، قال: وإنما(1/432)
وجب قتل القاتل في الدنيا لأجل إرداع غيره وزجره.
قال ابن حجر: هذا القول مردود بأن المقتول وصل إليه حق وأي حق وهو تكفير الخطايا والذنوب عنه بالقتل ظلماً فقد ورد: «إن السيف محاء للخطايا» (1) أخرجه ابن حيان وغيره وصححوه، فلولا القتل ما كفرت ذنوبه، فأي حق يصل إليه أعظم من هذا، فالصواب عدم المطالبة في الآخرة، خصوصاً إن مات عن توبة.
ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه» في هذا دلالة وإشارة إلى أنه لا يجب على الله عقاب عاص وإذا لم يجب عليه هذا لا يجب عليه ثواب المطيع أيضاً.
وفيه دلالة على أن الإنسان إذا ارتكب كبيرة ومات ولم يتب منها فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه.
وبطل به قول المعتزلة: أنه يجب على الله تعذيب العاصي إذا مات بلا توبة، وقول الخوارج الذين يكفرون العبد بارتكابه للكبائر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخبر أنه تحت المشيئة ولم يقل: إنه يعذب كما تقوله المعتزلة أو يكفر كما تقوله الخوارج (2) .
وحاصل الحديث من مات صغيراً أو كبيراً ولا ذنب له بأن مات عقب بلوغه أو عقب توبته أو عقب إسلامه قبل إحداث معصية فهو محكوم له بالجنة بفضل الله
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/185، رقم 17693) ، وابن حبان في صحيحه (10/519، رقم 4663) ، والدارمي في سننه (2/272، رقم 2411) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/125، رقم 310) ، وفي مسند الشاميين (2/116، رقم 1023) ، والطيالسي في مسنده (ص 178، رقم 1267) ، وابن المبارك في الجهاد (ص 30، رقم 7) ، وابن أبي عاصم في كتاب الجهاد (ص 370، رقم 131) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/164، رقم 18304) عن عتبة بن عبد السلمي، وفي بعض المصادر الأسلمي.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/146) : قوله: «إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقي عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله لأنه لا اطلاع له هل قبلت توبته أو لا.
وقيل: يفرق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سراً ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به، ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية.
وفصل بعض العلماء بين أن يكون معلنا بالفجور فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا.(1/433)
ورحمته، ولا يدخل النار ولكن يردها كما قال تعالى: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِياًّ? [مريم: 71] ، وفي الورود خلاف يأتي الكلام عليه، وإن مات مصراً على كبيرة فهو إلى الله تعالى إن شاء سامحه وعفا عنه وأدخله مع أول الداخلين، وإن شاء عاقبه في النار ثم أخرجه وأدخله الجنة، ولا يخلد أحد في النار مات على التوحيد.
وفيه دليل وإشارة إلى أنه لا يشهد أحد لأحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار إلا من ورد النص فيه بعينه كالعشرة المبشرون بالجنة وغيرهم ممن ورد أنه من أهل الجنة فيشهد لهم بذلك، أو ورد أنه من أهل النار كأبليس وأبي جهل وفرعون فيشهد لهم بالنار، ومن عداهم أمرهم إلى الله تعالى.
اللهم اختم اعمالنا بالصالحات، وكفر عنا الخطايا والسيئات، لا تؤاخذنا بما ارتكبناه من الزلات، ووقفنا إلى التوبة قبل الممات، يا من يقبل التوبة من عبادة ويعفو عن السيئات.
جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (1) .
وجاء في الحديث أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أذنب ذنباً فأوجعه قلبه غفر الله له ذلك الذنب، وإن لم يستغفر» (2) .
وأفاد بعض العلماء: أن آدم عليه الصلاة والسلام لما هبط إلى الأرض بكى على ذنبه وقال: يا رب إني تبت وأصلحت فاقبلني، فأوحى الله إليه: يا آدم إني كتبت على عرشي من قبل أن أخلق السماوات والأرض: وإني لغفار لمن تاب، يا آدم احشر التائبين ضاحكين مستبشرين، ودعاؤهم مستجاب.
وذكر الإمام حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: العبد إذا كان مسرفاً على نفسه وأراد أن يتوب فيرفع يديه ويقول: يا رب حجبت الملائكة صوته أولاً وثانياً وثالثاً،
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/659، رقم 2499) عن أنس، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث علي بن مسعدة عن قتادة، وابن ماجه في سننه (2/1420، رقم 4251) ، وأحمد في مسنده (3/198، رقم 13072) ، وأبو يعلى في مسنده (5/301، رقم 2922) ، والحاكم في المستدرك (4/272، رقم 7617) وصححه.
(2) لم نقف عليه.(1/434)
في الرابعة يقول الله تعالى: لما تحجبون صوت عبدي عني، قد علم أنه ليس رب يغفر الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له.
وجاء في الخبر أيضاً: «إذا كثرت ذنوب ابن آدم يثقل العرش على الحملة فيعلمون ذلك فيقولون: يا كريم العفو حتى يخف عنهم، وإذا قال العبد يا كريم، يقول: الله تعالى ماذا رأيت من كرمي وأنت في السجن، اصبر حتى ترى كرمي في الجنة.
وحكي في كتاب «نرجس القلوب» : أن بعص الصديقين أصاب ذنباً فجاء إلى البحار وقال: أيتها البحار البعيدة غوراً، الكثيرة أمواجاً، قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله تعالى البحار أن تجيبه ما فيها موجة إلا وعليها ملك، فأتى الجبال فنادي أيتها الجبال الشامخة قد أصبت ذنباً فهل تغيبوني عن الله ساعة واحدة، فأمر الله الجبال أن تجيبه ما فيها صخرة وإلا عليها ملك، فجاء إلى الأشجار كذلك فنادته ما عليها ورقة إلا وعليها ملك، فبرز وقال: يا إلهي يا إلهي عذبني بما شئت وافعل فيّ ما شئت، فخرج النداء يا حبيبي لأسكنك جنتي.
* * *(1/435)
المجلس الثاني العشرون
في الكلام على باب «مِنَ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنَ الْفِتَنِ»
وبيان ما في حديثه من الفوائد واللطائف، وفي ذكر العزلة والخلطة
وذكر أيهما أفضل
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» .
قوله: «باب من الدين الفرار من الفتن» فإن قيل: لأي شيء قال: «من الدين» ولم يقل: «من الإيمان» كما قال في غيره من الأبواب؟
فالجواب: أنه قال ذلك مراعاة للفظ الحديث (1) حيث قال فيه: «يفر بدينه» وتعبيره - رضي الله عنه - بقوه من الدين مع أن الكتاب معقود للإيمان، يشعر بأن معناها كما أن الإيمان والإسلام عنده أيضاً بمعنى واحد، قال الله تعالى: ?إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ? [آل عمران: 19] .
وقال الطيبي: اصطلحوا على ترادف الإيمان والإسلام ولا مشاحة في الاصطلاح.
«حدثنا عبد الله بن مسلمة» هذا هو القعنبي الحارثي المدني البصري، منسوب إلى جده قعنب، سكن البصرة وأقام بالمدينة، وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة، وأجمع العلماء على إمامته وإتقانه وثقته وجلالته وحفظه وصلاحه وورعه وزهده.
قال أبو حاتم: لم أر أخشع منه.
وقال أبو زرعة: ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه.
وقيل: إن عبد الله القعبني قدم فقال: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض.
وقيل له: حدثت ولم تكن تحدث فقال: رأيت كأن القيامة قد قامت فصيح: يا أهل العلم فقاموا فقمت معهم، فصاح بي: أجلس، فقلت: يا إلهي ألم أكن معهم أطلب؟ قال: بلى ولكنهم نشروا فحدثت.
_________
(1) قاله الحافظ ابن حجر في الفتح (1/147) وزاد: ولما كان الإيمان والإسلام مترادفين في عرف الشرع صح إطلاق الدين في موضع الإيمان.(1/436)
روى عنه البخاري ومسلم فأكثرا، وكان - رضي الله عنه - حريصاً على سماع الحديث، رحل إلى البصرة ليسمع الحديث من شعبة، وكان شعبة إماماً فلما دخل البصرة صادف المجلس قد انقضى وقد انصرف شعبة إلى منزله، فحمله الحرص والشره إلى أن سأل عن منزل شعبة، فأرشد إليه فوجدا الباب مفتوحاً فدخل من غير استئذان فصادف شعبة جالساً على البالوعة فقال: السلام عليكم رجل غريب قدم من بلد بعيد لتحدثني بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستعظم ذلك شعبة فقال: يا هذا دخلت منزلي بغير إذني وتكلمني وأنا على مثل هذا الحال، تأخر عني واصبر على حتى أصلح من شأني، فأكثر عليه في الإلحاح وشعبة يخاطبه وذكره في يده يستبرئ فلما أكثر قال له اكتب: حدثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فافعل ما شئت» (1) ثم قال: والله لأحدثنك بهذا الحديث ولا حدثت قوماً تكون فيهم.
ذكر هذه الحكاية عنه ابن جماعة في أنس المحاضرة وذكرها السخاوي في شرح ألفية الحديث في آداب طالب الحديث.
وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين ومائتين.
«عن مالك» هذا هو إمام دار الهجرة إمام المسلمين، وقد قدمنا بعض فضائله التي لا تعد ولا تحد.
«عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري» واسمه: سعد على الصحيح، وقيل: سنان، استصغر يوم أحد فرد، وغزى بعد ذلك اثنا عشر غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان من الحفاظ المكثيرين، والعلماء العقلاء، وأحد نجباء الأنصار وعلمائهم مع حداثة سنه، بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا تأخذه في الله لومة لائم مع جماعة.
ويقال له: «عفيف المسألة» لأنه عف فلم يسأل أحداً قط، ولما مات والده لم يترك له مالاً فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسأله فقال حين رآه: «من يستعن أعانه الله، ومن
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2268، رقم 5769) ، وأبو داود في سننه (4/252، رقم 4797) ، وابن ماجه في سننه (2/1400، رقم 4183) ، وأحمد في مسنده (4/121، رقم 17131) ، والطيالسي في مسنده (ص 86، رقم 621) ، وابن حبان في صحيحه (2/371، رقم 607) ، والبغوي في في الجعديات (1/130، رقم 819) ، والطبراني في المعجم الكبير (17/235، رقم 651) ، والقضاعي في مسند الشهاب (2/186، رقم 1153) عن أبي مسعود البدري.(1/437)
يستعف أعفه الله» فقال: ما تريد غيري فرجع.
وأبو سعيد الخدري صحابي بن صحابي وقتل والده يوم أحد ولم يرو عنه شيء كما قاله العسكري.
«ودال» الخدري مهمله وهو منسوب إلى خدره أحد أجداده أو إحدى جداته.
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألف حديث ومائة وسبعون حديثاً، روى البخاري منها اثنين وستين حديثاً، وبلغ من العمر أربعاً وسبعين سنة، وكانت وفاته بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة أربع وستين، ودفن بالبقيع.
فائدة: اشتمل هذا الإسناد على لطيفة ظريفة وهي أن رجاله كلهم مدنيون.
«عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن» (1) .
قوله: «يوشك» بمعنى يقرب أي: كون خير مال المسلم غنم أشار - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث إلى أن الفتن تكثر في آخر الزمان، ويحل فساد كثير بين الناس فينبغي لمن يخاف على دينه من مخالطة أهل الشر والفساد، أن ينعزل عنهم في رؤوس الجبال وبطون الأودية، وأن يكون عنده أغنام يرعاها في هذه المواضع وينتفع بدرها ونسلها، وإنما
_________
(1) لخص الحافظ ابن حجر معناه في الفتح (1/148) فقال: قوله: «يوشك» بكسر الشين المعجمة أي: يقرب.
قوله: «خير» بالنصب على الخبر، وغنم الاسم، وللأصيلي برفع خير ونصب غنماً على الخبرية، ويجوز رفعهما على الابتداء والخبر ويقدر في يكون ضمير الشأن قاله ابن مالك، لكن لم تجيء به الرواية.
قوله: «يتبع» تشديد التاء ويجوز إسكانها.
«وشعف» بفتح المعجمة والعين المهملة جمع شعفة كأكم وأكمة، وهي رؤوس الجبال.
قوله: «ومواقع القطر» بالنصب عطفاً على شعف، أي: بطون الأودية، وخصهما بالذكر لأنهما مظان المرعى.
قوله: «يفر بدينه» أي: بسبب دينه. و «من» ابتدائية.
قال الشيخ النووي: في الاستدلال بهذا الحديث للترجمة نظر، لأنه لا يلزم من لفظ الحديث عد الفرار ديناً، وإنما هو صيانة للدين، قال: فلعله لما رآه صيانة للدين أطلق عليه اسم الدين.
وقال غيره: إن أريد بمن كونها جنسية أو تبعيضية فالنظر متجه، وإن أريد كونها ابتدائية أي: الفرار من الفتنة منشؤه الدين فلا يتجه النظر.
ثم قال الحافظ: وهذا الحديث قد ساقه البخاري أيضاً في كتاب الفتن، وهو أليق المواضع به.(1/438)
يفعل ذلك لأجل إحراز دينه وسلامته من الكدورات التي تحصل من خلطة الناس.
وإنما خص - صلى الله عليه وسلم - الغنم بكونها خير مال المسلم لما فيها من السكينة والبركة.
فائدة: الغنم اسم جنس لا واحد له من لفظه يقع على الذكر والأنثى، وهو صادق على الضأن والمعز واتفق العلماء على أن الضأن أفضل من المعز كما صرحوا بذلك في الأضحية فإنهم قالوا: الضأن في الأضحية أفضل من المعز.
قال النووي في منهاجه: وأفضلها بعير ثم بقرة ثم ضأن ثم معز ولأن الله في كتابه العزيز بدأ يذكر الضأن فقال: ?مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ? [الأنعام: 143] وتقديم الشيء على غيره يدل على تفضيله عليه، فالبركة في الضأن أيضاً أكثر من البركة في المعز، فإن الضأن تلد في السنة مرة والمعز تلد مرتين وتثني وتثلث، والموجود من الضأن أكثر.
أيضاً قالوا: إن الضأن إذا رعت شيئاً من الكلأ فإنه ينبت عوضه وإذا رعته المعز لا ينبت عوضه، ولحم الضأن أطيب وانفع من لحم المعز.
قال في الطب النبوي: إن أكل لحم المعز يحرك السوداء ويورث النسيان والدم ويورث الهم ويخبل الأولاد، وهو قليل الحرارة يابس وخلطة المتولد منه ليس بفاضل وليس يجيد الهضم ولا محمود الغذاء، ولحم التيس شديد اليبس مطلقاً، ولا سيما المسن فيه، وإناث الماعز أنفع من ذكوره، بخلاف الضأن فإنه حار رطب يولد الدم المحمود القوي، يصلح لإخصاب الأفرجه الباردة والمعتدلة، ولأهل الرياضيات التامة في المواضع والفصول الباردة، يقوي الذهن والحفظ وأجوده لحم الذكر الأسود، فإنه أخف وألذ وأنفع، والخصي أنفع من غيره، والأيمن من الحيوانات أخف وأجود من الأيسر والمقدم أفضل من المؤخر.
ففي الحديث دلالة على أن اقتناء الغنم أفضل من اقتناء غيرها لبركتها أو كثرة نفعها، فإذا أراد الإنسان أن يقتني شيئاً من الحيوانات لينتفع به فاقتناء الغنم أفضل من اقتناء الإبل والخيل وغيرهما، ويدل ذلك ما ورد في الحديث عن أبي سعيد الخدري قال: افتخر أهل الإبل والغنم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: «السكينة والوقار في أهل الغنم والفخر والخيلاء في أهل الإبل» (1) ، وفي رواية: «في أهل الخيل والوبر» (2) .
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (4/1594، رقم 4127) ، ومسلم في صحيحه (1/73، رقم 52) من حديث أبي هريرة.
(2) هذه الرواية عند مسلم في الصحيح (1/72، رقم 53) ، وأحمد في مسنده (2/450، رقم 9812) ، وابن حبان في صحيحه (16/280، رقم 7291) ، وأبو يعلى في مسنده (11/226، رقم 6340) ، وابن منده في الإيمان (1/524، رقم 428) ، والديلمي في مسند الفردوس (3/101، رقم 4280) عن أبي هريرة.(1/439)
أراد - صلى الله عليه وسلم - «بالسكينة» السكون، «والوقار» التواضع، «وبالفخر» التفاخر بكثرة الأموال والجاه وغير ذلك من مراتب أهل الدنيا، «والخيلاء» التكبر والتعاظم.
والمعنى: أن الوقار والسكينة والتواضع غالباً يوجد في أهل الغنم، وأن التكبر والتفاخر غالباً يوجد في أهل الإبل والخيل، وقد ينعكس الحال.
فائدة أخرى: لا نقص ولا عيب في رعي الأغنام فقد رعاها الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، لأنها سهلة الانقياد، خفيفة المؤن، كثيرة النفع، وروينا في هذا الصحيح وسنن ابن ماجه واللفظ له عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم» فقال: له أصحابه وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بقراريط» (1) يعني كل شاة بقيراط.
والمراد: أنه رعاها - صلى الله عليه وسلم - بالأجرة كل شاة بقيراط، وهي جزء الدرهم، وقيل: المراد بالقراريط في الحديث اسم مكان وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما رعى بالأجرة قط.
قال الحربي: وهو الصحيح.
قال ابن الجوزي: عن أبي إسحاق والواقدي أن عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين رعى الغنم كان عشرين سنة.
وفي غريب الحديث للقتبي: «بعث موسى عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعث داود عليه الصلاة والسلام وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم أهلي بأجياد» (2) .
فقد رعى الأغنام نبينا محمد عليه الصلاة وأتم التسليم في صغره أيضاً، فقد قال
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (2/789، رقم 2143) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/125) ، والرافعي في التدوين (2/288) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق 0 (17/84) من طريقل أبي إسحاق عن نصر بن حزن قال: افتخر أهل الإبل والغنم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ... فذكره.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (1/126) عن أبي إسحاق قال كان بين أصحاب الغنم وبين أصحاب الإبل تنازع فاستطال عليهم أصحاب الإبل قال: فبلغنا والله أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
ورواه أيضاً: الفاكهي في أخبار مكة (4/11، رقم 2305) .(1/440)
النووي: وإنما جعل الله الرعي في الأنبياء تقدمة لهم ليكونوا رعاة الخلق وليكون أممهم رعايا لهم.
وأفاد بعض العلماء: قال بعضهم: إنما رعوا الأغنام لأنهم إذا خالطوا الغنم زاد حلمهم وشفقتهم، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان عند مرضعته رضي الله عنها في السنة الرابعة قال: «يا أماه ما لي لا أرى أخوتي في الحي نهاراً» .
وأراد بهم إخوته من الرضاعة، وإخوته من الرضاعة اسم جماعة وهم: ابن ثويبة، وعمه حمزة وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمه وصاحبه أبو سلمه وأولاد حليمة، وأما سيدنا مدرك الصحابي المدفون بقرب قرية حجيرا من غوطة دمشق فليس بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخوة من الرضاعة ولكن الناس يغلطون في ذلك كثيراً كما نبه عليه بعض العلماء.
فلما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي لا أرى أخوتي في الحي نهاراً» قالت له: إنهم يرعون الأغنام فقال: دعيني أخرج معهم فأخذ عصاة ومزودة وخرج معهم لرعي الأغنام، قالت حليمة: وغاب - صلى الله عليه وسلم - يومه ذلك، فأقبل وقت المساء وقد سبقته الأنوار، والأغنام تلوذ به وتقبل أقدامه.
وكان في الغنم شاة رماها أخوه «ضمرة» بحجر فكسر ساقه، فجعلت تلوذ به كالشاكية فقبض يده الكريمة علهيا فكأن الوجع لم يكن.
ثم قالت حليمة لولدها: كيف وجدت أخاك القرشي؟ قال: يا أماه ما مر بحجر ولا مدر ولا شجر ولا سهل ولا جبل ولا وحش ولا طير إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله، وإذا نام في الشمس تأتي غمامة تظله، والوحوش تأتي إليه تقبل أقدامه، وإذا مشي في الرمل فالأثر لا يبين، وإذا مشي في الصخر يكون تحت قدميه كالعجين، وإذا استقينا من بئر فار الماء من أعلاه.
قال: ولقد دخلنا إلى وادي الوحوش فإذا نحن بسبع عظيم قد جمع نفسه ليشب علينا، فلما نظر إلى أخينا محمد - صلى الله عليه وسلم - خضع له ورمى نفسه على الأرض وتكلم بكلام فصيح، وقال: السلام عليك يا محمد فتقدم إليه محمد وكلمه في أذنه فذهب الأسد يعدو.
وفي رواية: قال ضمرة: إن أسداً عظيماً انحدر عليه فأخذ شاة وصعد بها إلى الجبل فلحق أخي محمد فأخذ الشاة منه ثم فتل أذنه وسار، وإذ الأسد يقبل أقدامه ثم انصرف.(1/441)
وعدنا إلى المرعى فلما كان بعد ساعة أتى إلينا أسد آخر فنفرت الأغنام منه فضرب ثلاث شياه فكسرها، فلما رآها أخي القرشي مسح بيده على ظهورها فانجبرت، وأما الأغنام فإن أمرها بالمسير سارت وإن أمرها بالوقوف وقفت.
قالت حليمة: وحصل عندنا في الحي ضجة عظيمة فقلت ما الخبر قالوا: غلام وقع في البئر ولم يقدروا على إخراجه، فجاء ولدي محمد إلى جانب البئر ومد يده فطف الماء فقبض على الغلام ونشله فإذا هو خارج البئر، فتعجب الناس من فعله وتعجبت فقال لي: يا أماه لا تعجبي كيف أنشلهم من الآبار بل تعجبي وأنا أنقذتهم غداً من النار.
وقالت حليمة رضي الله عنها: أجلست ولدي محمد تحت شجرة وقت رضاعة فتعلق ببعض الشجرة فاخضرت الشجرة بلمسه إياها - صلى الله عليه وسلم -، وكان إذا أصاب أحداً من وجع أمر يده المباركة عليها فيبرأ من ساعته، وإذا انقطع الغيث يتوسلون به فيمطرون في وقتهم وساعتهم.
وقد رعاها كثير من الأولياء والصالحين من الرجال والنساء اقتداء بالأنبياء ولبركتها وخفة مؤنتها.
قال عبد الواحد بن زيد: سألت الله ثلاث ليال أن يريني رفيقي في الجنة فقيل لي: يا عبد الواحد رفيقك ميمونة السوداء، فقلت: وأين هي؟ فقيل: في بني فلان في الكوفة فذهبت إلى الكوفة أسأل عنها فإذا هي ترعى غنماً، فأتيت إليها فإذا غنمها ترعى بين الذئاب وهي قائمة تصلي، فلما فرغت من صلاتها قالت لي: يا ابن زيد ليس هذا الموعد إنما الموعد في الجنة، فقلت لها: وما أدراك أني زيد؟ قالت: أما علمت أن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، قلت لها: عظيني، فقالت: يا عجباً لواعظ يوعظ، قلت لها: ما لي أرى أغنامك بين الذئاب؟ قالت: إني أصلحت ما بيني وبين الله فأصلح الله ما بين غنمي والذئاب.
لطيفة: اتفق من الغرائب أن موسى بن عمران عليه الصلاة السلام اجتاز بعين ماء في سفح جبل فتوضأ منها، ثم ارتقى على الجبل ليصلي، إذ أقبل فارس فشرب من ماء العين وترك عندها كيساً فيه دراهم، فجاء بعده راعي الغنم فرأى الكيس فأخذه ومضى، ثم جاء بعده شيخ عليه أثر البؤس وعلى رأسه حزمة حطب فوضعها هناك واستلقى يستريح، فما كان إلا قليلاً حتى عاد الفارس يطلب كيسه فلم يجده، فأقبل على الشيخ يطالبه به ولم يزل يضربه حتى قتله، فقال موسى: يا رب كيف العدل في(1/442)
هذه الأمور؟ فأوحى الله تعالى إليه أن الشيخ كان قد قتل أبا الفارس، وكان على أبي الفارس دين لأبي الراعي مقدار ما في الكيس، فجرى بينهما القصاص ووقضي الدين وأنا حكم عادل.
وقوله: «يبيع بها» أي: بالغنم.
«شعف الجبال» أي: رؤوس الجبال.
«ومواقع القطر» أي: بطون الأودية والصحاري، وخص هذه المواضع بالذكر لأنها مظان المرعى.
وقال البرماوي: وذكر هذه المواضع لما فيها من الخلوة لأنها أسلم غالباً من الكدر، فإنها مواضع خالية من ازدحام الناس ومن المقاولات المؤدية إلى الكدورات.
وقوله: «يفر بدينه من الفتن» أي: فر مما يفتنه في دينه.
في هذا الحديث فوائد كثيرة:
منها: فيه دلالة على فضل العزلة في أيام الفتن لأجل إحراز الدين، ولئلا تقع عقوبة فتعم، فإن العقوبة قد تعم العاصي والطائع، ويهلك الله الطائع بذنب العاصي، فقد ورد في هذا حديث: أن زينب قالت: أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث» (1) .
ويروى أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يقول: يا رب كيف تعذب عبادك بذنب رجل واحد؟ فأمهله الله حتى جلس تحت شجرة، فلذغتة نملة فأحرق جميع النمل، فأوحى الله إليه هلا نملة واحدة أي: هلا أحرقت نملة واحدة وهي التي لذغتة فكيف أحرقت غيرها معها بلا موجب، فأراه ذلك في النملة ليعلم أن العقوبة تعم العاصي والطائع، فإذا انعزل الإنسان سلم، اللهم إلا أن يكون الإنسان ممن له قدرة على إزالة الفتنة فإنه يجب عليه السعي في إزالتها إما فرض عين أو فرض كفاية بحسب المال والمكان.
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1317، رقم 3403) من طريق الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان حدثتها عن زينب بنت جحش أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعاً يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بإصبعه وبالتي تليها فقالت زينب ... فذكره» .
والحديث عند مسلم في صحيحه (4/2207، رقم 2880) .(1/443)
وأما في غير أيام الفتنة فقد اختلف العلماء في العزلة والخلطة بالناس أيهما أفضل؟ فذهب الإمام الشافعي والأكثرون إلى تفضيل الخلطة، لما فيها من اكتساب الفوائد، وشهود الشعائر، وتكثير سواد المسلمين، وإيصال الخير إليهم بعيادة المرضى وتشييع الجنائز، وإفشاء السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وإغاثة المحتاج، وحضور جماعاتهم في الجمعة وباقي الصلوات، والاجتماع في الوقوف عرفات وغير ذلك مما يقدر عليه كل أحد.
واهتمام الشارع - صلى الله عليه وسلم - بالاجتماع والخلطة معلوم، ولهذا قال الفقهاء: يجوز نقل اللقيط من البادية إلى القرية ومن القرية إلى البلد ولا يجوز العكس، فإن كان الإنسان صاحب علم أو زاهد ونحو ذلك تأكد في حقه فضل اختلاطه بالناس.
وذهب جماعة آخرون إلى تفصيل العزلة لما فيها من السلامة المحققة لكن بشرط أن يكون عارفاً بوظائف العبادة التي تلزمه وما يكلف به، قد ورد في فضل العزلة أحاديث وأخبار روينا في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي» (1) والمراد: «بالغني» عن النفس، «وبالخفي» المنعزل عن الناس.
وقيل: يا رسول الله أي: الناس خير قال: «رجل يجاهد بنفسه وماله، ورجل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره» (2) .
وعن عقبة بن عامر (3) - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما النجاة؟ قال «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك» (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان القابض فيهم على دينه كالقابض على
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2277، رقم 2965) عن عامر بن سعد قال: كان سعد بن أبي وقاص في إبله فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم، فضرب سعد في صدره فقال أسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (1/177، رقم 1529) ، والبزار في مسنده (4/27، رقم 1188) ، وأبو يعلى في مسنده (2/85، رقم 736) ، والدورقي في مسند سعد (ص 49، رقم 18) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/296، رقم 10370) .
(2) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (3/1026، رقم 2634) ، ومسلم في صحيحه (3/1503، رقم 1888) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) هو: عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني، أمير من الصحابة، كان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد صفين مع معاوية، وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص، وولي مصر سنة 44هـ، وعزل عنها سنة 47هـ، وولي غزو البحر، ومات بمصر سنة: 58هـ، كان شجاعاً فقيهاً شاعراً قارئاً، من الرماة، وهو أحد من جمع القرآن، له 55 حديثاً.
(4) أخرجه الترمذي في سننه (4/605، رقم 2406) وحسنه، وقد مر تخريجه.(1/444)
الجمر» (1) .
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: كفى بالله محباً، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً.
وقال الحسن رحمه الله: كلمات احفظهن من التوراة: «قنع ابن آدم فاستغنى، واعتزل الناس فسلم، وترك الشهوات فصار حراً، وترك الحسد فظهرت مروءته، وصبرقليلاً فتمتع طويلاً» .
