سُليمان بْنُ يَسَارٍ فِي الذُّكُورِ (1) فَجَعَلَهَا مِنْ بَنِي اللَّبُونِ، وَجَعَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ مِنْ بَنِي مَخَاضٍ، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
4 - بَابُ دِيَةِ الأَسْنَانِ (2)
667 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين (3) أَنَّ أَبَا غَطَفَان (4) أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ مَا (5) فِي الضَّرْس (6) ؟ فَقَالَ: إِنَّ فِيهِ (7) خَمْسًا مِنَ الإِبِلِ، قال (8) : فردَّني
__________
(1) أي في تعينها.
(2) الحصين: بمهملتين مصغَّراً.
(3) الحصين: بمهملتين مصغَّراً.
(4) هو بفتحات قيل: اسمه سعد بن طريف، أو ابن مالك المُرِّي - بضم الميم وشد الراي - المدني من الثقات، كذا في "التقريب".
(5) أي من الدية إذا قُلعت خطأ.
(6) قوله: في الضَّرس، هو بالفتح قسم من الأسنان. قال أكمل الدين البابرتي في "العناية شرح الهداية": السن اسم جنس يدخل تحته اثنان وثلاثون، أربع منها ثنايا، وهي الأسنان المتقدمة، اثنان فوق، واثنان أسفل، ومثلها رباعيات وهي ما يلي الثنايا ومثلها أنياب وهو ما يلي الرباعيات ومثلها أضراس تلي الأنياب، واثنتا عشر سنّاً تسمى بالطواحن، من كل جانب ثلاث فوق، وثلاث أسفل، وبعدهنَّ أسنان أُخَر وهي آخر الأسنان، وتسمّى النواجذ، وهي في أقصى الأسنان وتسمى أسنان الحلم لأنها تنبت بعد البلوغ وقت كمال العقل.
(7) أي في كل واحد من الأضراس.
(8) أي أبو غطفان.(3/13)
مَرْوَانُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: فلِمَ تَجْعَلُ (1) مُقَدَّمَ الْفَمِ مِثْلَ الأَضْرَاسِ؟ قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْلا أَنَّكَ لا تَعْتَبِرُ (2) إلاَّ بِالأَصَابِعِ عَقْلها (3) سواءٌ.
__________
(1) قوله: فلم تجعل، أي لأيّ شيء تجعل مقدّم الفم أي الأسنان المقدّمة مثل الأضراس حيث تحكم بخمس من الإِبل في كل ضرس كما هو في كل سن مقدم مع اختلاف المنفعة، والقياس أن يجب في الضرس أقلّ مما يجب في المقدم.
(2) قوله: لولا أنك لا تعتبر، أي لو لم تكن تقيس الأسنان إلاَّ بالأصابع لكان كافياً لك، فإن عقل الأصابع سواء مع اختلاف المنفعة والمقدار، فكذا الأسنان.
(3) أي للأصابع.
(1) قوله: عقل الأسنان سواء، قد ورد ذلك مرفوعاً من حديث ابن عباس في مسند البزار بلفظ: الثنية والضرس سواء والأضراس كلها سواء. وعنه مرفوعاً: أصابع الرِّجْل واليد (في الأصل: إليه هو تحريف) سواء. والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، وهذه وهذه يعني الخنصر والبنصر، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، ولأبي داود وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه: الأصابع والأسنان سواء، في كل أصبع عشر من الإِبل، وفي كل سن خمس، كذا في " التلخيص" وغيره ويؤيده إطلاق حديث: في السِنِّ خمس من الإِبل، ولعل هذه الأحاديث لم تبلغ عمر حيث قضى في الأضراس ببعير بعير، ومعاوية حيث قضى في الأضراس بخمسة أبعرة، بخمسة أبعرة، قال سعيد بن المسيّب: فالدية تنقص في(3/14)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ نأخذُ، عَقْلُ الأَسْنَانِ (1) سواءٌ، وَعَقْلُ الأَصَابِعِ (2) سَوَاءٌ، فِي كُلِّ إِصْبَعٍ عُشْرٌ مِنَ الدِّيَةِ (3) وَفِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرٍ مِنَ الدِّيَةِ (4) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
5 - بَابُ أَرش (5) السِنِّ السَّوْدَاءِ وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ
668 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ كَانَ يَقُولُ: إِذَا أُصِيبَتِ السِنّ فاسودَّت فَفِيهَا عَقْلها تامّاً (6) .
__________
قضاء عمر، وتزيد في قضاء معاوية، فلو كنتُ أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين كما في "موطأ يحيى": مالك، عن يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
(2) قوله: وعَقْل الأصابع سواء، روي ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث أبي موسى الأشعري، أخرجه أبو داود والنسائي، وابن عباس، أخرجه الترمذي، وعبد الله بن عمرو، أخرجهُ ابن ماجه وبه قال علي وابن عباس والعامّة، وروى عن عمر أنه قضى في الإبهام بثلاثة عشر إِبلاً، وفي التي تليها اثني عشر، وفي الوسطى عشرة، وفي التي تليها تسعة، وفي الخنصر ستّ، وروي عنه كقول العامة، كذا في "البناية".
(3) أي عشر من الإبل.
(4) أي خمس من الإِبل.
(5) أي دية السِنّ كاملة (قال الموفق: وإن جنى على سنّه فسوَّدها فحكي عن أحمد - رحمه الله - في ذلك رويتان، إحدهما: تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي، ويروى هذا عن زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي.
والرواية الثانية، عن أحمد: أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها، وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة، وهذا قول القاضي، والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرَّت. المغني 8/26) .
(6) أي دية السِنّ كاملة(3/15)
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا أُصِيبَتِ (1) السِنّ فاسودَّت (2) أَوِ احمرَّت أَوِ اخضرَّت، فَقَدْ تَمَّ عَقْلُهَا (3) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
669 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ: فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ إِذَا فُقِئت (4) مِائَةُ دِينَارٍ.
قَالَ محمدٌ: لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهَا أَرْشٌ مَعْلُومٌ (5) ، فَفِيهَا حُكُومَةُ (6) عَدْلٍ، فَإِنْ بَلَغَتِ الْحُكُومَةُ مِائَةَ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، كَانَتِ الْحُكُومَةُ
__________
(قال الموفق: وإن جنى على سنّه فسوَّدها فحكي عن أحمد - رحمه الله - في ذلك رويتان، إحدهما: تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي، ويروى هذا عن زيد بن ثابت، وبه قال سعيد بن المسيّب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك بن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري وأصحاب الرأي وهو أحد قولي الشافعي.
والرواية الثانية، عن أحمد: أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها ونحوه ففيها ديتها، وإن لم يذهب نفعها ففيها حكومة، وهذا قول القاضي، والقول الثاني للشافعي وهو المختار عند أصحابه لأنه لم يذهب بمنفعتها فلم تكمل ديتها كما لو اصفرَّت. المغني 8/26) .
(1) أي بحجر ونحوه من غير قلع.
(2) أي تغيّر لونُها بالصدمة إلى أي لون كان.
(3) أي وجب تمام ديتها فهو مثل قلعها لفوات جنس المنفعة.
(4) مجهول، من الفقأ وهو الشقّ.
(5) أي مقرَّر شرعاً.
(6) قوله: حكومة عدل، قال القاري: تفسير حكومة العدل أن يُقوَّم المجنيّ عليه عبداً بلا هذا الأثر، ثم يقوَّم عبداً ومعه هذا الأثر، فقدر التفاوت بين القيمتين من الدية، هو حكومة العدل، وهذا تفسير الحكومة عند الطحاوي، وبه أخذ الحلواني، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وكل من يُحفظ عنه العلم، كذا قال ابن المنذر، وقال بعض المشائخ في تفسيرها: أن ينظر إلى قدر يحتاج إليه من النفقة إلى أن تبرأ الجراحة فيجب ذلك على الجاني.(3/16)
فِيهَا، وَإِنَّمَا نَضَعُ (1) هَذَا مِنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لأَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ.
6 - بَابُ النَّفَر (2) يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِ وَاحِدٍ
670 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا - خَمْسَةً أَوْ (4) سبعة -
__________
(1) أي نحمل هذا القول من زيد على أنه حكومة اتفاقية، لا تقديرية شرعية.
(2) قوله: عن سعيد بن المسيّب أن عمر ... إلخ، قال الزرقاني: رواية سعيد عنه متصلة، لأنه رآه وصحح بعضهم سماعه منه، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ "الموطأ" سواء، وهذا مختصر من أثر وصله ابن وهب، ورواه من طريقه قاسم بن أصبغ، والطحاوي والبيهقي، قال وهب: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنواني حدَّث عن أبيه: أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً، يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبة - بفتح العين: وعاء من أدم - فوضعوه في ركيَّة - بشد تحتية: بئر في ناحية القرية ليس فيها ماء - فأُخذ خليلها، فاعترف واعترف الباقون. فكتب يعلى - وهو يومئذٍ أمير - بشأنهم إلى عمر فكتب عمر بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين.
(3) قوله: عن سعيد بن المسيّب أن عمر ... إلخ، قال الزرقاني: رواية سعيد عنه متصلة، لأنه رآه وصحح بعضهم سماعه منه، ورواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بلفظ "الموطأ" سواء، وهذا مختصر من أثر وصله ابن وهب، ورواه من طريقه قاسم بن أصبغ، والطحاوي والبيهقي، قال وهب: حدثني جرير بن حازم أن المغيرة بن حكيم الصنواني حدَّث عن أبيه: أن امرأة بصنعاء غاب عنها زوجها، وترك في حجرها ابناً له من غيرها غلاماً، يقال له أصيل، فاتخذت المرأة بعد زوجها خليلاً، فقالت له: إن هذا الغلام يفضحنا فاقتله فأبى فامتنعت منه فطاوعها، فاجتمع على قتل الغلام الرجل ورجل آخر والمرأة وخادمها، فقتلوه، ثم قطعوه أعضاء، وجعلوه في عَيْبة - بفتح العين: وعاء من أدم - فوضعوه في ركيَّة - بشد تحتية: بئر في ناحية القرية ليس فيها ماء - فأُخذ خليلها، فاعترف واعترف الباقون. فكتب يعلى - وهو يومئذٍ أمير - بشأنهم إلى عمر فكتب عمر بقتلهم جميعاً، وقال: والله لو أن أهل صنعاء اشتركوا في قتله لقتلتهم أجمعين.
(4) شك من الراوي.(3/17)
بِرَجُلٍ (1) قَتَلوه قَتْل غِيلة (2) وَقَالَ: لَوْ تمالأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ قتلْتهم (3) بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إنْ قَتل سَبْعَةٌ أَوْ أَكْثَرُ (4) مِنْ ذَلِكَ رَجُلا عَمْدًا (5) قَتْلَ (6) غِيلة أَوْ غَيْرَ غِيلة ضَرَبُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ (7) حَتَّى قتَلُوه قُتِلُوْا (8) بِهِ كلُّهم، وَهُوَ قولُ (9) أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة من فقهائنا رحمهم الله.
__________
(1) أي بسبب قتل رجل اسمه أصيل أي في قصاصه.
(2) قوله: قتل غِيلة، بالإضافة وهو بالكسر أي خديعة وسر. وقوله: لو تمالأ عليه، أي تعاون عليه، وأصله المعاونة في ملء الدلو، ثم عمّ، وصنعاء - بالمد - قصبة اليمن، كذا في "البناية".
(3) قوله: قتلتهم به، أي بقصاصه، وهذا الأثر قد أخرجه الشافعي أيضاً من طريق مالك، والبخاري من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وكذا ابن أبي شيبة والدارقطني، وفي رواية مغيرة بن حكيم، عن أبيه أن أربعة قتلوا صبياً، فقال عمر مثله. أخرجه عبد الرزاق بطوله، وسمي الغلام المقتول أصيلاً، وفي الباب عن ابن عباس قال: لو أن مائةً قتلوا رجلاً قُتِلوا به، أخرجه عبد الرزاق. وعن المغيرة أنه قُتل سبعة برجل، أخرجه ابن أبي شيبة، وعن عليّ مثله، كذا في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وغيره.
(4) أي أو أقلّ من ذلك.
(5) قُيِّدَ به لأنه لا قصاص في الخطأ.
(6) أي قتل خفية أو علانية.
(7) بالفتح: جمع سيف، ومثله كل محدَّد.
(8) بصيغة المجهول.
(9) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وأكثر(3/18)
7 - بَابُ الرَّجُلِ يَرِثُ مِنْ دِيَةِ امْرَأَتِهِ وَالْمَرْأَةُ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا
671 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (1) ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ نَشَد (2) النَّاسَ بِمِنًى: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ (3) فِي الدية (4) أن يخبرني (5) به،
__________
أهل العلم من الصحابة والتابعين، وقال ابن الزبير والزهري وابن سيرين وابن أبي ليلى وداود وابن المنذر وأحمد في رواية: لا يُقتلون، بل يجب عليهم الدية، وهو القياس لأن القصاص ينبئ عن المماثلة، ولا مماثلة بين الواحد والجماعة، وما ذهبنا إليه استحسان بأثر عمر وغيره، والوجه فيه أن القتل بغير حق لا يكون عادة إلاَّ بالتغالب واجتماع نفر من الناس، فلو لم يجب القصاص فيه انسد باب القصاص، وفاتت الحكمة المقصودة من شرعيته، كذا ذكره العيني.
(1) قوله: أخبرنا ابن شهاب أن عمر، قال ابن عبد البر: هكذا رواه جماعة من أصحاب مالك، ورواه جماعة من أصحاب ابن شهاب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن عمر ... إلخ، وروايته عن عمر تجري مجرى المتصل لأنه قد رآه وصحح بعضهم سماعه منه، وفي طريق هشيم، عن الزهري، عن سعيد قال: جاءت امرأة إلى عمر تسأله أن يورّثها من دية زوجها، فقال: ما أعلم لك شيئاً فنشد الناس، الحديث. وفي طريق معمر عن الزهري عن سعيد أن عمر قال: ما أرى الدية إلا للعصبة لأنهم يعقلون عنه، فهل سمع أحد منكم عن رسول الله شيئاً في ذلك؟ فقال الضحاك بن سفيان الكلابي، وكان رسول الله استعمله على الأعراب: الحديث.
(2) أي طلب من الناس حين كان بمنى في حجته.
(3) أي من النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) أي في باب توريثها.
(5) من الإِخبار.(3/19)
فَقَامَ (1) الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ، فَقَالَ (2) : كَتَبَ إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أَشْيَم (3) الضِّبابي (4) أَنْ ورِّث (5) امرأتَه مِنْ دِيَته، فقال عمر: ادْخُل
__________
(1) قوله: فقام الضحاك، هو الضحاك بن سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة الكلابي العامري الضِّبابي - بكسر الضاد المعجمة وفتح الموحدة المخففة - عداده في أهل المدينة، وكان ينزل بنجد ولاّه النبي صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وكان من شجعان الصحابة، كذا ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول".
(2) قوله: فقال: كتب إلي ... إلخ، ذكر الزيلعي وابن حجر في "تخريجي أحاديث الهداية" وغيرهما أن هذا الحديث أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وإسحاق وعبد الرزاق والطبراني كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن عمر، وأخرج له الدارقطني شاهداً من رواية المغيرة بن شعبة، وفي رواية ابن شاهين من طريق ابن إسحاق عن الزهري قال: حُدثت عن المغيرة أنه قال: حدثت عمر بقصة أشيم، فقال: ائتني على هذا بما أعرف، فنشدت الناس في الموسم فأقبل رجل يقال له زرارة فحدثه عن رسول الله بذلك وفي رواية أبي يعلى بإسناد حسن عن المغيرة أن زرارة بن جرى قال لعمر: إن رسول الله كتب إلى الضحاك أن يُوَرِّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها.
(3) بفتح الألف وسكون الشين المعجمة وفتح الياء المثناة التحتية، كذا ضبطه ابن الأثير.
(4) قوله: الضبابي، ذكر السيوطي والسَّمْعاني أن الضِّبابي بالكسر نسبة إلى ضباب بن عامر بن صعصعة. وإلى محلة بالكوفة، وبالفتح نسبة إلى ضباب بطن من بني الحارث ومن قريش.
(5) قوله: أَنْ وَرِّث، من التوريث وأنْ بالفتح وسكون بيان للمكتوب.(3/20)
الخِباءَ (1) حَتَّى آتيَك (2) ، فَلَمَّا نَزَلَ (3) أَخْبَرَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بِذَلِكَ، فَقَضَى (4) بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لِكُلِّ وَارِثٍ فِي الدِّيَةِ وَالدَّمِ (5) نصيبٌ، امْرَأَةً كَانَ الْوَارِثُ أَوْ زَوْجًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ (6) أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
8 - باب الجروح وما فيها من الأرش (7)
672 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: فِي كُلِّ نَافِذَةٍ (8) ، فِي عُضْوٍ مِنَ الأَعْضَاءِ ثُلُثُ (9) عَقْلِ ذَلِكَ العضو.
__________
(1) بالكسر أي الخيمة.
(2) أي فأتحقق وأسمع منك مرة أخرى.
(3) أي عمر بالمنزل.
(4) قوله: فقضى به عمر، أي حكم بتوريث الزوجة من دية الزوج، وفي "موطأ يحيى" بعده: قال ابن شهاب: وكان قتل أشيم خطأً.
(5) أي في طلب القصاص في العمد.
(6) قوله: وهو، وفي توريث الزوجة من دية الزوج، وفي كونها مستحقة للقصاص خلاف ابن أبي ليلى، ذكره القاري.
(7) أي جراحة تنفذ.
(8) أي جراحة تنفذ.
(9) قوله: ثُلُثُ عَقْلِ ذَلِكَ الْعُضْوِ، في "موطأ يحيى" بعد هذه الرواية قال مالك: كان ابن شهاب لا يرى ذلك، وأنا لا أرى في نافذة في عضو من الأعضاء(3/21)
قَالَ مُحَمَّدٌ: فِي ذَلِكَ أَيْضًا (1) حُكُومَةُ عَدْلٍ، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
9 - بَابُ دِيَةِ الْجَنِينِ (2)
673 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول اللَّهِ (3) قَضَى (4) فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ (5) فِي بَطْنِ أمهِ
__________
في الجسد أمراً مجتمعاً عليه لكني (في الأصل "لكن"، والظاهر لكني كما في شرح الزرقاني 4/187) أرى فيه الاجتهاد يجتهد الإِمام في ذلك، وليس في ذلك أمر مجتمع عليه عندنا (كرره تأكيداً، قال صاحب "المحلى"، وهو قول أبي حنيفة والجمهور، كذا في الأوجز 13/63) .
(1) أي ليس فيه دية معينة شرعاً.
(2) قوله: أن رسول الله ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل عند رواة "الموطأ" ووصله مطرف وأبو عاصم النبيل كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. والحديث عند ابن شهاب عنهما جميعاً، عن أبي هريرة فطائفة من أصحابه يحدثونه عنه هكذا وطائفة يحدثون عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة، وطائفة عنه عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، ومالك أرسل عنه حديث سعيد هذا ووصل حديث أبي سلمة واقتصر فيه على قصة الجنين دون قتل المرأة. انتهى.
(3) قوله: أن رسول الله ... إلخ، قال ابن عبد البر: هذا مرسل عند رواة "الموطأ" ووصله مطرف وأبو عاصم النبيل كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيّب وأبي سلمة، عن أبي هريرة. والحديث عند ابن شهاب عنهما جميعاً، عن أبي هريرة فطائفة من أصحابه يحدثونه عنه هكذا وطائفة يحدثون عنه عن سعيد وحده عن أبي هريرة، وطائفة عنه عن أبي سلمة وحده، عن أبي هريرة، ومالك أرسل عنه حديث سعيد هذا ووصل حديث أبي سلمة واقتصر فيه على قصة الجنين دون قتل المرأة. انتهى.
(4) أي حكم.
(5) مجهول، صفة للجنين.(3/22)
بِغُرَّةٍ (1) عبدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ، فَقَالَ (2) الَّذِي قَضَى (3) عليه: كيف (4) أغْرَمُ مَنْ
__________
(1) قوله: بِغُرّةٍ عبدٍ أو وليدةٍ، أي أَمَةٍ هو صفة الغُرَّة، ويُروى بالإضافة وهو أحسن. والغُرّة بضم الغين وتشديد الراء، هو خيار المال كالفرس والبعير النجيب والعبد والأمة العمدة، وسمي بدل الجنين به لأن الواجب عبد، والعبد يسمّى غُرّة وقيل لأنه أول مقدار ظهر في باب الدية، وغُرَّةُ كل شيء أوّلُه، كذا في "البناية".
(2) قوله: فقال الذي قضى عليه، أي بالغرة، وفي رواية للبخاري: فقال ولّي المرأة التي غُرّت، ووليّها هو ابنها مسروح، رواه عبد الغني. والأكثر على أن القائل زوجها حمل بن النابغة الهذلي، وللطبراني أنه عمران بن عويمر أخو مليكة المرأة المقتولة. فيحتمل تعدد القائلين، كذا قال الحافظ ابن حجر. قال الزرقاني: فيه دلالة قوية لقول مالك وأصحابه ومن وافقهم أن الغُرّة على الجاني، لا على العاقلة، كما يقوله أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما لأن المفهوم من اللفظ أن المقضيِّ عليه واحد وهو الجاني (الزرقاني 4/182) . انتهى. ولقائل أن يقول: يعارض هذه الدلالة الروايات الأخرى الصريحة، ففي رواية أبي داود والترمذي والطحاوي من حديث المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى، الحديث. وفيه: فقضى فيه غُرَّة وجعل على عاقلة المرأة. وفي رواية ابن أبي شيبة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غُرَّة على عاقلة القاتلة. وفي روايته من مرسل ابن سيرين جعل الغرة على العاقلة. وأخرجه الدارقطني مطوّلاً، وزيادة التفصيل في "تخريج أحاديث الهداية".
(3) معروف أو مجهول.
(4) قوله: كيف أَغْرَمُ، أي أضمن، وللبزار من حديث ابن عباس قالوا: كيف نَدِيه وما استهل. وله من حديث جابر فقالت العاقلة: أَنَدِي (أي نؤدي دية الجنين. بذل المجهود 18/88) من لا شرب(3/23)
لاَ شَرِبَ (1) وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ، وَلاَ اسْتَهَلَّ، وّمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ، قَالَ (2) : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا (3) هَذَا مِنْ إِخْوَانِ الكُهَّان.
674 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ (4) مِنْ هُذَيْل (5) استَبَّتَا (6) في
__________
ولا أكل، الحديث. وهذا أيضاً من مؤيدات من أوجب الدية على العاقلة، وهذا كله صريح في أن الغُرّة هو دية الجنين، لا دية المرأة كما ظنه قوم، وقد بسط الكلام في رده الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 2/117 وأوجز المسالك 13/37.
(1) قوله: من لا شرب، كأنه تعجّب من إيجاب الدية، فإنها عوض عن النفس الحية، فقال: كيف ندي الجنين الذي لم يشرب ولم يأكل ولم يستهلّ، من الاستهلال وهو رفع الصوت عند الولادة، وبالجملة لم يوجد فيه أثر الحياة، فمثل ذلك يُطَلُّ - بتحتّية مضمومة وشدّ اللام - أي يُهدر ويُبطل، وفي رواية: بطل بالموحّدة وطاء مهملة مفتوحتين وخفّة اللام من البطلان.
(2) أي سعيد بن المسيب.
(3) قوله: إنما هذا الساجع المناقض للحكم المبان من إخوان الكُهَّان - بضم الكاف وتشديد الهاء - جمع كاهن، زاد مسلم: من أجل سجعه الذي سجع فيه، ووجه ذمِّه أنه أراد بسجعه دفع الحكم الشرعي.
(4) قوله: أن امرأتين، وكانتا ضَرَّتين، ففي رواية أحمد وغيره عن عويمر الهذلي: كانت أختي مليكة وامرأة منا يقال لها أم عفيف بنت مسروح من بني سعد بن هذيل تحت حمل بن مالك بن النابغة، فضربت أم عفيف مليكة. وللبيهقي وأبي نعيم قي "كتاب المعرفة" عن ابن عباس تسمية الضاربة أم غطيف، وكذا في "سنن أبي داود" وهما واحدة كذا ذكره ابن حجر.
(5) بضم الهاء قبيلة.
(6) أي تشاتمتا.(3/24)
زَمَانِ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَمَتْ (1) إِحْدَاهُمَا الأُخرى، فَطَرَحَتْ (2) جَنِينَهَا (3) ، فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بغرّةٍ عبدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، إِذَا ضرُب بَطْنُ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ (4) فَأَلْقَتْ جَنِينًا ميّتاً (5) ، ففيه (6) غُرَّةُ عبدٍ أو أمةٍ
__________
(1) بحجر أو بعمود فسطاط أو مسطح أي خشبة على اختلاف الروايات.
(2) أي ألقت الأخرى جنينها ميّتاً.
(3) في نسخة: جنيناً.
(4) قوله: الحرة، قُيِّد به لأن جنين الأمة، إن كانت حاملاً من زوجها، فيه نصف عشر قيمة الأُمّ في الذكور وعشر قيمته في الأنثى، وإن لم يعلم ذكورته ولا أنوثته يؤخذ بالمتيقَّن، هذا عندنا. وقال الشافعي: فيه عشر قيمتة الأم مطلقاً أنه جزء منها، وضمان الأجزاء يؤخذ مقدارها من الأصل، فلا يختلف ضمانه بالذكورة والأنوثة كما في جنين الحرة، وبه قال مالك وأحمد وابن المنذر والحسن والنخعي والزهري وقتادة وإسحاق. ولنا أنه بدل نفسه، ولا يُعتبر كونه جزءً وإلا لم يجب ضمانه إلا إذا نقص الأصل كما هو في سائر الأجزاء فيُقَدّر بقيمة الجنين لا بقيمة الأم، كذا في "الهداية" و "البناية".
(5) قوله: ميتاً، قُيّد به لأنه لو ألقته حياً ثم مات ففيه الدية كاملة لأنه أتلف حياً بالضرب السابق، وإن ألقته ميتاً، ثم ماتت الأم، فعليه دية بقتل الأم وغُرّة بإلقائها، وإن ماتت الأم بالضربة، ثم خرج الجنين حياً، ثم مات، فعليه دية في الأم ودية في الجنين، وإن ماتت ثم ألقت جنيناً ميتاً فعليه دية في الأم ولا شيء في الجنين عندنا وعند مالك لأن موت الأم أحد سببي موت الجنين فلا يتيقن موته بالضرب خلافاً للشافعي وأحمد والظاهرية، كذا في "الهداية" و "البناية".
(6) قوله: ففيه غرّة عبد، قال الزرقاني: احتج الشافعي بقوله في الحديث: كيف أغرم ... إلخ على أن المضمون الجنين لأن العضو لا يعترض فيه بهذا، وقال(3/25)
أو خمسون (1) ديناراً أو خمس مائة
__________
أبو حنيفة وأصحابه: تختص بها الأم لأنها بمنزلة قطع عضو، وليست بدية، إذ لم يعتبر فيها الذكر والأنثى، وكذا قال الظاهرية، واحتج إمامهم داود بأن الغرة لا يملكها الجنين، فُتورث عنه، ويرد عليه دية المقتول خطأ فإنه لم يملكها وهي تورث عنه قاله أبو عمر، انتهى. أقول هذا الذي نسبه إلى أبي حنيفة ليس بصحيح ففي "الهداية" وغيرها: ما يجب في الجنين موروث عنه أنه بدل نفسه فيرثه ورثته ولا يرثه الضارب حتى لو ضرب بطن امرأته، فألقت ابنه ميتاً، فعلى عاقلة الأب غُرّة ولا يرث منها. انتهى. وفي "شرح معاني الآثار" للطحاوي بعد ذكر الآثار: فلما حكم النبي صلى الله عليه وسلم مع الدية المرأة بالغرة ثبت بذلك أن الغرة دية الجنين لا لها، فهي موروثة عن الجنين كما يورث ماله لو كان حياً فمات، وهذا قول أبي حنبفة ومحمد وأبي يوسف. انتهى.
ثم وجوب الغرة عندنا على العاقلة في سَنَةٍ واحدة، وقال الشافعي: في ثلاث سنين كسائر ديات قتل النفس ولنا ما رُوي عن محمد قال: بَلَغَنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل على العاقلة سنة. ذكره في "الهداية" وهو وإن لم يجده مخرِّجوا أحاديثه، لكن قد ذكر جمع من المشائخ أن بلاغات محمد في الحكم المسندة، وله وجه، وهو أن دية الجنين لها شِبْهان: شبه بالنفس من حيث إنه حيّ بحياة نفسه وشبه بالعضو من حيث إنه متصل بالأم فعملنا بالشبه الأول في حق التوريث وبالثاني في حق التأجيل، وبدل العضو إذا كان نصف العشر يجب في سنة فكذا هذا. والتفصيل في "الهداية" وحواشيها.
(1) قوله: أو خمسون ديناراً، أي أنْ لم يعط الغرّة، فعليه خمسون ديناراً، نصف عُشر الدية من الذهب، وهو ألف دينار أو خمس مائة درهم، وهو نصف عشر الدية من الفضة أي عشر آلاف درهم أو خمس من الإِبل، وهو نصف عشر الدية من الإِبل أي مائة إبل أو مائة من الغنم، بذلك جاءت الأخبار والآثار على ما بسطه الزيلعي وغيره، ففي رواية الطبراني من طريق سلمة بن تمّام، عن أبي المليح، عن أبيه قال: كان فينا رجلٌ يقال له حمل بن مالك، فذكر القصة، وفيه فقال(3/26)
دِرْهَمٍ (1) نِصْفُ عُشر الدِّيَةِ فَإِنْ كَانَ (2) مِنْ أَهْلِ الإِبل أُخِذَ مِنْهُ خَمْسٌ مِنَ الإِبل وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْغَنَمِ أُخِذَ مِنْهُ مِائَةٌ مِنَ الشَّاةِ نِصْفُ (3) عُشر الدِّيَةِ.
10 - بَابُ الْمُوضِحَةِ (4) فِي الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ
675 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُوضِحَةِ فِي الْوَجْهِ: إِنْ لم تُعِبْ (5) الوجهَ
__________
رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني من رجز الأعراب، فيه غُرَّة عبد أو أمة أو خمس مائة أو مائة شاة، وفي رواية البزّار عن بريدة: أنّ امرأةٌ حذفت امرأة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولدها بخمس مائة، ونهى عن الحذف، ولابن أبي شيبة من طريق أسلم عن عمر أنه قوّم الغُرّة بخمسين ديناراً، ولأبي داود عن ابراهيم النخعي أنه قال: الغُرّة خمس مائة، قال: وقال ربيعة: هي خمسون ديناراً، ولإبراهيم الحربي بإسناد صحيح عن الشعبي قال: الغُرّة خمس مائة، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة: الغرّة خمسون ديناراً.
(1) خبر لمحذوف أو بدل.
(2) أي الذي يجب عليه الغرة.
(3) بيان لخمس إبل ومائة شاة.
(4) قوله: إن لم تعب، من العيب وفيه إشارة إلى أنهما إن كانت تعيب يزاد في عقلها كما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع من سليمان بن يسار يذكر أنّ الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس إلا أنْ تعيب الوجه، فيزداد في عقلها ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس فيكون فيها خمسة وسبعون ديناراً.
(5) قوله: إن لم تعب، من العيب وفيه إشارة إلى أنهما إن كانت تعيب يزاد في عقلها كما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أنه سمع من سليمان بن يسار يذكر أنّ الموضحة في الوجه مثل الموضحة في الرأس إلا أنْ تعيب الوجه، فيزداد في عقلها ما بينها وبين عقل نصف الموضحة في الرأس فيكون فيها خمسة وسبعون ديناراً.(3/27)
مِثْلَ (1) مَا فِي المُوضحة فِي الرَّأْسِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُوضِحَةُ فِي الْوَجْهِ (2) وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ، فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ إبراهيم النَّخَعي وأبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
11 - بَابُ الْبِئْرِ جُبار (3)
676 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم قال: جَرْحُ (4) العجماء جُبار، والبئر (5) جُبار،
__________
(1) وهو خمس من الإبل على ما مرّ.
(2) قوله: في الوجه والرأس، قُيِّد بهما لأن الموضحة وغيرها من الشجاج من الهاشمة والمنقلة وغيرها مختصة بالوجه والرأس، وما كانت في غيرهما يسمَّى جراحة، فلو تحققت الموضحة وغيرها في غير الوجه والرأس نحو الساق واليد لا يكون له أرش مقدر، وإنما يجب حكومة عدل لأن التقدير بالتوقيف من الشارع، وهو إنما ورد فيما يختص بهما، وتفصيله كتب الفقه.
(3) قوله: جرح العجماء جبار، هذا الحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم وفي رواية لهم: العجماء جبار، وفي بعضها: العجماء جرحها جبار، وفي بعضها الرِجل جبار بكسر الراء. وفي "آثار صاحب الكتاب" أخبرنا أبو حنيفة، نا حماد، عن إبراهيم: وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار والقَليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس. وفسر الرجل بقوله: إذا سار على الدابة فنفحت برِجْلها وهي تسير، فقتلت رجلاً أو جرحته، فذلك هدرٌ ولا يجب شيء على عاقلته ولا على غيره، وذكر في تفسير البئر والعجماء والمعدن كما ذكره ههنا. وفي "شرح الزرقاني": الجَرح بفتح الجيم على المصدر لا غير، فأما بالضم فهو الاسم، والعجماء بالفتح تأنيث أعجم، ويقال لكل حيوان غير الإنسان ولمن لا يفصح، والمراد ههنا البهيمة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: جراحتها جنايتها، وأجمع العلماء على أن جنايتها نهاراً وجرحها بلا سببٍ فيه لأحد أنه هدر لا دية فيه ولا أرش فيه أي فلا يختص الهدر بالجرح بل كل الإِتلافات ملحقة بها، وقال عياض: إنما نبه بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبَّه به على ما عداه.
(4) قوله: جرح العجماء جبار، هذا الحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة وغيرهم وفي رواية لهم: العجماء جبار، وفي بعضها: العجماء جرحها جبار، وفي بعضها الرِجل جبار بكسر الراء. وفي "آثار صاحب الكتاب" أخبرنا أبو حنيفة، نا حماد، عن إبراهيم: وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: العجماء جبار والقَليب جبار، والرجل جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس. وفسر الرجل بقوله: إذا سار على الدابة فنفحت برِجْلها وهي تسير، فقتلت رجلاً أو جرحته، فذلك هدرٌ ولا يجب شيء على عاقلته ولا على غيره، وذكر في تفسير البئر والعجماء والمعدن(3/28)
وَالْمَعْدِنُ (1) جُبار، وَفِي الرِّكَازِ (2) الْخُمْسُ.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَالْجُبَارُ الهَدَرُ (3) ، وَالْعَجْمَاءُ الدَّابَّةُ (4) المنفلِتة تجرحُ الإِنسان أَوْ تَعْقِرُهُ (5) ، وَالْبِئْرُ وَالْمَعْدِنُ، الرجلُ يَسْتَأْجِرُ (6) الرجلَ يَحْفُرُ لَهُ بِئْرًا وَمَعْدِنًا، فَيَسْقُطُ (7) عليه، فيقتله فذلك هدرٌ (8) . وفي
__________
كما ذكره ههنا. وفي "شرح الزرقاني": الجَرح بفتح الجيم على المصدر لا غير، فأما بالضم فهو الاسم، والعجماء بالفتح تأنيث أعجم، ويقال لكل حيوان غير الإنسان ولمن لا يفصح، والمراد ههنا البهيمة، وقال أبو عمر ابن عبد البر: جراحتها جنايتها، وأجمع العلماء على أن جنايتها نهاراً وجرحها بلا سببٍ فيه لأحد أنه هدر لا دية فيه ولا أرش فيه أي فلا يختص الهدر بالجرح بل كل الإِتلافات ملحقة بها، وقال عياض: إنما نبه بالجرح لأنه الأغلب أو هو مثال نبَّه به على ما عداه.
(5) بكسر الباء بعدها ياء مهموزة وغير مهموزة.
(1) بفتح الميم وكسر الدال: مكان يخرج منه شيء من الجواهر والأجساد المعدنية من الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك، من عَدَنَ بالمكان إذا أقام به.
(2) بكسر الراء: اسم المال المركوز المدفون في الأرض.
(3) بفتحتين أي الباطل.
(4) قوله: الدابة المنفلتة، أي المتنفرة الخارجة من يد صاحبها بغير تصرّفه، وقيّد به احترازاً عن الدابة التي لها سائق أو قائد أو راكب عليها، فعطبت أو جرحت فإن الضمان هناك واجب على تفصيل مذكور في كتب الفقه.
(5) من العقر بمعنى القطع.
(6) أي يأخذه أجيراً لحفر البئر أو المعدن.
(7) أي يسقط البئر أو المعدن على الحافر فيقتله.
(8) لأنه لا ضمان فيه لعدم التسبُّب والمباشرة منه.(3/29)
الرِّكَازِ (1) الْخُمْسُ، وَالرِّكَازُ مَا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْمَعْدِنِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ رَصَاص (2) أَوْ نُحَاسٍ (3) أَوْ حَدِيدٍ أَوْ زَيْبَقٍ، فَفِيهِ الْخُمْسُ وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
677 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حَازِمِ (4) بن
__________
(1) قوله: وفي الركاز الخمس، المستخرج من المعدن إما أن يكون من خلق الله تعالى كالذهب والفضة وغيرهما من المعدنيات المخلوقة في الأرض وهو المعروف باسم المعدن، وإما أن يكون مثبتاً فيه من الأموال بفعل الإِنسان، وهو الكنز ويعمها الركاز. إذا عرفت هذا فاعلم أن جَمْعاً من الأئمة منهم الشافعي وغيره حملوا الرِّكاز على الكنز، وخصُّوا وجوب الخمس به، وحكموا بأنه لا خمس في المعدن، وليس فيه إلا الزكاة وأصحابنا حملوا الركاز على المعنى الأعم، ولا يُتَوَهّم عدم إرادة المعدن بسبب عطفه عليه بعد إفادة أنه جبار أي هدر لا شيء فيه وإلا لتناقض، فإن الحكم المعلق بالمعدن ليس هو المتعلق في ضمن الركاز ليختلف بالسلب والإِيجاب، إذ المراد به أن إهلاكه للأجير الحافر غير مضمون، لا أنه لا شيء في نفسه أصلاً وإلا لم يجب فيه شيء أصلاً حتى الزكاة وهو خلاف الإِجماع فحاصله أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكماً، ونص على خصوصه اسماً، ثم أثبت له حكماً مع غيره، فعبر بالاسم الذي يعمهما، كذا حققه في "فتح القدير". وبه يظهر ما في تفسير "صاحب الكتاب" الركاز ههنا. وقد مرَّ نُبَذ مما يتعلق بهذا المقام في كتاب الزكاة.
(2) بالفتح (في الأردية: رصاص: رانكا، وحديد: لوها، وزيبق: بارة. ونحاس: تانبا) .
(3) بالضم.
(4) قوله: عن حزام، - بالحاء المهملة، ثم زاء معجمة - بن سعيد على(3/30)
سَعيد بْنِ مُحِيِّصَةَ (1) : أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا (2) لرجُلٍ فأفسدَتْ فِيهِ (3) ، فَقَضَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن عَلَى أَهْلِ الْحَائِطِ حفظَها (4) بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أفسدت المواشي بالليل فالضمان على أهلها (5) .
__________
وزن كبير، هكذا رأيته في نسخ متعدادة من هذا الكتاب والذي في "جامع الأصول" للجزري، و "تقريب ابن حجر" و"إسعاف السيوطي" في اسمه ونسبه: حَرام - بفتح الحاء المهملة بعدها راء مهملة - بن سعد - بسكون العين - ويقال: حرام بن ساعدة، بن محيّصة الأنصاري المدني، تابعي، ثقة، قليل الحديث، مات سنة 113 بالمدينة.
(1) بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية المكسورة.
(2) أي بستاناً.
(3) أي في بستانه.
(4) أي من أن تفسد على حائطهم.
(5) قوله: على أهلها، أي مالك المواشي لقصور الحفظ من قبله، وفيه حجة للشافعي وأحمد وأكثر أهل الحجاز أن صاحب المنفلتة يضمن ما أفسدت ليلاً، لا نهاراً، وذكر أصحابنا أن ما رويناه مطلقاً ومتفق عليه مشهور وهذا مرسل وهو ليس بحجة عند الافعي، وردّه القاري أن المرسل حجة عند الجمهور على أن المطلق قابل للتقييد.(3/31)
12 - بَابُ مَنْ قَتَل خَطَأً وَلَمْ تُعرف (1) لَهُ عَاقِلَةٌ (2)
678 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي أَبُو الزِّناد (3) أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَائِبَةَ (4) كَانَ أَعْتَقَهُ بعضُ الحُجَّاج (5) ، فَكَانَ (6) يَلْعَبُ مَعَ ابْنِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَابِدٍ (7) ، فَقَتَلَ السائبةُ ابنَ العابدي، فجاء العابديُّ (8)
__________
(1) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان.
(2) قوله: أن سائبة، قال السيوطي: هو عبد يعتق بأن يقول له مالكه: أنت سائبة، فيعتق ولا ولاء للمعتق.
(3) بكسر الزاء عبد الله بن ذكوان.
(4) قوله: أن سائبة، قال السيوطي: هو عبد يعتق بأن يقول له مالكه: أنت سائبة، فيعتق ولا ولاء للمعتق.
(5) جمع الحاجّ.
(6) أي كان العبد السائبة يلعب مع ابن الرجل من بني عابد بالباء الموحدة.
(7) قوله: من بني عابد، قال القاري: بكسر الموحدة وبالدال المهملة نسبة إلى عابد بن عبد بن عمر بن مخزوم، وبكسر المثناة التحتية والذال المعجمة نسبة إلى عائذ بن عمر بن بني شيبان، ذكره السيوطي، انتهى. وقي "موطأ يحيى": من بني عائذ، وضبطه الزرقاني بتحتية وبذال معجمة.
(8) فيه "موطأ يحيى" العائذي وكذا فيما بعده.(3/32)
أَبُو الْمَقْتُولِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَطَلَبَ (1) دِيَةَ ابْنِهِ، فَأَبَى (2) عُمَر أَنْ يَدِيَه، وَقَالَ: لَيْسَ لَهُ مَوْلًى، فَقَالَ العابديُّ لَهُ: أَرَأَيْتَ (3) لَوْ أنَّ ابْني قَتَلَه (4) ؟ قَالَ: إذَنْ (5) تُخْرِجُوْا دِيَتَه، قَالَ العابديُّ: هُوَ (6) إِذَنْ كالأََرْقَم (7) إنْ يُتْرَكْ يَلْقَمْ وإِنْ يُقْتَلْ يَنْقَمْ.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ، لا نَرَى (8) أنَّ عُمَرَ (9) أَبْطل ديتَه عن
__________
(1) يعلم منه أن القتل كان خطأً.
(2) أي فأنكر عمر رضي الله تعالى عنه عن أن يجعل له دية، لأن القاتل ممن لا مولى له.
(3) أي: أخبرني؟.
(4) أي السائبة.
(5) أي قال عمر: لو كان كذلك وجب عليك وعلى قومك أن تُعطوا ديته.
(6) أي السائبة.
(7) قوله: كالأرقم، هو الحيَّة التي فيها بياض وسواد كأنه رقم أي نقش، وقيل: الحية التي فيها حمرة وسواد وهذا مثل لمن يجتمع عليه شرّان لا يدري كيف يصنع فيهما، ومعناه هو كالأرقم إن تركته يلقمك أي يجعلك لقمة، ويأكلك، وإن قتلته، أخذ منك عوضه نقمةً، وكانوا في الجاهلية يزعمون أنَّ الجن تطلب بثأر الجان، وهو الحيَّة الدقيقة، فربما مات قاتلها، وربما أصابه خبل فضربوا لهذا مثلاً، كذا في "حياة الحيوان" للدَّميري.
(8) أي لا نظن. وفي نسخة: ألا ترى.
(9) قوله: أن عمر رضي الله تعالى عنه أبطل ديته ... إلخ، حاصله أن ما حكم به عمر ههنا من عدم وجوب دية المقتول ابن العابدي لم يكن بسبب أن القاتل لم يكن له مولىً ولا له عاقلة، حتى يجب عليهم ديته، فإنه لو كان كذلك(3/33)
الْقَاتِلِ وَلا نَرَاهُ أَبْطَلَ ذَلِكَ لأَنَّ لَهُ عَاقِلَةً، وَلَكِنَّ عُمَرَ لَمْ يَعْرِفْهَا (1) فَيَجْعَلَ (2) الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَلَوْ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يرَ لَهُ مَوْلًى، وَلا أنَّ لَهُ عَاقِلَةً لَجَعَلَ دِيَةَ مَنْ قُتِلَ فِي مَالِهِ (3) أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ (4) ، وَلَكِنَّهُ (5) رَأَى لَهُ عَاقِلَةً وَلَمْ يَعْرِفْهُمْ لأَنَّ بَعْضَ الحُجَّاج أعتَقَه وَلَمْ يُعْرَفْ المُعْتِقُ (6) وَلا عَاقِلَتُهُ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ عُمَرُ حَتَّى يُعْرَفَ (7) ، وَلَوْ كَانَ لا يَرَى (8) لَهُ عَاقِلَةً لَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ عَلَى المسلمين في بيت مالهم.
__________
لحكم بوجوب الدية في مال القاتل إن كان غنياً أو في بيت المال إن كان مسكيناً، ولم يحكم ببطلان ديته رأساً، بل كان ذلك لأنه كان له مولى وعاقلة، ولكنه لم يعرفه فإن القاتل كان معتقاً لبعض الحجاج، ولم يعرف من هو وأين هو، وحينئذٍ يحكم بعدم لزوم الدية حتى يعرف العاقلة فيحكم عليهم بأداء الدية.
(1) بأعيانها.
(2) أي حتى يجعل غاية للمنفي.
(3) أي في مال القاتل إن كان موسراً.
(4) هذا إذا كان القاتل معسراً.
(5) أي عمر رضي الله تعالى عنه.
(6) أي لا عينه ولا مكانه.
(7) أي يتبين معتقه أو عاقلته.
(8) من بدو الأمر.(3/34)
13 - بَابُ الْقَسَامَةِ (1)
679 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَعِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ (2) الغِفاري أَنَّهُمَا حدَّثاه أَنَّ رَجُلا مِنْ بَنِي سعد بن ليث
__________
(1) قوله: وعِرَاك بن مالك، بكسر العين المهملة وفتح الراء المخفَّفة كما مرَّ ذكره في كتاب الزكاة، لا بفتح العين وتشديد الراء كما ظنَّه القاري، ونسبته الغِفاري بكسر الغين نسبة إلى بني غفار قبيلة.
(2) قوله: وعِرَاك بن مالك، بكسر العين المهملة وفتح الراء المخفَّفة كما مرَّ ذكره في كتاب الزكاة، لا بفتح العين وتشديد الراء كما ظنَّه القاري، ونسبته الغِفاري بكسر الغين نسبة إلى بني غفار قبيلة.(3/35)
أَجْرَى (1) فَرَسًا فوطِئ (2) عَلَى إِصْبَعِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جُهَينة (3) فَنَزَف (4) مِنْهَا الدَّمُ فَمَاتَ (5) ، فَقَالَ (6) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلَّذِينَ ادُّعِي (7) عَلَيْهِمْ: (8) أتَحْلِفُون خَمْسِينَ يَمِينًا مَا مَاتَ مِنْهَا؟ فأبَوا (9) وتحرَّجوا (10) من الأَيْمان، فقال (11) للآخرين (12) :
__________
(1) أي أسرعه جرياً وسيراً.
(2) أي حافر فرسه.
(3) بالتصغير قبيلة يُنسب إليها الجُهني.
(4) يقال: نَزَف الدم بفتح الزاء أي سال.
(5) أي الجهني.
(6) أي بعد إنكارهم أنه مات بسببه.
(7) بصيغة المجهول.
(8) بهمزة الاستفهام.
(9) أي أنكروا عن اليمين.
(10) أي امتنعوا عنها وظنوا فيها حرجاً.
(11) قوله: فقال للآخرين ... إلخ، هذا يدل على عود الحلف على المدَّعين بعد تحليف المدَّعى عليهم، وقد اختُلف فيه بين الأئمة، فذهب الشافعي وأحمد، إلى أنه يبدأ بأَيْمان المدَّعِين حيث لا بينة فإن نكلوا حلف المدعى عليهم بخمسين يميناً ويبرأون، وكذلك قال مالك في البداية بأَيْمان المدعين، وهو قول الجمهور، وذهب أصحابنا وأهل العراق إلى أنه ليس في القسامة إلاَّ أَيْمان المدعى عليهم، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره.
(12) أي المدَّعِين.(3/36)
احلفُوا (1) أَنْتُمْ، فأَبَوْا (2) فَقَضَى (3) بِشَطْرِ (4) الدِّيَةِ عَلَى السعديِّين.
680 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا أَبُو لَيْلَى (5) بْنُ عبد الله بن
__________
(1) أي على أنه مات بسببه.
(2) أي نكلوا عنه.
(3) أي حكم عمر بنصف الدية.
(4) قوله: بشطر الدية على السعديين، أي بنصفها على المدَّعى عليهم من بني سعد، وهذا بظاهره مشكل لأنه إن ثبت عنده كون القتل بسببه يجب أن يحكم بكل الدية وإن لم يثبت يلزم أن لا يحكم بشيء، فما معنى إيجاب الشطر؟ وجوابه أنه حكم مصلحةً ورفعاً للنزاع واستطابةً للأنفس، لا على وجه القضاء. قال مولانا ولي الله المحدِّث الدهلوي في رسالة تدوين مذهب عمر المدرجة في كتابه "إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء" بعد ذكر هذا الأثر. قال مالك ليس العمل على هذا، وقال الشافعي نحواً من ذلك، قلت: إن البداية إما بالمدَّعى عليهم فأظن أن عمر كان عنده أنه يجوز أن يبدأ بهؤلاء وهؤلاء، فالبداية بالمدَّعى عليهم هو القياس والبداية بالمدَّعين محوَّل عن القياس احتياطاً لأمر القتل، وأما قضاؤه بنصف الدية على السعديين فيَجري فيه ما قال البغوي في حديث جرير بن عبد الله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بنصف العقل، الحديث، فقال أي البغوي: أمر بنصف الدية استطابةً لأنفس أهليهم أو زجراً للمسلمين في ترك التثبُّت عند وقوع الشبهة، والأوجه عندي أنه على طريق الصلح يشهد له كتاب عمر إلى أبي عبيدة بن الجَرَّاح: واحرص على الصلح إذا لم يستبِنْ لك القضاء. انتهى.
(5) قوله: أبو ليلى، هو أبو ليلى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري، ويقال: اسمه عبد الله تابعي صغير ثقة، كذا في "شرح الموطأ" للزرقاني، وفي "إسعاف المبطَّأ" للسيوطي: أبو ليلى ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن(3/37)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَهْلِ (1) بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أنه أخبره رجال (2) من كبراء
__________
سهل الأنصاري المدني، عن سهل بن أبي حثمة، عن رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قومه حديث القسامة، وعنه مالك، وقال ابن سعد: اسمه عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن، وكذا هو المسند. انتهى، وفي "تقريب التهذيب ": أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري المدني يقال: اسمه عبد الله ثقة. انتهى. وقد أخطأ القاري حيث ظن أنَّ أبا ليلى هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى الكوفي المشهور بابن أبي ليلى، أو والده حيث قال: قال صاحب المشكاة في "أسماء رجاله": إن عبد الرحمن بن أبي ليلى سمع أباه وخلقاً كثيراً من الصحابة، وعنه الشعبي ومجاهد وهو في الطبقة الأولى من فقهاء الكوفة وتابعيها. انتهى. ويُطلق أبو ليلى على الوالد وولده، انتهى كلامه، وهذا مبني على الغفلة عن كتب الرجال، فإن ابن أبي ليلى المشهور هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو المراد بابن أبي ليلى إذا أُطلق في كتب المحدثين، واسم أبي ليلى يسار - ويقال داود - صحابي، وإذا أُطلق ابن أبي ليلى في كتب الفقه فالمراد به هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، كما بسطه ابن الأثير في "جامع الأصول" وغيره، وأبو ليلى المذكور ههنا ليس هو أبو ليلى المذكور والد عبد الرحمن، ولا هو عبد الرحمن بل هو غيرهما.
(1) قوله: عن سهل بن أبي حثمة، هو أبو عبد الرحمن، وقيل أبو يحيى سهل بن أبي حَثْمة - بفتح الحاء وسكون الثاء المثلثة - الأنصاري المدني، واسم أبي حثمة عبد الله، وقيل: عامر بن ساعدة بن عامر بن عدي صحابي صغير بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد إلاَّ بدراً، قاله ابن أبي حاتم، وقال ابن القطان: هذا لا يصح، وذكر ابنْ حِبّان والواقدي وأبو جعفر الطبري وابن السكن والحاكم وغيره: إنه كان ابن ثمان سنين حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الذهبي أنه مات في خلافة معاوية، كذا في "تهذيب التهذيب" و"تقريب التهذيب" و "جامع الأصول" وغيرها.
(2) قوله: رجال من كبراء قومه، قال الحافظ ابن حجر في "مقدمة فتح(3/38)
قَوْمِهِ أَنَّ عبدَ اللَّهِ (1) بْنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصة (2) خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ (3) مِنْ جَهْدٍ (4) أَصَابَهُمَا، فأُتي مُحيّصة فَأُخْبِر (5) أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتل، وطُرِح فِي فَقِيرٍ (6) أَوْ (7) عَيْنٍ، فَأَتَى (8) يهودَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ
__________
الباري": هم محيّصة وحويّصة ابنا مسعود، وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل.
(1) قوله: أن عبد الله بن سهل، هو وأخوه عبد الرحمن الذي بدر الكلام حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر حديث قتل عبد الله، فقال له رسول الله: كبِّر كبِّر، ابنان لسهل بن زيد بن كعب بن عامر بن عدي الأنصاري، أما عبد الله فقُتل بخيبر، وبسببه كانت القسامة، وأما عبد الرحمن فشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، واستعمله عمر بن الخطاب في خلافته على البصرة. وهما ابنا أخي حويّصة ومحيّصة ابني مسعود بن كعب بن عامر بن عدي الحارثي الخزرجي، شهد محيّصة المشاهد كلها وهو أصغر من حويصة وقد أسلم قبله، فإن إسلامه كان قبل الهجرة، وعلى يده أسلم حويصة، كذا ذكره ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة في معرفة الصحابة".
(2) ضبطه ابن الأثير بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الياء المثناة التحتية المشدّدة بعدها صاد مهملة.
(3) عند مسلم: خرجوا إلى خيبر في زمن رسول الله وهي يومئذٍ صلح وأهلها يهود.
(4) بفتح الجيم وضمه أي قحطٌ وفقرٌ أَصَابهما.
(5) بصيغة المجهول، وكذا ما قبله.
(6) قوله: في فقير، قال النووي: هو البئر القريبة القعر، الواسعة الفم، وقيل: الحفرة التي تكون حول النخل، وفي "موطأ يحيى": قال مالك: الفقير هو البئر.
(7) شك من الراوي.
(8) أي محيصة.(3/39)
مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قدِم (1) عَلَى قَوْمِهِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ (2) لَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ (3) وحُوَيّصة (4) ، - وَهُوَ أَخُوهُ أَكْبَرُ مِنْهُ (5) - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ (6) بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ (7) لِيَتَكَلَّمَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كبِّر كبِّر، يُرِيدُ السِّنَّ (8) فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِمَّا أَنْ (9) يدُوا صاحبكم وإما أن يُؤْذَنُوا بحربٍ،
__________
(1) أي في المدينة.
(2) أي ما جرى له.
(3) أي محيصة.
(4) بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتشديد الياء المثناة التحتية المكسورة بعدها صاد مهملة، كذا في "جامع الأصول".
(5) أي من محيصة.
(6) هو أخو المقتول.
(7) أي محيصة وإنما بدر لكونه حاضراً في الواقعة، وفي رواية لمالك: فذهب عبد الرحمن ليتكلم.
(8) قوله: يريد السِنّ، أي يريد رسول الله من قوله كبِّر كبِّر كبيرَ السن، وفيه إرشاد إلى الأدب يعني أنه ينبغي أن يتكلم الأكبر سنّاً أوَّلاً.
(9) قوله: إمّا أن يَدُوْا، بفتح الياء وضمِّ الدال المخفّفة من الدية، يعني إمّا أن يُعطوا دية صاحبكم المقتول، وإما أن يُخْبَروا ويُعْلَمُوا بحرب من الله ورسوله، والضميران لليهود أي يهود خيبر الذين وُجد القتيل فيهم، وفي كثير من نسخ هذا الكتاب إما أن تَدُوا، وإما أن تُؤْذَنُوا بصيغة الخطاب، وحينئذٍ فالخطاب لبعض اليهود والحاضرين، والأول أظهر.(3/40)
فَكَتَبَ (1) إِلَيْهِمْ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فَكَتَبُوا لَهُ: إِنَّا (3) وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُوَيِّصَةَ (4) وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَحْلِفُون (5)
__________
(1) أي أمر رجلاً من أصحابه بكتابته.
(2) أي إلى يهود خيبر.
(3) زاد في رواية: ولا علمنا قاتله.
(4) قوله: لحويصة ... إلخ، هذا ظاهر في عود الحلف إلى المدعين بعد تحليف المدَّعى عليهم وهو مخصوص من حديث "البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر"، وإليه ذهب جمع من الأئمة، واستدل أصحابنا بعموم ذلك الحديث، وقالوا: ليس اليمين في القسامة إلاَّ من جانب المدعى عليهم، وذكر الطحاوي في "شرح معاني الآثار" ناصراً لهم أن قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار أتَحْلِفُون وتستحِقُّون دمَ صاحبكم؟ إنما كان على النكير، كأنه قال: أتدَّعون وتأخذون؟ وذلك أنه قال لهم تبرئكم يهود بخمسين يميناً بالله ما قتلنا، فقالوا: كيف نقبل أَيْمان قوم كفار؟ فقال لهم: أتحلفون أي أن اليهود وإن كانوا كفاراً فليس عليهم فيما تدَّعون عليهم غير أيمانهم، فلا يجب على اليهود شيءٌ بمجرد دعواكم. ثم أخرج الطحاوي عن عمر أنه استحلف المدعى عليهم وأوجب عليهم الدية. وفي المقام تفصيل ليس هذا موضعه.
(5) قوله: في "موطأ يحيى": أتحلفون؟ بهمزة الاستفهام.
(1) أي لأنّا لم نشاهده وإنما نقول بالظن.
(2) فكيف نقبل أيمانهم؟.
(3) أي أعطى ديته.
(4) قوله: من عنده، وفي رواية للبخاري ومسلم: فَوَدَاه بمائة إبل من(3/41)
وتَستَحِقُّون دمَ صَاحِبِكُمْ، قَالُوا: لا (1) ، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ، قَالُوا: لا، لَيْسُوا (2) بِمُسْلِمِينَ. فَوَدَاه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده (4) ،
__________
الصدقة، وجُمع باحتمال أنه اشتراها من إبل الصدقة، وقال في "المفهم": رواية "مِنْ عِنْدِه" أصح (انظر بذل المجهود 18/45، ولا مع الدارري 10 /200) .
(1) ذكر ذلك ليتبين ضبطه للواقعة.
(2) أي برجلها.
(3) أي يريد استحقاق الدم بالدية لا بالقصاص.
(4) قوله: قوله في أول الحديث ... إلخ، يعني أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في أول الحديث إما أن تَدُوا صاحبكم وإما أن تُؤْذَنوا بحرب يدلُّ على أن الواجب ههنا الدية لا القود لعدم علم القاتل بعينه، فهذا دليل واضح على أن المراد بقوله في آخر الحديث تستحقون دم صاحبكم خطاباً للأنصار استحقاق الدية لا القصاص، كيف ولو كان كذلك لقال تستحقون دم من ادَّعيتم عليه لأن المستحق في القصاص إنما هو دم القاتل المدعى عليه لا دم المقتول، فلما قال: دم صاحبكم صار هذا دليلاً آخر على أن المراد الدية الذي هو بدل دم المقتول.
(5) بصيغة الخطاب خطاب لليهود وإضافة صاحبكم لأدنى مُلابسة والظاهر فيه وفي قرينه الغيبوبة.
(6) أي على ما هو المراد منه.(3/42)
فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِائَةِ نَاقَةٍ حَتَّى أُدخلت عَلَيْهِمُ الدَّارَ (1) . قَالَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي (2) مِنْهَا ناقةٌ حَمْرَاءُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتَحْلِفُون وَتَسْتَحِقُّونَ دمَ صَاحِبِكُمْ، يَعْنِي (3) بِالدِّيَةِ لَيْسَ بالقَوَد، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ قَوْلُهُ (4) فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ إِمَّا أَنْ تَدُوا (5) صاحبَكم، وَإِمَّا أَنْ تؤذَنوا بِحَرْبٍ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (6) ، وَهُوَ قَوْلُهُ: تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دمَ صَاحِبِكُمْ، لأنَّ الدَّمَ (7) قَدْ يُستَحَقُّ بالدِّية كَمَا يُستَحَقُّ بالقَوَد، لأنَّ (8) النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ (9) لَهُمْ (10) : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ مَنِ ادَّعَيْتُم (11) فَيَكُونَ هَذَا عَلَى الْقَوَدِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَهُمْ (12) : تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ (13) فَإِنَّمَا عَنَى بِهِ (14) تَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ بِالدِّيَةِ، لأَنَّ (15) أَوَّلَ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ (16) وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا أن تَدُوا صاحبكم، وإما
__________
(7) قوله: لأن الدم، أي كما يُطلق استحقاق الدم في القصاص كذلك يُطلق على استحقاق الدية. فقوله: تستحقون دم صاحبكم لا ينافي هذا المعنى، وإنه وإنْ كان يشمل المعنى الآخر أيضاً لكن صدر الحديث دلَّ على تعيين المراد.
(8) قوله: لأن، الظاهر أنه دليل آخر، لكون المراد باستحقاق دم صاحبكم استحقاق الدية فلو كان بحرف الفصل لكان أولى.
(9) أي حتى يكون ظاهراً في القَوَد.
(10) أي للأنصار.
(11) أي عليه أي المدَّعى عليه.
(12) أي الأنصار.
(13) أي المقتول.
(14) أي أراد به.
(15) قوله: لأن أول الحديث، هذا عود إلى الدليل الأول ولو لم يستعين به ههنا لكان أحسن.
(16) قوله: على ذلك، أي على وجوب الدية، وبهذا يظهر أن قوله صلى الله عليه وسلم في بعض طرق حديث القسامة يبرّئكم اليهود بأَيْمانها، ليس المراد منه البراءة مطلقاً، كما اختاره الشافعي ومالك وأحمد والليث وأبو ثور حيث قالوا: لا تجب الدية إذا حلف المدّعى عليهم بل البراءة من القصاص، وقد ثبت عن عمر فيما أخرجه(3/43)
أَنْ تُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، وَقَدْ قَالَ (1) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: القَسامةُ تُوجِبُ العَقْل (2) ، وَلا تُشِيْطُ (3) الدَّمَ فِي أَحَادِيثَ (4) كَثِيرَةٍ، فَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
الطحاوي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وغيرهم أنه جمع بين القسامة والدية، كما بسطه العيني وغيره.
(1) قوله: وقد قال عمر، استشهاد على وجوب الدية في القسامة دون القود.
(2) بالفتح أي الدية.
(3) قوله: ولا تشيط، من أشاط الدم أبطله وشاط دمه بطل من باب ضرب، وأشاطه السلطان أي أبطله وأهدره، كذا في "المُغرب".
(4) أي هذا الذي أفاده عمر وارد في أحاديث كثيرة.(3/44)
كتاب الحدود (1) في السرقة (2)
1 - بَابُ الْعَبْدِ يَسْرِقُ مِنْ مَوْلاهُ
681 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ
__________
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/45)
عَبْدَ اللَّهِ (1) بْنَ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيَّ جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعبدٍ لَهُ، فَقَالَ: اقْطَعْ هَذَا فَإِنَّهُ سَرَقَ، فَقَالَ: وماذا سرق؟ فقال: سَرَقَ مِرْآةً (2) لامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ دِرْهَمًا، قَالَ عُمَرُ: أرسِلْه لَيْسَ (3) عَلَيْهِ قَطْعٌ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ. أيَّما رَجُلٍ له عبد سرق من
__________
(1) قوله: أن عبد الله بن عمرو، بفتح العين ابن الحَضرمي بفتح المهملة اسمه عبد الله بن عمَّار، وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي، قُتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة كافراً، قال في "الإِصابة": ومقتضى موت أبيه أن يكون له عند الوفاة النبوية نحو تسع سنين، كذا ذكره الزقاني.
(2) بكسر الميم وسكون الراء على وزن مفتاح: آلة نظر الوجه.
(1) قوله: أن عبد الله بن عمرو، بفتح العين ابن الحَضرمي بفتح المهملة اسمه عبد الله بن عمَّار، وهو ابن أخي العلاء بن الحضرمي، قُتل أبوه في السنة الأولى من الهجرة كافراً، قال في "الإِصابة": ومقتضى موت أبيه أن يكون له عند الوفاة النبوية نحو تسع سنين، كذا ذكره الزقاني.
(2) بكسر الميم وسكون الراء على وزن مفتاح: آلة نظر الوجه.
(3) قوله: ليس عليه قطع، أي لا يجب عليه بسرقته قطع اليد، فإنه خادمكم سرق متاعكم، والخادم إذا سرق متاع مولاه لا يجب عليه القطع (وروى ابن الموّاز عن مالك أن عبد إذا سرق من متاع زوجة سيده من بيت أذن له في دخوله فلا قطع عليه، وإن سرقه من بيت لم يؤذَن له في دخوله فإنه يقطع، وكذلك عبد الزوجة يسرق من مال الزوجة. المنتقى 7/184. وقد أخرج هذا الأثر الشافعي أيضاً من طريق مالك والدارقطني من طريق سفيان عن الزهري، ذكره في "التلخيص".
(4) قوله: وبهذا نأخذ، المسألة مختلف فيها بين الأئمة على ما هو مبسوط(3/46)
ذِي رَحِمٍ (1) مُحَرَّمٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوْلاهُ أَوْ مِنِ امْرَأَةِ مَوْلاهُ أَوْ مِنْ زَوْجِ مَوْلاتِهِ فَلا قَطْعَ عَلَيْهِ فِي مَا يَسْرِقُ وَكَيْفَ (2) يَكُونُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِيمَا سَرَقَ مِنْ أُخْتِهِ أَوْ أَخِيهِ أَوْ عمَّته أَوْ خَالَتِهِ، وَهُوَ (3) لَوْ كَانَ مُحْتَاجًا زَمِناً (4) أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَانَتْ (5) مُحْتَاجَةً أُجبر عَلَى (6) نَفَقَتِهِمْ فَكَانَ لهم (7) في ماله نصيب،
__________
في "الهداية" و"البناية"، فعندنا من سرق من أبويه أو ولده أو ذي رحم محرم منه كالأخ والأخت والعمّ والخال لا يُقطع، وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر والخرقي من أصحاب أحمد: يقطع السارق من أبويه، وكذا من الجَدّ وإنْ علا، وكذا من الولد، وفي السرقة من ذي رحم محرم غير قرابة الولاد خلاف الأئمة الثلاثة، فعندهم يقطع، والوجه لنا أن في مثل هذه القرابات يكون بسط في الأموال، والدخول في الحرز بغير إذن بخلاف غيرها من القرابة البعيدة، وكذلك السرقة من مال سيّده أو سيدته أو زوجة سيده أو زوج سيدته، وقال مالك وأبو ثور وابن المنذر: يجب القطع بسرقة العبد من مال سيدته أو من زوجة سيده أو من زوج سيدته وقال داود يقطع بسرقة مال السيد أيضاً.
(1) أي ذي قرابة للعبد ومحرمه.
(2) أي كيف يجب عليه القطع.
(3) أي والحال أن السارق.
(4) الزَّمِن بفتح الأول وكسر الثاني، مرد برجامانده ومبتلاشده وآفت رسيده (في الفارسية) ، كذا في "المنتخب".
(5) أي الأخت وغيرها.
(6) الظاهر: أُجبروا على نفقته فكان له في مالهم نصيب.
(7) أي لكل واحد من السارق ومن سرق منه ممن ذُكر في مال الآخر.(3/47)
فَكَيْفَ يُقْطَعُ (1) مَنْ سَرَقَ مِمَّنْ لَهُ (2) فِي مَالِهِ (3) نَصِيبٌ؟! وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
2 - بَابُ مَنْ سَرَقَ ثَمَرًا (4) أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحْرَزْ (5)
682 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ (6) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن
__________
(1) قوله: فكيف يقطع ... إلخ، يشير إلى أصل كلي، وهو أن السارق إذا سرق من مال له فيه نصيب أو شركة أو حق، والسارق من رجل له أي للسارق في ماله أي ذلك الرجل نصيب بوجه من الوجوه لا يجب القطع، ويتفرَّع عليه فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ويؤيده ما في "البناية" و "التلخيص" أن أبي شيبة أخرج عن وكيع، عن المسعودي، عن القاسم أنَّ رجلاً سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد إلى عمر، فقال: لا قطع عليه، ما من أحد إلاَّ وله فيه حق. وأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" أنَّ علياً أُتي برجل سرق من المغنم فقال: له فيه نصيب وهو خائن، فلم يقطعه، وكان قد سرق مِغْفراً. وفي سنن ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس أن عبداً سرق من الخُمس، فرُفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه، وقال: مال الله يسرق بعضه بعضاً.
(2) أي للسارق.
(3) أي مال المسروق منه.
(4) بالمثلثة.
(5) قوله: مما لم يُحْرَزْ، أي لم يُحفظ، والحرز على نوعين: أحدهما: أن يكون بالمكان المعدّ لحفظ الأموال كالدور والصندوق والحانوت وغيرها، وثانيهما: أن يكون بصاحب المتاع، فإذا سرق مالاً محرزاً وجب القطع وإلاَّ لا.
(6) قوله: حدثنا عبد الله ... إلخ، هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن عامر بن نوفل المكي القرشي النوفلي، روى عن(3/48)
أَبِي حُسَيْنٍ أَنّ (1) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا قَطْعَ (2) فِي ثَمَرٍ معلَّق (3) ، وَلا فِي حريسةِ جَبَل (4) ، فَإِذَا (5) آوَاهُ المُرَاحُ أو الجَرِيْنُ فالقطع في ما بلغ
__________
أبي الطفيل وأبي بكر بن حزم، وعنه شعبة ومالك وأمم، ثقة، عالم بالمناسك، كذا في "كاشف الذهبي" و "التقريب".
(1) قوله: أن، قال ابن عبد البَرّ: لم يختلف رواة الموطأ في إرسال (وفي "المحلى": مرسل في الموطأ ومسند عند الترمذي والنسائي بإسنادهما. الأوجز 13/285) هذا الحديث في " الموطأ " ويتصل معناه من حديث عبد الله بن عمرو وغيره.
(2) لعدم كونه محرزاً.
(3) أي على الشجر.
(4) قوله: ولا في حريسة جبل (قال الباجي: حريسة جبل - والله أعلم - الماشية التي تحرس في الجبل راعية. المنتقى 7/159) ، قال ابن الأثير الجزري في "النهاية": أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سُرق قَطْع، لأنه ليس بمحرز، والحريسة: فعلية بمعنى مفعولة أي أن لها من يحرسها ويحفظها، ومنهم من يجعل الحريسة السرقة نفسها، يقال: حرس يحرس حرساً إذا سرق أي ليس فيما يسرق من الماشية بالجبل قطع.
(5) قوله: فإذا آواه، بمدّ الهمزة من الإِواء، والمُراح بضم الميم: مبيت الغنم والإِبل الذي تروح إليه في المساء، والجَرين - بفتح الجيم - موضع يجفَّف فيه الثمار، وفيه لفّ ونشر غيرُ مرتَّب أي فإذا جمعت الماشية في المراح والثمار بعد القطع في الجرين فسُرق منها شيء لزم القطع لوجود الحرز، قال ابن العربي: اتفقت الأمة على أن شرط القطع أن يكون المسروق مُحْرَزاً ممنوعاً من الوصول إليه(3/49)
ثَمَنَ المِجَنّ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ سَرَق ثَمَرًا فِي رَأْسِ النَّخْلِ أَوْ شَاةً فِي الْمَرْعَى (2) فَلا قَطْعَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُتِيَ (3) بِالثَّمَرِ الجرينَ أَوِ الْبَيْتَ وأُتي بِالْغَنَمِ المُرَاحَ، وَكَانَ لَهَا (4) مَنْ يَحْفَظُها، فَجَاءَ سَارِقٌ سَرَقَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا يُسَاوِي ثَمَنَ المِجَنِّ، فَفِيهِ القطعُ، والمِجنّ كان (5) يساوي يومئذٍ عَشَرَةَ (6)
__________
بمانع خلافاً لقوله الظاهرية: لا قطع في كل فاكهة رطبة ولو بحرزها، وليس مقصود الحديث ما ذهبوا إليه بدليل قوله: فإذا آواه.
(1) بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون: التُّرْس، وبالفارسية سبر.
(2) بفتح الميم أي موضع الرعي.
(3) أي قُطع وجُمع في الجرين.
(4) قوله: وكان لها من يحفظها، قال القاري: كذا في الأصل، والظاهر أنه أو كان لها أي لكل من المذكورات.
(5) قوله: والمِجَنّ كان يساوي يومئذٍ، أي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال العيني في " البناية ": اختلفوا في ثمن المجن الذي قطع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: كان عشرة دراهم، وقيل: ثلاثة دراهم، وقيل: خمسة دراهم، فقال الشافعي ومالك: أقل ما نقل في تقديره ثلاثة دراهم، والأخذ بالمتيقن أولى غير أن الشافعي قال: كانت قيمة الدينار على عهد الرسول اثنا عشر درهماً، والثلاثة ربعها، واحتج بما روى الترمذي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار، واحتج مالك بما روي عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقاً في مِجَنّ، قيمته ثلاثة دراهم، ولنا أن الأخذ بالأكثر في هذا الباب أولى احتياطاً للدرء والحدود تندرئ بالشبهات.
(6) قوله: عشرة دراهم، هذا منقول عن إبراهيم النَّخَعي وابن عباس(3/50)
دَرَاهِمَ، وَلا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
683 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد، عن (1) محمد بن
__________
غيرهما، ففي "كتاب الآثار" للمصنف: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قال: لا يُقطع يد السارق في أقل من ثمن المِجَنّ، وكان ثمنه عشرة دراهم. قال: قال إبراهيم أيضاً: لا يُقطع في أقلّ من ثمن المِجَنّ وكان ثمنه يومئذٍ عشرة دراهم، ولا يُقطع في أقلّ من ذلك. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق محمد بن إسحاق، عن أيوب، عن موسى، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كان قيمة المِجَنِّ الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. وأخرج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو مثله، وأخرج من طريق سفيان عن منصور، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن الحبشي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنى ما يُقطع فيه السارق ثمن المجن. قال: وكان يقوَّم يومئذٍ بدينار. وأخرج من طريق شريك، عن منصور، عن عطاء، عن أيمن بن أمّ أيمن، عن أمّ أيمن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلاَّ في جحفة. وقُوّمت على عهد رسول الله ديناراً أو عشرة دراهم. ومثله مخرَّج عند النسائي وأبي داود والحاكم (أخرجه الحاكم بسنده عن ابن عباس وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. وشاهده حديث أيمن، وأقرَّه عليه الذهبي. انظر الأوجز 13/284) عن ابن عباس، وعند النسائي عن أيمن، وعند ابن أبي شَيْبة وغيره، والبسط في "تخريج أحاديث الهداية" للزيلعي وابن حجر.
(1) قوله: عن محمد بن يحيى بن حَبّان أن غلاماً ... إلخ، في رواية الطحاوي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن عمِّه واسع بن حبان أن عبداً سرق، الحديث.(3/51)
يَحْيَى بْنِ حَبّان أنَّ غُلامًا (1) سَرَقَ وَدِيّاً (2) مِنْ حَائِطِ (3) رَجُلٍ، فَغَرَسه (4) فِي حائطِ سيّدِه، فخَرَج صاحبُ الوَدِيّ يَلْتَمِسُ (5) وَدِيَّه فَوَجَدَهُ، فَاسْتَعْدَى (6) عَلَيْهِ مروانَ (7) بنَ الْحَكَمِ، فسجنَه وَأَرَادَ قطعَ (8) يَدِهِ، فَانْطَلَقَ سيِّدُ الْعَبْدِ (9) إِلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيج (10) ، فسأله (11) فأخبره أنه سمع
__________
(1) أي عبداً وكان لعمِّه واسع بن حبان، واسمه فيل، كما في "التمهيد".
(2) قوله: وَدِيّاً (قال الباجي: الوديّ الفسيل وهو صغار النخل. المنتقى 7/182) ، بفتح الواو وكسر الدال وتشديد الياء: غصن من النخل يُقطع منه فيُغرس، كذا في "المغرب".
(3) الحائط بمعنى البستان.
(4) أي ذلك الودي.
(5) أي يطلبه.
(6) أي صاحب الوديّ على العبد عند مروان، يقال: استعدى فلان الأمير على فلان أي استعان، فأعداه عليه أي نصره، والاستعداء طلب المعونة، كذا في "المغرب".
(7) وهو أمير المدينة من جهة معاوية.
(8) أي حبس مروان ذلك العبد وقَصَد قَطْعَه.
(9) أي واسع بن حَبّان، كما في رواية.
(10) بفتح الخاء وكسر الدال.
(11) أي عن حكم هذه الواقعة.(3/52)
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (1) : لا قَطْعَ فِي ثمرٍ وَلا كَثَرٍ.
__________
(1) قوله: يقول لا قطع ... إلخ، هذا الحديث أخرجه أحمد والأربعة، وصححه ابن حبان من طرق عن مالك وغيره عن يحيى بن سعيد، قال ابن العربي: فإنْ كان فيه كلام فلا يُلتفت إليه. وقال الطحاوي: تلقت الأئمة متنه بالقبول. وقال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو تحريف) بن عبد البَرّ: هذا حديث منقطع، لأن محمداً لم يسمعه من رافع، وتابع مالكاً عليه سفيانُ الثوري والحمّادن وأبو عَوَانة ويزيد بن هارون وغيرهم. ورواه سفيان بن عيينة، عن يحيى بن محمد، عن عمّه واسع، عن رافع. وكذا رواه حماد بن دليل المدائني، عن شعبة، عن يحيى بن سعيد به، فإن صح هذا فهو متصل مسند صحيح، لكن قد خُولف ابن عيينة في ذلك، ولم يُتابَع عليه إلاَّ ما رواه حماد بن دليل، فقيل: عن محمد، عن رجل من قومه، وقيل: عنه، عن عمة له، وقيل: عنه، عن أبي ميمونة، عن رافع، وخولف عن حماد أيضاً، فرواه غيره عن شعبة، عن يحيى، عن محمد، عن رافع، والظاهر أنَّ مثل هذا الاختلاف غير قادح في ثبوت أصل الحديث، وله شاهد عند أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو، وعند ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وإسنادُ كلِّ منهما صحيح، كذا في "شرح الزرقاني"، وذكر الطحاوي في "شرح معاني الآثار" أنّ قوماً منهم أبو حنيفة ذهبوا إلى أن لا يُقطع في شيء من الثمر والكثر والفواكه الرطبة مطلقاً سواء أُخذ من حائط صاحبه أو منزله بعد ما قطعه وأحرزه فيه، وقالوا أيضاً: لا قطع في جريد النخل ولا في خشبه، لأن رافعاً لم يسأل عن قيمة الوديّ وعما كان فيه من الجريد والخشب، وخالفهم في ذلك آخرون منهم أبو يوسف، فقالوا: هذا الذي حكاه رافع محمول على الثمر والكثر المأخوذَيْن من الحوائط التي ليست بحرز، فأما ما كان من ذلك مما قد أُحرز فحكمه حكم سائر الأموال، يجب القطع على من سرق منه قدر المقدر الذي يجب فيه القطع واحتجوا في ذلك بحديث: فإذا آواه المُراح أو الجرين، وأجاب عنه صاحب " الهداية " من قِبَل أبي حنيفة أن(3/53)
والكَثَر (1) الجُمّار. قَالَ الرَّجُلُ (2) : إِنَّ مَرْوَانَ أَخَذَ غُلامِي وَهُوَ يُرِيدُ قطعَ (3) يَدِهِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ (4) فَتُخْبِرَهُ بِالَّذِي سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَشَى (5) مَعَهُ حَتَّى أَتَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: أخذتَ (6) غلامَ هَذَا؟ فَقَالَ (7) : نَعَمْ، قَالَ: فَمَا أنت صانع (8) قال: (9) : أريد قطع يده،
__________
قوله: فإذا آواه الجرين مخرج على العادة فإنَّ عادتهم كان على أنهم لا يضعون في الجرين إلاَّ اليابس، فلا قيد القطع إلاَّ في اليابس وهو كذلك عنده أيضاً لا في الفواكه الرطبة، وفيه نظر ظاهر.
(1) قوله: والكَثَر، هو بفتحتين: الجُمّار - بضم الجيم وتشديد الميم في آخره راء مهملة - قال الجوهريّ: هو شحم النخل، وفي "المغرب": جمر شعره: جَمَعه على قفاه، ومنه الجُمّار للنخلة، وهو شيء أبيض ليِّن يخرج من النخلة، ومن قال: الجُمّار هو الوديّ، وهو التافه من النخل، فقد أخطأ. انتهى. قال الزرقاني: هذا التفسير مدرج، ففي رواية شعبة: قلت ليحيى بن سعيد: ما الكَثَر؟ فقال: الجُمّار.
(2) هو واسع بن حبّان.
(3) أي بسبب سرقته.
(4) أي إلى مروان.
(5) أي رافع مع واسع.
(6) استفهام بحذف حرفه، وفي "موطأ يحيى" بذكره.
(7) في نسخة: قال.
(8) أي ما تفعل به؟.
(9) أي مروان.(3/54)
قَالَ (1) : فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلا كَثَر، فَأَمَرَ مَرْوَانُ بِالْعَبْدِ فأُرسل (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ معلَّقٍ فِي شَجَرٍ وَلا فِي كَثَر - والكَثَر (3) الجُمَّار (4) - وَلا فِي وَدِيّ وَلا فِي شَجَرٍ (5) . وهو قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) أي رافع.
(2) أي أُطلق من السجن.
(3) إعادة للتفسير السابق تنبيهاً على الموافقة.
(4) قال في "المنتخب": الجُمّار: مغز ميانه درخت خرمه كه آنرا شحم النخل كَويند.
(5) أي ولا قطع في وديّ (فعطف الوديّ على الكثر، فالأوجه في الاستدلال ما قال الشيخ في "البذل" 17/336: وكتب مولانا يحيى المرحوم في "التقرير": أثبت الحكم في الودي مقايسة، والجامع عدم الإِحراز أو كونه مما يتسارع إليه الفساد أو كونه تافهاً. أوجز المسالك 13/322) ولا في شجر.(3/55)
3 - بَابُ الرَّجُلِ يُسرَق (1) مِنْهُ الشَّيْءُ يَجِبُ (2) فِيهِ القطع فيهبه (3) السارقَ بعد (4) ما يَرْفَعُهُ إِلَى الإِمَامِ
684 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا الزُّهْرِيُّ، عَنْ صَفْوَانَ (5) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ: قَالَ: قِيلَ (6) لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: إِنَّهُ (7) مَنْ لَمْ يُهاجر هَلَكَ، فَدَعَا (8) بِرَاحِلَتِهِ، فَرَكِبَهَا حَتَّى قَدِم (9) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
__________
(1) قوله: عن صفوان، هو صَفوان - بالفتح - بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي المكي من التابعين. قال العجلي: ثقة، وجَدُّه صفوان صاحب القصة، هو ابن أمية بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، كذا في"الإسعاف" و "التقريب".
(2) قوله: قال: قيل لصفوان بن أمية، هو جدّ الراوي، قال ابن عبد البر: رواه جمهور أصحاب مالك هكذا مرسلاً، ورواه عاصم النبيل وحده عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن جدّه صفوان فوصله، ورواه شبابة بن سوار، عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أبيه.
(3) كأن قائله ظن أن الهجرة مفروضة، ولم يسمع بحديث: لا هجرة بعد الفتح.
(4) أي صفوان.
(5) قوله: عن صفوان، هو صَفوان - بالفتح - بن عبد الله بن صفوان بن أمية الجمحي المكي من التابعين. قال العجلي: ثقة، وجَدُّه صفوان صاحب القصة، هو ابن أمية بن خلف بن وهب بن قدامة بن جمح القرشي صحابي من المؤلَّفة، مات أيام قتل عثمان، كذا في"الإسعاف" و "التقريب".
(6) قوله: قال: قيل لصفوان بن أمية، هو جدّ الراوي، قال ابن عبد البر: رواه جمهور أصحاب مالك هكذا مرسلاً، ورواه عاصم النبيل وحده عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن جدّه صفوان فوصله، ورواه شبابة بن سوار، عن مالك، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله، عن أبيه.
(7) كأن قائله ظن أن الهجرة مفروضة، ولم يسمع بحديث: لا هجرة بعد الفتح.
(8) أي صفوان.
(9) أي في المدينة.(3/56)
فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِي: إِنَّهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ هَلَكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجعْ أَبَا وَهْبٍ (1) إِلَى أَبَاطِحِ (2) مَكَّةَ، فَنَامَ صَفْوَانُ فِي الْمَسْجِدِ (3) متوسداً (4) رداءَهُ فجاءه سارق فأخذ رداءَه (5) ،
__________
(1) كنية له.
(2) أي إلى واديها جمع أَبْطح بالفتح.
(3) قوله: في المسجد، أي في المسجد النبوي كما قاله الزرقاني، وقال القاري: أي في المسجد المدينة أو مسجد مكة، والحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده من غير وجه عن صفوان: أنه طاف بالبيت وصلَّى ثم لفَّ رداءه فوضعه تحت رأسه فأخذه، فأتي رسولَ الله صلى الله عله وسلم فقال: إن هذا سرق ردائي، فقال: اذهب به، فاقطعه، فقال صفوان: ما كنت أريد أن تُقطع يده في ردائي، قال: فلو كان قبل أن تأتيني به. انتهى. أقول: قد راجعت السنن فليس في سنن أبي داود وابن ماجه ذكر لما ذكرَه بل فيهما نام في المسجد من غير ذكر الطواف وغيره، وكذا في روايات متعددة للنسائي، بل في بعضها تصريح بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكره إنما هو رواية من طريق واحد للنسائي (قال شيخنا: قلت: والتصريح بمسجد النبي أيضاً في رواية واحدة للنسائي، لكن الظاهر من سياق جميع الروايات في هذه القصة كونها في المدينة المنورة، فالظاهر المسجد النبوي، وفي رواية للبيهقي عن عطاء قال: بينما صفوان مضطجع بالبطحاء إذ جاء إنسان فأخذ بُردة من تحت رأسه، وفي أخرى له عن مجاهد: كان صفوان رجلاً من الطلقاء، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأناخ راحلته، ووضع رداءه عليها ثم تنحّى يقضي الحاجة فجاء رجل، فسرق رداءه. الحديث. وهذا يخالف جميع الروايات الواردة في القصة. أوجز المسالك 13/297) .
(4) أي جعله تحت رأسه كالوسادة.
(5) قوله: رداءه، وفي رواية أبي داود وغيره: كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهماً.(3/57)
فأَخذَ (1) السَّارِقَ فَأتى (2) بِهِ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّارِقِ أنْ (3) تُقطعَ يَدُهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أُرِدْ (4) هَذَا (5) ، هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلاَّ (6) قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا رُفع السَّارِقُ إِلَى الإِمَامِ أَوِ الْقَاذِفِ (7) ، فَوَهَبَ صاحبُ (8) الحدِّ حدَّه لَمْ يَنْبَغِ (9) للإِمام أَنْ يعطِّل الْحَدَّ، وَلَكِنَّهُ يُمْضِيْه (10) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا.
__________
(1) معروف وما بعده مفعول به أو مجهول وما بعده مفعول ما لم يسمّ فاعله.
(2) أي أتى صفوان بالسارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) أي بأن تقطع يده.
(4) أي لم أقصد قطع يده عليه.
(5) أي الرداء المسروق على السارق صدقة.
(6) أي لولا تصدقتَ قبل أن ترفعه إليَّ فكان ذلك نافعاً وأما الآن فلا (إن وهبه قبل القضاء يسقط القطع بلا خلاف، وإن وهبه بعد القضاء قبل الإِمضاء يسقط عندهما. وقال أبو يوسف: لا يسقط وهو قول الشافعي، وأما هبة القطع لا تسقط الحدّ. انظر: بذل المجهود: 17/344) .
(7) أي من قذف أحداً ووجب عليه حدّ القذف.
(8) أي المسروق منه أو المقذوف.
(9) أي لا يجوز له.
(10) أي ينفِّذَه.(3/58)
4 - بَابُ (1) مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ
685 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عن ابن عمر: أن (2) النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَع (3) فِي مِجَنّ قِيمَتُهُ ثَلاثَةُ دراهم.
__________
(1) قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصحُّ حديثٍ رُوي في ذلك.
(2) قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصحُّ حديثٍ رُوي في ذلك.
(3) أي أَمَر بقطع يده.(3/59)
686 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ (1) ، عَنْ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) : أَنَّ عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَتْ إِلَى مَكَّةَ، وَمَعَهَا (3) مَوْلاتَانِ لَهَا وَمَعَهَا غُلامٌ (4) لِبَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَأَنَّهُ (5) بُعِثَ مَعَ تَيْنِكِ الْمَرْأَتَيْنِ ببُردِ مَراجل قد خِيطت (6) عليه (7) خِرقةُ
__________
(1) ابن محمد بن عمرو بن حزم.
(2) هو ابن سعد بن زرارة.
(3) قوله: ومعها مولاتان لها ومعها غلام، قال الزرقاني: لم أقف على اسم هؤلاء الثلاثة.
(4) أي عبد.
(5) قوله: وأنه بعث ... إلخ، قال القاري: ضمير أنه للشأن، وبُعث بصيغة المجهول، وبُرد مَراجِل - بكسر الجيم وفتح الميم - نوع برد من اليمن. انتهى. وفي "موطأ يحيى"، فبعث مع المولاتين ببرد مرجّل (في "المجمع": عليه مرط مرحل أي نقش فيه تصاوير الرحال بحاء مهملة، وروي بجيم أي صور الرجال. والصواب الأول. الأوجز 13/289) ، وقال الزرقاني: هو بالجيم والحاء الذي عليه تصاوير الرجال أو الرحال كما أفاده أبو عبيد الهروي، ومنع تصوير الحيوان إنما هو إذا تمّ تصويره، وكان له ظل دائم، وهذا مجرد وَشْي في البرد لا ظل له وليس بتام. انتهى. وظاهره أن عائشة بعثت البرد مع المولاتين إلى المدينة أو عَمْرة ليدفع ذلك في المدينة إلى شخص.
(6) أي كاللفافة له وجُعل البرد مخفيّاً فيها.
(7) أي على البرد.(3/60)
خَضْرَاءُ، قَالَتْ (1) : فَأَخَذَ الْغُلامُ البُرد فَفَتَقَ (2) عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَهُ، وَجَعَلَ مَكَانَهُ لِبْداً (3) أَوْ فَرْوة، وَخَاطَ (4) عَلَيْهِ. فَلَمَّا (5) قَدِمنا الْمَدِينَةَ دَفَعْنَا ذَلِكَ البُرد إِلَى أَهْلِهِ (6) ، فَلَمَّا فَتَقُوا عَنْهُ وَجَدُوا ذَلِكَ الِلبْدَ وَلَمْ يَجِدُوا الْبُرْدَ، فَكَلَّمُوا الْمَرْأَتَيْنِ (7) فَكَلَّمَتَا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ كَتَبَتَا (8) إِلَيْهَا وَاتَّهَمَتَا (9) الْعَبْدَ، فسُئل عَنْ ذَلِكَ، فَاعْتَرَفَ (10) فأَمرت به عائشة
__________
(1) أي عمرة.
(2) أي شق ونقض خياطة الخرقة واستخرج البرد.
(3) قوله: لِبْداً، بكسر فسكون، ما يتلبّد من شعر أو صوف، والفَرْوة بالفتح ما يُلبس من جلد الغنم، وهذا شك من الراوي، قاله الزرقاني.
(4) أي الخرقة كما كانت.
(5) قوله: فلما قدمنا، بصيغة المتكلم مع الغير وكذا دفعنا على ما في بعض النسخ، وهي التي شرح عليها القاري، وفي بعضها الأول بصيغة المتكلم مع الغير، والثانية دفعتا بصيغة الماضي الغائب بإرجاع الضمير إلى المولاتين، وفي "موطأ يحيى": فلما قدمتا المدينة دفعتا بصيغة الماضي الغائب المؤنث.
(6) الذي بعث إليه.
(7) أي المولاتين.
(8) قوله: أو كتبتا إليها، أي إلى عائشة وظاهره أن عائشة لم تكن عند ذلك في المدينة ويحتمل أنهما لم يشافهاها، بل كتباها بالقضية مع كونها في المدينة و "أو" ههنا للشك من الراوي.
(9) أي بالسرقة.
(10) أي أقرّ بالسرقة.(3/61)
فقُطعت (1) يَدُهُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ (2) فَصَاعِدًا.
678 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ (3) ، عَنْ عَمْرَة ابْنَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي عَهْدِ (4) عُثْمَانَ أُتْرُجَّةً (5) فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ أَنْ تُقَوَّمَ (6) فقُوّمَتْ (7) بثلاثة دراهم من صَرْف (8)
__________
(1) بصيغة المجهول.
(2) أي من الذهب.
(3) هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم.
(4) أي في زمان خلافته.
(5) قوله: أُتْرُجَّةً، قال القاري: بضم الهمزة وسكون التاء الفوقية وتشديد الجيم: أفضل الثمار المأكولة. وفيها لغات أترنجة بزيادة النون وأترجة بحذفها وترنجة بحذف الهمزة ذكره عياض. انتهى. وفي "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر، قال مالك: الأترجة هي التي يأكلها الناس، وقال ابن كنانة: كانت أترجة من ذهب قدر الحمصة يجعل فيها الطيب، ورُدّ عليه بأنها لو كانت من ذهب لم تُقَوَّمْ.
(6) من التقويم.
(7) وكان الأُتْرُجّ في تلك الأيام غالي القيمة.
(8) أي كان الصرف في تلك الأيام ما يكون الدينار واثنا عشر درهماً فيه متساويين، فيكون ثلاثة دراهم وربع دينار متساويين(3/62)
اثني عَشَرَ دراهماً بِدِينَارٍ، فَقَطَعَ عثمانُ يدَه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَا (1) يُقطع فِيهِ الْيَدُ: فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: رُبْعُ دِينَارٍ (2) ورَوَوْا هَذِهِ الأَحَادِيثَ (3) ، وَقَالَ الْعِرَاقُ: لا تُقطع الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَرَوَوْا (4) ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،
__________
(إن العبرة عند الإِمامين مالك وأحمد لربع دينار أو ثلاثة دراهم في الذهب والفضة، وأما في غيرهما فالتقويم بأقلهما عند أحمد في المشهور عنه وبثلاثة دراهم لا غير عند مالك في المشهور عنه، وأما عند الشافعي فالعبرة لربع دينار مطلقاً سواء كان المسروق من فضة أو غيرها، وعند الحنيفة العبرة بعشرة دراهم سواء كان المسروق ذهباً أو غيره. أوجز المسالك 13/291) .
(1) أي في مقداره.
(2) أي حقيقة أو حكماً كسرقة ما يبلغ ثَمَنُه ثلاثة دراهم.
(3) المذكورة سابقاً عن عائشة وعثمان وابن عمر.
(4) قوله: ورَوَوْا ذلك ... إلخ، فمن ذلك ما أخرجه المصنف في كتاب "الآثار" قال: أخبرنا أبو حنيفة نا القاسم ابن عبد الرحمن عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: لا يُقطع يد السارق في أقلّ من عشرة دراهم. وأخرج عن إبراهيم مثله كما مرّ ذكره. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار: من طريق المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن أن عبد الله بن مسعود قال: لا يُقطع اليد إلا في الدينار أو عشرة دراهم. وأخرج عن ابن جريج قال: كان قول عطاء على قول عمرو بن شعيب، لا يُقطع اليد في أقل من عشرة دراهم. وفي "مسند الإِمام" الذي جمعه الحصفكي: أبو حنيفة، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: كان يُقطع اليد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة دراهم، وفي رواية: إنما كان القطع في عشرة دراهم. قال شارح "المسند": بهذا يظهر الرد على الترمذي حيث قال: قد روي عن ابن مسعود: لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم، وهو مرسل رواه القاسم بن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، والقاسم لم يسمع من ابن مسعود. انتهى. فظهر من كلامه أمران: الأول أن في الحديث انقطاعاً، والثاني: أنه موقوف. والثابت في "المسند: ما ينفي كلا الأمرين ولو كان موقوفاً فله حكم الرفع. انتهى ملخصاً. ومن ذلك حديث أيمن أخرجه الطحاوي والنسائي والحاكم والبيهقي في"الخلافيات" وحديث ابن عباس في قيمة المِجَنّ(3/63)
وَعَنْ عُمَرَ، وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ (1) . فَإِذَا (2) جَاءَ الاخْتِلافُ فِي الْحُدُودِ أُخِذَ فِيهَا بالثِّقة، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
عند الطحاوي والحاكم وأبي داود، وقد مرّ ذكرهما. ومن ذلك ما أخرجه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المِجَنّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم عشرة دراهم، وفي رواية ابن أبي شيبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق دون ثمن المِجَنّ، قال عبد الله بن عمرو: وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم. وأخرجه أحمد من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: لا تُقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم، وكذا إسحاق بن راهويه في "مسنده"، ومن ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب عن رجل من مزينة مرفوعاً: ما بلغ ثمنَ المجن قُطعت يد صاحبه، وكان ثمن المجن عشرة دراهم. وأخرج أيضاً عن القاسم قال: أُتي عمر برجل سرق ثوباً، فقال لعثمان: قوّمْه، فَقوَّمه ثمانية دراهم، فلم يقطعه (فدَرَأ الحدّ، فدلّ أنه كان ظاهراً معروفاً فيما بينهم أن النصاب يتقدر بعشرة دراهم. أوجز المسالك 13/288. والكلام في هذا المقام طويل مذكور في "البناية" و "فتح القدير" وغيرهما.
(1) أي من الصحابة ومن بعدهم.
(2) قوله: فإذا جاء الاختلاف، يعني لما جاء الاختلاف في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بعده ولم يعرف المتقدم والمتأخر ليُعرف الناسخ والمنسوخ أخذنا فيه بالأحوط المعتمد الذي لا يشك فيه وهو عشرة دراهم لأن الحدود تندرئ بالشبهات ولا يثبت إلا بما لا شك فيه، وهذا التقرير أحسن من ردّ أحاديث ربع دينار وثلاثة دراهم، كما فعله بعض أصحابنا فإنه أمر مشكل جداً.(3/64)
5 - باب السارق يسرق و (1) قد قُطعت يدُه أَوْ يَدُهُ ورِجْلُه
688 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أَنَّ رَجُلا (3) مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ أقطعَ (4) الْيَدِ والرِّجْل قَدِمَ (5) ، فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَشَكَا إِلَيْهِ أنَّ عَامِلَ (6) الْيَمَنِ ظَلَمَهُ (7) قَالَ: فَكَانَ يصلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فيقول أبو بكر: وأبيك (8)
__________
(1) أي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(2) أي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
(3) قوله: أن رجلاً، قال الحافظ ابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية": هذه الرواية منقطعة، وقد رُوي موصولاً، أخرجه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وفيه: فشكى إليه أن يعلى بن أمية قَطع يدَه ورجلَه في سرقة وهذا على شرط البخاري، وفيه: قال ابن جريج: كان اسمه جبر أو جبير، وذكره في "التلخيص" (4/70) أن القصة رواها - مثل ما روى مالك - والدارقطنيُّ من طريق أيوب، عن نافع، وسعيدُ بن منصور من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن صفية بنت أبي عبيد، وعبدُ الرزاق، عن معمر، عن نافع، عن ابن عمر.
(4) أي مقطوع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
(5) أي المدينة.
(6) هو يعلى بن أمية، كما في رواية عبد الرزاق
(7) أي في قطعِهِ يدَه ورجلَه.
(8) قوله: وأبيك، قال الزرقاني: قَسَم على معنى وربِّ أبيك أو كلمة جرت(3/65)
مَا لَيْلُكَ بليلِ سارقٍ. ثُمَّ افْتَقَدُوا (1) حُلِيّاً لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْس (2) امرأةِ أَبِي بَكْرٍ، فَجَعَلَ (3) يَطُوفُ (4) مَعَهُمْ، وَيَقُولُ (5) اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِمَنْ بيَّت أهلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ، فَوَجَدُوهُ (6) عِنْدَ صائغٍ زَعَمَ (7) أَنَّ الأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ، فَاعْتَرَفَ بِهِ الأقطع وأشُهِدَ (8) عليه. فأمر به أبو بكر، فقُطعت (9)
__________
على لسان العرب ولا يقصدون به القسم، وكان أبو بكر يقول ذلك تعجُّباً: ما ليلُكَ أي ليس ليلك بليل سارق لأن قيام الليل ينافي السرقة.
(1) في "موطأ يحيى" فقدوا عِقْداً لأسماء.
(2) بالتصغير.
(3) أي المقطوع.
(4) أي يدور مع الذين بُعثوا لتفتيشه.
(5) قوله: ويقول، أي كان ذلك الرجل وكان هو السارق في الواقع إظهاراً لبراءته داعياً: اللهم عليك أي خذ بالعقوبة من بيّت من التبييت أي أغار ليلاً على أهل هذا البيت الصالح، أي بيت أبي بكر الصديق.
(6) أي الحُلِيّ المسروق.
(7) أي قال الصائغ: إن الأقطع جاء به عنده.
(8) بصيغة المجهول شكّ من الرواي.
(9) قوله: فقطعت يده اليسرى، بهذا قال الشافعي: إنّ في الثالثة يُقطع اليد اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يُعزّر ويُحبس. ويوافقه ما أخرجه أبو داود وغيره عن جابر: أن رسول الله جيء بسارق، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: فاقطعوا، ثم جيء به في المرة الثانية فقال: اقتلوه فقالوا: إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع ثم جيء به في الثالثة، فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: اقطعوا، وكذلك في الرابعة. فلما جيء به(3/66)
يدُه الْيُسْرَى، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لدُعاؤه (1) عَلَى نَفْسِهِ أشدُّ (2) عِنْدِي عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَته.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: يُروى ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ (3) : إِنَّمَا كَانَ الذي سَرَق حُلِيَّ أسماءَ أقطع اليد
__________
في الخامسة، قال: اقتلوه، فقتلناه واجتررناه وألقيناه في البئر، وقال النسائي: هو حديث منكر. وأخرج النسائي عن الحارث قال: أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بلصّ، فقال: اقتلوه، فقالوا: إنما سرق، فقال: اقطعوه، ثم سرق، فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قُطعت قوائمه الأربع، ثم سرق في الخامسة، فقال أبو بكر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بهذا حين قال: اقتلوه. قال ابن الهمام في "فتح القدير" ههنا طرق كثيرة متعددة لم تسلم من الطعن، ولذا قال الطحاوي: تتبّعنا هذه الآثار فلم نجد له أصلاً، وفي "المبسوط": الحديث غير صحيح وإلا لا احتج به أحد في مشاورة عليّ، ولئن سُلِّم يُحمل على الانتساخ لأنه كان في الابتداء تغليظ في الحدود (قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند أهل العلم. التلخيص الحبير 4/69) .
(1) بقوله: اللهم عليك.
(2) قوله: أشدّ، قال الزرقاني: لأن فيها حظّاً للنفس في الجملة بخلاف الدعاء عليها، أو لما في ذلك من عدم المبالاة بالكبائر.
(3) قوله: أنها قالت، يخالف ما أخرج عبد الرزاق عنها من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: كان رجل أسود يأتي أبا بكر فيُدنيه ويقرئه القرآن حتى بُعث ساعياً أو قال سريّة، فقال: أرسِلْني معه، فقال: بل امكث عندنا، فأبى فأرسله واستوصى به خيراً، فلم يغب إلا قليلاً حتى جاء، وقد قُطعت يده، فلما رآه أبو بكر فاضت عيناه، فقال: ما شأنك؟ فقال: ما زدت على أنه كان(3/67)
الْيُمْنَى (1) ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ الْيُسْرَى، وَكَانَتْ تُنكر أنْ يَكُونَ (2) أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، وَكَانَ ابنُ شِهَابٍ أعلمَ (3) مِنْ غَيْرِهِ بِهَذَا (4) وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ بِلادِهِ (5) وَقَدْ بَلَغنا (6) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُمَا لَمْ يَزِيدَا فِي الْقَطْعِ عَلَى قَطْعِ اليمنى أو الرجل اليسرى، فإن أُتي
__________
يوليني شيئاً من عمله فخُنتُ فريضةً واحدة، فقطع يدي، فقال أبو بكر: تجدون الذي قطع هذا يخون أكثر من عشرين فريضة، والله لئن كنتَ صادقاً لأقيِّدنّك منه، ثم أدناه، فكان يقوم الليل، فإذا سمع أبو بكر صوته قال: بالله لَرَجُلٌ قَطَعَ يَدَ هذا لقد اجترأ على الله، قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى فَقَدَ آل أبي بكر حليّاً لهم ومتاعاً، فقال أبو بكر: طرق الحي الليلة، فقام الأقطع، فاستقبل القبلة ورفع يده الصحيحة فقال: اللهم أظهر من سَرَقهم، فما انتصف النهار حتى عثروا على المتاع عنده، فقال أبو بكر: إنك لقليل العلم بالله وأمر به فقُطعت يده، كذا ذكره في "التلخيص" (4/71) .
(1) أي عند سرقة الحلي.
(2) أي عن أن يكون الذي قطعه أبو بكر.
(3) يشير إلى ترجيح رواية الزهري على عبد الرحمن.
(4) أي بهذا الخبر.
(5) هي المدينة وما حولها.
(6) قوله: وقد بلغنا ... إلخ، قال المصنف في "كتاب الآثار" أخبرنا أبو حنيفة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي، قال: إذا سرق السارق قُطعت يده اليمنى، فإن عاد قُطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن(3/68)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
حتى يُحدث خيراً، إني أستحي على الله أن أدَعَه ليس له يد يأكل أو يستنجي بها ورجْل يمشي عليها. ومن طريقه رواه الدارقطني. وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر، عن الشعبي، قال: كان عليّ لا يقطع إلا اليد والرجل. وإن سرق بعد ذلك سجنه. ورواه ابن أبي شيبة حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: كان عليّ لا يزيد على أن يقطع السارق يداً ورجلاً، فإذا أُتي بعد ذلك قال: إني أستحي أن أدعه لا يتطهر لصلاة، ولكن احبسوه. وأخرج البيهقي عن عبد الله بن سلمة، عن عليّ مثله. وأخرج ابن أبي شيبة أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق فكتب إليه بمثل قول عليّ. وأخرج عن سماك أن عمر استشارهم في سارق فاجتمعوا على مثل قول عليّ. وأخرج عن مكحول أن عمر قال: إذا سرق السارق اقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى وذَروه يأكل بها، ويستنجي، ولكن احبسوه عن المسلمين. وقال سعيد بن منصور: نا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت عليّاً أُتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ فقالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذاً وما عليه القتل، بأيّ شيء يأكل الطعام، وبأيّ شيء يتوضأ للصلاة، بأيّ شيء يغتسل من الجنابة، بأيّ شيء يقوم إلى حاجته، فردّه إلى السجن أياماً، ثم استخرجه، فاستشار أصحابه، فقالوا له (في الأصل "لهم"، وهو خطأ) مثل قولهم الأول، فقال لهم مثل ما قال فجلده جلداً شديداً، ثم أرسله. وقال سعيد أيضاً: نا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أُتي عمر بأقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر بقطع رجله، فقال عليّ: قال الله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) (سورة المائدة: الآية 33) الآية، فقُطعت يدُ هذا ورجلُه فلا ينبغي أن يقطع رجله فتدعه وليس له قائمة، إما أن تُعِزّروه، وإما أن تودعوه في السجن، فاستودعه السجن. قال ابن حجر: قد رواه البيهقي أيضاً وإسناده جيد، وإسناد رواية(3/69)
بِهِ (1) بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَقْطَعَاهُ وَضَمَّنَاهُ (2) . وَهُوَ (3) قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم اللَّهُ.
6 - بَابُ الْعَبْدِ يأبِقُ (4) ثُمَّ يَسْرِقُ (5)
689 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ سَرَقَ وَهُوَ آبِقٌ، فَبَعَثَ بِهِ ابْنُ عُمَرَ إِلَى سَعِيدِ (6) بْنِ الْعَاصِ لِيَقْطَعَ يده،
__________
سعيد الأولى ضعيف، قال ابن الهمام في "الفتح" (5/155) : هذا كله ثبت ثبوتاً لا مردّ له، فبعيد أن يقع فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم مثل هذه الحوادث التي غالباً تتوفر الدواعي إلى نقلها ولا خبر بذلك عند عليّ وابن عباس وعمر من الأصحاب الملازمين، بل أقل ما في الباب أن كان يُنقل لهم أنهم غابوا بل لا بد من علمهم بذلك، وبذلك تقتضي العادة فامتناع عليّ بعد ذلك إما لضعف الروايات المذكورة في الإِتيان على أربعة وإما لعلمه أن ذلك ليس حداً مستمرّاً، بل هو على رأي الإِمام.
(1) أي بعد قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى.
(2) أي أخذاً منه ضمان المال.
(3) قوله: وهو، أي عدم القطع بعد قطع اليد والرجل والتضمن عند عدم القطع وأما عند القطع فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة خلافاً للشافعي وغيره، والمسألة مبرهنة في كتب الأصول.
(4) كان أميراً على المدينة من جهة معاوية، وهو صحابي، وكان سنُّه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكانت وفاته سنة 53، قاله الزقاني.
(5) أي أنكر وامتنع من قطع يده.
(6) كان أميراً على المدينة من جهة معاوية، وهو صحابي، وكان سنُّه يوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، وكانت وفاته سنة 53، قاله الزقاني.(3/70)
فَأَبَى (1) سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ، قَالَ: لا تُقْطَعُ يدُ الآبِقِ إِذَا سَرَقَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَفِي (2) كِتَابِ اللَّهِ وَجَدْتَ هَذَا: إِنَّ الْعَبْدَ الآبِقَ لا تُقْطَعُ يَدُهُ؟ فَأَمَرَ بِهِ (3) ابْنُ عُمَرَ فَقُطِعَتْ يدُه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: تُقطع يَدُ الآبِقِ وَغَيْرِ الآبِقِ إِذَا سَرَقَ (4) وَلَكِنْ لا يَنْبَغِي أَنْ يَقْطَعَ السَّارِقَ أحدٌ إِلا الإِمام الَّذِي يَحْكُمُ (5) ، لأَنَّهُ حدٌّ لا يقوم به إلا
__________
(1) أي أنكر وامتنع من قطع يده.
(2) بهمزة الاستفهام للإِنكار والتوبيخ.
(3) قوله: فأمر به ابن عمر، لعل سعيداً ظنّ أنّ العبد الآبق لا يُقطع يده من السرقة مطلقاً من سيّده سرق أو من غيره، وذلك لأن الغالب على العبد الآبق الجوع والهلاك، ولا قطع على من سرق زمن المجاعة، كما ورد به الخبر، ورأى ابن عمر خلافه، فأمر بقطع يده لقوة دليل ما ظنه من دون أمر سعيد، وهذا موافق لما اختاره الشافعي ومالك (قال صاحب "المحلّى": وبه أخذ مالك أنه يقطع يد الآبق ولكنه قال: لا يقطع السيد يد العبد إذا أبى السلطان أن يقطعه، كذا قال الشافعي في "الأمّ". قلت: لعل مسلك ابن عمر رضي الله عنه كان أن للسيد إقامة الحد على عبده بقطع اليد في السرقة كالشافعية وإلا فقد تقدم أن المرجّح من مسلك الإِمام أحمد وهو مذهب الإِمام مالك أنه ليس للسيد قطع يد عبده في السرقة، وليس ذلك إلا إلى الإِمام، وأما الحنفية فليس عندهم للسيد حق في إقامة الحد على عبده مطلقاً، أوجز المسالك 13/292) وغيرهما أن للسيد أن يقيم الحدّ على عبده بلا إذن الإِمام، وقال أصحابنا: ليس له ذلك، وقال الترمذي: القول الأول أصح، لموافقته حديثاً رواه.
(4) أي من مال غيره، وأما إذا سرق من مال سيّده فلا، لما مرّ سابقاً.
(5) في نسخة: إليه الحكم.(3/71)
الإِمَامُ أَوْ مَنْ وَلَّاهُ (1) الإِمام ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
7 - بَابُ الْمُخْتَلِسِ (2)
90 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ رَجُلا اخْتَلَسَ شَيْئًا فِي زَمَنِ مَرْوَانَ (3) بْنِ الْحَكَمِ، فَأَرَادَ (4) مَرْوَانُ قطعَ يَدِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا قَطْعَ (5) عَلَيْهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا قَطْعَ فِي الْمُخْتَلِسِ (6) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
__________
(1) أي نائبه والأمير من جهته.
(2) أي حين كان أمير المدينة.
(3) أي حين كان أمير المدينة.
(4) ظناً منه أنه في حكم السرقة.
(5) قوله: أنه لا قطع عليه، لحديث جابر مرفوعاً: ليس على المختلس والمنتهب والخائن قطع. أخرجه أحمد وأصحاب النن الأربعة والحاكم وابن حبان والبيهقي وغيرهم. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن عوف رواه ابن ماجه بإسناد صحيح وآخر من رواية الزهري عن أنس أخرجه الطبراني في "الأوسط"، ورواه ابن الجوزي من حديث ابن عباس، وضعفه كذا في "التلخيص الحبير" (4/65) .
(6) فإن القطع (لأن القطع ثبت بالنص في السرقة، والانتهاب والاختلاس والخيانة ليست بسرقة لأن في الانتهاب ليس الأخذ خفية، وفي الخيانة ليس الأخذ من الحرز. بذل المجهود 14/339. قال الموفق: فإن اختطف أو اختلس لم يكن سارقاً، ولا قطع عليه عند أحد علمناه غير إياس بن معاوية. المغني 8/240) إنما ورد في السرقة، وأخذ الشيء على سبيل الخفية معتبر في حقيقتها وليس ذلك في الاختلاس.(3/72)
أبواب الحُدودِ في الزنَاء
1 - باب الرجم (1)
691 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ (2) : الرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تعالى حقّ (3) على من زنى إذا
__________
(1) قوله: يقول، هذا مختصر من خطبة خطبها عمر في المدينة بعد الفراغ من حجته. أخرجها البخاري وغيره بطولها.
(2) قوله: يقول، هذا مختصر من خطبة خطبها عمر في المدينة بعد الفراغ من حجته. أخرجها البخاري وغيره بطولها.
(3) قوله: حق، أي ثابت حكماً (أي الحكم غير منسوخ) وإن نُسخت آيته تلاوةً، وهي (الشيخ والشيخة إذا زَنَيَا فارجموهما البتَّة نَكَالاً من الله والله عزيز حكيم) . والمراد بالشيخ والشيخة المحصن والمحصنة وإن كان شاباً سِنّاً، قال السيوطي: خطر لي في نسخ هذه الآية تلاوةً نكتةٌ حسنة وهو أن سببه التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكماً باقياً لأنه أثقل الأحكام وأشدّها وأغلظ الحدود. انتهى كلامه في "الإِتقان في علوم القرآن"، وفيه أيضاً: أخرج الحاكم من طريق كثير بن الصَّلْت قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاص يكتبان(3/73)
أُحْصن (1) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ البّينة (2) أو كان الحَبْل (3)
__________
المصحف فمرّا على هذه الآية، فقال زيد: سمعت رسول الله يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، فقال عمر: لمّا نزلتْ أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، وقال: ألا ترى إلى أنْ الشيخ إذا زنا ولم يُحْصَن جُلد، وأنَّ الشابّ إذا زنا وقد أُحصن رجم. قال الحافظ في "الفتح": يُستفاد من هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها، وقال أبو عبيدة: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النَّجُود، عن زر بن حبيش قال: كانت سورة الأحزاب تعدل سورة البقرة وإنْ كنا نقرأ فيها آية الرجم (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم) . وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن زيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي أمامة بن سهل أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله آية الرجم: (إذا زنا الشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة.
(1) قوله: إذا أحصن، أي كان الزاني محصناً - وهو بفتح الصاد وبكسره - مأخوذ من الإِحصان بمعنى المنع، وهو عبارة عن كونه حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً وطئ بنكاح صحيح، وفي اشتراط الإِسلام خلاف الشافعي وأحمد. والبسط في كتب الفقه.
(2) أي شهدت على الزناء الشهود وهم أربعة رجال.
(3) قوله: أو كان الحَبْل، قال القسطلاني في "إرشاد الساري"، بفتح الحاء وسكون الباء أي الحمل، أي وُجدت المرأة الخلية من زوج (في الأصل: الزوج، وهو تحريف) أو سيد حُبلى(3/74)
أَوِ الاعْتِرَافُ (1) .
692 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أنَّه سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ المسيِّب يَقُولُ: لَمَّا صَدَرَ (2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ مِنى أَنَاخَ (3) بِالأَبْطَحِ (4) ثُمَّ كَوَّمَ (5) كَوْمة مِنْ بَطْحَاءَ (6) ثُمَّ طَرَحَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ، ثُمَّ اسْتَلْقَى ومدَّ (7)
__________
ولم تذكر شبهة ولا إكراهاً. انتهى. وقال السيوطي في "الديباج بشرح صحيح مسلم بن الحجاج": هذا مذهب عمر بن الخطاب وحده (قال النووي: هذا قول عمر رضي الله عنه وتابعه مالك وأصحابه فقالوا: إذا حبلت ولم يُعلم لها زوج ولا سيد ولا عرفنا إكراهاً لزمها الحد إلاَّ أن تكون غريبة، وتدَّعي أنه من زوج أو سيد. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: لا حدَّ عليها بمجرد الحمل، لأن الحدود تسقط بالشبهات. أوجز المسالك 13/229) ، وأكثر العلماء أنه لا حدّ عليها بمجرد ظهور الحبل مطلقاً.
(1) أي إقرار الزاني.
(2) أي رجع من حجته وكان آخر حجاته في سنة ثلاثة وعشرين التي قُتل فيها.
(3) أي راحلته.
(4) وادٍ بين مكة ومنى يسمّى بالمحصَّب.
(5) بتشديد الواو من التكويم وهو الجمع.
(6) قوله: بطحاء، بالفتح هي صغار الحصى، والكومة بالفتح وبالضم القطعة أي جمع قطعة من الحصى وألقى عليه رداءه واستلقى على قفاه واضعاً رأسه عليها.
(7) أي رفعهما للدعاء.(3/75)
يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ كبِرَتْ (1) سِنِّي، وضَعُفَتْ (2) قوَّتي، وانتشرتْ (3) رعيَّتي، فَاقْبِضْنِي (4) إِلَيْكَ غَيْرَ مضيِّع (5) وَلا مُفْرِط. ثُمَّ قدِم الْمَدِينَةَ (6) ، فَخَطَبَ (7) الناسَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ (8) لَكُمُ السُّنَن، وفُرِضت لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وتُرِكْتُمْ (9) عَلَى الْوَاضِحَةِ - وصَفَّقَ (10)
__________
(1) قوله: كبرت سنّي، أي طال عمري، يقال كَبُر في القدر والرتبة من باب كرم، وكَبِر في السنّ من باب علم، كذا في "المغرب".
(2) قوله: وضعفت قوتي، أي أعضائي في سكوني وحركتي.
(3) قوله: وانتشرت رعيتي، أي كثرت وتفرقت في البلاد رعيَّتي التي أقوم بسياستها وتدبيرها.
(4) قوله: فاقبضني إليك، هذا دعاء بالموت وهو جائز إذا خاف الفتنة في الدين وإلاَّ فمنهيٌّ عنه، وقد بسط الأخبار في هذا الباب الحافظ السيوطي في "شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور" فلتُطالَع، فإنه كتاب منفرد في بابه لم يُصنَّف مثلُه لا قبله ولا بعده.
(5) قوله: غير مضيِّع، أي لما أمرتني وشرعتني، من التضيع، ولا مُفْرِط اسم فاعل من الإِفراط بمعنى الزيادة، أي اقبضني إليك حال كوني غير مبتلىً بالفتنة في الدين بأن أنقص في شيء أو أزيد شيئاً.
(6) في آخر ذي الحجة.
(7) أي يوم الجمعة كما في رواية البخاري.
(8) قوله: قد سُنَّت، بضم السين وتشديد النون المفتوحة أي شُرعت لكم الشرائع أو السنن النبوية.
(9) قوله: وتُركتم، بصيغة المجهول أي ترككم نبيّكم على الطريقة الواضحة الظاهرة المسهَّلة البيضاء.
(10) قوله: وصفَّق، قال القاري: من التصفيق أي ضرب عُمَر بإحدى يديه(3/76)
بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخرى - إلاَّ (1) أَنْ لا تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا (2) وَشِمَالا، ثُمَّ إِيَّاكُمْ (3) أَنْ تَهلِكوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ، أَنْ (4) يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ حَدَّيْنِ (5) فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ رَجَم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا (6) ، وَإِنِّي وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلا (7) أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي كتاب الله
__________
على الأخرى، وكانت العرب تضرب إحدى اليدين على الأخرى إذا أراد أن ينبِّه غيره، وربما فعله إذا صاح على شيء أو تعجب من شيء.
(1) قوله: إلاَّ، قال القاريّ: بكسر الهمزة وتشديد اللام أي لكن أن لا تضلّوا بالناس. وإنْ شرطية والباء للتعدية، ولا يبعد أن يكون ألا للتنبيه وأن زائدة.
(2) أي بالانتقال عن طريق الوسط الواضح.
(3) أي احذروا عن أن تهلكوا بسبب الغفلة عن آية الرجم.
(4) بفتح الهمزة وسكون النون: بيان الهلاك.
(5) أي الجلد والرجم.
(6) نحن معاشر الصحابة.
(7) قوله: لولا أن يقول ... إلخ، قال الزركشي في "البرهان": ظاهره أن كتابتها (وفي الكواكب الدرّي 2/376: ليس المراد أن اكتبه حيث تكتب آيات الكتاب لأنه حرام، فكيف يُكتفى بالكراهة، وإنما يعني أن أكتبه في حواشي المصاحف حتى ينظر إليه من يقرأ المصحف إلاَّ أن الأمر بتجريد القرآن يمنعني عن ذلك لئلا ينجرّ الأمر بالآخرة إلى إدخاله فيه) جائزة وإنما منعه قول الناس، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة. وقد يُقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر، ولم يعرِّج على مقالة الناس، لأن مقال الناس لا يصلح مانعاً. وبالجملة فهذه(3/77)
لكتبتُها (1) : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا البتَّة (2) ، فَإِنَّا قَدْ قَرَأْنَاهَا. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَمَا انْسَلَخَ ذُو الحجَّة (3) حَتَّى قُتل عُمَرُ.
693 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن اليهود (4) جاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرُوهُ أن رجلاً منهم وامرأة زَنَيَا، فقال
__________
الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم. انتهى. وردَّه السيوطي في: الإتقان: بأنَّ قوله لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقّاها مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. انتهى. والأظهر في هذا المقام ما قاله الزرقاني وغيره أن مراد عمر من هذا الكلام المبالغة والحث على العمل بالرجم، لأن معنى الآية باقٍ وإن لم يَبْقَ لفظها.
(1) أي في المصحف.
(2) أي جرماً.
(3) أي الذي خطب فيه الخطبة المذكورة.
(4) قوله: أن اليهود كانوا جاؤوا، من خيبر. ذكر ابن العربي عن الطبري والثعلبي من المفسِّرين منهم: كعب بن الأشراف وكعب بن أسعد وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحُقيق وشاس بن قيس ويوسف بن عازوراء، وكان مجيئهم بهذه الواقعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الرابعة في ذي القعدة، والرجل الذي زنى منهم لم يُسَمَّ، والمرأة اسمها بُسرة بالضم. وعند أبي داود من حديث أبي هريرة زنى رجل من اليهود بامرأة، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه بُعث بالتخفيف. فإنْ أفتانا بفُتيا دون الرجم قَبِلناها، واحتججنا بها عند الله وقلنا نبيّ من أنبيائك، قال: فأتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه، فقالوا: يا أبا القاسم ما تَرَى في رجل وامرأة زنيا؟ كذا ذكره الحافظ ابن حجر والقسطلاّني في "شرح صحيح البخاري".(3/78)
لهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: مَا تَجِدُونَ (1) فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟ فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمَا (2) ويُجْلَدَان، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ (3) بْنُ سَلامٍ (4) : كَذَبْتُمْ إِنَّ فِيهَا الرَّجْمَ، فأَتَوْا (5) بِالتَّوْرَاةِ، فَنَشَرُوهَا (6) ، فَجَعَلَ (7) أَحَدُهُمْ (8) يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ، ثُمَّ قَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، فَقَالَ (9) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَرَفَعَ يَدَهُ، فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ (10) ، فَقَالَ:
__________
(1) قوله: ما تجدون، قال القسطلاّني: ما مبتدأ من أسماء الاستفهام، وتجدون جملة في محل الخبر، والمبتدأ والخبر معمول للقول، وإنما سألهم إلزاماً لهم بما يعتقدونه في كتابهم الموافق للإِسلام إقامةً للحجة عليهم وإظهاراً لما كتموه وبدَّلوه من حكم التروراة، فأرادوا تعطيل نصها ففضحهم الله، وذلك إما بوحي من الله إليه أنه موجود في التوراة وإما بإخبار من أسلم منهم كعبد الله بن سلام.
(2) قوله: فقالوا نفضحهما، أي نجد في التوراة في حكم الزانيين أن نخذلهما، ويُجْلدان، وليس فيها رجم، وفي رواية: قالوا: نسخم وجوههما ونخزيهما، وفي رواية قالوا: نسوِّد وجوههما ونحممهما، وفي رواية قالوا: نسوِّد وجوههما ونُحمِّمهما، ونخالف بين وجوههما ويُطاف بهما.
(3) هو من أحبار اليهود كان قد أسلم.
(4) بتخفيف اللام.
(5) أي اليهود
(6) أي فتحوها.
(7) قصداً للإِخفاء عن الحضرة النبوية.
(8) قال الحافظ ابن حجر: هو عبد الله بن صوريا.
(9) أي للذي وضع يده.
(10) قوله: فإذا فيها آية الرجم، وفي رواية للشيخين: فإذا آية الرجم تحت يده، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة ذكر لفظ الآية: المُحْصَن والمُحْصَنة إذا(3/79)
صَدَقْتَ (1) يَا مُحَمَّدُ، فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ، فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرُجما (2) .
قال ابن عمر: فرأيت
__________
زنيا وقامت عليها البيِّنة رُجِما وإنْ كانتْ المرأة حُبلى تُرُبِّص بها حتى تضع ما في بطنها. وعنده أيضاً من حديث جابر: قالوا: إنّا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأَوْا ذَكَرَهُ في فَرْجها مثلَ الميل في المُكْحُلة رجما. وفي رواية البزار: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فما منعكم أن ترجموهما؟ قالوا: ذهب سلطاننا، فكرهنا القتل. زاد في حديث البراء: نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أخذناه بالحدّ، فقلنا: تعالَوْا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.
(1) في نسخة: صدق.
(2) قوله: فرُجما، أي اليهوديان، الزاني والزانية، وهذا صريح في أن الإسلام ليس بشرط في الإِحصان كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو يوسف في رواية، وعند أبي حنيفة ومحمد والمالكية الإِسلام شرط (قال الزرقاني 4/136: وأجابوا عن الحديث بأنه صلى الله عليه وسلم إنما رجمها بحكم التوراة تنفيذاً للحكم عليهم بما في كتابهم، وليس هو حكم الإسلام في شيء، وهو فعل وقع في واقعة حال عينية محتملة لا دلالة فيها على العموم في كل كافر. انتهى) . واستدلوا بأحاديث وردت في ذلك، وأجابوا عن رجم اليهوديِّيْن بأن ذلك كان في ابتداء الإِسلام بحكم التوراة، ولذلك سألهم عن ما فيها، ثم نزل حكم الإِسلام بالرجم باشتراط الإحصان، واشتراط الإسلام فيه بقوله صلى الله عليه وسلم: من أشرك بالله فليس بمحصن. أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" عن ابن عمر مرفوعاً. وأخرجه الدارقطني في "سننه" وقال: الصواب أنه موقوف. وأخرج الدارقطني وابن عديّ، عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهوديَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتزوجها فإنها لا تحصنك، وفيه(3/80)
الرَّجُلَ (1) يَجْنَأُ (2) عَلَى الْمَرْأَةِ يَقِيهَا (3) الْحِجَارَةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ، أَيُّمَا رجلٍ حرٍّ مسلمٍ زنى بامرأة و (4) قد تزوَّج بِامْرَأَةٍ (5) قبلَ (6) ذَلِكَ حرَّةً مُسْلِمَةٍ وَجَامَعَهَا (7) ففيه الرجم،
__________
انقطاع وضعف. وأُورد عليهم أن سياق قصة رجم اليهود شاهد بأن الرجم كان ثابتاً في الإسلام ولم يكن الإِسلام في الإحصان شرطاً عند ذلك، ولا يمكن أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالتوراة خلاف شرعه لأنها صارت منسوخة وإنما سألهم إلزاماً عليهم، فالصواب أن يُقال إن هذه القصة دلَّت على عدم اشتراط الإسلام، والحديث المذكور دلَّ عليه، والقول مقدم على الفعل، مع أن في اشتراطه احتياطاً، وهو مطلّوب في باب الحدود، كذا حققه ابن المهام في "فتح القدير" وهو تحقيق حسن إلاَّ أنه موقوف على ثبوت المذكور من طريق يُحتجّ به.