ودخل بعض الأمراء على حاتم الأصم فقال: ألك حاجة؟ قال: نعم لا تراني ولا أراك.
وقال الغزالي رحمه الله: كل من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم، ومن راياهم وقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله ليونس بن عبد الأعلى: يا يونس الانقباض عن الناس مكسبة للعداوة، والانبساط إليهم مجلبة لقرناء السوء، فكن بين المنقبض والمنبسط.
وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين، فكيف المشهودين، هذا زمان سوء ينتقل فيه الرجل من قرية إلى قرية، يفر بدينه من الفتن.
وقال الفضيل بن عياض: هذا زمان سوء، احفظ لسانك، واخف مكانك، وعالج قلبك، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر.
وقال سفيان الثوري: هذا زمان السكوت، ولزوم البيوت، والرضا بالقوت، إلى أن تموت.
وقال داود الطائي: صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد وأنشدو في العزلة:
هذا الزمان الذي كنا نحاذره ... في قول كعب وفي قول ابن مسعود
دهر به الحق مردود بأجمعه ... والظلم والبغي فيه غير مردود
إن دام هذا ولم يحدث له خير ... لم يبك ميت ولم يفرح بمولود
_________
(1) أخرجه الترمذي (4/526، رقم 2260) عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.(1/445)
وقال بعضهم:
ومازلت مذ لاح المشيب بمفرقي ... أفتش عن هذا الورى وأكشف
فما إن عرفت الناس إلا ذمتهم ... جزى الله خيراً كل من لست أعرف
وقال آخر:
وأدبني الزمان فلا أبالي ... هجرت فلا أزار ولا أزور
ولست بسائل ما دمت حياً ... أسار الجيش أم ركب الأمير
وهذا الحديث علم من أعلام نبوته إذا أخبر فيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يكون في آخر الزمان فتن وفساد بين الناس، فالأولى والأحسن أن يكون عند الإنسان غنم يرعاها في رؤوس الجبال وبطون الأودية والصحاري، للجمع بين الرفق والربح، ويصون عليه دينه، وقد وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فكم من فتن في هذه الأزمان وقبلها، وسنقع أيضاً في غيرها، وكم أخبر - صلى الله عليه وسلم - عن أمور مستقبلة فوقعت كما أخبر.
نقل ابن الجوزي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، ينفلت الدين من أمتي كما ينفلت السهم من القوس» قالوا: في أي زمن ذلك يا رسول الله؟ قال: «إذا قطعوا أرحامهم، وتدابروا، وأكلوا الربا علاينة، وفشت فيهم الفواحش، وأكلوا الأمانات، وأظهروا الرياء والسمعة، وحرصوا على الدنيا حتى لا يهمهم غيرها، ويظهر المنكر حتى أن الرجل ليمر بالقوم فيرى من المنكر ما يغيظه فلا يقدر أن يغيره، وإن غير استطال فاعله عليه، عند ذلك يقع الموت في العلماء، فلا ترى عالماً، ثم تنزع الرحمة من قلوبهم، ويندرس العلم والحكمة بينهم، فلا يطلبها طالب، وتقل مكاسب الحلال، وتكثر مكاسب الحرام، ويمنعون الزكاة، ويقل نبات الأرض وتغلوا الأسعار، وتهلك الثمرات، وتموج الناس كالبهائم، وتقل صدقاتهم، وتقسو قلوبهم ... الحديث» .
ولله در القائل من قال:
يا نفس دعي الدنيا التي ... قرن الحرص بها والشره
وألزمي النسك فما أربحه ... ودعي الغي فما أخسره
أي عذر في التصابي لامرئ ... فاقد من عمره أكثره
أي عذر فلا تقبله ... قتل الإنسان ما أكفره
فتعين في هذا الزمان الانعزال عن الناس إلا لضرورة بالغة، تحوجه إلى الاختلاط(1/446)
بهم ويسلم من ضرهم، كتعلم ما ينفعه في دينه ودنياه، واكتساب ما يحتاج إليه من أمور المعاش والقوت، فيختلط بقدرها، وينعزل عنهم ليسلم من شرهم، وهذا لا يقع إلا لبعض الخواص الذي حصلت له عناية من مولاه.
وقد نقل عن كثير من السلف الصالح أنهم انعزلوا عن الناس وتركوا أهلهم وأوطانهم وماتوا غرباً.
كما حكي عن بعض الساده أنه قال: كنت أسكن بغداد، وكان لي بها دويرة، احتجت لبناء حائط سقط منها، فخرجت إلى موقف البنائين لأنظر رجلاً يعمل فيه، قال: فوقعت عيني على شاب نحيف، ذي وجه نظيف، فجئت إليه ووقفت عليه، وقلت: يا حبيبي أتريد الخدمة؟ قال لي: نعم، ثم قال: أعمل عندك ولكن بشروط أشرطها عليك، قلت: حبيبي وما هي؟ قال: الأجرة درهم ودانق، قال: وإذا أذن المؤذن تركني حتى أصلي مع الجماعة، قلت: نعم، قال: فانصرف معي إلى المنزل، فخدم خدمة لم أر مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا فعلمت أنه صائم، قال: فلما سمع الأذان قال لي: الشرط، قلت: نعم، قال: فحل حزامه وتفرغ للوضوء فتوضأ ما رأيت أحسن منه ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة، ثم عاد ورجع إلى الخدمة إلى أن سمع المؤذن من العصر، فقال لي: الشرط فخرج وصلى مع الجماعة، ثم رجع إلى الخدمة، فقلت: حبيبي إنما خدمة البنائين إلى العصر، فقال: سبحان الله إنما خدمتي إلى الليل، قال: فخدم إلى المغرب فأعطيته درهمين فلما رآها قال: ما هذا؟ قلت: والله هي بعض أجرتك ولاجتهادك في خدمتك، فرما بها إلىّ وقال: لا أزيد على ما اشترطه بيني وبينك شيئاً، فرغبته فلم أقدر عليه فأعطيته درهماً ودانقاً وسار.
فلما كان من الغد بكرة إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يأتي هاهنا إلا من سبت إلى سبت، قال: فتعلق به قلبي وقلت لا أعمل شيئاً إلى يوم السبت، فلما كان يوم السبت آتيته فوجدته فقلت: بسم الله فقال: على الشروط التي تعلمها، قلت: نعم، قال: فأخذته فخدم يومه ذلك وزاد فيه على ما تقدم، فلما كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار.
فلما كان السبت الثالث جئت إلى الموقف فلم أجده فسألت عنه فقيل لي: هو مريض في خيمة فلانه، وكانت المذكورة عجوزاً لها خيمة قصب بالجبانة مشهورة بالصلاح، قال: فسرت إلى الخيمة ودخلت عليه فإذا هو مضطجع على الأرض ليس تحت شيء، وتحت رأسه صخرة فسلمت عليه فرد عليّ السلام، فقعدت عند رأسه(1/447)
أبكي لغربته وصغر سنه ثم قلت: ألك حاجة؟ قال: نعم، قلت: وما هي؟ قال: إذا كان في غد تصل إلى هاهنا عند الضحى تجدني ميتاً، فتغسلني وتحفر قبري ولا تعلم بذلك أحداً، وتكفنني في هذه الجبة التي عليّ بعد ما تفتق جيبها وتخرج ما فيه وتمسكه عندك، فإذا صليت عليّ وواريتني في التراب إذهب إلى هارون الرشيد وادفع له ما تجده في الجيب وتقرئ عليه مني السلام.
شعر في المعنى:
بلغ أمانة من وفيت منيته ... إلى الرشيد فإن الأجر في ذاكا
وقل غريب له شوق لرؤيتكم ... على تمادي الهوى والبعد لباكا
ما صد عنك كره ولا ملك ... لأن قربته في لثم يمناكا
وإنما أبعدتي عنك يا أبتي ... نفس لها عفة من نيل دنياكا
إن فاتني الجمع في دار الدنا بكم ... فإننا نلتقي في يوم أخراكا
قال: فلما كان من الغد وصلت إلى الخيمة عند الضحى فوجدته قد مات رحمه الله، فحفرت قبره بيدي وغسلته ثم فتقت جيبيه فإذا في جيبه ياقوته تساوي آلاف من الدنانير، فقلت: لقد زهد هذا في الدنيا، قال: فدفنته وصرت أرتقب خروج هارون الرشيد إلى أن خرج فتعرضت له في الطريق ورفعت له الياقوته فعرفها فلما رآها خر مغشياً عليه، فأمسك بي خدمته فأفاق، وقال: خلوا عنه فخلى سبيلي فقال بعد ما أخذني إلى قصره وأدخلني بيته: يا أخي ما فعل صاحب هذه الياقوتة؟ فقلت: إنه قد مات فوصفت له حاله فجعل يصيح: انتفع الولد وخاب الوالد، ثم نادى يا فلانة فخرجت امرأة فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: ما عليك منه؟ فسلمت ودخلت فرمى لها الياقوتة فصاحت صحية عظيمة وغشي عليها وقالت: يا أمير المؤمنين ما فعل ولدي؟ فقال لي: صف لها حاله فوصفت لها قصته، فجعلت تبكي وتقول وتصيح: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني، يا ليتني كنت عندك حتى أسقيك إذ لم تجد ساقياً، وأونسك إذا لم تجد مؤنساً.
شعر:
أبكي غريباً أتاه الموت منفرداً ... لم يلق ألفاً له يبكي الذي وجدا
من بعد عز وشمل كان مجتمعاً ... أضحى فريداً وحيداً لا يرى أحدا
يبني إلى الناس من الأيام تخلقه ... والرب يبني ما يبقى له أبدا(1/448)
يا غائباً قد قضى مولاي فرقته ... فصار مني بعد القرب مبتعدا
إن أنيس الموت من لقياك ياولدي ... فصار مني بعد الموت مبتعدا
فقال لي أمير المؤمنين: يا أخي هذا ولدي وكان معي قبل ولايتي الملك، يزور العلماء ويجالس الصالحين، فلما وليت الملك نفر عني وتباعد، وطلب العزلة، فقلت: لأمه هذا ولدي منقطع إلى الله تعالى، ولابد من أن تصيبه الشدائد، ادفعي له هذه الياقوتة ليجدها وقت الاحتياج إليها فدفعتها إليه، وعزمت عليه أن يمسكها فغاب عنا حديثه إلى أن رمى إلينا دنيانا، ولقى الله عز وجل تقياً نقياً، ثم قال يا أخي: أرني قبره فخرجت معه إليه فبكى طويلاً عليه، فسألني الصحبة فقلت يا أمير المؤمنين لي في ولدك عظة وعبرة.
شعر في المعنى:
أنا الغريب فلا آوي إلى أحد ... أنا الغريب وإن أمسيت في بلدي
أنا الغريب فلا أهل ولا ولد ... وليس لي أحد يأوي إلى أحد
هكذا هذه الحكاية في زهر الكمام، ونقلها في صفوة الصفوة على وجه آخر، قال: إنه أصح الأوجه المروية، وبين وجهاً آخراً بعده خلاف ما ذكره صاحب زهر الكمام، وبين أن اسم هذا الشاب كان «أحمد» وإنه مشهور «بالسبتي» .
* * *(1/449)
المجلس الثالث والعشرين
في الكلام على باب: قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - «أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ»
وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ?
وذكر ما فيها من الفوائد واللطائف
قَالَ البُخَارِي:
«باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلمكم بالله» (1) وأن المعرفة (2) فعل القلب لقول الله (3) ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ?» .
قيل: قصد البخاري بهذه الترجمة الرد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان ولا يشترط عقد القلب، واستدل على بطلان قولهم بالآية، وهي: ?وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ? [البقرة: 225] أي: بما استقر فيها.
فإن الآية وإن وردت في «الأيمان» بفتح الهمزة، فالاستدلال بها في «الإيمان» بكسر الهمزة واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة بينهما على مدار القلب، وقيل: قصد بالترجمة بيان تفاوت درجات الناس في العلم بالله، وإن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه في أعلى الدرجات (4) .
_________
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «أنا أعلمكم» كذا في رواية أبي ذر، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه. وفي رواية الأصيلي: «أعرفكم» وكأنه مذكور بالمعنى حملاً على ترادفهما هنا، وهو ظاهر هنا وعليه عمل البخاري.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «وأن المعرفة» بفتح أن والتقدير: باب بيان أن المعرفة. وورد بكسرها وتوجيهه ظاهر، وقال الكرماني: هو خلاف الرواية والدراية.
(3) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قوله: «لقوله تعالى» مراده الاستدلال بهذه الآية على أن الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه والاعتقاد فعل القلب.
(4) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : وقوله: «بما كسبت قلوبكم» أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأيمان بالفتح فالاستدلال بها في الإيمان بالكسر واضح للاشتراك في المعنى، إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب.
وكأن البخاري لمح بتفسير زيد بن أسلم، فإنه في قوله تعالى ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ? [المائدة: 89] قال: هو كقول الرجل إن فعلت كذا فأنا كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يعقد به قلبه، فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دخولهما في مباحث الإيمان، فإن فيه دليلاً على بطلان قول الكرامية: إن الإيمان قول فقط، ودليلا على زيادة الإيمان ونقصانه لأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أعلمكم بالله» ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأن بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقاً.
ثم أتى الحافظ بفائدة عن النووي فقال: قال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل» فمحمول على ما إذا لم تستقر.
قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: «أو تعمل» لأن الاعتقاد هو عمل القلب.(1/450)
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَمَرَهُمْ أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ قَالُوا إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ ثُمَّ يَقُولُ: «إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا» .
إنما كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر الناس من الأعمال بما يطيقون الدوام عليه، شفقة عليهم ورفقاً بهم ورحمة لهم، لئلا يتجاوز طاقتهم فيعجزوا، وخير العمل مادام وإن قل، وإذا حملوا ما لا يطيقونه تركوه أو بعضه بعد ذلك، فصاروا في صورة ناقضي العهد والراجعين عن عادة جميلة، واللائق بطالب الآخرة الترقي وإلا فالبقاء على حاله، ولأن الإنسان إذا اعتاد من الطاعة ما يمكنه الدوام عليه دخل فيها بانشراح واستلذذ، ونشاط لا يلحق ملل، وقد ذم الله من اعتاد عبادة ثم فرط بقوله: ?وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ? [الحديد: 27] .
وإنما قالوا: «لسنا كهيئتك» أي: كمثلك يا رسول الله ليأذن لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الزيادة من الأعمال رغبة في الخير، فإنهم كانوا يشاهدونه - صلى الله عليه وسلم - يدأب في العبادة ويجتهد فيها مع أن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكأنهم يقولون: أنت مغفور لك ما تحتاج إلى عمل، ومع ذلك مواظب على الأعمال فكيف بنا وذنوبنا كثيرة، فأمرنا بالزيادة من العمل عليك يا رسول الله، فكان إذا قالوا له هذا القول يغضب من قولهم حتى يعرفوا الغضب في وجهه، ويرد عليهم ويقول لهم: أنا أولى بالعمل لأني أعلمكم وأتقاكم وأخشاكم لله.
وقولهم: «إن الله قد غفر ما تقدم من ذنبك وما تأخر» من قول الله تعالى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً(1/451)
مُّسْتَقِيماً? [الفتح: 2] .
وقد استشكل العلماء ذلك بأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من الذنوب والكبائر قبل النبوة وبعدها عمداً وسهواً، وكذا سائر الأنبياء، فما ذنبه الذي غفر له؟
وللعلماء في هذه الآية أقوال بعضها مقبول وبعضها مردود:
والقول الأول: المراد ليغفر لك الله الذنب الذي كان قبل النبوة، فهذا مردود لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم قبل النبوة وبعدها.
الثاني: ليغفر لأبويك آدم وحواء، وهذا مردود أيضاً لأن آدم معصوم لا ينسب إليه ذنب، وذنوب أمته كلها لم تغفر بل منهم من يغفر له، ومنهم من لا يغفر له.
وأحسن ما يقال في الجواب: أنه تعالى قصد بهذه الآية تشريف النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير أن يكون هناك ذنب، فأخبره الله - عز وجل - أنه قد غفر له من ذنبه وما تأخر، وإن لم يكن ذنب، تشريف له - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً لمقامه الكريم، ولم يخبر أحداً من الأنبياء بمثل ذلك إظهاراً لشرفة عليهم.
وقد قال المحققون جواباً آخر: وهو أن المغفرة هنا كناية عن العصمة، فمعنى: ?لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ? ليعصمك الله فيما ما تقدم من عمرك وفيما تأخر منه، وهذا القول في غاية الحسن وإلي هذا الجواب أشار البرماوي بقوله: والصواب أن معنى الغفران للأنبياء الإحالة بين الأنبياء وبين الذنوب، فلا يصدر منهم ذنب لأن الغفر: هو الستر، فالستر إما بين العبد والذنب، وإما بين الذنب وعقوبته، فاللائق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام القسم الأول، واللائق بالأمم القسم الثاني.
فائدة: يأتي نظير هذا الإشكال في الحديث الوارد في هذا الصحيح عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «والله إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» (1) .
وفي الحديث الوارد في صحيح مسلم عن الأغر بن يسار المزني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة» (2) .
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2324، رقم 5948) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/114، رقم 10268) ، وابن ماجه في سننه (2/1254، رقم 3815) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/172، رقم 35071) ، والديلمي في الفردوس (1/56، رقم 154) جميعاً عن أبي هريرة.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2075، رقم 2702) عن الأغر وفيه سمعت ابن عمر يحدث ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: البخاري في الأدب المفرد (ص: 218، رقم 621) .
ورواه عن الأغر بدون ذكر ابن عمر، النسائي في السنن الكبرى (6/116، رقم 10280) ، وأحمد في مسنده (4/211، رقم 17880) ، وابن حبان في صحيحه (3/209، رقم 929) ، والطبراني في المعجم الكبير (1/301، رقم 882) ، والروياني في مسنده (2/468، رقم 1489) والطيالسي في مسنده (ص 166، رقم 1202) ، وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/349) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (6/49) .(1/452)
وفي الحديث الوارد في أبي داود الترمذي وصححه وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر ليّ، وتب علىّ إنك أنت التواب الرحيم» (1) .
فإنه يقال: التوبة والاستغفار يقتضيان الذنب، وهو في الرتب العليا من العصمة - صلى الله عليه وسلم - وأجابوا عن هذا: بأن توبته واستغفاره - صلى الله عليه وسلم - ليسا عن ذنب وإنما توبته الرجوع إلى مولاه في ستر ما استقصره من الشكر بالنسبة إلى ما ارتقى إليه من المقامات الأكملية، فإنه عليه أفضل الصلاة والسلام كلما بدا له من جلال الله وكبريائه قدراً، كان مرتقياً من كمال إلى أكمل فيستقصر بنظره إليه مما هو فيه من القيام بشكر الله تعالى على تلك الإنعامات العظيمة وطاعته، فيرجع إلى الاعتصام به تعالى ويطلب الستر لما ظهر من قصور الشكر.
وفي الحديث فوائد:
الأولى: أن الأعمال الصالحة ترقي صاحبها إلى المراتب السنية والغرف العلية، فإنها ترفع الدرجات وتمحوا عنه الخطيئات.
الثانية: أن العبد إذا بلغ الغاية في العبادة وثمراتها كان ذلك ادعى إلى المواظبة عليها، استبقاء للنعمة واستزادة لها بالشكر عليها.
الثالثة: فيه من الفوائد أنه ينبغي للإنسان أن يقف عند ما حد الشارع من عزيمته ورخصته، وأن يأخذ من العمل بالأرفق الموافق للشرع، وهو أولى من أن يأخذ بالأشق المخالف.
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (5/494، رقم 3434) ، وأبو داود في سننه (2/85، رقم 1516) ، والنسائي في السنن الكبرى (6/119، رقم 10292) ، وأحمد في المسند (2/21، رقم 4726) ، وابن حبان في صحيحه (3/206، رقم 927) ، وعبد بن حميد في مسنده (ص 251، رقم 786) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/438، رقم 641) عن ابن عمر.(1/453)
والرابعة: أن الأولى في العبادة القصد، والملازمة لا المبالغة المقتضية إلى الترك، فقد ورد في حديث آخر «المنبت» أي: المجد في السير «لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى» (1) .
الخامسة: فيه دلالة وتنبيه على فضل الصحابة وشدة رغبتهم في العبادة وطلبهم الازدياد وفعل الخير.
السادسة: فيه مشروعية الغضب عند مخالفته الأمر الشرعي، والإنكار على مرتكب ذلك، وإن كان صادقاً متأهلاً لفهم المعنى تحريضاً على التيقظ.
السابعة: فيه دليل على جواز تحدث المرء بما فيه من فضل، بحسب الحاجة لذلك، عند الأمن من المباهاة والتعاظم، خصوصاً إذ دخل إلى بلد لا يعرف فيها.
لطيفة: كان دانيال - عليه السلام - عارفاً بالطب، فأراد أن يظهر نفسه لملك زمانه، فأمر طباخه أن يزيد دانقاً في ملح الطعام على القدر المحتاج إليه، ففعل ذلك فضعف نظر الخليفة، فسأل دانيال عن ذلك فقال: إن الطباخ زاد في ملح الطعام فسأله فقال: نعم، قال: ولم فعلت ذلك قال أمرني دانيال بذلك، فسأله فقال: نعم، لأنك لم تحتج إلى علمي فأردت أن أجعلك تحتاج إليه.
الثامنة: فيه من الفوائد أن الصالح ينبغي له أن لا يترك اجتهاده في العمل اعتماداً على صلاحه، فانظر إلى سيد الصالحين ورسول رب العالمين كيف كان اجتهاده في العمل - صلى الله عليه وسلم -.
التاسعة: في دلالة وحث على العمل الصالح وعلى المداومة عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله» (2)
رواه الترمذي في سننه.
وفي صحيح مسلم عن أبي عبد الله ثوبان مولى الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السجود فإنك لن تسجد سجدة إلا رفعك الله بها
_________
(1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (2/184، رقم 1147) ، والرافعي في التدوين (1/238) .
ورواه البزار كما في مجمع الزوائد (1/62) جميعاً عن جابر.
قال الهيثمي: وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب، وهو في السند عند الجميع.
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/565، رقم 2329) عن عبد الله بن بسر أن أعرابياً قال: يا رسول الله من خير الناس؟ ... فذكره.
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.(1/454)
درجة، وحط بها عنك خطيئة» (1) .
وفي الصحيحين عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يتبع الميت ثلاث أهله وماله وعمله فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله» (2) .
وفي مسند أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سألت ربي أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي: يا محمد بل أنا أحاسبهم فإن كان منهم زلة سترناها عنك حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن قلبك» .
وقالت عائشة: نظرت يوماً إلى وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته فرحاناً مسروراً فسألته فقال: «يا عائشة سئلت ربي في أبناء الأربعين فقال: يا محمد قد غفرت لهم، فقلت: فأنباء الخمسين قال: إني غفرت لهم، قلت: فأبناء الستين قال: قد غفرت لهم، قلت: فأبناء السبعين، قال: يا محمد إني لأستحي من عبدي إذا عمرته سبعين سنة يعبدني لا يشرك بي شيئاً أن أعذبه بناري، فقلت فأبناء الأحقاب أبناء الثمانين والتسعين فقال: أقيل عليهم وأقول لهم: أدخلوا من أحببتم معكم الجنة، فإنكم أحبائي، أفنيتم أعماركم في توحيدي وطاعتي» .
ولله در القائل: من كان وكان يا غافلاً يتمادى، في اللهو كم هذا الزلل، غداً عليك ينادى، يا ناكثا خوان، لا تغتر بالدنيا، فليس هي الباقية، الدار دار الأخرى، فجد بالبنيان، أبناء عشر تواصوا بالخير فيما بينكم، فالخير لا شك عادة من الصغر قد بان، أبناء عشرين جدوا واستغنموا لشبابكم، ما دام غصن الشيبة، غض رطب ريان، يا ابن الثلاثين، بادر إلى المتاب فربما تأتي المنايا بغتة وتحرم الإمكان، وأنت ماذا عذرك، ذا الوقت يا ابن الأربعين، وقد بلغت أشدك فأسبق إلى الإحسان، أبناء خمسين هذا
_________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح (1/353، رقم 488) عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال لقيت ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، أو قال: قلت بأحب الأعمال إلى الله فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة فقال: سألت عن ذلك رسول الله ... فذكره.
وأخرجه أيضاً: النسائي في السنن الكبرى (1/242، رقم 724) ، وأحمد في المسند (5/276، رقم 22431) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2273، رقم 2960) ، والترمذي في سننه (4/589، رقم 2379) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في سننه (4/53، رقم 1937) ، وأحمد في المسند (3/110، رقم 12101) عن عبد الله بن أبي بكر.(1/455)
وقت الرجوع عن الزلل، فليس عند الزيادة شيء من النقصان، أبناء ستين كونوا من المنون على حذر، فما أحد قط يعطي من المنون أمان، أبناء سبعين وافى جيش المشيب فما بقى للزرع إلا حصاده وينشر الديوان، يا ابن الثمانين، قل لي في الدهر ماذا تنتظر، قد حان وقت رحيلك، وشالت الركبان، أبناء تسعين فوزوا فقد كتب توقيعكم من ربكم بالإنابة والعفو والغفران، يا ابن المائة إن وقتك ما بقي لك من عمل، إلا التوجه إلى الله في السر والإعلان، قد حان وقت رحيلك، فقم تجهز للسفر، وحصل الزاد وإلا تبقى عليه ندمان.
وقيل: لا يفوت الإنسان عمل اعتاده إلا بذنب.
قال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل خمسة أشهر بذنب واحد، قيل: ما هو؟ قال رأيت رجلاً يبكي فقلت هذا مرائي.
وقال أبو يزيد البسطامي (1) : قمت ليلة فتذكرت أهل الغفلة من النائمين، فكوشفت بأن الرحمة تنزل عليهم كالقائمين، فتعجبت من ذلك فهتف بي هاتف يا أبا يزيد هؤلاء ذكروا عذابي فقاموا، وهؤلاء ذكروا رحمتي فناموا.
الفائدة العاشرة: في الحديث دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاذ رتبة الكمال الإنساني، لأن الكمال الإنساني إما بالعلم، وإما بالعمل، وقد جمع - صلى الله عليه وسلم - الكمالين، وأشار إلى الأول بقوله: «أعلمكم بالله» ، والي الثاني: «أتقاكم» وهو - صلى الله عليه وسلم - أعرف خلق الله بالله، وأتقى خلق.
ومعرفة الله هي: تحقيق العلم، بإثبات الواحدانية (2) .
_________
(1) أبو يزيد البسطامي هو: طيفور بن عيسى البسطامي، أبو يزيد، ويقال: بايزيد، مولده سنة: 188هـ، زاهد مشهور، له أخبار كثيرة، كان ابن عربي يسميه أبا يزيد الأكبر، نسبته إلى بسطام بلدة بين خراسان والعراق أصله منها، ووفاته فيها سنة: - 261هـ، قال المناوي: وقد أفردت ترجمته بتصانيف حافلة.
(2) قال ابن حجر في الفتح (1/149) : قال إمام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب فقيل: المعرفة، وقيل: النظر.
وقال المقترح: لا اختلاف في أن أول واجب خطاباً ومقصوداً المعرفة، وأول واجب اشتغالاً وأداء القصد إلى النظر.
وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جداً.
وأجاب الأولون عن ذلك: بأن الكفار كانوا يذبون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم.
ومقتضى هذا: أن المعرفة المذكورة يكتفي فيها بأدنى نظر، بخلاف ما قرروه. ومع ذلك فقول الله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا? [الروم: 30] ، وحديث: «كل مولود يولد على الفطرة» ظاهر أن في دفع هذه المسألة من أصلها.
وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة عن أبي الوليد الباجي عن أبي جعفر السمناني -وهو من كبار الأشاعرة- أنه سمعه يقول: إن هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب.(1/456)
وقيل: هي حياة القلب مع الله.
وقيل: نسيان غير الله، وقد دل على فضلها ومدحها الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ?وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ? [الأنعام: 91] أي: ما عرفوا حق معرفته، وقال: ?وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ? [المائدة: 83] .
وجاء في الحديث عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن دعامة البيت أساسه، ودعامته الدين المعرفة بالله تعالى» .
وقد تكلم المشايخ الصوفية فيها، فكل منهم نطق بما وقع له منها، وأشار إلى ما وجده منها في وقته.
قال الأستاذ أبو علي الدقاق: من أمارة المعرفة بالله حصول الهيبة من الله تعالى فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته منه، ومن ازدادت هيبته استقامت حالته، وعظمت بين الخليقة حرمته.
وقال الشبلي (1) : ليس للعارف بالله علاقة أي: حظ في غير مولاه.
وقال بعضهم: من عرف الله انقطع بل خرس وانقمع.
وقال آخر: من كان بالله اعرف كان له أخوف.
وقال بعضهم: من عرف الله تبرم بالبقاء أي: كره البقاء، وضاقت عليه الدنيا بسعتها.
قال بعضهم: للعارف أمارة وهي: قلبه إذا نظر فيها تجلي فيها مولاه.
وقال ذا النون المصري: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة، فسبقت روح نبينا - صلى الله عليه وسلم - أرواح الأنبياء إلى روضة الوصال.
وقال أيضاً: معاشرة العارف كمعاشرة الله تعالى في أن يحتملك ويحلم عنك تخلقاً بأخلاق الله تعالى، فمتى صحبته وعفا عن كل ذنب يكون منك زال عنك برؤيته الفتور والكسل، وتخلقت بأخلاقه الحميدة.
واختلف العلماء في أول واجب على المكلف فالجمهور على أن واجب على المكلف معرفة الله لأنها أصل لسائر الأعمال الواجبة، إذ لا يصح بدونها واجب، بل
_________
(1) الشبلي هو: دلف بن جحدر الشبلي: ناسك، كان في مبدأ أمره والياً في دنباوند من نواحي رستاق الري، وولي الحجابة للموفق العباسي، وكان أبوه حاجب الحجاب، ثم ترك الولاية وعكف على العبادة، فاشتهر بالصلاح، وله شعر جيد، ومتفرقات في آداب السلوك تناقلها الناس، سلك به مسالك المتصوفة، مولده سنة: 247هـ، وأصله من خراسان، ونسبته إلى قرية شبلة من قرى ما وراء النهر،، ووفاته ببغداد سنة: 334هـ، واختلف في اسمه ونسبه، فقيل: دلف بن جعفر، وقيل: جحدر بن دلف، وقيل: دلف ابن جعترة، وقيل: دلف بن جعونة وقيل: جعفر ابن يونس.(1/457)
ولا مندوب.
وقيل: النظر المؤدي إليها.
وقيل: أول النظر.
وقيل: القصد إلى النظر.
وحقيقته سبحانه وتعالى مخالفة لسائر الحقائق، فلا يشاركه شيء في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.
واختلف العلماء هل حقيقته معلومة للناس في الدنيا؟
فقال المحققون: إنها ليست معلومة في الدنيا، قال الرازي: وكلام الصوفية يشعر به، ولهذا قال الجنيد: والله ما عرف الله إلا الله، وإذا كان الإنسان لم يدرك حقيقة نفسه فكيف يدرك حقيقة خالقه كما قيل:
حقيقة المرء ليس يدركها ... فكيف كيفية الجبار في القدم
وأما حديث: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (1)
فلم يصح ولم يثبت كما قاله النووي في فتاويه، وهو من كلام يحيى بن معاذ الرازي لا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
واختلف العلماء في معناه على أقوال، فقال النووي: معناه من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له، عرف ربه بالقوة والقهر والربوبية والكمال المطلق والصفات العليا.
_________
(1) ذكره الهروي في المصنوع (ص:189) وقال: قال ابن تيمية: موضوع.
وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/343) : قال ابن تيمية: موضوع، وقال النووي قبله: ليس بثابت، وقال أبو المظفر بن السعاني في القواطع: أنه لا يعرف مرفوعاً، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله، وقال ابن الغرس بعد أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال: لكن كتب الصوفية مشحونة به يسقونه مساق الحديث كالشيخ محي الدين بن عربي وغيره، قال: وذكر لنا شيخنا الشيخ حجازي الواعظ شارح الجامع الصغير للسيوطي بأن الشيخ محي الدين بن عربي معدود من الحفاظ، وذكر بعض الأصحاب أن الشيخ محي الدين قال: هذا الحديث وإن لم يصح من طريق الرواية فقد صح عندنا من طريق الكشف.
وللحافظ السيوطي فيه تأليف لطيف سماه: «القول الأشبه في حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه» .
وقال النجم: قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للمارودي عن عائشة سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أعرف الناس بربه قال أعرفهم بنفسه» .(1/458)
وقال بعض العارفين: معناه من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقره، عرف الله بعزته وقدرته وغناه، فيكون معرفة النفس أولا ثم معرفة الله من بعد.
وقال بعض أهل الله: لما كانت الروح في الجسد لا تدرك بالبصر ولا تمثل بالصور، علمنا سبحانه أنه لا تدركه الأبصار ولا يمثل بالصور والآثار، ولا يشبه بالشموس والأقمار ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فطوبي لمن عرف وبذنبه اعترف.
أشار بعض مشايخي في هذا المعنى فقال:
قل لمن يفهم عني ما أقول ... قصر القول فذا شرح يطول
هو شيء غامض من دونه ... ضربت والله أعناق الفحول
أنت لا تعرف إياك ولا ... تدر من أنت ولا كيف الوصول
لا ولا تدري صفات ركبت ... فيك حارت في خفاياها العقول
كيف تدر من على العرش استوى ... لا تقل كيف استوى كيف النزول
كيف تجلى أم ترى كيف يرى ... فلعمري ليس ذا إلا فضول
هو لا كيف ولا أين له ... وهو في كل النواحي لا يزول
جل ذاتاً وصفاتاً وسما ... وتعالى ملكه عما أقول
وذهب كثير من المتكلمين إلى أنها معلومة للناس في الدنيا، واحتجوا بوجهين:
أحدهما: أنا مكلفون بمعرفة وحدانيته، فلذلك يتوقف على معرفة حقيقته، فلم نوجبها لكلفة ما لا يطاق وهو ضعيف، لأنا لا نسلم أنها متوقفة على معرفته بالحقيقة، وإنما تتوقف على معرفته بوجه.
ثانيهما: أنا نحكم على ذات الله - عز وجل - بأحكام، والحكم مسبوق بتصور المحكوم عليه، وهو ضعيف أيضاً، لأن تصور المحكوم كان بوجه ما.
قال الزركشي: والأحسن القول الأول وهو أنها ليست معلومة للناس في الدنيا قال تعالى: ?وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً? [طه: 110] .
واختلف العلماء هل يمكن علمها في الآخرة؟
فقيل: لا، لأن علمها يقتضي الإحاطة به تعالى وهي ممتنعة.
وقيل: نعم، لحصول الرؤية فيها، ورد بأن الرؤية لا تفيد الحقيقة، والواجب على المكلف في الدنيا معرفته بوجه، وهو: بصفاته كما به أجاب موسى لفرعون لما قال: ?وَمَا رَبُّ العَالَمِينَ? فقال: ?قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم(1/459)
مُّوقِنِينَ? [الشعراء: 24] إجابه بالصفة لتعذر الجواب بالماهية، فظن فرعون أن موسى مخطئ في الجواب لعدوله عن الجواب المطابق لسؤاله، ولم يعلم بغباوته أنه هو المخطئ في السؤال، وأن ما أتى به الكليم في الجواب أقصى ما يمكن.
قال الرزركشي: وغاية معرفة الإنسان لربه أن يعرف أجناس الموجودات جواهرها وأعراضها المحسوسة والمعقولة، ويعرف أنها موضوعة ومحدثة، وأن محدثها يصح ارتفاع كلها مع قيامه، ولا يصح بقاؤها وارتفاعه.
وفي هذا المقام قال الصديق الأكبر: سبحان من لم يجعل لخله سبيلاً إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفة شيء.
قال الرازي: واعلم أن من عرف الله لا يخلو عن قبض وبسط، فإذا استغرق في عالم الجلال والعزة والاستغناء وقع في القبض والهيبة، فيصير كالمعدوم الفاني، وإذا استغرق في عالم الجمال والرحمة والكرم وقع في البسط والفرح والسرور، فيصير فرحاً بربه.
قيل: كان يحيى - عليه السلام - الغالب عليه الحزن والقبض، وكان عيسى - عليه السلام - الغالب عليه الفرح والسرور والبسط فتحاكما في هذه الواقعة إلى حضرة رب العزة، فأوحى الله تعالى إليهما إن أقربكما إليّ أحسنكما ظناً بي.
واستدل كثير من السلف على معرفة الله تعالى بطرق.
لطيفه: سأل جماعة من الكفار وكانوا سبعة عشر نفساً الإمام الشافعي ما الدليل على معرفة الصانع؟
فقال: ورقة الفرصاد أليس طعمها ولونها وريحها واحد عندكم قالوا: نعم فتأكلها دودة القز فيخرج منها الإبرسيم، والنحلة فيخرج منها العسل، والشاة فيخرج منها البعرة والظبية فينعقد في نوافحها المسك، فمن ذا الذي جعلها كذلك، مع أن الطبع واحد، فاستحسنوا منه ذلك وآمنوا على يديه.
وسئل أبو حنيفة عن معرفة الصانع فقال: إن الوالد يريد الذكر فيكون أنثى، ويريد الأنثى فتكون ذكراً، فدل ذلك على معرفة الصانع.
واستدل أحمد بن حنبل على معرفة الله تعالى بالبيض وخروج الفرخ منها، وقال: الدليل على الصانع قلعة حصينة ملساء لا فرجة فيها أي: لا باب، كالفضة المذابة والذهب الإبريز ثم انشقت الجدران وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فدل ذلك على اللطيف الخبير.(1/460)
وسأل هارون الرشيد مالكاً عن الصانع، فاستدل عليه بخلاف الأصوات، وتردد النغمات، وتفاوت اللغات.
وسأل الأصمعي بعض الأعراب فقال له: كيف عرفت الله: فقال: البعرة تدل على البعير، والروث يدل على الحمير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وأبحر ذات أمواج ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير.
وسئل أبو نواس الشاعر عن الدليل على الصانع فقال: النرجس وأنشد فيه:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
أصول من لجين زاهرات ... على أطرافها ذهب سبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق عن أبي بكر الأصبهاني قال: رؤي أبو نواس في المنام فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها في النرجس (1) .
سؤال: هل الطيور والبهائم البرية والبحرية عارفة بربها أم لا؟
قال الإمام فخر الدين الرازي: أكثر أرباب الآثار والأخبار جوزوا ذلك، وقالوا إن كونها عارفة بربها مشتغلة بتسبيحه أمر جائز في العقول، فوجب الاعتراف بذلك، وإن حصول الفهم والعلم في ذوات هذه الحيوانات من جملة الممكنات والله تعالى قادر على كل الممكنات، واستدلوا على ذلك بأنه يحصل منها أفعال لا تصدر إلا من العقلاء بل من أفاضل العقلاء، فدل ذلك كونها عارفة بربها.
ثم بين ذلك بوجوه:
منها: أن النحلة أعطاها الله من الذكاء أنها تبني البيوت المسدسة، من غير نظر ولا آلة ولا شكل، وإن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا عند استعانة بالآلات الكثيرة، وإنها تسعي في تحصيل قوتها وتؤخره لعلمها أنها قد تحتاج إليه في الأزمنة المستقبلية، ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات فسعت وادخرته، وذلك لا يصدر إلا من عاقل عارف بربه.
ومنها: أن الجمل والحمار وغيرهما إذا ذهب في طريق في ليلة ظلماء مرة واحدة، المرة الثانية يقدر على السلوك بتلك الطريق من غير إرشاد مرشد، وما ذاك إلا لعقله
_________
(1) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (13/465) عن أبي بكر أحمد بن محمد بن موسى الأصبهاني بأصبهان قال ... فذكره.(1/461)
ومعرفته بربه.
ومنها: أن الفأرة تدخل ذنبها في قارورة الدهن إن كان رأسها ضيقاً ولا تدخل رأسها ويحصل مقصودها بهذا الطريق، وهذا يدل على عقلها.
ومنها: أن العنكبوت تبني بيتها على وجه عجيب وعلى نسجه الشبكة التي تصيد بها الذباب.
وهذه أفعال فكرية فوجب الإقرار بثبوت العقل لها، وإذا أثبت كونها مهتدية عارفة بهذه الدقائق، فأي بعد في كونها عارفة بربها مسبحة لمالكها، ويدل على ذلك أيضاً قول الله تعالى: ?قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ? [النمل: 18] وهذا لا يصدر إلا من الفاهم العاقل.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مكحول عن بعض الأحبار أنه قال: «قام داود النبي عليه الصلاة والسلام ليلة على ساحل البحر يصلي ويسبح لله ويحمد، ويقول في دعائه: إلهي هدأت الأصوات، وغارت النجوم، ونامت العيون، وعين داود لم تنم، وأنت الحي القيوم، فهو متعجب بقيام ليله، فأوحى إلى ضفدع أن أجيبه فقال الضفدع: يا داود أعجبك قيام ليلة واحدة وأنا في مكاني هذا منذ سبعين سنة لم يفتر لساني من التسبيح والتقديس لربي، قال داود: فبأي شيء تسبحين؟ قالت: فإني أقول: سبحان ربي المعبود بكل مكان، سبحان ربي المشكور بكل لسان، سبحان ربي المحمود في كل أوان» .
وأما ما يتعلق بالتقوى التي دل عليها في الحديث قوله: «أتقاكم» فهو: أن البرماوي وغيره قالوا: إن التقوى على ثلاث مراتب:
الأولى: وقاية النفس عن الكفر وهذه المرتبة للعموم.
الثانية: وقاية النفس عن المعاصي وهي للخواص.
الثالثة: وقاية النفس عما سوى الله وهي لخواص الخواص.
قال حجة الإسلام الغزالي: التقوى كنز عزيز، ولئن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر شريف، وخير كثير، ورزق كريم، فوز كبير، فكأن خيرات الدنيا والآخرة جمعت فجعلت تحت هذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وتأمل ما في القرآن من ذكرها كم علق بها من خير، وكم وعد عليها من ثواب، وكم أضاف إليها من سعادة.
قال: وأنا أعد لك من جملها اثنا عشر خصلة:(1/462)
أولها: المدح والثناء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? [آل عمران: 186] .
الثاني: الحفظ والحراسة من الأعداء قال تعالى: ?وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ? [آل عمران: 120] .
الثالث: التأييد والنصرة قال تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ? [النحل: 128] ، وقال تعالى: ?وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ? [البقرة: 194] .
والرابع: النجاة من الشدائد والرزق الحلال قال الله تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ? [الطلاق: 2، 3] .
والخامس: إصلاح العمل قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً? [الأحزاب: 70، 71] .
السادس: غفران الذنوب كما قال تعالى: ?وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ? [الأحزاب: 71] .
والسابع: محبة الله قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ? [التوبة: 4] .
والثامن: القبول قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ? [المائدة: 27] .
والتاسع: الإكرام والإعزاز قال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] .
والعاشر: البشارة عند الموت قال الله تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ? [يونس: 64] .
والحادي عشر: النجاة من النار قال الله تعالى: ?ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا? [مريم: 27] ، وقال تعالى: ?وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى? [الليل: 17] .
والثاني عشر: الخلود في الجنة قال الله تعالى: ?وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? [آل عمران: 133] .
فهذا كله خير وسعادة في الدارين تحت خصلة واحدة وهي التقوى، ولا تنس نصيبك منها أيها الرجل وفسروا قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ(1/463)
تُقَاتِهِ? [آل عمران: 102] بأن يطاع الله فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، هذا أعلى درجات التقوى، وهذا عزيز وربما يعجز الإنسان عنه، ولهذا لما نزلت الآية وسمعها الصحابة خافوا العجز عن القيام بذلك، فأنزل الله تخفيفاً عنهم: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16] .
وكان سهل بن عبد الله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا زاد إلا التقوى، ولا عمل إلا الصبر عليه.
وقال بعض العارفين: من لزم التقوى اشتاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله تعالى يقول: ?وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا? [يوسف: 109] .
وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: بحسن التوكل منه على الله فيما لم ينل من الرزق، وحسن الرضا منه فيما قد نال منه، وحسن البصر منه على ما فات مما يحبه.
وجاء في الحديث أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله أوصني فقال: «عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله فإنه نور لك أي: يهديك إلى الصراط المستقيم.
وأنشد ذو النون المصري قدس الله سره:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر
وعن عائشة أنها قالت: ما أعجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعجبه أحد إلا ذو التقى.
وعن قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: «مكتوب في التوراة يا ابن آدم اتق الله ونم حيث شئت» .
وكتب على بعض القبور: ليس زاد إلا التقى فخذ منه أو دع.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «من اتقى الله عاش قوياً وسار في بلاده آمنا» .
وقال ابن لقمان لأبيه أي الخصال خير؟ قال: الدين، قال: فإن كانت اثنتين؟ قال: الدين والمال، قال: فإن كانت ثلاثة؟ قال: الدين والمال والحياء، قال: فإن كان أربعاً؟ قال: حسن الخلق، قال: فإن كانت خمساً؟ فقال: السخاء، قال: فإن كانت ستاً؟ قال: يا بني إذا اجتمعت فيه هذه الخمس خصال فهو تقي لله ولي، ومن الشيطان بري، ولقد صدق من قال:
من اتقى الله فذاك الذي ... سبق إليه المتجر الرابح
من عرف الله فلم تغنه ... معرفة الله فذك الشقي
ماذا على الطائع ما ضره ... في طاعة الله ماذا لقي(1/464)
ما يصنع العبد بعز الغنى ... والعز كل العز للمتقي
لطيفة: نزل ضيف على سليمان الفارسي ولم يكن عنده شيء، فخرج إلى الصحراء فوجد ظباء وطيور فأشار إلى ظبي وطير فاقبلا فقال: الضيف سبحان الله قد سخر لك الظباء والطير فقال سلمان: هل رأيت عبدا أطاع الله فعصاه شيء.
لطيفة أخرى: خرج شاب بالمدينة لصلاة العشاء في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فرأته امرأة فعرضت نفسها عليه فتبعها إلى منزلها، ثم تذكر قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ? [الأعراف: 201] أي: خطرة ونزعة من الشيطان، ?تَذَكَّرُوا? أي: تذكروا أنهم وقع منهم شيء يغضب الله تعالى، فلما قرأ الشاب هذه الآية وقع مغشياً عليه فطرحته المرأة على باب دراها، فخرج أبوه فلما أفاق سأله عن حاله فقص حاله على أبيه، فلما قرأ الآية ثانياً خرجت روحه فلما دفنوه بلغ ذلك عمر، فوقف على قبره وناداه: يا فلان ?وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ? [الرحمن: 46] فأجابه من القبر يا عمر قد أعطاينهما ربي بفضله.
* * *(1/465)
باب
تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ (1)
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (2) ، قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ (3) أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمان. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَا أَوِ الْحَيَاةِ، شَكَّ مَالِكٌ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً» .
قَالَ وُهَيْبٌ (4) حَدَّثَنَا عَمْرٌو (5) «الْحَيَاةِ» (6) . وَقَالَ: «خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ» (7) .
في هذا الإسناد لطيفة وهو أن رجاله كلهم مدنيون.
بهمز قطع قوله: «أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة (8)
» بهمزة قطع وهو خطاب
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال» : «في» ظرفية، ويحتمل أن تكون سببية، أي: التفاضل الحاصل بسبب الأعمال.
(2) قال الحافظ في الفتح (1/152) : قوله: «حدثنا إسماعيل» هو ابن أبي أويس عبد الله بن عبد الله الأصبحي المدني ابن أخت مالك، وقد وافقه على رواية هذا الحديث عبد الله بن وهب ومعن بن عيسي عن مالك، وليس هو في الموطأ، قال الدارقطني: هو غريب صحيح.
(3) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «يدخل» للدار قطني من طريق إسماعيل وغيره «يدخل الله» وزاد من طريق معن «يدخل من يشاء برحمته» وكذا له وللإسماعيلي من طريق ابن وهب.
(4) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «قال وهيب» أي: ابن خالد.
(5) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا عمرو» أي: ابن يحيى المازني المذكور في سند هذا الحديث.
(6) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «الحياة» بالخفض على الحكاية، ومراده: أن وهيباً وافق مالكاً في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيي بسنده، وجزم بقوله: «في نهر الحياة» ولم يشك كما شك مالك.
(7) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «وقال خردل من خير» هو على الحكاية أيضاً، أي: وقال وهيب في روايته: مثقال حبة من خردل من خير، فخالف مالكاً أيضاً في هذه الكلمة.
وقد ساق البخاري حديث وهيب هذا في كتاب الرقاق عن موسي ابن إسماعيل عن وهيب، وسياقه أتم من سياق مالك، لكنه قال: «من خردل من إيمان» كرواية مالك، فاعترض على المصنف بهذا.
ولا اعتراض عليه، فإن أبا بكر بن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في مسنده عن عفان بن مسلم عن وهيب فقال: «من خردل من خير» كما علقه المصنف، فتبين أنه مراده لا لفظ موسي.
وقد أخرجه مسلم عن أبي بكر هذا، لكن لم يسق لفظه.
ووجه مطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهر، وأراد بإيراده الرد على المرجئة لما فيه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة في أن المعاصي موجبة للخلود.
(8) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/152) : قوله: «مثقال حبة» بفتح الحاء، هو إشارة إلى ما لا أقل منه.
قال الخطابي: هو مثل ليكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن ما يشكل في المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم.
وقال إمام الحرمين: الوزن للصحف المشتملة على الأعمال، ويقع وزنها على قدر أجور الأعمال.
وقال غيره: يجوز أن تجسد الأعراض فتوزن، وما ثبت من أمور الآخرة بالشرع لا دخل للعقل فيه.
والمراد بحبة الخردل هنا: ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد، لقوله في الرواية الأخري: «أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة» .(1/466)
للملائكة، والمعنى ثم يقول الله بعد إدخال عصاة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى النار لملائكته: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبه من خردل من إيمان.
ويجوز أن تكون همزة وصل ويكون الخطاب للعصاة الذين أدخلهم الله النار، والمعنى: أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من خردل إيمان، وإنما أتى «بحبه الخردل» دون غيرها من البذورات لأنها في غاية الصغر، فلهذا يشبه بها للبالغ في القلة أي: أخرجوا من النار من بلغ إيمانه إلى غاية القلة، بحيث لا يكون فيها أحد إيمانه أقل من منه، هذا دليل على أنه لا يبقى في النار من أهل الإيمان من العصاة أحد من قل إيمانه أو كثر، تفضلاً منه سبحانه وكرماً.
وكم من عاص تفضل الله عليه وعفا عنه وسامحه، من غير سبق عذاب في البرزخ ولا في الآخرة، بل عامله بحسن ظن فأدخله الجنة.
لطيفة: روي عن إبراهيم بن أدهم قال: بينما أنا أمشي في بعض الأذقة، وإذا امرأة تحمل ميت والناس يرجمونه بالحجارة، فقلت لها: ما يكون هذا الميت قالت ولدي وكان يعصي الحق ولا يستحي من الخلق، فلما حضره الموت سمعته يقول: يا محسنا لمن رجاه، يا من لا يهتك عبداً عصاه، فلما مات هجره الخلق ورجموه، فلا أدري كيف أتجه به، فقلت: أنا أحمله وأصلي عليه، فحملته معها فجهزناه ودفناه، فمضت أمه، فتفكرت أنا عند قبره فأخذتني سنة النوم، فرأيت ملكين قد نزلا عليه فانشق القبر فأجلساه وشم أحدهما جميع مفاصله فقال: لرفيقه ما في جسده مثقال حبة من خير فقال رفيقه: ربه أعلم به فنوديا: شقا قلبه، فخرج منه شامة بيضاء تتلألأ كالقمر، فنوديا: يا أيها الملكان هذه شهادة أن لا إله إلا الله، توفى عليها، وهو يرجوني ويقصدني فيكف أخيب من قصدني.
فإن قيل: من أين تعرف الملائكة العصاة الذين أدخلوا النار وفي قلوبهم مثقال حبة من خردل من خردل حتى يخرجوهم والإيمان أمر قلبي؟
فالجواب: أن الله تعالى يجعل له علامات يعرفون بها، كما يعلمون بأنهم من أهل التوحيد بعلامات السجود.
وقوله: «فيخرجون منها قد اسودوا» أي: صاروا سود كالحمم من آثار النار.
«فيلقون في نهر الحياء» أي: في نهر المطر (1) .
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: قوله: «في نهر الحياء» كذا في هذه الرواية بالمد، وفي غيرها بالقصر، وبه جزم الخطابي وعليه المعنى، لأن المراد كل ما به تحصل الحياة، والحيا بالقصر هو المطر، وبه تحصل حياة النبات، فهو أليق بمعنى الحياة من الحياء الممدود الذي هو بمعنى الخجل.(1/467)
«أو الحياة» أي: النهر الذي ينغمس فيه الحي.
«فينبتون كما تبنت الحبة من جانب السيل» و «الحبة» (1) بكسر الحاء تجمع على حبب، وهو بذر العشب، وإنما شبه - صلى الله عليه وسلم - نبات العصاة الذين أخرجوا من النار في نهر الحياة بنبات العشب لسرعة نباته وخروجه من الأرض، قيل: إنه ينبت في يوم وليلة بخلاف غيرها من الحبب لا ينبت كذلك.
وقوله: «ألم تر أنها تخرج صفراء ملتوية» .
فائدة: هذا اللون مفرح يسر الناظرين، قال تعالى في حق بقرة إسرائيل: ?بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ? [البقرة: 69] ونقل القرطبي عن علي بن أبي طالب أنه قال: من لبس نعلاً أصفراً قل همه.
ولهذا كان الحناء سيد رياحين الجنة لصفرته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية» (2)
والفاغية: نَوْرُ الحناء.
وقال أنس: «كان أحب الرياحين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاغية» (3) رواهما البيهقي.
والمعنى: أن العصاة إذا خرجوا من النار وألقوا في نهر الحياة، يخرجون من ذلك النهر منورين منبسطين متبخترين كخروج هذه الريحانة من جانب السيل، ويسمى هؤلاء الذين أخرجوا من النار «عتقاء الله» فإنهم يدخلون الجنة ومكتوب على جباههم وبين أعينهم «عتقاء الله» .
وروي أنهم إذا أدخلوا الجنة بعد ذلك فتكون تسميتهم الجهنميين، فيكرهون هذا الاسم ويسألون الله تعالى أن يزيله عنهم، فيثور في الجنة شبه الضباب فينقلهم الله إلى منازل لا يعرفون فيها، ويزول عنهم هذا الاسم.
وفي رواية: إذا دخلو الجنة قال أهل الجنة هؤلاء الجهنميين، فعند ذلك يقولون إلهنا لو تركتنا في النار كان أحب إلينا من العار، فيرسل الله تعالى ريحاً من تحت العرش يقال لها:
_________
(1) في معناها قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/153) : قوله: «الحبة» بكسر أوله، قال أبو حنيفة الدينوري: الحبة: جمع بزور النبات واحدتها حبة بالفتح، وأما الحب فهو: الحنطة والشعير، واحدتها حبة بالفتح أيضاً، وإنما افترقا في الجمع.
وقال أبو المعالي في المنتهى: الحبة بالكسر: بزور الصحراء مما ليس بقوت.
(2) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/92، رقم 5904) عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
قال البيهقي: ورواه جماعة عن أبي هلال الراسبي، تفرد به أبو هلال محمد بن سليم.
وأخرجه أيضاً: الطبراني في المعجم الأوسط (7/271، رقم 7477) ، والديلمي في مسند الفردوس (2/325، رقم 3482) .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/35) : رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن عبية القطان ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5/131، رقم 6074) عن أنس بن مالك.(1/468)
المثيرة، فتهب على وجوههم فتمحوا الكتابة أي: ما هو مكتوب بين أعينهم.
فقد روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فرغ الله من القضاء بين خلقه أخرج كتاباً من تحت العرش، إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين، قال: فيخرج من النار مثل أهل الجنة أو قال مثلي أهل الجنة، مكتوب بين أعينهم عتقاء الله» .
وقوله: «مثقال حبة من خردل من إيمان» المثقال من الذهب عند الفقهاء عبارة عن اثنين وسبعين شعيره، فإن قيل: الإيمان عرض فكيف يوزن؟
فالجواب: أن هذا مثل، فيكون عياراً في المعرفة لا في الوزن، لأن الإيمان ليس بجسم فيوزن، ولكن ما يشكل من المعقول يرد إلى المحسوس ليفهم، ويشبه ليعلم.
وقيل: الذي يوزن إنما هي الصحف المشتملة على الأعمال.
ويستفاد من الحديث أنواع من العلوم:
منها: إثبات دخول طائفة من عصاة الموحدين النار، وهذا أمر دلت عليه النصوص الظاهرة، وأجمع عليه من يعتد به، ولهذا لا يجوز كما قاله ابن عبد السلام وغيره أن يقول الإنسان في الدعاء: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات جميع ذنوبهم، ولا اللهم لا تدخل أحداً منهم النار، قالوا: لأنا نقطع بخبر الله وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أن منهم من يدخل النار.
ولا يشكل على هذا القول مع قول نوح - عليه السلام -: ?رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ? [نوح: 28] لأنه ورد بصيغة الفعل في سياق الإثبات، وذلك لا يقتضي العموم، لأن الأفعال نكرات، ولجواز أن يكون نوح عليه الصلاة والسلام قصد معهوداً خالصاً وهو أهل زمانة مثلاً بل جميع المؤمنين والمؤمنات من أهل زمانه وغيرهم.