(1) لأي اليهودي الزاني.
(2) قوله: يجنأ، في" موطأ يحيى" يَحْنِي بفتح الياء وإسكان الحاء المهملة وكسر النون أي: يميل، قال ابن عبد البر: كذا رواه أكثر شيوخنا، وقال بعضهم: يجني بالجيم. والصواب عند أهل العلم يجنأ بالجيم والهمز: أي يميل.
(3) أي يحفظها من حجارة الرمي أن تقع عليها حبّاً لها (قال الباجي: قال مالك: لا يُحفر للمرجوم، ولا سمعتُ أحداً ممن يجب ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يُحفر للمرأة، قال مالك: دل قوله فرأيت الرجل يحني على المرأة أنه لا يحفر له. المنتقى 7/134) .
(4) الواو حالية.
(5) أي حرة مسلمة.
(6) أي قبل الزنا.
(7) أي المنكوحة لو مرَّة.(3/81)
وَهَذَا هُوَ المُحْصَنُ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُجامعها (1) إِنَّمَا تزوَّجها وَلَمْ يدخُل بِهَا أَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ (2) أَمَةٌ يَهُودِيَّةٌ (3) أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ بِهَا مُحْصَناً، وَلَمْ يُرجَمْ وضُرِبَ (4) مِائَةً. وَهَذَا هُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ والعامَّة من فقهائنا.
2 - باب الإِقرار بالزناء
694 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: أنَّهما أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ (5) اخْتَصَمَا إِلَى رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا (6) : يَا نبيَّ اللَّهِ اقضِ (7) بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَقَالَ الآخر - وهو (8) أَفْقَهُهُمَا - أجل (9)
__________
(1) أي المنكوحة قبل.
(2) وكذا تزوج يهودية أو نصرانية.
(3) في نسخة: أو يهودية.
(4) أي مائة جلدة.
(5) لم يعرف الحافظ اسمهما، وكذا اسم العسيف ومزنيَّته، قاله الزرقاني.
(6) قوله: فقال أحدهما، وفي رواية للشيخين: فقام رجل من الأعراب فقال: أنشدك الله إلاَّ قضيتَ بيننا بكتابِ الله.
(7) أي احكم بيننا بما حكم به الله في الكتاب.
(8) قوله: وهو أفقههما، قال الحافظ زين الدين العراقي: يُحتمل أن الراوي كان عارفاً بهما قبل أن يتحاكما فوصف الثاني بأنه أفقه من الأول مطلقاً، ويحتمل في هذه القصة الخاصة بحسن أدبه في استئذانه أولاً وترك رفع صوته إن كان الأول رافعه.
(9) أي نعم أنا راضٍ به.(3/82)
يَا رسولَ اللَّهِ، فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أتكلَّم (1) ، قَالَ تكلَّمْ، قَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفاً عَلَى هَذَا (2) - يَعْنِي أَجِيرًا (3) - فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ (4) . فأَخْبَرُوني (5) أنَّ عَلَى (6) ابني جلدَ (7) مائةٍ، فافتديتُ (8) منه
__________
(1) أي فأُبيِّن القصة بحضرتك.
(2) أي عنده.
(3) قوله: يعني أجيراً، هذا تفسير مدرج من مالك كما يفصح عنه "موطأ يحيى: فإن فيه بَعد سَوْق الحديث من غير هذا التفسير: قال مالك: والعسيف: الأجير.
(4) أي امرأة الرجل الحاضر الذي تكلَّم أولاً.
(5) قوله: فأخبروني، أي بعض أهل العلم، وفي رواية يحيى وابن القاسم: فأخبروني، بالإِفراد. قال ابن عبد البر: هو الصواب.
(6) قوله: أنَّ على ابني جلد مائة، هكذا في بعض النسخ، وعليها شرح القاري حيث قال: فأخبروني - أي بعض أهل العلم - أنَّ على ابني جلد مائة أي لأنه غير محصن. فافتديتُ منه بمائة شاة وجارية لي، أي بعتقها أو بتسليمها إلى خصمه. ثم إني سألتُ أهل العلم، أي الكُبراء منهم عن جواز الافتداء. أن على ابني جلدَ مائة، أي حدّاً. وتغريب عام، أي سياسة. انتهى. وفي كثير من النسخ المصحَّحة: فأخبروني أن على ابني الرجم، فافتديتُ منه، وهو مقتضى قوله ثم سألت أهل العلم فإنه يقتضي أن المُخْبِر الأول كان حَكَم بالرجم فافتدى منه ثم سأل عن أهل العلم فأخبروه بالجلد، وتأويل أن سؤاله عنهم كان عن الافتداء لا يوافقه السَّوْق، وفي الحديث دليل على أن الصحابة كانوا يُفتون في زمنه صلى الله عليه وسلم، وفي بلده، وذكر ابن سعد من حديث سهل: أن الذين كانوا يفتون على عهده صلى الله عليه وسلم عمرُ وعثمان وعليّ وأبيّ ومعاذ وزيد بن ثابت. وفيه أن الحدَّ لا يَقْبل الفداء، وهو مجمع عليه في الزناء والسرقة والشُّرب، قاله القسطلاني.
(7) في نسخة: الرجم.
(8) ظناً منه أن الفداء ينوب عن الحد.(3/83)
بِمِائَةِ شَاةٍ وجاريةٍ لِي، ثُمَّ إِنِّي سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي إِنَّمَا عَلَى ابْنِي جلدَ مِائَةٍ وتغريبَ (1) عَامٍ، وَإِنَّمَا الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ (2) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَمَا (3) وَالَّذِي (4) نَفْسِي بِيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمْ بكتابِ اللَّهِ تَعَالَى (5) : أمَّا غَنَمك وَجَارِيَتُكَ فردٌّ (6) عَلَيْكَ. وجَلَد (7) ابْنَهُ مِائَةً وغَرَّبَه (8) عَامًا، وَأَمَرَ أُنَيْساً (9) الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر، فإن
__________
(1) أي نفيَه من البلد وإخراجَه.
(2) أي لأنها محصَنة.
(3) بالتخفيف: حرف تنبيه.
(4) قَسَمٌ للتأكيد.
(5) قوله: بكتاب الله، قال النووي: يُحتمل أن المراد: بحكم الله، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: (أو يجعل الله لهنَّ سبيلا) (سورة النساء: الآية 15) وفسَّر رسول الله السبيل بالرجم في المحصن في حديث عبادة عند مسلم، وقيل: هو إشارة إلى آية (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) ، وهو مما نُسخت تلاوته وبقي حكمه، كذا في "تنوير الحوالك) .
(6) أي مردود عليك لا ينوب عن الحدّ.
(7) لأنه كان غير محصن. قوله: وجَلَد ابنه، قال الزرقاني: هذا يتضمَّن أن ابنه كان بكراً وأنه اعترف بالزناء فإنَّ إقرار الأب لا يُقبل، وقرينة اعترافه حضوره مع أبيه كما في رواية أخرى: إن ابني هذا وابني لم يُحصن.
(8) أي أخرجه من البلد.
(9) قوله: وأمر أُنَيْساً، هو أُنَيْس - بضم الهمزة - بن الضاحك الأسلمي،(3/84)
اعترقَتْ (1) رَجَمَهَا (2) ، فاعترفَتْ فَرَجَمَهَا.
695 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكة أَنَّهُ (4) أخبره: أن
__________
وقال ابن عبد البر: ويقال إنه أُنيس بن مرثد، قال ابن الأثير: الأول أشبه بالصحة لكثير الناقلين له، ولأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصد لا يؤمَّر (في الأصل: يأمر، وهو تحريف) في القبيلة إلاَّ رجلاً منهم لنفورهم من حكم غيرهم، وكانت المرأة أسلمية، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات" للنوري.
(1) قوله: فإن اعترفت، قال النووي: هو محمول عند العلماء على إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه وأن لها عنده حدّ القذف، فتطلب أو تعفو إلاَّ أن تعترف بالزناء (وفي رواية البخاري: فغدا عليها فاعترفت فرجمها. قال الحافظ: كذا للأكثر، ووقع في رواية الليث، فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجمت وهي تشعر بأن أُنيساً أعاد جوابها على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر حينئذٍ برجمها، فيحتمل أن يكون المراد أمره الأول المعلق على اعترافها مع رواية الأكثر وهو أولى. فتح الباري 12/140) .
(2) أي حكم رسول الله برجمها أو رجمها أُنيس بعد ما أخبره به.
(3) قوله: أخبرنا يعقوب، هو يعقوب بن زيد بن طلحة القرشي التيمي الصدوق المدني، وأبو زيد بن طلحة تابعي صغير، وظنه الحاكم صحابياً، وليس كذلك، كما بسطه الحافظ في "الإِصابة"، وجده عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة بالتصغير، ويقال: اسمه زهير التيمي المدني، ثقة من التابعين، مات سنة 117، كذا قال الزرقاني.
(4) قوله: أنه أخبره، قال ابن عبد البر: هكذا قال يحيى، فجعل الحديث(3/85)
امْرَأَةً (1) أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا زَنَتْ وَهِيَ حامِلٌ (2) ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبِي (3) حتى تَرضَعِي، فَلَمَّا وضعَتْ (4) أَتَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تُرضعي، فَلَمَّا أرضَعَتْ (5) أَتَتْهُ فَقَالَ لَهَا: اذْهَبِي حَتَّى تَسْتَودِعيْه (6) فاستودَعَتْه، ثُمَّ جَاءَتْهُ فَأَمَرَ بِهَا فأُقيم عليها الحدّ (7) .
__________
لعبد الله بن أبي مليكة مرسلاً عنه وقال القاسم وابن بكير: مالك، عن يَعْقُوبُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ زَيْدِ بْنِ طلحة بن عبد الله بن أبي مليكة، فجعلوا الحديث لزيد مرسلاً (قال ابن عبد البر: هذا هو الصواب إن شاء الله. أوجز المسالك 13/210) .
(1) قوله: أن امرأة، أي من جُهَينة، كما في سنن أبي داود، ولمسلم من غامِد وهو بطن من جهينة بكسر الميم.
(2) أي من الزنا، كما في رواية مسلم.
(3) لعدم جواز رجم الحُبلى.
(4) عند مسلم: فلما وضعت أتته بالصبي في خرقة وقالت: هذا ولدتُه.
(5) أي فرغت من الرضاعة.
(6) أي اجعليه عند مَنْ يحفظه (وفي رواية مسلم: فحُفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها، فنضح الدم على وجه خالد، فسبّها، فسمعه عليه السلام، فقال: مهلاً يا خالد، فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْس لغفر له، ثم أمر بها فصلى عليها، ثم دُفنت، ورُوي أنه عليه السلام صلى عليها. شرح الزرقاني 4/141) .
(7) أي الرجم، كما في رواية مسلم.(3/86)
696 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (1) : أنَّ رَجُلا (2) اعترف بالزنى عَلَى نَفْسِهِ عَلَى عَهْدِ (3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، وشهد (4) على نفسه.
__________
(1) هذا مرسل وهو موصول في "الصحيحين: وغيرهما.
(2) قوله: رجلاً، قال الزرقاني: هو ماعز بن مالك الأسلمي باتفاق، وبه صرح في كثير من طرق الحديث، واسم المرأة التي زنا بها فاطمة فتاة هزّال، وقيل: منيرة، وحكى ابنُ سعد في "طبقاته: أن اسمها مهيرة.
(3) أي في زمانه.
(4) قوله: وشهد على نفسه ... إلخ، هذه القصة أي قصة رجم ماعز مخّرجة في الصحيحين والسنن وغيرها بطرق متفرّقة بألفاظ مختلفة، ففي بعضها أنه شهد على نفسه أربع شهادات فأعرض عنه ثلاثة، ثم قال له النبي عليه السلام بعد الرابعة: أبك جنون؟ ثم قال لأهله: أيشتكي أم به جِنَّة؟ فقالوا: لا، وإنما قال ذلك لما اشتبه عليه الحال، فإنه دخل منتفش (في الأصل منتفس، وهو خطأ) الشعر ليس عليه رداء يقول: زنيتُ فارجمني، كما عند مسلم عن جابر، وعنده من حديث بُرَيدة: جاء ماعز فقال: يا رسول الله طهّرني، فقال: ويحك، ارجع فاستغفر الله، وتُبْ، فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يا رسول الله طهّرني، فقال مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال: فيم أطهِّرك؟ قال: من الزناء. فسأل: أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: أَشَرِب خمراً؟ فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريحَ خمر، فقال رسول الله: أزنيت؟ قال: نعم. والروايات عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وأحمد وإسحاق وابن أبي شيبة وغيرهم متوافقة على ذكر أربع شهادات في قصة ماعز، وكذا عند البزار عن عبد الرحمن بن أبي بكرة في قصة الغامدية الجهنية أنها أقرّت أربع مرات، فقال رسول الله: اذهبي حتى تلدي. وقد بسط كل ذلك الزيلعي وابن حجر في "تخريج أحاديث الهداية".(3/87)
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ فَأَمَرَ بِهِ فحُدَّ (1) . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فمِنْ أجْلِ ذَلِكَ يُؤخذ الْمَرْءُ (2) بِاعْتِرَافِهِ (3) عَلَى نَفْسِهِ
697 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: أَنَّ رَجُلا (4) اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَاءِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسَوْط فَأُتِيَ بسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: فَوْقَ (6) هَذَا، فأُتيَ بسوطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ (7) ثَمَرَته، فَقَالَ: بَيْنَ (8) هَذَيْنِ، فأُتِيَ بسوطٍ قَدْ رُكب (9) به فَلاَنَ، فِأمر به
__________
(1) أي رُجم.
(2) أي إذا كان مكلَّفاً عاقلاً بالغاً غير محجور عليه.
(3) أي على الزناء أو غيره.
(4) قوله: أن رجلاً، قال ابن عبد البر: هكذا رواه جماعة الرواة مرسلاً، ولا أعلمه يُسْنَد بهذا اللفظ من وجه من الوجوه، وقد روى معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثلَه سواء، أخرجه عبد الرزاق. وأخرج ابن وهب في موطّئه عن كُريب مولى ابن عباس مرسلاً نحوَه، كذا في "التنوير".
(5) أي طلبه ليجلده لأنه كان غير مُحْصَن.
(6) أي في الإِيلام والإِيذاء فإن المكسور يخفّ به الإِيلام.
(7) قوله: لم تُقطع ثمرته، بفتح الثاء المثلثة والميم والراء أي طرفه، قال الجوهري: وثمرة السياط عقد أطرافها، وقال أبو عمر (في الأصل: أبو عمرو، وهو خطأ والصواب ما اثبتناه) : أي لم يُمتهن ولم يُلَيَّنْ، والثمرة الطرف.
(8) أي لا المكسور ولا الجديد بل الوسط.
(9) قوله: قد رُكب به، بصيغة المجهول أي استعمل ذلك السَّوْط في(3/88)
فجُلِدَ (1) ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ (2) لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ الله، فمن أصابه من هذه (3) القاذورات شيئاً فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ (4) مَنْ يُبْدِ لَنَا صفحتَه نُقِمْ (5) عَلَيْهِ كتابَ (6) اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
689 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، أَنَّ صفيّةَ (7) بنتَ أَبِي عُبَيد حَدَّثَتْهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصدِّيق رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: أنَّ رَجُلا وَقَعَ عَلَى جاريةٍ بكْرٍ، فأَحْبَلها (8) ، ثُمَّ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَكُنْ أُحْصِن (9) ، فَأَمَرَ به
__________
الركوب. فَلاَن، من اللين فإن السوط إذا استُعمل ورُكب به ذهب طرفه.
(1) أي مئة جلدة.
(2) أي حان وجاء وقته.
(3) قوله: هذه القاذورات، جمع قاذورة: كل فعل أو قول يُستقبح كالزناء وشرب الخمر وغيرهما، أي هذه السيئات.
(4) ضمير الشان. قوله: فإنه من يُبْدِ، وفي بعض نسخ "موطأ يحيى": يُبْدي بحذف الياء وإثباتها من الإِبداء وهو الإِظهار. والصفحة، بالفتح: الجانب والوجه والناحية، أي من يُظهر لنا معاشر الحكّام ما فعله أقمنا عليه حدّاً وفيه إشارة ألى أنّ الأحبّ لمن ارتكب السيئات ذواتِ الحدود أن يستر ولا يظهر ويتوب إلى الله، فإذا أظهر عند الحكام وجب عليهم إنفاذ الحدّ ولا تنفع عند ذلك شفاعة الشافعين.
(5) من الإِقامة.
(6) أي حدّه الوارد فيه أو في سُنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم فإنه أيضاً منه.
(7) هي زوجة ابن عمر
(8) أي جعلها حاملة.
(9) بل كان بِكْراً.(3/89)
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فجُلِدَ الحدَّ ثُمَّ نُفِيَ إلى فَدَك (1) .
__________
(1) قوله: فَدَك، بفتح الفاء المهملة وكاف، بلدة بينها وبين المدينة يومان، وبينها وبين خيبر دون مرحلة، قاله الزرقاني. وبهذا وبما مرّ في حديث العسيف: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم غرّبه عاماً، وبما سيأتي عن عمر: أنه جلد الزاني وغرّب: استند جمع من العلماء، فقالوا بالجمع بين الجلد والنفي في غير المحصن: وأن النفي جزء من حدّه، وحدّه مجموعهما (انظر الأوجز 13/222) ، وبه قال الشافعي وأحمد والثوري والأوزعي والحسن بن صالح وابن المبارك وإسحاق، وهذا في الحرّ وفي العبد ثلاثة أقوال للشافعي: في قول يغرب ستة أشهر وفي قول سنة، وفي قول لا يغرّب أصلاً، بل يُجلد خمسين، وقال مالك: يُجمع بينهما في الرجل دون المرأة والعبد، كذا ذكر العيني. ويوافقهم ما أخرجه مسلم من حديث عبادة مرفوعاً: البكر بالبكر مائة جلدة وتغريب عام. وللبخاري من حديث زيد بن خالد: أن النيّ عليه السلام أمر فيمن زنى ولم يحصن بجلد مائة وتغريب عام. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرّب. وعند ابن أبي شيبة عن مولى عثمان أن عثمان (قال في التلخيص الحبير 4/61: رواه ابن أبي شيبة بإسناد فيه مجهول) جلد امرأة في زناء، ثم أرسل بها إلى مولى يقال له المهديّ إلى خيبر نفاها إليه. وفي الباب أخبار أُخر أيضاً مبسوطة في "تخريج أحاديث الهداية" و" التلخيص الحبير" وغيرهما. ومذهب الحنفية في ذلك أن النفي أمراً ليس بداخل في الحدّ، بل هو سياسة مفوَّضة إلى رأي الإِمام، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولهم في الجواب عن هذه الأخبار مسالك: الأول: القول بالنسخ ذكره صاحب "الهداية" وغيره، وهو أمر لا سبيل إلى إثباته بعد ثبوت عمل الخلفاء به مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. والثاني: أنها محمولة على التعزير بدليل ما روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزّهري، عن ابن المسيّب: أنّ عمر غرَّب ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصّر، فقال عمر:(3/90)
699 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ رَجُلا (1) مِنْ أسلمَ أَتَى أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَ: إِنَّ الآخِرَ (2) قَدْ زَنَى، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ ذَكَرْتَ هَذَا لأَحَدٍ غَيْرِي؟ قَالَ: لا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاسْتَتِرْ (3) بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِه. قَالَ سَعِيدٌ (4) : فَلَمْ تقَرّ (5) بِهِ نَفْسُه حَتَّى أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لأَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ عمر (6) كما قال
__________
لا أغرِّب بعده مسلماً. وأخرج محمد في كتاب "الآثار" وعبد الرزاق، عن ابراهيم قال: قال ابن مسعود في البكر يزني بالبكر: يُجلدان ويُنْفَيَان سَنَة، قال: وقال عليّ: حَسْبُهما من الفتنة أن يُنْفَيَا. فإنه لو كان النفي حدّاً مشروعاً لما صدر عن عمر، وعن عليّ مثله، فعُلم أنه أمر سياسة منوط بمصلحة. والثالث: أنها أخبار آحاد لا تجوز بها الزيادة على الكتاب وهو موافق لأصولهم لا يُسكت خصمهم، وبسطه في "فتح القدير" وغيره.
(1) قال السيوطي: هو ماعز بن مالك باتفاق من الحفاظ.
(2) بكسر الخاء وقصر الهمزة: أي الأرذل الدنيّ يريد به نفسه ويعيبه، قاله ابن عبد البر.
(3) أي ولا تُظهر لأحد.
(4) أي ابن المسيّب.
(5) بفتح التاء وكسر القاف وتشديد الراء: أي لم تطمئن نفسه بكلام الصديق، كذا قاله القاري. وفي "موطأ يحيى": فلم تُقرره (بقول عمر رضي الله عنه أيضاً. (فلم تُقْرِره) بضم الفوقية وسكون القاف وكسر الراء الأولى أي لم تمكنه. أوجز المسالك 13/202) نفسه.
(6) من الأمر بالتوبة والستر.(3/91)
أَبُو بَكْرٍ. قَالَ سَعِيدٌ: فَلْم تقَرّ بِهِ نَفْسُهُ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ (1) : الآخِرُ قَدْ زَنَى، قَالَ سَعِيدٌ (2) : فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فقَالَ (3) لَهُ (4) ذَلِكَ مِرَارًا، كلُّ ذَلِكَ يُعرض عَنْهُ حَتَّى إذَا أَكْثَرَ (5) عَلَيه، بَعَث إلى أهله،
__________
(1) لشدة خوفه من ربه.
(2) ابن المسيّب.
(3) أي ذلك الصحابي.
(4) أي للنبي عليه السلام.
(5) قوله: إذا أكثر عليه، أي المرة الرابعة، فعند الطحاوي من طريق الشعبي، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبي بكر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ ماعزاً أربع مرات. وفي رواية أخرى عنده عن عكرمة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لماعز: أحقٌّ ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ (في الأصل: "وما بلغني؟ "، وهو خطأ. انظر شرح معاني الآثار 20/82) قال: بلغني أنك أتيتَ جاريةَ آل فلان، فأقر على نفسه أربع شهادات، فأمر به فرُجم. وفي رواية له عن جابر: أنّ رجلاً من أسلم أتى رسول الله وهو في المسجد فناداه فحدّثه أنه قد زنى، فأعرض عنه رسول الله فتنحّى بشقه الذي أعرض قبله، فأخبره أنه زنى وشهد على نفسه أربع مرات فدعاه رسول الله فقال: هل بك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أُحصنت؟ قال: نعم. فأمر به، فرُجم بالمصلّى، فلما أذلقته الحجارة فرّ حتى أُدرك بالحرَّة فقُتل بها رجماً. وعنده من حديث بُريدة نحوه، وفي آخره قال بريدة: كنا أصحابَ رسول الله نتحدّث أنّ ماعزاً لو جلس في رحله بعد اعترافه ثلاث مرات لم يطلبه، وإنما رجمه عند الرابعة. قال الطحاوي: فثبت بذلك كلِّه أنّ الإِقرار بالزناء الذي يوجب الحدّ أربع مرات، فمن أقرّ كذلك حُدّ ومن أقرّ أقل من ذلك لم يُحَدّ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقد عمل بذلك عليٌّ في شراحة الهَمْدانية حيث ردّها أربع مرات، وأجاب الطحاوي، عن حديث العَسيف وقوله صلى الله عليه وسلم فيه لأنيس: اغْدُ يا أُنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها حيث لم يذكر فيه أربع مرات بأنه يجوز أن يكون أنيس قد علم الاعتراف الذي يوجب(3/92)
فقال: أَيَشْتَكِي؟ (1) أَبِه جِنَّةٌ (2) ؟ قالوا: يارسول اللَّهِ، إِنَّهُ لَصَحِيحٌ (3) . قَالَ: أبِكْرٌ (4) أَمْ ثَيِّب (5) قال: ثيبٌ. فَأَمَرَ بِهِ فرُجِمَ.
700 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يحيى بن سعيد أنه (6) بلغه: أنّ
__________
حدَّ الزناء على المعترف مما علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم في ماعز وغيره، فخاطبه بعد علمه أنه قد علم الاعتراف الذي يُوجب الحدّ.
(1) أي هو مبتلى بشكاية ومرض أذهب عقله أم به الجِنّة بكسر الجيم وتشديد النون أي الجنون.
(2) قوله: أبه جِنَّة، قال ابن عبد البر: فيه أن المجنون لا حدّ عليه وهو إجماع، وأن إظهار الإِنسان ما يأتيه من الفواحش جنون لا يفعله إلا المجانين، وأنه ليس من شأن ذوي العقول كشف ذلك والاعتراف به عند السلطان وغيره، وأن حدّ الثيب غير حدّ البكر، ولا خلاف فيه، لكن قليل من العلماء رأى على الثيب الجلد والرجم معاً، رُوي ذلك عن عليّ وعُبادة، وتعلّق به داود وأصحابه، والجمهور على أنه يُرجم ولا يُحَدّ، وقال الخوارج: لا رجم مطلقاً وإنما الحدّ الجلد للثيب والبكر، وهو خلاف إجماع أهل السنة والجماعة، كذا ذكره الزرقاني.
(3) أي في عقله وبدنه.
(4) أي غير محصن.
(5) أي محصن.
(6) قوله: أنه بلغه، هكذا وجدناه في النسخ الحاضرة، وفي "موطأ يحيى": مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب أنه قال: بلغني أنّ رسول الله قال لرجل من أَسْلَم (بفتح فسكون: اسم قبيلة قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلم سالمها الله) ... إلخ، وقال ابن عبد البر في شرحه: لا خلاف(3/93)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُدعَى (1) هَزَّالاً (2) : يَا هَزَّال لَوْ سَتَرْتَه بردائِك لَكَانَ خَيْرًا لَكَ، قَالَ يَحْيَى: فحدَّثتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ يزيدُ بْنُ نُعيم بْنِ هَزَّال، فَقَالَ: هَزَّالٌ جَدِّي، وَالْحَدِيثُ صحيحٌ حقٌّ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَلا يُحَدَّ الرجلُ بِاعْتِرَافِهِ بِالزِّنَى حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مراتٍ فِي أَرْبَعِ مَجَالِسَ مختلفة (4) ، وكذلك جاءت السُّنَّة (5) :
__________
في إسناده في "الموطأ" كما ترى وهو مسند من طرق صحاح، ثم أخرجه من طريق النسائي عن عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن ابن هزّال، عن أبيه.
(1) أي يسمى بهزال.
(2) قوله: هزّالاً، هو بفتح الهاء وتشديد الزاء المعجمة بعد الألف لام، ابن ذئاب بن زيد بن كليب الأسلمي، وهو الذي كانت له جارية وقع عليها ماعز، فقال له هزّال: انطلق إلى رسول الله فأخبره فعسى أن ينزل قرآن، فأتاه، فكان ما كان فقال له النبي عليه السلام: يا هزالُ، لو سترتَه (قال الباجيّ: وكان ستره بأن يأمره بالتوبة وكتمان خطيئته، وإنما ذُكر فيه الرداء على وجه المبالغة. المنتقى 7/135) بثوبك أي لم تحرّضه على إفشاء السرّ لكان خيراً. وابنه نُعيم بن هزّال - بضم النون - قيل: له صحبة، وقيل: لا، وابنه يزيد تابعي ثقة، كذا ذكره ابن الأثير في "أسد الغابة"، و "جامع الأصول".
(3) أي ثابت بلا شبهة.
(4) قُيّد به لأن المجلس الواحد له أثر في توحّد المتعدّد.
(5) المرفوعة وكذا الموقوفة كما مرّ.(3/94)
لا يُؤْخَذ الرجل باعترافه على نفسه بالزنى حَتَّى يُقِرّ أَرْبَعَ مرّاتٍ وَهُوَ (1) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. وَإِنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ (2) قُبِلَ رجوعُه (3) وخُلِّيَ (4) سبيلُه.
3 - باب الاستكراه (5) في الزناء
701 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدًا كَانَ (6) يَقُومُ عَلَى رَقِيقِ الخُمس، وَأَنَّهُ اسْتَكره جَارِيةً من ذلك الرقيق، فوقع (7) بها،
__________
(1) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وكذا أحمد في التربيع (مع الاختلاف بينهما في اشتراط تعدّد المجالس كما قال به الحنيفة، أو يكفي الإِقرار أربعاً في مجلس واحد، كما قال به الإمام أحمد. انظر أوجز المسالك 13/241) ، وخالف فيه الشافعي ومالك فقالا باكتفاء الإِقرار مرة اعتباراً بسائر الحقوق، وفي اشتراط اختلاف المجالس خلاف أحمد وابن أبي ليلى، ولنا ما ورد في بعض طرق قصة ماعز من التربيع في أربع مجالس، كذا في "البناية".
(2) أي قبل حدّه أو في وسطه.
(3) قوله: قُبِل رجوعه (أي يُقبل من المُقِرّ الرجوع عن الإِقرار ويسقط عنه الحدّ، وإلى ذلك ذهب أحمد والشافعية والحنفية وهو قول لمالك ورواية عنه. انظر هامش الكوكب الدري 2/241) ، لأنه وقع فيه شبه والحدود تندرئ بالشبهات، وفيه خلاف الشافعي، والتفصيل في كتب الفقه.
(4) بصيغة المجهول من التخلية أي تُرك دونه.
(5) قوله: كان يقوم، أي يخدم رقيق الخُمس الذي هو حق الإِمام من الغنيمة، ويدبّر حوائجهم بتولية من عمر بن الخطاب.
(6) قوله: كان يقوم، أي يخدم رقيق الخُمس الذي هو حق الإِمام من الغنيمة، ويدبّر حوائجهم بتولية من عمر بن الخطاب.
(7) أي وطئها.(3/95)
فَجَلَدَهُ (1) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَنَفَاهُ (2) ، وَلَمْ يَجْلِدِ الْوَلِيدَةَ (3) مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا (4) .
702 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ (5) بْنَ
__________
(1) لأنه كان غير مُحْصَن (جلده عمر بن الخطاب خمسين جلدة، فإنه حدّ العبد سواء كان بكراً أو ثيباً عند الجمهور، منهم الأئمة الأربعة خلافاً لبعض الصحابة والظاهرية، كذا في الأوجز 13/255، والمغني 9/174) .
(2) أي أخرجه من البلد زجراً (أي غرّبه نصف سنة لأنّ حده نصف حد الحرّ، ويستفاد منه عمر رضي الله كان يرى أن الرقيق يُنفى كالحر. قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك. شرح الزرقاني 4/149) .
(3) أي الجارية.
(4) فإنه لا حدّ على المُكْرَهة (قال الموفق: لا حدّ على مكرهة في قول عامة أهل العلم، وإن أُكره الرجل فزنى فقال أصحابنا: عليه الحدّ، وبه قال محمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة: إنْ أكرهه السلطان فلا حدّ عليه وإن أكرهه غيره حُدَّ استحساناً، وقال الشافعي: لا حدّ عليه. انظر المغني 8/187) ، إنما هو بالرضا.
(5) قوله: أن عبد الملك، هو أحد خلفاء بني أمية، ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص، بُويع له بالخلافة يوم موت أبيه، وذلك سنة 65 خمس وستين، وهو أول من سُمِّي بعبد الملك في الإِسلام، وكانت في زمن خلافته وقائع مذكورة في "مرآة الجنان" لليافعي وغيره، وكانت وفاته على ما في "حياة الحيوان" سنة 86 ست وثمانين.(3/96)
مَرْوَانَ قَضَى فِي امرأةٍ أُصيبت (1) مُسْتَكْرَهَةً بصَدَاقها (2) عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا استُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ (3) فَلا حَدَّ عَلَيْهَا، وَعَلَى مَنِ اسْتَكْرَهَهَا الْحَدُّ، فَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ (4) الْحَدُّ بَطَلَ الصَّدَاقُ، وَلا يَجِبُ (5) الْحَدُّ وَالصَّدَاقُ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ دُرِئَ عَنْهُ الحدُّ بِشُبْهَةٍ (6) وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
4 - بَابُ حَدِّ الْمَمَالِيكِ في الزناء (7) وَالسُّكْرِ (8)
703 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أن سليمان بن
__________
(1) أي وطئت بالإِكراه.
(2) أي بمهر مثلها.
(3) أي بالزناء.
(4) أي على المكره.
(5) قوله: وَلا يَجِبُ الْحَدُّ وَالصَّدَاقُ فِي جِمَاعٍ وَاحِدٍ، احتراز عما إذا وقع جِماع ثانٍ، ولم يحدّ فيه بشبهة يجب فيه مهر المثل لعِظَم خطر منافع البضع، وأما إذا وجب الحدّ فلا يجب شيء من الضمان كما مع القطع في السرقة الضمان، وتفصيله في كتب الفقه.
(6) سواء كانت الشبهة في المحلّ أو في الفعل، كما هو مفصّل في كتب الفروع.(3/97)
يَسَارٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنَ عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ قَالَ (2) : أَمَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي فِتْيَةٍ (3) مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَلَدْنَا ولائدَ (4) مِنْ وَلائِدِ الإِمارة خَمْسِينَ (5) خَمْسِينَ فِي الزناء (6) .
__________
(7) قوله: عبد الله بن عَياش، بشد تحتيّة وشين معجمة، بن أبي ربيعة: اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي الصحابي بن الصحابي، كذا قال الزرقاني.
(8) قوله: قال أمرني ... إلخ، كذا رواه ابن جريج وابن عيينة وغيرهما، عن يحيى بن سعيد به، وروى معمر، عن الزهري أنَّ عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكاراً في الزناء، وهذا كله أصح وأثبت مما رُوي عن عمر أنه سئل عن الأمة كم حدُّها؟ فقال: ألقتْ فروتَها وراء الدار. وأراد بالفروة القناع أي ليس عليها قناع ولا حجاب لخروجها إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع منه، فلا تكاد تقدر على الامتناع من الزناء، فلا حدّ عليها إذا لا حجاب لها ولا قناع، وإنما عليها الأدب، وتُجلد دون الحد، وهكذا قال طائفة: لا حد على الأمة حتى تُزوَّج، وعليه تأوَّلوا حديث زيد وأبي هريرة: إذا زنت ولم تحصن، كذا ذكره ابن عبد البر.
(1) قوله: عبد الله بن عَياش، بشد تحتيّة وشين معجمة، بن أبي ربيعة: اسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي القرشي الصحابي بن الصحابي، كذا قال الزرقاني.
(2) قوله: قال أمرني ... إلخ، كذا رواه ابن جريج وابن عيينة وغيرهما، عن يحيى بن سعيد به، وروى معمر، عن الزهري أنَّ عمر بن الخطاب جلد ولائد من الخمس أبكاراً في الزناء، وهذا كله أصح وأثبت مما رُوي عن عمر أنه سئل عن الأمة كم حدُّها؟ فقال: ألقتْ فروتَها وراء الدار. وأراد بالفروة القناع أي ليس عليها قناع ولا حجاب لخروجها إلى كلّ موضع يرسلها أهلها إليه، لا تقدر على الامتناع منه، فلا تكاد تقدر على الامتناع من الزناء، فلا حدّ عليها إذا لا حجاب لها ولا قناع، وإنما عليها الأدب، وتُجلد دون الحد، وهكذا قال طائفة: لا حد على الأمة حتى تُزوَّج، وعليه تأوَّلوا حديث زيد وأبي هريرة: إذا زنت ولم تحصن، كذا ذكره ابن عبد البر.
(3) بالكسر: جمع فتى أي في جماعة أحداث من قريش (قال الموفق: يجب أن يحضر الحدّ طائفة من المؤمنين، قال أصحابنا: الطائفة واحد فما فوقها، وقال مالك: أربعة لأنه العدد الذي يثبت به الزنا، وللشافعي قولان كقول الزهري ومالك. انظر المغني 8/170) .
(4) جمع وليدة بمعنى الجارية.
(5) هو نصف حدّ الحر.
(6) أي بسببه.(3/98)
704 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ (1) ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهنيّ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عَنِ الأَمَةِ، إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن (2) ؟ فَقَالَ: إِذَا زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا (3) ، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ (4) فَاجْلِدُوهَا، ثم إذا
__________
(1) محمد بن مسلم الزهري.
(2) قوله: ولم تُحْصَن، قال النووي: قال الطحاوي: لم يذكر هذه اللفظة أحد من الرواة غير مالك. وأشار بذلك إلى تضعيفها، وأنكر الحفاظ عليه، وقالوا: بل روى هذه اللفظة أيضاً ابن عيينة ويحيى بن سعيد، عن ابن شهاب كما قال مالك، فحصل أن هذه اللفظة صحيحة وليس فيها حكم مخالف لأن الأَمَة تُجلد نصف جلد الحرة سواء أحصنت أو لم تحصن، كذا في "التنوير". وقال القسطلاني في "إرشاد الساري" تقييد حدِّها بالإحصان ليس بقيد، وإنما هو حكاية حال والمراد بالإِحصان ههنا ما هي عليه من عِفَّة، لا الإحصان بالتزوّج لأن حدها الجلد سواء تزوجت أم لا.
(3) قوله: فاجلدوها، أي نصف جلد الحرة لقوله تعالى في كتابه: (فإذا أُحصِنّ) ، أي الفتيات (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) (سورة النساء: الآية 25) . وقد اختلف السلف ومَنْ بعدهم في تفسير الإِحصان الواقع في الآية: فجَمْعٌ منهم فسَّروه بالإِسلام، منهم ابن مسعود، فأخرج عبد الرزاق وعبد بن حُمَيد وابن جرير والطبراني أنه سئل عن أمةٍ زنت وليس لها زوج؟ قال: اجلدها خمسين، قال: إنها لم تحصن، قال: إسلامها إحصانها. ومنهم ابن عمر، أخرج عبد الرزاق عنه أنه قال: إذا كانت الأمة ليست بذات زوج فزنت جُلدت نصف ما على المحصنات. وأخرج نحوه ابن جرير، عن إبراهيم. وجَمْع فسَّروه بالتزوُّيج، منهم(3/99)
زنت فاجلدوها، ثم بيعوها (1) ولو
__________
ابن عباس ومجاهد وغيرهما، فإنَّ عندهما لا تُحَدّ الأمة حتى تتزوج، أخرجه ابن المنذر ابن جرير وسعيد بن منصور والبيهقي وابن خزيمة وابن أبي شيبة وعبد الرزاق. والبسط في "الدرّ المنثور".
(4) قوله: ثم إذا زنت فاجلدوها، ظاهر الحديث أنَّ الخطاب إلى الملاك، فيفيد جواز إقامة السيد على عبده وأمته الحدّ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم خلافاً للحنفية، واستثنى مالك القطع في السرقة، كذا في "إرشاد الساري". ومما يوافق الجمهور ما أخرجه الترمذي مرفوعاً: يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقّائكم، من أُحصن منهم ومن لم يُحصن. وأخرج أيضاً مرفوعاً: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها بكتاب الله. وفي رواية لأبي داود: أقيموا الحدود على ما ملكت أَيْمانكم، وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث على ما في "غاية البيان" وغيره بأنها محمولة على التسبّب بأن يكون المَوْلى سبباً في حدّ عبده بالمرافعة إلى الإِمام، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بما أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن، قال: أربعة إلى السلطان، الصلاة والزكاة والحدود والقصاص. وأخرج عن عبد الله بن جرير قال: الجمعة والحدود والزكاة والفيء إلى السلطان. وكذا عن عطاء الخرساني (قال في الأوجز 13/252: إن الحدّ خالصُ حقّ الله تعالى فلا يستوفيه إلاَّ نائبه وهو الإِمام. وما رُوي عن الصحابة الذين تقدمت آثارهم في مباشرتهم الحدود من ابن عمر وعائشة وغيرهما تُحمل على إذن الإِمام) . وادعى بعضهم في هذا الرفعَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس بصحيح كما بسطه العيني في "البناية". ولعل المنصف بعد إحاطة الكلام من الجوانب يعلم أن قول الجمهور قول المنصور.
(1) قوله: ثم بيعوها، الأمر للندب عند الشافعية والحنفية والجمهور، وزُعم أنه للوجوب ولكنه نسخ، ذكره القسطلاني.(3/100)
بضَفِير (1) . قال ابن شهاب: لا أدري (2) أ (3) بعد الثَّالِثَةِ أَوِ (4) الرَّابِعَةِ. وَالضَّفِيرُ (5) : الْحَبْلُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُجلد الْمَمْلُوكُ وَالْمَمْلُوكَةُ فِي حَدِّ الزِّنَا نِصْفَ حَدِّ الحرَّة خَمْسِينَ جَلْدَةً، وَكَذَلِكَ الْقَذْفُ (6) وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ (7) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
705 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزناد، عن عمر (8) بن
__________
(1) قوله: ولو بضفير، فعيل بمعنى المفعول، وهو الحبل المضفور، أي وإن كان البيع بحبل، وذكره للمبالغة في التنفير عن الأمة الزانية لما في ذلك من الفساد، كذا في "إرشاد الساري".
(2) قد ورد في "جامع الترمذي: وغيره من حديث أبي هريرة ذكره بعد الثالثة.
(3) بهمزة الاستفهام، أي هل ذكرتم "بيعوها ولو بضفير" بعد الثالثة أو الرابعة.
(4) في نسخة: أو بعد.
(5) قوله: والضفير، الحبل، قال القاري: يُحتمل أن يكون من كلام الزهري أو من تفسير غيره. انتهى. أقول: لا بل هو من كلام مالك كما يشهد به "موطأ يحيى".
(6) أي يُحدّ فيه نصف حد الحرّ أربعون جلدة.
(7) هو إما بالضم معطوف على شرب الخمر أي في السكر الحاصل من غير الخمر، فإن الخمر شربه مطلقاً موجِب للحدّ أسْكَر أو لم يُسْكر، وإما بفتحتين معطوف على الخمر أي شرب شراب مسكر مطلقاً أو نوعاً خاصّاً كما مرَّ.
(8) قوله: عن عمر بن عبد العزيز، هو أحد الخلفاء الراشدين أبو حفص(3/101)
عَبْدِ الْعَزِيزِ: أنَّه جَلَدَ عَبْدًا فِي فِرْيَةٍ (1) ثمانين (2) . قال أبو زناد: فسألتُ عبدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، فَقَالَ: أدركتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَالْخُلَفَاءَ هَلُمْ (3) جَرّاً، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا ضَرَبَ عَبْدًا فِي فِرْيَة أكثر (4) من أربعين.
قال محمد: وبهذذا نَأْخُذُ، لا يُضرب الْعَبْدُ فِي الفِرْية إلاَّ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً نِصْفَ (5) حَدِّ الْحُرِّ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، كان على صفة من العلم والزهد والتقى والعدل والعفَّة وحُسْن السيرة لا سيما في أيام ولايته، ولي الخلافة بعد سليمان بن عبد الملك بن مروان سنة تسع وتسعين، ومات سنة إحدى ومائة، ومناقبه كثيرة، وقد عُدَّ من المجدِّدين على رأس المائة، كذا في "جامع الأصول".
(1) قوله: فِرْية، بكسر الفاء وسكون الراء بمعنى الكذبة والافتراء، يُقال: هذا فرية بلا مرية، والمراد به القذف.
(2) قوله: ثمانين، أخذاً من ظاهر قوله تعالى: (والذين يَرْمُون المُحْصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) (سورة النور: الآية 4) ، فإنه ليس فيه تفصيل بين الحرّ والعبد.
(3) أي من عهد عثمان إلى عهد عمر بن عبد العزيز.
(4) قوله: أكثر من أربعين، لأنهم خصَّصوا الآية بالأحرار لقوله تعالى في حد الزناء: (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) (سورة النساء: الآية 25) ، ومن المعلوم أن العبد كالأمة وأن حدّ القذف كحد الزناء.
(5) أي هو نصفه وهو ثمانون جلدة.(3/102)
706 - أخبرنا مالك، حدَّثنا ابن شهاب و (1) سُئل عَنْ حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ؟ فَقَالَ: بَلَغَنَا (2) أنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ حَدِّ الحُرّ، وأنَّ عَلِيًّا وعُمَر وَعُثْمَانَ وَابْنَ عَامِرٍ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَلَدُوا عَبِيدَهُمْ نِصْفَ حَدِّ الحُرّ فِي الْخَمْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. الْحَدُّ فِي الْخَمْرِ وَالسُّكْرِ (4) ثَمَانُونَ، وَحَدُّ الْعَبْدِ (5) فِي ذَلِكَ أَرْبَعُونَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
5 - بَابُ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ (6)
707 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجَالِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أمِّه عَمَرة بنت عبد الرحمن: أن رَجُلَيْنِ فِي زَمَانِ عُمَرَ اسْتَبَّا (7) ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَا أَبِي بزانٍ وَلا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ (8) فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَح أَبَاهُ وَأُمَّهُ (9) ، وَقَالَ آخَرُونَ: وَقَدْ كَانَ لأبيه
__________
(1) الواو حالية.
(2) أي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) أي عبد الله بن عامر. وفي "موطأ يحيى" مكانه: وابن عمر.
(4) أي المسكر من غير الخمر.
(5) فإن حد العبد نصف حدّ الحرّ مطلقاً.
(6) أي سبّ كلُّ واحد منهما الآخر.
(7) أي سبّ كلُّ واحد منهما الآخر.
(8) أي جمعاً من العلماء والصحابة.
(9) أي فلا حدَّ عليه.(3/103)
وَأُمِّهِ مَدْحٌ (1) سِوَى (2) هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الحدَّ (3) ثَمَانِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدِ اختَلف فِي هَذَا (4) عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أصحابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نَرَى عَلَيْهِ حَدًّا، مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَأَخَذْنَا (5) بقول من درأ
__________
(1) أي فعدوله إلى هذا في مقام السب دليل على التعريض بسبّ أبوي خصمه بالزناء.
(2) صفة لمدح، يعني إنما عرَّض بقوله: والله ما أبي بزانٍ، ولا أمي بزانية، أنّ أبوي الآخر كانا زانيين. ولا يُقهم من قوله هذا إلاَّ زنى أبوي الآخر، لأنه كان يمدح أبويه. فينبغي له أن يمدح غير هذا، وإنما أراد بهذا قذف والدي الآخر فيرى أن يجلده.
(3) هو حدّ القذف.
(4) أي هذا الحكم.
(5) قوله: فأخذنا، أي احتياطاً مع كون التعريض مشتملاً على الشبهة، والحدود تندرئ بالشبهات كما ورد به الخبر، ففي "جامع الترمذي" من حديث عائشة مرفوعاً: ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعنم، فإن كان له مخرج فخلُّوا سبيله، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. قال الحافظ ابن حجر: وأخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي، وقال: كونه موقوفاً أقرب إلى الصواب. وفي باب عن علي: ادرءوا الحدود، أخرجه الدارقطني. عن أبي هريرة: ادرءوا الحدود ما استطعتم، أخرجه أبو يعلى. ولابن ماجه: ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعاً. وفي "شرح القاري": قال مالك وأحمد (وقال أبو حنيفة والشافعي: ليس في التعريض حدّ. المنتقى 7/150) في رواية:(3/104)
الْحَدَّ (1) مِنْهُمْ وَمِمَّنْ دَرَأَ الْحَدَّ وَقَالَ: لَيْسَ فِي التَّعْرِيضِ جَلْدٌ (2) عليُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
6 - بَابُ الحدِّ فِي الشُّرْبِ (3)
708 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أن السائب بن يزيد
__________
يجب الحد في التعريض عملاً بقول عمر ومن وافقه، ولنا ما روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن أعربياً قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، فقال: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَ: حُمُر، قَالَ: فَهَلْ فِيهَا من أوراق؟ قال: نعم، قال: فأَنَّى لأتاها ذلك؟ قال: لعله نزعه عرق، قال: فكذالك هذا الولد لعله نزعه عرق. وترجم عليه البخاري "بباب إذا عرَّض بنفي الولد". وما روى أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن امرأتي لا تمنع يدَ لامس، فقال: غَرِّبها أي طلِّقها، قال: أخاف أن تتبَعَها نفسي، قال: فاستمتع بها، وفي رواية: فأمسكها. وقوله: لا تمنع يدّ لامس، كناية عن زناها، ولأن الله فرَّق بين التعريض بالخِطبة في العِدَّة، فأباحه، وبين التصريح فمنعه، حيث قال: (ولا جناح عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساء) (سورة البقرة: الآية 235) ، فيفرَّق ههنا أيضاً، ولأن الله أوجب الحدَّ بالقذف بصريح الزناء، فلم يمكن لنا إيجابه بكناية إلحاقاً لها به دلالة، لأن الكناية دون التصريح لما فيها من الإِجمال.
(1) أي دفع.
(2) أي حد القذف.(3/105)
أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجَ (1) عَلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّي وجدتُ مِنْ فُلانٍ (2) رِيحَ شَرَابٍ، فسألته، فزعم (3) أنه شرب طِلاء (4) ، وأنا
__________
(3) قوله: خرج علينا، وفي رواية الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن السائب بن زيد: أن عمر صلَّى على جنازة، فلما انصرف أخذ بيد ابنٍ له، ثم أقبل على الناس فقال: إني وجدت من هذا ريح الشراب (لقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالرائحة، فذهب مالك وجماعة من أصحابه إلى أن الحدّ يجب على من وُجد فيه ريح المسكر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حدّ عليه. والدليل على ما ذهب إليه مالك وأصحابه ما رُوي عن السائب بن يزيد، أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب فجلده الحد تامّاً، كذا في "الأوجز" 13/338) ، وإني سائل عنه، فإن كان سكر جلدناه، قال السائب: فرأيت عمر جلد ابنه بعد ذلك ثمانين سوطاً.
(1) قوله: خرج علينا، وفي رواية الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق سليمان بن بلال، عن ربيعة، عن السائب بن زيد: أن عمر صلَّى على جنازة، فلما انصرف أخذ بيد ابنٍ له، ثم أقبل على الناس فقال: إني وجدت من هذا ريح الشراب (لقد اختلف الفقهاء في وجوب الحدّ بالرائحة، فذهب مالك وجماعة من أصحابه إلى أن الحدّ يجب على من وُجد فيه ريح المسكر، ومنع من ذلك أبو حنيفة والشافعي وقالا: لا حدّ عليه. والدليل على ما ذهب إليه مالك وأصحابه ما رُوي عن السائب بن يزيد، أنه حضر عمر بن الخطاب وهو يجلد رجلاً وجد منه ريح شراب فجلده الحد تامّاً، كذا في "الأوجز" 13/338) ، وإني سائل عنه، فإن كان سكر جلدناه، قال السائب: فرأيت عمر جلد ابنه بعد ذلك ثمانين سوطاً.
(2) قوله: من فلان، قال الزرقاني: هو ابنه عبيد الله - مصغَّراً - كما في "البخاري" ورواه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن السائب فسماه عبيد الله. انتهى. وبه يظهر ما في قول القاري: قيل فلان كناية عن ابنه وله ثلاثة أولاد، وكلَّ منهم مسمى بعبد الرحمن، وهم عبد الرحمن الأكبر وله صحبة، وعبد الرحمن الأوسط وهو الذي جُلد في الخمر، وعبد الرحمن الأصغر وهو المعروف بالمجبَر - بفتح الباء -.
(3) أي قال.
(4) قوله: طِلاء، بكسر أوله ممدوداً، ما طبخ من العصير حتى يغلظ وشُبِّه(3/106)
سَائِلٌ (1) عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسكر جَلَدْتُهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ (2) الْحَدَّ.
709 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدَّيْلي (3) : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَشَارَ (4) في الخمر
__________
بطلاء الإِبل، وهو القَطِران الذي يُطلى به في الجرب، كذا في "مقدمة فتح الباري".
(1) أي عما شرب، كما في "موطأ يحيى" عن كيفيته: هل هو مسكر أم لا؟.
(2) قال السائب: فرأيت عمر جَلَدَ ابنَه بعد ذلك ثمانين، أخرجه الطحاوي.
(3) بكسر الدال وسكون الياء.
(4) قوله: استشار، إنما احتاج إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدِّر فيه حدّاً مضبوطاً، بل كان يضرب شارب الخمر على عهده بالجريد والنعال وغير ذلك، وكذلك كان في عهد أبي بكر وصدر من عهد عمر، وكان أحياناً أبو بكر يجلده أربعين، وكذلك عمر في صدر إمارته حتى استشار وانعقد رأيهم على ثمانين، كما أخرجه البخاري وغبره. وأخرج الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بعدما أخرج الآثار في التقدير بثمانين من طريق عبد الرحمن بن صخر الإِفريقي عن حميل بن كريب، عن عبد الله بن زيد، عن عبد الله بن عمرو: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: من شرب خمراً فاجلدوه ثمانين، وقال: هذا الذي وجدناه فيه التوقيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنْ كان ذلك ثابتاً فقد ثبت به الثمانون، وإن لم يكن ثابتاً فقد ثبت عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد تقدم منا ذكره في هذا الباب من إجماعهم على الثمانين، ومن استنباطهم من أخفِّ الحدود، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وقال ابن عبد البر: الجمهور من علماء السلف والخلف على أن الحد في الشرب ثمانون، وهو قول الثوري والأَوْزعي وإسحاق وأحمد وأحد قولي الشافعي، واتفق إجماع الصحابة في زمن عمر على ذلك، ولا مخالف لهم، وعلى ذلك جماعة من(3/107)
يَشْرَبُهَا (1) الرَّجُلُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَرَى أَنْ تَضْرِبَهُ (2) ثَمَانِينَ، فَإِنَّهُ (3) إِذَا شَرِبَهَا سَكِر (4) ، وإذا سَكِر هذى (5) ، وإذا هذى
__________
التابعين، والخلاف في ذلك كالشذوذ المحجوج بالجمهور (قال الزرقاني 4/167: وتُعُقِّب بما في الصحيح عن عليّ أنه جلد الوليد في خلافة عثمان أربعين، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكلّ سنة. وهذا أحبّ إليَّ، فلو أجمعوا على الثمانين في عمر لما خالفوا في زمن عثمان وجلدوا أربعين إلاَّ أن يكون مراد أبي عمر أنهم أجمعوا على الثمانين بعد عثمان فيصح كلامه) ، وقد قال ابن مسعود: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وقال النبي عليه السلام: عليكم بسنتي وسنَّة الخلفاء الراشدين. انتهى. وذكر العيني في "عمدة القاري" أن مذهب الشافعي وأهل الظاهر هو الجلد أربعين، وهو قول عثمان والحسن بن علي وعبد الله بن جعفر.
(1) أي في قدر حدّه.
(2) أي كحدّ القذف.
(3) قوله: فإنه إذا شرب، استنباط لطيف من عليّ على جَعْل حدَّه كحدّ القذف بأن الشُّرب مفضٍ إلى السكر، وهو مفضٍ إلى الهذيان المفضي إلى القذف، فينبغي أن يقرَّر فيه ما يقرر في القذف. وعند مسلم: أن عمر لما استشار الناس قال عبد الرحمن بن عوف: أخفُّ الحدود ثمانون، فأمر به عمر. ولعلَّ كلاًّ منهما أشار بما وضح لديه من التوجيه، واتفقا على مقدار الحدّ. وقد أخرج البخاري عن علي أنه جلد الوليد في خلافة عثمان أربعين، ثم قال: جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلُّ سنة، وهذا أحبُّ إليَّ.
(4) أي زال عقله.
(5) من الهذيان أي خَلَط كلامَه وتكلَّم بما لا يعني.(3/108)
افْتَرَى (1) . أَوْ (2) كَمَا قَالَ. فجَلَد عُمَرُ فِي الْخَمْرِ ثَمَانِينَ.
7 - بَابُ شُرْبِ البِتْعِ والغُبَيْرَاء وَغَيْرِ ذَلِكَ (3)
710 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ البِتْع (4) ؟ فَقَالَ: كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فهو حرام (5) .
__________
(1) أي كذب وقذف.
(2) شكّ من الراوي.
(3) قوله: عن البِتْع، بكسر الموحدة وقد تُفتح، وسكون الفوقية، وتُفتح، ثم عين مهملة، هو شراب العسل. وكان أهل اليمن يشربونه كما زاد في رواية عند البخاري، قال ابن حجر في "المقدمة": لم أقف على اسم السائل لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في "المغازي" عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربه تُصنع بها، فقال: ما هي؟ قال: البتع والمرز.
(4) قوله: عن البِتْع، بكسر الموحدة وقد تُفتح، وسكون الفوقية، وتُفتح، ثم عين مهملة، هو شراب العسل. وكان أهل اليمن يشربونه كما زاد في رواية عند البخاري، قال ابن حجر في "المقدمة": لم أقف على اسم السائل لكني أظنه أبا موسى الأشعري كما عند البخاري في "المغازي" عن أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، فسأله عن أشربه تُصنع بها، فقال: ما هي؟ قال: البتع والمرز.
(5) قوله: فهو حرام، ظاهره شرب قليل كل مسكر وكثيره، أسكر أو لم يُسكر، وقد ورد التصريح بذلك عند أبي داود والنسائي وغيرهما، وهو مذهب الأئمة الثلاثة ومحمد من أصحابنا، بل الجمهور. وذهب بعض قدماء أصحابنا إلى أن الخمر، وهو الذي من عصير العنب يحرم قليله وكثيره، وغيره من المسكرات يحرم قدر المسكر منه دون القليل، وهو أمر تخالفه الأحاديثُ الصحيحة الصريحة على ما لا يخفى على ماهر الفن.(3/109)
711 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن النبي (1) صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الغُبَيْراء (2) ؟ فَقَالَ: لا (3) خَيْرَ فِيهَا، وَنَهَى (4) عَنْهَا. فَسَأَلْتُ (5) زَيْدًا مَا الغُبَيْراء؟ فَقَالَ: السُكُرْكَة (6) .
8 - بَابُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَمَا يُكره مِنَ الأَشْرِبَةِ
712 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بن أسلم، عن أبي وَعْلة (7)
__________
(1) قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عبد البر: أسنده ابن وهب، عن مالك، عن زيد، عن عطاء، عن ابن عباس، وما علمتُ أحداً أسنده عن مالك غيره.
(2) قوله: عن الغبيراء، قال الزرقاني: بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون التحتية، فراء، فألف ممدودة نبيذ الذرة، وقيل: نبيذ الأرز، وبه جزم ابن عبد البر.
(3) أي لأنه مسكر.
(4) أي تحريماً.
(5) السائل هو مالك كما صرح به في "موطأ يحيى".
(6) قال في "جمع البحار" (3/93. وفي غريب الحديث 2/488 لابن الجوزي: السُّكْرُكَة: خمر الحبشة، قال أبو عبيد: هي من الذرة، قال الأزهري: ليست عربية) السكركة: بضم سين وكاف أولاً وسكون راء، هو الغبيراء، وهو نوع من الخمر يُتَّخذ من الذرة وهي خمر الحبشة، وهو لفظ حبشي فعُرِّبت، وقيل: السفرقع.
(7) قوله: عن أبي وَعْلة، هكذا وُجد في نسخ عديدة، وهو ابن وعلة كما في "موطأ يحيى" وفي رواية ابن وهب عن مالك، عن زيد، عن عبد الرحمن بن(3/110)
الْمِصْرِيِّ، أنَّه سُئل ابْنُ عَبَّاسٍ عَمَّا (1) يُعصرَ مِنَ الْعِنَبِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَهْدَى رَجُلٌ (2) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاوِيَةَ (3) خمرٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ علمتَ (4) أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلَّ حرَّمها (5) ؟ قال: لا (6) ،
__________
وعلة السَّبائي من أهل مصر، وفي "جامع الأصول": ابن وعلة هو عبد الحمن بن وعلة السبائي، تابعي، ووَعْلة بفتح الواو وسكون العين وفتح اللام. انتهى. وذكر السمعاني في "الأنساب" السبائي نسبة إلى سّبا بفتح السين المهملة والباء المنقوطة من تحت بواحدة وفتحها. وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وهم رهط ينتسبون إليه عامَّتهم من أهل مصر، ثم قال: منهم عبد الرحمن بن أُسْمَيْفع بن وعلة، يروي عن ابن عمر وابن عباس كان شريفاً بمصر. انتهى. وفي "إسعاف السيوطي": وثقةه النسائي وابن معين والعجلي.
(1) أي عن حلَّه وحرمته.
(2) قال الزرقاني: هو كيسان الثقفي، كما رواه أحمد من حديثه.
(3) بكهال (بالفارسية) . قوله: رواية خمر: أي مزادة. وأصل الراوية البعير يَحمل الماء، والهاء فيه للمبالغة، ثم أطلقت على كل دابَّة يُحمل عليها الماء، ثم على المزادة فقط، وهو وعاء كبير من الجلد يُحمل على البعير والثور. وفي رواية أحمد كان يتَّجر في الخمر، وأنه أقبل من الشام، فقال: يا رسول الله، إني جئتك بشراب جيَّد. وعنده أيضاً من حديث ابن عباس: كان للنبي صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو دوس فلقيه يوم الفتح برواية خمر يهديها إليه، فظاهره أن تحريم الخمر كان سنة ثمان قبل الفتح، وقيل: كان سنة أربع، وقيل سنة ست، ثم لا يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر قبل تحريمه، فإن الله قد صانه عنه، وهو لم يشرب خمر الجنَّة في ليلة المعراج، بل كان يُهدي ما أُهدي إليه أو يتصدق، كذا في "فتح الباري" وغيره.
(4) في رواية يحيى: أما علمتَ؟.
(5) أي بآية المائدة.
(6) أي ما علمت بحرمته، فأهديتهُ إليك لجهلي بذلك.(3/111)
فسارَّه (1) إِنْسَانٌ إِلَى جَنْبِهِ، فَقَالَ لَهُ (2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَ ساررتَه (3) ؟ قَالَ: أَمَرْتُهُ بِبَيْعِهَا، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي حرَّم شُرْبَهَا حرَّم بَيْعَهَا. قَالَ (4) : فَفَتَحَ (5) الْمَزَادَتَيْنِ (6) حَتَّى ذَهَبَ ما فيهما.
__________
(1) سر كَوشي كرد (بالفارسية) قوله: فسارَّه، أي كلَّم هذا المُهدي إنسانٌ حاضرٌ عند ذلك شيئاً سرّاً، وفي رواية أحمد عن ابن عباس: فأقبل الرجل على غلامه، فقال: بِعْها، ولابن وهب: فسارّ إنساناً.
(2) أي للرجل السارّ أو المهدي وهو الموافق لرواية ابن عباس عند ابن مردويه.
(3) أي بأي شيء تكلمته خُفية (قال الباجي: لما قال المهدي لا إظهاراً لعذره سارَّه إنسان إلى جانبه بما ظن أنه يرشده به إلى منفعته، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من مسارته ولم يثق بعلمه وتوقَّع أن يأمره بمثل ما أظهره بعد ذلك سأله عما سارَّه به، فإن كان صواباً أقرَّه عليه وثبَّته فيه، وإن كان خطأً حذَّره منه.
قال النووي: فيه دليل لجواز سؤال الإِنسان عن بعض أسرار الإِنسان، فإنْ كان مما يجب كتمانه كتمه وإلاَّ فيذكره. انظر أوجز المسالك 13/358) .
(4) أي الراوي.
(5) يستفاد منه وجوب إراقة الخمر ونحوه (قال النووي: في الحديث دليل لمذهب الشافعي والجمهور أن أواني الخمر لا تُكسر، ولا تشقّ، بل يراق ما فيها، وعن مالك رويتان: إحدهما: كالجمهور، والثانية: يُكسر الإِناء ويُشقّ السِّقاء، وهذا ضعيف لا أصل له. وأما حديث أبي طلحة أنهم كسروا الدِّنان فإنهم فعلوا ذلك بأنفسهم من غير أمر النبي صلى الله عليه وسلم. كذا في الأوجز 13/358) .
(6) قال في "النهاية: بفتح الميم: ظرف يُحمل فيه الماء كالقِربة والراوية.(3/112)
713 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رَجُلا (1) مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: إنَّا نَبْتَاعُ (2) مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَالْعِنَبِ وَالْقَصَبِ (3) ، فَنعصره خَمْرًا فَنَبِيعَهُ (4) ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ (5) عَلَيْكُمْ وملائكتَه وَمَنْ سَمِعَ مِنَ الجنِّ والإِنس أَنِّي لا آمُرُكُمْ أَنْ تَبْتَاعُوهَا (6) ، فَلا تَبْتَاعُوهَا (7) ، وَلا تَعْصِرُوهَا، وَلا تَسْقُوهَا، فَإِنَّهَا رِجْسٌ (8) مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. ما كرهنا (9) شُربَه من الأشربة الخمر
__________
(1) في "موطأ يحيى": أن رجلاً من أهل العِراق قالوا له: يا أبا عبد الرحمن. وهو بالكسر إقليم معروف منه الكوفة والبصرة وغيرهما.
(2) أي نشتري.
(3) أي قصب السُّكّر.
(4) قوله: فنبيعه، لعلهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فلم يبلغهم تحريم الخمر أو بلغهم ذلك وظنّوا أن المحرم إنما هو الشرب دون البيع، فليس كل ما لا يحل أكله وشربه يحرم بيعه.
(5) أتى بذلك لزيادة التأكيد.
(6) أي الخمر. وفي رواية يحيى: لا آمركم أن تبيعوها.
(7) أي لا تشتروا.
(8) بالكسر أي نجس، وفيه اقتباس من الآية (والآية هي: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجْسٌ من عمل الشيطان ... ) ، سورة المائدة: الآية 90) .
(9) أي حرَّمنا.(3/113)
وَالسُّكْرِ (1) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلا خَيْرَ (2) فِي بَيْعِهِ ولا أكل ثمن.
714 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا (3) حُرِمَها (4) فِي الآخِرَةِ فَلَمْ يُسْقَها.
__________
(1) قوله: والسكر، قال العيني في "البناية" عند قول صاحب "الهداية": ومن أقرَّ بشرب الخمر والسكر ... إلخ: هو بفتحتين، نقيع التمر إذا غلا واشتد ولم يُطبخ، كذا فسره الناطفي في "الأجناس"، وقال في "ديوان الأدب": السكر خمر النبيذ، وقال في "المجمل": السكر شراب أسكر، وقال في "المغرب": السكر عصير الرُّطَب. والمراد ههنا ما ذكره الناطفي، وإنما خصه بالذكر مع أن الحكم في سائر الأشربة كذلك لأن السكر كان الغلب في بلادهم.
(2) بنفي الجنس فيدل على حرمته.
(3) أي مِنْ شُربها.
(4) قوله: حُرِمَها، بصيغة المجهول من الحرمان، قال البغوي والخطابي: معناه لا يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة، فإذا حُرِمَ شربها عُلم أنه لا يدخلها، وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة، لأن الله أخبر أن في الجنة أنهاراً من خمر لَذَّة للشاربين، وأنهم لا يُصدَّعون عنها ولا ينزفون، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمراً وأنه حُرِمها عقوبةً له لزم وقوع الهمّ والحزن له، والجنة لا حزن فيها، وإن لم يعلم بذلك لم يكن عليه ألم، فلا يكون عقوبة، فلهذا قال بعض من تقدم: إن شارب الخمر لا يدخل الجنة أصلاً، وهو مذهب غير مرضي. ويحمل الحديث عند أهل السنَّة على أنه لا يدخلها(3/114)
715 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأنصَاريّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: كنتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ (1) بْنَ الجرَّاح وَأَبا طَلْحَةَ (2) الأَنْصَارِيَّ وَأُبَيَّ (3) بْنَ كَعْبٍ شَرَابًا مِنْ فَضِيْخ (4) وَتَمْرٍ، فَأَتَاهُمْ (5) آتٍ، فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمت، فَقَالَ أَبُو طلحة:
__________
(إنما هو إذا استحلها لأنه إذا أدمنها فكثيراً ما لا يبقى في قلبه حرمتها، أو النفي غير مؤبَّد أي لم يشربها إلى حين انقضاء أيام الجزاء الذي قدِّر له، كذا في الكوكب الدريّ 4/31) ، ولا يشرب الخمر فيها إلاَّ أن يعفو الله عنه كما في سائر الكبائر. فمعناه: جزاؤه أن يُحْرمَ دخول الجنة إلاَّ أن يُعفى عنه، وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ولا يشرب فيها خمراً ولا تشتهيها نفسه، وإن علم وجوده فيها، كذا في " فتح الباري".
(1) أحد العشرة.
(2) قوله: أبا طلحة، هو زوج أم أنس أم سُلَيم، اسمه زيد بن سهل ابن الأسود الأنصاري النجّاري، مشهور بكنيته من كبار الصحابة شهد بدراً وما بعدها، مات سنة أربع وثلاثين كذا في "التقريب".
(3) قوله: أُبيّ، - بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وشد الياء المثناة التحتية - بن كعب بن قيس الأنصاري النجّاري، أبو المنذر، من فضلاء الصحابة وسيِّد القراء، مات سنة تسع عشرة أو سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك، كذا في "التقريب".
(4) قوله: من فضيح، قال الكرماني في "الكواكب الدراري شرح صحيح البخاري": الفضح: الشدخ، والفضيخ: شراب يُتخذ من البُسر من غير أن تمسَّه النار، وقيل: أن يُفضخ البسر ويُصب عليه الماء ويُترك حتى يغلي، وقيل: هو شراب يؤخذ من البسر والتمر كليهما. ويؤيد هذا التفسير الأخير ما في "صحيح البخاري" عن أنس: أن الخمر حُرِّمت والخمر يومئذٍ البسر والتمر. وعند مسلم: كنت أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر.
(5) قوله: فأتاهم آتٍ، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه.(3/115)
يَا أَنَسُ (1) ، قُمْ (2) إِلَى هَذِهِ الْجِرَارِ، فَاكْسِرْهَا (3) فقمتُ إِلَى مِهْراس (4) لَنَا فضربتُها (5) بِأَسْفَلِهِ حَتَّى تَكَسَّرَتْ (6) .
__________
(1) في رواية للبخاري: قم يا أنس فأهرقها، قال: فأهرقتُها.
(2) قوله: قم إلى هذه الجرار، بكسر الجيم جَمْع جَرَّة بالفتح وتشديد الراء، هو الظرف من الخَزَف والطين يوضع فيه الماء وغيره من الأشربة. وفيه دلالة إلى أن خبر الواحد حجة فإنهم أخذوا به في نسخ الحكم السابق، وهو حِلّ الخمر، وعملوا على وفقه من دون انتظار تعدُّد المُخْبرين.
(3) أي لينصبَّ ما فيها.
(4) قوله: إلى مِهْراس، قال الزرقاني: بكسر الميم وسكون الهاء فراء فألف فسين مهملة، حجر مستطيل ينقر ويدق فيه، ويتوضأ به، وقد استعير للخشبة التي يدق فيها الحب، فقيل له مهراس على التشبيه بالمهراس من الحجر أو الصخر الذي يُهرس فيه الحبوب، وغيرها. انتهى. وفي "مجمع البحار": هو حجر يشاد (هكذا في الأصل، والصواب يشال به لتعرف به شدة الرجال كما في غريب الحديث لابن الجزري (2/496)) به شدة الرجال سُمِّي به لأنه يُهراس به أي يُدَقّ. وأراد ههنا حجرا كان لهم يدقون به ما يحتاجون إليه، وهو في غير هذا الموضع صخرة منقورة يكون فيها الماء ولا يقلّه الرجال، يسع كثيراً من الماء (انظر: مجمع بحار الأنوار 4/633. ويقال له بالفارسية الجواز وبالهندية (أوكهلى) .
قال الحافظ: المهراس - بكسر الميم - إناء يتخذ من صخر وينقر وقد يكون كبيراً كالحوض، وقد يكون صغيراً بحيث يتأتى الكسر به وكأنه لم يحضره ما يكسر به غيره أو كسر بآلة المهراس التي يدق بها فيه كالهاون، فأطلق عليه مجازاً. فتح الباري 10/38. قال شيخنا في الأوجز 13/360، قلت: أو باعتبار المعنى اللغوي فإن الهرس لغة الدق فالمهراس آلته) .
(5) أي الجرار.
(6) في نسخة: انكسرت.(3/116)
قَالَ مُحَمَّدٌ: النَّقِيعُ (1) عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ (2) . وَلا يَنْبَغِي (3) أَنْ يُشرب مِنَ البُسرْ (4) وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِذَا (5) كَانَ شَدِيدًا يُسْكِر.
9 - بَابُ (6) الْخَلِيطَيْنِ
716 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ (7) عِنْدِي، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (8) بْنِ حُبَاب الأسلمي، عن
__________
(1) قوله: النقيع، قال في "المُغرب": أنقع الزبيب في "الخابية" ونقعه ألقاه فيها ليبطل، وتخرج منه الحلاوة، وزبيب منقع بالفتح مخفَّفاً، واسم الشراب نقيع. انتهى. وفي "النهاية حاشية الهداية": ما يتخذ من الزبيب شيئان نقيع ونبيذ، أما النقيع فهو ما يُتَّخَذ بأن يُترك في الماء أياماً حتى يستخرج الماء حلاوته، فما دام حلواً يحلّ بالإِجماع، وإن غلا فاشتد وقذف بالزبد ففيه خلاف، وأما النبيذ فهو الذي من ماء الزبيب إذا طبخ أدنى طبخة.
(2) أي حرام غير مشروع فإنَّ عند محمد كل مكروه حرام.
(3) أي لا يحل.
(4) بضم الباء وسكون السين التمر قبل إطابه، وبعد ما نضج يسمى رُطَباً، بضم الراء وفتح الطاء.
(5) وإن لم يسكر لا يحرم.
(6) قوله: أخبرنا الثقة عندي، قال الزرقاني: قيل: هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة، فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة.
(7) قوله: أخبرنا الثقة عندي، قال الزرقاني: قيل: هو مخرمة بن بكير أو ابن لهيعة، فقد رواه الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة.
(8) قوله: عن عبد الرحمن بن حُبَاب، - بضم الحاء المهلة وخفة الباء -(3/117)
أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شُرْبِ (1) التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ جَمِيعًا، والزَّهْو (2) والرُّطَب جَمِيعًا.
717 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى (3) أن ينبذ البسر والتمر جميعاً، والتمر والزبيب جميعاً.
__________
الأسلمي المدني الأنصاري، وثقه ابن حيان، كذا في "التقريب" و " الإسعاف".
(1) في رواية يحيى: نهى أن يشرب.
(2) قال القاري: بالفتح وسكون الهاء، الملَّون من البُسر، على ما في "المُغرب")
(3) قوله: نهى أن يُنبذ، قد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من وجه آخر عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين التمر والزهور والتمر والزبيب، ولينبذ كل واحد منهما على حدة. وعند مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً: من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيباً فرداً، أو تمراً فرداً أو بسراً فرداً. وبظاهر هذه الأحاديث ذهب مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه إلى تحريم النبيذ الذي جُمع فيه بين الخلطين، وإن لم يكن المتخذ منهما مسكراً، وقال أبو حنيفة والشافعي في قوله الآخر: لا يحرم (في "تنسيق النظام" ص 202: الخليطان: قد حَرَّمهما محمد من أصحابنا، وبه يُفتى عند الحنفية) ما لم يسكر، كذا ذكره القاري وفي "البناية" وغيره: أن هذا النهي إرشادي، كان في زمن الجدب والقحط، فأما في زمان السعة فلا بأس به لما أخرجه ابن عدي في "الكامل" عن أم سليم وأبي طلحة: أنهما كانا يشربان نبيذ البسر والزبيب يخلطانه، فقيل لأبي طلحة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال: إنما هو ذلك الزمان، كما نهى عن الإِقران(3/118)
10 - بَابُ نَبِيذِ (1) الدُّبَّاء والمُزَفَّت
718 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نافع، عن ابن عمر: أنَّ
__________
بين التمرين. وأخرج أبو داود عن عائشة: أن رسوا الله صلى الله عليه وسلم كان يُنبذ له بنبيذ يُلقى فيه تمر فيلقى فيه زبيب. وفي الباب آثار وأخبار أُخر.(3/119)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ (1) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فأقْبَلْتُ نحوَه (2) فَانْصَرَفَ (3) قَبْلَ أَنْ أبلُغَه فَقُلْتُ (4) : مَا قَالَ؟ قَالُوا (5) نَهَى أَنْ يُنْبَذَ (6) فِي الدُّبّاءِ والمزفَّت.
719 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.
__________
(1) في بعض مغازيه: أي في بعض غزواته.
(1) في بعض مغازيه: أي في بعض غزواته.
(2) أي توجَّهتُ إليه لأسمع خطبته.
(3) أي فراغ من الخطبة قبل أن أصل إليه.
(4) أي سألت عن حاضري الخطبة.
(5) أي الأصحاب الحاضرون.
(6) بصيغة المجهول.(3/120)
11 - بَابُ نَبِيذِ الطِّلاء
720 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ قَدِم (1) الشام: شكى إِلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وباءَ (2) الأَرْضِ أَوْ ثِقَلَهَا (3) ، وَقَالُوا: لا يَصْلُحُ لَنَا إلاَّ هَذَا الشَّرَابُ (4) قَالَ: اشْرَبُوا (5) الْعَسَلَ، قَالُوا: لا يُصْلِحُنَا الْعَسَلُ (6) . قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ (7) : هَلْ لَكَ أَنْ أَجْعَلَ لَكَ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ شَيْئًا لا يُسْكِرُ، قَالَ: نَعَمْ. فَطَبَخُوهُ (8) حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ، وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، فأَتَوْا (9) بِهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِيهِ، ثُمَّ رفع يده فتبعه يتمطط (10) ،
__________
(1) في عهد خلافته.
(2) الوباء كل مرض عام من طاعون وغيره.
(3) في رواية"يحيى": وثقلها بالواو أي ثقل مائها.
(4) إشارة إلى نبيذ معهود فيما بينهم.
(5) لأن فيه شفاء من كل داء بنص القرآن.
(6) أي لتخالفه أمزجتهم.
(7) أي أرض الشام.
(8) أي النبيذ.
(9) ليعرضوه عليه.
(10) أي يتمدَّد.(3/121)
فَقَالَ: هَذَا الطِّلاء مثلُ (1) طِلاء (2) الإِبِل، فَأَمَرَهُمْ (3) أن يشربوه (4) .
__________
(1) أي في الغِلَظ.
(2) أي القطران الذي يُطلى به الإِبل للجرب.
(3) قوله: فأمرهم أن يشربوه، هذا صريح في حل الطلاء، وهو العصير العنبي الذي طُبخ، فذهب ثلثاه وصار غليظاً ما لم يسكر، وقد رُوي عنه بطرق كثيرة وعن غيره شربه وإباحته، فأخرج ابن أبي شيبة، عن أبي الأحوص، عن إسحاق، عن عمر بن ميمون قال: قال عمر: إنا نشرب هذا الشراب الشديد ليقطع به لحوم الإِبل في بطوننا أن يؤذينا. ورُوي عن معمر، عن عاصم، عن الشَّعبي: كتب عمر إلى عماله: أما بعد، فإنّا جاءنا أشربة من الشام كأنها طلاء الإِبل، قد طُبخ، فذهب ثلثاه فآمر من قبلك أن يصطنعوه. وروي من طريق أخر نحوه. وأخرج عن أنس: أن أبا عبيدة ومعاذ بن جبل وأبا طلحة كانوا يشربون من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وأخرج عن أنس وعلي وغيرهما شربه. وبهذه الآثار ذهب أبو حنيفة ومحمد في رواية، وغيرهما. وقال محمد في رواية ومالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وإسحاق وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وغيرهم بحرمته أخذاً من حديث ما أسكر كثيره فقليله حرام، وهو حديث مخرَّج في كتب متعمدة بألفاظ متقاربة من رواية جمع من الصحابة، منهم عبد الله بن عمر وحديثه عند النسائي وابن ماجه وعبد الرزاق، وجابر حديثه عند أبي داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان، وسعد بن أبي وقاص حديثه عند النسائي وابن حبان، وعليّ حديثه عند الدارقطني، وعائشة حديثها عند أبي داود والترمذي وابن حبان وأحمد والدارقطني، وعبد الله بن عمر حديثه عند إسحاق بن راهويه والطبراني، وخوّات بن جبير حديثه عند الحاكم والطبراني والدارقطني والعقيلي، وزيد بن ثابت حديثه في "معجم الطبراني". والتفصيل في "نصب الراية" و "البناية".
(4) قال الزرقاني: كان عمر اجتهد في تلك الحالة، ثم رجع عنه حيث حدَّ ابنه في الطِّلاء كما مرَّ(3/122)
فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: أحللتَها وَاللَّهِ، قَالَ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا أحللتُها (1) ، اللَّهُمَّ إِنِّي لا أُحل لَهُمْ شَيْئًا حرَّمتَه عَلَيْهِمْ، وَلا أُحرِّم عَلَيْهِمْ شَيْئًا أحللتَه لَهُمْ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (2) نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِشُرْبِ الطِّلاءِ الَّذِي (3) قَدْ ذَهَبَ ثُلُثَاهُ وَبَقِيَ ثُلُثُهُ، وَهُوَ لا يُسكر (4) ، فَأَمَّا كلُّ معتَّق (5) يُسكر فَلا خَيْرَ فِيهِ (6) .
__________
(وفي الأوجز 13/363 قلت ليس كذلك بل أثر الباب عند الأئمة الثلاثة والجمهور غير الشيخين من الحنفية محمول على أنه لم يكن مسكرا وما تقدم من حده رضي الله عنه إبنه فيه تصريح بقوله: "وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ" ولذا حمل الباجي الأثر السابق على المسكر وحُمل أثر الباب على أنه لم يبق مسكرا وحكى فيه خلاف أبي حنيفة وعليه حمله الإمام محمد انتهى مختصرا) .
(1) أي ما أحللتُ ما هو حرام، بل حكمتُ بحِلّ ما هو حلال.
(2) قوله: وبهذا نأخذ، هكذا ذكر في كتاب "الآثار" أيضاً، والمشهور في كتب أصحابنا أنه كرهه، وعنه أنه توقَّف، وقال: لا أحرمه، ولا أبيحه لتعارض الأخبار والآثار.
(3) قوله: الذي قد ذهب ... إلخ، قيد به لأن الطلاء الذي ذهب أقل من ثلثيه لا يحل كما قال في "الجامع الصغير": محمد، عن يعقوب، عن أبي حنيفة، قال: الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر، وهو الني من ماء التمر ونقيع الزبيب، إذا اشتَّد حرام، والطلاء وهو الذي ذهب أقل من ثلثيه من ماء العنب، وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به. انتهى. وبه يظهر أن لا تدافع بين كلمات الفقهاء حيث حكم بعضهم على الطلاء بالحرمة، بعضهم بالحلة، فإن الطلاء يُطلق على أمرين: أحدهما حلال، والآخر حرام، كما حققه الفقيه حسن الشرنبلالي في رسالته "نزهة ذوي النظر لمحاسن الطلاء والثمر".
(4) أي مطلقاً قليله وكثيره، كذا قال القاري.
(5) قال القاري: بتشديد الفوقية المفتوحة أي قديم.
(6) أي لا يَحِلّ.(3/123)
كِتَابُ الْفَرَائِضِ (1)
721 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ قَبيصة (2) بْنِ ذُؤيب: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ للجَدّ الَّذِي (3) يَفْرِضُ لَهُ النَّاسُ الْيَوْمَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ فِي الجَدّ. وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابت وبه
__________
(1) قوله: قبيصة، بالفتح، واسم أبيه مصغر، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني من أولاد الصحابة ولد في العهد النبوي وروى عن جمع من الصحابة، قال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم منه بالشام، مات سنة 86، كذا في "جامع الأصول".
(2) قوله: قبيصة، بالفتح، واسم أبيه مصغر، هو قبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي المدني من أولاد الصحابة ولد في العهد النبوي وروى عن جمع من الصحابة، قال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم منه بالشام، مات سنة 86، كذا في "جامع الأصول".
(3) قوله: الذي يفرض، أي من مقاسمة الأخ الواحد النصف والاثنين بالثلث، فإن زادوا فله الثلث.
(4) قوله: وبهذا نأخذ، لمّا كان الجد يشبه الأب في أحكام، ويشبه الأخ في أحكام، ولم يوجد نصّ يفيد تقدير سهم الجَدّ مع الإِخوة، وهل هو يحجب الإِخوة كالأب أم يقاسمهم؟ اختلف فيه الصحابة ومن بعدهم اختلافاً فاحشاً، فذهب أبو بكر الصديق إلى الحجب، ولم يُنقل عنه خلافه، ولهذا أخذ به أبو حنيفة، وهو مذهب ابن عباس وابن الزبير وابن عمر وحذيفة بن اليمان(3/124)
يَقُولُ الْعَامَّةُ. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ (1) فِي الجَدّ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلا يورِّث (2) الإِخوة مَعَهُ شَيْئًا.
722 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُثْمَانَ (3) بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ خَرَشَة، عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤيب أَنَّهُ قال: جاءت (4) الجَدّة إلى
__________
وأبي سعيد الخدري، وأُبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وعائشة وأبي هريرة وعمران بن حصين، وبه قال قتادة وجابر بن زيد وشُريح وعطاء وعبد الله بن عتبة بن مسعود وعروة وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن سيرين. وقال عليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت: يرثون مع الجَدّ، وبه قال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي وعلقمة والأسود والنخعي والثوري مع اختلاف فيما بينهم في كيفية القسمة، وروي عن عمر في هذه المسألة قضايا مختلفة يناقض بعضها بعضاً. والبسط في "ضوء السراج شرح الفرائض السراجية" وغيره من كتب الفرائض.
(1) وبه يُفتى عند الحنيفة كما "السراجية" و "سكب الأنهر" وغيرهما وقال السرخسي: الفتوى على قولهما.
(2) أي بل عندهم الجَدّ يحجب الإِخوة لأب وأُمّ أو الأب كالأب، وأما الإِخوة لأم، فيحجبهم الجد اتفاقاً.
(3) قوله: عثمان بن إسحاق: هو من التابعين وثقه ابن معين، وخرشة القرشي العامري المدني بالخاء المعجمة بعدها راء مهملة، بعدها شين معجمة مفتوحات، كذا في "التقريب".
(4) قوله: جاءت الجدة ... إلخ، روى هذا الحديث معمر ويونس وأسامة بن زيد وابن عيينة وجماعة، عن ابن شهاب، عن قصيبة، لم يُدخلوا بينهما أحداً. والحق ما ذكره مالك، وقد تابعه عليه أبو أويس كذا قال ابن عبد البر. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير": هذا الحديث أخرجه مالك وأحمد وأصحاب(3/125)
أبي بكر تسأله (1) ميراثها، فقال: مالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ (2) مِنْ شَيْءٍ، وَمَا عَلِمْنا (3) لكِ فِي سُنّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَارْجِعِي حَتَّى أسأَل النَّاسَ (4) ، قَالَ: فَسَأَلَ النَّاسَ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حضرتُ (5) رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا (6) السُّدس، فَقَالَ (7) : هَلْ مَعَكِ غيرُك؟ فَقَالَ
__________
السنن وابن حبان والحاكم من هذا الوجه، وإسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قصيبة لا يصح له سماع من أبي بكر الصديق، ولا يمكن شهوده للقصة، قاله ابن عبد البَرّ. وقد اختُلف في مولده، والصحيح أنه وُلد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة، وقد أعلّه عبد الحق تبعاً لابن حزم بالانقطاع، وقال الدارقطني في "العلل" بعد أن ذكر الاختلاف فيه عن الزهري: يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تبعه. ثم ذكر القاضي حسين أنّ التي جاءت إلى الصّدِّيق أمُّ الأمّ، والتي جاءت إلى عمر أم الأب، وفي رواية ابن ماجه ما يدل عليه، وذكر أبو القاسم ابن منده في "المستخرج من كتب الناس للتذكرة" أن هذا الحديث رُوي أيضاً من حديث معقل بن يسار وبريدة وعمران بن حصين.
(1) قوله: تسأله ميرثها، أي عن ولد ابنتها (في الأصل: "ابنته"، وهو خطأ) ، قال ابن عبد البر: فيه أن الصّدِّيق لم يكن له قاض بفصل الأحكام، بل كانت ترجع إليه، ويؤيده ما في "الوسائل إلى معرفة الأواءل، للسيوطي أن أول من مصّر الأمصار واستقضى القضاة في الأمصار عمر بن الخطاب.
(2) أي ليس لكِ في كتاب الله مقدارُ سهم معيّن.
(3) نفي العلم، لا الوجود الواقعي لانتشار الأخبار وتفرُّقها.
(4) أي أسأل الصحابة عن ما يُحكم لك.
(5) أي حضرتُ واقعةً أعطاها فيها السُّدُس.
(6) أي الجَدّة.
(7) أي أبو بكر قاصداً لزيارة الثبوت.(3/126)
مُحَمَّدُ (1) بْنُ مَسْلَمَةَ: فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَأَنْفَذَهُ (2) لَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَتِ الجَدّة الآخُرَى (3) إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا (4) ، فَقَالَ: مَالَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قُضي (5) بِهِ إلاَّ لغَيْرِك وَمَا أَنَا بِزَائِدٍ فِي الْفَرَائِضِ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ هُوَ (6) ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنِ اجْتَمَعْتُمَا (7) فِيهِ فَهُوَ (8) بَيْنَكُمَا وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ (9) بِهِ فَهُوَ لَهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا اجْتَمَعَتِ الجَدّتان (10) أُمّ الأُم،
__________
(1) هو من فضلاء الأنصار وأخبار الصحابة مات بعد الأربعين، ذكره في "التقريب".
(2) من الإِنقاذ، بالذال المعجمة أي أعطى السدس لها.
(3) للمتوفَّى السابق.
(4) أي عن ولد ابنها.
(5) قوله: قُضي به، بصيغة المجهول أو بصيغة المعلوم، أي ما كان القضاء الذي قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر من السدس إلا لغيرك، وهو أمّ الأم، وما يجوز لي أن أزيد في السهام المقدّرة من عند نفسي حتى أزيد على السدس.
(6) أي السهم المقدر.
(7) قوله: فإن اجتمعتما ... إلخ، قال السيوطي في "الوسائل إلى معرفة الأوائل": أول من ورَّث جَدّتين عمر بن الخطاب فجمع بينهما.
(8) أي السدس مشترك عاى السويّة.
(9) أي انفردت.
(10) احتراز عن الجدّة الفاسدة أمّ أب لأمّ وإن علتْ فإنها من ذوي الأرحام.(3/127)
وأُمّ الأَبِ فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ خَلَتْ بِهِ إِحْدَاهُمَا فَهُوَ لَهَا، وَلا تَرِثُ (1) مَعَهَا جَدّة فَوْقَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله.
__________
(1) قوله: لا ترث معها جدّة فوقها (قال الموفّق: إذا كانت إحدى الجدّتين أم الأخرى، فأجمع أهل العلم على أن الميراث للقربى وتسقط البعدى بها، وإن كانتا من جهتين والقربى من جهة الأمّ، فالميراث لها وتحجب البعدى في قول عامّتهم إلا ما روي عن ابن مسعود ويحيى بن آدم وشريك أن الميراث بينهما، وعن ابن مسعود إن كانتا من جهتين فهما سواء، وإن كانتا من جهة واحدة فهو للقربى يعني به أن الجدّتين من قبل الأب إذا كانت إحداهما أم الأب والأخرى أم الجد سقطت أم الجد، وسائر أهل العلم على أن القربى من جهة الأم تحجب البعدى من جهة الأب، فأما القربى من جهة الأب فهل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فعن أحمد رويتان: إحداهما: أنها تحجبها ويكون الميراث للقربى، وهذا قول عليّ رضي الله عنه وإحدى الروايتين عن زيد، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأهل العراق وهو قول الشافعي، والرواية الثانية عن أحمد هو بينهما وهي الرواية الثانية عن زيد، وبه قال مالك والأوزعي وهو قول الثاني للشافعي (المغني 6/209) ، لأن الجَدّة البُعْدى تُحجب بالقربى من أيّ جهة كانت أي من جهة الأب أو الأمّ. هذا هو مذهب عليّ، وإحدى الرواتين عن زيد بن ثابت، وفي رواية أخرى عنه أنّ القُربى إن كانت من قِبَل الأب والبُعدى من جهة الأم فهما سواء فيكون الحجب حينئذ في أقسام ثلاثة فقط، وبه قال مالك والشافعي في أصح قوليه، والأدلة مبسوطة في كتب الفرائض.(3/128)
1 - بَابُ مِيرَاثِ الْعَمَّةِ (1)
723 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَبَاهُ (3) كَثِيرًا يَقُولُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: عَجَبًا لِلْعَمَّةِ تُورَث (4) ولا ترِث (5) .
__________
(1) قوله: أخبرنا محمد، قال السيوطي في "الإِسعاف": مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري قاضي المدينة روى عن أبيه والزهري، وعنه مالك وابنه عبد الرحمن وشعبة والسفيانان، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات سنة 132.
(2) قوله: أخبرنا محمد، قال السيوطي في "الإِسعاف": محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري قاضي المدينة روى عن أبيه والزهري، وعنه مالك وابنه عبد الرحمن وشعبة والسفيانان، وثقه النسائي وأبو حاتم، مات سنة 132.
(3) هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري المدني.
(4) أي يرثها أبناء أخيها.
(5) أي من أبناء أخيها وبناته.(3/129)
قَالَ محمدٌ: إِنَّمَا (1) يَعْنِي عُمَرُ هَذَا فِيمَا نرى (2) أنها تُرث لأَنَّ ابْنَ الأَخِ ذُو سَهْمٍ، وَلا ترِث لأَنَّهَا لَيْسَتْ بِذَاتِ سَهْمٍ، وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وعبد الله ابن مسعود، أنهم (3)
__________
(1) قوله: إنما يعني ... إلخ، لمّا كان ظاهر قول عمر مُشيراً إلى أن العمة لا ترث مطلقاً، وهو مخالف لما روي عنه وعن غيره من توريث العمة وغيرها من ذوي الأرحام أراد أن ييبيِّن معنى كلامه بحيث لا يخالف ما رُوي عنه وعن غيره، بأنه ليس مراد عمر من قوله لا ترث نفي الإِرث مطلقاً، بل إنما يعني أي يريد عمر من قوله إن العمة تورث أي أن أبناء أخيها يرثون على جهة العصوبة، فهم من أصحاب السهام المقدَّرة المقررة، ولا ترث هي من أبناء أخيها وكذا من بناته على جهة الفرضية أو العصوبة لأنها ليست بصاحبة فرض وسهم مقدّر.
(2) بصيغة المجهول أو المعروف أي نظن.
(3) قوله: أنهم قالوا ... إلخ، أخرج أبو داود والنسائي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن أخت القوم منهم. وأخرج الدارمي في سننه من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري أن عمر بن الخطاب التمس من يرث ابن الداحداحة فلم يجد وارثاً، فدفع ماله إلى أخواله. وأخرج من طريق ابن جريج، عن عمرو بن مسلم، عن طاوس، عن عائشة قالت: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له. وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، عن زياد قال: أُتي عمر بن الخطاب في عمّ لأم وخالة، فأعطى العمّ الثلثين والخالة الثلث. وأخرج عن الحسن أن عمر أعطى الخالة الثلث، والعمة الثلثين. وأخرج عن غالببن عباد، عن قيس النهشلي قال: أُتي عبد الملك بن مروان في خالة وعمة، فقام شيخ وقال: شهدت عمر أعطى الخالة الثلث والعمة الثلثين. وأخرج عن الشَّعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود قال: الخالة بمنزلة الأمّ، والعمّ بمنزلة الأب، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم بمنزلة رَحِمه التي يُدلي بها إذا(3/130)
قَالُوا فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذُو سَهْمٍ وَلا عَصَبَةٍ: فَلِلْخَالَةِ (1) الثُّلُثُ، وَلِلْعَمَّةِ الثلثان. وحديث (2) يرويه (3) أهل المدينة لا يستطعون (4) ردَّه أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاح مَاتَ وَلا وَارِثَ (5) لَهُ، فَأَعْطَى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
لم يكن وارث ذا قرابة. فهذه الآثار شاهدة على توريث ذوي الأرحام، وهو الظاهر من إطلاق قوله تعالى: (وأولوا الأَرحام بعضُهم أولى ببعض في كتاب الله) (سورة الأنفال: الآية 75) . ويوافقه ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم وصححه وابن حبان من حديث المقدام بن معد يكرب مرفوعاً: أنها وارث من لا وارث له والخال وارث من لا وارث له. قال الحافظ في "التلخيص": حكى ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة أنه حديث حسن، وفي الباب عن عمر رواه الترمذي بلفظ: الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له. وعن عائشة رواه الترمذي والنسائي والدارقطني ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه.
(1) هذا إذا اجتمعا وإلا ينفرد كل منهما.
(2) أي هناك حديث آخر دالّ على توريث ذوي الأرحام.
(3) قوله: يرويه، أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد ابن يحيى بن حبان، عن عمِّه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن الدحداح، وليس له أصل يُعرف، فقال رسول الله لعاصم بن عدي: هل تعرف له فيكم نسباً؟ قال: لا، فدعا رسول الله أبا لبابة بن عبد المنذر ابن أخته فأعطاه ميراثه.
(4) أي لا يستطيع المخالفون ردَّه لكونه صحيحاً ثابتاً.
(5) أي من أصحاب الفروض والعصبات.(3/131)
أَبَا لُبَابَة (1) بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَكَانَ ابْنُ أُخْتِهِ، ميراثَه. وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ (2) يُوَرِّث العمّةَ وَالْخَالَةَ وَذَوِي الْقُرُبَاتِ (3) بِقُرْبَتِهِمْ، وَكَانَ (4) مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَعْلَمِهِمْ بِالرِّوَايَةِ.
724 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ عَجْلان (5) الزُّرَقي (6) أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عن مولَى
__________
(1) بضم اللام.
(2) أي محمد بن مسلم الزهري. قوله: وكان ابن شهاب يورث ... إلخ تأييد آخر على مدَّعاه، وأما ما أخرجه أبو داود في "المراسيل" والدارقطني، عن زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مرسلاً أن رسول الله قال: سألت الله عن ميراث العمة، والتي له، فسارّني جبريل أن لا ميراث لهما. وأخرجه النسائي من مرسل زيد بن أسلم ووصله الحاكم بذكر أبي سعيد وفي إسناده ضعف ووصله الطبراني أيضاً من حديث أبي سعيد في ترجمة محمد بن الحارث المخزومي شيخه، وليس في الإسناد رجل يُنظر حاله غيره، ورواه الدارقطني من حديث أبي هريرة وضعّفه والحاكم بسند ضعيف من حديث عبد الله بن عمر، وكذا ذكره الحافظ في "التلخيص". فعلى تقدير ثبوته محمولٌ على أنه لا سهم لهما مقدّرٌ أو يحتمل أن يكون ذلك متقدماً.
(3) أي سائر ذوي الأرحام.
(4) أي الزهري.
(5) بالفتح ثم السكون.
(6) قوله: الزُّرَقي، بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة نسبةً إلى بني زريق بطن من الأنصار، ذكره السَّمعاني، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي، روى عن مولى لقريش، يقال له ابن مِرْس، بكسر الميم وسكون الراء وبالسين المهملة.(3/132)
لقريشٍ كَانَ قَدِيمًا (1) يُقَالُ لَهُ ابْنُ مِرْس (2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا صَلَّى صَلاةَ الظُّهْرِ قَالَ: يَا يَرْفَأُ (3) هَلُمَّ (4) ذَلِكَ الْكِتَابَ - لكتابٍ (5) كَانَ كَتَبَهُ (6) فِي شأن العمّة - يُسأل (7) عنه ويستخبر
__________
(1) أي كبير السن.
(2) بكسر الميم وسكون راء مهملة بعدها سين مهملة (قال صاحب المحلى: مقصوراً أو منوّناً وممدوداً، قال ابن التركماني: كشفت عن ابن حنظلة وابن مرساء فلم أعرف لهما حالاً، كذا في الأوجز 12/428) ، كذا ضبطه في "المغني" وقال: كان مولى لقريش.
(3) قوله: يا يَرْفأ، بفتح التحتية وإسكان الراء وبالفاء آخره ألف، مخضرم مولى لعمر بن الخطاب وحاجبه، وكان أدرك الجاهلية ولا يعرف له صحبة، وحجّ مع عمر في خلافة أبي بكر، قاله الكرماني وابن حجر.
(4) أي أحضر ذلك المكتوب.
(5) أي قال عمر ذلك المكتوب قد كان كتبه.
(6) لعله كتب فيه شيئاً مقدراً برأيه.
(7) قوله: يسأل عنه، بصيغة المجهول. ويَستخير الله، بالباء: يطلب عمر علمه من الله في ظهور أمرها هل للعمّة من شيء؟ كذا قال القاري. وفي "موطأ يحيى": فنسأل - بالمتكلم المنصوب - جواباً للأمر ونستخبر الناس أي عن حكمها. ولما جاء به يرفأ تغيّر ما كان رآه من سؤال الناس، فصمّم على محوه، فمحاه، قاله الزرقاني.(3/133)
اللَّهَ (1) هَلْ لَهَا (2) مِنْ شَيْءٍ؟ فَأَتَى بِهِ يَرْفَأُ، ثُمَّ دَعَا بتَوْرٍ (3) فِيهِ ماءٌ أَوْ (4) قدحٍ، فمَحَا ذَلِكَ الكتابَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ رضيكِ اللَّهُ (5) أقرّكِ، لَوْ رضيكِ اللَّهُ أقرّكِ (6) .
2 - بَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يُورَثُ (7) ؟
725 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ،، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، عن الأعرج، عن
__________
(1) في نسخة: ويستخير الله فيه.
(2) أي للعمّة.
(3) بفتح التاء طشت (بالفارسية) .
(4) بالشك من الراوي أو المراد طلب ما تيسّر منهما.
(5) قوله: لو رضيك الله، بكسر الكاف خطاباً إلى العمة أي لو رضي الله تقدير السهم لك لأثبتك في كتابه كما أقرّ سهام أصحاب السهام فيه، وقيل: خطاب إلى المكتوب أي لو رضي الله بك لأقرّك، ولم يلهم في قلبي بالمحو (قال الباجي: إن المعروف من مذهب عمر منع العمة الميراث وبه قال زيد بن ثابت وإليه ذهب مالك والشافعي، وروي عن ابن مسعود توريثهم وبه قال أبو حنيفة. انظر "المنتقى" 6/243) .
(6) كرره للتأكيد.(3/134)
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَقْسم (1) وَرَثَتِي دِينَارًا، ما تركتُ بعد نفقة نسائي (2) ومؤونة عَامِلِي (3) فَهُوَ صَدَقَةٌ.
726 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ نِسَاءَ (4) النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أردْن أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ يَسْأَلْنَ (5) ميراثَهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَهُنَّ عَائِشَةُ: أَلَيْسَ (6) قَدْ قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا نُورَث (7) ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ.
__________
(7) قوله: لا تَقْسم، بفتح التاء وفي نسخة التحتية مرفوعاً، وفي نسخة مجزوماً، وفي نسخة لا يقتسم، من الافتعال بالوجوه الأربعة والرواية بالجزم على النهي، وبالرفع على الخبر، كذا ذكره السيوطي وغيره.
(1) قوله: لا تَقْسم، بفتح التاء وفي نسخة التحتية مرفوعاً، وفي نسخة مجزوماً، وفي نسخة لا يقتسم، من الافتعال بالوجوه الأربعة والرواية بالجزم على النهي، وبالرفع على الخبر، كذا ذكره السيوطي وغيره.
(2) أي بعد موتي.
(3) قال القاري: المراد به الخليفة بعده.
(4) أي غير عائشة.
(5) في نسخة: يسأله.
(6) وبهذا احتج أبو بكر على فاطمة حين طلبت الميراث، وعلى العباس وعلي رضي الله عنهما، حين طلبا الميراث.
(7) قوله: نورَث، أي نحن معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة بالرفع، وأما قول الشيعة: إن ما نافية وصدقة مفعول، فتحريف للكلم من مواضعه، ويردّه قول: لا نُورث، ولا يقتسم ورثتي ديناراً، وغير ذلك. هل هذا إلا كما حكاه صاحب "الإِشاعة في أشراط الساعة" أنه تنبأ رجل وسمى نفسه بلا، وحرّف حديث "لا نبي بعدي" بأن لفظ "نبيّ" مرفوع خبر، والمراد بلا نفسُه، وقال: إن نبيكم أخبر بنبوّتي.(3/135)
3 - بَابُ لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ
727 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ (1) بْنِ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ عُمَرَ (2) بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أُسَامَةَ (3) بْنِ زَيْدٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: لا يرث (4) المسلمُ الكافر.
__________
(1) هو زين العابدين بن سيد الشهداء.
(2) قوله: عن عمر بن عثمان بن عفان، قال ابن عبد البر: هكذا قال مالك، وسائر أصحاب ابن شهاب يقولون: عمرو بن عثمان، ورواه ابن بكير، عن مالك على الشك، فقال عن عمر بن عثمان أو عمرو بن عثمان، وقال ابن القاسم فيه: عن عمرو بن عثمان، والثابت عن مالك: عمر كما رواه يحيى وأكثر الرواة، ولا خلاف في أن لعثمان ولداً يسمّى بعمر وآخر مسمى بعمرو، وإنما الاختلاف في هذا الحديث هل هو لعمر أو لعمرو؟ فأصحاب ابن شهاب غير مالك يقولون: عمرو بن عثمان، ومالك يقول: عمر، وقد وقفه على ذلك الشافعي ويحيى بن سعيد القطان، فأبى أن يرجع، وقال: هو عمر، والحق أن مالكاً يكاد يقاس به غيره في الحفظ والإِتقان، لكن الغلط لا يسلم منه أحد، وأبى أهل الحديث أن يكون في هذا الإِسناد إلاَّ عمرو. انتهى ماخَّصاً. وقال العراقي: لا يلزم من تفرُّد مالك من بين الثقات باسم هذا الراوي مع أنَّ كلاًّ منهما ثقة نكارةُ المتن ولا شذوذه، بل المتن على كل حال صحيح، غايته أن يكون هذا السند منكراً أو شاذاً لمخالفة الثقات لمالك في ذلك.
(3) قوله: عن أسامة، بالضم بن زيد - متبنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم المذكور باسمه في القرآن - بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وله مناقب جمة، مات سنة 54 بالمدينة وقيل بوادي القِرى، كذا في "الإِسعاف".
(4) قوله: لا يرث المسلم الكافر، تتمته: ولا الكافر المسلم، هكذا عند جميع أصحاب الزهري واختصره مالك، قاله ابن عبد البر.(3/136)
قال محمد: وبهذا نأخذُ (1) . لا يورث الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ (2) وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ. وَالْكُفْرُ (3) ملَّة واحدة، يتواثون به، وإن اختلفت
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، أما عدم إرث الكافر من المسلم فأمرٌ مجمع عليه، ويدل عليه قوله تعالى: (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) (سورة النساء: الآية 141) ، وأما عكسه وهو عدم إرث المسلم من الكافر فمذهب علي وعامة الصحابة ومذهب معاذ بن جبل ومعاوية والحسن ومحمد بن الحنيفة ومحمد بن علي بن حسين ومسروق إلى إرثه أخذاً من حديث: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، أخرجه الطبراني في " الأوسط"، والبيهقي في "الدلائل" من حديث عمر مرفوعاً، والدارقطني من حديث عائذ بن عمرو، وأسلم بن سهل في "تاريخ واسط" من حديث معاذ، كذا ذكره الحافظ في "الدارية". والجواب أن المذكور في الحديث نفس الإِسلام وعلوه بحسب الحجة أو القهر، كذا في "شرح السراجية" للسيِّد، وقال ابن عبد البر: الذي عليه سائر الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار أن المسلم لا يرث من الكافر. وقد ثبت ذلك مرفوعاً بنقل الثقات، فكلُّ من خالفه محجوج به.
(2) قوله: الكافر، أي غير المرتدّ أما المرتد فيرث منه المسلم عندهما جميع ماله ما اكتسبه في حال الردة أو قبله دون العكس، لأن المرتد لا يُقرّ على دينه، بل يُجبر على الإِسلام، أو يُقتل، فيُعتبر في حكم الإِسلام فيما ينتفع به وارثه لا فيما ينتفع هو به، وعند أبي حنيفة المسلم يرث منه ما كسبه في حال إسلامه وما كسبه في ردَّته يكون فيئاً للمسلمين، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه.
(3) قوله: الكفر ملة واحدة، قال السيد في "شرح السراجية": الكفار يتوارثون بينهم وإن اختلفت نحلهم لأن الكفر ملة واحدة عندنا وذكره المزني عن الشافعي، وأبو القاسم عن مالك، وقال ابن أبي ليلى: اليهود والنصارى يتوارثون،(3/137)
مِللهم (1) ، يَرِثُ (2) اليهوديُّ النَّصْرَانِيَّ والنصرانيُّ الْيَهُودِيَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
728 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ: وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ عقيلٌ (3) وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْه عَلِيٌّ.
4 - بَابُ مِيرَاثِ الْوَلاءِ (4)
729 - أَخْبَرَنَا مالك، حدَّثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أن عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ (5) أَخْبَرَهُ: أَنَّ الْعَاصِ بْنَ هِشَامٍ هَلَكَ (6)
__________
ولا توارث بينهم وبين المجوس، وذهب بعض الفقهاء إلى عدم التوارث بين اليهود والنصارى أيضاً.
(1) بكسر الميم وفتح اللام الأولى، جمع ملَّة بمعنى الدين.
(2) هذا توضيح لما ذكره.
(3) قوله: عَقيل، بالفتح لأنه كان عند موت أبي طالب الكافر كافراً، وأسلم زمن الحديبية، وقيل: تأخَّر إسلامه إلى فتح مكة وهاجر في أول سنة ثمان، وطالب مات كافراً قبل بدر، وأما علي وكذا جعفر، فكانا مسلِمَيْن عند ذلك، فلذالك لم يرثاه (كذا في المنتقى للباجي 6/251) . وهذه الرواية نصّ على موت أبي طالب على الكفر، ويدل عليه من الرويات الصريحة، ومن خالفَ فيه فهو محجوجٌ بها) .
(4) أباه: أي أبو بكر بن عبد الرحمن.
(5) أباه: أي أبو بكر بن عبد الرحمن.
(6) أي مات وقُتل يوم بدر كافراً.(3/138)
وَتَرَكَ بَنِينَ لَهُ ثَلاثَةً (1) : ابْنَيْنِ (2) لأُمٍّ (3) وَرَجُلا لعلَّة (4) ، فَهَلَكَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ (5) اللَّذَيْنِ هُمَا لأُمٍّ، وَتَرَكَ مَالا وَمَوَالِيَ (6) ، فَوَرِثَهُ (7) أَخُوهُ (8) لأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَوَرِثَ (9) مَالَهُ وَوَلاءَ مَوَالِيهِ، ثُمَّ هَلَكَ أَخُوهُ (10) وَتَرَكَ ابْنَهُ وَأَخَاهُ (11) لأَبِيهِ، فَقَالَ ابْنُهُ (12) : قَدْ أحرزتُ (13) مَا كَانَ (14) أَبِي أحْرَزَ مِنَ الْمَالِ وولاءَ الْمَوالِي، وَقَالَ أَخُوهُ (15) : لَيْسَ كُلُّهُ لَكَ، إنما أحرزتَ المال، فأما ولاء
__________
(1) بدل.
(2) بيان الثلاثة.
(3) أي ولأم واحدة.
(4) بفتح العين وتشديد اللام هي الضرَّة.
(5) أي أحد الأخوين لأب وأم.
(6) أي معتقتين بالفتح.
(7) أي الميت.
(8) أي أخوه العيني، لا العلاّتي لكونه محجوباً بالعيني.
(9) بيان لورثه.
(10) أي العيني.
(11) الذي كان من أمّ أخرى.
(12) أي ابن الهالك.
(13) أي أخذت.
(14) أي لكون الأخ محجوباً بالابن.
(15) أي العلاّتي.(3/139)
الْمَوَالِي فَلا (1) ، أَرَأَيْتَ (2) لَوْ هَلَكَ (3) أَخِي الْيَوْمَ ألستُ (4) أَرِثُهُ (5) أَنَا؟ فَاخْتَصَمَا (6) إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عفان فقضى لأخيه (7) بولاء الموالي.
__________
(1) أي بل أنا مستحق.
(2) أي أخبرني.
(3) قوله: لو هلك، أي لو مات أخي الأول الذي ورث ماله وولاء مواليه منه أبوك اليوم بعد موت أخيه لأب وأم الذي هو أبوك لكنت أرثه أنا دونك لأن الأخ وإن كان لأب مقدّم على الأخ وإن كان لأب وأم.
(4) استفهام إنكاري.
(5) في نسخة: وارثه.
(6) قوله: فاختصما إلى عثمان، أي في عهد خلافته، والمتخاصمان ابن العاص بن هشام، وابن ابنه الآخر، قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة في رجال الأربعة" (ص 203) : في هذه القصة إشكال لأن العاص قُتل يوم بدر كافراً، فكيف يموت في زمن عثمان، ويتحاكم إليه في إرثه والذي يرفع الإِشكال أن يكون التحاكم في إرثٍ تأخَّر إلى زمن عثمان، لكن من يموت يوم بدر كافراً: لا يتحاكم في إرثه إلى عثمان في خلافته. انتهى ملخصاً، وفيه سهو ظاهر، نبَّه عليه الزرقاني (4/98) وغيره فإنه لم يتخاصم إلى عثمان في إرث العاص بن هشام، وإنما ذكر في الخبر أنه مات وخلّف شقيقين، وواحداً لأم أُخرى، والذي تخاصم إلى عثمان إنما هو ابن العاصي الذي كان من أم أخرى وابن ابنه الذي مات أبوه، وقد كان أبوه ورث شقيقه مالَه وولاءَ مواليه لموته بلا ولد، فاختصما في ولاء الموالي دون الإِرث ولا ذكر فيه لميراث العاصي أصلاً فلا إشكال.
(7) أي لأخ المتوفى العلاّتي دون ابنه.(3/140)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلاءُ لِلأَخِ (1) مِنَ الأَبِ دُونَ (2) بَنِي الأَخِ مِنَ الأَبِ وَالأُمِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
730 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن أبي بكر أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، فَاخْتَصَمَ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ جُهَيْنة (3) وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ (4) بْنِ الْخَزْرَجِ وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْ جهَيْنة عِنْدَ رَجُلٍ (5) مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ كُليب (6) ، فَمَاتَتْ فَوَرِثَهَا ابْنُهَا وَزَوْجُهَا، وَتَرَكَتْ مالاً وموالي، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهَا، فَقَالَ (7) وَرَثَتُه (8) : لَنَا وَلَاءُ الْمَوَالِي، وَقَدْ كَانَ ابْنُهَا أَحْرَزَهُ (9) ، وَقَالَ الْجُهَنِيُّونَ (10) :
__________
(1) أي عند عدم الأخ لأب وأم.
(2) قوله: دون بني الأخ لأب وأم، لأن الولاء وإن كان أثر الملك، لكنه ليس بمال، ولا له حكم المال حتى لا يجوز الاعتياض عنه بالمال، فلا يجري فيه سهام الورثة المقدَّرة، بل هو سبب يورث به بطريق العصوبة، فيعتبر الأقرب فالأقرب (كذا في شرح الزرقاني 4/99) .
(3) بضم الجيم قبيلة.
(4) هو بطن من الأنصار.
(5) أي في نكاحه.
(6) بصيغة التصغير.
(7) في نسخة: فقالت.
(8) أي الابن المتوفى.
(9) أي أخذه، وورثه، فنحن نرثه بعد موته كالمال.
(10) أي عصبات المرأة من جهينة.(3/141)
لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ مَوَالِي (1) صَاحِبَتِنَا، فَإِذَا مَاتَ وَلَدُهَا، فَلَنَا وَلاؤُهُمْ (2) وَنَحْنُ نَرِثُهُمْ، فَقَضَى (3) أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ لِلْجُهَنِيِّينَ بِوَلاءِ الْمَوَالِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا أَيْضًا نَأْخُذُ. إِذَا انْقَرَضَ (4) وَلَدُهَا الذُّكُورُ رَجَعَ الْوَلاءُ وَمِيرَاثُ (5) مَنْ مَاتَ بَعْدَ (6) ذَلِكَ مِنْ مَوَالِيهَا إِلَى عَصبتها. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
731 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرني (7) مخبر (8) عن سعيد بن المسيِّب:
__________
(1) أي المرأة المتوفّاة التي كانت من جهينة.
(2) أي الموالي.
(3) أي حَكَم.
(4) أي انقطع ومات.
(5) عطف تفسيري.
(6) أي بعد انقضاء أولاد المعتقة الذكور.
(7) وفي رواية يحيى: مالك أنه بلغه عن سعيد.
(8) قوله: مخبر، قال القاري في "شرحه" أي محدِّث أو ناقل وهو عكرمة وكان مالك يكرهه، ولذا يعبر عنه في "الموطأ" برجل ومخبر، وإنما كان يكتم اسمه لكلام سعيد بن المسيب فيه، وقد احتج العلماء وأصحاب السنن بعكرمة، وقد صنفوا في الذبّ عنه وعما قيل فيه، وهو مولى ابن عباس أحد فقهاء مكة، سمع ابنَ عباس وغيره من الصحابة وروى عنه خلق كثير (في تقريب التهذيب 2/30: ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر ولا يثبت عنه بدعة) . انتهى.(3/142)
أَنَّهُ سُئِل عَنْ عبدٍ لَهُ ولدٌ (1) مِنَ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ (2) لِمَنْ وَلاؤُهُمْ (3) ؟ قَالَ: إِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ وَهُوَ عبدٌ لَمْ يُعتَقْ (4) ، فَوَلَاؤُهُمْ لِمَوَالِي (5) أُمِّهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ جَرّ وَلاءَهُمْ (6) ، فَصَارَ وِلَايَتُهُمْ (7) لِمَوَالِي أَبِيهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعمة من فقهائنا - رحمهم الله -.
__________
(1) قوله: له ولد، قال القاري: بفتحتين أو بم فسكون أي أولاداً.
(2) أي كانت أمة لقوم، فصارت حرة بالعتق.
(3) قوله: لمن ولاؤهم، أي لموالي أمهم أم لموالي أبيهم؟.
(4) صفة كاشفة.
(5) لأن الأولاد أحرار بتبعية الأم، فولاؤهم لموالي الأم، وإذا أعتق أبوهم جرّ موالي الأب ولاءهم لكون موالي الأب أقوى من موالي الأم.
(6) قوله: جرّ ولاءهم، أي إلى مواليه إن كان مولاه أمرأة، فإنه ليس للنساء من الولاء إلاَّ ما اعتقته أو أعتق من أعتقته، أو دبَّرن أو دبَّر من دبَّرن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن، أو جرَّ ولاء معتقهن أو معتق معتقهن، كما هو مبسوط في كتب الفرائض.
(7) في نسخة: ولاؤهم.(3/143)
5 - بَابُ مِيرَاثِ (1) الْحَمِيلِ
732 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَبَى (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُوَرِّثَ (4) أَحَدًا مِنَ الأَعَاجِمِ إلاَّ مَا وُلد فِي الْعَرَبِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يورَث الْحَمِيلُ الَّذِي يُسبى (5) وتُسبى مَعَهُ امْرَأَةٌ، فَتَقُولُ (6) هُوَ وَلَدِي، أَوْ تَقُولُ هُوَ أخي، أو
__________
(1) في رواية يحيى: أخبرنا الثقة عن سعيد بن المسيب.
(2) في رواية يحيى: أخبرنا الثقة عن سعيد بن المسيب.
(3) أي امتنع.
(4) قوله: أن يورث، أي يجعل أحداً من الأعاجم غير العرب من الروم والترك والفرس والهند وغيرها وارثاً بمجرد دعوى القرابة وإقرار بعضهم لبعض، فأما إذا ثبت ذلك ببيِّنة فذلك كالمولود في بلاد العرب، وأما المولود في العرب فإنما يورث لأنه معروف النسب.
(5) أي من بلاد الكفر إلى بلاد الإِسلام.
(6) قوله: فتقول هو ولدي أو تقول ... إلخ، الأنساب على قسمين: منها ما تثبت بمجرد الإِقرار من دون حاجة إلى البيِّنة. وهو ما لم يكن فيه تحميل على الغير كإقرار الرجل لرجل أنه ابنه، فالإِقرار بهذا النسب يُثبت النسب، ويجعل المُقرّ له من الورثة، هذا إذا كان المقر له مجهول النسب، وأما إذا كان معرف النسب فلا يُعتبر به، ومنها ما لا يثبت بمجرد إقرار المقر، وهو ما فيه تحميل النسب على الغير كالإِقرار لرجل بأنه أخوه، فإنه يتضمَّن تحميل النسب على أبيه بكونه ابنه(3/144)
يَقُولُ (1) هِيَ أُخْتِي، وَلا نَسَبَ مِنَ الأَنْسَابِ يُوَرِّثُ إلاَّ ببيِّنة (2) إلاَّ الْوَالِدُ وَالْوَلَدُ، فَإِنَّهُ إِذَا ادَّعى الْوَالِدُ أَنَّهُ ابْنُهُ، وصدَّقَه (3) فَهُوَ ابْنُهُ (4) ، وَلا يَحْتَاجُ فِي هَذَا إِلَى بيِّنة إلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ عَبْدًا فَيُكَذِّبَهُ (5) مَوْلاهُ بِذَلِكَ، فَلا يَكُونُ ابْنَ الأَبِ مَا دَامَ عَبْدًا حَتَّى يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى، وَالْمَرْأَةُ إِذَا ادَّعَتِ الْوَلَدَ وَشَهِدَتِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَلَى أَنَّهَا وَلَدَتْهُ، وَهُوَ (6) يُصَدِّقُهَا، وَهُوَ (7) حُرٌّ، فَهُوَ ابْنُهَا. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله.
__________
والإِقرار بأنه عمه يتضمن تحميل النسب على الجد بأنه ابنه ونحو ذلك، ففي هذه الصور إن صَدَّق ذلك الغير الذي حمل النسب إليه فذاك، وإلاَّ فلا يعتبر إقراره إلاَّ بالشهادة العادلة، فظهر أن لا توريث بمجرد الإِقرار بالنسب إلاَّ بالشهادة إلاَّ في الإِقرار بالبنوة. نعم المُقَرّ له بالنسب المتضمن تحميله على الغير إذا لم يثبت نسبه بإقرار الغير ولا بالشهادة ومات المقر على إقراره يرث عندنا المقر إذا لم يكن له أصحاب الفرض ولا العصبات لا السبية والنسبية ولا ذوو الأحام ولا مولى الموالاة كما هو مشروح في كتب الفرائض.
(1) أي ذلك الحميل.
(2) أي لا بمجرد إقرار.
(3) أي الابن.
(4) فيرثه.
(5) أي ذلك المقر لبنوَّته.
(6) أي ذلك الولد.
(7) أي والحال أن ذلك الولد حرّ.(3/145)
6 - فَصْلُ (1) الْوَصِيَّةِ
733 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا حَقُّ (2) امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شيءٌ يُوصي فِيهِ يَبِيتُ
__________
(1) قوله: ما حقّ، ما نافية. امرئ مسلم، كذا في أكثر الروايات ولا مفهوم له، فإن الوصية تصح من الذَّمي، وسقط في رواية: مسلم. له شيء، صفة لامرئ. يوصي فيه، صفة لشيء. يبيت ليلتين، صفة ثانية لمسلم وخبرها ما دلَّ عليه الاستثناء، ويحتمل أن يكون خبره يبيت بتأويله بالمصدر أي ما حقه بيتوتته إلاَّ وهو على هذه الصفة. وفي رواية لمسلم: يبيت ثلاث ليال، وكأنَّ ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج. وفي الحديث دليل على أن الأشياء ينبغي أن تُضبط بالكتابة، واستدل به على جواز الاعتماد على الخط، ولو لم يقرن ذلك بالشهادة، وخَصَّ أحمد ومحمد بن نصر ذلك بالوصية لثبوت ذلك فيها، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، واحتجوا في الإِشهاد بقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية) (سورة المائدة: الآية 106) ، الآية. واحتج بعضهم بظاهر هذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال عطاء والزهري والظاهرية وابن جرير وغيره، وذهب الجمهور إلى استحبابها حتى نسبه ابن عبد البَرّ إلى الإِجماع سوى من شذَّ، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قوله: ما حقّ، ما نافية. امرئ مسلم، كذا في أكثر الروايات ولا مفهوم له، فإن الوصية تصح من الذَّمي، وسقط في رواية: مسلم. له شيء، صفة لامرئ. يوصي فيه، صفة لشيء. يبيت ليلتين، صفة ثانية لمسلم وخبرها ما دلَّ عليه الاستثناء، ويحتمل أن يكون خبره يبيت بتأويله بالمصدر أي ما حقه بيتوتته إلاَّ وهو على هذه الصفة. وفي رواية لمسلم: يبيت ثلاث ليال، وكأنَّ ذكر الليلتين أو الثلاث لرفع الحرج. وفي الحديث دليل على أن الأشياء ينبغي أن تُضبط بالكتابة، واستدل به على جواز الاعتماد على الخط، ولو لم يقرن ذلك بالشهادة، وخَصَّ أحمد ومحمد بن نصر ذلك بالوصية لثبوت ذلك فيها، وأجاب الجمهور بأن الكتابة ذُكرت لما فيها من ضبط المشهود به، واحتجوا في الإِشهاد بقوله تعالى: (شهادة بينكم إذا حضر أحدَكم الموتُ حين الوصية) (سورة المائدة: الآية 106) ، الآية. واحتج بعضهم(3/146)
لَيْلَتَيْنِ إلاَّ ووصيَّته عِنْدَهُ مكتوبةٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. هَذَا (1) حَسَنٌ جَمِيلٌ (2) .
7 - بَابُ الرَّجُلِ يُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ بِثُلُثِ مَالِهِ
734 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ سُلَيْمٍ الزُّرَقي (3) أَخْبَرَهُ (4) أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: إنَّ هَهُنَا (5) غُلامًا يَفَاعاً مِنْ غَسَّان
__________
بظاهر هذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصية، وبه قال عطاء والزهري والظاهرية وابن جرير وغيره، وذهب الجمهور إلى استحبابها حتى نسبه ابن عبد البَرّ إلى الإِجماع سوى من شذَّ، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) أي نفس الوصية أو كتابتها.
(2) أي مستحب ليس بواجب (قال الموفق: أجمع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية، ولا تجب الوصية إلاَّ على من عليه دَيْن أو عنده وديعة أو عليه واجب يوصي بالخروج منه، فإن الله تعالى فرض أداء الأمانات وطريقه في هذا الباب الوصية فتكون مفروضة عليه، فأما الوصية بجزء من ماله فليست بواجبة على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبي والثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم، كذا في الأوجز 12/316) .
(3) بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة نسبة إلى بني زريق قبيلة من الأنصار.
(4) هذه الرواية مرسلة، لأن عمرواً لم يلقَ عمر، قاله الطحاوي.
(5) قوله: إنَّ ههنا، أي بالمدينة. غلاماً يفاعاً من غَسّان، - بفتح الغين وتشديد السين المهملة - قبيلة من الأزد، واليَفاع بفتح الياء المثناة التحتية بعدها فاء بمعنى اليافع، وهو الذي راهق البلوغ، ولم يحتلم، وجمعه أيفاع قاله في(3/147)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
"المغرب". وفي رواية أخرى لمالك المذكورة في "موطأ يحيى" عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أبي بكر بن حزم أن غلاماً من غسّان حضرته الوفاة بالمدينة ووارثه بالشام، فذُكر ذلك لعمر، فقيل له: إن فلاناً يموت أفيوصي؟ قال: فليوصِ، قال يحيى: قال أبو بكر: وكان الغلامُ ابنَ عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة، فأوصى ببئر جُشم (هي بئر بالمدينة) فباعها أهلها بثلاثين ألف درهم، وقال الزرقاني في "شرحه": فيه صحة وصية الصبي المميِّز، وبه قال مالك، وقيده بما إذا عقل ولم يخلط وأحمد وقيده بابن سبع وعنه بعشر، والشافعي في قول رجَّحه جماعة ومال إليه السبكي، ومنعها الحنفية والشافعي في الأظهر عنه، وذكر البيهقي عنه أنه علق القول به على صحة أثر عمر، وهو صحيح فإن رجاله ثقات وله شاهد. انتهى. وذكر العيني في "البناية" أن وصية الصبي جائزة عند الشافعي في قول ومالك وأحمد والشعبي والنَّخَعي وعمر بن عبد العزيز وشُريح وعطاء والزهري وإياس، وغير جائزة عندنا وعند الشافعي في قول وأصحاب الظواهر، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد، وأجاب أصحابنا عن أثر عمر بوجوه: أحدها: ما ذكره في "الهداية" أن الغلام الذي أمره عمر بالوصية كان بالغاً وسمي يافعاً مجازاً تسميةً للشيء باسم ما كان عليه لقربه منه. وثانيهما: ما ذكره أيضاً أن وصية يفاع كانت في تجهيزه وأَمْر دفنه وذلك جائز عندنا. وردَّهما الإِتقاني في "غاية البيان" بأنَّ الراوي صرح بأنه أوصى لابنة عمٍّ له بمال، فكيف يحتمل أن يكون الإِيصاء في أمر التجهيز والدفن؟ وصح في الرواية أنه كان غلاماً لم يحتلم، ثم ذكر الإِتقاني في الجواب ما ملخَّصه: أن من أدرك عصر الصحابة كسعيد بن المسيّب والحسن والشعبي والنَّخَعي الذين يعتدّ بخلافهم في إجماع الصحابة رَوى عنهم أصحابنا أنهم قالوا: لا وصية لمراهق، فبقي رأي الصحابي. وهو ليس بحجة عند الخصم، فكيف يُحتج به على غيره والقياس يؤيِّده ما ذهبنا، فإن الوصية تبرع والصبي ليس من أهله. وذكر(3/148)
ووارثُه (1) بِالشَّامِ، وَلَهُ مَالٌ، وَلَيْسَ هُنَا إلاَّ ابْنَةُ عَمٍّ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: مُروه، فليوصِ لها فأوصى لهابمال يُقَالُ لَهُ بِئْرُ جُشَم (2) . قَالَ عَمْرُو بْنُ سُلَيْم: فبعتُ ذَلِكَ المالَ بِثَلاثِينَ أَلْفًا بَعْدَ ذَلِكَ، وابنةُ عمِّه الَّتِي أَوْصَى لَهَا هِيَ أمُّ عَمْرِو بْنِ سُليم (3) .
735 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن عامر (4) ابن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أبي وقاص أنه قال (5) : جاءني
__________
ابن حزم أن ابن عباس خالف عمر فيما ذهب إليه (وشدَّد ابن حزم كما هو دأبه في منع جواز وصية الصبي، وقال فيه: إن الرواية لا تصح عن عمر رضي الله عنه، وقد خالفه ابن عباس كذا في الأوجز 12/327) .
(1) أي وهو مريض مرض الموت.
(2) بضم الجيم وفتح الشين المعجمة.
(3) راوي هذا الحديث.
(4) قال في "التقريب" ثقة مات سنة 104.
(5) قوله: قال، أخرج هذه القصة البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن أبي شيبة وابن خزيمة وأحمد والطيالسي وابن حبان وابن الجارود وغيرهم، ذكره السيوطي.(3/149)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ حَجّة الوَداع (1) يَعُودُنِي (2) مِنْ وجعٍ (3) اشْتَدَّ بِي، فقلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَلَغَ مِنِّي الْوَجَعُ مَا تَرَى، وَأَنَا ذُو مَالٍ (4) وَلا يَرِثُنِي
__________
(1) قوله: عام حجة الوداع، أي سنة عشر هكذا اتفق عليه أصحاب الزهري إلا ابن عيينة، فقال في فتح مكة أخرجه الترمذي وغيره، واتفقوا على أنه وهم منه، قال الحافظ ابن حجر: وجدت لابن عيينة مستنداً عند أحمد والبزار والطبراني والبخاري في "التاريخ" وابن سعد من حديث عمرو القاري: أن رسول الله قدم مكة فخلف سعداً مريضاً حيث خرج إلى حنين، قلما قدم من الجعرّانة معتمراً دخل عليه وهو مغلوب، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً وإني أُرِث كلالة أَفَأُوصي بمالي، الحديث. فلعل ابن عيينة انتقل ذهنه من حديث إلى حديث ويمكن الجمع (لكن يشكل على هذا الجمع ما أخرجه الترمذي من رواية سفيان، عن الزهري بلفظ مرضت عام الفتح مرضاً، الحديث، وفيه ليس يرثني إلا ابنتي، ففيه ذكر البنت في عام الفتح، انظر أوجز المسالك 12/331 وفي هامش الكوكب الدري 3/110 أن مافي رواية الترمذي من قوله عام الفتح يقال: إنه وهموالصواب حجة الوداع وجمع بينهما باحتمال التعدد) بأنه وقع له ذلك مرتين، فعام الفتح لم يكن وارث من الأولاد وعام حجة الوداع كانت له بنت فقط.
(2) من العيادة.
(3) بفتحتين اسم لكل مرض.
(4) التنوين للكثرة.(3/150)
إلا ابنةٌ (1) لي، أ (2) فأتصدق بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِالشَّطْرِ (3) ؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَبِالثُّلُثِ؟ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الثلثَ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (4) ، أَوْ كَبِيرٌ، إِنَّكَ (5) إِنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عَالةً
__________
(1) قوله: إلا ابنة لي، أي من الولد أو من خواصّ الورثة أو من النساء وإلا فقد كان له عصبات، فإنه من زهرة، وكانوا كثيراً، قاله النوري، وقال الحافظ في "فتح الباري" (5/368) : زعم بعض من أدركنا أن هذه البنت اسمها عائشة فإن كان محفوظاً فهي غير عائشة بنت سعد التي روت هذا الحديث عند البخاري وهي تابعية عُمِّرت حتى روى عنها مالك ماتت سنة 117 هـ. لكن لم يذكر أحد من النسّابين لسعد ابنة تسمّى بعائشة غير هذه، وذكروا أن أكبر بناته أم الحكم الكبرى، وله بنات أخرى متأخرات الإِسلام بعد الوفاة النبوية، فالظاهر أنها أم الحكم، ولم أرَ من جوّز ذلك.
(2) الاستفهام للاستخبار.
(3) بالفتح فسكون النصف.
(4) قوله: كثير أو كبير، بالشك من بعض الرواة، قال الحافظ: والمحفوظ في أكثر الروايات بالمثلثة، وفيه أشار إلى أن الثلث رخصة والأحب الوصية بما دونها.
(5) قوله: إنك، بكسر الهمزة استينافاً، وبالفتح أي لأنك. أنْ، بفتح الهمزة وسكون النون. تذر، بفتح الذال المعجمة أي تترك ورثتك أي البنت وعصباته أغنياء أي بما يرثونه منك خير من أن تذرهم عالةً - جمع عائل بمعنى المحتاج - يتكفَّفُون الناس أي يسألونهم بأكفّهم.(3/151)
يتكفَّفُون الناسَ وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً (1) تَبْتَغِي بِهَا (2) وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلا أُجِرْتَ (3) بِهَا حتى ما (4) تجعلُ في فيِ امْرَأَتِكَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُخلَّفُ (5) بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ (6) فتعمَلَ عَمَلًا صَالِحًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ (7) حَتَّى ينتفعَ (8) بِكَ أقوامٌ، ويُضَرَّ بِكَ آخَرُونَ. اللَّهم أَمْضِ (9) لأَصْحَابِي هجرتَهم وَلا تردَّهم (10) على أعقابهم، لكن البائس (11)
__________
(1) أي ولو قليلة.
(2) أي تطلب بها رضاء الله.
(3) بصيغة المجهول المخاطب أي أعطي لك أجرها.
(4) أي اللقمة التي تجعلها في فم الزوجة.
(5) قوله: أُخَلَّفُ، بصيغة المجهول المتكلِّم أي أبقى بسبب المرض خلفاً بمكة بعد أصحابي الذين معك فإنهم يرجعون إلى المدينة معك، ذكر ذلك تحسُّراً وكانوا يكرهون المقام بمكة بعد ما هاجروا منها وتركوها الله.
(6) يعني أن كونك مخلَّفاً لا يضرك مع العمل الصالح.
(7) أي بأن يطول عمرك.
(8) قوله: حتى ينتفع، قد وقع ذلك الذي ترجَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فشُفي سعد من ذلك المرض، وطال عمره حتى انتفع به أقوام من المسلمين، واستضرّ به آخرون من الكفار، حتى مات سنة 55 على المشهور، وقيل غير ذلك.
(9) من الإِمضاء أي أتمم لهم.
(10) أي بترك الهجرة وعدم تمامها.
(11) الذي عليه أثر البؤس وهو الحاجة.(3/152)
سَعْدُ (1) بْنُ خَوْلَةَ. يَرْثِي (2) لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنْ ماتَ (3) بمكةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْوَصَايَا جَائِزَةٌ فِي ثُلُث مَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ قَضَاءِ (4) دَيْنه، وَلَيْسَ (5) لَهُ أَنْ يُوصي بأكثرَ
__________
(1) ممن شهد بدراً.
(2) قوله: يَرثي له، بفتح الياء وسكون الراء أي يتوجّع ويحزن. وهذا مُدرج من كلام سعد، وقيل من كلام الزهري ذكره السيوطي.
(3) أي بسبب أنه مات بمكة في حجة الوداع (وجزم الليث بن سعد في تاريخه عن يزيد بن أبي حبيب بأن سعد بن خولة مات في حجة الوداع وهو الثابت في الصحيح. فتح الباري 5/364، وقيل: عام الفتح، وقيل: لم يهاجر.
(4) لآن قضاءه فرض فهو مقدَّم على المستحب.
(5) قوله: وليس له أن يوصي ... إلخ، اختُلف في الوصية: فأكثر أهل العلم على أنها مشروعة مستحبة غير واجبة إلا لطائفة، فرُوي عن الزهري أنه جعل الوصية حقاً مما قلّ أو كثر وكذا حُكي عن أبي مجلز، وقال أصحاب الظاهر ومسروق وقتادة وابن جرير: هي واجبة في حق الأقربين الذين لا يرثون، قال بعضهم: هي واجبة في حق الوالدين والأقربين لقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدّكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالِدَيْن والأقربين بالمعروف) (سورة البقرة: الآية 180) ، والجمهور على أنه منسوخ بآية المواريث وبحديث مشهور: إن الله أعطى كلَّ ذي حق حقه، ألاّ لا وصية لوارث، أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، ثم اختلفوا في الزيادة على الثلث (قال الحافظ: واختلفوا أيضاً هل يُعتبر ثلث المال حال الوصية أو حال الموت؟ على قولين، وهما وجهان للشافعية أصحهما الثاني، فقال بالأول مالك وأكثر العراقيين وهو قول النخعي وعمر بن عبد العزيز، وقال بالثاني أبو حنيفة والباقون وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من التابعين. فتح الباري 5/369) ، وذهب الشافعي ومالك وأحمد وابن شبرمة(3/153)
مِنْهُ (1) ، فإنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فأجازَتْه الْوَرَثَةُ بَعْدَ (2) مَوْتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ إِجَازَتِهِمْ، وَإِنْ رَدّوا (3) رَجَع ذَلِكَ إِلَى الثُّلُثِ لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثُّلُثَ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، فَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ وَصِيَّةٌ بِأَكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ إِلا أَنْ يُجِيزَ الْوَرَثَةُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامة من فقهائنا، رحمهم الله تعالى.
__________
والأوزعي وأصحاب الظاهر إلى أنه لا يجوز وإن لم يكن له وارث، وعندنا وبه قال الحسن وشَريك وإسحاق بن راهويه يجوز إذا لم يكن له وارث وكذا إذا كان وارث فأجازه بعد موته لأن الامتناع لحق الورثة فعند فقدهم أو إجازتهم يرتفع المنع، كذا حقق في "البناية".
(1) أي من الثلث.
(2) قوله: بعد موته، قُيّد به لأنه لا معتبر لإِجاتهم في حال حياته لأنها قبل ثبوت الحق يثبت بعد الموت، فكان لهم أن يردّوا بعد وفاته، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور والثوري والحسن بن صالح وشريح وطاوس والحكم والظاهرية، وروي عن ابن مسعود، وقال ابن أبي ليلى والزهري وعطاء وحماد وربيعة: ليس لهم أن يرجعوا عن الإِجازة سواء كان قبل الموت أو بعده، كذا ذكر العيني رحمه الله تعالى.
(3) أي لم يجز الورثة بعد موته.(3/154)
1 - كِتَابُ الأَيْمان (1) وَالنُّذُورِ (2) وَأَدْنَى مَا يُجْزِئُ (3) فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ
736 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُكفِّر (4) عَنْ يَمِينِهِ بِإِطْعَامِ عَشَرَة مساكين، لكل إنسان مدٌّ (5) من حنطلة، وكان
__________
(1) قوله: كان يكفرِّ، الأصل فيه قوله تعالى: (فكفّارَتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكين من أوسط ما تُطْعمون أَهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام) (سورة المائدة: الآية 89) ، أي متتابعات كما في قراءة، فخيَّر الله بين الإِطعام والكسوة والتحرير، وأوجب على العاجز عنها الصيام، وهذا هو مذهب الجمهور، وكان ابن عمر يفعل بأنّ من حلف مؤكّداً ثم حنث فعليه عتق أو كسوة العشرة، ومن لم يؤكد فعليه الإِطعام، فإن عجز فالصيام، لكون التحرير والكسوة أكثر مؤنة وأعظم قيمة فيناسب الأعظم بالأعظم جُرماً، والأخفّ بالأخفّ، ولهذا كان إذا كفَّر عن يمينه غير مؤكد أطعم وإذا وكدّ أعتق، والمراد بالتأكيد تكرير اليمين مرة بعد أخرى في أمر واحد، ولعل هذا الحكم منه إرشادي مبني على مصلحة شرعية وإلا فظاهر الكتاب التخيير بين الثلاثة مطلقاً (قال الباجي: لعل ابن عمر رضي الله عنهما كان يعتقد الأمرين جميعاً فكان يرى في تأكيدها أن يأخذ ذلك بأرفع الكفارات وهو العتق أو يرفع عن أدنى الكفارات الذي هو الإطعام إلى ما هو أرفع وهو الكسوة، وإنما ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. المنتقى 3/254.)
(2) قوله: مُدّ (قال صاحب "المحلّى": قوله من حنظة وكذا غيرة من الطعام من غالب قوت البلد، وهو المأثور عن ابن عباس وزيد بن ثابت والقاسم وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أحمد: يطعم لكل مسكين مُدّاً من البُرّ أو نصف صاع من غيره من الشعير والتمر، وقال أبو حنيفة: صاعاً من شعير أو تمر أو نصفه من بُر. أوجز المسالك 9/79) ، بضم الميم وتشديد الدال المهملة ربع الصاع، ووافقه في ذلك أسماء بنت أبي بكر أخرجه عنها ابن مردويه، وابن عباس، أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وزيد بن ثابت أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو هريرة أخرجه عنه ابن المنذر، وخالفهم في ذلك جماعة فقالوا: بنصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو شعير كصدقة الفطر، منهم عمر أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وكذلك أخرجوه عن علي، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس، وإليه ذهب أصحابنا والآثار مبسوطة في "الدر المنثور".
(3) جمع جارية.
(4) قوله: كان يكفرِّ، الأصل فيه قوله تعالى: (فكفّارَتُه إطعامُ عَشَرَةِ مساكين من أوسط ما تُطْعمون أَهليكم أو كِسْوَتُهم أو تحريرُ رقبة، فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيام) (سورة المائدة: الآية 89) ، أي متتابعات كما في قراءة، فخيَّر الله بين الإِطعام والكسوة والتحرير، وأوجب على العاجز عنها الصيام، وهذا هو مذهب الجمهور، وكان ابن عمر يفعل بأنّ من حلف مؤكّداً ثم حنث فعليه عتق أو كسوة العشرة، ومن لم يؤكد فعليه الإِطعام، فإن عجز فالصيام، لكون التحرير والكسوة أكثر مؤنة وأعظم قيمة فيناسب الأعظم بالأعظم جُرماً، والأخفّ بالأخفّ، ولهذا كان إذا كفَّر عن يمينه غير مؤكد أطعم وإذا وكدّ أعتق، والمراد بالتأكيد تكرير اليمين مرة بعد أخرى في أمر واحد، ولعل هذا الحكم منه إرشادي مبني على مصلحة شرعية وإلا فظاهر الكتاب التخيير بين الثلاثة مطلقاً (قال الباجي: لعل ابن عمر رضي الله عنهما كان يعتقد الأمرين جميعاً فكان يرى في تأكيدها أن يأخذ ذلك بأرفع الكفارات وهو العتق أو يرفع عن أدنى الكفارات الذي هو الإطعام إلى ما هو أرفع وهو الكسوة، وإنما ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه. المنتقى 3/254.)
(5) قوله: مُدّ (قال صاحب "المحلّى": قوله من حنظة وكذا غيرة من الطعام من غالب قوت البلد، وهو المأثور عن ابن عباس وزيد بن ثابت والقاسم وعطاء والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي، وقال أحمد: يطعم لكل مسكين مُدّاً من البُرّ أو نصف صاع من غيره من الشعير والتمر، وقال أبو حنيفة: صاعاً من شعير أو تمر أو نصفه من بُر. أوجز المسالك 9/79) ، بضم الميم وتشديد الدال المهملة ربع الصاع، ووافقه(3/155)
يُعتق الجوارِ (1) إِذَا وَكّد (2) فِي الْيَمِينِ.
737 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: أدركتُ النَّاسَ (3) وَهُمْ إِذَا أَعطَوْا الْمَسَاكِينَ في كفارة اليمين أَعْطَوْا مُدّاً من حنظلة بالمدّ الأصغر (4)
__________
في ذلك أسماء بنت أبي بكر أخرجه عنها ابن مردويه، وابن عباس، أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وزيد بن ثابت أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ وأبو هريرة أخرجه عنه ابن المنذر، وخالفهم في ذلك جماعة فقالوا: بنصف صاع من حنطة أو صاع من تمر أو شعير كصدقة الفطر، منهم عمر أخرجه عنه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ وكذلك أخرجوه عن علي، وكذلك أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس، وإليه ذهب أصحابنا والآثار مبسوطة في "الدر المنثور".
(1) جمع جارية.
(2) من التأكيد وهو التكرير.
(3) يعني الصحابة وأجلّة التابعين.
(4) قوله: بالمُدّ الأصغر، قال القاري: وهو مُدُّ النبي صلى الله عليه وسلم كما صرّح به الإِمام مالك، والمدّ الأكبر (قال الباجي: واختلف أصحابنا في مقداره فمنهم من قال: مُدّان إلا ثلثاً بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من قال: مُدّان بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح عندي. انظر المنتقى 4/45) مُدُّ هشام بن إسماعيل المخزومي وكان عاملاً على المدينة لبني أمية.(3/156)
وَرَأَوْا (1) أَنَّ ذَلِكَ يجزئُ (2) عَنْهُمْ.
738 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ (3) فَوَكَّدَهَا (4) ثُمَّ حَنَثَ (5) ، فَعَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَوْ كِسْوَةُ (6) عَشَرَة مَسَاكِينَ، وَمَنْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَلَمْ يُؤَكِّدْهَا فَحَنَثَ، فَعَلَيْهِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مدٌّ مِنْ حِنْطَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ (7) فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ غَدَاءً (8) وعَشَاءً (9) أَوْ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ شَعِيرٍ.
739 - قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنَا سلاَّم (10) بن سُلَيْم الحنفي (11) ، عن
__________
(1) أي اعتقدوا.
(2) أي يكفي.
(3) المراد باليمين المقسم عليه أي حلف على أمر.
(4) أي كرّر الحلف.
(5) أي نقض يمينه.
(6) لكل مسكين ثوب يستر عامّة بدنه.
(7) أي لا يجد شيئاً من الثلاثة.
(8) بفتح الغين طعام الصبح.
(9) بفتح العين طعام المساء.
(10) بتشديد اللام.
(11) نسبة إلى بني حنيفة قبيلة.(3/157)
أَبِي إِسْحَاقَ السَّبيعي، عَنْ يَرْفأ (1) مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا يَرْفَأُ إِنِّي أَنْزَلْتُ مالَ (2) اللَّهِ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ (3) مَالِ الْيَتِيمِ إِنِ احتجتُ أخذتُ مِنْهُ، فَإِذَا أيْسَرْتُ (4) ردَدْتُّه وَإِنِ استَغْنَيْتُ (5) استَعْفَفْتُ (6) ، وَإِنِّي قَدْ وُلِّيت (7) مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ أَمْرًا (8) عَظِيمًا، فَإِذَا (9) أنتَ سمعتَني أحلفُ على يمين، فلم أمضها (10) فأطعم عني
__________
(1) بفتح الياء وسكون الراء.
(2) أي مال بيت المال.
(3) قوله: بمنزلة مال اليتيم، أي في حكمه الوارد في قوله تعالى: (من كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بالمعروف) (سورة النساء: الآية 6) . فإن وقعتْ لي حاجة أخذتُه لنفسي، ثم رددت فيه مثله إذا حصل لي الغناء وإن لم تقع استعففت عنه ولم آخذه فإنه مال المسلمين.
(4) أي صرتُ موسِراً.
(5) أي عن أخذه.
(6) من الاستعفاف طلب العفّة.
(7) مجهول من التولية.
(8) أي أمر الخلافة.
(9) قوله: فإذا أنت، أي قد ولِّيتُ أمراً عظيماً فربما أغفل بسبب كثرة أشغالي وشدة أفكاري فأحلف على شيء ولا أبره شغلاً بالأمور العظيمة، فإذا وقفتَ عليه فكفرِّ عني.
(10) من الإِمضاء أي لم أفعل حسبه بل أحنث فيه.(3/158)
عَشَرَةَ مَسَاكِينَ خَمْسَةَ أَصْوُع (1) بُرٍّ بَيْنَ كُلِّ مِسْكِينَيْنِ صَاعٌ (2) .
740 - أَخْبَرَنَا يُونُسُ (3) بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ يَسَارِ (4) بْنِ نُمَيْر (5) ، عن يرفاء غُلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لَهُ: إِنَّ عَلَيَّ أَمْرًا مِنْ أَمْرِ النَّاسِ جَسِيمًا (6) فَإِذَا رأيتَني قَدْ حلفتُ (7) عَلَى شَيْءٍ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صاع من بُرّ (8) .
__________
(1) بفتح الألف وضم الواو جمع الصاع.
(2) أي لكل مسكين نصف صاع.
(3) قوله: يونس بن أبي إسحاق، قال السَّمعاني في "كتاب الأنساب: عند ذكر السبيعي بعد ما ضبطه بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء المنقوطة باثنتين من تحت بآخره عين مهملة، نسبةً إلى سبيع بطن من هَمْدان، وبالكوفة محلة معروفة بالسبيع لنزول هذه القبيلة بها، ومن العلماء المنسوبين إلى هذه المحلة أبو إسحاق السَّبيعي واسمه عمرو بن عبد الله بن علي بن أحمد السبيعي الهمداني، مولده سنة 29 في خلافة عثمان رأى عليّاً وأسامة وابن عباس والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وأبا جحيفة وابن أبي أوفى، وروى عنه الأعمش والثوري ومنصور، مات سنة 127. ابنه يونس بن أبي إسحاق السَبيعي كنيته أبو إسرائيل، يروي عن أبيه، مات سنة 159، وفي "التقريب": يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي أبو إسرائيل الكوفي صدوق يهم قليلاً، مات سنة 152 على الصحيح.
(4) قوله: عن يَسار، بفتح الياء، قال الحافظ في "التقريب": يسار بن نُمير المدني مولى عمر بن الخطاب، ثقة، نزل الكوفة.
(5) بضم النون مصغَّراً.
(6) أي عظيماً.
(7) أي ثم حنثت.
(8) أي حنطة.(3/159)
741 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ يَسَارِ بْنِ نُمَيْرٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَمَرَ أَنْ يُكَفَّرَ (1) عَنْ يَمِينِهِ بنصفِ صاعٍ لِكُلِّ مسكينٍ.
742 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَينة، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (2) ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْكَفَّارَاتِ (3) فِيهِ إِطْعَامُ الْمَسَاكِينِ نصفُ صاعٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
2 - بَابُ الرَّجُلِ يَحْلِفُ بِالْمَشْيِ إِلَى بَيْتِ (4) اللَّهِ
743 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عمَّته (5) أَنَّهَا حدَّثَتْه عَنْ جَدَّتِهِ: أَنَّهَا كَانَت جعلتْ عَلَيْهَا مَشْيًا إلى مسجد
__________
(1) بصيغة المجهول.
(2) هو ابن مالك الجزري.
(3) ككفارة الظهار وكفارة فطر رمضان وكفارة حلق الرأس في الإِحرام.
(4) قوله: عن عمّته، قال الزرقاني: قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمّة جَدّ عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته: مجازاً، وتعقبه الحافظ بأن عمرة صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه(3/160)
قُبَاءَ (1) فَمَاتَتْ، وَلَمْ تَقْضِه، فَأَفْتَى ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنَتَهَا أَنْ تَمْشيَ (2) عَنْهَا.
744 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عبد الله (3) بن أبي حبيبة، قال:
__________
لم يدركها، فالأظهر أن المراد عمته الحقيقية وهي أمّ عمرو أو أمّ كلثوم. انتهى. والأصل الحمل على الحقيقة، وعلى مدّعي العمة المجازية بيان الرواية التي دعواه فيها خصوصاً مع ما لزم عليها من انقطاع السند والأصل خلافه.
(5) قوله: عن عمّته، قال الزرقاني: قال ابن الحذاء: هي عمرة بنت حزم عمّة جَدّ عبد الله بن أبي بكر، وقيل لها عمته: مجازاً، وتعقبه الحافظ بأن عمرة صحابية قديمة، روى عنها جابر الصحابي، فرواية عبد الله عنها منقطعة لأنه لم يدركها، فالأظهر أن المراد عمته الحقيقية وهي أمّ عمرو أو أمّ كلثوم. انتهى. والأصل الحمل على الحقيقة، وعلى مدّعي العمة المجازية بيان الرواية التي دعواه فيها خصوصاً مع ما لزم عليها من انقطاع السند والأصل خلافه.
(1) بضم القاف وبالمد موضع معروف بقرب المدينة.
(2) قوله: أن تمشي عنها، لأن الأصل أن الإِتيان إلى قباء مرغَّب فيه، ولا خلاف في أنه قربة لمن قرب منه، ومذهب ابن عباس قضاء المشي عن الميت، ولم يأخذ بقوله في المشي الأئمة الأربعة (قال الموفق: إن نذر إتيان مسجد سوى المساجد الثلاثة لم يلزمه إتيانه، وإن نذر الصلاة فيه لزمته الصلاة دون المشي، ففي أي موضع صلّى أجزأه لأن الصلاة لا تخص مكاناً دون مكان فلزمته الصلاة دون الموضع، ولا يُعلم في هذا خلافاً إلا عن الليث فإنه قال: لو نذر صلاةً أو صياماً بموضع لزمه فلعله في ذلك الموضع ومن نذر المشي إلى مسجد مشى إليه. قال الطحاوي لم يوافقه على ذلك أحد من الفقهاء المغني 9/15) ، ولذا قال مالك: لا يمشي أحد عن أحد، وقال ابن القاسم: أنكر مالك أحاديث المشي إلى قباء ولم يعرف المشي إلى قباء ولم يعرف المشي إلى مكة خاصة، قال ابن عبد البر: يعني لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر، وأما المتطوع فقد روى مالك أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليها راكباً وماشياً وأن إتيانه مرغّب فيه، كذا ذكر الزرقاني.
(3) قوله: عبد الله بن أبي حبيبة، المدني مولى زبير بن العوام، روى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وعن عثمان، ذكره البخاري عن ابن مهدي، وروى عنه بكير بن الأشجّ ومالك، وأبو حنيفة في "مسنده" عنه سمعت أبا الدرداء، فذكر الحديث في فضل من قال لا إله إلا الله، قال ابن الحذاء: هو من الرجال الذين اكتُفي في معرفتهم برواية مالك عنهم، كذا في "شرح الزرقاني".(3/161)
قُلْتُ لِرَجُلٍ وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ (1) ، لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ - يَقُولُ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلا يُسَمِّي (2) نَذْرًا - شيءٌ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: هَلْ لَكَ إِلَى أنْ أُعْطِيكَ هَذَا الجرْو (3) لِجَرْوِ قثَّاءٍ (4) فِي يَدِهِ، وَتَقُولُ: عَلَيَّ مَشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فقلتُ (5) نَعَمْ، فقلتُه، فمكثتُ حِينًا (6) حَتَّى عقلتُ (7) ، فَقِيلَ لِي: إِنَّ عَلَيْكَ (8) مَشْيًا. فجئتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذلك
__________
(1) قوله: وأنا حديث السنّ، قال الباجي: يريد أنه لم يكن فقه الحديث لحداثة سنّه،
وقال ابن حبيب عن مالك: كان عبد الله يومئذ قد بلغ الحلم، وأعتقد أنّ لفظ الالتزام إذا عرى عن لفظ النذر لم يجب عليه شيء.
(2) أي لا يذكر لفظ النذر.
(3) الجرو: بتثليث الجيم: الصغير من كل شيء كما في "القاموس".
(4) بكسر القاف وتشديد الثاء المثلثة وقد يفتح القاف: خيار (والجملة في موضع الحال أي مشيراً بلفظ هذا الجرو إلى جرو قثاء كان (في يده) وفي نسخة: بيده، شُبّهت بصغار أولاد الكلاب للينها ونعومتها، كذا في الأوجز 9/18) .
(5) قوله: فقلت نعم، قال الباجي: ما كان ينبغي ذلك للرجل فربما حمله اللجاج على أمر لا يمكنه الوفاء به وكان ينبغي أن يعلمه بالصواب، فإن قبل وإلا حضّه على السؤال، ولعله اعتقد فيه أنه إن لم يلزمه هذا القول ترك السؤال، وإن لزم دعته الضرورة إلى السؤال عنه.
(6) أي زماناً.
(7) أي صرت ذا عقل وفقه.
(8) أي لزم عليك المشي إلى بيت الله بقولك.(3/162)
فَقَالَ (1) : عَلَيْكَ مشيٌ. فَمَشَيْتُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ الْمَشْيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ لَزِمَهُ (2) المشيُ إِنْ جَعَلَهُ نَذْرًا أَوْ غَيْرَ نَذْرٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا رحمهم الله تعالى.
__________
(1) قوله: فقال: عليك مشي، قال مالك: وهذا هو الأمر عندنا، وبه قال ابن عمر وطائفة، ورُوي مثله عن القاسم بن محمد، والمعروف عن سعيد بن المسيّب خلاف ما روى عنه ابن أبي حبيبة (أما رواية ابن أبي حبيبة، فقال الباجي: إن إسنادها إلى سعيد ضعيف. انظر: المنتقى 3/232. وقال الزرقاني: إن ثبت ما قال: إنه المعروف عنده فيكون رجع عن ذلك وإلا فالإِسناد إليه صحيح، مالك عن ابن أبي حبيبة عنه لا سيما وهو صاحب القصة. شرح الزرقاني 3/58) ، وأنه لا شيء عليه حتى يقول عليّ نذر المشي إلى بيت الله، كذا قال ابن عبد البر.
(2) قوله: لزمه المشي، أي مع الحج أو العمرة سواء أطلق لفظ النذر أو لم يطلق وسواء قال عليّ المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو بمكّة، وسواء قال ذلك في مكة أو في خارجها، فيلزم في هذه الصور أحد النُّسُكين ماشياً لأنه تُعُورف إيجاب أحد النسكين به، فصار فيه مجازاً لغوياً حقيقةً عرفية مثل ما لو قال: عليّ حجة أو عمرة، بخلاف ما إذا قال عليّ الذهاب إلى مكة أو الذهاب لله أو عليّ السفر إلى مكة أو الركوب إليها أو المسير إليها أو نحو ذلك، فإنه لا يلزمه فيها شيء لعدم تعارف إيجاب النُّسُكين بهما، وعدم كون السفر ونحوه قربة مقصودة، وكذا إذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله وأراد به مسجدا من المساجد وكذا في عليّ المشي إلى بيت المَقْدس، أو إلى المدينة المنورة، وكذا في عليّ الشدّ أو الهرولة أو السعي إلى مكة أو المشي إلى أستار الكعبة أو ميزابها(3/163)
3 - بَابُ مَنْ جَعَل عَلَى نَفْسِهِ الْمَشْيُ ثُمَّ عَجَزَ (1)
745 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عُرْوَةَ (2) بْنِ أُذَيْنَة أنَّه قَالَ: خرجتُ مَعَ جَدَّةٍ لِي عَلَيْهَا مشْيٌ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عجزتْ (3) فَأَرْسَلَتْ مَوْلًى لَهَا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ لِيَسْأَلَهُ، وخرجتُ (4) مَعَ المَوْلى، فَسَأَلَهُ (5) : فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مُرها فَلْتَرْكَبْ ثُمَّ لتمشِ (6) مِنْ حَيْثُ عجَزْت.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ قَالَ (7) هَذَا قَوْمٌ. وأحبُّ إلينا من هذا القول
__________
أو أسطوانتها أو إلى الصفا والمروة أو عرفات. واختلفوا في عليّ المشي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام، فعنده لا يلزمه شيء وعندهما يلزم أحد النسكين، فإن قلت: إذا كان قوله عليّ المشي إلى بيت الله ونحوه مثل عليّ حجة أو عمرة يلزم أن لا يلزمه المشي بل يستوي فيه المشي والركوب قلت تقديره عليّ حجة أو عمرة ماشياً فإن المشي لم يُهدر اعتباره شرعاً، كذا ذكره ابن الهمام في "فتح القدير".
(1) قوله: عن عروة بن أُذينة، بضم الهمزة على التصغير لقب، اسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو الليثي، كان عروة شاعراً غزلاً خيراً، ثقة، وليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، ولجدِّه مالك بن الحارث رواية عن علي، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره.
(2) قوله: عن عروة بن أُذينة، بضم الهمزة على التصغير لقب، اسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو الليثي، كان عروة شاعراً غزلاً خيراً، ثقة، وليس له في "الموطأ" غير هذا الحديث، ولجدِّه مالك بن الحارث رواية عن علي، كذا ذكره ابن عبد البَرّ وغيره.
(3) أي عن المشي.
(4) أي لأسمع جواب ابن عمر بلا واسطة.
(5) أي سأل المولى (في الأصل: "لمن"، وهو خطأ) ابن عمر.
(6) أي إذا قدرت فلتقضِ المشي من حيث أعيت.
(7) أي ذهب إلى ما أفتى به ابن عمر جمع من العلماء.(3/164)
مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
746 - أَخْبَرَنَا (1) شُعبة بْنُ الحَجَّاج، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتبة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كرَّم اللَّهُ وَجْهَهُ، أنَّه قَالَ: مَنْ نَذَرَ أنْ يحجَّ مَاشِيًا، ثُمَّ عَجِز فليَرْكَبْ ولْيَحُجَّ وَلْيَنْحَرْ بَدَنَة (2) . وَجَاءَ عَنْهُ (3) فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ويُهْدِي هَدْيًا (4) . فَبِهَذَا نأخُذُ، يَكُونُ الْهَدْيُ مَكَانَ الْمَشْيِ (5) . وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) قوله أخبرنا شعبة، بضم الشين بن الحجّاج - يتشديد الجيم الأولى بعد الحاء المفتوحة - ابن الورد العتكي مولاهم، أبو بسطام الواسطي البصري، ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، مات سنة 160 هـ، وشيخه الحَكَم بفتحتين ابن عُتبة - بضم العين وسكون التاء المثناة الفوقية بعدها باء موحَّدة، على ما في نسخ هذا الكتاب - أو عُتَيبة - بضم العين مصغَّراً على ما ضبطه الحافظ في "التقريب" - ثقة ثَبْت من أجلَّة أصحاب النخعي.
(2) أي ليذبح بدنة إبلاً أو بقرة.
(3) أي عن علي رضي الله عنه.
(4) أي شاة، والأولى أفضل (حكى الباجي عن كتاب ابن الموّاز أن الشاة تجزئ مع القدرة على البدنة، والواجب عند الحنفية شاة وهو الأصح عند الشافعية، وقول لهم بالبدنة، والواجب في المرجّح عند الحنابلة كفارة يمين. انظر أوجز المسالك 9/27) .
(5) قوله: يكون الهدي مكان المشي (إن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الفاء بنذره، وبهذا قال مالك والأوْزعي والشافعي وأبو عبيد وابن المنذر، ولا نعلم فيه خلافاً، وعن أحمد رواية أخرى أنه يلزمه دم وهو قول للشافعي وأفتى به عطاء، وهذا قول مالك، وقال أبو حنيفة: عليه هدي سواء عجز عن المشي أو قدر عليه وأقل الهدي شاة، وقال الشافعي: لا يلزمه مع العجز كفارة بحال إلاَّ أن يكون النذر مشياً إلى بيت الله فهل يلزمه هدي؟ فيه قولان، وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيءٌ. انظر المغني 9/12) ، أي من دون عود المشي عند(3/165)
747 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ عَلَيّ مشْيّ، فَأَصَابَتْنِي خاصرةٌ (1) ، فَرَكِبْتُ حَتَّى أَتَيْتُ مَكَّةَ فسألتُ عطاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ وَغَيْرَهُ، فَقَالُوا: عَلَيْكَ (2) هَدْيٌ، فَلَمَّا قدمتُ الْمَدِينَةَ سَأَلْتُ فَأَمَرُونِي (3) أَنْ أَمْشِيَ مِنْ حَيْثُ عَجَزْتُ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَشَيْتُ.
قَالَ محمدٌ: وَبِقَوْلِ عَطَاءٍ نَأْخُذُ. يَرْكَبُ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ لِرُكُوبِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أن يعود.
__________
القدرة، والقياس أن لا يخرج عن عهدة النذر إذا ركب، بل يجب عليه إذا قدر المشي، كما لو نذر الصوم متتابعاً، وقطع التتابع، لكن ثبت ذلك نصّاً في الحج، فوجب العمل به، وهو ما أخرجه أبو داود بسند حجة من حديث ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم إن تركب وتهدي هدياً. وفي رواية أخرى له: أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فقيل: إنها لا تطيق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لغنيّ عن مشي أختك فلتركبْ ولتهدي بَدَنة. إلاَّ أنه عملنا بإطلاق الهدي من غير تعيين بدنة لقوة روايته والتفصيل في "فتح القدير".
(1) أي وجع الخاصرة (تهي كَاه وميان مردم) ، بالفارسية.
(2) أي من غير إعادة المشي.
(3) إفتاؤهم مثل إفتاء ابن عمر.(3/166)
4 - بَابُ الاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ
748 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ (1) : مَنْ قَالَ: وَاللَّهِ (2) ، ثُمّ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ لَمْ يَفْعَلِ الَّذِي عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا قَالَ: إن شاء الله ووصلها (3) بيمينه
__________
(1) قوله: قال، هذ موقوف على ابن عمر عند مالك وجماعة من أصحاب نافع، ورفعه أيوب السَّخْتِياني، رواه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من طريقه عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: من استثنى فإنْ شاء مضى، وإن شاء ترك من غير حنث. هذا لفظ النسائي، ولفظ الترمذي: فقال: إن شاء الله فلا حنث عليه. ولفظ الباقين سوى أحمد فقد استثنى، قال الترمذي: لا نعلم أحداً رفعه غير أيوب، وقال عُليَّة: كان أيوب تارة يرفعه، وتارة لا يرفعه، وقال البيهقي: لا يصح رفعه إلاَّ عن أيوب، وتابعه على رفعه عبد الله العمري وموسى بن عقبة وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى. وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعاً: من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله لم يحنث، أخرجه الترمذي واللفظ له، والنسائي وابن ماجه وابن حبان، كذا أورده الحافظ في "التلخيص".
(2) أي والله لأفعلنَّ كذا.
(3) قوله: ووصلها بيمينه، المراد بالوصل أن لا يُعَدّ في العرف منفصلاً كالانفصال بسكوت أو كلام، حتى لا يضرّ قطعه بتنفُّس أو سعال ونحو ذلك، واحترز به عما إذا قال ذلك منفصلاً، فإنه بعد الفراغ رجوع عن اليمين، ولا يصح ذلك. فإن قلت: الحديث بإطلاقه لا يفصل بين المتصل والمنفصل؟ قلت: الدلائل الدالة من النصوص وغيرها على لزوم العقود هي التي توجب الاتصال، فإن جواز الاستثناء منفصلاً يُفضي إلى إخراج العقود كلِّها من المقصود من البيوع والأنكحة وغيرها، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى، كذا ذكر العيني. وذكر صدر الشريعة في(3/167)
فَلا شَيْءَ (1) عَلَيْهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
5 - بَابُ الرَّجُلِ يَمُوتُ وَعَلَيْهِ نَذْرٌ
749 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس: أن (2)
__________
الاستدلال على امتناع التراخي حديث: فليكفِّر عن يمينه، فإنه أوجب الكفارة فلو جاز بيان التغيير أي الاستثناء متراخياً لما وجبت الكفارة في اليمين أصلاً لجواز أن يقول متراخياً إن شاء الله فتبطل يمينه. والمسألة خلافية بيننا وبين الشافعية مبسوطة بأدلتها في كتب الأصول.
(1) قوله: فلا شيء (في المحلّى، قال عياض: أجمعوا على أن الاستثناء يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلاً، وعن ابن عباس له الاستثناء أبداً، وتأوَّله بعضهم أنه يستحب له أن يقول: إن شاء الله تبرُّكاً بقوله تعالى: (واذكر ربك إذا نسيتَ) ، وليس مراده أن ذلك رافع للحنث وساقط للكفارة، وأما إذا استثني في الطلاق والعتق وغيرهما ما سوى اليمين بالله فمذهب الشافعي وأبي حنيفة صحة الاستثناء فيها كاليمين، وقال مالك والأَوْزاعي: لا تصح إلاَّ في اليمين. انتهى. وفي المغني: أنه يصح الاستثناء في كل يمين مكفرة عند أحمد إلاَّ الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عنه فيهما أنه توقَّف في ذلك، وفي رواية: ليس له الاستثناء فيهما مثل قول مالك وغيره. انظر أوجز المسالك 9/65. وقال الغزالي: نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما جواز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح النقل عنه. انظر بذل المجهود 14/282) ، أي لا يجب عليه البِرّ لأنه علَّق المقسم به على مشيئة الله تعالى وهي غير معلومة، نعم: لو قال: إن شاء الله لمجرَّد التبرُّك من غير قصد التعليق ينعقد يميناً.
(2) قوله: أن سعد، هكذا رواه مالك وتابعه الليث وبكر بن وائل وغيرهما عن الزهري، وقال سليمان بن كثير، عن الزهري عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن سعد أخرج جميع ذلك النسائي. وأخرجه أيضاً من رواية الأَوْزاعي وابن عُيَينة،(3/168)
سَعْدَ (1) بْنَ عُبادة اسْتَفْتَى رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا نَذْرٌ لَمْ تَقْضِه، قَالَ: اقضِهِ (2) عَنْهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَا كَانَ مِنْ نَذْرٍ أَوْ صدقة أو حج قضاها عنها أجزأ (3)
__________
عن الزهري على الوجهين، وابن عباس لم يدرك القصة. فإنَّ أم سعد عَمْرة بنت مسعود، وقيل بنت سعد بن قيس الأنصارية الخزرجية من المبايعات، ماتت والنبي صلى الله عليه وسلم غائب في غزوة دُومة الجندل، وكانت في الربيع الأولى سنة خمس، وكان سعد بن عبادة عند ذلك معه وابن عباس كان حين ذلك مع أبويه بمكة، فتُرجَّح رواية من زاد عن سعد، ويحتمل أنه أخذه عن غيره، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
(1) أحد النقباء من الأنصار.
(2) قوله: قال اقضه، أي استحباباً لا وجوبأً، خلافاً للظاهرية تعلُّقاً بظاهر الأمر، قائلين سواء كان بمال أو بدل، وأصحابنا خصُّوه بالعبادات المالية دون البدنية المحضة لقول ابن عباس: (لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد) ، أخرجه النسائي في سنه الكبرى، ونحوه عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه. وفرَّقوا بين ما إذا أوصى المتوفَّى أيضاً بالنذر فيجب على الورثة ذلك من ثلث ماله وإن لم يوصِ لا يجب عليه، فإن أوفى تبرُّعاً فالمرجوُّ من سعة فضل الله أن يكون مقبولاً)
(3) قوله: أجزأ ذلك، أي سقط عن ذمة الناذر ذلك إن شاء الله وهذا تعليق للإِجزاء عند عدم الوصية ويؤيده ما في صحيح البخاري، عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج وإنها ماتت قبل أن تحج فقال: لو كان عليها دَيْن أكنتَ قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقْضِ، فدَيْنُ الله أحقُّ بالقضاء(3/169)
ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تَعَالَى.
6 - بَابُ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةٍ
750 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا طَلْحَةُ (1) بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال (2) : من نذر أن يُطيع اللع فَلْيُطِعْهُ (3) ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلا يَعْصِهِ (4) .
__________
(وقد ذهب الجمهور إلى أن مَنْ مات وعليه نذر مالي أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوصِ إلاَّ إنْ وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقاً، واستدل للجمهور بقصة أم سعد هذه، وقول الزهري: إنها صارت سنة بعد، ولكن يمكن أن يكون سعد قضاه من تركتها أو تبرَّع به. فتح الباري 11/585.
(1) قوله: طلحة بن عبد الملك، الأَيْلي - بفتح الهمزة - وثقه أبو داود والنسائي وجماعة، كذا في "الإِسعاف".
(2) قوله: قال: من نذر، قال الزرقاني: هذا الحديث رواه القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب وسائر رواة "الموطأ" عن مالك مسنداً، وأخرجه البخاري عن شيخه أبي عاصم الضحاك، عن مخلد وأبي نعيم الفضل بن دكين، والترمذي والنسائي، عن قتيبة بن سعيد الثلاثة عن مالك به، وتابعه عبيد الله، عن طلحة عند الترمذي.
(3) قوله: فليطعه، أي وجوباً، فإن المباح يصير واجباً بالنذر، لقوله تعالى: (وليوفوا نذورهم) (سورة الحج: الآية 29) .
(4) قوله: فلا يعصه، كما إذا نذر ترك الكلام مع أبويه أو ترك الصلاة(3/170)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يسمِّ (1) فليُطع اللَّهَ وليكَفِّر (2) عَنْ يَمِينِهِ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ.
751 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (3) يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: أَتَتِ امْرَأَةٌ إِلَى ابن عباس فقالت: إنّي نذرت أن
__________
أو حلف في ذلك فإنه يجب عليه أن لا يأتي بالمعصية (قال الموفق: نذر المعصية فلا يحل الوفاء به إجماعاً، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه"، ولأن معصية الله لا تحلُّ في حال، ويجب على الناذر كفارة يمين، روي نحو هذا عن ابن مسعود وابن عباس وجابر وعمران بن حصين وسمرة بن حندب وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، ورُوي عن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة عليه، فإنه قال فيمن نذر ليهدِمَنّ دار غيره لبنة لبنة لا كفارة عليه، وهذا في معناه، وروي هذا عن مسروق والشعبي وهو مذهب مالك والشافعي ... إلخ. المغني 9/3 - 4) ، بل يخالف ما نذر به وما حلف عليه ويوافق ما أمره ربه.
(1) قوله: ولم يسمِّ، أي لم يعيِّن تلك المعصية بل قال: عليَّ معصية ربي ونحو ذلك، وكأنَّه حمل قوله: "من نذر أن يعصيه فلا يعصيه" على نذر المعصية غير مسماة وليس بظاهر، فإن الظاهر أن مراده صلى الله عليه وسلم الإِطلاق سمّى أو لم يسمَّ.
(2) قوله: وليكفِّر عن يمينه، هذا على تقرير أنه حلف ظاهر، وأما إذا لم يحلف بل اكتفى على كلمة النذر فلأن كلمة النذر نذر بصيغة يمين بموجبه لأن النذر عبارة عن إيجاب المباح، وهو مستلزم لتحريم الحلال، وهو معنى اليمين، فيلزم ما يلزمه في اليمين إذا حنث. وفي المسألة تفصيل واختلاف مبسوط في كتب الأصول.
(3) في نسخة: أخبرنا.(3/171)
أَنْحَرَ (1) ابْنِي، فَقَالَ: لا تَنْحَرِي ابنَك، وكفِّري (2) عَنْ يمينِك (3) ، فَقَالَ شَيْخٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ جَالِسٌ: كَيْفَ (4) يَكُونُ فِي هَذَا كَفَّارَةٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أرأيتَ (5) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ (6) : (والذين يظاهرون من
__________
(1) أي أذبح.
(2) قوله: وكفِّري عن يمينك، أي بكفارة اليمين، وفي رواية عن ابن عباس: ينحر مائة من الإِبل مقدار دية النفس، وروي عنه أيضاً: ينحر كبشاً أخذاً من فداء إسماعيل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ورُوي قوله الأول عن عثمان وابن عمر، ورُوي الأخيران عن علي، كذا ذكره ابن عبد البر.
(3) سمّى النذر يميناً لكونه موجب موجبه.
(4) أي فإنه نذر معصية.
(5) أي أخبرني
(6) قوله: قال: (والذين يظاهرون ... ) (سورة المجادلة: الآية 2) ، غرضه إثبات أن لا تنافي بين المعصية ووجوب الكفارة، فإن الظهار أمر قبيح عرفاً وشرعاً، وقد قال الله تعالى في حق المظاهرين: (وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً وإن الله لعفو غفور) ، ثم جعل فيه الكفارة في الآية التالية، وهو تحرير رقبة: (فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً) (سورة المجادلة: الآية 4) ، فكذلك نذر المعصية وإن كان ممنوعاً شرعاً يلزم فيه كفارة اليمين، وبه ظهر الجواب عن كلام ابن عبد البَرّ حيث قال: لا معنى للاعتبار في ذلك بكفارة الظهار، لأن الظهار ليس بنذر، ونذر المعصية جاء فيه نص النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وذلك لأن الظهار وإنْ لم يكن نذراً لكنه متشارك به في كونه معصية فإذا جاز وجوب الكفارة في الظهار جاز في النذر بالمعصية وهما متساويان في ورود النهي عنه صراحة أو إشارة.(3/172)
نسائهم) ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ مَا قَدْ رَأَيْتَ؟
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) نَأْخُذُ. وَهَذَا (2) مِمَّا وصفتُ لَكَ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ نَذْرًا فِي مَعْصِيَةٍ، فَلا يعصيَنَّ، وليُكَفِّرَنَّ (3) ، عن يمين.
752 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (4) ابْنُ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صالح،
__________
(1) وأخرج صاحب الكتاب في كتاب "الآثار" في مثل هذا، عن مسروق وابن عباس أنهما أمرا بذبح الكبش وقال: به نأخذ.
(2) أي هذا من فروع ما ذكرتُ لك من الحكم الكلي.
(3) قوله: وليكفِّرن عن يمينه، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية عنه: يلزمه في هذه الصورة ذبح الشاة. وقال مالك والشافعي: لا يلزمه شيء، كذا في "رحمة الأمة".
(4) قوله: أخبرنا ابن سهيل بن أبي صالح، هكذا وجدنا في بعض النسخ، وفي بعضها سهيل بن أبي بن أبي صالح، وفي نسختين مصحّحتين: أخبرنا ابن أبي صالح، وهو الصحيح الموافق لما في رواية يحيى بن مالك: عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه ... إلخ. ولعل لفظ الابن على سهيل في نسخة الأولى من زيادات النساخ، فإن هذه الرواية لسهيل بن أبي صالح لا لابنه ولا لسهيل بن أبي بن أبي صالح، وهو سُهيل - بضم السين مصغَّراً - ابن أبي صالح، أبو زيد المدني، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن سعد: كان ثقةً كثير الحديث، وقال الحاكم: أحد أركان الحديث قد أكثر مسلم الرواية عنه في الأصول والشواهد وروى عنه مالك، وهو الحكم في شيوخ المدينة، الناقد لهم وأرَّخ وفاته ابن قانع سنة 138، وأبوه أبو صالح اسمه ذكوان السمّان الزيات المدني. قال أبو حاتم: ثقة، صالح، يحتج بحديثه، وقال أبو داود: سألت(3/173)
عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: من حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فليُكَفِّر (1) عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَفْعَلْ.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
__________
ابن معين، من كان الثبت في أبي هريرة؟ فقال: ابن المسيب وأبو صالح وابن سيرين، والأعرج، مات سنة 101 هـ، كذا في "تهذيب التهذيب".
(1) قوله: فليكفِّر عن يمينه، أي بعد الحنث، فإنه لو قدَّم الكفارة، ثم حنث لا يجوز عندنا لأن سبب وجوب الكفارة هو الحنث لا إرادته ولا اليمين، فإنه عقد للبرّ لا للحنث، ولا يجوز تقديم الشيء على سببه، وذهب الشافعي إلى إجزاء التكفير بالمال قبل الحنث، وأما الصوم فلا يجزئ في ظاهر مذهبه، وفي وجه يجوز تقديمه أيضاً، وبه قال مالك وأحمد، كذا في "البناية". وقال الزرقاني (شرح الزرقاني 3/65) : ظاهر هذا الحديث إجزاء التكفير قبل الحنث ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه، والعجب أنهم لا تجب الزكاة عندهم إلاَّ بتمام الحول، وأجازوا تقديمها قبله من غير أن يرووا مثل هذه الآثار، وأبوا من تقديم الكفارة قبل الحنث مع كثرة الرواية والحجة في السنَّة ومن خالفها محجوجٌ بها، قاله ابن عبد البر. وهذا كلام صدر عن الغفلة عن أصول الحنيفة فإن الحول عندهم إنما هو سبب لوجوب أداء الزكاة لا لوجوبه، وسببه ملك النصاب، وقالوا: لا يجوز تقديم الزكاة على ملك النصاب ويجوز بعد ملكه على الحول بخلاف الحنث فإنه سبب لوجوب الكفارة لا لوجوب أدائه حتى يجوز تقديمه، وجَعْل اليمين سبباً غير معقول، وما ذكره من كون ظاهر الحديث المذكور جواز التقديم غير مقبول، فإن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب على الأصح. فمن أين يُفهم التقديم. وفي المقام كلام طويل. ليس هذا موضعه(3/174)
7 - بَابُ مَنْ حَلَفَ (1) بِغَيْرِ اللَّهِ (2)
753 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع (3) عمر بن الخطاب، وهو يقول: ولا وَأَبِي (4) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا (5) بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ثُمَّ ليبررْ (6) أَوْ ليصمُتْ (7) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَحْلِفَ بِأَبِيهِ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ثمَّ ليبرُرْ أَوْ ليَصْمُتْ.
8 - بَابُ الرَّجُلِ يَقُولُ: مَالُه فيِ رِتَاج الْكَعْبَةِ
754 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (8) أَيُّوبُ بْنُ مُوسَى مِنْ
__________
(راجع أوجز المسالك 9/69 - 70) .
(1) سمع: في رواية كان ذلك في سفر غزاة.
(2) حلف بالأب حسبما اعتادوه.
(3) سمع: في رواية كان ذلك في سفر غزاة.
(4) حلف بالأب حسبما اعتادوه.
(5) التخصيص بذكر الآباء إما بحسب المورد أو بناء على أن الحلف به كان غالباً عندهم وإلاَّ فالحكم عام.
(6) من بررت في يمينه إذا صدق فيه وفعل على حسبه.
(7) بضم الميم على الرواية المشهورة وحُكي بالكسر: أي ليسكت.
(8) قوله: أخبرني مالك ... إلخ، في "موطأ يحيى: وشرحه للزرقاني: (مالك، عن أيوب بن موسى) بن عمرو بن سعيد بن العاصي المكي الأموي ثقة، مات سنة 132 هـ، (عن منصور بن عبد الرحمن) بن طلحة بن الحارث العبدري(3/175)
وُلْد (1) سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحَجَبِيّ، عَنْ أَبِيهِ (2) ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ فِيمَنْ قَالَ: مَالِي فِي رِتَاج (3) الْكَعْبَةِ يُكَفِّرُ ذَلِكَ بِمَا يُكَفِّر الْيَمِينَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ بَلَغنا هَذَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وأحبُّ إِلَيْنَا أَنْ يفيَ (4) بِمَا جَعَلَ (5) على نفسه، فيتصدَّق (6) بذلك ويُمسك
__________
(الحجبي) بفتح الحاء والجيم نسبة إلى أبي حجابة الكعبة المكي ثقة أخطأ ابن حزم في تضعيفه (عن أمه) صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدرية لها رؤية، وحدثت عن عائشة وغيرها من الصحابة. انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": هذا الحديث أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن، ورواه أبو داود نحوه عن عمر من قوله. انتهى.
(1) أي من أولاده.
(2) هكذا في كثير من النسخ لهذا الكتاب وتخالفه رواية يحيى (في نسخة يحيى: منصور الحجبي: ولكن في النسخ المصرية منصور بن عبد الرحمن الحجبيّ، كما في "موطأ محمد": قال الحافظ: هو ابن صفية بنت شيبة، ثقة، من الخامسة، أخطأ ابن حزم في تضعيفه. تقريب التهذيب 2/276))
(3) قوله: في رِتاج الكعبة، بكسر الراء بمعنى الباب، يقال: جعل فلان ماله في رتاج الكعبة (وفي "المحلّى": المراد في هذا الحديث نفس الكعبة، لأنه أراد أن ماله هدي إلى الكعبة لا إلى بابها. انظر الأوجز 9/115) أي نذره لها هدياً، كذا في "المغرب" وغيره.
(4) من الوفاء.
(5) أي بما ألزمه على نفسه بالنذر.
(6) لأن جعله في رتاج الكعبة عبارة عن التصدُّق به في سبيل الله.(3/176)
مَا يقُوْتُه (1) ، فَإِذَا (2) أَفَادَ مَالا تصدَّق بِمِثْلِ مَا كَانَ أَمْسَكَ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامَّة مِنْ فُقَهَائِنَا.
9 - بَابُ اللَّغْو مِنَ الأَيْمان
755 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قَالَتْ: لَغْوُ الْيَمِينِ: قَوْلُ الإِنسان: لا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. اللَّغْوُ (3) ما حلف عليه الرجل، وهو يرى
__________
(1) أي قدر ما يكفيه لئلا يحتاج إلى المذلة والمسألة.
(2) أي حصل مالاً آخر كافياً.
(3) قوله: اللغو ... إلخ، اختلفوا في تفسير اللغو المذكور في قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله بالغو في أَيْمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) (سورة البقرة: الآية 225) على أقوال: الأول: أنه أن تحلف على شيء وأنت غضبان، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس. الثاني: هو الحلف على المعصية مثل أن لا يصلِّيَ ولا يصنع الخير، أخرجه وكيع وعبد الرزاق وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير. الثالث: أن تحرِّم ما أحل الله لك، أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس. الرابع: أن تحلف على الشيء، ثم تنسى فلا يؤاخذ الله فيه، ولكن يجب الكفارة إذا تذكَّر، أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم، عن النخعي. الخامس: وهو مختار أصحابنا أن اللغو هو أن تحلف على الشيء ظانّاً أنه صادق وهو في الواقع كاذب (واختلفوا في لغو اليمين، فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية، هو أن يحلف بالله على أمر يظنه على ما حلف عليه ثم يتبين أنه بخلافه، سواء قصده فسبق على لسانه إلاَّ أن أبا حنيفة ومالكاً قالا: يجوز أن يكون في الماضي وفي الحال، وقال أحمد: هو في الماضي، ثم اتفقوا ثلاثتهم على أنه لا إثم ولا كفارة، وعن مالك: أن لغو اليمين أن يقول: لا والله وبلى والله على وجه المحاورة من غير قصد إلى عقدها. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم يعقده، وإنما يُتَصَوَّر ذلك عنده في قوله: لا والله وبلى والله عند المحاورة والغضب واللجاج من غير قصد سواء كانت على ماضٍ أو مستقبل وهو رواية عن أحمد. رحمة الأمة ص 301) ، فلا مؤاخذة فيه،(3/177)
أَنَّهُ حقٌ، فاستَبَان (1) لَهُ بَعْدُ أَنَّهُ عَلَى غير ذلك، فهذا (2) من اللغو عندنا.
__________
لا كفارة ولا إثماً وهو المروي عن إبراهيم، أخرجه عبد بن حميد، عن ابن عباس أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن عائشة أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي وعن أبي هريرة أخرجه ابن جرير. السادس: هو كلام الرجل في بيته وفي المزاح والهزل: لا والله وبلى والله، من غير قصد اليمين، أخرجه وكيع والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن عائشة، وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس، وأبو الشيخ عن ابن عمر وروى نحوه مرفوعاً من حديث عائشة، أخرجه ابن جرير وابن حبان وابن مردويه والبيهقي، والآثار مبسوطة في "الدر المنثور".
(1) أي ظهر.
(2) قوله: فهذا من اللغو، فلا يجب فيه كفارة ولا إثم، وأما إذا حلف على ماضٍ كاذباً عمداً ففيه الإِثم دون الكفارة، وفيه خلاف الشافعي، وإذا حلف على مستقبل ولم يبرّ عمداً ففيه الكفارة والإِثم، وهو المسمى باليمين المنعقدة.
(1) رخّص: أي أجاز له.
(2) بخرَصها: بالفتح بمعنى التقدير والتخمين.
(3) رخّص: أي أجاز له.
(1) رخّص: أي أجاز له.
(2) بخرَصها: بالفتح بمعنى التقدير والتخمين.
(3) بالفتح فسكون فضمّ، جمع وَسَق - بفتحتين - وهو مقدار ستّين صاعاً.(3/178)
كِتَابُ (1) البُيوع فِي التِّجَارَاتِ والسَّلَم (2)
1 - بَابُ بَيْعِ (3) الْعَرَايَا
756 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ الله بن عمر، عن
__________
(1) في نسخة: أبواب
(2) بفتحتين: نوع من أنواع البيوع: بيع آجلٍ بعاجلٍ بشروط مذكورة في موضعها
(3)(3/179)
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ (1) لِصَاحِبِ العَرِيَّة أَنْ يبيعَها بِخِرْصِهَا (2) .
757 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخَّص فِي بَيْعِ الْعَرَايَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (3) أَوْ في خمسة أوسق (4) . شكَّ
__________
(1) أي أجاز له
(2) بالفتح بمعنى التقدير والتخمين
(3) بالفتح فسكون فضم جمع وَسَق - بفتحتين - وهو مقدار ستين صاعا
(4) قوله: وفي خمسة أوسق، قال شارح المسند: اختلفوا في أن هذه الرخصة يقتصر على مورد النص، وهو النخل أم يتعدى إلى غيرها على أقوال:
أحدها: اختصاصها بالنخل، وهو قول أهل الظاهر على قاعدتهم في ترك القياس.
الثاني: تعدِّيها إلى العنب بجامع ما اشتركا فيه من إمكان الخرص، فإن ثمرتها متميِّزة مجموعة في عناقيدها بخلاف سائر الثمار فإنها متفرقة مستترة بالأوراق، وبهذا قال الشافعي.
الثالث: تعدّيها إلى كل ما ييبس ويُدَّخر من الثمار، وهذا هو المشهور عند المالكية، وجعلوا ذلك علَّة في محل النص، وأناطوا به الحكم.(3/180)
دَاوُدُ (1) لا يَدْرِي أَقَالَ خَمْسَةً أَوْ فِيمَا دُونَ خَمْسَةٍ؟
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَذَكَرَ (2) مالك بن أنس أن العرية إنما
__________
الرابع: تعديتها إلى كل ثمرة مدَّخر وغير مدَّخرة، هذا قول محمد بن الحسين، وهو قول للشافعي. ووقع في حديث أبي هريرة عند البخاري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص في بيع العرايا فيما دون الخمسة أوسق أو خمسة أوسق، فاعتبر من قال بجواز العرايا بمفهوم العدد، ومنعوا ما زاد عليه، واختلفوا في جواز الخمسة للشك المذكور، والراجح عند المالكية الجواز في الخمسة فما دونها، وعند الشافعية فيما دونها لا في خمسة وهو قول الحنابلة وأهل الظاهر. فمأخذ المنع أن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخَذ بما يتيقّن ويُلغَى ما وقع فيه الشكّ، والسبب فيه أن النهي عن بيع المزابنة هل وقع متقدِّماً، ثم وقعت الرخصة في العرايا، أو النهي عن المزابنة وقع مقروناً مع الرخصة، فعلى الأول لا يجوز في الخمسة للشك في رفع التحريم، وعلى الثاني يجوز للشك في قدر التحريم، ويرجح الأول بما عند البخاري: قال سالم: أخبرني عبد الله، عن زيد بن ثابت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص بعد ذلك لصاحب العرية، قال ابن عبد البر: وقال آخرون لا يجوز إلاَّ في أربعة أوسق لوروده في حديث جابر فيما أخرجه الشافعي وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين أذن لصاحب العرايا أن يبيعوها بخرصها يقول: الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة. قال الحافظ: يتعَّين المصير إليه، وأما حدّاً، فلا يجوز تجاوزه فليس بالواضح. انتهى. وهذا كله عند غيرنا، وأما عند أصحابنا الحنفية فذكر العدد في الحديث واقع اتفاقاً، وهو خلاف الظاهر.
(1) أي شيخ مالك: أيَّ ذلك قال أبو سفيان؟.
(2) قوله: وذكر مالك ... إلخ، تفصيل المقام وتنقيحه على ما في "فتح الباري" وشرح "مسند الإِمام" للحصكفي وغيره أنهم اختلفوا في تفسير العرية المرخَّص بها على أقوال: الأول: أن العريَّة عطية تمر النخل دون الرقبة، وقد كانت العرب إذا دهمتهم سَنَة تطَوَّع أهل النخل بمن لا نخل معه، ويعطيهم من تمر(3/181)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
النخلة، فإذا وهب رجل ثمرة نخله، ثم تأذّى بدخوله عليه رُخِّص للواهب أن يشتري رطبها من الموهوب له بتمرٍ يابس بمثل كيله خرصاً. هذا هو المشهور من مذهب مالك، وشرطه عنده أن يكون البيع بعد بدوِّ الصلاح، وأن يكون بثمن مؤجَّل إلى الجُذاذ لا حالٍّ لئلا يلزم الربا بالنسيئة، وأن لا تكون هذه المعاملة إلاَّ مع المعُرِي المالك خاصة. قال ابن دقيق العيد: يشهد لهذا التفسير أمران: أحدهما: أن العريَّة مشهورة في ما بين أهل المدينة متداوَلَة بينهم، وقد نقل مالك هكذا، الثاني: ما وقع في بعض طرق رواية زيد رخّص لصاحب العرية، فإنه يُشعر باختصاصه بصفة تميِّزها عن غيره. القول الثاني: أن يكون لرجل نخلة أو نخلتان في حائط رجل له نخل كثير، فيتأذّى صاحب النخل الكثير من دخول صاحب القليل، فيقول له: أنا أعطيك خرص نخلك تمراً، فرُخِّص لهما ذلك، وهذا رواية عن مالك. والقول الثالث: أنها نخل كانت توهَب للمساكين فلا يستطعون أن ينتظروا بها، فرُخِّض لهم أن يبيعوها بما شاؤوا من التمر، رواه أحمد من حديث زيد، وهو وإن خالف فيما ذكره مالك من أن المراد بصاحب العرية واهبها، لكنه محتمل، فإن الموهوب له صار بالهبة صاحباً لها، وعلى هذا لا يتقيد البيع بالواهب، بل هو وغيره سواء، وحُكي عن الشافعي تقييد الموهوب له بالمسكين وهو اختيار المزني تلميذ الشافعي، ومستنده ما ذكره الشافعي في "مختلف الحديث"، عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ قال: فلان وفلان وأصحابه شكَوْوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرطب يحضر، وليس عندهم ذهب ولا فضة يشترون بها منه، وعندهم فضل تمر، فرخّص لهم أن يشتروا العرايا بخرصها من التمر يأكلونها رطباً. قال الشافعي: قوله: يأكلونها رطباً، يدل على أن مشتري العريَّة يشتريه ليأكلها رطباً، وأنه ليس له رطب يأكلها غيرها، ولو كان المراد من صاحب العرية صاحب الحائط كما قال مالك لكان لصاحب الحائط في حائطه رطب غيره، ولم يفتقر إلى بيع العرية، قال ابن المنذر: هذا لا أعرف أحداً ذكره غير الشافعي، وقال السبكي: لم يذكر الشافعي إسناده وكل من حكاه إنما حكاه عن(3/182)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعي ولم يجد البيهقي له سنداً، قال: ولعلَّ الشافعي أخذه من "سِيَر الواقديّ"، وعلى تقدير صحته فليس قيد الفقير في كلام الشارع. واعتبرت الحنابلة هذا القيد منضماً إلى ما اعتبره مالك فعندهم لا يجوز بيع العرية إلاَّ لحاجة صاحب الحائط إلى البيع أو لحاجة المشتري إلى الرطب. والقول الرابع: ما قاله الشافعي أن العرايا أن يشتري الرجل ثمر النخلة أو أكثر بخرصه من التمر بأن يخرص الرطب ويقدر كم ينقص إذا يبس، ثم يشتري بخرصه تمراً، فإن تفرَّقا قبل أن يتقابضا فسد البيع. وللعرية صور، منها: أن يقول رجل لصاحب الحائط: بعيني ثمر هذه النخلة أو نخلات معينة، فيخرصها ويبيعه ويقبض منه الثمن ويسلِّم إليه النخلات، فينتفع برطبها. ومنها: أن يهب صاحب الحائط فيتضرَّر الموهوب له بانتظار صيرورة الرطب تمراً، أو لا يحب أكلها رطباً فيبيع ذلك الرطب من الواهب أو غيره بخرصه بتمرٍ يأخذه معجَّلاً، وجميع هذه الصور صحيحة عند الشافعي والجمهور. ومنع أبو حنيفة ومن تبعه صور البيع كلها، وقصر العرية على الهبة، وهي أن يعري الرجل رجلاً ثمر نخل من نخيله ولا يسلِّمه، ثم يظهر له ارتجاع تلك الهبة، فرخص له أن يحبس ذلك، ويعطيه بقدر ما وهب له من الرطب بخرصه تمراً. وحمله على ذلك أخذاً لعموم النهي عن المزابنة وعن بيع الثمر بالتمر، قال ابن نجيم في "البحر الرائق": أصحابنا خَرَجوا عن الظاهر بثلاثة أوجه: الأول: إطلاق البيع على الهبة، والثاني: قوله رخّص خلاف ما قرروه لأن الرخصة إنما تكون بعد ممنوع، والمنع إنما كان في البيع دون الهبة، الثالث: التقيد بخمسة أوسق أو ما دونها، لأنه على مذهبنا لا فائدة له، فإن الهبة لا تتقيد، وقيل: لأنهم لم يفرِّقوا في الرجوع بالهبة بين ذي رَحِم وغيره، وبأنه لو كان الرجوع جائزاً فليس إعطاؤه التمر بدل الرطب، بل هو تجديد هبته، لأنَّ الهبة الأولى لم تكمل بعدم القبض. ومنهم من قال: إذا تعارض المُحرِّم والمبيح قُدِّم المحَرِّم، وهو مردود بأنَّ الرخصة متصلة بالنهي، وقد ثبت في البخاري: أنه نهى عن بيع المزابنة ثم رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا، فبطل القول بالنسخ.(3/183)
تَكُونُ أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ النَّخْلُ، فيُطْعِمُ (1) الرجلَ مِنْهَا ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أَوْ نَخْلَتَيْنِ يلقُطُها (2) لِعِيَالِهِ، ثُمَّ يثقُل (3) عَلَيْهِ دخولُه حائطَه، فَيَسْأَلُهُ (4) أَنْ يَتَجَاوَزَ لَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ (5) صِرام النَّخْلِ، فَهَذَا (6) كلُّه لا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا، لأَنَّ التمرَ كلَّه كان للأول (7) وهو يعطي
__________
(1) أي فيهب رجلاً ثمرة واحدة فما فوقها.
(2) بضم القاف يأخذها الرجل الموهوب له لعياله.
(3) أي يشق على مالك النخل دخول الموهوب له الثمر في بستانه مرة بعد أخرى لصرم الثمر الموهوب.
(4) قوله: فيسأله، أي فيسأل الواهب الموهوب له أن يتجاوز الموهوب له عن تلك الثمرة للواهب على أن يعطيه الواهب بقدر كيليها ثمراً عند الصِّرام - بالكسر - أي قطع ثمر النخل.
(5) قوله: عند، متعلق بالإِعطاء وهذا قيد احترازيّ، فإنه لو أعطى من التمر مقدار كيلها في الحال لا يجوز.
(6) قوله: فهذا كله لا بأس به عندنا، حمل كلام مالك على ما اختاره أبو حنيفة أن العرية ليست ببيع، بل هو فروع الهبة (مما لا شك فيه أن مذهب الحنفية في ذلك قريب من مذهب الإِمام مالك، لأن كونها موهوبة شرط عند مالك أيضاً، وكذا يُشترط جواز بيعها بالوهب، وحاصل الاختلاف أنها رجوع الواهب في هبته بالبدل عند الحنفية، وشراء الواهب هبته عند المالكية، وقال الشافعي وأحمد: خمسة أوسق مستثنى من نهي المزابنة، فيجوز بيعها من الواهب وغيره مع اختلافهم في شروط الجواز. انظر لامع الداري 6/128) ، وليس كذلك فإن مذهب مالك في ذلك معروف من أنه قائل بالرخصة في بعض صور المزابنة وهو بيع العرية، وهو بيع عنده حقيقةً لا مجازاً، والدليل عليه تقييده بقوله عند صرام النخل، فإن صورة العطية غير مقيدة عنده بهذا القيد ولا عند غيره.
(7) أي لصاحب النخلة.(3/184)
مِنْهُ مَا شَاءَ (1) فَإِنْ شَاءَ سلَّم لَهُ (2) تَمْرَ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهَا بَمَكِيلَتِهَا مِنَ التمر، لأن هذا (3) لا يُجعل بيعاً،
__________
(1) أيْ أيّ قدرٍ شاء.
(2) أي للموهوب له.
(3) أي هذا العطاء ليس ببيع حقيقةً، بل مجازاً.
(1) قوله لو جعل بيعاً ... إلخ، قد شيّد الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/213 - 215) أركانه، فإنه بعد ما خرَّج طرقه من حديث زيد بن ثابت وابن عمر وجابر وسهل بن أبي حثمة وأبي هريرة النهي عن المزابنة، والرخصة في بيع العرايا، قال: فقد جاءت هذه الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتواترت الرخصة في بيع العرايا، وقَبِلها أهل العلم جميعاً، ولم يختلفوا في صحة مجيئها، وتنازعوا في تأويلها، فقال قوم: العرايا أن الرجل يكون له النخل والنخلتان في وسط النخل الكثير لرجل آخر. قالوا: وقد كان أهل المدينة إذا كان وقت الثمار خرجوا بأهليهم إلى حوائطهم، فيجيء صاحب النخلة والنخلتين بأهله، فيضُرّ ذلك بأهل النخل الكثير، فرخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل النخل الكثير أن يعطي صاحب النخلة أو النخلتين خَرْص ماله من ذلك تمراً لينصرف هو وأصحابه، ويخلص تمر الحائط كله لصاحب النخل الكثير، وقد روي هذا القول عن مالك، وكان أبو حنيفة في ما سمعتُ أحمدَ بنَ أبي عمران يذكر أنه سمعه عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عنه، قال: معنى ذلك عندنا أن يعري الرجل ثمر نخلة من نخله، فلا يسلم ذلك إليه حتى يبدوَ له، فرخّص له أن يحبس ذلك ويعطيه مكانه خرصه تمراً، وكان هذا تأويل أشبه(3/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وأولى مما قال مالك، لأن العرية إنما هي العطية. انتهى. وفيه ما لا يخفى، فإن العرية وإن كان يستعمل بمعنى العطية إلاَّ أنه ليس بمقتصر عليه، فقد ذكروا أن العرية فعيلة بمعنى مفعولة، أو بمعنى فاعلة، فمن جعلها مفعولة، قال هي من عري النخل إذا أفردها عن النخل ببيع ثمارها رطباً، وقيل: من عراه يعروه إذا أتاه، وتردد إليه لأن صاحبها يتردد إليها، ومن جعلها فاعلة جعلها مشتقة من قولهم: عريت النخلة، بفتح العين وكسر الراء، فكأنها عريت عن حكم أخواتها على أنه لو سلّم أن العرية معنى العطية ليس إلا فهو لا يستلزم أن يكون بيع العرايا عبارة عن العطية بل العرية بنفسها بمعنى العطية، وبيعها غير الهبة، كما مرَّ في القول الأول من الأقوال المذكورة سابقاً، ثم قال الطحاوي: فإن قال قائل: ذكر في حديث زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بتمر، ورخَّص في العرايا، فصارت العرايا في هذا الحديث أيضاً هي بيع ثمر بتمر، قيل له: ليس في الحديث من ذلك شيء، إنما فيه ذكر الرخصة في العرايا مع ذكر النهي عن بيع الثمر بالتمر، وقد يقرن الشيء بالشيء، وحكمهما مختلف. انتهى. وفيه أن هذا التقرير إن يمشي في خصوص هذه العبارة، فماذا يقول فيما أخرجه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يطعم، وقال: لا يباع منه شيء إلاَّ بالدراهم والدنانير إلاَّ العرايا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص فيها، وما أخرجه عن عمرو بن دينار الشيباني قال: بعتُ ما في رؤوس نخلي بمائة وسق، إن زاد فلهم، وإن نقص فعليهم، فسألت ابن عمر عن ذلك؟ فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر إلاَّ أنه رخَّص في العرايا. وما أخرجه عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة إلاَّ أنه أرخص في العرايا.
وما أخرجه عن سهل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر بالتمر إلاَّ أنه رخَّص في العرية أن يُباع بخرصها من التمر يأكلها أهلها رطباً. فهذه العبارات وأمثالها صريحة في أن بيع العرايا داخل في المزابنة وبيع الثمر بالتمر، وأن الرخصة فيه بعد النهي عن المزابنة مطلقاً، والتزام أن الاستثناء في هذه منقطع، فمع عدم صحته في بعضها التزم أمر غير ملتزم، ومُفْضٍ إلى إخلال الكلم، ثم قال الطحاوي: فإن قال(3/186)
وَلَوْ جُعل (1) بَيْعًا مَا حلَّ (2) تَمْرٌ بِتَمْرٍ إلى أجل.
__________
قائل: قد ذُكر التوقيف في حديث أبي هريرة على خمسة أوسق، وفي ذكر ذلك ما ينفي أن يكون حكم ما هو أكثر من ذلك كحكمه، قيل له: ما فيه ما ينفي شيئاً، وإنما يكون كذلك لو قال: لا يكون العرية إلاَّ في خمسة أوسق، إنما فيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رخَّص في خمسة أوسق وفي ما دون خمسة أوسق فذلك يحتمل أن يكون رسول الله قد رخص فيه لقوم في عرية لهم هذا مقدارها، فنقل أبو هريرة ذلك، وأخبر بالرخصة فيما كانت. انتهى. وفيه أنَّ مثل هذا الاحتمال المحض لا يُسمع ما لم يدل عليه دليل، وإلاَّ لفسدت الأحكام واختَلَّ النظام، ولا ريب في أن الظاهر الذي يجب المصير إليه إلاَّ إذا خالفه دليل معارض له ما قاله القائل، ثم قال: فإنْ قال قائل: ففي حديث ابن عمر وجابر: أنه رخص في العرايا، فصار ذلك مستثنًى من بيع الثمر بالتمر، قيل له: قد يجوز أن يكون قصد بذلك إلى المُعْرِي فرخَّص له أن يأخذ تمراً بدلاً من الثمر في رؤوس النخل لأنه يكون في معنى البائع، وذلك له حلال، فيكون الاستثناء لهذه العلة. انتهى. وفيه أن هذا عدول عن الحقيقة الظاهرة من غير حجة، وأمثال هذه التأويلات قبولها كبناء بيت وهدم قصر، ثم قال: فإن قال قائل: لو كان تأويل هذه الآثار ما ذهب إليه أبو حنيفة لما كان لذكر الرخصة معنى؟ قيل له: قد اختُلف فيه، فقال عيسى بن أبان: معنى الرخصة في ذلك أن الأموال كلها لا يملك بها أبداً إلاَّ من كان مالكها، لا يبيع رجل ما لا يملك ببدل، فالمُعري لم يكن مَلَكَ العرية لأنه لم يكن قبضها، والتمر الذي يأخذه بدلاً منها قد جُعل طيّباً له، فهذا هو الذي قصد بالرخصة إليه. انتهى. وفيه أن هذا تكلُّف تستبشعه الطبائع السليمة، فإن ملك المعري للبدل على التقرير المذكور ليس على سبيل البيع لا حقيقةً ولا حكماً، لا شرعاً ولا عرفاً، بل ليس له ملكه، لكون الهبة مشروطة بالقبض، فلا يذهب وهم أحد إلى عدم جوازه، فضلاً عن أن يذكر لفظ الرخصة فيه. هذا ما ظهر في الوقت وفي المقام كلام لا يسعه المقام.
(2) لدخول الربا فيه من جهة النسيئة واحتمال عدم التساوي.(3/187)
2 - بَابُ مَا يُكره مِنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبدُوَ (1) صَلاحُهَا
758 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يبدوَ (2) صلاحُها. نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ.
759 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجَالِ (3) مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرة: أَنَّ (4) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عن بيع الثمار حتى ينجوَ مِنَ الْعَاهَةِ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (6) أَنْ يُباع شَيْءٌ مِنَ الثِّمَارِ عَلَى أَنْ يُترك في
__________
(1) حتى يبدو صلاحها: بأن يصلح لتناول الناس وعَلْف الدوابّ.
(2) حتى يبدو صلاحها: بأن يصلح لتناول الناس وعَلْف الدوابّ.
(3) لُقِّب به لأنه كان له عشرة أولاد رجال وكنيته في الأصل أبو عبد الرحمن، كذا قال الزرقاني.
(4) هذا مرسل، وصله ابن عبد البَرّ من طريق خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي الرِّجَالِ، عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن عائشة، ذكره السيوطي في "التنوير".
(5) أي الآفة.
(6) قوله: لا ينبغي أن يُباع شيء ... إلخ، لا خلاف للعلماء في جواز بيع الثمار بعد بدوّ الصلاح، واختلفوا في تفسيره، فعندنا هو أن يأمن العاهة والفساد،(3/188)
النَّخْلِ حَتَّى يبلغَ (1) ، إلاَّ أَنْ يحمَرَّ أَوْ يصفَرَّ أَوْ يبلغَ بعضُه، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (2) فَلا بَأْسَ بِبَيْعِهِ عَلَى أَنْ يُترك حَتَّى يبلغَ (3) ، فَإِذَا لَمْ يَحْمَرَّ أَوْ يَصْفَرَّ أَوْ كان أخضر أو كان كُفَرَّى (4) فلا
__________
وعند الشافعي ظهور الصلاح بظهور النضج ومبادئ الحلاوة، وقيل: بدوّ الصلاح إذا اشتراها مطلقة يجوز عندنا، وعند الشافعي ومالك وأحمد لا يجوز البيع بشرط القطع قبل بدوّ الصلاح، يجوز فيما ينتفع به اتفاقاً، وبشرط الترك لا يجوز بالاتفاق. والبيع بعد بدوّ الصلاح على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتَفَعاً بها بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعَلْف الدوابّ، فقال شيخ الإسلام: لا يجوز، وذكر القُدُوري والأسبيجابي يجوز. والثاني: ما إذا باعه بعد ما صار منتفعَاً به، إلاَّ أنه لم يتناه عِظَمُها فالبيع جائز إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع، وبشرط الترك فاسد لأنه شرط لا يقتضيه العقد، وفيه نفع لأحد المتعاقدين. والثالث: ما إذا باعه بعد ما تناهى عِظَمه، فالبيع جائز عند الكل إذا باعه مطلقاً أو بشرط القطع، وبشرط الترك لا يجوز في القياس، وهو قولهما ويجوز في الاستحسان وهو قول محمد والشافعي ومالك وأحمد. واختلف أصحابنا في البيع قبل بدوّ الصلاح، فعامَّة مشائخنا على أنه لا يجوز، وهو قول شمس الأئمة السرخسي وجواهر زاده والجمهور، وقال بعضهم: يجوز لكونه منتفعاً به في الحال أو المال إلاَّ أن يشترط تركه على الشجر. والتفصيل في "البناية" وغيره.
(1) أي إلى أن يُدرك.
(2) أي أحد من الصور المذكورة.
(3) أي إلى كماله.
(4) بضم الكاف والفاء المفتوحة وبالراء المشددة المفتوحة: طلع النخل(3/189)
خَيْرَ (1) فِي شِرَائِهِ عَلَى أَنْ يُترك حَتَّى يَبْلُغَ. وَلا بَأْسَ بِشِرَائِهِ عَلَى أَنْ يُقطع
__________
(والكُفَرّى: وعاء الطلع وقشره الأعلى، وقيل: هو الطلع حين ينشق. المنتقى 4/222) .
(1) قوله: فلا خير في شرائه، أي لا يجوز شراؤه بهذا الشرط، وهذا بالاتفاق. وإنما الخلاف في البيع قبل بدو الصلاح مطلقاً من غير اشتراط قطع ولا تبقية، فمقتضى الأحاديث المذكورة البطلان (قال العيني: مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق عدم جواز بيع الثمار على الأشجار، وبه قال مالك في رواية وأحمد في قول. لامع الدراري 6/132) ، وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور العلماء، وهو قولٌ لمالك، ووافق في قوله الثاني أبا حنيفة في جواز البيع، قال في "شرح المسند": استدل أبو حنيفة فيما ذهب إليه بما أخرجه مرفوعاً: من باع نخلاً مؤبَّراً فثمرته للبائع إلاَّ أن يَشترط المبتاع. فجعله للمشتري بالشرط، فدلَّ على جواز بيعه مطلقاً، وقال: لا يصلح لأصحاب الشافعي الاستدلال بأحاديث الباب فإنهم تركوا ظاهرها في إجازة البيع قبل بدوّ الصلاح بشرط القطع ولم يُفهم ذلك من الحديث مع أن له معارضات أخر، وحديث التأبير لا معارض له، فتعين العمل به. ويقال في أحاديث النهي إنه للإِرشاد على العزيمة بدليل ما في "صحيح البخاري" عن زيد قال: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتاعون الثمار، فإذا جَدَّ (في الأصل أخذ، وهو تحريف، وسقطت كلمة (عاهات) بعد قشام فزدناها، أخرجه البخاري في باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها 3/33) الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدَّمَانُ ((الدَّمَان) : بفتح الدال وتخفيف الميم: عفن يصيب النخل فيسوَدُّ ثمره، وجاء في غريب الخطابي بالضم) ، أصابه مُراضٌ ((مُراض) : داء في الثمرة فتهلك) ، أصابه قُشَام ((قُشام) : هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحاً) ، عاهات يحتجُّون بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كثرت الخصومة عنده: لا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر كالمشُوْرَة.(3/190)
ويُباع (1) . وَكَذَلِكَ بَلَغَنَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أنَّه قَالَ: لا بَأْسَ بِبَيْعِ الكُفَرَّى عَلَى أَنْ يُقطع، فَبِهَذَا نَأْخُذُ.
760 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (2) ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَانَ لا يَبِيعُ ثمارَه حَتَّى يَطْلُعَ (3) الثُرَيَّا يَعْنِي بَيْعَ (4) النَّخْلِ.
3 - بَابُ الرَّجُلِ يبيعُ بَعْضَ الثمرَ (5) وَيَسْتَثْنِي بَعْضَهُ
761 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي بكر، عن
__________
(1) قوله: ويباع، قال القاري: هذا قيد اتفاقي لكثرة وقوعه.
(2) عبد الله بن ذكوان.
(3) قوله: حتى يطلع الثُرَيّا، بضم المثلثة وفتح الراء المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية النجم المعروف لأنها تنجو من العاهة حينئذٍ، وعند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا طلع النجم صباحاً رُفعت العاهة عن كل بلدة، والنجم الثريّا. وعند أحمد والطهاوي والبيهقي، عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يُؤْمَن عليها العاهة، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا طلعت الثريّا (انظر جامع الأصول 1/468) . قال الزرقاني: طلوعها صباحاً يقع في أول فصل الصيف، وذلك عند اشتداد الحرّ وابتداء نضج الثمار، وهو المعتبر في الحقيقة وطلوع النجم علامة له.
(4) أي بيع ثماره.(3/191)
أَبِيهِ (1) : أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ بَاعَ حَائِطًا (2) لَهُ يُقَالُ لَهُ الأفْراق (3) بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُ بِثَمَانِي (4) مِائَةِ دِرْهَمٍ تَمْرًا.
762 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجال، عَنْ أُمِّهِ عَمْرة بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهَا كَانَتْ تَبِيعُ ثِمَارَهَا، وَتَسْتَثْنِي (5) مِنْهَا.
763 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّهُ كَانَ يَبِيعُ (6) وَيَسْتَثْنِي مِنْهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِأَنْ يبيع الرجل ثمره، ويستثني
__________
(5) قوله: عن أبيه، هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري، وقد مرت تراجم عمرو بن حزم وأبي بكر وابنه عبد الله وغيرهم في مواضع متفرقة. وصاحب القصة محمد بن عمرو بن حزم جدّ عبد لله، قال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو عبد الملك، وُلد سنة عشر في العهد النبوي، ومات يوم الحرّة سنة ثلاث وستين، روى عنه ابنه أبو بكر وغيره.
(1) قوله: عن أبيه، هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري، وقد مرت تراجم عمرو بن حزم وأبي بكر وابنه عبد الله وغيرهم في مواضع متفرقة. وصاحب القصة محمد بن عمرو بن حزم جدّ عبد لله، قال ابن حبان في "الثقات": كنيته أبو عبد الملك، وُلد سنة عشر في العهد النبوي، ومات يوم الحرّة سنة ثلاث وستين، روى عنه ابنه أبو بكر وغيره.
(2) أي بستاناً.
(3) بفتح الهمزة وسكون الفاء (الأفراق: بفتح فسكون ورابعه ألف، وهو بغير الألف في "شرح الزرقاني" وهو تحريف، قال البكري: الأفراق: بفتح أوله، وبالراء والقاف: على وزن أفعال: كأنه جمع فرق: وهو موضع بالمدينة: فيه حوائط نخل، وذكر هذا الحديث عن مالك. معجم ما استعجم 1/176) .
(4) أي بمقدارها تمر.
(5) أي بعضاً معيّناً منها.
(6) في نسخة: يبيع ثمارها.(3/192)
بعضَه إِذَا اسْتَثْنَى شَيْئًا (1) مِنْ جُمْلَتِهِ رُبْعًا أَوْ خُمْسًا أَوْ سُدْسًا.
4 - بَابُ مَا يُكره مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ
764 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (2) عبد الله بن يزيد مولى
__________
(1) قوله: شيئاً، معّينا من جُملته بأحد من الكسور كالثلث ونحوه، وأما إذا استثنى شيئاً مجهولاً فلا يجوز لجهالة المبيع بجهالة المستثنى، وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثُنْيَا في البيع إلا أن تُعْلَمَ، أخرجه الترمذي وغيره. ويجور أيضاً إذا استثنى نخلاً معيّنة معدودة لأن الباقي معلوم مشاهدةً فلا تُفضي الجهالة إلى المنازعة. وأما إذا باع ثماراً واستثنى أرطالاً معلومة، فإن كانت مجذوذةً جاز، فإن الباقي يُعرف بكيله على الفور، وإن كانت على الشجر فعند الشافعي وأحمد لا يجوز، خلافاً لمالك ولأبي حنيفة في رواية الحسن عنه، وعلى ظاهر الرواية عند الحنفية يجوز، لأن الأصل أن ما يجوز إيراد العقد عليه انفراداً يصح استثناؤه بخلاف استثناء الحمل وأطراف الحيوان فإنه لا يجوز بيعه فكذا استثناؤه، كذا في "الهداية" وشروحها.
(2) قوله: أخبرنا عبد الله بن يزيد ... إلخ، قد أخرجه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والحاكم والدارقطني والبيهقي والبزار كلهم من حديث زيد بن عيَّاش أنه سأل سعد بن أبي وقاص، الحديث. وذكر الدارقطني في "العلل" أن إسماعيل بن أمية وداود بن الحسين والضحاك بن عثمان وأسامة بن زيد وافقوا مالكاً على إسناده. وذكر - ابن المديني أن أباه حدّثه عن مالك، عن داود بن الحصين، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن عياش أبي عياش، وسماع أبي، عن مالك قديم، قال: فكأن مالكاً كان علّقه عن داود، ثم لقي شيخه عبد الله بن يزيد، فحدّثه به، فحدّث به مرة عن داود، ثم استقر رأيه على التحديث، ورواه البيهقي من حديث ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، هو مرسل قويّ، كذا ذكره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير".(3/193)
الأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، أَنَّ زَيْدًا (1) أَبَا عيَّاش مولى لبني
__________
(1) قوله: أن زيداً، قد أعلّ أبو حنيفة هذا الحديث من أجله، وقال: مداره على زيد بن عيّاش وهو مجهول، وكذا قال ابن حزم، وتعقّبوهما بأن الحديث صحيح، وزيد ليس بمجهول، قال الزرقاني: زيد كنيته أبو عيّاش واسم أبيه عيّاش المدني، تابعي، صَدوق، نقل عن مالك أنه مولى سعد بن أبي وقاص، وقيل: إنه مولى بني مخزوم، وفي "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني: زيد بن عيّاش أبو عيّاش الزُرْقي، ويقال: المخزومي روى عن سعد وعنه عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنيس، ذكره ابن حبان في "الثقات" وصحح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديثه المذكور، وقال الدارقطني: ثقة، وقال الحاكم في "المستدرك": هذا حديث صحيح لإِجماع أئمة النقل على إمامة مالك، وأنه محكم في كل ما يرويه إذ لم يوجد في روايته إلا الصحيح خصوصاً في رواية أهل المدينة، والشيخان لم يخرجاه لما خَشِيا من جهالة زيد. انتهى.
وفي "فتح القدير شرح الهداية": قال صاحب "التنقيح": زيد بن عيّاش أبو عيّاش الزرقي المدني ليس به بأس، ومشائخنا ذكروا عن أبي حنيفة بأنه مجهول، ورُدَّ طعنه بأنه ثقة، وروى عنه مالك في "الموطأ" وهو لا يروي عن مجهول، وقال المنذري: كيف يكون مجهولاً، وقد روى عنه ثقتان عبد الله بن يزيد وعمران بن أبي أنيس، وهما مما احتجّ بهما مسلم في "صحيحه" وقد عرفه أئمة هذا الشأن، وأخرج حديثه مالك مع شدّة تحريه في الرجال، وقال ابن الجوزي في "التحقيق": قال أبو حنيفة: إنه مجهول، فإن كان هو لم يعرفه فقد عرفه أئمة النقل. انتهى. وفي "غاية البيان شرح الهداية": نقلوا تضعيفه عن أبي حنيفة ولكن لم يصح ضعفه في كتب الحديث، فمن ادّعى فعليه البيان. انتهى. وفي "البناية" للعيني عند قول صاحب "الهداية" زيد بن عيّاش ضعيف عند النقلة: هذا ليس بصحيح، بل هو ثقة عند النقلة. انتهى. وفي "التلخيص الحبير": قد أعلّ هذا الحديث جماعة منهم الطحاوي والطبري وابن حزم وعبد الحق بجهالة زيد، والجواب أن الدارقطني قال: إنه ثقة ثبت، وقال المنذري: روى عنه اثنان ثقتان، وقد اعتمده مالك مع شدة(3/194)
زُهْرَةَ (1) ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عَمَّنِ اشْتَرَى الْبَيْضَاءَ (2) بالسُّلت (3) ؟ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أيُّهما أَفْضَلُ؟ قَالَ: الْبَيْضَاءُ، قَالَ: فَنَهَانِي عَنْهُ (4) ، وَقَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِل عمّنْ اشْتَرَى التَّمْرَ بِالرُّطَبِ؟ فقال (5) : أ (6) ينقص الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَنَهَى عَنْهُ (7) .
__________
تحريه، وصححه الترمذي والحاكم وقال: لا علم أحداً طعن فيه. انتهى. وبالجملة فالجهالة عن زيد مرتفعة، جهالة العين وجهالة الوصف كلاهما بتصريح النُّقّاد (وفي بذل المجهود 15/19: والأصل أنه وقع الاختلاف في جرح زيد بن عيّاش وتعديله بين أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله - فرواية مالك تقتضي تعديله ضمناً وتبعاً، وثبت الجرح عن أبي حنيفة صراحةً فلا يُقاوم تعديل مالك بجرح أبي حنيفة خصوصاً لم يخالف الإِمام في زمانه أحد فلا عبرة بمن بعده في ذلك والله أعلم) .
(1) بضم الزاء قبيلة: يُنسب إليها الزهري.
(2) أي الشعير كما في رواية، ووهم وكيع، فقال: عن مالك الذُّرَة ولم يقله غيره، والعرب تطلق البيضاء على الشعير، والسمراء على البُرّ، كذا قال ابن عبد البر.
(3) بضم السين وسكون اللام: ضرب من الشعير لا قشر له يكون في الحجاز، قال الجوهري.
(4) أي عن بيع أحدهما بالآخر للتفاوت في المنفعة (ونهيُ سعد عن التفاضل في السلت بالبيضاء يقتضي أنهما عنده جنس واحد، ولذلك أخذ حكمهما من منع التفاضل في الرطب بالتمر، وهذا مذهب مالك أن السلت والحنطة والشعير جنس واحد في الزكاة وفي منع التفاضل. المنتقى 4/243. وأما عند أبي حنيفة والشافعي وأحمد فهما صنفان انظر لامع الدراري 6/117. وفي البذل 15/19: أما بيع البيضاء بالسلت فما قال فيه سعد رضي الله عنه من النهي إن كان محمولاً على البيع يداً بيد فهو على الورع والاحتياط، لمشابهته بالحنطة أوقعت الشبهة فيه فنهاه احتياطاً لكن الحكم فيه أنهما نوعان مختلفان فيجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً إذا كان يداً بيد، وأما إذا حمل على النسيئة فذلك لا يجوز انظر الأوجز 11/137) .
(5) أي لمن حوله من الصحابة كما في رواية.
(6) بهمزة الاستفهام.
(7) لعدم التماثل.(3/195)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) نَأْخُذُ. لا خَيْرَ فِي أن يشتري الرجل
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، قالوا: لا يجوز بيع التمر بالرطب لا متفاضلاً ولا متماثلاً يداً بيد كان أو نسيئة، وأما التمر بالتمر والرطب بالرطب فيجوز ذلك متماثلاً لا متفاضلاً يداً بيد لا نسيئة، وفيه خلاف أبي حنيفة حيث جوّز بيع التمر بالرطب متماثلاً إذا كان يداً بيد لأن الرطب تمر، وبيع التمر بالتمر جائز متماثلاً من غير اعتبار الجودة والرداءة، وقد حُكي عنه أنه لما دخل بغداد سألوه عن هذا، وكانوا أشداء عليه بمخالفته الخبر، فقال: الرطب إما أن يكون تمراً أو لم يكن تمراً، فإن كان تمراً جاز، لقوله صلى الله عليه وسلم: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وإن لم يكن تمراً جاز، لحديث: إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم. فأوردوا عليه الحديث، فقال: مداره على زيد بن عياش وهو مجهول، أو قال: ممن لا يقبل حديثه، واستحسن أهل الحديث هذا الطعن منه حتى قال ابن المبارك: كيف يُقال إن أبا حنيفة لا يعرف الحديث، وهو يقول: زيد ممن لا يُقبل حديثه، قال ابن الهمام في "الفتح" (فتح القدير 6/168 - 169) : رُدّ ترديده، بأنّ ههنا قسماً ثالثاً، وهو أنه من جنس التمر ولا يجوز بيعه بالآخر كالحنطة المقلية بغير المقلية لعدم تسوية الكيل بهما فكذا الرطب والتمر لا يسوّيهما الكيل، وإنما يسوّي في حال اعتدال البدلين، وهو أن يجفّ الآخر، وأبو حنيفة يمنعه، ويعتبر التساوي حال العقد، وعُروض النقصِ بعد ذلك لا يمنع من المساواة في الحال إذا كان موجبه أمراً خلقياً، وهو زيادة الرطوبة(3/196)
قَفِيز (1) رُطَبٍ بقفيزٍ مِنْ تمرٍ، يَدًا بِيَدٍ (2) ، لأَنَّ الرُّطَب يَنْقُصُ إِذَا جَفَّ فَيَصِيرُ أَقَلَّ (3) من قفيز، فلذلك فسد البيع فيه.
__________
بخلاف المقلية بغيرها، فإنه في الحال يُحكم بعدم التساوي لاكتناز أحدهما، وتخلخل الآخر. ورُدَّ طعنه في زيد بأنه ثقة كما مرّ، وقد يُجاب أيضاً بأنه على تقدير صحة السند، فالمراد النهي نسيئة، فإنه ثبت في حديث أبي عياش هذا زيادة "نسيئة" أخرجه أبو داود عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن يزيد أنّ أبا عيّاش أخبره أنه سمع سعداً يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر نسيئة، وأخرجه الحاكم والطحاوي في "شرح معاني الآثار"، ورواه الدارقطني، وقال: اجتماع هؤلاء الأربعة أي مالكٍ وإسماعيل بن أمية والضحاك ابن عثمان وآخر على خلاف ما رواه يحيى بن أبي كثير يدل على ضبطهم للحديث وأنت تعلم أن بعد صحة هذه الرواية يجب قبولها، لأن المذهب المختار عند المحدثين هو قبول الزيادة وإن لم يروِها الأكثر إلا في زيادة تفرد بها بعض الحاضرين في المجلس، فإن مثله مردود كما كتبناه في "تحرير الأصول" وما نحن فيه لم يثبت أنه زيادة في مجلس واحد، لكن يبقى قوله في تلك الرواية الصحيحة: أينقص الرطب إذا جفّ، عرياً عن الفائدة إذا كان النهي عنه للنسيئة. انتهى كلام ابن الهمام. وهذا غاية التوجيه في المقام مع ما فيه الإِشارة إلى ما فيه وللطحاوي كلام في "شرح معاني الآثار" (2/199 وبسط شيخنا على هذا الحديث في الأوجز 11/37 فارجع إليه) مبنيّ على ترجيح رواية النسيئة وهو خلاف جمهور المحدثين وخلاف سياق الرواية أيضاً، ولعل الحق لا يتجاوز عن قولهما وقول الجمهور.
(1) القفيز مكيال يسع اثني عشر صاعاً، كذا في "المنتخب".
(2) أي وإن كان قبضاً بقبض وإن كان أحدهما نسيئة، فظاهر عدم جوازه لحرمة النسأ في الأموال الربوية.
(3) أي فيدخل فيه الربا.(3/197)
5 - بَابُ مَا لَمْ يُقبض مِنَ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
765 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ حَكِيمَ (1) بْنَ حزم ابْتَاعَ (2) طَعَامًا أَمَرَ بِهِ (3) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلنَّاسِ، فَبَاعَ حَكِيمٌ الطعامَ قَبْلَ أَنْ يستوفِيَه (4) ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ (5) ، وَقَالَ: لا تَبِعْ طَعَامًا ابتعتَه حَتَّى تستوفِيَه.
766 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ابتاع (6) طعاماً فلا يبعه (7) حتى يَقْبِضَه.
__________
(1) قوله: أن حكيم بن حزام، قال الزرقاني: بمهملة وزاء معجمة بن خويلد بن أسد ابن عبد العُزّى القرشي الأسدي، ابن أخي خديجة أم المؤمنين، أسلم يوم الفتح، وصحب وله أربع وسبعون سنة، وعاش إلى سنة أربع وخمسين أو بعدها.
(2) أي اشترى.
(3) أي بشرائه.
(4) أي يقبضه من البائع.
(5) أي بيعَه.
(6) أي اشترى.
(7) بصيغة النهي، وفي رواية: فلا يبيعه.(3/198)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (1) نَأْخُذُ. وَكَذَلِكَ (2) كلُّ شَيْءٍ بِيْع مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يبيعَه الَّذِي اشْتَرَاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَكَذَلِكَ (3) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ (4) : أَمَّا الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ فَهُوَ الطَّعَامُ أنْ يُباع حَتَّى يُقْبَض. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ (5) : وَلا أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ إِلا مِثْلَ ذَلِكَ. فَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَأْخُذُ، الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مِثْلُ الطعام،
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا في هذه المسألة، فقال مالك: يجوز جميع التصرفات في غير الطعام قبل القبض لورود التخصيص في الأحاديث بالطعام، وقال أحمد: إن كان المبيع مكيلاً أو موزوناً لم يجز بيعه قبل القبض، وفي غيره يجوز، وقال زفر ومحمد والشافعي: لا يجوز بيع شيء قبل القبض طعاماً كان أو غيره لإطلاق الأحاديث. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز بيع غير المنقول قبل القبض، لأن النهي معلول بضرر انفساخ العقد لخوف الهلاك، وهو في العقار وغيره نادر، وفي المنقولات غير نادر، كذا في "البناية".
(2) أي لا يجوز بيعه قبل القبض.
(3) قوله: وكذلك قال عبد الله بن عباس إلخ، قال السيد مرتضى في "عقود الجواهر المُنيفة في أدلة الإِمام أبي حنيفة": أبو حنيفة عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: نُهينا عن بيع الطعام حتى يُقبض، قال ابن عباس وأحسب كل شيء مثل الطعام (أي في عدم جواز بيعه قبل القبض، وهذا من اجتهاده. بذل المجهود 15/171) ، لا يجوز بيعه حتى يقبض، كذا أخرجه الحارثي من طريق إسماعيل بن يحيى عنه، وأخرجه الأئمة الستة بلفظ: الذي نهى عنه رسولُ الله فهو الطعام أن يُباع حتى يُقْبَض، قال: ولا أحسب كل شيء إلا مثله.
(4) أي صاحب الكتاب.
(5) أخرجه البخاري وغيره.(3/199)
لا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا اشْتَرَاهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الدُّور (1) والعَقَار (2) وَالأَرَضِينَ الَّتِي لا تُحوّل أنْ تُباع قَبْلَ أنْ تُقبض، أَمَّا نَحْنُ فَلا نُجيز (3) شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُقبض.
767 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَبْتَاعُ (4) الطَّعَامَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَعَثَ (5) عَلَيْنَا مَنْ يَأْمُرُنَا بِانْتِقَالِهِ مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي نَبْتَاعُهُ فِيهِ إِلَى مَكَانٍ سِوَاهُ قَبْلَ (6) أنْ نبيعَه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كان (7) يُراد بهذا
__________
(1) بالضمّ جمع دار.
(2) بالفتح: كل ملك ثابت كالدار والنخل، كذا في "المصباح".
(3) لعموم الروايات.
(4) أي نشتري.
(5) أي بعث إلينا رجلاً يأمرنا بانتقال المشتَرَى من المكان الذي اشتُري فيه.
(6) متعلِّق بالانتقال.
(7) قوله: إنما كان، يعني ليس المقصود من هذا عدم جواز البيع في مكان الشراء، فإن الأمكنة كلها سواسية في ذلك، بل المقصود منه تحصيل القبض التامّ حتى لو جوز البيع هناك تسارع الناس إلى البيع قبل القبض في ذلك المكان(3/200)
الْقَبْضُ (1) لِئَلَّا يبيعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يقبضَه فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ رجلٌ حَتَّى يَقْبِضَهُ.
6 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الْمَتَاعَ أَوْ غَيْرَهُ نَسِيئَةً (2) ثُمَّ يَقُولُ: انْقُدْني (3) وأضعُ عَنْكَ
768 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (4) ، عَنْ بُسْر (5) بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي صَالِحِ (6) بْنِ عبيدٍ مَوْلَى السَّفَّاح أَنَّهُ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ بَاعَ
__________
(قال الباجي: معناه - والله أعلم - أنه اشتراه جزافاً، وقد ورد ذلك مفسراً وقال النووي: في الحديث جواز بيع الصبرة جزافاً وهو مذهب الشافعي وأصحابه: بيع الصبرة من الحنطة والتمر وغيرهما صحيح، وليس بحرام، وهل هو مكروه؟ فيه قولان للشافعي، أصحهما: مكروه كراهة تنزيه، والثاني ليس بمكروه، ونقل عن مالك أنه لا يصح البيع إذا كان بائع الصبرة جزافاً يعلم قدرها. انظر أوجز المسالك 15/200) .
(1) أي بهذا الأمر بالانتقال.
(2) الزناد: بكسر الزاء.
(3) بضم الباء فسكون السين.
(4) الزناد: بكسر الزاء.
(5) بضم الباء فسكون السين.
(6) قوله: عن أبي صالح بن عبيد، بالضم مصغَّراً - مولى السَّفَّاح - بفتح السين المهملة وتشديد الفاء لقب لأوّل خلفاء بني العباس وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس. هكذا وجدنا العبارة في نسخةٍ شرح عليها القاري، وفي "موطأ يحيى" (2/672) : مالك عن أبي الزناد، عن بسر بن سعيد، عن عبيد بن أبي صالح مولى السفاح، انتهى وفي "جامع الأصول" 1/571 أبو صالح عبيد بن(3/201)
بَزّاً (1) مِنْ أَهْلِ دارِ نَخْلَةَ (2) إِلَى أَجَلٍ، ثُمَّ أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى كُوفَةَ فَسَأَلُوهُ (3) أَنْ يَنْقُدُوه، ويَضَعَ عَنْهُمْ، فَسَأَلَ زيدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَقَالَ: لا آمُرُكَ أنْ تأكُلَ (4) ذَلِكَ وَلا تُوْكِلَه.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ وَجَب له دَيْن على إنسان إلى أجل،
__________
أبي صالح مولى السفاح تابعي، روى عن زيد بن ثابت، وروى عنه بسر بن سعيد. انتهى. وفي "كتاب الثقات" لابن حبان: عبيد بن خزاعة عداده في أهل المدينة، يروي عن زيد بن ثابت، وروى عنه بسر بن سعيد.
(1) قوله: أنه باع بَزّاً، بفتح الباء وتشديد الزاء المعجمة، عن ابن دريد، هو المتاع من الثياب خاصة، وعن الليث ضرب من الثياب، وعن ابن الأنباري رجل حسن البَزّ أي حسن الثياب، وقال محمد في "السِّيَر الكبير" هو عند أهل الكوفة ثياب الكَتّان والقطن، لا ثياب الصوف والخَزّ، كذا في "شرح القاري" عن "المغرب".
(2) قال الزرقاني: محلة بالمدينة فيه البزّازون.
(3) قوله: فسألوه، أي طلب أهل دار نخلةَ من البائع، وهو أبو صالح عبيد أن يُعطوه الثمن نقداً، ويحطّ هو بعض الثمن عنهم.
(4) قوله: أن تأكل ذلك، أي الثمن الذي تأخذه عنهم معجّلاً ولا تُوكله لهم ما تحط عنه، يعني لا يجوز لك هذا أن تضع بعض الثمن، وتأخذ عوضه ما بقي معجّلاً، فإنه يكون كمن اشترى مائةً مؤجَّلة بخمسين معجلة فيدخل النسأ والتفاضل في الجنس الواحد(3/202)
فَسَأَلَ (1) أَنْ يَضَع (2) عَنْهُ، ويُعَجَّل لَهُ (3) مَا بَقِيَ لَمْ ينبغِ ذَلِكَ لأَنَّهُ يعجِّل قَلِيلا بِكَثِيرٍ دَيْناً، فَكَأَنَّهُ (4) يَبِيعُ قَلِيلا نَقْدًا بِكَثِيرٍ دَيْناً. وَهُوَ قَوْلُ (5) عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (6) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (7) .
7 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الشَّعِيرَ بِالْحِنْطَةِ
769 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نَافِعٌ: أنَّ سُلَيْمَانَ بن يسار أخبره:
__________
(كذا في المنتقى 6/65) .
(1) أي المديون.
(2) أي يحط قدراً من دَيْنه.
(3) أي للدائن.
(4) هذا إذا أراد المعاوضة والمقابلة، وإن أراد كل واحد التبرع فلا بأس به.
(5) أي عدم جواز مثل هذا.
(6) أخرجه عنه مالك في "الموطأ".
(7) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الحكم بن عُتَيْبة والشعبي ومالك، وأجازه ابن عباس ورآه من المعروف، وحكاه اللخمي عن ابن القاسم من المالكية، وعن ابن المسيّب والشافعي القولان، واحتج المُجيز بخبر ابن عباس: لما أمر رسولُ الله بإخراج بني النضير، قالوا: لنا على الناس ديون لم تحل، فقال: ضعوا وتعجَّلوا. وأجاب المانعون باحتمال أن هذا الحديث قبل نزول تحريم الربا كذا في "شرح الزرقاني"(3/203)
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ (1) بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فنِيَ (2) عَلَفُ دابَّته فَقَالَ لِغُلامِهِ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِكَ فاشترِ بِهِ (3) شَعِيرًا وَلا تَأْخُذْ (4) إلاَّ مِثْلًا (5) بِمِثْلٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَسْنَا نَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ (6) الرَّجُلُ قَفِيزَيْنِ مِنْ
__________
(3/321، والأوجز 11/327) .
(1) قوله: أن عبد الرحمن بن الأسود، هو ممن وُلد عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ويقال: إنَّ له صحبة وكان أبوه من المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قال ابن حبان في "كتاب الثقات"، وذكر ابن الأثير الجزري في "أسد الغابة" عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري: كان ذا قدر كبير بين الناس وهو ابن خال النبي صلى الله عليه وسلم، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح له رؤية ولا صحبة، روى عنه سليمان بن يسار ومروان وغيرهما.
(2) قوله: فَنِي، بفتح الفاء وكسر النون أي فُقد وعُدم عَلَف دابَّته بفتحتين.
(3) أي بدل ذلك.
(4) قوله: ولا تأخذ إلخ، هكذا أخرجه مالك عن سعد بن أبي وقاص وابن معيقيب أيضاً، ومبناه على أن البُرّ والشعير جنس واحد، وقال مالك: هو الأمر عندنا - أي بالمدينة - أن البُرّ والشعير جنس واحد، لتقارب المنفعة، وبهذا قال أكثر الشاميين، وقد يكون من خبز الشعير ما هو أطيب من خبز الحنطة، وهذا خلاف الجمهور، قال الزرقاني: لم يتفرد به مالك حتى يُشنِّع عليه بعض أهل الظاهر - والله حسيبه - ويقول: القِطّ أفقه من مالك، فإنه إذا رُميت له لقمتان: إحداهما شعير، فإنه يذهب عنها ويقبل على لقمة البُرّ (شرح الزرقاني 3/293، والمنتقى 5/2) .
(5) أي بلا زيادة ولا نقصان.
(6) بشرط التقابض في المجلس.(3/204)
شَعِيرٍ بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ يَدًا بِيَدٍ. وَالْحَدِيثُ (1) الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ (2) عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: الذهب (3) بالذهب مثلاً
__________
(1) قوله: والحديث المعروف، هذا الحديث رُوي من طرق جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة بعضها مطوَّلة وبعضها مختصرة على ما بسطه الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" والعيني في شرحها والسيوطي في "الدر المنثور" وغيرهم، فأخرج الستة ومالك والشافعي وعبد الرزاق وعبد بن حميد والبيهقي من حديث عمر مرفوعاً: الذهب بالورق رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والبُرّ بالبُرّ رباً إلاَّ هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ، والتمر بالتمر رباً إلاَّ هاءَ وهاءَ. وأخرج مسلم والنسائي والبيهقي وعبد بن حميد من حديث أبي سعيد الخدري: الذهب بالذهب مثل بمثل يداً بيد، والفضة بالفضة مثل بمثل يداً بيد، والبُرّ بالبُرّ مثل بمثل يداً بيد، والشعير بالشعير مثلاً بمثل يداً بيد، والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد مرفوعاً: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاَّ مثلاً بمثل، ولا تبيعوا الوَرِق بالوَرِق، إلاَّ مثلاً بمثل. وحديث عبادة أخرجه الجماعة إلاَّ البخاري، وفي الباب عن أبي الدرداء أَخرجه مالك والنسائي، وبلال عند الطبراني والطحاوي، وأبي هريرة عند مسلم، ومعمر بن عبد الله عند مسلم، وأبي بكر عند البزار، وعثمان عند مسلم والطحاوي، وهشام بن عامر عند الطبراني، والبراء وزيد بن أرقم عند البخاري ومسلم، وفضالة بن عبيد عند الطحاوي وأبي داود، وابن عمر عند الطحاوي والحاكم، وأبي بكرة عند البخاري ومسلم، وأنس عند الدارقطني.
(2) أي فيما يؤخذ به ذلك الحكم.
(3) قوله: الذهب بالذهب، بالرفع على أن المعنى بيع الذهب بالذهب، أو بالنصب أي بيعوا الذهب. وقد ورد في كثير من الرويات في هذا الحديث ذكر الأشياء الستة الذهب والفضة والملح والتمر والبُرّ والشعير، وهذا الحديث أصل في باب الربا، وقد أغرب الظاهرية حيث لم يحرِّموا الربا إلاَّ في هذه الأشياء الستَّة دون(3/205)
بِمِثْلٍ. وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلا بِمِثْلٍ.
وَلا بَأْسَ (1) بِأَنْ يَأْخُذَ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ (2) أَكْثَرُ، وَلا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْحِنْطَةَ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُ يَدًا بِيَدٍ، فِي ذَلِكَ (3) أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
غيرها، وغيرهم من العلماء متفقون على أن الحكم معلول، ومتعدٍّ إلى غيرها حسب تعدِّي العلَّة، واختلفوا في العلَّة، فعند مالك هي الادِّخار والاقتيات والطعم، وعند الشافِعي الطعم والثمنية، وعندنا القدر والجنس، فعندنا إذا اتَّحد القدر - أي الكيل والوزن - والجنس حَرُم التفاضل والنسأ، وإذا اختلف الجنس حلَّ التفاضل وحرم النسأ. وقد عُرف تفصيل ذلك في كتب الفقه.
(1) من ههنا كلام صاحب الكتاب.
(2) الواو حالية.
(3) قوله: في ذلك، أي في جواز التفاضل عند اختلاف الجنس أخبار كثير، ففي حديث عبادة عند الأربعة ومسلم في آخره: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد. وفي رواية الترمذي في آخر حديثه: بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البُرّ بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد. قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم لا يَرَوْن أن يُباع البُرّ بالبُرّ إلاَّ مِثلاً بمثل، والشعير بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، فإذا اختلف الأصناف فلا بأس أن يُباع متفاضلاً إذا كان يداً بيد، وهذا قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال الشافعي: الحجة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: بيعوا الشعير بالبُرّ كيف شئتم يداً بيد، وقد كره قوم من اهل العلم أن يباع الحنطة بالشعير إلاَّ مثلاً بمثل، وهو قول(3/206)
8 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الطَّعَامَ نَسِيئَةً ثُمَّ يَشْتَرِي بِذَلِكَ (1) الثَّمَنِ شَيْئًا آخَرَ
770 - أَخْبَرَنَا مالكٌ، حدَّثنا أَبُو الزِّناد (2) ، أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ: كَانَا يَكْرهان أَنْ يَبِيعَ الرجلُ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ بِذَهَبٍ، ثُمَّ يَشْتَرِي بِذَلِكَ الذَّهَبِ تَمْرًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا.
قَالَ مُحَمَدٌّ: وَنَحْنُ لا نَرَى بَأْسًا (3) أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا تمراً قبل أن
__________
مالك بن أنس، والقول الأول أصح (في المغني 4/27، البر والشعير جنسان، هذا هو المذهب وبه يقول الشافعي وإسحاق وأهل الرأي وغيرهم، وعن أحمد أنهما جنس واحد، وحكي ذلك عن سعد بن أبي وقاص وحماد ومالك وغيرهم، قال النووي: قال مالك والأوزعي ومعظم علماء المدينة والشام: إنهما صنف واحد، قال ابن رشد: أما حجة مالك فإنه عَمَل سلفه بالمدينة، وقال الموفق: ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بيعوا البُرّ بالشعير كيف شئتم يداً بيد"، وهذا صريح صحيح لا يجوز تركه بغير معارض مثله. انتهى. انظر لامع الداري 6/117) . انتهى.
(1) عبد الله بن ذكوان.
(2) عبد الله بن ذكوان.
(3) قوله: ونحن لا نرى بأساً، أي يجوز عندنا ذلك لأن المنهيّ عنه إنما هو بيع ما لم يقبض لا الشراء بما لم يُقْبض ولا الشراء بالدَّيْن، وقد ذكر مالك الكراهة (قال شيخنا في الأوجز 11/210: ظاهر كلام الإِمام مالك - رضي الله عنه - أنه نهى عن ذلك وكرهه، لأنه أدخله في بيع الذريعة، ولذا أباح إذا شرى البائع التمر من غير المشتري. وتقدَّم سابقاً أن بيوع الذريعة محرَّمة عند مالك وأحمد خلافاً للحنفية والشافعية) أيضاً عن ابن شهاب وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مثل قول ابن المسيب وابن يسار. وقال: إنما نَهَوْا عن أن لا يبيع الرجل حنطة بذهب، ثم يشتري بالذهب تمراً قبل أن يقبض الذهب من بائعه الذي اشترى منه الحنطة، فأما(3/207)
بقبضها إِذَا كَانَ التَّمْرُ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يَكُنْ دَيْناً (1) . وَقَدْ ذُكر هَذَا الْقَوْلُ (2) لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَلَمْ يَره شَيْئًا (3) وَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ. وهو قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
9 - بَابُ مَا يُكره مِنَ النَّجَش (4) وتلقِّي (5) السِّلَع (6)
771 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تلقِّي السِّلَعِ حَتَّى تهبط (7) الأسواق،
__________
أن يشتري بالذهب التي باع بها إلى أجل من غير بائعه، ويُحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة فلا بأس به، وقد سألتُ عن ذلك غير واحد من أهل العلم فلم يَرَوْا بأساً. انتهى. ولعل كراهتهم كانت للتهمة، لا لأمر شرعي.
(1) فإنه إنْ كان دَيْناً لا يجوز لأنه بيع الكالئ بالكالئ وقد نهى عنه.
(2) أي قول ابن المسيب وغيره.
(3) أي شيئاً مقبولاً.
(4) قوله: حتى تهبط الأسواق، أي تنزل في الأسواق، وتدخل في البلاد، وورد في رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام نهى عن (في الأصل: "أن"، وهو خطأ) تلقي (قال الخطابي: وقد كره التلقّي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزعي والشافعي واحمد وإسحاق، ولا أعلم أحداً منهم أفسد البيع غير أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - أثبت الخيار للبائع قولاً بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق، وكان أبو سعيد الإِصطخري يقول: إنما يكون له الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقلّ من الثمن، فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له. بذل المجهود 15/104. وفي هذا عدة أبحاث بسطها في الأوجز 11/368) الجلب، أخرجه الترمذي وغيره.
(5) إنما نُهُي عنه، وكذا عن التلقي لكونه متضمناً للغرر.
(6) قوله: فأما النجش فالرجل إلخ، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله. ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد البيع في صورة النجش، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، والمشهور عند الحنابلة كذلك إذا كان ذلك بمواطأة البيع أو صنعه، والأصح عند الحنفية والشافعية صحة البيع مع الإِثم، والنَّجَش لا يتم إلاَّ بأمور: منها أن لا يريد الناجش شراءه، ومنها أن يزيد في الثمن ليقتدي به السوام أكثر مما يُعطون لو لم يسمعوا سومه، وأما مواطأة البيع وجعلُه الجُعل على الناجش، على ذلك فليس بشرط إلاَّ أنه يزيد في المعصية، وقيد ابن العربي وابن عبد البر وابن حزم التحريم (قال القسطلاني في (باب النجش) : لا يجوز ذلك البيع الذي وقع بالنجش، وهو مشهور مذهب الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار. والأصح عند الشافعية وهو قول الحنفية صحة البيع مع الإِثم. لامع الدراري 6/54) في النجش بأن يكون الزيادة فوق ثمن المثل، فلو أن رجلاً رأى سلعة تُباع بدون قيمتها فزاد لينتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشاً، بل يؤجَر على ذلك، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية وهو المفهوم من كلام صاحب "النهاية حاشية الهداية" حيث قال: أما إذا كان الراغب يطلب السلعة من صاحبها بدون قيمتها، فزاد رجل في الثمن، إلى أن يبلغ فيمتها فلا بأس به وإن لم يكن له رغبة في ذلك، كذا في "شرح مسند الإِمام الأعظم.
(7) قوله: حتى تهبط الأسواق، أي تنزل في الأسواق، وتدخل في البلاد، وورد في رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام نهى عن (في الأصل: "أن"، وهو خطأ) تلقي (قال الخطابي: وقد كره التلقّي جماعة من العلماء منهم مالك والأوزعي والشافعي واحمد وإسحاق، ولا أعلم أحداً منهم أفسد البيع غير أنَّ الشافعي - رضي الله عنه - أثبت الخيار للبائع قولاً بظاهر الحديث وأحسبه مذهب أحمد ولم يكره أبو حنيفة التلقي ولا جعل لصاحب السلعة الخيار إذا قدم السوق، وكان أبو سعيد الإِصطخري يقول: إنما يكون له الخيار إذا كان المتلقي قد ابتاعه بأقلّ من الثمن، فإذا ابتاعه بثمن مثله فلا خيار له. بذل المجهود 15/104. وفي هذا عدة أبحاث بسطها في الأوجز 11/368) الجلب، أخرجه الترمذي وغيره.(3/208)
وَنَهَى (1) عَنِ النَّجَش.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كل ذلك مكروه، فأمّا النَّجش (2)
__________
(1) إنما نُهُي عنه، وكذا عن التلقي لكونه متضمناً للغرر.
(2) قوله: فأما النجش فالرجل إلخ، قال ابن بطال: أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله. ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد البيع في صورة النجش، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك، والمشهور عند الحنابلة كذلك إذا كان ذلك بمواطأة البيع أو صنعه، والأصح عند الحنفية والشافعية صحة البيع مع الإِثم، والنَّجَش لا يتم إلاَّ بأمور: منها أن لا يريد الناجش شراءه، ومنها أن يزيد في الثمن ليقتدي به السوام أكثر مما يُعطون لو لم يسمعوا سومه، وأما مواطأة البيع وجعلُه الجُعل على الناجش، على ذلك فليس بشرط إلاَّ أنه يزيد في المعصية، وقيد ابن العربي وابن عبد البر وابن حزم التحريم (قال القسطلاني في (باب النجش) : لا يجوز ذلك البيع الذي وقع بالنجش، وهو مشهور مذهب الحنابلة إذا كان بمواطأة البائع أو صنعه، والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار. والأصح عند الشافعية وهو قول الحنفية صحة البيع مع الإِثم. لامع الدراري 6/54) في النجش بأن يكون الزيادة فوق ثمن المثل، فلو أن رجلاً رأى سلعة تُباع بدون قيمتها فزاد لينتهي إلى قيمتها لم يكن ناجشاً، بل يؤجَر على ذلك، ووافقه على ذلك بعض المتأخرين من الشافعية وهو المفهوم من كلام صاحب "النهاية حاشية الهداية" حيث قال: أما إذا كان الراغب يطلب السلعة من صاحبها بدون قيمتها، فزاد رجل في الثمن، إلى(3/209)
فَالرَّجُلُ يَحْضُرُ فَيَزِيدُ (1) فِي الثَّمَنِ (2) وَيُعْطِي (3) فِيهِ مَا لا يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ ليُسمع بِذَلِكَ غَيْرَهُ فَيَشْتَرِيَ (4) عَلَى سَوْمه، فَهَذَا لا يَنْبَغِي. وَأَمَّا تلقِّي السِّلَعِ فَكُلُّ أَرْضٍ كَانَ ذَلِكَ (5) يَضُرُّ (6) بِأَهْلِهَا فَلَيْسَ يَنْبَغِي (7) أَنْ يُفعل ذَلِكَ بِهَا، فَإِذَا كَثُرَتِ الأَشْيَاءُ بِهَا (8) حَتَّى صَارَ ذَلِكَ لا يَضُرُّ بِأَهْلِهَا فَلا بَأْسَ بذلك (9) إن شاء الله تعالى (10) .
__________
أن يبلغ فيمتها فلا بأس به وإن لم يكن له رغبة في ذلك، كذا في "شرح مسند الإِمام الأعظم.
(1) عند المبايعة.
(2) أي ثمن المبيع.
(3) أي يظهر عطاؤه أكثر، وكذا إذا مدح السلعة فوق الحدّ ليغترَّ المشتري.
(4) أي فيشتري الغير على ما قاله الناجش به فيغترَّ به.
(5) أي التلقّي.
(6) بأن كان فيه قحط وغلاء.
(7) لإِفضائه إلى الضرر.
(8) أي بتلك الأرض.
(9) أي بالتلقي.
(10) قوله: إن شاء الله، قَيَّد الحكم به لعدم وجود ما يدل على ذلك نصاً، وإنما حكم به لأن النهي بالتلّقي معلول بإجماع القائسين بالإِضرار والغرر، وهو مفقود في صورة عدم الضرر، وظاهر أحاديث النهي عن التلقي الإِطلاق، وبه أخذ(3/210)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
الشافعي وغيره سواء ضرَّ به أهل البلد أم لا (في الهداية: ونهى عن تلقي الجالب، وهذا إذا كان يضُرُّ بأهل البلد، فإن كان لا يضرّ فلا بأس به إلاَّ إذا لبَّس السعر. بذل المجهود 15/104، وفي هامشه: أن المنع منه لحقّ أهل البلد وبه قال مالك، وقال الشافعي لحقّ الجالب، كذا في العارضة) ، وتعلق قوم بظاهرها، فقالوا ببطلان البيع بالتلّقي. وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/200) في هذه المسألة كلام نفيس، فإنه أخرج أولاً من حديث ابن عباس: لا تستقبلوا السوق، ولا يتلق بعضكم بعضاً. ومن حديث ابن عمر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتلقى السلع حتى يدخل الأسواق، ومن حديث أبي سعيد لا تلقوا شيئاً حتى يقوم بسوقكم، ومن حديث أبي هريرة: لا تلقوا الرُّكبان، وقال: احتجَّ قوم بهذه الآثار، فقالوا: من تلقّى شيئاً قبل دخوله السوق، واشتراه فشراؤه باطل، وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: كل مدينة لا يضرّ التلقي بأهلها فلا بأس به فيها، ثم أخرج من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نتلقّى الركبان فنشتري منه الطعام جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى نُحوِّلَه من مكانه. وبسند آخر عنه: كانوا يشترون الطعام من الرُّكبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه. وقال: ففي هذه الآثار إباحة التلقِّي، وفي الأول النهي، فأَوْلى بنا أن نجعل ذلك على غير التضادّ، فيكون ما نهى عنه من التلقِّي لما في ذلك من الضرر على غير المتلقِّين من المقيمين في الأسواق ويكون ما أبيح من التلقي هو الذي لا ضرر فيه على المقيمين. ثم أخرج لإِبطال قول من قال بالبطلان من حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا تلقَّوْا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فهو بالخيار إذا أتى السوق، فعُلم منه أن البيع مع التلقّي صحيح مع الإِثم فإنه إن كان باطلاً لم يكن للخيار فيه معنى.(3/211)
10 - بَابٌ الرَّجُلُ يُسْلِم (1) فِيمَا يُكال (2)
772 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع: أن عبد الله بن عمر كَانَ يَقُولُ: لا بَأْسَ بأنْ يبتاعَ (3) الرجلُ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ معلومٍ بسِعر (4) مَعْلُومٍ إِنْ كَانَ (5) لِصَاحِبِهِ (6) طَعَامٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، مَا لم يكن (7) في زَرْع
__________
(1) يبتاع: أي يُشترى.