وفي الحديث أيضاً: دلالة على أنه لابد من إخراج العصاة ولا يخلدون في النار، ولو كانوا من أصحاب الكبائر، وهنا غرائب مناسبة:
الأولى: فإن قيل: إذا أدخل الله العصاة النار هل يميتهم الله في النار ثم يخرجهم بالشفاعة أو لا يميتهم؟
في المسألة قولان:
أحدهما: ورجحه القرطبي: أن الله يميتهم في النار إماتة حقيقية تكريماً لهم حتى لا يحسوا بألم العذاب بعد الاحتراق، ثم يخرجهم منها، والدليل على ذلك ما ورد في بعض الأحاديث: «فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً، أذن في الشفاعة فيهم» (1) أكد
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/172، رقم 185) ، وابن ماجه في سننه (2/1441، رقم 4309) ، وأحمد في مسنده (3/11، رقم 11092) ، وابن حبان في صحيحه (16/530، رقم 7485) ، وأبو عوانة (1/158، رقم 456) ، والدارمي في سننه (2/427، رقم 2817) ، وأبو يعلى في مسنده (2/348، رقم 1097) عن أبي سعيد.(1/469)
ذلك بالمصدر فدل على أن الإماتة حقيقية، بخلاف الكفار المخلدين فيها قال الله تعالى في حقهم: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ? [فاطر: 36] بل كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً غيرها كما قال الله تعالى: ?كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ? [النساء: 56] .
ثانيهما: أنهم إذا دخلوا النار لا يموتون فيها، بل إماتتهم المذكورة في الحديث عبارة عن أن الله يلقي عليهم في النار النوم حتى يعينهم عن ألم العذاب، وليس بموت على الحقيقة فإن النائم قد يغيب عن كثير من الألم والملاذ، وقد سماه الله تعالى وفاة بقوله العزيز: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الزمر: 42] .
فإن قيل: إذا أماتهم في النار على القول الأول وألقى عليهم النوم على القول الثاني، فأي حكمة وفائدة في إدخالهم النار ولا شعور لهم بأليم العذاب، الذي هو المقصود من دخول النار؟
أجاب العلماء عن ذلك: بأنه يدخلهم إلى النار وإن لم يحسوا بأليم العذاب، تأديباً لهم ويكون صرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم، كالمحبوس في السجن، فإن الحبس عقوبة له وإن لم يكن معه غل ولا قيد والله أعلم.
الثانية: العصاة الذين يدخلهم الله النار من المؤمنين متفاوتون في العذاب، بحسب أعمالهم فمنهم من تأخذه النار إلى صدره، فقد جاء في خبر عن كعب الأحبار: «يا مالك قل للنار لا تحرق ألسنتهم فقد كانوا يقرؤون القرآن، يا مالك قل للنار تأخذهم على قدر أعمالهم» فالنار أعرف بهم بمقدار استحقاقهم من الوالدة بولدها، بخلاف الكافر فإن العذاب يشمل جميع جسده، ولا تعاف منه شيئاً، كما اشتمل في الدنيا على الكفر تشمله النار في الآخرة قال تعالى: ?لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ? أي: ما فوقهم ظلل لهم وما تحتهم ظلل.
ويعظم جسد الكافر في النار وأعضاؤه كأسنانه ويديه ورجليه وباقي أعضائه ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2189، رقم 2851) ، والترمذي في سننه (4 /704، رقم 2579) ، وأحمد في مسنده (2/328، رقم 8327) ، وابن حبان في صحيحه (16/532، رقم 7487) عن أبي هريرة.(1/470)
وفي حديث آخر للترمذي: «إن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد، وإن مجلسه من جهنم كما بين مكة والمدينة» (1) .
وكذلك تسود وجوه الكفار في النار، وتزرق عيونهم، ويغلون بالأغلال.
والعصاة من المؤمنين فإنهم يسلمون من ذلك كله، ويتفاوتون في قدر البقاء في النار فمنهم من يمكث فيها ساعة، ومنهم من يمكث فيها يوماً، ومنهم من يمكث شهراً، ومنهم من يمكث فيها سنة، فقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي وماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم لا تسود وجوهم، ولا تزرق عيونهم، ولا يغلون بالأغلال، ولا يقرنون مع الشياطين، ولا يضربون بالمقامع، ولا يطرحون في الأدراك، منهم من يمكث فيها ساعة ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها يوماً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج، وأطولهم مكثاً فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت، وذلك سبعة آلاف سنة ... الحديث» (2) .
الثالثة: فإن قيل: إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة هل يعرفون منازلهم وأمكنتهم التي أعدها الله بهداية من الله، أو أن الملائكة تدلهم على منازلهم؟
في المسألة قولان:
أحدهما: أن الملائكة إذا وصلت بأهل الجنة إلى بابها يقولون لهم: تفرقوا إلى منازلكم، فيذهب كل واحد منهم إلى منزله فيها، وهو أعرف بمنزله في الجنة وموضعه فيها من منزله الذي كان في دار الدنيا، كما أن أهل صلاة الجمعة مثلاً إذا أخرجوا من المسجد يعرف كل واحد منزله، كذاك أهل الجنة وهذا القول هوالراجح ويدل عليه قول الله تعالى: ?وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ? [محمد: 6] .
ثانيهما: إنهم لا يعرفون منازلهم إلا بالملائكة يمشي مع كل واحد ملك بين يديه إلى منزله، وهو الملك الموكل بعمله.
الرابعة: أفاد بعض العلماء أنه يمكن معرفة أهل الجنة من أهل النار في الدنيا بعلامة وهي: أن الشخص إذا ملأ الله أذنيه من ثناء الناس عليه فهو من أهل الجنة، وإذا ملأ الله أذنيه من ذم الناس له فهو من أهل النار، واستُدل على ذلك بحديث في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت وجبت وجبت» ومر بجنازة فأثني عليها شراً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت وجبت وجبت» فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: فداك أبي وأمي، مر بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت: «وجبت وجبت وجبت» ومر
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/703، رقم 2577) عن أبي هريرة.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش.
(2) رواه الحكيم في نوادر الأصول (2/36) عن أبي هريرة.(1/471)
بجنازة فأثني عليها شراً فقلت: «وجبت وجبت وجبت» فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض» (1) .
وفي بعض طرق البخاري عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة» فقلنا: وثلاثة فقال: «وثلاثة» فقلنا: واثنان فقال: «واثنان» ثم لم نسأله عن الواحد.
والحديث السابق يعطي العموم، وإن من كثرت شهوده وانطلقت ألسنة المسلمين فيه بالخير والثناء الصالح، كانت له الجنة والله اعلم.
ومرت جنازة على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - فقال لرجل قم فانظر من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ فقال الرجل: وما يدريني من أهل الجنة هو أم من أهل النار؟ قال: انظر إلى ثناء الناس عليه فإنهم شهداء الله في الأرض.
وغير مستنكر إذا أحب الله عبداً أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء عليه، وفي قلوبهم المحبة له قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُداًّ? [مريم: 96] .
قدمنا أنه ورد في الحديث: أن الله تعالى إذا أحب عبداً فدعا جبريل فقال: إن الله يحب فلاناً فأحبه قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وفي البغضاء مثل ذلك.
قال القرطبي: وقد شوهد رجال من المسلمين علماء صلحاء كثر الثناء عليهم، وصرفت القلوب إليهم في حياتهم وبعد مماتهم.
الخامسة: جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما سأل الله عبداً الجنة في يوم سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخلنيه» (2) .
وفي حديث آخر: «ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره، ولا سئل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب إن عبدك فلاناً سألني فأدخله الجنة» (3) .
فالرب تعالى جواد له الجود كله يجب أن يسأل ويطلب منه ويرغب إليه، فخلق من
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في الصحيح (1/460، رقم 1301) ، ومسلم في صحيحه (2/655، رقم 949) من حديث أنس بن مالك.
(2) لم نقف عليه.
(3) أخرجه أبو يعلى في مسنده (11/54، رقم 6192) ، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1/249، رقم 213) عن أبي هريرة.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4/243) وقال: رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم.(1/472)
يسأله وألهمه سؤاله، وخلق له ما يسأله، فهو خالق السائل وسؤاله ومسؤوله، وذلك لمحبته لسؤال عبده له، ورغبتهم إليه، وطلبهم منه، وهو يغضب إذا لم يُسأل، وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحين في الدعاء كلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه فأكثروا من طلب الجنة ومن الاستعاذة من النار.
فقد ورد في حديث آخر عنه - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم سأل الله الجنة ثلاثاً إلا قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاثاً قالت النار: اللهم أجره من النار» (1) رواه الترمذي وغيره.
وفي حديث آخر: «أكثروا مُساءلة الله الجنة واستعيذوا به من النار فإنهما شافعتان مشفعتان، وإن العبد إذا أكثر مساءلة الله الجنة، قالت الجنة: يا رب عبدك هذا الذي سألنيك فأسكنه إياي، وتقول النار: يا رب عبدك هذا الذي استعاذ بك مني فأعذه» (2) .
وقد كان جماعة من السلف لا يسألون الله الجنة، ويقولون: حسبنا أن يجيرنا من النار.
وجاء في حديث آخر يقول الله عز وجل: «انظروا في ديوان عبدي فمن رأيتموه سألني الجنة أعطيته، ومن استعاذني من النار أعذته» (3) .
وفي حديث آخر: «أطلبوا الجنة جهدكم، اهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها، وإن الآخرة اليوم محفوفة بالمكاره، وإن الدنيا محفوفة باللذات والشهوات فلا تلهينكم عن الآخرة» (4) .
* * *
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (/699، رقم 2572) عن أنس بن مالك.
قال الترمذي: هكذا روى يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق هذا الحديث عن بريد بن أبي مريم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وقد روي عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس بن مالك موقوفاً أيضاً.
وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/155، رقم 12607) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/717، رقم 1960) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأبو يعلى في مسنده (6/356، رقم 3682) ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (4/390، رقم 1560) .
(2) لم نقف عليه.
(3) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/175) عن أنس بن مالك.
قال ابن رجب في التخويف من النار (ص:44) : إسناده ضعيف.
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/200، رقم 449) ، وفي المعجم الأوسط (4/73، رقم 3643) عن كليب بن حزن.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/230) : رواه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنه وفيه معلى بن الأشدق وهو ضعيف جداً.(1/473)
قَالَ البُخَارِي (1) : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ (2) ، قَالَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ (3) ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ (4)
، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ (5) يُعْرَضُونَ عَلَيَّ، وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ (6) ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَىَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ» . قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الدِّينَ» .
في هذا الحديث فوائد:
الأولى: دل على استحباب تأويل دليل الرؤيا إذا كان عارفاً به، أو أنه يسأل العالم بها عنها، كما أول - صلى الله عليه وسلم - المنام الذي رآه لسيدنا عمر لما سألوه عنه «بالدين» .
وإنما أول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القميص بالدين، لأن الدين للإنسان كالقميص له في أنه يستره من النار، ويحجبه عن كل مكروه، كما أن القميص يستر عورة الإنسان.
وظاهر الحديث يقتضي أن القميص على أي لون كان يؤول بالدين إذا كان يجره على الأرض.
وفصل علماء التعبير في ذلك وقالوا: القميص الأبيض والأخضر يؤول بالدين، وأما الأزرق فإنه لا يحمد في المنام لقوله تعالى: ?وَنَحْشُرُ المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً? [طه: 102] .
أما الأحمر فإنه يدل على الشهرة والخيلاء في المنام فإن كان معتاداً بلبسه فهو دليل
_________
(1) بعدما تكلم المصنف عن شرح حديث في تفاضل أهل الإيمان أتى بعد ذلك بحديث آخر من أحاديث الباب فشرحه فتنبه هداك الله.
(2) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «حدثنا محمد بن عبيد الله» هو أبو ثابت المدني وأبوه بالتصغير.
(3) قال الحافظ في الفتح (1/153) : قوله: «عن صالح» هو ابن كيسان تابعي جليل.
(4) قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «عن أبي أمامة بن سهل» هو ابن حنيف كما ثبت في رواية الأصيلي، وأبو أمامة مختلف في صحبته، ولم يصح له سماع، وإنما ذكر في الصحابة لشرف الرؤية، ومن حيث الرواية يكون في الإسناد ثلاثة من التابعين أو تابعيان وصحابيان، ورجاله كلهم مدنيون كالذي قبله.
وأفاد ابن حجر أنه سيشرح هذا مفصلاً في كتاب التعبير إلا أنه علق على وروده هاهنا في هذا الباب فقال: والحديث ومطابقته للترجمة ظاهرة من جهة تأويل القميص بالدين، وقد ذكر أنهم متفاضلون في لبسها، فدل على أنهم متفاضلون في الإيمان.
(5) قال الحافظ في الفتح (1/154) : قوله: «بينا أنا نائم رأيت الناس» أصل «بينا» : بين ثم أشبعت الفتحة، وفيه استعمال «بينا» بدون «إذا» وبدون «إذ» ، وهو فصيح عند الأصمعي ومن تبعه وإن كان الأكثر على خلافه، فإن في هذا الحديث حجة.
(6) قال الحافظ في الفتح (1/154) : وقوله: «الثدي» بضم المثلثة وكسر الدال المهملة، وتشديد الياء التحتانية جمع ثدي بفتح أوله وإسكان ثانيه والتخفيف، وهو مذكر عند معظم أهل اللغة، وحكي أنه مؤنث، والمشهور أنه يطلق في الرجل والمرأة، وقيل: يختص بالمرأة وهذا الحديث يرده، ولعل قائل هذا يدعي أنه أطلق في الحديث مجازاً، والله أعلم.(1/474)
على رفعة وسودد يحصل له، وإن لم يكن معتاداً بلبسه، فهو هم وحزن.
وأما القميص الأصفر فهو دليل على مرض يحصل للابسه في المنام، فإن رأى أنه لبسه وغسله أو خلعه نجا من ذلك المرض، ومن رأى أن عليه قمصاً كثيرة، أو على غيره فذلك دليل على أن له عند الله أجراً عظيماً.
ومن رأى قميص تخرق على جسمه استغنى من قبل امرأته، وإن رآه تفتق فارق امرأته أوشريكه.
ومن رأى قميصاً بلا كمين عليه أو على غيره فذلك دليل على حسن شأن لابسه في دينه ودنياه وأنه ليس له مال.
ومن رأى قميص شق طولاً فهو دليل على كلام يحصل له وهم يزول عنه، وإن رآه شق عرضاً فهو دليل على كلام يقال في عرضه.
ومن رأى أنه قَدْ قُدَّ من وراءه فإنه يتهم بتهمة هو برئ منها، فإن رأه قُدَّ من قبله فالذي يرمى به صحيح لقصة يوسف: ?إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [يوسف: 26، 27] .
ومن رأى أنه لبس قميصاً مقلوباً فإنه يدل على تغير حاله إلى خلاف عادته.
ومن رأى أنه لبس قميصاً خلقاً وسخاً فهو دليل على فقر ودَين.
ومن رأى أنه لبس جديداً صفيقاً فهو دليل على قوة في دين صاحبه، ويفسره للمرأة بالزوج، وللرجل بالمرأة إذ لبساه لقوله تعالى: ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] .
ومن رأى أن جيب قميصه انشق انفتح عليه باباً من الفقر، ومن رأى أنه لبس قميصاً قصيراً لم يستر ركبتيه، فذلك دليل على نقص في دينه للحديث السابق الذي ساقه البخاري.
ومن رأى أنه أهدى إليه قميص فإنه يبشر ببشارة حسنة لقوله تعالى في قصة يوسف: ?فَلَمَّا أَن جَاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? [يوسف: 96] .
فائدة مناسبة: ذكر بعض المفسرين أن يوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه كان له ثلاثة أقمصة، قميص العلامة، وقميص الشهادة، وقميص البشارة، أما قميص العلامة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ? [يوسف: 18] فإن أخوة يوسف كانوا إحدى عشر لما ألقوه في الجب وأخذوا قميصاً فذبحوا شاة ولطخوا قميصه بدمها فلما تأخروا عن الوقت الذي كانوا يروحون فيه إلى يعقوب أحس قلبه بالشر، فقام ليستقبلهم فلم يطق النهوض فتوكأ على جارية، وجعل يمشي حتى أشرف على الوادي، فرمى نفسه هناك، فلما أشرفوا على الوادي شقوا ثيابهم وحثوا التراب على(1/475)
رؤوسهم، وهم يضجون في البكاء والصياح، فلما رآهم يعقوب على هذه الحالة وقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: مالي لا أرى قرة عيني فيكم؟ قالوا: كما أخبر الله عنهم: ?ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ? [يوسف: 17] قال: لم يبق له عضو من أعضائه تأتوني به أستانس به وأشم ريحه منه فقالوا: هذا قميصه ملطوخ بدمه، فقلبه فلم ير فيه شقاً ولا تمزيقاً وشمه فلم يجد ريحة فيه، فقال: سبحان الله ما كان أشفق وأرفق هذا الذئب حيث أكله فلم يمزق ثوباً ولم يبق له عضواً، وأحس في نفسه أن الذئب لم يأكله، فصار يبكي ويقول: قرة عيني ليت شعري، في أي بئر طرحوك، ليت شعري لأي سبع عرضوك.
قال بعضهم لبعض: ألا ترون أن أبانا يكذبنا ولا يصدق مقالتنا، تعالوا حتى نصطاد ذئباً ونلطخه بالدم ونأتي به إليه ونقول هذا هو الذئب الذي أكله، فلعله أن يسليه ذلك عما هو فيه، قالوا: نعم فاصطادوا ذئباً وأوثقوه وأتوا به إلى يعقوب، فلما مثلوه بين يديه نظر يعقوب إليه وقال لهم: ما هذا؟ فقالوا هذا الذئب الذي يغشي أغنامنا وأكل أخانا وأفجعنا فيه، فقال لهم: أطلقوه فأطلقوه فجعل الذئب يببصبص بذنبه ويدنوا إليه ويعقوب يقول: أدن أدن فجعل يدنوا حتى ألصق خده بخده، فرفع يعقوب إلى السماء رأسه وقال: اللهم إن كنت أجبت لي دعوة، ورحمت لي عبرة، فأنطق لي هذا الذئب بقدرتك، فإنك على كل شيء قدير، فأنطق الله لسان الذئب وقال: السلام عليك يا نبي الله فقال: وعليك السلام أيها الذئب بأي جرم أفجعتني في ولدي، وأورثتني هماً طويلاً فقال الذئب: وحقك ما أكلت لحمه، ولا شربت دمه، ولا نتفت شعره، ومالي بولدك عهد، وإني لذئب غريب أقبلت من ناحية مصر في طلب أخ لي غاب عني منذ سنين، فلا أدري أحي أخي أم ميت فاحتسبته، وإن لحوم الأنبياء محرمة على جميع السباع، فقال يعقوب لبنيه: لقد أتيتم بالحجة على أنفسكم، هذا خرج في طلب أخيه وأنتم ضيعتم أخاكم، ولقد علمت أن الذئب برئ مما نسبتم إليه ?قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ? [يوسف: 18] .
وقال في أنس المحاضرة: خرج بنو يعقوب - عليه السلام - إلى الصحراء فأمسكوا ذئباً فشدوا وثاقه، وأتو به إلى أبيهم يعقوب، فقالوا: يا أبانا هذا الذي أكل أخانا، قال: حلوا ثاقة، وقال له يعقوب - عليه السلام -: أنت أكلت حبيبي يوسف؟ فقال: يا نبي الله ألست تعلم أنه محرم علينا لحوم الأنبياء، قال: صدقت، فمن أين جئت؟ قال من مصر، قال: والي أين تريد؟ قال: إلى خراسان، قال: في ماذا؟ قال في زيارة أخ لي، قال: وما بلغك فيه؟ قال: حدثني أبي عن جدي عن الأنبياء السالفين: أنه من زار أخاه له في الله كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة فقال يعقوب لبنيه: اكتبوا هذا الحديث عن الذئب، فقال: معاذ الله أن أملي عليهم لأنهم كذبوا علي وقالوا ما لم أفعل.
وكذلك للمؤمن ثلاثة أقمصه قميص الخدمة، قوله تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا(1/476)
زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ? [الأعراف: 31] ، وقميص العفة، قوله تعالى: ?وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ? [الأعراف: 26] ، وقميص الكرامة قوله تعالى: ?وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ? [الكهف: 31] .
وفي كل قميص يعطى فائدة، ففي قميص الخدمة يناجي مولاه، وفي قميص العفة يغلب شهوته وهواه، وفي قميص الكرامة يرى من جل عن الأشباه.
وأما قميص الشهادة فقد أشار الله إليه بقوله: ?وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ? [يوسف: 27] .
وأما قميص البشارة فقد أشار الله إليه بقوله: ?اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً? [يوسف: 93] .
وهذا القميص كان قميص إبراهيم الذي لبسه حين ألقي في النار، كان في عنقه في الجب وهو من الجنة أمره جبريل بإرساله، وقال: إن فيه ريحك ولا يلقى على مبتلى إلا عوفي.
ففي كل واحد منها فائدة، ففي قميص العلامة عوفي من البلوى، وفي قميص الشهادة برئ من الدعوى، وفي قميص البشارة جميع بينه وبين من يهوى.
وفي الحديث دليل على فضل سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وغزارة دينه ونفعه للمسلمين حياً ومياً، فإن القميص يؤول بالدين كما أوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقمصة: قميص العطية حين سألته المرأة فأعطاها قميصاً لم يكن له سواه، فجاءت الصلاة فلم يجد ما يلبسه ويخرج به إلى الصلاة فأنزل الله تعالى: ?وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً? [الإسراء: 29] .
وقميص الهدية: وذلك أن عبد الله بن أبي سلوك كان رأس المنافقين فلما جاءه الموت قال: سيروا إلى محمد وأرغبوه أن يعطيني قميصه، فادفنوه معي في قبري، فأخبروا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «خذوه إن قميصي لا يغني عنه من الله شيئاً» فلما رأى ذلك المنافقون قالوا: إذا كان سيدنا يتبرك بثوبه فنحن أولى أن نتبرك بنفسه، فأخلص في ذلك اليوم ألف منافق.
وقميص المعجزة وهو أن ما لبس ثوباً طال أو قصر إلا وكأنه خيط عليه، فإن كان طويلاً قصر حتى ساوى كعبيه وإن كان قصيراً طال حتى ساواها.
وفي كل قميص ذكر فائدة: ففي قميص العطية وقع التعليم، وفي قميص الهدية بأن قدره العظيم، وفي قميص المعجزة ظهر الحق لمن كان في قفر الشك يهيم.
وجره يؤول ببقايا آثاره الجميلة الحسنة بعد موته ليقتدى به وبسنته، ويتخلق بأخلاقه.
وقد نفع عمر - رضي الله عنه - الناس في حياته ومماته:(1/477)
أما في حياته فقد تواتر نفعه للناس حيث كان يقضي حوائج المحتاج من الأرامل واليتامى وغيرهم، ويحرس بيوت الناس ليلاً، فقد نقل أنه خرج في ليلة مظلمة فدخل بيتاً ثم خرج منه، ودخل بيتاً آخر وطلحة ينظره، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فرأى عجوزاً عمياء مقعده فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك في كل ليلة؟ فقالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، ويأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذي أي: البول والغائط.
وكان - رضي الله عنه - مع هذا الدين الغزير أحياناً يعاتب نفسه ويبكي حتى يبل لحيته، وربما يغشى عليه.
قال أنس - رضي الله عنه - سمعت عمر - رضي الله عنه - وبيني وبينه حائط يقول: والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذنك.
وكان أحياناً يضرب ظهره بدرته وأخذ يوماً تبنة من الأرض وقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليت أمي لم تلدني ياليتني كنت نسياً منسياً.
وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، جاءه أعرابي له بنات فأنشده
يا عمر الخير رقيت لجنة ... اكسوا بناتي وأمهن
وكن لنا من الزمان جُنة ... أقسم بالله لتفعلنه
فلم يرتج لترققه ولا راعه قسمه عليه بل قال: إن لم أفعل يكون ماذا؟ قال: إذاً يا أبا حفص لأذهبنه، فقال: وإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال: يكون حالي لتسألنه، وموقف المسئول تنتهينه إما لي نار وإما إلى الجنة، فلما ذكر له الجنة والنار والموقف بين يدي الله تعالى بكى حتى اخضلت لحيته بدموعه، وقال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذاك اليوم لا لشعره، أما والله لا أملك غيره.
فانظر ما حصل عنده من رقة القلب لم ينعم عليه إلا بما هو من خاصة ماله، ولم يجد غير قميصه، وقد كانت خزائن الأرض مملوءة بين يديه ذهباً، ولم يعطه من بيت مال المسلمين، وإن كان الأعرابي فقيراً مستحقاً، لأنه لما استنزله بشعره ولم يكن العطاء لمصلحة المسلمين فلم يعطه من مالهم.
وأما نفعه للناس بعد موته: فقد أفاد بعض العلماء أنه لما مات - رضي الله عنه - جلس علي بن أبي طالب على قبره يسمع بماذا يجب الملكين، قال: وكان الله أعطى علياً علم البرزخ، فلما دخل الملكان عليه ارتعد منهما ثم أجابهما فقالا: نم يا ابن الخطاب، فقال: كيف أنام وقد أصابني منكم هذه الرعدة وقد صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أشهد عليكما الله وملائكته أن لا تدخلا على مؤمن ولا على مؤمنة إلا في أحسن صورة ففعلا، فقال له على بن أبي طالب: نم يا ابن الخطاب فجزاك الله عن المسلمين خيراً، لقد نفعت الناس في حياتك وبعد مماتك.
سؤال: فإن قيل: يلزم من الحديث أن يكون سيدنا عمر أفضل من أبي بكر لأن المراد بالأفضل الأكثر ثواباً، فمن كان دينه أكثر كان ثوابه أكثر، مع أن العلماء أجمعوا على(1/478)
خلاف ذلك؟
جوابه: لا يلزم ذلك، إذ القسمة غير حاصرة لجواز قسم رابع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قسم من عرض عليه في ثلاثة أقسام، قسم عليهم قميص تبلغ الثدي، وقسم عليهم قميص لا تبلغها، وقسم ثالث وهو عمر بن الخطاب عليه قميص يجره.
ويحتمل أن يكون قسم رابع لم يذكره - صلى الله عليه وسلم -، ويكون أبا بكر - رضي الله عنه - سلمنا انحصار القسمة، لكن لم يخصص - صلى الله عليه وسلم - القسم الثالث بعمر، ولم يقصره عليه سلمنا التخصيص به، لكنه معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق التي تواتر القدر المشترك بها، فدليلكم ودليلنا متواتر سلمنا التساوي بين الدليلين، لكن الإجماع منعقد على أفضليته وهو دليل قطعي، وهذا دليل ظني، والظني لا يعارض القطعي.
ومما يدل على تفضيل أبي بكر على عمر وعلى غيره من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته أقامة مقامة في إمامة الصلاة حيث قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» (1) واتفق العلماء على أن السنة أن يقدم على القوم أفضلهم علماً وقراءة وخلقاً وورعاً.
وصح في هذا الصحيح أن محمد بن الحنفية قال لأبيه علي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر ... الحديث (2) .
* * *
_________
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/240، رقم 646) ، ومسلم في صحيحه (1/316، رقم 420) من حديث أبي موسى.
(2) انظر حديث محمد بن الحنفية في صحيح البخاري (3/1342، رقم 3468) .
والحديث عند أبو داود في سننه (4/206، رقم 4629) .(1/479)
المجلس الرابع والعشرون
في الكلام على باب ?فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ? [التوبة: 5]
وعلى باب من قال: الإيمان هو العمل
قوله: «باب ? فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? [التوبة: 5] » .
الرواية «بابٌ» بالتنوين ويجوز تركه بالإضافة، والتقدير على الأول: باب في تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وعلى الثاني: باب تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وإنما جعل الحديث الآتي تفسير للآية لأن المراد بالتوبة: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، يفسره قوله في الحديث: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» .
ومعنى: «تَابُوا» : خلعوا الأوثان وأقبلوا على عباده الرحمن، وهذه الآية آخر آية نزلت من القرآن على قول، والصحيح: أن آخر آية نزلت من القرآن ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ? [البقرة: 281] إلى آخر الآية كما قدمنا ذلك.
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أبو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ، عَنِ ابن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ وإن مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإسلام، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «أمرت» أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل. والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.
قوله: «أن أقاتل» أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من «أن» كثير.
قوله: «حتى يشهدوا» جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عُصم دمه ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله: «إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أمَّا العبادات البدنية والمالية.
قوله: «ويقيموا الصلاة» أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، أو المراد بالقيام: الأداء -تعبيراً عن الكل بالجزء- إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا، وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث: أن من ترك الصلاة عمداً يقتل. وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما فى الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهراً، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحداً منهم صبراً. وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظراً للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم.
وقد أطنب ابن دقيق العيد فى شرح العمدة فى الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل.
وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.
قوله: «فإذا فعلوا ذلك» فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.
قوله: «عصموا» أي: منعوا.
قوله: «وحسابهم على الله» أي: فى أمر سرائرهم، ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله فى تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء فى قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة، ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخراً عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى ?فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ? [التوبة: 5] .