(2) بالكسر: أي مقدار معلوم.
(3) يبتاع: أي يُشترى.
(4) بالكسر: أي مقدار معلوم.
(5) أي سواء كان عنده ذلك الطعام المسلم فيه أو لم يكن بشرط أن يكون التحصيل ممكناً.
(6) وهو البائع.
(7) قوله: مَا لَمْ يَكُنْ فِي زَرْعٍ إلخ، يؤيده ما في رواية أبي داود عن(3/212)
لَمْ يَبْدُ (1) صلاحُها أَوْ فِي تَمْرٍ لَمْ يَبْدُ صلاحُها، فإنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ وَعَنْ شِرَائِهَا حَتَّى يبدُوَ صلاحُها.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا عِنْدَنَا لا بَأْسَ بِهِ. وَهُوَ السَّلَم (2) يُسلم الرَّجُلُ فِي طَعَامٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِكَيْلٍ (3) مَعْلُومٍ مِنْ صِنْفٍ (4) مَعْلُومٍ، وَلا خَيْرَ (5) فِي أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ مِنْ زَرْعٍ مَعْلُومٍ أَوْ مِنْ نَخْلٍ مَعْلُومٍ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله تعالى.
__________
ابن عمر: لا تُسْلفوا في النخل حتى يبدو صلاحها (فيه إشارة إلى أن يكون المسلم فيه موجوداً من حين العقد إلى وقت حلول الأجل. بذل المجهود 15/146) . وما عند الطبراني من حديث أبي هريرة: لا تُسْلفوا في ثمر حتى يأمن صاحبها عليها العاهة. وبه أخذ أصحابنا حيث شرطوا في جواز السَّلَم كون المُسْلَم فيه موجوداً من حين العقد إلى محل الأجل وفيما بينهما، خلافاً للشافعي فيما إذا كان موجوداً عند حلول الأجل فقط وذلك لأن القدرة على التسليم بالتحصيل، فلا بد من الاستمرار، ولذا قالوا: لو أسلم في حنطة جديدة تخرج من زرعه فسد، وفي مطلقة صح. وتفصيله في كتب الفقه.
(1) أي لم يَظهر.
(2) أي هذا العقد هو المسمى بالسَّلَم وبالسَّلَف أيضاً.
(3) قوله: بكيل معلوم، هذا في المكيلات، وفي الموزونات بوزن معلوم، وفي المذروعات بذراع معلوم، وفي المعدودات المتقاربة بعدد معلوم، فإن السلم جائز في كل منها ولا يجوز فيما يتفاوت تفاوتاً فاحشاً، وفيما لا يمكن تعيينه بالبيان.
(4) أي نوعاً ووصفاً.
(5) لاحتمال الفساد بالعاهة.(3/213)
11 - بَابُ بَيْعِ (1) الْبَرَاءَةِ
773 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ حدَّثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ بَاعَ (2) غُلامًا لَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ. وَقَالَ الَّذِي (3) ابْتَاعَ (4) العبدَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: بِالْعَبْدِ دَاءٌ (5) لَمْ تُسَمَّه لِي، فَاخْتَصَمَا إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بَاعَنِي (6) عَبْدًا وَبِهِ دَاءٌ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: بعتُه بِالْبَرَاءَةِ (7) ، فَقَضَى (8) عُثْمَانُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ، أَنْ يَحْلِفَ بِاللَّهِ: لَقَدْ بَاعَهُ وما (9) به داء يعلمه،
__________
(1) قوله: أنه باع، هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره ان البائع هو سالم بن عبد الله بن عمر، وألفاظ الرواية تأبى عنه، فالصحيح ما في "موطأ يحيى" مالك عن يحيى عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ الله بن عمر باع غلاماً له (شرح الزرقاني 3/255) الحديث.
(2) قوله: أنه باع، هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره ان البائع هو سالم بن عبد الله بن عمر، وألفاظ الرواية تأبى عنه، فالصحيح ما في "موطأ يحيى" مالك عن يحيى عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر باع غلاماً له (شرح الزرقاني 3/255) الحديث.
(3) أراد بذلك الردَّ على ابن عمر بخيار العيب.
(4) أي اشتراه.
(5) أي مرض لم تذكره لي عند البيع ولم تشترط البراءة منه.
(6) أي ابن عمر.
(7) أي بشرط البراءة عن كل عيب.
(8) أي حكم.
(9) نافية والواو حالية.(3/214)
فَأَبَى (1) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنْ يَحْلِفَ، فَارْتَجَعَ الْغُلامَ (2) فصحَّ (3) عِنْدَهُ الْعَبْدُ، فَبَاعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِ مِائَةِ دِرْهَمٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنا (4) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ بَاعَ غُلامًا
__________
(1) أي امتنع من الحلف (قال الباجي: لم يكن إباؤه عن اليمين، لأنه رضي الله عنه كان دلَّس بعيبه، وعلمُه وفهمُه يقتضي معرفته بأن لا أثم في يمين بارَّة، ولكنه لا يخلو من أحد أمرين، إما أنه اعتقد أن البيع بالبراءة يُبرِّئه مما علم وما لم يعلم، والثاني: التصاون عن اقتطاع الحقوق بالأَيْمان، وهكذا يجب أن يكون حكم ذوي الأنساب والأقدار. المنتقى 4/186) .
(2) قوله: فارتجع الغلام، أي من المشتري إلى ابن عمر بسبب العيب لمّا امتنع ابن عمر من الحلف.
(3) أي صحَّ عن المرض عند ابن عمر (في المغنى 4/198: فباعه ابن عمر بألف درهم، وكذا في التلخيص الحبير 3/24، وفي الموطأ بألف وخمسمائة درهم، هذا هو الصحيح، أما ما جاء بألف إما غلط من الناسخ أو الراوي اكتفى على ذكر الألف وترك المئات اختصاراً. أوجز المسالك 11/69) .
(4) قوله: بلغنا عن زيد إلخ، قد ذكر الشُّمُنِّي وغيره من أصحابنا أنَّ الذي اشترى العبد من ابن عمر وجرى معه ما جرى كان زيد بن ثابت، وهذا البلاغ الذي ذكره صاحب الكتاب يخالفه أنه لو كان مذهب زيد في ذلك البراءة المطلقة لما خاصم مع ابن عمر عند عثمان بعد ما ذكر البراءة من كل عيب إلاَّ أن تكون عنه رويتان في ذلك مقدّمة ومؤخّرة، لكن الكلام في ثبوت كون المشتري المذكور هو زيد بن ثابت وتخاصمه مع ابن عمر، وقد ذكره من علماء الشافعية الرافعيُّ وغيره أيضاً، قال الحافظ في "تخريج أحاديثه": أخرجه مالك في "الموطأ" عن يحيى بن سعيد عن سالم عن أبيه، ولم يسمِّ زيد بن ثابت، وصححه البيهقي، وأخرجه يزيد بن هارون عن يحيى، وابن أبي شيبة عن عبّاد بن العوام عنه، وعبد الرزاق(3/215)
بالبراءة فهو بريْ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وَكَذَلِكَ بَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بِالْبَرَاءَةِ وَرَآهَا (1) بَرَاءَةً جَائِزَةً. فَبِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَأْخُذُ (2) مَنْ بَاعَ غُلامًا أَوْ شَيْئًا، وتبرَّأ (3) من كل عيب، ورضي بذلك المشتري
__________
من وجه آخر عن سالم ولم يسمِّ أحد منهم المشتري، وتعيين هذا المبهم ذكره في "الحاوي" للماوردي، وفي "الشامل" لابن الصبّاغ بغير إسناد، وزاد أنَّ ابن عمر كان يقول: تركت اليمين فعوَّضني الله عنها. انتهى. (التلخيص الحبير 3/24) .
(1) أي ابن عمر.
(2) قوله: نأخذ: أي لكونه موافقاً للقياس لا بقول عثمان، وقد اختلف العلماء فيه فمذهبنا أنه إذا شرط البراءة من كل عيب، وقَبِلَه المشتري ليس له أن يردَّه بعيب سواء سمى البائع جملة العيوب أو لم يسمِّ، وسواء علم عيوبَه أو لم يعلم بعضَها، لأنَّ في الإِبراء معنى الإِقساط، والجهالة في الإِسقاط لا تفضي إلى المنازعة، ويدخل فيه البراءة عن العيب الموجود وقت العقد، والحادث قبل القبض عند أبي حنيفة وأبي يوسف في ظاهر الرواية عنه، وقال محمد: لا يدخل فيه الحادث، وهو قول زُفَر والحسن والشافعي ومالك وأبي يوسف في رواية، وللشافعي في شرط البراءة أقوال: في قول: يبرأ مطلقاً، وفي قول: لا يبرأ عن عيب، لأن في البراءة معنى التمليك، وتمليك المجهول لا يصح، وبه قال أحمد في رواية، وفي رواية عنه: يبرأ عما لا يعلمه دون ما يعلمه، وفي قول الشافعي وهو الأصح عندهم، وهو رواية عن مالك: لا يبرأ في غير الحيوان، ويبرأ في الحيوان عما لا يعلمه دون ما يعلمه، كذا في "البناية".
(3) بأن قال: أبيع وأنا بريء من كل عيب فيه.(3/216)
وَقَبَضَهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ (1) عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ لأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ برَّأَه (2) مِنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ (3) قَالُوا: يبرَأُ الْبَائِعُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَمْ يَعْلَمْهُ، فَأَمَّا مَا عَلِمَهُ وَكَتَمَهُ (4) فَإِنَّهُ لا يبرأ منه، وقالوا (5) : إذا باعه بيع المبرأت (6) بَرِئَ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ عَلِمَهُ أَوْ لَمْ يعلمه (7) ، إذا قال: بعتك (8) بيعَ المبرات، فَالَّذِي يَقُولُ أَتَبَرَّأُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ، وبيَّن ذلك (9)
__________
(1) قوله: فهو بريء من كل عيب، لحديث: المسلمون عند شروطهم، أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة والترمذي والحاكم من حديث عمرو والدارقطني والحاكم من حديث أنس، وابن أبي شيبة مرسلاً عن عطاء، وفي رواية الترمذي زيادة: إلاَّ شرطاً حَرَّم حلالاً وأحلَّ حراماً، كذا في "التلخيص".
(2) أي البائعَ أي قَبِل براءته.
(3) أي علماؤها منهم مالك.
(4) أي لم يبيِّنْه للمشتري.
(5) قوله: وقالوا، الظاهر أن الضمير راجع إلى أهل المدينة، وقال القاري: أي والحال أن فقهائنا قالوا.
(6) بصيغة المجهول.
(7) بيان لبيع المبرات (في جميع نسخ الموطأ: بيع المبرات، وهو تحريف بيع الميراث، لأن بيع الميراث بيع براءة عندهم. انظر هامش الأوجز 11/69) .
(8) في نسخة: نبيعك.
(9) أي أوضح الإِبراء العام الذي هو مفاد بيع المبرأت(3/217)
أَحْرَى (1) أَنْ يَبْرَأَ لِمَا اشْتَرَطَ مِنْ (2) هَذَا، وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلُنَا وَالْعَامَّةِ.
12 - بَابُ بَيْعِ (3) الْغَرَرِ
774 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَازِمِ (4) بْنُ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5) نَهَى عن بيع الغَرَر.
__________
(في جميع نسخ الموطأ: بيع المبرات، وهو تحريف بيع الميراث، لأن بيع الميراث بيع براءة عندهم. انظر هامش الأوجز 11/69) .
(1) أي أليق لكونه مصرَّحاً.
(2) أي من بيع المبرات.
(3) أبو حازم: اسمه سلمة.
(4) أبو حازم: اسمه سلمة.
(5) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ، هذا حديث مرسل باتفاق رواة مالك، ورواه أبو حذافة عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو منكر، والصحيح ما في "الموطأ" ورواه ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد، وهو خطأ، وليس ابن أبي حازم بحجة إذا خالفه غيره، وهذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة، ومعلوم أن ابن المسيب من كبار رواته، كذا قال ابن عبد البر. وذكر في "التلخيص": أن النهي عن بيع الغرر أخرجه مسلم وأحمد وابن حبان من حديث أبي هريرة، وابن ماجة وأحمد من حديث ابن عباس، وفي الباب، عن سهل بن سعد عند الدارقطني والطبراني، وأنس عند أبي يعلى، وعلي عند أحمد(3/218)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. بَيْع الغَرَر كلُّه (1) فَاسِدٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ.
775 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا رِبَا (2) في الحيوان (3) ، وإنما نُهي (4)
__________
وأبي داود وعمران بن حصين عند ابن أبي عاصم، وابن عمر عند البيهقي وابن حبان.
(1) قوله: كله، أي بجميع أقسامه كبيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولبن في ضرع ونحو ذلك مما هو مبسوط في كتب الفقه.
(2) أي ليس التفاضل فيه بجنسه أو بغير جنسه رباً لعدم كونه موزوناً ولا عددياً متقارباً، وسيجيء تفصيل هذا فيما سيأتي.
(3) قوله: في الحيوان، قال الزرقاني: المختلف جنسه كمتحدٍ وبيع يداً بيد، فإنْ بِيع إلى أجل واختلفت صفاته جاز وإلا منع عند مالك وأجازه الشافعي مطلقاً، وهو ظاهر قول ابن المسيّب لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه أن يعطي بعيراً في بعيرين إلى أجل، فهو مخصَّص لعموم حرمة الربا، وأجيب بحمله على مختَلِف الصفة والمنافع، جمعاً بين الأدلة، ومنعه أبو حنيفة اتفقت الصفات أو اختلفت لقوله تعالى: (وحرم الربا) (سورة البقرة: الآية 275 تمام الشاهد: وأحل الله البيع وحرم الربا) وهذه زيادة. انتهى. وسيجيء تفصيل هذا البحث عن قريب إن شاء الله.
(4) قوله: وإنما نُهي، ذكر ابن حجر في "التلخيص" أنّ النهي عن بيع المضامين والملاقيح، أخرجه إسحاق بن راهويه والبزار من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعاً، وفي إسناده ضعف وفي الباب عن عمران بن حصين، وهو في البيوع لابن أبي عاصم، وعن عباس في "الكبير" للطبراني والبزار، عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، وإسناده قوي.(3/219)
عَنِ (1) الْحَيَوَانِ عَنْ ثَلاثٍ: (2) عَنِ الْمَضَامِينِ (3) وَالْمَلاقِيحِ (4) ، وحَبَل (5) الحَبَلَة. وَالْمَضَامِينُ (6) مَا فِي بُطُونِ (7) إِنَاثِ الإِبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال (8) .
__________
(1) في نسخة: من.
(2) أي ثلاث صور.
(3) جمع مضمون.
(4) جمع ملقوح.
(5) بفتحتين فيهما. وغلط من سكن الباء، قاله ابن حجر.
(6) هذا التفسير من مالك كما ذكره الزرقاني أو من ابن المسيب على ما ذكره شارح "المسند".
(7) أي من الأولاد.
(8) قوله: ما في ظهور الجمال، جمع جمل، وهو ذَكَر الإِبل لأنه يُلقح الناقة، ولذا سُمِّيت النخلة التي يُلقح بها الثمار فحلاً، قال الزرقاني: وافق الإِمام على هذه التفسير جماعة من الأصحاب، وعَكَسَه ابن حبيب فقال: المضامين ما في الظهور والملاقيح ما في البطون، وزعم أن تفسير مالك مقلوب، وتُعٌقِّب بأن مالكاً أعلم منه باللغة. انتهى. وفي "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي في حرف الضاد المعجمة: قال أبو عبيدة معمرة بن المثنى فيما رأيته في "غريب الحديث" له وهو أول من صنف غريب الحديث عند بعض العلماء، وعند بعضهم النضر بن شُميل، قال: المضامين ما في أصلاب الفحول، وكذلك قاله صاحبه أبو عبيد القاسم بن سلاّم، وكذلك ذكره الجوهري وغيرهم، وقال "صاحب المحكم": المضامين (قال ابن الأثير: جمع مضمون: وهو ما في صُلب الفحل، ضمن الشيء بمعنى تضمّنه، ومنه قولهم: مضمون الكتاب كذا وكذا. "جامع الأصول" 1/569) ما في بطون الحوامل كأنّهنّ تضمَنّه، وقال الأزهري في "شرح ألفاظ المختصر": المضامين(3/220)
776 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا نَافِعٌ (1) ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ (2) حَبَل الحَبَلة.
__________
ما في أصلاب الفحول سُمّيت بذلك لأنّ الله أودعها ظهورها، فكأنها ضمنتها، وحكى صاحب "مطالع الأنوار" عن مالك أنه قال: المضامين الأجنّة في البطون، وعن ابن حبيب من أصحابه: هو ما في ظهور الإِبل الفحول. انتهى. وفيه أيضاً في حرف اللام: واحد الملاقيح عند صاحب "صحاح اللغة" ملقوحة، وكذلك قال أبو عبيد والقاسم بن سلاّم والأزهري وغيرهم: إن الملاقيح الأجنّة في بطون الأمهات واحدها ملقوحة لأن امها لقحتها أي حملتها فاللاقح الحامل، ولم يخصّها الأزهري وابن الفارس بالإِبل وخصها أبو عبيد والجوهري بالإِبل. انتهى. ويظهر من هذا كلَّه أنهم اختلفوا في تفسير المضامين والملاقيح التي نُهي عن بيعها في الحديث بعد ما اتفقوا على أن المراد بهما ما في البطون من الأجنّة وما في أصلاب الفحول من النُّطف التي تكون مادّة للأولاد، ولم تقع بعد في الرحم، ففسر بعضهم الأول بالأول والثاني بالثاني، وعكس بعضهم ولكلٍ وجهة ومناسبة، وكان هذان البيعان من بيوع الجاهلية يبيعون ولد الناقة قبل أن تولد، وقبل أن تقع نطفة الفحل في البطن، وإنما نُهي عنهما لأن فيهما غرراً وبيع ما ليس عنده، وما لا يقدر على تسليمه. ولقد أعجب علي القاري حيث فسر قوله ما في ظهور الجمال بقوله من الوبر، وأراد به الشعر الذي على الظهر. ولعل ما ذكرنا ظاهر على كل من له مهارة في فنون الحديث وغريبه فكيف خفي على هذا المتبحِّر؟ ولا عجب، فإن لكل عالم زلة، ولكل جواد كبوة.
(1) كذا أخرجه الستة من حديث نافع عن ابن عمر، ذكره العيني.
(2) قوله: عن بيع حَبَل الحَبَلة، بفتح الباء والحاء فيهما ورواه بعضهم بسكون الباء في الأول، قال القاضي عياض: هو غلط، والصواب الفتح، والأول مصدر بحبلت المرأة، والحبل مختص بالآدميات ويقال في غيرهن من الحيوانات(3/221)
وَكَانَ (1) بَيْعًا يَبْتَاعُهُ الْجَاهِلِيَّةُ يَبِيعُ (2) أحدُهم الجَزُور (3) إِلَى أَنْ تُنْتَجَ (4) النَّاقَةُ (5) ، ثُمَّ تُنتَجُ الَّتِي في
__________
الحمل، قال أبو عبيد: لا يقال شيء من الحيونات حبل إلا ما جاء في هذا الحديث، والحَبَلة جمع حابل كَظَلَمَة وظالم، وقيل: الهاء للمبالغة. واختلفوا في المراد بحبل الحبلة المنهي عنه فقيل: هو البيع بثمن مؤجل إلى أن تلد الناقة، ويلد ولدها، وهذا تفسير ابن عمر ومالك والشافعي وغيرهم، وقيل: هو بيع ولد الناقة الحامل في الحال، وبه قال أبو عبيد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو أقرب إلى اللغة، والبيع فاسد على كلا المعنين، كذا في "تهذيب الأسماء واللغات". وفي "شرح المسند": قال ابن التين: محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين، وعلى الأول: هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها؟ وعلى الثاني هل المراد بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال. انتهى. فعِلَّة النهي إما جهالة الأجل أو أنه غير مقدور تليمه أو أنه بَيْع ما في بطون الأنعام، وحكى صاحب "المحكم" في تفسيره قولاً خامساً: أنه بَيْع ما في بطون الأنعام، وهو أيضاً من بيوع الغرر، لكن هذا إنما فسَّر به ابن المسيّب بيع المضامين كما رواه مالك، وفسَّر به غيره بيع الملاقيح، وحُكي عن ابن كيسان وأبي العباس المبرد أن المراد بالحبلة الكَرْمة، وحبلها أي حملها وثمرها قبل أن يبلغ الإِدراك، كما نُهي عن بيع ثمر النخلة حتى تزهي. وهو قول شاذ.
(1) هذا تفسير من ابن عمر، كذا ذكره ابن عبد البر.
(2) بيان لابتياع أهل الجاهلية.
(3) بفتح الجيم وضم الزاء: الناقة.
(4) قال السيوطي: بضمّ أوله وفتح ثالثه فعل لازم البناء للمفعول: أي تلد الناقة.
(5) قوله: الناقة، قال القاري: أي المبيعة. انتهى. وهذا قيد مخلّ مختل، والظاهر هو الإِطلاق.(3/222)
بَطْنِهَا (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَهَذِهِ الْبُيُوعُ كلُّها مَكْرُوهَةٌ، (2) وَلا يَنْبَغِي (3) لأَنَّهَا غَرَر عِنْدَنَا، وَقَدْ نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعِ الغَرَر.
13 - بَابُ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ
777 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى (4) عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمر بالتَّمْر (5) وبيع العنب بالزبيب كَيْلاً.
__________
(1) أي بعد كِبَرها.
(2) أي فاسدة غير جائزة.
(3) أي لا يجوز.
(4) قوله: نهى عن بيع المزابنة، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": زاد ابن بكير: والمحاقلة. والمزابنة (المزابنة بيع التمر على الشجر بجنسه موضوعاً على الأرض، من الزَبن وهو الدفع لأن أحد المتابعين إذا وقف على غبن فيما اشتراه أراد فسخ العقد وأراد الآخر إمضاءه وتزابنا أي تدافعا. وكل واحد يدفع صاحبه عن حقه لما يزداد منه، وخص بيع الثمر على رؤوس النخل بجنسه بهذا الاسم، لأن المساواة بينهما شرط وما على الشجر لا يحصر بكيل ولا وزن، وإنما يكون مقدراً بالخرص وهو حدث وظن لا يؤمن فيه من التفاوت. بذل المجهود 15/23) ، مشتقة من الزبن، وهو المخاصمة والمدافعة، والمحاقلة من الحقل وهو الحرث وموضع الزرع، قال ابن عبد البر: تفسير المزابنة في حديث ابن عمر وأبي سعيد. وتفسير المحاقلة في حديث أبي سعيد إما مرفوع أو من قول الصحابي الراوي، فيُسلّم له الأمر لأنه أعلم به.
(5) قوله: بيع الثمر بالتمر، الأول بالثاء المثلثة المفتوحة مع الميم كذلك،(3/223)
778 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ (1) ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2) نَهَى عَنْ بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ، وَالْمُحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، وَاسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالْحِنْطَةِ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَأَلْتُ (3) عَنْ كِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ (4) .
779 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَحْمَدَ (5) أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالُمَحَاقَلَةِ. وَالْمُزَابَنَةُ اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ فِي رؤوس النخل بالتمر، والمحاقلة كراء الأرض.
__________
وهو رُطَب النخل، والثاني بفتح التاء المثناة الفوقية: اليابس، وكذا الفرق بين العِنَب بكسر الأول وفتح الثاني والزبيب، فالأول رطب، والثاني يابس.
(1) قوله: السيوطي: أخرجه الخطيب في رواته من طريق أحمد بن أبي طيبة عيسى بن دينار الجرجاني، عن مالك، عن الزهري عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة به موصولاً.
(2) قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" وكذا عند بقية أصحاب ابن شهاب، وقد رَوى النهيَ جماعةٌ من الصحابة: منهم جابر وابن عمر وأبو هريرة ورافع بن خَديج وكلهم سمع منه ابن المسيب، كذا قال ابن عبد البر.
(3) في نسخة: سألنا. أي ابن المسيب.
(4) سيجيء تفصيل ما يتعلق بهذا المقام في "باب المعاملة والمزابنة".
(5) في نسخة: ابن أبي أحمد، وهو الصحيح الموافق لما مرّ في غير موضع.(3/224)
قَالَ مُحَمَّدٌ: الْمُزَابَنَةُ عِنْدَنَا اشْتِرَاءُ الثَّمَرِ (1) فِي رؤوس النَّخْلِ (2) بالتَّمْر كَيْلًا (3) لا يُدرى التمرُ الَّذِي أُعْطِيَ أَكْثَرُ (4) أَوْ أَقَلُّ، وَالزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لا يُدرى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ، وَالْمُحَاقَلَةُ اشْتِرَاءُ الحَبّ (5) فِي السُّنْبُلِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا لا يُدرى أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرُوهٌ (6) وَلا يَنْبَغِي مُبَاشَرَتُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ وَقَوْلُنَا (7) .
14 - بَابُ شِرَاءِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ
780 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد (8) ، عن سعيد بن
__________
(1) أي الرطب.
(2) قوله: في رؤوس النخل، هذا القيد من الصحابة وهو اتفاقي عند الجمهور كما أن قيد الكيل اتفاقي، فإنه متى كان جزافاً بلا كيل فهو أولى بالمنع وعن هذا لم يجوِّزوا بيع الرطب المجذوذ من النخل بتمر مجذوذ، ودلّ عليه زيد بن عياش، عن سعد، وقد مرّ البحث فيه.
(3) أي بالتخمين الجزاف.
(4) أي من الثمر على النخل.
(5) من الحنطة وغيرها.
(6) أي منهيّ عنه لعدم التساوي المشروط في الأموال الربوية.
(7) وهو قول الجمهور سلفاً وخلفاً، بل قول الكلّ (وهذه المسألة متفق عليها بين الأئمة. بذل المجهود 15/23) .
(8) عبد الله بن زكوان.(3/225)
الْمُسَيِّب قَالَ: نُهي (1) عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ. قَالَ (2) : قلتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أرأيتَ (3) رَجُلا اشْتَرَى شَارِفًا (4) بِعَشْرِ شياهٍ (5) - أَوْ قَالَ شَاةً - فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا لِيَنْحَرَهَا (6) فَلا خيرَ (7) فِي ذَلِكَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: وَكَانَ مَنْ أدركتُ مِنَ النَّاسِ يَنْهَوْن عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ، وَكَانَ يُكْتَبُ فِي عُهُود (8) العمّال (9) في زمان (10) أبَانَ (11) وهشام (12)
__________
(1) بصيغة المجهول.
(2) أي أبو زناد.
(3) أي أخبرني.
(4) قوله: شارفاً، قال الزرقاني: بشين معجمة وألف وراء مهملة وفاء: المُسِنّة من النُّوْق، والجمع الشرف.
(5) جمع شاة.
(6) أي ليذبحها، وفي نسخة: ليتّجرها.
(7) قوله: فلا خير في ذلك، أي لا يجوز إذ كأنه اشترى الحيوان بلحم، فإنْ لم يرد نحرها جاز لأن الظاهر أنه اشترى حيواناً بحيوان فيوكَلُ إلى نيته وأمانته، ولا ربا في الحيوان، كما مرّ عنه، قاله إسماعيل القاضي المالكي نقله عنه الزرقاني.
(8) بالضم جمع عهد أي دفاتر أحكامهم.
(9) جمع عامل.
(10) هو زمان عبد الملك بن مروان.
(11) أي ابن عثمان بن عفان.
(12) أي ابن إسماعيل المخزومي. وسيأتي ذكره في "باب عهدة الثلاث والسنة".(3/226)
يُنْهَوْن (1) عَنْ ذَلِكَ (2) .
781 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يقول: وكان من مَيْسر (3) أهل الجاهلية يَبْع اللَّحم بِالشَّاةِ وَالشَّاتَيْنِ.
782 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ بلغه (4) : أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (5) نَأْخُذُ. مَنْ بَاعَ لَحْمًا مِنْ لحم الغنم بشاةٍ حيّة
__________
(1) معروف أو مجهول.
(2) أي عن بيع الحيوان باللحم.
(3) بفتح الميم وكسر السين كالقمار.
(4) قوله: أنه بلغه، لم يذكره في "موطأ يحيى" وإنما فيه عن زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث. قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل من وجه ثابت، وأحسنُ أسانيده مرسل سعيد هذا، ولا خلاف عن مالك في إرساله، ورواه يزيد بن مروان عن مالك عن ابن شهاب عن سهل بن سعد. وهذا إسناد موضوع لا يصح عند ملك. انتهى. وقال الحافظ في "التلخيص": أخرجه أبو داود في "المراسيل" ووصله الدارقطني في "الغريب" عن مالك عن الزهري عن سهل، وحَكَم بتضعيفه، وصوّب الرواية المرسلة التي في "الموطأ"، وتبعه ابن عبد البر وابن الجوزي، وله شاهد من حديث ابن عمر، عند البزار، وفيه ثابت بن زهير ضعيف، وله شاهد أقوى منه من رواية الحسن عن سمرة. وقد اختُلف في صحة سماعه منه، أخرجه الحاكم والبيهقي وابن خزيمة. انتهى.
(5) قوله: وبهذا نأخذ، اختلفوا فيه فجوّز أبو حنيفة وأبو يوسف والمزني تلميذ الشافعي بيع اللحم بالحيوان سواء كان اللحم من جنس ذلك الحيوان أو لا(3/227)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
مساوياً لما في الحيوان أو لا، بشرط التعجيل، أما بالنسيئة فلا، لا لإمتناع السلم في الحيوان واللحم وذلك لأنه باع موزوناً بما ليس بموزون، إذ الحيوان ليس بموزون عادةً، ولا يُعرف قدر ثقله بالوزن، لأنه يثقل نفسه تارة ويخففها أخرى، واتحاد الجنس مع اختلاف المقدارية لا يمنع التفاضل، وإنما يمنع النَساء فقلنا به. وقال محمد: إن باعه بلحم غير جنسه كلحم البقر بالشاة الحية، ولحم الجَزُور بالبقرة الحية يجوز كيف ما كان، وإن كان من جنسه كلحم شاة بشاة حية، فشرطه أن يكون اللحم المفرز أكثر من اللحم الذي في الشاة ليكون لحم الشاة بمقابلة مثله من اللحم، وباقي اللحم بمقابلة السقط، وهو ما لا يُطلق عليه اسم اللحم كالكرش والجلد والأكارع ولو لم يكن كذلك يتحقق الربا، إما لزيادة السقط إن كان اللحم المفرز مثل لحم الحيوان، أو زيادة اللحم إن كان لحم الشاة أكثر، فصار كبيع الحلّ أي دهن السمسم بالسمسم، والزيتون بدهنه، فإنه لا يجوز إلا على ذلك الاعتبار، ولو كانت الشاة مذبوحة مسلوخة إذا تساويا وزناً جاز اتفاقاً إذا كانت مفصولة عن السقط وإن كانت بسقطها لا يجوز غلا على الاعتبار المذكور. وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان أصلاً في متحد الجنس (قال الموفق: لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه، وهو مذهب مالك والشافعي وقول فقهاء المدينة السبعة. وحُكي عن مالك: أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معدّ للذبح، ويجوز بغيره، وقال أبو حنيفة: يجوز مطلقاً، لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه، أشبه بيع اللحم بالدرهم أو بلحم من غير جنسه. المغني 7/37) ، ولو باعه بلحم من غير جنسه، فقال مالك وأحمد يجوز، وللشافعي قولان، والأصح: لا، لعموم النهي. ولا يخفى أن السمع وارد بالنهي مطلقاً، فمنه قويّ، ومنه ضعيف، فمن القوي رواية مالك، وأبي داود في المراسيل - ومرسل سعيد بن المسيب حجة بالاتفاق - وأخرجه ابن خزيمة، عن أحمد بن حفص السلمي: حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج بن الحجاج، عن قتادة عن الحسن عن(3/228)
لا يُدى اللحمُ (1) أَكْثَرُ أَوْ مَا فِي الشَّاةِ أَكْثَرُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ (2) مكروهٌ لا يَنْبَغِي. وَهَذَا مِثْلُ الْمُزَابَنَةِ (3) وَالْمُحَاقَلَةِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ ودُهن السِّمْسِم (4) بالسِّمْسِم.
15 - بَابُ الرَّجُلِ يُساوِمُ الرجلَ بِالشَّيْءِ فَيَزِيدُ عَلَيْهِ أَحَدٌ
783 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يبع (5) بعضكم على
__________
سمرة، وقال البيهقي: إسناده صحيح، ومن أثبت سماع الحسن، عن سمرة فهو عنده موصول، ومن لم يثبته فهو عنده مرسل جيد، والمرسل عندنا حجة مطلقاً، وأسند الشافعي إلى رجل مجهول من أهل المدينة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع حيّ بميت، وأسند أيضاً عن أبي بكر الصديق أنه نهى عن بيع اللحم بالحيوان، وبسنده إلى القاسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن أنهم كرهوا ذلك، كذا حقّقه ابن الهمام في "فتح القدير"، وكأنه أشار إلى ترجيح ما وافقته الروايات الحديثية.
(1) أي المفرز المبيع.
(2) لاحتمال الربا.
(3) أي في تحقيق شبهة الربا.
(4) بكسر السينين (كنجد) بالفارسية.
(5) قوله: لا يبع (في الحديث أربعة أبحاث: الأول: في معنى البيع، والثاني: في المراد بالبعض، والثالث: في شرط النهي، والرابع: فيمن خالف الحديث فباع على البيع. انظر الأوجز 11/266) ، بالجزم على النهي، وفي رواية: لا يبع بالخبر مراداً به لنهي. قال الباجي: أي لا يشتر، وقال ابن حبيب: إنما النهي للمشتري على(3/229)
بعض (1) .
__________
البائع، قال الباجي: ويُحْتَمَل حملُه على ظاهره، فيُمنع البائع أيضاً أن يبيع على يبيع أخيه إذا ركن المشتري إليه، وقال عياض: الأَوْلى حمله على ظاهره، وهو أن يعرض سلعة على المشتري برخص ليزهِّده في شراء سلعة الآخر الراكن إلى شرائها، وقال الأُّبِّي: البيع حقيقةً إنما هو إذا انعقد الأول فلما تعذّرت الحقيقة حُمل على أقرب المجاز إليها، وهو المراكنة، وإذا كانت العلّة ما يؤدي إليه من الضرر فلا فرق بين المساوم على سوم غيره، والبيع على البيع، كذا في "شرح الزرقاني". وبهذا يظهر أن ما اختاره صاحب الكتاب من حمل هذا الحديث على السوم على سوم غيره ليس على ما ينبغي فإن النهي عنه مفاد الحديث: لا يسوم الرجل على سوم أخيه، وفي رواية: لا يستام الرجل، أخرجه المصنف في كتاب "الآثار" والشيخان وغيرهم من حديث أبي هريرة، والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عمر. وأما حديث الباب فقد أخرج نحوه الشيخان من حديث أبي هريرة ومسلم من حديث عقبة فلا ضرورة فيه على حمله على السوم وإن كان ذلك صحيحا بناء على أن البيع من الأضداد يُطلق على الشراء أيضا بل هو محمول على ظاهره المتعارف فكما أن الشراء على الشراء مكروه كذلك البيع على البيع (قال الحافظ ابن حجر: البيع على البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن الخيار افسخ لأبيعك بأنقص أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأزيد، وهو مجمع عليه، وأما السوم فصورته أن يأخذ شيئاً ليشتريه فيقول له ردّه لأبيعك خيراً منه بثمنه أو مثله بأرخص منه، أو يقول للمالك استرده لأشتريه منك بأكثر. فتح الباري 4/353) .
(1) زاد ابن وهب والقعنبي وعبد الله بن يوسف في هذا الحديث عن مالك بسنده: ولا تلقّوا السلع حتى تُهبط بها إلى الأسواق، قال ابن عبد البر: هي زيادة محفوظة من حديث مالك وغيره عن نافع عن ابن عمر.(3/230)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي إِذَا سَاوَمَ (1) الرجلُ الرجلَ بِالشَّيْءِ أَنْ يَزِيدَ (2) عَلَيْهِ (3) غيرُه فِيهِ حَتَّى يَشْتَرِيَ أَوْ يَدَعَ (4) .
16 - بَابُ مَا يُوجِبُ الْبَيْعَ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
784 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (5) نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أن
__________
(1) السوم والاستيام تشخيص قيمة شيء وتقديرها عند المبايعة، قال في "منتهى الأرب": الاستيام (بهاوكردن) بالفارسية.
(2) قوله: أن يزيد، إنما يُكره (قال الحافظ: ذهب الجمهور إلى صحة البيع المذكور مع تأثيم فاعله، وعند المالكية والحنابلة في فساده روايتان، وبه جزم أهل الظاهر. فتح الباري 4/35) هذا إذا تراوض الرجلان على السلعة، البائع والمشتري وركن أحدهما إلى الآخر، فساومه آخر بالزيادة لأن فيه إضراراً وأما إذا ساوم الرجل ولم يجنح قلب البائع إليه فلا بأس للآخر أن يساوم بالزياد لأن هذا بيع من يزيد وهو جائز، كذا في "شرح الطحاوي".
(3) أي على ذلك الرجل القاصد للشراء المساوم.
(4) أي يترك فيشتريه الآخر.
(5) قوله: أخبرنا نافع، قال الزرقاني: أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى كلاهما عن مالك به وتابعه يحيى القطان وأيوب والليث في الصحيحين، وعبيد الله وابن جريج عند مسلم، كلهم عن نافع نحوه، وتابع نافعاً عبدُ الله بن دينار عن ابن عمر عند الشيخين، وجاء أيضاً من حديث حكيم بن حزام عند البخاري. انتهى. وذكر الحافظ في "تخريج أحاديث الهداية" أنه جاء من حديث سَمُرة، أخرجه النسائي وابن ماجة ونحوه لأبي داود عن أبي بُردة، وللنسائي عن عبد الله بن عمرو. انتهى. وقال السيوطي: هذا أحد الأحاديث التي رواها(3/231)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الْمُتَبَايِعَانِ (1) كلُّ واحدٍ مِنْهُمَا بالخِيار (2) عَلَى صَاحِبِهِ ما لم يتفرَّقا (3) ، إلاَّ بيعَ
__________
مالك في "الموطأ" ولم يعمل به. قال مالك بعد روايته: ليس لهذا الحديث عندنا حدٌّ معروف، ولا أمر معمول به، وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنَّ هذا الحديث ثابت وأنه من أثبت ما نَقَل العدول، وأكثرهم استعملوه وجعلوه أصلاً من أصول الدين في البيوع، وردَّه مالك وأبو حنيفة وأصحابهما، ولا أعلم أحداً ردَّه غير هؤلاء (في قوله: لا أعلم أحداً رده غير هؤلاء، قصور كبير من مثله، فقد نقل عياض وغير عن معظم السلف وأكثر أهل المدينة وفقهائها السبعة - وقيل إلاَّ ابن المسيب - إلى آخر ما بسطه الزرقاني والحافظ في الفتح. كذا في أوجز المسالك 11/319) ، وقال بعض المالكيين: دفعه مالك بإجماع أهل المدينة على ترك العمل به وذلك عنده أقوى من خبر الرجال، وقال بعضهم: لا تصح هذه الدعوى، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب رُوي عنهما العمل به، وهما من أجلِّ فقهاء المدينة، ولم يُرْوَ عن أحد ترك العمل به نصّاً إلاَّ عن مالك، وربيعة يخلف عنه، وقد كان ابن أبي ذئب وهو من فقهاء المدينة في عصر مالك يُنكر على مالك اختياره ترك العمل به. انتهى.
(1) أي كل واحد من البائع والمشتري، وفي رواية للصحيحن: البيِّعان.
(2) أي في القبول والردّ.
(3) قوله: ما لم يتفرَّقا، اختلفوا في تأويله على أقوال: الأول: أن معناه التفرُّق بالأقوال وهو قول إبراهيم النخعي وسفيان الثوري في رواية وربيعة الرأي ومالك وأبي حنيفة ومحمد فقالوا: المراد به أنه إذ قال البائع: بعت، وقال المشتري: اشتريت، فقد تفرَّقا بالأقوال، ولا شيء لهما بعد ذلك من خيار، ويتم البيع، ولا يقدر المشتري على ردّ البيع إلاَّ بخيار الرؤية أو خيار العيب أو(3/232)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
خيار الشرط. الثاني: أن المراد التفرُّق بالأبدان فلا يتمُّ البيع بدونها، وبه يلزم البيع، وهو قول ابن المسيّب والزهري وعطاء بن أبي رباح وابن أبي ذئب وسفيان بن عيينة والأَوْزاعي والليث بن سعد وابن أبي مُلَيكة والحسن البصري وهشام بن يوسف وابنه عبد الرحمن وعبد الله بن حسن القاضي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وأهل الظاهر، وحدّ التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى لا يراه، قاله الأَوْزاعي، وقال الليث: أن يقوم أحدهما، وقال آخرون: هو افتراقهما من مجلسهما، أو نقلهما. وحجتهم في ذلك بأنه ورد في الخبر لفظ: المتبايعين واسم البيع لا يجب إلاَّ بعد البيع، وسلفهم في ذلك من الصحابة: ابن عمر، فإنه حمل الحديث على التفرق بالأبدان، وأثبت به خيار المجلس، فكان إذا ابتاع بيعاً وهو قاعد، قام ليجب له، أخرجه الترمذي وغيره. وأبو برزة الأسلمي فإنَّ رجلين اختصما إليه فرس بعد ما تبايعا وكانا في سفينة، فقال: لا أراكما افترقتما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، حكاه الترمذي، وأخرجه أبو داود والطحاوي وغيرهما. والقول الثالث: أن معناه التفرق بالأبدان، لكن لا على ما فهمه أصحاب القول الثاني، قال عيسى بن أبان معناه أن الرجل إذا قال لرجل: قد بعتك عبدي هذا بألف درهم، فللمخاطب بذلك القول أن يقبل ما لم يفارق صاحبه، فإذا افترقا لم يكن له بعد ذلك أن يقبل، قال: ولولا أن هذا الحديث جاء ما علمنا ما يقطع للمخاطب من القبول، فلما جاء هذا الحديث علمنا أن افتراق أبدانهما بعد المخاطبة بالبيع يقطع القبول، قال: وهذا أَوْلى ما حُمل عليه الحديث (قال شيخنا في الأوجز 11/318: والأوجه عندي في معنى الحديث - إن كان صحيحاً فمن الله، وإن كان خطأ فمِنّي ومن الشيطان - أن المراد بالتفرق هو التفرق بالأبدان، والمراد بالمتبايعين المتساومان، والحديث من باب خيار القبول في المجلس، والمعنى أن كل واحد منهم بالخيار في المجلس، البائع في النُّكول عن الإِيجاب والمشتري في القبول، فإذا انقضى المجلس فلم يبقَ الإِيجاب ولا حقُّ القبول، فتأمل. ثم رأيت الحافظ قد حكاه عمن سلف فللَّه الحمد والمنَّة، فقال: وقالوا: وقت التفرق في الحديث هو ما بين قول البائع قد بعتك وبين قول المشتري اشتريت، قالوا: فالمشتري بالخيار في قوله: اشتريت أو تركه، والبائع بالخيار إلى أن يوجب المشتري، هكذا حكاه الطحاوي عن عيسى بن أبان منهم، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك. اهـ) ، لأنّا رأينا الفرقة التي لها حكم فيما اتفقوا عليه(3/233)
الخيار (1) .
__________
هي الفرقة في الصرف، فكانت تلك الفرقة إنما يجب بها فساد عقد متقدِّم ولا يجب بها صلاحه، وهذه الفرقة المرويَّة في خيار المتبايعين إذا جعلناها على ما ذكرنا فسد بها ما كان تقدم من عقد المخاطب، وإن جعلناها على ما قالت الفرقة الثانية يتم بها بخلاف فرقة الصرف، ولم يكن لها أصل فيما اتفقوا عليه، وهذا التفسير مروي أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله، هذا ملخَّص ما في "شرح معاني الآثار" (2/203) للطحاوي، وشرحه المسمى "بنخب الأفكار في تنقيح معاني الاثار" للعيني، ولعل المنصف غير (في الأصل: الغير وهو خطأ) المتعصب يستيقن بعد إحاطة الكلام من الجوانب في هذا البحث والمتأمل فيما ذكرنا وما سنذكره أن أولى الأقوال هو ما فهمه الصحابيان الجليلان، وفهم الصاحبي وإن لم يكن حجة لكنه أولى من فهم غيره بلا شبهة، وإنْ كان كل من الأقوال مستنداً إلى حجة.
(1) قوله: إلاَّ بيعَ الخيار، أي إلاَّ بيع شُرط فيه الخيار إلى ثلاثة أيام، فإنه يبقى فيه الخيار بعد تفرُّق الأقوال أيضاً، وكذا بعد تفرُّق الأبدان، وهذا أحد المعاني التي ذُكرت فيه وهو مشترك بين القائلين بالتفرُّق قولاً وبين القائلين بالتفرُّق بدناً، فإنهم متفقون على بقاء الخيار في البيع بشرط الخيار بعد التفرُّق. وثانيها: أن معناه إلاَّ بيعاً شُرط فيه أن لا خيار لهما في المجلس فيلزم بنفس البيع ولا يكون فيه خيار، وهذا مختصٌّ بالقائلين بالتفرُّق بدناً الذي يحتجون بهذا الحديث لإِثبات خيار المجلس. وثالثها: قال النووي: وهو أصحُّها أي على رأيهم أن المراد التخيير(3/234)
قال محمد: وبهذا (1) نأخذ،
__________
بعد تمام العقد قبل مفارقة المجلس يعني يثبت لهما الخيار ما لم يتفرَّقا إلاَّ أن يتخايرا في المجلس، ويختارا إمضاء البيع فيلزم البيع بنفس التخاير، ولا يدوم إلى المفارقة (انظر بذل المجهود 15/127) .
(1) قوله: وبهذا نأخذ، وفيه وفي قوله الآخر بعد ذكر التفسير: وهو قول أبي حنيفة: تصريح بأنهما لم يتركا هذا الحديث بالقياس ولم يَدَعا العمل به كما هو المشهور على الألسنة، بل إنهما حملا الحديث على ما حَمَل عليه النخعي، أخذا به واحتجّا به في إثبات خيار القبول فيما إذا أَوْجَبَ أحد المتبايِعَيْن فإنَّ للآخر حينئذٍ الخيار في أن يقبلَه أو يردَّه ما لم يتفرقا قولاً، فإذا تفرَّقا قولاً وتمَّ الكلام من الجانبين إيجاباً وقبولاً فلا خيار له إلاَّ في بيع الخيار الذي يكون شرط الخيار لأحدهما أو لهما إلى ثلاثة أيام، كما هو مذهب غيره وقد أورد البيهقي في "سننه" قاصدا التشنيع على أبي حنيفة، من طريق ابن المديني، عن سفيان يعني ابن عيينة أنه حدث الكوفيين بحديث البيّعان بالخيار، قال: فحدثوا به أبا حنيفة، وقال: إن هذا ليس بشيء أرأيتَ إن كانا في سفينة إلخ، قال ابن المديني: إن الله سائله عما قال. انتهى.
قال السيد مرتضى الحسيني في "عقود الجواهر المنيفة في أدلة الإِمام أبي حنيفة": هذه حكاية منكرة لا تليق بأبي حنيفة مع ما سارت به الرُّكبان، وشُحنت به كتب أصحابه ومخالفيه من شدة ورعه وزهده ومخافته من الله وشدة احتياطه في الدين، وعلى تقرير صحة الحكاية لم يُرد بقوله هذا ليس بشيء: الحديث، وإنما أراد أنه ليس هذا الاحتجاج بشيء يعني تأويله بالتفرُّق بالأبدان، فلم يردّ الحديث، بل تأويله بأن التفرق المذكور فيه هو التفرق بالأقوال، ولهذا قال: أرأيت لو كانا في سفينة أو تاويل المتبايعين بالمتساومين، وهو لم ينفرد(3/235)
وَتَفْسِيرُهُ (1) عِنْدَنَا عَلَى مَا بَلَغَنَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعي أَنَّهُ قَالَ: المتبايعان
__________
باجتهاده في هذا القول، بل وافقه عليه شيخ إمامه الذي يُقتدى به، وشيخه من قبل والثوري والنخعي وغيرهم. انتهى.
(1) قوله: وتفسيره عندنا، لما ورد على قوله: وبهذا نأخذ، أن الحديث بظاهره يثبت خيار المجلس، والحنفية ليسوا بقائلين به، فكيف يصح قوله وبهذا نأخذ؟ أشار إلى الجواب عنه بتفسير الحديث بالتفرُّق القولي، وقد طال الكلام بين أصحاب التفرُّق القولي ومثبتي خيار المجلس نقضاً ودفعاً. أما أصحاب خيار المجلس فأوردوا على أصحاب التفرق القولي بوجوه:
- الأول: أنه تفسير مخالف للمتبادر، والجواب عنه على ما في "شرح معاني الآثار" و "فتح القدير" وغيرهما أن التفرق كثيراً ما استُعمل في الكتاب والسنَّة في التفرُّق القولي، كما في قوله تعالى: (وما تفرَّق الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينة) (سورة البينة: الآية 4) ، وقوله تعالى: (وإنْ يتفرَّقا يُغْن اللَّهُ كلاًّ من سَعَته) (سورة النساء: الآية 130) . والمراد به تفرق قول الزوجين في الطلاق بأن يقول الزوج طلقتك، والمرأة قبلت، وقوله صلى الله عليه وسلم: افترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.
- والثاني: أن الخبر ورد بلفظ المتبايعين والبيِّعين، وهذا اللفظ لا يُطلق إلاَّ بعد حصول التفرُّق القولي وتمام العقد، فلا يكون الخيار إلاَّ بعده وإن هو إلاَّ خيار المجلس، فلا بد أن يُحمل التفرق على التفرق البدني، والجواب عنه على ما في "الهداية" وشروحها أن هذا إغفال منهم عن مقتضى اللغة، فإن المتساومين أيضاً قد يسمَّيان متابعين لمناسبة القرب وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا يبيع الرجل على بيع أخيه، فقد سمى قرب البيع بيعاً، فيمكن أن يكون سمى غير (في الأصل الغير وهو خطأ) المتفرقين قولاً في هذا الحديث بالمتبايعين لقربهما منه، وأيضاً المتبايع بالحقيقة إنما يكون من يباشر العقد، لا قبله ولا بعده، فإن كلاًّ منهما(3/236)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
بعد الفراغ وقبل المباشرة متبايع مجازاً باعتبار ما كان أو ما يكون، وحالة المباشرة إنما هي ما إذا صدر عن أحدهما الإِيجاب وقَصَد الآخر تلفُّظ القبول، ولم يتفرغ بعد.
- والثالث: أن هذا التفسير يخالف ما فهمه ابن عمر، وعمل على وفقه كما مرَّ ذكره، فلا يُعتبر به وأجاب عنه الزيلعي وغيره بأنه تقرَّر في الأصول أن تأويل الصحابي لمحتمل التأويل، واختياره لأحد التأويلين ليس بحجة ملزمة على غيره، ولا يمنعه عن اختيار تأويل يغايره وفيه نظر ظاهر عندي فإنه بعد تسليم ما حقق في "الأصول" لا شبهة في أن تأويل الصحابي أقوى وأحرى بالقبول من تأويل غيره، وتقليده أولى من تقليد غيره، وقال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": قد يجوز أن يكون ابن عمر أشكلت عليه الفُرقة التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ما هي؟ فاحتملت عنده الفرقة بالأبدان على ما ذهب إليه عيسى بن أبان، واحتملت عنده الفرقة بالأقوال على ما ذهبنا إليه ولم يحضره دليل يدل أنه بأحدهما أولى منه بما سواه، ففارق بائعه ببدنه احتياطاً، ويحتمل أيضاً أن يكون فعل ذلك لأن بعض الناس يرى أن البيع لا يتم إلاَّ بذلك، وهو يرى أن البيع يتم بغيره، فأراد أن يتم البيع في قوله وقول مخالفه. انتهى.
وهو ليس بشيء فيما يظهر لي فإن مثل هذه الاحتمالات لو اعتُبرت لم يحصل الجزم بكون فعل واحد من الصحابة أمراً مذهباً له لجواز أن يكون فعله احتياطاً، وظاهر سياق قصة ابن عمر المرويَّة في الكتب تشهد شهادة ظاهرة على أنه كان مذهباً له، وهو الذي نسبه إليه أصحاب الاختلاف، وذكروه في معرض الخلاف.
ثم قال الطحاوي: وقد رُوي عنه ما يدلُّ على ان رأيه كان الفُرقة بخلاف ما ذهب إليه البيع يتم بها، وذلك أن سليمان بن شعيب قال: نا بشر بن بكر، حدثني الأَوْزاعي، حدثني الزهري، عن حمزة بن عبد الله عن ابن عمر أنه قال: ما أدركت الصفقة حياً فهو من مال المبتاع، فهذا ابن عمر قد كان يذهب فيما أدركت الصفقة حياً فهلك بعدها أنه من مال المشتري، فدل ذلك على أنه كان يرى أن الصفقة تتم بالأقوال قبل الفرقة التي تكون بعد ذلك وأن المبيع ينتقل بذلك من ملك البائع إلى المشتري حتى يهلك من ماله إذا هلك. انتهى.(3/237)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
وعندي فيه ضعف ظاهر، فإنه ليس فيه التصريح بنفي خيار المجلس ولزوم البيع قبل التفرُّق البدني، وغاية ما فيه الإِطلاق وتقييده بالهلاك بعد التفرق سهل لا سيما إذا عُلم أنه كان مذهبه ذلك، أنه لا يلزم البيع إلاَّ بعد الفرقة وإذا جاز ذكر الاحتمال في ذلك الأثر جاز فيه بالطريق الأَوْلى مع أنه لا لزوم بين كونه ملكاً للمشتري وبين انتفاء خيار المجلس، فإن حصول الملك لا ينافي خيار الرؤية وخيار العيب، فيجوز أن لا ينافي خيار المجلس أيضاً. والرابع: أنَّ هذا التفسير يخالف ما قضى به أبو برزة، ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطحاوي والبيهقي أنهم اختصموا إليه في رجل باع جارية فنام معها البائع، فلما أصبح قال: لا أرضى، فقال أبو برزة: إن النبي عليه السلام قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا وكانا في خباء شَعره.
وأخرجا أيضاً عن أبي الوضيء: نزلنا منزلاً، فباع صاحب لنا من رجل فرساً، فأقمنا في منزلنا يومَنا وليلَتَنَا، فلما كان الغد قام الرجل يسرِّج فرسه، فقال صاحبه: إنك قد بعتني، فاختصما إلى أبي برزة، فقال: إن شئتما قضيتُ بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا وما أُراكما تفرقتما.
وأجاب عنه الطحاوي بقوله: في هذا الحديث ما يدُّل على أنهما تفرَّقا بأبدانهما، لأن فيه أن الرجل قام يسرِّج فرسه، فقد تنحّى بذلك من موضع إلى موضع فلم يراعِ أبو برزة ذلك، وقال: ما أراكما تفرَّقتُما؟ أي لمّا كنتما متشاجِرَيْن أحدكما يدَّعي البيع والآخر يُنكره لم تكونا تفرقتما الفُرقة التي يتمُّ بها البيع. انتهى.
ولي فيه نظر: أما أولاً فلأنَّ هذا التأويل إن صح في الأثر الثاني لم يصح في الأثر الأول، وأما ثانياً فلأنه يحتمل أن يكون أبو برزة يظن أن الافتراق إنما يكون بغيبوبة أحدهما من الآخر، لا مجرَّد القيام والافتراق فلا يلزم عليه رعاية التنحِّي، وأما ثالثاً: فلأنَّ حمل التفرُّق الواقع في كلام أبي برزة على التفرُّق القولي مما يأبى عنه الفهم السليم، وكيف يُظَنُّ به أنه حكم بمجرد التخاصم بعدم التفرُّق القولي،(3/238)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
ولم يطلب من المدَّعي بيِّنته ولا من المدَّعى عليه حلفاً؟ وبالجملة فلا شبهة في أن ابن عمر وأبا برزة ذهبا إلى التفرُّق البدني وتأويل كلماتهما بما يأبى عنه السباق والسياق غير مرضي، غاية ما في الباب أن لا يكون قولهما ومذهبهما حجة على غيرهما، وهو أمر آخر قد عرفتَ ما عليه.
وأما أصحاب التفرق القولي، فأوردوا لتأييد تفسيرهم وإبطال ما ذهب إليه مخالفهم وجوهاً عديدة: منها أن إثبات خيار المجلس وحمل التفرُّق على التفرق البدني يخالف قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أَوْفوا بالعقود) (سورة المائدة: الآية 1) ، وهذا عقد قبل التخيير. وقوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاَّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم) (سورة النساء: الآية 29) . وبعد الإِيجاب والقبول يصدق (تجارةً عن تراضٍ) من غير توقُّف على التخيير، فقد أباح الله الأكل قبله، وقوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتُم) (سورة البقرة: الآية 282) فإنه أمر بالتوثُّق بالشهادة كيلا يقع التجاحد للبيع، والبيع يصدق قبل الخيار بعد الإِيجاب والقبول، فلو ثبت الخيار وعدم اللزوم بعده للزم إبطال هذه النصوص، وفيه ما ذكره ابن الهمام في "فتح القدير" من أنّا نمنع تمام العقد قبل الافتراق، والتخيير، ونقول: العقد الملزم إنما يُعرف شرعاً، وقد اعتبر الشرع في كونه ملزماً اختيار الرضى بعد الإِيجاب والقبول بالأحاديث الصحيحة، وكذا لا يتمُّ التجارة عن التراضي إلاَّ به شرعاً، فإنما أباح الأكل بعد الاختيار، والبيع وإنْ صَدَق بعد الإِيجاب والقبول لكن التام منه متوقِّف على الافتراق أو الاختيار. ومنها أن إثبات خيار المجلس يعارضه حديث النهي عن البيع الغَرَر، فإنَّ كل واحد لا يدري ما يحصل له هل الثمن أم المثمّن. ومنها أنه خيار مجهول العاقبة فيبطل خيار الشرط إذا كان كذلك. وفيهما ما فيهما، فإنه منقوص بخيار الرؤية وخيار التعيين وغير ذلك، ومنها ما ذكره الطحاويّ أن حديث: من ابتاع(3/239)
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، قَالَ: مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا عَنْ مَنْطِقِ (1) الْبَيْعِ إِذَا قَالَ الْبَائِعُ: قَدْ بعتُك فَلَهُ (2) أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يقل (3) الآخرُ: قد اشتريت، فإذا قال
__________
طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه، يدل على أنه إذا قبضه حلَّ له بيعه، وقد يكون قابضاً له قبل افتراق بدنه وبدن بائعه، وأقرَّه السيد المرتضى في "عقود الجواهر". وعندي هو ضعيف، فإن هذا الحديث وأمثاله ساكتة عن ما وقع فيه البحث، فيُقَيَّد بالقبض والافتراق مع أنه لا يدل إلاَّ على حرمة البيع قبل الاستيفاء، لا على ثبوت جوازه بعده متصلاً وإن منعت عنه الموانع الأُخَر. وفي المقام كلام مبسوط، مظانُّه الكتب المبسوطة، وفيما ذكرناه كفاية لأُلي الفطنة. وقد شيَّد الطحاوي أركان المسألة بالنظر والقياس وقال: إنّا قد رأينا الأموال تملك بعقود في أبدان وفي أموال ومنافع وأبضاع، فكان ما يُملك من الأبضاع هو النكاح، فكان ذلك يتم بالعقد لا بفُرقة بعده، وكان ما يملك به المنافع هو الإِجارات، فكان ذلك أيضاً مملوكاً بالعقد، لا بالفرقة بعد العقد، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الأموال المملوكة بسائر العقود من البيوع وغيرها تكون مملوكة بالأقوال لا بالفرقة، وهذا هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. انتهى. وفيه أيضاً ما فيه، فإن كثيراً من الأحكام كخيار الرؤية وخيار التعيين وخيار العيوب ثابتة في البيع دون أمثاله، فللخصم أن يقول ليكن خيار المجلس من هذا القبيل.
(1) أي عن نطق ما يتعلق به من إيجاب وقبول وشرط.
(2) أي للبائع.
(3) قوله: ما لم يقل الآخر قد اشتريت، قال في "الهداية" إذا أوجب أحد المتعاقِدَيْن البيع فالآخر بالخيار إن شاء قَبِل في المجلس وإن شاء ردَّه. وهذا خيار القبول، لأنه لو لم يثبت له الخيار يلزمه حكم العقد من غير رضاه وإذا لم يفد الحكم بدون قبول الآخر فللموجب أن يرجع لخلوه عن إبطال حق الغير وإنما يمتدّ إلى آخر المجلس، لأن المجلس جامع للمتفرقات، فاعتبرت ساعاته ساعةً واحدة دفعاً للعُسْر وتحقيقاً لليُسْر.(3/240)
الْمُشْتَرِي (1) : قَدِ اشتريتُ بِكَذَا وَكَذَا فَلَهُ (2) أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَقُلِ الْبَائِعُ قَدْ بِعْتُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
17 - بَابُ الاخْتِلافِ فِي الْبَيْعِ (3) بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي
785 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ (4) أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ كَانَ يحدِّث (5) أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أيُّما (6) بَيِّعان (7) تَبَايَعَا، فالقولُ قولُ البائع أو يترادّان.
__________
(1) أي ابتداءً.
(2) أي المشتري.
(3) قوله: بلغه، وصله الشافعي والترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، وقال الترمذي: مرسل وعون لم يدرك ابن مسعود، كذا في "التنوير".
(4) قوله: بلغه، وصله الشافعي والترمذيّ من طريق ابن عيينة، عن محمد بن عجلان، عن عون بن عبد الله، عن ابن مسعود، وقال الترمذي: مرسل وعون لم يدرك ابن مسعود، كذا في "التنوير".
(5) قوله: كان يحدث الخ ... ، قال ابن عبد البر: جعل مالك حديث ابن مسعود كالمفسِّر لحديث ابن عمر في الخيار، إذ قد يختلفان قبل الافتراق، والترادّ إنما يكون بعد تمام البيع فكأنه عنده منسوخ لأنه لم يدْرِكْ العمل عليه، وقد ذُكر له حديث ابن عمر، فقال: لعلَّه مما تُرك ولم يعمل، لكن حديث ابن مسعود منقطع لا يكاد يتصل، أخرجه أبو داود وغيره بأسانيد منقطعة. انتهى.
(6) قال الكرماني: زيدت "ما" على "أيّ" لزيادة التعميم.
(7) البَيِّع بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة البائع، وفيه تغليب أي البائع والمشتري.(3/241)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا اخْتَلَفَا (1) فِي الثَّمَنِ (2) تَحَالَفَا (3) وَتَرَادَّا (4) الْبَيْعَ - وَهُوَ (5) قولُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا - إذا كان
__________
(1) أي البائع والمشتري.
(2) أي في قدره.
(3) قوله: تحالفا، لكون كلٍّ منهما مدَّعياً من وجه، ومنكراً من وجه، فإن نَكَل أحدهما ثبت دعوى الآخر، وإن حلفا فُسخ البيع، وهذه الزيادة أي ذكر التحالف وإن لم يقع في حديث ابن مسعود في ما أخرجه الشافعي والنسائي والدارقطني ولم يقع في روايتهم ذكر الترادّ أيضاً، ووقع عند الترمذي وابن ماجه وأحمد ومالك والطبراني وأبي داود والحاكم والبيهقي والنسائي والدارقطني من طريق آخر ذكر الترادّ دون التحالف، لكنه ورد في ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات "المسند" من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن جَدِّه، والطبراني والدارمي من هذا الوجه، فقال: عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود مرفوعاً: إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بيِّنة لأحدهما على الآخر تحالفا. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص": تفرَّد بهذه الزيادة، وهي قوله: "والسلعة قائمة" ابن أبي ليلى. وهو محمد بن عبد الرحمن الفقيه، وهو ضعيف سيِّئ الحفظ، وأما قوله: "تحالفا" فلم يقع عند أحد منهم، وإنما عندهم: فالقول ما قال البائع أو يترادّانِ البيع. انتهى.
(4) في نسخة: ويرادّا.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة (وبه قال الشافعي ومالك في رواية، وعنه القول المشتري مع يمينه وبه قال أبو ثور وزفر، لأنَّ البائع يدَّعي زيادة ينكرها المشتري، والقول قول المنكر. انظر المغني 4/211) ، إذا اختلف المتبايعان، فادَّعى أحدهما ثمناً، وادَّعى البائع أكثر منه أو ادَّعى البائع بقدر من المبيع وادَّعى المشتري أكثر(3/242)
الْمَبِيعُ قَائِمًا (1) بِعَيْنِهِ، فإنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدِ اسْتَهْلَكَهُ (2) ، فَالْقَوْلُ مَا قَالَ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَمَّا فِي قَوْلِنَا فَيَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ الْقِيمَةَ (3) .
18 - بَابُ الرَّجُلِ يَبِيعُ الْمَتَاعَ بِنَسِيئَةٍ فَيُفْلِسُ (4) الْمُبْتَاعُ
786 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن ابي بكر بن
__________
منه، وأقام أحدهما البيّنة قضي له بها وإن أقاما البينة فالبينة المثبتة للزيادة أولى ولو لم يكن لأحدهما بينة قيل للمشتري: إما أن ترضى بالثمن الذي ادَّعاه البيِّع وإلاَّ فسخنا الَبْيع، وقيل للبائع: إما أن تُسلِّم ما ادَّعاه المشتري وإلاَّ فسخناه، فإن لم يتراضيا استخلف الحاكم كلاًّ منهما على دعوى الآخر. وفسخ البيع. هذا إذا كان المبيع قائماً، وإن كان هالكاً (قال الموفق: وإن كانت السلعة تالفة، واختلفا في ثمنها بعد تلفها فعن أحمد روايتان: إحداهما يتحالفان مثل لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك، والأخرى: القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر: وهذا قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. الأوجز 11/325) ، ثم اختلفا، لم يتحالفا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري، لأن التحالف بعد القبض على خلاف القياس ثبت بالنص، وقد ورد بلفظ: البيِّعان إذا اختلفا والمبيع قائم بعينه فالقول ما قال البائع وترادّا، وعند محمد: تحالفا ويفسخ البيع على قيمة الهالك لوجود الدعوى والإِنكار من الطرفين. والمسألة مبسوطة بدلائلها وتفاريعها في "الهداية" وشروحها.
(1) أي موجوداً بنفسه لا هالكاً.
(2) أي لا يتحالفان، بل يُقضى بالبيِّنة على البائع وبالحَلِف على المشتري.
(3) أي قيمة الهالك.(3/243)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنّ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيُّما (2) رجلٍ (3) بَاعَ مَتَاعًا، فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ (4) وَلَمْ يَقْبِضِ (5) الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ (6) بِعَيْنِهِ فَهُوَ (7) أحقُّ بِهِ، وإنْ مَاتَ (8)
__________
(4) قوله: أنّ، قال ابن عبد البر: هكذا هو في جميع "الموطآت" مرسلاً، وبجميع الرواة عن مالك، إلا عبد الرزاق فإنه وصله عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وكذا رواية أصحاب الزهري عنه مختلفة في إرساله ووصله، ورواية من وصله صحيحة، فقد رواه عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وبشير بن نهيك وهشام بن يحيى، كلاهما عن أبي هريرة مرفوعاً، الثلاثة في الفلس دون حكم الموت، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت.
(1) قوله: أنّ، قال ابن عبد البر: هكذا هو في جميع "الموطآت" مرسلاً، وبجميع الرواة عن مالك، إلا عبد الرزاق فإنه وصله عن مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وكذا رواية أصحاب الزهري عنه مختلفة في إرساله ووصله، ورواية من وصله صحيحة، فقد رواه عمر بن عبد العزيز، عن أبي بكر، عن أبي هريرة، وبشير بن نهيك وهشام بن يحيى، كلاهما عن أبي هريرة مرفوعاً، الثلاثة في الفلس دون حكم الموت، والحديث محفوظ لأبي هريرة لا يرويه غيره فيما علمت.
(2) قوله: أيّما، مركّب من "أيّ" وهي اسم ينوب مناب الشرط، ومن "ما" المبهمة الزائدة، وهي من المقحمات التي يُستغنى بها عن تفصيلٍ غير حاضر، أو تطويل غير مخلٍّ، قاله الطيبي.
(3) بالجر مضاف إليه لأيّ.
(4) أي اشتراه.
(5) أي من المشتري.
(6) أي فوجد البائعُ متاعَه بعينه عند المشتري المفلس.
(7) أي البائع أحقّ (أي كائناً مَنْ كان وارثاً أو غريماً. فتح الباري 5/63) بأخذ ذلك الشيء بدَيْنه من سائر الغرماء.
(8) قوله: وإن مات ... إلخ، هذا الحديث صحيح ثابت من رواية الحجازيين والبصريين، وهو نصّ في الفرق بين الحيّ والميت، وأجمع على القول به فقهاء المدينة والحجاز والبصرة والشام، وإنْ اختلفوا في بعض فروعه، وهو(3/244)
المشتري (1) فصاحب المتاع فيه أُسوةٌ (2) للغُرماء (3) .
__________
مذهب مالك وأحمد، وسرّ الفرق أنّ ذمّة المشتري عيّنت بالفلس، فصار البيع بمنزلة من اشترى سلعة فوجد بها عيباً فله ردّها، واسترجاع شيئه، ولا ضرر على بقية الغرماء لبقاء ذمّة المشتري، وفي الموت وإن عُيِّنت الذمة أيضاً، لكنها ذهبت رأساً، فلو اختص البائع بسلعة عظُم الضرر على سائر الغرماء لخراب ذمّة الميت، ومذهب الشافعي أن البائع أحقُّ بمتاعه في الموت أيضاً لحديث أبي داود وابن ماجه وغيرهما عن ابي المعتمر عمرو بن نافع عن عمر بن خلدة الزرقي، قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس، فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّما رجلٍ مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه. ورُدَّ بأنّ أبا المعتمر مجهول الحال فيكون حديث التفريق أرجح، وبأنه يحتمل أن يكون في الودائع والمغصوب ونحو ذلك، فإنه لم يذكر فيه البيع، ومذهب الحنيفية في ذلك أن صاحب المتاع ليس بأحق لا في الموت ولا في الحياة لأن المتاع بعد ما قبضه المشتري صار ملكاً خالصاً له والبائع صار أجنبياً منه كسائر أمواله، فالغرماء شركاء البائع فيه كلتا الصورتين، وإن لم يقبض فالبائع أحقّ لاختصاصه به، وهذا معنى واضح لولا ورد النص بالفرق، وسلفهم في ذلك عليّ رضي الله عنه، فإنّ قتادة روى عن خلاّس بن عمرو عن عليّ أنه قال: هو أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها. وأحاديث خلاس عن عليّ ضعيفة، ورُوي مثله عن إبراهيم النَّخَعي، ومن المعلوم أن كلَّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويُردّ إلا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عبرة للرأي بعد ورود نصِّه، كذا حققه ابن عبد البر والزرقاني (وبسطه شيخنا في الأوجز 11/353) .
(1) أي المفلس الذي لم يردّ الثمن.
(2) بالضم أي هو مساوٍ لهم، وأحد الشركاء معهم يأخذ مثل ما يأخذون ويحرم عما يحرمون.
(3) في نسخة: الغرماء.(3/245)
قَالَ محمدٌ: إِذَا مَاتَ (1) وَقَدْ قَبَضَهُ فَصَاحِبُهُ فِيهِ أُسوةٌ لِلْغُرَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ (2) أحقُّ بِهِ مِنْ بَقِيَّةِ الغُرماء حَتَّى يستوفيَ حَقَّهُ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَقْبِضْ (3) مَا يَشْتَرِي، فَالْبَائِعُ أحقُّ بِمَا بَاعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ.
19 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ أَوْ يَبِيعُهُ فَيغْبَنُ (4) فِيهِ أَوْ (5) يُسَعِّر (6) عَلَى الْمُسْلِمِينَ
787 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن دينار، عن عبد الله بن
__________
(1) أي المشتري والحال أنه قبض المبيع.
(2) أي صاحب المتاع وهو البائع.
(3) وإنْ قَبَضَ فهو أسوة للغرماء.(3/246)
عُمَرَ: أَنَّ رَجُلا (1) ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُخْدَعُ (2) فِي الْبَيْعِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ بايعتَه فَقُلْ: لا خِلابَةَ (3) . فَكَانَ الرجل إذا باع فقال: لا خِلابَةَ.
__________
(4) قوله أنّ رجلاً، لم يُسَمَّ الرجل في هذه الرواية، ولأحمد وأصحاب السنن والحاكم، من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار، كان يُبايع عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وكان في عُقدته - أي رأيه وعقله - ضعف، وكان يَبْتاع، فأتَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن البيع، فقال: إنّي لا أصبر على البيع، فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلابَةَ. ووقع في رواية الحاكم والطبراني والشافعي والدارقطني: أن ذلك الرجل حبَّان بالفتح وتشديد الباء ابن منقذ بذال معجمة بعد قاف مكسورة ابن عمرو الأنصاري، ووقع عند ابن ماجه والبخاري في "التاريخ" أن القصة لوالده منقذ بن عمرو، وجعله ابنُ عبد البَرّ أصح، كذا في "التلخيص" (3/21) .
(5) مجهول، أي يُغْبَن في المبايعة.
(6) قوله: فقل لا خِلابة (بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة. وقد ذهب الشافعية والحنفية إلى أن الغبن غير لازم، فلا خيار للمغبون، سواء قلّ الغبن أو كثر، وأجابوا عن الحديث بأنها واقعة وحكاية حال، قال ابن العربي: إنه كله مخصوص بصاحبه، لا يتعدى إلى غيره. وقال مالك في بيع المغابنة: إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار، وقال أحمد في بيع المسترسل: يُكره غبنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له، وحُكي عنه أنه قال: إذا بايع فقال: لا خلابة فله الردّ. انظر بذل المجهود 15/173. وبسط شيخنا الكلام على هذا الحديث في الأوجز 11/388 فارجع إليه) ، بالكسر أي لا نقصان ولا غَبْن، أي لا يلزم مني خديعتك، زاد في رواية البخاري في "التاريخ" والحاكم والحُمَيدي وابن ماجه: وأنت في كل سلعة ابتعتَها بالخيار ثلاثةَ أيام. وقال التوربشتي: لقّنه هذا القول(3/247)
قَالَ مُحَمَّدٌ: نُرى (1) أَنَّ هَذَا كَانَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ خَاصَّةً.
788 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ (2) بْنُ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخطَّاب مَرَّ عَلَى حَاطِبِ (3) بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ (4) فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِمَّا أَنْ تزيدَ (5) فِي السِّعْرِ،
__________
ليلفظ به عند البيع ليطلّع به صاحبه على أنّه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ليرى له ما يرى لنفسه. وكان الناس في ذلك الزمان إخواناً لا يغبنون أخاهم المسلم، وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم.
(1) قوله أنّ رجلاً، لم يُسَمَّ الرجل في هذه الرواية، ولأحمد وأصحاب السنن والحاكم، من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار، كان يُبايع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في عُقدته - أي رأيه وعقله - ضعف، وكان يَبْتاع، فأتَوْا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنهاه عن البيع، فقال: إنّي لا أصبر على البيع، فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلابَةَ. ووقع في رواية الحاكم والطبراني والشافعي والدارقطني: أن ذلك الرجل حبَّان بالفتح وتشديد الباء ابن منقذ بذال معجمة بعد قاف مكسورة ابن عمرو الأنصاري، ووقع عند ابن ماجه والبخاري في "التاريخ" أن القصة لوالده منقذ بن عمرو، وجعله ابنُ عبد البَرّ أصح، كذا في "التلخيص" (3/21) .
(2) مجهول، أي يُغْبَن في المبايعة.
(3) قوله: فقل لا خِلابة (بكسر المعجمة وتخفيف اللام: أي لا خديعة. وقد ذهب الشافعية والحنفية إلى أن الغبن غير لازم، فلا خيار للمغبون، سواء قلّ الغبن أو كثر، وأجابوا عن الحديث بأنها واقعة وحكاية حال، قال ابن العربي: إنه كله مخصوص بصاحبه، لا يتعدى إلى غيره. وقال مالك في بيع المغابنة: إذا لم يكن المشتري ذا بصيرة كان له فيه الخيار، وقال أحمد في بيع المسترسل: يُكره غبنه وعلى صاحب السلعة أن يستقصي له، وحُكي عنه أنه قال: إذا بايع فقال: لا خلابة فله الردّ. انظر بذل المجهود 15/173. وبسط شيخنا الكلام على هذا الحديث في الأوجز 11/388 فارجع إليه) ، بالكسر أي لا نقصان ولا غَبْن، أي لا يلزم مني خديعتك، زاد في رواية البخاري في "التاريخ" والحاكم والحُمَيدي وابن ماجه: وأنت في كل سلعة ابتعتَها بالخيار ثلاثةَ أيام. وقال التوربشتي: لقّنه هذا القول ليلفظ به عند البيع ليطلّع به صاحبه على أنّه ليس من ذوي البصائر في معرفة السلع ومقادير القيمة، ليرى له ما يرى لنفسه. وكان الناس في ذلك الزمان إخواناً لا يغبنون أخاهم المسلم، وينظرون له أكثر ما ينظرون لأنفسهم.
(1) قوله: نُرى، أي نظن أن هذا الحكم خاص به، وللنبي صلى الله عليه وسلم أن يخصّ من شاء بما شاء. قال النووي: اختلف العلماء في هذا الحديث، فجعله بعضهم خاصاً به: وأنه لا خيار بغبن، وهو الصحيح، وعليه الشافعي وأبو حنيفة، وقيل: للمغبون الخيار لهذا الحديث بشرط أنْ يبلغ الغَبن ثلث القيمة. انتهى. وقال ابن عبد البر: قال بعضهم: هذا خاصّ بهذا الرجل وحده، وجَعَل له الخيار ثلاثة أيام اشترطه أو لم يشترطه لمَا كان فيه الحرص على المبايعة مع ضعف عقله ولسانه، وقيل: إنما جَعل له أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثاً مع قوله: لا خِلابة.
(2) قوله: يونس بن يوسف بن حِماس بالكسر، من عُبَّاد أهل المدينة، ثقة، قال ابن حبان: هو يوسف بن يونس. ووهم من قَلَبه، كذا في "التقريب".
(3) قوله: حاطب بن أبي بَلْتَعة، بفتح الموحّدة وسكون اللام وفتح الفوقية والمهملة، عمرو بن عمير اللخمي حليف بني أسد، شهد بدراً، ومات في سنة 30، قاله الزرقاني.
(4) أي بالمدينة.
(5) أي بأن تبيع بمثل ما يبيع أهل السوق، وقال القاري: إن (لا) ههنا محذوفة أي بأن لا تزيد، ولا حاجة إليه.(3/248)
وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ (1) مِنْ سُوقِنَا.
قَالَ محمدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يُسَعَّر عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فيُقال لَهُمْ (2) : بِيْعُوا كَذَا وَكَذَا بِكَذَا وَكَذَا، ويُجْبَرُوا (3) عَلَى ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
20 - بَابُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْبَيْعِ وَمَا يُفْسِده
789 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَة بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: اشْتَرَى مِنِ امْرَأَتِهِ (4) الثَّقَفِيَّةِ جَارِيَةً (5) واشترطَتْ عَلَيْهِ (6) إِنَّكَ إِنْ بِعْتها فَهِيَ لِي بِالثَّمَنِ الَّذِي تبيعُها (7) بِهِ، فَاسْتَفْتَى (8) فِي ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فقال: لا تَقْرَبْها (9) وفيها
__________
(1) أي متاعه لئلا يضُرّ بأهل السوق وبغيرهم.
(2) أي لا يجوز له التسعير بسعر معيَّن عليهم.
(3) فإن قال ذلك على سبيل المشورة لا بأس به.
(4) قوله: امرأته الثففية، بفتحتين نسبة إلى ثقيف قبيلة، وهي زينب بنت عبد الله بن معاوية بن عتّاب بن الأسعد بن غاضرة، صحابية لها رواية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ زوجها، وروى عنها ابنُ أخيها وبسر بن سعيد، كذا في "استيعاب ابن عبد البر".
(5) أي مملوكة لها.
(6) أي على زوجها المشتري.
(7) أي في ذلك الوقت، وإن كان زائداً على ثمنها في الحال.
(8) أي سأل ابن مسعود عن حكم هذا العقد.
(9) أي الجارية المشتراة.(3/249)
شرطٌ لأحدٍ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. كلُ شَرْطٍ (2) اشتَرط الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، أَوِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ (3) الْبَيْعِ، وَفِيهِ (4) منفعةٌ لِلْبَائِعِ أَوِ الْمُشْتَرِي، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ. وَهُوَ (5) قول أبي حنيفة رحمه الله.
__________
(1) أي من البائع والمشتري.
(2) قوله: كل شرط لخ الضابط فيه على ما في "الهداية" وشروحها، أن كل شرط لا يقتضيه العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقِدَيْن أو المعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسد البيع إذا لم يكن متعارفاً، ولم يرد به الشرع كشرط الأجل في الثمن والمثمن وشرط الخيار، ولم يكن متضمِّناً للتواثق كالشرط بشرط الكفيل بالثمن فإنه جائز. وذلك كمن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع أو ثوباً على أن يخيطه أو عبداً على أن لا يبيعه المشتري بعد ذلك أو لا يبيعه إلا منه، ونحو ذلك. فإن كان مقتضى العقد لا يفسد، كشرط الملك للمشتري وتسليم الثمن ونحو ذلك، وكذا إذا لم يكن فيه نفع لأحد المتبايعين، أو فيه نفع للمعقود عليه وليس من أهل الاستحقاق، كمن باع ثوباً، أو حيواناً سوى الرقيق، على أن لا يبيعه ولا يهبه، وكذا إذا كان متعارفاً كما إذا اشترى نعلين بشرط أن يحذوه البائع، والفروع مبسوطة في كتب الفروع (بسط شيخنا بعضها في الأوجز 11/83) .
(3) أي ليس من مقتضياته.
(4) أي والحال أن في ذلك الشرط.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يُضمن، ولا بيع ما ليس عندك، أخرجه أبو داود والترمذي(3/250)
790 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لا يطَأ الرَّجُلُ ولِيدةً إِلا ولِيدَته (1) ، إِنْ شَاءَ بَاعَهَا، وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا ما شاء.
__________
والنسائي، وبه قال الشافعي إلا أنه خصه بما سوى شرط العتق واستثنى البيع مع شرط العتق منه وهو رواية عن أبي حنيفة بدليل حديث بَريرة في "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تشتريها عائشة، وتشترط الولاء لمواليها، فإنما الولاء لمن أعتق. وسيجيء هذا الحديث مع ما له وما عليه، وبه تعلّق ابن أبي ليلى، فقال: البيع جائز والشرط باطل مطلقاً، وقال ابن شبرمة: البيع والشرط جائزان، مستدلاً بما رُوي عن جابر: بعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم ناقةً وشرط لي حملانها إلى المدينة أخرجه الحاكم وغيره. ونحن نقول شرط جابر لم يكن في صُلب العقد، وحديث النهي العام يُقدَّم على حديث بَريرة الخاص لتقدُّم النافي على المبيح. وزيادة تفصيل هذه المسألة في "فتح القدير".
(1) قوله: إلا وليدته، كأنه أراد أنه لا يطأ الرجل جارية إلا جارية له مملوكة ملكاً صحيحاً إن شاء باعها أو وهبها، وإن لم يشأ لم يفعل، وصَنَعَ بها ما شاء من العتق والتدبير وغير ذلك، والجارية التي ليست كذلك لا يحل وطؤها، فإنها إما مملوكة للغير كجارية الزوجة والوالدين، أو مملوكة له ملكاً فاسداً كما إذا اشتراها بالبيع بشرط أن لا يبيعها ولا يهبها ونحو ذلك، فلا يحل وطؤها لأنها مملوكة ملكاً خبيثاً، ولا يجوز له بيعها وشراؤها والتصرف فيها، بل يجب الإِقالة من العقد السابق. وعلى هذا يطابق هذا الأثر ترجمة الباب مطابَقَةً ظاهرة، جعل صاحب الكتاب هذا الأثر تفسيراً لقولهم: إن العبد لا يحل له أن يتسرى أي يأخذ جارية ويطأها، وحمله على معنى أن لا يطأ الرجل إلا وليدته التي يملك فيها التصرفات ما شاء، وهذا مختص بالحرّ، فإن العبد المملوك للغير إنْ مَلَكَ جارية كما إذا كان مأذوناً، لا يجوز له هبتها، فلا يحل له وطؤها وإن أذن له المولى. وهذا المعنى وإن كان يمكن استنباطه لكنه أجنبيّ عما ترجم به الباب إلا أن يكون غرضه منه مجرد(3/251)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهَذَا (1) تَفْسِيرٌ: أَنَّ العبدَ لا يَنْبَغِي أَنْ يَتَسرَّى (2) ، لأَنَّهُ إِنْ وَهَبَ لَمْ يَجز هِبَتُهُ، كَمَا يَجُوزُ هِبَةُ الحُرّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
ذكر الإِشارة إليه. ثم وجدت في "شرح معاني الآثار" ما يوافق ما فهمته، ففيه: نا فهد نا أبو غسان نا زهير، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: لا يحلّ فرْجٌ إلا فرج إن شاء صاحبه باعه، وإن شاء وهبه، وإن شاء أمسكه، لا شرط فيه. نا محمد بن النعمان نا سعيد بن منصور نا هشيم، أخبرنا يونس بن عبيد، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يكره أن يشتري الرجل الأمة على أن لا يبيع ولا يهب، فقد أبطل عمر بيع عبد الله، وتابعه عبد الله على ذلك. انتهى. ثم وجدت في "الدر المنثور" للسيوطي في تفسير سورة المؤمنين، عند قوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون) الآية (سورة المؤمنون: الآية 5) ، أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة، عن ابن عمر: أنه سُئل عن امرأة أحلّت جاريتها لزوجها؟ فقال: لا يحلّ لكَ أن تطأ فرجاً إلا أنْ شئتَ بعت، وإن شئت وهبت، وإن شئت أعتقت. وأخرج عبد الرزاق، عن سعيد بن وهب قال: قال رجل لابن عمر: إنّ أمّي كان لها جارية فإنها أحلّتْها لي أطواف عليها، فقال: لا يحلّ لك إلا أن تشتريها أو تهبها لك. انتهى. وعلى هذا يفيد الأثر أمراً آخر هو إبطال تحليل الفروج وعاريَتِها، وهِبَتِها، وعدمِ جوازِ الوطء، بنحو ذلك.
(1) أي هذا القول من ابن عمر.
(2) من التسرّي وهو أخذ الجارية للوطء.(3/252)
21 - بَابُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا مؤبَّراً (1) أَوْ عَبْدًا، وَلَهُ مَالٌ
791 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عبد الله بن عمر: أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ بَاعَ (2) نَخْلا قَدْ أُبِّرتْ، فثمرتُها (3) لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ
__________
(1) قوله: من باع نخلاً مؤبَّراً، خصّ النخل مع ان غيره في حكمه، لكثرته في المدينة، وظاهر القيد بالتأبير يقتضي أنه لو لم يكن مؤبَّراً فليس كذلك، على طريق مفهوم المخالفة، وبه قال مالك والشافعي إن الثمرة للمشتري مطلقاً إذا لم تؤبَّر، وعندنا القيد اتفاقي، والحكم غير مختلف. واستدل الطحاوي به في "شرح معاني الآثار" على جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها وقد مرّ تفصيله.
(2) قوله: من باع نخلاً مؤبَّراً، خصّ النخل مع ان غيره في حكمه، لكثرته في المدينة، وظاهر القيد بالتأبير يقتضي أنه لو لم يكن مؤبَّراً فليس كذلك، على طريق مفهوم المخالفة، وبه قال مالك والشافعي إن الثمرة للمشتري مطلقاً إذا لم تؤبَّر، وعندنا القيد اتفاقي، والحكم غير مختلف. واستدل الطحاوي به في "شرح معاني الآثار" على جواز بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها وقد مرّ تفصيله.
(3) قوله: فثمرتها إلخ، لأن العقد إنما وقع على رقبة النخل، والاتصال وإن كان خلقة لكنه ليس للقرار بل للقطع، بخلاف بيع العرصَة يدخل فيه البناء.(3/253)
يَشْتَرِطَهَا (1) الْمُبْتَاعُ.
792 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عبد الله بن عمر: أخبرنا مالك،، عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: مَنْ بَاعَ (2) عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ (3) ، فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.
22 - بَابُ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ تُهدى إِلَيْهِ
793 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ (4) عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اشْتَرَى مِنْ عاصم بن عدي
__________
(1) قوله: إلا أن يشترطها المبتاع، أي المشتري بأن يقول: اشتريت النخلة بثمرها، وكذا إذا قال اشتريت العبد بماله، فإنه يدخل فيه المال، لكن لا بد أن يكون المال معلوماً عند الشافعي وأبي حنيفة للاحتراز عن الغَرَر، ظاهر مذهب المالكية والحنابلة والظاهرية الإِطلاق. ويُستفاد من أمثال هذه الأحاديث أنّ الشرط الذي لا ينافي العقد لا يفسد، كذا في "شرح المسند".
(2) قوله: قال من باع إلخ، هذا موقوف في رواية نافع، ورفعه سالم عن أبيه، أخرجه البخاري ومسلم، ورواه النسائي من طريق سالم عن أبيه عن عمر مرفوعاً وفيه ضعيف.
(3) قوله: وله مال..إلخ، استدل به المالكية على أن العبد يملك، قال أحمد والشافعي في القديم: يملك إذا ملّكه سيّدُه مالاً، وقال أبو حنيفة والشافعي في الجديد: لا يملك أصلاً واللام للاختصاص والانتفاع، كذا في "شرح المسند".
(4) في بعض النسخ: أنّ عبد الرحمن بن عوف قال: إنه اشترى.(3/254)
جَارِيَةً، فَوَجَدَهَا (1) ذَاتَ زَوْجٍ فَرَدَّهَا (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَكُونُ (3) بيعُها طلاقَها (4) ، فَإِذَا كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَهَذَا (5) عَيْبٌ تُرَدُّ بِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
794 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ (6) بْنَ عَامِرٍ أَهْدَى (7) لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ جَارِيَةً مِنَ الْبَصْرَةِ وَلَهَا زَوْجٌ، فَقَالَ عُثْمَانَ: لَنْ أَقْرَبَهَا (8) حَتَّى يفارِقَها زوجُها، فأَرْضَى ابنُ عامر زوجَها
__________
(1) أي ظهر له بعد الشراء أنها ذات زوج.
(2) أي بخيار العيب.
(3) أي لا يكون بيع الجارية المتزوِّجة طلاقاً وفُرقةًَ من زوجها، كما قاله بعض العلماء.
(4) في نسخة: طلاقاً.
(5) قوله: فهذا عيب، قال في "المحيط" وغيره: النكاح والدَّيْن عيب في العبد والجارية، وعند الشافعي إن كان الدَّيْن عن شراء أو استقراض بغير إذن المَوْلى فليس بعيب لأنه يتأخر إلى ما بعد العتق.
(6) قوله: أنّ عبد الله، قال الزرقاني: هو ابن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، وُلد في العهد النبوي، وأُتي به إليه فتَفَل عليه، قال ابن حبان: له صحبة، ولاّه ابن خاله عثمان بن عفان البصرة سنة 29 هـ، وافتتح خراسان وكرمان، مات بالمدينة سنة سبع أو ثمان وخمسين، وأبوه صحابي من مُسْلمة الفتح.
(7) أي وهب.
(8) أي لن أطأها لحُرْمتها علي.(3/255)
فَفَارَقَهَا (1) .
23 - بَابُ (2) عُهْدة الثلاثِ والسَّنَةِ
795 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ؟، قَالَ:
__________
(1) أي طَلَّقها فحلَّتْ لعثمان بعد العدة.(3/256)
سَمِعْتُ أبانَ بْنَ عُثْمَانَ وَهِشَامَ (1) بْنَ إِسْمَاعِيلَ يُعلّمان النَّاسَ عُهدةَ الثَّلاثِ والسَّنَةِ، يَخْطُبَانِ (2) بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لَسْنَا نَعْرِفُ (3) عُهْدَةَ الثلاث، ولا عهدة السنَةِ إلا أن
__________
(2) قوله: وهشام، هو ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، والي المدينة لعبد الملك بن مروان، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات".
(1) قوله: وهشام، هو ابن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي، والي المدينة لعبد الملك بن مروان، ذكره ابن حبان في كتاب "الثقات".
(2) قوله: يخطبان به على المنبر، قال الزرقاني: فالعمل به أمر قائم بالمدينة، قال الزهري: والقضاة منذ أدركنا يقضون بهما. وروى أبو داود عن الحسن البصري عن عقبة مرفوعاً: عهدة الرقيق ثلاث. ولم يسمع الحسن من عقبة، وروى ابن أبي شيبة، عن الحسن، عن سمرة مرفوعاً: عهدة الرقيق ثلاثة أيام. وفي سماع الحسن من سَمُرة خلاف.
(3) قوله: لسنا نعرف، يعني في الشرع بالطريق الذي يجب به العمل، فإن عهدة الثلاث والسنة إن كان من فروع خيار العيب، فليس بمنكَرٍ وإلا فلم يثبت إلا خيار الشرط، أو العيب، أو خيار الرؤية، أو خيار التعيين، أو نحو ذلك، قال في كتاب "الحجج" (ص 201) : لو كان عندكم في ذلك حديث مفسَّر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من أصحابه لاحتججتم به، وإنما هذا رأي منكم اصطلحتم عليه،(3/257)
يَشْتَرِطَ (1) الرجلُ خيارَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ خيارَ سَنَةٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى مَا اشْتَرَطَ (2) ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلا يَجُوزُ الْخِيَارُ (3) إلا ثلاثة أيام.
__________
وليس يقبل هذا منكم إلا بالحجة والبرهان، وكيف فرّقتم بين الرقيق في هذا وبين الدوابّ، وهو حيوان يحدث فيهما شيء، كما يحدث في الحيوان.
(1) قوله: إلا أن يشترط، يشير إلى أن العهدة المنقولة إن كانت بالشرط يدخل في خيار الشرط، فيُعتبر بما شرطا، لكن لا تخصيص له بالثلاث والسنة، وإلا فلا.
(2) قوله: على ما اشترط، سواء كان خيار شهر أو سنة أو أكثر، وبه قال أبو يوسف ومحمد، واستُدل لهما بحديث" المسلمون على شروطهم": وذكر صاحب "الهداية" في دليلهما: أن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين، وقال في العناية لهما حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الخيار إلى شهرين وقال الأنزاري: روى أصحابنا في شروح "الجامع الصغير" إن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين، وكذا ذكره فخر الإِسلام وقال العتابي: إن ابن عمر باع بشرط الخيار شهراً، وقال في: المختلف: رُوي أنه باع جارية وجعل المشتري الخيار إلى شهرين وهذا كله لم يثبت بإسناد صحيح، كذا في "البناية" وقد يُسْتَدلُّ لهما بأن الخيار إنما شُرع للحاجة إلى الفكر والتأمل وقد تمس الحاجة إلى الأكثر فصار كالتأجيل في الثمن.
(3) قوله: فلا يجوز الخيار إلا إلى ثلاثة أيام، وبه قال زُفَر والشافعي وأحمد، وحجتهم حديث حَبَّان بن منقذ، وقد مرّ ذكره من قبل.(3/258)
24 - بَابُ بَيْعِ (1) الْوَلاءِ
796 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ (2) نَهَى (3) عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (4) . لا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَلاءِ، وَلا هِبَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، والعامَّة من فقهائنا.
__________
(1) قوله: أن رسول الله إلخ، هكذا أخرجه أبو حنيفة عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، وعند الشيخين وغيره من طريق ابن دينار، عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، واعتنى أبو نعيم بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسةٍ وثلاثين نفساً عنه، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه: من طريق عبيد الله بن عمرو بن دينار وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عمر، وعند الدارقطني في "غرائب مالك" عن عبد الله بن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وظاهره أن ابن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابنِ عمر وليس كذلك ففي "مسند الطيالسي" أن شعبة قال له: أسمعتَ ابنِ عمر وليس يقول هذا؟ فحلف بسماعه، وفي الباب أخبار كثيرة، والتفصيل في "شروح المسند".
(2) قوله: أن رسول الله إلخ، هكذا أخرجه أبو حنيفة عن عطاء بن يسار، عن ابن عمر، وعند الشيخين وغيره من طريق ابن دينار، عن ابن عمر، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، واعتنى أبو نعيم بجمع طرقه، عن عبد الله بن دينار، فأورده عن خمسةٍ وثلاثين نفساً عنه، وأخرجه أبو عوانة في "صحيحه: من طريق عبيد الله بن عمرو بن دينار وعمرو بن دينار كلهم عن ابن عمر، وعند الدارقطني في "غرائب مالك" عن عبد الله بن دينار، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، وظاهره أن ابن دينار لم يسمع هذا الحديث من ابنِ عمر وليس كذلك ففي "مسند الطيالسي" أن شعبة قال له: أسمعتَ ابنِ عمر وليس يقول هذا؟ فحلف بسماعه، وفي الباب أخبار كثيرة، والتفصيل في "شروح المسند".
(3) لكونه ليس بمال.
(4) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الجمهور سلفاً وخلفاً، إلاّ ما رُوى عن ميمونة أنها وهبت سليمان بن يسار لابن عباس، وروى عبد الرزاق عن عطاء جواز أن يأذن السيد لعبد أن يوالي من شاء، وجاء عن عثمان جواز بيع الولاء، وكذا عن(3/259)
797 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ وَلِيدَةً (1) فتُعتقها، فقال أهلها (2) :
__________
عروة وابن عباس. ولعلهم لم يبلغهم الحديث وقد أنكر ذلك ابن مسعود في زمان عثمان، وقال: أيبيعُ أحدُكم نسبه؟ أخرجه عبد الرزاق، كذا في "فتح الباري" وغيره.
(1) قوله: وليدة، أي جارية، هي بَرِيرة، بفتح الباء وكسر الراء الأولى، كما صرَّح به أبو حنيفة في روايته عن حماد، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، وكانت مكاتَبة لقوم من الأنصار، وقيل لبني هلال، والحديث مرويّ في الصحيحين والسنن وغيرها، وفي بعض الروايات: أنها جاءت إلى عائشة تستعين بها في كتابتها، وفي بعضها عن عائشة: جاءت بريرة فقالت: كاتب أهلي على تسع أواقٍ (قد اختلفت الروايات في قصة بريرة وجمع بينها شيخ شيخنا في البذل 16/261، فارجع إليه) ، في كل عام أوقية فأعينيني، فقالت: إنْ أحَبُّوا أن أعدَّها لهم عُدَّة واحدة، وأعتقك، فعلت، ويكون ولاؤك لي فأبَوْا ذلك إلا أن يكون الولاء لهم. وظاهره يدل على جواز بيع المكاتب إذا رضي بذلك، ولو لم يعجز نفسه، وهو قول الأَوْزعي والليث ومالك وابن جرير وابن المنذر، ومنعه أبو حنيفة والشافعي في أصح القولين وبعض المالكية، وأجابوا عن قصة بريرة بأنها عجزت نفسها، واستعانتها بعائشة يدل على ذلك، وهو يحتاج إلى دليل، وذهب جمع من العلماء إلى جواز بيع المكاتَب إذا وقع التراضي بذلك، كذا في "شرح المسند".
(2) أي مالكوها المكاتبون.(3/260)
نَبِيعُكِ عَلَى أَنَّ وَلاءَهَا (1) لَنَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ (2) لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لا يمنعك (3) ذلك،
__________
(1) أي بشرط أن يكون ولاؤك لنا لا لها.
(2) أي شرطهم.
(3) قوله: لا يمنعك ذلك، أي لا يمنعك من الشراء شرطهم، فإن الشرط باطلٌ شرعاً، وظاهره أن البيع بالشرط الفاسد جائزٌ، والشرط باطل، وبه قال قوم، وخصه قوم بشرط العتق، وقد مر البحث فيه، وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" كلام طويل محصَّله بعد روايات هذه القصة، أن الاشتراط من أهل بريرة لم يكن في البيع، بل في أداء عائشة الكتابة إليهم بدليل رواية عروة، عن عائشة، جاءت بريرة فقالت: إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ فأعينيني، ولم يكن قضت من كتابتها شيئاً، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أنْ أُعطيهم ذلك جميعاً، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت فأبَوْا، وقالوا: إن شاءت أن تحسب عليك فلتفعل، ويكون ولاؤك لنا، فذكرت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا يمنعكِ ذلك - أي لا ترجعين لهذا المعنى عما كنت نويت في عتاقها من الثواب - اشتريها فأعتقيها، فكان ذكر الشراء ههنا ابتداء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن قبل بين عائشة وأهل بريرة. انتهى ملخَّصاً. وغير خفيّ على الماهر العارف بطرق القصة أن ما أوَّلها به ليس بصحيح، وأنَّ كثيراً من الطرق دالَّة على أن ذكر البيع كان جرى قبل ذلك وأنَّ الشرط كان في البيع (قال السندي على البخاري: هذا مشكل جداً، لأنه شرط مفسد ومع ذلك تغرير للبائع والخَديعة له، وأوَّله بعضهم لكن السوق يأباه فالوجه أنه شرط مخصوص بهذا البيع وقع لمصلحة اقتضته، وللشارع التخصيص في مثله. وقريب منه ما قاله في الكوكب الدرّي.
وقال الرازي في التفسير الكبير: إن اللام بمعنى على أي اشترطي عليهم الولاء. بذل المجهود 16/362) ، ورواية عروة مختصرة، والحديث يفسر بعضُ طرقه بعضاً.(3/261)
فَإِنَّمَا الولاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، لا يتحوَّل (2) عَنْهُ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ (3) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
25 - بَابُ بَيْعِ أُمَّهَاتِ (4) الأَوْلادِ
798 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر، قال (5) :
__________
(1) أي وشرط غير المعتق يكون الولاء له باطل شرعاً.
(2) أي لا ينتقل منه، لا بالشرط ولا بسبب من أسباب الانتقال.
(3) أي في اللزوم.
(4) قوله: قال: قال عمر، هذا موقوف على عمر وعند الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: إذا أولد الرجل أمته ومات عنها فهي حرة، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر، وكذا قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، الذي رفعه ثقة، وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: أيُّما أمةٍ ولدت من سيِّدها فهي حرة عن دُبُر منه، أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وله طرق، وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف جداً. وعنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية التي استولدها النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها ولدها، أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وفي سنده ضعيف. وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: سمعت عَبيدة السَّلْماني قال: سمعت عليّاً يقول: اجتمع رأيي ورأي ابن عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن، فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدك. وأخرج نحوه البيهقي، وأخرج عبد الرزاق بسندٍ حسن(3/262)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أيُّما وليدةٍ (1) وَلَدَتْ مِنْ سيِّدها فإنَّه لا يَبِيعُهَا وَلا يَهَبُهَا وَلا يُورِّثها (2) ، وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ (3) مِنْهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّة.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا (4) نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
رجوع عليّ عن الجواز، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون بيع أمهات الأولاد مباحاً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه في آخر حياته، فلم يشتهر ذلك النهي، فلما بلغ عمر أجمعوا على النهي، ومما يدل على الإِباحة في العهد النبوي حديث جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ لا نرى بذلك بأساً، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان وأبو داود وابن أبي شيبة، كذا في "التلخيص الحبير" للحافظ ابن الحجر.
(5) قوله: قال: قال عمر، هذا موقوف على عمر وعند الدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مرفوعاً وموقوفاً: إذا أولد الرجل أمته ومات عنها فهي حرة، وقال الدارقطني: الصحيح وقفه على ابن عمر عن عمر، وكذا قال البيهقي وعبد الحق، وقال ابن دقيق العيد: المعروف فيه الوقف، الذي رفعه ثقة، وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً: أيُّما أمةٍ ولدت من سيِّدها فهي حرة عن دُبُر منه، أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وله طرق، وفي إسناده الحسين بن عبد الله الهاشمي ضعيف جداً. وعنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مارية التي استولدها النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها ولدها، أخرجه ابن ماجه والبيهقي، وفي سنده ضعيف. وأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: سمعت عَبيدة السَّلْماني قال: سمعت عليّاً يقول: اجتمع رأيي ورأي ابن عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن، فقلت له: رأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدك. وأخرج نحوه البيهقي، وأخرج عبد الرزاق بسندٍ حسن رجوع عليّ عن الجواز، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون بيع أمهات الأولاد مباحاً في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ونهى عنه في آخر حياته، فلم يشتهر ذلك النهي، فلما بلغ عمر أجمعوا على النهي، ومما يدل على الإِباحة في العهد النبوي حديث جابر: كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ لا نرى بذلك بأساً، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان وأبو داود وابن أبي شيبة، كذا في "التلخيص الحبير" للحافظ ابن الحجر.
(1) أي جارية.
(2) قال القاري: بالتشديد والتخفيف، أي لا يعطيها الإِرث من ماله.
(3) أي ينتفع بها في حياته بالخدمة والوطء.
(4) قوله: وبهذا نأخذ، وبه قال الأئمة الثلاثة، خِلافاً لبشر بن غياث وداود الظاهري ومن تبعه، وذكر ابن حزم أن جواز البيع مرويّ عن أبي بكر وعَليّ وابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وزيد بن ثابت وغيرهم، كذا في "البناية".(3/263)
26 - بَابُ بَيْعِ الْحَيَوَانِ (1) بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً (2) وَنَقْدًا
799 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ كَيْسان، أَنَّ الْحَسَنَ (3) بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أَخْبَرَهُ (4) أنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بَاعَ جَمَلاً (5) لَهُ يُدعى (6) عُصَيْفِيراً (7) بعشرين بعيراً إلى أجل.
__________
(1) قوله: الحسن، هو الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن علي بن أبي طالب كما ذكره الزرقاني، لا الحسن بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كما ظنه القاري، وقد اشتبه المحمَّدَيْن، وأحد العليَّيْن بالآخر.
(2) فيه انقطاع فإن الحسن لم يدرك عليّاً.
(3) قوله: الحسن، هو الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية بن علي بن أبي طالب كما ذكره الزرقاني، لا الحسن بن محمد الباقر ابن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كما ظنه القاري، وقد اشتبه المحمَّدَيْن، وأحد العليَّيْن بالآخر.
(4) فيه انقطاع فإن الحسن لم يدرك عليّاً.
(5) بفتحتين أي بعيراً.
(6) بصيغة المجهول أي يسمَّى.
(7) بلفظ تصغير عصفور.(3/264)
800 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اشْتَرَى رَاحِلَةً (1) بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَة (2) مَضْمُونَةٍ (3) عَلَيْهِ، يُوفِّيها (4) إِيَّاهُ بالرَّبَذة.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ خِلافُ هَذَا (5) .
801 - أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذُؤَيْب (6) ، عَنْ يَزِيدَ (7) بْنِ عبد الله بن
__________
(1) أي ناقة قويَّة ترحل عليها.
(2) بوزن أفعلة جمع بعير.
(3) أي ثابتة في ذمَّة ابن عمر إلى أجل.
(4) قوله: يوفّيها، من التوفية أو الإِيفاء، أي يعطي ابن عمر تلك الأَبْعرة. إياه، أي البائع. بالربذة بفتح الراء المهملة والباء الموحدة فذال معجمة: قرية قريب المدينة.
(5) أي خلاف ما دل عليه الأثران المذكوران.
(6) قوله: ابن أبي ذؤيب، بصيغة التصغير ذكره ابن حبان في "ئقات التابعين" حيث قال: إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب الأسدي الحجازي، يروي عن ابن عمر، روى عنه ابن أبي نجيح، ومن قال: إنه ابن أبي ذئب فقد وهم. انتهى. وذكر في "تهذيب التهذيب" أنه إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب، وقيل أبي ذؤيب، روى عن ابن عمر وعطاء بن يسار، وعنه ابن أبي نجيح، وثقه الدارقطني، وأبو زرعة، وابن سعد. انتهى ملخصاً. وأما ابن أبي ذئب فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن أبي ذئب المدني، روى عن عكرمة ونافع وخلق، وعنه معمر وابن المبارك ويحيى القطّان ذكره الذهبي في "الكاشف".
(7) قال ابن حجر في "التقريب": يزيد بن عبد الله بن قسيط مصغَّراً، ابن أسامة الليثي أبو عبد الله المدني الأعرج، ثقة مات سنة 122 هـ.(3/265)
قُسَيْط، عَنْ أَبِي حَسَنٍ الْبَزَّارِ (1) ، عَنْ رجلٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: أَنَّهُ (2) نَهَى عَنْ بَيْعِ الْبَعِيرِ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، وَالشَّاةِ بِالشَّاتَيْنِ إِلَى أَجَلٍ. وبلغنا (3) عن
__________
(1) قوله: البزّار، بتشديد الزاي المعجمة آخره راء مهملة نسبة إلى بيع البزر، كما أن البزّاز بالمعجمتين نسبة إلى بيع البزّ أي الثياب، ذكره السمعاني.
قال ابن حبان في "ثقات التابعين": أبو الحسن البزار يروي عن علي: لا يصح الحيوان بالحيوان نسيئة روى عنه أبو العُميس. انتهى.
(2) قوله: أنَّه نهى، وعند عبد الرزاق من طريق ابن المسيّب عن عليّ: كره بعيراً ببعيرين نسيئة. وكذا أخرجه ابن أبي شيبة عنه، فهذا يخالف ما أخرجه مالك عن عليّ. وجاء عن ابن عمر أيضاً ما يخالف ما رواه عنه، فأخرج عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه أنه سأل ابن عمر عن بعير ببعيرين إلى أجلٍ فكرهه، قال الحافظ في "التلخيص": يمكن الجمع بأنه كان يرى فيه الجواز وإن كان مكروهاً على التنزيه. انتهى.
(3) قوله: وبلغنا إلخ، هذا البلاغ قد أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بطرقه من حديث سَمُرة وابن عمر وابن العباس وجابر، وجعله ناسخاً لما جاء في الجواز، وأخرج عن ابن مسعود: السَّلَف في كل شيء إلى أجلٍ مسمّى ما خلا الحيوان، وكذا أخرجه عن حذيفة. وفي "شرح المسند": استدلوا في ذلك بما أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث الحسن، عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ووصححه الترمذي وقال غيره: رجاله ثقات، ورواه ابن حبان والدارقطني، ورجاله ثقات أيضاً، وأخرجه الترمذي أيضاً من حديث جابر بإسناد ليِّن. واحْتجَّ من أجاز بحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يجهِّز جيشاً، فنفدت الإِبل فأمره أن يأخذ على قلائص (قلائص: جمع قلوص، وهي الناقة الشابّة، مجمع بحار الأنوار 4/313) الصدقة، فكان(3/266)
النبي صلى الله عليه وسلم: نهى (1) عن بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، فَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.
27 - باب الشِّركة (2) فِي الْبَيْعِ
802 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الْعَلاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي (3) أَبِي قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ البزَّ (4) فِي زَمانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وإنَّ عُمَرَ قَالَ: لا يبيعُه (5) فِي سُوقِنَا (6) أَعْجَمِيٌّ (7) ،
__________
يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، أخرجه أبو داود والدارقطني، قال الحافظ: إسناده قويّ، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم استسلف بعيراً بكراً - البكر: الصغير من الإِبل، والرَّبَاعي بالفتح: ما له ست سنين، قاله ابن حجر - وقضى رَبَاعياً، أخرجه البخاريّ. وأخرج عبد الرزاق أن رافع بن خديج اشترى بعيراً ببعيرين، فأعطى أحدهما، وقال: آتيك بالآخر غداً، وهو قول ابن المسيّب وابن سيرين. وحيث تعارضَتْ الأدلة في بيع الحيوان نسيئةً يُقَدَّم الحظر فتُرَجَّح الأدلَّة السابقة.
(1) في نسخة: أنه نهى.
(2) قوله: أخبرني أبي، هو يعقوب المدني مولى الحُرُقة، مقبول، وابنه عبد الرحمن الحُرقي، نسبة إلى حرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء المهملة بعدها قاف: بطن من همدان، وقيل: من جهينة، وهو الصحيح، ابنه أبو شبل العلاء مولى الحرقة، مات سنة 132 هـ، ذكرهما ابن حبان في "الثقات"، كذا في "التقريب" و "الأنساب".
(3) قوله: أخبرني أبي، هو يعقوب المدني مولى الحُرُقة، مقبول، وابنه عبد الرحمن الحُرقي، نسبة إلى حرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء المهملة بعدها قاف: بطن من همدان، وقيل: من جهينة، وهو الصحيح، ابنه أبو شبل العلاء مولى الحرقة، مات سنة 132 هـ، ذكرهما ابن حبان في "الثقات"، كذا في "التقريب" و "الأنساب".
(4) بتشديد الباء، بعدها زاء معجمة: أي الثياب.
(5) بصيغة الخبر مراد بها النهي، وفي نسخة لا يبعه بالنهي.
(6) أي سوق المدينة.
(7) أي غير عربي.(3/267)
فَإِنَّهُمْ لَمْ يَفْقَهُوا (1) فِي الدِّينِ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِي الْمِيزَانِ وَالْمِكْيَالِ. قَالَ يَعْقُوبُ: فَذَهَبْتُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ لَكَ (2) فِي غَنِيمَةٍ بَارِدَةٍ؟ قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: بَزٌّ، قَدْ علمتُ مَكَانَهُ (3) ، يَبِيعُهُ صَاحِبُهُ (4) برُخص (5) ، لا يَسْتَطِيعُ بَيْعَهُ (6) ، أَشْتَرِيهِ لَكَ ثُمَّ أبيعُه لَكَ، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبْتُ فَصَفَقْتُ (7) بِالْبَزِّ، ثُمَّ جئتُ بِهِ، فطرحتُ (8) فِي دَارِ عُثْمَانَ، فَلَمَّا رَجَعَ عُثْمَانَ فَرَأَى العُكُوْم (9) فِي دَارِهِ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا (10) : بَزٌّ جَاءَ بِهِ يَعْقُوبُ، قَالَ: ادْعُوهُ لِي، فجئتُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قلتُ: هَذَا الَّذِي قلتُ لَكَ، قَالَ: أَنَظَرْتَه (11) ؟ قلتُ: كفيتُك (12) ولكن رابَه (13)
__________
(1) أي لم يعرفوا مسائل الشرع في المعاملات كالعرب.
(2) أي هل لك ميل إلى منفعة زائدة؟
(3) أي عرفت موضعاً يُباع فيه.
(4) أي مالكه.
(5) أي بسعر أرخص من سعر السوق.
(6) أي لأنه عجمي، لا يقدر على بيعه بالسوق، أو لغير ذلك.
(7) أي اشتريته من الصفقة وهو العقد.
(8) أي ألقيتُه فيه.
(9) بالضم بمعنى العِدْل.
(10) أي أهل بيت عثمان.
(11) أي أبصرته وتأمَّلته، ما فيه نقص.
(12) أي صرت لك كافياً عن هذه المؤنة.
(13) أي ألقاه في الريب والشك مخافة أن يمنعوه.(3/268)
حَرَسُ (1) عُمَرَ، قَالَ: نَعَمْ، فَذَهَبَ عُثْمَانُ إِلَى حَرَسِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنَّ يَعْقُوبَ يَبِيعُ بَزِّيْ فَلا تَمْنَعُوهُ (2) ، قَالُوا: نَعَمْ (3) ، جِئْتُ بِالْبَزِّ السوقَ، فَلَمْ أَلْبَثْ (4) حَتَّى جعلتُ ثَمَنَهُ فِي مِزْوَدٍ (5) وَذَهَبْتُ بِهِ (6) إِلَى عُثْمَانَ وَبِالَّذِي (7) اشتريتُ الْبَزَّ مِنْهُ (8) فَقُلْتُ (9) : عُدَّ الَّذِي لَكَ فاعتَدَّه وَبَقِيَ مَالٌ كَثِيرٌ، قَالَ: فَقُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذَا لَكَ، أَما (10) إِنِّي لَمْ أَظْلِمْ بِهِ (11) أَحَدًا، قَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، وَفَرِحَ بِذَلِكَ، قَالَ (12) : فَقُلْتُ: أَمَا إِنِّي قَدْ علمتُ مَكَانَ بَيْعِهَا مِثْلِهَا
__________
(1) بفتحتين: جمع الحارس، أي حُفّاظ عمر في السوق المانعين عن بيع العجمي.
(2) أي من البيع في السوق.
(3) أي لا نمنعه.
(4) أي لم أمكث.
(5) بكسر الميم وفتح الواو: وعاء للزاد.
(6) أي بذلك الثمن.
(7) أي بائع البَزّ.
(8) أي من ذلك الرجل.
(9) قوله: فقلت، قال القاري: فقلت أي لبائعه: عُدّ الذي لك أي من ثمنه فاعتدَّه بتشديد الدال، أي عدَّه وأخذه وبقي مال كثير أي زائد على قدر ثمنه.
(10) حرف تنبيه.
(11) أي لم أنقص حق أحدٍ.
(12) قوله: قال، أي يعقوب، فقلت لعثمان. أما، حرف تنبيه. قد علمت مكان بيعها، أي مكاناً تباع فيه الثياب مثلها، أي بمثلها في الفائدة أو أفضل أي(3/269)
أَوْ أَفْضَلَ، قَالَ: وعائدٌ أَنْتَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، إِنْ شئتَ، قَالَ: قَدْ شئتُ، قَالَ: فقلتُ: فَإِنِّي باغٍ خَيْرًا فَأَشْرِكْنِي، قَالَ: نَعَمْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ، لا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فِي الشِّرَاءِ (1) بِالنَّسِيئَةِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لواحدٍ مِنْهُمْ رَأْسُ مَالٍ، عَلَى أنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا، وَالْوَضِيعَةُ (2) عَلَى ذَلِكَ، قَالَ: وَإِنْ وَليِ (3) الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ أحدُهما دُونَ صَاحِبِهِ، وَلا يَفْضُلُ (4) وَاحِدٌ مِنْهُمَا صاحبَه فِي الربح، فإن ذلك
__________
أنفع مما بعته. قال عثمان: وعائدٌ أنت؟ أي أراجع أنت إلى مثل هذه الصفقة النافعة؟ وهل تريد أن تشتري البزّ بالسعر الأرخص، وتبيعه بالنفع؟ قال يعقوب: قلت: نعم إن شئت أنت يا عثمان، قال عثمان: قد شئتُ أنا مثل هذه المرابحة، قال يعقوب: فقلت لعثمان: إني باغٍ - طالب خير - نفعاً وفائدة. فأشركني، بفتح الهمزة أي اجعلني لك شريكاً في ما يحصل من الربح، قال عثمان: نعم أنت شريك في الربح بيني وبينك، أي الربح بيني وبينك على التناصف (قال أبو عمر: أجمع العلماء على أنَّ القِراض سُنَّة معمول بها. أوجز المسالك 11/407) .
(1) أي شراء مال من غير نقد ثمنه، بل مؤجَّلاً.
(2) قوله: والوضيعة، على وزن فعيلة، بمعنى الخسران والنقصان، يقال: وضع في تجارته إذا خسر ولم يربح، وبيع الوضيعة بخلاف بيع المرابحة، كذا في "المُغرب" وغيره، يعني لا بد أن يشترط الاشتراك في النقصان كما اشترط الاشتراك في الربح، فإنْ شَرَطَ الربح دون الوضيعة فالشركة فاسدة.
(3) من الولاية أي باشَرَ وعَمِل.
(4) أي لا يزيد واحد في الربح الآخرَ بل يستويان.
(1) أي ذلك العقد.(3/270)
(1) لا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ (2) أَحَدُهُمَا رِبْحَ مَا ضَمِنَ صَاحِبُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
28 - بَابُ الْقَضَاءِ (3)
803 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مالك، ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يَمنع (4) أحدُكُم جارَه أَنْ يَغْرِزَ (5) خَشَبةً (6) فِي جِدَارِهِ (7) ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو هريرة: ما لي أَراكم عنها
__________
(2) بيان لسبب عدم الجواز، أي سببه أن لا يأكل أحدهما ربح ما ضمنه الآخر، أو بدل من ذلك أي لا يجوز ذلك وهو أن يأكل.
(3) بصيغة النفي مراداً به النهي، وفي رواية: بالنهي.
(4) بصيغة النفي مراداً به النهي، وفي رواية: بالنهي.
(5) أي يركز فوق جداره، أو في وسط جداره.
(6) قوله: خَشَبةً، بفتحتين والتنوين بصيغة الواحد، وفي رواية "خَشَبه" بالضمير بصيغة الجمع، قال الحافظ في "التلخيص": هذا الحديث متفق عليه، ورواه الشافعي وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عباس، ومجمع بن جارية عند ابن ماجه، وقال عبد الغني بن سعيد: كل الناس يقولون خشبه بالجمع إلا الطحاوي فإنه يقوله بلفظ الواحد، قلت: لم يقله الطحاوي إلاَّ نقلاً عن غيره، قال: سمعت يونس بن عبد الأعلى، يقول: سألت ابن وهب عنه، فقال: سمعت من جماعة "خشبة" على لفظ الواحد، قال: وسمعت روح ابن الفرج، يقول: سألت أبا زيد والحارث بن مسكين ويونس عنه، فقالوا خشبةً بالنصب والتنوين، ورواية مجمع يشهد لمن رواه بالجمع.
(7) قوله: في جداره، قال الزرقاني: النهي للتنزيه فيستحب أن لا يمنع عند الجمهور ومالك وأبي حنيفة والشافعي في الجديد جمعاً بينه وبين قوله عليه(3/271)
مُعْرِضِينَ؟ واللَّهِ لأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (1) عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ التوسُّع مِنَ الناس بعضهم
__________
السلام: لا يحل لامرئ من مال أخيه إلاَّ ما أعطاه عن طيب نفس منه، رواه الحاكم. وقال الشافعي في القديم وأحمد وإسحاق وأصحاب الحديث: يُجبر إن امتنع، واشترط بعضهم تقدُّم استئذان الجار لرواية أحمد: مَنْ سأله جاره، وكذا لابن حبان، قال البيهقي: لم نجد في السنن الصحيحة ما يعارض هذا الحكم إلاَّ عمومات لا يُنْكَر أن يخصها، وقد حمله الراوي على ظاهره، وهو أعلم بما حدَّث به، يشير إلى قول أبي هريرة: ما لي أراكم عنها - أي عن هذه المقالة - معرضين. ففي "الترمذي" لمّا حدثهم بذلك طأطؤا رؤسهم، فقال: والله لأرميَنَّ أي لأصرخن بهذه المقالة بين أكتافكم، رويناه بالفوقية جمع كتف، وبالنون جمع كَنَف بفتحها بمعنى الجانب، قال ابن عبد البر: أي لأُشِيْعَنَّ هذه المقالة فيكم، ولأقرعنَّكم بها كما يضرب الإِنسان بالشيء بين كتفيه، فيستيقظ من غفلته، أو الضمير للخشبة أي إن لم تقبلوا هذا الحكم وتعملوا به، لأجعلنَّ الخشبة بين رقابكم كارهين، وأراد به المبالغة، قاله الخطابي. وبهذا التأويل جزم إمام الحرمين، وقال: إن ذلك وقع من أبي هريرة، حين كان يلي إمرة المدينة، لكن عند ابن عبد البَرّ، من وجه آخر: لأرمينَّ بها بين أعينكم وإن كرهتم، وهذا يرجِّح التأويل الأول.
(1) قوله: وهذا عندنا، أي هذا الخبر عندنا محمول على الندب(3/272)
عَلَى بَعْضٍ، وحُسْن الخُلُق، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَلا يُجْبَرون عَلَى ذَلِكَ. بَلَغَنَا أَنَّ شُريحاً اختُصِم (1) إِلَيْهِ (2) فِي ذَلِكَ، فَقَالَ لِلَّذِي وَضَعَ الْخَشَبَةَ: ارفَعْ رِجْلَك (3) عَنْ مطيَّة (4) أَخِيكَ. فَهَذَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ، والتوسُّع أَفْضَلُ.
29 - بَابُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
804 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصين، عَنْ أَبِي غَطَفَان بْنِ طَرِيفٍ المُرّي (5) ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: مَن وهب (6) هبةً لصلةِ رحم،
__________
(قال صاحب "المحلى": أمر ندب عند أبي حنيفة، وأمر إيجاب عند أحمد وإسحاق وأهل الحديث، وللشافعي وأصحاب مالك قولان: أصحهما الندب كذا في الأوجز 11/227. وقال الموفق: أما وضع الخشبة إن كان يضرُّ بالحائط لضعفه عن حمله لم يجز بغير خلاف نعلمه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، وإن كان لا يضرّ به إلاَّ أن به غنية عنه لإِمكان وضعه على غيره، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز أيضاً، وهو قول الشافعي وأبي ثور، لأنه انتفاع بملك الغير بغير إذنه فلم يجز، وأشار ابن عقيل إلى الجواز لحديث الباب، فأما إنْ دعت الحاجة إلى وضعه بحيث لا يمكنه التسقيف بدونه فإنه يجوز له وضعه بغير إذنه، وبهذا قال الشافعي في القديم، وقال في الجديد: ليس له وضعه، وهو قول أبي حنيفة ومالك المغني 4/555)
والأولوية، لاستحباب التوسع على الناس، وحُسْن الخلق في ما بينهم، الذي مقتضاه عدم المنع، فأما في الحكم الشرعي الظاهر الذي يتعلق بالقضاة فليس فيه جبر، فإن منع فله المنع، وإن لم يمنع فهو أحسن.
(1) بصيغة المجهول، أي تخاصم بعضهم بعضاً عنده.
(2) في نسخة: عنده.
(3) كناية عن رفع الخشبة عن الجدار.
(4) أي مركبه. وهذا من قبيل الأمثال الدائرة.
(5) نسبة إلى مُرَّة، بطن من غطفان.
(6) قوله: من وهب هبة (بسط الكلام عليه الباجي في المنتقى 6/116) ، أي شيئاً موهوباً، أو المعنى من فعل هبة على(3/273)
أَوْ عَلَى وَجْهِ صدقةٍ، فَإِنَّهُ لا يَرْجِعُ (1) فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى (2) أنَّه إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ (3) ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ، يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ لَمْ يرضَ مِنْهَا (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَنْ وَهَبَ (5) هِبَةً لِذِي رَحِمٍ محرم،
__________
طريق التجريد، بقصد صلة رحم، أي قرابة، أو وهبة للفقير على وجه الصدقة في سبيل الله فلا يجوز للواهب الرجوع فيه، ومن وهب هبة مجرَّدةً لقصد الثواب دون الصلة والتصدُّق يجوز له الرجوع، وهذا في "الموطأ" موقوف على عمر، قال الحافظ في "التلخيص": ورواه البيهقي من حديث ابن وهب عن حنظلة عن سالم بن عبد الله بن عمر نحوه، قال: ورواه عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم، عن حنظلة مرفوعاً، وهو وهم، وصححه الحاكم وابن حزم، وروى الحاكم من حديث الحسن، عن سمرة مرفوعاً: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع. وأخرجه الدارقطني ومن حديث ابن عباس بسندٍ ضعيف.
(1) أي لا يجوز له ولا يعمل برجوعه.
(2) بصيغة المعروف، أي يظن الواهب، أو بصيغة المجهول.
(3) أي الجزاء والمكافأة الدنيوية والعوض.
(4) أي من تلك الهبة.
(5) قوله: من وهب هبة إلخ، تفصيله بحيث تظهر فوائد قيوده، على ما في "الهداية" وشروحه: أن الهبة لا تخلو إما أن تكون مقبوضة، أو غير مقبوضة، فإن كانت غير مقبوضة يجوز للواهب الرجوع فيها ويعمل برجوعه لأن الهبة غير (في الأصل "الغير" وهو تحريف) المقبوضة لا تفيد ملكاً كما قال النخعي: لا يجوز الهبة حتى تُقْبض، والصدقة تجوز قبل أن تقبض، ويدل على اشتراط القبض حديث نحلة أبي بكر الصديق كما سيأتي، وإن كانت مقبوضة، فلا يخلو إما أن يكون لذي رحم محرم، أي لذي قرابة(3/274)
أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ، فَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ، وَقَبَضَهَا، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إِنْ لَمْ يُثَبْ (1) مِنْهَا، أَوْ يُزَدْ (2) خَيْرًا (3) فِي يَدِهِ (4) ، أَوْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكه (5) إِلَى مِلْكِ غَيْرِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
المحرمية، كالأصول والفروع، وإما أن يكون لغيره سواء كان أجنبياً محضاً أو كان ذا قرابة، ولم يكن محرماً كبني الأعمام، أو كان محرماً ولم يكن ذا رحم كالأخ الرضاعي، فإن كان الأول فلا يصح الرجوع فيه، لأن المقصود صلةُ الرحم، وقد حصل، وكذلك في هبة أحد الزوجين للآخر ويدل عليه حديث سمرة مرفوعاً: إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع فيها، اخرجه الحاكم وقال: على شرط البخاري، والدارقطني والبيهقي في سُنَنيْهما، وضعَّفه ابنُ الجوزي بالكلام في أحد رواته عبد الله بن جعفر وخطأه ابن دقيق العيد، وقال: هو على شرط الترمذي، وإن كان الثاني فإن كان على سبيل الصدقة على الفقير يُقصد بها وجه الله فحسب فلا رجوع أيضاً، وإلاَّ فله رجوع، إلاَّ أن يمنع مانع، نحو أن يعوِّض عنها الموهوب له، فحينئذٍ تنقلب الهبة لازمة، وكذا إذا زاد الموهوب له في الموهوب خيراً، كالغرس والبناء وكذا إذا خرج من ملكه بالبيع أو الهبة، وكذا إذا هلك الموهوب أو مات أحدهما، وفي المسألة أبحاث استدلالاً واختلافاً مذكورة في مظانها.
(1) مجهول من الإِثابة بمعنى العود والرجوع أي إن لم يعوض.
(2) أي ذلك الشيء الموهوب.
(3) أي منفعةً وزيادة.
(4) أي الموهوب له.
(5) أي الموهوب له.(3/275)
30 - بَابُ النُّحْلَى (1)
805 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُعمان بْنِ بَشير، يُحدِّثانه عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: إنَّ أَبَاهُ (2) أَتَى بِهِ (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال (4) :
__________
(1) قوله: قال: إن أباه، هو بشير بن سعد بن جُلاَس بن زيد بن مالك الخزرجي الأنصاري أبو النعمان، شهد بدراً وأحداً والمشاهد بعدها، والعَقَبة الثانية، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة، وقُتل مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة يوم عين التمر سنة 12، وابنه النُّعْمان بضم النون، وُلد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، وقيل: بثمان سنين، قال ابن عبد البر: لا يصحِّح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي صحيح، استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده ابنه يزيد، ولمّا مات دعا الناس إلى خلافة ابن الزبير بالشام، فقتله أهل حمص سنة أربع وستين، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" وابنه محمد أبو سعيد من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب" وغيره.
(2) قوله: قال: إن أباه، هو بشير بن سعد بن جُلاَس بن زيد بن مالك الخزرجي الأنصاري أبو النعمان، شهد بدراً وأحداً والمشاهد بعدها، والعَقَبة الثانية، وهو أول من بايع أبا بكر الصديق يوم السقيفة، وقُتل مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة يوم عين التمر سنة 12، وابنه النُّعْمان بضم النون، وُلد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بست سنين، وقيل: بثمان سنين، قال ابن عبد البر: لا يصحِّح بعض أهل الحديث سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عندي صحيح، استعمله معاوية على حمص، ثم على الكوفة، واستعمله عليها بعده ابنه يزيد، ولمّا مات دعا الناس إلى خلافة ابن الزبير بالشام، فقتله أهل حمص سنة أربع وستين، كذا في "أسد الغابة في معرفة الصحابة" وابنه محمد أبو سعيد من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب" وغيره.
(3) أي بالنعمان.
(4) قوله: فقال، قال الزرقاني: رَوَى هذا الحديث عن النعمان بن بشير عددٌ كثير من التابعين، منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي، والمفضل بن المهلَّب عند أحمد وأبي داود والنسائي، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة، والشعبي في "الصحيحين".(3/276)
إِنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلامًا (1) كَانَ لِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَكُلٌّ وَلَدِكَ نحلتَه مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَأَرْجِعْه (2) .
806 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ (3) نَحَلَها جُذاذ عشرين
__________
(1) أي عبداً مملوكاً لي.
(2) قوله: فأرجعه، أمر وجوب عند طاوس والثوري وأحمد في رواية وإسحاق والبخاري، فإنهم قالوا: يجب التسوية في الهبة بين الأولاد، وقالوا: لو وهب من غير تسوية فهي باطلة، وعند الجمهور هو أمر ندب، والتفاضل مكروه (قال الموفق: يجب على الإِنسان التسوية بين أولاده في العطية، إذا لم يختص أحدهم بمعنى يبيح التفضيل، فإن فاضل بينهم أثم، ووجبت عليه التسوية بأحد أمرين، إما ردَّ ما فضَّل به البعض، وإما بإتمام نصيب الآخر، قال: فإن خصَّ بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه، مثل اختصاصه بحاجة أو زمانه أو عمى أو كثرة عالة أو اشتغاله بالعلم أو نحوه من الفضائل أو صرف عطيته عن بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو غير ذلك فقد رُوي عن أحمد ما يدل على جوازه، ويدل ظاهر لفظه المنع من التفضيل على كل حال، والأول أَولى، وقال مالك والليث والشافعي وأصحاب الرأي: ذلك جائز. انظر: "المغني" 5/664 و 665) ولا يبطل الهبة، كذا ذكره الزرقاني.
(3) قوله: كان نحلها جذاذ، بكسر الجيم وضمها وبدالين مهملتين، وقيل: بمعجمتين، بمعنى القطع، قاله القاري. وفي "موطأ يحيى" جادّ عشرين وسقاً، قال الزرقاني: هو صفة للثمر من جَدّ إذا قطع، يعني أن ذلك يجدُّ منها، وقال الأصمعي: هذه أرض جادّ مائة وسق أي يُجَدّ ذلك منها فهو صفة النخل التي وهبها ثمرتها، يريد نخلاً يُجَدُّ منها عشرون وسقاً، والوسق ستون صاعاً.(3/277)
وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ (1) ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، قَالَ: وَاللَّهِ يَا بُنَيَّةَ (2) مَا مِنَ النَّاسِ أحبُّ إليَّ (3) غِنًى بَعْدِي منكِ، وَلا أعزُّ (4) عليَّ فَقْرًا منكِ، وَإِنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ مِنْ مَالِي جُذاذ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْتِ جَذَذْتِيْه (5) ، واحتَزْتِيه (6) كَانَ (7) لَكِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وارث (8) ، وإنما (9) هو
__________
(1) قوله: بالعالية، قال القاري: أي بقرية من العوالي حول المدينة، وفي "موطأ يحيى": بالغابة بمعجمة وموحدة: موضع على بريد من المدينة.
(2) تصغير للشفقة.
(3) أي بالنسبة إلى بقية الورثة.
(4) أي أشقُّ وأصعب.
(5) أي قطعتيه.
(6) بإسكان الحاء المهملة والزاء المعجمة بينهما فوقية مفتوحة أي حَذْتِيه وجمعته أي قبضته.
(7) لأن الحيازة والقبض شرط الملك في الهبة (الحيازة والقبض شرط في تمام الهبة عند الأئمة الثلاثة، وتصح عند احمد بغيره. (شرح الزرقاني 4/44) .
(8) قوله: وارث، أي من يرث مني لأنه داخل في تَرِكتي، وغير خارج من ملكي، وهذا نص على أن الهبة لا تفيد الملك، إلاَّ مَحُوزة مقبوضة، وهو مذهب الخلفاء الأربعة الراشدين، والأئمة الثلاثة، وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة والصدقة من غير قبض، ورُوي ذلك عن عليّ من وجه لا يصح، قاله ابن عبد البر.
(9) قوله: وإنما هو أخوك، كذا في بعض النسخ، وعليه شرح القاري، وفسره بمحمد بن أبي بكر وفي "موطأ يحيى": وإنما هو - أي الوارث لما تركته -(3/278)
أخوكِ (1) وأختاكِ، فَاقْسِمُوهُ عَلَى (2) كِتَابِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ، قَالَتْ: يَا أبتِ (3) ، واللَّهِ لَوْ كَانَ (4) كَذَا وَكَذَا لَتَرَكْتُهُ (5) ، إِنَّمَا هِيَ (6) أَسْمَاءُ، فَمَنِ الأُخْرَى؟ (7) قَالَ: ذُو بَطْنِ (8) بنتِ خَارِجَةَ أُراها (9) جَارِيَةً، فوَلَدَتْ (10) جَارِيَةً.
807 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبير، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عبدٍ القادريِّ (11) أنَّ عُمَرَ بْنَ الخطاب قال: ما بالُ
__________
أخواك وهو الظاهر، والمراد بهما ابناه محمد وعبد الرحمن، وأختاك وهي أسماء بنت أبي بكر وأمّ كلثوم، التي كانت في بطن زوجته حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير الأنصاري، وولدت بعد وفاته، قال الزرقاني: يريد به من يرثه بالبنوَّة، لأنه ورثه معهم زوجتاه أسماء بنت عُميس وحبيبةُ وأبوه أبو قحافة.
(1) في نسخة: أخواك.
(2) أي حسب الفرائض المذكورة في الكتاب.
(3) في نسخة: أبي.
(4) كناية عن شيء كثير، أزيد مما وهبه لها.
(5) أي طلباً لرضاك.
(6) أي الأخت.
(7) أي التي ذكرتَها بقولك: أختاك.
(8) أي الكائنة في بطن بنت خارجة.
(9) أي أظنها أنها أنثى، قيل ذلك لرؤيا رآها، وعُدَّ هذا من كراماته.
(10) أي بنت خارجة بعد موت أبي بكر.
(11) بتشديد الياء صفة لعبد الرحمن، نسبة إلى قارة قبيلة.(3/279)
رجالٍ يَنْحَلُون (1) أبناءَهم نُحْلاً (2) ، ثُمَّ يُمسكونها (3) ، قَالَ (4) : فَإِنْ مَاتَ ابنُ أَحَدِهِمْ (5) قَالَ: مَالِي بِيَدِي (6) وَلَمْ أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ هُوَ (7) قَالَ: هُوَ لِابْنِي (8) ، قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ إِيَّاهُ. مَنْ نَحَلَ (9) نِحْلَةً لَمْ يَحُزْها الَّذِي نُحِلَها حَتَّى تَكُونَ إِنْ مَاتَ لِوَرَثَتِهِ فَهِيَ بَاطِلٌ.
808 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغْ (10) أَنْ يحوز نُحْلة
__________
(1) بفتح أوَّله وثالثه، أي يُعطون.
(2) قوله: نُحْلاً، بالضم فسكون: عطية، قاله الزرقاني، أو بكسر ففتح جمع نِحْلة بمعنى المنحول، أي عطاءً، قاله القاري.
(3) من الإِمساك، أي لا يقتضونه للموهوب له.
(4) أي عمر بن الخطاب.
(5) أي الموهوب له.
(6) أي في قبضتي.
(7) أي الأب الواهب.
(8) أي ليحرم بقية ورثته، مع أن الهبة بدون القبض غير مفيد للملك.
(9) قوله: من نحل، أي أعطى نِحلة بالكسر أي عطيَّة ومنحولاً لم يحُزْها - بضم الحاء المهملة بعدها زاء معجمة - من الحوز أي لم يجمعها ولم يقبضها الذي نُحِلَها، بصيغة المجهول، أي الذي أُعْطِيَها، وهو الموهوب له، حتى تكون أي النحلة إن مات لورثته، أي الواهب، فهي - أي تلك النحلة - باطلٌ، لا تفيد ملكاً، بل هو مشترك بين الورثة.
(10) قوله: لم يبلغ، أي لم يصل إلى حدِّ أن يحوز ويقبض الموهوب له، بأن لم يبلغ سنّ التمييز.(3/280)
فَأَعْلَنَ بِهَا، وَأَشْهَدَ (1) عَلَيْهَا، فَهِيَ جَائِزَةٌ، وإنَّ وَليَّها (2) أَبُوهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كلَّه نَأْخُذُ. يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يسوِّي (3) بَيْنَ وَلَدِهِ (4) فِي النُحْلة (5) ، وَلا يُفَضِّلُ بعضَهم عَلَى بعضٍ، فَمَنْ نَحَل نُحْلة وَلَدًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلَمْ يَقْبِضْهَا الذي نُحِلَها (6) حتى مات الناحل
__________
(1) بيان للإِعلان، وهو أمر مستحبّ.
(2) قوله: وإنَّ وليَّها أبوه، الظاهر أنَّ "إنَّ" مشددة مكسورة، واسمها وليها، وخبره أبوه، أي: إنَّ وليّ هذه النحلة هو أبوه الواهب، فإنَّ قبضه ينوب مناب قبض الصغير، ويُحتمل أن يكون أن وصايته وَوَلِيَ فعل ماضٍ وفاعله أبوه أي من أعطى للصغير نحلة، فأعلن بها، فهو جائز، وإن كان وليها الأب.
(3) قوله: أن يسوّي، قال الطحاوي في "شرح معاني الآثار": اختلف أصحابنا في السويَّة، فقال أبو يوسف: يُسوَّى فيها الأنثى والذكر، وقال محمد بن الحسن: بل يجعلها بينهم على قدر المواريث للذكر مثل حظ الأنثيين، انتهى. ثم رجَّح قول أبي يوسف بأن قوله صلى الله عليه وسلم: سوّوا بينهم في العطية كما تحبون أن يسووا لكم في البّر، دليل على أنه أراد التسوية بين الإِناث والدكور (قال الموفق: التسوية المستحبة أن يقسم على حسب قسمة الله تعالى الميراث، فيجعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وبهذا قال عطاء وشريح وإسحاق ومحمد بن الحسن، قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلاَّ على كتاب الله تعالى. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وابن مبارك: تُعطى الأنثى مثل ما يُعطى الذكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير بن سعد: "سوِّ بينهم". المغني 5/666، والأوجز 12/257) .
(4) بفتحتين أو بضم فسكون، أي أولاده.
(5) أي العطية.
(6) بصيغة المجهول.(3/281)
و (1) المنحول فَهِيَ مَرْدُودَةٌ عَلَى النَّاحِلِ (2) ، وَعَلَى وَرَثَتِهِ (3) وَلا تَجُوزُ (4) لِلْمَنْحُولِ حَتَّى يَقْبِضَهَا، إلاَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ، فَإِنْ قَبَضَ وَالِدُهُ لَهُ (5) قَبْضٌ، فَإِذَا أَعْلَنَهَا وأَشْهد بِهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ لِوَلَدِهِ، وَلا سَبِيلَ (6) لِلْوَالِدِ إِلَى الرَّجْعَةِ فِيهَا، وَلا إِلَى اغْتِصَابِهَا (7) بَعْدَ أَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ والعامةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
31 - بَابُ العُمْرى (8) والسُّكْنى
809 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سلمة بن
__________
(1) الواو بمعنى أو.
(2) إنْ كان حيّاً.
(3) إنْ كان ميّتاً.
(4) أي لا يجوز للموهوب له ذلك الموهوب أن يتصرف فيه.
(5) أي في حكم قبضه.
(6) لعدم جواز رجوع الواهب من ذي الرحم المحرم، إلاَّ أن يكون العقد السابق مما اشتمل على أمر ممنوع، كما في قصة النعمان وأبيه.
(7) أي أخذها منه جبراً.(3/282)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَيُّمَا (1) رَجُلٍ أُعمر (2) عُمرى لَهُ ولِعَقِبِه (3) فإنَّها للذي
__________
(8) أيّما: مركب من "أي" مضاف إلى ما بعده ومن "ما" الزائدة.
(1) أيّما: مركب من "أي" مضاف إلى ما بعده ومن "ما" الزائدة.
(2) بصيغة المجهول.
(3) قوله: ولعقبه، أي ورثته، وهو بفتح العين وكسر القاف، ويجوز إسكانها مع فتح العين وكسرها، أولاد الإِنسان ما تناسلوا، ذكره النووي.(3/283)
يُعطاها (1) لا تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لأَنَّهُ أَعْطَى (2) عَطَاءً وَقَعَتِ الْمَوَارِثُ فِيهِ.
810 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أنَّ ابْنَ عُمَرَ وَرَّث حَفْصَةَ (3) دَارَهَا، وَكَانَتْ حَفْصَةُ قَدْ أَسْكَنَتْ بِنْتَ زَيْدِ (4) بْنِ الْخَطَّابِ مَا عَاشَتْ (5) ، فَلَمَّا تُوفيت بِنْتُ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ قَبَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر المسكن، ورأى (6) أنه له.
__________
(1) بصيغة المجهول.
(2) قوله: لأنه أعطى إلخ، هذا مدرج من قول أبي سلمة، بيَّن ذَلِكَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عن أبي سلمة، عن جابر فيما أخرجه مسلم، وقال محمد بن يحيى الذهلي: إنه من قول الزهري، ولمسلم من طريق جابر قال: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تُفسدوها فإنه من أعمر عمرى، فهي للذي أعمرها حيّاً وميتاً ولعقبه. وللطحاوي في "شرح معاني الآثار" روايات كثيرة في هذا الباب.
(3) قوله: ورَّث حفصة، أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب دارَها أي بعد موتها.
(4) هي بنت عمه.
(5) أي ما دامت حياتها.
(6) قوله: ورأى أنه له، أي ظن أنه حقه إرثاً من أخته حفصة، دلَّ هذا على أن السكنى عنده عارية ترجع إلى المعطي وإلى ورثته بعد موته، بعد موت من أعطى له السكنى وأما العمرى فعنده أنها له ولعقبه بعده، ليس فيه ردّ ولا رجوع، أخرجه الطحاوي عنه.(3/284)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْعُمْرَى هِبَةٌ (1) فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا (2) فَهُوَ لَهُ، وَالسُّكْنَى لَهُ عَارِيَةٌ تُرْجَعُ إِلَى (3) الَّذِي أَسْكَنَهَا، وَإِلَى (4) وَارِثِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا، وَالْعُمْرَى أَنْ قَالَ هِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ أو لم يقل ولعقبه فهو سواء (5) .
__________
(1) قوله: هبة، أي شرعاً، لورود الأحاديث الكثيرة بما يفيد ذلك، وأما ما نُقل عن ابن الأعرابي أنه قال: لم يختلف العرب في أن العُمْرى والرُّقْبى والمنحة والعرية والسكنى، أنها على ملك أربابها ومنافعها لمن جُعلت له، ونقل إجماع أهل المدينة على ذلك، فردَّه العيني بأن دعوى الإِجماع غير صحيحة، لاختلاف كثير من الصحابة فيه، وكونه عند العرب تمليك المنافع لا يضر إذا نقلها الشارع إلى تمليك الرقبة، كما في الصلاة.
(2) داراً كان أو بستاناً.
(3) أي في حال حياته.
(4) أي بعد وفاته.
(5) قوله: فهو سواء، أي في كون ذلك الشيء المعمر: له ولعقبه بعده ذكر لفظ عقبه أم لم يذكره، لإِطلاق كثير من الأحاديث الواردة في هذا الباب.(3/285)
كِتَابُ الصَّرْفِ (1) ، وَأَبْوَابِ (2) الرِّبا
811 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لا تَبِيعُوا الوَرِق (3) بِالذَّهَبِ، أحدُهما غائبٌ (4) وَالآخَرُ ناجزٌ (5) ، فَإِنِ اسْتَنْظَرَكَ (6) إِلَى أنْ يَلِجَ (7) بيتَه فَلا تُنْظِرْه (8) . إِنِّي (9) أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّماءَ، والرَّماء (10) هُوَ الرِّبَا.
__________
(1) الوَرِق: بكسر الراء والسكون: الفضّة.
(2) أي نسيئة.
(3) الوَرِق: بكسر الراء والسكون: الفضّة.
(4) أي نسيئة.
(5) أي نقد.
(6) أي استمهلك البائع أو المشتري، وطلب منك التأخير.
(7) أي يدخل بيته.
(8) من الإِنظار، أي فلا تمهله.
(9) استئناف تعليلي.
(10) قوله: والرَّماء، هو بفتح الراء المهملة بهده ميم: الربا، وهو تفسير من ابن عمر على ما هو الظاهر لاتفاق نافع وابن دينار عليه، قاله الزرقاني.(3/286)
812 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لا تَبِيعُوا الذَّهب بِالذَّهَبِ إِلا مثْلاً (1) بمثْل، وَلا تَبِيعُوا الوَرِق بالوَرِق إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تَبِيعُوا الذَّهَبَ (2) بالوَرِق أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَالآخَرُ ناجزٌ، وَإِنِ استنظركَ (3) حَتَّى يَلِجَ بيتَه فَلا تُنظر، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرِّبا (4) .
813 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ (5) ؟، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْري، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ (6) إِلا مثْلاً بمثْل، وَلا تُشِفُّوا (7) بعضَها عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا الوَرِق بالوَرِق إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، وَلا تُشِفُّوا بعضَها عَلَى بَعْضٍ، وَلا تَبِيعُوا مِنْهَا شَيْئًا غائباً (8) بناجزٍ.
__________
(1) أي في الوزن.
(2) وكذا العكس.
(3) أي طلب منك النظرة إلى المهلة.
(4) زاد في "موطأ يحيى" بعده: والرماء الربا
(5) هو مولى ابن عمر.
(6) أي إلاّ حال كونهما متماثِلَيْن أي متساويين وزناً من غير اعتبار الجَوْدة والرداءة.
(7) قوله: ولا تُشِفُّوا، قال الزرقاني: بضم الفوقية وكسر الشين المعجمة وضم الفاء المشددة، من الإِشفاف، أي لا تفضلوا، والشفُّ هو الزيادة، وفيه دليل على أن الزيادة وإن قلّت حرام لأن الشفوف الزيادة القليلة، ومنه شفافة الإِناء لبقية الماء.
(8) قوله: غائباً بناجز، بنون وجيم وزاء معجمة أي مؤجَّلاً بحاضر، بل لا بد من التقابض في المجلس، ولا خلاف في منع الصرف المؤخرّ إلا في دينار(3/287)
814 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا مُوسَى (1) بْنُ أَبِي تَمِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لا فَضْلَ بينهما (2) .
__________
في ذمة أحدٍ صرفه الآن، أو في دينار في ذمة وصرفه في ذمة أخرى فيتقاصّان معاً، فذهب مالك إلى جواز الصورتين بشرط حلول ما في الذمة وأن يتناجزا في المجلس، وأجاز أبو حنيفة الصورتين معاً وإن لم يحلّ ما في الذمة فيهما لمراعاة براءة الذمم وأجاز الشافعي الأولى دون الثانية، قاله القاضي عياض (قال الموفق: ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر. ويكون صرفاً بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة لأن القبض شرط وقد تخلَّف، ولنا ما روى أبو داود والأثرم عن ابن عمر كنت أبيع الإِبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، الحديث وفيه: فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وليس بينكما شيء، قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر، لم يختلفوا أن يقضيه إياه بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي: إنه يقضيه مكانها ذهباً على التراضي لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، ولنا حديث ابن عمر المذكور، فإن كان المقضيّ الذي في الذِّمة مؤجَّلاً فقد توقف فيه أحمد، وقال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما المنع وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، والآخر الجواز، وهو قول أبي حنيفة لأن الثابت في الذمة بمنزلة المقبوض. المغني 4/55) .
(1) قوله: موسى بن أبي تميم المدني، قال أبو حاتم: ثقة ليس به بأس ذكره السيوطي، وقال الزرقاني: ليس له في "الموطأ" مرفوع إلا هذا الحديث الواحد.
(2) قوله: لا فضل بينهما، أي لا زيادة لأحدهما على الآخر مع التقابض، فإن اختلف الجنسان حلّ التفاضل مع حرمة النَّسَاء، كما في رواية عليّ عند ابن ماجة والحاكم: فمن كانت له حاجة بورق فليصرفها بذهب، ومن كانت له حاجة بذهب فليصرفها بورق، والصرف هاءَ وهاءَ.(3/288)
815 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ مَالِكِ (1) بن أوس ابن الحَدَثان، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ (2) : أَنَّهُ (3) الْتَمَسَ صَرْفاً بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: فَدَعَانِي طَلْحَةُ (4) بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: فتراوَضْنا (5) حَتَّى اصطَرَف (6) مِنِّي، فَأَخَذَ طلحةُ الذهبَ يُقَلِّبُها (7) فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: حَتَّى (8) يأتِيَني خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ (9) ، وعمرُ بْنُ الْخَطَّابِ يسمع كلامه،
__________
(1) قوله: عن مالك، قال ابن الأثير في "جامع الأصول": مالك بن أوس ابن الحَدَثان بن عوف بن ربيعة، أبو سعيد النصري، من بني نصر بن معاوية، اختُلف في صحبته، وأبوه صحابي، قال ابن عبد البَرّ: الأكثر على إثباتها، وقال ابن مَنْذَه: لا يثبت، روى عن العشرة المبشّرة وغيرهم، مات بالمدينة سنة اثنتين وتسعين. والحَدَثان بفتح الحاء والدال المهملتين، والنَّصْري بفتح النون.
(2) أي أخبر ابنَ شهاب.
(3) قوله: أنه التمس، أي طلب صرفاً أي بيع الصرف: بيع مائة دينار من ذهب عنده بالفضة.
(4) أي أحد العشرة المبشرة.
(5) قوله: فتراوَضْنا، بإسكان الضاد المعجمة، يقال: تراوض البائع والمشتري إذا جرى بينهما حديث البيع والشراء، والزيادة والنقصان، فيرتضي أحدهما بما يرتضي به الآخر.
(6) أي أخذ طلحة مني ما كان عندي صرفاً.
(7) من التقليب أي يجعل ظهره بطناً وبطنه ظهراً.
(8) أي اصبر إلى إتيانه.
(9) قوله: من الغابة، قال الزرقاني: بغين معجمة فألف فموحدة، موضع قرب المدينة به أموال لأهلها، وكان لطلحة بها مال نخل وغيره، وإنما قال ذلك(3/289)
فَقَالَ (1) : لا، وَاللَّهِ لا تُفَارِقْهُ حَتَّى تأخُذَ (2) مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ (3) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الذَّهَبُ بالفِضّة (4) رِبًا إِلا هآءَ (5) وَهآءَ (6) ، والتمرُ بالتمرِ رِبًا إِلا هآءَ (7) وهآءَ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلا هآءَ وهآءَ.
__________
طلحة لظنه جوازه كسائر البيوع، وما كان بَلَغَه حكم المسألة، قال المأزري: وإنه كان يرى جواز المواعدة في الصرف، كما هو قول عندنا، أو إنه لك يقبضها وإنما أخذ يقلِّبها.
(1) أي لمالك بن أوس.
(2) أي عوض الذهب في المجلس.
(3) أراد به الاستناد بالسُّنَّة على ما أفتاه به.
(4) في نسخة: بالورق.
(5) قوله: إلا هاء وهاء (قال ابن الأثير: هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيّعين: هاء فيعطيه ما في يده كالحديث الآخر: "إلاّ يداً بيد" يعني مقابضة في المجلس، وقيل: "خذ وأعط".
وقال الطيبي: محله النصب على الحال، والمستثنى منه مقدر يعني بيع الذهب بالذهب رباً في جميع الحالات إلا حال التقابض، ويُكنى عن التقابض بقوله: هاء وهاء، لأنه لازمه، وعبّر بذلك لأن المعطي قال: خذ بلسان الحال سواء وُجد معه لسان المقال أو لا، فالاستثناء مفرَّغ. انظر "لامع الدراري على جامع البخاري" 6/115 - 116) ، قال النووي: فيه لغتان المدّ والقصر، والمد أفصح وأشهر وأصله هاك، فأُبدلت المدّ من الكاف، ومعناه خُذْ هذا، ويقول لصاحبه مثله.
(6) في "موطأ يحيى" بعده: والبُرّ بالبُرّ رباً إلا هاء وهاء.
(7) أي في جميع الأحوال إلا أن يقال من الجانبين خذ هذا، خذ هذا، ويحصل التقابض.(3/290)
816 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَوْ عَنْ سُلَيْمَانَ (1) بْنِ يَسَارٍ: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَاعَ سِقايةً (2) مِنْ ورِقٍ أَوْ ذهبٍ بأكثرَ مِنْ وَزْنِهَا، فَقَالَ لَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا إِلا مِثْلا (3) بِمِثْلٍ، قَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: مَا نَرَى بِهِ بَأْسًا (4) ، فقال له أبو الدرداء: من يعذِرُني (5)
__________
(1) قوله: أو عن سليمان بن يسار، الشك لعلّه من صاحب الكتاب، فإن في رواية يحيى الأندلسي عن عطاء بن يسار من دون شك.
(2) قوله: سِقاية، بالكسر هي البرادة: الإِناء التي يبرد فيها الماء، قاله الزرقاني.
(3) أي سواء في القدر.
(4) قوله: ما نرى به بأساً (قال أبو عمر: لا أعلم أن هذه القصة عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من هذا الوجه، ورواه الشافعي في "الرسالة" فقرة 1228، بتحقيق الأستاذ أحمد شاكر) ، بمثل هذا البيع، وإنما قال ذلك إما لأنه حمل نهي الفضل على المسبوك، الذي به التعامل وقيم المتلفات، ورأى جوازه في الآنية المصوغة من الذهب والفضة ونحوهما، وإما لأنه كان لا يرى ربا الفضل، كما كان مذهب ابن عباس أوّلاً أخذاً من حديث: "لا ربا إلا في النسيئة" من أنّ الربا إنما هو في تأجيل أحدهما وتعجيل الآخر، لا في الفضل حالّاً، وقد قال قوم به، وخالفهم الجمهور بشهادة الأخبار الصحيحة، ولا حجة بقول أحد مخالف للكتاب والسُّنّة كائناً من كان، وقد ثبت في بعض الرويات رجوع ابن عباس عن هذه الفُتيا بعد ما وصلت إليه الرويات، كما بسطه الحازمي في "كتاب الناسخ والمنسوخ".
(5) قوله: من يعذِرُني، بكسر الذال المعجمة أي من يلومه على فعله(3/291)
مِنْ مُعَاوِيَةَ، أُخْبِرُهُ (1) عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويُخبرني عَنْ رَأْيِهِ، لا أُساكِنْكَ (2) بأرضٍ (3) أنتَ بِهَا، قَالَ: فقدِم (4) أَبُو الدَّرْدَاءِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرَهُ (5) ، فَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ أَنْ لا يَبِيعَ ذَلِكَ (6) إِلا مِثْلا بِمِثْلٍ، أَوْ (7) وَزْنًا بِوَزْنٍ.
817 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْط الليثي:
__________
ولا يلومني على فعلي، أو من يقوم بعذري إذا جازَيْتُه بصنعه، أو من ينصرني، يقال: عذرته إذا نصرتهُ.
(1) قوله: أخبره، أي أخبره أنا بالحديث، ويخبرني هو عن رأيه ويقول: ما أرى به بأساً، ولا رأْيَ بعد الكتاب والسُّنّة، وفيه زجر عظيم على مَنْ يردّ الحديث بالرأي أو يقابله به، ولقد عظُمت هذه البلّية في الأزمنة المتأخرة في الطوائف المقلّدة، إذا وصل إليهم حديث مخالف لمذهبهم ردّوه برأيهم وقابلوه برأي أئمتهم، فالله يهديهم ويصلحهم.
(2) قوله: لا أساكنك، فيه جواز أن يهجر المرء من لم يسمع ولم يطعه وصدر منه أمر غير مشروع، لا للبُغْض والعناد والهوى بل لوجه الله خاصة، ويشهد له نصوص كثيرة، ذكرها السيوطي في رسالته "الزجر بالهجر".
(3) أي أرض الشام.
(4) أي إلى المدينة.
(5) أي بما جرى بينه وبين معاوية.
(6) أي الذهب والفضة مطلقاً.
(7) شك من الراوي ومعناهما واحد.(3/292)
أَنَّهُ رَأَى سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُراطِلُ (1) الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، قَالَ: فَيُفَرِّغُ (2) الذَّهَبَ فِي كِفّةِ الْمِيزَانِ، ويُفَرِّغُ الآخَرُ الذهبَ فِي كِفَّتِهِ الْأُخْرَى، قَالَ: ثُمَّ يَرْفَعُ الْمِيزَانَ، فَإِذَا اعْتَدَلَ (3) لِسَانُ (4) الْمِيزَانِ؟، أَخَذَ (5) وَأَعْطَى صاحبَه (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ عَلَى مَا جَاءَتِ الآثَارُ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامّة من فقهائنا.
__________
(1) قوله: يُراطل، من رطلتُ الشيء كنصر: وزنته بيدك لتعرف وزنه تقريباً، قاله القاري.
(2) بيان لكيفية المراطلة. قوله: فيفرّغ، بالتشديد والتخفيف، أي يلقيه في كِفّة الميزان بكسر الكاف وتشديد الفاء، وجاء ضم الكاف، وهو أحد جانبيه اللذين يوضع فيهما الأشياء وتوزن.
(3) بأن لم يرتفع أحد الكِفَّتين عن الأخرى بل استويا.
(4) قوله: لسان الميزان، بكسر اللام (زبانه ترازو) (بالفارسية) كذا في "منتهى الأرب"، وفي "البرهان القاطع": زبانه بفتح أول (بروزن بهانه آنجه درميان شاهين ترازوباشد وشاهين بروزن لاحين جوب ترازو) (بالفارسية) . انتهى.
(5) أي مال صاحبه.
(6) أي ماله.(3/293)
1 - باب الربا قيما يُكال (1) أَوْ يُوزَن
818 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لا رِبَا إِلا فِي ذَهَبٍ أَوْ فضّةٍ أَوْ مَا يُكال أَوْ يُوزن مِمَّا يُوكل أَوْ يُشرب.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا كَانَ مَا يُكال مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَانَ مَا يُوزَنُ مِنْ صنفٍ واحدٍ (2) ، فَهُوَ مَكْرُوهٌ أَيْضًا، إِلا مِثْلا (3) بِمِثْلٍ، يَدًا (4) بيدٍ، بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُؤْكَلُ ويُشرب وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
819 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ (5) : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلا بِمِثْلٍ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ عَامِلَكَ (6) عَلَى خَيْبَرَ - وَهُوَ رجل من بني عدي من
__________
(1) قوله: من صنفٍ واحدٍ، وإن لم يكن مأكولاً ولا مشروباً كالجصّ والنورة ونحوهما، فإنّ علة حرمة الربا عندنا هو القدر والجنس، فإذا وُجدا حَرُم الربا، وإذا وُجد أحدهما حلّ الفضل، وحرم النسأ، والمسألة بحَذافيرها مبسوطة في "الهداية" وشروحها.
(2) قوله: من صنفٍ واحدٍ، وإن لم يكن مأكولاً ولا مشروباً كالجصّ والنورة ونحوهما، فإنّ علة حرمة الربا عندنا هو القدر والجنس، فإذا وُجدا حَرُم الربا، وإذا وُجد أحدهما حلّ الفضل، وحرم النسأ، والمسألة بحَذافيرها مبسوطة في "الهداية" وشروحها.
(3) أي متساوياً في الكيل والوزن.
(4) أي قبضاً بقبض في المجلس.
(5) قوله: قال، قال: هذا حديث مرسل في "الموطأ" ووصله داود بن قيس، عن زيد، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث، قاله ابن عبد البر.
(6) اسمه سواد بن غزيّة.(3/294)
الأَنْصَارِ - يَأْخُذُ الصَّاعَ (1) بِالصَّاعَيْنِ (2) ، قَالَ: ادْعُوهُ لِي (3) ، فدُعِيَ (4) لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَأْخُذِ الصاعَ بِالصَّاعَيْنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا يُعطوني (5) الجَنِيبَ بالجَمع إِلا صَاعًا بِصَاعَيْنِ، قَالَ (6) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِعِ الجَمْع بِالدَّرَاهِمِ وَاشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا.
820 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (7) عَبْدُ الْمَجِيدِ بن سُهَيْل
__________
(1) أي من التمر الجيّد.
(2) أي من التمر الرديء.
(3) أي اطلبوه عندي.
(4) بالمجهول أي طلب ذلك العامل عنده.
(5) قوله: لا يُعطوني، أي أصحاب التمر ومُلاّكه، أي لا يبيعونني الجنيب بالجَمْع إلا بالتفاضل، ولا يبيعونني بالمساواة، قال الحافظ في "التلخيص": الجنيب بالفتح نوع من التمر وهو أجوده والجمع بإسكان الميم تمر رديء يُخلَط لرداءته، وعامل خبير صاحب القصة هو سواد بن غزيّة، حُكي ذلك عن الدارقطني، وذكره الخطيب في "مبهماته" قال: وقيل: مالك بن صعصعة.
(6) علّمه صورة لا تدخل فيها (في الأصل: "فيه"، وهو خطأ) الربا، مع حصول المقصود.
(7) قوله: أخبرنا عبد المجيد بن سهيل والزهري، وهكذا وجدنا في نسخ عديدة من هذا الكتاب، وكذا هو في نسخة عليها شرح القاري، وظاهره أن لمالكٍ في هذه الرواية شيخين روياه عن ابن المسيّب: أحدهما: عبد المجيد، وثانيهما: الزهري، والذي يظهر أن الواو الداخلية على الزهري من زلّة الناسخ، وهو صفة لعبد المجيد نفسه، وهو شيخ لمالك في هذه الرواية لا غيره، واختلفوا في تسميته، فقيل: عبد المجيد كما في الكتاب، وقيل: عبد الحميد، وليس بصحيح ففي "موطأ يحيى" وشرحه للزرقاني: مالك عن عبد الحميد بالمهلة ثم الميم،(3/295)
وَالزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدري وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (1) : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ (2) رَجُلا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَ بِتَمْرٍ جنيبٍ (3) ، فَقَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
كذا رواه يحيى وابن نافع وابن يوسف، وقال جمهور رواة "الموطأ": عبد المجيد بميم تليها جيم، وهو المعروف، وكذا ذكره البخاري والعُقيلي، وهو الصواب والحقّ الذي لا شك فيه، والأول غلط، قاله أبو عمر: ابن سهيل، بالتصغير زوج الثريا بنت عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ثقة حُجَّة، له مرفوعاً في "الموطأ" هذا الحديث الواحد، عن سعيد بن المسيّب إلخ، وفي "إسعاف السيوطي": عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أبو محمد المدني عن عمه أبي سلمة وسعيد بن المسيّب وأبي صالح ذكوان وعنه مالك والدراوردي وآخرون، وثقه النسائي وابن معين. انتهى. ومثله في "التقريب" و "الكاشف" وغيرهما.
(1) قوله: وعن أبي هريرة، قال ابن عبد البر: ذِكْر أبي هريرة لا يوجد في غير رواية عبد المجيد، وإنما المحفوظ عن أبي سعيد كما رواه قتادة عن ابن المسيب عنه، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة وعقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيد. انتهى. وقال أيضاً في "الاستذكار": الحديث محفوظ عن أبي سعيد وأبي هريرة. انتهى. وهذا بناءً على كون راوي الزيادة أي عبد المجيد ثقة فلا تكون زيادته شاذّة.
(2) قوله: استعمل رجلاً، أي جعله عاملاً، قال الزرقاني: هو سَوَاد - بخِفّة الواو - بن غَزِيَّة بمعجمتين بوزن عطيّة، كما سمّاه الدراوردي عن عبد المجيد، عند أبي عوانة والدارقطني.
(3) قوله: بتمر جنيب، هكذا هو في رواية الشيخين وجماعة وذكر جمع من الحنفية منهم صاحب "الهداية" و "النهاية" و "العناية" وغيرهم، في بحث المزابنة(3/296)
أَكُلّ (1) تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَكِنَّ الصَّاعَ (2) مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ (3) ، وَالصَّاعَيْنِ (4) بِالثَّلاثَةِ (5) ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلا تَفْعَلْ، بِعْ تَمْرَكَ (6) بالدراهم، ثم اشترِ بالدراهم جَنيِباً،
__________
في هذا الحديث: أنه أُهدي إلى رسول الله رُطَباً، فقال: أوكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ وبنَوْا عليه ما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز بيع الرطب بالتمر مثلاً بمثل من غير اعتبار نقصان الرطب عند الجفاف لأنه صلى الله عليه وسلم سماه تمراً، والتمر يجوز بيعه بمثله، ولا وجود لما ذكروه في شيء من الطرق كما حقّقه الزيلعي والعيني.
(1) بهمزة الاستفهام، أي هل كل تمره جنيب كما أتيت به عندي؟.
(2) أي نأخذ الصاع من الجنيب.
(3) أي من الجمع.
(4) من الجنيب.
(5) من الجمع.
(6) قوله: بِع تمرك إلخ، أشار إليه بما يجتنب به عن الربا مع حصول المقصود، وبه احتج جماعة من فقهائنا وغيرهم، على جواز الحيلة في الربا، وبنَوْا عليها فروعاً، والحق أن العبرة في أمثال هذا على النية فإنما لكل امرئ ما نوى، ونقل ابن القيم في "إغاثة اللهفان" عن شيخه أنه لا دلالة للحديث على ما ذكروه لوجوه، أحدها: أنه صلى الله عليه وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة، ومعلوم أن ذلك يقتضي البيع الصحيح، ومتى وُجد البَيْعان الصحيحان فلا ريب في جوازه. والثاني: أنه ليس فيه عموم وليس فيه أنه أمره أن يبتاع من المشتري ولا أمره أن يبتاع من غيره، ولا بنقد ولا بغيره، الثالث: أنه إنما يقتضي حصول البيع الثاني بعد انقضاء الأول، وهو بعيد عما راموه. وفي المقام أبحاث طويلة مظانُّها الكتب المبسوطة.(3/297)
وَقَالَ (1) فِي الْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
821 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ رَجُلٍ (2) : أَنَّهُ سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَجُلٍ يَشْتَرِي طَعَامًا مِنَ الْجَارِ (3) بدينارٍ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ،
__________
(1) قوله: وقال في الميزان مثل ذلك، أي قال في ما يوزن إذا احتيج إلى بيع بعضه ببعض مثلَ ذلك القول الذي قال في التمر المكيل، أي يباع غير الجيد الموزون بثمن، ثم يُشترى به موزون جيد، وهذ القول: قال البيهقي: الأشبه أنه من قول أبي سعيد، يعني قوله: وكذلك الميزان، كما رواية.
(2) قوله: عن رجل أنه سأل، في "موطأ يحيى" وشرحه: مالك عن محمد بن عبد الله بن أبي مريم الخزاعي، قال أبو حاتم: شيخ مدني صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، أنه سأل سعيد بن المسيب، فقال: إني رجلٌ أبتاع الطعام يكون من الصكوك (قال الباجي: يريد من الصكوك التي تخرج بالأعطية لأهلها على وجه الهبة والعطية المحضة دون وجه من المعاوضة. المنتقى 5/12) - جمع صك - بالجار، بالجيم الساحل المعروف، فربما ابتعت منه بدينار ونصف درهم، أفأُعطي بالنصف طعاماً؟ فقال سعيد: لا، ولكن أعطِ أنت درهماً، وخذ بقيته طعاماً. انتهى، وبه يُعلم الرجل المبهم.
(3) حمله القاري على الشريك في التجارة، والذي يظهر من "موطأ يحيى" وشرحه، أنه اسم موضع قرب المدينة.(3/298)
أخبرنا مالك، أ (1) يعطيه (2) ديناراً أو نصف (3) دِرْهَمٍ طَعَامًا؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ يُعْطِيهِ دِينَارًا وَدِرْهَمًا، ويَرُدُّ (4) عَلَيْهِ الْبَائِعُ نِصْفَ دِرْهَمٍ (5) طَعَامًا.
قَالَ محمدٌ: هَذَا الْوَجْهُ أحبُّ إِلَيْنَا، وَالْوَجْهُ الآخَرُ (6) يَجُوزُ أَيْضًا إِذَا لَمْ يُعطه (7) مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي اشْتَرَى أقلَّ مِمَّا يُصِيبُ (8) نِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ الأَوَّلِ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهُ (9) أَقَلَّ مِمَّا يُصِيبُ نِصْفُ الدِّرْهَمِ مِنْهُ فِي الْبَيْعِ الأَوَّلِ، لَمْ يَجُزْ (10) ، وَهُوَ قولُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) بهمزة الاستفهام.
(2) أي ذلك المشتري.
(3) أي بقدره طعاماً.
(4) ليكون بيعاً ثانياً، وإسقاطاً للدَّيْن.
(5) أي بقدره الطعام.
(6) هو الذي منعه ابن المسيب (بسط الكلام عليه في "الأوجز" 11/238، فارجع إليه.
(7) أي البائع.
(8) أي من مقدار يقابل نصف الدرهم في البيع الأول.
(9) أي ذلك الطعام الذي اشتراه.
(10) لكونه مؤدياً إلى الربا.(3/299)
2 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الْعَطَايَا (1) أَوِ الدَّيْن عَلَى الرَّجُلِ فَيَبِيعُهُ (2) قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَه
822 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: أَنَّهُ سَمِعَ جميل المؤذِّن (3) يَقُولُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِنِّي رجلٌ أَشْتَرِي (4) هَذِهِ الأَرزاقَ الَّتِي يُعطيها (5) النَّاسُ بِالْجَارِ (6) فأبتَاعُ (7) مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ الطَّعَامَ الْمَضْمُونَ (8) عليَّ إِلَى ذَلِكَ الأَجَلِ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَتُرِيدُ أَنْ تُوَفِّيَهُمْ (9) مِنْ تِلْكَ الأَرْزَاقِ الَّتِي ابتعتَ (10) ؟ قَالَ: نَعَمْ.
__________
(1) قوله: جميل المؤذن، هو جَميل بفتح الجيم بن عبد الرحمن المؤذن المدني، أمه من ذرية سعد القرظ، سمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وعنه مالك بواسطة يحيى وبلا واسطة، قاله الزرقاني.
(2) أي من أصحابها.
(3) قوله: جميل المؤذن، هو جَميل بفتح الجيم بن عبد الرحمن المؤذن المدني، أمه من ذرية سعد القرظ، سمع ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز، وعنه مالك بواسطة يحيى وبلا واسطة، قاله الزرقاني.
(4) أي من أصحابها.
(5) في نسخة: يُعطاها بالمجهول.
(6) قوله: بالجار، قال القاري: بتخفيف الراء مدينة بساحل البحر بينه وبين المدينة يوم وليلة، كذا في "النهاية". وقال الزرقاني: موضع بساحل البحر يُجمع فيه الطعام ثم يفرَّق على الناس بصكاك وهو الورق التي يَكتب فيها وليُّ الأمر برزق من الطعام لمستحقه.
(7) أي أشتري إلى أجل في الثمن.
(8) أي الذي اشتريتُه وهو مضمون عليَّ من جهة الثمن.
(9) أي أصحاب الأرزاق الذين باعوه أولاً.
(10) أي اشتريتَ أولاً.(3/300)
فَنَهَاهُ (1) عَنْ ذَلِكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (2) لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يستوفيَه لأنَّه غَرَر (3) فَلا يُدْرى (4) أَيَخْرُجُ (5) أَمْ لا يَخْرُجُ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
823 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ مَيْسرة: أنَّه سَمِعَ رَجُلا يَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أَبِيعُ الدَّيْن (6) ، وَذَكَرَ لَهُ شَيْئًا (7) مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: لا تَبِعْ إلاَّ مَا آوَيْتَ (8) إِلَى رحلِك.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَ دَيْنًا لَهُ عَلَى إِنْسَانٍ
__________
(1) قوله: فنهاه عن ذلك، قال الزرقاني: قال مالك: وذلك رأيي أي خوفاً من التساهل في ذلك حتى يشترط القبض من ذلك الطعام أو يبيعه قبل أن يستوفيه فمنع من ذلك سداً للذريعة الذي يُخاف منه التطرُّق إلى محذور.
(2) قوله: لا ينبغي إلخ، استنباط هذا الحكم من الأثر المذكور غير ظاهر.
(3) أي بيع فيه تردد.
(4) بصيغة المعروف أو المجهول.
(5) أي من المديون.
(6) أي دَيْني على إنسان.
(7) أي بعض صوره.
(8) قوله: إلاَّ ما آويتَ، من الإِيواء. إلى رَحْلك، بالفتح أي منزلك أي لا تبع إلاَّ ما قبضتَه لئلا يكون البيع بالغرر.(3/301)
إلاَّ مِنَ (1) الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ لأَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ غررٌ لا يُدْرى (2) أَيَخْرُجُ مِنْهُ أَمْ لا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
3 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ الدَّيْن فَيَقْضِي (3) أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَهُ
824 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُميد بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اسْتَسْلَفَ (4) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَضَى خَيْرًا مِنْهَا، فَقَالَ الرَّجُلُ (5) : هَذِهِ خَيْرٌ مِنْ دَراهمي الَّتِي أَسْلَفْتُكَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَدْ علمتُ (6) وَلَكِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ (7) .
825 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ (8) : أَنَّ رَسُولَ صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله: إلاَّ من الذي، أي من المديون، لأنه ليس فيه غرر.
(2) معروف أو مجهول.
(3) استسلف: أي أخذ قرضاً.
(4) استسلف: أي أخذ قرضاً.
(5) قوله: فقال الرجل، كأنه خشي أن يكون ذلك رباً.
(6) أي كونها خيراً.
(7) أي راضية.
(8) قوله: عن أبي رافع، هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أوَّلاً مولى العباس فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه، اسمه على الأشهر أسلم القبطي، وقيل: إبراهيم أو ثابت أو هرمز أو سنان أو صالح أو يسار أو عبد الرحمن أو يزيد أو قزمان، توفي في(3/302)
اسْتَسْلَفَ (1) مِنْ رجلٍ (2) بَكْراً (3) فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يقضيَ (4) الرجلُ
__________
خلافة عثمان، وقيل: في خلافة عليّ وهو الصواب، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" وغيره.
(1) قوله: استسلف، أي أخذ سلفاً وقرضاً، وفيه دليل للجمهور في تجويز ثبوت الحيوان في الذمَّة قرضاً، ولمن ذهب إلى تجويز السلف فيه، لأنه يصير معلوماً ببيان الجنس والسنّ والصفة وبعد ذلك ينتفي التفاوت إلاَّ اليسير، ومنعه أصحابنا قائلين بأن التفاوت في الحيوانات فاحش في المالية باعتبار المعاني الباطنية، فلا يمكن توصيفه بحيث لا يُفضي إلى المنازعة، ولا ثبوتُه في الذمة ولا أداء مثله، وهذا معنى دقيق قوي يجب اعتباره لولا ورود النصوص بخلافه، وقد مرَّ بعض ما يتعلق بهذا المقام في ما مرَّ، وأجاب الطحاوي في "شرح معاني الآثار" عن حديث الباب وأمثاله باحتمال أن يكون هذا قبل تحريم الربا ثم حُرِّم الربا وحرم كل قرض جر منفعة، ورُدَّت الأشياء المستقرضة إلى مثلها، فلم يجز القرض إلاَّ في ما له مثل، وقد كان أيضاً يجوز قبل بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ثم نسخ، وبسط ذلك بسطاً بسيطاً لا يرجع حاصله إلاَّ إلى الحكم بالنسخ بالاحتمال وبالرأي، والأَوْلى أن يُقال بترجُّح أحاديث الحرمة على أحاديث الجواز.
(2) في "مسند أحمد" ما يفيد أنه أعرابي، وفي "أوسط الطبراني" عن العرباض ما يُفهم أنه هو، ويُفْهَم من "سنن النسائي" والحاكم أنه غيره.
(3) قال السيوطي: بالفتح الصغير من الإِبل كالغلام من الآدميين.
(4) قوله: أن يقضي، أي يؤدي الرجل الذي استسلف منه بَكْرَه من إبل الصدقة، قال النووي: هذا مما يُستشكل فيُقال: كيف قضى من إبل الصدقة أجود من الذي يستحقه الغريم مع أن الناظر في الصدقات لا يجوز تبرُّعُه منها، والجواب أنه عليه السلام اقترض لنفسه فلما جاءت إبل الصدقة اشترى منها بعيراً رَبَاعياً ممن(3/303)
بَكْرَه، فَرَجَعَ (1) إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ، فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا (2) إلاَّ جَمَلا رَبَاعياً خِيّاراً (3) ، فَقَالَ: أَعْطِهِ (4) إِيَّاهُ، فَإِنَّ (5) خِيَارَ النَّاسِ أحسنُهم قَضَاءً.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ (6) نأخُذُ. لا بأسَ بِذَلِكَ (7) إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطَ (8) اشتُرِطَ عَلَيْهِ. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ الله.
__________
استحقه، فملكه بثمنه وأوفاه متبرعاً بالزيادة من ماله، ويدل عليه أن في صحيح مسلم قال: اشْتَرُوا فأعطوه إياه (أو أنه أيضاً من المسلمين المفتقرين، فكان له حق في بيت المال أيضاً، كذا في "الكوكب الدري" 2/340) . والرَّبَاعي من الإِبل بالفتح ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة، كذا في "تنوير الحوالك".
(1) أي عاد أبو رافع.
(2) أي في إبل الصدقة.
(3) بالكسر أي جيداً حسناً.
(4) أي أعطِ الرباعي لذلك الغريم.
(5) قوله: فإنَّ، أي فإن خيار الناس عند الله وأكثرهم ثواباً أحسنهم قضاءً للديون الذين يتبرعون بالفضل ولا يبخسون.
(6) قوله: وبقول ابن عمر، لا حاجة إليه بعد رواية المرفوع وكان الأحسن أن يقول: وبهذا الحديث نأخذ وبقول رسول الله نأخذ، ولعله إنما لم يقله لكون بعض ما في الحديث من جواز قرض الحيوان مخالفاً له.
(7) أي بقضاء دَيْنه أفضل مما أخذه.
(8) قوله: إذا كان من غير شرط اشترط، أي حالة المداينة والعقد لئلا يكون رباً، فإن كل قرض جرَّ به منفعة فهو حرام، كما وردت به الأخبار.(3/304)
826 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا (1) فَلَا يَشْتَرِط (2) إلاَّ قضاءَه (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (4) لَهُ أَنْ يَشترط أَفْضَلَ (5) مِنْهُ (6) وَلا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَحْسَنَ (7) مِنْهُ، فَإِنَّ الشَّرْطَ فِي هَذَا لا يَنْبَغِي. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
4 - بَابُ مَا يُكره مِنْ قَطْعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
827 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أنَّه قَالَ: قطع (8)
__________
(1) أي استقرض قرضاً.
(2) أي عند العقد.
(3) إلاَّ قضاء مثله من دون زيادة ونقصان.
(4) أي لا يحل لمن أسلف.
(5) أي في الكمية.
(6) أي من الذي أعطى.
(7) أي في الكيفية.
(8) قوله: أنه قال قطع الورق والذهب، الظاهر أن مراده من قطعهما نقص شيء منهما لتصير أخفّ وزناً من الدراهم المتعارفة، وفي معناهما غشّهما لأنه نوع سرقة بل أكبر لسراية ضررها إلى العامة، وكأنه أشار إلى أن فاعله من قُطّاعِ الطريق الذين قال الله في حقهم: (إنما جَزَاءُ الذين يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورسولَه ويَسْعَونَ فِي الأَرْضِ فَساداً أن يُقَتَّلوا أوْ يُصَلَّبوا) ، الآية (سورة المائدة: الآية 33) ، كذا ذكره القاري في "شرحه".(3/305)
الوَرِق (1) وَالذَّهَبِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي (2) قَطْعُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِغَيْرِ منفعة.
__________
وقال أيضاً: مراد محمد من قطعها كسرهما، وإبطال صورهما وجعلهما مصنوعاً وظروفاً. انتهى. وقال بيري زاده في "شرحه": لم نعلم ما المراد من القطع في قول ابن المسيّب غير أن ابن الأثير قال: كانت المقابلة بها في صدر الإِسلام عدداً لا وزناً، فكان بعضهم يقُصُّ أطرافها فنُهوا عنه. انتهى. وقال "شارح المسند": أظن أن قول ابن المسيب: قِطَع الوَرِق بكسر القاف وفتح الطاء المهملة جمع قطعة، وهي التي تُتَّخذ من الذهب أو الورق فلوساً صغيرة ليُرفق التعامل بها كما هو الرائج في زماننا كالدواوين في الحرمين والخماسيات في اليمن. وإنما عدها من الفساد في الأرض لأنه ربما لا يلاحظ المتعامل بها اموراً واجبةً في التقابض والتماثل (قيل: أراد الدراهم والدنانير المضروبة، يسمَّى كل واحدة منهما سكة، لأنه طبع بسكة الحديد أي لا تُكسر إلاَّ بمقتضى كرداءتها أو شك في صحة نقدها، وإنما كره ذلك لما فيها من اسم الله تعالى، أو لأن فيه إضاعة المال، وقيل: إنما نهى أن يعاد تبراً، وأما للمنفعة فلا. بذل المجهود 15/122.
وفي الأوجز 11/178: الصحيح من معانيه أنه إنْ كسره أصلاً ففيه إضاعة، لأن المسكوك يروج ما لا يروج غير المسكوك مع أنَّ إنفاق المسكوك لا يفتقر فيه إلى وزنه لكونه معلوم المقدار فيأخذه كل أحد من غير تردُّد أو ريبة، وأما إذا كسر شيئاً منه فإما أن يكسر ما يحس به أنه مكسور فهو داخل في الأول، لأنه لا ينفق نفاق الصحيح، وإن أخذ منه شيئاً غير معلوم للرأي في بادئ نظره كما يفعله البعض بإلقائه في أدوية حاودة ففيه تغرير وخديعة) . انتهى.
(1) أي الفضة.
(2) أي لا يحلُّ لما فيه من الضرر العام.(3/306)
5 - باب المعاملة والمزارعة في النخل (1) والأرض
828 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ حَنْظَلَةَ (2) الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ أنَّه سَأَلَ رَافِعَ بْنَ خَدِيج عَنْ كِراء الْمَزَارِعِ (3) فَقَالَ: قَدْ نُهي عَنْهُ (4) ، قَالَ حَنْظَلَةُ: فقلتُ لِرَافِعٍ: بالذهب (5) والورق؟
__________
(1) قوله: أن حنظلة، هو ابن قيس بن عمرو بن حصن الزرقي الأنصاري التابعي الكبير، قيل: وله صحبة، ذكره الزرقاني.
(2) قوله: أن حنظلة، هو ابن قيس بن عمرو بن حصن الزرقي الأنصاري التابعي الكبير، قيل: وله صحبة، ذكره الزرقاني.
(3) جمع مزرعة بالفتح: موضع الزرع.
(4) قوله: قد نُهِي عنه، ظاهره منع كرائها مطلقاً، وإليه ذهب الحسن وطاوس والأصم، ومن حجتهم حديث الصحيحين وغيرهما مرفوعاً: "من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز فليمنحها أخاه المسلم ولا يؤاجرها، فإن لم يفعل فليمسك" وتأوَّل مالك وأصحابه أحاديث المنع على كرائها بالطعام أو بما تُنبته، وأجازوا كرائها بما سوى ذلك لحديث أحمد وأبي داود عن رافع مرفوعاً: "من كانت له أرض فليزرعها أخاه ولا يكرها بثُلث ولا ربع ولا طعام مسمّىً"، وتأوَّلوا النهي عن المحاقلة بأنها كِراء الأرض بالطعام، وجعلوه من باب الطعام بالطعام نسيئة، وأجاز الشافعية والحنيفية كراءها بكل معلوم من طعام أو غيره لما في "الصحيح" عن رافع بعد قوله: أما بالذهب والفضة فلا بأس به: إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وأقيال الجداول، فيهلك هذا ويسلم هذا، فلذلك زجر عنه، وأما بشيء معلوم مضمون فلا بأس به. فبَّين أن علة النهي الغرر، وأجاز أحمد كراءها بجزء مما يزرع فيها، كذا في "شرح الزرقاني".
(5) أي هل يجوز ذلك أم لا.(3/307)
قَالَ رَافِعٌ: لا بَأْسَ بكِرائها (1) بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ بِكِرَائِهَا بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ بِالْحِنْطَةِ (2) كَيْلا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مَعْلُومًا (3) مَا لَمْ يُشْتَرط ذَلِكَ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَإِنِ اشْتُرِط مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا (4) كَيْلا مَعْلُومًا فَلا خَيْرَ فِيهِ (5) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا. وَقَدْ سُئل عَنْ كِرائها سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِالْحِنْطَةِ كَيْلا مَعْلُومًا فرخَّص (6) فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ ذَلِكَ إلاَّ مِثْلُ الْبَيْتِ يُكْرَى (7) .
829 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عن سعيد بن المسيب: أنَّ (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أي الأرض المزروعة.
(2) أي نحوها من الشعير والذرة من المثليات.
(3) أي صنفاً معيناً.
(4) أي من تلك الأرض.
(5) قوله: فلا خير فيه، أي لا يحل ذلك فلعله لا يخرج منه إلاَّ ذلك القدر المعهود فهذا الشرط لكونه فاسداً يفسد العقد، نعم كرائها بثلث ما يخرج أو ربعه ونحو ذلك من الكسور جائز كما سيأتي.
(6) أي أجازه.
(7) أي ليس ذلك إلاَّ مثل كراء البيت بالذهب والفضة والحنطة الملومة وغير ذلك، فكما جاز ذلك جاز هذا.
(8) قوله: أن رسول الله، مرسل أرسله جميع رواة "الموطأ" وأكثر أصحاب(3/308)
حِينَ (1) فَتَحَ خَيْبَرَ، قَالَ لِلْيَهُودِ (2) : أُقِرُّكُمْ (3) مَا أَقَرّكم اللَّهُ عَلَى أنَّ الثمرَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، قَالَ (4) : وَكَانَ (5) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عبدَ اللَّهِ بْنَ رَواحة، فَيَخْرُصُ (6) بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ. ثُمَّ يَقُولُ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ، وإن شئتم
__________
ابن شهاب، ووصله منهم طائفة، منهم صالح بن أبي الأخضر، فزاد عن أبي هريرة، قاله ابن عبد البر.
(1) قوله: حين فتح خبير، بوزن جعفر مدينة كبيرة ذات حصون ونخل على ثمانية بُرُد من المدينة إلى جهة الشام، وكان فتحه في صفر سنة سبع عند الجمهور، وفي "الصحيحن" عن ابن عمر: لمّا ظهر على خيبر أراد إخراج اليهود منها فسألوه أن يقرّهم بها على أن يكفوه العمل، ولهم نصف الثمر، قاله الزرقاني.
(2) الذين كانوا بخيبر.
(3) قوله: أقِرُّكم، أي أثبّتكم على نخل خيبر على أن تعملوا فيها، والثمر بيننا وبينكم، أي على التناصف كما في رواية الصحيحين وغيرهما: ما دام أقرَّكم الله أي إلى ما شاء الله، وقد كان عازماً على إخراج اليهود من جزيرة العرب، فذكر ذلك لليهود منتظراً القضاء والوحي فيهم إلى أن حضرته الوفاة فأجلى اليهود بعده عمر من جزيرة العرب إلى الشام، قال القرطبي: يحتمل أنه حدّ الأجل فلم ينقله الراوي.
(4) أي ابن المسيّب.
(5) قوله: وكان، هذا ههنا ليس للاستمرار فإنه إنما بعثه عاماً واحداً، فإنَّ عبد الله بن رَواحة بالفتح بن ثعلبة بن امرئ القيس الأنصاري من أهل بدر، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان، كما ذكره ابن الأثير وغيره.
(6) قوله: فيخرص، أي يقدّر ما على النخيل من الثمار خرصاً وتخميناً، ويفصل حصة النبي صلى الله عليه وسلم وحصة اليهود خرصاً، ويقول: إن شئتم فلكم كله وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلنا كله وأضمن مقدار نصيبكم، فأخذوا(3/309)
فَلِي، قَالَ (1) : فَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ.
830 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب، عن سليمان بن يسار: أن (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فيخرُص بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، قَالَ: فَجَمَعُوا حُلِيّاً (3) مِنْ حُلِيّ نِسَائِهِمْ، فَقَالُوا (4) : هَذَا لَكَ (5) ، وخفِّف (6) عَنَّا، وتجَاوَزْ (7) في القِسْمة، فقال: يا معشر اليهود،
__________
الثمرة كلها، وفي رواية: أنه خرص عشرين ألف وسق فأدَّوْا عشرة ألف وسق، قال ابن عبد البر: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء لأن المساقِيَيْن شريكان لا يقتسمان إلاَّ بما يجوز به بيع الثمار بعضها ببعض وإلاَّ دخلته المزابنة، قالوا: وإنما بعث رسول الله من يخرص على اليهود لإِحصاء الزكاة لأن المساكين ليسوا شركاء معيَّنين، فلو ترك اليهود وأكلها رطباً والتصرف فيها أضرّ ذلك سهم المسلمين قالت عائشة: إنما أمر رسول الله بالخرص لكي تُحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتُفرَّق.
(1) أي ابن المسيب.
(2) هذا مرسل في "الموطأ"، وموصول بطريق عن جابر وابن عباس، عند أبي داود وابن ماجه.
(3) بضم الحاء وكسر اللام وشد الياء: جمع، أو بفتح الحاء وسكون اللام: مفرد.
(4) لعبد الله بن رواحة.
(5) أي هدية لك.
(6) أي اجعل التخفيف علينا.
(7) أي سامح فيها واغمض.(3/310)
وَاللَّهِ (1) إِنَّكُمْ لَمِنْ أبغضِ خَلْقِ اللَّهِ إليَّ، وَمَا ذَاكَ بِحَامِلِي أَنْ أحِيْفَ عَلَيْكُمْ، أَمَّا الَّذِي عَرَضْتُمْ (2) مِنَ الرَّشوة فَإِنَّهَا سُحْتٌ (3) وَإِنَّا لا نأكلُها (4) ، قَالُوا: بِهَذَا (5) قَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ (6) بِمُعَامَلَةِ النخل على
__________
(1) قوله: والله إنكم، أي وإن كنتم أبغض خلق الله إليَّ لكونكم - مع كونكم من أهل الكتاب - لم تُسلموا، لكن لا يحملني هذا البغض على أنْ أحيفَ أي أجور وأظلم عليكم، من الحَيْف بمعنى الجور. فإنَّ الظلم لا يحل على أحد ولو كان كافراً.
(2) أي أحضرتم عندي لتخفيف القسمة.
(3) بالضم، أي حرام.
(4) لحرمتها. وفيه تعريض على اليهود، فإنهم كانوا أكّالين للسحت والرشوة، كما أخبر به الكتاب.
(5) قوله: بهذا، أي بهذا العدل الذي تفعله، أو بهذا الامتناع عن أكل السحت قامت السموات بغير عَمَد، والأرض استقرت على الماء، ولولاه لفسدتا. قال ابن عبد البر: فيه دليل على أن الرشوة عند اليهود أيضاً حرام، ولولا حرمته عندهم ما عيَّرهم الله بقوله: (أكّالون للسُّحْت) وهو حرام عند جميع أهل الكتاب.
(6) قوله: لا بأس بمعاملة إلخ، المعاملة بلغة أهل المدينة عبارة عن دفع الأشجار الكروم أو النخيل وغير ذلك إلى مَن يقوم بإصلاحها على أن يكون له سهم معلوم من ثمرها، ويقال له المساقاة أيضاً، وهو عقد جائز عندهما وعليه الفتوى، وبه قال أحمد وأكثر العلماء ويشترط ذكر المدة المعلومة وتسمية جزءٍ مما يخرج مشاعٍ، إلاَّ أن الشافعي خصه بالنخل والكرم في قوله الجديد، وعمم في كل شجر في قوله القديم، وحجتهم في ذلك حديث معاملة خبير وغير ذلك،(3/311)
الشَّطْر (1) ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَبِمُزَارَعَةِ الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ عَلَى الشَّطْرِ، وَالثُّلُثِ، وَالرُّبْعِ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَكره ذَلِكَ ويَذكر (2) أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُخَابَرَةُ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
6 - بَابُ إِحْيَاءِ الأَرْضِ (3) بِإِذْنِ الإِمام أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ
831 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عروة، عن أبيه قال:
__________
والمزارعة عبارة عن عقد على الأرض البيضاء أي الخالية من الزرع ببعض معيَّن مما يخرج عنه، وبجوازه قال الجمهور، وروي عند ابن أبي شيبة وغيره عن علي وابن مسعود وسعد وجماعة من التابعين من بعدهم، وقد ورد في بعض روايات معاملة خيبر العقد على الزرع أيضاً. وأما أبو حنيفة فحكم بفسادهما مستدلاً بالنهي عن المخابرة، ورُدّ ذلك من حديث جابر عند مسلم، وزيد بن ثابت عند أبي داود، ورافع بن خديج عند مسلم، وغيره كذا في "البناية".
(1) بالفتح: أي النصف.
(2) قوله: ويَذكر، والجواب عن حديث معاملة خيبر بأنَّ ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ليس بعقد مساقاة، بل هم كانوا عبيداً له، والذي قَدَّر لهم كان نفقةً لهم، وتُعُقِّب بأنهم لو كانوا عبيداً لما صح إجلاؤهم إلى الشام، وقد يُقال: إنه منسوخ بالنهي عن المخابرة، وفيه أن الظاهر أن الأمر بالعكس، فإن المعاملة التي وقعت في العهد النبوي دام عليها عَمَلُ أبي بكر وعمر إلى وقت الإِجلاء، ولو كان منسوخاً لنقضوها، والجمهور حملوا حديث النهي عن المخابرة على ما إذا تضمَّن على الغرر، كما ورد في النهي عن كراء الأرض. وفي المقام تفصيل ليس هذا موضعه.(3/312)
قَالَ (1) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أحيى أرضاً (2) ميّتة فهي له، وليس (3) لعِرْقٍ
__________
(3) قوله: قال: قال، هذا مرسل باتفاق رواة الموطأ، واختلف أصحاب هشام، فطائفة روَوْه مرسلاً كمالك، وطائفة: عنه عن أبيه، عن سعيد بن زيد وطائفة: عنه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، وطائفة: عنه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن جابر، وهو حديث مقبول تلّقاه فقهاء المدينة وغيرهم، كذا قال ابن عبد البر. وذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره أنَّ هذا الحديث رُوي من طريق تسعة من الصحابة بألفاظ متقاربة:
1 - ابن عباس عند الطبراني وابن عدي
2 - وعائشة عند البخاري وأبي يعلى المَوْصلي وأبي داود الطيالسي والدارقطني وابن عدي،
3 - وسعيد بن زيد عند أبي داود والترمذي والنسائي والبزار،
4 - وجابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان وابن شَيْبة،
5 - وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني،
6 - وفضالة بن عبيد عند الطبراني،
7 - ومروان عنده أيضاً،
8 - وصحابي آخر عنده أيضاً،
9 - وسمرة عند الطحاوي.
(1) قوله: قال: قال، هذا مرسل باتفاق رواة الموطأ، واختلف أصحاب هشام، فطائفة روَوْه مرسلاً كمالك، وطائفة: عنه عن أبيه، عن سعيد بن زيد وطائفة: عنه، عن وهب بن كيسان، عن جابر، وطائفة: عنه، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن رافع، عن جابر، وهو حديث مقبول تلّقاه فقهاء المدينة وغيرهم، كذا قال ابن عبد البر. وذكر الزيلعي في "تخريج أحاديث الهداية" وغيره أنَّ هذا الحديث رُوي من طريق تسعة من الصحابة بألفاظ متقاربة:
1 - ابن عباس عند الطبراني وابن عدي
2 - وعائشة عند البخاري وأبي يعلى المَوْصلي وأبي داود الطيالسي والدارقطني وابن عدي،
3 - وسعيد بن زيد عند أبي داود والترمذي والنسائي والبزار،
4 - وجابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان وابن شَيْبة،
5 - وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الطبراني،
6 - وفضالة بن عبيد عند الطبراني،
7 - ومروان عنده أيضاً،
8 - وصحابي آخر عنده أيضاً،
9 - وسمرة عند الطحاوي.
(2) قوله: أرضاً ميّتة، قيل بالتشديد، ولا يقال بالتخفيف فإنه إذا خفف حُذفت منه تاء التأنيث، والميتة والمَوات بالفتح والمَوَتان بفتحتين: الأرض الخراب التي لم تعمر، سُميت بذلك تشبيهاً لها بالميتة في عدم الانتفاع.
(3) قوله: وليس لعِرْق (قال الحافظ في الفتح 5/19: في رواية الأكثر بتنوين عرق، وظالم: صفة له، وهو راجع إلى صاحب العرق، أي: ليس لذي عرق ظالم، أو إلى العرق، أي: ليس لعرق ذي ظلم، ويروى بالإِضافة، ويكون الظالم صاحب العرق، فيكون المراد بالعرق الأرض، وبالأول جزم مالك والشافعي والأزهري، وابن فارس، وغيرهم) ، بالكسر، قال الخطّابي في "شرح سنن أبي داود": من الناس من يرويه بإضافته إلى الظالم، وهو الغارس الذي غرس في(3/313)
ظَالِمٍ حَقٌّ (1) .
832 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قال: من أحيى أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذ. من أحيى أَرْضًا مَيْتَةً بِإِذْنِ الإِمام أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَهِيَ لَهُ (2) ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لا يكون له (3) إلاَّ أن يجعلها له
__________
غير حقه، ومنهم من يجعل الظالم نعتاً للعرق، ويريد به الغراس والشجر، وجعله ظالماً لأنه نبت في غير محله، واختار الأزهري وابن فارس ومالك والشافعي كونه بالتنوين كما بسطه النووي في "تهذيب الأسماء واللغات) .
(1) أي في بقائه.
(2) قوله: فهي له، لأنه مال مباح غير مملوك سَبَقَتْ يدُه إليه فيملكه كما في الاحتطاب والاصطياد من اشتراط إذن الإمام، وبه قال أبو يوسف والشافعي وأحمد وبعض المالكية، ونُقل عن مالك أنه إن كان قريباً من العامر في موضع يتسامح الناس فيه افتقر إلى إذن الإِمام وإلاَّ فلا، وحجتهم إطلاق الأحاديث الواردة في هذا الباب، وأما أبو حنيفة فاشترط في كونه له إذنَ الإِمام، واستدل له بحديث: "الأرض لله ورسوله ثم لكم من بعدي، فمن أحيى شيئاً من مَوَتان (في الأصل موتات، وهو تحريف) الأرض فله رقبتها"، أخرجه أبو يوسف في "كتاب الخراج" فإنه أضافه إلى الله ورسوله، وكل ما أضيف إلى الله ورسوله لا يجوز أن يختص به إلاَّ بإذن الإِمام، وذكر الطحاوي أن رجلاً بالبصرة قال لأبي موسى: أقطعني أرضاً لا تضرُّ بأحد من المسلمين، ولا أرض خراج، فكتب أبو موسى إلى عمر، فكتب عمر إليه: أقطعه له فإن رقاب الأرض لنا، كذا في "البناية".
(3) أي لا يملكه الذي أحياه.(3/314)
الإِمام، قَالَ: وَيَنْبَغِي (1) للإِمام إِذَا أَحْيَاهَا أنْ يجعلَها لَهُ (2) وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ تَكُنْ لَهُ.
7 - بَابُ الصُّلْحِ فِي الشِرْب (3) وَقِسْمَةِ الْمَاءِ (4)
833 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (5) بْنُ أَبِي بَكْرٍ أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي (6) سَبِيلِ مَهْزُورٍ ومُذَيْنِبٍ: يُمسك حتى يبلغ
__________
(1) أي يُستحب.
(2) أي للذي أحياه.
(3) الشِّرب: هو بالكسر عبارة عن نصيب الماء.
(4) وقسمة الماء: أي المشترك.
(5) قوله: عبد الله بن أبي بكر، أي ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، قال ابن عبد البر: لا أعلمه يتصل بوجه من الوجوه مع أنه حديث مدني مشهور مستعمل عندهم، وسئل البزار عنه فقال: لست أحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ حديثاً يثبت، انتهى. وهو تقصير منهما، فله إسناد موصول عن عائشة عند الدارقطني في "الغرائب" والحاكم وصححاه، وأخرجه أبو داود وابن ماجه بإسناد حسن. واختلفوا في معنى الحديث، فقيل: معناه يرسل صاحب الحائط الأعلى جميع الماء في حائطه حتى إذا بلغ الماء إلى كعبي من يقوم فيه أغلق مدخل الماء، وقيل: يسقي الأول حتى يروي حائطه، ثُمَّ يُمسك بعد ريِّه ما كان من الكعبين إلى أسفل ثم يرسل، كذا في "شرح الزرقاني".
(6) قوله: في سبيل مَهْزُور، بفتح الميم وإسكان الهاء وضم الزاء وسكون الواو آخره. ومذينب (في معجم البلدان: مذينب: بوزن تصغير المذنب وادٍ بالمدينة. الأوجز 12/218) ، بضم الميم وفتح الذال وياء مسكنة، وكسر النون بعده(3/315)
الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يُرْسِلُ الأَعْلَى عَلَى الأَسْفَلِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ، لأَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمْ: لِكُلِّ (1) قَوْمٍ مَا اصطلحُوا وَأَسْلَمُوا (2) عَلَيْهِ مِنْ عُيُونِهِمْ وَسُيُولِهِمْ وَأَنْهَارِهِمْ وشِرْبهم (3) .
834 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ (4) أنَّ الضحَّاك (5) بْنَ خَلِيفَةَ سَاقَ خَلِيْجاً (6) لَهُ حَتَّى النَّهْرِ الصَّغِيرِ (7) مِنَ العُرَيْض (8) ، فَأَرَادَ أَنْ يمرَّ بِهِ (9) فِي أَرْضٍ لِمُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَأَبَى (10)
__________
باء. واديان يسيلان بالمطر بالمدينة يتنافس أهل المدينة في سيلهما، قاله الزرقاني.
(1) أي ليس فيه حدٌّ معين شرعاً، بل الأمر مفوَّض إلى آراء الشركاء.
(2) أي انقادوا واتفقوا عليه.
(3) أي نصيبهم من المياه.
(4) هو يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَسَنٍ الْمَازِنِيُّ.
(5) قوله: أنَّ الضحاك بن خليفة، بن ثعلبة الأنصاري الأشهلي، شهد غزوة بني النضير، وليست له رواية وكان يُتَّهم بالنفاق، ثم تاب وأصلح، كذا في "الإِصابة" وغيره.
(6) بالفتح: النهر الصغير يُقطع من النهر الكبير.
(7) ليس هذا في "موطأ يحيى"، لعله يعني النهر الصغير تفسيراً للخليج.
(8) بالضمّ وادٍ بالمدينة (عريض: ناحية من المدينة في طرف حرَّة واقم (الحرة الشرقية) ، قد شملها العمران اليوم.
(9) أي بذلك الخليج.
(10) أي امتنع منه ومنعه منه.(3/316)
مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، فَقَالَ الضَّحَّاكُ: لِمَ (1) تَمْنَعُنِي وَهُوَ لَكَ (2) منفعةٌ تَشْرَبُ بِهِ (3) أَوَّلا وَآخِرًا، وَلا يضرُّك، فَأَبَى (4) ، فكلَّم (5) فِيهِ عمرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَدَعَا (6) محمدَ بنَ مَسْلمة فَأَمَرَهُ أَنْ يُخَلِّي (7) سبيلَه فَأَبَى (8) ، فَقَالَ عَمَرُ: لِمَ تَمْنَعُ أَخَاكَ (9) مَا يَنْفَعُهُ وَهُوَ لَكَ نَافِعٌ تَشْرَبُ بِهِ أَوَّلا وَآخِرًا وَلا يضُرَّك؟ قَالَ مُحَمَّدٌ: لا (10) وَاللَّهِ، فَقَالَ (11) عُمَرُ: واللَّهِ ليمُرَّنَّ بِهِ (12) وَلَوْ عَلَى بَطْنِكَ (13) . فأَمره (14) عمر أن
__________
(1) أي لأي سبب.
(2) قوله: وهو لك منفعة، قال الباجي: يحتمل أنه كان شَرَط له ذلك، ويحتمل أن يريد أن ذلك حكم الماء أن الأعلى أولى حتى يروى.
(3) بيان للمنفعة.
(4) أي امتنع ابن مسلمة.
(5) أي الضحّاك.
(6) أي عمر.
(7) أي يتركه بما يفعله من إجراء الخليج.
(8) أي ابن مسلمة مع حكم عمر.
(9) أي في الإِسلام أو في الصحبة.
(10) أي لا أرضى به.
(11) في نسخة: قال.
(12) أي بالخليج.
(13) قاله مبالغة في الزجر.
(14) قوله: فأمره عمرُ أن يُجْريه، أي أمر عمر الضحاك أن يُجري بخليجه(3/317)
يُجْرِيَه (1) .
835 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى الْمَازِنِيُّ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أنَّه (3) كَانَ فِي حَائِطِ جدّه رَبِيْعٌ (4) لعبدِ الرحمن (5) بن عوف،
__________
في أرض ابن مسلمة ولو لم يرضىَ به. قيل: إن عمر لم يقضِ على محمد بذلك، وإنما حلف على ذلك ليرجع إلى الأفضل (قال الباجي: ويحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه لم يقضِ بذلك على محمد بن مسلمة، وإنما أقسم عليه لما أقسم تحكماً عليه في الرجوع إلى الأفضل فقد يقسم الرجل على الرجل في ماله تحكماً عليه وثقةً بأنه لا يحنثه فيبرُّ بقسمه. المنتقى 6/46، والأوجز 12/231) ثقةً أنه لا يحنثه (في الأصل: "لا يحلفه"، وهو خطأ) ، وقيل: هو على سبيل الحكم، وقال مالك: كان يقال: تحدث للناس أقضية بقدر ما يُحدثون من الفجور، فلو كان الشأن معتدلاً في زماننا كاعتداله في زمن عمر رأيت أن يُقضى له بإجراء مائه في أرضك لأنك تشرب به أولاً وآخراً، ولا يضرك، ولكن فسد الناس، فأخاف أن يطول وينسى ما كان عليه جري الماء، فيدَّعي به جارك في أرضك، كذا في "شرح الموطأ" للباجي.
(1) في نسخة: يجيزه.
(2) أي يحيى بن عمارة بن أبي حسن المازني.
(3) قوله: أنَّه، ضمير للشأن. كان في حائط، أي بستان. جدّه، أي جدّ يحيى، وهو أبو حسن تميم بن عبد عمرو الأنصاري الصحابي، قاله الزرقاني. وقد مرت ترجمته وترجمة ابن ابنه وابن ابن ابنه.
(4) على وزن فعيل: النهر الصغير.
(5) أحد العشرة المبشرة.(3/318)
فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ أَنْ يحوِّله (1) إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْحَائِطِ هِيَ (2) أَرْفَقُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَأَقْرَبُ إِلَى أَرْضِهِ (3) ، فَمَنَعَهُ صَاحِبُ (4) الْحَائِطِ، فكلَّم عبدُ الرَّحْمَنِ عمرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقض (5) لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بِتَحْوِيلِهِ.
836 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرِّجال، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن (6)
__________
(1) من التحويل أي يصرف ربيعه في جهة أخرى من حائط أبي حسن.
(2) أي تلك الجهة أرفق وأسهل سقياً.
(3) أي أرض ابن عوف.
(4) أي أبو الحسن.
(5) قوله: فقضى، أي حكم بتحويله لعبد الرحمن، لأنه حمل حديث: "لا يمنع أحدكم جاره" على ظاهره، وعدّاه إلى كلِّ ما يحتاج الجار إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه، وقال مالك: ليس العمل على الحديث عمر هذا، ولم يأخذ به مالك، وروي عنه أنه إن لم يضرّ قضى عليه. والمشهور من مذهب مالك وأبي حنيفة عدم القضاء بشيء من ذلك إلاَّ بالرضاء لحديث: " لا يحلُّ مال امرء مسلم إلاَّ عن طيب نفس منه"، وروى أصبغ عن ابن القاسم: لا يؤخذ بقضاء عمر على محمد بن مسلمة في الخليج، ويؤخذ بتحويل الربيع، لأن مجراه ثابت لابن عوف في ناحية، وهذا قول الشافعي في القديم، وفي قوله الجديد: لا يُقضى بشيء من ذلك، كذا ذكره الزرقاني (4/34) .
(6) مرسل، وصله أبو قرة موسى بن طارق، وسعيد الجمحي عن مالك به سنداً عن عائشة.(3/319)
أنَّ (1) رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا يُمْنَع (2) نَقْعُ بِئْرٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. أيُّما رجلٍ كَانَتْ لَهُ بِئْرٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النَّاسَ مِنْهَا أَنْ يَسْتَقُوا (3) مِنْهَا لِشِفَاهِهِمْ وَإِبِلِهِمْ وَغَنَمِهِمْ، وَأَمَّا لِزَرْعِهِمْ (4) وَنَخْلِهِمْ فَلَهُ (5) أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) في نسخة: عن.
(2) قوله: لا يُمنع، بصيغة المجهول. والنقع، بفتح النون وسكون القاف، قال بعض الرواة عن مالك: أي فضل مائها، يقال ينقع به أي يروي به، قال الباجي: ويروى: رهو (قال أبو الرجال: النقع والرهو هو الماء الواقف الذي لا يسقى عليه أو يسقى وفيه فضل. شرح الزرقاني 4/31، والمنتقى 6/39) ماء، وهو بمعناه.
(3) قوله: أن يستقوا، أي أن يستقوا من تلك البئر لشفاههم ودوابِّهم، وهو جمع شَفَة بالفتح وهو شرب بني آدم بشفتهم، وأصله شفهه، ولذا صُغِّر بشُفيه وجُمع بشفاه، يقال هم أهل الشفة أي لهم حق الشرب بشفاههم، قاله العيني.
(4) أي إن قصدوا أن يستقوا منها لزرعهم وأشجارهم.
(5) قوله: فله، أي لصاحب الماء أن يمنع من ذلك سواء أضَرَّ به أو لم يُضِرَّ، لأنه حقٌ خاص ولا ضرورة في ذلك، ولو أبيح ذلك لانقطعت منفعة الشرب. وهذا بخلاف مياه البحار والأنهار الكبار والأودية غير (في الأصل: الغير المملوكة، وهو خطأ) المملوكة لأحد، فإن للناس فيها حق الشرب وسقي الدوابّ، والأشجار وغير ذلك، لحديث: "الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلأ، والنار"، أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عباس، والطبراني من حديث ابن عمر، وغيرهما. وأما إذا كان الماء محرزاً في الأواني، وصار مملوكاً له بالإِحراز ففيه حق المنع. والمسألة بتفاريعها مبسوطة في الهداية وشروحها.(3/320)
8 - بَابُ الرَّجُلِ يُعْتِق نَصِيبًا (1) لَهُ مِنْ مَمْلُوكٍ أَوْ يُسَيِّبُ سَائِبَةً (2) أَوْ يُوصي بِعِتْقٍ
837 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُروة، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَيَّبَ سَائِبَةً (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4) في الحديث المشهور: "الولاء لمن
__________
(1) قوله: سيّب سائبة، لا خلاف في جواز العتق بلفظ أنت سائبة، أو بشرط أن لا ولاء بينهما، ولزومه، وإنما كره جماعة من العلماء العتق بلفظ السائبة لاستعمال الكفار لها في الأنعام المسيّبة للأصنام، واختلفوا في ولائه، فذهب مالك إلى أنه لا يُوالي أحداً وأن ميراثه للمسلمين وعقله إن جَنَى عليهم وهو مذنب جمع من السلف والخلف (وإليه ذهب مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف، وقال ابن الماجشون وابن نافع والشافعي ولاؤه للمعتق. شرح الزرقاني 4/100) ، وذهب جمع من المالكية والشافعي والحنفية إلى أن ولاءه لمعتقه، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدلال على أن ولاء السائبة للمعتق لا لغيره، بالحديث المشهور عند أهل الحديث "الولاء لمن أعتق" من غير تخصيص بعبد دون عبد، وبقول ابن مسعود: "لا سائبة في الإِسلام" أي لا حكم لها على ما كان في الجاهلية من سقوط حق المعتق في الولاء، وبأنه لو صح أن يكون ولاء السائبة لغير معتقه لا له لصح أن يشترط شارط على المالك بعتق عبده بشرط أن(3/321)
أَعْتَقَ"، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لا سائبةَ فِي الإِسلام (1) ، وَلَوِ اسْتَقَامَ (2) أَنْ يُعتق الرجلُ سَائِبَةً فَلا يَكُونُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ وَلاؤُهُ (3) لاسْتَقَامَ لِمَنْ (4) طَلَبَ مِنْ عائشةَ أَنْ تُعْتِق، وَيَكُونُ الولاءُ لِغَيْرِهَا، فَقَدْ طَلَبَ (5) ذَلِكَ مِنْهَا، فقال (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ"، وَإِذَا اسْتَقَامَ أَنْ لا يَكُونَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَاءٌ اسْتَقَامَ أَنْ يُسْتَثْنَى عَنْهُ (7) الْوَلاءُ فَيَكُونَ لِغَيْرِهِ، وَاسْتَقَامَ أَنْ يَهَبَ الْوَلاءَ وَيَبِيعَهُ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْوَلاءِ وَهِبَتِهِ. وَالْوَلاءُ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ (8) وَهُوَ لِمَنْ أَعْتَقَ (9) إِنْ أَعْتَقَ سَائِبَةً أَوْ غَيْرَهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
838 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر
__________
لا يكون الولاء للمعتق بل له، فإنه لا فرق بين ذلك وبين هذا، وقد دلَّت قصة بريرة كما مرَّ ذكرها على أنه لا يجوز ذلك، وبأنه لو صح ذلك لصح انتقال الولاء عن المعتق بيعاً وهبة، وهو باطل بالنصوص الواردة وقد مرَّ ذكرها.
(3) قوله: سيّب سائبة، لا خلاف في جواز العتق بلفظ أنت سائبة، أو بشرط أن لا ولاء بينهما، ولزومه، وإنما كره جماعة من العلماء العتق بلفظ السائبة لاستعمال الكفار لها في الأنعام المسيّبة للأصنام، واختلفوا في ولائه، فذهب مالك إلى أنه لا يُوالي أحداً وأن ميراثه للمسلمين وعقله إن جَنَى عليهم وهو مذنب جمع من السلف والخلف (وإليه ذهب مالك وجماعة من أصحابه وكثير من السلف، وقال ابن الماجشون وابن نافع والشافعي ولاؤه للمعتق. شرح الزرقاني 4/100) ، وذهب جمع من المالكية والشافعي والحنفية إلى أن ولاءه لمعتقه، كذا في "شرح الزرقاني".
(4) قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، استدلال على أن ولاء السائبة للمعتق لا لغيره، بالحديث المشهور عند أهل الحديث "الولاء لمن أعتق" من غير تخصيص بعبد دون عبد، وبقول ابن مسعود: "لا سائبة في الإِسلام" أي لا حكم لها على ما كان في الجاهلية من سقوط حق المعتق في الولاء، وبأنه لو صح أن يكون ولاء السائبة لغير معتقه لا له لصح أن يشترط شارط على المالك بعتق عبده بشرط أن لا يكون الولاء للمعتق بل له، فإنه لا فرق بين ذلك وبين هذا، وقد دلَّت قصة بريرة كما مرَّ ذكرها على أنه لا يجوز ذلك، وبأنه لو صح ذلك لصح انتقال الولاء عن المعتق بيعاً وهبة، وهو باطل بالنصوص الواردة وقد مرَّ ذكرها.
(1) أي إنما كان عادة أهل الجاهلية.
(2) أي لو صح.
(3) أي ولاء المعتق سائبة.
(4) وهم موالي بريرة.
(5) بالمجهول والمعروف، أي مولى بريرة.
(6) ردّاً عليهم وإبطالاً لشرطهم.
(7) أي المعتق.
(8) فلا يُباع ولا يوهَب ولا ينتقل.
(9) أي سواء فيه إعتاقه سائبة أو غير سائبة.(3/322)
أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَعْتَقَ شِرْكاً (1) لَهُ فِي عبدٍ (2) وَكَانَ لَهُ (3) مِنَ الْمَالِ مَا يبلغُ (4) ثمنَ الْعَبْدِ، قُوِّم (5) قيمةَ العَدْل، ثُمَّ أُعطِيَ (6) شركاؤُه حِصَصَهم (7) وعَتَقَ عليه (8) العبدُ،
__________
(1) قوله: شِركاً، بكسر الشين، وفي رواية للبخاري: شِقصاً على وزنه، وفي أخرى عنده، نصيباً، والكل بمعنى واحد.
(2) قوله: في عبد، وكذا في أمة كما في رواية عند مسدَّد في "مسنده": من أعتق شِرْكاً له في مملوك، وأصرح منه ما في رواية الدارقطني والطحاوي: عبداً وأمة، وشذّ ابن راهويه فقال بتخصيص الحكم في العبد، وقال: لا تقويم في عتق الإِناث، قال القاضي عياض: أنكره عليه حُذّاق الأصول، لأن الأَمَة في هذا المعنى كالعبد.
(3) أي للمعتق.
(4) قوله: ما يبلغ ثمن العبد، أي قدر قيمة بقيمة العبد، كما في راوية النسائي: وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه، فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويُعتَق العبد.
(5) قوله: قُوِّم، مجهول من التقويم. قيمة العدل، بالفتح أي الوسط من غير زيادة ولا نقصان، ويوضحه رواية مسلم: لا وَكْسَ ولا شططَ (الوكس: بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مهملة: النقص، والشطط: الجور. فتح الباري 5/152) .
(6) بصيغة المجهول أو المعروف فما بعده مرفوع أو منصوب.
(7) أي قيمة حصصهم.
(8) أي على ذلك المعتق الضامن، فالولاء كلُّه له.(3/323)
وإلاَّ (1) فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا أُعتِقَ (2) .
قَالَ محمد: وبهذا (3) نأخذُ من أعتق
__________
(1) قوله: وإلاَّ، أي إن لم يكن له مال عتق منه ما عتق - بفتح العين في الأول، ويجوز الفتح والضم في الثاني قاله الدراوردي، وردَّه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يُقال عتق بالفتح، وأعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عتق بضم أوله - وهذه الجملة من المرفوع الموصول عند مالك، وزعم جماعة أنه مدرَج تعلُّقاً بما في "صحيح البخاري" عن أيوب: قال نافع: وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق. قال أيوب: لا أدري أشيء قاله نافع أم هو في الحديث؟ والصحيح أنه ليس بمدرج كما حقَّقه في "فتح الباري" (5/154) .
(2) وفي رواية: عتق.
(3) قوله: وبهذا نأخذ (إن المسألة خلافية شهيرة جداً. ذكر النووي فيها عشرة مذاهب. والعيني على البخاري أربعة عشر مذهباً، وفي الأوجز عشرين مذهباً وفي آخرها: اختلاف هذه المذاهب كلها مبنيّ على اختلاف في أصل كلي، وهو أن العتق مجتزئ عند الإِمام أبي حنيفة ومن وافقه في فروع هذا الفصل مطلقاً بمعنى في حالتي اليُسر والعُسر معاً، وليس بمجتزئ مطلقاً عند صاحبيه ومن وافقهما، ومجتزئ في حالة العسر دون اليسر في المشهور من أقوال الأئمة الباقية. لامع الدراري 6/440) ، وبه قال أبو يوسف وقتادة والثوري والشعبيّ، وهو مرويّ عن عمر وغيره، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، إلاَّ أنَّ مبنى الحكم عندهما على أن العتق لا يتجزأ فإعتاق البعض إعتاق كلِّه، وهو مذهب الشافعي في ما إذا كان المالك واحداً وكان المعتق معسراً، أما لو كان موسراً يبقى ملك الساكت كما كان حتى يجوز له بيعه وهبته، وبه قال مالك وأحمد. وأما أبو حنيفة فقال بالتجزِّي فخيَّر الساكت بين الإِعتاق والاستسعاء والتضمين إن كان المعتق موسراً،(3/324)
شِقْصاً (1) فِي مَمْلُوكٍ فَهُوَ حُرٌّ (2) كلُّه، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أعتَقَ مُوسِرًا (3) ضَمِنَ حِصَّةَ (4) شَرِيكِهِ مِنَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا (5) سَعَى العبدُ لِشُرَكَائِهِ فِي حِصَصِهِمْ. وَكَذَلِكَ (6) بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَق عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ، وَالشُّرَكَاءُ بِالْخِيَارِ: إن شاؤا (7) أعتقوا كما أعتق، وإن شاؤا ضَمَّنُوه (8) إن كان موسراً، وإن شاؤا استَسْعَوْا (9) العبدَ
__________
وبين الأوَّلين إن كان معسراً، كذا في "البناية". واستدل الطحاوي لمذهبهما وقال: إنه أصح القولين بأحاديث مرفوعة دالَّة على مذهبهما، واستُدل له بما أخرجه عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كان لنا غلام بيني وبين أمي وأخي الأسود فأرادوا عِتْقَه وكنت يومئذٍ صغيراً، فذكر الأسود ذلك لعمر فقال: أعتقوا أنتم، فإذا بلغ عبد الرحمن فإن رغب فيما رغبتم أعتق وإلاَّ ضمَّنكم.
(1) بالكسر: أي نصيباً في مملوك مشترك.
(2) لأن العتق لا يتجزَّأ.
(3) أي ذا مال ويسار يقدر على أداء الضمان.
(4) أي قدر قيمته.
(5) أي فقيراً غير قادر على الضمان.
(6) قوله: كذلك بلغنا، قد ورد ذلك من طرق عدَّة من الصحابة، منهم أبو هريرة عند الأئمة الستة، وابن عمر عندهم، وجابر عند الطبراني، وغيرهم كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية"، وأخرجه الطحاوي من طرق عديدة.
(7) بيان للخيار.
(8) أي المعتق، أي جعلوه ضامناً وأخذوا الضمان منه.
(9) أي طلبوا العبد من السعاية فيؤديهم من المال مقدار حصصهم ليعتق كله.(3/325)
فِي حِصَصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَسْعَوْا أَوْ أَعْتَقُوا كَانَ الْوَلاءُ (1) بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ، وَإِنْ ضَمَّنُوا المعتِق كَانَ الولاءُ (2) كُلُّهُ لَهُ، وَرَجَعَ (3) عَلَى الْعَبْدِ بِمَا ضُمّن وَاسْتَسْعَاهُ بِهِ (4) .
839 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا نافع: أن عبد الله بن عمر أعتق ولد زنى وأمَّه (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَهُوَ حسنٌ (6) جميل، بلغنا عن
__________
(1) لأن العتق وقع منهم جميعاً.
(2) لخلوص عتق الكلّ له.
(3) أي المعتق الضامن.
(4) بيان للرجوع أي طلب منه السعاية بقدر ما أداه (حاصل مذاهب الأئمة الستة في ذلك أن الرجل إذا أعتق بعض مملوكه يعتق كله في الحال بغير استسعاء عند الأئمة الثلاثة وصاحبي أبي حنيفة، وقال الإِمام الأعظم رحمه الله تعالى: يستسعى في الباقي وإن كان العبد مشتركاً بينهما فأعتق أحدهما نصيبه، فقال الإِمام أبو حنيفة: الشريك الآخر مخيَّر بين الثلاث: يعتق نصيبه أو يستسعى العبد، فالولاء لهما في الوجهين، أو يغرَّم الأول فالولاء له ويستسعى العبد، وقال صاحباه: ليس له إلاَّ الضمان مع اليسار أو السعاية مع الإِعسار ولا يرجع العبد على المعتق بشيء والولاء للمعتق في الوجهين، وقالت الأئمة الثلاثة في المشهور عنهم: إن كان الأول موسراً يغرم والولاء له، وإلاَّ فقد عتق منه ما عتق ولا يستسعي. لامع الدراري 6/441) .
(5) أي والدته التي زنت.
(6) قوله: وهو حسن جميل، أي عتق ولد الزنا وأمه، وكذا عتق العبيد الفسّاق أو الأراذل، وأحسن منه عتق الصالحين ذوي الأنساب.(3/326)
ابْنِ عباسٍ أَنَّهُ سُئل عَنْ عَبْدَيْنِ: أَحَدُهُمَا لِبَغِيَّةٍ (1) وَالآخَرُ لرِشْدَةٍ (2) : أيُّهُمَا يُعْتَق؟ قَالَ: أَغْلاهُمَا (3) ثَمَنًا بدينارٍ (4) . فَهَكَذَا (5) نَقُولُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
840 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: تُوفِّي (6) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي نومٍ (7) نامَه، فَأَعْتَقَتْ عَائِشَةُ رِقَابًا (8) كَثِيرَةً. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ (9) أَنْ يُعْتَق عَنِ الْمَيِّتِ، فإنْ كان
__________
(1) قوله: لبَغِيَّةٍ، بفتح الباء وكسر الغين المعجمة وتشديد الياء، أي زانية أو بكسر الباء وسكون الغين وفتح الياء: مصدر بمعنى الزنا وهما نسختان، قاله القاري.
(2) بكسر الراء وسكون الشين: أي صالحة.
(3) بالمعجمة أي أعلاهما ثمناً.
(4) أي ولو كان التزايد بدينار.
(5) قوله: فهكذا نقول وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور: إن الأَوْلى أن يعتق ما كان ثمنه أكثر، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي ذر: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الرقاب قال: أكثرها ثمناً، وأنْفَسُها عند أهلها، وفي رواية: أغلاها ثمناً.
(6) في طريق مكة سنة 53، وقيل بعدها.
(7) أي فجأة في نومه.
(8) أي مماليك كثيرة عن أخيها عبد الرحمن.
(9) قوله: لا بأس أن يعتق عن الميت (قال ابن عبد البر: الصدقة والعتق كل منهما جائز عن الميت إجماعاًَ، والولاء للمعتق عند مالك وأصحابه قاله الزرقاني، وهكذا نقل الإِجماع على ذلك الباجي، كذا في الأوجز 10/380) ، فإن العتق من أفضل أنواع الصدقة،(3/327)
أَوْصَى بِذَلِكَ (1) كَانَ الْوَلاءُ لَهُ (2) ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوصِ كَانَ الْوَلاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَيَلْحَقُهُ (3) الأجر إن شاء الله تعالى (4) .
__________
والصدقة بجميع أقسامها وكذا العبادات المالية والبدنية ثوابها يصل إلى الميت، ويكون باعثاً لمغفرته، ورفع درجاته، وبه وردت الأخبار وشهدت به الآثار، كما بسطه السيوطي في "شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور" وغيره في غيره، وورد في العتق عن الميت آثار من أحسنها ما أخرجه النسائي عن واثلة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقلنا: إن صاحباً لنا قد مات، فقال رسول الله: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار.
(1) أي بالعتق.
(2) أي للميت فينتقل إلى ورثته، لأنه هو المعتق حقيقة بالوصية.
(3) أي من أعتق له وهو الميت.
(4) قوله: إن شاء الله، متعلق بلحوق الأجر، والظاهر أنه لمجرَّد التبرك واختيار الأدب في تعليق الأحكام على المشيئة الإِلهية لا للشك في الحكم، فإنه لا شبهة في وصول الأجر إلى الميت إذا أعتق الحي عنه، وأوصل ثوابه إليه، وإنْ لم يوص. نعم إن كان الإِعتاق أو شيء من الصدقات واجباً على الميت فإن أوصى به يجب على الوصيّ تنفيذه في ثُلُث ما ترك ويُحكم ببراءة ذمَّته عن ذلك الواجب، وإن لم يوص وتبرع الوصيّ بأداء ما وجب عليه يُحكم ببراءة الذمة إن شاء الله تفضُّلاً منه ومِنَّةً.(3/328)
9 - بَابُ بَيْعِ (1) المدبَّر
841 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الرّجال، محمد بن
__________(3/329)
عبد الرحمن، عن أمِّه عَمْرَة بنت عبد الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أَعْتَقَتْ جَارِيَةً لَهَا عَنْ دُبُرٍ (1) مِنْهَا، ثُمَّ إِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَكَتْ (2) مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَشْتَكِيَ، ثُمَّ إِنَّهُ (3) دَخَلَ عَلَيْهَا رجلٌ سِنْدِي (4) ، فَقَالَ لَهَا (5) : أنتِ مَطبُوبَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: ويلَك، مَنْ طَبَّني (6) ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ نَعْتِها (7) كَذَا وَكَذَا، فَوَصَفها، وَقَالَ: إنَّ فِي
__________
(1) بضمتين: أي من عقبها وبعد موتها أي جعلتها مدَّبرة.
(1) بضمتين: أي من عقبها وبعد موتها أي جعلتها مدَّبرة.
(2) أي مرضت أياماً.
(3) ضمير الشأن.
(4) بكسر السين: نسبة إلى السند مملكة معروفة كالهند.
(5) قوله: فقال لها: أنت مطبوبة، أي مسحورة، يقال: طَبَّه أي سَحَره، وفي رواية: أن عائشة مرضت فتطاول مرضها، فذهب بنو أخيها إلى رجل فذكروا له مرضها، فقال: إنكم تخبروني خبر امرأة مطبوبة، فذهبوا ينظرون، فإذا جارية لها سحرتها، وكانت قد دبَّرتها، الحديث.
(6) أي من سحرني.
(7) أي من وصفها كذا وكذا، وذكر وصفها.(3/330)
حَجْرها (1) الآنَ (2) صَبِيًّا قَدْ بَالَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ادْعُوا لِي (3) فُلانَةً جَارِيَةً (4) كَانَتْ تخدُمها، فَوَجَدُوهَا فِي بَيْتِ جِيرَانٍ لَهُمْ فِي حَجْرها صبيٌّ، قَالَتْ: الآنَ (5) حَتَّى أَغْسِلَ بَوْلَ هَذَا الصَّبِيِّ، فَغَسَلَتْهُ ثُمَّ جَاءَتْ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: أَسَحَرْتِنِي (6) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: لِمَ (7) ؟ قَالَتْ: أَحْبَبْتُ (8) العتقَ، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لا تَعْتَقِيْنَ (9) أَبَدًا. ثُمَّ أَمَرَتْ عَائِشَةُ ابْنَ أُخْتِهَا (10) أَنْ يبيعَها مِنَ الأَعْرَابِ (11) ممن يسيء ملَكَتها، قالت:
__________
(1) بفتح الحاء وسكون الجيم.
(2) أي في هذا الوقت.
(3) أي اطلبوا عندي.
(4) بدل من فلانة وبيان لها.
(5) أي أحضر الآن فلتصبر حتى أغسل البول.
(6) بهمزة الاستفهام وصيغة الخطاب.
(7) أي بأيّ سبب سحرتني.
(8) أي أردت أن تموت حتى أعتق.
(9) أي زجراً وعقوبةً لك، فمن عجَّل بالشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه.
(10) في نسخة: ابن أخيها.
(11) قوله: من الأعراب، أي البداوي. ممن يسيء ملكتها، أي يشُقُّ عليها بكثرة خدمتها وقلة راحتها، يقال: فلان حسن المَلَكة، بفتحات أي حسن الصنع إلى مماليكه وسيِّئ الملكة أي يسيء صحبة المماليك، كذا في "النهاية".(3/331)
ثُمَّ ابتَعْ لِي (1) بِثَمَنِهَا رَقَبَةً (2) ثُمَّ أَعْتِقْهَا، فَقَالَتْ عَمْرَةُ: فلبثَتْ (3) عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزَّمَانِ، ثُمَّ إِنَّهَا رَأَتْ فِي الْمَنَامِ أَنِ اغْتَسِلِي مِنْ آبَارٍ ثَلاثَةٍ يَمُدُّ بعضُها بَعْضا فَإِنَّكِ تُشْفَيْنَ (4) . فَدَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ إسماعيلُ بنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَعْدِ بْنِ زُرَارة، فَذَكَرَتْ أُمُّ عَائِشَةَ الَّذِي رَأَتْ (5) ، فَانْطَلَقَا إِلَى قَنَاة (6) ، فوجدَا آبَارًا ثَلاثَةً (7) يُمدُّ بعضُها بَعْضًا، فاستَقَوْا مِنْ كل بئر منها ثلاث (8) شُجُبٍ حتى مَلؤوا الشُّجُب مِنْ جَمِيعِهَا، ثُمَّ أتَوْا بِذَلِكَ الْمَاءِ إِلَى عَائِشَةَ، فَاغْتَسَلَتْ فِيهِ فشُفِيَتْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَمَّا نَحْنُ فَلا نَرَى (9) أَنْ يُبَاع المدبَّر، وهو قول زيد بن
__________
(1) أي اشتر لي.
(2) أي جارية أخرى.
(3) أي في ذلك المرض بسبب السِّحر.
(4) بصيغة المجهول.
(5) أي منامها.
(6) قوله: إلى قناة، القناة: بالفتح مجرى الماء تحت الأرض، كذا في "المغرب" وفي "النهاية": القني: الآبار التي تُحفر في الأرض متتابعة يُستخرج ماؤها ويسيح على وجه الأرض، كذا قال القاري.
(7) أي متقاربة متصلة يصل المدد من بعضها إلى بعض.
(8) قوله: ثلاث شجب، قال القاري: بضمتين جمع شَجْب بالفتح فسكون، وهي القربة البالية.
(9) قوله: فلا نرى أن يُباع، وذلك لما أخرجه الدارقطني من رواية عبيدة بن(3/332)
ثَابِتٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر، وَبِهِ نَأْخُذُ. وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.
842 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: مَنْ أَعْتَقَ (1) وَلِيدَةً عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ، فإنَّ لَهُ أنْ يَطَأَهَا وَأَنْ يزوِّجها، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَلا أَنْ يَهَبَهَا، وَوَلَدُهَا (2) بِمَنْزِلَتِهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (3) وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.
__________
حسان، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: "المدبر لا يباع ولا يوهب" وهو حرّ من ثلث المال. قال الدارقطني: لم يسنده غير عبيدة، وهو ضعيف، وإنما هو عن ابن عمر من قوله، وأخرجه أيضاً عن علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: المدبّر من الثلث. وعليّ ضعيف، والموقوف أصح، كما بسطه الزيلعي في "نصب الراية" والعيني.
(1) أي عَلَّق عتقها بموته ودبرها.
(2) قوله: وولدها بمنزلتها، فإن الحمل يتبع أمه في الرقّ والحرية، وكذا الولد.
(3) قوله: وهو (وفي البدائع: ولد المدبرة من غير سيدها بمنزلتها لإِجماع الصحابة على ذلك، فإنه روي عن عثمان خوصم إليه في أولاد مدبرة، فقضى أن ما ولدته قبل التدبير عبد، وما ولدته بعد التدبير مدبر، وكان ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم فيكون إجماعاً، وهو قول شريح ومسروق، وعطاء وطاووس ومجاهد وابن جبير والحسن وقتادة، ولا يُعرف في السلف خلاف ذلك، وإنما قال به بعض أصحاب الشافعي فلا يعتدُّ به بخلاف الإِجماع. أوجز المسالك 13/5) قول أبي حنيفة، خلافاً للشافعي فإنه قال: إن المدبرة إذا(3/333)
10 - بَابُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَاتِ وَادِّعَاءِ النَّسَب
843 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ عُتْبَة (1) بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ (2) إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ بن أبي وقاص
__________
ولدت من نكاح أو زنىً لا يصير ولدها مدبَّراً، وإن الحامل ذات دُبُر صار ولدها مدبَّراً. وعن جابر بن زيد وعطاء لا يتبعها ولدها في التدبير حتى لا يعتقَ بموت سيِّدها، كذا ذكر القاري.
(1) قوله: كان عُتْبة بن أبي وقاص، هو بضم العين وسكون التاء، ابن أبي وقاص، مالك الزهري مات على شركه، كما جزم به الدمياطي. قال الحافظ في "الإصابة": ولم أرَ من ذكره في الصحابة إلا ابن مَنْذَه، واشتد إنكار أبي نعيم عليه، وقال: هو الذي كسر رَبَاعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ما علمتُ له إسلاماً، وفي "مصنَّف عبد الرزاق" أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عُتبة حين كسر رَبَاعيته أن لا يَحُولَ عليه الحولُ حتى يموتَ كافراً، فكان كذلك ورُوي عن سعد بن أبي وقّاص، كما أخرجه ابن إسحاق عنه: ما حَرَصْتُ على قتل رجل قطّ حرصي على قتل أخي عتبة، لما صنع برسول الله، ولقد كفاني منه قول رسول الله: اشتد غضبُ الله على من دمّى وجهَ رسوله، وزَمْعة - الذي ادّعى عتبة ابن جاريته - بفتح الزاء المعجمة وسكون الميم وقد تُفْتَح: ابن القيس العامري والد سودة أم المؤمنين، وابنه عبد القرشي العامري أخو سودة، كان من سادات الصحابة من مُسلمة الفتح، ولم تُسَمّ الوليدة في رواية، وابنها المخاصَم فيه كان من صغار الصحابة، اسمه عبد الرحمن، وأصل القصة أنه كانت لهم في الجاهلية إماء تزنين، وكانت سادتهن تأتيهن في خلال ذلك، فإذا أتت إحداهن بولد ربما يدّعيه السيد، وربما يدّعيه الزاني، فإن مات السيّد، ولم يكن ادّعاه ولا أنكر فادعاه ورثته لحق به إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه فبل القسمة، وإن كان أنكره السيد لم يُلحق به، وكان لزمعة بن قيس أَمَةٌ تزني، وكان يطأها زمعة أيضاً، فظهر بها حمل كان يُظَنّ أنه من عتبة أخي سعد، فأوصى عتبة إلى أخيه قبل موته أن يستلحقه(3/334)
أَنَّ ابْنَ وَليدةِ (1) زَمْعَةَ مِنِّي (2) فاقْبِضْه (3) إِلَيْكَ، قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سعدٌ، وقال: ابن
__________
به، فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشَّبَه، فاحتج بوصية أخيه واستلحاقه، فلما تخاصم عبد بن زمعة مع سعد أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الجاهلية، وقال: "الولد للفراش"، أي لصاحب الفراش وهو الزوج والسيّد، وللعاهر الزاني الحَجَر، بفتحتين على الأشهر، أي الخيبة والخسران، ولا حق له في الولد بالوطء المحرم، وإن كان مشابهاً له صورة وصدر منه الدعوى، يقال: فلان في فيه الحجر والتراب كنايةً عن حرمانه، وقيل: المراد بالحجر الرجم بالحجارة، وفيه ضعف فليس كل زانٍ يُرجم، وقيل: هو بفتح الأول وسكون الجيم أي المنع، وظاهر الحديث بإطلاق لفظ الفراش ووروده في مورد خاص: وهو ولد جارية زمعة يقتضي أن يكون الولد للفراش مطلقاً، سواء كانت المستفرشة أَمَة وصاحب الفراش سيداً أو المستفرشة زوجة وصاحب الفراش زوجاً من غير احتياج إلى ادعائهما، واختلف العلماء في ولد الأمة بعد اتفاقهم على أن ولد الزوجة للزوج، وإن أنكره أو لم يشبهه بعد إمكان الوطء لقيام العقد مقامه، فذهب الشافعية وغيرهم إلى أن ولد الأمة يلحق بسيدها أقرَّ أو لم يقِرّ بعد ثبوت الوطء، فإن الأمة تشترى لوجوه كثيرة فلا تكون فراشاً إلا بعد ثبوت الوطء، وقال الحنيفية: لا تكون فراشاً إلا بولد استلحقه قبل، فما تلده بعده فهو له، وإن لم يَنْفِه، وأما الولد الأول فلا يكون له إلا إذا أقرَّ به. وفي الحديث مباحث ومذاهب مبسوطة في "فتح الباري"، وشرح الزرقاني. وفيما ذكرناه منهما كفاية ههنا وسيأتي بعض ما بقي.
(2) أي أوصى عند موته إلى أخيه سعد أحد العشرة المبشرة.
(1) أي جارية.
(2) أي من مائي وهو ابني.
(3) أي خذه وضمّه إليك.(3/335)
أخِي (1) قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ أَخِي فِيهِ، فقام إيه عبدُ بْنُ زَمعة، فَقَالَ: أَخِي (2) وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي وُلد عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا (3) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ أَخِي قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ أَخِي عُتْبَة، وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعة: أَخِي (4) ابنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ لَكَ (5) يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعة، ثم قال: الولد للفراش
__________
(1) أي هذا ابن أخي عتبة فأنا أحق به.
(2) أي هو أخي، وابن جارية أبي.
(3) أي ساق كل منهما صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدافعا عنده.
(4) أي هو أخي، وابن جارية أبي.
(5) قوله: هو لك، زاد القعنبي عند البخاري وغيره: هو اخوك يا عبد زمعة، بضم الدال على الأصل، ويروى بالنصب والنون، منصوب على الوجهين، وسقط في رواية النسائي أداءة النداء، فبنى على ذلك بعض الحنفية ان المراد أنه هو لك، وأنه عبدٌ لابن زمعة لأنّه ابن أمة أبيه لا أنه ألحقه به، قال القاضي عياض: وليس كما زعم، فإن الرواية بيا، وعلى تقدير إسقاطها فعبد علم، والعلم يحذف منه حرف النداء، مع أن رواية القعنبي صريحة في رد هذا الزعم، وظاهر الحديث يفيد الاستلحاق، وإن لم يدّع السيد، ولم يقل به الحنفية مع أن الأخ لا يصلح استلحاقه عند الجمهور، لكونه متضمناً على الإِقرار على الغير من دون تصديقه، ولذا قالت طائفة: إنه صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه أنه أخوه لأن زمعة كان والد زوجته، وفراشه كان معلوم عنده لا بمجرّد دعوى عبد على أبيه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصائصه الحكم بعلمه، وللطهاوي في "شرح معاني الآثار" كلام طويل محصَّله: أن معنى هو لك، أي بيدك تمنع من سواك كاللقطة، أو عبدك لا أنه أخوك، وإلا لما أمر النبي سودة بالاحتجاب منه، ورُدّ بأن ظاهر الروايات بل صريح بعضها نصّ في الحكم بالأخوة، والأمر بالاحتجاب إنما كان احتياطاً للشبة لما أنه رأى في ذلك الولد مشابهة عتبة بن أبي وقاص وفي المقام أبحاث طويلة مذكورة في "شرح الموطأ"، لابن عبد البر والزرقاني وغيرهما (انظر الأوجز 12/296) .(3/336)
والعاهر الحَجَر، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ (1) بِنْتِ زَمْعة: احْتَجِبِي مِنْهُ (2) لِمَا رَأَى مِنْ شَبَهِه بعُتْبة، فَمَا رَآهَا (3) حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
11 - بَابُ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ
844 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا جعفر بن محمد، عن أبيه: (5) أن
__________
(1) قوله: لسودة، هي أم المؤمنين، سودة بالفتح بنت زمعة بن قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن عدي بن النجار تزوجها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ موت خديجة قبل عائشة، وقيل بعدها، وكانت امرأة ثقيلة فأسنّت عند رسول الله فهمَّ بطلاقها، فقالت: لا تطلقني وإني وهبت يومي لعائشة، وكانت وفاتها في آخر زمان عمر، كذا ذكره ابن عبد البر في "الاستعاب".
(2) أي من عبد الرحمن بن وليدة زمعة والد سودة.
(3) أي سودة.
(4) أي حتى توفي.
(5) قوله: عن أبيه، أي محمد الباقر بن زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. قال ابن عبد البر: هذا الحديث مرسل في "الموطأ" ووصله عن مالك جماعة فقالوا: عن جابر، منهم عثمان بن خالد وإسماعيل بن موسى،(3/337)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافُ (1) ذَلِكَ، وَقَالَ: ذكر
__________
وأسنده عن جعفر عن أبيه عن جابر جماعة. انتهى. وفي "التلخيص الحبير" ذكر ابن الجوزي في "التحقيق" عدد من روى هذا الحديث، فزادوا على عشرين صحابياً، وأصح طرقه حديث ابن عباس أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم والشافعي وزاد فيه عن عمرو بن دينار أنه قال: إنما كان ذلك في الأموال، وإسناده جيد، قاله النسائي. ثم حديث أبي هريرة أخرجه الشافعي وأصحاب السنن وابن حبان وإسناده صحيح، قاله أبو حاتم. وحديث جابر: قضى رسول الله بالشاهد الواحد ويمين الطالب، أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والبيهقي من رواية جعفر عن أبيه عنه، وقال الدارقطني: كان جعفر ربما أرسله وربما وصله. وفي رواية ابن عدي، وابن حبان من طريق إبراهيم بن أبي حيّة، وهو ضعيف، عن جعفر عن أبيه عن جابر مرفوعاً: أتاني جبريل وأمرني أنْ أقضي باليمين مع الشاهد. انتهى ملتقطاً. وبهذه الأحاديث ذهب الجمهور منهم الأئمة الثلاثة إلى القضاء بشاهد واحدٍ ويمين المدّعي.
(1) قوله: خلاف ذلك، وهو أنه لا يجوز عود اليمين إلى المدعي، ففي "مصنف ابن أبي شيبة": نا سويد بن عمرو نا أبو عوانة عن مغيرة عن إبراهيم والشَّعْبي في الرجل يكون له الشاهد مع يمينه قال: لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين. وقال ابن أبي شيبة أيضاً: نا حماد بن خالد عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: هي بدعة، وأول من قضى بها معاوية، وسنده على شرط مسلم. وفي "مصنف عبد الرزاق": أخبرنا معمر عن الزهري قال: هذا شيء أحدثه الناس، لا بد من شاهدين، كذا أورده السيد مرتضى في "الجواهر". وبهذه الروايات وأمثالها وبالحديث الصحيح: "البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر:، وغيره من الأحاديث المشهورة المفيدة لحصر اليمين على المدّعي(3/338)
ذَلِكَ (1) ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، قَالَ (2) : سَأَلْتُه (3) عَنِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ فَقَالَ: بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهَا (4) مُعَاوِيَةُ، وكان
__________
عليه، وبظاهر قوله تعالى: (واستشْهِدُوا شَهِدَيْن مِن رِجالِكم) (سورة البقرة: الآية 282) الآية، ذهب أصحابنا والثوري والأوزعي والزهري والنخعي وعطاء وغيرهم إلى بطلان القضاء بشاهد ويمين، وأجابوا عن الأحاديث السابقة بطرق: منها التأويل بأن المراد قضى بشاهدٍ واحدٍ للمدعي ويمين للمدَّعَى عليه، وهو مردود بنصوص بعض الروايات. ومنها الكلام في طريق حديث ابن عباس وأبي هريرة بالانقطاع في السند كما بسطه الطحاوي، وليس بجيد، فإن الكلام فيها ليس بحيث يسقط الاحتجاج بها كما لا يخفى على الماهر. ومنها أنّ أخبار الآحاد إذا أثبتت زيادة على القرآن والأحاديث المشهورة لا تعتبر بها، فإن الزيادة نسخ وخبر الواحد لا ينسخهما، وهذه قاعدة مبرهنة في أصول الحنيفية غير مسلّمة عند غيرهم، فإن ثبتت تلك القاعدة بما لا مردّ له ثبت المرام وإلا فالكلام موضع نظر وبحث (وفي البذل 15/293: كتب مولانا محمد يحيى المرحوم من تقرير شيخه - رضي الله عنه - قوله بيمين وشاهد، هما للجنس، والمعنى قضى بهذا أحياناً وبذاك أحياناً إذا لم يوجد شاهد للمدَّعي، والحاجة إلى ذلك التأويل للجمع بقوله الكلي: البّينة على المدعي إلخ. وهو مشتهر بل قريب من المتواتر. اهـ) .
(1) أي خلاف ما مرّ.
(2) أي ابن أبي ذئب.
(3) أي ابن شهاب.
(4) أي باليمين مع الشاهد.(3/339)
ابْنُ شِهَابٍ أَعْلَمُ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَدِينَةِ (1) مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ ابْنُ جُرَيْجٍ أَيْضًا، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح قَالَ (2) : أَنَّهُ (3) قَالَ: كَانَ الْقَضَاءُ الأَوَّلُ (4) لا يُقبل إِلا شَاهِدَانِ، فَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ عبدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ.
12 - بَابُ اسْتِحْلافِ (5) الْخُصُومِ
845 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا غَطَفان (6) بْنَ طرَيْف المُرّي (7) يَقُولُ: اخْتَصَمَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وابنُ مُطيع (8) فِي دَارٍ إِلَى مروانَ (9) بْنِ الْحَكَمِ، فَقَضَى (10) عَلَى زَيْدِ بن
__________
(1) هكذا في نسخة عليها شرح القاري، وفي نسختين معتَمَدَتين: أعلم أهل المدينة بالحديث.
(2) أي ابن جريج.
(3) أي ابن أبي رباح وكان أعلم أهل مكة بالحديث في عصره.
(4) أي في الزمان الأوّل، زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(5) أبا غطفان: اسمه سعد.
(6) أبا غطفان: اسمه سعد.
(7) بضم الميم وتشديد الراء.
(8) أي عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي المدني، له رؤية، قُتل مع ابن الزبير، سنة ثلاث وسبعين، ذكره الزرقاني.
(9) أي حين كونه أميراً بالمدينة من جهة معاوية.
(10) أي حكم مروان.(3/340)
ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمِنْبَرِ (1) ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: أحْلِفُ لَهُ مَكَانِي (2) ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: لا وَاللَّهِ إِلا عِنْدَ مَقَاطِعِ (3) الْحُقُوقِ، قَالَ (4) : فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حقَّه (5) لحقٌّ، وَأَبَى (6) أَنْ يَحْلِفَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ (7) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ (8) زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نأخذ
__________
(1) أي عند المنبر النبوي.
(2) أي في مكان لا عند المنبر.
(3) أي عند المنبر الذي يُقطع عنده الحقوق ويتميّز الحق من الباطل.
(4) أي أبو غطفان.
(5) أي حقه في الدار لثابت.
(6) أي امتنع زيد من الحلف عند المنبر.
(7) قوله: يعجب من ذلك، أي يتعجب من امتناع زيد مع علمه أن اليمين تغلّظ بالمكان، وأن المنبر مقطع الحقوق، قال في "فتح الباري": وجدت لمروان سلفاً فأخرج الكرابيسي بسند قويّ عن ابن المسيّب قال: ادّعى مدعٍ على آخر أنه غصب له بعيراً فخاصمه إلى عثمان فأمره ان يحلف عند المنبر، فقال: أحلف له حيث شاء، فأبى عثمان أن يحلف إلا عند النبر، فغرم له بعيراً مثل بعيره ولم يحلف.
(8) قوله: وبقول زيد بن ثابت نأخذ، يعني أنه لا يلزم على المدعى عليه إلا اليمين عند الاستحلاف من دون تعيين زمان أو مكان، ولا يلزم عليه ان يحلف في المسجد أو عند المنبر النبوي، أو بين الركن والمقام، فإن فعل ذلك لا بأس به(3/341)
وَحَيْثُمَا (1) حَلَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَوْ رَأَى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ مَا أَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُعْطي مَا لَيْسَ عَلَيْهِ، فَهُوَ (2) أحقُّ أَنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ مِمَّنِ اسْتَحْلَفَهُ (3) .
13 - بَابُ الرَّهْن
846 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عن سعيد بن المسيب (4) أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُغْلَقُ الرَّهْن (5) .
__________
(وفي "الشرح الكبير"، لابن قدامة: إن رأى الحاكم تغليظها بلفظٍ أو زمن أو مكان جاز، وظاهر كلام الخرقى أن اليمين لا تغلَّظ إلا في حق أهل الذمة، ولا تغلَّظ في حق المسلم، وبه قال أبو بكر. وممن قال: لا يشرع التغليظ بالزمان والمكان في حق المسلم أبو حنيفة وصاحباه، وقال مالك والشافعي: تغلَّظ ثم اختلفا، كذا في الأوجز 12/134) .
(1) قوله: وحيثما، يعني في أيّ مكان حلف المدَّعى عليه فهو جائز، فإنه لو رأى زيد أن الحلف عند المنبر لازم له ما أنكر أن يؤدِّي الحق الذي عليه، وهو اليمين عند المنبر، ولكنه كره أن يُعْطي ما لا يجب عليه لئلا يُتَوَهّم أنه لازم.
(2) أي زيد بن ثابت.
(3) أي مروان بن الحكم.
(4) قوله: عن سعيد بن المسيّب، هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" إلا معن بن عيسى فوصله عن أبي هريرة قاله ابن عبد البر، وهو موصول من حديثه عند ابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ: "لا يُغْلَق الرهن من راهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه"، ورواه الشافعي وابن أبي شيبة وعبد الرزاق بلفظ: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، وله غنمه وعليه غرمه". قال الشافعي: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه. وله طرق بسطها الحافظ في "التلخيص".
(5) قوله: لا يُغْلَق الرهن، يقال: غَلِق الرهن، بغين مفتوحة وكسر اللام(3/342)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ: "لا يُغلق الرَّهْنُ"، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَرْهَنُ الرَّهْنَ (1) عِنْدَ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ (2) لَهُ: إِنْ جئتُك بمالِك إِلَى (3) كَذَا وَكَذَا، وَإِلا فَالرَّهْنُ لَكَ (4) بِمَالِكَ، قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يُغْلَقُ الرَّهْنُ، وَلا يَكُونُ لِلْمُرْتَهِنِ (5) بمالِه. وَكَذَلِكَ نَقُولُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَكَذَلِكَ فسّره (6) مالك بن أنس.
__________
وقاف، يَغْلَق بفتح أوّله واللام غلقاً: أي استحقّه المرتهن إذا لم يفتك في الوقت المشروط قاله الجوهري، قال صاحب "النهاية": كان هذا من قول أهل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يردّ ما عليه في الوقت المعين مَلَكَه المُرْتَهِن فأبطله الإِسلام، واستَدل بهذا الحديث جمع من العلماء على أن الرهن إذا هلك في يد المرتهن لا يضيع بالدين، بل يجب على الراهن أداء غُرْمه وهو الدين، وردّه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" بأنه قال أهل العلم في تأويله غير ما ذكرت، ثم أخرج عن مغيرة عن إبراهيم في رجل دفع إلى أجل رهناً، وأخذ منه دراهم، وقال: إن جئتك بحقك إلى كذا وإلا فالرهن لك بحقك. وأخرج عن طاوس وسعيد بن المسيّب ومالك مثل ذلك، فعُلم أن الغلق المذكور في الحديث هو الغلق بالبيع لا بالضياع.
(1) أي الشيء المرهون.
(2) أي الراهن.
(3) أي إلى مدة معينة.
(4) أي مبيع لك ومغلَق عندك عوض مالك.
(5) بل يردّه على الراهن ويأخذ منه ماله أو يبيعه بإذنه ويأخذ قدر ماله ويرد الفضل.
(6) ذكر تفسيره يحيى في "موطئه"(3/343)
14 - بَابُ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّهَادَةُ
847 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الجُهَيني أَخْبَرَهُ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلا (2) أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ (3) الَّذِي (4) يَأْتِي بِالشَّهَادَةِ، أَوْ (5) يُخْبِرُ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسأَلَها.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (6) . مَنْ كانت عنده شهادة لإِنسان
__________
(وبهذا فسره أحمد، كذا في الأوجز 12/143) .