ثانيها: أن يكون من العام الذى خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.
ثالثها: أن يكون من العام الذى أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله: «أقاتل الناس» أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ «أمرت أن أقاتل المشركين» . فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية. أجيب: بأن الممتنع فى ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما فى الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية.
رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل فى بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة.
خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها.
سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتى فيه ما فى الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم. انظر فتح الباري (1/75 - 77) .(2/5)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت» قال ابن حجر: معناه أمرني الله حيث لا آمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: «أمرت» فالمعنى: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر وإذا قاله التابعي احتمل، والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الأمر له هو ذلك الرئيس.
والمراد «بالناس» عبده الأوثان دون أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب سقط عنهم القتال بقبول الجزية لقول الله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29] .
والمعنى: أمرني ربي أن أقاتل عبدة الأوثان إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنه يجب قتال من منع واجباً من واجبات الإسلام، لأنهما أصل العبادات البدنية والمالية، فلذلك تسمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام.
وقوله: «فإذا فعلوا ذلك» أي: قالوا أشهد أن لا إله إلا الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وفي قوله: «فعلوا ذلك» التعبير بالفعل عما بعضه قول إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم إذا القول فعل ذلك.
ومعنى: «وحسابهم على الله» أي: إنها أدعى على أفعالهم الظاهرة، فلا أدع أحداً أن يترك فرضاً من فرائض الله تعالى، وإن يظلم أحداً فإن ما يخفون في بواطنهم ويسرون في ضمائر من النيات والعقائد فليس له إليه سبيل، فيثيب المخلص ويعاقب المنافق، ويجزي المصر بفسقه أو يعفو عنه، وليس معنى: «على» هنا الوجوب فإن الله لا يحب عليه شيء، بل يكون بمعنى اللام أي: على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب(2/7)
على الله في تحقق الوجوب (1) .
وفي هذا الحديث فوائد:
الأولى: وجوب قتال الكفار إذا طاقه المسلمون حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تقبل منهم.
الثانية: وجوب قتال تاركي الصلاة والزكاة.
الثالثة: قتل تاركي الصلاة عمداً مع اعتقاد وجوبها.
واعلم أن مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أن من ترك صلاة واحدة من الصلوات الخمس كسلاً وهو يعتقد وجوبها لا يكفر، وإنما يكفر إذا جحد وجوبها، ولكنه يقتل إذا أخرجها عن وقت الجمع لهذا الحديث ولما رواه أبو داود وابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن فلم يضيع منهن استخفافاً بحقهن، كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأت فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» (2) فلا يقتل بترك الظهر إلا إذا غربت الشمس، ولا يقتل بترك المغرب إلا إذا طلع الفجر، ويقتل بترك كل من العصر والعشاء والصبح إذا خرج وقتها.
قيل: تقول الملائكة لتارك الفجر يا فاجر، ولتارك الظهر يا خاسر، ولتارك العصر يا عاص، ولتارك المغرب يا كافر، ولتارك العشاء يا مضيع ضيعك الله.
وجاء في الخبر: «من نام عن صلاة العتمة نادته الملائكة لا نامت عيناك ولا قرتا، حبسك الله بين الجنة والنار كما حبستنا» .
وينبغي أن يستتاب تارك الصلاة قبل قتله، واختلفوا هل هي واجبة أو مستحبة؟ ذهب جماعة إلى وجوبها لكن المرجح في التحقيق للنووي استحبابها، وإذا تاب تارك الصلاة بأن فعلها فإنه لا يقتل، واستشكل ذلك الأسنوي بأنه يقتل حداً والحدود لا
_________
(1) قال ابن حجر في ذلك: ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة. انظر: فتح الباري (1/77) .
(2) أخرجه أبو داود (1/115، رقم 425) ، وابن حبان (5/23، رقم 1732) . وأخرجه أيضاً: الطبراني فى الأوسط (5/56، رقم 4658) ، والبيهقي (2/215، رقم 2985) ، والضياء (8/320، رقم 385) جميعاً عن عبادة بن الصامت.(2/8)
تسقط بالتوبة، والقتل على التأخير عن الوقت وقد وجد، وكيف تنفع فيه التوبة قال: وهذا كمن سرق نِصَاباً ثم رده فإن القطع لا يسقط.
وأجاب عنه الزركشي وقال: لا خلاف عندنا أن تارك الصلاة إذا تاب يترك، وقول من قال الحدود لا تسقط بالتوبة قضية كليتها غير مسلمة، فالحد لا يسقط في ثلاث صور: قاطع الطريق إذا تاب قبل القدر عليه، والذمي إذا زنا ثم أسلم كما نص عليه الشافعي، وتارك الصلاة إذا تاب.
وذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أن تارك الصلاة عمداً يعزز ويحبس ولا يقتل، واختلف العلماء من الشافعية في صلاة الجمعة إذا تركتها وقال أصلي عوضها ظهراً فقال الغزالي: لا يقتل لكن الذي رجحه النووي أنه يقتل بتركتها، وإن كان يصلي الظهر لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها، وإذا ترك المكلف الوضوء وصلى بلا طهارة عمداً قتل عند الإمام الشافعي - رضي الله عنه - لأن الامتناع منه امتناع من الصلاة، لأنه شرط لها لا تصح بدونه، وكذا إذا صلى لغير القبلة فإنه يقتل كترك الوضوء.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الإنسان إذا صلى بلا طهارة لغير القبلة يكفر، وأما إذا وجب على الإنسان التيمم لفقد الماء مثلاً فصلى بلا تيمم عمداً، فإن كان ذلك التيمم تسقط الصلاة به فهو كالوضوء يقتل بتركه، وإن كان لا تسقط الصلاة به فلا يقتل بتركه، وإذا نذر صلاة في وقت فتركها عمداً حتى خرج وقتها المعين لا يقتل، وإذا ترك فاقد الطهورين الصلاة عمداً مع إنها واجبة عليه لحرمة الوقت لا يقتل لاختلاف العلماء في وجوبها عليه.
وإذا قدم تارك الصلاة عمداً للقتل فأبدى عذراً كأن قال: تركتها ناسياً أو للبرد أو لعدم الماء ولنجاسة كلب ونحو ذلك من الأعذار فالمذهب لا يقتل.
فائدة: قال الإمام أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي وجماعات من الصحابة: إن الإنسان المكلف إذا ترك الصلاة من غير جحة يكفر، وتجري عليه أحكام المرتدين فلا يورث ولا يغسل ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته واستدل على ذلك بحديث مسلم وغيره: «إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم (1/88، رقم 82) عن جابر بن عبد الله.(2/9)
وحديث الترمذي: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (1) .
وقال أبو هريرة وعبد الله بن شقيق العقيلي كما رواه الترمذي: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة (2) .
لكن جمهور العلماء كالإمام الشافعي وغيره لا يكفر إلا الجاحد بوجوبها، وأجاب عن هذه الأدلة بأنها على مقاربة الكفر وعلى كفر النعمة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (3) على أن معناها أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، وإنما أولناها بهذا التأويل وإن كان خلاف الظاهر كما مر في الحديث السابق: «ومن لم يأت فليس له عند عهد الله إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» فلو كفر بذلك لامتنع دخوله الجنة.
ومن الأدلة على أن تارك الصلاة لا يكفر بتركها ما ورد في السنن: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة مكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» (4) .
وإذا قتل عند الشافعية حداً على ترك الصلاة فهو كسائر أهل الكبائر من المسلمين يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ولا يطمس قبره.
وإذا ترك صوم رمضان عمداً وهو معتقد لوجوبه لا يقتل بحبس، ومنع من الطعام الشراب نهاراً، لأن الظاهر أنه ينوبه لاعتقاد وجوبه عليه.
وإذا ترك الزكاة عمداً وامتنع من إعطائها للمستحقين لا يقتل ولكن تؤخذ منه قهراً ويعذر على تركها.
_________
(1) أخرجه الترمذي (5/13، رقم 2621) ، وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضاً: النسائي (1/231، رقم 463) ، وابن ماجه (1/342، رقم 1079) جميعاً عن بريدة.
(2) انظر: سنن الترمذي (5/14، رقم 2622) .
(3) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/27، رقم 48) ، ومسلم في صحيحه (1/81، رقم 64) ، والترمذي في سننه (4/353، رقم 1983) وقال: حسن صحيح. والنسائي في سننه (7/122، رقم 4108) ، وابن ماجه في سننه (1/27، رقم 69) جميعاً عن ابن مسعود.
(4) أخرجه أبو داود في سننه (1/229، رقم 864) ، والترمذي في سننه (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب، والنسائي في سننه (1/233، رقم 466) ، وابن ماجه في سننه (1/458، رقم 1425) جميعاً عن أبي هريرة.(2/10)
وفي الحديث دلالة على أن من أظهر الإسلام وفعل الأركان نكف عنه، ولا نتعرض له.
وفيه دلالة على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإن تكرر منه الارتداد والإسلام، وعند الإمام مالك لا تقبل توبته، نعم إن كان صادقاً نفعه الله تعالى.
وفيه دلالة على تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع.
وفيه دليل على تحريم الامتناع من دفع الزكاة وعلى تحريم إخراج الصلاة عن وقتها، وقد نص العلماء على أن إخراج الصلاة عن وقتها عمداً من كبائر الذنوب وتجب المبادرة إلى قضائها.
قال ابن حزم: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق.
وقد ذم الله تعالى ورسوله من تركها قال الله تعالى: ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ? [مريم: 59] وضمير «بَعْدِهِم» راجع إلى النبيين المذكورين قبل هذه الآية.
«والخلف» بسكون اللام يستعمل في الصالح «والخلف» بالفتح يستعمل في الصالح، ومعنى الآية: فخلف من بعد النبيين قوم سوء أضاعوا الصلاة أي: تركوا الصلاة المفروضة.
وقيل: معنى أضاعوها أخروها عن وقتها بأن لا يصلي الظهر حتى يدخل وقت العصر، ولا العصر حتى تغيب الشمس.
ومعنى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أنهم ارتكبوا المعاصي كشرب الخمر أي: آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله.
{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} والغي قيل: نهر في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه.
وقيل: وادي في جهنم، وأن أودية جهنم نستعيد بالله من حرها أعدت للزاني المصر عليه، ولشارب لخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولتارك الصلاة.
وقال تعالى: ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ? [الماعون 4، 5] أي: مضيعون لوقتها.(2/11)
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن هذه الآية فقال: «هي إضاعة الوقت» (1) وقيل: معنى {سَاهُونَ} لا يبالون صلوها أو لم يصلوها.
وقيل معناه: غافلون يتهاونون به.
وقيل معناه: أنهم الذين إن صلوها صلوها رياء، وإن فاتتهم لا يندموا عليها.
وقيل: لا يصلونها لوقتها ولا يتمون ركوعها وسجودها.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يحافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً [ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان] ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف» (2) رواه أحمد.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، فإن فسدت فقد خاب وخسر» (3) حسنه الترمذي.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا إيمان لمن لا أمانه له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له، وإنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد» (4) رواه الطبراني.
قال العلماء: لا تسقط الصلاة عن الإنسان بعد بلوغه ما دام عاقلاً بحال.
قال الإمام الغزالي: ولو زعم زاعم أنه بلغ بينه وبين الله حالة أسقطت عنه الصلاة وأحلت له شرب الخمر وأكل مال السلطان، كما زعمه بعض المتصوفة فلا شك في وجوب قتلة، وإن كان في دخوله في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر، وإن ضرره أكثر.
فإذا عجز المكلف عن فعلها قائماً صلاها قاعداً، ولا ينقص ثوابه لأنه معزور.
_________
(1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (2/214، رقم 2983) وقال: هذا الحديث إنما يصح موقوفا وعكرمة بن إبراهيم قد ضعفه يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث.
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/169، رقم 6576) قال الهيثمي (1/292) : رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً الدارمي في سننه (2/390، رقم 2721) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (3/46، رقم 2823) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/139، رقم 353) جميعاً عن ابن عمرو. وما بين المعكوفتين سقط من الأصل وأثبت من مسند أحمد.
(3) أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب.
(4) أخرجه الطبراني فى الأوسط (2/383، رقم 2292) ، وفى الصغير (1/113، رقم 162) ، قال الهيثمي (1/292) : تفرد به الحسين بن الحكم الحبري.(2/12)
أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (1) فهو محمول على المتنفل، وإن عجز على فعلها قاعداً صلى مضطجعاً على شقيه الأيمن كما يوضع الميت في اللحد، ويجوز على الأيسر ولكن الأيمن أولى مراعاة للتيامن، فإن عجز الاضطجاع صلى مستلقياً على ظهره ورجلاه إلى القبلة، وإذا صلى مضجعا أو مستلقياً وأمكنه الركوع والسجود وجب عليه فعلها، وإن لم يمكنه ذلك لشدة مرضه أومأ إلى صوب القبلة بالركوع والسجود، ويومئ بالسجود أشد من الركوع حيث يقرب رأسه من الأرض ليتميز الركوع عن السجود، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه، فإن عجز عن تحريك أجفانه والنطق بلسانه صلى بقلبه، بأن يجري الأفعال والقرآن والأذكار على قلبه فلا تسقط بحال إلا إذا أختل عقله.
وهنا فوائد متعلقة بتارك الصلاة:
الأولى: قال فقهاؤنا: لا قصاص ولا دية ولا كفارة على من قتل تارك الصلاة، بل دمه هدر إذا قتله المصلي، أما إذا قتله شخص آخر تارك الصلاة فيجب القصاص على القاتل، كالزاني المحصن إذا قتله مسلم لا يقتل إلا إن يكون القاتل مثله فإنه يقتل.
الثانية: لو خير الإنسان بين زواج ذمية بشرطه ومسلمة تاركة للصلاة كسلاً فالذمية أولى، لأن تاركة الصلاة إذا أصرت على تركها صارت مرتدة على مذهب أحمد بن حنبل فيصير في نكاحها خلاف، والذمية متفق على صحة نكاحها قاله ابن العماد.
الثالثة: إذا اشترى الإنسان رقيقاً عبداً أو جارية فوجده تارك الصلاة فهو عيب فيه، فللمشتري رده على البائع بذلك إن أراد.
الرابعة: يجوز غيبة تارك الصلاة لأنه يفسق، وقد ورد في الخبر: «لا غيبة لفاسق» (2) .
_________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه (1/375، رقم 1064) ، والترمذي في سننه (2/207، رقم 371) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه (3/223، رقم 1660) ، وابن ماجه في سننه (1/388، رقم 1231) جميعاً عن عمران بن حصين.
(2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/418، رقم 1011) ، قال الهيثمي (1/149) : فيه العلاء بن بشر ضعفه الأزدي. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/109، رقم 9665) وقال: قال أبو عبد الله (يعنى الحاكم) : غير صحيح. وأخرجه أيضاً: القضاعي في مسند الشهاب (2/202، رقم 1185) جميعاً عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.(2/13)
الخامسة: نقل شهاب الدين الأذرعي (1) عن فتاوى ابن البزري (2) أنه يجب على الرجل أن يأمر زوجته بالصلاة، قال تعالى: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا? [طه: 132] وقال تعالى: ?يَا أيها الَّذِينَ آمنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً? [التحريم: 6] قال: فإن أصرت على تركها فعليه إن يطلقها.
السادسة: وهي واقعة وقعت أيام الشيخ الإمام العالم الصالح سيدي عبد العزيز الديريني (3) : شخص حلف بالطلاق أن لا يدخل على زوجته إلا في يوم مشؤم غير مبارك، فسأل العلماء عن ذلك فقالوا جميع الأيام مباركة متى ما دخلت عليها في يوم من الأيام وقع عليك الطلاق، ثم سئل الشيخ عبد العزيز الديريني فقال له: صليت اليوم شيئاً من الصلوات فقال: لا. فقال له الشيخ: ادخل عليها ولا يقع عليك الطلاق لأنه يوم مشؤم عليك غير مبارك بتركك الصلاة فيه.
لطيفة من نزهة المجالس: ركب بعض الأكابر في البحر، فرأى السمك يأكل بعضه بعضاًَ فتوهم أن القحط وقع في البحر، فهتف به هاتف أنه قد شرب من البحر رجل تارك الصلاة فلما علم ملوحته قذفه من فمه في البحر، فوقع القحط من ذلك في الماء الذي قذفه من فمه فيه.
أخرى: قال في نزهة المجالس: مر عيسى - عليه السلام - على قرية كثيرة الأشجار والأنهار والأرزاق فأكرمه أهلها فعجب من طاعتهم، ثم مر عليهم بعد ثلاث سنين فرأى الأشجار يابسة والأنهار ناشفة وهي خاوية على عروشها فتعجب من ذلك، فأوحى الله إليه أن قد مر على هذه القرية رجل تارك الصلاة فغسل وجهه في عينها فنشفت، ويبست الأشجار وخربت القرية، يا عيسى لما كان تارك الصلاة سبب لهدم الدين كان سبباً لخراب الدنيا.
أخرى: قال أبو الليث السمرقندي: حكي أن رجلاً دفن أختاً له ثم ذكر أنه نسي كيساً له في قبرها، فأتى القبر فنبشه فوجد الكيس، ثم رفع ما على اللحد فرأى القبر يشتعل ناراً، فسأل أمه عن عمل أخته، فقالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي بطهارة كاملة، وتأتي أبواب الجيران لتسمع حديثهم لتمشي بالنميمة.
قال شيخ الإسلام ابن حجر في فتح الباري في الكلام على التشهد: فائدة: قال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولابد أن يقول في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فيكون مقصراً بخدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين
_________
(1) الأذرعي هو: أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد، أبو العباس، شهاب الدين الأذرعي فقيه شافعي، ولد بأذرعات بالشام سنة: 708 هـ، وتفقه بالقاهرة، وولي نيابة القضاء بحلب، وراسل السبكي بالمسائل الحلبيات وهي في مجلد، وجمعت فتاويه في رسالة، وله من المصنفات: جمع التوسط والفتح، بين الروضة والشرح في عشرون مجلداً، وشرح المنهاج شرحين أحدهما: غنية المحتاج، والثاني: قوت المحتاج، وفي كل منهما ما ليس في الآخر. وعاد إلى القاهرة سنة 772 هـ، ثم استقر في حلب إلى أن توفي سنة 783 هـ.
(2) هو: عمر البزري واسمه: عمر بن محمد بن أحمد بن عكرمة البزري، فقيه شافعي، كان إمام جزيرة «ابن عمر» وفقيهها ومفتيها، مولده في سنة 471 هـ، في هذه الجزيرة، ووفاته فيها أيضاً سنة: 560 هـ، له من المؤلفات: الأسامي والعلل، وشرح إشكالات المهذب للشيرازي.
(3) الديريني هو: عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري المعروف بالديريني، فقيه شافعي من الزهاد. نسبته إلى «ديرين» في غربية مصر ولد بها سنة: 612هـ، ووفاته سنة: 694 هـ، وقبره بها، ومن كتبه: التيسير في علم التفسير وهو كتاب به أرجوزة تزيد على 3000 بيت، في غريب القرآن ومعانيه، والدرر الملتقطة في المسائل المختلطة وطهارة القلوب، والخضوع لعلام الغيوب في التصوف، وإرشاد الحيارى.(2/14)
ولذلك عظمت المعصية بتركها.
واستنبط منه السبكي: في الصلاة حقاً للعباد مع حق الله وإن تركها أخل بحق جميع المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (1) .
* * *
_________
(1) انظر: فتح الباري (2/317) .(2/15)
قَالَ البُخَارِي:
باب مَنْ قَالَ: «إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ»
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] .
وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أهل الْعِلْمِ فِي قوله تَعَالَى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عَنْ قَوْلِ لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ.
وَقَالَ تعالى: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] .
قوله: «باب من قال: الإيمان هو العمل لقول الله عز وجل ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] »
مقصود البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة القائلين: بأن العمل لا يحتاج إليه مع الإيمان، وغلط غلاتهم فقالوا: إن ناطق الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقدها.
وأراد «بالعمل» ما هو أعم من عمل القلب واللسان والجوارح، واستدل على ذلك بآيات من كتاب الله تعالى، وحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الآية الأولى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] يحتمل أن تكون مصدرية أي: بعملكم، ويحتمل أن تكون موصولة أي: بالذي كنتم تعملون، ووجه الاستدلال بها: لأن «تَعْمَلُونَ» بمعنى تؤمنون كما قاله المفسرون، فأطلقوا العمل وأريد به الإيمان، واستشكل العلماء هذه الآية وقالوا: الإرث يقتضي مورثاً، وهو الذي ينتقل منه الشيء بعد موته إلى غيره، ووارثاً هو الذي انتقلت إليه التركة، فإن أريد بالمورث في قوله: ?أُورِثْتُمُوهَا? الله، فالله سبحانه وتعالى حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فكيف يقال ورث الجنة للمؤمنين؟
وأجابوا عن هذا الإشكال بأوجه:
الأول: أن المورث هو الكافر فإن الكافر لولا كفره لكان له نصيب في الجنة، فلما مات كافراً انتقل نصيبه إلى المؤمن، بسبب كفره الذي هو موت روحه، فالمورث هم الكفار والورثة هم المؤمنون.
الثاني: أن المورث هو الله تعالى والإرث هنا مجاز عن الإعطاء على طريقة إطلاق الكل وإرادة الجزء.
واستشكل العلماء أيضاً من جهة أخرى وقالوا: إن ظاهرها يقتضي أن دخول العبد إنما هو بسبب عمله مع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يدخل أحدكم الجنة(2/16)
بعمله» (1) فإن ظاهره يدل على أن العمل ليس سبباً لدخول الجنة.
وأجابوا عنه وجمعوا بين الآية والحديث من وجوه أحسنها كما قاله شيخ الإسلام ابن حجر: أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها في العمل المتقبل والمقبول إنما يحصل برحمة الله تعالى فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله تعالى (2) وحاصل معنى الحديث: لن يدخل أحدكم الجنة بسبب عمله الذي لم يتقبل منه، ومعنى الآية: وتلك الجنة التي أورثتموها بسبب عملكم المقبول برحمة الله تعالى.
فالحاصل: أن الدخول برحمة الله وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها فقد روى أبو نعيم من حديث أبي الزبير أن جابراً قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا بتوحيد الله» (3) وإسناده على شرط مسلم.
نعم العمل نافع في الدرجات فقد نقل عن سفيان وغيره أنه قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال.
وفي الحديث أيضاً: «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن أحداً منكم لن ينجو بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (4) وهي سعة رحمة الله تعالى.
يقول الحسن: يقول الله تعالى يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا جنتي برحمتي، واقتسموها بأعمالكم.
وجاء في الحديث: «ينادى مناد من تحت العرش: يا أمة محمد ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات، فتواهبوها فيما بينكم وادخلوا الجنة برحمتي» (5) .
لطائف وأخبار في أن الدخول الجنة برحمة الله:
اللطيفة الأولى: قال في الروض الفائق: قال عبد الواحد بن زيد رحمة الله تعالى:
_________
(1) جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) .
(2) انظر فتح الباري (1/78) .
(3) الحديث أصله في صحيح مسلم (4/2171، رقم 2817) .
(4) متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) .
(5) أخرجه الديلمي في الفردوس (5/496، رقم 8871) عن أنس بن مالك.(2/17)
خرجنا جماعة من الفقراء نريد سفراً في البحر، فعصفت الريح بنا فطردتنا إلى جزيرة في البحر فرأينا فيها رجلاً يعبد صنماً من دون الله فقلنا له: أي شيء تعبد؟ فأومأ بأصبعه إلى الصنم، فقلنا له: يا مسكين إن معنا في السفينة من يحسن أن يصنع مثل هذا، وإن هذا ليس إلهاً يعبد، قال: فأنتم تعبدون من؟ قلنا: نعبد الله. قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الأحياء والأموات قضاؤه. قال: فكيف علمتم به؟ قلنا: أرسل إلينا رسولاً أخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدى رسالة الملك قبضه إليه. قال: فما ترك عندكم علامة من الملك؟ قلنا: بلى ترك عندنا كتاب الملك. قال: أروني كتاب الملك فإن كتاب الملوك حسان. فأتيناه بالمصحف فقرأناه عليه سورة فما زال يسمع ويبكي إلى أن تممنا السورة فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعص، فأسلم فحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وشيئاً من القرآن، فلما أقبل الليل صلينا العشاء وأخذنا مضاجعنا للنوم، فقال: يا قوم الإله الذي دللتموني عليه ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. قال: فبئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام. فأعجبنا كلامه فلما وصل إلى عَبْادان (1) وأردنا أن نفترق جمعنا له دراهم، وقلنا: أنفق هذه عليك. فنظر إلينا مغضبا وقال: لا إله إلا الله دللتموني على طريق ولم تسلكوها، أنا كنت في جزيرة في البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني، فكيف الآن وقد عرفته. ثم تركنا، ومضى عبد الواحد فلما كان بعد ثلاثة أيام أتاني أت فأخبرني عنه أنه بأرض كذا وهو يعالج سكرات الموت فجئته وقلت له: ألك حاجة قال: قد قضى حوائجي من عرفتني به، فبينما أنا أكلمه إذ غلبتني عيناي فنمت، فرأيت في المنام روضة خضراء وفي
الروضة قبة وفيها سرير وعليه جارية أجمل من الشمس والقمر وجهاً وهي تقول: سألتك بالله ألآ ما عجلت به علي فانتبهت فإذا به قد مات فجهزته ودفنته في قبر، فلما نمت رأيته في المنام في القبة التي رأيتها أولاً والجارية إلى جانبه وهو يتلو قوله تعالى: ?وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ? [الرعد: 23، 24] فهذا أسلم ولم يعمل إلا قليلاً، وقد تفضل عليه مولاه بدخول الجنة برحمته من غير عمل كثير، وهذا وإن كان مناماً فهو شيء يستأنس لما ذكرناه.
_________
(1) هكذا بالأصل ويبدو أنه اسم مكان وصلوا إليه.(2/18)
الثانية: ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: «خرج من عندي أخي جبريل آنفاً وقال: يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله عبداً من عباده عبد الله تعالى خمسمائه عام على رأس جبل، عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، والبحر يحيط به أربعة آلاف فرسخ، من كل ناحية وأخرج الله له عيناً عذبة بعرض الأصبع تفيض بماء عذب، وأنبت شجرة رمان كل يوم تخرج رمانة، فإذا أمسي نزل إلى العين توضأ من الماء وأخذ الرمانة وأكلها تغنيه عن كل طعام، ثم يقوم إلى الصلاة فيصلي فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه إليه وهو ساجد ولا يجعل للأرض ولا لشيء على جسده سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد ففعل، قال جبريل: ونحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا صعدنا وهو ساجد، فنحن نجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول الرب تبارك وتعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ثلاثاً، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فأين عبادتي خمسمائة عام فيقول الله: حاسبوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائه سنة، وبقيت نعمة الجسد، فيقول: فأين عبادتي؟ فيقول الله تعالى: من خلقك ألم تك شيئاً؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من قواك على عبادة خمسمائه سنة؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من أنزلك في هذا الجبل وأخرج لك عينا من الماء الزلال، وأنبت لك كل يوم رمانة، وإنما تخرج في السنة مرة، وسألتني إن أقبضك ساجداً ففعلت، قال: نعم يارب، قال الله تعالى: فأعطني حق نعمتي عليك، قال: فبهت العبد بهتة شديدة فيقول الله تعالى: خذوه إلى النار فيسحبوه حتى إذا أشرف على جهنم التفت إلى الله تعالى كالمتوسل فيقول الله وهو أعلم: ما تريد يا عبدي؟ فيقول: إلهي أنعمت علي في الدنيا برحمتك، وردني إلى الجنة برحمتك فيؤمر به إلى الجنة، ويقول جل جلاله: أدخلوا
عبدي الجنة برحمتي فنعم العبد كنت، يا عبدي إنما الأشياء برحمة الله» (1) . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوارد الأصول في الأصل السابع.
_________
(1) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/94) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/278، رقم 7637) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (4/150، رقم 4620) جميعاً عن جابر.(2/19)
الثالثة: ذكر الإمام الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة: أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدل ميزانه بالسوية فيقول الله تعالى: هل لك من حسنة، إذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة ترجح ميزانك وتدخل الجنة، قال: فيحوس بين خلال العالمين فما يجد أحداً يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول: أنا خائف من خفة ميزاني، قال: فييأس، فيقول له رجل: ما الذي تطلب؟ فيقول: حسنة واحدة يرجح بها ميزاني، فيقول ذلك الرجل: نظرت أنا في صحيفتي فما وجدت فيها سوى حسنة واحدة فما أظنها تغني عني شيئاً إلا أن يرحمني بكرمه، فخذها هبة مني لك، فينطلق فرحاً مسروراً فيقول الله تعالى له: ما بالك؟ وهو أعلم، فيقول: يارب كل الخلائق ما نظر منهم أحد لي سوى عبدك هذا، فينادي سبحانه وتعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، ويقول له: يا عبدي لأي شيء وهبته الحسنة فيقول: إلهي نظرت في صحيفتي فما رأيت فيها سوي حسنة واحدة، فقلت: إذا كان المولى كريماً فما تنفع الحسنة للعبد السقيم، فيقول سبحانه وتعالى: كرمي يا عبدي أوسع من كرمك، خذ بيد صاحبك فادخلا الجنة بكرمي ورحمتي.