(1) قوله: عن عبد الله بن عمرو، بفتح العين، بن عثمان بن عفان الأموي، ولقبه بالمطْرَاف، بسكون الطاء المهملة وفتح الراء ثقة شريف تابعي مات بمصر سنة 96 هـ. أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي عَمْرَةَ الأَنْصَارِيَّ، وفي رواية يحيى: عن أبي عمرة الأنصاري، قال ابن عبد البر: هكذا رواه يحيى وابن القاسم وأبو مصعب ومصعب الزبيري، وقال القعنبي ومعن ويحيى بن بكير: عن ابن أبي عمرة، وكذا قال ابن وهب وعبد الرزاق: عن مالك وسَمَّياه بعبد الرحمن فرفعا الإِشكال، وهو الصواب، وعبد الرحمن هذا من خيار التابعين، كذا في "شرح الزرقاني".
(2) بحرف الاستفهام.
(3) جمع شهيد يعني الشاهد.
(4) أي خيرهم الذي يؤدّي الشهادة قبل أن يسأله صاحب الحق.
(5) شك من الراوي.
(6) قوله: وبهذا نأخذ، قد يقال إنه معارَض بحديثٌ: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي من بعدهم قوم يشهدون ولا يُستشهدون". الحديث أخرجه الشيخان، وعند الترمذي: ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يُسألوها، وعند ابن حبان: "ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على يمين قبل أن(3/344)
لا يَعْلَمُ ذَلِكَ الإِنسان بِهَا، فليُخْبِرْه (1) بِشَهَادَتِهِ، وإنْ لم يَسأَلْها إياه.
__________
يُستحلف، ويشهد على الشهادة قبل أن يُستشهد". وجُمع بينهما بحمل حديث الباب، وهو حديث زيد على أداء الشهادة الحقّة، والثاني على شاهد الزور. وبحمل الثاني على الشهادة في باب الأَيْمان كأن يقول أشهد باللَّه ما كان كذا لأنّ ذلك نظير الحلف وإن كان صادقاً والأول على ما عدا ذلك. وبحمل الثاني على الشهادة على المسلمين بأمر مغيَّب كما يشهد أهل الأهواء على مخالفيهم بأنهم من أهل النار، والأوّل على من استعدّ للأداء وهي أمانة عنده. وبحمل الثاني على ما إذا كان يعلم به صاحبها فيُكره التسرع إلى أدائها والأول على ما إذا كان صاحبها لا يعلم بها، كذا في "التلخيص الحبير" (4/204) .
(1) إحياءً للحقوق ودفعاً للأضرار.(3/345)
كِتَابُ اللُّقَطة (1)
848 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: أَنَّ ضَوَالَّ الإِبل (2) كَانَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِبِلا مُرْسَلَةً (3) تَنَاتَجُ لا يَمَسّها
__________
(1) قوله: أن ضوالّ الإِبل، جمع ضالّة (قال الخطابي: الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها، وربّما اسم للحيوان الذي يضل عن أهلها كالإِبل والبقر والطير، كذا في الأوجز 12/301) ، مثل دابّة ودوابّ، والأصل في الضلال الغَيْبة، ومنه قيل للحيوان الضائع ضالّة، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقطة يقال: ضلّ البعير إذا غاب وخفي عن موضعه، كذا ذكره الزرقاني نقلاً عن الأزهري.
(2) قوله: أن ضوالّ الإِبل، جمع ضالّة (قال الخطابي: الضالة لا يقع على الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها، وربّما اسم للحيوان الذي يضل عن أهلها كالإِبل والبقر والطير، كذا في الأوجز 12/301) ، مثل دابّة ودوابّ، والأصل في الضلال الغَيْبة، ومنه قيل للحيوان الضائع ضالّة، ويقال لغير الحيوان ضائع ولقطة يقال: ضلّ البعير إذا غاب وخفي عن موضعه، كذا ذكره الزرقاني نقلاً عن الأزهري.
(3) قوله: إبلاً مرسلة، أي متروكة مهملة لا يتعرّضها أحد. تَنَاتَج، أي(3/346)
أَحَدٌ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ زَمَنِ (1) عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَمَرَ بِمَعْرِفَتِهَا وَتَعْرِيفِهَا، ثُمَّ تُباع فَإِذَا جَاءَ صاحبُها (2) أُعطي ثمنَها.
قَالَ مُحَمَّدٌ: كِلا (3) الْوَجْهَيْنِ حسنٌ. إِنْ شَاءَ الإِمام تَرَكَهَا حَتَّى يَجِيءَ أَهْلُهَا، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهَا الضَّيْعة (4) أو لم يجد من يرعا (5) ها فباعها،
__________
تتناتج بعضها بعضاً فحذف إحدى التائين. لا يمسّها أحد، أي لا يمسكها أحد، وذلك للنهي عن أخذ ضالّة الإِبل، فعن زيد الجُهني: جاء رجلٌ يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: اعرف عفاصها ووكاءَها وعرِّفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك، قلت: فضالّة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب - وفي رواية خذها - قلت: فضالة الإِبل؟ قال: ما لك ولها؟ معها سقاؤها ترد الماء وتأكل (في الأصل تروى، وهو خطأ) الشجر، فذرها حتى يجدها ربُّها، أخرجه الأئمة الستة وغيرهم، فظاهره أن ضالّة الإِبل لا ينبغي أخذُها لعدم خوف ضياعها، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد في البقر والإِبل والفرس، إن الترك أفضل، وقال أصحابنا وغيرهم: كان ذلك إذ ذاك لغلبة أهل الصلاح، وفي زمننا لا يأمن وصول يدٍ خائنة، ففي أخذه إحياؤها، فهو أولى. وقد بسط الكلام فيه ابن الهمام، ويؤيد ما قال أصحابنا ما ثبت في زمان عثمان لانقلاب الزمان حيث أمر بتعريفها بعد التقاطها خوفاً من الخيانة ثم يبيعها وإمساك ثمنها في بيت المال لأربابها.
(1) في نسخة: زمان.
(2) أي مالكها.
(3) أي ما كان في زمن عمر وما كان في زمن عثمان.
(4) بالفتح أي التَّلف والضياع.
(5) من رعي الكلأ.(3/347)
ووقَّف (1) ثَمَنَهَا حَتَّى يَأْتِيَ أَرْبَابُهَا فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ.
849 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ: أَنَّ رَجُلا وَجَدَ لُقَطة (2) ، فَجَاءَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ لُقَطَةً، فَمَا تَأْمُرُنِي فِيهَا؟ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: عَرِّفْهَا (3) ، قَالَ: قَدْ فعلتُ، قَالَ: زِدْ، قَالَ: قَدْ فعلتُ، قَالَ: لا آمُرُكَ (4) أنْ تأكُلَها، لَوْ شئتَ (5) لَمْ تأخُذْها.
850 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ يُحَدِّثُ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ ضحَّاكٍ (6) الأَنْصَارِيَّ حَدَّثَه: أَنَّهُ وَجَدَ بَعِيرًا بالحَرّة (7) فعَرَّفه، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَه، قَالَ ثَابِتٌ لِعُمَرَ: قَدْ شَغَلَني عَنْهُ ضَيْعَتيِ (8) ، فقال
__________
(1) بتشديد القاف من التوقيف، أي جعل ثمنها موقوفاً ومحفوظاً.
(2) أي شيئاً ملتقطاً، بفتح القاف أو سكونها.
(3) أي افعل فيه تعريفاً معروفاً في الشرع في المجامع والمجالس.
(4) أي لا أجيزك أكلها.
(5) أي كان لك بد من أخذها فإذا أخذتها وجب عليك حفظها لأنه أمانة.
(6) قوله: أنّ ثابت بن ضَحّاك، بفتح الضاد وتشديد الحاء بن خليفة الأنصاري الأشبيلي، الصحابي الشهير، توفي سنة أربع وستين على الصواب، كما في الإِصابة وغيره.
(7) بالفتح وتشديد الراء موضع قرب المدينة.
(8) قوله: ضيعتي، بالفتح بمعنى العقار والمتاع أي شغلني عن تعريفه الاشتغال بعقاري فإني مشغول به لا أجد فرصة أن أُعرِّفها مرّة بعد مرة. وفي "موطأ يحيى": شغلني عن ضيعتي، أي منعني تعريفه عن عقاري.(3/348)
لَهُ عُمَرُ: أرْسِلْه حَيْثُ وَجَدْتَه (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نأخُذُ. مَنِ الْتَقَطَ (2) لُقطة تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا عَرَّفَهَا حَوْلا (3) ، فَإِنْ عُرِفت وَإِلا تَصَدَّقَ بِهَا، فَإِنْ كَانَ (4) مُحْتَاجًا أَكَلَها (5) ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا (6) خَيَّره (7) بَيْنَ الأَجْرِ وَبَيْنَ أَنْ يَغْرِمها (8) له،
__________
(1) أي في المكان الذي وجدته.
(2) قوله: من التقط لقطة تساوي إلخ، الفرق بين لقطة العشرة فصاعداً وبين لقطة ما دونها مرويّ عن أبي حنيفة. وعنه إن كانت مائتي درهم يُعَرِّفها حولاً، وإن كانت أقلّ منها إلى عشرة يُعرّفها شهراً وإن كانت أقل من العشرة يُعَرِّفها على حسب ما يرى. وعنه أنه إن كان ثلاثة فصاعداً يُعَرِّفعا عشرة أيام، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرّفها ثلاثة أيام وإن كانت دانقاً فصاعداً يعرفها يوماً، وشيء من هذا ليس بتقدير لازم. وقال الشافعي ومالك وأحمد بالتعريف بالحول من غير فصل بين القليل والكثير لحديث: "من التقط شيئاً فليُعَرّفه سنةً" أخرجه ابن راهويه، وفي الباب روايات كثيرة في التعريف بالحول وأجيب عنه بأنه ليس بتقدير لازم فورد في رواية: التعريف بثلاثة أعوام أخرجه البخاري من حديث أبيّ بن كعب، وظاهر الأحاديث أن الكثير يعرف فيه حولاً، والعشرة فما فوقها كثير عندنا بدليل تقدير نصاب السرقة والمهر به، وما دونه قليل. والمسألة مبسوطة بحذافيرها في "البناية" و "فتح القدير" وغيرهما.
(3) أي سنة كاملة.
(4) أي الملتقط.
(5) قوله: أكلها، يشير إلى أنه لو كان غنياً لم يأكلها لعدم الضرورة بل يحفظ أو يتصدق على المساكين.
(6) أي مالكها.
(7) أي الملتقط من التخيير.
(8) أي يضمنها له.(3/349)
وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَرَّفَهَا عَلَى قَدْرِ (1) مَا يَرَى أَيَّامًا، ثُمَّ صَنَعَ بِهَا كَمَا صَنَعَ (2) بِالأُولَى، وَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهَا كَالْحُكْمِ فِي الأُولَى، وَإِنْ رَدَّهَا (3) فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ بَرِئَ مِنْهَا، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ.
851 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مُسْنِدٌ (4) ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ: مَنْ أَخَذَ ضَالّة فَهُوَ ضَالٌّ (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ. وَإِنَّمَا (6) يَعْنِي بذلك من أخذها ليَذهب
__________
(1) أي حسب ما يظن أياماً معدودة أنه إذا عَرَّفَ فيها ظهر مالكها إنْ كان.
(2) أي يتصدق أو يأكل.
(3) أي اللقطة.
(4) قوله: وهو مسند ظهره إلى الكعبة، فيه جواز الجلوس مستنداً بالكعبة وبجدار القبلة في المسجد، وجواز جعل الكعبة وجهتها خلفه، وهو ثابت بآثار أُخر أيضاً.
(5) قوله: فهو ضالّ، أي عن طريق الصواب أو آثم أو ضامن إن هلكت عنده، عبر به عن الضمان للمشاكلة، وأصل هذا في حديث معروف أخرجه أحمد عنده، عبر به عن الضمان للمشاكلة، وأصل هذا في حديث معروف أخرجه أحمد ومسلم والنسائي عن زيد مرفوعاً: "من آروى ضالّة فهو ضالّ ما لم يُعَرِّفْها" فقيّد الضلال بمن لم يُعَرِّفها، فلا حجة لمن كره اللقطة مطلقاً في أثر عمر هذا، ولا في قوله صلى الله عليه وسلم: "ضالّة المسلم حرق النار" أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن الجارود العبدي، لأن الجمهور حملوه على ما إذا أخذه من غير تعريف، كذا في "شرح الزرقاني".
(6) قوله: إنما يعني بالمعروف، أي إنما يريد عمر رضي الله عنه بقوله: من(3/350)
بِهَا، فَأَمَّا مَنْ أَخَذَهَا ليردَّها (1) أَوْ لِيُعَرِّفَهَا (2) فلا بأس به.
1 - باب الشفعة (3)
852 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمارة (4) ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْم أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: إِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ (5) فِي أرض فلا شُفعة فيها، ولا
__________
أخذ ضالّة فهو ضالّ، من أخذ اللقطة ليذهب بها ويتصرف فيها، أو بالمجهول أي إنما يُراد بذلك القول وأمثاله مرفوعاً كان أو موقوفاً.
(1) أي على مالكها.
(2) أي ليُعْرَف مالكها فيردّها إليه.
(3) عُمارة: بضم العين ابن عمرو بن حزم الأنصاري.
(4) عُمارة: بضم العين ابن عمرو بن حزم الأنصاري.
(5) قوله: إذا وقعت الحدود، جمع حدّ، وهو ما يتميّز به الأملاك بعد(3/351)
شُفْعَةَ (1) فِي بِئْرٍ وَلا فِي فَحْلِ نَخْلٍ.
853 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (2) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى (3) بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقسم، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ فَلا شُفْعَةَ فِيهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ جَاءَتْ (4) فِي هَذَا أحاديث مختلفة، فالشريك
__________
القسمة، وأشار به إلى وقوع القسمة. فالشفعة تثبت في ما لم يقسم، فإذا قُسم ومُيِّز بين أملاك الشركاء ثم باع أحدهم حصته فلا شُفعه بسبب الاشتراك.
(1) قوله: وَلا شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلا فِي فَحْلِ نخل، أي ذكر نخل، وكذا في كل شجر إلا إذا بيع تبعاً للأرض، وفيه أن الشفعة خاص بالعقار والحوائط وعند البيهقي عن ابن عباس مرفوعاً: الشفعة في كل شيء، ورجاله ثقات، وبه قال عطاء شاذاً آخذاً بظاهره، فقال بالشفعة في كل شيء حتى الثياب، وحمله الجمهور على الأرض لدلالة كثير من الأحاديث على ذلك.
(2) قوله: عن أبي سلمة، وفي "موطأ يحيى": عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة، وهو مرسل عن مالك عند أكثر رواة الموطأ، ووصله ابن الماجشون وأبو عاصم النبيل وابن وهب عن أبي هريرة، واختلف فيه رواة ابن شهاب أيضاً، فمنهم من وصله، ومنهم من أرسله، كما بسطه ابن عبد البر في "التمهيد".
(3) أي حكم.
(4) قوله: قد جاءت في هذا، يعني وردت في هذا الباب أحاديث مختلفة، بعضُها تدل على انحصار الشفعة على الشركة وأن لا شفعة بالجوار، وبعضها تدل على ثبوت الشفعة للجوار، وهي واردة بطرق كثيرة بألفاظ مختلفة وحملها مالك والشافعي وأحمد القائلون بعدم الشفعة بالجوار على الجار الشريك وهو حَمْل(3/352)
أحقُّ (1) بِالشُّفْعَةِ مِنَ الْجَارِ، وَالْجَارُ أحقُّ مِنْ غَيْرِهِ، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
854 - أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ (2) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلى الثَّقَفِيُّ، أَخْبَرَنِي عَمْرو بْنُ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ الشَّريد بْنِ سُوَيد (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْجَارُ أحقُّ بصَقَبه (4) .
وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ (5) أبي حنيفة والعامّة من فقهائنا.
__________
بعيد، وأجاب مثبتوه عن الأحاديث الدالة على أن لا شفعة بعد القسمة على نفي الشفعة بالشركة وهو مَحْمَل صحيح توفيقاً وجمعاً. كما هو مبسوط في "شروح الهداية".
(1) تقديماً للأقوى على الأدنى.
(2) قوله: عبد الله بن عبد الرحمن، قال في "التقريب": عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْلَى أي بالفتح وسكون العين وفتح اللام ابن كعب الطائفي، أبو يعلى الثقفي، صدوق. وعمرو بن الشَّريد، بفتح المعجمة، الثقفي، أبو الوليد الطائفي ثقة والشريد بن سويد الثقفي صحابي، شهد بيعة الرضوان.
(3) بصيغة التصغير.
(4) قوله: بصّقّبه، بفتحتين أي بشفعته. قال القاري: أخرجه أبو داود والبخاري والنسائي وابن ماجه، وفي رواية لأحمد، والأربعة بلفظ: "الجار أحق بشفعة جاره، ينظر له إن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً.
(5) وبه قال الثوري وابن المبارك ذكره الترمذي.(3/353)
1 - بَابُ المكاتَب (1)
855 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ (2) مِنْ مُكَاتَبَتِهِ شَيْءٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ (3) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ العَبْد (4) فِي شَهَادَتِهِ (5) وَحُدُودِهِ وَجَمِيعِ أمره (6) ، إلا أنه لا سبيل
__________
(1) قوله: ما بقي عليه من مكاتبته، أي مال كتابته شيء ولو قلّ، وعند ابن أبي شيبة عنه قال: المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم، وورد مرفوعاً عند أبي داود والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: العبد مكاتب ما بقي عليه من مكاتبته درهم، قاله الزرقاني.
(2) قوله: ما بقي عليه من مكاتبته، أي مال كتابته شيء ولو قلّ، وعند ابن أبي شيبة عنه قال: المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم، وورد مرفوعاً عند أبي داود والنسائي والحاكم عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مرفوعاً: العبد مكاتب ما بقي عليه من مكاتبته درهم، قاله الزرقاني.
(3) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف، وكان فيه اختلاف الصحابة، فعند ابن عباس يُعتق المكاتب بنفس عقد الكتابة، وهو غريم المولى بما عليه من بدل الكتابة، ففي "مصنف ابن أبي شيبة" عنه قال: إذا بقي عليه خمس أوراق أو خمس ذَوْد أو خمس أوسق فهو غريم. وعند ابن مسعود: بعتق إذا أدَّى قدر قيمتهة نفسه، فأخرج عبد الرزاق عنه قال: إذا أدَّى قدر ثمنه فهو غريم. وعند زيد بن ثابت: لا يعتق وإن بقي عليه درهم، أخرجه عنه الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي. ومثله أخرجه ابن أبي شيبة عن عمر وعثمان، وعبد الرزاق عن أم سلمة وعائشة وابن عمر، وهو مؤيَّد بالأحاديث المرفوعة الثابتة، كذا ذكره العيني في "البناية".
(4) أي المكاتب.
(5) أي في باب الشهادات، وحدود الزنا أو السرقة وغيره.
(6) أي جملة أحكامه.(3/354)
لِمَوْلاهُ (1) عَلَى مَالِهِ مَا دَامَ مُكَاتَبًا.
856 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ الْمَكِّيُّ: أَنَّ مُكَاتَبًا (2) لابْنِ الْمُتَوَكِّلِ هَلَكَ (3) بِمَكَّةَ وَتَرَكَ عَلَيْهِ (4) بَقِيَّةً (5) مِنْ مُكَاتَبَتِهِ، وَدُيُونِ النَّاسِ، وَتَرَكَ ابْنَةً (6) ، فَأَشْكَلَ (7) عَلَى عَامِلِ مَكَّةَ الْقَضَاءُ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبَ (8) إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ أَنِ ابْدَأْ (9) بِدُيُونِ النَّاسِ فاقْضِها، ثُمَّ اقْضِ (10) مَا بقي عليه مُكَاتَبَتِهِ، ثُمَّ اقْسِمْ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ بين ابنته ومواليه.
__________
(1) أي لا يجوز له التصرف في كسبه لأنه مالك في يده.
(2) قال الزرقاني: اسمه عبّاد.
(3) أي مات.
(4) أي على ذمّته ومات قبل الأداء.
(5) أي قدراً من مال كتابته الذي كاتبه مولاه عليه.
(6) أي من ورثته.
(7) قوله: فأشكل، أي وقع الإِشكال على أمير مكة وعاملها من جانب عبد الملك بن مروان الخليفة إذ ذاك الحكم في هذه الصورة لعدم علمه بذلك وتردُّده في أنه مات حرّاً أم عبداً.
(8) قوله: فكتب، أي كتب ذلك العامل إلى ابن مروان، وكان بالشام يسأله عن الحكم في هذه الصورة.
(9) أي أدِّ أوّلاً ديون الناس على المكاتب من ماله.
(10) أي إلى مولاه.(3/355)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ (1) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا أَنَّهُ (2) إِذَا مَاتَ بُدِئ بدُيُونِ النَّاسِ ثُمَّ بِمُكَاتَبَتِهِ (3) ، ثُمَّ مَا بَقِيَ كَانَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ الأَحْرَارِ مَن كَانُوا (4) .
857 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الثِّقَةُ عِنْدِي: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ سُئِلا عَنْ رَجُلٍ كاتبَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى وَلَده ثُمَّ هلك (5)
__________
(1) قوله: وبهذا نأخذ، تفصيله على ما في "الهداية"، وشروحها، أنه إذا مات المكاتب من غير أداء جميع بدل كتابته أدّى بعضه أو لم يؤد شيئاً، فإن كان له مال لم تنفسخ الكتابة، وقضى ما عليه من بدل الكتابة وحُكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، وما بقي فهو ميراث لورثته وتعتق أولاده المولودون في الكتابة والمشترون فيها، فإن كان عليه دَيّنَ للناس بُدِئ بأدائه. وهو المرويّ عن عليّ، أخرجه ابن شيبة وعبد الرزاق، وابن مسعود أخرجه البيهقي، وبه قال الحسن وابن سرين والنخعي والشعبي والثوري وعمرو بن دينار وإسحاق بن راهوية، وأهل الظاهر. وعند الشافعي تبطل الكتابة ويحكم بموته عبداً، وما ترك فهو لمولاه لا لورثته، وبه قال أحمد وقتادة وعمر بن عبد العزيز، وإمامهم فيه زيد بن ثابت أخرجه البيهقي عنه. وإن لم يترك وفاءً وترك ولداً مولوداً في الكتابة يبقى في كتابة أبيه على نجوم أبيه لدخوله في كتابته، فإذا أدى حُكم بعتق أبيه قبل موته، وعُتق الولد. والمسألة مبسوطة بذيولها في موضعها بدلائلها.
(2) أي المكاتب.
(3) أي بأدائها إلى المولى.
(4) رجالاً أو نساءاً من أصحاب الفرائض أو العصبات.
(5) أي مات.(3/356)
الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ بَنِينَ، أيسعَوْن فِي مُكَاتَبَةِ أَبِيهِمْ أَمْ هُمْ عَبِيدٌ (1) ؟ فَقَالَ: بَلْ يَسْعَون (2) فِي كِتَابَةِ أَبِيهِمْ، وَلا يُوضَعُ (3) عَنْهُمْ لِمَوْتِ أَبِيهِمْ شَيْءٌ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة فإذا أدَّوْا عَتِقوا جميعاً.
858 - أخبرنامالك أَخْبَرَنَا مخبرٌ أَنَّ أمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُقَاطِعُ (4) مُكَاتَبِيْها بِالذَّهَبِ والوَرِق. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
1 - بَابُ السَّبَق (5) فِي الْخَيْلِ
859 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد قال: سمعت
__________
(1) أي أرقّاء خالصون لا يسعَوْن.
(2) لكونهم مكاتبين.
(3) أي لا يحطّ عنهم ولا ينقص شيء.
(4) قوله: كانت تقاطع، أي تأخذه منهم عاجلاً في نظير ما كاتبهم عليه. مكاتبيها بالذهب والوَرِق، بكسر الراء أي الفضة وكانت قد كاتبت عدة، منهم سليمان وعطاء وعبد الله وعبد الملك، كلهم أبناء يسار، وكلهم أخذ العلم عنها، وعطاء أكثرهم حديثاً، وسليمان أفقههم، وكلهم ثقات، وكاتبت أيضاً نبهان ونفيعاً، كذا في "شرح الزرقاني".
(5) ليس بِرِهان الخيل باس: أي لا بأس بما يتراهن عليها عند المسابقة.(3/357)
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: لَيْسَ برهانِ (1) الْخَيْلِ بَأْسٌ، إِذَا أَدْخَلُوا فِيهَا محلِّلاً (2) إِنْ سَبَق (3) أخَذّ السَّبَقَ (4) ، وَإِنْ سُبق (5) لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِنَّمَا يُكْرَهُ (7) من هذا أن يضيع كل واحد
__________
(1) ليس بِرِهان الخيل باس: أي لا بأس بما يتراهن عليها عند المسابقة.
(2) بكسر اللام هو من يكون باعثاً على حِلّ العقد.
(3) أي ذلك المُحَلِّل.
(4) أي ذلك المال الذي وُضع عند ذلك.
(5) بالمجهول أي سبقه غيره.
(6) أي لم يغرَّم شيئاً.
(7) قوله: إنما يُكره إلخ، تفصيله على ما في "المحيط" و "الذخيرة" وغيرهما، أن المسابقة إن كانت بغير شرط وعوض فهو جائز، وإن كان بعوض وشرط فإن كان من الجانبين بأن يقول الرجل لآخر إن سبق فرسك أو إبلك أو سهمك أعطيتك كذا، وإن سبق فرسي وغير ذلك أخذت منك كذا، أو يضع كل منهما مالاً بشرط أن السابق أيهما كان يأخذهما، فهو غير جائز لأنه من صور القمار والميسر المنهيّ عنه، وفيه تعليق التمليك بالخطر، فأما إذا كان المال من أحدهما بأن يقول: إن سبقتني فلك كذا، وإن سبقناك فلا شيء لنا، أو كان المال من اثنين لثالث، بأن يقولا إن سبقتَنا فالمالان لك، وإن سبقناك فلا شيء عليك، فهو جائز، وإنما جازت المسابقة في غير صورة القمار لاشتماله على التحريض لا سيما في آلات الحرب كالفرس والسهم وغير ذلك، والمراد بالجواز في صورة الجواز حلّ أخذ المال لا الاستحقاق، فإنه لا يستحق بالشرط شيءٌ لعدم العقد والقبض، صرحّ به في "الفتاوي البزازية"، وهكذا الحال في المسابقة بالأقدام، والشرط في المسائل، قال في "الذخيرة": لم يذكر محمد في "الكتاب" المخاطرة في الاستباق بالأقدام،(3/358)
مِنْهُمَا سَبَقاً (1) ، فَإِنْ سَبَقَ أحدُهما أَخَذَ السَّبقَينْ (2) جَمِيعًا، فَيَكُونُ هَذَا كَالْمُبَايَعَةِ (3) ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ السَّبق مِنْ أَحَدِهِمَا أَوْ كَانُوا (4) ثَلاثَةً والسَّبق مِنِ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ، وَالثَّالِثُ لَيْسَ مِنْهُ سَبْقٌ، إِنْ سَبَق (5) أخَذَ (6) وَإِنْ لَمْ يسبقْ لَمْ يَغْرَمْه (7) ، فَهَذَا لا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا. وَهُوَ
__________
ولا شك أن المال إذا كان مشروطاً من الجانبين لا يجوز، وإن كان كان من جانب واحد يجوز لحديث الزهري: كانت المسابقة بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل، والركاب، والأرجل. ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة أنفسهم كما يحتاجون إلى رياضة الدوابّ. وحُكي عن الشيخ الإِمام أبي بكر محمد بن الفضل: أنه إذا وقع الخلاف في المتفقِّهَيْن في مسألةٍ فأرادا الرجوع إلى الأستاذ وشرط أحدهما لصاحبه أنه إن كان الجواب كما قلت أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئاً ينبغي أن يجوز وإن كان من الجانبين لا يجوز.
(1) أي مالاً للغالب (السبق - بفتحتين - ما يجعل من المال رهناً على المسابقة، وهو الذي يسمى جُعْلاً، بضم الجيم وسكون العين، ويشترط عند المالكية أن يكون مما يصح بيعه، كذا في الأوجز 8/397) .
(2) سَبَق نفسه وسَبَق غيره.
(3) أي كالقمار.
(4) أي المتسابقون.
(5) أي الثالث.
(6) أي ذلك المال.
(7) أي لم يضمن لغيره شيئاً.(3/359)
المحلِّل (1) . الَّذِي قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ.
860 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ القَصْواءَ (2) نَاقَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَسْبق (3) كُلَّمَا وَقَعَتْ فِي سَبَاق (4) ، فَوَقَعَتْ (5) يَوْمًا فِي إِبِلٍ، فسُبقت (6) ، فَكَانَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (7) كَآبَةٌ (8) أَنْ سُبِقَتْ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الناس (9) إذا
__________
(1) أي الثالث.
(2) قوله: إن القصواء، بالفتح هي الناقة المقطوعة الأذن في الأصل، والعضباء في الأصل مشقوقة الأذن، وكان لرسول الله ناقة تسمّى بهذين الاسمين، وكان ذلك لقباً لها، ولم تكن مشقوقة الأذن ولا مقطوعتها، كذا في "فتح الباري" وغيره.
(3) أي على غيرها من النُّوق.
(4) أي مسابقة.
(5) قوله: فوقعت، في رواية البخاري عن أنس: كالنبي صلى الله عليه وسلم ناقةٌ تسمَّى العضباء لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُوْدٍ - وهو بالفتح: ما استحق للركوب من الإِبل - فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وَضَعَه.
(6) أي صارت مسبوقة.
(7) في نسخة: المؤمنين.
(8) بمدّ الألف أي حزن وملال بسبب أن صارت الناقة النبوية مسبوقة.
(9) قوله: إن النَّاسَ، قال القاري: يشير إلى مفهوم قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده) ومفهوم الحديث أنهم إذا خفضوا أو أرادوا خفض شيء رفعه الله نقضاً عليهم وتنبيهاً لهم أنه هو الرافع الخافض لا رافعَ لما خفضه، ولا خافض لما(3/360)
رَفَعُوا (1) شَيْئًا، أَوْ أَرَادُوا رَفْعَ شَيْءٍ وَضَعَه اللَّهُ (2) .
قال محمد: وبهذا نأخُذُ. لا بأس (3) بالسَّبْقِ في النَصْل والحافر والخُفِّ.
__________
رفعه، وأنهم لو اجتمعوا على شيء لم يقدِّره الله لم يقدروا عليه، ولم يصلوا إليه، وإن كان من جملتهم الأنبياء والأولياء.
(1) أي في زعمهم.
(2) أي خَفَضَه وأظهر فيه نقضاً.
(3) قوله: لا بأس بالسبق، بالفتح والسكون: مصدر، أي المسابقة في النَصْل هو بالفتح، حديدة السهم أي في المسابقة في السهام. والحافر، أي حافر الخيل والبغال والحمير. والخُفّ، أي خفُّ الإِبل. وقد ورد: "لا سبق إلا في نَصْل أو خف أو حافر" أخرجه الترمذي وحسّنه وابن حبان وصححه عن ابي هريرة مرفوعاً. وبه قَصَر مالك والشافعي جواز المسابقة بهذه الأشياء، وخصّه بعض العلماء بالخيل. وأجازه عطاء في كل شيء قاله الزرقاني.(3/361)
أَبْوَابُ السِّيَر (1)
861 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ بَلَغَهُ (2) ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا ظَهَرَ الغُلول (3) فِي قَوْمٍ قَطُّ إلاَّ أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعْب (4) ، ولا فشا (5) الزنى في قوم قطّ إلاَّ كَثُر فيهم (6)
__________
(1) قوله: أنه بلغه عن ابن عباس، هذا موقوف في حكم المرفوع لأنه مما لا يُدرك بالرأي، وقد أخرجه ابن عبد البَرّ، عن ابن عباس موصولاً، وفي سنن ابن ماجه، نحوه مرفوعاً من حديث ابن عباس.
(2) قوله: أنه بلغه عن ابن عباس، هذا موقوف في حكم المرفوع لأنه مما لا يُدرك بالرأي، وقد أخرجه ابن عبد البَرّ، عن ابن عباس موصولاً، وفي سنن ابن ماجه، نحوه مرفوعاً من حديث ابن عباس.
(3) بالضم وهو السرقة من الغنيمة قبل القِسْمة.
(4) بالضم أي الخوف من العدوّ والجبن.
(5) أي كَثُر.
(6) كما في قصص بني إسرائيل.(3/362)
الْمَوْتُ، وَلا نَقَصَ قومٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلاَّ قُطِع (1) عَلَيْهِمُ الرزقُ، وَلا حَكَم قومٌ بِغَيْرِ الحقِّ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الدمُ (2) ، وَلا خَتَرَ (3) قَوْمٌ بِالْعَهْدِ إلاَّ سُلِّط (4) عَلَيْهِمُ الْعَدُوُّ.
862 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ (5) سرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ، فغَنِموا إِبِلا كَثِيرَةً، فَكَانَ سُهمانُهم اثنَيْ عَشَر بَعِيرًا، ونُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا.
__________
(1) أي قُطع بركته عنهم أو نقصه.
(2) أي ظهر فيهم القتال وسَيْل الدماء.
(3) أي غَدَر وخالف العهد.
(4) جزاءً بما كسبوه.
(5) قوله: بعث سَريّة، بفتح السين وتشديد الياء بعد الراء المكسورة، قطعة من الجيش تبلغ أربع مائة ونحوها، سُمِّيت بها لأنَّها تسير في الليل ويخفى ذهابها فهي فاعلة بمعنى مفعولة، قاله السيوطي، وذلك في شعبان سنة ثمان قبل فتح مكة، قاله ابن سعد. وذكر غيره أنها كانت في الجمادى الأولى، وقيل: في رمضان، وكان أميرها أبو قتادة، وكانوا خمسة عشر رجلاً. قِبَل، بكسر القاف وفتح الباء أي جهة نجد، وأمرهم أن يَشُنُّوا الغارة، فقاتلوا فغنموا إبلاً كثيرة، وعند مسلم: فأصبنا إبلاً وغنماً، وذكر بعض أهل السِّيَر أنها مائتا بعير، وألفا شاةٍ، فكان سُهمانهم، بضم السين جمع سهم أي نصيب كل واحد اثني عشر بعيراً، وفي "موطأ يحيى": أو أحد عشر بعيراً بالشك، ونُفِّلوا بضم النون مبنيّ للمفعول، أي أُعْطِي كلٌّ واحد منهم زيادةً على السهم المستحق بعيراً بعيراً، يقال: نَفَّل الإِمام الغازي، إذا أعطاه زائداً على سهمه، ونَفَله نفلاً بالتخفيف، ونَفَّله تنفيلاً مشدَّداً، لغتان فصيحتان، والنَّفَل بفتحتين الغنيمة، وجمعه أنفال، كذا ذكره الزرقاني والعيني.(3/363)
قَالَ مُحَمَّدٌ: كَانَ النَّفل لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّل مِنَ الخُمُس أهلَ الْحَاجَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1) : (قُل الأنفالُ للَّهِ والرسولِ) ، فأما اليوم
__________
(1) قوله: وقد قال الله تعالى، ذكر أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في باب الغنيمة حين تشاجروا يوم بدر في تقسيمها، فالمعنى (قل الأنفال) أي الغنائم (للَّهِ والرسول) فقسمها بينهم رسول الله على السوية، يعني حكم الغنائم لله والرسول، ونزل بعد (واعلموا أنَّ ما غنمتم من شيء فإنَّ لله خُمُسَه وللرسول ولذي القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) . واتفقوا على أنَّ ذكر الله وقع للتبرُّك، وذهب الحنفية إلى سقوط سهم ذوي القربى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا قالوا: أنْ لا سهم للرسول بعده، فعندهم يقسم خُمس الغنيمة على المحاويج من اليتامى وابن السبيل والمساكين، وعند طائفة من العلماء: سهمُ الرسول باقٍ يصرفه الخليفة حسبما رآه، وما بقي بعد الخُمُس يقسم على الغزاة حسب حصصهم المقرَّرة شرعاً. وذهب بعض المفسِّرين إلى أن المراد من الآية كونُ الغنائم كلِّها لله ولرسوله يصرفها إلى من يشاء ما يشاء، وقالوا: صار هذا الحكم منسوخاً بورود المصارف، ولذا أسهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر بعض من لم يحضر غزوته. وقال بعضهم: المراد بالأنفال هو الزيادات على سهم الغنيمة، وإنَّ المعنى الزيادات حكمها لله وللرسول يعطيها من يشاء لا استحقاق لهم فيها. والروايات في كل ما ذكرنا مبسوطة في " الدر المنثور" وغيره، وذَكَر أصحابنا في كتبهم أن للإِمام أن ينفِّل حالة القتال فيقول: من قتل قتيلاً فله سَلَبه، أو يقول للسريَّة: قد جعلت لكم الربع بعد الخُمس لأنه نوع تحريض على الجهاد ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة بدار الإسلام إلا من الخمس لأنه لا حق للغانمين فيها فله الخيار فيه، وما سواه تعلّق فيه حقهم على السواء، فلا يبطل حقهم. إذا عرفتَ هذا كلَّه، فاعلم أنه لا يخلو إمّا أن يكون المراد بالنَّفَل في قول صاحب الكتاب: (كان النفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم) : الغنيمة، كما اختاره القاري، فهو بفتحتين، وحينئذٍ يكون المعنى: كانت الغنيمة للرسول خاصة، يصرفها إلى من يشاء ويعطي من يشاء ما يشاء، ويكون الآية سنداً(3/364)
فَلا نَفَلَ بَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ إلاَّ مِنَ الخُمُس لِمُحْتَاجٍ.
1 - بَابُ الرَّجُلِ يُعْطِي (1) الشَّيْءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
863 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّهُ سُئِل عَنْ رَجُلٍ يُعطي الشَّيْءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (2) ، قَالَ: فَإِذَا بَلَغَ (3) رأسَ مَغزاته (4) فَهو لَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِذَا بَلَغَ وَادِيَ القُرى فَهو لَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا: إِذَا دَفَعَهُ (5) إِلَيْهِ صَاحِبُهُ فَهُوَ لَهُ.
__________
عليه على أحد الأقوال الواردة فيه. وحينئذٍ يكون قوله: يُنفِّل من الخمس أي خمس الغنيمة الذي هو مصروف إلى الإمام. أهل الحاجة، بياناً للتنفيل الزائد، لكن لا يرتبط حنيئذٍ قوله: فأما اليوم، أي بعد العصر النبوي فلا نَفْل بالفتح فالسكون أي لا زيادة على السهام بعد إحراز الغنيمة بدار الإِسلام إلاَّ من الخمس لمحتاج لا لغنيّ لأنه خارج عن مصرفه بما قبله ارتباطاً مناسباً. وإمّا أن يكون المراد بالنفل في قوله: (كان النفل) الزيادة، فحينئذٍ يكون المعنى كان إعطاء الزيادة موكولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له الاختيار في أن ينفل بعد الإِحراز أو قبله بعد رفع الخمس أو قبله، فأما اليوم فلا نفل بعد الإِحراز إلاَّ من الخمس. وحينئذٍ يكون الآية سنداً على تأويله الآخر، ويكون قوله: (ينفّل من الخمس أهلَ الحاجة) بياناً للتنفيل من الخمس. فليحرر هذا المقام.
(1) في سبيل الله: أي في طريق الغزو.
(2) في سبيل الله: أي في طريق الغزو.
(3) أي المعطى له.
(4) قوله: رأس مَغْزاته، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة، موضع الغزو، ومحل العدوّ فهو له، أي للمعطى له أي يملكه، وفي "موطأ يحيى" وشرحه: مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا أعطى شيئاً في سبيل الله يقول لصاحبه: إذا بلغتَ وادي القُرَى - بضم القاف وفتح الراء مقصورة: موضع بقرب المدينة، لأنه رأس المغزاة، فمنه يدخل إلى أول الشام - فشأنك به. يعني أنه(3/365)
2 - بَابُ إِثْمِ الْخَوَارِجِ (1) وَمَا فِي لُزُومِ الْجَمَاعَةِ (2) مِنَ الْفَضْلِ
864 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْري يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَخْرُجُ فِيكُمْ (3) قَوْمٌ تُحقِّرُون (4)
__________
ملَّكه له، وإنما قال ذلك خيفةَ أن يرجع المعطي فتتلف العطية ولم يبلغ صاحبه مراده فيها، فإذا بلغ الوادي كان أغلب أحواله أن لا يرجع حتى يغزو.
(5) أي دفعه المعطي إلى المعطى له أو قبضه فهو له، كما في سائر الهِبَات والعطيّات (أوجز المسالك 8/244) .
(1) يخرج فيكم: أي في ما بينكم أيها الأمة.
(2) قوله: تُحَقِّرُوْن، من التحقير. صلاتكم مع صلاتهم وأعمالكم مع أعمالهم، أي تظنون عباداتكم حقيرة قليلة بالنسبة إلى عباداتكم لكمال جهدهم في تحسين الأعمال الظاهرة، واهتمامهم في أدائها وإتيان آدابها من غير مبالاة بفساد الأعمال الباطنة والأمور القلبية وخبثها. يقرؤون القرآن لا يجاوز، أي القرآن أو ثواب جميع أعمالهم. حَنَاجِرهم، بفتح الأوَّلين وكسر الرابع، جمع الحَنْجرة، بفتح الأول وسكون الثاني، بمعنى الحلقوم، يعني أنَّ الله لا يرفعها ولا يقبلها فكأنها لا تجاوز حناجرهم، وقيل: إنهم يقرءون القرآن مع غير علم بما فيه ولا عمل بما فيه فلا يحصل لهم إلاَّ مجرد القراءة ولا يترتَّب عليها آثارها.
(3) يخرج فيكم: أي في ما بينكم أيها الأمة.
(4) قوله: تُحَقِّرُوْن، من التحقير. صلاتكم مع صلاتهم وأعمالكم مع(3/366)
صلاتَكم مع صلاتهم، وأعمالَكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ حَنَاجِرَهم، يمرُقون (1) مِنَ الدِّين مروقَ السَّهم مِنَ الرمَّية، تَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلا تَرَى شَيْئًا، تَنْظُرُ فِي القِدْح فَلا تَرَى شَيْئًا، تَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلا تَرَى شيئاً، وتَتَمارى في الفُوق.
__________
أعمالهم، أي تظنون عباداتكم حقيرة قليلة بالنسبة إلى عباداتكم لكمال جهدهم في تحسين الأعمال الظاهرة، واهتمامهم في أدائها وإتيان آدابها من غير مبالاة بفساد الأعمال الباطنة والأمور القلبية وخبثها. يقرؤون القرآن لا يجاوز، أي القرآن أو ثواب جميع أعمالهم. حَنَاجِرهم، بفتح الأوَّلين وكسر الرابع، جمع الحَنْجرة، بفتح الأول وسكون الثاني، بمعنى الحلقوم، يعني أنَّ الله لا يرفعها ولا يقبلها فكأنها لا تجاوز حناجرهم، وقيل: إنهم يقرءون القرآن مع غير علم بما فيه ولا عمل بما فيه فلا يحصل لهم إلاَّ مجرد القراءة ولا يترتَّب عليها آثارها.
(1) قوله: يمرقون، بضم الراء أي يخرجون من الدين، أي طاعة الإِمام أو دين الإِسلام. مُروُق، بضمتين أي كخروج السهم من الرميَّة، بفتح الراء وكسر الميم وشدِّ الياء، أي الصيد المرمي إليه السهم. تنظر، أنت أيها الرامي، أو ينظر بالغائب. في النصل، بالفتح هو الحديدة التي على رأس السهم. فلا ترى، عليه شيئاً من آثار الدم. تنظر في القِدْح، بكسر القاف أي أصل السهم فلا ترى عليه شيئاً. تنتظر في الريش، أي ريش السهم المركب عليه، فلا ترى شيئاً. وتتمارى، أي تشكك (هكذا في الأصل والظاهر تشك) في الفُوق بالضم موضع الوتر من السهم، هل فيه شيء من أثر الدم، والحاصل أنه ليس لهم من قبول العبادات وقراءة القرآن نصيب، كذا في "شرح القاري" وغيره.(3/367)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا خَيْرَ فِي الْخُرُوجِ (1) ، وَلا يَنْبَغِي إلاَّ لُزُومُ الْجَمَاعَةِ.
865 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا (2) السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: مَنْ حَمَلَ السِّلاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَاعْتَرَضَهُمْ بِهِ لِقَتْلِهِمْ (3) ، فَمَنْ قَتَلَهُ (4) فَلا شَيْءَ (5) عَلَيْهِ، لأَنَّهُ (6) أحلَّ دمَه بِاعْتِرَاضِ (7) الناسِ بِسَيْفِهِ.
866 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ
__________
(1) أي عن طاعة الإِمام وموافقة أهل الإِسلام ومتابعة السلف الكرام (قد بسط الحافظ الكلام على الخوارج وعلى بَدْء خروجهم أشدّ البسط في "فتح الباري" 12/298) .
(2) قوله: من حمل علينا، أي على أهل الإِسلام إفساداً وعناداً. السلاح، بالكسر أي آلات الحرب. فليس منا، أي من أهل طريقنا. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن.
(3) أي لقتل المسلمين.
(4) أي ذلك الحامل لدفع فساده وبقاء نفسه وأصحابه.
(5) أي من الدية والقصاص.
(6) أي مَنْ حَمَل السيف وقَصَد الفساد في الأرض.
(7) في نسخة: باعتراضه.(3/368)
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (1) : أَلا (2) أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكم أَوْ (3) أُحَدِّثُكم بخيرٍ مِنْ كَثِيرٍ (4) مِنَ الصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى (5) ، قَالَ: إصلاحُ ذاتِ البين (6) ، وإياكم والبِغْضَةَ (7) فإنما هي الحالقة (8) .
__________
(1) قوله: يقول ألا أخبركم، هذا موقوف على سعيد عند جميع رواة "الموطأ" إلاَّ إسحاق بن بشر، وهو ضعيف فإنه رواه عن مالك، عن يحيى، عن سعيد، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم. رواه الدارقطني، عن يحيى، عن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرسلاً. وأخرجه البزار من طريق أم الدرداء، عن أبي الدرداء مرفوعاً. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" وأحمد وأبو داود والترمذي وصححه من حديث أبي الدرداء مرفوعاً، كذا ذكره ابن عبد البر وغيره.
(2) حرف تنبيه.
(3) شك من الراوي.
(4) أي بأكثر ثواباً من كثير من العبادات النافلة.
(5) أي أخبرنا.
(6) قوله: إصلاح ذات البين، أي إصلاح الحال التي بين الناس، وأنها خير من نوافل الصلاة وما ذُكر معها، قاله الباجي. وقال غيره: أي إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وأُلفة، أو هو إصلاح الفساد والفتنة التي بين الناس لما فيه من عموم المنافع الدينية والدنيوية. وفي "المُغرب" قولهم: إصلاح ذات البين أي الأحوال التي بينهم، وإصلاحها بالتعهُّد والتفقُّد، ولمّا كانت ملابِسَةً للبين وُصفت به فقيل ذات البين.
(7) بكسر الباء وسكون الغين تأنيث: شدَّة البغض.
(8) قوله: فإنما هي الحالقة، في رواية يحيى: فإنها هي الحالقة أي الخصلة التي شأنها أن تحلق أي تُهلك، وتستأصل الدين كما يحلق الموسى الشعر. قال الباجي: أي أنها لا تُبقي شيئاً من الحسنات حتى تذهب بها.(3/369)
3 - بَابُ قَتْلِ النِّسَاءِ (1)
867 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عن ابن عمر: أنَّ رسول الله صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ (2) امْرَأَةً مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ، وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يُقتلَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَغَازِي امرأةٌ وَلا شيخٌ (3) فانٍ، إلاَّ أنْ تُقاتِلَ المرأة فتُقتل.
__________
(1) قوله: رأى في بعض مغازيه، أي غزوة فتح مكة كما في "أوسط الطبراني" من حديث ابن عمر. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن - إلاَّ سنن ابن ماجه - ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وفي بعض رواياتهم: رأى امرأة مقتولة فقال: ها ما كانت هذه تقاتل فلِمَ قتلت؟ وبهذا الحديث أجمع العلماء على عدم جواز قَتْل النساء والصبيان لضعفهن عن القتل، وقُصٌورهم عن الكفر، وفي استبقائهم منفعة بالاسترقاق أو الفداء. وحكى الحازمي قولاً لبعض العلماء بجواز ذلك على ظاهر حديث الصعب بن جثامة عند الأئمة الستة: سئل رسولُ الله عن أهل الدار يبيِّتون من المشركين فيُصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: هم منهم. وأشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث الني، كذا في "فتح الباري" وغيره من شروح صحيح البخاري.
(2) قوله: رأى في بعض مغازيه، أي غزوة فتح مكة كما في "أوسط الطبراني" من حديث ابن عمر. والحديث مخرَّج في الصحيحين والسنن - إلاَّ سنن ابن ماجه - ومسند أحمد وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم، وفي بعض رواياتهم: رأى امرأة مقتولة فقال: ها ما كانت هذه تقاتل فلِمَ قتلت؟ وبهذا الحديث أجمع العلماء على عدم جواز قَتْل النساء والصبيان لضعفهن عن القتل، وقُصٌورهم عن الكفر، وفي استبقائهم منفعة بالاسترقاق أو الفداء. وحكى الحازمي قولاً لبعض العلماء بجواز ذلك على ظاهر حديث الصعب بن جثامة عند الأئمة الستة: سئل رسولُ الله عن أهل الدار يبيِّتون من المشركين فيُصاب من نسائهم وذراريهم؟ قال: هم منهم. وأشار أبو داود إلى نسخ حديث الصعب بأحاديث الني، كذا في "فتح الباري" وغيره من شروح صحيح البخاري.
(3) قوله: ولا شيخ فان، أي من كِبَر سِنّه وخرف عقله، وأما إن كان كاملَ العقل ذا رأي في الحرب فيُقتل، وهو المراد من حديث: "اقتلوا شيوخ المشركين"، وعند الشافعي: يُقتل الشيخ مطلقاً، وفي رواية: قوله كقولنا، وبه قال مالك، كذا لا يُقتل عندنا المُقْعَد والأعمى والزَّمِن ومقطوع الأيدي والأرجل إلاَّ إذا كانوا ذوي رأي. والمرأة إذا كانت مقاتِلة أو مَلِكة ذات رأي ومشورة في الحرب تُقتل دفعاً للفساد وإلاَّ لا، كذا قال العيني.(3/370)
4 - بَابُ الْمُرْتَدِّ (1)
868 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ (2) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عبدٍ القاريٌّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قِبَل (3) أَبِي مُوسَى، فَسَأَلَهُ (4) عَنِ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ ثُمّ قَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ مُغْرِبَةِ (5) خَبَرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، رَجُلٌ كفر بعد إسلامه، فقال:
__________
(1) قوله: عبد الرحمن (بسط شيخنا الكلام عليه في الأوجز 12/179، وقال: وما ذكره صاحب "التعليق الممجد" من ترجمته التبس عليه من ترجمة أخي جَدّه، فإنَّ عامل عمر المتوفّي سنة 88 هـ هو عبد الرحمن القاري، وولادة الإِمام مالك بعد وفاته، فكيف يروي عنه، بل عبد الله بن عبدٍ القاريّ أخو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا كان عامل عمر رضي الله عنه، وجَدّ يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، أخرج له مالك في الموطأ، وكذلك عبد الرحمن بن محمد هو الذي روى عنه مالك في هذا الحديث) بن محمد بن عبد القاريّ، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد كما في "موطأ يحيى" ونسبته بتشديد الياء إلى قارة بطن من العرب، وكان من أهل المدينة عامل عمر بن الخطاب على بيت المال، ثقة، روى عنه عروة، وحميد بن عبد الرحمن وابناه إبراهيم ومحمد، مات سنة 88 ثمان وثمانين، ذكره السمعاني وأبوه، قال في "التقريب": محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد - بغير إضافة - القاري بغير همز، المدني، مقبول.
(2) قوله: عبد الرحمن (بسط شيخنا الكلام عليه في الأوجز 12/179، وقال: وما ذكره صاحب "التعليق الممجد" من ترجمته التبس عليه من ترجمة أخي جَدّه، فإنَّ عامل عمر المتوفّي سنة 88 هـ هو عبد الرحمن القاري، وولادة الإِمام مالك بعد وفاته، فكيف يروي عنه، بل عبد الله بن عبدٍ القاريّ أخو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا كان عامل عمر رضي الله عنه، وجَدّ يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، أخرج له مالك في الموطأ، وكذلك عبد الرحمن بن محمد هو الذي روى عنه مالك في هذا الحديث) بن محمد بن عبد القاريّ، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد كما في "موطأ يحيى" ونسبته بتشديد الياء إلى قارة بطن من العرب، وكان من أهل المدينة عامل عمر بن الخطاب على بيت المال، ثقة، روى عنه عروة، وحميد بن عبد الرحمن وابناه إبراهيم ومحمد، مات سنة 88 ثمان وثمانين، ذكره السمعاني وأبوه، قال في "التقريب": محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد - بغير إضافة - القاري بغير همز، المدني، مقبول.
(3) بكسر القاف، أي من جانب أبي موسى الأشعري وجهته من اليمن.
(4) أي سأل عمر عن أحوال الناس.
(5) بضم الميم على صيغة الفاعل أي قصة مغربة وخبر غريب.(3/371)
مَاذَا فَعَلْتُمْ بِهِ؟ قَالَ: قرَّبناه (1) فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَهَلا (2) طَبَقْتُمْ عَلَيْهِ بَيْتًا - ثَلاثًا - وَأَطْعَمْتُمُوهُ كلَّ يومٍ رَغِيفًا، فاستبتموه لَعَلَّهُ يَتُوبُ وَيَرْجِعُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، اللَّهم إِنِّي لَمْ آمُر، وَلَمْ أَحْضُر، وَلَمْ أَرْضَ إِذْ بَلَغَنِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنْ شَاءَ الإِمام (3) أَخَّرَ الْمُرْتَدَّ ثَلاثًا (4) إِنْ طَمِع فِي تَوْبَتِهِ، أَوْ سَأَلَهُ (5) عَنْ ذَلِكَ المرتدُّ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَسْأَلْهُ الْمُرْتَدُّ (6) فَقَتَلَهُ فلا بأس بذلك.
__________
(1) بتشديد الراء أي أحضرناه فقتلناه.
(2) قوله: فهلاّ، حرف تحضيض. طبَّقتم، بتشديد الباء من التطبيق عليه، أي أغلقتم عليه بيتاً وحبستموه فيه ثلاثاً، أي ثلاث ليال وأطعمتموه كل يوم رغيفاً أي بقدر سد الرمق ليضيق عليه الأمر فيتوب، فاستبتموه أي طلبتم منه التوبة لعله يتوب من كفره، ويرجع إلى أمر الله أي دينه الإِسلام، ثم قال عمر: اللَّهم إني لم آمر ولم أحضر - أي هذه الوقعة - ولم أرض به إذ بلغني خبره فلا تؤاخذني به. والحاصل أن المرتد (قال ابن بطال: اختُلف في استتابة المرتد، فقيل: يُستتاب فإن تاب وإلاَّ قُتل وهو قول الجمهور، وقيل: يجب قتله في الحال، جاء ذلك عن الحسن وطاووس. وبه قال أهل الظاهر. فتح الباري 12/269) يُستمهل ثلاث ليال ويُستتاب، فإن تاب تاب وإلاَّ قُتل لحديث: "من بدل دينه فاقتلوه".
(3) هذا أولى وأحسن.
(4) هذا التحديد من قوله تعالى: (تَمَتَّعُوا في داركم ثلاثة أيام) .
(5) أي طلب المرتد المهلة.
(6) أي لم يستمهله.(3/372)
5 - بَابُ مَا يُكره مِنْ لُبْس الْحَرِيرِ والدِّيباج (1)
869 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَأَى حُلّةً سِيَراء (2) تُباع عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ (3) ، فقال: يارسول اللَّهِ لَوِ اشتريتَ (4) هَذِهِ الحُلّةَ فلبستَها (5) يَوْمَ الجمعة
__________
(1) قوله: حلة سيراء، روي بالإِضافة كما يُقال: ثوب حرير، وعن بعضهم بالتنوين على الصفة أو البدل، والحُلَّة ثوبان إزار ورداء، والسِّيَراء قال في "النهاية" بكسر السين وفتح الياء نوع من البزّ يخالطه حرير كالسيور أي الخطوط، أو شرحه بعضهم بالحرير الخالص، كذا ذكره السيوطي في "شرح سنن ابن ماجه" وغيره.
(2) قوله: حلة سيراء، روي بالإِضافة كما يُقال: ثوب حرير، وعن بعضهم بالتنوين على الصفة أو البدل، والحُلَّة ثوبان إزار ورداء، والسِّيَراء قال في "النهاية" بكسر السين وفتح الياء نوع من البزّ يخالطه حرير كالسيور أي الخطوط، أو شرحه بعضهم بالحرير الخالص، كذا ذكره السيوطي في "شرح سنن ابن ماجه" وغيره.
(3) قوله: عند باب المسجد، أي المسجد النبوي، وعند مسلم: رأى عمر عطارد التميمي يقيم حُلَّة في السوق وكان رجلاً يغشَى الملوك ويصيب منهم.
(4) هو لمجرد التمنِّي أي لو اشتريتُه لكان أحسن.
(5) قوله: فلبستَها يوم الجمعة وللوفود، وفي رواية للبخاري: فلبستَها للعيد والوفد. وللنسائي: وتجمَّلتَ بها للوفود والعرب إذا أتَوْك، وإذا خطبتَ الناس يوم عيد وغيره. والمراد بالوفود القاصدون الذين كانوا يجيئون إليه من قِبَل السلاطين وغيرهم، ودلَّ الحديث (قال الباجي: الحديث يقتضي أن يوم الجمعة شُرع فيه التجمل. وأيضاً قد شُرع التجمل للواردين والوافدين في المحافل التي تكون لغير آية مخوفة كالزلازل والكسوف وعند الحاجة إلى التضرُّع والرغبة كالاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر رضي الله عنه على ما دعا إليه من التجمّل في هذين الموطنين، وإنما أنكر عليه لُبْس هذا النوع فثبت أنَّ التجمل إنما شُرع بالجميل من المباح. المنتقى 7/229) على أنه يُستَحَبّ لُبْس أحسن الثياب في الجمعة(3/373)
وَلِلْوُفُودِ (1) إِذَا قَدِموا عَلَيْكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا يَلْبَس (2) هَذِهِ مَنْ لا خلاقَ (3) لَهُ فِي الآخِرَةِ. ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا حُلَلٌ (4) فَأَعْطَى عُمَرَ مِنْهَا حُلَّة (5) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسوتَنِيْها (6) وَقَدْ قُلتَ (7) فِي حُلَّةٍ عُطَارِدٍ (8) مَا قُلْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لم أَكْسُكَها (9)
__________
والعيدين، وأنه يجوز التجمّل إذا عَرِيَ عن الكِبْر والاحتقار والشهرة للأحباب وأصحاب الملاقاة والمعارف ليكون أهْيَبَ وأعزَّ في نظرهم.
(1) أي الوفود جمع الوافد.
(2) في رواية: إنما يلبس الحرير.
(3) قوله: من لا خلاقَ له، بالفتح أي لا نصيب له من نعيم الجنة، وهذا على سبيل التشديد وإلاَّ فلا بد للمؤمن من نعيم الجنة، ولُبْس الحرير فيها، ولو بعد مدة، وقيل: معناه من يلبسها في الدنيا يكون محروماً من لُبْسها في الآخرة، وإن دخل الجنة. وقد مرَّ نظير ذلك في شرب الخمر.
(4) أي من جنس تلك الحُلَّة السيراء.
(5) أي واحدة.
(6) قوله: كسوتَنيها، أي أكسوتنيها؟ كما في بعض الروايات بهمزة الاستفهام، سأله عنه لما حصل له التعجُّب من إعطائه إياه مع تحريمه سابقاً.
(7) أي والحال أنَّك قلت في مثلها ما قلت.
(8) قوله: في حلَّة عُطارِد، بضم العين وكسر الراء، ابن حاجب بن زرارة بن عدي التميمي الدارمي. وفد في بني تميم وأسلم وحسن إسلامه، وله صحبة وهو صاحب الحُلَّة السِّيَراء، كذا في "الإِصابة" وغيره.
(9) أي لم أُعطها لِلبسك بل للانتفاع.(3/374)
لتَلْبِسها (1) فَكَسَاهَا عُمَرُ أَخًا لَهُ مِنْ أمِّه (2) مُشْرِكًا بِمَكَّةَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ وَالذَّهَبَ، كُلُّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِلذُّكُورِ مِنَ الصِّغَارِ (3) وَالْكِبَارِ، وَلا بأسَ به للإِناثَ لولا بَأْسَ بِهِ (4) أَيْضًا بالهديَّة إِلَى الْمُشْرِكِ الْمُحَارِبِ، مَا لَمْ يُهْدَ إِلَيْهِ سلاحٌ (5) أَوْ دِرْعٌ. هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
6 - بَابُ مَا يُكره (6) مِنَ التختُّم بِالذَّهَبِ
870 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتَماً (7) مِنْ ذَهَبٍ، فَقَامَ (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله: لتَلْبَسَها، فيه دليل على جواز هبة ما يَحْرُم لُبْسه، وجواز بيعه وشرائه لعدم انحصاره في اللبس.
(2) قوله: أخاً له من أمه، سماه ابن الحذّاء: عثمان بن حكيم، ونقله ابن بشكوال، قال الدمياطي: هو السلمي أخو خولة بنت حكيم بن أمية وهو أخو زيد بن الخطاب لأمه فمن أطلق أنه أخو عمر لأمه لم يصب، وقيل: يحتمل أن عمر رضع من أم أخيه فيكون أخاً له لأمه رضاعاً، كذا في "شروح صحيح البخاري".
(3) قوله: من الصغار، الكراهة في حقهم للأولياء فلا يجوز لهم أن يُلْبِسوهم لباساً محرَّماً لئلا يعتادوه.
(4) في بعض النسخ: ولا بأس بالهديَّة أيضاً.
(5) أي آلات الحرب أو درع الحديد فإن في هديته إليه إعانة له على فساد.
(6) خاتَما: بفتح التاء ما يُخْتَم به.
(7) خاتَما: بفتح التاء ما يُخْتَم به.
(8) أي خطيباً على المنبر كما في روايةٍ.(3/375)
فَقَالَ: إِنِّي كنتُ (1) أَلْبَس هَذَا الْخَاتَمَ، فَنَبَذَهُ (2) ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لا أَلْبَسُه أَبَدًا (3) ، قَالَ: فَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يتختَّم بِذَهَبٍ وَلا حَدِيدٍ وَلا صُفْر (5) وَلا يَتَخَتَّمُ (6) إلاَّ بالفضَّة. فَأَمَّا النساء فلا بأس بتختُّم الذهب لهُنَّ (7) .
__________
(1) أي كونه مباحاً قبل ذلك.
(2) أي طرحه وألقاه (إن الخاتم الذي طرحه النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو خاتم الذهب. قال الباجي: وروى ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ورق ثم نبذه ونبذ الناس. وهذا وهم والله أعلم بالصواب. المنتقى 7/254) .
(3) قوله: والله لا ألبسه أبداً، أي لتحريمه، زاد في رواية الصحيحين: ثم اتخذ خاتماً من فضَّة فاتخذ الناس خواتيم الفضَّة، قال ابن عمر: فلبس الخاتم بعده صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان وقع منه في بئر أريس.
(4) أي من ذهب، كما في شمائل الترمذي.
(5) قوله: ولا صُفْر، قال القاري: بضم فسكون هو النحاس، وقيل: أجوده، لما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن بُرَيْدة، عن أبيه: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد، فقال: ما لي أراك عليكَ حلية أهل النار؟ ثم جاءه وعليه خاتم من شَبه (بفتح المعجمة والموحدة، ضرب من النحاس يُشبه الذهب. بذل المجهود 17/112) ، فقال: ما لي أجد عليك ريح الأصنام؟ فقال: يا رسول الله من أي شيء أتخذه؟ قال: من ورقٍ ولا تُتِمَّه مثقالاً.
(6) حصر إضافي لا حقيقي فإنه يجوز بالعقيق وغيره.
(7) لِحِلَّة الذهب لهن.(3/376)
7 - بَابُ الرَّجُلِ يُمرّ عَلَى مَاشِيَةِ (1) الرَّجُلِ فيحتلبُها (2) بِغَيْرِ إِذْنِهِ
871 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يحتلبَنَّ أحدُكم مَاشِيَةَ امْرِئٍ (3) بِغَيْرِ إِذْنِهِ، أيُحِبّ أحدُكم أَنْ تُؤتى مُشْرَبته فتُكسَر خزِانتُه فَيَنْتَقِلَ (4) طَعَامُهُ؟ فَإِنَّمَا تَخْزُن لَهُمْ ضُروعُ مَوَاشِيهِمْ أطعمتَهم، فَلا يحلَبَنَّ (5) أحدٌ مَاشِيَةَ امرئٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ مرَّ عَلَى مَاشِيَةِ رجل أن
__________
(1) قوله: ماشية امرئ، أي دوابّ رجل: من البقر والغنم والإِبل وغيرها. بغير إذنه، أي صراحةً أو دلالةً. أيحبُّ، بهمزة الاستفهام بمعنى الإِنكار. أحدكم أن تؤتى، أي يأتي آتٍ. مُشْربته، بضم الميم وفتح الراء، الغرفة أي البيت الفوقاني الذي يوضع الطعام فيه. فتُكْسَر، بالمجهول. خِزانته، بكسر الخاء، ولا تُفتَح الخزانة كما لا تكسر القصعة. فينتقل طعامه، أي المجموع في الغرفة، أي فكما لا يحب أحدكم ذلك بل يحزن به، فكذلك ينبغي أن لا يحلب ماشية غيره بغير إذنه. فإنما تخزُن، بضم الزاء أي تحفظ لهم أي ملاك المواشي. ضُروع، بالضم جمع ضرع: الثدي الذي فيه اللبن. مواشيهم أطعمتَهم، مفعول تخْزُن. والمراد بالأطعمة الأشربة على سبيل التمثيل والتوسيع فالضروع كالخِزانة في الغرفة لا يجوز كسرها وأخذ ما فيها.
(2) في نسخة: فينقل.
(3) قوله: ماشية امرئ، أي دوابّ رجل: من البقر والغنم والإِبل وغيرها. بغير إذنه، أي صراحةً أو دلالةً. أيحبُّ، بهمزة الاستفهام بمعنى الإِنكار. أحدكم أن تؤتى، أي يأتي آتٍ. مُشْربته، بضم الميم وفتح الراء، الغرفة أي البيت الفوقاني الذي يوضع الطعام فيه. فتُكْسَر، بالمجهول. خِزانته، بكسر الخاء، ولا تُفتَح الخزانة كما لا تكسر القصعة. فينتقل طعامه، أي المجموع في الغرفة، أي فكما لا يحب أحدكم ذلك بل يحزن به، فكذلك ينبغي أن لا يحلب ماشية غيره بغير إذنه. فإنما تخزُن، بضم الزاء أي تحفظ لهم أي ملاك المواشي. ضُروع، بالضم جمع ضرع: الثدي الذي فيه اللبن. مواشيهم أطعمتَهم، مفعول تخْزُن. والمراد بالأطعمة الأشربة على سبيل التمثيل والتوسيع فالضروع كالخِزانة في الغرفة لا يجوز كسرها وأخذ ما فيها.
(4) في نسخة: فينقل.
(5) إعادةً للحكم بعد ضرب المثل تأكيداً.(3/377)
يَحْلِبَ مِنْهَا شَيْئًا (1) بِغَيْرِ أَمْرِ أَهْلِهَا (2) ، وَكَذَلِكَ إِنْ مرَّ عَلَى حَائِطٍ (3) لَهُ فِيهِ نَخْلٌ أَوْ شَجَرٌ (4) فِيهِ ثَمَرٌ فَلا يأخُذَنَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلا يأكلُه إلاَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِ إلاَّ أَنْ يُضْطَرْ (5) إِلَى ذَلِكَ، فَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَغْرَمُ (6) ذَلِكَ لأَهْلِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
8 - بَابُ نُزُولِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ.
872 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ (7) لِلنَّصَارَى وَالْيَهُودِ
__________
(1) أي، ولو قلَّ.
(2) أي مالكها.
(3) أي بستان.
(4) تعميم بعد التخصيص.
(5) قوله: إلاَّ أن يضطر، فإن حالة الاضطرار تبيح المحرمات لقوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عَادٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيْم) سورة البقرة: الآية 173) ، فتبيح أكل الحلال مملوك الغير بالطريق الأولى إلاَّ أنه يضمِّنه قيمته أداءً لحقه نظراً للجانبين.
(6) أي يضمن قدر قيمته.
(7) قوله: ضرب، أي عيّن لهم حين أراد إخراجهم من جزيرة العرب إقامة ثلاث ليال على سبيل المُهلة. يتسوقون، أي يذهبون إلى السوق، ويقضون حوائجهم فيه وغيره ثم يخرجون.(3/378)
وَالْمَجُوسِ (1) بِالْمَدِينَةِ إِقَامَةَ ثَلاثِ لَيَالٍ يَتَسوَّقُون ويقضُون حَوَائِجَهُمْ، وَلَمْ يَكُنْ أحدٌ مِنْهُمْ يُقِيمُ (2) بَعْدَ ذَلِكَ (3) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَمَا حَولهما (4) مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ (5) ، وَقَدْ بَلَغَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لا يبقى (6) دينان في جزيرة العرب. فأخرج
__________
(1) هم عبدة النار.
(2) أي في المدينة وما حولها.
(3) أي بعد ثلاث ليال.
(4) كجُدَّة وخيبر وغيرهما.
(5) قوله: من جزيرة العرب (قال صاحب المحلى بعد حديث الباب: فلا يمكن للكافر مشركاً كان أو يهودياً أو نصرانياً من السكنى في أرض العرب، ويجب إخراجهم منه، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك، وهو قول للشافعي غير أنه خصَّ المنع بالحجاز خاصة، ثم قال في الهداية وشرحه: إنهم لا يمكَّنون من السكنى في أرض اليمن ويمنعون أن يتخذوا أرض العرب مسكناً ووطناً بخلاف سائر الأمصار. أوجز المسالك 14/59) ، قال القاري: هي ما أحاط به بحر الهند، وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين ساحل البحر إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة إلى ريف العراق عرضاً كذا في "القاموس". وقال الأصمعي: من أقصى عدن إلى ريف العراق طولاً، ومن جدَّة وساحل البحر إلى أطراف الشام عرضاً، قال الأزهري: سُمِّيت جزيرة، لأن بحر فارس وبحر السودان أحاط بجانبها، وأحاطها بالجانب الشمالي دجلة والفرات.
(6) أي لا يجتمع (قال الزرقاني: خبر بمعنى النهي للرواية قبله: لا يبقينَّ. شرح الزرقاني 4/234) دين الإِسلام وغيره.(3/379)
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ لِهَذَا الْحَدِيثِ.
873 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَكِيمٍ (1) ، عَنْ عمر بن الْعَزِيزِ قَالَ: بَلَغَنِي (2) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يبقينَّ دِينَانِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: قَدْ فَعَلَ (3) ذَلِكَ (4) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَأَخْرَجَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ.
9 - بَابُ الرَّجُلِ يُقيم الرجلَ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيَجْلِسَ فِيهِ وَمَا يُكره مِنْ ذَلِكَ.
874 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول: لا يُقيم (5) أحدُكم الرجلَ من
__________
(1) قوله: أخبرنا إسماعيل بن حكيم، هكذا في نسخة عليها شرح القاري وغيرها، والصحيح إسماعيل بن أبي حكيم كما في "موطأ يحيى".
(2) قوله: قال بلغني، هذا مرسل في "موطأ" وموصول في الصحيحين وغيرهما عن عائشة وغيرها من طرق، وفي بعضها قالت: كان من آخِرِ ما تكلَّم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب. وفي رواية من حديث ابن عباس وابن عمر وغيرهما في الصحيحين وغيرهما: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب.
(3) في زمان خلافته في سنة عشرين، كما ذكره السيوطي في "تاريخ الخلفاء".
(4) أي ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) لأن فيه إضرار به.(3/380)
مَجْلِسِهِ فَيَجْلِسَ فِيهِ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخذُ. لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَصْنَعَ هَذَا بِأَخِيهِ وَيُقِيمَهُ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ.
10 - بَابُ الرُّقَى (2)
875 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَتْنِي عَمْرة: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ تَشْتَكِي (3) ، ويهودية تَرْقيها، فقال: ارقيها (4) بكتاب الله.
__________
(1) قوله: فيجلس فيه، بل ينبغي أن يجلس حيث وجد خالياً وإلاَّ فحيث انتهى المجلس، ولا يقعد وسط الحلقة، فعند الطبراني والبيهقي وغيرهما مرفوعاً: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فإن وُسِّع له فليجلس، وإلاَّ فلينظر إلى أوسع مكان يراه فيجلس فيه إن شاء وإلاَّ انصرف ولا يزاحم غيره فيؤذيه. وعند الترمذي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه: ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من قعد وسط الحلقة، وعند الشيخين من حديث ابن عمر مرفوعاً: لا يقيم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفَّسحوا وتوسَّعوا.
(2) تشتكي: أي مريضة.
(3) تشتكي: أي مريضة.
(4) قوله: ارقيها بكتاب الله، أي بالقرآن إن رُجِيَ إسلامها أو التوراة إن كانت معرَّبة بالعربي أو أمن تغييرهم لها، فتجوز الرقية به، وبأسماء الله وصفاته، وباللسان العربي، وبما يُعرف معناه من غيره بشرط اعتقاد أن الرقية لا تؤثر بنفسها، بل بتقدير الله، قال عياض: اختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم، وبالجواز قال الشافعي إذا رقوا بكتاب الله، كذا قال الزرقاني. وفي(3/381)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بأسَ بالرُّقى بِمَا كَانَ (1) فِي الْقُرْآنِ، وَمَا (2) كَانَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَا كَانَ لا يُعْرَفُ مِنْ كَلامٍ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُرقَى بِهِ.
876 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، أن سُلَيْمَانَ بْنَ يَسار أَخْبَرَهُ، أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ (3) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دخل بيت
__________
"شرح القاري": يحتمل أن يكون أمراً بأن ترقيها بما في كتاب التوراة من أسماء الله الحسنى وصفاته العُلى مما يعرف صحته ومعناه، ويحتمل أن يكون على صيغة المتكلم أي أنا أرقيها بكتاب الله فيكون متضمناً للنهي عن رقيها.
(1) قوله: بما كان في القرآن، أي بآياته وحروفه، وكذا مطلق الذكر بشرط أن يكون بلسان عربي أو غيره ويعرف معناه، وكذا يجوز أن يُكتب شيء من القرآن أو غيره على شيء ويغسل به ويسقى المريض. - ولآيات الشفاعة الواردة في القرآن - والقرآن كله شفاء - ولسورة الفاتحة في هذا الباب تأثير بليغ مجرّب، ولا يجوز أن يُكتب شيء من القرآن بالدم أو غيره من النجاسات، ومن حَكَم بجوازه فقد أتى بما يرضى به الشيطان. وأما ما كان لا يُعرف معناه بأن يكون فيه ألفاظ مجهولة المعنى غريبة المبنى فلا يجوز أن يُرقى به لاحتمال أن يكون فيه كلمة كفر أو شرك مما يتضمَّنُه رقى أكثر أرباب الرقى إلاَّ أن يكون عُرِض على النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه، وزيادة التفصيل في هذا البحث في "مدارج النبوة" و "المواهب اللدنيَّة" وشرحه، و "الحصن الحصين" وشرحه.
(2) في نسخة: بما.
(3) قوله: أخبره، أي سليمان بن يسار. هذا مرسل عند جميع رواة "الموطأ" ويسند معناه من طرق ثابتة، وقد أخرجه البزار من طريق عروة، عن أم سلمة، قاله ابن عبد البر.(3/382)
أُمِّ سَلَمَةَ وَفِي الْبَيْتِ صبيٌّ يَبْكِي (1) ، فَذَكَرُوا أنَّ بِهِ العينَ (2) ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَفَلا تستَرْقُون (3) لَهُ مِنَ الْعَيْنِ؟
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا نَرَى بِالرُّقْيَةِ بَأْسًا إِذَا كَانَتْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
877 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيفة: أن عمر (4) بن
__________
(1) أي بشدة وكثرة.
(2) أي النظرة التي يصيب من شخص فيعجبه ويضرُّه.
(3) قوله: أفلا تسترقون له من العين، هذا وأمثاله مصرَّح بجواز الرقية، وورد في الروايات المنع من الرقية، فعن ابن مسعود مرفوعاً: أن الرُّقى - جمع رقية - والتمائم - جمع تميمة، وهي ما يعلَّق في العنق أو يُشَدّ في العضد من التعويذات - والتِّوَلة - بالكسر ثم الفتح، هي شيء من أنواع السحر، أو شبيه به تفعله النساء لمحبة الأزواج -: شرك، أخرجه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وهو وأمثاله محمول على الرُقّى والتمائم على اعتقاد أنها تدفع البلاء وأن لها تأثيراً بنفسها كاعتقاد أرباب الطبائع والجهالة، وما خلا عن هذا الاعتقاد فلا بأس به، وقيل: المنهي عنه ما كان بغير لسان العرب، فلم يدرِ ما هو، فلعله قد دخل فيه سحر أو كفر فأما إذا كان معلوم المعنى، وكان فيه ذكر الله فيستحب الرُّقَى به، ويجوز تعليقه، كذا حققه الخطابي في حواشي سنن أبي داود وغيره (في المجتبى: اختُلف في الاستشفاء بالقرآن بأن يقرأ على المريض أو الملدوغ الفاتحة، أو يُكتب في ورق ويُعلَّق عليه أو في طست ويُغسل ويسقى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعوِّذ نفسه، قال: وعلى الجواز عمل الناس اليوم، وبه وردت الآثار، ولا بأس بأن يشدَّ الجنب والحائض التعاويذ على العضد إذا كانت ملفوفة. أوجز المسالك 14/373) .
(4) قوله: أن عمر بن عبد الله، هكذا في نسخة عليها شرح القاري وغيره،(3/383)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ السَّلَمي، أَخْبَرَهُ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعم أَخْبَرَهُ، عَنْ عُثْمَانَ (1) بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّهُ أَتَى (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عُثْمَانُ: وَبِي وَجَع (3) حَتَّى كَادَ يُهْلِكُني قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: امْسَحْهُ (4)
__________
وفي "موطأ يحيى": عَمرو بفتح العين، وقال السيوطي في "الإِسعاف": عمرو بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري السلمي، عن نافع بن جبير، وعنه يزيد بن خصيفة، وثقه النسائي. انتهى. ونسبته السَّلَمي بفتحتين، قاله الزرقاني.
(1) قوله: عن عثمان بن أبي العاص، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف ثم أمَّرَه أبو بكر وعمر، مات سنة إحدى وخمسين، ذكره في "أسد الغابة: وغيره.
(2) قوله: أنه أتى، القصة مخرَّجة عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وغيرهم، ذكره الحافظ المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب". وفي بعضها: أتاني رسول الله وبي وَجَعٌ قد كاد يُهْلكني، وعند مسلم: أنه شكَى إلى رسول الله وجعاً يجده في جسده منذ أسلم. وعنده أيضاً زيادة: "بسم الله" قبل "أعوذ"، وزيادة "وأحاذر: بعد "أجد"، وعند الترمذي وغيره عن محمد بن سالم، قال لي ثابت البناني: إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي، ثم قل: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شرِّ ما أجدُ من وجعي هذا، ثم ارفع يدك ثم أعِدْ ذلك وتراً. قال أنس بن مالك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك. وهذه الأدعية الواردة في هذه الروايات وأمثالها مما هو مذكور في كتب الحديث، وجمع كثيراً منها صاحب "المواهب" وغيره، من الأدوية الروحانية الإِلهية نافعة جداً، بل لا أثر للأدوية الطبعية تاماً بدونها، وقد جرَّبتُ نفعَها وأخذتُ بحظها، وقد عرض لي مراتٍ أمراض مهلكة أعجزت الأطباء فعالجت بهذه فكأني نشطت من عِقال. ولله الحمد على ذلك ومن كمل إيمانه وحَسُنَ اعتقاده، وجد مثل ما وجدته.
(3) بفتحتين أي مرض شديد.
(4) أي موضع الوجع.(3/384)
بِيَمِينِكَ سبعَ مراتٍ (1) وَقُلْ: أَعُوذُ بعزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ، ففعلتُ ذَلِكَ، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ (2) بِي فَلَمْ أَزَلْ بعدُ آمرُ بِهِ (3) أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ.
11 - بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ مِنَ الْفَأْلِ وَالِاسْمِ الْحَسَنِ
878 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ (4) ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَقْحَة (5) عِنْدَهُ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ (6) رجلٌ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُكَ؟ فَقَالَ لَهُ مُرَّة (7) ، قَالَ (8) : اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ رجلٌ فقال له: ما اسمك؟ قال:
__________
(1) لهذا العدد تأثير بليغ في الرقى.
(2) أي من الوجع.
(3) أي بعد هذه الوقعة.
(4) وصله ابن عبد البر من طريق ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن يعيش الغفاري.
(5) قوله: لِلَقحة، اللقحة بالفتح والكسر ناقة قريبة العهد بالنتاج.
(6) أي ليحلبها.
(7) بضم الميم وتشديد الراء.
(8) قال ابن عبد البر: ليس هذا من باب الطِّيَرة، لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله، وإنما هو باب طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبر أن شرّ الأسماء حرب، ومُرَّة، فأكد ذلك حتى لا يسمِّي بهما أحد.
(1) بالفتح ثم السكون.(3/385)
حربٌ (1) قَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلِبُ هَذِهِ النَّاقَةَ؟ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يَعِيش (2) قَالَ: احْلِبْ.
12 - بَابُ الشُّرْبِ قَائِمًا
879 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، أنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَا لا يَرَيَان بشُرْب الإِنسان وَهُوَ قَائِمٌ بَأْسًا (3) .
880 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (4) مُخْبِرٌ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم كانوا (5) يشربون قياماً.
__________
(2) على وزن يبيع.
(3) أي شدَّة وكراهة.
(4) قوله: أخبرني مخبر، في "موطأ يحيى": مالك أنَّه بلغه أن عمر إلخ، قال شارحه: بلاغ مالك صحيح كما قال ابن عيينة.
(5) قوله: كانوا يشربون قياماً، ظاهره أنهم كانوا يعتادون من غير اعتقاد كراهة، وهو مفاد قول ابن عمر: كنا نشرب ونحن قيامٌ ونأكل ونحن نسعى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أخرجه أحمد في مسنده وبه تمسك مالك وغيره في أنه لا كراهة في ذلك، وأيَّدوه بما ورد من شربه صلى الله عليه وسلم قائماً من زمزم ومن فضل وضوئه، أخرجه البخاري والترمذي وغيرهما، وبحديث كبشة دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب من فِي قِرْبة معلَّقة قائماً، أخرجه الترمذي، وقال قوم بكراهة الشرب قائماً ما عدا شربَ فضل الوضوء وزمزم، فإنه مستحب قائماً وأخذوا بما ورد من النهي عن الشرب قائماً، أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ومسلم من حديث أنس، ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، وفي روايته: لا يشرب أحدكم قائماً فمن نسي فليستقيء، وفي رواية أحمد عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يشرب قائماً فقال: قم،(3/386)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا نَرَى بِالشُّرْبِ (1) قَائِمًا بَأْسًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
13 - بَابُ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ (2) الفضَّة
881 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ زَيْدِ (3) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله
__________
فقال: لِمَ؟ فقال: أيسرُّك أن يشرب معك الهرُّ؟ قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شرٌّ منه، وهو الشيطان، ورجاله ثقات قاله الدَّميري في "حياة الحيوان"، وذهب جمع من العلماء إلى كون حديث النهي منسوخاً بحديث الجواز، وقال بعضهم بالعكس. قال النووي في "شرح صحيح مسلم": من زعم نسخاً فقد غلط غلطاً فاحشاً، وكيف يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ وأنّى له ذلك. انتهى. والحق في هذا الباب على ما ذكره البيهقي والنووي والقاريّ، والسيوطي وغيرهم: أن النهي للتنزيه، والفعل لبيان الجواز (هو مختار أكثر أصحابنا حتى إن الحلبي نقل عليه الإِجماع، كذا في الأوجز 14/272) ، وذكر الطحاوي وغيره أنَّ النهي لأمر طبِّي فإن في الشرب قائماً آفاتٍ لا لأمرٍ شرعي.
(1) قوله: بالشرب، أي إذا كان لحاجةٍ أو أحياناً وإلاَّ فالأَوْلى هو الشرب قاعداً، لأنه كان هَدِيَ النبي صلى الله عليه وسلم المعتاد، كما ذكره في "زاد المعاد".
(2) زيد هو أكبر ولد ابن عمر على ما قيل، ولد في حياة جدِّه، وثقه ابن حبان ذكره السيوطي وغيره.
(3) زيد هو أكبر ولد ابن عمر على ما قيل، ولد في حياة جدِّه، وثقه ابن حبان ذكره السيوطي وغيره.
(4) قال في "التقريب" ثقة، مات بعد السبعين.(3/387)
عَنْهُ، عَنْ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنَّ الَّذِي يَشْرَبُ (1) فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ (2) فِي بَطْنِهِ نَارَ جهنَّم.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نأخُذ. يُكره (3) الشربُ فِي آنِيَةِ الفضَّة وَالذَّهَبِ وَلا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا فِي الإِناء المفضَّض (4) . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا.
__________
(1) في رواية لمسلم زيادة: "ويأكل"، وفي رواية له أيضاً زيادة: والذهب.
(2) قوله: إنما يُجرجر، بضم أوّله وفتح ثانيه وكسر رابعه من الجرجرة، صوت وقوع الماء في الجوف، ورواه بعض الفقهاء بالبناء للمفعول، ولا يُعرَف في الرواية، ونار جهنم مفعول الفعل بالنصب، والفاعل ضمير الشارب، أو هو فاعل بالرفع كذا ذكره السيوطي. والحديث أخرجه الشيخان والطبراني، وفي رواية في آخره: إلا أن يتوب. وفي الباب عن حفصة عند الطبراني، وابن عباس عند أبي يعلى والطبراني، وابن عمر عند الطبراني في "الصغير" و "الأوسط" ومعاوية عند أحمد، وأبي هريرة عند النسائي، والبراء عند البخاري، وعليّ عند الطبراني، وحذيفة عند أبي حنيفة وغيره، وأسانيد بعضها وإن كانت ضعيفة لكنه غير مضرّ كما بسطه "شارح المسند". وقد اتفق العلماء على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للرجل والمرأة، قال الحافظ: ويلتحق بهما ما في معناهما مثل التطيّب والتكحُّل وسائر وجوه الاستعمال وهو قول الجمهور وشذّ من خالفه (كذا في فتح الباري 10/97) .
(3) أي تحريماً.
(4) قوله: في الإِناء المفضّض، قال "شارح المسند": مذهب الحنفية أنه يحلّ الشرب من الإِناء المفضّض، أي المزوّق بالفضة، والركوب على السرج المفضض، والجلوس على كرسي مفضض بحيث يتقي موضع الفضة، وكذا الإِناء(3/388)
14 - بَابُ الشُّرْبِ وَالأَكْلِ بِالْيَمِينِ (1)
882 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ (2) بْنِ عُبَيْد الله، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا أَكَلَ (3) أَحَدُكُمْ فليَأكُل بِيَمِينِهِ، وَلْيَشْرَبْ (4) بِيَمِينِهِ، فإنَّ
__________
المضبّب بالذهب أو الفضة، أي المشدود. والذي تقرر عند الشافعي أن الضبّة إن كانت من الفضة، وهي كبيرة للزينة تحرم، وللحاجة تجوز، وتحرم ضبّة الذهب مطلقاً، ووافق مالك وإسحاق احنفية في ضبّة الفضة، والأصل في ذلك ما أخرجه البخاري عن عاصم، قال: رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك، وكان قد انصدع فسلسله بفضة (انظر فتح الباري 10/101) ، وأما المطلي بالذهب والفضة فلا بأس به.
(1) قوله: عن أبي بكر بن عُبيد الله، بضم العين ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مما اتفق عليه رواة الموطأ إلا يحيى، فقال: أبي بكر بن عبد الله بن عبد الله بن عمر، بفتح العين وهو خطأ، قاله ابن عبد البر، قال الزرقاني: أبو بكر هذا تابعي، ثقة، مات بعد الثلاثين ومائة، وأبوه عبيد الله شقيق سالم بن عبد الله. قال ابن عبد البر في رواية يحيى بن بكير: في هذه الرواية زيادة عن أبيه عن ابن عمر، ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك، ولا ينكر أن أبا بكر يروي عن جدّه.
(2) قوله: عن أبي بكر بن عُبيد الله، بضم العين ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وهذا مما اتفق عليه رواة الموطأ إلا يحيى، فقال: أبي بكر بن عبد الله بن عبد الله بن عمر، بفتح العين وهو خطأ، قاله ابن عبد البر، قال الزرقاني: أبو بكر هذا تابعي، ثقة، مات بعد الثلاثين ومائة، وأبوه عبيد الله شقيق سالم بن عبد الله. قال ابن عبد البر في رواية يحيى بن بكير: في هذه الرواية زيادة عن أبيه عن ابن عمر، ولم يتابعه أحد من أصحاب مالك، ولا ينكر أن أبا بكر يروي عن جدّه.
(3) أي أراد الأكل.
(4) عند مسلم وأبي داود: إذا شرب فليشرب بيمينه(3/389)
الشَّيْطَانَ (1) يَأْكُلُ بشِماله وَيَشْرَبُ بشِماله.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ وَلا يَشْرَبُ بِشِمَالِهِ إلاَّ مِنْ عِلَّة (2) .
15 - بَابُ الرجل يشرب ثم يُناول (3) مَنْ عَنْ يَميِيْنه
883 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِي (4) بلَبن قَدْ شِيْب بِمَاءٍ، وعن يمينه أعرابي، وعن
__________
(على الاستحباب عند الجمهور، ويُكره تنزيهاً لا تحريماً عند الجمهور فعلهما بالشمال إلا لعذر وأخذ جمع من الحنابلة والمالكية حرمة الأكل والشرب بالشمال لأن فاعل ذلك الشيطان أو شبهه. انظر أوجز المسالك 14/251) .
(1) قوله: فإن الشيطان يأكل بشماله، حمله بعضهم على المجاز بأن الشيطان يحمل أولياءه على ذلك، وردّه ابن عبد البر وغيره بأنه ليس بشيء فإنه إذا أمكنت الحقيقة بوجهٍ ما لا يجوز الحمل على المجاز، ومن نفى عن الجن والشيطان الأكل والشرب فقد وقع في إلحادٍ وضلالةٍ وقد بسط الكلام في هذا البحث القاضي بدر الدين الشلبي الدمشقي في كتابه "آكام المرجان في أحكام الجان". وهو كتاب نفيس لم يسبقه بمثله أحد.
(2) أي مرض أو ضرورة.
(3) قوله: أُتي، بصيغة المجهول وهو في دار أنس، بلبن حُلب من شاةٍ داجن. قد شِيب، بكسر الشين أي خُلط، ومُزج على ما كانت عادتهم بماء من البئر التي كانت في دار أنس، وقد بين ذلك كله في رواية عند البخاري، والحديث مخرّج عند الشيخين، وعند الأربعة وغيرهم، وعن يمينه أعرابي لم يسم في رواية، وزعم بعضهم أنه خالد بن الوليد وهو غلط، فإن الأعرابي كان ههنا عن يمينه، وخالد كان عن يساره في القصة التي بعده فاشتبه عليه حديث سهل في الأشياخ الذين منهم خالد مع الغلام وهو ابن عباس كما في رواية ابن أبي شيبة وغيره بحديث أنس في أبي بكر والأعرابي، وهما قصتان كما بسطه ابن عبد البر، وأيضاً لا يُقال لخالد أعرابي فإنه من أجلَّة قريش، كذا في "شرح الزرقاني".
(4) قوله: أُتي، بصيغة المجهول وهو في دار أنس، بلبن حُلب من شاةٍ داجن. قد شِيب، بكسر الشين أي خُلط، ومُزج على ما كانت عادتهم بماء من البئر التي كانت في دار أنس، وقد بين ذلك كله في رواية عند البخاري، والحديث مخرّج عند الشيخين، وعند الأربعة وغيرهم، وعن يمينه أعرابي لم يسم في رواية،(3/390)
يساره أبو بكر الصديق رضي الله عته، فَشَرِبَ (1) ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ، ثُمَّ قَالَ: الأَيْمَنُ (2) فَالأَيْمَنُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهِ نَأْخُذُ.
884 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
__________
وزعم بعضهم أنه خالد بن الوليد وهو غلط، فإن الأعرابي كان ههنا عن يمينه، وخالد كان عن يساره في القصة التي بعده فاشتبه عليه حديث سهل في الأشياخ الذين منهم خالد مع الغلام وهو ابن عباس كما في رواية ابن أبي شيبة وغيره بحديث أنس في أبي بكر والأعرابي، وهما قصتان كما بسطه ابن عبد البر، وأيضاً لا يُقال لخالد أعرابي فإنه من أجلَّة قريش، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) قوله: فشرب، في رواية للبخاري: فقال عمر - وخاف أن يعطي الأعرابي -: أعط أبا بكر يا رسول الله فأعطى أعرابياً.
(2) قوله: الأيمن فالأيمن؟، ضُبط بالنصب أي أعط الأيمن، وبالرفع على تقدير الأيمن أحق قاله الكرماني وغيره، ويؤيد الرفع قوله في بعض طرق الحديث: الأيمنون فالأيمنون، قال الزرقاني: قال أنس: هو سنّة أي تقدمة الأيمن (إن الجمهور على سنيته خلافاً لابن حزم القائل بالوجوب. أوجز المسالك 14/276) ، وإن كان مفضولاً، ولم يخالف في ذلك إلا ابن حزم فقال: لا يجوز تقدمة غير الأيمن إلا بإذنه. وأما حديث أبي يعلى الموصلي بإسناد صحيح عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقى قال: ابدؤوا بالكبراء، أو قال: بالأكابر، فمحمول على ما إذا لم يكن على جهة يمينه أحد، بل كانوا كلهم تلقاء وجهه مثلاً، وإنما لم يستأذن الأعرابي ههنا، واستأذن الغلام في الحديث الذي بعده استئلافاً لقلب الأعرابي وشفقةً أن يحصل في قلبه شيء يَهْلِك به لقربه بالجاهلية، ولم يجعل للغلام ذلك لأنه لقرابته وسِنِّه دون الأشياخ، فاستأذنه تأدُّباً وتعليماً بأنه لا يدفع لغير الأيمن إلا بإذنه.(3/391)
السَّاعِدِيِّ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتي بِشَرَابٍ (1) فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ (2) وَعَنْ يَسَارِهِ أَشْيَاخٌ (3) فَقَالَ لِلْغُلامِ: أَتَأْذَنُ لِي فِي أَنْ أُعْطِيَه (4) هَؤُلاءِ (5) ؟ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أُوثِرُ (6) بِنَصِيبِي مِنْكَ أَحَدًا، قَالَ (7) : فَتَلَّه (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم في يَدِهِ.
16 - بَابُ فَضْل إِجَابَةِ (9) الدَّعْوَةِ
885 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا نافع، عن ابن عمر: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دُعي (10) أحدُكم إلى وليمة (11)
__________
(1) بالفتح أي مشروب وكان لبناً كما ورد في رواية.
(2) أي صغير لم يبلغ مبلغ الرجال.
(3) أي شيوخ الصحابة وكبراؤهم منهم خالد بن الوليد.
(4) أي ذلك اللبن.
(5) أي أشياخ الصحابة.
(6) من الإِيثار أي لا أختار بحصتي من سؤرك وما أستحقه لكوني يمينَك على نفسي غيري.
(7) أي الراوي.
(8) بتشديد اللاَّم: أي وضعه ودفعه في يد الغلام.
(9) دُعِيَ: أي طُلب.
(10) دُعِيَ: أي طُلب.
(11) هي طعام النكاح مشتقّ من الوَلْم بمعنى الجمع.(3/392)
فليأتِها (1) .
886 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا ابْنُ شِهَابٍ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (2) : بِئْسَ الطَّعَامُ طعامُ الْوَلِيمَةِ يُدعى لها (3) الأغنياءُ ويُترك
__________
(1) قوله: فليأتها، وفي رواية لمسلم: إذا دعا أحدكم أخوه فليُجِيبْ عرساً كان أو غيره، وزاد في رواية: فإنْ كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليبرّك أي يدعو له بالبركة. وبظاهر هذه الروايات ذهب الظاهرية إلى وجوب إجابة الدعوة مطلقاً، وذهب بعض المالكية إلى وجوب إجابة الوليمة دون غيرها، وعند غيرهم الأمر للندب إلا أنّ الندب في الوليمة آكد (كذا في الأوجز 9/447) .
(2) قوله: أنه كان يقول، قال ابن عبد البر: جُلّ رواة مالك لم يصرِّحوا برفعه، ورواه روح بن القاسم مصرِّحاً برفعه، وكذا أخرجه الدارقطني في "الغرائب" من طريق إسماعيل بن سلمة بن قعنب، عن مالك مصرِّحاً برفعه، والحديث مخرّج في صحيح البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم بألفاظ متقاربة، منها شرّ الطعام طعام الوليمة يُدعى لها الأغنياء ويُترك الفقراء. وفي الباب عن ابن عمر عند أبي الشيخ، وعن ابن عباس عند البزار، ذكره الحافظ في "التلخيص" (وكذا في فتح الباري 9/245) .
(3) قوله: يُدعى لها، أي طعام الوليمة التي شأنها أن يُدْعى لها الأغنياء ويُترك الفقراء، فالتعريف في الوليمة للعهد الخارجي، وكان من عادتهم أنهم يدعون لها الأغنياء، وجملة "يدعى لها" استئناف بيان للشربة أو هو صفة للوليمة، بجعل اللام للعهد الذهني، وعلى كل تقدير فليس فيه وفي أمثاله من الأخبار المرفوعة تقبيح طعام الوليمة مطلقاً بل طعام الوليمة الخاص، ومنهم من حمله على(3/393)
الْمَسَاكِينُ (1) ، وَمَنْ لَمْ يأتِ (2) الدعوةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ (3) ورسولَه.
887 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سمعتُه يَقُولُ: إِنَّ خَيَّاطًا (4) دَعَا رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى طعامٍ صَنَعَه (5) ، قَالَ أَنَسٌ: فذهبتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ (6) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزًا من شعير ومَرَقاً (7) فيه
__________
مطلق الوليمة، وقوله "يُدعى لها" بياناً واقعياً باعتبار الغالب فاحتاج إلى حذف "مِنْ" التبعيضية، والأَوّل أَوْلى كما حقّقه الطيبي وغيره من محشِّي المشكاة.
(1) قوله: ويُترك المساكين، قال النووي: بيَّن الحديث وجه كونه شرّ الطعام بأنه يُدعى له الغنيّ ويُترك المحتاج لأكله، والأَوْلى العكس وليس فيه ما يدلّ على حرمة الأكل إذ لم يقل أحد بحرمة الإِجابة، وإنما هو ترك الأولى، والقصد من الحديث الحثّ على دعوة الفقير وأن لا يقتصر على الأغنياء.
(2) قوله: ومن لم يأت الدعوة، الظاهر منه مطلق الدعوة، وحمله جمع من شُرّاح الحديث على الوليمة بناءً على وجوب إجابته جمعاً بينه وبين الروايات الأخَر.
(3) هذا يدل على أنه مرفوع مسند لأنه لا دخل في هذا الحكم لرأي الصحابة.
(4) بتشديد الياء: الذي يخيط الثياب. قال الحافظ: لا يُعرف اسمه.
(5) أي طبخه وهيّأه.
(6) أي الداعي.
(7) شوربا بفتحتين(3/394)
دُبَّاء (1) ، قَالَ أَنَسٌ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ (2) الدُبَّاء مِنْ حَوْلِ (3) القَصْعة (4) ، فَلَمْ أَزَلْ (5) أُحبّ الدُبَّاء مُنْذُ يَوْمِئِذٍ.
__________
(باللغة الأردية) .
(1) قوله: فيه دُبّاء، بضم الدال وشدّ الباء والمدّ، الواحدة دباءة فهمزته منقلبة عن حرف علّة أي فيه قرع، قاله الزرقاني. وعند الترمذي وغيره زيادة: وقُدَيْد أي لحم مملوح مُجَفّف في الشمس أو غيرها، قال علي القاري في شرح "شمائل الترمذي": في الحديث جواز أكل الشريف طعام مَنْ دونه من محترف وغيره وإجابة دعوته ومؤاكلة الخادم، وفيه الإِجابة إلى الطعام وإن كان قليلاً، ذكره العسقلاني، وأنه يُسَنَّ محبّة الدُّبّاء لمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا كل شيء كان يحبه، ذكره النووي، وأن كسب الخيّاط ليس بِدَنِيّ.
(2) بالتّاءين من التتبُّع: أي يطلب ويتجسس الدُّبّاء من أطراف القصعة.
(3) قوله: من حول القَصْعة، هي بالفتح ما يأكل منها عشرة أنفس، وفي بعض نسخ "شمائل الترمذي" حول الصَّحْفة، وهي بالفتح إناء يأكل منها خمسة أنفس، وفي رواية متفق عليها حوالَيْ القصعة، وهو بفتح اللام وسكون الياء مفرد اللفظ مجموع المعنى أي من جوانبها، ولا يعارضه نهيه صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وقوله: كل مما يليك، لأنه للقذر والإِيذاء. وفيه دليل على أن الطعام إذا كان مختلفاً يجوز أن يمُدّ يده إلى ما لا يليه إذا لم يعرف من صاحبه كراهة، وكذا في "جمع الوسائل لشرح الشمائل" للقاري.
(4) في نسخة: الصفحة (في نسخة: "الصفحة"، وهو خطأ) .
(5) قوله: فلم أزل، وفي نسخة قال: هذا قول أنس أي فلم أزل أحبّ الدباء محبة شرعية أو زائدة على ما كان قبل من حين رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّبعه ويحبّه (قال القاري في جمع الوسائل: كان سبب محبته صلى الله عليه وسلم له ما فيه من إفادة زيادة العقل والرطوبة المعتدلة. أوجز المسالك 9/455) . وفي جامع الترمذي عن أبي طالوت قال: دخلت على أنس بن مالك(3/395)
888 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ (1) لأُمّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سمعتُ (2) صَوْتَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ضعيفاً
__________
وهو يأكل القرع، وهو يقول: ما لَكِ شجرةً ما أُحِبُّكِ إلا لحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكِ (انظر سنن الترمذي 4/384، باب ما جاء في أكل الدُبَّاء، كتاب الأطعمة) .
(1) قوله: قال أبو طلحة، هو جدّ إسحاق شيخ مالك في هذه الرواية، وزوج أمّ أنس، اسمه زيد بن سهل بن الأسود بن حرام النجّاري الخزرجي الأنصاري شهد بيعة العقبة، وشهد بدراً وما بعدها من المشاهد، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتُه في الجيش خير من مائة رجل، مات سنة 31 أو سنة 34 أو سنة 51 على الاختلاف، وزوجته أم سليم بضم السين بنت مِلْحان بن خالد بن زيد بن حرام النجّارية الأنصارية، اسمها سهلة بالفتح أو رُمَيْلة مصغّراً، أو رُمَيْثة أو مُليكة مصغرين، أو الغُميضاء أو الرُّميصاء (صحابية، فاضلة، توفيت في خلافة عثمان: تقريب التهذيب 2/622) بضم أولهما، كانت تحت مالك بن أبي النضر، والد أنس في الجاهلية؟، فلما جاء الله بالإِسلام أسلمت مع قومها وعرضت الإِسلام على زوجها فغضب وهلك كافراً، فتزوّجها أبو طلحة وولدت له غلاماً مات صغيراً، وهو أبو عمير المذكور في حديث النُّغَيْر، ثم ولدت له عبد الله بن أبي طلحة فبُورك فيه، وهو والد إسحاق، وإخوته كانوا عَشَرة، كلهم أخذ عنهم العلمَ، كذا ذكره ابن عبد البَرّ في "الاستيعاب".
(2) وكان ذلك في غزوة الخندق كما صرح به في رواية.(3/396)
أَعْرِفُ (1) فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عندكِ مِنْ شَيْءٍ (2) ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فأخْرَجَتْ أَقْرَاصًا (3) مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أخذَتْ خِمَارًا (4) لَهَا ثُمَّ لَفَّتْ الخُبزَ بِبَعْضِهِ (5) ، ثُمَّ دَسَّتْهُ (6) تَحْتَ يَدَيَّ وَرَدَّتْنِي (7) بِبَعْضِهِ؟، ثُمَّ أرسلَتْني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذهبتُ بِهِ (8) ، فوجدتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم جالساً (9) في
__________
(1) قوله: أعرف فيه الجوع، فيه ردّ على دعوى ابن حِبّان أنه لم يكن يجوع، وأنّ أحاديث ربط الحجر على البطن تصحيف محتجاً بقوله صلى الله عليه وسلم يُطعمني ربي ويسقيني، ورُدَّ بأن الأحاديث صحيحة فوجب الحمل على اختلاف الأحوال كما بسطه القسطَلاّني في "المواهب".
(2) أي لأكله.
(3) قوله: أقراصاً، جمع قٌرْص بالضم قطعة من عَجِين مقطوع منه، ويقال لقطعة الخبز، ولأحمد: عمدت أم سليم إلى نصف مُدّ من شعير فطحنته. وعند البخاري: إلى مُدّ من شعير فطحنته. ثم عملته عصيدة أي خلطته بالسَّمْن. ولمسلم: أتي أبو طلحة بمدّين من شعير فأمر فصنع طعاماً. قال الحافظ: ولا منافاة لاحتمال تعدُّد القصة أو أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظه الآخر.
(4) بالكسر أي القنعة التي تقنع بها المرأة رأسها.
(5) أي الخمار، أي جعل الخبز ملفوفاً فيه.
(6) بتشديد السين: أي أدخلته بقوة تحت إبطي.
(7) أي جعلت بعض الخمار رداء عليّ حفاظة من الشمس وغيره.
(8) أي بذلك الخبز.
(9) قوله: جالساً في المسجد، المراد به الموضع الذي أعدّه للصلاة عند الخندق في غزوة الأحزاب لا المسجد النبوي، فإن القصة كانت خارج المدينة، كما صرح به شرّاح "صحيح البخاري".(3/397)
الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ (1) ، فَقَالَ لِي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أ (2) أرسَلك أَبُو طَلْحَةَ؟ قلتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: بِطَعَامٍ (3) ؟ فقلتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا (4) ، قَالَ: فانطلقتُ (5) بَيْنَ يَدَيْهِمْ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ، فأخبرتُه (6) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أمَّ سُليم قَدْ جَاءَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ (7) ، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنَ الطَّعَامِ مَا نُطْعِمُهم (8) ،
__________
(1) أي وقفتُ عندهم قاصداً أن أخْلُوَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر ذلك الخبز عنده.
(2) بهمزة الاستفهام.
(3) في رواية يحيى: "لطعام" بللام أي لأجله.
(4) قوله: قوموا، ظاهره أنه فهم أن أبا طلحة استدعاه إلى منزله، وأول الكلام يقتضي أن أمَّ سليم وأبا طلحة أرسلا الخبز مع أنس، فيُ جمع بأنهما أرادا بإرسال الخبز أن يأخذه فيأكله. فلما وصل أنس ورأى كثرة الناس حوله استحيى وأظهر أنه يدعوه ليقوم وحده إلى المنزل ليحصل قصده من إطعامه. وأكثر الروايات في صحيح مسلم وغيره يقتضي أن أبا طلحة استدعاه، كذا ذكره الحافظ في "فتح الباري".
(5) قوله: فانطلقت بين أيديهم، أي متقدِّماً عليهم، وفي رواية: فلما قلت له: إن أبي يدعوك، قال لأصحابه: تعالوا، ثم أخذ بيدي فشدّها، ثم أقبل بأصحابه حتى إذا دَنَوا أرسل يدي فدخلت وأنا حزين لكثرة ما جاء معه.
(6) في رواية فقال أبو طلحة: يا أنس فضحتنا.
(7) أي بالجماعة الكثيرة.
(8) أي قدر ما يكفيهم.(3/398)
كَيْفَ نَصْنَعُ؟ فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ (1) ، قَالَ: فَانْطَلَقَ (2) أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ (3) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ هُوَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلا (4) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلُمِّي (5) يَا أمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ، فَجَاءَتْ بِذَلِكَ (6) الْخُبْزِ، قَالَ: فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتّ (7) ، وعَصَرت أُمُّ سُلَيْمٍ عُكّةً لَهَا (8) ، فآدَمَتْه (9) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شاء الله (10) أن يقول، ثم
__________
(1) قوله: الله ورسوله أعلم، أي منك ومنّا بحالك وحالنا، أشارت بحُسن عقلها إلى أن لا ينبغي التحيّر والحزن، فإنه أعلم فلما جاء بالناس لا بد أن يظهر أمرٌ خارق العادة.
(2) أي من بيته مستقبلاً لنبيِّه.
(3) قوله: حتى لقي، زاد في رواية فقال: يا رسول الله ما عندنا إلاّ قرص عملته أم سليم، وفي رواية قال: إنما أرسلتُ أنساً يدعوك وحدك ولم يكن عندنا ما يُشبع من أرى، فقال رسول الله: ادخل فإن الله سيُبارِكُ في ما عندك.
(4) أي في بيت أبي طلحة وقعد من معه بالباب.
(5) قوله: هَلُمِّي، قال الزرقاني: بالياء على لغة تميم، وفي رواية: هَلُمَّ بلا ياء على لغة الحجاز أي هات يا أمّ سليم ما عندكِ.
(6) الذي كانت أرسلت به مع أنس.
(7) بضم الفاء وتشديد التاء: أي كسر كسرات وقطعت قطعات.
(8) قوله: عُكّة لها، بضم العين وتشديد الكاف: إناء من جلد مستدير يُجعل فيه السمن غالباً، وعند أحمد فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العُكَّة شيء فجاء بها فجعلا يعصرانها حتى خرج منه.
(9) أي جعلت ما خرج إداماً له.
(10) قوله: ما شاء الله أن يقول، عند مسلم: فمسحها ودعا بالبركة، وعند(3/399)
قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ (1) ، فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا (2) ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، فَأَذِنَ لَهُمْ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ، حَتَّى (3) أَكَلَ الْقَوْمُ (4) كلُّهم، وَشَبِعُوا وَهُمْ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ (5) رجلاً.
__________
أحمد: فتح رباطها أي العُكّة وقال: بسم الله اللَّهم أعظم فيها البركة، وفي رواية له: ثم مسح القرص فانتفخ وقال بسم الله.
(1) أي ممن كانوا قعدوا خارج البيت.
(2) في رواية لأحمد، ثم قال لهم: قوموا وليدخل عشرة مكانكم.
(3) أي فما زال يدخل عشرة عشرة حتى إلخ.
(4) قوله: حتى أكل القوم كلُّهم، ولمسلم من حديث أنس: حتى لم يبق منهم إلا دخل فأكل حتى شبع، وفي رواية له: ثم أخذ ما بقي، فجمعه ودعا له بالبركة، فعاد كما كان، وفي رواية لأحمد ثم أكل صلى الله عليه وسلم وأهل البيت وتركوا سؤراً، أي فضلاً، وفي رواية لمسلم: وأفضلوا ما بلغوا جيرانهم. قال الحافظ ابن حجر: سئلت في مجلس الإِملاء عن حكمة تبعيضهم، فقلت: يحتمل أنه عرف قلة الطعام، وأنه في صحفة واحدة فلا يُتَصَورّ أن يتحلّقها ذلك العدد الكثير، فقيل: لِمَ لا دخل الكُلّ، ويُنْظِر من لم يسعه التحليق، وكان أبلغ في اشتراك الجميع في الاطّلاع على المعجزة بخلاف التبعيض في الدخول لاحتمال تكرُّر وضع الطعام في الصفحة، فقلت: يحتمل أنّ ذلك لضيق البيت (فتح الباري 6/591) .
(5) بالشكّ من الراوي، وعند مسلم من حديث أنس: ذكر ثمانين من غير شك، وعند أحمد كانوا نيِّفاً وثمانين.(3/400)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يَنْبَغِي (1) لِلرَّجُلِ أَنْ يُجيب الدَّعْوَةَ الْعَامَّةَ، وَلا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلا لِعِلَّةٍ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ فَإِنْ شَاءَ أَجَابَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُجب.
889 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طَعَامُ الاثْنَيْنِ (2) كافٍ لِلثَّلاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلاثَةِ كافٍ للأربعة.
__________
(1) قوله: ينبغي، على سبيل السُّنّيّة والتأكُّد. للرجل أنْ يجيب الدعوة العامة، التي لا تكون لرجل خاص بحيث لو علم الداعي أنه لا يحضر لا يفعله. ولا يتخلّف عنها، أي عن الدعوة العامة. إلا لعِلّة بالكسر، كمرض وحاجة ونحو ذلك، فأمّا الدعوة الخاصة فإن شاء أجاب وهو السُّنّة إذا خلا عن الرياء والسمعة ونحو ذلك، لأنه من حُسْن العِشرة. وإن شاء لم يُجِبْ، إلا إذا خاف ملال أخيه.
(2) قوله: طعام الاثنين، أي الطعام الذي يشبع الاثنين كافٍ للثلاثة، والمشبع للثلاثة كافٍ للأربعة. وفي "صحيح مسلم" من حديث عائشة: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية، وعند ابن ماجة: طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الثلاثة والأربعة وإن طعام الأربعة يكفي الخمسة والستة. وعند الطبراني: كلوا جميعاً ولا تفرّقوا فإن الطعام الواحد يكفي الاثنين. والغرض من هذه الأحاديث الحضّ على المكارمة والتقنُّع بالكفاية، والمواساة بأنه ينبغي إدخال ثالث لطعامهما ورابع أيضاً حسبما يحضر وإن البركة تنشأ من كثرة الاجتماع (قال ابن بطال: الاجتماع على الطعام من أسباب البركة. فتح الباري 10/574) فكلما ازداد الجمع زادت، كذا في "الكوكب الدراري" وفتح الباري" وغيرهما.(3/401)
17 - بَابُ فَضْلِ الْمَدِينَةِ (1)
890 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا (2) بَايَعَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسلام، ثُمَّ أَصَابَهُ وَعَك (3) بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِلْنِي (4) بَيْعَتِي، فَأَبَى (5) ، ثُمَّ جاء فقال: أقلني
__________
(1) قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري.
(2) قوله: أن أعرابياً، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه إلا أن الزمخشري ذكر في "ربيع الأبرار" أنه قيس بن أبي حازم، وهو مشكل لأنه تابعي كبير مشهور، صرّحوا بأنه هاجر فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن كان محفوظاً فلعله رجل آخر، وفي "الذيل" لأبي موسى المديني في الصحابة قيس بن حازم المنقري.
(3) قوله: وَعَك، بالفتح وبفتحتين، الحُمَّى، وكانت المدينة في أوائل الإِسلام ذا وباءٍ وحُمَّى شديدة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بنقل حُمَّاها إلى الجُحْفة وكانت إذ ذاك مسكن اليهود وصارت المدينة أطيب البلاد أرضاً وهواءً وماءً ورد بذلك أخبار بسطها السيوطي في رسالته "كشف الغُمَّى عن فضل الحُمَّى".
(4) من الإِقالة، أي رُدّ عليّ بيعتي فإني لست براضٍ به (قوله: (أقلني بيعتي) إنما كان ظناً منه أن البيعة كما كانت انعقدت به صلى الله عليه وسلم فكذلك انفساخها منوط بمشيئته وإرادته، ولم يكن الأمر كذلك بل المدار في ذلك على عقيدة المسترشد وإرادته إن ثبت على عهده الذي عقد فذلك وإلا انفسخ، وإنما أبى النبي صلى الله عليه وسلم إقالته ذلك الذي عهد لأنه كان ارتداداً من الإِسلام، فكيف لا ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. الكوكب الدرّي 4/459) .
(5) قوله: فأبى، وقيل: إنما استقاله من الهجرة، ولم يُرِدْ الارتداد عن(3/402)
بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي؟، فَأَبَى، فَخَرَجَ (1) الأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ (2) ، تَنْفِي خَبَثها وتَنْصع طِيبها.
18 - بَابُ اقْتِنَاءِ (3) الْكَلْبِ
891 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصيفَة، أَنَّ السَّائِبَ بن
__________
الإِسلام، ولو أراد الردّة لقتله هناك، وقيل: استقاله من القيام بالمدينة، وقيل كانت بيعته على الإِسلام إنْ كانت بعد (في الأصل: "قبل الفتح"، وهو تحريف. انظر شرح الزرقاني (4/221) الفتح فلم يُقِلْه، لأنه لا يحل الرجوع إلى الكفر، وإن كان قبله فهي على الهجرة والمُقام معه بالمدينة ولا يحل للمهاجر أن يرجع إلى وطنه الأصلي.
(1) أي من المدينة إلى البدو.
(2) قوله: إن المدينة كالكِير، بكسر الكاف المنفخ الذي يُنفخ به النار، أو الموضع المشتمل عليها. تَنْفي، بفتح الفوقية وسكون النون وبالفاء. خَبثَها، بفتحتين ما تبرزه النار من وسخ وقذر من الذهب والفضة، ويروى بضم الخاء وسكون الباء. وتَنْصَع، بفتح الفوقية، وفي رواية بفتح التحتية وسكون النون وفتح الصاد من النصوع، بمعنى الخلوص أي يخلص ويميز. طِيْبها، بكسر الطاء وسكون الياء، شبّه المدينة وما يصيب ساكنها من الجهد بالكير، وما يدور عليه بمنزلة الخبث فيذهب الخبث ويبقى الطيب، فكذا المدينة تنفي شِرارها (قال العيني: فإن قلت إن المنافقين سكنوا في المدينة وماتوا بها ولم تنفهم، قلت: كانت المدينة دارهم أصلاً ولم يسكنوها بالإِسلام ولا حبّاً له، وإنما سكنوها لما فيها من أصل معاشهم، ولم يُرِد صلى الله عليه وسلم بضرب المثل إلا من عقد الإِسلام راغباً فيه ثم خبث قلبه. عمدت القاري 10/246) بالبلاء وتطهّر خيارهم وتزكّيهم، كذا في "شرح الزرقاني.(3/403)
يَزِيدَ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ سُفْيَانَ (1) بْنَ أَبِي زُهَيْرٍ وَهُوَ رجلٌ مِنْ شَنُوءَة، وَهُوَ (2) مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُ (3) أُنَاسًا مَعَهُ، وَهُوَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنِ اقْتَنَى (4) كَلْبًا لا يُغني به
__________
(3) قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني.
(1) قوله: سفيان بن أبي زُهير، بضم الزاء، قال ابن المديني وخليفة: اسم أبيه الفرد، وقيل: نمير بن عبد الله بن مالك، ويقال له النميري لأنه من ولد النمر بن عثمان بن نصر بن زهران، نزل المدينة، وكان رجلاً من أَزْد بفتح الهمزة وسكون الزاء المعجمة، شَنُوءَة بفتح الشين وضم النون بعد الواو همزة مفتوحة ابن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سباء، قبيلة معروفة، كذا ذكره الزرقاني.
(2) هذا كلام أحد الرواة والظاهر أن قائله السائب بن يزيد.
(3) أي سمع سفيان حال كونه يحدِّث عند باب المسجد النبوي.
(4) قوله: من اقتنى، من الاقتناء، وهو من القِنْية بالكسر أي اتّخذ كلباً. لا يغني به، أي لا يحفظ صاحبه به أولا يحفظ الكلب بنفسه، أو لأجل صاحبه، وفي "موطأ يحيى": لا يغني عنه زرعاً، بالفتح أي حرثاً. ولا ضِرعاً، بالفتح المراد به المواشي أصحاب الضروع كالغنم والبقر. نقص من عمله، أي أجر أعماله وثواب عباداته كل يوم من أيام الاقتناء ما لم يتب. قيراط، قال الباجي: هو قدر لا يعلمه إلا الله يعني أن الاقتناء يكون سبباً لنقصان ثوابه وحرمانه، فإن من السيئات ما يحبط الحسنات، وقيل: المراد من النقص أن الإِثم الحاصل بقدر قيراط أو قيراطين فيوازن ذلك القدر من أجر عمله، وقيل: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملاً، فإذا اتخذه نقص من ذلك العمل. وسبب النقص إما امتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب أو ما يلحق المارِّين من الأذى أو عقوبة لمخالفة النهي عن الاتخاذ، وفي رواية ابن عمر نقص من عمله قيراطان، قال الزرقاني: قيل من عمل الليل قيراط، ومن عمل النهار قيراط، وقيل: من الفرض قيراط، ومن النفل قيراط، ولا يخالفه قوله في الحديث السابق: قيراط لأن الحكم للزائد أو يُنَزّل على حالين.(3/404)
زَرْعًا وَلا ضَرْعًا نُقِص مِنْ عَمَلِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ. قَالَ (1) : قُلْتُ: أَنْتَ سمعتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: إيْ (2) وربِّ الْكَعْبَةِ وربِّ هَذَا الْمَسْجِدِ.
قَالَ محمدٌ: يُكره (3) اقْتِنَاءُ الْكَلْبِ لِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ، فَأَمَّا كَلْبُ الزَّرْعِ أَوِ الضَّرْعِ أَوِ الصَّيْدِ أَوِ الْحَرَسِ (4) فَلا بَأْسَ بِهِ.
892 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ (5) بْنِ مَيْسَرة، عَنْ إِبْرَاهِيمَ
__________
(1) أي السائب من سفيان طلباً لتحقيق روايته.
(2) بالكسر (إي) حرف جواب بمعنى: ورب هذا المسجد، الواو للقسم، هكذا لفظ البخاري، وفي رواية سليمان بن بلال: ورب هذه القبلة، قال الحافظ: القسم للتوكيد وإن كان السامع مصدقاً، كذا في الأوجز 15/163) كلمة إيجاب أي نعم أنا سمعته منه.
(3) قوله: يكره اقتناء الكلب لغير منفعة، هذا بالإِجماع، وأما بيعه فلا يجوز عند الشافعي مطلقاً، وبه قال أحمد، وعند بعض المالكية يجوز بيع الكلب المأذون بإمساكه، وعندنا يجوز مطلقاً إلا إذا كان عقورا لا يقبل التعليم والأدلّة مذكورة في الهداية وشروحها.
(4) بالفتح أي حفاظة البيوت وغيرها.
(5) قوله: عن عبد الملك بن مَيْسَرة، بفتح الميم وفتح السين بينهما ياء مثناة تحتية، كذا ضبطه في "المغني" وفي "تهذيب التهذيب" عبد الملك بن ميسرة الهلالي، أبو زيد العامري الكوفي، روى عن ابن عمر وأبي الطفيل وطاوس وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه شعبة ومسعر ومنصور، قال ابن معين والنسائي والعجلي: ثقة، وذكره البخاري في من مات في العشر الثاني من المائة الثانية.(3/405)
النَّخَعي قَالَ: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَهْلِ الْبَيْتِ الْقَاصِي (1) فِي الْكَلْبِ يَتَّخِذُونَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: فَهَذَا (2) للحرَس.
893 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا - إِلا كلبَ ماشيةٍ أَوْ ضَارِيًا (3) - نُقِص مِنْ عمله كلَّ يوم قيراطان.
__________
انتهى ملخصاً. وهناك ابن ميسرة آخر وهو عبد الملك بن أبي سليمان ميسرة العزرمي الكوفي، روى عن أنس وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير، وعنه شعبة والثوري والقطان وغيرهم، وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن مسعود وغيرهم مات سنة 145، ذكره في تهذيب التهذيب" أيضاً.
(1) أي البعيد عن العمارة المحتاج إلى لحراسة.
(2) قوله: فهذا، أي هذا الذي رخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل البيت القاصي كان للحفظ، فعُلم جوازه منه.
(3) قوله: أو ضارياً، أي معلَّماً للصيد معتاداً له، ومقتضى هذه الرواية حصر الجواز في كلب الصيد وحفظ المواشي، وفي رواية أبي هريرة عند مسلم والترمذي وغيرهما إلا كلبَ حرث أو ماشية، ومدار الحصر على اختلاف المقامات واعتقاد السامعين، فالمقام الأول اقتضى إخراج كلب الصيد، والثاني استثناء كلب الزرع ولا تنافي في ذلك، كذا في: كواكب الدراري".(3/406)
19 - بَابُ مَا يُكره مِنَ الْكَذِبِ وَسُوءِ الظَّنِّ والتجسُّس (1) وَالنَّمِيمَةِ (2)
894 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ (3) عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكْذِبُ (4) امْرَأَتِي؟ قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا خَيْرَ (5) فِي الْكَذِبِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أعِدُها (6) وأقولُ، قَالَ (7) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا جُناح (8) عَلَيْكَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ فِي جِدّ (9) ولا هزل،
__________
(1) قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً.
(2) بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟.
(3) قوله: عن عطاء بن يسار، ليس في "موطأ يحيى" ذكره، بل فيه مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً، الحديث، قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسنداً بوجه من الوجوه، ورواه ابن عيينة عن صفوان، عن عطاء مرسلاً.
(4) بحذف الاستفهام أي أأكذبُ من امرأتي؟.
(5) أي بل هو شرّ كلّه من امرأته كان أو من غيرها.
(6) قوله: أعِدُها، بحذف همزة الاستفهام أي أعِدُها من الوعدة. وأقولُ، أي لها بلساني أفعلُ لك كذا وكذا ولا يكون في نيّتي إيفاؤه.
(7) في رواية "يحيى": فقال أي في جوابه.
(8) قوله: لا جُناح، بالضم أي لا إثم عليك في ذلك، للفرق بين الكذب والوعد لأن ذلك ماضٍ وهذا مستقبل، وقد يمكنه تصديق خبره فيه، قاله الباجي في "شرح الموطأ".
(9) قوله: في جِدّ، بكسر الجيم وتشديد الدال خلاف الهَزْل، والهَزْل(3/407)
فَإِنْ وسعَ الْكَذِبُ (1) فِي شَيْءٍ فَفِي خَصْلة واحدةٍ أَنْ ترفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أخيك مظلمة، فهذا نرجوا أَنْ لا يَكُونَ بِهِ بَأْسٌ.
895 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِيَّاكُمْ (2) والظنَّ، فإن الظنَّ أكذب (3) الحديث،
__________
بالفتح إظهار ما ليس في قلبه وصدق همّته بلسانه لرضاء المخاطب وسروره ونحو ذلك.
(1) قوله: وسع الكذب، اي إنْ جاز في صورة ففي صورة واحدة وهي أَنْ تَرْفَعَ عَنْ نَفْسِكَ أَوْ عَنْ أَخِيكَ مَظْلِمة بكسر اللام أي ظلماً بسبب الكذب، ومنه الكذب للإِصلاح بين الناس، وفيه إشارة إلى أن التعريض في مثل هذه الصور أحوط.
(2) قوله: إياكم والظن، أي احذروا وقُوا أنفسَكم من الظنّ، أي ظَنّ السوء بالمسلم وهو تهمة يميل إليها (في الأصل إليه، وهو تحريف) القلب بلا دليل، ويركن إليها ولمراد به عقد القلب، وحكمه على غيره بالسوء بلا دليل، وهو حرام كسوء القول، وأما الخواطر وحديث النفس فعفو، كذا حققه الغزالي في "إحياء العلوم".
(3) قوله: أكذب الحديث، أي حديث النفس لأنه يكون بوسوسة الشيطان في قلب الإِنسان، قال الخَطّابي: ليس المراد ترك العمل بالظن الذي تُناط به الأحكام غالباً، بل المراد ترك تحقيق الظن الذي يضرّ بالمظنون به، وكذا ما يقع في القلب بلا دليل، وقال عياض: استدل بالحديث قوم على منع العمل في الأحكام بالاجتهاد والرأي، حمله المحققون على ظنٍّ مجرّدٍ عن دليل ليس مبنيّاً على أصل ولا تحقيق نظر.(3/408)
وَلا تجسَّسُوا (1) وَلا تَنَافَسُوا (2) وَلا تَحَاسَدُوا (3) وَلا تَبَاغَضُوا (4) وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عبادَ (5) اللَّهِ إِخْوَانًا (6) .
896 - أخبرنا مالك، أخبرنا أبو زناد، عن الأعرج، عن
__________
(1) قوله: ولا تجسّسوا، من التجسّس، وهو البحث والتفتيش عن معائب الناس وسرائرهم، وفي رواية: بزيادة "ولا تحسّسوا" بالحاء مكان الجيم من التحسس، وهو بمعنى التجسس، ومنهم من فرّق بأن الذي بالحاء استماع حديث القوم، والثاني البحث عن العورات، وقيل غير ذلك، كما بسطه الزرقاني في "شرحه".
(2) قوله: ولا تنافسوا، من المنافسة، الرغبة في الشيء وطلب الانفراد به، وعُلُوّه فيه، والمنهي عنه التنافس في أمور الدنيا لطلب العلوّ والفخر على الناس، وأما في أمور الخير فجائز، بل مستحب لقوله تعالى: (فليتنافس المتنافسون) سورة المطفّفين: الآية 26) .
(3) قوله: ولا تحاسدوا، من الحسد وهو تمنِّي زوال ما أنعم الله على غيره أراده لنفسه أم لم يُرد، وأما تمنِّي مثله لنفسه من غير أن يزول عن غيره فهو غِبْطة بالكسرة جائزة.
(4) قوله: ولا تباغضوا، أي لا تكسبوا أسباباً مفضية إلى البغض والعداوة، وهو مذموم إذا كان لغير الله، وأما إن كان في الله فهو مندوب، وكذا التدابر أي مهاجرة أخيه وترك السلام والكلام معه، كأنّ كلاًّ منهما يُوْلي دُبُره ويُعرض عن أخيه فإن لم يكن في الله فهو حرام، وإن كان لله كمهاجرة أهل البدع من حيث ابتداعُهم فهو مندب، كما بسطه السيوطي في رسالته "الزجر بالهجر".
(5) أي عبيده الخوّاص الكاملين.
(6) خبر بعد خبر أي متآخِين ومتحابِّين في ما بينهم.(3/409)
أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ شَرِّ النَّاسِ (1) ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي (2) يَأْتِي هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ.
20 - بَابُ الاسْتِعْفَافِ (3) عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَالصَّدَقَةِ
897 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخُدري: أن ناساً (4) من الأنصار سألوا
__________
(1) أي عند الله يوم القيامة.
(2) قوله: الذي يأتي، تفسير لذي الوجهين وإشارة إلى أنه ليس المراد به تعدد الوجه حقيقة فما جعل الله لرجل من وجهين في جسده، بل المراد أنه يأتي قوماً بوجه وقوماً بوجه آخر، فيظهر عند كل أحد ما يخفيه عن الآخر كذباً وخداعاً، وإفساداً ونفاقاً.
(3) قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم.
(4) قوله: أنّ أناساً، قال الحافظ ابن حجر: لم يتعيَّن لي أسماؤهم إلا أنّ في النسائي ما يدل أن أبا سعيدٍ الراوي منهم، وللطبراني عن حكيم بن حزام أنه خوطب ببعض ذلك لكنه ليس أنصاريَّاً إلا بالمعنى الأعمِّ، وردّه العيني بأنّ في النسائي عن أبي سعيد: سرَّحَتْني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لأسأله من حاجة شديدة فأتيته فاستقبلني، فقال: من استغنى أغناه الله، الحديث وزاد فيه: من سأل وله أوقية فقد ألحف، فقلت: ناقتي خير من أوقية فرجعت ولم أسأله. وليت شعري أيّ دلالة هذا من أنواع الدلالات وليس فيه شيء يدل على كونه مع الأنصار في حالة سؤالهم.(3/410)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى أنفَذَ (1) مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: مَا يكنْ (2) عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أدَّخِرَه (3) عَنْكُمْ، مَنْ يستعِفَّ (4) يَعُفَّه (5) اللهُ، وَمَنْ يستَغْن (6) يُغنه اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ (7) يُصَبِّرْه اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أحدٌ عَطَاءً هُوَ خيرٌ (8) ، وأوسعُ مِنَ الصَّبْرِ (9) .
898 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ أباه (10)
__________
(1) أي أفرغ وأفنى، ولم يبق منه شيء.
(2) شرطية وفي رواية: ما يكون فما موصولة.
(3) قوله: فلن أدّخره، بتشديد الدال المهملة أي لن أحفظه وأجعله ذخيرة معرضاً عنكم بل كل ما يكون عندي أعطيه لكم.
(4) يتشديد الفاء وكسر العين أي يطلب العفة، ويكفّ عن السؤال.
(5) قوله: يَعُفَّه، بفتح حرف المضارع وضم العين وفتح الفاء المشددة، أو من الإِعفاف أي يرزقه العفّة ويوفقه ما يمنعه عن الذِّلّة.
(6) قوله: ومن يستغن، أي يُظهر الغنى بما عنده عن المسألة. يُغنه الله، من الإِغناء أي يمدّه بالغنى عن الناس فلا يحتاج إلى أحد.
(7) قوله: ومن يتصبّر، بتشديد الباء أي يعالج صبراً ويتكلّفه مع الضيق. يُصَبِّره الله، أي يرزقه صبراً ويوفقه له.
(8) في رواية خيراً بالنصب صفة عطاء.
(9) لكونه جامعاً لمكارم الأخلاق.
(10) قوله: أن أباه، أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، وفي رواية أحمد بن منصور البلخي، عن مالك، عن عبد الله، عن أبيه، عن أنس.(3/411)
أَخْبَرَهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ (1) رَجُلا مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهل (2) عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ سَأَلَهُ أَبْعِرَةً (3) مِنَ الصَّدَقَةِ، قَالَ (4) : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرف (5) الغضبُ فِي وَجْهِهِ، وَكَانَ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ الغضبُ فِي وَجْهِهِ أَنْ (6) يَحْمَرَّ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي مَا (7) لا يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَإِنْ منعتُه كرهتُ (8) المنعَ، وَإِنْ أعطيتُه أَعْطَيْتُهُ مَا لا (9) يَصْلُحُ لِي وَلا لَهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لا أَسْأَلُكَ مِنْهَا (10) شَيْئًا أَبَدًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي أَنْ يُعطى مِنَ الصَّدَقَةِ (11) غنياً. وإنما نَرَى (12)
__________
(1) أي جعله عاملاً وناظراً.
(2) بالفتح وسكون الشين: بطن من الأوس.
(3) قوله: أَبْعِرَة، بالفتح وسكون الباء وكسر العين جمع بعير، أي سأله عدداً من تلك الإِبل زيادة على قدر عمله.
(4) أي الراوي.
(5) أي بأثره وهو الحُمْرة.
(6) لشدّة الغضب وكظمه الغيظ.
(7) ومنه مال الصدقة.
(8) لكونه جبلّته على الجود والكرم.
(9) لعدم حِلّه لي وله.
(10) أي من الصدقة.
(11) أي إلا العامل عليها بقدر عمله.
(12) أي نَظُنّ.(3/412)
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذَلِكَ (1) ، لأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ غَنِيًّا (2) ، وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا لأَعْطَاهُ مِنْهَا.
21 - بَابُ الرَّجُلِ يَكْتُبُ إِلَى الرَّجُلِ يَبْدَأُ (3) بِهِ
899 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَتَبَ (4) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدِ الْمَلِكِ يُبايعه (5) فَكَتَبَ (6) : بِسْمِ الله الرحمن الرحيم، أما بعد (7) ، لعبد
__________
(1) أي ذلك الكلام الدالّ على الامتناع لذلك العامل.
(2) قوله: كان عنيّاً، كما يفيده قوله إنْ أعطيتُه أعطيته بما لا يصلح لي وله، فلا يحلّ له من مال الصدقة إلا بقدر عمله لقوله تعالى: (إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِين وَالعَامِلِين عَلَيها) سورة التوبة: الآية 60) .
(3) قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له.
(4) قوله: أنه كتب، في رواية البخاري، عن ابن دينار قال: شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، يعني بعد قتل عبد الله بن الزبير، وانتظام المُلْك له وتفرُّده به، ومبايعة الناس له.
(5) جملة حالية.
(6) أعاده تفسيراً وتثبتاً.
(7) قوله: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، هذه كلمة ينبغي استعمالها في صدور الكتب والرسائل، وقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في صدور مكاتبته إلى كسرى(3/413)
اللَّهِ (1) عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، سلامٌ عَلَيْكَ (2) ، فَإِنِّي أحمَد (3) إِلَيْكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إلاَّ هُوَ وأُقِرُّ (4) لك بالسمع (5) والطاعة على
__________
وهرقل وغيرهما، ويقال: أول من تكلم بها داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويُستحبُّ أيضاً البداية بالبسملة، وعليه كانت كُتُب النبي صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت حكاية كتابة سليمان إلى مَلِكة سبأ بلقيس: "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم"، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب أولاً باسمك اللَّهم، كما كان أهل الجاهلية يكتبونه حتى نزلت: (بسم الله مَجراها ومُرسها) سورة هود: الآية 41) فكتب بسم الله إلى أن نزلت: (قال ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) فكتب بسم الله الرحمن إلى أن نزلت آية كتاب سليمان، فكتب البسملة التامَّة، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو عبيد عن الشعبي. وفي الباب، عن أبي مالك أخرجه أبو داود في "مراسيله"، وميمون بن مهران، أخرجه ابن أبي حاتم، وكذا عبد الرزاق وابن المنذر، عن قتادة، كما ذكره السيوطي في "الدرّ المنثور".
(1) قوله: لعبد الله، أي هذا مكتوب لأجله أو اللام بمعنى إلى، ووصفه بعبد الله إشارة إلى أنه ينبغي له الخضوع وعدم الاغترار بالملك.
(2) سلام عليك، بالتنكير وهو والتعريف فيه متساويان، وقيل: التنكير أوْلى اقتفاءً بما في القرآن: (سلامٌ على نوح) و (سلام على إبراهيم) وغير ذلك، وقيل عند الخطاب والمشافهة التعريف أَوْلى اقتداءً بالأحاديث الواردة به.
(3) أي أُنهي (والأظهر أن يقال أحمد الله منتهياً إليك، كذا في الأوجز 15/115) إليك حمده.
(4) من الإِقرار.
(5) أي سمع ما تأمره وتنهاه، والإِطاعة فيه لقوله تعالى: (أطيعُوا اللَّهَ وأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأولي الأمرِ مِنْكُم) سورة النساء: الآية 59) .(3/414)
سُنَّةِ اللَّهِ (1) ، وسُنَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا اسْتَطَعْتُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ إِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ إِلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِصَاحِبِهِ (3) قَبْلَ نَفْسِهِ.
900 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّناد، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَارِجَةَ بن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِعَبْدِ اللَّهِ مُعَاوِيَةَ أمير المؤمنين، من زيد بن ثابت (4) .
__________
(1) قوله: على سُنَّة الله، أي على طريقته وطريقة رسوله وشريعته، أشار بذلك إلى ما ورد "لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق"، أخرج الترمذيُّ نحوَه وغيره.
(2) أي في ما قدرت (قال الباجي: على حسب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهم من قوله: "فيما استطعتم"، وأنه إذا التزم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بشرط الاستطاعة فبأن يشترط ذلك لغيره أَوْلى وأحرى. أوجز المسالك 15/264) فإن التكليف والاتِّباع ليس إلاَّ بحسب الوسع، وما هو خارج عنه.
(3) أي يذكره قبل ذكره.
(4) قوله: من زيد بن ثابت، تتمَّته: سلامٌ عليك أمير المؤمنين ورحمة الله، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاَّ هو، أما بعد: فإنك كتبتَ تسألني عن ميراث الجَدّ والإِخوة، وإن الكلالة وكثيراً مما نقضي به في هذه المواريث لا يعلم مبلغها إلاَّ الله، وقد كنا نحضر من ذلك أموراً عند الخلفاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعينا منها ما شِئنا أن نعيَ، فنحن نُفتي بعدُ من استفتانا في المواريث، كذا أورده السيوطي في "الدر المنثور"، في آخر سورة النساء مسنداً إلى رواية الطبراني عن خارجة بن زيد.(3/415)
وَلا بَأْسَ (1) بِأَنْ يَبْدَأَ الرَّجُلُ بِصَاحِبِهِ قَبْلَ نَفْسِهِ فِي الْكِتَابِ.
22 - بَابُ الاسْتِئْذَانِ (2)
901 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُليم، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يسار (3) : أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ سَأَلَهُ رجلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
__________
(1) قوله: ولا بأس، إعادة لما مرَّ تأكيداً. ومراده به بيان الجواز من غير كراهة أخذاً من فعل زيد وابن عمر وإلاَّ فالأفضل هو البداية بنفسه قبل ذكر صاحبه اقتداءً بكتاب سليمان، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى السلاطين فإنها مُصَدَّرة بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النَّجاشي وإلى كِسرى وإلى غير ذلك، بل قد وردت فيه أخبار قولية سردها السيوطي في "الجامع الصغير" وعليّ المُتَّقي في "منهج العُمَّال في سنن الأقوال"، فأخرج الطبراني في "المعجم الأوسط" عن أبي الدرداء مرفوعاً: "إذا كتب أحدكم إلى إنسان فليبدأ بنفسه وإذا كتب فليُتَرِّبْه فإنه أنجح للحاجة" وهو من التتريب أي يُلقي التراب عليه ليجفَّ وينجح، وأخرج الطبراني في "الكبير" من حديث النعمان بن بشير: إذا كتب أحدكم إلى أحد فليبدأ بنفسه، وأخرج الديلمي في "مسند الفردوس" من حديث أبي هريرة: العجم يبدأون بكبارهم إذا كتبوا فإذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه.
(2) عن عطاء بن يسار: قال ابن عبد البر: مرسل صحيح لا أعلمه يُسْنَد من وجه صحيح صالح.
(3) عن عطاء بن يسار: قال ابن عبد البر: مرسل صحيح لا أعلمه يُسْنَد من وجه صحيح صالح.(3/416)
أستأذِنُ (1) عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الرَّجُلُ: إِنِّي مَعَهَا (2) فِي الْبَيْتِ، قَالَ: استأذِن عَلَيْهَا، قَالَ: إِنِّي أخدِمُها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتُحِبُّ (3) أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟ قَالَ: لا، قَالَ: فاستَأذِنْ عَلَيْهَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. الاسْتِئْذَانُ حَسَن (4) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ عَلَى كُلِّ (5) مَنْ يَحْرُم عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَى عَوْرَتِهِ وَنَحْوِهَا.
23 - بَابُ التَّصَاوِيرِ (6) والجَرَس وَمَا يُكره مِنْهَا
902 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنْ سالم بن عبد الله، عن
__________
(1) بحذف حرف الاستفهام.
(2) قوله: إني معها في البيت، يعني أنا وأمّي يكونان في بيت واحدٍ، والاستئذان إنما شُرع في غير بيته فكأنه أراد بذكر هذا ثم بذكر خِدمته لها الاطلاع على علَّة شرعية الاستئذان في مثل هذا، أو قصد التخفيف لتعسُّر الاستئذان في كل مرة، فنبَّه النبي صلى الله عليه وسلم على علَّة شرعية بقوله: أتحبّ أن تراها - أي أمك - عريانة؟! باستفهام إنكاري، يعني إذا لم تحبه فإنْ دخلت عليها بلا إذن فلعلها عند ذلك تكون عريانة فتراها كذلك (إن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز إلاَّ أنه أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها ونحوهما، انظر الأوجز 15/124) .
(3) بهمزة الاستفهام.
(4) أي مستحب مستحسن.
(5) ولو كان من محارمه لا على زوجته وأَمَته.(3/417)
الْجَرَّاحِ (1) مَوْلَى أُم حَبيبة عَنْ أُمّ حَبِيبَةَ (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: العِيْرُ (3) الَّتِي فِيهَا جَرَس لا تَصْحَبُهَا الْمَلائِكَةُ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَإِنَّمَا رُوي (5) ذَلِكَ فِي الْحَرْبِ لأَنَّهُ يُنْذَر بِهِ العدوُّ.
903 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أخبرنا أبو النضر (6) مولى عمر بن
__________
(6) قوله: عن الجرّاح، قال القاري: بالفتح وتشديد الجيم. انتهى. وقال السيوطي في "إسعاف المبطَّأ": كنيته أبو الجرّاح، عن مولاته أم حَبيبة وعثمان، وعنه سالم وغيره، وثَّقه ابن حبان، ويقال اسمه الزبير.
(1) قوله: عن الجرّاح، قال القاري: بالفتح وتشديد الجيم. انتهى. وقال السيوطي في "إسعاف المبطَّأ": كنيته أبو الجرّاح، عن مولاته أم حَبيبة وعثمان، وعنه سالم وغيره، وثَّقه ابن حبان، ويقال اسمه الزبير.
(2) أخت معاوية أمّ المؤمنين.
(3) بالكسر أي القافلة.
(4) أي ملائكة الرحمة غير الكَتَبَة.
(5) في نسخة: نرى. قوله: وإنما رُوي ذلك، أي تعليق الجرس في أعناق الدوابّ لأنه يُنذَر - مجهول - من الإِنذار أي يُخَوَّف به العدو، فجاز ذلك بهذه النيَّة ليكون أهيبَ وأخوف في نظر الكفار، قال عليّ القاري: فيه أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقد ورد: الجرس مزامير الشيطان، رواه أحمد في "مسنده" ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة، ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة: "لا تصحبن الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس"، وأبو داود بلفظ "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه جرس".
(6) قوله: أخبرنا أبو النضر، سالم بن أبي أميَّة مولى عمر بن عبد الله بن عبيد الله، عن عبد الله بن عُتبة - بضم العين - ابن مسعود الهذلي. أنه، أي عبد الله بن عتبة هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، وفيه اختلاج من وجوه: أحدها: أن أبا النضر إنما هو مولى لعمر بن عبيد بن معمر التيمي لا لعمر بن عبد الله بن عبيد الله كما مرَّ ذكره في (باب الوضوء من المذي) . وثانيها: أن سالماً(3/418)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَهَ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ يَعُوده (1) ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ (2) سهلَ بنَ حُنَيف (3) ، فَدَعَا أَبُو طَلْحَةَ إِنْسَانًا (4) يَنزع (5) نَمَطاً تَحْتَهُ، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: لِمَ
__________
أبا النضر لم يروِ هذا الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَهَ بْنِ مَسْعُودٍ بل عن ابنه عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أحد الفقهاء السبعة. وثالثها: أن صاحب الرواية والداخل على أبي طلحة ليس هو عبد الله بن عتبة بل ابنه كما حققه ابن عبد البر (قال ابن عبد البر: لم يختلف رواة الموطأ في إسناد هذا الحديث ومتنه. وزَعَم بعض العلماء أن عبيد الله لم يلقَ أبا طلحة، وما أدري كيف قال ذلك، وهو يروي حديث مالك هذا؟ وأظنه لقول بعض أهل السِّيَر: مات أبو طلحة سنة 34 هـ، وعبيد الله حينئذٍ لم يكن ممن يصح له السماع، وهذا ضعيف، والأصح أن وفاة أبي طلحة بعد الخمسين، كذا في الأوجز 15/146) . فالصواب ما في "موطأ يحيى": مالك عن أبي النضر، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه دخل على أبي طلحة. فلعل تبديل عبيد في قوله مولى عمر بن عبيد بعبد الله تبديل عن عبيد الله بابن عبد الله، وتبديل ابن عبد الله بن عتبة بعن عبد الله من زلَّة النساخ، وفي بعض نسخ هذا الكتاب أخبرنا أبو النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود إلخ، وهذا هو الصحيح.
(1) أي لعيادته في مرضه.
(2) أي عند أبي طلحة.
(3) بصيغة التصغير.
(4) أي من خدمه.
(5) قوله: ينزع، أي ليخرج نَمَطاً كان تحته، وهو بفتح النون وفتح (في الأصل: "كسر الميم"، وهو خطأ. انظر مجمع بحار الأنوار 4/787) الميم: ضرب من البسط له خمل رقيق، قاله السيوطي.(3/419)
تنزِعُه (1) ؟ قَالَ: لأنَّ فِيهِ (2) تَصَاوِيرُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ فِيهَا مَا قَدْ علمتَ (3) . قَالَ: سهل: أوَلْم يقل إلاَّ ما كان
__________
(1) أي لأيِّ سبب تخرجه من تحتك؟.
(2) أي في ذلك النمط.
(3) قوله: ما قد علمت، من أنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة. وفي رواية عند الشيخين: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة. وعند أبي داود والنسائي وابن حبان: لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ولا جنب ولا كلب. والمراد بالجنب الذي يعتاد ترك الغسل ويتهاون به قاله الخطابي، ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان: أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلتُ إلاَّ أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قِرام - بالكسر أي ستْر - فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت فيقطع فيصير كهيأة الشجرة ومُرْ بالسِتر فيقطع فيجعل وِسادتين منبوذتين توطآن ومُرْ بالكلب فيُخرج. وفي الباب أخبار أُخَر مبسوطة في "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري وغيره، قال ابن حجر المكي الهَيْتَمي في كتابه "الزواجر عن اقتراف الكبائر": عَدُّ هذا أي تصوير ذي روح على أي شيء كان كبيرة هو صريح الأحاديث الصحيحة، ولا ينافيه قول الفقهاء: يجوز ما على الأرض وبساط ونحوهما من كل مُمْتَهَن، لأن المراد أنه يجوز بقاؤه ولا يجب إتلافه، وأما جعل التصوير لذي روح فهو حرام مطلقاً، ثم رأيت في "شرح مسلم" ما يصرح بما ذكرته حيث قال ما حاصله: تصوير صورة الحيوان حرام من الكبائر سواء صنعه لما يُمْتَهَن أو لغيره، سواء كان ببساط أو درهم أو ثوب، وأما تصوير صورة الشجر ونحوها فليس بحرام، وأما المصوَّر بصورة الحيوان فإن كان معلَّقاً على حائط أو ملبوس كثوب أو عِمامة مما لا يُمتهن فحرام، أو ممتهناً كبساط يُداس ووسادة فلا يحرم. لكن هل يمنع دخول ملائكة الرحمة ذلك البيت؟ الأظهر أنه عامّ في كل صورة. هذا تلخيص مذهب جمهور علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم كالشافعي ومالك والثوري وأبي حنيفة وغيرهم.(3/420)
رَقْماً (1) فِي ثوبٍ؟ قَالَ: بلَى (2) ، وَلَكِنَّهُ أَطْيَبُ (3) لِنَفْسِي.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. مَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَصَاوِيرَ مِنْ بِسَاطٍ يُبْسَط أَوْ فِرَاشٍ (4) يُفرَش أَوْ وِسادةٍ (5) فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ. إِنَّمَا يُكره (6) مِنْ ذَلِكَ فِي السِّتْرِ وَمَا يُنصب (7) نَصْباً. وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ من فقهائنا.
__________
(1) بالفتح أي نقشاً (نقشاً ووشياً. كذا في الأوجز 15/147) . قوله: إلاَّ ما كان رقماً، ظاهره جواز الرقم في الثوب مطلقاً وهو قول طائفة، وذهب جماعة إلى المنع مطلقاً، وقالت طائفة بالفرق بين الممتهَن والمعلَّق، وقالت جماعة: إن كانت ثابتة الشكل قائمة الهيأة حرم، وإن تفرقت الأجزاء جاز، قال ابن عبد البر: إنه أعدل الأقوال.
(2) أي قد قال ذلك وجوَّز إبقاء التصوير في البساط.
(3) من التطيب أي أطْهَر للتقوى واختيار الأولى.
(4) حرف الترديد للتنويع والتوضيح.
(5) بالكسر ما يُتَوَسَّد ويُتَّكى به.
(6) لما فيه من تعظيم الصورة.
(7) أي يُقام ويُعلَّق.(3/421)
24 - بَابُ اللَّعِب (1) بالنَّرْد (2)
904 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ مَيْسرة، عَنْ سَعِيدِ (3) بْنِ أَبِي هندٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى (4) الأَشْعَرِيِّ (5) : أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ لَعِبَ بالنَّرد فقد عصى الله ورسولَه (6) .
__________
(1) سعيد: قال السيوطي: سعيد بن أبي هند الفزاري المدني مولى سمرة، وثقه ابن حبان، مات في أول خلافة هشام.
(2) اسمه عبد الله بن قيس من أجِلَّة الصحابة، مات سنة أربع وأربعين، ذكره في "أسد الغابة" وغيره.
(3) سعيد: قال السيوطي: سعيد بن أبي هند الفزاري المدني مولى سمرة، وثقه ابن حبان، مات في أول خلافة هشام.
(4) اسمه عبد الله بن قيس من أجِلَّة الصحابة، مات سنة أربع وأربعين، ذكره في "أسد الغابة" وغيره.
(5) نسبة إلى أشعر بالفتح قبيلة باليمن.
(6) قوله: ورسوله، وفي رواية أبي داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي موسى "من لعب بالنردشير فكأنما صَبَغ يده بدم خنزير". ولمسلم وأبي داود وابن ماجه: "فكأنما غَمَسَ يده في لحم خنزير ودمه". وعند أحمد وأبي يعلى(3/422)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا خَيْرَ (1) بِاللَّعِبِ كلِّها مِنَ النَّرْد (2) والشِّطْرنج (3) وغير ذلك.
__________
والبيهقي وغيرهم: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يلعب النرد ثم يقوم يصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". وعند البيهقي، عن يحيى بن أبي كثير: مرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على قوم يلعبون بالنرد، فقال: "قلوب لاهية وأيدٍ عاملة وألْسِنة لاغية" وبهذه الأحاديث ذهب أكثر العلماء إلى كون اللعب بالنرد حراماً (وفي المحلى: وبتحريم النرد قالت الأئمة الأربعة والجمهور، وقال أبو إسحاق المروزي من الشافعية: يُكره ولا يحرم. الأوجز 15/90) ، تُرَدُّ به شهادة اللاعب. وهناك أقوال لبعض الشافعية مخالِفَةً لهذا القول قد ردَّها ابن حجر المكي في "الزواجر".
(1) قوله: لا خير باللعب كلِّها، فإنه إن كان مقامراً به فهو مَيْسِر محرَّم بالكتاب، وإن لم يكن مقامراً فهو عبث باطل لحديث: "كل لهو يُكره إلآَّ ملاعبةَ الرجل زوجتَه ومشيته بين هدفين - أي هدف السهم المرمي - وتعليم فرسه"، أخرجه ابن حبان في "كتاب الضعفاء" بسند ضعيف. وفي الباب عن عقبة بن عامر بلفظ: "ليس من اللهو إلاَّ ثلاث: تأديب الرجل فرسَه، وملاعبته مع أهله، ورميه بقوسه ونَبْله" أخرجه أصحاب السنن الأربعة وأحمد والطبراني. وعند النسائي وإسحاق بن راهويه ومعجم الطبراني من حديث جابر بن عبد الله، والبزار وابن عساكر من حديث جابر بن عميرة مرفوعاً: "كل شيء ليس من ذكر الله فهو لهو ولعب إلاَّ أربعة: ملاعبة الرجل أهلَه، وتأديب الرجل فرسَه، ومشي الرجل بين الغرضين، وتعلُّم الرجل السباحة". وعند الحاكم بسند ضعيف من حديث أبي هريرة نحوه، ذَكَرَ ذلك كلَّه الزيلعي في: نصب الراية" والعيني في "البناية".
(2) لما مر فيه من الأخبار.
(3) قوله: والشِّطرنج، بكسر الشين المعجمة، وقد يقال بكسر السين(3/423)
25 - بَابُ النَّظَرِ إِلَى اللَّعِبِ (1)
905 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أبو النَّضْر، أنه أخبره من سمع
__________
المهملة، ولا يُقال بالفتح كذا في "القاموس" وغيره، واختلفوا فيه على أقوال:
قيل: مباح لما فيه من تشحيذ الخواطر. وقيل: مكروه تنزيهاً ما لم يُقامَر به أو يُفضى إلى تضييع الصلوات، وهو الأصح عند الشافعية، وذكر الدَّميري في "حياة الحيوان أنَّ تجويزه مرويّ عن عمر وأبي هريرة وأبي اليسر والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي مجلز، وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم. وقيل: هو مكروه تحريماً إن خلا عن القمار وتضييع الصلوات، وإلاَّ فحرام، وهو مذهب أصحابنا، ونسبه الدميري إلى أحمد ومالك أيضاً. وذكر ابن حجر المكي في "الزواجر" أنَّ المنع منه مأثور عن أبي موسى الأشعري، فإنه قال: لا يلعب بالشطرنج إلاَّ خاطئ، وعن ابن عمر قال: إنه شرٌّ من الميسر، وابن عباس والنخعي ومجاهد وإسحاق بن راهويه وغيرهم. ويؤيدهم ما أخرجه الأثرم في "جامعه" بسند ضعيف من حديث واثلة مرفوعاً: إن لله في كل ثلاث مائة وستين نظرة إلى خلقه ليس لصاحب الشاه فيها نصيب، والمراد به صاحب الشطرنج لقوله شاه. وأخرج أبو بكر الآجُرِّي من حديث أبي هريرة: إذا مررتم بهؤلاء الذين يلعبون بهذه الأزلام النرد والشطرنج وما كان من اللهو فلا تسِّموا عليهم. وفي رواية: أشد الناس عذاباً يوم القيامة صاحب الشاه (انظر كنز العمال 15/40644) . وهذه الروايات على تقدير ثبوتها دالَّة على كراهة التحريمية أو الحرمة (وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريم الشطرنج وعليه الأئمة الثلاثة، وحكى البيهقي إجماع الصحابة على ذلك. وذهب الشافعي إلى كراهته تنزيهاً على الصحيح المشهور عنه ما لم يواظب عليها. انظر أوجز المسالك 15/93) . وفي المقام نظر.(3/424)
عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ (1) صوتَ أُنَاسٍ يَلْعَبُونَ (2) مِنَ الحَبَش (3) وَغَيْرِهِمْ يومَ عَاشُورَاءَ، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: أتُحِبَّن (4) أَنْ تَرَيْ (5) لَعِبَهم؟ قَالَتْ: قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فجاؤوا (6) ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) بَيْنَ النَّاسِ فَوَضَعَ كفَّه عَلَى الْبَابِ، ومَدَّ يَدَهُ (8) ، ووضعتُ ذَقني (9) عَلَى يَدِهِ، فَجَعَلُوا يَلْعَبُونَ (10) وَأَنَا أَنْظُرُ (11) ، قَالَتْ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: حسبك (12) ، قالت:
__________
(1) قوله: سمعت صوت أناس، وفي رواية: صبيان من الحبشة. وفي الحديث دليل على إباحة اللعب المباح والنظر إليه تطيباً وتشريحاً بشرط أن لا ينجرَّ إلى أمر مكروه، وشذَّ من استند لإِباحة الغناء لا سيما مع لمزامير والرقص للنساء والأمارد بهذا، وتفوَّه بأن النبي نظر إلى رقص الحبشة، وهو قول باطل قد قام لردِّه حملة الشريعة قديماً وحديثاً. ومن أراد تفصيل المرام فليرجع إلى كتاب "السماع" من إحياء العلوم وغيره.
(1) قوله: سمعت صوت أناس، وفي رواية: صبيان من الحبشة. وفي الحديث دليل على إباحة اللعب المباح والنظر إليه تطيباً وتشريحاً بشرط أن لا ينجرَّ إلى أمر مكروه، وشذَّ من استند لإِباحة الغناء لا سيما مع لمزامير والرقص للنساء والأمارد بهذا، وتفوَّه بأن النبي نظر إلى رقص الحبشة، وهو قول باطل قد قام لردِّه حملة الشريعة قديماً وحديثاً. ومن أراد تفصيل المرام فليرجع إلى كتاب "السماع" من إحياء العلوم وغيره.
(2) بالحربة وغيرها.
(3) بفتحتين جنس من السودان.
(4) بهمزة الاستفهام.
(5) في نسخة: ترين.
(6) أي قريب الدار.
(7) أي خارج باب حجرة عائشة.
(8) لزيادة الحجاب.
(9) أي من داخل الحجرة.
(10) في المسجد النبوي.
(11) إلى لعبهم.
(12) أي يكفيك، أي هل كفاكِ؟.(3/425)
وأسكتُ مَرَّتَيْنِ (1) أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ لِي: حسبُكِ، قُلْتُ: نَعَمْ. فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ فَانْصَرَفُوا.
26 - بَابُ الْمَرْأَةِ تَصِلُ (2) شَعْرَهَا بِشَعْرِ غَيْرِهَا
906 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ حُميد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عام حَجَّ (3) وهو على المنبر (4) يقول: يا أهلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ (5) - وَتَنَاوَلَ (6) قُصَّةً (7) مِنْ
__________
(1) أي لم أقرّ بالكفاية.
(2) عام حج: أي في السنة التي حجّ فيها.
(3) عام حج: أي في السنة التي حجّ فيها.
(4) أي منبر مسجد المدينة.
(5) أي أين علماؤكم العارفون بالسنن حيث لا يمنعون مِنْ مثل هذا.
(6) أي أخذ في يده.
(7) قوله: قُصّة (هي شعر الناصية والمراد قطعة من الشعر، كذا في الأوجز 15/9. وحرسيّ قال الجوهري: الحرس هم الذين يحرسون السلطان والواحد حرسي لأنه قد صار اسم جنس فنُسِب إليه. عمدة القاري 22/63) من شعر، بضم القاف وتشديد الصاد، خصلة مجتمعة من الشعور تزيدها المرأة في شعرها لتُظهر كثرتها، كانت في يد حَرَسيّ بفتحتين أي واحد من الحرس أي الخدم الذين يحرسون وفي رواية للشيخين: أنه أخرج كُبّة من شعر فقال: ما كنت أرى أحداً يفعله إلا اليهود، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور. وعند الطبراني بسند ضعيف: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً بقُصَّةٍ، فقال: إن(3/426)
شعرٍ، كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسيّ - سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ (1) بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هَذِهِ (2) نِسَاؤُهُمْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. يُكره لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ شَعْرًا إِلَى شَعْرِهَا (3) أَوْ تَتَّخِذَ قُصَّة شَعْرٍ، وَلا بَأْسَ بِالْوَصْلِ فِي الرَّأْسِ (4) إِذَا كَانَ (5) صُوفًا (6) . فَأَمَّا الشَّعْرُ مِنْ شُعُورِ النَّاسِ فَلا يَنْبَغِي (7) . وَهُوَ قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا رحمهم الله تعالى.
__________
نساء بني إسرائيل كنّ يجعلن هذا في رؤوسهن، فلُعِنّ وحُرِّم عليهن المساجد. وفي الصحيحين والسنن: قال رسول الله: لعن الله الواصلة والمستوصلة. وفي الباب أخبار كثيرة بسطها المنذري في كتاب "الترغيب والترهيب" وغيره دالّة على كون الوصل كبيرة لا يحلّ بحال وإنْ أَمَرَها زوجُها.
(1) أي بالعذاب والبلاء.
(2) أي القُصَّة.
(3) وإن لم يكن قُصَّة مجتمعة بل طاقاً مفرداً.
(4) أي في شعره.
(5) أي الموصول.
(6) أي شعر (مذهب الحنفية أن الوصل بشعر الآدمي حرام وبغيره يجوز وهو مذهب ابن عباس والليث، وحكاه أبو عبيدة عن كثير من الفقهاء وهو مؤدَّى ما رواه أبو داود عن سعيد بن جبير والإِمام أحمد، كذا في الأوجز 15/12) الضأن، وكذا غيره من الحيوانات.
(7) لحرمة استعمال جزء الآدمي لكرامته.(3/427)
27 - بَابُ الشَّفَاعَةِ (1)
907 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لكلِّ نبيٍّ دَعْوَةٌ (2) ، فَأُرِيدُ إن شاء الله أن
__________
(1) قوله: دعوة، أي دعاء مستجاب لإِهلاك قومه أو هدايتهم، أو رفع البلاء عنهم إلى غير ذلك مما ورد أن الأنبياء دعَوْا به فاستجيب لهم. وفيه إشعار بأنه لا يلزم أن يكون كل دعاء نبيّ مستجاباً.
(2) قوله: دعوة، أي دعاء مستجاب لإِهلاك قومه أو هدايتهم، أو رفع البلاء عنهم إلى غير ذلك مما ورد أن الأنبياء دعَوْا به فاستجيب لهم. وفيه إشعار بأنه لا يلزم أن يكون كل دعاء نبيّ مستجاباً.(3/428)
أختبئ (1) دعوتي شفاعةً لأُمّتي يومَ القيمة.
28 - باب الطيب للرجل (2)
908 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد: أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَتَطَيَّبُ بالمِسك المُفَتَّت (3) الْيَابِسِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بأسَ (4) بالمِسك للحَيّ وللميّت أن
__________
(1) قوله: أن أختبيء، أي أختفي وأدخّر دعائي لأمتي يوم القيامة فإنّ احتياجهم عند ذلك أكثر، وفقرهم إلى دعائي في ذلك اليوم أظهر.
(2) المفتّت: بتشديد التاء الأولى أي المكسَّر.
(3) المفتّت: بتشديد التاء الأولى أي المكسَّر.
(4) قوله: لا بأس بالمسك، بل يُستَحَبّ استعماله، بل استعمال الطيب مطلقاً حيّاً وميتاً لاستعماله من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيّاً وميّتاً، بل قد ورد أن الطيب مما لا يُرَدُّ. وفي "المقامة المسكية"، لجلال الدين السيوطي: قد طُيِّب به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حنوط عند وفاته وفَضَلت منه فضلة، فأوصى عليّ أن يُحَنَّط به تبرّكاً بفضلاته، وأوصى سلمان رضي الله عنه احتضاره أن يُرَشّ به البيت في أثر الصحيح، وقال: إنه يحضرني ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولكن يجدون الريح، وكم روينا حديثاً صحيحاً جاء فيه ذكر المسك صريحاً، من ذلك انه شبّه به دم الشهيد وخلوف فم الصائم، وجعل له عليه المزيد، وقد أمر به صلى الله عليه وسلم الحائض إذا تطهّرت واغتسلت. انتهى. وفي "حياة الحيوان" حقيقته دم يجتمع في سُرَّة الغزال أي الظبي بإذن الله في وقت معلوم من السنة بمنزلة الموادّ التي تنصبّ إلى الأعضاء، وهذه السُرّة جعلها الله معدناً للمِسك فهي تثمر في كل سنة. انتهى. وقال النووي في "شرح صحيح مسلم" عند حديث "المسك أطيب الطيب": دل الحديث على أنه طاهر، يجوز استعماله في البدن، والثوب، ويجوز بيعه، وهذا كله مُجْمَع عليه ونقل(3/429)
يَتَطَيَّبَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
29 - بَابُ الدُّعَاءِ
909 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عن أنس بم مَالِكٍ، قَالَ: دَعَا رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الَّذِينَ قَتلوا (1) أَصْحَابَ بِئْرِ مَعُونَةَ ثَلاثِينَ غَدَاةً، يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وذَكْوان وعُصَيَّة: عصتِ اللَّهَ ورسولَه. قَالَ أَنَسٌ: نَزَلَ فِي الَّذِينَ قُتلوا بِبِئْرِ مَعُونَة قرآنٌ قَرَأْنَاهُ حَتَّى نُسخ: بلِّغوا قَوْمَنَا أنَّا قَدْ لَقِينا ربَّنا ورضي الله عنا ورضينا عنه.
__________
أصحابنا عن الشيعة مذهباً باطلاً وهم محجوجون بإجماع المسلمين وبالأحاديث الصحيحة في استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. انتهى.
(1) قوله: على الذين قَتلوا، أي من المشركين. أصحاب بئر مَعُوْنة بفتح الميم وضمّ العين المهملة وسكون الواو بعدها نون، موضع بين مكة وعُسْفان، وذلك في صفر على رأس ستةٍ وثلاثين شهراً من الهجرة. ثلاثين غداةً أي صباحاً يدعو على رِعْل - بكسر الراء وسكون المهملة - بطن من بني سُلَيم، وذَكْوَان - بفتح المعجمة - بطن من بني سليم أيضاً، وعُصَيَّة - بالتصغير - عَصَتِ الله ورسولَه: أي هذه الطوائف. والحديث مروي في "صحيح مسلم" وغيره، وكانت السرِيَّة تُعرف بسرِيَّة القُرّاء (وكانت مع بني رعل وذكوان فتح الباري 7/279. وكانت هذه السرية في أوائل سنة أربع، كذا في اللامع 8/364) ، وكانوا سبعين، وقيل: أربعين، وقيل ثمانين. قال أنس: نزل في الذين قُتلوا أي في حق المقتولين قرآن أي بعض منه قرأناه أولاً ثم نُسخ أي تلاوته وهو قوله تعالى حكاية عنهم: (بلّغُوا قومنا أنا قد لقينا ربنا) ، يحتمل فاعلاً ومفعولاً ورضي عنا ورضينا عنه، كذا ذكره القاري.(3/430)
30 - بَابُ رَدِّ السَّلامِ
910 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْقَارِيُّ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ بْنِ عُمَرَ، فَكَانَ يسلِّم (1) عَلَيْهِ، فَيَقُولُ (2) : السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَيَقُولُ (3) مثلَ مَا يُقال لَهُ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا لا بَأْسَ بِهِ. وَإِنْ زَادَ الرَّحْمَةَ (4) وَالْبَرَكَةَ فَهُوَ أَفْضَلُ (5) .
911 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ الطُّفَيْلَ (6) بْنَ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ كَانَ يأتي
__________
(1) بصيغة المجهول أي يُسلِّم عليه الناس.
(2) أي المسلِّم.
(3) أي ابن عمر.
(4) بأن قال: ورحمة الله وبركاته.
(5) قوله: فهو أفضل، لقوله تعالى: (وإذا حُيِّيتُم بتحيةٍ فَحَيُّوا بأَحْسَنَ منها أو رُدُّوْهَا) (سورة النساء: الآية 86) لما ورد في الأحاديث عند أصحاب السنن مما يدلّ على فضل الزيادة.
(6) قوله: أن الطُّفَيل، بضم الطاء وفتح الفاء ابن أُبَيّ بضم الألف وفتح الباء وتشديد الياء، ابن كعب الأنصاري الخزرجي، من ثقات التابعين، ويقال: إنه وُلد في العهد النبوي وهو عزيز الحديث، وكنيته أبو بطن بالفتح، كذا ذكره ابن الأثير في "جامع الأصول".(3/431)
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، فيغدُوْ مَعَهُ (1) إِلَى السُّوقِ، قَالَ: وَإِذَا غَدَوْنا إِلَى السُّوقِ لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سقَّاطٍ (2) ، وَلا صَاحِبِ بيعٍ (3) ، وَلا مِسْكِينٍ (4) ، وَلا أحدٍ (5) إِلا سَلَّمَ عَلَيْهِ. قَالَ الطُّفَيْلُ بْنُ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ: فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا (6) فَاسْتَتْبَعَنِي (7) إِلَى السُّوقِ، قَالَ: فَقُلْتُ (8) مَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ؟ وَلا تَقِفُ (9) عَلَى الْبَيِّعِ، وَلا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ، وَلا تُسَاوِمُ بِهَا، وَلا تَجْلِسُ فِي مَجْلِسِ السُّوقِ، اجْلِسْ بِنَا ههنا
__________
(1) أي يذهب الطفيل مع ابن عمر صباحاً إلى السوق.
(2) قوله: على سقّاط، قال الزرقاني: بفتح السين وشد القاف بائع رديء الطعام، ويقال له سقطي أيضاً، والمتاع الرديء سقط والجمع أسقاط.
(3) أي مطلقاً، أيَّ بائع كان، وفي "موطأ يحيى": صاحب بيته وهو بمعناه.
(4) أي محتاج في السوق.
(5) تعميم بعد تخصيص.
(6) أي في يوم من الأيام.
(7) أي طلب مني أن أتبعه.
(8) لابن عمر.
(9) قوله: ولا تقف على البَيِّع، بفتح الباء وشد التحتية المكسورة مثل البائع، أي لا تقف على البيع لتشتري أو تبيع. ولا تسأل عن السِّلَع - بكسر ففتح - جمع سلعة: المتاع الذي في معرض البيع. ولا تساوم، من المساومة بها أي لا تسأل عن قيمة السلعة، وما يتعلق بها. ولا تجلس في مجلس السوق، أي لتنظر إلى من يمّر بها، ويعامل فيها، وإذا كان كذلك فما يُخْرِجك إلى السوق؟ بل هو عبث، اجلس بنا ههنا نتحدّث في أمور ديننا ودنيانا ولا نذهب إلى السوق.(3/432)
نَتَحَدَّثُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: يَا أَبَا بَطْنٍ وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ (1) إِنَّمَا نَغْدُوْ (2) لأَجْلِ السَّلامِ، نُسَلِّمُ (3) عَلَى مَنْ لَقِينَا.
912 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الْيَهُودَ (4) إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ: السام عليكم، فقولوا (5) : عليك.
__________
(1) أي كان بطنه عظيماً وبه كُنِّي بأبي بطن.
(2) أي نذهب إلى السوق.
(3) قوله: نسلّم على من لَقينا، أي لإِدراك هذه الفضيلة المتضمِّنة لإِنشاء السلام، وقد ورد به الترغيب الوافر، فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعاً والبخاري في "الأدب المفرد" موقوفاً: السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينكم، وإذا مرّ الرجل بالقوم فسلّم عليهم فردُّوا عليه كان له عليهم فضل درجة، وإن لم يردوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأفضل. ونحوه عند البيهقي من حديث أبي هريرة. وفي "الأدب المفرد" من حديث أنس، وعند الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة: ألا أدلّكم على أمر إذا أنتم فعلتم تحاببتم: أفشوا السلام بينكم. وقال: وفي الباب عن عبد الله بن سلام وشريح ابن هانئ عن أبيه وعبد الله بن عمرو والبراء وأنس وابن عمر.
(4) قوله: إن اليهود. وعند البخاري: إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.
(5) قوله: فقولوا عليك، بلا واو لجميع رواة الموطأ، وعند البخاري بالواو، وجاءت الأحاديث في صحيح مسلم بحذفها وإثباتها وهو أكثر. واختار ابن حبيب المالكي الحذف لأن الواو تقضي إثباتها على نفسه حتى يصح العطف، فيدخل معهم في ما دَعَوْا به، وقيل: هي للاستئناف لا للعطف، وقال القرطبي: كأنه قال: والسام عليك، والأَوْلى أن يقال: إنها للعطف غير أنّا نُجاب فيهم ولا يُجَابون كما(3/433)
913 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ وَهْبُ بْنُ كَيْسان، عَنْ مُحَمَّدِ (1) بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ يَمَانِيٌّ (2) فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، ثُمَّ زَادَ (3) شَيْئًا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا (4) قَالَ (5) ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ (6) هَذَا؟ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ (7) قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ قَالُوا: هَذَا الْيَمَانِيُّ الَّذِي يَغْشاك (8) ،
__________
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النووي: الصواب جواز الحذف، والإِثبات، وهو أجود، ولا مفسدة فيه لأن السام هو الموت، وهو علينا وعليهم، وقال عياض: قال قتادة: مرادهم بالسام السأمة أي تسأمون دينكم مصدر سئمت سامة وسآمة وسآماً مثل رضاعاً، وجاء هكذا مفسَّراً مرفوعاً، وعلى هذا فرواية حذف الواو أحسن.
(1) قوله: عن محمد بن عمرو بن عطاء، بن عباس بن علقمة العامري، القرشي، المدني، من ثقات التابعين، روى عن أبي حميد، وأبي قتادة، وابن عباس، كذا في "جامع الأصول".
(2) بفتح الياء وكسر النون وشد الياء أي من أهل اليمن.
(3) أي ذلك المسلم اليمانيّ.
(4) أي مع ذكر الرحمة والبركة.
(5) أي للناس الحاضرين في مجلسه.
(6) أي هذا المسلِّم الذي زاد على بركاته من هو؟.
(7) قوله: هو يومئذ، هذا كلام أحد من الرواة، والظاهر أنه محمد بن عمرو يعني أن ابن عباس كان قد ذهب بصره، وصار أعمى في ذلك الوقت. فلذلك سأل الناسَ عن ذلك الرجل وإلا لرآه بعينه ولم يسأل عن تشخيصه.
(8) أي يأتيك ويتردّد في مجلسك.(3/434)
فَعَرَّفُوهُ (1) إِيَّاهُ حَتَّى عَرَفَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّلامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا قَالَ السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَلْيَكْفُفْ (2) ، فَإِنَّ اتِّبَاعَ السُّنَّة أَفْضَلُ (3) .
__________
(1) أي ذكروا نَعْته ووصفه حتى عرفه.
(2) أي ليمسك عن الزيادة.
(3) قوله: فإن اتباع السنة أفضل، لأن العمل الكثير في بدعة ليس خيراً من عمل قليل في سُنّة، وظاهره أن الزيادة على وبركاته خلاف السُّنّة مطلقاً كما يفيده ظاهر قول ابن عباس ويوافقه ما في "موطأ يحيى": مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلاً سلّم على ابن عمر فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، والغاديات والرائحات (النعم الآتية غدوة وروحة. انظر الأوجز 15/119) ، فقال ابن عمر: وعليك ألفاً، ثم كأنه كره ذلك.
ويطابقه ما أخرجه البيهقي على ما ذكره في "الدر المنثور" عن عروة بن الزبير أن رجلاً سلّم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال عروة: ما ترك لنا فضلاً إن السلام انتهى إلى البركة. لكن قد ورد في بعض الأخبار المرفوعة تجويز الزيادة فعند أبي داود والبيهقي: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: السلام عليكم، فردّ عليه، فجلس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشرة، ثم جاءه آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فردّ عليه، فجلس، فقال: عشرون ثم جاء آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه فقال: ثلاثون ثم أتى آخر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فقال: أربعون، وقال: هكذا تكون الفضائل.
وفي كتاب "عمل اليوم والليلة" لابن السُنّي - قال النووي: في "الأذكار" إسناده ضعيف - عن أنس: كان الرجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم يرعى دوابّ أصحابه، فيقول: السلام عليك يا رسول الله، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته مغفرته ورضوانه، فقيل يا رسول الله تسلِّم عليّ هذا سلاماً ما تسلّمه على أحد من أصحابك، قال:(3/435)
31 - بَابُ الدُّعَاءِ (1)
914 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَقَالَ: رَآنِي ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَدْعُو (2) فَاُشير بِأُصْبُعَيَّ أُصْبُعٍ مِنْ كلِّ يدٍ فَنَهَانِيْ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ نأخذُ. يَنْبَغِي أَنْ يُشير بأصبعٍ وَاحِدَةٍ (3) . وَهُوَ قولُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
915 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يحيى بن سعيد، أنه سمع
__________
وما يمنعني من ذلك وهو ينصرف بأجر بضعة عشر رجلاً (لكن الحديث أيضاً ضعيف، فالمعروف في السنّة هو الانتهاء إلى البركة وإليه أشار الإِمام محمد، كذا في الأوجز 15/104) . فالأولى القول بتجويز ذلك أحياناً والاكتفاء على "بركاته" أكثرياً.
(1) قوله: وأنا أدعو فأشير بأصبعيّ، أي بكلا الأصبعين فنهاني عن ذلك، الظاهر أنه كان عند الإِشارة في التشهّد، فإنه يستحب فيه التوحيد، فمعنى أدعو أتشهّد، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن بشر بن حرب أنه سمع ابن عمر يقول: إنّ رفعكم أيديكم في الصلاة لبدعة، والله ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، يعني الإِشارة بأصبعه. وعن أبي هريرة: أن رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدّ أحدّ، أي أشِر بواحدة، أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي. وعلى هذا فلا يناسب إيراد هذا الأثر في هذا الباب ويحتمل أن يكون المراد الدعاء حقيقة.
(2) قوله: وأنا أدعو فأشير بأصبعيّ، أي بكلا الأصبعين فنهاني عن ذلك، الظاهر أنه كان عند الإِشارة في التشهّد، فإنه يستحب فيه التوحيد، فمعنى أدعو أتشهّد، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي شيبة، عن بشر بن حرب أنه سمع ابن عمر يقول: إنّ رفعكم أيديكم في الصلاة لبدعة، والله ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، يعني الإِشارة بأصبعه. وعن أبي هريرة: أن رجلاً كان يدعو بأصبعيه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدّ أحدّ، أي أشِر بواحدة، أخرجه الترمذي والنسائي والبيهقي. وعلى هذا فلا يناسب إيراد هذا الأثر في هذا الباب ويحتمل أن يكون المراد الدعاء حقيقة.
(3) قوله: بأصبع واحدة، قال القاري: أي حالة الدعاء مطلقاً، وكذا في التشهد عند قول أشهد أن لا إله إلا الله انتهى. ولا نعرف رفع الأصبع في حالة الدعاء مطلقاً فلْيُتأمل.(3/436)
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: إِنَّ الرَّجُلَ ليُرفَع (1) بدعاءِ وَلَده مِنْ بَعده. وَقَالَ بِيَدِهِ فرفَعَها إِلَى السَّمَاءِ.
32 - بَابُ الرَّجُلِ يَهْجُرُ (2) أَخَاهُ
916 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يَحِلُّ (3) لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثلاثِ ليالٍ (4) ، يَلْتَقِيَانِ (5) ، فيُعرض (6) هَذَا ويُعرض هَذَا، وَخَيْرُهُمُ (7) الذي يبدأ بالسلام.
__________
(1) قوله: إن الرجل ليُرفَعُ، أي في درجاته ومنزله - وإن لم يكن بالغاً إليها بعمله - بدعاء ولده له بقوله: اللهم اغفر لي، ولوالديّ، ونحو ذلك. من بعده، أي بعد موته كما ورد: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، وعلم يُنتَفَع به، وولد صالح يدعو له. أخرجه ابن ماجه وغيره. وقال بيده، أي أشار ابن المسيّب بيده فرفعها إلى السماء تفهيماً لعلو درجات الرجل. ولعليّ القاريّ في تفسير هذه الكلمة ما لا ينبغي ذكره كما لا يخفى على من راجع شرحه.
(2) لا يحل: هكذا وجدنا في نسخ هذا الكتاب، والذي في "موطأ يحيى" وغيره عن أبي أيوب: أن رسول الله قال: لا يحل إلخ.
(3) لا يحل: هكذا وجدنا في نسخ هذا الكتاب، والذي في "موطأ يحيى" وغيره عن أبي أيوب: أن رسول الله قال: لا يحل إلخ.
(4) قوله: فوق ثلاث ليال، قال القاضي: ظاهره إباحة ذلك في الثلاث لأن البشر لا بد له من غضب وسوء الخُلُق فسومح تلك المدة.
(5) جملة مستأنفه لبيان الهجر.
(6) من الإِعراض.
(7) قوله: وخيرهم، أي أفضلهما وأكثر ثواباً منها الذي يبدأ أخاه بالسلام(3/437)
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (1) الْهِجْرَةُ بين المسلمين.
__________
الذي هو جالب للمحبة، ودافع للنفرة وعند أبي داود: فإن مرت به ثلاث فلقيه فليسلم عليه، فإن ردّ فقد اشتركا في الأجر وإن لم يردّ عليه فقد باء بالإِثم، وخرج المسلم من الهجرة.
(1) قوله: لا ينبغي الهجرة (والسلام يخرج من الهجران عند مالك والأكثرين، وعند أحمد: لا بد من عودته إلى الحالة التي كان عليها أولاً. شرح الزرقاني 4/261) بين المسلمين، أي إذا كان لأمر غير ديني، وأما إذا كان كذلك فهو جائز، قال ابن عبد البر: العموم مخصوص بحديث كعب بم مالك ورفيقيه (في الأصل رفيقه هو تحريف) ، حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرهم، وأجمع العلماء على أن من خاف من مكالمة أحد وصِلته ما يفسد عليه دينه أو يدخل عليه مضرة في دنياه أنه يجوز له مجانبته وبعده، ورب هجر جميل خير من مخاطبة (هكذا في الأصل والظاهر مخالطة، كما في الأوجز 14/143) مؤذية. انتهى. وقال النووي: وردت الأحاديث بهجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنّة وأنه يجوز هجرانهم دائماً، والنهي عن الهجران فوق ثلاث ليال إنما هو لمن هجر لحظّ نفسه ومعائش الدنيا، وأما هجران أهل البدع ونحوهم فهو دائم.(3/438)
33 - بَابُ الْخُصُومَةِ فِي الدِّين (1) وَالرَّجُلُ يَشْهَدُ (2) عَلَى الرَّجُلِ بِالْكُفْرِ
917 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سعيد، أن عمر بن عزيز قَالَ: مَنْ جَعَل دِينَهُ غَرَضاً (3) لِلْخُصُومَاتِ أَكْثَرَ التنقُّل (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي (5) الخصومات في الدين.
__________
(1) غَرَضا: "نشانه"بالأردية. بفتحتين أي هدفاً لسهم الخصومة.
(2) في نسخة النقل، أي الانتقال من شيء إلى شيء.
(3) غَرَضا: "نشانه"بالأردية. بفتحتين أي هدفاً لسهم الخصومة.
(4) في نسخة النقل، أي الانتقال من شيء إلى شيء.
(5) قوله: لا ينبغي، قال القاري: لعله أراد المجادلة في أصول الدين بالأدلة العقلية مخالفاً لقواعد المجتهدين الذين مدار أمرهم على الأدِلَّة النقلية، إما(3/439)
918 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّما امْرِئٍ قَالَ لأَخِيهِ: كَافِرٌ، فَقَدْ بَاءَ (1) بِهَا أَحَدُهُمَا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسلام أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الإِسلام بِذَنْبٍ (2) أَذْنَبَهُ بكفرٍ، وإنْ عَظُم جُرمه (3) ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا.
__________
بالطرق القطعية وإما بالشواهد الظنية. انتهى. وهذا تخصيص من غير مخصص فإن المجادلة في فروع الدين أيضاً كذلك.
(1) قوله: فقد باء بها أحدهما، قال الباجي: إن كان المقول له كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن خيف على القائل أن يصير كذلك. انتهى. ومعنى باء به: رجع به أي بالكفر (كذا في الأوجز 15/266) .
(2) قوله: بذنب أذنبه، أي ارتكبه، وإن كان كبيرةً أو أكبر الكبائر أو كان ذنب عقيدة ما لم يبلغ إلى حدّ الكفر، فإن انجرَّ سوء اعتقاده إلى الكفر جاز تكفيره. ومن ثَمَّ نُقل عن السلف - منهم إمامنا أبو حنيفة - أنا لا نكفِّر أحداً من أهل القبلة، وعليه بنى أئمة الكلام عدم تكفير الروافض والخوارج والمعتزلة والمجسِّمة وغيرها من فِرَق الضلالة سوى من بلغ اعتقاده منهم إلى الكفر، وأما ما وشح به متأخِّرو الفقهاء كتبهم من أنَّ سبّ الشيخين كفر ونحو ذلك فهو من تخريجاتهم مخالفاً لسلفهم فإن لم يكن مؤوَّلاً فهو مردود.
(3) بالضمّ أي كَبُرَ ذنبه.(3/440)
34 - بَابُ مَا يُكره مِنْ أَكْلِ الثُّومِ (1)
919 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ (2) بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ (3) - وَفِي رِوَايَةٍ: الْخَبِيثَةِ (4) - فَلا يقربنَّ (5) مسجدَنا (6) ، يُؤذِينا بِرِيحِ الثُّوم.
__________
(1) قوله: عن سعيد بن المسيب، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ " عند جميعهم مرسل إلاَّ ما رواه محمد بن معمر عن روح بن عباده، عن صالح بن أبي الأخضر، ومالك عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة موصولاً. وقد وصله معمر ويونس وإبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب. قلت: رواية معمر أخرجها مسلم، ورواية إبراهيم أخرجها ابن ماجه، ورواية يونس عزاها ابن عبد البر إلى ابن وهب، وللبخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة خيبر.
(2) قوله: عن سعيد بن المسيب، قال السيوطي في "تنوير الحوالك": قال ابن عبد البر: هكذا هو في "الموطأ " عند جميعهم مرسل إلاَّ ما رواه محمد بن معمر عن روح بن عباده، عن صالح بن أبي الأخضر، ومالك عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة موصولاً. وقد وصله معمر ويونس وإبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب. قلت: رواية معمر أخرجها مسلم، ورواية إبراهيم أخرجها ابن ماجه، ورواية يونس عزاها ابن عبد البر إلى ابن وهب، وللبخاري من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غزوة خيبر.
(3) قوله: من هذه الشجرة، يعني الثُّوم. وفيه مجاز، لأنَّ المعروف لغة أن الشجر ماله ساق وما لا ساق له فنجم، وبه فسَّر ابن عباس قوله تعالى: (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ) (سورة الرحمن: الآية 6) ، كذا في "شرح الزرقاني".
(4) صفة الشجرة.
(5) بفتح الياء وتشديد النون، وفيه مبالغة فإن القرب إذا كان ممنوعاً فالدخول بطريق أَوْلى.
(6) قوله: مسجدنا، قيل: هذا خاصّ بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والجمهور على ذلك أنه عام في كل المساجد، ومعنى مسجدنا، يعني ماجد المسلمين، ويدل عليه عموم التعليل بقوله: يؤذينا بريح الثُّوم، جملة مستأنفة أو حالية، بل ورد في رواية:(3/441)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا كُرِه ذَلِكَ (1) لِرِيحِهِ، فَإِذَا أمَتَّه (2) طَبْخاً فَلا بَأْسَ (3) بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.
35 - بَابُ الرُّؤْيَا (4)
920 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ (5) يَقُولُ: سمعتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
__________
فإن الملائكة تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم، وهذا يدل على أن علَّة النهي هو الرائحة الكريهة المؤذية لأهل المسجد من بني آدم والملائكة. وبه استُدِلَّ على كراهة كلِّ ما له رائحة كريهة كالبصل والفجل والكُراث ونحو ذلك، ومثله شرب الدخان المتداول في هذه الأزمان، وتداوله بليَّة عامة شملت الخواصّ والعوامّ اختلفت فيه أقوال الكرام فمن محرَّم، ومن مبيح بلا كراهة، ومن حاكم بالكراهة تحريماً أو تنزيهاً. وقد حققت الأمر فيه رسالتي "ترويح الجنان بتشريح حكم شرب الدخان" فلتُراجع.
(1) أي أكل الثوم أو قرب المسجد بعد أكله.
(2) من الإِماتة، أي أزلته، ودفعته بالطبخ مع اللحم وغيره.
(3) قوله: فلا بأس به، لقول علي: نُهي عن أكل الثوم إلاَّ مطبوخاً أخرجه الترمذي، وذكر أنه روي مرفوعاً.
(4) أبا سلمة: ابن عبد الرحمن بن عوف.
(5) أبا سلمة: ابن عبد الرحمن بن عوف.(3/442)
يَقُولُ: الرُّؤْيَا (1) مِنَ اللَّهِ والحُلْم مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا رَأَى (2) أَحَدُكُمُ الشَّيْءَ (3) يَكْرَهُهُ فلينفُثْ (4) عَنْ يَسَارِهِ (5) ثَلاثَ مَرَّاتٍ إِذَا اسْتَيْقَظَ، وليتعوَّذ (6) مِنْ شرِّها
__________
(1) قوله: الرؤيا من الله (في المسوى، في قوله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فيه بيان أنه ليس كل ما يراه الإِنسان في منامه يكون صحيحاً، إنما الصحيح فيه ما كان من الله يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أمّ الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها، وهي على أنواع: قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإِنسان، أو يريه ما يحزنه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك بأن يبصق عن يساره، ويتعوذ بالله منه كأنه يقصد به طرده إخزاءً، وقد يكون من حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر، والعاشق يرى معشوقه، وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والرعاف والحمرة، ومن غلبه الصفراء يرى النار والأشياء الصفر، ومن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والأشياء السود، والأهوال والموت، ومن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والثلج، ولا تأويل لهذه الأشياء. أوجز المسالك 15/69) ، في رواية يحيى الصالحة، وهي صفة موضَّحة، وهي ما فيها بشارة أو تنبيه على غفلة، ومعنى كونها من الله من فضله ورحمته أو من إنذاره وتبشيره أو من تنبيهه وإرشاده. والحُلم، بضم الحاء هو لغة عامٌّ للرؤية الحسنة والسيئة غير أن الشرع خص الخير باسم الرؤيا، والشرّ باسم الحلم. من الشيطان، أي من إلقائه وتخويفه ولعبه بالنائم.
(2) أي في المنام.
(3) أي أمراً مكروهاً يحزنه.
(4) بضمّ الفاء وكسرها، وهذا لطرد الشيطان.
(5) تخصيصه لكونه جانب الشيطان.
(6) قوله: وليتعوذ من شرِّها، أي شر تلك الرؤيا يقول إذا استيقظ:(3/443)
فَإِنَّهَا (1) لَنْ تَضُرَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
36 - بَابُ جَامِعِ الْحَدِيثِ (2)
921 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (3) يَحْيَى بن سعيد، عن مُحمد بن حَبَّان، عن يحيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّان، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن بيعتين (4) ، عن لِبْستين (5) ، وَعَنْ صَلاتَيْنِ، وَعَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ، فَأَمَّا
__________
أعوذ بما عاذت به ملائكةُ الله ورسلُه من شر رؤياي هذه أنْ يصيبني فيها ما أكره في ديني أو دنياي، أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة، عن إبراهيم النخعي. وأخرج ابن السُّنِّي التعوُّذ بلفظ: اللهم إني أعوذ بك من عمل الشيطان وسيئات الأحلام. وفي "الصحيح" بعد ذكر التعوُّذ: ولا يحدث بها أحداً، وفي رواية لمسلم: وليتحول عن جنبه الذي كان عليه، وفي رواية للشيخين: فليقم فليصل.
(1) أي تلك الرؤيا.
(2) قوله: أخبرنا يحيى بن سعيد، الأنصاري، عن محمد بن حَبّان بفتح الحاء وتشديد الباء، عن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبّان، هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، والصحيح ما في بعض النسخ (ومنها النسخة التي اعتمد عليها الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف. انظر ص 238) : أخبرنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن الأعرج إلخ، كما يظهر من معاينة طرق الحديث.
(3) قوله: أخبرنا يحيى بن سعيد، الأنصاري، عن محمد بن حَبّان بفتح الحاء وتشديد الباء، عن يحيى، عن محمد بن يحيى بن حبّان، هكذا في نسخ عديدة، وعليها شرح القاري، والصحيح ما في بعض النسخ (ومنها النسخة التي اعتمد عليها الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف. انظر ص 238) : أخبرنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبّان، عن الأعرج إلخ، كما يظهر من معاينة طرق الحديث.
(4) قال ابن حجر: بفتح الباء، ويجوز الكسر على إرادة الهيأة.
(5) بكسر اللام(3/444)
الْبَيْعَتَانِ: المنابذةُ (1) وَالْمُلامَسَةُ، وَأَمَّا اللِّبْسَتَانِ: فَاشْتِمَالُ الصمَّاء وَالاحْتِبَاءُ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ كَاشِفًا عَنْ فَرْجِهِ (2) ، وَأَمَّا الصَّلاتَانِ: فَالصَّلاةُ (3) بَعْدَ الْعَصْرِ (4) حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسِ وَالصَّلاةُ (5) بَعْدَ الصُّبْحِ (6) حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَمَّا الصِّيَامَانِ فَصِيَامُ يَوْمِ الأَضْحَى (7) وَيَوْمِ الْفِطْرِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة رحمه الله.
__________
(أي عن الهيئتين من هيئات اللباس) .
(1) قوله: المنابذة والملامسة، هذان من بيوع الجاهلية، فالأول أن ينبذ أي يطرح الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ إليه الآخر من غير تأمل، ويقول كل واحد: هذا بهذا. والثاني أن يلمس الرجل ثوبه ولا يتبيَّن له ما فيه، وإنما نُهِي عنهما لكونهما من بيوع الغرر.
(2) قوله: كاشفاً عن فرجه، قيد لكل منهما لإِفادة أنَّ الصَّماء والاحتباء إنما مُنع عنهما لأجل كشف العورة، فإن أمن من ذلك فلا بأس به، وقد روى أبو داود في سننه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحِبْوَة، والإِمام يخطب، ثم ذكر أنهم كانوا يحتبون حال الخطبة، ولم يكرهها إلاَّ عبادة بن نسي، وقال الخطابي: إنما نُهي عنه حال الخطبة لأنه يجلب النوم، ويعرض طهارته للانتقاض. وقال السيوطي في "مرقاة الصعود" الحِبْوة بكسر الحاء وضمها، اسم من الاحتباء، وهو أن يضم الإِنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به مع ظهر، ويشدُّه عليه، وقد يكون باليدين عوض الثوب.
(3) أي النافلة دون القضاء.
(4) أي بعد صلاته.
(5) أي النوافل ما خلا سنَّة الفجر.
(6) أي بعد طلوع الصبح الصادق.
(7) أي يوم عيد الأضحى في ذي الحجة، ويوم الفطر في شوّال، فإنهما يوما فطر وأكل وشرب.(3/445)
922 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُخْبرٌ: أنَّ ابْنَ عُمَرَ (1) قَالَ - وَهُوَ يُوصي (2) رَجُلا -: لا تَعْتَرض (3) فِيمَا لا يَعْنِيكَ، وَاعْتَزِلْ عَدُوَّكَ، وَاحْذَرْ خَلِيلَكَ إلاَّ الأَمِينَ، وَلا أَمِينَ إلاَّ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ، ولا تصحب
__________
(1) في بعض النسخ المعتمدة مكان ابن عمر عمر، ومثله أخرجه أبو يوسف في "كتاب الخراج"، عن عمر.
(2) أي ينصح رجلاً من أحبابه وخدّامه.
(3) قوله: لا تعترض، أي لا تتعرض ولا تشتغل فيما لا يعنيك أي لا يفيدك في الدين والدنيا فإن من حسن الإِسلام تركه ما لا يعنيه، أخرجه الترمذي وغيره مرفوعاً. واعتزال من الاعتزال، عدوك، أي كن منه على حذرك ولا تخالطه فيضربك. واحذر، من الحذر بمعنى الخوف خليلك، من أن يخونك في دينك أو دنياك. ولا أمين، أي بأمانة كاملة إلاَّ من خشي الله فإن من لم يخشه لا يبالي بالخيانة. ولا تصحب فاجراً، أي فاسقاً كي لا تتعلم من فجوره، فإن الصحبة مؤثِّرة والنفس أمّارة ولذا ورد "المرء على دين خليله فلينظر من يخالل". ولا تفشِ، من الإِفشاء بمعنى الإِظهار إليه أي الفاجر. سرّك - بالكسر وتشديد الراء - لأنه غير مأمون في دينه وأمر نفسه فكيف في أمر غيره. واستشر، من الاستشارة بمعنى طلب المشورة في أمرك دينّياً كان أو دنيوياً الذين يخشون الله، فإنهم بنصحونك، ويخلصون الأمر لك، وفيه تنبيه على فضل المشورة ويؤيده قوله تعالى لنبيِّه: (وَشَاوِرْهُم في الأَمْرِ) سورة آل عمران: الآية 159) ، وقوله في وصف أصحابه: (وَأَمْرُهُمْ شُوْرَى) سورة الشورى: الآية 38) ، وأخرج الطبراني في "الأوسط"، عن أنس مرفوعاً: "ما خاب من استخار ولا ندم من استشار".(3/446)
فَاجِرًا كَيْ تتعلَّم مِنْ فُجُورِهِ، وَلا تُفشِ إِلَيْهِ سرَّك، وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْن اللَّهَ عزَّ وَجَلَّ.
923 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبير الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى (1) أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ بشِماله، وَيَمْشِيَ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ (2) الصَمَّاء أَوْ يَحْتَبِيَ في ثوب واحد، كاشفاً عن فرجه.
__________
(1) قوله: نهى أن يأكل الرجل بشماله إلخ، علَّة النهي عن الأكل بالشمال لكون الأكل من باب الإِكرام واليمين موضوعة له، وللتجنُّب عن مشابهة الشيطان، فإنه يأكل بشماله ويشرب بشماله، وأما النهي عن المشي في نعل واحدة وكذا في خفِّ واحد فقيل: لأن الشيطان يمشي كذلك، وقيل: هو إرشادي لئلاّ يكون أحد الرجلين أرفع من الأخرى فيكون سبباً للعِثَار، وقيل: لما فيه من قلَّة المروة، وقيل: غير ذلك، وثبت عند الطبراني وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا انقطع شسع نعله مشى في نعل واحدة والأخرى في يده حتى يجد شسعها، وهو محمول على بيان الجواز. وقد فصَّلت هذا البحث بما له وما عليه في رسالتي "غاية المقال في ما يتعلَّق بالنعال".
(2) قوله: وأن يشتمل الصمَّاء، بالفتح وتشديد الميم، هو أن يشتمل الرجل بالثوب الواحد على أحد شقيه فيظهر أحد شقيه ليس عليه ثوب، هذا هو تفسير مالك، وصرح به في رواية أبي سعيد الخدري، وعند اللغويين هو أن يشتمل بالثوب حتى يخلِّل به جسده، لا يرفع منه جانباً فلا يبقى ما يخرج منه يده، ولذلك سُمِّيت صمّاء لسد المنافذ كلها كالصخرة الصمّاء لا خرق فيها ولا صدع (فيكره على هذا لعجزه عن الاستعانة بيده فيما يعرض له في الصلاة كدفع بعض الهوامّ. اهـ. كذا في الأوجز 14/203) ، كذا ذكره الزرقاني.(3/447)
قَالَ مُحَمَّدٌ: يُكره لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ بِشِمَالِهِ، وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصمَّاء، وَاشْتِمَالُ الصمَّاء أَنْ يَشْتَمِلَ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ (1) ، فَيَشْتَمِلُ بِهِ (2) فَتَنْكَشِفُ عَوْرَتُهُ مِنَ النَّاحِيَةِ الَّتِي تُرفع (3) مِنْ ثَوْبِهِ، وَكَذَلِكَ الاحتباءُ (4) فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ.
27 - بَابُ الزُّهْدِ وَالتَّوَاضُعِ (5)
924 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْتِي قُبَاءَ (6) رَاكِبًا وماشياً.
__________
(1) أي واحد.
(2) بحيث يستر بدنه كله.
(3) أي تنكشف وتظهر.
(4) قوله: وكذلك الاحتباء، بأن يقعد على ألْيَتَيْه، وينصب ساقيه ملتفّاً بثوب أو بيده (كذا في شرح الزرقاني 4/277) .
(5) قوله: كان يأتي قباء، بضم القاف ممدوداً ومقصوراً أي مسجد قباء - وهو أول مسجد أُسِّس على التقوى - راكباً، أحياناً، وماشياً، أحياناً وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم فإنه كان قادراً على الركوب كل مرة فترك ذلك واختار المشي مع بعد المسافة تواضعاً.
(6) قوله: كان يأتي قباء، بضم القاف ممدوداً ومقصوراً أي مسجد قباء - وهو أول مسجد أُسِّس على التقوى - راكباً، أحياناً، وماشياً، أحياناً وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم فإنه كان قادراً على الركوب كل مرة فترك ذلك واختار المشي مع بعد المسافة تواضعاً.(3/448)
925 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حدَّثه هَذِهِ الأَحَادِيثَ الأَرْبَعَةَ، قَالَ أَنَسٌ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَهُوَ يومئذٍ (1) أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ رَقَّع بَيْنَ كَتِفَيْهِ برقاعٍ ثَلاثٍ، لَبَّد بعضَها فَوْقَ بَعْضٍ، وَقَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ رأيتُ يُطْرَحُ (2) لَهُ صاعُ تمرٍ فَيَأْكُلُهُ (3) حَتَّى يَأْكُلَ حَشَفَه (4) ، قَالَ أَنَسٌ: وَسَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يوماً، و (5) خرجت معه (6) حتى دخل
__________
(1) قوله: وهو يومئذٍ، أي يوم رؤيتي على الحالة المذكورة. أمير المؤمنين وخليفة رسول الله في الأرضين، ومع هذا السلطان والجاه اختار التواضع والزهد في اللبس وغيره لله. رأيته قد رقَّع من الترقيع ماضٍ معروف كما اختاره القاري، أو كنفع أي جعل رقعة مكان قطع الثوب كما اختاره الزرقاني (4/279، وفي المحلى: وروي أنه رضي الله عنه خطب وهو خليفة وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة. كذا في الأوجز 14/208) . بين كتفيه، أي في ثوبه وقميصه في المقام الذي بين كتفيه برقاع ثلاث بالكسر، وفي بعض الروايات برُقَع بالضم ثم الفتح كل منها جمع رقعة بالضم، وهي قطعة من الثوب وغيره تخاط أو تلزق مكان قطع الثوب. لبَّد، من التلبيد أي ألزق بعضها ببعض وجعل فوق بعض لأن المقصود كان هو الستر لا الفخر حتى تصلح الخياطة وترفق الرقعة.
(2) بصيغة المجهول أي يلقي بين يديه.
(3) لكمال تواضعه وحذره عن صنيع أرباب الفخر من أكل النقيّ، وترك الرديء.
(4) بفتحتين أي رديء التمر ويابسه.
(5) حالية.
(6) أي عمر.(3/449)
حائطاً (1) ، فسمعته يقول (2) : و (3) بيني وَبَيْنَهُ جِدَارٌ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْحَائِطِ: عُمر بْنُ الْخَطَّابِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بخٍ بخْ وَاللَّهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ لتتَّقِيَنَّ اللَّهَ أَوْ ليُعذِّبنَّك، قَالَ أَنَسٌ: وَسَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وسلَّم (4) عَلَيْهِ رَجُلٌ، فردَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، ثُمَّ سَأَلَ (5) عُمَرُ الرجلَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: أحمَد اللَّهَ إِلَيْكَ، قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هذه أردتُ منك.
__________
(1) أي بستاناً.
(2) قوله: فسمعته يقول: أي يخاطب نفسه ويعاتبها، فيقول عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وخليفتهم ورأسهم وناظم أمورهم، بَخٍ بَخْ، أي عظم الأمر، وفخم، الأول منون، والثاني مسكَّن - وجاء تسكينهما وتشديدهما - كلمة تقال عند الرضى والتعجب بالشيء كذا في "القاموس". والله يا ابن الخطاب خاطَبَ نفسه، لتتقيَنَّ الله أي تخافه، وتحذر عقابه، في أمور نفسه ومن هو أميره، أو ليعذبَنَّك الله، فلا تغترَّ بالخلافة فإنها ناجية إذا اتصلت بالتقوى وهالكة إذا انضمت مع الهوى (وفي المحلى: إذا كان مثل عمر رضي الله عنه يقول ذلك من الخوف، فغيره أولى بذلك فلا يأمن مكر الله إلاَّ القوم الخاسرون. كذا في الأوجز 15/315) .
(3) أي والحال أن بيني وبينه جدار البستان أنا خارجه وهو داخله.
(4) جملة حالية.
(5) قوله: ثم سأل عمر الرجل، من كمال تواضعه وحسن خُلُقه: كيف أنت؟ أي كيف حالك؟ فقال الرجل: أحمد الله إليك أي حمداً منتهياً إليك، قال عمر: هذه أي هذه الكلمة المتضمنة لحمد الله أردت منك بسؤالي عنك. قال الزرقاني: قد وافق عمر المصطفى في ذلك، فأخرج الطبراني بسند حسن عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: كيف أصبحتَ يا فلان؟ فقال: أحمد الله إليك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك الذي أردتُ منك.(3/450)
926 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الخطاب يبعث (1) إلينا بأحِظَّائنا من الأَكارع والرؤوس.
927 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ: خَرَجْتُ (3) مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ (4) ، حَتَّى إِذَا دَنَا (5) مِنَ الشَّامِ أَنَاخَ عمر، وذهب
__________
(1) قوله: كان عمر بن الخطاب يبعث إلينا، أي إلى أمهات المؤمنين.
بأحظَّائنا، أي حظوظنا وأنصبائنا. من الأكارع والرؤوس، أي أكارع الغنم ورؤوسها عند ذبحها. والمعنى أنّا نأكل منها ولا نرغب عنها لزهدنا في الدنيا ورغبتنا في العقبى، كذا قال القاري. والأكارع بفتح الهمزة جمع كُراع بالضم، وهي أطراف الشاة من الأيدي والأرجل، والحظ بالفتح والتشديد جمعه حظوظ، وحِظّاء بالكسر والتشديد ذكره في "القاموس" وغيره.
(2) أي ابن محمد بن أبي بكر الصديق.
(3) أي في زمان خلافته.
(4) أي يقصد عمر بلاد الشام ويسافر إليه.
(5) قوله: حتى إذا دنا، أي قرب من الشام أناخ أي أجلس عمر بعيره. وذهب لحاجته، قضاء حاجته، قال أسلم: فطرحت فَرْوتي - بالفتح - أي ألقيت فروتي الذي كنت ألبسه. بين شِقَّيْ، بالكسر طَرَفَيْ رَحْلي، بالفتح أي رحل بعيري، فلما فرغ عمر من قضاء الحاجة عمد أي قصد لغاية تواضعه إلى بعيري الذي كان عليه الفروة، فركبه على الفرو الذي كان عليه، وركب أسلم مولاه على بعيره أي سيده عمر، فخرجا يسيران إلى الشام على تلك الهيئة حتى لقيهما(3/451)
لِحَاجَةٍ (1) ، قَالَ أَسْلَمُ: فَطَرَحْتُ فَرْوَتي بَيْنَ شِقَّي رَحْلي، فَلَمَّا فَرَغَ عُمَرُ عَمَدَ إِلَى بَعِيرِي فَرَكِبَهُ عَلَى الْفَرْوَةِ وَرَكِبَ أَسْلَمُ بعيرَه، فَخَرَجَا يَسِيرَانِ حَتَّى لَقِيَهُمَا أَهْلُ الأَرْضِ، يتلقَّوْن (2) عُمَرَ، قَالَ أَسْلَمُ: فَلَمَّا دنَوْا مِنَّا أشَرْتُ لَهُمْ إِلَى عُمَرَ، فَجَعَلُوا يَتَحَدَّثُونَ بَيْنَهُمْ، قَالَ عُمَرُ: تطمَحُ أبصارُهم إِلَى مراكبِ مَن لا خَلاقَ لَهُمْ، يُرِيدُ (3) مَرَاكِبَ الْعَجَمِ.
928 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْكُلُ خُبْزًا مَفْتُوتًا (4) بِسَمْنٍ، فَدَعَا (5) رَجُلا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَجَعَلَ (6) يَأْكُلُ ويتَّبعُ (7) بِاللُّقْمَةِ وَضَرَ الصحفة، فقال له عمر:
__________
أهل الأرض أي سُكَّان الشام يستقبلونه ويلاقونه، فلما دَنَوْا أي قربوا منا أشرت لهم إلى عمر أنه هو الراكب على الفرو لئلا يظنوا المولى عبداً والعبد سيداً لاختلاف المركبين، فجعلوا أي أهل الشام يتحدَّثون بينهم تعجُّباً من صنيع عمر وتواضعه وهو أمير المؤمنين. قال عمر لمّا رأى تحدّثهم وتعجبهم: تطمح أي تقع وتطرح أَبْصَارُهُمْ إِلَى مَرَاكِبِ مَنْ لا خَلاقَ لَهُمْ أي لا نصيب لهم من ملوك العجم الكفرة ككسرى، وقيصر، فكانوا يظنون أن مركب أمير المؤمنين مثل مراكبهم في الفخر والزينة والشهرة.
(1) في نسخة: لحاجته.
(2) في نسخة: يبتغون.
(3) أي يقصد عمر من قوله: من لا خلاق لهم.
(4) من فتّ الخبز إذا كُسر إلى قطعات.
(5) أخبرنا مالك، ليأكل معه.
(6) ذلك الرجل.
(7) قوله: ويتّبع، بشد الفوقية باللقمة أي لقمة الخبز. وَضَر الصحفة(3/452)
كَأَنَّكَ مُفْقِرٌ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ سَمْنًا وَلا رَأَيْتُ أَكْلا بِهِ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا آكُلُ السَّمْنَ حَتَّى يُحيي الناسُ مِنْ أَوَّلِ مَا أُحْيَوا.
38 - بَابُ الْحُبِّ فِي اللَّهِ
929 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَّى السَّاعَةُ (1) ؟ قَالَ (2) : وما أعدّدْتَ لها؟ قال:
__________
- بالفتح - أي القصعة وهو بفتح الواو وفتح الضاد المعجمة بعده راء مهملة. الوسخ أي وسخ القصعة وما تعلق به من أثر السمن. فقال له عمر، لذاك الرجل البادي: كأنك مُفْقِرٌ، بضم الميم وكسر القاف أي ذا فقر واحتياج حيث تتّبع وسخ الإِناء فلعلك لا تجد إداماً وفي بعض النسخ: مقفر بتقديم القاف، والقفر الخالي. قال ذلك الرجل: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ سَمْنًا وَلا رَأَيْتُ أَكْلا به أي بالسمن منذ كذا وكذا، أي من مدة ذكرها، فقال عمر، بكمال تواضعه وحسن مرافقة وموافقة رعيته لمّا سمع أن في رعيته من لا يتيسّر له أكل السمن مدة مديدة، وكانت تلك السنة سنة قحط وجدب: لا آكل السمن حتى يُحيى - مجهول - من الإِحياء، الناس أي يعيش الناس عيشاً طيباً. من أول ما أُحْيَوا، أي كما كانوا يحيون سابقاً أي حتى يحصل لهم المطر والخصب ويتيسّر لهم الرزق والإِدام.
(1) أي في أي وقت تقوم القيامة.
(2) قوله: قال: وما أَعْدَدتَ لها، أي ما هَيأْت للساعة من الأعمال الصالحة حيث تشتاق إليها، وتسأل (هذا الرجل هو ذو الخويصرة اليماني الذي بال في المسجد، كذا في فتح الباري 10/555) عن وقتها.(3/453)
لا شَيْءَ (1) ، وَاللَّهِ إِنِّي لَقَلِيلُ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَإِنِّي لأحبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ (2) : إِنَّكَ مَعَ مَنْ أحببتَ.
39 - بَابُ فَضْلِ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ
930 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا أبو الزِّناد (3) ، عن الأعرج، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ (4) بالطّوَّاف الَّذِي
__________
(1) أي ما هيّهات لها شيئاً من الطاعات.
(2) قوله: قال، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك مع من أحببت، يعني إن حبَّك في الله بلّغك إلى مرافقة من تُحِبُّه، وإن كنتَ قليل العمل، وفي معناه ما ورد: "المرء مع من أحبّ: أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم، وشاهده قوله تعالى: (ومن يُطع الله والرسولَ فأولئكَ مَعَ الذِين أنْعَمَ الله عَليهِم مِن النَّبِيِّين والصِّدِيقين والشُّهَداءِ والصَّالِحِين وحَسُنَ أولئك رَفِيْقَا) سورة النساء: الآية 69) .
(3) عبد الله بن ذكوان.
(4) قوله: ليس المسكين (قيل: في الحديث حجة لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك أن المسكين هو الذي لا يملك شيئاً وأنه أسوء حالاً من الفقر، كذا في الأوجز 14/254) ، أي المسكين الكامل في المسكنة الذي يربو الصدقة عليه ويضاعف لها ثواباً. ليس بالطّوَّاف، بصيغة المبالغة أي كثير الطواف والدور على الناس للسؤال فيعطيه واحد لقمة وآخر لقمتين فيرجع، بل الكامل في المسكنة هو الذي ليس عنده ما يكفيه ويغنيه إلاّ أنه لتعفُّفه وترك سؤاله وإلحاحه. لا يُفطن، أي لا يُعلم مسكنته. ولا يقوم يسأل الناس، بل هو مُنْزَوٍ في بيته قانع صابر معتمد على ربه، فهذا المسكين الذي إذا أُعطي أصاب المعطي ثواباً مضاعفاً.(3/454)
يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تردُّه اللقمةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا (1) : فَمَا (2) الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي مَا عِنْدَهُ مَا يُغْنيه وَلا يُفطَن (3) لَهُ فيُتصدَّق عَلَيْهِ (4) ، وَلا يَقُومُ (5) فَيَسْأَلُ النَّاسَ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا (7) أحقُّ بِالْعَطِيَّةِ، وَأَيُّهُمَا أعطيتَه زَكَاتَكَ أَجْزَاكَ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا.
931 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا زيد بن أسلم، عن معاذ (8) بن
__________
(1) أي الصحابة الحاضرون.
(2) في رواية: فمن.
(3) بصيغة المجهول.
(4) أي لا يعلم أنه مسكين حتى يُتصدَّق عليه - بصيغة المجهول - لعدم اطلاع الناس على حاله.
(5) أي من بيته.
(6) قوله: فيسأل الناس، برفع المضارع في الموضعين عطفاً على المنفي أي لا يفطن فلا يتصدق عليه، ولا يقوم فلا يسأل الناس، أو بالنصب فيهما بأن مضمرةً جواباً للنفي، قاله بعض شراح "المصابيح".
(7) قوله: هذا، يعني ليس الغرض من الحديث نفي المسكنة عن السائل الطوّاف وحصره على المتعفف حتى لا يجزئ أداء الزكاة وغيرها إلى الطوّاف، بل الغرض منه أن هذا أحق بالعطية، وثواب الصدقة عليه أكثر، وأيّهما - طوّافاً كان أو غيره - أعطيت زكاته أجزأ لكون كل منهما من أفراد مطلق المسكين.
(8) قوله: عن معاذ بن عمرو بن سعيد، عن معاذ، عن جدّته، هكذا في نسخ متعددة، والصواب ما في "موطأ يحيى" وشرحه: مالك عن زيد بن أسلم العدوي، عن عمرو - بفتح العين - بن سعد بن معاذ نسبة إلى جدّه، إذ هو(3/455)
عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُعَاذٍ؟، عَنْ جَدَّتِهِ: أن رضي الله عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ (1) ، لا تحقِرَنّ (2) إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُراع شاة مُحرق.
932 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن أبي بُجَيْد (3)
__________
عمرو بن معاذ بن سعد بن معاذ الأشهلي، المدني يكنى أبا محمد، وقلبه بعضهم فقال: معاذ بن عمرو وهو تابعي، ثقة، عن جدّته، قال ابن عبد البر: قيل اسمها حواء بنت يزيد بن السكن، وقيل: إنها جدة ابن بجيد أيضاً صحابية مدنية.
(1) قوله: يا نساء (وروي بضم الهمزة منادى مفرد، والمؤمنات: صفة له، فيُرفع على اللفظ وبنصب بالكسر على المحل، ولا تحقرن: نهي يحتمل أن يكون للمهدية أو المهدي إليها. والكراع بالضم: ما دون العقب من الرجل للمواشي والدواب وهو مؤنث. ولعل تذكيره لغة "شرح الزرقاني " 4/421) المؤمنات، بإضافة العام إلى الخاص، وفي رواية يا نساء المؤمنات بالرفع. لا تحقرن إحداكن، يُحتمل أن يكون نهياً للمُهْدى إليها، وأن يكون نهياً للمهدية لجارتها أي لا تستنْكِفَنّ من إهداء شيء حقير أو قبوله. ولو كان كُراع شاة بالضم ما دون العقب من المواشي والدواب. محرق، نعت لكراع، والمراد به المبالغة في إهداء شيء وقبوله من غير استنكافه بسبب قِلّته أو حقارته، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره.
(2) بنون التوكيد.
(3) قوله: عن أبي بُجَيد، بضم الباء وفتح الجيم، وفي نسخة ابن بجيد، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى" وغيره، الأنصاري، ثم الحارثي نسبة إلى بني حارثة بطن من الخزرج من الأنصار عن جدّته هي أم بجيد مشهورة بكنيتها، واسمها حَوّاء بفتح الحاء وتشديد الواو، بنت يزيد بن السكن، قال ابن حجر في "تعجيل المنفعة في رجال الأربعة": اتفق رواة الموطأ على إبهام ابن بجيد إلا يحيى بن(3/456)
الأَنْصَارِيِّ ثُمَّ الْحَارِثِيِّ، عَنْ جَدَّتِهِ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: رُدُّوا (1) الْمِسْكِينَ وَلَوْ بظِلْفٍ (2) مُحرقٍ.
933 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سُمَيّ (3) عَنْ أَبِي صَالِحٍ (4) السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينما رجل (5) يمشي
__________
بكير فقال: عن محمد بن بجيد، وبه جزم ابن البرقي فيما حكاه أبو القاسم الجوهري في "مسند الموطأ"، ووقع في أطراف المِزِّي أن النسائي أخرجه من وجهين: عن مالك عن زيد، عن عبد الرحمن بن بجيد ولم يترجم في "التهذيب" لمحمد بل جزم في "مبهماته" أنه عبد الرحمن، وليس بجيد فإن النسائي إنما رواه غير مسمّى كأكثر رواة الموطأ، ومستند من سمّاه عبد الرحمن ما في السنن الثلاثة عن الليث عن سعيد المقبري عن عبد الرحمن بن بجيد، ولا يلزم من كون شيخ المقبري عبد الرحمن أن لا يكون شيخ زيد بن أسلم فيه آخر اسمه محمد، كذا في "شرح الزرقاني ".
(1) أي أعطوه.
(2) قوله: ولو بظِلف (قال الباجي: حضّ بذلك صلى الله عليه وسلم على أن يعطي المسكين شيئاً، ولا يرده خائباً، وإن كان ما يعطاه ظلفاً محرقاً، وهو أقل ما يمكن أن يعطي، ولا يكاد أن يقبله المسكين، ولا ينتفع به إلا وقت المجاعة والشدة. المنتقى 7/234) ، قال القاري: بالكسر للبقر والغنم، كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير. محرق، على النعت، والمراد به المبالغة على إعطاء السائل أو محمول على أيام القحط الكامل.
(3) بالتصغير.
(4) اسمه ذكوان، وكان بائع السمن فلقب سمّاناً بالفتح وتشديد الميم.
(5) قال الحافظ: لم يسم.(3/457)
بِطَرِيقٍ (1) فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا، فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ (2) ، فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ (3) يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ فَقَالَ (4) : لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ (5) الَّذِي بَلَغَ بِي، فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ (6) خُفّه (7) ثُمَّ أَمْسَكَ (8) الخُفَّ بِفِيه حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ، فَشَكَرَ الله له
__________
(1) قوله: بطريق، وعند الدارقطني يمشي بطريق مكة، وفي رواية له: يمشي بفلاة.
(2) أي من البئر.
(3) قوله: يلهث يأكل الثرى، بفتح الأول مقصوراً التراب النديّ، واللهث شدة توتر النفس من تعب وغيره، ويقال: لهث الكلب لسانه إذا أخرجه من شدة العطش، كذا في "النهاية" وغيره.
(4) أي ذلك الرجل في نفسه.
(5) قوله: مثل الذي، ضبطه بعضهم بالنصب، وفاعل بلغ الكلب أي بلغ مبلغاً مثل الذي بلغ بي، وبعضهم بالرفع على أنه فاعل والكلب مفعول.
(6) أي من الماء.
(7) بالضم وتشديد الفاء "موزه" (باللغة الأردية) .
(8) قوله: ثم أمسك الخف، أي رأسه بفمه ليصعد من البئر لعُسر الرقيّ من البئر، حتى رَقِيَ - بفتح الراء وكسر القاف - أي صعد من البئر، فسقى الكلب أي ذلك الماء، زاد في رواية الصحيحين: فأرواه أي جعله ريّاناً. فشكر الله له، أي قبل عمله واستحسنه، ورضي منه، فغفر له تجاوز عن سئاته وأدخله الجنة. واستشكل سقيه الكلب من خفِّه بأن سؤر الكلب ولعابه نجس فيلزم تنجُّس خفّه(3/458)
فَغَفَرَ لَهُ، قَالُوا (1) : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ (2) لأَجْرًا؟ قَالَ: فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِد (3) رَطْبَةٍ (4) أَجْرٌ.
40 - بَابُ حَقِّ الْجَارِ
934 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، أَنَّ عَمْرة حدَّثته: أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا زَالَ جَبْرَئِيلُ يُوصيني بِالْجَارِ (5) حتى ظننتُ (6) لَيُوَرِّثَنَّه (7) .
__________
وأجيب بأنه يجوز أن يكون خارج البئر إناء فأخرج الماء بالخف، وجعله فيه وسقاه منه، وعلى تقدير التسليم إنما بعثه على ذلك الضرورة والشفقة، وغسل الخف بعده ممكن. هذا كله على تقدير ثبوت نجاسة لعاب الكلب في الأديان السابقة أيضاً وإلا فلا إشكال.
(1) قوله: قالوا، أي الصحابة الحاضرون، سُمِّي منهم سراقة بن مالك عند أحمد.
(2) أي في الإِحسان إليها.
(3) بالفتح ثم الكسر.
(4) قوله: رطبة، أي برطوبة الحياة يعني في الإِحسان إلى كلّ ما له حياة أجر، قيل: هذا في بني إسرائيل، أما في إلإِسلام فهو مخصص بما لم يؤمَر بقتله وإهلاكه كالكلب والخنزير، ورُدّ بأنه لا حاجة إليه فإن الأمر بالقتل لا يستلزم أن لا يكون في الإِحسان إليه أجراً.
(5) أي، بالشفقة والإِحسان به.
(6) أي ظننت بكثرة وصيّته وشدّة اهتمامه أنه يجعله وارثاً.
(7) في نسخة: لَيورثّه.(3/459)
41 - بَابُ اكْتِتَابِ الْعِلْمِ (1)
935 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم: أن انْظُرْ (2) مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ سُنَّتِهِ (3) أَوْ حَدِيثِ عُمَرَ أَوْ نَحْوِ هَذَا (4) فَاكْتُبْهُ لِي (5) فإني قد خفت
__________
(1) أن انظر: بيان لما كتبه أي تأمل وتفكر ما وصل إليك أو في روايتك من الأحاديث.
(2) أن انظر: بيان لما كتبه أي تأمل وتفكر ما وصل إليك أو في روايتك من الأحاديث.
(3) أي طريقته المروية تقريراً أو بلاغاً.
(4) من أحاديث بقية الخلفاء وغيرهم.
(5) قوله: فاكتبه لي هذا أصل في كتابة العلم والشريعه وفي رواية أبي نعيم في" تاريخ أصبهان" عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب إلى أهل الآفاق انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه وذكره البخاري في صحيحه تعليقا فيستفاد منه كما أفاده الحافظ ابتداء تدوين الحديث النبوي وقال الهروي في" ذمّ الكلام" لم تكن الصحابة والتابعون يكتبون الأحاديث إنما كانوا يؤدونها حفظا ويأخذونها لفظاً إلا كتاب الصدقات والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الإستقصاء التام حتى خيف على عمر بن عبد العزيز الدروس وأسرع الموت في العلماء فأمر أبا بكر بن محمد بالكتابة كذا في" إرشاد الساري" ومما يُستدلُ به في الباب قول أبي هريرة ما من أصحاب رسول الله أحد أكثر حديثا مني عنه إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب وأنا لا أكتب أخرجه البخاري(3/460)
دُرُوسَ (1) الْعِلْمِ وَذَهَابَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَلا نَرَى بِكَتَابَةِ الْعِلْمِ بَأْسًا (2) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
42 - بَابُ الْخِضَابِ (3)
936 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنَا محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بن
__________
والترمذي وغيرهما وكذا ما أخرجه البخاري وغيره في حديث طويل أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ خطبة بمكة فقال رجل من اليمن يقال له أبو شاه: اكتبه لي يا رسول الله فقال: اكتبوا لأبي شاه. وكذا ما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأخمد وغيرهم من أنه سُئِلَ عليٌّ: هل عندكم كتاب فقال: لا إلا كتاب الله أو ما في هذه الصحيفة فأخرج صحيفة فيها بعض أحكام الدية ونحو ذلك فنهذه الأخبار والآثار أجاز الجمهور كتابة العلم وتدوينه لا سيما إذا خاف ذهاب العلم فحينئذ يكون واجبا وقد كان الصحابة ومن قَرُبَ منهم مستغنين عن ذلك غير معتادين لذلك لاعتمادهم على حفظهم وكثرة حملة العلم فيهم فلما صار الأمر إلى ما صار احتيج إلى الكتابة إبقاءً للشريعة.
(1) بالضم أي اندراس العلم بموت العلماء.
(2) قوله بأسا وقد ورد عن أبي سعيد: استأذنّا عن رسول الله في الكتابة فلم يأذن لنا. وهو محمول على أول الأمر لما يُخاف باختلاطه بكتاب الله أو على عدم الضرورة بدليل ما عن أبي هريرة: كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله فيسمع منه الحديث فيعجبه ولا يحفظ فشكاه ذلك إليه فقال رسول الله: استعن بيمينك. وأومأ بيده للخط أخرجهما الترمذي.(3/461)
عَبْدِ يغُوث كَانَ جَلِيسًا (1) لَنَا، وَكَانَ أَبْيَضَ (2) اللِّحْيَةِ وَالرَّأْسِ، فَغَدَا (3) عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، وَقَدْ حَمَّرَهَا، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ: هَذَا (4) أَحْسَنُ، فَقَالَ: إِنَّ أُمِّي (5) عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ الْبَارِحَةَ (6) جاريتَها نُخَيْلةَ (7) فأقسمَتْ (8) عَلَيَّ لأَصْبِغَنَّ، فَأَخْبَرَتْنِي (9) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه كان يصبغ (10) .
__________
(3) جليسا: أي مجالساً ومصاحباً.
(1) جليسا: أي مجالساً ومصاحباً.
(2) أي كان شعر لحيته ورأسه أبيض.
(3) قوله: فغدا عليهم، أي فمرّ عبد الرحمن عليهم يوماً من الأيام صباحاً، وقد جعلها أحمر وصبغها بالحمرة.
(4) أي هذا اللون أحسن بالنسبة إلى البياض.
(5) قوله: إن أمي، أطلق عليها أمّ لأنها أم المؤمنين، قال الله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم) .
(6) أي في الليلة الماضية.
(7) قوله: نُخَيْلة، بضم النون وفتح الخاء معجمة عند يحيى وغيره، ومهملة عند البعض، وسكون التحتية، اسم جارية لعائشة، قاله الزرقاني.
(8) أي عائشة أو نخيلة من جانب عائشة.
(9) أي عائشة بواسطة أو نخيلة عنها.
(10) قوله: كان يصبغ، قال الزرقاني: قال مالك: في هذا الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصبغ ولو صبغ لأرسلت بذلك عائشة إلى عبد الرحمن بن الأسود مع قولها إن أبا بكر كان يصبغ أو بدونه، وقد أنكر أنس كونه صلى الله عليه وسلم صبغ. وقال ابن عمر: إنه رآه يصبغ بالصفرة. وقال أبو رمثة: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أخضران وله شعر قد علاه الشيب وشيبه مخضوب بالحناء. رواه الحاكم وأصحاب السنن.(3/462)
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِالْخِضَابِ بالوَسَمة (1) وَالْحِنَّاءِ (2) والصُّفْرة
__________
وسئل أبو هريرة: هل خضب رسول الله؟ قال: نعم. رواه الترمذي. وجُمع بأنه صبغ في وقت وترك في معظم الأوقات فأخبر كلٌ بما رأى.
(1) قوله: بالوَسَمة، بفتحتين، وبفتح الأول وسكون الثاني، وبكسره أيضاً على ما في "القاموس" و "المغرب"، هو ورق النيل، والخضاب به صرفاً لا يكون سواداً خالصاً بل مائلاً إلى الخضرة، وكذا إذا خلط بالحناء وخضب به، نعم لو خضب الشعر أوّلاً بالحنّاء صِرفاً ثم الوسمة عليه يحصل السواد الخالص فيكون ممنوعاً كما سيأتي ذكره.
(2) قوله: والحِنّاء، بكسر الحاء وتشديد النون، ورق معروف يخضب النساء به أيديهن وأرجلهن، ويكون لونه أحمر. والصفرة بالضم أي غير الزعفران فإنه مكروه للرجال. بأساً أي خوفاً وضيقاً ففي "مسند أحمد" عن أبي أمامة مرفوعاً: يا معشر الأنصار حمِّروا أو صفِّروا وخالِفُوا أهل الكتاب. وإن تركه أبيض من غير خضاب فلا بأس، وأما الخضاب بالسواد الخالص فغير جائز لما أخرجه أبو داود (أخرجه أبو داود في سنن رقم 4212 باب الترجل، ويقول المنذري كما في درجات مرقاة الصعود ص 171: أخرجه النسائي وفي إسناده عبد الكريم ولم ينسبه أبو داود، ولا النسائي وذكر بعضهم أنه عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري والصواب أنه عبد الكريم بن مالك الجزري وهو من الثقات اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه، فالحديث صحيح مختصراً) ، والنسائي وابن حبان، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد عن ابن عباس مرفوعاً: يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام (دانه دان سينهائى كبوتران بالفارسية) ، لا يريحون رائحة الجنة. وجنح ابن الجوزي في "العلل المتناهية" إلى تضعيفه مستنداً بما رُوي أن سعداً والحسين بن عليّ كانا يخضبان بالسواد، وليس بجيد(3/463)
بَأْسًا، وَإِنْ تَرَكَهُ أَبْيَضَ فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ، كلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ (1) .
43 - بَابُ الْوَلِيِّ (2) يَسْتَقْرِضُ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ
937 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ (3) إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي (4) يَتِيمًا وَلَهُ إِبِلٌ فَأَشْرَبُ (5) مِنْ لَبَنِ إِبِلِهِ؟ قَالَ لَهُ ابن عباس:
__________
فلعله لم يبلغهما الحديث، والكلام في بعض رواته ليس بحيث يُخرجه عن حيز الاحتجاج به، ومن ثمَّ عدّ ابن حجر المكي في "الزواجر" الخضاب بالسواد من الكبائر ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعاً: من خضب بالسواد سودّ الله وجهه يوم القيامة، وعند أحمد: وغيِّروا الشيب ولا تقربوا السواد. وأما ما في "سنن ابن ماجه" مرفوعاً: إن أحسن ما اختضبتم به هذا السواد أرغب لنسائكم وأهيب لكم في صدور أعدائكم، ففي سنده ضعفاء فلا يُعارِض الروايات الصحيحة، وأخذ منه بعض الفقهاء جوازه في الجهاد.
(1) أي من الخضاب والترك.
(2) رجل: في رواية: أعرابي. قد أخرج هذه القصة سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس أيضاً.
(3) رجل: في رواية: أعرابي. قد أخرج هذه القصة سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والنحاس أيضاً.
(4) أي في تربيتي وحفظي.
(5) قوله: فأشرب من لبن إبله، يحتمل أن يكون خبراً وأنْ يقدَّر استفهاماً (كما في نسخة يحيى: أفأشرب) وعلى كلّ تقدير فمراده الاستفتاء، قال له ابن عباس. إنْ كنت تبغي ضالة إبله، أي تطلب ما فقد من إبله وضاع من مال وتخدم في ما يتعلق بحاله. وتهنأ، أي تطلي(3/464)
إِنْ كنتَ تَبْغِي ضالَّة إِبِلِهِ، وتَهْنَأ جَرْبَاها وَتَلِيطُ حَوْضَهَا، وَتَسْقِيهَا يَوْمَ وِرْدِها فَاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بنَسْلٍ، وَلا ناهكٍ فِي حَلبٍ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: بَلَغَنَا (1) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه ذكر
__________
يقال: هنأ الإِبل، إذ طلاه ودلك على جسده القَطران بالفتح وهو دواء يُطلى به الإِبل المبتلاة بالجرب وغيره. جرباها (والجربى: مؤنث أجرب، كذا في المحلى. أوجز المسالك 14/339) ، بالفتح إبله الجرباء بالقطران. وتليط حوضها، وفي نسخة تلوط أي تطيّنه وتصلحه، وليحيى: تلُطّ بضم اللام وتشديد الطاء. وتسقيها، أي الإِبل يوم ورودها بالكسر أي شربها، فاشرب من لبنه فإنك (في الأصل: "فإنه") تستحقه من خدمتك، غير مضرّ بالنصب أي حال كونك غير ضارّ، بنسل بفتحتين أي بالولد الرضيع، ولا ناهكٍ بكسر الهاء أي غير ضائع في حلب، يقال: نهكت الناقة أنهكها إذا لم يبق في ضروعها لبناً، والحَلَب بفتحتين اللبن المحلوب وبتسكين اللام الفعل، والمعنى غير مستأصل اللبن، كذا ذكره القاري وغيره (قال الباجي: وقوله: فاشرب غير مضر بنسل: والحديث على معنى إباحة له ليشرب من لبنها على شرطين: أحدهما: لا يضر بأولادها. والثاني: أن لا يستأصل في البن. المنتقى 7/238) .
(1) قوله: بلغنا، هذا البلاغ أخرجه عبد الرزاق، وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير وابن المنذر والنّحاس في "ناسخه" والبيهقي في سننه من طرق عن عمر، قال: إني أنزلت نفسي في مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن استغنيتُ استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف، فإذا أيسرتُ قضيت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عليّ، عن ابن عباس: ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف يعني القرض. وكذا أخرجه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عنه، وأخرج عبد بن حميد والبيهقي من طريق(3/465)
وَالِيَ الْيَتِيمِ، فَقَالَ: إِنِ اسْتَغْنَى استعفَّ، وَإِنِ افْتَقَرَ أَكَلَ بِالْمَعْرُوفِ قَرْضًا. بَلَغَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فسرَّ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَنْ كَانَ غنيّاً فلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كان فقيراً ليأكل بالمَعْرُوفِ) قَالَ: قَرْضًا (1) .
938 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (2) ، عَنْ صِلَة (3) بْنِ زُفَر: أَنَّ رَجُلا أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: أَوْصِنِي (4) إِلَى يَتِيمٍ، فَقَالَ: لا تشتَرِيَنَّ (5) مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَلا تَسْتَقْرِضْ مِنْ
__________
ابن جبير عنه قال: والي اليتيم إن كان غنياً فليستعفف ولا يأكل، وإن كان فقيراً أخذ من فضل اللبن، وأخذ بالقوت لا يجاوزه، وما يستر من عورته فإذا أيسر قضى، وإنْ أعسر فهو في حِلّ. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي عنه، قال: إذا احتاج والي اليتيم وضع يده فأكل من طعامهم ولا يلبس منه ثوباً ولا عمامة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عنه قال: يأكل وليّ مال اليتيم بقدر قيامه على ماله، ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذِّر. وفي الباب آثار أُخَر مبسوطة في "الدر المنثور" للسيوطي.
(1) أي في معنى الأكل بالمعروف.
(2) هو عمرو بن عبد الله بن علي السبيعي الهمداني الكوفي.
(3) قوله: عن صلة، هو صلة بكسر الصاد وفتح اللام، بن زُفَر بضم الزاء وفتح الفاء أبو العلاء العبسي الكوفي، روى عن عمار وحذيفة وابن مسعود وعليّ، وابن عباس، وعنه أبو وائل، وأبو إسحاق السَّبيعي، وأيوب السختياني وغيرهم، قال الخطيب وابن خراش وابن حبان: ثقة، وكذا عن ابن معين والعِجلي وابن نمير، مات في خلافة مصعب بن الزبير، كذا في "تهذيب التهذيب".
(4) أي انصحني في أمرِ يتيمٍ هو كفالتي.
(5) بصيغة النهي مع النون المشددة.(3/466)
مَالِهِ شَيْئًا (1) .
وَالاسْتِعْفَافُ (2) عَنْ مَالِهِ عِنْدَنَا أَفْضَلُ. وهو قول أبي حنيفة والعامَّة من فقهائنا.
44 - بَابُ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى عَورة (3) الرَّجُلِ.
939 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: بَيْنَا (4) أَنَا أَغْتَسِلُ وَيَتِيمٌ كَانَ فِي حَجْر أَبِي، يَصُبُّ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا عَامِرٌ وَنَحْنُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى عَوْرَةِ بَعْضٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ لأَحْسَبُكُمْ خَيْرًا مِنَّا. قلت (5) :
__________
(1) قوله: ولا تستقرض من ماله شيئاً، هذا بظاهره دالّ على عدم جواز الاستقراض أيضاً وهو محمول على حالة الاستغناء وعدم الحاجة، وأما عند الحاجة فيجوز كما دلت الآثار السابقة فإن اضطر إلى الأكل جاز أكله.
(2) هذا قول المؤلف أي الكفّ عن ماله ولو استقراضاً إذا لم يحتج إليه أفضل من غيره.
(3) بينا: في نسخة: بينما. قوله: بَيْنَا أَنَا أَغْتَسِلُ وَيَتِيمٌ كَانَ فِي حَجْر - بالفتح - أبي، يعني كان في تربية أبي عامر. يصُبّ أحدنا، أي أحد منا، أنا واليتيم، وكانا يغتسلان عاريين في موضع واحد فيلقي الماء أحدهما على صاحبه الآخر. إذ طلع علينا، أي ظهر علينا جاء إلينا أبي عامر بن ربيعة ونحن واليتيم كذلك أي نغتسل ونصب الماء فقال أي عامر متعجباً وزاجراً: ينظر بعضكم إلى عورة بعض وهو حرام، والله إني كنت لأَحسبكم أي نظنكم خيراً مّنا أي في الديانة والتقوى، وقد ظهر خلاف ذلك حيث لا تخاف الله وتنظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه.
(4) بينا: في نسخة: بينما. قوله: بينا أنا أغتسل ويتيم كان في حَجْر - بالفتح - أبي، يعني كان في تربية أبي عامر. يصُبّ أحدنا، أي أحد منا، أنا واليتيم، وكانا يغتسلان عاريين في موضع واحد فيلقي الماء أحدهما على صاحبه الآخر. إذ طلع علينا، أي ظهر علينا جاء إلينا أبي عامر بن ربيعة ونحن واليتيم كذلك أي نغتسل ونصب الماء فقال أي عامر متعجباً وزاجراً: ينظر بعضكم إلى عورة بعض وهو حرام، والله إني كنت لأَحسبكم أي نظنكم خيراً مّنا أي في الديانة والتقوى، وقد ظهر خلاف ذلك حيث لا تخاف الله وتنظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه.
(5) قوله: قلت، أي في خاطري: قوم، أي هم قوم وُلدوا - مجهول - في الإِسلام أي وعُلِّموا الأحكام ولم يولدوا في شيء من الجاهلية ليكونوا معذورين في(3/467)
قَوْمٌ وُلِدوا فِي الإِسلام لَمْ يُوْلَدوا فِي شَيْءٍ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاللَّهِ لأظنَّكم الخَلْفَ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ (1) أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) إلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لمُداواة وَنَحْوِهِ (3) .
45 - بَابُ النَّفْخِ فِي الشُّرْب (4)
940 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ (5) بْنُ حَبِيبٍ مَوْلَى سَعْدِ بْنِ
__________
الجهل ببعض الآداب الدينية: والله لأظنكم الآن الخَلْف بفتح الخاء وسكون اللام لا بفتحها، ففي "المصباح" هو خلف صدق من أبيه إذا قام مقامه، وهو خَلْف سوء بالسكون هذا أكثر كلامهم، ومنهم من يجيز الفتح والسكون في النوعين، وعلى السكون جاء التنزيل (فخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمِ خَلْفٌ أضَاعُوا الصَّلاة) سورة مريم: الآية 59) ، كذا ذكره القاري.
(1) وكذا للصبي المراهق.
(2) وكذا الكافر.
(3) قوله: إلاَّ من ضرورة لمداواة، بالضم ونحوه (في نسخة: ونحوها) فإن الضرورات تُبيح المحظورات فيجوز النظر إلى عورة الرجل والمرأة للاحتقان، والختان، والخفض أي ختان المرأة، وموضع القرحة وغير ذلك، ومن مواضع الضرورة حالة الولادة فيجوز للقابلة النظر إلى فرج المرأة، ومنها النظر إلى موضع البكارة إذا احتيج إليه في مسألة العِنِّين. والبسط في كتب الفقه.
(4) قوله: أخبرنا أيوب بن حبيب، قال الذهبي في "الكاشف": أيوب بن حبيب المدني، عن أبي المثنّى، وعنه مالك وفليح وثقه النسائي، وقال أيضاً في "الكنى": أبو المثنى الجهني، عن سعد وأبي سعيد، وعنه أيوب ومحمد بن أبي يحيى ثقة. انتهى. وقال ابن عبد البر: لم أقف على اسمه.
(5) قوله: أخبرنا أيوب بن حبيب، قال الذهبي في "الكاشف": أيوب بن(3/468)
أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى الْجُهَنِيِّ (1) قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مَرْوان بْنِ الْحَكَمِ فَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ (2) الخُدري عَلَى مَرْوَانَ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ (3) : أسمعتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ؟ قال: نعم (4) ، فقال
__________
حبيب المدني، عن أبي المثنّى، وعنه مالك وفليح وثقه النسائي، وقال أيضاً في "الكنى": أبو المثنى الجهني، عن سعد وأبي سعيد، وعنه أيوب ومحمد بن أبي يحيى ثقة. انتهى. وقال ابن عبد البر: لم أقف على اسمه.
(1) بالضم نسبة إلى جهينة.
(2) سعد بن مالك.
(3) استخبار.
(4) قوله: قال نعم، سمعته نهى عن النفخ في الشراب، وروي النهي عنه أيضاً من حديث ابن عباس عند أحمد، وزيد بن ثابت عند الطبراني، وزاد ابو سعيد الخُدري على الجواب ذاكراً سؤال رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه عند نهيه عن النفخ في الشراب، فقال: فقال له أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل ممن حضر ذلك المجلس: إني لا أَرْوَى - بفتح الألف وسكون الراء - من نَفَس - بفتحتين - واحد، يعني لا يحصل لي الريّ من الماء في تنفُّس واحد، فلا بدَّ لي أن أتنفَّس في الشراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِنْ - أمرٌ من الإِبانة - القَدَح - بالفتح - أي قدح الشراب عن فيك ثم تنفس، قال ذلك الرجل: فإني أرى القَذَاة - بالفتح - عود أو شيء في الشراب يتأذى به الشارب فيه أي الماء، فلا بدَّ لي أن أنفخ في الشُرب ليذهب ذلك القذاة. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأهرقها بسكون الهاء من الإِراقة بزيادة الهاء أي فأرق تلك القذاة عن الشراب، ولا تنفخ فيه. وإنما نهى عن النفخ في الشراب لئلا يقع من ريقه فيه شيء فيقذِّره، وقد يتغير الماء بالنفخ (والأطباء الروميون في هذا الزمان يشدِّدون في النهي عن النفخ أشد النهي، ويزعمون أن النفس تخرج الأبخرة الحارة السمية المشتملة على الجراثيم فتختلط بالشراب فإذا شربه أحد عن ذلك ترجع هذه الجراثيم إلى الجوف فتحدث أمراضاً كثيرة، كذا في الأوجز 14/265) ، وفي(3/469)
لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لا أرْوَى مِنْ نَفَس وَاحِدٍ، قَالَ: فأبِنْ القَدَحَ عَنْ فِيكَ ثُمَّ تنفَّس، قَالَ: فَإِنِّي أَرَى الْقَذَاةَ فِيهِ، قَالَ: فأهرِقْها.
46 - بَابُ مَا يُكْرَهُ (1) مِنْ مُصَافَحَةِ النِّسَاءِ
941 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ اُمَيْمَة (2) بِنْتِ رُقَيْقَة أَنَّهَا قَالَتْ: أتيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم في نسوة تُبَايِعُه (3) فقلنا:
__________
الحديث دليل على إباحة الشرب من نَفَس واحد لأنه لم ينه الرجل عنه، بل قال له ما معناه: إنْ كنت لا تروى من واحد فأبِن القدح، حكاه ابن عبد البر عن مالك، وورد النهي عن ذلك أيضاً، ومجرد الجواز لا ينفي الكراهة، فعند الترمذي: لا تشربوا واحدة كشُرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثُلاث وسَمُّوا إذا أنتم شربتم.
(1) قوله: عن أُمَيْمة، بضم الهمزة وفتح الميم وتحتية ساكنة ثم ميم، بنت رُقَيْقَة بقافين على وزن أميمة، وهي أخت خديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد، فخديجة خالة أميمة، وأبوها نجاد بن عبد الله بن عمير، وقيل: عبد الله بن نجاد القرشي، كذا في "الاستيعاب" وغيره.
(2) قوله: عن أُمَيْمة، بضم الهمزة وفتح الميم وتحتية ساكنة ثم ميم، بنت رُقَيْقَة بقافين على وزن أميمة، وهي أخت خديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد، فخديجة خالة أميمة، وأبوها نجاد بن عبد الله بن عمير، وقيل: عبد الله بن نجاد القرشي، كذا في "الاستيعاب" وغيره.
(3) في نسخة: نبايعه. قوله: في نسوة تبايعه، قال القاري: صفة لجماعة النسوة، ويحتمل أن يكون بنون المتكلم، وتُسمّى هذه البيعة بيعة النساء(3/470)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبايُعك عَلَى أَنْ لا نُشرك بِاللَّهِ شَيْئًا (1) ، وَلا نَسْرِقَ، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ (2) أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيَ بِبُهْتانٍ نَفْتريه (3) بَيْنَ أَيْدِينَا (4) وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ (5) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِيمَا استطعتُنَّ (6) ، وأطقْتُنَّ، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بنا (7) منَّا بأنفسنا،
__________
(قال الباجي: هذه البيعة التي ذكرتها أميمة كانت بالمدينة بعد الحديبية، المنتقى 7/307) ، قال الله تعالى: (يَا أيُّهَا النَّبِيُ إذا جَاءَك المؤمناتُ يُبَايِعْنَكَ على أن لا يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً ولا يَسْرِقْنَ، ولا يَزْنِينَ، ولا يَقْتُلْنَ أولادَهن ولا يَأتِيْنَ بِبُهتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أيدِيهِنَّ، وأَرْجُلِهِنَّ ولا يَعْصِيْنَكَ في معروفٍ فَبَايِعْهُنَّ واستَغْفِر لَهُنَّ الله) سورة الممتحنة: الآية 12) .
(1) عامّ لكونه في سياق النفي.
(2) كما كانت عادة أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية إملاق.
(3) أي نختلقه.
(4) قوله: بين أيدينا وأرجلنا، قال الزرقاني: أي من قِبَل أنفسنا فكنّى بالأيدي والأرجل عن الذات، لأن معظم الأفعال بهما، أو أن البهتان ناشئ عما يختلقه القلب الذي هو بين الأيدي والأرجل ثم يبرزه بلسانه.
(5) قوله: معروف، أي في ما عُرف شرعاً وفيه إشارة إلى أن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
(6) أي هذا كله بحسب طاقتكن.
(7) قوله: أرحم، أي حيث قال الله: (فاتَّقوا الله مَا اسْتَطَعْتُم) سورة التغابن: الآية 16) ، وقال رسوله: فيما استطعتُنَّ، فأوجبا الامتثال بحسب الطاقة البشرية ولم يُكَلِّفا بما ليس في الوسع.(3/471)
هَلُمَّ (1) نُبايعك يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إنِّي لا أُصافِحُ النساءَ (2) ، إِنَّمَا قُولِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي (3) لامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ (4) مِثْلَ قولي لامرأة واحدة.
__________
(1) قوله: هلُمَّ، أي تعال نبايعك باليد كما تبايع الرجل بالمصافحة، وعند النسائي فقلن: ابسُطْ يدك نصافحك.
(2) قوله: إني لا أصافح النساء، فيه دليل على أنه لا ينبغي المصافحة عند البيعة بالنساء، وأن بيعة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء لم تكن بأخذ اليد، وهو مُفاد قول عائشة: ما مست يدُ رسول الله يدَ امرأة قط إلاَّ امرأةً يملكها، أخرجه البخاري، وفي رواية له عنها: "ما مسَّت يده يد امرأة قط في مبايعة، ما يبايعهن إلاَّ بقوله: قد بايعتُكِ على ذلك". وأخرج أبو نعيم في "كتاب المعرفة" من حديث نُهَيَّةَ بنت عبد الله البكرية قالت: وفدت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فبايع الرجال وصافحهم، وبايع النساء ولم يصافحهن. وعند أحمد من حديث ابن عمر: أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يصافح النساء. وجاءت اخبار ضعيفة بمصافحته النساء عند البيعة أحياناً، فعند الطبراني من حديث معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح النساء في بيعة الرضوان من تحت الثوب، وأخرج ابن عبد البر، عن عطاء وقيس بن أبي حازم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بايع لم يصافح النساء إلاَّ على يده ثوب (وضع الثوب على يده كان في أول الأمر، كذا في الأوجز 15/262) ، كذا ذكره ابن حجر والزرقاني، ولعله محمول على مصافحة العجائز، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الباب "لا أصافح النساء" الثابت بالطرق الصحيحة صريح في عدم مصافحته.
(3) أي في حصول البيعة ووجوب الطاعة.
(4) شكّ من الراوي في اللفظ والمعنى واحد.(3/472)
47 - بَابُ فَضَائِلِ أَصْحَابِ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
942 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وقَّاص يَقُولُ: لَقَدْ جَمَعَ لِي (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَوَيْه يَوْمَ أُحُد.
943 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْثاً (3) فأمَّر (4) عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ (5) النَّاسُ (6) فِي إِمْرَته، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: إنْ تَطْعَنُوا فِي إمْرَته فَقَدْ كُنْتُمْ تطعنون (7) في إمْرَة أبيه من قبلُ،
__________
(1) قوله: لقد جمع لي، أي قال يوم غزوة أُحد ارْمِ فداك أَبي وأمّي، وكذا جمع للزبير بن العوام كما عند الترمذي وغيره، وفيه منقبة عظيمة لهما.
(2) قوله: لقد جمع لي، أي قال يوم غزوة أُحد ارْمِ فداك أَبي وأمّي، وكذا جمع للزبير بن العوام كما عند الترمذي وغيره، وفيه منقبة عظيمة لهما.
(3) بالفتح، أي أرسل جيشاً (قال الحافظ: هو البعث الذي أمر بتجهيزه في مرض وفاته. فتح الباري 7/87) .
(4) أي جعله أميراً عليهم.
(5) قوله: فطعن الناس في إمرته، قال القاري: بكسر الهمزة أي في إمارته وولايته لكونه صغير القوم وحقيرهم في الصورة، ولأنه من الموالي، وكان في القوم أبو بكر وعمر.
(6) أي المنافقون أو أجلاف العرب.
(7) قوله: فقد كنتم تطعنون، أي قبل ذلك في إمارة أبيه زيد بن حارثة متبنَّى رسول الله وحِبِّه.(3/473)
وأيْمُ (1) اللَّهِ إنْ (2) كَانَ (3) لخَليقاً (4) للإِمْرة، وإنْ كَانَ (5) لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ مِنْ بَعْدِهِ (6) .
944 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (7) بْنِ معْمَر، عَنْ عُبَيد (8) يَعْنِي ابْنَ حُنَيْنٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر (9) فقال: إن عبداً (10)
__________
(1) بهمزة مفتوحة بمعنى القسم.
(2) مخففَّة من مثقّلة مكسورة.
(3) أي أسامة.
(4) أي لائقاً.
(5) أي أسامة.
(6) أي بعد أبيه زيد.
(7) في نسخة عبيد الله.
(8) قال ابن حجر في "التقريب": عبيد بن حُنين بنونين مصغَّراً، أبو عبد الله المدني ثقة، قليل الحديث، مات سنة خمس ومائة.
(9) أي للخُطبة.
(10) قوله: إن عبداً، وصف نفسه بالعبودية لأنها المرتبة الكاملة اقتداءً بقوله تعالى في حقه: (سُبْحَان الَّذِي أَسرَى بِعَبْدِه لَيلاً) سورة الإِسراء: الآية 1) ، وبقوله تبارك: (الذي نَزَّلَ الفُرقَان علَى عَبْدِه) سورة الفرقان: الآية 1) ، وبقوله تعالى: (أرأيت الَّذِي ينهى * عبداً إذا صلى)(3/474)
خيَّره اللع تَعَالَى بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَه مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا (1) مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ (2) ، فَاخْتَارَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَهُ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَالَ: فَدَيْناك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا، قَالَ: فَعَجِبْنَا (4) له، وقال الناس: انظروا إلى هذا
__________
سورة العلق: الآية 9 - 10) ، وبقوله تعالى: (وأنَّه لَمَّا قَام عَبْدُ الله يَدْعُوه كَادوا يَكُونُوا عَلَيْهِ لِبَداً) سورة الجِنّ: الآية 19) فإن المراد بالعبد في هذه الآيات هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أبهم الأمر، ولم يعيِّن نفسه من بدو الأمر إحالةً على إفهام حُذّاق الصحابة وامتحاناً لفهمهم، ولئلا يحصل لهم الملال دفعة بسماع خبر مصيبةٍ عظيمة.
(1) قوله: من زَهرة الدنيا، بالفتح أي بهجتها وزينتها، قال النووي في "شرح صحيح مسلم": المراد بزهرة الدنيا نعيمها وأعراضها وحدودها، شبَّهها بزهرة الروض.
(2) أي ما عنده من لَذَّة العقبى والدرجات العلى.
(3) قوله: فبكى أبو بكر، لما أنه كان من أفقه الصحابة وأعلمهم بالأسرار النبوية، ففهم أن مراده بالعبد المخيَّر المختار ما عند الله هو نفسه، فبكى حزناً على فراقة، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا أي أنت عندي بآبائنا معاشرَ المسلمين، وأمهاتنا، فإن بقاءك خير لنا من بقاء آبائنا وأمهاتنا.
(4) قوله: قال فعجبنا، أي قال أبو سعيد الخُدْري: فتعجبنا - نحن حُضَّارَ الصحابة - من بكاء أبي بكر، وقال الحاضرون بعضهم لبعض على سبيل الاستعجاب: انظروا إلى هذا الشيخ مع كِبَر سنِّه ووفور علمه يخبر رسول الله بخبر عبد من عباد الله، وهو يَفْدي الآباء والأمهات عليه. وهذا التعجب إنما كان لعدم وصول الأفهام إلى ما فهمه أبو بكر، ثم ظهر لهم ما ظهر له أن العبد الذي أخبر عنه رسولُ الله كان نفسَه.(3/475)
الشَّيْخِ يُخبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِ عبدٍ خَيَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ يَقُولُ: فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ المُخَيَّر (1) ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أعلَمنا بِهِ (2) . وَقَالَ (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أمنَّ النَّاسِ (4) عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ متَّخَذاً (5) خَلِيلا لاتَّخذتُ أبا بكر
__________
(1) أي بين الأمرين الدنيا والعقبى.
(2) أي بهذا الأمر، أو بالنبي صلى الله عليه وسلم وبسرّه، وفيه منقبة عظيمة لأبي بكر بإقرار الصحابة.
(3) أي في تلك الخطبة.
(4) قوله: إن أمنَّ الناس، قال ذلك تسلية لأبي بكر، ودفعاً لحزن حصل له بخبر الرحلة النبوية، وإظهاراً لفضله على سائر الصحابة، ومعناه أن أمنَّ الناس اسم تفضيل من المنّ يعني كثير المنَّة والإِحسان عليّ في صحبته وماله أبو بكر حيث صحبه إذا لم يصحبه غيره فكان رفيقه في الغار، وأسلم حين لم يسلم أحد من الرجال، وكان له عند ذلك على ما رُوي أربعون ألفاً أنفقها كلَّها على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعند الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لأحدٍ عندنا يدٌ إلاَّ قد كافأناه ما خلا أبا بكر فإنَّ له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة (قال الحافظ: فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره إلاَّ أن لأبي بكر رجحاناً، فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك. فتح الباري 7/13) ، وما نفعني مال أحد قطٌّ ما نفعني مال أبي بكر.