وروي أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أمتي أمة مرحومة، عجل عقابها في الدنيا بالزلازل والفتن، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب، فيقال: هذا فداؤك من النار» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يتجلى الله تبارك وتعالى لنا يوم القيامة ضاحكاً يقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس أحد منكم إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً ونصرانياً» (2) .
وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة، ثم وضعها على العرش ثم نادى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم من قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/410، رقم 19693) ، والحاكم في المستدرك (4/283، رقم 7649) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/148، رقم 9799) ، والروياني في مسنده (1/334، رقم 505) .
(2) جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده (4/407، رقم 19671) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/191، رقم 540) كلاهما عن أبي موسى.(2/20)
أدخلته الجنة» (1) .
ولله در القائل:
ذنوبي كثيرة ما أطيق احتمالها ... وعفوك عن ذنبي أجل وأكبر
وقد وسعتني رحمة منك ... وإني لها يوم القيامة أفقر
وقيل: إن الله تعالى إذا أراد أن يستر عبده يوم القيامة ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد، فيعطيه كتابة بيمينه وهو مشحون بالسيئات، وذلك العبد خائف مما في الكتاب، لعلمه أن ذنوبه كثيرة فيقرأ في الوجه الذي فيه السيئات سراً ويقول في نفسه: ليس لي حسنة واحدة، وتقول الخلائق: سبحان الله ليس في كتاب هذا العبد سيئة واحدة فإذا فرغ من قرأته يقول الله تبارك وتعالى عبدي: هذه حسناتك في ظهر كتابك أظهرتها لخلقي، وسترت عنهم سيئاتك في الدنيا والآخرة، يا ملائكة امضوا به إلى الجنة بعفوي ورحمتي.
ولقد أحسن من قال:
يا من له ستر عليَّ جميل ... هل لي إليك إذا اعتذرت قبول
أيدتني ورحمتني وسترتني ... كرماً فأنت لمن رجاك كفيل
وعصيت ثم رأيت عفوك واسعاً ... وعليَّ سترك دائماً مسبول
فلك المحامد والممادح في الثناء ... يا من هو المقصود والمسئول
وروى الترمذي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن رجلين ممن يدخل النار يشتد صياحهما فيقول الله تعالى: أخرجوها ثم يقال: لأي شيء صياحكما؟ فيقولان: فعلنا كذلك لترحمنا، فيقول: إن رحمتي بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار حيث كنتما، فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب تبارك وتعالى: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقي صاحبك نفسه، فيقول: يارب إن لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها، فيقول الرب تبارك وتعالى: لك رجاؤك فيدخلان معاً الجنة برحمة الله» (2) .
وقال بكر بن سليم الصواف: دخلنا على مالك بن أنس - رضي الله عنه - في العشية التي قبض
_________
(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4/415، رقم 7206) عن عمرو بن عبسة.
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/714، رقم 2599) عن أبي هريرة، قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف.(2/21)
فيها فقلنا له: يا عبد الله كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من لطف الله ورحمته ما لم يكن لكم في حساب، فما برحنا من عنده حتى غمضناه.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم ما يكون بعبده إذا وضع في لحده ووضع خشن التراب على لين جلده، وجفاه من كان يرغب في قبوله ووده، فإذا وضع الميت على المغتسل أولاً، ودرج في ثيابه، وآيس من أحبابه فينادي: واسوأتاه وافضيحتاه، ولا يسمع نداءه إلا مولاه، فيجيه الحق جل جلاله ويقول: أنا سترك في الدنيا وأنا أسترك في الآخرة.
وقال لله دره:
يا من له ستر الجميل على الورى ... ويجود بالإفضال منه وبالقرى
ايدتني ورحمتني وسترتني ... وهديتني لطفاً وكنت مقصرا
وارحم بعفوك زلتي يا سيدي ... ومصون وجهي في التراب معفرا
وإذا خرج الميت من الدار على النعش فإنه يصيح: واغربتاه، فيقول الحق سبحانه وتعالى: عبدي إذا كنت اليوم غريباً فإني منك ما زلت قريباً، لا تخف فإني مقيل عثرتك، وراحم عبرتك، ومؤنس وحدتك.
وقال لله دره:
يا راحم الغرباء من جوده ... قد عمني يا مؤنسي في وحدتي
أمسيت من أهلي غريباً مفرداً ... ولأنت يا مولاي راحم غربتي
فإذا وضعوه في اللحد ووضعوا خشن التراب على لين جلده، ثم تركوه وانصرفوا ومضوا عنه فيصيح: يا وحدتاه، فيناديه الكريم الرؤوف الرحيم: عبدي هل تستوحش وأنا أنيسك، هل تشكو الوحدة وأنا جليسك، يا عبدي ألست بربك؟ فيقول: بلى يا ربي، فيقول: كيف تركت ما أمرتك به وتبعت ما نهيتك عنه، أما علمت أن مرجعك إليّ، وأعمالك معروضة علي وبين يدي، أنسيت عهدي أم أنكرت وعيدي ووعدي، فالآن تخلى عنك الصاحب والصديق، وتجردت عن المال الوثيق، فلا المال نفعك في مآلك، ولا الصديق خلصك من قبح أفعالك، فما حجتك ومعذرتك؟ فيقول: يارب احتوى على قلبي حب الدنيا وحب المال، فحملاني على الذنوب والأثقال وها أنا قد صرت في دوارك وأنا الليلة ضيفك، فلا تعذبني بنارك، وإن لم ترحمني أنت فمن يرحمني؟ فيقول الله تعالى: يا عبدي مضوا عنك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك، إلى بأبي وجهوك، وعلى كرمي خلفوك، يا عبدي طب نفساً وقر عيناً فأنت الليلة(2/22)
ضيفي، والكريم لا يخيب ضيفه، يا ملائكتي أحسنوا في ضيافته وكونوا عليه أشفق من أهله وقرابته، ولله در القائل حيث قال:
إذا ما الموت في جسمي السقيم ... سرى وأتى على عظمي الرميم
وبت مجاور الرب الكريم ... فقولوا لي وافى نعيمي
لك البشرى قدمت على كريم
تولى العمر واقترب الرحيل ... وزادي من التقى زاد قليل
وفي لحدي إذا حان النزول
فهنؤني أحبائي وقولوا ... لك البشرى قدمت على كريم
وقيل: إن موسى - عليه السلام - قال في بعص مناجاته: يارب. فقال له: لبيك يا موسى. فقال موسى - عليه السلام -: يارب أنت أنت فمن أنا حتى تجبني بالتلبية؟ فقال: يا موسى إني آليت على نفسي أنه لا يدعوني عبد من عبادي بالربوبية إلا أجبته بالتلبية. فقال موسى: يارب هذا لكل عبد طائع؟ قال: ولكل عبد مذنب. قال: يارب أما الطائع فبطاعته فما بال المذنب؟ قال الله تعالى: يا موسى إني إذا جازيت المحسن بإحسانه، وضيعت المسيئ لإساءته فأين جودي وكرمي.
تعصي وتجهر بالعصيان إعلاناً ... وأستر الذنب إنعاماً وإحسنانا
ولا أجازي مسيئاً في إساءته ... ولا الذي في العصيان عدوانا
ومن أتى ببابنا بالذل منكسراً ... نعطيه من فضلنا عفواً وغفرانا
ثم استدل البخاري - رضي الله عنه - على استعمال العمل بمعنى الإيمان لأجل الرد عل المرجئة بالآية الثانية فقال: «وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عن قول لا إله إلا الله»
المعنى: وقال جماعة من أهل العلم من الصحابة التابعين وغيرهم منهم أنس وابن عمر ومجاهد أن المراد بقوله: ?يَعْمَلُونَ? في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ?: هو قول لا إله إلا الله، فأطلق العمل على قولهم وأريد به عمل الإنسان فقط، ومقتضى الآية على تفسيرهم: أن المكلفين لا يسألون يوم القيامة إلا عن قول لا إله إلا الله فقط.
فقد اعترضه النووي فقال: الظاهر أن المراد لنسألنهم عن أعمالهم كلها أي: الأعمال التي يتعلق بها التكليف، والتخصيص بقول لا إله إلا الله دعوي لا دليل لها.(2/23)
وقد استشكل العلماء هذه الآية بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] فإن هذه الآية تعارض الآية التي ذكرها البخاري، وبيانه: أن قوله تعالى ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين? [الحجر: 92] تدل على أن كل أحد يسأل يوم القيامة، وقوله تعالى ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] تدل على أنه لا يسأل أحد في القيامة، وقد جمع العلماء بين الآيتين من وجوه:
الأول: أن في القيامة مواقف مختلفة وأزمنه متطاولة، أعاننا الله الكريم على أهوالها ففي موقف أو زمان يسألون، وعليه يحمل قوله: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] .
الثاني: المراد بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلاَ جَانٌّ? [الرحمن: 39] أنهم لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال التوبيخ وتقريع.
الثالث: أن المراد لا يسأل عن ذنبه غيره من الإنس والجان كما لا يحمل ذنبه غيره كما قال تعالى: ?وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى? [الأنعام: 164] .
ثم استدل البخاري بالآية الثالثة فقال: «وقال الله - عز وجل -: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] والمعنى: لمثل هذا الفوز العظيم فليؤمن الكافرون، فأطلق العمل وأراد به الإيمان.
* * *(2/24)
قَالَ البُخَارِي:
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالاَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ «الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» (1) .
قوله: «حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل، قال: أنبانا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب» هذا هو إمام التابعين سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، من الفقهاء وأبيه وجده صحابيان.
والمسيب بفتح الياء على المشهور وقيل: بكسرها، وكان يكره فتح الياء ويحب أن يقال المسيب بكسر الياء، واجتمع بعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وسمع منهم الأحاديث، وروى عنهم وعن أبي هريرة، وكان زوجاً لابنته وأعلم الناس بحديثه،
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «سئل» أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري.
قوله: «قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد» وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد «ثم جهاد» فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرماني: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق.
قوله: «حج مبرور» أي: مقبول ومنه بَرَّ حجك. وقيل: المبرور الذى لا يخالطه إثم. وقيل: الذى لا رياء فيه.
فائدة قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة «من» مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث: «خيركم خيركم لأهله» ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس.
فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالباً، ونفع الجهاد متعد غالباً، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين -ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر- فكان أهم منه فقدم والله أعلم. انظر فتح الباري (1/78) .(2/25)
وأخذ عن خلق من الصحابة وأخذ عنه خلق من التابعين وغيرهم، واتفق العلماء عل جلالته وأمانته، وهو أفضل التابعين كما قاله أحمد بن حنبل.
وأما ما ورد في صحيح مسلم من أن «خير التابعين رجل يقال له أويس» (1) فهو محمول على أنه أفضل في الزهد، وأما سعيد بن المسيب فإنه أفضل التابعين في العلم الشرعي قاله النووي (2) .
ومن فضائله - رضي الله عنه - أنه جاء رجل وهو مريض مضطجع على شقه فسأله عن حديث من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس بمشقة وحدثه به، فقال الرجل: وددت أنك حدثتني عنه وأنت مضطجع حتى لا تجهد نفسك، فقال: كرهت أن أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا مضطجع (3) .
ومن فضائله أيضاً: أنه صلى صلاة الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة (4) .
وقال مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد (5) .
ومن كلامه - رضي الله عنه -: لا تمدوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة (6) .
ومن كلامه أيضاً: ما أكرمت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله (7) .
ومنه أيضاً: كفى نصرة من الله إن يرى عدوه يعمل بمعصية الله (8) .
ومنه أيضاً: من استغنى بالله افتقر إليه الناس (9) .
ومنه أيضاً: إن الدنيا نذلة، فهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1968، رقم 2542) عن عمر.
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (16/95) .
(3) أورده أبو نعيم في الحلية (2/169) .
(4) أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) .
(5) أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) .
(6) أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/232) .
(7) أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) .
(8) أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) .
(9) أورده أبو نعيم في الحلية (2/173) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/239) .(2/26)
حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سلبها (1) .
مات - رضي الله عنه - في خلافة الوليد بن عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وتسعين «سنة الفقهاء» لكثرة من مات فيها منهم.
«عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي العمل أفضل قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جح مبرور» .
السائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال هو أبو ذر - رضي الله عنه -.
والجهاد هو: القتال مع الكفار لأجل إعلاء كلمة الله، وإنما كان أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله من غيره لأنه بذل النفس في سبيل الله، قال بعضهم: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
قال الحليمي: لولا دفع الله المشركين بالمؤمنين وتسليط المؤمنين على دفعهم عن بيضة الإسلام، لقلب الشرك على الأرض وارتفعت الديانة، فثبت أن سبب بقاء الدين هو الجهاد.
وهو أفضل من العزلة والتفرغ للعبادة فقد أخرج ابن عساكر بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أخبركم بخير الناس منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إلا أخبركم بخير الناس منزلة بعده رجل معتزل في غنم له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئاً» (2) .
وكتب عبد الله بن المبارك إلى فضيل بن عياض وهو بمكة يحثه على الجهاد، وكان الفضيل قد اعتزل الناس ولازم العزلة والعبادة وترك الجهاد فقال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت إنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبحية تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله في ... أنف امرء ودخان نار تلهب
_________
(1) أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) .
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/523، رقم 10789) ، والحاكم في المستدرك (2/77، رقم 2379) وقال: صحيح على شرط الشيخين.(2/27)
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما سلمت إليه هذه الأبيات ذرفت عيناه ثم قال: صدق عبد الله ونصحني (1) .
وظاهر الحديث يقتضي أن الجهاد أفضل من الحج، وهو محمول على حج النافلة، وأما حجة الإسلام فإنها أفضل من الجهاد، هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، أما إذا كان فرض عين فإنه مقدم على حجة الإسلام قطعاً لوجوب فعله على الفور.
والحج هو قصد الكعبة لأجل النسك مع الوقوف بعرفة والحج المبرور قيل: هو المقبول، ومن علامة قبول حج الإنسان أنه إذا رجع يكون حاله خيراً من الحال الذي كان قبله، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا يرتكب فيه المعاصي، قال بعضهم:
فمن كان بالمال الحرام حجيجه ... فعن حجة والله ما كان غناه
إذا هو لبى الله كان جوابه ... من الله لا لبيك حجك رددناه
* * *
_________
(1) أورده ابن عساكر في التاريح (32/449) .(2/28)
المجلس الخامس العشرون
في الكلام على باب: كفران العشير وكفر دون كفر
وما في حديثه من الفوائد واللطائف
قَالَ البُخَارِي:
باب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: «باب كفران العشير وكفر دون كفر» قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرحه على هذا الصحيح: أراد البخاري في ترجمته أن يبين أن الطاعات كما تسمى إيماناً. كذلك المعاصي تسمى كفراً. وإطلاق الكفر عليها مجاز بمعنى كفر النعمة لا كفر الحجة.
و «العشير» بمعنى معاشر وهو الزوج. بمثل كيل بمعنى مواكل.
قيل له: عشير لأنه يعاشر المرأة وتعاشره. وهو مأخوذ من قوله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19] فكفران مصدر مضاف إلى المفعول الفاعل متروك.
والمعنى: باب إنكار المرأة وجحدها إحسان زوجها إليها. وخص هذا الذنب بالذكر دون غيره من الذنوب وأطلق عليه الكفر لرقيقة بديعة. وهي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» (1) وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلاً على تناولها بحق الله تعالى. فلذلك أطلق عليها الكفر لكنه كفر نعمة لا يخرج عن الملة.
قال الإمام النووي: ويجوز أن يراد «بالعشير» الخليط والصاحب أي: مطلق المعاشر سواء كان زوجة وغيرها. فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل. والمعنى: باب كفران الصاحب إلى إنكار الصاحب والمخالط إحسان صاحبه مخالطه.
قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ. عَنْ مَالِكٍ. عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم. عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ. عَنِ ابن عَبَّاسٍ. قَالَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أكثر أهلها النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ» . قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ: «يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. وَيَكْفُرْنَ الإحسان. لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» .
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (3/465. رقم 1159) . وقال: حسن غريب. والبيهقي في سننه الكبرى (7/291. رقم 14481) عن أبي هريرة.(2/29)
وها هنا فوائد بعضها مستفاد من الحديث والبعض الآخر بطريق المناسبة:
الأولى: الكفر قد يطلق على غير الكفر بالله بأن يراد كفر النعمة أي: إنكارها ودليل هذه الفائدة من الحديث قوله: «يكفرن العشير. ويكفرن الإحسان» ويؤخذ منه صحة تأويل الكفر في أحاديث بكفر النعمة والحقوق كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» (1) المعنى: لا ترجعوا بعدي كفاراً للنعمة والحقوق.
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. فقد كفر حقهم ونعمتهم» (2) .
الثانية: ينبغي لولي الأمر وأصحاب الولايات وكبار السن أن يعظوا رعاياهم واتباعهم. ويحذروهم من المخالفات لأوامر الله تعالى ونواهيه. ويحرضوهم على الطاعات.
الثالثة: للمتعلم أن يراجع العالم فيما سمعه منه إذا لم يظهر له معناه ليبينه له.
الرابعة: دل الحديث المذكور على أن كفران الحقوق. وجحد الإحسان حرام معدود من كبائر الذنوب. ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توعد من فعل ذلك بالنار. فجحد المرأة إحسان زوجها عليها. كأن قالت: ما رأيت منك خيراً قط. حرام معدود من كبائر الذنوب.
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/56. رقم 121) . ومسلم في صحيحه (1/81. رقم 65) عن جرير.
وأخرجه البخاري في صحيحه (6/2518. رقم 6474) . وأبو داود في سننه (4/221. رقم 4686) . والنسائي في سننه (7/126. رقم 4125) . وابن ماجه في سننه (2/1300. رقم 3943) عن ابن عمر.
وأخرجه البخاري في صحيحه (6/2593. رقم 6667) . والنسائي في سننه (7/127. رقم 4130) عن أبي بكرة.
وأخرجه البخاري في صحيحه (2/619. رقم 1652) . والترمذي في سننه (4/486. رقم 2193) عن ابن عباس. وقال: حسن صحيح.
(2) أخرجه مسلم في صحيحه (1/83. رقم 68) . وأحمد في مسنده (4/365. رقم 19263) . والطبراني في المعجم الكبير (2/320. رقم 2332) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/382. رقم 8596) جميعاً عن جرير.(2/30)
وكذا كل من وصل إليه إحسان من غيره. سواء كان ذلك الإحسان مالاً أو علماً أو جلب نفع أو دفع ضرر. إذا أنكره وجحده. كأن قال: فلان لم يفعل معي خيراً قط. حرام وكبيرة.
فإذا قرأ إنسان على غيره قرآناً أو علماً من العلوم أو سلكه أو رباه أو دله طريق من طرق أهل الخير ونحو ذلك. ثم أنكر ذلك. وقال: فلاناً لم أقرأ عليه شيئاً. أو لم يسلكني. أو ليس بشيخي. أو لم أنتفع به. أو نحو ذلك فهو حرام. لما في ذلك من حجد النعمة التي وصلت إليه.
وإنما كان جحد النعمة حراماً معدوداً من الكبائر لأن المرأة إذا جحدت نعمة زوجها فقد جحدت نعمة الله. لأن هذه النعمة التي وصلت إليها من زوجها هي بالحقيقة واصلة من الله.
قال شيخ الإسلام تاج الدين السبكي: اعلم أن كل من وصل إليك على يديه خير من المخلوقين فهو في قبضة رب العالمين. فاشكره وحده لا تشرك به أحداً. واعلم أن المخلوق مضطر. سلط الله عليه الإرادة. وألقى في قلبه أن يعطيك فلم يجد بعد ذلك سبيلاً إلى دفعك. ولا يعطيك إلا لغرض نفسه. لا لغرضك. ولو لم يكن له غرض في الإعطاء لما أعطاك ولو لم يعتقد أن له نفعاًَ لما نفعك. فهو إذاً إنما يطلب نفع نفسه بنفعك. ويتخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه. وما أنعم عليك إلا الذي سخره لك. وألقى في قلبه ما حمله على الإحسان عليك.
وهنا سؤال وهو أن يقال: إذا كان المنعم بالحقيقة هو الله. وأن النعمة التي صدرت من العبد إنما هي من الله أجراها على يد العبد. فلأي شيء يستحق العبد شكر هذه النعمة كما ورد في سنن أبي داود عن أبي هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (1) .
وفي الترمذي: «من لا يشكر الناس لا يشكر الله» (2) لفظ آخر: «من لم يشكر
_________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/255 رقم 4811) . وابن حبان في صحيحه (8/198. رقم 3407) . وأحمد في مسنده (2/295. رقم 7926) . والطيالسي في مسنده (ص: 326. رقم 2491) . والبيهقي في سننه الكبرى (6/182. رقم 11812) . والبخاري في الأدب المفرد (1/85. رقم 218) . والقضاعي في مسند الشهاب (2/35. رقم 829) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/516. رقم 9117) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة (4/339 رقم 1954) وقال: حسن صحيح.(2/31)
الناس لم يشكر الله» (1) .
وفي حديث آخر: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير. ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله. والتحدث بنعمة الله شكر. وتركه كفر» (2) .
وفي حديث آخر: «إن أشكر الناس لله أشكرهم للناس» (3) .
فهذه الأحاديث تدل عل استحقاق العبد الشكر عن صدور النعمة منه.
فالجواب: أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - إنما حث على شكرك إياه لا لكون النعمة صدرت منه. بل لكونها جرت على يده. فإذا شكرته عليها حمله ذلك الشكر على أن يزيد من فعل الخير. والمنعم بالحقيقة هو الله. فإذا شكرت عبداً لكونه أحسن إليك في الدنيا فإن شكره لكون الشارع - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك. لا لاعتقاد أنه فاعل ذلك. فإن شكرته معتقداً أن النعمة صدرت منه كنت مشركاً لا شاكراً. فإن العبد لا ينفع ولا يضر وربما تغير عليك. وانقلب حبه غضباً بأيسر الأسباب. والمحسن على الدوام الذي لا يتغير ولا يحول ولا يزول رب الأرباب.
الخامسة: دل الحديث على تعذيب جاحد الإحسان. وعلى أن إيمان النساء يزيد بشكر نعمة العشير.
السادسة: نساء الجنة مطهرات من الحيض والنفاس والبول والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر. وكل أذى يكون من نساء الدنيا. وطهر الله بواطنهن من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة. وطهر لسانهن من الفحش والنطق بالكلام السيئ. وطهر طرف كل واحدة منهن من إن تنظر به إلى غير زوجها. وطهر أثوابهن من أن يعرض لها دنس أو وسخ. ويدل على ذلك كله قوله تعالى: ?وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ? [البقرة: 25] .
قيل: كانت أولاً حواء على صفة نساء الجنة مطهرة من الحيض وغيره. فلما أكلت
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/339. رقم 1955) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (3/32. رقم 11298) . وأبو يعلى في مسنده (2/365. رقم 1122) عن أبي سعيد.
(2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (4/375. رقم 19370) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/516. رقم 9119) .
(3) أخرجه أحمد في مسنده (5/212. رقم 21895) . والضياء المقدسي في المختارة (4/306. رقم 1490) . والبيهقي في السنن الكبرى (6/182، رقم 11813) . والطيالسي في مسنده (ص: 141، رقم 1048) عن الأشعث بن قيس.(2/32)
من الشجرة ابتلاها الله بالحيض وغيره.
السابعة: نساء الدنيا وهن الآدميات في الجنة أفضل وأحسن من الحور العين. ويدل على هذا ما رواه الطبراني عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله - عز وجل -: ?وَحُورٌ عِينٌ? [الواقعة: 22] قال: «حور عين ضخام العيون» إلى أن قلت: يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الطهارة على البطانة» قلت: يا رسول الله وبم ذلك؟ قال: «بصلاتهن وصيامهن وبعبادتهن الله. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الألوان. خضر الثياب. صفر الحلي. مجامرهن الدر. وأمشاطهن الذهب. يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبداً. ونحن الناعمات فلا نبتئس أبداً. ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً. ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً. طوبى لمن كنا له وكان لنا» (1) .
الثامنة: الحور جمع حوراء. سميت بذلك قيل: لأن الطرف يحار فيها من رقة جلدها وصفاء لونها. «العين» جمع «عيناء» وهي العظيمة العين من النساء.
قال العلامة ابن القيم: من محاسن المرأة اتساع عينها في طول. وضيق العين في المرأة من العيوب. وإنما ينبغي الضيق منها في أربعة مواضع: في وجهها وصدرها وكاهلها وهو ما بين كتفها وجبينها. وينبغي القصر منها في أربعة وهي معنوية: لسانها ويدها ورجلاها وعينها. فتكون قاصرة الطرف قصيرة الرجل واللسان عن الخروج وكثرة الكلام. قصيرة اليد بتناول ما يكره الزوج وعن بذله. وينبغي الرقة منها في أربعة: خصرها وفرقها وحاجبها وأنفها (2) .
التاسعة: الحور مخلوقات من الزعفران لم يلدهن آدم ولا حواء. أنشأهن الله في الجنة من غير ولادة بين الآباء والأمهات.
وقيل: خلقهن الله من الزعفران وغيره. فقد ورد في أثر عن ابن عباس أنه قال: «خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتها من الزعفران. ومن ركبتها إلى ثديها من المسك الأذفر. ومن ثديها إلى عنقها من العنبر. ومن عنقها إلى رأسها من
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (23/367. رقم 870) . وفي الأوسط (3/278. رقم 3141) .
قال الهيثمي (7/119) : فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدى.
(2) انظر: حادي الأرواح لابن القيم (1/151) .(2/33)
الكافور الأبيض» (1) .
وروي أبو نعيم عن أنس يرفعه: «لو أن حوراء بصقت في سبعة أبحر لعذبت البحار من عذوبة فمها» (2) .
كما قيل:
فلو بصقت في البحر والبحر مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذباً
وروي: «لو أن يداً من الحور العين دليت من السماء لأضاءت لها الأرض كما تضيئ الشمس لأهل الدنيا» (3) هذه اليد فكيف بالوجه مع بياضه وحسنه وجماله.
العاشرة: قالوا: إن الحور العين يعلمن بأزواجهن في الدنيا. فلا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله. فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا.
وورد أنهن يدعون لأزواجهن يقلن: «اللهم أعنه على دينك. وأقبل بقلبه على طاعتك. وبلغه بعزتك يا أرحم الراحمين» (4) .
الحادي عشر: إذا نفخ إسرافيل في الصور نفخة الموت هل تموت الحور من نفخه كما يموت غيرهن؟
ذهب أبو حنيفة وطائفة إلى أنهن لا يمتن وأنهن مما استثني الله تعالى بقوله: ?فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ? [الزمر: 68] .
قال المفسرون: دخل تحت قوله: ?إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ? الحور والولدان وغيرهما. ويقوي هذا ما ورد في الحديث: «أنهن يقلن نحن الخالدات فلا نبيد» (5) .
الثاني عشر: الذين ذكرهم الله في كتابه بقوله: ?يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وَلْدَانٌ
_________
(1) أورده القرطبي في تفسيره (17/206) . والمناوي في فيض القدير (3/449) وعزاه لابن الملقن في شرح البخاري.
(2) أورده ابن القيم في حادي الأرواح (1/162) وعزاه لأبي نعيم.
(3) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/299) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنا جلوسا مع كعب يوماً فقال ... الحديث. وقال المنذري: رواه ابن أبي الدنيا وفي إسناده عبيد الله بن زحر.
(4) أورده المنذري في الترغيب والترهيب (4/299) وقال: رواه ابن أبي الدنيا مرسلاً عن عكرمة.
(5) أخرجه الترمذي في سننه (4/696. رقم 2564) وقال: غريب. وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/156. رقم 1342) عن علي - رضي الله عنه -.(2/34)
ممُّخَلَّدُونَ? [الواقعة 17] هل هم أولاد المسلمين الذين يموتون ولا حسنة لهم ولا سيئة يكونون خدماً لأهل الجنة. لأن الجنة لا ولادة فيها. وكذلك قيل في أطفال المشركين: إن الله يجعلهم خدم أهل الجنة.
قال ابن القيم: والأشبه أن هؤلاء ولدان خلوقون من الجنة كالحور العين خدماً لهم وغلماناً قال تعالى: ?وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ? [الطور: 24] وهؤلاء غير أولادهم. فإن من تمام كرامة الله أن يجعل أبناءهم مخدومون معهم ولا يجعلهم غلمانهم (1) .
الثالثة عشر: هل النساء في الجنة أكثر أم الرجال وكذلك في النار؟
مقتضى الحديث الذي ذكره البخاري وهو قوله: «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء» أي: أن النساء في النار أكثر. واختلفت الرويات في هذه المسألة ففي بعض الروايات ما يدل على أن النساء في الجنة أكثر وفي بعضها ما يدل على أن الرجال في الجنة أكثر. وجمع العلماء بين الروايات وقالوا: إن النساء في الجنة أكثر بالحور العين وأما نساء الدنيا فهن في الجنة أقل من الرجال وفي النار أكثر.
قال القرطبي: محل كون نساء الدنيا في الجنة أقل يحتمل أن يكون في وقت كون النساء في النار. أما بعد خروجهن بالشفاعة ورحمة الله حتى لا يبقى فيها أحد ممن مات على التوحيد فالنساء في الجنة أكثر والله اعلم.
وهذا جمع حسن ومحصلة: أن النساء في الجنة أقل من الرجال. وفي النار أكثر منهم حالة الدخول. وأما بعد الشفاعة فهم في الجنة أكثر.
الرابعة عشر: إذا وطئ الإنسان في الجنة ثم قام عنها رجعت مطهرة بكر كما ورد في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً» (2) ولا ينزل منه ولا منها المني. لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء. ولا يلحق أهل الجنة بالجماع جنابة فيحتاجون إلى التطهير. لا تكليف في الجنة ولا ضعف. ولا إنحال قوة بل وطئهم وطئ التلذذ لا آفة فيه بوجه من الوجوه. وأكمل الناس لذة في الجماع في الجنة أصونهم لنفسه في هذه الدار من الحرام. فمن زنا في الدنيا فقد كمال لذة الجماع في الآخرة إن مات من غير توبة. ونظير هذا من شرب الخمر في
_________
(1) انظر: حادي الأرواح (1/148) .
(2) أخرجه الطبراني في الصغير (1/160. رقم 249) . قال الهيثمي (10/417) : فيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذاب. وأبو الشيخ في العظمة (3/1081. رقم 583) عن أبي سعيد.(2/35)
الدنيا لم يشربها في الآخرة. ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. ومن أكل في صحائف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة قال عليه الصلاة والسلام: «إنه لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» (1) فمن استوفى طيباته ولذاته وأذهبها في هذه الدار حرمها الله عليه في الآخرة. هذا إذا مات من غير توبة فمن ترك اللذة المحرمة لله استوفاها يوم القيامة أكمل ما تكون. ومن استوفى هنا حرم هناك أو نقص كمالهم.
الخامسة عشر: زوجة الإنسان في الدنيا هي زوجته في الآخرة. فإن تزوجت بأزواج قيل: تخير بين الأزواج.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: إذا كانت المرأة ذات أزواج فهي لمن مات عنها من الأزواج آخراً. وعلى هذا جماعة من العلماء. فلهذا حرم الله نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده على أمته حتى لا يكن مع غيره يوم القيامة.
قال حذيفة لامرأته: «إذا سرك أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي فإن المرأة لآخر أزواجها» (2) .
ولما مات أبو الدرداء خطب زوجته معاوية فأبت وقالت سمعت أبا الدرداء - رضي الله عنه - يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المرأة لآخر أزواجها في الآخرة» وقال: «إن أردت أن تكوني زوجتي في الآخرة فلا تتزوجي من بعدي» (3) .
قال في نزهة المجالس: مات رجل من بني إسرائيل وخلف امرأة وثلاث بنات. فلما انقضت عدتها تزوجت. فلما كان قبل الدخول بليلة رأت زوجها الأول مهموماً في المنام فسألته وقالت له: كيف حالك؟ قال: ما أسرع ما نسيتيني. قالت: ما نسيتك؟ فقال: لو لم يقع النسيان لما تزوجت بفلان. فلما أصبحت أخبرت نبي ذلك الزمان بما رأته وقالت: يا نبي الله أسأل فلاناً أن يطلقني فسأله فطلقها. فأوحى الله إليه قل للمرأة:
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2133. رقم 5310) . ومسلم في صحيحه (3/1638. رقم 2067) . وأبو داود في سننه (3/337. رقم 3723) . والترمذي في سننه (4/299. رقم 1878) وقال: حسن صحيح. والنسائي في سننه (8/198. رقم 5301) . وابن ماجه في سننه (2/1130. رقم 3414) عن حذيفة.
(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/69. رقم 13199) .
(3) أخرجه الطبراني في الأوسط (3/275. رقم 3130) . وفي الشاميين (2/359. رقم 1496) . وقال الهيثمي (4/270) : فيه أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط.(2/36)
لما عاملت زوجها بالوفاء غفرنا ما كان بينه وبينها من الجفاء وأعطيناها بكل شعره على بدنها جارية تخدمها ونجمع بينها وبين زوجها في الجنة.
وقيل: إنها تكون لأحسن الزوجين خلقاً. فسألت أم حبيبة زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: المرأة يكون لها زوجان في الدنيا ثم يموتون فيجتمعون في الجنة لأيهما تكون الأول أو للآخر؟ قال: «هي لأحسنهما خلقاً كان معها. يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة» (1) .
السابعة عشر: قال أبو هريرة - رضي الله عنه - يتزوج أحدكم بفلانة بنت فلان بالمال الكثير. ويتزوج بالحور العين باللقمة والتمرة والكسرة.
قال مالك بن دينار: كان لي أجزاء أقراؤها كل ليلة. وإذا أنا في المنام بجارية ذات حسن وجمال وبيدها رقعة فقالت لي: أتحسن القراءة؟ فقلت: نعم فدفعت إلى الرقعة فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات:
لهاك النوم عن طلب الأماني ... وعن تلك الأوانس في الجنان
تعيش مخلداً لا موت فيها ... وتلهو في الخيام مع الحسان
تنبه من منامك إن خيراً ... من النوم التهجد بالقرآن
الثامنة عشر: في الحديث دلالة على التحذير من كيد النساء وفتنتهن. وقد دل الكتاب والسنة على ذلك وعلى أن فيهن صالحات قال الله تعالى: ?وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ? [الفتح: 25] .
وقال تعالى: ?إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ? [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية.
وسبب نزول هذه: أن النساء قلن يا رسول الله قد ذكر الله الرجال دون النساء فما فيهن من خير فأنزلها الله - عز وجل -. فقرن الله تعالى ذكر النساء الصالحات بالرجال الصالحين.
وللنساء أحوال وزهد وخير وصلاح كما في الرجال. وفي النساء من لها الأوراد
_________
(1) أخرجه عبد بن حميد في مسنده (1/365. رقم 1212) . والطبراني في الكبير (23/222. رقم 411) .
قال الهيثمي (8/24) : فيه عبيد بن إسحاق وهو متروك وقد رضيه أبو حاتم وهو أسوأ أهل الإسناد حالاً.(2/37)
والسياحات والكشوفات وغير ذلك من الخصوصيات. التي خصهن الله تعالى بها. ولكن الصالحات قليلٌ بالنسبة إلى غيرهن فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مثل المرأة الصالحة في النساء إلا كمثل الغراب الأعصم» (1) أي: الأبيض.
مضى في الصدر الأول من النساء الصالحات كثير مثل رابعة العدوية من فضائلها: أنها كانت تصلي الليل كله فإذا قرب طلوع الفجر هجعت في محرابها هجعة خفيفة حتى يطلع الفجر ثم تقوم وهي فزعة تقول: «يا نفس كم تنامين يوشك أن تنامين نومة لا تقومين إلا يوم النشور» فكان هذا دأبها حتى ماتت (2) .
من كراماتها: أنها نامت فجاء اللص فأخذ ثيابها ثم أراد الخروج فلم يجد الباب فهتف هاتف إن كان المحب نائماً فالمحبوب يقظان. ضع الثياب وأخرج من الباب.
ولقلة الصالحات فيهن وكثرة ضررهن وشؤمهن ذمهن الله ورسوله. وحذر الرجال منهن قال الله تعالى في كتابه العزيز في حقهن: ?إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ? [يوسف: 28] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها. فينظر كيف تعملون. فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» (3) .
وقال عمر: «إلتجئوا إلى الله من شرار النساء واحذروا خيارهن» .
وفي وصية لقمان لابنه: «اتق المرأة السوء فإنها تشيبك قبل الشيب. واتق شرار النساء فإنهن لا يدعون إلى خير. وكن من خيارهن على حذر» (4) .
_________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/201. رقم 7817) عن أبي أمامة.
قال الهيثمي (4/273) : فيه مطرح بن يزيد. وهو مجمع على ضعفه.
(2) أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (8/242) .
(3) جزء من حديث طويل أخرجه الترمذي في سننه (4/483. رقم 2191) وقال: حسن صحيح. والطيالسي في مسنده (ص: 286. رقم 2156) . وأحمد (3/19. رقم 11159) . وعبد بن حميد في مسنده (1/273. رقم 864) . وأبو يعلى في مسنده (2/352. رقم 1101) . والحاكم في المستدرك (4/551. رقم 8543) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/309. رقم 8289) عن أبي سعيد.
(4) أورده العزالي في إحياء علوم الدين (2/44) .(2/38)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (1) .
وقال الحسن رحمه الله: «والله ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا أكبه الله في النار» (2) .
ومن كلام علي - رضي الله عنه -: «أيها الناس لا تطيعوا النساء على حال. ولا تأمنوهن على مال. فإنهن أفسدن الممالك. وعصين المالك. وجدناهن لا دين لهن في خلواتهن. ولا ورع لهن شهواتهن الجنة. واللذة بهن يسيره. والحيرة بهن كثيرة. فأما صوالحهن ففاجرات. وأما طوالحهن فعاهرت. وأما المعصومات منهن لمعدومات. فيهن ثلاث خصال من اليهود يتظلمن وهن ظالمات. ويحلفن وهن كاذبات. ويتمنعن وهن راغبات فاستعيذوا بالله من شرارهن وكونوا على حذر من خيارهن» (3) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا هلك الرجال حين أطاعوا النساء» (4) .
وقال عمر - رضي الله عنه -: «خالفوا النساء فإن في خلافهن البركة» (5) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الزوجة» (6) .
قال الغزالي رحمه الله: فإنما ذلك لأنه إذا أطاعها في هواها فهو عبدها وقد تعس. فإن الله ملكه المرأة فملكها نفسه. فإذا ملكها نفسه فقد عكس الأمر وأطاع الشيطان كما قال تعالى: ?وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ? [النساء: 114] إذ حق الرجل أن يكون متبوعاً لا تابعاً (7) .
قال الغزالي: وكان نساء العرب العرباء يعلمن بناتهن اختبار الأزواج. كانت المرأة تقول لابنتها: اختبري زوجك قبل الإقدام والجرأة عليه. انزعي زج رمحه. فإن سكت لذلك فقطعي اللحم على ترسه. فإن سكت فكسري العظام بسيفه. فإن صبر فاجعلي
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2600. رقم 6686) . والترمذي في سننه (4/527. رقم 2262) . وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي في سننه (8/227. رقم 5388) . وأحمد (5/51. رقم 20536) عن أبي بكرة.
(2) أخرجه أحمد في الزهد (1/280) . وأبو نعيم في الحلية (6/198) .
(3) انظر: كشف الخفاء (2/81) .
(4) أورده الذهبي في الكبائر (1/134) .
(5) أخرجه البغوي في الجعديات (1/436. رقم 2971) .
(6) أورده العجلوني في كشف الخفاء (2/5) . والذهبي في إحياء علوم الدين (2/44) .
(7) انظر: إحياء علوم الدين (2/44) .(2/39)
الأكاف على ظهره وامتطيه فإذا هو حمارك (1) .
وحكي عن جعفر بن محمد الصادق - رضي الله عنه - قال: كان في بني إسرائيل رجل صالح وله امرأة جميلة فرآها شاب فعشقته وصنعت له مفتاحاً يدخل عليها متى شاء. فقال زوجها لها في بعض الأيام: قد انكرت حالك فلا بد أن تحلفي لي على عدم الخيانة. قالت: نعم. فلما خرج من عندها ودخل الشاب فأخبرته بذلك. فقال: كيف الخلاص؟ فقالت: إلبس ثياب المكاري وخذ حماراً وقف على باب المدينة. فلما جاء زوجها وطلب يمينها على جبل معظم عندهم يحلفون عنده. فخرجت معه فلما وصلت إلى باب المدينة ورأت المكاري قالت: لابد من ركوبي. فأركبها فلما صعدوا الجبل ألقت نفسها عن الحمار فانكشف شيء من بدنها فرأها زوجها والمكاري. ثم حلفت وقالت: والله ما رأني غيرك إلا هذا المكاري. ولبست عليه فظن أنها تريد أن رأها حين ألقت نفسها عن الحمار. فاضطرب الجبل من تحتهم اضطراباً شديداً فذلك قوله تعالى: ?وَإِن كان مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ? [إبراهيم: 64] .
وشتان ما بين هذه المرأة وبين ما حكي أن رجلاً فاسقاً دخل على امرأة عفيفة. وكان له مدة يتطلبها. فلما دخل عندها قال لها: امضي أغلقي أبواب الدار جميعاً وأحكمي إغلاقها. فمضت المرأة ثم عادت وقالت قد أغلقت سائر الأبواب وأوثقت إغلاقها سوى باب واحد. فإني عجزت عن إغلاقه. فقال: أي باب؟ فقالت: الباب الذي بيننا وبين الخالق جلت عظمته. ما قدرت عليه ولا استطيع أن أغلقه وهو مفتوح بحاله. فوقع في نفس الرجل من هذا الكلام الهيبة وتاب وأخلص التوبة وأقلع عن ذنبه وعاد إلى طاعة ربه.
حكى الغزالي في كتابه نصيحة الملوك: أن ملكاً كان يقال له: «خسرير» وكان يحب أكل السمك كان يوماً جالساً في المنطرة وامرأته «شيرين» عنده. فجاء الصياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها إلى «خسرير» ووضعها بين يديه فأعجبته. فأمر له بأربعة ألاف درهم. فقالت شيرين: بئس ما فعلت. قال: ولما؟ قالت: لأنك إذا أعطيت بعد هذا لأحد من حشمك هذا القدر احتقره وقال: أعطاني عطية الصياد. وإن أعطيته أقل منه قال: أعطاني أقل مما أعطى الصياد. فقال خسرير: لقد صدقت ولكن يقبح بالملوك أن يرجعوا في هباتهم وقد فات هذا. قالت شيرين: أنا أدبر هذه الحالة. فقال:
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (2/45) .(2/40)
كيف ذلك؟ فقالت: تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة أذكر أم أنثى. فإن قال ذكر فقل: إنما أردنا أنثى. وإن قال هذه السمكة أنثى فقل: إنما أردنا ذكراً. فأقبل الصياد فقالت له ذلك. فقبل الصياد الأرض وقال: هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى. فضحك خسرير من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى. فمضى الصياد إلى الخازن فقبض منه ثمانية آلاف درهم. ووضعها في جراب كان معه. وحملها على عنقه وهم بالخروج فوقع منه درهم واحد. فوضع الصياد الجراب عن كاهله. وانحنى إلي الدرهم وأخذه. والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين: أيها الملك أرأيت إلي خسة هذا الرجل وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن ظهره ثمانية آلاف. وانحنى عليه فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه ليأخذه بعض الغلمان. فغضب خسرير من ذلك وقال: صدقت يا شيرين ثم أمر بإعادة الرجل وقال له: يا ساقط الهمة لست بإنسان وضعت مثل هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد. وأسفت أن تتركه في مكانه. فقبل الصياد الأرض وقال: أطال الله بقاء الملك إنني لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عنده. وإنما رفعته من الأرض لأن على أحد وجهيه صورة الملك. وعلى الوجه الآخر اسمه فخشيت أن يضع أحد قدمه فأكون أنا المأخوذ بالذنب. فعجب خسرير من كلامه واستحسن ما ذكره فأمر بأربعة آلاف أخرى. فعاد الصياد من عند
الخازن بإثنا عشر ألف درهم. فأمر خسرير مناديا ينادي: لا يتدبرن أحد برأي النساء. فإنه إن تدبر برأيهن. وأتمر بأمرهن خسر درهمه درهمين.
* * *(2/41)
المجلس السادس والعشرون
في الكلام على شيء من ترجمة أبي ذر وفي الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - له:
«إنك أمر فيك جاهلية»
قَالَ البُخَارِي:
باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلاَّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ? [النساء: 48]
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ لَقِيتُ أبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَة ِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - «يَا أبا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخوانكم خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كان أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (1) .
_________
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:
قوله: «وعليه حلة وعلى غلامه حلة» هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة «أتيت أبا ذر، فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب» وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ: «رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة» وفى رواية مسلم «فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلة» ولأبي داود «فقال القوم: يا أبا ذر، لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة» فهذا موافق لقول أهل اللغة، لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأعمش «لكانت حلة» أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم. والله أعلم.
وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما، فأفاد أصل تسمية لحلة. وغلام أبي ذر المذكور لم يسم، ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين. وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد.
قوله: «فسألته» أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه، لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سبباً لذلك.
قوله: «ساببت» في رواية الإسماعيلي «شاتمت» وفي الأدب للمؤلف «كان بيني وبين رجل كلام» وزاد مسلم «من إخواني» وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعاً.
ومعنى «ساببت» : وقع بينى وبينه سباب بالتخفيف، وهو من السب بالتشديد وأصله القطع. وقيل: مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر، سمي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب.
قوله: «فعيرته بأمه» أي: نسبته إلى العار، زاد في الأدب «وكانت أمه أعجمية فنلت منها» وفي رواية «قلت له: يا ابن السوداء» والأعجمي: من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربياً أو عجمياً، والفاء في «فعيرته» قيل: هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم قال: «أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: خصلة من خصال الجاهلية. ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب «قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة.
وفي السياق دلالة على جواز تعدية «عيرته» بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة. وقد جاء في سبب إلباس أبى ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أبا ذر عبداً فقال: «أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس» وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: قلت يا رسول الله: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» قال: نعم. انظر فتح الباري (1/86 – 87) .(2/42)
«أبو ذر» هذا هو الصحابي الكبير أبو ذر ويقال فيه: أبو الذر أيضاً، واسمه جندب بضم الجيم وضم الدال، «ويجوز» فتح الدال، «ابن جنادة» بضم الجيم وبالنون «ابن سفيان الغفاري» .
«وغفار» بكسر الغين المعجمة قبيلة من كنانة، أسلم قديماً كان رابع أربعة في الإسلام، وخامس خمسة، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاده بأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقام بها(2/43)
حتى مضت غزوة بدر والخندق، قدم المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه إلى أن توفى - صلى الله عليه وسلم - وكان - رضي الله عنه - في أيام الجاهلية يعبد صنماً وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر، فخرج به يوماً إلى السفر فوضعه في مكان ووضع عنده حوائجه وأمتعته، وقال: أيها الصنم احفظ حوائجي حتى أعود، ثم ذهب لحاجة، فلما ذهب جاء الثعلب وبال عليه، فلما رجع أبو ذر وجده مبلولاً فقال: السماء لم تمطر فمن أين هذا البلل؟ ثم نظر في الأرض فوجد أثر الثعلب، فعلم أنه بول الثعلب فمقته ورمق بطرفه نحو السماء وأنشد يقول - رضي الله عنه -:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
برئت من الأصنام في الأرض كلها ... وآمنت بالله الذي هو غالب
وترك عبادة الأصنام وكان ذلك قبل بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحد الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة وتركوا عبادة الأصنام.
قال البغوي (1) في تفسيره: الذين آمنوا قبل البعثة حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأبو ذر، وسلمان الفارسي ووفد النجاشي (2) .
وزاد ابن الجوزي في كتابة التلقيح جماعة أخرين آمنوا قبل البعثة.
وفي ذكر «حبيب النجار» مع الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة إشارة إلى أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً.
وهذه المسألة وقع فيها خلاف فالذي ذهب إليه أكثر أهل التفسير كما قاله ابن الأثير في الكامل: أنه كان رجلاً صالحاً ولم يكن نبياً.
والذي ذهب إليه أكثر أهل السير: أنه كان نبياً. وقيل: كان نبياً مرسلاً إلى أصحاب الرس.
وأبو ذر زاهد هذه الأمة، شبهه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيسى بن مريم، وأفاد بعضهم بأنه إنما كني بأبي ذر لأنه - رضي الله عنه - كان عنده خبز، فطلع عليه الذر فوزنه والذي عليه فلم يزد شيئاً فقال: انظروا إلى هذا الذر لم يظهر له أثر في ميزان الدنيا، ولم يرجح بسبه الميزان، وميزان الآخرة مع عظمه يطيش ويرجح بذرة واحدة فكني بأبي ذر.
و «الذر» هو النمل الأحمر الصغير واحده «ذرة» .
قال النووي: ويحل قتله دون النمل الأسود.
_________
(1) هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة: 436هـ من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة: 516هـ.
انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) .
(2) انظر تفسير البغوي (1/79) .(2/44)
روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائتا حديث وإحدى وثمانون حديثاً، ذكر البخاري منها أربعة عشر.
وكان مذهب أبي ذر: أنه يحرم على الإنسان ما زاد عن حاجته.
وصفته: أنه كان طوالاً أبيض الرأس واللحية، سيره عثمان إلى الربذة، وتوفي بها في سنة ثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود، وعاد إلى المدينة فأقام عشرة أيام ثم توفى.
و «الربذة» موضع قريب من المدينة منزل من منازل العراق.
عن المعرور قال: «لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة» .
و «الحلة» إزار ورداء ولا يسمى حلة حتى يكون ثوبين أي: على غلامه مثل ما عليه، واسم غلام أبي ذر: «أبو مرواح» كما قاله ابن حجر.
قال المعرور: «فسألته عن ذلك» عن سبب مساواته غلامه في اللبس، وقلت له: ما السبب في أن على غلامك حلة كما عليك حلة؟ وإنما سأله عن ذلك لأن عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون ثياب سيده، وقال أبو ذر للمعرور في جواب السؤال: «إني ساببت رجلاً» أي سببت عبداً «فعيرته بأمه فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا ذر أعيرته بأمه» الاستفهام فيه للإنكار التوبيخي «إنك امرؤ فيك جاهلية» .
وأصل هذه القصة أن أبا ذر كان بينه وبين بلال بن حمامة (1) كلام وخصومة، وكانت أم بلال سوداء نوبية، فعير أبو ذر بلال بسواد أمه، وقال: يا ابن السوداء. فانطلق بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له ما وقع من أبي ذر فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: «شتمت بلال وعيرته بسواد أمه؟» قال: نعم. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: إنك في تعيير أمه على خلق من أخلاق الجاهلية، ولست جاهلياً محضاً.
وروي أنه قال: «ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء» .
وروي أيضاً أنه قال له: «ارفع رأسك ما أنت أفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل في دين» فألقى أبو ذر نفسه على الأرض، ثم وضع خده على التراب وقال: «والله لا أرفع خدي منها حتى يطأ بلال خدي بقدمه» فوطئ خده بقدمه منه.
قال ابن حجر: ويظهر لي أن ذلك وقع من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم السب
_________
(1) وهو بلال بن رباح سماه المصنف باسم أمه فإن أمه كان اسمها «حمامة» وهو مولى أبو بكر الصديق. انظر: صفة الصفوة (1/434) ، ومسائل الإمام أحمد (ص 91) .(2/45)
فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده فلهذا لما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنك امرؤ فيك جاهلية» على ساعتي هذه من كبر السن قال: «نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي المواساة لا المساواة.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: «إخوانكم خولكم» (1) قيل: هو من باب القلب المورث لملاحه الكلام الشاعر:
نُمَّ وإِنْ لَمْ أَنَمْ كَرَاي كَرَاكا ... شاهدي الدمع إِنَّ ذاك كَذَاكا (2)
والأصل في حديث: «إخوانكم خولكم» أي: عبيدوكم وإماؤكم إخوانكم أي: في الإسلام، وإنما قيل لهم: «خول» لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونها.
«جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتوهم فأعينوهم»
في الحديث دلالة على تحريم سب العبيد وتعييرهم بأبائهم، وفيه حث على الإحسان إليهم وإلى كل من يوافقهم في المعنى، ممن جعله الله تعالى تحت يد ابن آدم كالأجير والخادم، فلا يجوز لأحد أن يعير خادمه سواء أكان رقيقاً أو غيره ولا أجير بشيء من المكروه، يعرفه في أصوله وخاصة نفسه، إذ لا فضل لأحد على غيره إلا بالإسلام والتقى.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقى» (3)
وقال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] .
وهذه الآية نزلت في حق بلال فإنه يوم فتح مكة رقى على ظهر الكعبة وأذن فقال بعض أهل مكة هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة، فأنزل الله الآية (4) .
_________
(1) أخرجه البخاري (5/2248، رقم 5703) .
(2) البيت للشيخ أبي علي، وهو من بحر الخفيف، قاله شيخ البلاغين عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز (ص 281) وقال: ينبغي أن يكون «كراي» خبراً مقدماً، ويكون الأصل «كراك كراي» أي: نم وإن لم أنم فنومك نومي، كما تقول: قم وإن جلست فقيامك قيامي.
(3) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (4/289، رقم 5137) عن جابر.
(4) أورده السيوطي في الدر المنثور (7/578) وقال: أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة.(2/46)
وقد قدمنا في أول الكلام على صحيح البخاري أن السودان من أولاد حام بن نوح، وذكرنا أن سبب مجيئهم سودان مع أن أباهم حاماً كان أبيض هو: أن نوحاً أمر أن لا يقرب ذكر أنثى ما دام في السفينة، فواقع حام امرأته في السفينة، وخالف أباه فدعى الله نوح أن تُغير نطفته وغيرها الله تعالى، ورزقه ولداً أسود وجاءت جميع أولاده سودان.
في الحديث دلالة كما قاله النووي على أن الدوآب ينبغي أن يحسن إليها.
وفيه دلالة على تحريم ترفع الإنسان على المسلم، وإن كان عبداً.
وفيه دلالة على إطلاق الأخ على الرقيق.
وقد ذكر العلماء مسائل متعلقة بالرقيق، ومسائل متعلقة بالدآبة:
أما المتعلق بالرقيق، فمما قالوا: لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه، فلا يجوز أن يكلفه عملاً يقدر عليه يومين أو يوماً ثم يعجز عنه فإذا استعمله نهاراً أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف في وقت القيلولة، ويستعمله في الشتاء بالنهار مع طرف الليل، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة، ويجب على العبد بذل المجهود، وترك الكسل.
ومنها: أنه يجب على السيد نفقته وكسوته ولو كان صغيراً أو أعمى أو مرهوناً أو مستأجراً.
وفي الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته» (1) .
فإن كان العبد كسوباً فكسبه لسيده، فإن شاء أخذه وأنفق عليه من ماله، وإن شاء أنفق عليه من كسبه فإن لم يكف كسبه بالنفقة فالباقي على السيد، وإن زاد فالزيادة للسيد، ولا يجوز الاقتصار بالكسوة على ستر العورة، وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد، ولو تنعم السيد في الطعام والكسوة استحب له أن يدفع للعبد مثله، كما كان أبو ذر بعد قصته مع بلال يساوي عبده في ذلك، ولا يجب عليه ذلك، وإذا كان للإنسان عبيد يستحب له أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة، ويكره له أن يفضل النفيس على الخسيس، بخلاف ما إذا كان له جوار فيستحب له أن يفضل ذات الجمال والرفاهية على غيرها.
ومنها: إذا تولى رقيقه معالجة طعامه وحمله وجاء به إليه، فيبنغي له أن يجلسه على
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/692، رقم 996) عن عبد الله بن عمرو.(2/47)
الطعام، فإن ذلك أقرب إلى التواضع ومكارم الأخلاق، وكان سيد الأولين والآخرين يأكل مع الخادم - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يفعل السيد أو قال له السيد: اجلس معنا فامتنع فينبغي أن يدفع له لقمة أو لقمتين.
ومنها: أنه يجوز للسيد المخارجه على العبد وهو أن يضرب عليه خراجاً معلوماً يؤديه إليه كل يوم أو أسبوع من كسبه إذا رضي السيد والعبد بذلك.
ومنها: إذا امتنع السيد من الإنفاق على مملوكه باع الحاكم شيئاً من ماله وأنفق منه على العبد فإن لم يجد الحاكم له مالاً أمره بأن يبيعه أو يؤجره أو يعتقه، فإن لم يفعل ذلك باعه الحاكم أو أجره فإن لم يقبله أحد أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال فهو ومن محاويج المسلمين فعليهم القيام بكفايته.
وأما المتعلقة بالدآبة فمنها: أنهم قالوا إذا ملك دآبة فعليه علفها وسقيها، ويقوم مقام العلف والسقي تخليتها لترعى وترد الماء، إن كان ما ترعى وتكتفي به بخصب الأرض ونحوه، ولم يكن مانع ثلج وغيره.