(5) قوله: ولو كنت متخذاً، قال النووي في "شرح صحيح مسلم": قال القاضي: أصل الخلَّة الافتقار والانقطاع، فخليل الله المنقطع إليه، وقيل: الخلَّة الاختصاص، وقيل: الخلَّة الاصطفاء، وقيل: الخليل من لا يسع قلبه غيره، والمعنى أن حبّ الله لم يُبْقِ في قلبه موضعاً لغيره.(3/476)
خَلِيلا وَلَكِنْ أُخُوَّةُ (1) الإِسلام، وَلا يُبْقَيَنَّ (2) فِي الْمَسْجِدِ خَوخة إلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ.
945 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ (3) بْنِ
__________
(1) أي الإِخوة الحاصلة بيني وبينه بسبب الإِسلام كافية، وفي رواية: ولكن أخي وصاحبي، وفي رواية لمسلم والترمذي: إلاَّ أني أبرأ إلى كلٍّ خلٍّ من خلِّه، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، إنَّ صاحبكم خليل الله.
(2) قوله: ولا يُبْقَيَنَّ، بصيغة المجهول في المسجد. خَوْخَة، بالفتح باب صغير إلى المسجد يدخل منه، إلاَّ خوخة أبي بكر، وفيه منقبة عظيمة لأبي بكر، وإشارة إلى استخلافه لكونه الخليفة محتاجاً إلى المسجد في كل وقت، وقد ورد نظير ذلك لعليّ من قوله صلى الله عليه وسلم: "سُدُّوا الأبواب كلَّها إلاَّ باب علي"، أخرجه أحمد والنسائي في "السنن الكبرى" والضياء في "المختارة" والحاكم والترمذي الطبراني وغيرهم بألفاظ متقاربة متعددة، وقد أخطأ ابن الجوزي حيث حكم بوضعه زعماً منه أنه معارِضٌ لما في الصحاح من حديث خوخة أبي بكر، وليس كذلك فإن عليّاً لم يكن له باب إلاَّ إلى المسجد، وكان الأصحاب لهم بابان باب إلى المسجد وباب إلى خارجه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بسدِّ الأبواب إلاَّ باب عليّ ثم أحدث الناس الخوخة إلى المسجد، فأمر الناس بسدِّها إلاَّ خوخة أبي بكر، وكانت القصة الأولى قبل غزوة أحد، والثانية في مرض الوفاة النبوية، كذا حققه الحافظ ابن حجر في "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد" (وكذا في فتح الباري 7/15) والسيوطي في "شد الأثواب في سد الأبواب".
(3) هو إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس بن شَمَّاس الأنصاري المدني، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين".(3/477)
مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّ ثَابِتَ (1) بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس (2) الأَنْصَارِيَّ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ خَشِيْتُ أَنْ أكونَ قَدْ هلكتُ قَالَ: لِمَ (3) ؟ قَالَ: نَهَانَا اللَّهُ أَنْ نُحِبَّ أَنْ نُحْمَدَ (4) بِمَا لَمْ نَفْعَلْ، وَأَنَا امْرُؤٌ أُحِبّ الحمدَ، (5) ، وَنَهَانَا عَنِ الخُيَلاء (6) ، وَأَنَا امْرُؤٌ أحِبُّ الجمالَ (7) ، ونهانا الله
__________
(1) هو من أعلام الأنصار شهد أحداً وما بعدها، وكان خطيب الأنصار، استُشهد يوم اليمامة سنة 12 هـ، كذا في "جامع الأصول".
(2) بفتح الشين المعجمة وتشديد الميم.
(3) في نسخة: ثم قال: بِمَ، أي لأيِّ شيء هلكتَ.
(4) قوله: نهانا الله أن نُحِبَّ أن نُحْمَدَ، بصيغة المجهول. بما لم نفعل، أي بقوله تعالى: (ولا تَحْسَبنَّ الذين يَفْرَحُونَ بمَا أُتُوا ويُحِبُّون أن يُحمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا) (سورة آل عمران: الآية 188) الآية نزلت في شأن المنافقين.
(5) أي ثناء الناس لي.
(6) بضم الخاء وفتح الياء، الكبر.
(7) قوله: وأنا امرؤ أحب الجمالَ، كأنه ظنَّ أن مجرد حبِّ الجمال من الخُيلاء، وقد نهي عنه بقوله تعالى: (إنَّ الله لا يُحِبُّ كلِّ مُخْتَالٍ فَخُوْر) سورة النساء: الآية 36) ، وقد روى الترمذي عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ من كبر، فقال رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسناً ونعلي حسناً، فقال: إن الله يحب الجمال، ولكن الكِبْر مِنْ بَطَرَ الحق، وغَمَص الناس، أي احتقرهم وافتخر عليهم.(3/478)
أَنْ نرفعَ (1) أصواتَنا فَوْقَ صوتِكَ، وَأَنَا رجلٌ جَهِيْر (2) الصوتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا ثَابِتُ، أَمَا (3) تَرْضىَ أَنْ تَعِيشَ (4) حَمِيدًا (5) ، وتُقْتَلَ شَهِيدًا (6) ، وتَدْخُلَ الْجَنَّةَ (7) .
48 - بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
946 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا (8) ربيعة، عن (9) أبي
__________
(1) قوله: أن نرفع أصواتنا، بقوله: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصوَاتَكم فَوقَ صَوتِ النَّبِي ولا تَجْهَروا له بالقَوْل كجَهْرِ بعضِكم لِبَعضٍ أن تَحْبَط أعمَالُكم وَأنْتُم لاَ تَشعُرون) سورة الحجرات: الآية 2) .
(2) أي عالي الصوت، وكان في سمعه ثقل، من كان كذلك يكون جهير الصوت غالباً.
(3) بهمزة، وما نافية قاله تسليةً له.
(4) أي في الدنيا.
(5) أي محموداً.
(6) وكان كذلك.
(7) قوله: وتدخل الجنة، قال القاري: لعل قوله صلى الله عليه وسلم ببشارته إلى الجنة متضمِّن أنه ليس ممن يظنُّ نفسَه أنه في الخصائل الدنيَّة والشمائل الرديَّة.
(8) قوله: أخبرنا ربيعة عن أبي عبد الرحمن، هكذا في نسخ عديدة، والصواب في بعض النسخ موافقاً لما في "موطأ يحيى" وغيره: عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سمع إلخ، وهو المعروف بربيعة الرأي.
(9) في نسخة: بن.(3/479)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: ليس بالطويل بالبائن (1) ، وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلا بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ، وَلَيْسَ بِالآدَمِ، وَلَيْسَ بالجَعْد القَطَط، وَلا بالسَّبِط، بَعَثَهُ اللَّهُ على رأس أربعين سنة (2) ،
__________
(1) قوله: ليس بالطويل البائن، مِنْ بَانَ إذا ظَهَر أي المُفْرط في الطول، ولا بالقصير أي البائن كما صرح به في رواية مسلم عن البراء يعني أنه بينهما، وعند البخاري عن أنس: كان رَبْعة من القوم. ولا بالأبيض الأمهق، من المهق، شدة البياض أي ليس شديد البياض، كلون الجِصّ. وليس بالآدم، بالمد، أي لا شديد السمرة، وإنما كان يخالط بياضه الحُمْرة. وليس بالجَعْد، بفتح الجيم وسكون العين ودال مهملة أي منقبض الشعر، يتجعّد ويتكسّر كشعر الحبش، والزِّنج. القَطَط، بفتح القاف والطاء الأولى ويجوز كسرها، وهومقابل السَّبِط بفتح السين وكسر الموحدة، أي المنبسط المسترسل يعني أن شعره ليس نهاية في الجعودة ولا في السبوطة بل وسطاً بينهما كذا في "شرح شمائل الترمذي " لعلي القاري وغيره.
(2) قوله: على رأس أربعين سنة، أي آخر أربعين سنة من عمره، وهذا القول بأنه بُعث في الشهر الذي ولد فيه، والمشهور عند الجمهور أنه وُلد في ربيع الأول وبُعث في رمضان، فعلى هذا يكون حين البعث أربعون سنة ونصف أو تسع وثلاثون ونصف، فمن قال أربعين ألغى الكسر، أو جبر. وأما ما رواه الحاكم أنه بُعث وهو ابن ثلاث وأربعين (وقال القاري: ولعل الجمع بينهما بأن بعث النبوة في أول الأربعين وبعث الرسالة في رأس ثلاثة وأربعين، كذا في الأوجز 14/213) ، وعن مكحول أنه بُعث ابن اثنين وأربعين فشاذّ، كذا ذكره الحافظ ابن حجر.(3/480)
فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ (1) ، وَبِالْمَدِينَةِ (2) عَشْرَ سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً (3) وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ (4) شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
49 - بَابُ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُستحب مِنْ ذَلِكَ (5)
947 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن دينار، أن ابن عمر:
__________
(1) قوله: فأقام بمكة عشر سنين، عند البخاري عن ابن عباس: لَبِث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبُعث لأربعين، ومات وهو ابن ثلاث وستين، وجمع السُّهَيلي بأن من قال ثلاث عشرة عدَّ من أول ما جاء به المَلَك، ومن قال عشراً: عدّ ما بعد الفترة، فإنّ الوحي فتر بعد ما نزل ثلاث سنين، كما رواه أحمد. وهناك أقوال وروايات أُخَر مبسوطة في "فتح الباري".
(2) أي بعد الهجرة، وهذا بالاتفاق.
(3) قوله: على رأس ستين، روي عن جمع من الصحابة منهم معاوية في عمره ثلاث وستون، وروي عن ابن عباس وأنس وعائشة ستون، وروي عنهم ما يوافق المشهور أيضاً فهو المعتمد.
(4) قوله: عشرون، أي بل أقلّ، فعند البخاري عن عبد الله بن بسر: كان في عنفقته شعرات بيض، وفي "صحيح مسلم" عن أنس: كان في لحيته شعرات أبيض، وعند ابن سعد عن أنس: ما كان في رأسه ولحيته إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة.(3/481)
كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا (1) ، أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ جَاءَ قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فصلى عليه، ودعا ثم انصرف.
__________
(5) قوله: كان إذا أراد سفراً، وفي رواية عبد الرزاق: كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية: كان يقف على قبره، فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عن نافع: كان ابن عمر يسلّم على القبر، ورأيته مائة مرة أو أكثر يأتي ويقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وظاهره أنه كان دأبه وإن لم يسافر، كذا في "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" و "المواهب" وشرحه، وفي الباب عن أنس عند البيهقي وابن أبي الدنيا، وجابر عند البيهقي، وأبي أيوب عند أحمد الطبراني والنسائي.
(1) قوله: كان إذا أراد سفراً، وفي رواية عبد الرزاق: كان إذا قدم من سفرٍ أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. وفي رواية: كان يقف على قبره، فيصلي على النبي وعلى أبي بكر وعمر. وفي رواية عن نافع: كان ابن عمر يسلّم على القبر، ورأيته مائة مرة أو أكثر يأتي ويقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي. وظاهره أنه كان دأبه وإن لم يسافر، كذا في "وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى" و "المواهب" وشرحه، وفي الباب عن أنس عند البيهقي وابن أبي الدنيا، وجابر عند البيهقي، وأبي أيوب عند أحمد الطبراني والنسائي.(3/482)
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَهُ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ (1) يَأْتِي قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
50 - بَابُ فَضْلِ الْحَيَاءِ (2)
948 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، يرفعه (3) إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من حُسْن إسلام المرأ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ (5) أَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِمَا لا يعنيه.
__________
(1) بيان لهكذا أي يحضر عنده ويصلي ويسلم عليه.
(2) قوله: يرفعه، هذا مرسل عند جميع رواة الموطأ إلا خالد بن عبد الرحمن الخرساني فوصله عن مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحسين، عن أبيه، وخالد ضعيف، قاله ابن عبد البر. والحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي ابن ماجه وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم من طرق، كما بسطه السيوطي، والزرقاني.
(3) قوله: يرفعه، هذا مرسل عند جميع رواة الموطأ إلا خالد بن عبد الرحمن الخرساني فوصله عن مالك، عن ابن شهاب، عن علي بن الحسين، عن أبيه، وخالد ضعيف، قاله ابن عبد البر. والحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والترمذي ابن ماجه وأحمد والطبراني والحاكم وغيرهم من طرق، كما بسطه السيوطي، والزرقاني.
(4) بالفتح من عناه إذا تعلقت عنايته به أي ما لا يفيده من فضول الأقوال وسيئات الأعمال (قال ابن عبد البر: هذا الحديث من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، كذا في الأوجز 14/120) .
(5) لقوله تعالى: (والذِّينَ هُمْ عَن اللَّغْوِ مُعْرِضُون) سورة المؤمنون: الآية 3) .(3/483)
949 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَلَمَةُ (1) بْنُ صَفْوَانَ الزُّرَقِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ الرُّكَانَيِّ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقاً (2) ، وخُلُق (3) الإِسلام الْحَيَاءُ.
950 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُخْبِرٌ (4) ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ (5) يَعِظُ (6) أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْه (7) فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمان.
__________
(1) قوله: سَلَمَة، بفتحتين ابن صفوان بن سلمة الزُّرَقي، بضم الزاء، وفتح الراء، نسبة إلى بني زريق، مدني ثقة عن يزيد بن طلحة الرُّكاني بالضم، نسبة إلى ركانة، وهو والد طلحة، وهو ابن عبد يزيد بن هاشم، وذكر ابن حبان يزيد هذا في "ثقات التابعين" كذا في "شرح الزرقاني ".
(2) بضمتين وتسكِّن اللام أي خصلة وطريقة شرعت فيه.
(3) أي طبع هذا الدين الذي به قوامه: الحياء.
(4) في "رواية يحيى": مالك عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر.
(5) قال الحافظ: لم أعرف اسم الواعظ ولا أخيه.
(6) أي ينصحه ويلومه على كثرته وأنه يضره.
(7) أي اتركه على هذا الخلق، ولا تمنعه فإن الحياء شعبة من شعب الإِيمان(3/484)
51 - بَابُ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ
951 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي (1) بَشير بْنُ يَسَارٍ، أَنَّ حُصَين بْنَ مِحْصَن أَخْبَرَهُ: أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهَا (2) زَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ (3) لَهَا: أَذَاتُ (4) زوجٍ أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَزَعَمَتْ (5) أَنَّهُ قَالَ لَهَا: كَيْفَ أنتِ لَهُ؟ فَقَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلا مَا عجزْتُ عَنْهُ، قَالَ: فَانْظُرِي أَيْنَ أنتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جنّتُك أَوْ (6) نارُك.
__________
(قال الباجي: إن خلق الإِسلام الحياء، والحياء يختص بأهل الإِسلام والمراد بالحياء - والله أعلم - الحياء فيما شرع فيه الحياء، وأما حياء يؤدي إلى ترك التعلم فليس بمشروع. كذا في المنتقى 7/213، والأوجز 14/136) .
(1) قوله: أخبرني، بشير هو بشيرعلى وزن فعيل، بن يَسار بالفتح، الحارثي، المدني، وثقه ابن معين، وقال ابن سعد: كان شيخاً كبيراً أدرك عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قليل الحديث، وشيخه في هذه الرواية هو حُصَين مصغراً، ابن مِحْصن بكسر الأول وسكون الثاني وفتح الثالث، ذكره ابن حبان في "ثقات التابعين"، وقال ابن السكن: يُقال له صحبة غير أن روايته عن عمّته، وليست له رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا في "تهذيب التهذيب"، و"تقريب التهذيب".
(2) أي أنّ عمّته قالت.
(3) أي قال لها رسول الله حين أتت عنده.
(4) بهمزة استفهام.
(5) قوله: فزعمت أنه، أي فقالت: إنه قال لها رسول الله: كيف أنتِ لزوجك في الرضاء والسخط والخدمة؟ فقالت: ما آلوه أي ما أُقَصِّر في خدمته ورضائه ما استطعت، فقال له (في الأصل: زيادة "له"، وهو خطأ) رسول الله لها: انظري أي تأمّلي وتفكّري في كل وقت أين أنت منه؟ أهو راضٍ عنك؟ أم ساخط؟ فإن رضي عنك يُدخلك الجنة، وإنْ سخط عليك يُدخلك النار، فهو باعث دخول الجنة والنار.
(6) في نسخة: و.(3/485)
52 - بَابُ حَقِّ الضِّيَافَةِ
952 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِي، عَنْ أَبِي شُرَيح (1) الْكَعْبِيِّ: أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: من كَانَ يُؤْمِنُ (2) بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (3) فلْيُكْرِم (4) ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ (5) يومٌ ولَيلة، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كان بعد
__________
(1) قوله: عن أبي شُريح، بضم الشين مصغّراً. الكعبي، نسبةً إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة، اسمه خويلد بن عمرو على الأشهر، أو عمرو بن خويلد، أو هانئ، أو كعب بن عمرو أو عبد الرحمن، أسلم قبل الفتح مات بالمدينة سنة 68 هـ، كذا في "الاستعاب" وغيره.
(2) أي إيماناً كاملاً.
(3) ذكره إشارة إلى أنه يوم الثواب والعذاب، فمن آمن به إيماناً كاملاً طلب الأعمال الحسنة وتجنّب عن السيئة.
(4) قوله: فليُكْرم، قال الزرقاني: الأمر بالإِكرام للاستحباب عند الجمهور لأن الضيافة من مكارم الأخلاق لا واجبة لقوله جائزة، والجائزة تفضُّل وإحسان، هكذا استدل به الطحاوي وابن بطال وابن عبد البر، وقال الليث وأحمد: تجب الضيافة ليلةً واحدةً للحديث المرفوع: "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم" وأجاب الجمهور عن هذا وما أشبهه أن هذا كان في صدر الإِسلام حين كانت المواساة واجبة وبأنه محمول على ضيافة المضطرِّين.
(5) قوله: جائزته، بالرفع مبتدأ أي منيحته وعطيّته وإتحافه بأفضل ما يُقْدر عليه يوم وليلة، بالرفع خبر للمبتدأ ويُروى جائزته بالنصب فيكون مفعولاً ثانياً، والمعنى وهي يوم وليلة. والضيافة ثلاثة أيام يعني من غير تكلُّف، كالتكلف الذي في اليوم الأول، فإذا مضت الثلاث فقد مضى حق الضيف، فما كان بعد ذلك فهو صدقة. في التعبير عنه إشارة إلى التنفير عنه، ولا يحل له أي للضيف أن يثوي بفتح الياء وسكون الثاء المثلثة وكسر الواو أي يقيم عنده من أضافه حتى(3/486)
ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَلا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوي عِنْدَهُ حَتَّى يُحرِجَه.
53 - بَابُ تَشْمِيتِ (1) الْعَاطِسِ
953 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ (2) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنْ عَطَس (3) فشمِّتْه (4) ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فَشَمِّتْهُ ثُمَّ إِنْ عطس فقل له: إنك
__________
يُحْرِجَه بضم الياء وكسر الراء أي يوقعه في الحرج والضيق، كذا في "شرح الزرقاني".
(1) أبيه: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري.
(2) أبيه: هو أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم الأنصاري.
(3) بفتح الطاء.
(4) قوله: فشمّته، ظاهر الأمر للوجوب (قال النووي في "الأذكار": قال أصحابنا: التشميت سنّة على الكفاية لو قال بعضهم أجزأ عنهم، لكن الأفضل أن يقول كل واحد منهم، واختلف أصحاب مالك، فقال القاضي عبد الوهاب سنّة كفاية، وقال ابن مزين: يلزم كلِّ واحد منهم، واختاره أبو بكر بن العربي، والصحيح من مذهب الحنفية أنها تجب على الكفاية، وفي رواية يستحب، وفي "سفر السعادة" ظاهر الأخبار الصحيحة الافتراض عيناً. 1 هـ. أوجز المسالك 15/134) ، وبه قال أصحابنا وغيرهم: إن جواب العطسة واجب إلا أنه مقيّد بما إذا حَمِدَ لحديث: إذا عطس أحدكم فحمد الله، فشمّتوه، وإذا لم يحمد فلا تشمّتوه، أخرجه البخاري في "الأدب المفرد".(3/487)
مضنوكٌ (1) . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لا أَدْرِي (2) أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِذَا عَطَس فشمِّتْه، ثُمَّ إِنْ عَطَسَ فشمِّتْه، فَإِنْ لَمْ تُشَمِّتْهُ حَتَّى يَعْطُسَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا أَجْزَاكَ (3) أَنْ تُشَمِّتَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً.
54 - بَابُ الفِرار مِنَ (4) الطَّاعُونِ
954 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ (5) بْنُ الْمُنْكَدِرِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ (6) أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: إن هذا الطاعون (7)
__________
(1) قوله: إنك مضنوك، بضاد معجمة أي مزكوم، والضُّناك بالضم الزكام، والقياس مضنك ومزكم، لكنه جاء على ضنك وزكم، قاله ابن الأثير في "النهاية".
(2) قوله: لا أدري، أي لا أحفظ قوله إنك مضنوك هل قال بعد العطسة الثالثة أو الرابعة، وعند أبي داود وأبي يعلى وابن السُّنِّي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إذا عطس أحدكم فليشمِّتْه جليسه، فإن زاد على ثلاث فهو مزكوم ولا يشمِّت بعد ثلاث.
(3) أي يكفي التشميت الواحد لأن العبادات المتجانسة تتداخل.
(4) محمد: في رواية يحيى: وأبو النضر.
(5) محمد: في رواية يحيى: وأبو النضر.
(6) في رواية يحيى: أن عامراً سمع أباه يسأل عن أسامة: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون شيئاً: فقال أسامة سمعتُه يقول الحديث.
(7) قوله: إن هذا الطاعون، فسره كثير من أصحاب الغريب، وشرّاح الحديث بالوباء وهو كل مرض عام بسبب فساد الهواء، وليس بجيد، بل هو أخص(3/488)
رِجْزٌ (1) أُرْسِل عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ أُرْسِل (2) عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ - شَكَّ (3) ابْنُ الْمُنْكَدِرِ فِي أَيِّهِمَا قَالَ - فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ (4) بِأَرْضٍ فلا تدخلوا
__________
منه بدليل أنه ورد في الحديث أن الطاعون لا يدخل المدينة، وورد أن المدينة كان فيها (في الأصل: "فيه"، وهو خطأ) وباء الحُمّى، ولذا قال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، وقال النووي: هو بثر وورم مؤلم جدّاً يخرج مع لهب يحصل مع خفقان القلب والقيء، ويخرج في الآباط والأيدي والأصابع وسائر الجسد، وقد بسط الكلام في تحقيق معناه، وذكر الاختلاف فيه وإيراد الأخبار الواردة فيه الحافظ ابن حجر في رسالته "بذل الماعون في فضل الطاعون".
(1) بكسر الراء أي عذاب (الرجز: بالزاي. العذاب، وبالسين: الخبث أو النجس أو القذر، وقد يرد بمعنى العذاب أيضاً، قال الحافظ: المحفوظ بالزاي أي عذاب، كذا في الأوجز 14/82) .
(2) قوله: أو أرسل على بني إسرائيل، أخرج قصة نزوله على قوم فرعون وعلى بني إسرائيل عبدُ بن حميد والطبري وابن أبي حاتم وإبراهيم الحربي وغيرهم، وقد ورد أنه مات من قوم موسى بالطاعون في يوم واحد سبعون ألفاً، وورد أيضاً عند أحمد والبخاري أن الطاعون كان عذاباً على الأمم السابقة، وهو رحمة وشهادة لهذه الأمة. وورد أيضاً عند أحمد والطبراني وابن خزيمة وأبي يعلى وغيرهم أنّ الطاعون وخزُ أعدائكم من الجنّ، وهو - بالفتح - الطعن غير (في الأصل الغير، وهو تحريف) النافذ. وقد بسط الكلام على هذه الأخبار مع فوائد شريفة الحافظ في "بذل الماعون".
(3) أي في أنّ أيّ هذين اللفظين قال.
(4) أي بوقوعه ببلد أنتم خارجون عنه.(3/489)
عَلَيْهِ (1) وَإِنْ وَقَعَ فِي أَرْضٍ فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا حَدِيثٌ مَعْرُوفٌ (3) قد رُوي عن غير واحد (4) ،
__________
(1) قوله: فلا تدخلوا عليه، قال ابن دقيق العيد: الذي يترجّح عندي في النهي عن الفرار، وعن الدخول أن الإِقدام عليه تعرُّض للبلاء ولعله لا يصبر عليه، وربما كان فيه ضرب من الدعوى لمقام الصبر أو التوكّل، فمنع ذلك لاغترار النفس، وأما الفرار فقد يكون داخلاً في باب التوغل في الأسباب متصوراً بصورة من يحاول النجاة مما قدر عليه فيقع التكليف في القدوم كما يقع في الفرار فأمر بترك التكلُّف فيهما.
(2) قوله: فراراً منه، أي لأجل الفرار عن الطاعون، فإن قضاء الله لا يُرَدّ: (ولو كنتم في بروج مشيّدة) (سورة النساء: الآية 78) ، وفيه إشارة إلى أنه لو خرج لا لهذا القصد بل لحاجته فلا بأس به، وقد أخرج الطبري في تفسير قوله تعالى: (أَلَم تَرَ إلي الذِّينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم وَهُم ألُوفٌ حَذَرَ المَوتِ فَقَالَ لَهُمُ الله الله مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ) (سورة البقرة: الآية 243) ، من طريق محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبِّه قال: كان حزقيل بن بورى، ويقال له ابن العجوز هو الذي دعا للقوم الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، قال ابن إسحاق: فبلغني أنهم خرجوا من بعض الأوباء من الطاعون أو من سقم كان يصيب الناس، حذراً من الموت، الحديث. ونحوه عند عبد الرزاق، وابن أبي حاتم وغيرهم.
(3) أي مشهور.
(4) أي عن كثير من الصحابة بطرق متعددة.(3/490)
فَلا بَأْسَ إِذَا وَقَعَ (1) بِأَرْضٍ أَنْ لا يَدْخُلَهَا اجْتِنَابًا لَهُ.
55 - بَابُ الغِيبة (2) والبُهْتان (3)
955 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ (4) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيَّادٍ، أَنَّ الْمُطَّلِبَ (5) بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَب المخزومّي: أخبره أن رجلاً سأل
__________
(1) أي الطاعون (وقد وقع النهي عن القدوم عليه وعن الفرار عنه، فالنهي الأول لبيان الحذر عن التعرض للتلف، والثاني لبيان لزوم التوكل والرضا بقضاء الله ولبيان أن العذاب الواقع لسبب المعصية لا يدفعه الفرار، وإنما يدفعه التوبة والاستغفار، كذا في الأوجز 14/76) وكذا الحكم في كل وباء عامّ.
(2) قوله: أخبرنا الوليد بن عبد الله بن صيّاد: هو أخو عمارة بن عبد الله بن صيّاد، قال الزرقاني: لم يذكره البخاري في "تاريخه" ولا ابن أبي حاتم، ولا ترجم له ابن عبد البر، لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" وكفى برواية مالك عنه توثيقاً.
(3) قوله: أن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، وقع في "موطأ يحيى": حويطب، وهو غلط وهو أبو الحكم المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَب بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الطاء المهملة بعدها باء موحَّدة ابن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم المخزومي، القرشي، المدني من ثقات التابعين، كذا في "جامع الأصول". وذكر الحافظ أن روايته هذه مرسلة وهو كثير الإِرسال، ولعله أخذه من عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة.
(4) قوله: أخبرنا الوليد بن عبد الله بن صيّاد: هو أخو عمارة بن عبد الله بن صيّاد، قال الزرقاني: لم يذكره البخاري في "تاريخه" ولا ابن أبي حاتم، ولا ترجم له ابن عبد البر، لكن ذكره ابن حبان في "الثقات" وكفى برواية مالك عنه توثيقاً.
(5) قوله: أن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، وقع في "موطأ يحيى": حويطب، وهو غلط وهو أبو الحكم المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حَنْطَب بفتح الحاء المهملة وسكون النون وفتح الطاء المهملة بعدها باء موحَّدة ابن الحارث بن عبيد بن عمر بن مخزوم المخزومي، القرشي، المدني من ثقات التابعين، كذا في "جامع الأصول". وذكر الحافظ أن روايته هذه مرسلة وهو كثير الإِرسال، ولعله أخذه من عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبي هريرة، وقد أخرجه مسلم والترمذي من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة.(3/491)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الْغِيبَةُ (1) ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنْ تَذْكُرَ (2) مِنَ الْمَرْءِ مَا يَكْرَهُ أَنْ يَسْمَعَ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا (3) ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إذا قلتَ باطلاً (4) فذلك
__________
(1) قوله: ما الغيبة، أي ما حقيقتها وما هيتها التي أمرنا الله تعالى بالاجتناب عنها بقوله: (ولا يَغْتَب بعضُكم بَعضاً أيُحِبُّ أحَدُكُم أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخِيْهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه) (سورة الحجرات: الآية 12) .
(2) قوله: أنْ تذْكُرَ، أي هو ذكرك من المرء مسلماً كان أو كافراً، بالغاً كان أو صبياً، متّقياً كان أو فاجراً، سواء كان الذكر كتابةً أو نطقاً، أو رمزاً أو إشارةً أو محاكاةً، ونحو ذلك، لكن يُشترط أن يكون في الغيبة فإن كان في حالة الحضرة فهو ليس بغيبة بل من أنواع السب مشافهة. ما يكره أن يسمع، أي شيئاً يكرهه ويحزن منه إن سمعه المغتاب في دينه أو دنياه أو خُلُقه أو أهله، أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته إلى غير مما يتعلق به. وقد استثنى الفقهاء صوراً (قال عيسى بن دينار: لا غيبة في ثلاث: إمام جائر، وفاسق معلن فسقه، وصاحب بدعة المنتقى 7/312) من الغيبة حكموا بجوازها لضرورة أو لمصلحة، بسطها الغزالي في "إحياء العلوم"، وقد شرعت في تأليف رسالة طويلة في هذا الباب مشتملة على الأحاديث والحكايات مع ذكر ما يجوز منها، وما لا يجوز منها، في السنة الثانية والثمانين بعد الألف والمائتين من الهجرة وكتبت منها أجزاء كثيرة ثم وقعت عوائق عن إتمامها وأسأل الله أن يوفقني لاختتامها.
(3) أي وإن كان ما ذكره حقاً صادقاً كأنه ظن أن الغيبة لا يكون إلا بالكذب فاستفسر عن حقيقة الأمر.
(4) أي قولاً كاذباً في حقه.(3/492)
الْبُهْتَانُ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ (2) الزِّلّةَ (3) تَكُونُ مِنْهُ مِمَّا يَكْرَه، فَأَمَّا صَاحِبُ الْهَوَى (4) المُتَعَالِنُ بِهَوَاهُ المتعرِّف (5) بِهِ، وَالْفَاسِقُ الْمُتَعَالِنُ بِفِسْقِهِ فَلا بَأْسَ (6) ، أَنْ تَذْكُرَ هَذَيْنِ بِفِعْلِهِمَا. فَإِذَا ذكرتَ مِنَ الْمُسْلِمِ مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ الْبُهْتَانُ، وَهُوَ الكذب (7) .
__________
(1) أي هو قسم آخر، وهو الافتراء والبهتان وهو أعظم من الغيبة معصيةً (قال الباجي: لما فيه من الباطل. أوجز المسالك 15/284) .
(2) قوله: المسلم، تقييده اتفاقي كما قيد في بعض الروايات بالأخ وإلا فالغيبة تعم الكافر، وتحرم غيبة الذِّمِّيّ كالمسلم، وفي غيبة الكافر الحربي قولان.
(3) قوله: الزّلة، بفتح الزاء وتشديد اللام أي المعصية على سبيل الغفلة.
(4) أي من يتبع هو نفسه ويبتدع برأيه.
(5) أي الطالب الشهرة به.
(6) قوله: فلا بأس أن تذكر، لكن لا لغرض التحقير بل ليحذر الناس منهما، ويحصل الزجر والحياء لهما، وقد ورد: "أترغبون عن ذكر الفاجر بما فيه اهتكوه حتى يعرفه الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس، اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس". وعند أبي الشيخ: "من ألقى جلباب الحياء فلا غِيبة له".
(7) أي نوع منه هو الافتراء والكذب على الغير.(3/493)
56 - بَابُ النَّوَادِرِ (1)
956 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ (2) الْمَكِّيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أَغْلِقُوا الباب (3) ، وأَوْكُوا السِّقاء،
__________
(1) أبو الزبير: محمد بن مسلم بن تَدْرُس.
(2) أبو الزبير: محمد بن مسلم بن تَدْرُس.
(3) قوله: أغلقوا الباب، بفتح الهمزة من الإِغلاق، أي حراسةً للنفس والمال من أرباب الفساد والشيطان. وأَوْكُوا، بفتح الهمزة وسكون الواو من الإِيكاء أي اربطوا. السِّقاء، بكسر السين القِرْبة التي يُسقى منها أي شُدّوا رأسها بالوِكاء وهو بالكسر الخيط الذي يُشدُّ به فم القِرْبة، وهذا للمنع من الشيطان واحتراز عن الوباء الذي ينزل في ليلة من السَّنةَ كما ورد به في الأخبار. وأكْفِئُوا الإِناء، بقطع الهمزة وكسر الفاء، وبوصلها وضمّ الفاء الأولى رُباعي، والثاني ثلاثي أي اقلبوه ولا تتركوا للعق الشيطان والهوامّ المؤذية. أو خمِّروا، من التخمير بمعنى تغطية الإِناء، قيل: إنه شك من الراوي، وقيل: هو من الحديث أي أكفوه إن كان خالياً وخمّروه إن كان شاغلاً، وأطفئوا المصباح، من الإِطفاء أي عند الرُّقاد. فإن الشيطان لا يفتح غَلَقاً بفتحتين أي باباً مُغْلَقاً إذا ذُكر اسم الله عليه. ولا يَحلّ، بفتح حرف المضارع وضم الحاء. وِكاءً، خيطاً رُبط به. ولا يكشف إناءً، إذا خُمِّر أو أُكفي. وإن الفويسقة تصغير الفاسقة أي الفأرة. تَضْرِمُ (قال القاري: بضم التاء وكسر الراء المخففة، وفي نسخة: بتشديدها أي توقد النار وتحرق. مرقاة المفاتيح 8/231) بفتح حرف المضارع وكسر الراء من الضرم أي تُوقِد على الناس بيتهم بأن تجرّ الفتيلة المشتعلة فتلقيها على ثوب أو غيره، وهذه الأوامر إرشادية (ويحتمل أن تكون للندب لا سيما فيمن ينوي امتثال الأمر. كذا في المرقاة) ، وفيها منافع دينية ودنيوية، كذا في "شرح الزرقاني" وغيره.(3/494)
وأَكفئوا الإِناء - أَوْ خمِّروا الإِناء - وَأَطْفِئُوا الْمِصْبَاحَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ غَلَقاً، وَلا يَحُلّ وِكاءً، وَلا يَكْشِفُ إِنَاءً، وَإِنَّ الفُوَيْسِقَة تَضْرِم عَلَى النَّاسِ بيتَهم (1) .
957 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ فِي مِعى وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سبعة أمعاء (2) .
__________
(1) في نسخة: بيوتهم.
(2) قوله: في سبعة أمعاء، جمع مِعًى بالكسر مقصوراً وهو الأشهر، وفيه الفتح والمد، وجمع المقصور أمعاء، كعنب وأعناب، والممدود أمعية كحمار وأحمرة. وقد رُوِي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بطرق عديدة، واختلفوا في معناه لما أن الحسِّ يرفعه فرُبَّ كافر يأكل قليلاً والمسلم كثيراً، فقيل: إن اللام عهدية، والمراد خاص، وهو ما في "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أن رجلاً كان يأكل كثيراً، فأسلم، فكان يأكل قليلاً فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المؤمن يأكل في مِعًى واحد، الحديث. وبهذا جزم ابن عبد البَرّ وقال: لأنَّ المعانية وهي أصحّ علوم الحواسّ تدفع أن يكون ذلك في كل مؤمن وكافر، وقيل: ليست حقيقية العدد مرادة بل المراد قلة أكل المؤمن، وكثرة أكل الكافر، وقيل: المؤمن لقلة حرصه يشبعه ملأ معى واحد، والكافر لا يشبعه إلاَّ ملأ أمعائه السبعة، وقيل: المؤمن إذا أكل سمّى، والكافر لم يسمّ فيشترك معه الشيطان، فيأكل كثيراً. والحكم على هذه الأقوال غالبيّ، وقيل غير ذلك، كما بسطه الزرقاني في "شرحه"(3/495)
958 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيم (1) يَرْفَعُهُ (2) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: السَّاعِي (3) عَلَى الأَرْمِلَةِ (4) وَالْمِسْكِينِ، كَالَّذِي (5) يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ (6) كَالَّذِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ.
959 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ الدِّيلِيُّ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ (7) مَوْلَى أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلَ ذَلِكَ.
__________
(وبسط شيخنا في الأوجز 14/259) .
(1) بالتصغير.
(2) أي يجعل صفوان هذا الخبر مرفوعاً.
(3) أي بالخدمة والنفقة (قال الحافظ: معنى الساعي الذي يذهب ويجيء في تحصيل ما ينفع الأرملة والمسكين. فتح الباري 9/499) .
(4) قوله: على الأرْمِلة، بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الميم، المرأة التي مات زوجها وهي فقيرة وجمعها الأرامل، والحديث مخرَّج عند الشيخين والنسائي وأحمد والترمذي وابن ماجه من رواية أبي هريرة، ذكره القاري.
(5) أي في الثواب.
(6) قال القاري للشك أو للتنويع.
(7) قوله: عن أبي الغيث (أبو الغيث: مولى ابن مطيع لا أبي مطيع كما في التقريب (1/281) واسم أبي الغيث سالم المدني ثقة من الثالثة) مولى أبي مطيع، ذكر في "تهذيب التهذيب" و "التقريب" مولى ابن مطيع، وأنّ اسم أبي الغيث سالم المدني، ذكره ابن حبان في "الثقات" (قال ابن حبان: أبو الغيث، مولى عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشي، عداده في أهل المدينة يروي عن أبي هريرة، روى عنه ثور بن يزيد. كتاب الثقات (4/306)) وثقه ابن سعد وابن معين.(3/496)
960 - أخبرنا مالك، أخبرنا محمد بن عبد الله بْنِ صَعْصعة، أَنَّهُ سَمِعَ سعيدَ بْنَ يَسَار (1) أَبَا الحُباب (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يُرِيد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ (3) .
961 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ (4) ابنَيْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الشُّؤْمَ (5) فِي الْمَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالْفَرَسِ.
__________
(1) بفتح الياء والسين.
(2) بضم الأول.
(3) قوله: يُصِبْ منه، قال القاري: أي ابتلاه بالمصائب والأمراض وهو بضم أوله وكسر ثانيه، وفاعله ضمير راجع إلى الله، وضمير "منه" راجع إلى "مَنْ"، والرواية بالبناء للفاعل في الأشهر على ما ذكره السيوطي، والحديث رواه البخاري وأحمد.
(4) هو شقيق سالم بن عبد الله، مدني ثقة كذا في "التقريب".
(5) قوله: إن الشؤم، بضم الشين، وواوه همزة خُفِّفَت فصارت واواً وهو ضد اليُمْن. في المرأة والدار والفرس، أي كائن فيها، وقد اختلفوا في معناه لكونه مخالفاً لظاهر الأحاديث الواردة بنفي الطِّيَرة ونفي الشؤم على أقوال، منها: ما أشار إليه صاحب الكتاب من أن أصل الحديث إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس، فليس فيه إثباته فيها بل معناه إنْ كان في شيء ففي هذه الأشياء لكنه ليس فيها ولا في غيره، وهذا اللفظ أخرجه مالك وأحمد والبخاري وابن ماجه من حديث سهل بن سعد، والشيخان من حديث ابن عمر، ومسلم والترمذي من حديث جابر، وفيه أن بعض طرق الحديث مصرِّحة بوجود الشؤم في هذه الأشياء ففي بعضها عند الشيخين "لا عدوى وطِيَرة، إنما الشؤم في ثلاثة". ومنها: أنه إخبار عما كان يعتقده أهل الجاهلية، وقد أنكرت عائشة على أبي هريرة حين سمعت أنه يروي ذلك،(3/497)
قَالَ مُحَمَّدٌ: إِنَّمَا بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ.
962 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كنت مع عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِالسُّوقِ عِنْدَ دَارِ خَالِدِ (1) بْنِ عُقْبَةَ، فَجَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ (2) أَنْ يُناجِيَه، وَلَيْسَ مَعَهُ أحدٌ غَيْرِي وَغَيْرُ الرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُناجِيَه، فَدَعَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَجُلا آخَرَ حَتَّى كُنَّا أَرْبَعَةً (3) قال (4) : فقال لي
__________
وقالت: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يطيِّرون بذلك. وفيه أنه لا معنى لإِنكاره فقد وافق أبا هريرة جمعٌ من الصحابة بروايته من غير ذكر الجاهلية. ومنها: وهو أرجحها أن الشؤم يكون في هذه الثلاثة غالباً بحسب العادة لا بحسب الخلقة ولا يكون شيء من ذلك إلا بقضاء الله وقدره، فمن وقع شيء من هذه الأشياء أبيح له تركه، وهناك أقوال أُخَر أيضاً مبسوطة، في" فتح الباري" (6/61، وفي بذل المجهود 16/251، أن الطيرة بمعنى الشؤم الذاتي والنحوسة الذاتية منتفية حيث أوردها بلفظ إن الشرطية الدالة على أنه غير واقع، فالمعنى لو تحقق الشؤم في شيء بهذا المعنى لكان في هذه الثلاثة لكنه غير متحقق فيها فلا يتحقق في شيء، وأما الشؤم بمعنى ما يلحق من المضار أحياناً أو قلة الجدوى في بعض أفرادها نسبة إلى البعض الآخر منها فغير منفي بل أثبته بعد قوله الشؤم في الدار إلى آخره) وغيره.
(1) قوله: خالد بن عُقْبة، بضم العين وسكون القاف ابن أبي معيط القريشي الأموي، صحابي من مُسلمة الفتح وداره كانت بسوق المدينة، ذكره الزرقاني.
(2) أي يقصد أن يُسارِرَ ابن عمر.
(3) أي صرنا أربعة أنا وابن عمر والمناجي وآخر.
(4) أي ابن دينار.(3/498)
وَلِلرَّجُلِ الَّذِي دَعَا: اسْتَرْخِيَا (1) شَيْئًا فَإِنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يَتَنَاجَى (2) اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ (3) .
963 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ (4) : إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يسقط ورقُها، وإنها
__________
(1) أي استأخرا عن هذا الموضع قليلاً بحيث لا يسمعان التناجي.
(2) بألف مقصورة.
(3) قوله: اثنان دون واحد، لأنه يُوقع الحزن والملال في قلبه، وقد يخطر بباله أن التناجي في ما يتعلق بحاله فيتأذّى به، وهو منافٍ لحُسْن العِشرة والمودَّة، وخصه بعضهم بالسفر لأنه مظنة الخوف وليس بجيِّد، بل العلة عامة والحكم يعُمُّ بعمومها.
(4) قوله: قال، في رواية للبخاري: قال ابن دينار: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُتي بجُمَّارة، فقال: إن من الشجر أي من جنسه شجرةً بالنصب اسم لإِنّ وخبرها مقدم، والتنوين للتنويع أي نوعاً لا يسقط بضم القاف معروف، فاعله وَرَقُها بفتحتين أي في أيام سقوط أوراق الأشجار. وإنها، بكسر الهمزة أي تلك الشجرة. مثل، بكسر الميم أو بفتحتين. المسلم، أي حاله العجيب الغريب، وصفته كصفة تلك الشجرة، ووجه الشبه أنه كما لا يسقط ورقها، وكذلك لا يذهب نور إيمانه ولا تسقط دعوته كما هو عند الحارث ابن أبي أسامة عن ابن عمر: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا يسقط لها أنملة، أتدرون ما هي؟ قالوا: لا، قال: هي النخلة، لا يسقط لها أنملة (في الأصل أبلمة، وهو تحريف والصواب أنملة كما في فتح الباري 1/145) ولا يسقط لمؤمن دعوة فحدِّثوني ما هي؟ خطاب إلى الحاضرين من الصحابة، واستُفيد منه جواز اختبار العالم حُضَّار مجلسه. قال فوقع(3/499)
مَثَلُ الْمُسْلِمِ فحدِّثوني مَا هِيَ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، قَالَ: فاستحييتُ، فَقَالُوا: حَدِّثْنا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هِيَ؟ قَالَ: النَّخْلَةُ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فحدَّثتُ (1) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بِالَّذِي وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لأَنْ تَكُونَ (2) قُلْتَها أحبُّ إليَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.
964 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غِفار (3) غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ: سَالَمَهَا اللَّهُ وعُصَيَّةُ: عصتِ الله ورسولَه.
__________
الناس في شجر البوادي، أي ذهبت أفكارهم إلى أشجار البادية دون النخلة. فوقع في نفسي أنها النخلة، أي ظننت أن هذه التي شُبِّه بها المسلم هي النخلة. فاستحييت، من أن أتكلم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعمر وغيرهما من أكابر الصحابة توقيراً لهم وهيبةً. فقالوا: حدَّثنا، بصيغة الأمر، كذا في "فتح الباري" وغيره.
(1) أي أخبرته بأنه وقع في قلبي ولم أذكره حياءً.
(2) أي أن قولك إنها النخلة في الحضرة النبوية عند اختباره كان أحبَّ لي من كذا وكذا من الدنيا لأنه منقبة عظيمة.
(3) قوله: غِفار، قال القاري: منوَّناً، وغير منوَّن: رهطٌ منهم أبو ذر الغِفاري. غفر الله لها، أي أقول ذلك في حقهم، وكان بنو غفار يسرقون الحُجَّاج فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلموا ليذهب عنهم ذلك العار. وأسلم، بالفتح قبيلة أخرى. سالمها الله، أي صنع الله ما يوفقهم ولا يؤذيهم. وإنما دعا لهما لأنهما دخلا في الإِسلام بغير حرب. وعُصَيَّة، يالتصغير جماعة قتلوا قُرَّاء بئر معونة عصت الله ورسوله.(3/500)
965 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: كُنَّا حِينَ نُبَايِعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على السَّمْعِ (1) وَالطَّاعَةِ (2) يَقُولُ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ (3) .
966 - أَخْبَرَنَا مالك، أخبرنا عبد الله بن دينار، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِ (4) الحِجْر: لا تَدْخلوا عَلَى هَؤُلاءِ الْقَوْمِ المعذَّبين (5) إلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلا تَدْخُلُوا عليهم أنْ يصيبكم (6) مثلَ ما أصابهم.
__________
(1) أي سمع الأوامر والنواهي.
(2) أي طاعة الله ورسوله وأولي الأمر.
(3) بكمال شفقته (قال صاحب المحلى: أي يلقن أحدهم أن يقول: "فيما استطعت" لئلا يدخل في بيعته ما لا يطيقه، قاله النووي، كذا في الأوجز 15/257) .
(4) قوله: لأصحاب الحِجْر، بكسر الحاء وسكون الجيم أي في حقهم، وهم ثمود قوم صالح المذكورون في قوله تعالى: (ولَقَدْ كَذَّبَ أصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِين) (سورة الحجر: الآية 80) وحِجْر مدينتهم بين المدينة النبوية وبين الشام، وكان مروره صلى الله عليه وسلم عليها في سنة غزوة تبوك، ولمّا مرّ به قال: لا تدخلوا مسكن الذين ظلموا إلاَّ أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم، وتقنَّع بردائه وأسرع السير حتى جاز الوادي، ذكره البغوي في "تفسيره".
(5) بصيغة المفعول.
(6) أي كراهة أن يصيبكم مثله أو لئلّا يصيبكم مثله.(3/501)
967 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي مُحَيريز (1) قَالَ: أدركتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: مِنْ (2) أَشْرَاطِ (3) السَّاعَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمَعْرُوفَةِ (4) أَنْ تَرَى (5) الرَّجُلَ يَدْخُلُ الْبَيْتَ لا يشُكُّ مَنْ رَآهُ أَنْ يَدْخُلَهُ لِسُوءٍ (6) غَيْرَ أَنَّ الجُدُر (7) تُوارِيه.
968 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي عَمِّي أَبُو سُهَيْلٍ (8) قَالَ: سمعتُ أَبِي (9) يَقُولُ: مَا أَعْرِفُ (10) شَيْئًا مِمَّا كَانَ النَّاسُ عَلَيْهِ إلاَّ النداء بالصلاة.
__________
(1) قوله: عن أبي مُحَيْريز، بضم الميم وفتح الحاء وسكون الياء وكسر الراء ثم سكون الياء ثم زاء معجمة. وفي نسخة ابن محيريز وهو أبو محيريز عبد الله بن محيريز بن جنادة المكي، من رهط أبي محذورة كان يتيماً في حَجره، روى عن أبي محذورة وأبي سعيد الخُدري ومعاوية وعبادة بن الصامت، وأمّ الدرداء وغيرهم، تابعي ثقة من خيار المسلمين، كذا في "التهذيب التهذيب".
(2) تبعيضية، والغرض منه بيان فساد الزمان وشيوع العصيان.
(3) جمع شرط بالفتح بمعنى العلامة.
(4) صفة للساعة أو للأشراط.
(5) بصيغة الخطاب.
(6) أي لمعصية من زنا أو سرقة.
(7) بضمتين، جمع جدار يعني أن الجدر تستره.
(8) اسمه نافع.
(9) هو مالك بن أبي عامر الأصبحي جدّ الإِمام مالك.
(10) قوله: ما أعرف شيئاً مما أدركت الناس، أي الصحابة. عليه إلاَّ النداء(3/502)
969 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي (1) مُخْبِرٌ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنِّي (2) أُنَسىَّ لأَسُنَّ.
__________
بالصلاة، أي الأذان فإنه باقٍ على ما كان عليه، لم يدخل فيه تغيُّر ولا تبديل بخلاف غيره حتى الصلاة فقد أُخِّرت عن أوقاتها، كذا قال الباجي، ومما يوافقه قول أبي الدرداء حيث دخل على أمّ الدرداء مُغْضَباً فقالت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً إلاَّ أنهم يصلون جميعاً. وهذا بالنسبة إلى زمان الصحابة والتابعين، فكيف لو رأيا زماننا هذا الذي شاعت فيه البدعات وراجت المنكرات أو اتُّخذت البدعة سنة، والسنَّة بدعة، وصار المنكر معروفاً والمعروف منكراً، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.
(1) قوله: أخبرني مخبر، قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه، وهو أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد في غير "الموطأ" مسندة ولا مرسلة ومعناه صحيح في الأصول. انتهى. قال الزرقاني: وما وقع في "فتح الباري" أنه لا أصل له فمعناه يُحتجُّ به لأنَّ البلاغ من أقسام الضعيف وليس معناه أنه موضوع إذ ليس البلاغ بموضوع عند أهل الفن لا سيَّما من مالك.
(2) قوله: إني أُنَسّى، قال القاري: بتشديد السين بمعنى على المفعول أي يرد عليَّ النسيان. لأَسُنَّ، بفتح فضم فتشديد أي لأبين طريقاً يسلك في الدين فهو سبب لإِيراد النسيان وعروضه. انتهى. ووقع في "موطأ يحيى": إني لأَنْسَى أو أُنَسَّى لأسُنَّ، الأول بصيغة المعروف والثاني بصيغة المجهول، وأو للشك عند بعضهم، وقال عيسى بن دينار، وابن نافع: ليست للشك، بل معنى ذلك أنسى أنا أو يُنسِّني الله، ووجهه أن يُراد: إني لأَنْسَى في اليقظة وأُنَسّى في النوم فأضاف النسيان في اليقظة إليه، لأنها حالة التحرُّز، والنسيان في النوم إلى الله لما كانت حالاً لا يقبل التحرز، ويحْتمل أن يراد: إني أنسى حسب ما جرت به العادة من النسيان مع السهو والذهول، أو أُنَسّى مع تذكُّر الأمر، فأضاف الثاني إلى الله كذا(3/503)
970 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، بْنُ أَنَسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَادَةَ (1) بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ عُتْبَةَ: أَنَّهُ رَأَى (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَلْقِيًا (3) فِي الْمَسْجِدِ (4) ، وَاضِعًا إِحْدَى يديه (5) على الأخرى.
__________
ذكره الباجي. وذكر القاضي عياض في "الشفا" أنه رُوي: إني لا أنسى ولكني أُنَسَّى لأسنّ، وروي: لست أنسى ولكني أُنَسَّى لأسن.
(1) قوله: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عُتْبَةَ، هكذا وجدنا في نسخ عديدة. والذي في "موطأ يحيى": مالك، عن عباد عن تميم المازني، عن عمه، وهكذا أخرجه البخاري في أبواب المساجد، وأبواب اللباس، وأبواب الاستئذان، ومسلم في أبواب اللباس، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الاستئذان، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الصلاة: كلهم من طريق مالك. ونص الترمذي على أن عمّ عباد بن تميم المازني هو عبد الله بن زيد المازني، وكذا نص عليه شُرّاح صحيح البخاري: ابن حجر في "فتح الباري"، والعيني في "عمدت القاري"، والكرماني في "الكواكب الدراري"، والقسطلاّني في "إرشاد الساري". وذكروا أيضاً أن عَبّاد بفتح العين وتشديد الباء، وأن عبد الله بن زيد عَمُّه أخو أبيه لأمه، وقد مرَّ منا ذكرهما في ما سبق.
(2) فيه جواز الاستلقاء والاتكاء وأنواع الاستراحة في المسجد.
(3) حال.
(4) أي المسجد النبوي.
(5) قوله: واضعاً إحدى يديه على الأخرى، قال الخطّابي: فيه بيان جواز هذا الفعل، والنهي الوارد فيه، وهو ما رُوي عن جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع الرجل إحدى يديه على الأخرى وهو مستلقٍ، أخرجه مسلم وغيره منسوخ، وبه جزم ابن بطّال، وقال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان ذلك في وقت الاستراحة لا في مجتمع الناس لما عُرف من عادته صلى الله عليه وسلم من الجلوس بينهم(3/504)
971 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا كَانَا يَفْعَلانِ ذَلِكَ (1) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا نَرَى بِهَذَا بَأْسًا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
972 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: قِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: لَوْ دُفِنْتِ (2) مَعَهُمْ قَالَ: قَالَتْ: إِنِّي إِذًا لأَنا (3) الْمُبْتَدِئَةُ بِعَمَلِي.
973 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: قَالَ سَلَمَةُ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا شَأْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ لَمْ يُدْفن مَعَهُمْ (4) ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ كانوا يومئذٍ متشاغلين (5) .
__________
بالوقار التام. وجمع البيهقي والبغوي بأن النهي حيث يخشى بدوّ العورة والجواز حيث يُؤمَن ذلك. وهو أولى من دعوى أن النهي منسوخ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
(1) قوله: كانا يفعلان ذلك، وكذا نُقل فعل ذلك أي الاستلقاء واضعاً إحدى رجليه على الأخرى عن ابن مسعود وابن عمر وأسامة بن زيد وعثمان وانس، أخرجه ابن أبي شيبة، وبه قال الحسن البصري والشعبي وابن المسيِّب ومحمد بن الحنفية وغيرهم. ورُوي عن محمد بن سيرين ومجاهد وطاووس والنخعي وابن عباس وكعب بن عجرة الكراهة، كذا في "عمدة القاري".
(2) أي لو وَصَّيْتِ بأن تدفني مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحجرة لكان أحسن.
(3) أي إني حينئذٍ لمستأنفة بعملي في المستقبل، ويحبط عملي الماضي، يعني لو فعلتُ ذلك لحبط عملي كأنها قالته تواضعاً وأدباً.
(4) أي مع نبيِّه وضجيعَيْه.
(5) أي في أمر الفتنة فلم يتيسِّر لهم ذلك ودفنوه بقرب البقيع.(3/505)
974 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار (1) : أن النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ وُقِيَ (2) شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ (3) الجنَّة - وَأَعَادَ (4) ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ - مَنْ وُقِيَ شَرَّ اثْنَيْنِ وَلَجَ الْجَنَّةَ مَا بَيْنَ لحَيَيْه وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ.
975 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى (5) بْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ يَقُولُ: لا تُكثروا (6) الْكَلامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ الله، فتقسُوَ (7) قلوبُكم
__________
(1) قوله: عن عطاء بن يسار، مرسلاً بلا خلاف أعلمه عن مالك، قاله ابن عبد البر. قال الزرقاني: ورواه البخاري والترمذي موصولاً من حديث سهل بن سعد، والعسكري وابن عبد البر وغيرهما عن جابر، والترمذي والحاكم وابن حبان عن أبي هريرة، والبيهقي والديلمي عن أنس.
(2) مجهول أي حُفظ.
(3) من الولوج بمعنى الدخول.
(4) قوله: وأعاد، أي أعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول ثلاث مرات، وقال له رجل في كل مرة ألا تخبرنا؟ فسكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الرابعة مفسِّراً "من وُقي شرّ إثنين ولج الجنة". ما بين لَحْيَيْه - بفتح اللام: هما العظمان النابتتان في جانب الفم اللتان عليهما شعر اللحية وما بينهما هو اللسان - وما بين رجليه يعني فرجه، ووقع في "موطأ يحيى" تكرارها العبارة ما بين لحييه وما بين رجليه ثلاث مرات، قال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلايا على المرء في الدنيا لسانه وفرجه فمن وُقِيَ شرَّهما وُقِيَ أعظم الشرّ.
(5) خاتم أنبياء بني إسرائيل.
(6) أي بل أكثروا ذكر الله.
(7) بالنصب أي بسبب الغفلة عن الله.(3/506)
فَإِنَّ الْقَلْبَ (1) الْقَاسِيَ بَعِيدٌ مِنَ (2) اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (3) وَلا تَنْظُرُوا فِي ذُنُوبِ النَّاسِ كَأَنَّكُمْ أَرْبَابٌ (4) وَانْظُرُوا فِيهَا كَأَنَّكُمْ (5) عَبِيدٌ، فَإِنَّمَا النَّاسُ (6) مُبتَلًى (7) ومُعافىً فَارْحَمُوا (8) أَهْلَ الْبَلاءِ (9) واحمدوا الله تعالى على العافية (10) .
__________
(1) تعليل للنهي.
(2) أي من رحمته ولطفه.
(3) قوله: ولكن لا تعلمون، أي هذا الأمر أنَّ كثرة الكلام بغير الذكر يُقسي القلب، وأنه بعيد من الله، وورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم: لا تُكثر الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي، أخرجه الترمذي.
(4) جمع رب أي لا تنظروا إلى المذنبين بنظر الحقارة كما ينظر الربّ إلى عبده.
(5) ليحصل لكم الخشية والخوف.
(6) أي لا يخلو الناس عن أحد هذين.
(7) أي بالذنوب (أو العاهات والمصائب كذا في الأوجز 15/280) .
(8) بالدعاء لهم، وستر عيبوهم.
(9) أي المبتلين بالذنوب.
(10) من الذنوب.(3/507)
976 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنِي سُمَيٌّ (1) مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ (2) السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّفَرُ قِطْعَةٌ (3) مِنَ الْعَذَابِ، يَمْنَعُ أحدَكم نومَه وطعامَه وشرابه، فإذا قضى
__________
(1) قوله: حدَّثني سمّي، هكذا عند جميع رواة الموطأ إلاَّ أنَّ عند بعضهم: "عن سُمَيّ" بدون ذكر التحديث، وشذّ خالد بن مخلد، فقال: مالك، عن سهيل أخرجه ابن عدي، وذكر الدارقطني أن ابن الماجشون رواه عن مالك، عن سهل وأنه وهم فيه، والمحفوظ عن مالك عن سمّي، ورواه عتيق بن يعقوب، عن مالك عن أبي النضر، أخرجه الدارقطني والطبراني ووهم فيه أيضاً على مالك، ورواه روّاد بن الجراح، عن مالك، عن ربيعة، عن القاسم، عن عائشة، وعن سمّي، عن السمّان إلخ، فزاد إسناداً آخر أخرجه الدارقطني، وقال: أخطأ فيه روّاد وليس ممن يُحتجّ به، والمعروف أنّّ مالكاً تفرَّد بهذا الإِسناد بهذه الرواية عن سمّي حتى قال عبد الملك الماجشون، قال مالك: ما لأهل العراق يسألوني عن حديث "السفر قطعة من العذاب؟ " فقيل: لم يروه عن سُمَيّ غيرك، فقال: لو عرفت ما حدَّثت به. وكذا تفرد سُمَيّ بروايته عن أبي صالح ولا يُحفظ عن غيره، وروى أبو مصعب عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل، عن أبيه مثله. وهذا يدلُّ على أنَّ له في حديث سهيل أصلاً، وأما أبو صالح فلم يتفرَّد به بل رواه عن أبي هريرة سعيد المقبري عند أحمد وجمهان عند ابن عدي ولم ينفرد به أبو هريرة أيضاً، فرواه الدارقطني والحاكم بإسناد جيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وفي الباب عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وجابر عند ابن عدي بأسانيد ضعيفة. هذا ملخص ما بسطه ابن عبد البر وابن حجر.
(2) اسمه ذكوان.
(3) قوله: قطعة، بالفتح، أي جزء من العذاب، وبيَّن وجهه بقوله: يمنع أحدكم أي في السفر نومه وطعامه وشرابه بنصب أواخرها بنزع الخافض أو على أنه مفعول ثانٍ، والأول أحدكم أي يمنع السفر أحدكم معتاده في النوم وغيره. وسئل(3/508)
أحدُكم نَهمته (1) مِنْ وَجْهِهِ (2) فَلْيُعَجِّلْ (3) إِلَى أَهْلِهِ.
977 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ علمتُ أَنَّ أَحَدًا (4) أَقْوَى عَلَى هَذَا الأَمْرِ مِنِّي لَكَانَ أنْ أُقدِّم (5) فيُضرب عُنُقِي أهونُ عليَّ (6) ،
__________
إمام الحرمين حين جلس موضع أبيه: لِمَ كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور لأن فيه فراقَ الأحباب، قال ابن بطال: ولا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر مرفوعاً: "سافروا تصحّوا"، لأنه لا يلزم من الصحة بالسفر لما فيه من الرياضة أن لا يكون قطعة من العذاب. انتهى. وفي "شرح الزرقاني" ورد عليَّ سؤال من الشام هل ورد السفر قطعة من سقر كما هو دارجٌ على الألسنة فأجبت لم أقف على هذا اللفظ، ولم يذكره الحافظان السخاوي والسيوطي في الأحاديث المشهورة على الألسنة، فلعل هذا اللفظ حدث بعدهما، ولا تجوز روايته بمعنى الحديث الوارد إذ من شرط الرواية بالمعنى أنْ يُقطع بأنه أُدِّي بمعنى اللفظ الوارد، وقطعة من سقر لا يؤدِّي معنى قطعة من العذاب بمعنى التألم من المشقة لأن لفظ سقر يقتضي المشقة جداً. انتهى. وفي "شرح القاري": ما اشتهر على الألسنة أن السفر قطعة من السقر فليس بمحفوظ، وإنما يُحكى عن عليّ (الحديث أخرجه البخاري في باب العمرة تحت باب السفر قطعة من النار) .
(1) بفتح النون أي حاجته.
(2) أي مقصده، وعند ابن عدي: فإذا قضى أحدكم وطره من سفره.
(3) من التعجيل: أي فليرجع إلى أهله عاجلاً لينجو من العذاب والمشقة.
(4) أي أحد من الصحابة أقوى على إقامة الخلافة وانتظامها.
(5) أي بين يدي الناس.
(6) أي أسهل عليَّ من تحمُّل هذا الأمر الخطير.(3/509)
فَمَنْ وَليَ هَذَا الأَمْرَ بَعْدِي (1) فَلْيَعْلَمْ أَنْ سَيَرُدُّهُ عَنْهُ (2) القريبُ والبعيدُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كنتُ لأُقَاتِلُ النَّاسَ عَنْ نَفْسِي.
978 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنِي مُخْبرٌ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه، قال: كان الناس (3) وَرَقاً (4) لا شَوْكَ فِيهِ، وَهُمُ الْيَوْمَ شَوْكٌ (5) لا وَرَقَ فِيهِ، إِنْ تركتَهم (6) لَمْ يَتْرُكُوكَ وَإِنْ نقدتَهم نَقَدُوكَ.
979 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ (7) عَلَيْهِ السَّلامُ أَوَّلَ النَّاسِ ضيَّف الضيف،
__________
(1) أي من صار وليّاً للخلافة بعد موتي.
(2) قوله: فليعلم أن سيردَّه عنه، أي عن نفسه باللطف والعنف. القريب والبعيد، أي أهل بلده وغيرهم، أو الأقارب والأجانب. وأيم الله قسم. إن كنت، أي قد كنت لأقاتل الناس خاصة وعامة عن نفسي حتى لا يكون لأحد عليَّ اعتراض في ديني ودنياي وعرضي، كذا ذكره القاري.
(3) أي السابقون الأولون.
(4) يفتحتين: أي كورق من أوراق الأشجار الخالية عن الشوك، أي لم يكن ضرر في مصاحبتهم.
(5) أي يضرّ مجالستهم ويصل النقصان منهم.
(6) قوله: إن تركتهم، أي إن تركتهم على حالهم ولم تتعرَّضْ منهم لا يتركونك بل يبحثون عن حالك، وإن نقدتهم بأن تكلَّمت في حقهم ما هو حق، وتعرضت بأحوالهم، وميَّزت بين حقهم وباطلهم نقدوك، وتكلموا في حقك عوضاً ولو بالباطل. وأشار بذلك إلى فساد الزمان وأهله وهذا بالنسبة إلى عصره فما باله من عصرنا هذا؟.
(7) قوله: كان إبراهيم، الخليل على نبينا وعليه السلام. أول الناس ضيّف(3/510)
وَأَوَّلَ النَّاسِ (1) اخْتَتَنَ، وَأَوَّلَ النَّاسِ قصَّ شَارِبَهُ، وَأَوَّلَ النَّاسِ رَأَى الشَّيْبَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَارٌ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: ربِّ زِدْنِي وَقَارًا.
980 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُه عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ (2) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأني
__________
الضيفَ، وكان له فيه اهتمام بليغ حتى كان لا يأكل بغير ضيف. وأول الناس اختتن، من الاختتان وهو ابن ثمانين سنة بالقَدوم بالفتح كما أخرجه الشيخان وهو بالفتح - اسم آلة النجّار - يعني الفاس، وقيل هو اسم موضع وقع اختتانه فيه، وفي رواية لابن حبان وغيره: أنه اختتن وهو ابن مائة وعشرين وعاش بهده ثمانين. وأول الناس قص شاربه، أي قطعه. وأول الناس رأى الشيب، أي بياض الشعر، فقال: يا رب ما هذا؟ سأله تعجُّباً لمّا لم يكن له سابقة به. فقال الله: وقار، أي باعث وقار وعزة بين الناس، فقال: رب زدني وقاراً. وكذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تنتفوا الشيب فإنه نور الإِسلام". ومن أوليات إبراهيم أنه أول من قصَّ أظفاره واستحدَّ، ذكره ابن أبي شيبة، عن أبي سعيد، وأول من تَسَرْوَل، وأول من فرق كما عند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة، وأول من خضب بالحِنّاء والكتم، أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعاً، وأول من خطب على المنبر أخرجه ابن أبي شيبة، عن سعد بن إبراهيم عن أبيه، وأول من قاتل في سبيل الله أخرجه ابن عساكر عن جابر، وأول من رتب العسكر ميمنة وميسرة، أخرجه ابن عساكر عن حسان بن عطية، وأول من عمل القسي، أخرجه ابن أبي الدنيا، عن ابن عباس، وأول من عانق، أخرجه ابن أبي الدنيا عن تميم الداري، وأول من ثرّد الثريد، أخرجه ابن سعد عن الكلبي، وأول من اتخذ الخبز المبلقس أخرجه الديلمي عن نبيط بن شريط، وأول من راغم، أخرجه أحمد، عن مطرف، كذا ذكره السيوطي.
(1) في نسخة: من.
(2) في بعض أسفاره حين رأى موسى يذهب إلى مكة ملبِّياً.(3/511)
أَنْظُرُ (1) إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَهْبِطُ (2) مِن ثنيَّة (3) هَرْشي مَاشِيًا، عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَسْوَدُ.
981 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَنْصَارَ ليُقطِع (4) لَهُمْ بالبَحرين (5) ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ إلاَّ أَنْ تُقْطِع (6) لإِخوانِنا مِنْ قُرَيْشٍ مِثْلَهَا، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَقَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي (7) أَثَرَة فَاصْبِرُوا حَتَّى تلقَوْني.
__________
(1) فيه إثبات حياة الأنبياء وأنهم يحجّون ويصلّون.
(2) أي ينزل.
(3) بفتح الثاء المثلثة وكسر النون وتشديد الياء. وهَرْشي، يفتح الهاء وسكون الراء بعدها شين مفتوحة مقصورة موضع بين مكة والمدينة، كما في "النهاية".
(4) أي من إقطاع الأراضي بالبحرين.
(5) بلد قريب البصرة.
(6) قوله: إلاَّ أن تقطع، أي لا نرضى بأن تقطع لنا إلاَّ أن تقطع لنا مرتين أو ثلاث مرات لإِخواننا من قريش المهاجرين، فإن لهم علينا فضلاً. وهذا من كمال زهد الأنصار ومواساتهم للمهاجرين.
(7) قوله: إنكم سترون بعدي، أي بعد موتي أَثَرة (قال الحافظ: أشار بذلك إلى أن الأمر يصير في غيرهم فيختصون دونهم بالأموال وكان الأمر كما وصف صلى الله عليه وسلم، وهو معدود فيما أخبر به من الأمور الآتية فوقع كما قال. فتح الباري 7/118) بفتحتين أي يستأثر عليكم غيركم في ما تستحقونه من المناصب العلية كالإِمارة والقضاء فاصبروا حتى(3/512)
982 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلْقَمَةَ (1) بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ (2) يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول (3) : إنما
__________
تلقَوْني أي يوم القيامة. ورواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي بلفظ إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، كذا في "شرح القاري".
(1) هكذا في نسخ عديدة وفي نسخة علقمة بن وقاص وهو الصحيح الموافق لروايات كثيرين، قال في "التقريب" علقمة بن وقّاص بتشديد القاف الليثي المدني، ثقة ثبْت. أخطأ من زعم أن له صحبة، وقيل: إنه وُلد في العهد النبوي، مات في خلافة عبد الملك.
(2) في نسخة: ابن وقّاص.
(3) قوله: يقول، هذا الحديث أحد أركان الإِسلام قد أخرجه جمع من العظام، فرواه البخاري في "صحيحه" في مواضع (انظر رقم: 1، 54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953) : في باب الوحي بلفظ: "إنما الأعمال بالنيات" وفي كتاب النكاح بلفظ: "العمل بالنية"، وفي كتاب العتق بلفظ: "الأعمال بالنية"، وكذا في الهجرة، وفي كتاب الأيمان بلفظ إنما الأعمال بالنية، وكذا في كتاب الحِيَل. وعند مسلم في الجهاد "إنما الأعمال بالنية"، وكذا أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي، وعند ابن حبان والحاكم "الأعمال بالنيات". وهذه الطرق كلها تدور على يحيى بن سعيد، عن التيمي، عن علقمة، عن عمر. وذكر ابن دحية أنه أخرجه مالك في "الموطأ" ونسبه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وفي "التلخيص الحبير" إلى الوهم، وقال: صدر هذا الوهم من الاغترار بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك، وردّه السيوطي في "تنوير الحوالك" بقوله في "موطأ محمد بن الحسن"، عن مالك أحاديث يسيرة زائدة على(3/513)
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لامرئٍ (1) مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجرتُه (2) إِلَى اللَّهِ ورسولهِ فَهِجْرَتُهُ (3) إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصيبُها أَوِ امرأةٍ (4) يتزوَّجُها فهجرتُه إِلَى مَا
__________
ما في سائر الموطآت، منها حديث إنما الأعمال بالنية، وبذلك يتبين صحة قول من عزى روايته إلى "الموطأ" ووهم من خطأه في ذلك. انتهى. وهذا الحديث لم يصح إلاَّ من هذا الطريق الفرد، فلم يصح عن رسول الله إلاَّ عن عمر، ولا عن عمر إلاَّ من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلاَّ من رواية التيمي، ولا عن روايته إلاَّ من رواية يحيى، وانتشر عنه وصار مشهوراً، فرواه أكثر من مائتي إنسان، وقد وردت لهم متابعات لا يخلو أسانيدهم عن شيء كما حققه الحافظ في "شرح النخبة" وغيره.
(1) قوله: وإنما لامرئ ما نوى، ذكر القرطبي وغيره أنه تأكيد للجملة الأولى، والأَوْلى ما ذكره النووي أنها تفيد اشتراط تعيين المنوي كمن عليه فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعيَّنها. والجملة الأولى تفيد اشتراط مطلق النية، ومعناه إنما ثواب الأعمال بالنية وهذا متفق عليه، أو صحة الأعمال بالنية، وفيه خلاف مشهور بين الحنفية والشافعية في العبادات الغير (هكذا جاء في الأصل: (الغير المقصودة) وهو استعمال خاطئ، وغلط شائع، لما جمع فيه من إدخال "ال" عل "غير" مع الإِضافة إلى ما فيه "ال" وصوابه أن يقال (العبادات غير المقصودة) المقصودة.
(2) أي كان قصده من هجرته وتركه دار الحرب طاعةَ الله ورسوله ورضاه.
(3) أي فهي موجبة للثواب ولرضاء الله ورسوله.
(4) قوله: أو امرأة، ذكرها على حدة مع دخولها تحت دنيا للزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشدّ، وقيل: خصّها (في الأصل: "خصه"، وهو خطأ) بالذكر لما أن رجلاً هاجر من مكة إلى(3/514)
هَاجَرَ (1) إِلَيْهِ.
57 - بَابُ الْفَأْرَةِ (2) تَقَعُ فِي السَّمْن
983 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبيد اللَّهِ (3) بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ (4) : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل (5) عن فأرة وقعت
__________
المدينة ليتزوج امرأة تسمَّى أم قيس، وكان يقال له مهاجر أم قيس، فلهذا خَصَّ في الحديث ذكر المرأة، قال الحافظ في "فتح الباري": قصة مهاجر أم قيس، رواها سعيد بن منصور والطبراني، لكن ليس فيه أن هذا الحديث سيق لأجله.
(1) أي من أمور الدنيا لا خلاق له في العقبى.
(2) عبيد الله: نسبة إلى جَدِّهِ فإنه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة - بالضم - بن مسعود.
(3) عبيد الله: نسبة إلى جَدِّهِ فإنه عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة - بالضم - بن مسعود.
(4) قوله: عن عبد الله بن عباس، ظاهره أن الحديث من مسند ابن عباس، وكذا رواه القعنبي وغيره، ورواه أشهب وغيره عنه بترك ابن عباس، وذكر ميمونة بعد عبيد الله، وأبو مصعب ويحيى بن بكير عنه بإسقاطها، والصواب ما في "موطأ يحيى": مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن ميمونة، واختَلف فيه أصحاب ابن شهاب أيضاً، فرواه ابن عيينة ومعمر عنه على الصواب، والأوْزاعي بإسقاط ميمونة، وعقيل مرسلاً بإسقاطهما، كذا ذكره ابن عبد البر.
(5) قوله: سئل، السائل هو ميمونة كما رواه الدارقطني من طريق يحيى القطان وجويرية كلاهما، عن مالك به أن ميمونة استفتت عن الفأرة تقع في السمن أي الجامد، كما في رواية ابن مهدي، عن مالك، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي(3/515)
فِي سَمْنٍ فماتتْ؟ قَالَ: خُذُوهَا (1) وَمَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْن فَاطْرَحُوهُ (2) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا كَانَ السَّمْنُ (3) جَامِدًا (4) أُخذت الفأرةُ وَمَا حَوْلَهَا مِنَ السَّمْنِ فرُمِيَ بِهِ، وأُكل (5) مَا سوى ذلك، وإن كان
__________
في "مسنده" عن سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب وزاد البخاري عن ابن عيينة، عن ابن شهاب فماتت، وعند أبي داود وغيره من حديث أبي هريرة سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الفأرة تقع في السمن قال: إذا كان جامداً فألقوها وما حولها (قال الباجي: هذا يقتضي أنه سئل عن سمن جامد ولو كان ذائباً لم يتميز ما حولها من غيره ولكنه لما كان جامداً نجس ما جاورها بنجاستها، وبقي الباقي على ما كان عليه من الطهارة. المنتقى 7/292) ، وإن كان مائعاً فلا تقربوها، وبه أخذ الجمهور في الجامد والمائع، إن المائع ينجس كله دون الجامد، وخالف في المائع جمع منهم الزهري والأَوْزاعي، كذا في "شرح الزرقاني ".
(1) أي الفأرة.
(2) أي ألقوه، وكلوا الباقي (في البذل: فيه دليل على المسألة الفقهية، وهي أن النجاسة إذا لم يُعلم وقت وقوعها يحكم بوقوعها بالنسبة إلى الوقت الحادث إلى أقرب الأوقات كأنها وقعت في هذا الوقت، فإن الفأرة لم يُعلم بأنها متى وقعت في السمن، وهل كان السمن وقت وقوعها سائلاً أو جامداً أو كان بين بين، فاعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوعها في الحال. انظر أوجز المسالك 15/ 185) .
(3) وكذا نحوه من الأشربة.
(4) في بعض النسخ جامساً وهو بمعناه.
(5) لعدم وصول النجاسة إليه بسبب جموده.(3/516)
ذَائِبًا (1) لا يُؤكل مِنْهُ (2) شَيْءٌ، واسْتُصبحَ (3) بِهِ. وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.
58 - بَابُ دِبَاغِ (4) الْمَيْتَةِ
984 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حدَّثنا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي وَعلة (5) الْمِصْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دُبِغ الإِهَاب (6) فقَدْ طهُر (7) .
985 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا (8) يَزِيدُ بن عبد الله بن قُسيط (9) ،
__________
(1) أي مائعاً سائلاً.
(2) لتنجسه كله.
(3) قوله: استُصبح، مجهول من الاستصباح أي استُعمل في السراج وغيره، وقيَّده الفقهاء في كتبهم بغير المسجد فلا يجوز فيه الاستصباح بالسمن والدهن النجس.
(4) عبد الرحمن بن وَعلة بالفتح.
(5) عبد الرحمن بن وَعلة بالفتح.
(6) هو بالكسر الجلد الغير المدبوغ، وجمعه أُهُب بضمتين وفتحتين، كذا في "المصباح" و "المغرب".
(7) بضم الهاء.
(8) في كثير من النسخ زيد وليس بصواب.
(9) على صيغة التصغير.(3/517)
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَان، عَنْ أمَّه (1) ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يُستمتع (2) بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إِذَا دُبغت.
986 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شهاب، عن عبيد الله بن
__________
(1) قال الزرقاني: هي تابعية مقبولة لا يُعرف اسمها.
(2) قوله: أمر أن يُستمتع، أي يُنتفع على أيّ وجه كان، وفي رواية للنسائي وابن حبان، عن عائشة مرفوعاً: دباغ جلود الميتة طهورها، وفي رواية للنسائي: ذكاة الميتة دباغها، وعند الدارقطني والبيهقي عنها: طهور كلِّ أديم دباغه. وفي الباب عن زيد مرفوعاً: دباغ جلود الميتة طهورها، وسلمة بن المحبَّق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت فإذا قِرْبة معلقة فسال الماء فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة، فقال: دباغها ذكاتها، وبهذه الأحاديث ونظائرها ذهب الجمهور إلى الطهارة بالدباغة مطلقاً إلاَّ أنهم استَثنَوْا من ذلك جلد الإِنسان لكرامته وجلد الخنزير لنجاسة عينه، واستثنى أيضاً جلدَ الكلب مَنْ ذهب إلى كونه نجس العين، وهو قول جمع من الحنيفة وغيرهم، ولم يدل عليه دليل قويّ بعد، ومنهم من ذهب إلى طهارة جلد مأكول للحم بالدبغ دون غيره أخذاً من قصة شاة ميمونة، قال النووي: هو مذهب الأَوْزاعي وابن المبارك وإسحاق بن راهويه. انتهى. والأحاديث المطلقة العامة حجة عليهم، ومنهم من قال: لا يطهر شيء من الجلود بالدباغ، قال النووي: رُوي هذا عن عمر وابنه عبد الله وعائشة وهو أشهر الروايتين عن أحمد، وإحدى الروايتين عن مالك. انتهى. والأحاديث الواردة في الطهارة بالدباغة حجة عليهم، وقال أحمد في القديم: لا يطهر جلد الميتة بالدباغ، ثم رجع عنه لمّا رأى قوة الأخبار الواردة فيه(3/518)
عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ (1) : مرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم بساة كَانَ أَعْطَاهَا مَوْلًى لِمَيْمُونَةَ (2) زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْتَةٍ (3) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلا (4) انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حُرِّم أَكْلُهَا (5) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. إِذَا دُبِغَ إِهَابُ الْمَيْتَةِ فَقَدْ طَهُرَ، وَهُوَ (6) ذَكَاتُهُ وَلا بَأْسَ بِالانْتِفَاعِ (7) بِهِ، وَلا بَأْسَ بِبَيْعِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعَامَّةِ مِنْ فقهائنا رحمهم الله.
__________
(بسط شيخنا مذاهب العلماء في دباغ الجلود الميتة وطهارتها بالدباغ في الأوجز، فارجع إليه 9/187) .
(1) قوله: قال: مرَّ، هكذا رواه جمع من رواة الموطأ عن عبيد الله مرسلاً كابن بكير والقعبني، والصحيح وصله عن ابن عباس كما رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم وجماعة معمر ويونس والزبيدي، وعقيل من أصحاب ابن شهاب، كذا قال ابن عبد البر.
(2) قوله: كان أعطاها مولى لميمونة، في رواية يحيى: أعطاها مولاة لميمونة. وظاهرهما أن تلك الشاة قد أعطاها مولى أو مولاة لأحد. والذي في عامة الكتب: صحيح مسلم وسنن النسائي وسنن أبي داود وغيره: أنها تصدَّقَ بها على مولاة لميمونة.
(3) صفة لشاة.
(4) حرف تحضيض وفي رواية: أفلا.
(5) قوله: إنما حُرِّم أكلها، مجهول من التحريم أو معروف ثلاثي بضم الراء أي لم يحرم إلاَّ أكل الميتة لا الانتفاع بأجزائها وجلدها، واستدل بظاهره الزهري كما حكاه أبو داود وأحمد عنه أن جلود الميتة طاهرة ينتفع بها بغير الدباغة، وردّه الجمهور بأنه ورد التقييد بالدباغ في رويات أخرى صحيحة فوجب القول به، كذا في "فتح الباري".
(6) أي ذبحُه كذكاته بالفتح أي ذبحه.
(7) وأما قبل الدبغ فلا يجوز البيع ولا الانتفاع.(3/519)
59 - بَابُ كَسْب الحَجّام
987 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا حُميد الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: حَجم (1) أَبُو طَيْبة رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ وَأَمَرَ أَهْلَهُ (2) أَنْ يُخَفِّفُوا (3) عَنْهُ مِنْ خَرَاجِه (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. لا بَأْسَ أَنْ يُعطى الْحَجَّامُ أَجْرًا عَلَى حِجَامَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ (5) .
__________
(1) قوله: حجم أبو طيبة، اسمه نافع، وقيل: ميسرة، وقيل: دينار، ذكره السيوطي. وفي "جامع الأصول": أبو طيبة نافع الحجام مولى محيصة بن مسعود الأنصاري صحابي معروف، وطَيْبة بفتح الطاء وسكون الياء وبالباء الموحدة.
(2) أي موالِيَه.
(3) من التخفيف.
(4) قوله: من خَراجه، بالفتح هو ما يجعل العبد على نفسه لسيِّده في كل يوم.
(5) قوله: وهو قول أبي حنيفة، وبه قال الجمهور (كذا في الأوجز 15/201 أخذا من أحاديث حجامة النبي صلى الله عليه وسلم وإعطائه أجره وقال ابن عباس: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخدعين وبين الكتفين وأعطى الحجام أجره ولو كان حراما لم يعطه. أخرجه الترمذي في الشمائل وروي: كسب الحجام خبيث أخرجه الترمذي وغيره وعند أحمد وأصحاب السنن عن محيصة: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام فنهاه فذكر له الحاجة فقال: أعلفه نواضحك. وحمله الجمهور على النهي للتنزيه ومنهم من قال محل الجواز ما إذا كانت الأجرة معلومة والمنع ما إذا كانت مجهولة وجنح(3/520)
988 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْمَمْلُوكُ وَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ (1) وَلا يصلُح (2) لِلْمَمْلُوكِ أَنْ يُنفق مِنْ مَالِهِ شَيْئًا بِغَيْرِ إِذْن سَيِّدِهِ إِلا أنْ يأْكُلَ (3) أَوْ يَكْتَسيَ (4) أَوْ يُنْفِقَ (5) بِالْمَعْرُوفِ (6) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إِلا أَنَّهُ يرخَّص لَهُ فِي الطَّعَامِ الَّذِي يُوَكَّلُ أَنْ يُطْعِمَ (7) مِنْهُ، وَفِي عَارِيَةِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِهَا (8) . فَأَمَّا هِبَةُ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ أَوْ كِسْوَةُ ثَوْبٍ فَلا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
989 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ زيد بن أسلم، عن أبيه قال: كنت لعمر بن الخطاب تسعُ صِحاف (9)
__________
الطحاوي إلى نسخ حديث المنع بحديث الجواز كذا في" جمع الوسائل شرح الشمائل" لعلي القاري) .
(1) لكونه مالكاً لرقبته ويده.
(2) أي لا يجوز.
(3) أي المملوك.
(4) في نسخة: أو يلبس. والمعنى واحد.
(5) من الإِنفاق أي في بعض ضرورياته أو المراد به التصدُّق بما يعلم رضى مولاه.
(6) قَيْد للأخير أو للكلّ.
(7) أي يطعم منه غيره فقيراً أو جليساً.
(8) من المنافع.
(9) قوله: تسع صِحاف، بكسر الصاد جمع صَحفة بالفتح وهي القصعة الواسعة.(3/521)
يَبْعَثُ (1) بِهَا (2) إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذَا كَانَتِ الظُّرفَةُ (3) أَوِ الفاكهةُ أَوِ القَسْم، وَكَانَ يَبْعَثُ بآخِرهن (4) صَفْحَةً إِلَى حَفْصَةَ (5) ، فَإِنْ كَانَ (6) قِلَّةٌ أَوْ نُقْصَانٌ كَانَ بِهَا.
990 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (7) : وَقَعَتِ (8) الْفِتْنَةُ - يَعْنِي فِتْنَةَ (9) عُثْمَانَ - فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أهل بدر (10) أحد، ثم وقعت
__________
(1) أي في عهد خلافته.
(2) أي بواحدة منها إلى واحدة منهن.
(3) قوله: إذا كانت الظُّرَفة، بالضم أي إذا وجدت بالتحفة من المأكول والمشروب. أو الفاكهة أو القَسْم، بالفتح أي القسمة من اللحم وغيره، قاله القاري.
(4) أي بعد أن يرسل إلى سائر الأزواج.
(5) لكونها بنته فلا تضرّ القلة ولا تحزنها.
(6) قوله: فإن كان، أي فإن وُجدت قلة في كمية ذلك الشيء المبعوث أو نقصان في كيفيته كان ذلك بحصة حفصة لكونها آخر الحصص، والنقصان إنما يظهر في الآخر.
(7) قوله: يقول، مقصوده الإِشارة إلى ارتفاع البركة بوقوع الفتنة، وأنّ الفتن معدن المحن، وأنه لا يأتي زمان إلا وبعده شرٌّ منه.
(8) أي في سنة 35 هـ.
(9) أي فتنة شهادته.
(10) أي من الأصحاب الذين كانوا في غزوة بدر.(3/522)
فِتْنَةُ (1) الحَرَّة فَلَمْ يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ (2) الْحُدَيْبِيَةِ أَحَدٌ، فَإِنْ وَقَعَتِ الثَّالِثَةُ لَمْ يبقَ بِالنَّاسِ طِباخٌ (3) .
991 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كلُّكُم راعٍ (4) وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعِتَّته (5) ، فَالأَمِيرُ (6) الَّذِي عَلَى النَّاسِ راعٍ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ مسؤول عنهم (7) ، والرجل راعٍ على أهله (8) وهو مسؤول عَنْهُمْ، وامرأةُ الرجلِ راعيةٌ عَلَى مَالِ زَوْجِهَا، وهي مسؤولة عَنْهُ (9) ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ راعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وهو
__________
(1) قوله: ثم وقعت فتنة الحرّة، بفتح الحاء وتشديد الراء المهملة أرض ذات حجارة سود بقرب المدينة الطيبة وكانت الفتنة هناك زمن يزيد سنة 63 ابتُلي بها أهل المدينة ابتلاءً شديداً.
(2) أي الذين حضروا الحديبية مع الرسول وبايعوه تحت الشجرة.
(3) قوله: لم يبق بالناس طِباخ، بالكسر بمعنى العقل، يعني إنْ وقعت فتنة ثالثة لا يبقى في الناس عقل ولا خير ويذهب بركة وجود الصحابة الذين هم زينة الدنيا والدين مطلقاً.
(4) قوله: كلكم راعٍ، من الرعاية بمعنى الحفاظة أي كلكم راعٍ لرعيته وناظم لأمور من يتبعه، فيُسأل كل عن رعيته عما وقع منه في حقهم من العدل والظلم.
(5) بالفتح ثم الكسر ثم التشديد مع الفتح.
(6) أي السلطان ومن ينوب منابه.
(7) أي عمّا صدر منه فيهم.
(8) أي زوجته وأولاده وخوادمه وغيرهم ممن يَعُوله.
(9) أي عن مال زوجها أنفقت في محله أم في غيره؟.(3/523)
مسؤول عنه (1) ، فكلُّكُمْ راعٍ (2) وكُلُّكُمْ مسؤولٌ عن رعيّته.
992 - أخبرنا حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: إن الغادر (3) يقوم يوم القيمة يُنصب لَهُ لواءٌ، فَيُقَالُ هَذِهِ غُدرة فُلَانٍ.
993 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا (4) الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القيمة.
994 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عن ابن عمر:
__________
(1) من جهة أمانته وخيانته.
(2) قوله: فكلكم راع، قال القاري: هذا تأكيد لما قبله مُجْمَلاً ومفصَّلاً في صورة النتيجة، ولا يبعد أن يقال: إن الرجل وحده مسؤول عن رعيته من أعضائه وهي السمع والبصر واليد والرجل واللسان والأذن ونحو ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: (إنَّ السَمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلّ أولئك كَانَ عنه مسؤُولاً) (سورة الإِسراء: الآية 36) والحديث رواه الشيخان وأحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
(3) قوله: إن الغادر، أي من يغدر بعهده ويخلف في وعده من الكفار وغيرهم، يقوم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. يُنصَب، بصيغة المجهول أي يُرفع له. لواء، بالكسر يكون علامة على غدرته يطلع عليها الناس فيُقال من جانب الملائكة هذه غُدرة فلان بالضم.
(4) قوله: في نواصيها، جمع ناصية مقدّم الرأس إشارة إلى فضل الخيل لكونه آلة الجهاد. وكون الخير في ناصيته إلى يوم القيامة إشارة إلى دوام فتح أهل الإِسلام وغلبتهم بخيلهم.(3/524)
أَنَّهُ رَآهُ (1) يَبُولُ قَائِمًا.
قَالَ مُحَمَّدٌ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَالْبَوْلُ جَالِسًا أَفْضَلُ.
995 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ: ذَرُونِي (2) مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ من
__________
(1) قوله: أنه رآه، أي رأى عبدُ الله بن دينار ابنَ عمر يبول قائماً، ولعله كان أحياناً اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان من أشد الناس اقتداءً به حتى في المباحات والاتفاقيات، وقد روى حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم أتى سُباطة قوم فبال قائماً، أخرجه أبو داود وغيره. وروى الحاكم والبيهقي عن أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بال قائماً من جُرح كان بمأْبضه، وهو بهمزة ساكنة: عرق في باطن الركب. وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" عن مجاهد قال: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً إلا مرة في كثيب أعجبه. وعن الشافعي: كانت العرب تستشفي وجع الصلب بالبول قائماً. فلعله كان به إذ ذاك وجع صلب، وقيل لم يكن هناك موضع القعود فبال قائماً. وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يبول قائماً. وهذا كله لبيان الجواز وإلا فالعادة المستمرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هو البول قاعداً حتى قالت عائشة: مَنْ حَدّثكم أنّ رسول الله بال قائماً فلا تصدِّقوه، أخرجه النسائي والترمذي وقال: إنه أحسن شيء في الباب، والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، كذا فصله السيوطي في "مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود" و "زهر الرُّبى على المجتبى" وغيرهما.
(2) قوله: ذروني، أي اتركوني ما تركتكم ولا تتعرضوا بالتفتيش والسؤال، فإنما هلك من كان قبلكم من الأمم السابقة كبني إسرائيل بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم كما ذكر الله في كتابه في قصة البقرة وسؤال رؤية الله ودخول قرية الجبّارين وغير ذلك. فما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما لم أنه عنه فاسكتوا عنه ولا تتعرّضوا له بالسؤال والتشديد فيشدد الله عليكم. وفيه إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الإِباحة ما لم يرد دليل المنع، وفي رواية ابن جرير وأبي الشيخ وابن مردويه عن(3/525)
كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَمَا نهيتُكم عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ.
996 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزنَّاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَ ابنَ أَبِي قُحافة (1) نَزع ذَنوباً أَوْ ذَنوبين (2) ، فِي نَزْعه ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ (3) ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَاسْتَحَالَتْ (4) غَرْباً، فلم أرَ عبقريّاً (5) من الناس ينزع
__________
أبي هريرة: خَطَبنَا رسولُ لله فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج فقام عكاشة بن مِحصن الأسدي فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إني لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكّت عنكم فإنما هلك مَنْ قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فأنزل الله: (يا أيّها الَّذِيْنَ آمنوا لا تسألوا عن أشياءَ إن تُبْدَ لكم تسُؤْكُم) (سورة المائدة: الآية 101) . وفي الباب عن أبي أمامة الباهلي عند ابن جرير والطبراني وابن مردويه، وابن عباس عند ابن مردويه، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما كما بسطه السيوطي في "الدر المنثور".
(1) أي أبا بكر، وأبو قُحافة بالضم كنية والده.
(2) بالفتح: الدلو الكبير، أي أخرج من البئر.
(3) أي يتجاوز عنه ولا يأخذه بضعفه لعدم تقصيره.
(4) بالفتح: الدلو الكبير من الذنوب أي فصارت تلك الدلو دلواً عظيماً أخرج به ماءً كثيراً.
(5) بفتح العين وسكون الباء وفتح القاف وكسر الراء وشدّ الياء: أي شديداً قوياً.(3/526)
نَزْعه (1) ، حَتَّى ضَرَبَ النَّاسَ بعَطَن (2) .
60 - بَابُ التَّفْسِيرِ (3)
997 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ الحُصَين، عَنْ أَبِي يَرْبُوعٍ (4) الْمَخْزُومِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثابت يقول: الصلاة
__________
(1) منصوب بنزع الخافض أي كنزعه (فيه إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه. فتح الباري 7/39) .
(2) قوله: حتى ضرب الناس بعَطَن، بفتحتين موضع يجلس فيه الدوابّ حول الحوض والماء للسقي. والمعنى نزع عمر ورَوي الناس بشربهم حتى جعلوا العطن، أبركوا دوابّهم للسقي لكثرة الماء. وفي حديث إشارة كالصراحة إلى قلة مدة خلافة أبي بكر وإلى ما وقع في زمن خلافته من اضطراب الأحوال بسبب ارتداد العرب وظهور المتنبئين، وإلى قوة عمر في أمر الدين وطول خلافته وشيوع الدين في زمنه، وقد وقع كل ذلك كما أرى، وكانت رؤيته ذلك مناماً كما في رواية الصحيحين وغيرهما، بينا أنا نائم رأيتُني على قليب عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله ثم أخذها ابن أبي قحافة، الحديث. وبه ظهر ما في كلام القاري حيث فسر قوله رأيت بقوله أي علمت بالكشف أو الإِلهام، أو رأيت في المنام. انتهى. فإن الترديد مختلّ النظام لثبوت الرؤية المنامية برواية الأحلام، ومن المعلوم أن منام الأنبياء وحي عند علماء الإِسلام.
(3) قوله: عن أبي يربوع المخزومي، في نسخة: ابن يربوع، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى"، وهو عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع بفتح الياء المخزومي، أبو محمد المدني، نُسب إلى جَدّه، من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب".
(4) قوله: عن أبي يربوع المخزومي، في نسخة: ابن يربوع، وهو الموافق لما في "موطأ يحيى"، وهو عبد الرحمن بن سعيد بن يَربوع بفتح الياء المخزومي، أبو محمد المدني، نُسب إلى جَدّه، من ثقات التابعين، ذكره في "التقريب".(3/527)
الوُسطى (1) صلاة الظهر.
__________
(1) قوله: الصلاة الوسطى، أي المذكورة في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاةِ الوسطى) (سورة البقرة: الآية 238) وقد اختلف فيه الصحابة ومن بعدهم، وتخالفت الروايات عنهم، فعن ابن عباس عند البيهقي وابن جرير وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وسعيد بن منصور أنها صلاة الصبح، ومثله عن عليّ عند البيهقي، وابن عمر عند ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وعبد بن حميد، وورد مثله عن عطاء وجابر بن زيد وطاوس وعكرمة. هذا أول الأقوال، الثاني: أنها صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت أخرجه البخاري وأبو داود وابن جرير والطحاوي وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وابن أبي حاتم وأحمد وابن منيع والضياء المقدسي وغيرهم، وهو مرويّ عن ابن عمر عند الطبراني، وعن أبي سعيد الخدري عند البيهقي، وعن عليّ عند ابن المنذر. والثالث: أنها العصر وهو مذهب عليّ رجع إليه بعد ما كان يظن أنها الصبح لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وغيرهم، وهو المرويّ عن ابن عمر عند ابن جرير والطحاوي وعبد بن حميد وعن أبي أيوب عند البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وعن أبي سعيد الخدري عند الطحاوي وابن المنذر، وعن أم سلمة عند ابن أبي شيبة وابن المنذر، وعن عائشة عند ابن جرير وابن أبي شيبة، وعن حفصة عند عبد بن حميد وغيره. والرابع: أنها صلاة المغرب ورد ذلك عن ابن عباس عند ابن عباس عند ابن أبي حاتم. وهناك أقوال أخر مبسوطة في "فتح الباري" وغيره، والآثار المذكورة وغيرها مبسوطة في "الدر المنثور" والذي يظهر بعد التنقيد أن أصح الأقوال هو القول الثالث لكونه موافقاً لكثير من الأحاديث الصحيحة المرفوعة، وإليه ذهب أكثر الصحابة كما ذكره(3/528)
998 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عَمْرِو بْنِ رَافِعٍ (1) ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ مُصْحَفًا لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: إِذَا بلغتَ هَذِهِ الآيَةَ (2) فآذِنِّي (3) ، فَلَمَّا بلغتُها آذَنُتها (4) فَقَالَتْ: حَافِظُوا (5) عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى، وَصَلاةِ الْعَصْرِ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ.
999 - أخبرنا مالك، أخبرنا زيد بن أسلم، عن القَعْقَاع (6) بن
__________
الترمذي، وجمهور التابعين كما ذكره الماوردي، وأكثر علماء الأثر كما قاله ابن عبد البر، وهو الصحيح عند الحنفية والحنابلة، وذهب أكثر الشافعية وبعض المالكية مخالفاً لقول إماميهما أنها الصبح.
(1) هو عمرو بن رافع العدوي مولاهم، مقبول، ذكره في "التقريب".
(2) أي التي فيها ذكر الصلاة الوسطى.
(3) أي أخبرني.
(4) أي أعلمتها.
(5) قوله: حافظوا، أي أكتب هكذا بزيادة "وصلاة العصر"، وهذه الكتابة وكتابة عائشة قبل أن تُجْمَع المصاحف المختلفة على مصحفٍ واحد في زمن عثمان فإنه لم يُكتب بعد ذلك إلا ما أُجمع عليه وثبت بالتواتر أنه قرآن، قاله ابن عبد البر.
(6) بفتح القافين بينهما عين ساكنة: كِنَانِيٌّ، مدني، ثقة، ذكره في "الكاشف".(3/529)
حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي يُونُسَ (1) مَوْلَى عَائِشَةَ، قَالَ: أَمَرَتْني أَنْ أَكْتُبَ لَهَا مُصْحَفًا، قَالَتْ: إِذَا بلغتَ هَذِهِ الآيَةَ فآذِنِّي (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصلاة الوسطى) ، فَلَمَّا بَلَغْتُهَا آذنَتْها وأَمَلَّتْ (2) عَلَيَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَصَلاةِ الْعَصْرِ (3) وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (4) ، سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
1000 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عُمَارَةُ بْنُ صَيَّادٍ، أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ (5) في الباقيات الصالحات: قول العبد:
__________
(1) قال الزرقاني: من ثقات التابعين، لا يُعرف اسمه.
(2) أي (فأمَلّتْ: بتشديد اللام من الإِملال وبتخفيفها من الإِملاء وكلاهما بمعنى أي ألقت. بذل المجهود 3/200. وفي نسخة القاري: فقالت بدل وأمَلَّت، وفي البذل: فأملت) كتَبتْ عليّ وأمرَتْني بكتابتها هكذا.
(3) قوله: وصلاة العصر، استَدل به وبحديث حفصة مَنْ قال: إن الصلاة الوسطى غير العصر، يجعل العطف للمغايرة، ومن قال باتحادهما يجعل العطف للبيان، وهو الموافق لما رُوي عن عائشة وحفصة.
(4) أي: ساكنِين أو خاشِعِين أو داعِين، على اختلاف التفاسير. والأول أوفق بشأن نزولها فإنها نزلت نَسْخاً للتكلُّم في الصلاة كما بسطْتُه في رسالتي "إمام الكلام في ما يتعلّق بالقراءة خلف الإِمام.
(5) قوله: يقول في الباقيات الصالحات، أي في تفسير قوله تعالى: (المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عندَ رَبِّكَ ثواباً وخيرٌ أملاً) (سورة الكهف: الآية 46) ، وهذا التفسير منقول موقوفاً ومرفوعاً كما بسطه السيوطي في "الدر المنثور"، فأخرج(3/530)
سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
1001 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا ابن شهاب وسئل (1) عن
__________
ابن أبي شيبة وابن المنذر، عن ابن عباس قال في تفسيره: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلا إِلَهَ إلاَّ الله والله أكبر. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: "استكثروا من الباقيات الصالحات قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال التكبير والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله. ونحوه أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه من حديث النعمان بن بشير والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في "المعجم الصغير" والحاكم وابن مردويه والبيهقي من حديث أبي هريرة، والطبراني وابن مردويه من حديث أبي الدرداء، وابن مردويه من حديث أنس، وابن أبي شيبة وابن المنذر من حديث عائشة كلهم ذكروه مرفوعاً وهو المنقول عن عثمان، أخرجه أحمد وابن جرير وابن المنذر، وعن ابن عمر أخرجه ابن جرير والبخاريّ في "تاريخه".
(1) قوله: وسئل، أي والحال أن ابن شهاب سئل عن المحصنات من النساء في قوله تعالى (والمحصنات من النساء إلاَّ ما ملكت أيمانكم) عطفاً على أمهاتكم في قوله قبله: (حُرِّمت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم) (سورة النساء: الآية 23، 24) الآية، قال ابن شهاب: سمعت سعيد بن المسيّب يقول: هن ذوات الأزواج، فالمعنى حُرِّمت عليكم المحصنات بالفتح اللاتي لهن أزواج ما لم يُطلِّقوا أو يموتوا (إلاَّ ما ملكت أَيْمانكم) يعني السبايا التي سُبين ولهن أزواج في دار الحرب فإنه يحل لمُلاَّكهن وطؤهنَّ بعد الاستبراء لأنَّ بالسبي وتخالف الدارين يرتفع النكاح. وهذا التفسير مرويّ عن ابن عباس عند ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد(3/531)
المحصَنات مِنَ النِّسَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ: هنَّ ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ. وَيَرْجِعُ (1) ذَلِكَ إِلَى أَنَّ اللَّهُ حَرَّمَ الزِّنَا.
1002 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا قَالَتْ: مَا رأيتُ (2) مثلَ مَا رغِبت هَذِهِ الأُمَّةُ عَنْهُ، من
__________
والحاكم والبيهقي، وعن ابن مسعود عند أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد، وعن أنس عند ابن المنذر وغيرهم من الصحابة والتابعين. وأخرج الطحاوي وعبد الرزّاق وابن شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فلقوا عدواً فظهروا عليهم، وأصابوا سبايا فكان ناساً من أصحابه تحرَّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله هذه الآية.
(1) أي حاصل هذا التفسير حرمة الزِّنا.
(2) قوله: ما رأيت مثل ما رغبت هذه الأمة عنه، وأعرضت عنه بأن تركت العمل بمقتضاها مثل هذه الآية فإن الآية ناصَّة على أنه يجب الصلح بين المتنازعين وإرشاد الباغين إلى حكم الله ورسوله فإن أبَوْا فالقتل إخلاءً للعالم عن شرِّهم وقد ترك أكثر الناس العمل به، وكان نزول هذه الآية لمّا كانت امرأة من الأنصار تحت رجل وكان بينها وبين زوجها شيء فحبسها فجاء قومها وقومه واقتتلوا بالأيدي والنعال. وقيل: نزلت لما انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أُبيّ المنافق راكباً على حمار، فلما أتاه قال: إليك عني لقد آذاني نَتَنُ حمارك، فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه فشتما، ووقعت المقاتلة بالأيدي والنعال، كذا ذكره البغوي في "معالم التنزيل"، وقال أيضاً: فيه دليل على أن البغي لا يُزيل اسم الإِيمان، ويدلُّ عليه مل رُوي عن علي أنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفّين(3/532)
هَذِهِ الآيَةِ: (وإنْ (1) طَائِفَتَانِ مِنَ اْلمُؤْمِنِينْ (2) اقْتَتَلُوا فَأصْلِحُوْا بَيْنَهُمَا، فَإن بغتْ (3) إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ (4) إِلَى أَمْرِ الله فإن فاءت فأصلحوا (5) بينهما.
1003 - أخبرنا مالك، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْلِ اللَّهِ (6) عزَّ وجلَّ: (الزاني لا
__________
أهم مشركون؟ قال: من الشرك فرّوا، فقيل: منافقون؟ فقال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلاَّ قليلاً، قيل: فما حالهم؟ قال: إخوانُنا بَغوْا علينا.
(1) شرطية.
(2) فيه حجة قويه لأهل السنَّة على أن الكبائر لا تُخرج العبد عن الإِيمان.
(3) من البغي وهو الخروج عن الحدّ، أي تعدَّت.
(4) أي ترجع إلى حكم الله.
(5) بالعدل بحملها على الإِنصاف والرضاء بحكم الله.
(6) قوله: في قول الله، قال البغوي: اختلف العلماء في معنى هذه الآية (سورة النور: الآية 3) وحكمها، فقال قوم: قدم قوم المهاجرون المدينة، وفيهم الفقراء لا مال لهم ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا وهم يومئذٍ مشركات، فرغب ناس من فقراء المهاجرين إلى نكاحهن لينفقن عليهم، فنزلت (وحُرِّم ذلك على المؤمنين) لأنهن مشركات، هذا قول مجاهد وعطاء وقتاة والزهري والشعبي. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة وكانت بمكة بغيٌّ يقال لها عناق، وكانت صديقته في الجاهلية، فلما أتى مكة دعته عناق إلى نفسها، فقال مرثد: إن الله حرَّم الزنا،(3/533)
يَنْكِحُ (1) إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا ينكحها إلاَّ زانٍ أو مشرك) ، قَالَ (2) : وَسَمِعْتُهُ (3) يَقُولُ: إِنَّهَا نُسخت (4) هَذَه الآيَةُ بِالَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ قَرَأَ: (وَأَنْكِحُوا (5) الأَيامى (6) مِنْكُمْ والصالحين من عبادكم وإمائكم) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: وَبِهَذَا نَأْخُذُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حنيفة والعامة من فقهائنا
__________
فقالت: فانكحني، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، وقال: لا تنكحها. فعلى قوم هؤلاء كان التحريم خاصاً في حق أولئك دون سائر الناس. وقال قوم: المراد بالنكاح هو الجماع ومعناه الزاني لا يزني إلاَّ بزانية أو مشركة، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك. وقال سعيد بن المسيّب وجماعة: إن حكم هذه الآية منسوخ، وكان نكاح الزانية حراماً بهذه الآية فنسخها قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى) (سورة النور: الآية 32) فدخلت الزانية في أيامى المسلمين (ورجح هذا القول الإِمام أبو جعفر الطبري وقال: وأَوْلى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عنى في هذا الموضع الوطء. وإن الآية نزلت في البغايا المشركات ذوات الرايات وذلك لقيام الحجة على أن الزانية من المسلمات حرام على كل مشرك، وإن الزاني من المسلمين حرام عليه كل مشركة من عبدة الأوثان. تفسير الطبري 8/58) .
(1) هو وما بعده خبر بمعنى النهي.
(2) أي يحيى بن سعيد.
(3) أي سعيد بن المسيّب.
(4) بصيغة المجهول.
(5) خطاب إلى الأولياء.
(6) جمع أيَّم: مَنْ لا زوج لها وهو مطلق يشمل الزانية وغيرها.(3/534)
لا بَأْسَ بِتَزَوُّجِ (1) الْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ فَجَرَتْ (2) ، وَإِنْ يَتَزَوَّجْهَا مَنْ لَمْ يفجُرْ (3) .
1004 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عزَّ وَجَلَّ: (وَلا جُنَاح (4) عَلَيْكُمْ فِيمَا عرَّضتم به من خِطبة النساء أو أكْنَتُم في أنفسكم) ، قال: أن (5) تقول
__________
(1) قوله: بتزوّج المرأة (في بذل المجهود 10/19: مذهب الحنفية في ذلك، وهو ما قاله الجمهور بأن الزانية لا يحرم نكاحها على الزاني ولا على غيره، وكذلك لا يحرم نكاح الزاني بالمؤمنة ولا بالزانية، وقد خالف في ذلك الشيخ ابن القيم في "زاد المعاد" وقال بالحرمة. والله أعلم) ، وإن كان بمن زنى بها وإن كانت حُبْلَى بالزنى، لكن إذا تزوجت الحبلى بالزنا بغير الزاني لا يحل له الوطء إلى وضع الحمل وإن نكحت بالزاني يجوز له الوطء.
(2) أي زنت.
(3) أي من لم يزنِ.
(4) قوله: ولا جُناح، بالضم أي لا إثم. عليكم فيما عرَّضتم به (سورة البقرة: الآية 235) ، من التعريض، وهو التلويح بشي يَفهم به السامع مراده من غير التصريح من بيان لما خطبة - بالكسر - وهي التماس نكاح النساء المعتدات المذكورات في ما قبل هذه الآية. أو أكننتم أي أضمرتم وأخفيتم في أنفسكم، كذا في "معالم التنزيل".
(5) بيان للتعريض أي هو قولك للمرأة في حال العدَّة.(3/535)
لِلْمَرْأَةِ وَهِيَ فِي عِدَّتها مِنْ وَفَاةِ (1) زَوْجِهَا: إِنَّكَ عليَّ (2) كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ، وَإِنَّ اللَّهَ سَائِقٌ (3) إِلَيْكِ رِزْقًا، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ.
1005 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عمر، قال: دُلُوك (4) الشَّمس مَيْلها.
__________
(1) وكذا في عدَّة طلاقها.
(2) أي عندي مكرَّمة.
(3) أي موصلٌ إليك رزقاً حسناً يعني بتزويجي إيّاك.
(4) قوله: دُلوك الشمس، أي المذكور في قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غَسَق - بفتحتين - الليل وقرآنَ الفجرِ كان مشهوداً) (سورة الإِسراء: الآية 78) ، وفيه إشارة إلى الصلوات المكتوبات وأوقاتها، فقرآن الفجر إشارة إلى صلاة الفجر. ومعنى قوله مشهوداً: يشهده ملائكة الليل والنهار المتعاقبون يجتمعون عند ذلك، وبه فسَّر ابن عباس في رواية ابن جرير وابن شيبة وابن مسعود كما في رواية سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر، وأبو هريرة في روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه البخاري ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وعبد الرزاق وابن مردويه، وغسق الليل أشار به إلى صلاة العشاء، وبه فسَّره ابن مسعود أخرجه عنه الطبراني، وعن ابن عباس غسق الليل بدء الليل، أخرجه ابن جرير، وأخرج ابن أبي شيبة، عن مجاهد وعبد الرزاق، عن أبي هريرة: غسق الليل غروب الشمس، فيكون إشارة إلى صلاة المغرب، وعن ابن عباس أنه ظلمة الليل أخرجه ابن الأنباري وابن المنذر فيكون شاملاً لصلاتَيْ المغرب والعشاء، وهو أَوْلى الأقوال. ودلوك الشمس فسره ابن مسعود بالغروب كما أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه، وكذا(3/536)
1006 - أخبرنا مالك، حدثنا داود بن الحصين، عن (1) ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ يَقُولُ: دُلوك الشَّمْسِ مَيْلها (2) وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وظُلْمته.
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا قَوْلُ (3) ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: دُلوكها غُرُوبُهَا، وكلٌّ حَسَن (4) .
__________
أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ، فيكون إشارة إلى المغرب ولا يكون لصلاة الظهر ذِكْرٌ في هذه الآية وكذا للعصر، وفسَّره ابن عمر بالزوال أخرجه مالك وعبد الرزاق وابن شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهو رواية عن ابن عباس فيكون إشارة إلى صلاة الظهر، ويُستفاد العصر من قوله إلى غسق الليل. والآثار في هذا الباب مبسوطة في "الدر المنثور".
(1) قوله: عن، في "موطأ يحيى": مالك عن داود بن الحصين أخبرني مُخْبِر عن ابن عباس، قال ابن عبد البَرّ في "الاستذكار": المُخبر المُبْهم عكرمة، كان مالك يكتم اسمه لكلام ابن المسيّب فيه.
(2) أي زوالها من نصف النهار.
(3) وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين، وقول ابن مسعود اختاره النخعي ومقاتل والضحاك والسُّدِّي، كذا ذكره البغوي.
(4) قوله: وكلٌّ حسن، لأن اللفظ يجمع المعنين فإن أصل الدلوك الميلان، والشمس تميل إذا زالت وإذا غربت، لكن لا يخفى أن التفسير بالزوال أولى القولين لكثرة القائلين، ولأنّا إذا حملنا عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها بخلاف الغروب كذا قال البغوي، ومما يؤيد ترجيح تفسير الزوال بموافقته لكثير من الأخبار المرفوعة، فأخرج ابن مروديه، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم لدلوك الشمس، قال: لزوال الشمس. وأخرج البزار وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي(3/537)
1007 - أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ: أَنّ (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّمَا أجَلُكم (2) فِيمَا خَلا مِنَ الأُمَمِ، كَمَا (3) بَيْنَ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ (4) الشَّمْسِ؟، وَإِنَّمَا مَثَلُكم (5) وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمّالاً (6) فقال: من يعمل لي إلى
__________
بسند ضعيف، عن ابن عمر مرفوعاً: دلوك الشمس زوالها. وأخرج ابن جرير، عن عقبة بن عمرو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر. وأخرج ابن جرير عن أبي برزة الأسلمي: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الظهر حين زالت الشمس ثم تلا هذه الآية.
(1) هذا الحديث معروف بحديث القيراط، أخرجه البخاري في مواضع، ومسلم والترمذي وغيرهم وله طرق كثيرة.
(2) بفتحتين أي مدة بقائكم بالنسبة إلى من مضى من الأمم.
(3) أي التشبيه في القلة.
(4) مصدر ميميّ بمعنى الغروب.
(5) قوله: وإنما مثلكم، المثل بفتحتين في المعنى كالمِثْل بكسر الميم، وهو النظير ثم قيل: للمقول (في الأصل: المعقول هو تحريف) السائر الممثل مضربه بمورده مثل، ولم يضربوا مثلاً إلاَّ بقول فيه غرابة، وههنا تشبيه للمركَّب بالمركب فالمشبَّه والمشبَّه به هما المجموعان الحاصلان في الطرفين، وإلاَّ كان القياس أن يقول كمثل أقوام استأجرهم رجل، كذا قال العيني في "عمدة القاري" (عمدة القاري 5/53) .
(6) بضم العين وتشديد الميم جمع عامل أي قوماً يعملون له العمل بالأجرة.(3/538)
نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قيراطٍ (1) قِيرَاطٍ؟ قَالَ: فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ (2) ، ثُمَّ قَالَ (3) : مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ (4) النَّصَارَى عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ (5) : من يعمل لي من الصلاة العصر إلى المغرب الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلا (6) فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعملون مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، قَالَ (7) : فَغَضِبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، وقالوا: نحن أكثر عملاً (8)
__________
(1) قوله: على قيراط قيراط، قال الكرماني في "الكواكب الدراري" القيراط نصف دانق، وأصله قرّاط بالتشديد لأن جمعه قراريط فأُبدل أحد حرفَيْ التضعيف كما في الدينار، والمراد به ههنا النصيب والحصة، وكُرِّر ليدل على تقسيم القراريط على جمعيهم كما هو عادة كلامهم.
(2) أي فهذا مثل اليهود استعملهم الله بأجر إلى مدة طويلة فعملوا.
(3) أي ذلك الرجل المستعمِل.
(4) إشارة إلى قلَّة مدة النصارى بالنسبة إلى اليهود.
(5) أي المستعمِل.
(6) حرف تنبيه نبَّه به النبي صلى الله عليه وسلم على فضل هذه الأمة.
(7) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8) قوله: نحن أكثر عملاً، قال الكرماني: فإن قلت قول اليهود ظاهر، لأن الوقت من الصبح إلى الظهر أكثر من العصر إلى المغرب، لكن قول النصارى لا يصلح إلاَّ على مذهب الحنفية حيث يقولون: وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثليه، وهذا من جملة أدلتهم فما هو جواب الشافعية عنه حيث قالوا: هو مصير الظل مثلاً وحينئذٍ لا يكون وقت الظهر أكثر من وقت العصر؟ قلت: لا نسلِّم أن وقت الظهر ليس بأكثر منه، ولئن سلَّمنا فليس هو نصّاً في أن كلاً من الطائفتين =(3/539)
وَأَقَلُّ (1) عَطَاءً، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ (2) مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لا، قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي (3) أُعطيه مَنْ شِئْتُ (4) .
قَالَ مُحَمَّدٌ: هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ على أن تأخير العصر أفضل (5) من
__________
= أكثر عملاً لصدق أن كلَّهم مجتمعين أكثر عملاً، أو يُقال: لا يلزم من كونهم أكثر عملاً أكثر زماناً لاحتمال كون العمل أكثر في زمان أقلّ، وجاء في آخر صحيح البخاري في باب السُّنَّة، قال أهل التوراة ذلك. انتهى كلامه. ومثله في "عمدة القاري" وغيره.
(1) بالنسبة إلى الأمة المحمدية الآخذة بقيراطين.
(2) أي نقصت من حقكم الذي قرَّرت لكم جزاءً لعملكم شيئاً.
(3) أي تفضُّلي وإحساني.
(4) أي فإني مختار لا أُسأل عما أفعل فلا ينبغي تكلُّمكم إلاَّ إنْ كنت نقصت حقكم (قال الحافظ: فيه حجة لأهل السنَّة على أن الثواب من الله على سبيل الإِحسان منه جلَّ جلاله. فتح الباري 4/446) .
(5) قوله: أفضل من تعجيلها، استنبط أصحابنا الحنفية أمرين:
أحدهما: ما ذكره أبو زيد الدبوسي في كتابه "الأسرار" وتبعه الزيلعي شارح "الكنز" وصاحب "النهاية شرح الهداية" وصاحب "البدائع" وصاحب "مجمع البحرين" في "شرحه" وغيره، أنّ وقت الظهر من الزوال إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه، ووقت العصر منه إلى الغروب كما هو رواية عن إمامنا أبي حنيفة، وأفتى به كثير من المتأخرين، وجه الاستدلال به بوجوه كلها لا تخلو عن شيء،
أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: إنما أجلكم فيما خلا كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس يفيد قلة زمان هذه الأمة بالنسبة =(3/540)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إلى زمان من خلا، وزمان هذه الأمة هو مشبَّه بما بين العصر إلى المغرب فلا بد أن يكون هذا الزمان أقلّ من زمان اليهود، أي من الصبح إلى الظهر، ومن زمان النصارى أي من الظهر إلى العصر ولن تكون القلة بالنسبة إلى زمان النصارى إلاَّ إذا كان ابتداء العصر من حين صيرورة الظل مثليه، فإنه حينئذٍ يزيد وقت الظهر، أي من الزوال إلى المثلين، على وقت العصر من المثلين إلى الغروب، وأما إن كان ابتداء العصر حين المثل فيكونان متساويين.
وفيما ذكره في "قتح الباري" و "بستان المحدثين" و "شرح القاري" وغيرها:
أما أولاً: فلأن لزوم المساواة على تقدير المثل ممنوعة فإن المدة بين الظهر والعصر لو كان بمصير ظل كل شيء مثله يكون أزيد بشيء من ذلك الوقت إلى الغروب على ما هو محقق عند الرياضيين، إلاَّ أن يُقال هذا التفاوت لا يظهر إلاَّ عند الحساب، والمقصود من الحديث تفهيم كل أحد.
وأما ثانياً: فلأن المقصود من الحديث مجرد التمثيل، ولا يلزم في التمثيل التسوية من كل وجه.
وأما ثالثاً: فلأن قلة مدة هذه الأمة إنما هي بالنسبة إلى مجموع مُدَّتَيْ اليهود والنصارى، لا بالنسبة إلى كل أحد، وهو حاصل على كلّ تقدير.
وأما رابعاً: فلأنه يحتمل أن يُراد بنصف النهار في الحديث نصف النهار الشرعي، وحينئذٍ فلا يستقيم الاستدلال.
وأما خامساً: فإنه ليس في الحديث إلاَّ أن ما بين صلاة العصر إلى الغروب أقلّ من الزوال إلى العصر، ومن المعلوم أن صلاة العصر لا يتحقق في أول وقته غالباً، فالقلة حاصلة على كل تقدير، وإنما يتمُّ مرام المستدل إنْ تمَّ لو كان لفظ الحديث ما بين وقت العصر إلى الغروب وإذ ليس فليس.
وثانيها: أن قول النصارى نحن أكثر عملاً لا يستقيم إلاَّ بقلة زمانهم ولن تكون القلة إلاَّ في صورة المثلين، وفيه ما مرَّ سابقاً وآنفاً.
وثالثها: ما نقله العيني أنه جعل لنا النبي صلى الله عليه وسلم من زمان الدنيا في مقابلة من كان قبلنا من الأمم بقدر ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وهو يدل على أن بينهما أقلَّ من ربع النهار، لأنه لم يبقَ من الدنيا ربع الزمان لحديث: بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبّابة والوسطى، فنسبة ما بقي من الدنيا إلى قيام الساعة مع ما مضى مقدار ما بين السبّابة والوسطى. =(3/541)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال السهيلي (انظر عمدة القاري 5/53) : وبينهما نصف سبع لأن الوسطى ثلاثة أسباع كل مفصل منهما سبع، وزيادتها على السبّابة نصف سبع. انتهى. وفيه أيضاً ما مرَّ سالفاً.
ثم لا يخفى على المستيقظ أن المقصود من الحديث ليس إلاَّ التمثيل والتفهيم. فالاستدلال لو تمَّ بجميع تقاريره لم يخرج تقدير وقت العصر بالمثلين إلاَّ بطريق الإِشارة. وهناك أحاديث صحيحة صريحة دالة على مضيّ وقت الظهر ودخول وقت العصر بالمثل، ومن المعلوم أن العبارة مقدَّمة على الإِشارة، وقد مرَّ منّا ما يتعلق بهذا المقام في صدر الكلام.
الأمر الثاني ما ذكره صاحب الكتاب من أن هذا الحديث يدل على أن تأخير العصر - أي من أول وقتها - أفضل من تعجيلها. وقال بعض الأعيان متأخِّري المحدثين في " بستان المحدثين" ما معرَّبه: ما استنبطه محمد من هذا الحديث صحيح، وليس مدلول الحديث إلاَّ أن ما بين صلاة العصر إلى الغروب أقل من نصف النهار إلى العصر ليصح قلة العمل وكثرته، وذا لا يحصل إلاَّ بتأخير العصر من أول الوقت. انتهى. ثم ذكر كلاماً مطوَّلاً محصُّله الردُّ على من استدل به في باب المثلين، وقد ذكرنا خلاصته، ولا يخفى أن هذا أيضاً إنما يصح إذا كان الأكثرية لكل من اليهود والنصارى وإلاَّ فلا، كما ذكرنا، مع أنه إنْ صح فليس هو إلاَّ بطريق الإِشارة والأحاديث الدالَّة على التعجيل بالعبارة مقدَّمة عليه عند أرباب البصارة. وقد مر منا ما يتعلق به في صدر الكتاب، والله أعلم بالصواب. ألا ترى، تنوير للمدعى أنه صلى الله عليه وسلم جعل ما بين الظهر إلى العصر، أي إلى صلاة العصر أكثر مما بين العصر، أي صلاته إلى المغرب، أي وقته وهو غروب الشمس في هذا الحديث، ومن عجَّل العصر، أي صلَّاه في أول وقته وهو صيرورة الظل مثلاً كما هو رأي جمهور العلماء وبه قال صاحب الكتاب وصاحبه أبو يوسف وهو رواية عن شيخهما أبي حنيفة، بل قيل: إنه رجع إليه وهو الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة. كان ما بين الظهر، أي أول وقته وهو الزوال إلى العصر، أقل مما بين =(3/542)
[خاتمة المعلق]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= العصر، أي وقت صلاته إلى المغرب، قال صاحب "بستان المحدثين" معترضاً عليه انقضاء المثل على حسب قواعد الأظلال إنما يكون عند بقاء رُبع النهار في أكثر البلاد فيكون الوقتان متساويين، لا أقل وأكثر، ثم قال مجيباً يمكن التوجيه بأن مراد الإِمام محمد من قوله ما بين الظهر ما بين وقته المتعارف للصلاة يعني متأخراً عن ابتداء وقته لا سيما في الصيف فإن الإِبراد فيه مستحب. انتهى بمعرَّبه، وفيه ما فيه، فإن وقّت الظهر من الزوال إلى المثل حسبما حققه الحساب يكون أقل من رُبع النهار تحقيقاً، وإن كان ربع النهار تقريباً، وكلام صاحب الكتاب مبنيّ على التحقيق لا على التقريب، فهذا يدل على تأخير العصر، قال القاري: في "شرحه": لا يخفى أن الحديث بظاهره يدل على تأخير دخول وقت العصر كما قال به أبو حنيفة لا على تأخيره بطريق الأفضلية. انتهى. وأنت تعلم أنه دعوى بلا دليل، بل الظاهر خلافه كما ذكرنا تفصليه، وتأخير العصر، أي من أول وقتها أفضل، أي أكثر ثواباً من تعجيلها، أي أدائها في أول وقتها ما دامت الشمس بيضاء نقيّة، بتشديد الياء، وهذا بيان لمدة التأخير، وبيَّن معنى البيضاء النقية بقوله: لم تخالطها، أي الشمس صُفْرة، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا، أي فقهاء العراق (ويؤيدهم حديث: "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى، فهذا يشير إلى قصر المدة، قال العيني: فشبَّه ما بقي من الدنيا إلى قيام الساعة مع ما انقضى بقدر ما بين السبابة والوسطى من التفاوت. عمدة القاري 5/53) وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا المقام في صدر الكتاب، والعلم عند من عنده أمّ الكتاب.
[خاتمة المعلق]
هذا آخر الكلام في هذا التعليق، والحمد لله على أن جعل لنا التوفيق خير رفيق، والصلاة على رسوله وآله وصحبه الفائزين بأعلى التحقيق، وكان اختتامه يوم الخميس الثامن من شعبان من شهور السنة الخامسة والتسعين بعد الألف والمائتين(3/543)
تَعْجِيلِهَا، أَلا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ أَكْثَرَ مِمَّا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَنْ عجَّل الْعَصْرَ كَانَ مَا بَيْنَ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَأْخِيرِ الْعَصْرِ، وَتَأْخِيرِ الْعَصْرِ أَفْضَلُ مِنْ تَعْجِيلِهَا، مَا دَامَتِ الشَّمْسُ بيضاءَ نقيَّة لَمْ تُخالطها صُفْرةٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْعَامَّةِ مِنْ فُقَهَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى.
__________
= من الهجرة حين إقامتي بالوطن حُفظ عن شرور الزمن، وكان الشروع فيه في شوال من السنة الحادية والتسعين حين إقامتي بحيدر آباد الدكن نقّاها الله عن البدع والفتن(3/544)
الخاتمة
(يقول الفقير إليه تعالى الدكتور تقي الدين الندوي القاطن بمدينة العين أستاذاً ومعلماً في جامعة الإِمارات العربية المتحدة: فرغت من خدمة هذا الكتاب والتعليق عليه يوم الجمعة في 25 ذي القعدة 1411 هـ، الموافق 7 يونيو 1991 م.
اللهم تقبله منا كما تقبلت من عبادك المقربين الصالحين، واجعله خالصاً لوجهك الكريم واغفر لنا ما وقع منا من الخطأ والزلل، وما لا ترضى به من العمل، فإنك عفو كريم رب غفور رحيم.)(/)