ومنها: يحرم تكليف الدآبة من ثقيل الحمل وإدامة السير أو نحو ذلك فإذا كانت الدآبة لها طاقة وقدرة على أن تحمل خمسين رطل فحملها ستين مثلاً، أو على أن تمشي سبع فراسخ متوالية فإن ذلك حرام، لأنه تكليف نفس بما لا تطيقه.
لطيفة: قال أبو سليمان الخواص - رضي الله عنه - ركبت حماراً في بعض الأيام فجعل يطاطئ رأسه من الذباب فضربته على رأسه، فرفع رأسه وقال: هكذا تضرب على رأسك.
ومنها: لا يجوز حلب لبن الدآبة بحيث يضر ولدها وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها، والمراد بالري ما يقيمه حتى لا يموت، ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها تضييع للمال، ويستحب أن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها.
ومنها: ينبغي أن يبقي للنحل شيئاً من العسل، فإن كان أخذه للعسل في الشتاء وزمن تعذر خروج النحل ترك لها أكثر، وإن قام شيء مقام العسل لغذائها لم يتعين إبقاء العسل.
ومنها: دود القز عيشه بورق التوت فعلى مالكه تحصيله له لئلا يهلك من غير فائدة، وهذا كله من باب الشفقة والرحمة على خلق الله، وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى.
وروينا في سنن النسائي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه(2/48)
الذي مات فيه: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» (1) .
وروينا في الغريب للترمذي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه وأدخله الجنة: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والإحسان للمملوك» (2) .
وروينا في سنن النسائي عن أبي أمامة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهب علياً غلاماً فقال: «لا تضربه فإني نهيت عن ضرب المصلين، وقد رأيته يصلي» (3) .
وروينا في سنن أبي داود عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الثانية والثالثة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعف عنه في كل يوم سبعين مرة» (4) .
وروينا في سنن أبي داود أيضاً عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لائمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» (5) .
وفي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قذف مملوكه وهو برئ جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قاله» (6) .
_________
(1) أخرجه النسائي في الكبرى (4/259، رقم 7100) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/290، رقم 26526) ، وابن ماجه في سننه (1/519، رقم 1625) ، قال البوصيرى (2/56) : صحيح على شرط الشيخين. والطبراني في الكبير (23/306، رقم 90) ، وأبو يعلى في مسنده (12/365، رقم 6936) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/656، رقم 2494) وقال: حسن غريب.
(3) أخرجه أحمد في مسنده (5/258، رقم 22281) ، والطبراني في الكبير (8/275، رقم 8057) ، قال الهيثمي (4/238) : مدار الحديث على أبي غالب وهو ثقة وقد ضعف.
(4) أخرجه أبو داود (4/341، رقم 5164) . وأخرجه أيضاً: الترمذي في مسنده (4/336، رقم 1949) وقال: حسن غريب. والبيهقي في السنن الكبرى (8/10، رقم 15577) .
(5) أخرجه أبو داود في سننه (4/340، رقم 5157) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/168، رقم 21521) ، والبزار في سننه (9/357، رقم 3923) ، والبيهقي في سننه الكبرى (8/7، رقم 15556) .
(6) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2515، رقم 6466) ، ومسلم في صحيحه (3/1282، رقم 1660) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/341، رقم 5165) ، والترمذي في سننه (4/335، رقم 1947) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن أبي هريرة.(2/49)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم لا يرحم» (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي» (3) .
قال - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (4) .
فندب - صلى الله عليه وسلم - إلى الرحمة والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه،
_________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2239، رقم 5667) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، وأحمد في صحيحه (4/366، رقم 19282) ، والطبراني في صحيحه (2/333، رقم 2388) عن جرير.
وأخرجه البخاري في صحيحه (5/2235، رقم 5651) ، ومسلم في صحيحه (4/1808 رقم 2318) ، وأبو داود في سننه (4/355، رقم 5218) ، وأحمد في مسنده (2/228، رقم 7121) ، وابن حبان في صحيحه (15/431، رقم 6975) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2686، رقم 6941) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1922) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن جرير.
وأخرجه الترمذي في سننه (4/591، رقم 2381) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (3/40، رقم 11380) عن أبي سعيد.
(3) أخرجه أبو داود في سننه (4/286، رقم 4942) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1923) وقال: حسن. وابن حبان في صحيحه (2/213، رقم 466) ، والحاكم في المستدرك (4/277، رقم 7632) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/161، رقم 16420) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أبو داود في سننه (4/285، رقم 4941) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/41، رقم 17683) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1924) قال: حسن صحيح. والحاكم (4/175، رقم 7274) ، وأحمد في مسنده (2/160، رقم 6494) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/476، رقم 11048) عن ابن عمرو.(2/50)
وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته، وقد أنشد كثير من العلماء في حديث: «الراحمون يرحمهم الله عز وجل إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» أبياتاً فمن أنشد فيه أبو القاسم بن عساكر فقال:
بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنماً ... ولا تكن من قليل العرف محتشما
واشكر لمولاك ما أولاك من نعم ... فالشكر يستوحب الإفضال والكرما
وارحم بقلبك خلق الله وأرعهم ... فإنما يرحم الرحمن من رحما
ومما أنشد في ذلك الشهاب الحجازي حيث قال:
إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما ... ولا الفقير إذا يشكو لك العدما
فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وإنما يرحم الرحمن من رحما
وأنشد فيه بعضهم فقال:
الراحمون لمن في الأرض يرحمهم ... من في السماء فباعد عنك وسواسا
وقل أعوذ برب الناس منك إذ ... لا يرحم الله من لا يرحم الناسا
فائدة: قال العلماء إذ ملك الإنسان جارية وولدها، فإن كان الولد غير مميز فإنه يحرم عليه أنه يفرق بينهما ببيع أو هبة أو قسمه، فإذا باع الأم وحدها ترك عنده الولد، أو باع الولد وحده وترك عنده الأم إثم بذلك وبطل البيع بالإجماع.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (1) حسنة الترمذي، وصححه الحاكم.
أما إذا كان الولد مميزاً فيجوز التفرقة بينه وبين أمه بالبيع وغيره، لاستغناء المميز عن الحضانة والتعهد أشبه البالغ.
وحكم المجنون كحكم غير المميز عن الحضانة والتعهد، وكذا يحرم التفريق بين الولد وجدته عند فقد أمه، وبين الولد وأبيه عند عدم أمه، أما إذا كانت الأم موجودة فباعها سيدها مع ولدها وترك الأب عنده جاز، وباع الأب وترك الجارية مع ولدها
_________
(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/134، رقم 1566) وقال: حسن غريب. والحاكم في المستدرك (2/63، رقم 2334) وقال: صحيح علي شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/412، رقم 23546) ، والدارمي في سننه (2/299، رقم 2479) ، والدارقطني في سننه (3/67) ، والطبراني في الكبير (4/182، رقم 4080) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/126، رقم 18089) عن أبي أيوب.(2/51)
جاز، ولا يجوز أن يباع الولد مع أبيه وتترك الأم لأن الشفقة للأم أشد، فالحكم للأم دون غيرها، فلو تصرف في أحدهما ببيع وهبة وقسمه بأن أعتق الأم دون الولد والولد دون الأم جاز ذلك، لعدم التفرق المزيل للمالك.
قيل: إن يعقوب إنما فرق بينه وبين ولده يوسف مدة لأنه فرق بين جارية وولدها فقد ذكر الثعلبي - رضي الله عنه - أن يعقوب رأى ملك الموت قد زاره فقال له: السلام عليك أيها الكظيم، فاقشعر جسده وارتعدت فرائصه، فرد عليه السلام، ثم قال له: من أنت ومن أدخلك هذا البيت وقد أغلقت على نفسي بابه، كيلا يدخل عليَّ أحد لأشكو بثي وحزني إلى الله، فقال له: يا نبي الله أنا الذي أيتم الأولاد، وأرمل الأزواج، قال: فأنت ملك الموت إذن، قال: نعم، قال له: يا ملك الموت أنشدك الله هل تقبض روح من تأكله السباع؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عن الأرواح تقبضها مجموعة أو متفرقة؟ قال: أقبضها متفرقة روحاً روحاً، قال: فهل مر بك روح يوسف في الأرواح؟ قال: لا، قال: فجئتني زائراً أو داعياً؟ قال: يا نبي الله ما جئتك إلا مسلماً والله تعالى لا يميتك حتى يجمع بينك وبين يوسف، ولو كان في الصخرة التي عليها قرار الأرض، وما أذن الله في زياريك إلا لأبشرك وأجيبك عما تسألني، وإن شئت أعلمتك لما ابتليت بفقد ولدك، قال: فأعلمني، قال: يا إسرائيل هل تذكر الجارية الذي اشتريتها عام كذا في شهر كذا وفرقت بينها وبين أبويها؟ قال: نعم يا ملك الموت كان بالأمس، فقال له ملك الموت: فلذلك ابتليت بفقد الولد، وهل تعلم لما ابتليت بذهاب البصر؟ قال: لا، قال: أمرت يوماً بجذعة فذبحتها وشويتها في يوم كذا في شهر كذا، فمر تميم العابد العبد الصالح بك وهو صائم، ما أفطر منذ أسبوع فاشتم قثار الشواء فلم تطعمه، قال: فدعا عند ذلك يعقوب من كان بحضرته من العبيد والإماء فاعتقهم جميعاً، وأمر أن يذبح من أغنامه كل يوم كبشان ويفرق لحمها على الفقراء والمساكين فقبل الله ذلك منه وشكره وآتاه بالفرج (1) .
فائدة أخرى: يجوز التفريق بين البهيمة وولدها إذا استغنى الولد عن لبن الأم، أما إذا لم يستغن فإن فرق بالذبح بأن ذبح الولد وترك الأم جاز، وإن ذبح الأم وترك الولد لا يجوز كما قاله السبكي، وإن فرق ببيع ونحوه فإنه لا يجوز لعدم استغناء الولد عن لبن الأم.
* * *
_________
(1) ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص: 80) من قول وهب بن منبه، وأمثال هذه الأخبار فيها من الغرابة ما لا نسلم به فالمقام مقام أنبياء والله أعلم.(2/52)
المجلس السابع والعشرون
في الكلام على باب علامات المنافق وما في حديثه من الفوائد
وفيه شيء من ترجمة سفيان الثوري
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ عَلاَمَاتِ المنَافِقِ
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (1) .
_________
(1) شرح السفيري حديثين من هذا الباب هذا الحديث والذي يليه، قال الحافظ ابن حجر: قوله: «آية المنافق ثلاث» الآية: العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك. وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: «علامات المنافق» فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ «أربع من كن فيه ... الحديث» ؟ أجاب القرطبي: باحتمال أنه استجد له - صلى الله عليه وسلم - من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأقول: ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه: «من علامة المنافق ثلاث» وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. وقال القرطبي أيضاً والنووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة. قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة.
والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده. وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث.
ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد، أما لو كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأى فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء. وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان «إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف» وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ: «إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه» .
قوله: «إذا وعد» قال صاحب المحكم: يقال وعدته خيراً، ووعدته شراً. فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته. وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيراً بالهمزة. فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه. وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً الكذب. انتهى.
قال النووي: هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره. قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. قلت: ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه. وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئاً من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله: «كان منافقا خالصاً» . وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي. وذكر أيضاً أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال. والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من «حدث» يدل على العموم، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه. أو يصير قاصراً، أي: إذا وجد ماهية التحديث كذب. وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً. وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه. وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/89 – 91) .(2/53)
وَقَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى(2/54)
يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (1) .
قوله: «حدثنا قبيصه بن عقبة قال: حدثنا سفيان» هذا هو الإمام الكبير العالم الرباني أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، القائم بالحق غير خائف في الله لومة لائم سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى جده بثور الكوفي إمام أهل الكوفة، وهو تابعي التابعين ومناقبه جمة.
قال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائه شيخ ما كتبت عن أفضل منه (2) .
وكان ابن المبارك يتسابق على سفيان ويقول: لما لم أطرح نفسي بين يدي سفيان ما أصنع بفلان وفلان (3) .
وكان مولده سنة سبع وتسعين، ومن فضائله أنه قال ما استودعت فهمي شيئاً فخانني.
ومن كراماته: أن أبا جعفر المنصور بلغه أن سفيان كان يتكلم فيه بسبب ظلم الناس فكان يتطلبه، فلما حج المنصور بعث الخشابين قدامه إلى مكة، وكان سفيان في مكة فقال المنصور: إذا رأيتم سفيان فاصلبوه، فوصلوا مكة ونصبوا الخشبة، ونودي سفيان فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجله في حجر ابن عينيه فقالوا: يا سفيان لا تشمت بنا الأعداء، فقام وذهب وأخذ بأستار الكعبة وقال:
_________
(1) قال الحافظ ابن حجر: قال الشيخ محيي الدين: إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة. وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة؟ وجوابه: أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا. وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا.
وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفاً. وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهى مقبولة لأنها من ثقة متقن. والله أعلم.
فائدة: رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضاً. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/91) .
(2) أورده ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (1/204) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/237) .
(3) أورده الخطيب في تاريخ بغداد (9/156) .(2/55)
برئت منها إن دخل المنصور، فسقط المنصور من فوق الدآبة ومات قبل أن يدخل مكة فخرج سفيان وصلى عليه (1) .
ومن فضائله ما حكاه بعض العلماء عن محمد بن خزيمة قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فبت ليلتي فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله أي مشية هذه؟ قال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد هذا بقولك إن القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي كنت تدعو بها في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء لا تسألني عن شيء واغفر لي كل شيء. فقلت: وما فعل الله بك؟ قد فعل ثم قال: يا أحمد هذه الجنة فقم وادخل إليها فدخلت فإذا سفيان الثوري، وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ويقول: ?الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ? [الزمر: 74] (2) .
ومن فضائله ما حكاه في الروض الفائق فقال: «قيل: لما بلغ سفيان الثوري - رضي الله عنه - من العمر خمسة عشر قال: لأمه يا أماه هبيني لله، فقالت: يا ولدي إنما يهدى للملوك من يصلح لهم وأنت لا تصلح لله، فاستحيا من أمه، ودخل بيتاً فأقام فيه سنتين متوجهاً إلى الله تعالى بالعبادة، فدخلت عليه أمه بعد ذلك فوجدته مجتهداً في العبادة وعليه آثار السعادة، فقبلت بين عينيه وقالت: يا ولدي الآن قد وهبتك لله فخرج عنها وغاب عشر سنين في سياحته متلذذاً في عبادته، فاشتاق إلى أمه فزارها ليلاً، فلما طرق الباب نادته من وراء الحجاب يا سفيان من وهب لله شيئاً فلا يعود فيه، وأنا قد وهبتك لله فلا أراك إلا بين يديه، ولله در من قال:
ولا تحسبوا أني نسيت ودادكم ... وإني وإن طال الأمد لست أنساكم
قطعت لكم عهداً قديماً وحرمة ... ونحن على العهد الذي قد عهدناكم
ونحن على ما تعهدون من الوفا ... يودكم قلبي وبالغيب يرعاكم
ولست بناس عهدكم بعد بعدكم ... وما دام قلبي عندكم كيف ينساكم
_________
(1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (7/41) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (7/251) .
(2) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (9/190) .(2/56)
ومن فضائله ما قاله حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في كتابه منهاج العابدين عن بعض الصالحين أنه قال: رأيت سفيان الثوري في النوم بعد موته فقلت: ما حالك يا أبا عبد الله؟ فأعرض عني وقال: ليس هذا زمان الكنى فقلت: كيف حالك يا سفيان فأنشأ سفيان يقول:
نظرت إلى ربي عيانا فقال لي ... هنيأ رضائي عنك يا ابن سعيد
لقد كنت قواماً إذا الليل قد دجا ... بعبرة مشتاق وقلب عميد
فدونك فاختر أي قصر تريده ... وزرني فإني عنك غير بعيد
ومن فضائله ما ذكره في كتاب أنس المحاضرة عن بشر بن الحارث: أن سفيان الثوري كان عليلاً، وكان بلبل يجيىء ويصيح في داره، فلما أن مات وحملت جنازته طار فوق الجنازة فلما دفن تمرغ على القبر ومات.
وكانت وفاة الثوري بالبصرة سنة ستين ومائة.
«قال: حدثنا سفيان عن الأعمش» هذا هو سليمان بن مهران بكسر الميم الكوفي التابعي، وكان في عينه ضعف.
قال يحيى القطان: كان الأعمش من النساك، وكان علامة الإسلام (1) .
وكانت الملوك والسلاطين عنده أحقر الناس مع فقره وحاجته، وكان كثيراً ما يلبس الفروة جلدها على جلده، وصوفها إلى خارج ويذهب إلى الصلاة وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين.
« ... عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أربع مَنْ كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ» .
استشكل جماعة من العلماء هذا الحديث وقالوا: إن هذه قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه ولا يحكم بكفره بالإجماع، ولا بنفاق يجعله الله في الدرك الأسفل من النار، ثم أجابوا عن الاستشكال بأوجه:
أحدها: أن المراد بالنفاق هنا النفاق العملي الإيماني فإن النفاق على قسمين
_________
(1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (5/50) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (6/232) .(2/57)
أحدهما: أن يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر فيقال له: منافق نفاق الكفر، ويقال له: زنديق فهو وإن كان في الظاهر مسلماً فهو في الباطن كافر مخلد في النار، والمنافقون الذين كانوا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان نفاقهم نفاق كفر، وكان رأسهم وكبيرهم عبد الله بن أبي سلول.
وقد أنزل الله في حقهم: ?إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ? [المنافقون: 1] أي: فيما أضمروه ومن تكذيبك خلاف ما قالوه.
القسم الثاني: أن يترك الإنسان المحافظة على أمور الدين سراً ويفعلها ويحافظ عليها علنا، كما إذا خلا الإنسان بنفسه لا يصلي ولا يعمل شيئاً من العبادة، وإن اجتمع الناس صلى وحافظ على العبادة فيسمى مثل هذا منافق أيضاً، ولكن دون النفاق الأول فإن هذا نفاق في العمل لا يخرجه عن الإسلام، والأول نفاق في الاعتقاد وكثير من الجهال الفساق على هذا النفاق لا يعمل شيئاً من الطاعات إلا بين الناس، وإذا خلا بنفسه تركها.
فقوله: «آية المنافق» أي: علامة المنافق ذكر - صلى الله عليه وسلم - للمنافق في الحديث الأول ثلاث علامات، وفي الثاني أربع علامات.
قال النووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال للمنافق وهي: الكذب والخيانة والخلف والغدر والفجور.
أما الكذب فهو: الأخبار عن الشيء على خلاف الواقع سواء كان عمداً أو جهلاً، لكن لا إثم عليه في الجهل، بخلاف العمد وهو حرام، وقبيح في الجاهلية والإسلام، وهو من الكبائر إن كان يترتب عليه ضرر لأحد من الناس، فمن كذب على إنسان وقال عنه: أنه سرق ولم يسرق فقطعوا يده بقوله، وكذا الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه من الكبائر.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (1) .
_________
(1) حديث متواتر: أخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 108) ومسلم في صحيحه (1/10، رقم 2) ، والترمذي في سننه (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبري (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 32) ، وأحمد في مسنده (3/98، رقم 11960) ، والطيالسي في مسنده (ص 277، رقم 2084) عن أنس.
وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/13، رقم 33) ، وأحمد في مسنده (3/303 رقم 14294) والدارمي في سننه (1/87، رقم 231) ، وأبو يعلي في مسنده (3/376، رقم 1847) عن جابر.
وأخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 107) ، وأبو داود في سننه (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبري (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه في سننه (1/14 رقم 36) ، وأحمد في مسنده (1/165، رقم 1413) ، والطيالسي في مسنده (ص 27، رقم 191) عن الزبير.
وأخرجه الترمذي في سننه (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح.
وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/14، رقم 37) ، وأبو يعلي في مسنده (2/428، رقم 1229) عن أبي سعيد.
وأخرجه الترمذي في سننه (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود.(2/58)
أما إذا لم يترتب على الكذب ضرر لأحد فهو من الصغائر القبيحة الفاحشة، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
قال الله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? [الإسراء: 36] .
قال قتادة (1) : أي لا تقل رأيت وأنت لم تره، وسمعت ولم تسمعه، وعلمت ولم تعلم (2) .
وقال تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 18] .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (3) .
قال الغزالي رحمه الله: قال ابن عباس: «أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر» (4) .
وقال بشر بن الحارث (5)
: «من عامل الله بالصدق استوحش من الناس» (6) .
_________
(1) هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السدوسي البصري، مفسر، حافظ، ضرير، أكمه، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان مع علمه بالحديث إماما في العربية ومفردات اللغة، توفي سنة (118هـ) .
انظر: تذكرة الحفاظ (1/115) ، ووفيات الأعيان (1/427) .
(2) أورده ابن جرير في تفسيره (15/86) .
(3) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم في صحيحه (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلي في مسنده (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان في صحيحه (1/508، رقم 273) ، والبيهقي في سننه الكبرى (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود.
(4) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .
(5) وهو المعروف بالحافي، واسمه: بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي، أبو نصر، المعروف بالحافي، ولد سنة: 150 هـ، وهو من كبار الصالحين، له في الزهد والورع أخبار، وهو من ثقات رجال الحديث، من أهل مرو سكن بغداد وتوفي بها سنة: 227هـ.
ومن فضائله أن المأمون قال: لم يبق في هذه الكورة أحد يُستحيى منه غير هذا الشيخ بشر بن الحارث.
(6) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .(2/59)
وقال بعضهم: رأيت منصور الدينوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل، فقلت له: أحسن ما توجه به العبد إلى الله ماذا؟ فقال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب (1) .
وقال أبو سليمان: «اجعل الصدق مطيتك، والحق سيفك، والله تعالى غاية طلبك» (2) .
وقال محمد بن علي الكناني: «وجدنا دين الله مبنياً على ثلاثة أركان على الحق والصدق والعدل، فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول» (3) .
وقال وهب بن منبه: «وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرءونها: لا كنز أنفع مع العلم، ولا مال أربح من الحلم، ولا حسب أوضع من الغضب، ولا قرين أزين من العقل، ولا رفيق أشر من الجهل، ولا شرف أعز من التقوى، ولا كرم أوفى من ترك الهوى، ولا عمل أفضل من الفكر، ولا حسنة أعلى من الصبر، ولا سيئة أخزى من الكبر، ولا دواء أنفع من الرفق، ولا داء أوجع من الخرق، ولا رسول أعدل من الخلق، ولا دليل أنصح من الصدق، ولا فقر أذل من الطمع، ولا غنى أشقى من الجمع، ولا حياة أطيب من الصحة، ولا معيشة أهنأ من العفة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت» (4) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (5) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» (6) .
_________
(1) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .
(2) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .
(3) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .
(4) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .
(5) أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4992) ، والحاكم في المستدرك (1/195، رقم 381) ، وابن حبان في صحيحه (1/213، رقم 30) عن أبي هريرة.
(6) أخرجه أحمد في مسنده (5/252، رقم 22224) عن أبي أمامة.
قال الهيثمي (1/92) : منقطع بين الأعمش وأبي أمامة.(2/60)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنوكم» (1) .
وعن عبد الله بن جراد قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك» ، المؤمن يسرق؟ قال: «قد يكون ذلك» ، المؤمن يكذب؟ قال: «لا» .
قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ? [النحل: 105] .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له، ويل له» (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقول إلا ليضحك بها الناس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه» (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهو كذبه» (4)
رواه أحمد.
وعن عبد الله بن عامر - رضي الله عنه - دعتني أمي يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا فقالت: هاك تعالى أعطيك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها: «أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة» (5) رواه أبو داود والبيهقي.
_________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/12، رقم 7) ، وأحمد في مسنده (2/349، رقم 8580) عن أبي هريرة.
(2) أخرجه أبو داود في سننه (4/297، رقم 4990) ، والترمذي في سننه (4/557، رقم 2315) وقال: حسن. والنسائي في الكبرى (6/509، رقم 11655) ، والطبراني في المعجم الكبير (19/403، رقم 951) ، والحاكم في المستدرك (1/108، رقم 142) ، والدارمي في سننه (2/382، رقم 2702) ، وأحمد في مسنده (5/5، رقم 20058) ، وهناد في الزهد (2/554، رقم 1150) ، والروياني في مسنده (2/107، رقم 910) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.
(3) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/213، رقم 4832) ، وابن المبارك في الزهد (1/255، رقم 734) عن أبي هريرة.
(4) أخرجه أحمد في مسنده (2/452، رقم 9835) عن أبي هريرة.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/142) : رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة ولم يسمعه منه.
(5) أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4991) ، والبيهقي في الكبرى (10/198، رقم 20628) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/447، رقم 15740) ، والضياء في المختارة (9/483، رقم 466) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/236، رقم 25609) .(2/61)
وقال عبد الله المبارك: «من عقوبة الكذاب أنه يرد عليه صدقه» (1) .
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كذب العبد كذبة تباعد منه الملك مسيرة ميل من نتن ما جاء به» (2) .
وفي الموطأ عن ابن مسعود قال: «لا يزال العبد يكذب وتنكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه كله، فيكتب ثم الله من الكاذبين» (3) .
نعم يجوز الكذب في صور ويجب في صور، أما الصور التي يجب فيها الكذب فثلاث:
الأولى: في الحرب بأن يظهر لمن يراه الناس خلاف ما يبطن لأجل الحرب، فإن الحرب خدعة ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يريد غزوة يغزوها إلا وري بغيرها (4) .
الثانية: في الإصلاح بين شخصين أو طائفتين.
الثالثة: الكذب لأجل إرضاء زوجته كأن يشتري لها شيئاً بثمن لا ترضى به إلا أن يكون بأكثر فيخبرها الأكثر كاذباً.
ففي الصحيحين أن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً» (5) .
وزاد مسلم في رواية: «قالت أم كلثوم ولم أسمعه يرخص في شيء مما تقوله الناس إلا في ثلاث» يعني في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها.
_________
(1) أورده الخطيب في الكفاية في علم الرواية (1/117) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4/348، رقم 1972) وقال: حسن غريب. وابن عدي في الكامل (5/283، ترجمة 1421 عبد الرحيم بن هارون) ، وأبو نعيم في الحلية (8/197) .
(3) أخرجه مالك في الموطأ (2/990، رقم 1794) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه (3/1078، رقم 2787) ، ومسلم في صحيحه (4/2128، رقم 2769) عن كعب بن مالك.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه (2/958، رقم 2546) ، ومسلم في صحيحه (4/2011، رقم 2605) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/280، رقم 4920) ، والترمذي في سننه (4/331، رقم 1938) ، وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (6/403، رقم 27313) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/77، رقم 192) عن أم كلثوم بنت عقبة.(2/62)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإنه خدعه، أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما، أو يكذب لامرأته ليرضيها» (1) .
وأما الصور التي يجب فيها الكذب فمنها: ما إذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله وسأله شخصاً مسلماً عنه هل يعرف محله فإنه يجب عليه الكذب، وإذا حلف وجب عليه أن يحلف أنه لا يعلم مكانه، ولا إثم عليه بل يثاب على هذا الكذب ثواب الواجب، نعم إن كان الحلف في هذه الصورة بالطلاق وقع عليه.
ومنها: لو كان عند إنسان وديعة لشخص فسأله ظالم عنها ليأخذها منه، وجب عليه الكذب، فإن حلَّفه الظالم بالله تعالى جاز له الحلف كاذباً لمصلحة الوديعة ووجب عليه تكفير يمينه، فلو لم يحلف وأخبره بأن الوديعة عنده فأخذها الظالم قهراً وجب ضمانها عليه، وإن أكرهه الظالم في هذه الصورة على الحلف بالطلاق فهو مخير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم، فإن اعترف وسلم ضمن على المذهب لأنه فدى زوجته بالوديعة، وإن حلف بالطلاق أن الوديعة ليست عنده طلقت زوجته على المذهب، لأنه فدى الوديعة بزوجته.
فائدة: الكذب على المسلم كأن قال رأيت في منامي ولم ير شيئاً حرام.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة، ومن استمع بحديث قوم وهم له كارهون صب أذنيه الآنك، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها روح وليس بنافخ» (2) رواه البخاري.
ومعنى «تحلم» : قال إنه حلم في نومه، ورأى كذا وكذا، وهو كاذب.
«والآنك» بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: الرصاص المذاب قاله النووي.
وأما «الخيانة» : فهي التصرف في الأمانة على خلاف الشرع كالجناية في الوديعة فإنها أمانة في يد المودع، فإذا تلفت الوديعة تحت يده من غير تقصير فلا ضمان عليه لعدم خيانته، أما إذا قصر فيها فإنه يضمن، وأسباب الضمان كثيرة نقلها الفقهاء رضي الله عنهم.
_________
(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/204، رقم 4798) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه (6/2581، رقم 6635) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/306، رقم 5024) ، والترمذي في سننه (4/231، رقم 1751) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/359، رقم 3383) .(2/63)